
الفصل الثالث
الإمامة
١
ـ عقيدتنا في الإمامة
٢ ـ عقيدتنا في
عصمة الإمام (ع)
٣ ـ عقيدتنا في
صفات الإمام وعلمه (ع)
٤ ـ عقيدتنا في
طاعة الأئمة (ع)
٥ ـ عقيدتنا في حب
آل البيت (ع)
٦ ـ عقيدتنا في
الأئمة (ع)
٧ ـ عقيدتنا في
أنّ الامامة بالنصّ
٨ ـ عقيدتنا في
عدد الأئمة (ع)
٩ ـ عقيدتنا في
المهدي (ع)
١٠ ـ عقيدتنا في
الرجعة
١١ ـ عقيدتنا في
التقيّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
١
ـ عقيدتنا في الإمامة
نعتقد أنّ الإمامة أصل من أصول الدين لا
يتم الإيمان إلّا بالاعتقاد بها ، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين
مهما عظموا وكبروا ، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.
وعلى الأقل أنّ الاعتقاد بفراغ ذمة
المكلّف من التكاليف الشرعيّة المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجابا أو
سلبا فإذا لم تكن أصلا من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونها أصلا ، فإنّه يجب الاعتقاد
بها من هذه الجهة أي من جهة أنّ فراغ ذمة المكلّف من التكاليف المفروضة عليه قطعا
من الله تعالى واجب عقلا ، وليست كلّها معلومة من طريقة قطعيّة ، فلا بد من الرجوع
فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه إمّا الإمام على طريقة الإمامية أو غيره على
طريقة غيرهم.
كما نعتقد أنّها كالنبوة لطف من الله
تعالى فلا بدّ أن يكون في كلّ عصر إمام هاد يخلف النبيّ في وظائفه من هداية البشر
وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبيّ من الولاية
العامّة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم
والعدوان من بينهم.
وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوّة
والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد
الرسول.
فلذلك نقول : إنّ الإمامة لا تكون إلّا
بالنصّ من الله تعالى على لسان النبيّ أو لسان الإمام الذي قبله ، وليست هي
بالاختيار والانتخاب من الناس ، فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدا نصبوه وإذا
شاءوا أن يعيّنوا إماما لهم عينوه ، ومتى شاءوا أن يتركوا تعيينه تركوه ؛ ليصح لهم
البقاء بلا إمام ، بل من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية على ما ثبت ذلك
عن الرسول الأعظم بالحديث المستفيض.
وعليه لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من
إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى سواء أبى البشر أم لم يأبوا ، وسواء ناصروه
أم لم يناصروه ، أطاعوه أم لم يطيعوه ، وسواء كان حاضرا أم غائبا عن أعين الناس ،
إذ كما يصحّ أن يغيب النبيّ كغيبته في الغار والشعب ، صحّ أن يغيب الإمام ، ولا
فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها.
قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)
الرعد : ٨ وقال : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)
فاطر : ٢٢ (١)
______________________________________________________
(١) يقع الكلام في مقامات :
المقام
الأوّل : في معنى الإمامة
لغة : وهي بحسبها تقدّم شخص على الناس بنحو يتبعونه ويقتدون به ، فالإمام هو
المقتدى به والمتقدّم على الناس. قال في المفردات : والإمام المؤتم به إنسانا كان
يقتدى بقوله أو فعله أو كتابا أو غير
ذلك ، محقا كان أو
مبطلا ، وجمعه أئمة ، انتهى موضع الحاجة منه. وعن الصحاح : الإمام الذي يقتدى به
وجمعه أئمة ، ويشهد له الاستعمال القرآني كقوله عزوجل : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وقوله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إذ الظاهر أنّه ليس مستعملا في هذه الموارد إلّا في معناه
اللغوي. ثم إنّ الإمام إن كان إماما في جهة خاصة يقيّد بها ، ويقال : إنّه إمام
الجماعة أو إمام الجمعة أو إمام العسكر ونحوها وإلّا اطلق وعلم أنّه إمام في جميع
الجهات ، كقوله تعالى في حقّ إبراهيم الخليل ـ عليهالسلام ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) .
ومما ذكر يظهر
أيضا أنّ الإمام لغة أعمّ من الإمام الأصل وغيره ، كما أنّه أعمّ من الإمام الحقّ
وغيره ، وإن كان في بعض المقامات ظاهرا في الإمام الأصل فلا تغفل.
ثم إنّ النسبة بين
الإمام بالمعنى المذكور والنبيّ ـ سواء كان بمعنى المخبر عن الله تعالى بالإنذار
والتبشير كما هو الظاهر أو بمعنى تحمّل النبأ من جانب الله كما يظهر عن بعض ـ هي
العموم من وجه فيمكن اجتماعهما في شخص واحد كما قد يجتمع عنوان الإمام مع عنوان
خليفة الرسول أو وصيّ الرسول.
المقام
الثاني : في معنى الإمامة
اصطلاحا : ولا يذهب عليك أن جمهور العامّة فسّروها بما اعتقدوه في الإمامة من
الخلافة الظاهريّة والإمارة ، وقالوا : إنّ الإمامة عند الأشاعرة هي خلافة الرسول
في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة بحيث يجب اتباعه على كافة الامة ومن المعلوم أن مرادهم منها هي الخلافة
__________________
الظاهريّة الّتي
هي إقامة غير النبيّ مكانه في إقامة العدل ، وحفظ المجتمع الإسلامي ، ولو لم ينصبه
النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ للخلافة بإذنه تعالى ، ولذا حكي عن شرح المقاصد أنّه قال
: إن قيل الخلافة عن النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ إنما تكون فيما استخلفه النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ ، فلا يصدق التعريف على إمامة البيعة ونحوها ، فضلا عن
رئاسة النائب العام للإمام.
قلنا : لو سلم
فالاستخلاف أعم من أن يكون بواسطة أو بدونها ، ولذا لم يشترطوا فيها العصمة ، بل لم يشترط بعضهم
العدالة ، كما قال شارح المقاصد على المحكي : إنّ من أسباب انعقاد الخلافة القهر
والغلبة ، فمن تصدى لها بالقهر والغلبة من دون بيعة الامة معه فالأظهر انعقاد
الخلافة له ، وإن كان فاسقا ، ونسب ذلك أيضا إلى الحشوية وبعض المعتزلة ، كما لم يشترطوا فيها العلم الإلهي ، بل اكتفوا فيها
بالاجتهاد ولو كان اجتهادا ناقصا قال الفضل بن روزبهان : ومستحقها أن يكون مجتهدا
في الاصول والفروع ليقوم بأمر الدين وهذا مع ذهابهم إلى عدم وجوب كون الإمام أفضل الامة ، بل جواز اشتباهه في الأحكام كما يشهد لذلك ما ورد عن عمر
بن الخطاب أنّه قال مكررا : لو لا عليّ لهلك عمر.
وكيف كان فمعنى
الإمامة عند العامة هي الخلافة الظاهريّة مع أنّها لو كانت واجدة لشرائطها لكانت
شأنا من شئون الإمامة عند الشيعة ، فإنّ الإمامة عند الشيعة هي الخلافة الكليّة
الإلهيّة التي من آثارها ولايتهم التشريعية الّتي منها الإمارة والخلافة الظاهريّة
؛ لأنّ ارتقاء الإمام إلى المقامات الإلهية
__________________
المعنويّة يوجب أن
يكون زعيما سياسيّا لإدارة المجتمع الإسلامي أيضا ، فالإمام هو الإنسان الكامل
الإلهي العالم بجميع ما يحتاج إليه الناس في تعيين مصالحهم ومضارّهم ، الأمين على
أحكام الله تعالى وأسراره ، المعصوم من الذنوب والخطايا ، المرتبط بالمبدإ الأعلى
، الصراط المستقيم ، الحجّة على عباده ، المفترض طاعته ، اللائق لاقتداء العام به
والتبعيّة له ، الحافظ لدين الله ، المرجع العلمي لحلّ المعضلات والاختلافات
وتفسير المجملات ، الزعيم السياسي والاجتماعي ، الهادي للنفوس إلى درجاتها اللائقة
بهم من الكمالات المعنويّة ، الوسيط في نيل الفيض من المبدأ الأعلى إلى الخلق ،
وغير ذلك من شئون الإمامة التي تدلّ عليها البراهين العقليّة والأدلّة السمعيّة
وستأتي الإشارة إلى بعضها إن شاء الله تعالى.
وينقدح من ذلك أن
ما ذكره جماعة من علماء الإمامية تبعا لعلماء العامّة في تعريف الإمامة من أنّها
رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا ليس تعريفا جامعا للإمامة وإنّما هو إن تمّ شأن
من شئون الإمامة ولعل علماءنا ذكروه في قبال العامّة من باب المماشاة ، وإلّا فمن المعلوم
أنّ هذا التعريف ليس إلّا تعريفا لبعض الشئون التشريعيّة للإمام ، وهو الزعامة
السياسيّة والاجتماعيّة ولا يشمل سائر المقامات المعنويّة الثابتة للإمام كما
أشرنا إليه في تعريف الإمام ، والعجب من المحقق اللاهيجي ـ قدسسره ـ حيث ذهب إلى تطبيق التعريف المذكور على الإمامة عند
الشيعة مستدلا بأنّ الرئاسة في امور الدين لا يتحقق إلّا بمعرفة الامور الدينيّة ، مع أنّ المعرفة بالامور الدينيّة أعمّ من العلم الإلهي ،
ويصدق مع الاجتهاد في الامور الدينيّة إن لم نقل بكفاية التقليد في جلّها هذا ،
مضافا إلى خلوّه عن اعتبار العصمة.
__________________
وكيف كان فالأمر
سهل بعد ما عرفت من ماهيّة الإمامة عند الشيعة ، فالاختلاف بيننا وبين العامّة
اختلاف جوهريّ لا في بعض الشرائط ؛ ولذلك قال الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس سرّه ـ
: لزم علينا أن لا نخالط مسألة الإمامة مع مسألة الحكومة ونقول : إنّ العامّة ما
ذا تقول؟ ونحن ما ذا نقول؟ بل مسألة الإمامة مسألة اخرى ، ومفهوم نظير مفهوم
النبوّة بما لها من درجاتها العالية ، وعليه فنحن معاشر الشيعة نقول بالإمامة ،
والعامّة لا تقول بها أصلا ، لا أنهم قائلون بها ، ولكن اشترطوا فيها شرائط اخرى .
ثم لا يخفى عليك
أنّ الإمامة بالمعنى المختار والنبوّة قد يجتمعان كما في إبراهيم الخليل ـ عليهالسلام ـ كما نص عليه في قوله بعد مضي مدة من الزمن لنبوته : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بل في عدة اخرى من الأنبياء كما يشهد له قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنا) ولا سيّما نبينا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ وقد يفترقان إذ بعض الأنبياء كانوا يأخذون الوحي
ويبلغونه إلى الناس وأطاع عنهم من أطاع فيما بلغ إليهم ، ولكن مع ذلك لم يكونوا
نائلين مقام الإمامة ، واقتداء الخلق بهم وقيادة الناس ، وسوقهم نحو السعادة
والكمال ، كما أنّ أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ كانوا نائلين مقام الإمامة ، ولكن لم يكونوا أنبياء
فالنسبة بين الإمامة والنبوة عموم من وجه . ثم إنّ المقصود من البحث في الإمامة حيث كان هو الإمام
الذي يكون خليفة عن النبيّ قيّدت الإمامة في التعاريف بالنيابة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ كما يظهر من تعاريف القوم ، بل أصحابنا ومنهم العلّامة ـ
قدسسره ـ حيث عرّفوها بأنّها رئاسة عامّة في امور الدنيا والدين
لشخص من الأشخاص نيابة عن
__________________
النبيّ ، وعليه
فيصدق على كل واحد من أئمتنا عنوان الإمام وعنوان خليفة الرسول أو وصيّ الرسول ،
كما يصدق عليه عنوان خليفة الله أيضا ولا مانع من اجتماع هذه العناوين فيه كما لا
يخفى.
المقام
الثالث : في شئون الإمامة
ومنزلتها : ولا يخفى عليك أنّ الإمام حيث كان خليفة الله في أرضه فليكن مظهر
أسمائه وصفاته ، كما أنه يتّصف بصفات النبيّ أيضا ؛ لكونه خليفة له فإن كان النبيّ
معصوما فهو أيضا معصوم ، وإن كان النبيّ عالما بالكتاب والأحكام والآداب فهو أيضا
عالم بهما ، وإن كان النبيّ عالما بالحكمة فهو أيضا عالم بها وإن كان النبيّ عالما
بما كان وما يكون فهو أيضا عالم به ، وهكذا فالإمام يقوم مقام النبيّ في جميع
صفاته عدا كونه نبيا.
وبالجملة فالأئمة
هم ولاة أمر الله ، وخزنة علم الله ، وعيبة وحي الله ، وهداة من بعد النبيّ ،
وتراجمة وحي الله ، والحجج البالغة على الخلق ، وخلفاء الله في أرضه ، وأبواب الله
عزوجل التي يؤتى منها ، و... فهذه منزلة عظيمة لا ينالها الناس
بعقولهم أو بآرائهم.
ثم إنّ أحسن رواية
في تبيين هذه المنزلة هو ما نصّ عليه مولانا علي بن موسى الرضا ـ عليهماالسلام ـ حيث قال : ...
إنّ الإمامة أجلّ
قدرا ، وأعظم شأنا ، وأعلا مكانا ، وأمنع جانبا ، وأبعد غورا من أن يبلغها الناس
بعقولهم أو يناولها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم أنّ الإمامة خصّ الله عزوجل بها إبراهيم الخليل ـ عليهالسلام ـ بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) فقال الخليل ـ عليهالسلام ـ سرورا بها : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الله تبارك
__________________
وتعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت
في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ
وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها
الله تعالى النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقال جلّ وتعالى : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) فكانت له خاصة فقلّدها ـ صلىاللهعليهوآله ـ عليا ـ عليهالسلام ـ بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته
الأصفياء الّذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) فهي في ولد عليّ ـ عليهالسلام ـ خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبيّ بعد محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟!
إنّ الإمامة هي
منزلة الأنبياء ، وارث الأوصياء ، إنّ الإمامة خلافة الله ، وخلافة الرسول ، ومقام
أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ وميراث الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا
، وعزّ المؤمنين ، إن الإمامة اس الإسلام النامي ، وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ،
وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف ، الإمام
يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو
إلى سبيل ربّه بالحكمة
__________________
والموعظة الحسنة ،
والحجة البالغة ، الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي
والأبصار ، الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى ، وأجواز البلدان والقفار ، ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدالّ على
الهدى ، والمنجي من الردى ، الإمام النار على اليفاع ، الحار لمن اصطلى به ، والدليل في المهالك ، من فارقه
فهالك ، الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة ، والأرض البسيطة ،
والعين الغزيرة ، والغدير والروضة ، الإمام الأنيس الرفيق ، والوالد
الشفيق ، والأخ الشقيق ، والام البرة بالولد الصغير ، ومفزع العباد في الداهية
الناد ، الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي
إلى الله ، والذاب عن حرم الله ، الإمام المطهّر من الذنوب ، والمبرّأ عن العيوب ،
المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين ، وعزّ
__________________
المسلمين ، وغيظ
المنافقين ، وبوار الكافرين ، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ،
ولا يوجد منه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه ولا
اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهّاب فمن ذا الّذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه
اختياره هيهات هيهات ، ضلت العقول وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء ،
وتحيّرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألبّاء ، وكلّت
الشعراء ، وعجزت الادباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله ، وأقرّت
بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكلّه ، أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شيء من أمره ، أو
يوجد من يقوم مقامه ، ويغني غناه ، لا كيف وأنّى وهو بحيث النجم من يد المتناولين
، ووصف الواصفين فأين الاختيار من هذا ، وأين العقول عن هذا ، وأين يوجد مثل هذا؟
ـ إلى أن قال ـ : والقرآن يناديهم : «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ» ـ إلى أن قال ـ : فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم
لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ،
مخصوص بدعوة الرسول ونسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، فالبيت من قريش والذروة من هاشم
__________________
والعترة من الرسول
ـ صلىاللهعليهوآله ـ والرضا من الله عزوجل ، شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عزوجل ، ناصح لعباد الله ، حافظ لدين الله ، إنّ الأنبياء
والأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ يوفقهم الله ، ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمة ما لا
يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ـ إلى أن قال ـ : فهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد ، قد أمن من
الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ، ليكون حجته (البالغة) على عباده ،
وشاهده على خلقه (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟. أو يكون مختارهم بهذه
الصفة فيقدمونه ... الحديث
المقام
الرابع : في أنّها أصل من
اصول الدين أو فرع من فروعه : وقد عرفت مما ذكرنا أنّ الإمامة هي الخلافة الإلهية
الّتي تكون متممة لوظائف النبيّ وإدامتها عدا الوحي ، فكل وظيفة من وظائف الرسول
من هداية البشر وإرشادهم وسوقهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في الدارين ، وتدبير
شئونهم ، وإقامة العدل ، ورفع الظلم والعدوان ، وحفظ الشرع ، وبيان الكتاب ، ورفع
الاختلاف ، وتزكية الناس ، وتربيتهم ، وغير ذلك ثابتة للإمام وعليه فما أوجب إدراج
النبوّة في اصول الدين أوجب إدراج الإمامة بالمعنى المذكور فيها ، وإلّا
__________________
فلا وجه لإدراج
النبوّة فيها أيضا. قال في دلائل الصدق : ويشهد لكون الإمامة من اصول الدين أنّ
منزلة الإمام كالنبيّ في حفظ الشرع ووجوب اتباعه والحاجة إليه ورئاسته العامّة بلا
فرق ، وقد وافقنا على أنّها أصل من اصول الدين جماعة من مخالفينا كالقاضي البيضاوي
في مبحث الأخبار ، وجمع من شارحي كلامه ، كما حكاه عنهم السيد السعيد رحمهالله .
نعم لو كانت
الإمامة بمعنى خصوص الزعامة الاجتماعيّة والسياسية ، فالإنصاف أنّها من فروع الدين
كسائر الواجبات الشرعيّة من الصوم والصلاة وغيرها ، لا من اصولها ، فما ذهب إليه
جماعة من المخالفين من كون الإمامة من اصول الدين مع ذهابهم إلى أنّ الإمامة بمعنى
الزعامة الاجتماعية والسياسية منظور فيه.
وإليه أشار
الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدسسره ـ حيث قال : إن كانت مسألة الإمامة في هذا الحد يعني
الزعامة السياسيّة للمسلمين بعد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فالانصاف أنّا معاشر الشيعة جعلنا الإمامة من أجزاء فروع
الدين لا اصوله ونقول : إنّ هذه المسألة مسألة فرعية كالصلاة ، ولكن الشيعة الّتي
تقول بالإمامة لا يكتفون في معنى الإمامة بهذا الحد .
ثم إنّه يمكن
الاستدلال لذلك مضافا إلى ما ذكر بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فإنّ الآية بعد كونها نازلة في الإمامة والولاية عند أواخر
حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوآله ـ دلّت على أنّها أصل من اصول الدين ، إذ الإمامة على ما
تدل عليه الآية المباركة أمر لو لم يكن كان كأن لم يكن شيء من الرسالة والنبوة ،
فهذه تنادي بأعلى صوت أنّ الإمامة من الأجزاء الرئيسية الحياتية للرسالة والنبوة ،
فكيف
__________________
لا تكون من اصول
الدين وأساسه؟
وأيضا يمكن
الاستدلال بقوله تعالى في سورة المائدة التي تكون آخر سورة نزلت على النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) فإنّ الآية كما نصّت عليه الروايات نزلت في الإمامة
والولاية لعليّ ـ عليهالسلام ـ ويؤيده عدم صلاحية شيء آخر عند نزولها لهذا التأكيد
فالآية جعلت الإمامة مكملة للدين ومتممة للنعمة ، فما يكون من مكملات الدين
ومتمماته كيف لا يكون من اصول الدين وأساسه؟
هذا مضافا إلى
النبويّ المستفيض عن الفريقين أنّه قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية ، وهذا الحديث يدل على أنّ معرفة الإمام إن حصلت ثبت الدين
، وإلّا فلا دين له إلّا دين جاهلي.
وفي خبر آخر عن
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمت إن شاء يهوديا وإن
شاء نصرانيا . وهو يدل على أنّ معرفة الإمامة إن حصلت ثبت الإسلام وإلّا
فلا اسلام له ، وكيف كان فإذا كان مفاد الحديث أنّ معرفة الإمامة من مقومات الدين
أو الإسلام فكيف لا تكون داخلة في اصول الدين وأساسه ؟ هذا مع الغمض عن الأحاديث الكثيرة
__________________
المرويّة في
جوامعنا الّتي تؤيد هذا المضمون فراجع .
ولقد أفاد وأجاد
المحقق اللاهيجي ـ قدسسره ـ بعد نقل كلام شارح المقاصد الّذي قال : إنّ مباحث
الإمامة أليق بعلم الفروع ، حيث قال : إنّ جمهور الإمامية اعتقدوا بأن الإمامة من
اصول الدين لأنّهم علموا أنّ بقاء الدين والشريعة موقوف على وجود الإمام كما أنّ
حدوث الشريعة موقوف على وجود النبيّ فحاجة الدين إلى الامام بمنزلة حاجته إلى
النبيّ .
فإذا ثبت أنّ
الإمامة أصل من اصول الدين فاللازم فيه هو تحصيل العلم ، ولا يكفي فيه التقليد
الّذي لا يفيد إلّا الظن لما عرفت من أنّ احتمال الضرر لا يدفع بسلوك الطريق
الظنّي كما لا يخفى.
ثم إنّ معنى كون
الإمامة من الاصول هو وجوب الاعتقاد والتدين بوجود الإمام المنصوب من الله تعالى
في كل عصر بعد النبيّ وخاتميته ، كما أنّ معنى كونها من الفروع هو وجوب نصب أحد
للرئاسة والزعامة والانقياد له ، فيما إذا لم ينصبه بعد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فيقع الكلام في كيفية النصب المذكور أنّه باختيار بعض
آحاد الامة ، أو باختيار جميعهم ، أو باختيار أكثرهم ، أو غير ذلك؟
وأما بناء على
كونها من الاصول فلا يبقى لهذا الكلام مجال ، كما لا مجال له في وجود النبيّ كما
لا يخفى ، ثم إنّ الإمامة ـ إذا كانت الإمامة أصلا من اصول الدين ـ يلزم من فقدها
اختلال الدين ، ولكن مقتضى الأدلة التعبدية هو كفاية الشهادتين في إجراء الأحكام
الإسلامية في المجتمع الإسلامي ، في ظاهر الحال ، ولا منافاة بينهما فلا تغفل
__________________
ولما ذكر يظهر وجه
تسمية الإمامة والعدل باصول المذهب فإنّ معناه بعد ما عرفت من كفاية الشهادتين
تعبدا في ترتب أحكام الإسلام أنّ إنكارهما يوجب الخروج عن مذهب الإمامية لا عن
إجراء الأحكام الإسلامية.
المقام
الخامس : في وجوب النظر في
إمامة أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ ولا ريب في ذلك بناء على كونها أصلا من أصول الدين ،
فيجب النظر فيها عقلا كسائر آحاد اصول الدين بملاك واحد ، كما مرّ في أول الشرح من
وجوب دفع الضرر المحتمل ، ووجوب شكر المنعم.
وأما بناء على عدم
كونها أصلا من اصول الدين كما ذهب إليه أكثر العامّة فعلى الأقل تكون الإمامة
قابلة للنظر والبحث بعنوان المرجعية العلمية الإلهية ؛ لإمكان تعيين أشخاص من
ناحيته تعالى لبيان الأحكام وحفظها ، فمع هذا الاحتمال يجب بحكم العقل الفحص
والنظر فيه ، فإن ثبتت تلك المرجعية لآحاد من الامة فلا يعلم بفراغ الذمة من
التكاليف الشرعيّة إلّا بمراجعتهم وأخذ الأحكام منهم ؛ لأنّهم حجة في بيان الأحكام
لا غيرهم ، فالعقل يحكم بوجوب القطع بفراغ الذمّة من التكاليف الشرعيّة دفعا للضرر
المحتمل ، وهو لا يحصل إلّا بالرجوع إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه ، فالبحث
والنظر عمن نكون مأمورين باتباعه واجب عقلي.
ونحن ندّعي ونعتقد
أن الأئمة الاثني عشر ـ عليهمالسلام ـ بعد نبينا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ هم خلفاء الله في أرضه وأمناؤه على أحكامه ، فلو لم تثبت
ولايتهم المعنوية وزعامتهم السياسيّة والاجتماعيّة لإخواننا المسلمين ، فلم لم
يتفحصوا ولم ينظروا حتّى يأخذوا بآثارهم مع أن مرجعيتهم العلميّة ثابتة بالروايات
المتواترة بين الفريقين.
منها : الحديث
المعروف بحديث الثقلين المجمع عليه بين الفريقين ، المروي في الكتب المعتبرة عن
النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال في مواضع متعددة
وحتّى في الخطبة
الأخيرة منه : «أيّها الناس ، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي
فتمسكوا بهما لن تضلوا فإنّ اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتى
يردا عليّ الحوض» فكما أنّ القرآن بنصّ الحديث حجة ، كذلك العترة فآراؤهم
وأقوالهم حجة بنفسها ، فعلى إخواننا المسلمين الفحص والنظر عن المرجعيّة العلميّة
للأئمة الاثني عشر التي اعتقد بها الشيعة ، ولا يجوز بحكم العقل عدم التوجه إلى
هذه المرجعية على الأقل ، إذ مع احتمالها لا يكفي في الامتثال العمل بغير طريقة
الأئمة ـ عليهمالسلام ـ كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى أنّ
أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ هم الذين كانوا وارثين لعلم الرسول ومخزن علمه فعلى
إخواننا المسلمين أن يأخذوا وظائفهم الشرعية عن طريق ائمتنا ـ عليهمالسلام ـ ولقد أفاد وأجاد السيد المحقق المتتبع المرجع الديني آية
الله العظمى البروجردي ـ قدسسره ـ حيث قال في مقدمة جامع أحاديث الشيعة ـ بعد نقل روايات
تدل على أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أملى كل حلال وحرام لعلي ـ عليهالسلام ـ فكتبه بيده وبقي عند الأئمة ـ عليهمالسلام ـ : وقد يظهر من هذه
الاحاديث امور :
الأول
: أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ لم يترك الامة بعده سدى مهملة بلا إمام هاد وبيان شاف ،
بل عيّن لهم أئمة هداة دعاة سادة قادة حفاظا ، وبيّن لهم المعارف الإلهية والفرائض
الدينية ، والسنن والآداب ، والحلال والحرام ، والحكم والآثار ، وجميع ما يحتاج
إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش ، ولم يأذن ـ صلىاللهعليهوآله ـ لأحد أن يحكم أو يفتي بالرأي والنظر والقياس ، لعدم كون
موضوع من الموضوعات أو أمر من الامور خاليا عن الحكم الثابت له
__________________
من قبل الله
الحكيم العليم ، بل أملى ـ صلىاللهعليهوآله ـ جميع الشرائع والأحكام على الإمام علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ وأمره بكتابته وحفظه ورده إلى الأئمة من ولده ـ عليهمالسلام ـ فكتبه ـ عليهالسلام ـ بخطّه وأداه إلى أهله.
والثاني
: أنّه ـ صلىاللهعليهوآله ـ أملى هذا العلم على علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ فقط ، ولم يطلع عليه في عصره ـ صلىاللهعليهوآله ـ غيره أحد ، وأوصى إليه أن يكون هذا الكتاب بعده عند
الأئمة الأحد عشر ، فيجب على الامة كلّهم أن يأخذوا علم الحلال والحرام ، وجميع ما
يحتاجون إليه في أمر دينهم بعد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ من علي بن أبي طالب والأئمة من ولده ـ عليهمالسلام ـ فإنّهم موضع سرّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ وخزّان علمه وحفّاظ دينه.
والثالث
: أنّ الكتاب كان
موجودا عند الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وأراه الإمامان أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب وابنه أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ـ عليهمالسلام ـ جماعة من أصحابنا الإمامية وغيرهم من الجمهور ، لحصول
الاطمئنان ، أو الاحتجاج على ما كانا يتفردان من الفتاوى عن سائر الفقهاء ،
ويقسمان بالله أنّه إملاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وخط علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ.
والرابع
: كون الكتاب معروفا
عند الخاصّة والعامّة في عهد الإمامين ـ عليهماالسلام ـ لأنهما كثيرا ما يقولان في جواب استفتاآت الجمهور ـ كغياث
بن إبراهيم وطلحة بن زيد والسكوني وسفيان بن عيينة والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد
وأمثالهم ـ أن في كتاب علي ـ عليهالسلام ـ كذا وكذا في جواب مسائل الأصحاب كزرارة ومحمّد بن مسلم
وعبد الله بن سنان وأبي حمزة وابن بكير وعنبسة بن بجاد العابد ونظائرهم.
والخامس
: أنّ ما عند الأئمة
ـ عليهمالسلام ـ من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل
ـ عليهالسلام ـ وأخذوه من رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فتحرم على الامة مخالفتهم في الحكم والفتوى اعتمادا على
الرأي والقياس والاجتهاد ، ويجب عليهم الأخذ بأحاديثهم وفتاويهم ، ورد ما يرد عن
مخالفيهم ؛ لأنّ ما عندهم أوثق مما عند غيرهم ، ومعلوم أنّ ما ورد في كون أحاديث
الأئمة الاثني عشر وعلومهم ـ عليهمالسلام ـ عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ من طرق العامّة والخاصّة قد تجاوزت حد التواتر ، بل لا
يسعها المجلدات الضخام ولسنا بصدد استقصائها في هذا الكتاب ، فما قاله أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ قاله النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فيجب الاتباع عنهم كما يجب الاتباع عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ.
المقام
السادس : في كون الإمامة
لطفا ورحمة ، ولا سترة فيه : بعد ما عرفت من شئون الإمامة فإنّ شئون الإمامة عين
شئون نبوة نبينا عدا الوحي ، فكما أنّ النبوة لطف ورحمة كذلك الإمامة.
قال الحكيم
المتألّه المولى محمّد مهدي النراقي : إنّ رتبة الإمامة قريب برتبة النبوة إلّا أن
النبيّ مؤسس للتكاليف الشرعية بمعنى أنه جاء بالشريعة والأحكام والأوامر والنواهي
من جانبه تعالى ابتداء ، والإمام يحفظها ويبقيها بعنوان النيابة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ .
ثم إنّ في الإمامة
كالنبوة مراتب من اللطف والرحمة الّتي تقتضيها رحيميته تعالى ، وكماله المطلق ،
فأصل وجود الإمام لطف فإنّه إنسان كامل كما أن تصرفه في الناس بهدايتهم وإرشادهم
إلى ما فيه الصلاح والسعادة ، وتدبير شئونهم ومصالحهم ، وإقامة العدل ورفع الظلم
والعدوان من بينهم ، وتزكيتهم
__________________
وحفظ الشريعة عن
التحريف والزيادة والنقصان ، وإزالة الشبهات ، وتفسير الكتاب ، وتبيين المشتبهات ،
وغير ذلك ألطاف أخر ، التي يقتضيها كماله المطلق ورحيميته المطلقة ، ومن تلك
المراتب الهداية الإيصالية.
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ إنّ الإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب
الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر
الله ، دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبيّ والرسول ، ولذا قال في ذيل قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنا) : إنّ الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى
إراءة الطريق ؛ لأنّ الله سبحانه جعل إبراهيم إماما بعد ما جعله نبيا كما أوضحناه
في تفسير قوله (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) فيما تقدم ولا تنفك النبوّة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق
، فلا يبقى للإمامة إلّا الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب ، وهي نوع تصرف تكويني
في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. وإذا كانت
تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالأمر الّذي تكون به الهداية ليس هو الأمر
التشريعي الاعتباري ، بل ما يفسره في قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) فهو الفيوضات المعنوية والمقامات الباطنية الّتي يهتدي
إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة من ربهم وإذ كان الإمام يهدي
بالأمر ـ والباء للسببية أو الآلة ـ فهو متلبس به أوّلا ومنه ينتشر في الناس على
اختلاف مقاماتهم ، فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات
الباطنية وأخذها ، كما أن النبيّ رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات
__________________
الظاهرية ، وهي
الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبيّ وتنتشر منه ، وبتوسطه إلى الناس وفيهم ،
والامام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما ان النبيّ دليل يهدي الناس إلى
الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة . ثم إنّ ما ذكره العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ يكون في مقام الفرق بين الإمام والنبيّ فلا ينافي ما
أشرنا إليه من اجتماع وظائف النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ عدا تلقّي الوحي في الإمام مع وظائفه ، كما عرفت من أنّ
أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ يقومون مقام النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ في وظائفه وعليه فلا تنحصر وظائفهم في الهداية المعنوية
كما لا يخفى.
وكيف كان فالإمامة
كالنبوّة لطف مضاعف فإنّها لطف في لطف من دون فرق بين كونه ممكنا أو مقربا أو أصلح
، ومما ذكر يظهر ما في اقتصارهم على الزعامة السياسية في مقام بيان إثبات كون
الإمامة لطفا كما في شرح تجريد الاعتقاد وشرح الباب الحادي عشر ، مع أنّها شأن من شئون الإمامة وشطر منها ، كما يظهر أيضا
مما ذكر ، ما في اكتفاء بعض آخر على ذكر فائدة حفظ الشريعة الواصلة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ عن التحريف والتغير في مقام بيان فوائد وجود الإمام مع
أنّه نوع من أنواع لطف وجود الإمام فلا تغفل المقام السابع : في لزوم الإمامة : وقد عرفت أنّ الإمامة بالمعنى الّذي لها
عند الشيعة هي كالنبوّة فكما أنّ النبوّة لطف ورحمة ، كذلك الإمامة فإذا ظهر كونها
لطفا ، والمفروض أنّه لا يقترن بمانع يمنع عنه ، فهو مقتضى علمه تعالى بالنظام
الأحسن وإطلاق كماله وحكمته تعالى ، وعليه فيصدر عنه تعالى وإلّا لزم أن يكون
جاهلا بالنظام الأحسن ، أو لزم عدم كونه تعالى كمالا مطلقا وحكيما ،
__________________
وهو خلف في كونه
عليما ورحيما وحكيما بالأدلة والبراهين القطعية ، وإليه يؤول ما يقال في تقريب
لزوم الإمامة أنّها واجب في حكمته تعالى ؛ لأنّ المراد من الوجوب هو اللزوم
والمقتضي كما مرّ مرارا ، لا الوجوب عليه فالأولى هو التعبير بالاقتضاء واللزوم
كما عبر عنه الشيخ أبو علي سينا في الشفاء حيث قال في مقام إثبات النبوّة بعد ذكر
المنافع الّتي لا دخل لها في بقاء النوع الإنساني ، كإثبات الشعر في الحاجب
والأشفار : فلا يجوز أن يكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه
الّتي هي اسها .
وهذا كلّه بناء
على التقريب الفلسفي الّذي ذهب إليه المصنف في إثبات النبوّة والإمامة ، وحاصله :
أنّ النبوّة والإمامة كليهما مما يقتضيهما كماله المطلق ورحيميته المطلقة وإلّا
لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا كما لا يخفي ، وأمّا بناء على التقريب الكلامي
فتقريبه كالتقريب الّذي مضى في النبوّة وهو أن يقال :
إنّ ترك اللطف نقض
الغرض ؛ لأنّ غرض الحكيم لا يتعلق إلّا بالراجح وهو وجود الإنسان الكامل وإعداد
الناس وتقريبهم نحو الكمال ، وهو لا يحصل بدون الإمام ، فيجب عليه اللطف ؛ لأنّ
ترك الراجح عن الحكيم المتعال قبيح بل محال ، إذ مرجع الترجيح من غير مرجح إلى
الترجح من غير مرجح كما لا يخفى.
وكيف كان فلا بد
في كلّ عصر من وجود إمام هو يكون إنسانا كاملا هاديا للناس والخواص ، مقيما للعدل
والقسط ، رافعا للظلم والعدوان ، حافظا للكتاب والسنّة ، رافعا للاختلاف والشبهة ،
اسوة يتخلق بالأخلاق الحسنة حجة على الجنّ والإنس ، وإلّا كما عرفت لزم الخلف في
كمال ذاته وهو محال ، أو الإخلال بغرضه وهو قبيح عن الحكيم ، بل هو أيضا محال كما
عرفت ، فإذا كان كلّ نوع من أنواع لطف وجود الإمام من أغراضه تعالى فلا وجه
__________________
لتخصيص نقض الغرض
بنوع منها كما يظهر من بعض الكتب الكلامية ، مع أنّ كلّ نوع منها راجح من دون
اقتران مانع ، فبترك كل واحد يوجب نقض الغرض ، ولعل الاكتفاء ببعض الأنواع من باب
المثال فافهم. فالأولى هو عدم التخصيص ببعض تلك الأنواع ، ولعل إليه يؤول ما في متن
تجريد الاعتقاد حيث قال : الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض .
ثم إنّ مقتضى كون
وجود الإمام كالنبيّ لطفا مضاعفا ان كلّ واحد من أبعاد وجوده وفوائده يكون كافيا
في لزوم وجوده ، فإن طرأ مانع عن تحقق بعضها كالتصرف الظاهري بين الناس يكفي الباقي
في لزوم وجوده وبقائه.
وينقدح مما ذكر
أنّ ظهور الإمام للناس لطف زائد على وجوده الّذي يقتضيه علمه تعالى بالنظام الأحسن
وإطلاق كماله ، فإرشاده وتعليمه وتزكيته للناس لطف آخر ، وهكذا بقية الشئون الّتي
تكون للإمام.
هذا مضافا إلى أنّ
إرشاده وتعليمه وتزكيته للجن أيضا لطف في حقّهم فإنّهم مكلّفون ومحجوجون بالحجج
الإلهية كما لا يخفى.
ثم بعد وضوح أن
الإمامة كالنبوة اتضح لك أنّها أمر فوق قدرة البشر ، فلا تنالها يده ولا يمكن له
تعيينها واختيارها ، بل هي فعل من أفعاله تعالى فيجعلها حيث يشاء وهو أعلم بمن
يشاء ومنه يظهر أنّه لا مجال للبحث عن وجوب نصب الإمام على الناس وكيفيته ، فإنّ
ذلك من فروع الإمارة الظاهرية مع عدم تعيين الخليفة الإلهية عن الله تعالى.
وأما مع تعيينها
فلا مجال للبحث عنه إذ المعلوم أن الامارة له ، كما أنّه لا بحث مع وجود النبيّ
المرسل عن وجوب نصب الأمير على الناس ؛ لأنّ الإمارة من شئون النبيّ المرسل كما لا
يخفى.
__________________
فاتضح أنّ الإمام
لزم أن يكون متعينا بنصب إلهي ؛ ولذلك نصّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ من جانب الله تعالى في مواضع متعددة على إمامة عليّ ـ عليهالسلام ـ وأولاده الأحد عشر ـ عليهمالسلام ـ كما نصّ كلّ إمام على من يليه من جانب النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ وهذه النصوص متواترة جدا يشهد بوجودها الجوامع الروائية
من العامّة والشيعة كإثبات الهداة للشيخ الحرّ العاملي والبحار واصول الكافي ومنتخب
الأثر وغاية المرام وعبقات الأنوار وكتاب الغدير وغيرها.
وهاهنا
سؤال : وهو أنّه لا ريب
في كون وجود الإمام لطفا فيما إذا كان ظاهرا ومتصرفا في الامور ، وأما إذا لم يكن
ظاهرا ولم يتمكن الناس من درك محضره ، كالإمام الثاني عشر ـ عليهالسلام ـ في زمان الغيبة ، فمجرد وجوده كيف يكون لطفا في حق
العباد؟
والجواب عنه ظاهر
مما مرّ ، من أن وجود الإنسان الكامل في نظام العالم مما يقتضيه علمه تعالى
بالنظام الأحسن ورحمته المطلقة وإطلاق كماله ولا مانع منه ، فيلزم وجوده وإلّا لزم
الخلف في كونه كمالا مطلقا ، فوجود الإمام الذي هو إنسان كامل ـ لطف ، وتصرفه
وظهوره لطف آخر ، فلا يضرّ فقد لطف من جهة المانع بوجود اللطف من جهة أو جهات اخر
؛ لأنّ المفروض عدم وجود مانع من جهة اخرى.
هذا مضافا إلى أنّ
إرشاد الإمام وتصرفه لا يختص بالإنسان ، بل يعمّ الجنّ أيضا ؛ لأنّهم مكلّفون
ومحجوجون بوجوده على أنّ بعض الخواصّ كانوا يسترشدون بإرشاده وعناياته في الغيبة
الصغرى بل الكبرى أيضا ، كما تشهد له التشرّفات المكرّرة لبعض المكرّمين من
العباد. هذا مع الغمض عمّا يتصرّف في النفوس من وراء الحجاب والستار.
قال الحكيم
المتأله المولى محمّد مهدي النراقي في الجواب عن ذلك : إنّ ظهور
الإمام الثاني عشر
ـ أرواحنا فداه ـ وتصرفه فائدة من فوائد وجوده ؛ لأنّ فوائد وجوده كثيرة وإن كان
غائبا ،
الأوّل : أنّه قد
ورد في الحديث القدسي عنه تعالى أنّه قال : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف مخلقت
الخلق لكي اعرف» فيعلم منه أنّ الباعث على ايجاد الإنسان هو المعرفة بالله
تعالى ، فليكن في كلّ وقت فرد بين آحاد الإنسان يعرفه كما هو حقّه ، ولا تحصل
المعرفة كما هو حقه في غير النبيّ والإمام ، فلا بدّ من وجود الحجّة في الأرض حتّى
تحصل المعرفة به كما هو حقه بين الناس.
والثاني : أن
مجرّد وجوده لطف وفيض في حقّ الناس ولو لم يكن ظاهرا ؛ لأنّ وجوده باعث نزول
البركات والخيرات ، ومقتض لدفع البليات والآفات ، وسبب لقلّة سلطة الشياطين من
الجنّ والإنس على البلاد ، فإنّ آثار الشيطان كما وصلت إلى البشر دائما كذلك لزم
أن تصل آثار رئيس الموحدين وهو الحجّة الإلهية إليهم ، فوجود الحجة في مقابل
الشيطان للمقاومة مع جنوده ، فلو لم يكن للإمام وجود في الأرض صارت سلطة الشيطان
أزيد من سلطة الأولياء ، فلا يمكن للإنسان المقاومة في مقابل جنود الشيطان.
والثالث : أن غيبة
الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ تكون عن أكثر الناس ، لا عن جميعهم ؛ لوجود
جمع يتشرّفون بخدمته ، ويأخذون جواب الغوامض من المسائل ويهتدون بهدايته ، وإن لم
يعرفوه. انتهى ملخص كلامه .
سؤال : وهو أنّ
الإمام يجب وجوده لو لم يقم لطف آخر مقامه كعصمة جميع الناس.
والجواب عنه واضح
؛ لأنّ المفروض عدم إقامة هذا اللطف ، وإلّا فلا
__________________
موجب لبعث الرسل
والأنبياء أيضا كما لا يخفى فوجود الإمام كوجود النبيّ واجب فيما إذا لم يكن الناس
معصومين كما هو المفروض.
سؤال : وهو أن
الإمام يجب وجوده فيما إذا علم بخلوّه عن المفسدة ، وحيث لا علم به فلا يكون وجود
الإمام واجبا ، ولا فائدة في دعوى عدم العلم بالمفسدة ؛ لأنّ احتمالها قادح في
وجوب نصب الامام كما لا يخفي.
وأجاب عنه المحقق
اللاهيجي ـ قدسسره ـ : بأنّ الامور المتعلقة بالإمام على قسمين : الدنيويّة
والاخرويّة ومن المعلوم أنّ مفسدة وجود الإمام بالنسبة إلى الامور الدينية معلومة
الانتفاء ، فإنّ المفاسد الشرعيّة في الامور الدينيّة معلومة شرعا ، ولا يترتب شيء
منها على وجود الإمام ، وهذا ضروري عند العارف بالمفاسد الشرعيّة ، وحيث كان كل
واحد منّا مكلفون بترك المفاسد الشرعية ، فلا يجوز أن لا تكون تلك المفاسد معلومة
لنا ، وإلّا لزم التكليف بالمجهول وهو كما ترى.
وأيضا من الواضح
أنّ نصب الإمام بالنسبة إلى الامور الدنيويّة لا مفسدة فيه إذ الامور الدنيويّة
راجعة إلى مصالح العباد ومفاسدهم في حياتهم الدنيويّة وحفظ النوع والإخلال به ،
وهي معلومة لكافة العقلاء ، ولا يترب من وجود الإمام شيء من المفاسد فيها ، بل
العقل جازم بأن لا يمكن سد مفاسد أمور المعاش إلّا بوجود سلطان قاهر عادل.
فإذا عرفت ذلك
فنقول بطريق الشكل الأوّل نصب الإمام عن الله تعالى لطف خال عن المفاسد ، وكلّ لطف
خال عن المفاسد واجب على الله تعالى ، فنصب الإمام واجب عليه تعالى وهو المطلوب . وإلى ما ذكر من الشبهة والأجوبة عنها يشير قول المحقق
الطوسي ـ في متن تجريد الاعتقاد ـ : والمفاسد
__________________
معلومة الانتفاء
وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ، ووجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وعدمه منّا وبالجملة لا شبهة في الصغرى في المقام ، كما لا شبهة في
كبرى لزوم اللطف فيما إذا كان خاليا عن الموانع والمفاسد ، وأما ما يتراءى من بعض
الشبهات حول قاعدة اللطف في بعض المقامات كاستكشاف رأي المعصوم عقلا بقاعدة اللطف
من الاجماع كما ذهب إليه الشيخ الطوسيّ ـ قدسسره ـ فهو من ناحية الصغرى لا من ناحية الكبرى ، وقد أشار إليه
المصنف ـ قدسسره ـ في اصول الفقه فراجع .
هذا كلّه بحسب
الأدلّة العقليّة وأمّا الأدلّة السمعيّة الّتي تدلّ على لزوم وجود الإمام للناس
فكثيرة جدا ولا بأس بالاشارة إلى جملة منها.
فمن الآيات : قوله
تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) بتقريب : أنّ الخليفة حيث لم تكن مقيدة بالإضافة إلى مخلوق
معين مما يؤكد أنّ الإنسان خليفة الجاعل لا غيره ، كما هو الظاهر من نظيره كقول
رئيس الدولة : إنّي جاعل في هيئة الدولة خليفة ، فإنّ العرف يفهمون منه أن المقصود
هو خليفة نفسه لا غيره.
هذا مضافا إلى أنّ
المقام الّذي كان مطلوبا للملائكة هو مقام الخلافة الإلهية لا مقام خلافتهم عن
الماضين من المخلوقات الأرضيّة فالمراد هو جعل الإنسان خليفة له تعالى.
وحيث لم يذكر جهة
الخلافة ، كانت الخلافة ظاهرة في كون الإنسان خليفة له في مختلف الشئون وكافة
الامور ، كما أنّ عدم ذكر ما استخلف عليه
__________________
الخليفة يدلّ على
عموم ذلك ، فيكون الإنسان خليفة له في جميع الشئون وكافة الامور على جميع ما
استخلف عليه الخليفة ، فلا تختصّ خلافته ببعض دون بعض ، بل هو خليفة عليهم جميعا ،
ولذلك لزم أن يكون خليفة الله تعالى عالما بجميع صفات المستخلف وشئون ما يستخلفه
عليه ، كما يجب أن تكون له القدرة الضروريّة للتصرّف في الامور ، وهو الإنسان الكامل الّذي يكون خليفة الله تعالى في
خلقه.
ثم إنّ هذا
الإنسان الّذي يكون كذلك لا يكون جميع آماده ، ضرورة أن هذه الخصائص ليست لجميعهم
، فالمراد منه بعض الآحاد منه وهو الأوحدي من هذا النوع ، ولكن مقتضى تعبيره بأنّي
جاعل في الأرض خليفة ، ولم يقل سوف أجعل أو جعلت هو استمرار هذا الجعل في أمد
الزمان من أول خلقة آدم إلى يوم القيامة فأوّل فرد من أفراد الإنسان يكون كذلك ،
وإلّا لم يكن هو جاعلا في الأرض خليفة ويدوم ذلك كذلك إلى آخر الزمن ، كما يشهد له
موثقة اسحاق بن عمّار المرويّة في الكافي حيث قال : قلت لأبي الحسن الأوّل : ألا
تدلّني على من آخذ عنه ديني؟ فقال : هذا علي ، إنّ أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقال : يا بنيّ إنّ الله عزوجل قال : إنّي جاعل في الأرض خليفة ، وأنّ الله عزوجل إذا قال قولا وفى به . فوجود الإنسان الكامل الّذي يكون خليفة الله تعالى لا
يختصّ بزمان دون زمان.
وقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) بتقريب : أنّ
__________________
الإمامة في
إبراهيم غير النبوّة ، كما يشهد تأخر جعلها عنها فإنّ جعله إماما بعد الابتلاء
بالكلمات ومن ابتلاء آته ذبح إسماعيل ، مع أنّه لم يولد له ولد إلّا في حال
شيخوخيته وفي هذا الحال قد مضت من نبوّته سنوات متعددة ، فجعل الإمامة بعد جعل
النبوة ثم سألها إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لذريته فاجيب بأنّ هذا المقام لا يناله الظالمون منهم ،
فالإمامة منزلة بلوغ الإنسان إلى غاية مقامات الانسانيّة بحيث يليق بأن يكون مقتدى
لمن سواه من المخلوقين ، ويمكن له أن يهديهم بهدايته الايصالية نحو سعادتهم في
الدارين. مضافا إلى هدايتهم بالهداية الإرشادية ، كما قال العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ من أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم
بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم وايرادهم درجات القرب من الله سبحانه ،
وإنزال كلّ ذي عمل منزله الّذي يستدعيه عمله .
ثم إنّ سؤال
إبراهيم هذا المقام لذرّيته شاهد على عظمة هذا المقام ، وجواب الله تعالى عن
محرومية بعض ذريته عنه بكونها عهد الله ، وهو لا يناله الظالمين أيضا شاهد على
عظمة تلك المنزلة ، كما أنّ هذا الجواب ظاهر في بقاء هذا المقام في ذرّيته حيث
أخرج من ذريته جميع الظالمين فقط وبقي الباقي تحت الإجابة كما لا يخفى ، فالآية
تدلّ على بقاء الامامة في نسله إجمالا ، كما يؤيده ما جاء في الرواية من أنّ
المراد من قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) هو بقاء الإمامة في نسل إبراهيم إلى يوم الدين ، على ما
حكي عن المجمع ، ويؤيده الروايات المتعددة الّتي وردت في بقاء الإمامة في نسل
الحسين ـ عليهالسلام ـ إلى يوم القيامة مستشهدا بالآية المذكورة.
منها ما عن أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن قول الله
__________________
عزوجل : (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال : هي : الإمامة جعلها الله عزوجل في عقب الحسين ـ عليهالسلام ـ باقية إلى يوم القيامة» . ذهب بعض المفسرين إلى أنّ الضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) راجع إلى معنى كلمة التوحيد المستفاد من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ولكن قال في تفسير الميزان : ان التأمّل في الروايات يعطي
أنّ بناءها على إرجاع الضمير في قوله : (جَعَلَها) إلى الهداية المفهومة من قوله : (سَيَهْدِينِ) ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم ، بمعنى
سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم وايرادهم درجات القرب من الله سبحانه وانزال كلّ
ذي عمل منزله الّذي يستدعيه عمله ، وحقيقة الهداية من الله سبحانه ، وتنسب إليه
بالتبع أو بالعرض ، وفعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ، ثم
تفيض منه إلى غيره ، فله أتمّ الهداية ولغيره ما هي دونها ، وما ذكره إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في قوله : (فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي
هي حظ الإمام منها ، فهي الإمامة وجعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.
وأمّا الروايات
فمتواترة ، وهي على طوائف ، فمنها : ما يدلّ على أنّ الأئمة اثنا عشر إلى يوم
القيامة ، كما عن صحيح مسلم عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ عن جابر قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يقول : لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ويكون
عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ، وعن
__________________
صحيح مسلم أيضا عن
جابر أيضا أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، وعن صحيح مسلم
أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان ، وعن
مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرأنا
القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ كم يملك هذه الامة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني
عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقال اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل ، ورواه ابن حجر
في الصواعق وحسّنه. ورواه البحراني بطرق عديدة من العامّة والخاصّة (راجع الباب
العاشر والحادي عشر من غاية المرام).
قال العلّامة
الحلّي ـ قدسسره ـ : والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، وكيف كان فالمراد من هذه الروايات حصر الإمامة الشرعيّة
في اثني عشر من قريش ما دام الناس لا السلطة الظاهريّة ، ضرورة حصولها لغير قريش
في أكثر الأوقات ، فيكون قرينة على أنّ المراد منها حصر الخلفاء الشرعيين في اثني
عشر إلى يوم القيامة ، كما أنّ الخبر الأخير دالّ على أنّهم خلفاء بالنصّ ؛ لقوله
ـ صلىاللهعليهوآله ـ كعدة نقباء بني إسرائيل فإنّ نقباءهم خلفاء بالنصّ لقوله
تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وبالجملة هذه النصوص تدلّ على عدم خلوّ الامة الإسلامية عن
الإمام إلى يوم القيامة ، وصرّح بأنّهم اثنا عشر.
ومنها : ما تدل
على أنّه لا تخلو الأرض عن الحجّة كما رواه في الكافي عن
__________________
الحسين بن أبي
العلاء قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال : لا ، قلت : يكون
إمامان؟ قال : لا ، إلّا وأحدهما صامت ، وعن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : سمعته يقول : إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام
كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم.
وعن أبي اسحاق
عمّن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ أنّ أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ قال : اللهم إنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك.
وعن أبي حمزة عن
أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : قال : والله ما ترك الله أرضا منذ قبض آدم إلّا
وفيها إمام يهتدى به إلى الله وهو حجته على عباده ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة
لله على عباده.
وعن أبي حمزة أيضا
قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام
لساخت ، وعن حمزة بن الطيار قال :
سمعت أبا عبد الله
ـ عليهالسلام ـ يقول : لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما
الحجّة ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة .
فهذه الروايات
واضحة الدلالة على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة الله على خلقه من لدن خلقه آدم إلى
يوم القيامة.
ومنها : الروايات
الدالّة على أنّ ائمتنا لو لا هم لما خلق الخلق ، كما رواه في غاية المرام عن طرق
الخاصّة عن جعفر بن محمّد ـ عليهماالسلام ـ في ضمن حديث : أنّ محمّدا وعليّا ـ صلوات الله عليهما ـ كانا
نورا بين يدي الله عزوجل قبل خلق الخلق بألفي عام وأنّ الملائكة لمّا رأت ذلك النور
، رأت له أصلا قد
__________________
تشعب منه شعاع
لامع ، فقالت : إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله عزوجل إليهم هذا نور من نوري أصله نبوّة وفرعه إمامة ، أمّا النبوّة
فلمحمّد عبدي ورسولي وأمّا الإمامة فلعلي حجتي ووليي ، ولولاهما ما خلقت خلقي.
ومنها : الروايات
الدالّة على أنّ ائمتنا ـ عليهمالسلام ـ لولاهم لما عرف الله ولما عبد ، كما رواه في غاية المرام
عن طرق الخاصّة عن موسى بن جعفر ـ عليهماالسلام ـ في ضمن حديث قال : إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمّد
من نور اخترعه من نور عظمته وجلاله ـ إلى أن قال ـ : قسّم ذلك النور شطرين فخلق من
الشطر الأوّل محمّدا ، ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب ، ولم يخلق من ذلك النور
غيرهما ، ـ إلى أن قال ـ : ثم اقتبس من نور محمّد فاطمة ابنته ، كما اقتبس نور من نوره واقتبس من نور فاطمة وعلي والحسن والحسين كاقتباس
المصابيح ، هم خلقوا من الأنوار وانتقلوا من ظهر إلى ظهر ، ومن صلب إلى صلب ، ومن
رحم إلى رحم ، في الطبقة العليا ، من غير نجاسة ، بل نقلا بعد نقل ـ إلى أن قال ـ :
بل أنوار انتقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ؛ لأنّهم صفوة الصفوة ،
اصطفاهم لنفسه ، وجعلهم خزان علمه ، وبلغاء عنه إلى خلقه ، أقامهم مقام نفسه ؛
لأنّه لا يرى ولا يدرك ، ولا تعرف كيفية انيته ، فهؤلاء الناطقون المبلّغون عنه
المتصرّفون في أمره ونهيه ، فيهم يظهر قوّته ، ومنهم ترى آياته ومعجزاته ، وبهم
ومنهم عرف عباده نفسه ، وبهم يطاع أمره ، ولولاهم ما عرف الله ولا يدرى كيف يعبد
الرحمن ، فالله يجري أمره كيف يشاء فيما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ومنها : الروايات
الدالّة على ثبوت الأمرين المذكورين للأئمة ـ عليهمالسلام ـ
__________________
كما رواه في غاية
المرام عن علي بن موسى الرضا ـ عليهالسلام ـ عن آبائه عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال : ما خلق الله خلقا أفضل منّي ولا أكرم عليه
منّي. قال علي ـ عليهالسلام ـ : فقلت : يا رسول الله ، فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال : يا
علي ، إنّ الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني
على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللائمة من بعدك ، فإنّ
الملائكة من خدّامنا وخدّام محبينا يا علي (الّذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون
بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا) بولايتنا يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ولا
حوّاء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ولا الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من
الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربّنا ، وتسبيحه وتهليله وتقديسه ؛ لأنّ أوّل ما
خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده ، ثم خلق الملائكة فلمّا
شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق
مخلوقون ، وأنّه منزه عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة تسبيحنا ، ونزهته عن صفاتنا ،
فلمّا شاهدوا عظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله وأنّا عبيد
ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلّا الله ، فلمّا شاهدوا
كبر محلّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال وأنّه عظيم المحلّ ،
فلمّا شاهدوا ما جعل الله لنا من العزّة والقوّة قلنا : لا حول ولا قوّة إلّا
بالله «العليّ العظيم» ، لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، فلمّا
شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد لله لتعلم
الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه ، فقالت الملائكة : الحمد
لله فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله تعالى وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده ـ إلى
أن قال ـ : لمّا عرج بي إلى السماء ـ إلى أن قال ـ : فنوديت : يا محمّد (إنّ)
أوصياءك المكتوبون على ساق العرش فنظرت ـ وأنا بين يدي ربي جلّ جلاله ـ إلى ساق
العرش فرأيت أثني عشر نورا في كل نور سطر
أخضر عليه اسم
وصيّ من أوصيائي أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهديّ أمّتي. فقلت يا ربّ أهؤلاء
أوصيائي من بعدي؟ فنوديت : يا محمّد ، هؤلاء أوليائي وأحبائي وأصفيائي وحجّتي بعدك
على بريتي وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك ، وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم ديني ،
ولاعلينّ بهم كلمتي ، ولاطهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولاملكنّه مشارق الأرض
ومغاربها ، ولاسخرنّ له الرياح ، ولأذللنّ له السحاب الصعاب ، ولارقينه في الأسباب
، ولأنصرنّه بجندي ، ولأمدنّه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجمع الخلق على توحيدي
، ثم لاديمن ملكه ، ولاداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة .
وغير ذلك من طوائف
الأخبار فراجع جوامع الأخبار.
__________________
٢
ـ عقيدتنا في عصمة الإمام
ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون
معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولية إلى الموت
عمدا وسهوا ، كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان ؛ لأنّ الأئمة حفظة
الشرع ، والقوامون عليه ، حالهم في ذلك حال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله
ـ والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة
الأئمة بلا فرق.
ليس على الله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
______________________________________________________
(١) ولا يخفى عليك أن طريقة المصنّف لإثبات عصمة الإمام أحسن
طريقة ، بعد ما عرفت من حقيقة الإمامة وشئونها ، فإنّ الإمام كالنبيّ إلّا في
تلقّي الوحي بعد اختصاصه بالنبي ، ومقتضى كونه كالنبيّ هو لزوم عصمته إذ بدونها لا
يتمكن الإمام من القيام مقام النبي ، والعمل بوظائفه من هداية الناس إلى المصالح
الواقعية ، وتزكية الناس ، وتربيتهم على الكمال اللائق بهم ، وحفظ الشرع عن
التحريف والزيادة والنقصان واقعا وغير ذلك ، فالدليل الّذي يدلّ على لزوم وجود
الإمام هو الّذي يدلّ على لزوم عصمته إذ بدونها لا يتمكن
من العمل بوظائفه
ويكون وجوده كالعدم.
ولقد أفاد وأجاد
المحقق اللاهيجي حيث قال : والحقّ وجوب العصمة لأنّه كما أن وجود الإمام لطف كذلك
تكون العصمة لطفا ، بل لطفيّة وجوده لا تتحقق بدون العصمة .
وهكذا المحقق
القمّي ـ قدسسره ـ حيث قال : والإمام عند الإمامية يجب أن يكون معصوما
بالأدلة التي مرّت في عصمة النبيّ ، وعليه فلا حاجة في إثبات العصمة في الإمام إلى إطالة
الكلام بمثل ما أشار إليه المحقق الطوسي ـ قدسسره ـ حيث قال في تجريد الاعتقاد : وامتناع التسلسل يوجب عصمته
، ولأنّه حافظ للشرع ولوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة
ويفوت الغرض من نصبه ولانحطاط درجته عن أقلّ العوام .
هذا كله مع الغمض
عن الأدلّة الخاصّة الدالّة على عصمة الائمة ـ عليهمالسلام ـ كحديث الثقلين المتواتر عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما
إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا» الدالّ على مصونية الكتاب والعترة عن الخطأ .
وكيف كان فالكلام
في متعلق العصمة أيضا واضح بعد ما عرفت من وحدة الدليل في باب النبوّة والإمامة ،
فكلّ ما كان النبيّ معصوما عنه كذلك يكون الإمام معصوما عنه ، فالإمام معصوم عن
الذنوب صغيرة كانت أو كبيرة حال الإمامة وقبلها وعن السهو والنسيان والخطأ ، وعن
الذمائم الأخلاقية ، بل
__________________
المنقصات المنفّرة
، ولو كانت خلقية (بكسر الخاء وسكون اللام) أو نسبية كدناءة الآباء وعهر الامهات ،
ولكن المصنف ـ قدسسره ـ لم يشر إلى المنقصات المنفّرة ولعلّه أرادها أيضا.
٣
ـ عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه
ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون
أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة
وخلق.
والدليل في النبيّ هو نفس الدليل في
الإمام.
أمّا علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام
الإلهية وجميع المعلومات ، من طريق النبيّ ، أو الإمام من قبله.
واذا استجدّ شيء لا بدّ أن يعلمه من طريق
الإلهام بالقوّة القدسيّة الّتي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجّه إلى شيء وشاء
أن يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه ولا يشتبه ، ولا يحتاج في كلّ ذلك إلى
البراهين العقليّة ، ولا إلى تلقينات المعلمين وإن كان علمه قابلا للزيادة
والاشتداد ولذا قال ـ صلىاللهعليهوآله
ـ في دعائه : (رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً)
(أقول): لقد ثبت في الأبحاث النفسيّة
أنّ كلّ إنسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء من طريق الحدس
، الّذي
هو فرع من الإلهام
بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوّة على ذلك.
وهذه القوّة تختلف شدة وضعفا وزيادة
ونقيصة في البشر ، باختلاف أفرادهم. فيطفر ذهن الإنسان في تلك الساعة إلى المعرفة
من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين.
ويجد كلّ إنسان من نفسه ذلك في فرص
كثيرة في حياته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الإنسان من قوّته الالهامية
أعلى الدرجات وأكملها ، وهذا أمر قرّره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون.
فلذلك نقول ـ وهو ممكن في حدّ ذاته ـ :
إنّ قوّة الإلهام عند الإمام الّتي تسمّى بالقوّة القدسيّة تبلغ الكمال في أعلى
درجاته ، فيكون في صفاء نفسه القدسيّة على استعداد لتلقّي المعلومات ، في كلّ وقت
وفي كلّ حالة ، فمتى توجه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك
القوّة القدسيّة الالهامية ، بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ، ولا تلقين معلم ، وتنجلي
في نفسه المعلومات ، كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام.
ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة
ـ عليهمالسلام
ـ كالنبيّ محمّد ـ صلىاللهعليهوآله
ـ فإنّهم لم يتربوا ولم يتعلموا على يد معلم من مبدأ طفولتهم إلى سنّ الرشد ، حتى
القراءة والكتابة ، ولم يثبت عن أحدهم أنّه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في
شيء من الأشياء مع ما لهم من منزلة علميّة لا تجارى.
وما سئلوا عن شيء إلّا أجابوا عليه في
وقته ، ولم تمر على ألسنتهم
كلمة (لا أدري) ، ولا
تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك ، في حين أنّك لا تجد شخصا مترجما
له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلّا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره
وأخذه الرواية والعلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكّه في كثير من
المعلومات كعادة البشر في كل عصر ومصر (١).
______________________________________________________
(١) يقع البحث في مقامات :
الأوّل
: أن مقتضى كون
الإمام قائما مقام النبيّ في جميع شئونه إلّا تلقّي الوحي ، هو تخلقه بأخلاقه
واتصافه بصفاته ، إذ بدون ذلك لا يتم الاستخلاف والنيابة ، ومعه لا يتم اللطف ،
وهو نقض للغرض ، ومخالف لمقتضى عنايته الاولى ورحيميته ، ونقض الغرض ، والمخالف
لمقتضى عنايته تعالى لا يقع ولا يصدر منه أصلا كما لا يخفى.
وتوضيح ذلك أنّه
قد مرّ في باب النبوّة أنّ من أغراض البعثة هو استكمال النفوس ، فاللازم هو أن
يكون النبيّ في الصفات أكمل ، وأفضل من المبعوثين إليهم حتّى يتمكن له أن يهديهم
ويستكملهم وينقاد الناس له للتعلم والاستكمال ، فإن كان النبيّ مبعوثا إلى قوم
خاصّين فاللازم هو أن يكون أفضل منهم في ذلك الزمان ، وإن كان مبعوثا إلى جميع
الناس إلى يوم القيامة ، فاللازم هو أن يكون أفضل من جميعهم إذ لو لا ذلك لما
تيسّرت الهداية والاستكمال بالنسبة إلى جميعهم ، مع أنّهم مستعدون لذلك ، وهو لا
يساعد عنايته الاولى وإطلاق رحيميته ونقض لغرضه ، وهو لا يصدر منه تعالى.
فإذا ثبت ذلك في
النبيّ لزم أن يكون الإمام أيضا أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة
وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة
وعلم وحلم وخلق ؛
لأنّه قائم مقامه ونائب عنه في جميع الامور والشئون إلّا في تلقّي الوحي ، وهذه
النيابة لا تتم إلّا بالاتصاف المذكور ، ولعلّ إليه أشار المحقق اللاهيجي ـ قدسسره ـ حيث قال : لا بدّ أن يكون الإمام في غاية التفرد في
استجماع أنواع الكمالات والفضائل حتّى تطيع وتنقاد له جميع الطبقات من الشرفاء
والعلماء بحيث ليس لأحد منهم عار في الاتباع عنه والانقياد له .
هذا مضافا إلى ما
في تجريد الاعتقاد وشرحه من أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته ؛ لأنّه إمّا أن
يكون مساويا لهم ، أو أنقص منهم ، أو أفضل ، والثالث هو المطلوب والأوّل محال ؛
لأنّه مع التساوي يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة ، والثاني أيضا محال ؛ لأنّ المفضول
يقبح عقلا تقديمه على الفاضل.
ويدلّ عليه أيضا
قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ولذلك قال العلّامة ـ قدسسره ـ في نهج الحق : اتفق الإمامية على أنّ الإمام يجب أن يكون
أفضل من رعيته ، وخالف الجمهور فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل ، وخالفوا مقتضى
العقل ونصّ الكتاب .
ويشهد لما ذكر ما
سمعته عن علي بن موسى الرضا ـ عليهماالسلام ـ في ضمن حديث من «أنّ الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ،
ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من
غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهّاب ...» الحديث .
وقال أيضا : «للإمام
علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى
__________________
الناس ، وأحلم
الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس ، ويولد مختونا ، ويكون مطهرا ،
ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه» الحديث الثاني
: في كيفية تعلّم
الإمام ، ولا يخفى أنّ علمهم علم إلهي وليس بمكتسب عن الناس ، كما أنّ علم النبيّ
كذلك ، وتوضيح ذلك : أنّ هذا العلم الإلهي قد يصل إلى الأئمة ـ عليهمالسلام ـ من طريق النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ كتعليمه ما علّم لعليّ ـ عليهالسلام ـ وهو للحسن وهو للحسين وهو لعلي بن الحسين وهكذا إلى
المهدي الحجة بن الحسن ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ.
ثم إنّ هذا
التعليم وقع على أنحاء منها : التعليمات العاديّة كما قال الرسول الكريم ـ صلىاللهعليهوآله ـ «وسمعه علي ـ عليهالسلام ـ كما سمعه الناس ، وإنّما الفرق بينه وبينهم أنّه ـ عليهالسلام ـ أسمعهم وأحفظهم وأفهمهم وأضبطهم».
ومنها التعليمات
الغير العاديّة مثل ما انتقل إلى علي ـ عليهالسلام ـ بالاشراق وتنوير الباطن ، ولعلّ من ذلك ما في كتب
الفريقين كالكافي وينابيع المودّة من أنّ أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ قال : رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ علّمني ألف باب وكلّ باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف
ألف باب حتّى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا
وفصل الخطاب .
ولعلّ ذكر الألف
من باب إفادة التكثير فلا خصوصية للألف.
أو مثل ما كتبه
علي ـ عليهالسلام ـ بإملاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وسمّي بالجامعة ، قال الصادق ـ عليهالسلام ـ : فيها كلّ حلال وحرام وكلّ
__________________
شيء يحتاج الناس
إليه حتى الأرش في الخدش أو مثل ما انتقل إليه من ميراث الأنبياء والوصيين ، وسمّي
بالجفر ، قال الصادق ـ عليهالسلام ـ : «هو وعاء من آدم ، فيه علم النبيّين والوصيّين ، وعلم
العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ، وفيه زبور داود ، وتوراة موسى ، وانجيل عيسى ، وصحف
إبراهيم» . وفي رواية اخرى «إن لله علما لا يعلمه أحد غيره ، وعلما
قد علمه ملائكته ورسله ، فنحن نعلمه» .
وقد يصل العلم
الإلهي إلى الإمام من طرق اخر كمصحف فاطمة وهو الّذي أخبرها به جبرئيل فأملته
فاطمة ـ سلام الله عليها ـ لعلّي ـ عليهالسلام ـ وكتبه بيده المباركة ، قال الصادق ـ عليهالسلام ـ : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ، ما فيه من
قرآنكم حرف واحد . قال الصادق ـ عليهالسلام ـ أيضا : «ليس من ملك يملك (الأرض) إلّا وهو مكتوب فيه
باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا» .
وكتحديث الملائكة
وقد ورد في روايات متعددة أنّ الأئمة محدّثون كما قال أبو الحسن ـ عليهالسلام ـ : «الأئمة علماء صادقون مفهّمون محدّثون» .
وكإلهامات واقعية
إلهية ، قال الحارث بن المغيرة : قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : أخبرني عن علم عالمكم. قال : وراثة من رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ ومن علي ـ عليهالسلام ـ قال : قلت : إنّا نتحدث أنه يقذف في قلوبكم وينكت في
آذانكم قال : أو ذاك .
وكجعلهم مشرفين
على الامور ، كمّا ورد في الروايات المتعددة أنّ الإمام
__________________
إذا شاء أن يعلم
علم ، أو أنّ الإمام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وغير ذلك. وكيف كان فلا
يخفى عليك أنّه لا وجه لعدم ذكر النوع الأخير في كلام المصنف.
الثالث
: في مقدار علم
الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وأنّى لنا بهذا مع أنّ الأئمة فاقوا فيه الأوّلين
والآخرين بعد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وبلغوا فيه إلى حدّ لا يحتاج أحد إلى شيء من امور دينه
ودنياه وسعادته وآخرته إلّا كان علمه عندهم ولهم الجواب ، وهم الدعاة إلى سبيل
الخير والسعادة الواقعية ، وقد أرشدوا الناس طيلة حياتهم إلى الحياة الطيبة ، ولم
يعطلوا في قبال سؤال ولو لم يكن من الامور الدينيّة ، كما تشهد لذلك الأسئلة
المختلفة الّتي جاءت إليهم من الموافقين والمخالفين والملحدين ، فأجابوها بأمتن
الجواب وأحسنه.
ولهم الاشراف على
الامور حتّى النيّات والأعمال ، وعلى ما وقع ، وعلى ما يقع ، وعلى منطق الطيور ،
وعلى ما يحتاج إليه الجن وغيرهم. ولا بدّ أن أقول : كيف أقول في وصفكم وثنائكم
أئمتي الأبرار ، مع ما في لساني الكالّ من اللكنة ، وما في ذهني الفاتر من القصور
، بل الأحسن أن اكتفي بما قلتم أنتم في وصفكم : (كلامكم نور وأمركم رشد ، ووصيتكم
التقوى وفعلكم الخير ، وعادتكم الإحسان وسجيتكم الكرم ، وشأنكم الحقّ والصدق
والرفق ، وقولكم حكم وحتم ، ورأيكم علم وحلم وحزم ، إن ذكر الخير كنتم أوّله وأصله
وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه ، بأبي أنتم وامي ونفسي ، كيف أصف حسن ثنائكم ، واحصي
جميل بلائكم؟ وبكم أخرجنا الله من الذلّ وفرّج عنا غمرات الكروب ، وأنقذنا من شفا
جرف الهلكات ومن النار ، بأبي أنتم وامي ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا
، وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم
__________________
تمت الكلمة وعظمت
النعمة وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ، ولكم المودة الواجبة
والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله ، والجاه العظيم
والشأن الكبير والشفاعة المقبولة) .
وإليك بعض
الأحاديث الدالّة على مقدار علومهم وفخامتها ، وإن كان الأمر واضحا كالنار على
المنار.
عن هشام بن الحكم
عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في حديث قال : «إنّ الله لا يجعل حجته في أرضه يسأل عن
شيء فيقول لا أدري» .
وعن سيف التمار
قال : كنا مع أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ جماعة من الشيعة في الحجر فقال : علينا عين فالتفتنا
يمنة ويسرة فلم نر أحدا ، فقلنا : ليس علينا عين ، فقال : وربّ الكعبة وربّ
البنيّة ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما
بما ليس في أيديهما ، لأنّ موسى والخضر ـ عليهماالسلام ـ اعطيا علم ما كان ، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن
حتّى تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وراثة .
وعن أبي حمزة قال
: سمعت أبا جعفر ـ عليهالسلام ـ يقول : «لا والله ، لا يكون عالم جاهلا أبدا ، عالما
بشيء جاهلا بشيء ، ثم قال : الله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه
علم سمائه وأرضه ، ثم قال : لا يحجب ذلك عنه» .
وعن الرضا ـ عليهالسلام ـ في حديث : «أنّ الإمام مؤيد بروح القدس
__________________
وبينه وبين الله
عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلّما احتاج إليه لدلالة اطلع عليها ...»
الحديث .
وعن أبي عبد الله
ـ عليهالسلام ـ قال : «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم
ما في الجنة ، وأعلم ما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون ، قال :
ثم مكث هنيئة فرأى
أنّ ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال : علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ان الله يقول : فيه تبيان كلّ شيء» .
وقد قال مولانا
أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «أما والله لقد تقمّصها فلان ، وأنّه ليعلم أنّ محلّي
منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير» الحديث .
وقال أيضا : «أيّها
الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» .
وقال أيضا : «والله
لو شئت أن اخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن
تكفروا فيّ برسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممن يؤمن ذلك منه. والّذي
بعثه بالحق ، واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلّا صادقا ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ،
وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ، ومال هذا الأمر. وما أبقى شيئا يمر على رأسي إلّا
أفرغه في أذني وأفضى به إليّ» الحديث . وغير ذلك من الأخبار والروايات في ذلك متواترة ، وحيث كان
صدورها عن المعصومين قطعيا ، صار موجبا لحصول اليقين
__________________
بمفادها كما لا
يخفى.
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ : «إنّ الإمام وقف على حقايق العالم ، كيف ما كان بإذنه
تعالى سوء كانت محسوسة أو غير محسوسة ، كالموجودات السماويّة والحوادث الماضية
والوقائع الآتية ، وتدلّ على ذلك الروايات المتواترات المضبوطة في الكافي وبصائر
الدرجات وبحار الأنوار وغيرها» .
الرابع
: أنّ ما أشار إليه
المصنّف في قوله من أنّ الحدس الّذي ربّما يتفق في الإنسان غايته هو الإلهام على
ما قرّره الفلاسفة المتقدمون لعلّه إشارة إلى ما قرّره صدر المتألهين في الأسفار
في معنى الحدس والذكاء حيث قال : ومنها الحدس ولا شك في أنّ الفكر لا يتم إلّا
بوجدان شيء متوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة ، وكذا ما يجري
مجراه في باب الحدود للتصور ، لما تقرّر أنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الأطراف
والحدود ، والنفس حال كونها جاهلة كأنّها واقعة في ظلمة ظلماء ، فلا بدّ من قائد
يقودها أو روزنة يضيء لها موضع قدمها ، وذلك الموضع هو الحد المتوسط بين الطرفين ،
وتلك الروزنة هو التحدس بذلك دفعة ، فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط بالتحدس هو
الحدس ، ومنها الذكاء وهو شدة هذا الحدس وكماله وبلوغه وغايته القصوى هو القوّة
القدسيّة الّتي وقع في وصفها قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وذلك لأنّ الذكاء هو الامضاء في الامور ، وسرعة القطع
بالحق ، وأصله من ذكت النار وذكى الذبح وشاة مذكّاة أي يدرك ذبحها بحدة السكين ، ولا يخفي عليك أنّ أنواع الإلهام لا تنحصر في الحدس
والذكاء لإمكان الإفاضات بدون ذلك كما أشرنا إليه ، وكيف كان فمما ذكر يظهر أنّ
علومهم لا تنحصر في
__________________
العلوم العاديّة ،
كما ذهب إليه الجمهور من علماء العامّة ، بل لهم ما للرسول ـ صلىاللهعليهوآله ـ من العلوم الإلهية بأنواعها ، كما يقتضيه قيامهم مقام
النبي في الإتيان بوظائفه ؛ لأن ذلك لا يتحقق من دون العلم الإلهي كما لا يخفي.
الخامس
: في الميز بين
علومهم والعلوم البشريّة ، ولا يخفي عليك أنّ العلوم البشريّة منقسمة إلى :
البديهيات والنظريات. والإنسان من لدن وجوده أراد كشف المجهولات بالتفكير وترتيب
المقدمات ، وفي هذا السبيل كثيرا ما كان يخطأ ، ولذا وضع علم الميزان ليمنعه عن
ذلك ، ومعه لا يعصمه ، وإن أفاده لخطائه في تطبيق علم الميزان على محاوراته ،
وعليه فالعلوم النظريّة مكتسبة من البديهيات بترتيب المقدمات ، وترتيب المقدمات
يحتاج إلى التعلّم والتعليمات ، وحيث أنّ آحاد الإنسان في التفكير وترتيب المقدمات
ليسوا بمتساوين يؤدي التفكير في جملة من المسائل إلى الاختلاف في النتائج في كشف
الحقائق ، ولم يتمكنوا من الاتفاق فيها ، إذ ربّما يكون الترتيب بنظر واحد تماما
وبنظر آخر ناقصا ، ولذا تكون النتيجة عند واحد واضحة ، وعند آخر غير واضحة ، بحيث
يمكن عنده تجديد النظر ، ويحتمل خلافه كما ليسوا عند إظهار النظر على السواء ، إذ
ربّما أظهر واحد نظره في مجهول بأنّ الأمر كذا أو كذا قطعا ، وأظهر ثان بأنّ الأمر
كذا وكذا من دون التأكيد بالقطع ، وأظهر آخر بأنّ الظاهر أنّه كذا ، ورابع بأنّه
محتمل ، وخامس بأنّه مشكل ، فيما إذا لا يؤدي نظره إلى شيء ، وعليه فيكون باب
التأمل والاشكال وتجديد النظر في كثير من المعلومات منفتحا.
هذا مضافا إلى
مجهولات كثيرة يكون كشفها خارجا عن حيطة قدرة علم الإنسان ، ولذا اعترف الأعاظم من
العلماء بالقصور عن حلّ جميع المجهولات ، وإن ظفروا بالاصول والضوابط المتعددة
الصحيحة من المقدمات البديهيّة كما لا يخفى ، وكيف كان فهذه هي العلوم الاكتسابية
الّتي لا يمكن لأحد أن يرثها من أبيه أو آخر من دون تحمّل المشاق في تحصيلها.
وفي قبالها علوم
إلهية أفاضها الله تعالى إلى أنبيائه وأوليائه ، وهذه العلوم الإلهية لا تحتاج إلى
الاكتساب وترتيب المقدمات للوصول إلى المجهولات النظرية ، بل نور يقذفه الله في
قلب من يشاء من عباده ومعه يرى حقيقة كلّ شيء ولا تحجب عنه ، ولا يحتاج انتقاله من
نبيّ إلى نبيّ ، أو من وليّ إلى وليّ إلى مئونة ، بل ينتقل إليه بالاشراق وتنوير
الباطن في لحظة ، ولذا صار بعض الأنبياء أو الأئمة ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ نبيا
وإماما في حال الصباوة من دون حاجة إلى مضي زمان.
ثم إنّ العلوم
الإلهيّة لا اختلاف فيها ، بل كلّها واضحة ، ولا يكون فيها أجلى وأوضح ، ولذا لم
يسمع من نبيّ ما تعارف بيننا من الأوضح والأظهر ، أو الظاهر فضلا عن لا أدري ولا
أعلم ، والعلوم الإلهية كلّها حاضرة عندهم ، ولذا لم يقل أحد منهم في مقام الجواب
عن مسألة ، المسألة تحتاج إلى المراجعة أو التأمل ، أو نحو ذلك ، بل كانوا داعين
للناس إلى الأسئلة ، وأجابوا عنها من دون إحالة إلى المطالعة أو التأجيل.
ولا يعتري على
العلوم الإلهية ما يحتاج معه إلى تجديد النظر ، بل هي على ما هي عليها من القوّة
والظهور ، نعم تصير أجلى بمرور الأزمنة والدهور للسامعين.
ولا ينافي ذلك
النسخ في الشرائع أو شريعتنا ، لأنّ معنى النسخ ليس إلّا ارتفاع أمد الحكم النافع
، بحيث لا اعتبار به بعد ارتفاع أمده وليس فيه ما يكشف عن عدم صحة الحكم في وقته
وزمانه ، بل كلّ منسوخ حكم صحيح متين في زمانه ، ولذا يصدّق كلّ نبيّ ما نزل على
النبيّ الآخر ولا يكذّبه.
ومما ذكر يظهر أن
العلوم الإلهية حيث لا تحتاج إلى ترتيب المقدمات ، لا يكون فيها الاختلاف ، ولذا
لا يكون الأنبياء والأئمة ـ عليهم الصلوات والسلام ـ مختلفين في أمر من الامور ،
بل كلّهم مخبرون عن الحقائق الواحدة ، وإن كانت كلماتهم للناس بحسب اختلاف
استعدادهم وتفاوت ظروفهم مختلفة.
٤
ـ عقيدتنا في طاعة الأئمة
ونعتقد أنّ الأئمة هم أولو الأمر الّذين
أمر الله تعالى بطاعتهم ، وأنّهم الشهداء على الناس ، وأنّهم أبواب الله والسبيل
إليه ، والادلاء عليه ، وأنّهم عيبة علمه ، وتراجمة وحيه ، وأركان توحيده ، وخزّان
معرفته ، ولذا كانوا أمانا لأهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء (على حد
تعبيره صلىاللهعليهوآله).
وكذلك ـ على حد قوله أيضا ـ إنّ مثلهم في هذه الامة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن
تخلّف عنها غرق وهوى ، وأنهم حسبما جاء في الكتاب المجيد (عباد الله المكرمون
الّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) وأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهّرهم تطهيرا.
بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى ،
ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليّهم وليّه ، وعدوّهم عدوّه ،
ولا يجوز الردّ عليهم ، والرادّ عليهم كالرادّ على الرسول ، والرادّ على الرسول
كالرادّ على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.
ولهذا نعتقد أنّ الأحكام الشرعيّة
الإلهيّة لا تستقى إلّا من نمير
مائهم ولا يصحّ أخذها
إلّا منهم ولا تفرغ ذمّة المكلّف بالرجوع إلى غيرهم ، ولا يطمئن بينه وبين الله
إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلّا من طريقهم. إنّهم كسفينة نوح
من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه
والضلالات والادعاءات والمنازعات.
* * *
ولا يهمّنا من بحث الإمامة في هذه
العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون ، وأهل السلطة الإلهيّة ، فإنّ ذلك أمر
مضى في ذمّة التأريخ ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق
المسلوبة إلى أهلها.
وإنّما الّذي يهمّنا منه ما ذكرنا من
لزوم الرجوع إليهم ، في الأخذ بأحكام الله الشرعيّة وتحصيل ما جاء به الرسول
الأكرم على الوجه الصحيح الّذي جاء به. وأنّ في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين
الّذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم ابتعادا عن محجّة الصواب في
الدين ، ولا يطمئن المكلّف من فراغ ذمّته من التكاليف المفروضة عليه من الله تعالى
؛ لأنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلق بالأحكام
الشرعيّة اختلافا لا يرجى معه التوفيق ، لا يبقى للمكلّف مجال أن يتخير ويرجع إلى
أيّ مذهب شاء ورأي اختار ، بل لا بدّ له أن يفحص ويبحث حتّى تحصل له الحجة القاطعة
بينه وبين الله تعالى على تعيين مذهب خاص يتيقن أنه يتوصل به إلى أحكام الله وتفرغ
به ذمته من التكاليف المفروضة ، فإنّه كما يقطع
بوجود أحكام مفروضة
عليه يجب أن يقطع بفراغ ذمته منها ، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
والدليل القطعيّ دالّ على وجوب الرجوع
إلى آل البيت ، وأنّهم المرجع الأصلي بعد النبيّ لأحكام الله المنزلة ، وعلى الأقلّ
قوله ـ عليه أفضل التحيات ـ : «إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي
أبدا الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ،
وعترتي أهل بيتي ألا وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وهذا الحديث اتفقت
الرواية عليه من طرق أهل السنّة والشيعة ، فدقق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما
يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه ، فما أبعد المرمى في قوله : (إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدي أبدا) والّذي تركه فينا هما الثقلان معا إذ جعلهما كأمر واحد ، ولم يكتف
بالتمسك بواحد منهما فقط ، فيهما معا لن تضل بعده أبدا.
وما أوضح المعنى في قوله : «لن يفترقا
حتى يردا عليّ الحوض» فلا يجد الهداية أبدا من فرّق بينهما ولم يتمسك بهما معا
فلذلك كانوا «سفينة النجاة» و «أمانا لأهل الأرض» ومن تخلّف عنهم غرق في لجج
الضلال ، ولم يأمن من الهلاك. وتفسير ذلك بحبهم فقط من دون الأخذ بأقوالهم واتباع
طريقهم ، هروب من الحق لا يلجأ إليه إلّا التعصب والغفلة عن المنهج الصحيح في
تفسير الكلام العربيّ المبين (١).
______________________________________________________
(١) ولا بأس بذكر امور :
الأوّل
: أنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ هم أولو الأمر الّذين يكون طاعتهم مطلقا
مفروضة ، وذلك
واضح بعد ما مرّ من كونهم قائمين مقام النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ في جميع شئونه ، ومنها الولاية والحكومة على المسلمين ،
ويشهد له مضافا إلى الروايات المتواترة قوله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولا تشمل الآية المباركة غيرهم من الولاة والخلفاء ؛
لاختصاص الإطاعة المطلقة بالله تعالى والمعصومين من الرسول والأئمة المكرمين ،
وإلّا لزم الأمر بالطاعة عن الفاسقين وهو قبيح ، فالآية حيث تدلّ على الطاعة
المطلقة لله وللرسول واولي الأمر بسياق واحد ، تدلّ على أنّ المراد من الموضوع وهو
أولو الأمر هم المعصومون ، كما فسرت الآية بهم في الروايات الكثيرة
منها : ما ورد من
أن جابر بن عبد الله الأنصاري سأل رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فمن أولو الأمر الّذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ وقال ـ صلىاللهعليهوآله ـ : هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين من بعدي ، أوّلهم
علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمّد بن عليّ
المعروف في التوراة بالباقر ، ستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثم
الصادق جعفر بن محمّد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم عليّ بن موسى ، ثم محمّد بن عليّ ،
ثم علي بن محمّد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، حجة الله في أرضه ، وبقيته
في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الّذي يفتح الله ـ تعالى ذكره ـ على يديه مشارق
الأرض ومغاربها ، ذاك الّذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول
بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله ،
فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال ـ صلىاللهعليهوآله ـ : اي والّذي بعثني بالنبوّة أنّهم يستضيئون بنوره
وينتفعون بولايته في غيبته ،
__________________
كانتفاع الناس
بالشمس وإن تجلاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سرّ الله ومخزون علمه فاكتمه إلّا
عن أهله .
ومنها : ما ورد في
أمالي الشيخ ـ قدسسره ـ من أنّ أبا محمّد الحسن بن علي ـ عليهماالسلام ـ خطب الناس بعد البيعة له بالامر ، فقال : نحن حزب الله
الغالبون وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين
الّذين خلّفهما رسول الله في امته ـ إلى أن قال ـ : فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة ،
إذ كانت بطاعة الله عزوجل مقرونة ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) الحديث .
ومنها : ما رواه
في الكافي عن الحسين بن أبي العلاء قال : ذكرت إلى أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قولنا في الأوصياء وأنّ طاعتهم مفترضة قال : فقال : نعم
هم الّذين قال الله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم الذين قال الله عزوجل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) .
ومنها : ما رواه
في الكافي أيضا عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ : «ايانا عني خاصة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة
بطاعتنا» .
وإلى غير ذلك من
الروايات المرويّة في الأبواب المختلفة الّتي تدلّ على أنّ المراد من اولي الأمر
هم الأئمة المعصومون ـ عليهمالسلام ـ وعلى أنّ طاعتهم مفروضة ، وهو كما عرفت مطابق للاعتبار ،
إذ السياق يفيد الإطاعة المطلقة ، وهي لا معنى لها إلّا في المعصومين ، ولعلّه
لذلك قال في دلائل الصدق بعد نقل الآية المباركة : لا يمكن أنّ يشمل سائر الخلفاء
سواء أراد بهم خصوص الأربعة ،
__________________
أم الاعمّ منهم
ومن معاوية ويزيد والوليد وأشباههم ؛ لدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، وهؤلاء
ليسوا كذلك ، فيتعين أن يراد بأولي الأمر عليّ وأبناؤه الأطهار ؛ لانتفاء العصمة
عن غيرهم بالضرورة والاجماع .
وقال المحقق
اللاهيجي : إنّ المراد من اولي الأمر لا يكون إلّا المعصومين ؛ لأنّ تفويض امور
المسلمين إلى غيرهم ترك لطف وهو قبيح .
ومن ذلك يظهر وجه
اختصاص اولي الأمر بالأئمة الّذي أشار إليه المصنف بقوله : «ونعتقد أنّ الأئمة هم
أولو الأمر الّذين أمر الله تعالى بطاعتهم».
ثم لا يخفى عليك
أنّ الفخر الرازي بعد اعترافه بدلالة الآية على عصمة الرسول واولي الأمر حمل اولي
الأمر على الإجماع ، وقال : حمله عليه أولى ؛ لأنّه أدخل الرسول واولي الأمر في
لفظ واحد وهو قوله : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فكان حمل اولي الأمر الّذي هو مقرون الرسول على المعصوم
أولى من حمله على العاجز والفاسق الخ.
وفيه أنّ ذلك
الحمل ردىء ؛ لأنّه خلاف الظاهر من الكلمة ، إذ لا مناسبة بين اولي الأمر والإجماع
، هذا مضافا إلى أنّ الإجماع على فرض وجوده ، وتحقق شرائطه حجّة بما أنه كاشف عن
الحكم الشرعي ، وليس لنفس المجمعين حق الأمر والولاية ، هذا بخلاف اولي الأمر
والرسول ، فإنّ لهم حقّ الأمر والحكم بين الناس ، وهذه الإطاعة غير طاعة الله ،
ولذا كرّر الإطاعة فيهم ولم يكتف بذكرها في الله تعالى ، وقال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) هذا مع تفسير الآية في النصوص بالآحاد من الامة ، وهم
الأئمة ـ عليهمالسلام ـ كما عرفت الإشارة إلى بعض هذه النصوص ، فتفسيرها
بالإجماع خلاف النصوص المستفيضة الصحيحة أيضا كما لا يخفى.
__________________
والأضعف مما ذكر
ما حكي عن صاحب المنار من أنّ المراد من اولي الأمر إجماع أهل الحلّ والعقد من
المؤمنين ، إذا أجمعوا على أمر من مصالح الامة ، لما عرفت من أنّ حمله على إجماع
الامة خلاف الظاهر وخلاف النصوص فضلا عن حمله على جماعة من الامة كأهل الحلّ
والعقد هذا .
وأمّا شموله
بالنسبة إلى الفقهاء ففيه تفصيل ، فإن اريد به شموله أصالة فقد مرّ وجه اختصاصه
بالمعصومين ، فلا يشمل غيرهم.
وإن اريد به شموله
لهم تبعا للأئمة المعصومين ـ عليهمالسلام ـ لأنّهم يكونون في طول الأئمة بعد كون مشروعية ولايتهم
بنيابتهم عنهم ، فلا يبعد صحته إذ ولايتهم من شئون ولاية الأئمة. ولعلّ إليه يشير
ما روي عن الصادق ـ عليهالسلام ـ من أنّ المراد من اولي الأمر بالأصالة علي بن أبي طالب
وغيره بالتبع ، وعليه فإطاعة الفقهاء واجبة ؛ لأنّها ترجع إلى إطاعة
اولي الأمر باعتبار كونهم منصوبين عنهم.
اللهم إلّا أن
يقال من المحتمل أن يكون الحصر في الأخبار المشار إليها حصرا إضافيا بالنسبة إلى
حكام الجور المتصدين للحكومة في أعصار الأئمة ـ عليهمالسلام ـ فأرادوا ـ عليهمالسلام ـ بيان أنّ الحق لهم ، وأنّ هؤلاء المتصدين ليسوا أهلا
لهذا الأمر ، وإلّا فولاية الأمر إذا كانت عن حق ، بأن كانت بجعل الأئمة ـ عليهمالسلام ـ إياها لشخص أو عنوان ، فهو من قبيل تعليق الحكم على
الوصف المشعر بالعلية ، ودوران الحكم مداره ، فعلة وجوب الإطاعة له هي كونه صاحب
الأمر ، وأنّ له حقّ الأمر شرعا ، ولا محالة لا يشمل صورة أمره بمعصية الله إذ ليس
له حق الأمر بالمعصية.
وبالجملة فإطاعته
واجبة في حدود ولايته المشروعة ، ولا يطلق صاحب
__________________
الأمر إلّا على من
ثبت له حق الأمر والحكم شرعا ، كما لا يطلق صاحب الدار إلّا على من ملكها شرعا ،
دون من تسلّط عليها غصبا ، وعليه فلا مانع من شمول الآية للفقهاء عرضا ، ولكنّه
تنافيه الأخبار كقول أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : وإنّما أمر بطاعة اولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لا
يأمرون بمعصيته ، إذ التعليل يخصص ذلك بالمعصومين فتدبّر جيدا.
الثاني
: أنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ هم الشهداء على الناس ، وذلك واضح بعد ما عرفت من محدودة
علمهم ؛ لأنّ العلم بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة يستلزم العلم بأعمال
الناس ، هذا مضافا إلى شهادة الروايات على عرض الأعمال على رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ والأئمة المعصومين ـ عليهمالسلام ـ في ذيل قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، وعليه فيمكن لهم إقامة الشهادة على الناس يوم القيامة
وهذا أمر دلّ عليه الكتاب حيث قال عزوجل : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) لأنّ الخطاب إلى الامة باعتبار بعضهم ممن يكون صالحا لوصف
الوسطية المطلقة لا جميعهم ؛ لوضوح عدم كونهم في الاعتدال فضلا عن الاعتدال المطلق
الواقعي ، فالمراد منها هو الخواص وهم الأئمة ـ عليهمالسلام ـ الّذين كانوا معصومين عن الإفراط والتفريط وخطاب الامة
باعتبار بعضها أمر شايع ، كقوله تعالى مخاطبا لبني إسرائيل : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) مع أنّ الملك في كلّ عصر لا يكون إلّا واحدا ، ولذلك قال
الإمام البلاغي ـ قدسسره ـ فهذه الصفات إنّما تكون باعتبار البعض ، والموجه إليه
الخطاب هو ذلك البعض ، وقد روي في اصول الكافي
__________________
بأسناد صحيحة عن
أبي جعفر وعن أبي عبد الله ـ عليهماالسلام ـ : «نحن الامّة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه» ، وعن
الحسكاني في شواهد التنزيل ، عن سليم الهلالي عن علي (ع) : نحن الّذين قال الله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). وعن العيّاشي عن ابن أبي عمير الزبيري عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في هذه الآية «أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا
على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الامم
الماضية ، كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه» .
فهذا المقام مقام
رفيع مخصوص بهم ، ومقتضاه هو إشرافهم على الناس وأعمالهم ونيّاتهم ، بحيث يسرهم
إذا كانوا على خير ، ويحزنهم إذا كانوا على معصية ، كما دلّت عليه النصوص.
هذا مضافا إلى
دلالة الآية الشريفة على أنّ هؤلاء الشهداء موجودون بين الناس ، إذ الشهادة على
الناس غير ممكنة بدون الحضور ، كما دلّ عليه ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في قول الله عزوجل : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) قال : نزلت في أمّة محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ خاصة ، في كلّ قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم ومحمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ شاهد علينا.
وفي نهاية البحث
نقول : إنّ شهادتهم على الجميع تحكي عن علوّ شأنهم ومقامهم بالنسبة إلى الجميع ،
وعن طهارتهم وعصمتهم ، وإلّا فلم تقبل شهادتهم كذلك ، ولعلّ إليه يشير ما روي عن
مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى
طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجته
__________________
في أرضه ، وجعلنا
مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا ، وبقية الكلام في محلّه .
الثالث
: أنّهم أبواب الله
والسبيل إليه والإدلاء عليه ؛ لأنّهم قائمون مقام النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فكما أنّ التعبد والسلوك بدون معرفة النبيّ ضلالة وتحيّر
، كذلك الجهد والسعي في العبادة بدون معرفة الإمام الّذي يقوم مقامه في جميع شئونه
عدا تلقّي الوحي. والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا.
منها : ما رواه في
الكافي بسند صحيح عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ يقول : «كلّ من دان الله عزوجل بعبادة يجهد فيها نفسه ، ولا إمام من الله ، فسعيه غير
مقبول ، وهو ضالّ متحيّر والله شانئ لأعماله» .
ومنها : ما رواه
فيه أيضا عن أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ في ضمن حديث «إنّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد
نفسه ، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله ، والوجه الّذي يؤتى منه ، فمن عدل عن
ولايتنا ، أو فضّل علينا غيرنا ، فإنهم عن الصراط لناكبون» الحديث .
وتشهد لهذا المعنى
الروايات الكثيرة الّتي عبرت عن عليّ وأولاده المعصومين ـ عليهمالسلام ـ بالصراط المستقيم ، أو العروة الوثقى منها : ما رواه في
غاية المرام عن الكليني عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي ـ عليهالسلام ـ قال : قلت : (أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : إنّ الله ضرب مثلا من حاد عن ولاية عليّ كمن يمشي
مكبّا على وجهه لا يهتدي لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم ،
__________________
والصراط المستقيم
أمير المؤمنين .
ومنها : ما رواه
في غاية المرام أيضا عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) قال : طريق الإمامة فاتبعوه ولا تتبعوا السبل أي طرقا
غيرها (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
ومنها : ما رواه
في غاية المرام أيضا عن أبي الحسن الفقيه محمّد بن علي بن شاذان في المناقب المائة
من طريق العامّة بحذف الاسناد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يقول : معاشر الناس ، اعلموا أنّ لله تعالى بابا من دخله
أمن من النار ومن الفزع الاكبر ، فقام إليه أبو سعيد الخدري ، فقال يا رسول الله
اهدنا إلى هذا الباب حتّى نعرفه ، قال : هو عليّ بن أبي طالب سيد الوصيين ، وأمير
المؤمنين ، وأخو رسول ربّ العالمين ، وخليفة الله على الناس أجمعين ، معاشر الناس
، من أحبّ أن يتمسّك بالعروة الوثقى ، الّتي لا انفصام لها ، فليتمسك بولاية عليّ
بن أبي طالب ، فإنّ ولايته ولايتي وطاعته طاعتي ، معاشر الناس من احب أن يعرف
الحجة بعدي فليعرف علي بن أبي طالب.
معاشر الناس ، من
سرّه ليقتدي بي فعليه أن يتوالى ولاية عليّ بن أبي طالب ، والأئمة من ذريتي ، فإنّهم
خزّان علمي ، فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال : يا رسول الله ما عدّة الأئمة؟
قال : يا جابر سألتني رحمك الله عن الإسلام بأجمعه ، عدّتهم عدّة الشهور ، وهو عند
الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، وعدّتهم عدّة العيون
الّتي انفجرت منه لموسى بن عمران ـ عليهالسلام ـ حين ضرب بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وعدّة
نقباء بني إسرائيل ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) فالأئمة يا جابر ، اثنا عشر إماما أوّلهم علي بن أبي طالب
،
__________________
وآخرهم القائم
صلوات الله عليهم .
وتشهد لذلك أيضا
الروايات الدالّة على أن الأئمة ـ عليهمالسلام ـ أركان الإيمان ، ولا يقبل الله جلّ جلاله الأعمال من
العباد إلّا بولايتهم ، والروايات الدالّة على أن عليا باب مدينة العلم ، وباب
مدينة الحكمة ، وباب مدينة الجنّة ، والروايات الدالّة على أنّ عليّا قسيم الجنة
والنار ، ووليّ الحوض وساقيه ، ونحوها من طوائف الأخبار الّتي كانت مرويّة في
جوامعنا وجوامع إخواننا العامّة بأسناد متواترة فراجع.
الرابع
: أنّهم عيبة علمه ،
وتراجمة وحيه ، وأركان توحيده ، وخزّان معرفته ، وقد عرفت فيما مرّ أنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ ورثة علوم الأنبياء ، من طريق النبيّ ، فالتوراة عندهم ،
والإنجيل عندهم ، وصحف إبراهيم عندهم ، وتفسير الكتاب عندهم ، ولا يشدّ عن علومهم
شيء من العلوم الإلهية الّتي علمها الله تعالى ، وعليه فهم عيبة علمه ، وتراجمة
وحيه ، وخزّان معرفته ، وحيث أنّ المعرفة الكاملة الممكنة في حد البشر بالنسبة
إليه تعالى عندهم ، فبهم يعرف توحيده تعالى ، وهم كانوا أركان توحيده.
وقد دلّت الروايات
المتكثرة على ذلك منها : ما رواه في الكافي عن الصادق ـ عليهالسلام ـ أنّه يقول : «نحن ولاة أمر الله وخزنة علم الله وعيبة
وحي الله» .
ومنها : ما رواه
في الكافي أيضا عن سدير عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : قلت له : «جعلت فداك ما أنتم؟ قال : نحن خزّان علم
الله ، ونحن تراجمة وحي الله ، ونحن الحجّة البالغة على من دون السماء ومن فوق
الأرض» .
__________________
ومنها : ما رواه
في الكافي أيضا عن أبي الحسن موسى ـ عليهالسلام ـ قال : «قال أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ : إنّ الله عزوجل خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا خزّانه
في سمائه وأرضه ، ولنا نطقت الشجرة ، وبعبادتنا عبد الله عزوجل ولولانا ما عبد الله» .
ومنها : ما رواه
في الكافي. أيضا عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : «الأوصياء هم أبواب الله عزوجل الّتي يؤتى منها ، ولولاهم ما عرف الله عزوجل ، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه» .
ويشهد لذلك أيضا
ما ورد في عظمة علم عليّ وأولاده المعصومين ـ عليهمالسلام ـ مثل ما رواه في غاية المرام عن الخطيب الفقيه أبي الحسن
ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب بإسناده إلى ابن عباس قال : «قال رسول الله
ـ صلىاللهعليهوآله ـ : أتاني جبرئيل ـ عليهالسلام ـ بدرنوك من الجنة فجلست عليه فلمّا صرت بين يدي ربي
كلّمني وناجاني ، فما علمت شيئا إلّا علّمته عليا فهو باب علم مدينتي ، ثم دعاه
إليه ، فقال : يا علي سلمك سلمي وحربك حربي وأنت العلم فيما بيني وبين أمّتي بعدي»
.
ومثل ما رواه فيه
أيضا عن ابن شاذان عن أبي هريرة قال : كنت عند النبيّ إذ أقبل علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ فقال : أتدري من هذا؟ قلت : علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ فقال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : هذا البحر الزاخر ، هذا الشمس الطالعة ، أسخى من
الفرات كفّا ، وأوسع من الدنيا قلبا ، فمن أبغضه فعليه لعنة الله .
ومثل ما رواه فيه
عن الترمذي ، وهو من أكابر علماء العامّة ، قال ابن
__________________
عباس وهو إمام
المفسرين : «العلم ستة أسداس ، لعليّ منها خمسة أسداس ، للناس سدس ، ولقد شاركنا
فيه حتّى هو أعلم به منا» .
ويشهد لذلك أيضا
ما ورد في أنّ علم رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ كلّه عند أمير المؤمنين وأولاده المعصومين ـ عليهمالسلام ـ وما ورد في أنّ عليا يقول : «والله لو ثنيت لي الوسادة
لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور
بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم» وغير ذلك من الروايات المتواترات.
الخامس
: أنّهم أمان لأهل
الأرض ، ولا إشكال ولا ريب في أنّ الاهتداء لا يتحقق إلّا بهم ، بعد ما عرفت من
أنّهم خلفاء الله ورسوله ، وعيبة علمه ، وخزّان علمه ، وتراجمة وحيه ، وأنّ
الإعراض عنهم لا يوجب إلّا الهلاكة والسقوط ، والتحيّر والضلالة ، فبهذا الاعتبار
، هم أمان لأهل الأرض ، ولعلّه ظاهر قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ مثل «أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها
غرق وهوى» وإليه أشار المصنف بقوله : ولذا كانوا أمانا لأهل الأرض إلخ.
كما أنّهم باعتبار
آخر أيضا أمان لأهل الأرض وهو أنّ الأرض والسماء وبركاتهما تدوم ما دام النبيّ أو
الوليّ موجودا في الأرض وإلّا فلا بقاء لهما ولا لبركاتهما ، وهذا مستفاد أيضا من
الروايات.
منها : ما رواه في
غاية المرام عن مسند أحمد بن حنبل ... عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال : «النجوم أمان لأهل السماء ، إذا ذهبت النجوم
ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» .
__________________
ومنها : ما رواه
فيه أيضا عن ابن بابويه عن جابر بن يزيد الجعفي قال : «قلت لأبي جعفر محمّد بن علي
الباقر ـ عليهماالسلام ـ لأي شيء يحتاج إلى النبيّ والإمام؟ فقال : لبقاء العالم
على صلاحه وذلك أنّ الله عزوجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبيّ أو إمام ، قال
الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وقال النبيّ : النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان
لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون ، وإذا ذهبت أهل بيتي أتى
أهل الأرض ما يكرهون» .
ومنها : ما رواه
فيه أيضا عن ابن بابويه ... عن الصادق ـ عليهالسلام ـ عن أبيه محمّد بن عليّ عن أبيه علي بن الحسين قال : «نحن
أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجلين
وموالي المؤمنين ونحن أمان الأرض ، كما أنّ النجوم امان لأهل السماء ، ونحن الّذين
بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد
بأهلها ، وبنا ينزل الغيث ، وبنا تنشر الرحمة ، وتخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في
الأرض منّا لساخت بأهلها ، ثم قال ـ عليهالسلام ـ : ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها ظاهر
مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله ، ولو لا ذلك لم
يعبد الله» الحديث .
ومنها : ما رواه
في الكافي عن مولانا الصادق ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «إنّ الله خلقنا فاحسن صورنا ، وجعلنا عينه
في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ،
ووجهه الّذي يؤتى منه ، وبابه الّذي يدلّ عليه ، وخزّانه في سمائه وأرضه ، بنا
أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ،
__________________
وجرت الأنهار ،
وبنا ينزل غيث السماء ، وينبت عشب الارض ، وبعبادتنا عبد الله ، ولو لا نحن ما عبد
الله» وغير ذلك من الروايات.
السادس
: أنّ الأئمة هم
العباد المكرمون المطهّرون ، إذ إمامتهم لا تنفك عن عصمتهم وطهارتهم ، هذا مضافا
إلى تنصيص الروايات الكثيرة المتواترة.
قال علي بن موسى
الرضا ـ عليهالسلام ـ في ضمن ما قال : «الإمام المطهّر من الذنوب المبرّا من
العيوب» وقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «من سرّه أن ينظر إلى القضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه
الله عزوجل بيده ، ويكون متمسكا به ، فليتول عليا والأئمة من ولده ،
فإنّهم خيرة الله عزوجل وصفوته ، وهم المعصومون من كلّ ذنب وخطيئة» .
وأخبرت فاطمة ـ سلام
الله عليها ـ عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال : «أخبرني جبرئيل عن كاتبي عليّ أنهما لم يكتبا
على عليّ ذنبا مذ صحباه» .
وأخبر محمد بن
عمّار بن ياسر عن أبيه قال : سمعت النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ يقول : «إنّ حافظي عليّ ليفخران على سائر الحفظة ،
بكونهما مع علي ـ عليهالسلام ـ وذلك أنّهما لم يصعدا إلى الله عزوجل بشيء منه فيسخطه» .
وقال الإمام علي
بن الحسين ـ عليهماالسلام ـ : «الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ، وليست العصمة في
ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون إلّا منصوصا ، فقيل له : يا ابن رسول الله
فما معنى المعصوم؟ فقال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان
إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن ،
__________________
والقرآن يهدي إلى
الإمام ، وذلك قول الله عزوجل : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .
وقال مولانا أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «إنّما الطاعة لله عزوجل ولرسوله ولولاة الأمر ، وإنّما أمر بطاعة اولي الأمر ؛
لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصيته» .
وقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون
معصومون» .
إلى غير ذلك من
الروايات.
بل تدلّ على عصمة
الأئمة جملة من الآيات المباركات ، منها قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لوجوه :
منها : إنّ
إبراهيم بعد ارتفاعه إلى مقام الإمامة سأل هذا المقام الرفيع لبعض ذريّته فاستجاب
الله هذا السؤال في بعضهم ، والمتصوّر من البعض المستفاد من قوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أربع : ١ ـ من يكون في جميع عمره من الأوّل إلى الآخر
ظالما ٢ ـ من يكون ظالما في نهاية عمره ٣ ـ من لا يكون ظالما في طول حياته ٤ ـ من
لا يكون ظالما في آخر عمره. وحيث إنّ جلالة مقام إبراهيم تمنع عن سؤاله تلك
الإمامة الرفيعة للأوّلين ، فانحصر سؤاله في الآخرين ، فاستجاب الله سؤاله في بعضه
، وهو من لا يكون ظالما في طول حياته ، فعهده تعالى سواء اختص بالإمامة أو يكون
أعمّ من النبوّة لا ينال غير المعصومين ، وحيث ثبت
__________________
إمامة أئمتنا
بالنصوص المتواترة فلا محالة بحكم هذه الآية المباركة كانوا معصومين من أول حياتهم
إلى مماتهم.
ومنها : قوله
تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) لتواتر الأخبار الدالّة على نزولها في الخمسة الطاهرة ،
وقد أورد جملة منها في غاية المرام ودلائل الصدق ، وقد صنّف في تلك الآية كتب قيمة
.
وهذه الأخبار
المتواترة تشهد على أنّ المراد من أهل البيت هم أهل بيت النبوّة لا الأزواج ولا
مطلق الأنساب ، فالقول بأنّ سياق الآيات ، والمناسبة بينها يقتضي أنّها نزلت في
أزواج النبيّ مردود ؛ لأنّه اجتهاد في قبال النصوص الصريحة الصحيحة ، هذا مضافا
إلى أنّه لو كانت نازلة في حقّ الأزواج لزم تأنيث الضمائر ، إذ في هذا الفرض ليس
المخاطبون بها إلّا الإناث.
قال في دلائل
الصدق بعد نقل هذا القول الفاسد ، وفيه أوّلا : أنّ مناسبة النظم لا تعارض ما
تواتر بنزولها في الخمسة الطاهرين أو الأربعة خاصة.
وثانيا : أنّا
نمنع المناسبة لتذكير الضمير بعد التأنيث ، ولتعدد الخطاب والمخاطب ، وإنّما جعل
سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج ، وخطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه إنّما
أمرهن ونهاهن وأدبهن إكراما لأهل البيت ، وتنزيها لهم ، عن أن تنالهم بسببهن وصمة
وصونا لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب ، ورفعا لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي ؛
ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ضرورة أنّ هذا التمييز إنّما هو للاتصال بالنبيّ وآله ، لا
لذواتهن ، فهنّ في محلّ ، وأهل البيت في محلّ آخر ،
__________________
فليست الآية
الكريمة إلّا كقول القائل يا زوجة فلان ، لست كأزواج سائر الناس فتعففي ، وتستري ،
وأطيعي الله تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد الله حفظهم من الأدناس وصونهم
عن النقائص .
فهذه الآية نزلت
في حقّ الخمسة الطاهرة ، وأمّا ذكرها في ضمن هذه الآيات فلعلّه إمّا لما أشار إليه
صاحب دلائل الصدق ، وعليه فلا تكون الجملة معترضة ، بل هي في حكم التعليل بالنسبة
إلى ما أمر به زوجات النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فيكون شاهدا على وجود طهارة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ لا اثباتها اذ المقصود على ما ذكر من قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أنّه تعالى إنّما يريد هذه النواهي ؛ لأن لا تتلوث ساحتهم
المعلوم طهارتها بافعالهن التي لا تناسب طهارة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ ولعل ذكر اللام في ليذهب مما يؤيد هذا الاحتمال ؛ لتعلق
الإرادة بالمحذوف ، وهو النواهي المذكورة لهذه الغاية وإلّا فلا حاجة لتعلق
الإرادة بالذهاب إلى اللام كما لا يخفى.
وأمّا لما أشار
إليه البعض الآخر كالاستاذ الشهيد المطهري ـ قدسسره ـ من أنّها نزلت في حقّ الخمسة الطاهرة ، ولكن وضعت بين
الآيات المذكورة ، لمصلحة حفظ الإسلام عن تبليغات سوء المنافقين وتمرّدهم وإعراضهم
؛ لأنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ كان خائفا من التمرد الصريح عن الإسلام والقرآن الكريم ،
لا من أن يذهبوا إلى التأويل مع قيام القرينة الداخلية والخارجية على المعنى
المراد فجعلت الآية المذكورة وأشباهها كآية إكمال الدين في ضمن الآيات الاخر ؛ لأن
يتمكن المخالف من التأويل ، ولا يضطر إلى الإعراض الصريح ، والتمرد الواضح ،
فالجملة حينئذ تكون معترضة بين الآيات الاخرى
__________________
كما لا يخفى .
ولا بأس بذكر بعض
الروايات : روى الحاكم عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وصحّحه أنّه قال : «لمّا
نظر رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ إلى الرحمة هابطة قال : ادعوا إليّ ادعوا إليّ ، فقالت
صفية من يا رسول الله؟ قال :
أهل بيتي عليا
وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال : اللهم هؤلاء آلي فصلّ
على محمّد وآل محمّد وأنزل الله : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .
وروى الترمذي في
مناقب أهل البيت عن عمر بن أبي سلمة «نزلت هذه الآية على النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيت أمّ سلمة فدعا النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فاطمة وحسنا وحسينا بكساء وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء ،
ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، قالت أمّ سلمة
وأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال : أنت على مكانك ، وأنت إلى خير» .
وروى أحمد بن حنبل
عن أمّ سلمة ، أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ جلّل على عليّ وحسن وحسين وفاطمة كساء ، ثم قال : اللهم
أهل بيتي وخاصّتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فقالت أمّ سلمة : أنا
معهم؟ قال : إنّك إلى خير .
وروى السيوطيّ في
الدر المنثور عن ابن مردويه عن أمّ سلمة «قالت : نزلت هذه الآية في بيتي
«إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
__________________
وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً» وفي البيت سبعة : جبرئيل وميكائيل وعليّ وفاطمة والحسن
والحسين ، وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال : إنّك
إلى خير إنّك من أزواج النبيّ .
وروى السيوطيّ
أيضا في الدر المنثور ... عن أبي سعيد الخدري «قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي عليّ وفاطمة وحسن
وحسين (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الآية .
وروى الترمذي في
جامعه أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ كان من وقت نزول هذه الآية إلى قرب ستة أشهر إذا خرج إلى
الصلاة يمر بباب فاطمة ، ثم يقول : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وفي بعض الروايات كان يقول قبل تلاوة الآية السلام عليكم
أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، ثم يقول : إنّما يريد الله ، الآية.
قال ابن أبي
الحديد المعتزلي : قد بيّن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ عترته من هي لمّا قال : أنا تارك فيكم الثقلين ، فقال :
وعترتي أهل بيتي ، وبيّن في مقام آخر من أهل بيته ، حين طرح عليهم الكساء ، وقال
حين نزل : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ) اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس . هذه الروايات جملة مما رواه العامّة وهو كثير.
وأمّا الروايات
الّتي روتها الخاصّة فهي أكثر ولكن أكتفي منها بذكر رواية عن ابن بابويه ... عن
عليّ ـ عليهالسلام ـ قال : دخلت على رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ في بيت أمّ سلمة ، وقد نزلت عليه هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه
__________________
وآله ـ : يا عليّ
هذه الآية فيك وفي سبطيّ والأئمة من ولدك ، فقلت : يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟
قال : أنت يا عليّ ، ثم الحسن والحسين ، وبعد الحسين عليّ ابنه ، وبعد عليّ محمّد
ابنه ، وبعد محمّد جعفر ابنه ، وبعد جعفر موسى ابنه ، وبعد موسى عليّ ابنه ، وبعد
عليّ محمّد ابنه ، وبعد محمّد علي ابنه ، وبعد عليّ الحسن ابنه ، والحجّة من ولد
الحسن ، هكذا أسماؤهم مكتوبة على ساق العرش ، فسألت الله تعالى عن ذلك ، فقال : يا
محمّد هذه الأئمة بعدك مطهّرون معصومون وأعداؤهم ملعونون .
ثم إنّ معنى الآية
بناء على كونه علّة للنواهي المذكورة واضح ، فإنّها تشهد على مفروغية طهارة أهل
البيت ، وبناء عليه فالإرادة تشريعية متعلقة بالنواهي لداعي عدم تلوث طهارتهم
المحرزة المعلومة ، وأمّا بناء على كون الآية جملة معترضة في ضمن الآيات المذكورة
، فالإرادة متعلقة بإذهاب الرجس وتكون تكوينية وعليه فمعنى الآية هو أنّه تعالى
حصر إرادته لإذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت ، ومن المعلوم أنّ هذه الإرادة ليست
إلّا إرادة تكوينية ، وإلّا فلا معنى للحصر ؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة عامّة ، ولا
تختص بقوم دون قوم ، فإذا ثبت أنّ الإرادة تكوينيّة فهي لن تتخلف عن المراد فإرادة
التطهير مساوقة لطهارة أهل البيت ، والتعبير بالمضارع لعلّه لإفادة استمرار هذه
الإرادة التكوينيّة ، ثم إنّ هذه الإرادة التكوينيّة لا تتنافى مع اختيارية العصمة
عن الذنوب لإرادته تعالى طهارتهم مع وساطة اختيارهم كما لا يخفى.
ثم إنّ طهارتهم
ليست بمعنى إزالة الأمراض عنهم ؛ لأنّه خارج عن منطق القرآن ، إذ القرآن ليس كتابا
من الكتب الطبيّة ، بل كتاب سماوي نزل لهداية الناس إلى السعادة الواقعية ،
فالمقصود هو طهارتهم مما صرّح القرآن بكونه
__________________
رجسا ورجزا ، فهم
معصومون من كلّ ذنب سواء كان عمليّا أو اعتقاديّا أو اخلاقيّا ، فإنّ الرجس يعمّ
كلّ ذلك.
قال في الميزان :
والرجس بالكسر ، فالسكون صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في الشيء
توجب التجنّب والتنفّر منها ، وتكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير قال تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وبحسب باطنه وهو الرجاسة والقذارة المعنويّة كالشرك والكفر
، واثر العمل السيّئ قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ) وقال : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) .
وأيّا ما كان فهو
إدراك نفسانيّ وأثر شعوريّ من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّئ.
وإذهاب الرجس (واللام
فيه للجنس) إزالة كلّ هيئة خبيثة في النفس تخطئ حق الاعتقاد والعمل ، فتنطبق على
العصمة الإلهية الّتي هي صورة علميّة نفسانيّة تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد
وسيّيء العمل ـ إلى أن قال ـ : فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة ،
ويكون المراد بالتطهير في قوله : (وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً) ـ وقد أكّد بالمصدر ـ إزالة أثر الرجس بإيراده ما يقابله
بعد إذهاب أصله ، ومن المعلوم أنّ ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحقّ ،
فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحقّ في الاعتقاد والعمل ـ إلى أن قال ـ : والمعنى
أنّ الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل ،
وأثر العمل السيّئ عنكم أهل البيت ، وإيراد ما يزيل أثر ذلك
__________________
عليكم وهي العصمة وكيف كان فالأئمة ـ عليهمالسلام ـ هم المعصومون المطهّرون ، وهم عباده المكرمون الّذين لا
يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون كما جاء في الزيارة الجامعة .
السابع
: أنّ طاعتهم طاعة
الرسول وطاعة الرسول طاعة الله ، وذلك واضح لما مرّ مرارا من أنّ الإمام يقوم مقام
النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فطاعته طاعة الرسول وحيث إنّ طاعة الرسول طاعة الله بنص
قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فطاعة الإمام القائم مقامه أيضا طاعة الله ، فلا يجوز الرد
على الإمام والرادّ عليه كالرادّ على الرسول والرادّ على الرسول كالرادّ على الله
، وعليه فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.
روى الكليني بسند
صحيح عن. أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء
ورضا الرحمن تبارك وتعالى ، الطاعة للإمام بعد معرفته ، ثم قال : إنّ الله تبارك
وتعالى يقول : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً) .
فإذا ثبت أنّ
إطاعتهم إطاعة الله ، فانحل الاشتغال اليقينيّ بالتكاليف الشرعيّة في أوامرهم
ونواهيهم الشرعيّة ، فمن انتهى بنهيهم وامتثل بأمرهم أدى ما عليه ، بلا ريب ولا
كلام ، ومن أعرض عنهم ولم يتوجه إلى أوامرهم ونواهيهم بقيت التكاليف الشرعيّة في
عهدته ، ولم يأت بها ، إلّا بما ليس بحجّة كالقياس ، أو يكون اجتهادا في مقابل
نصّهم ، مع أنّ نصّهم كنصّ الرسول ونصّه كنصّ الله ، فالأئمة كما يكونون في تفصيل
الاعتقادات والأخلاقيات والحكم كسفينة نوح ، كذلك في الأحكام الشرعيّة ، فمن ركب
هذه السفينة
__________________
نجا من الضلالات
والشبهات والرذيلات والظلامات ، ومخالفة التكليف اليقينيّ ، ومن تخلّف عنها وقع في
المهلكات والتمردات والظلامات.
الثامن
: أنّ المصنّف ـ قدسسره ـ ذهب إلى أنّ المهم ليس في هذه العصور هو إثبات أنّ
الأئمة هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطنة الإلهية معلّلا بأنّ ذلك أمر مضى في ذمّة
التاريخ ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد ، أو يعيد الحقوق المسلوبة
إلى أهلها.
ولكنّه لا يخلو عن
النظر فإنّ أمر ولاية الأئمة عليهمالسلام ـ ليس مما انقضى زمانه بعد لزوم اعتقادنا بولاية صاحبنا
ومولانا المهديّ الحجّة بن الحسن ـ عليهماالسلام ـ فمن لم يعتقد إلّا بالمرجعيّة العلميّة كيف يتولى بإمامة
مولانا الحجّة بن الحسن ، وكيف يتمكن من أن يأتي بما يجب عليه من معرفته بإمامته
كما نصّت عليه الروايات الكثيرة ، منها : قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة.
هذا مضافا إلى أنّ
البحث عن ولاية الأئمة تفيد كيفية الولاية والحكومة في عصر الغيبة ، فإنّ من اعتقد
أنّ الولاية لهم ولنوّابهم ، فالأمر عنده واضح ؛ لأنّ الولاية في عصر الغيبة حق
لنوّابهم العامّة ، ومن لم يعتقد ذلك وقع في الحيص والبيص كما لا يخفى ، ولعلّ
مقصود المصنّف من ذلك هو المماشاة مع العامّة فلا تغفل.
٥
ـ عقيدتنا في حبّ آل البيت
قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)
(١).
نعتقد أنّه زيادة على وجوب التمسك بآل
البيت ، يجب على كلّ مسلم أن يدين بحبّهم ومودّتهم ؛ لأنّه تعالى في هذه الآية
المذكورة حصر المسئول عليه الناس في المودة في القربى.
وقد تواتر عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله
ـ أنّ حبّهم علامة الإيمان ، وأنّ بغضهم علامة النفاق ، وأنّ من أحبّهم أحبّ الله
ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.
بل حبهم فرض من ضروريات الدين الإسلامي
، الّتي لا تقبل الجدل والشك. وقد اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم
وآرائهم عدا فئة قليلة اعتبروا من أعداء آل محمّد فنزوا باسم «النواصب» أي من
نصبوا العداوة لآل بيت محمّد ـ صلىاللهعليهوآله
ـ. وبهذا يعدّون من المنكرين لضرورة إسلامية ثابتة بالقطع ، والمنكر
__________________
للضرورة الإسلامية ،
كوجوب الصلاة والزكاة ، يعدّ في حكم المنكر لأصل الرسالة ، بل هو على التحقيق منكر
للرسالة ، وإن أقرّ في ظاهر الحال بالشهادتين ، ولأجل هذا كان بغض آل محمّد ـ عليهمالسلام
ـ من علامات النفاق وحبّهم من علامات الإيمان ، ولأجله أيضا كان بغضهم بغضا لله
ولرسوله.
* * *
ولا شكّ أنّه تعالى لم يفرض حبّهم
ومودّتهم إلّا لأنّهم أهل للحب والولاء من ناحية قربهم إليه سبحانه ، ومنزلتهم
عنده ، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ، ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه.
ولا يمكن أن نتصور أنّه تعالى يفرض حبّ
من يرتكب المعاصي ، أو لا يطيعه حق طاعته ، فإنّه ليس له قرابة مع أحد أو صداقة ،
وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلّا عبيدا مخلوقين على حدّ سواء ، وإنّما أكرمهم
عند الله أتقاهم ، فمن أوجب حبّه على الناس كلّهم لا بدّ أن يكون أتقاهم وأفضلهم
جميعا ، وإلّا كان غيره أولى بذلك الحب ، أو كان الله يفضّل بعضا على بعض في وجوب
الحبّ والولاية عبثا أو لهوا بلا جهة استحقاق وكرامة (١).
______________________________________________________
(١) يقع الكلام في مقامات :
الأوّل
: في معنى المودّة
والمحبّة ، قال في القاموس : الودّ والوداد : الحبّ ، ويثلثان كالودادة والمودّة ،
وقال في المصباح المنير : وددته أودّه ـ من باب تعب ـ ودا بفتح الواو وضمّها
أحببته ، والاسم المودة. انتهى موضع الحاجة منه ، ولكن في
كتاب الإمامة
والولاية في القرآن أنّ المودّة المحبّة المستتبعة للمراعاة والتعاهد ، ولعلّها
لاشتمالها على ذلك لا يستعمل في محبّة العباد لله تعالى ، انتهى.
وفيه أنّه لم أجد
ذلك في كتب اللغة ، ولعلّ هذا القيد مما يقتضيه حقيقة المحبّة ، إذ المحبة
الواقعيّة أثرها هو المراعاة والتعاهد ، نعم ربّما يقال : إنّ المودّة هي الّتي
لها الخارجية استنادا بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) بقرينة مقابلة الموادّة للمحادّة الّتي لها الخارجية ،
ولكنّه غير تامّ لأنّ المودّة لا تختص بذلك ؛ لاستعمالها في الأمر القلبيّ أيضا
لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) فالظاهر هو عدم الفرق بين المودّة والمحبّة.
الثاني
: أنّ المحبّة
والوداد في الله كالبغض في الله من الامور التي ندب الإسلام الاجتماع إليها ،
وأكّد عليها ، وورد في ذلك روايات كثيرة ، منها قول النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ألا
ومن أحبّ في الله وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء
الله».
وسأل ـ صلىاللهعليهوآله ـ أصحابه : «أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا : الله ورسوله
أعلم وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام ، وقال
بعضهم : الحجّ والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : لكلّ ما قلتم فضل ، وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان
الحبّ في الله والبغض في الله وتوالي (تولّي) أولياء الله والتبري من أعداء الله» .
__________________
قال الفاضل
النراقي ـ قدسسره ـ في تفسير هذه المحبّة والوداد في الله ، أن يحبه لله وفي
الله ، لا لينال منه علما أو عملا ، أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته ، وذلك بأن
يحبه من حيث إنّه متعلق بالله ، ومنسوب إليه ، أمّا بالنسبة العامّة الّتي ينتسب
بها كل مخلوق إلى الله ، أو لأجل خصوصية النسبة أيضا ، من تقرّبه إلى الله ، وشدّة
حبّه وخدمته له تعالى. ولا ريب في أنّ من آثار غلبة الحبّ أن يتعدى من المحبوب إلى
كلّ من يتعلق به ويناسبه ، ولو من بعد ، فمن أحبّ إنسانا حبّا شديدا ، أحبّ محبّ
ذلك الإنسان ، وأحبّ محبوبه ، ومن يخدمه ومن يمدحه ، ويثني عليه أو يثني على
محبوبه ، وأحبّ أن يتسارع إلى رضى محبوبه كما قيل :
أمرّ على الديار
ديار ليلى
|
|
اقبّل ذا الجدار
وذا الجدارا
|
وما حبّ الديار
شغفن قلبي
|
|
ولكن حبّ من سكن
الديارا
|
وأمّا البغض في
الله : فهو أن يبغض إنسان إنسانا لأجل عصيانه لله ومخالفته له تعالى ، فإنّ من
يحبّ في الله ، لا بدّ وأن يبغض في الله ، فإنّك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع لله
ومحبوب عنده ، فإن عصاه لا بدّ أن تبغضه ؛ لأنّه عاص له وممقوت عند الله ، قال
عيسى ـ عليهالسلام ـ : «تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى
الله بالتباعد عنهم ، والتمسوا رضا الله بسخطهم» .
وهذا من مقتضيات
الدين والإيمان ، وكلّما ازداد دين امرئ زيد حبّه في الله ، وبغضه في الله ،
وكلّما ضعف إيمان امرئ نقصت فيه تلك المحبة والبغضة ، وإليه يشير ما رواه في
الكافي بسند موثق عن فضيل بن يسار قال : سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن الحبّ والبغض ، أمن الإيمان هو؟ فقال : وهل الإيمان
إلّا الحبّ والبغض ، ثم تلا هذه الآية :
«حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
__________________
وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ»
وقال أيضا : «كلّ من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له» .
نعم ربّما يجتمع
في بعض آحاد المسلمين موجبات الحبّ في الله ، مع موجبات البغض في الامور الشخصيّة
قصورا وتقصيرا ، فعلى المؤمن الخبير أن لا يبتلي بترك محبّته في الله ؛ لأنّ
الإيمان يقوى على الامور الشخصيّة ، والمنافع الدنيويّة ، فمقتضى الإيمان هو كونه
محبوبا من حيث إيمانه ، وعروة الإيمان لا تنقض بموجبات البغض ، في الامور الشخصيّة
، ومن المعلوم أن الاجتماع الإسلامي مبنيّ على هذا الأساس القويم.
الثالث
: في وجوب المحبّة
والوداد لأهل البيت ، وقد عرفت أن المحبّة والوداد بالنسبة إلى أهل الإيمان من
مقتضيات الإيمان ، ومن الوظائف الأخلاقية لكل مؤمن ، وبالجملة فضيلة من الفضائل ،
ولا وجوب لها ، ولكن محبّة أهل البيت وودادهم من أوجب الواجبات جعلها الله ورسوله
أجر الرسالة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ولذا سأل الأصحاب عن رسول الله عن تعيين القربى بعد الفراغ
عن وجوب المودّة فيهم ، كما روي عن ابن عباس أنّه قال : «لمّا نزلت الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قلت : يا رسول الله من قرابتك الّذين افترض الله علينا
مودتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وولدهما ثلاث مرات يقولها»
وأكّد الأئمة ـ عليهمالسلام ـ على وجوب المحبّة ، وإليك بعض التأكيدات ، قال محمّد بن
مسلم : سمعت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ يقول : «إنّ الرجل ربّما يحب الرجل ، ويبغض ولده ، فأبى
الله عزوجل إلّا أن يجعل حبّنا مفترضا ،
__________________
أخذه من أخذه ،
وتركه من تركه واجبا ، فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، وقال أبو جعفر ـ عليهالسلام ـ في ذيل الآية المباركة : «هي والله فريضة من الله على
العباد لمحمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ في أهل بيته» .
وقال الطبرسي ـ قدسسره ـ : «وصحّ عن الحسن بن علي ـ عليهماالسلام ـ أنّه خطب الناس ، فقال في خطبته : أنا من أهل البيت
الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم ، فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) واقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت» .
وقال العلّامة ـ قدسسره ـ في كتاب كشف الحق : روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن
حنبل في مسنده ، والثعلبي في تفسيره ، عن ابن عباس رحمهالله قال : «لمّا نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا : يا رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ من قرابتك الّذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة
وابناها» ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة .
قال في دلائل
الصدق بعد نقل الروايات عن طرق العامّة في تفسير الآية المباركة : ويؤيدها الأخبار
المستفيضة الدالّة على وجوب حبّ أهل البيت وأنّه مسئول عنه يوم القيامة .
قال في الغدير :
وأمّا حديث أنّ الآية نزلت في علي وفاطمة وابنيهما ، وإيجاب مودّتهم بها ، فليس
مختصا بآية الله العلّامة الحلي ولا بامّته من الشيعة ، بل اتفق المسلمون على ذلك
إلّا شذاذ من حملة الروح الأمويّة نظراء ابن تيمية ،
__________________
وابن كثير ، ثم
ذكر أسامي جملة من الحفّاظ والمفسّرين من أعلام القوم الّذين نقلوا نزول الآية
فيهم ، وهم خمسة وأربعون ، وفيهم الإمام أحمد والحسكانيّ ، والثعلبيّ ،
والنيسابوريّ والزمخشريّ ، والبيضاويّ ، والشبلنجيّ ، والطبريّ ، والرازيّ ،
والنسائيّ ، والسيوطيّ ، إلى أن قال : وقول الإمام الشافعيّ في ذلك مشهور قال :
يا أهل بيت رسول
الله حبّكم
|
|
فرض من الله في
القرآن أنزله
|
كفاكم من عظيم
القدر أنّكم
|
|
من لم يصلّ
عليكم لا صلاة له
|
ذكرهما له ابن حجر
في الصواعق صفحة : ٨٧ ، والزرقانيّ في شرح المواهب إلخ .
فوجوب حبّ أهل
البيت ومودّتهم زائدا على وجوب التمسك بهم أمر واضح في الإسلام ، ويؤيّد وجوبه
مضافا إلى ما ذكر من الأخبار والآيات ، ما أشار إليه المصنّف ـ قدسسره ـ في ضمن كلامه من أنّه قد تواتر عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّ حبّهم علامة الإيمان ، وأنّ بغضهم علامة النفاق ،
وأنّ من أحبّهم أحبّ الله ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله ، وقد دلّت
الأخبار على ذلك بعبارات مختلفة.
وقد تصدّى
العلّامة آية الله الأميني ـ قدسسره ـ في كتابه الغدير لنقل جملة منها عن طرق العامّة ، ونقل
عن أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد
النبيّ الأميّ إليّ : أنّه لا يحبني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق» وأشار إلى
مصادر هذا الخبر ، وذكر ما يقرب الثلاثين من الكتب المعروفة للعامّة ، وفيها صحيح
مسلم ، ومسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ، ورياض الطبريّ واستيعاب ابن عبد البرّ ،
وتذكرة سبط ابن الجوزيّ ، وفرائد
__________________
الحموينيّ ،
وصواعق ابن حجر الهيثميّ وفتح الباري لابن حجر العسقلانيّ ، وغير ذلك فراجع .
ثم نقل صورة ثانية
عن أمير المؤمنين أنّه قال لعهد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ إليّ لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق. وأشار
إلى مصادره الكثيرة ، ونقل تصريحهم بصحّة الحديث وثبوته ، وفي ضمن تلك التصريحات
أنّ أبا نعيم ذكر في الحلية : ج ٤ ، ص ١٨٥ : أنّ هذا حديث صحيح متّفق عليه ، وأنّ
ابن عبد البرّ قال في الاستيعاب : ج ٣ ، ص ٣٧ : روته طائفة من الصحابة ، وأنّ ابن
أبي الحديد قال في شرحه : ج ١ ، ص ٣٦٤ : قد اتفقت الأخبار الصحيحة الّتي لا ريب
فيها عند المحدثين ، على أنّ النبيّ قال له : لا يبغضك إلّا منافق ولا يحبّك إلّا
مؤمن .
ثم ذكر صوره
الاخرى عنه وعن أمّ سلمة وأشار إلى مصادرها وهي كثيرة ، وقال في الختام : هذا ما
عثرنا عليه من طرق هذا الحديث ، ولعلّ ما فاتنا منها أكثر ، ولعلّك بعد هذه كلّها
لا تستريب في أنّه لو كان هناك حديث متواتر يقطع بصدوره عن مصدر الرسالة ، فهو هذا
الحديث ، أو أنّه من أظهر مصاديقه كما أنّك لا تستريب بعد ذلك كلّه أنّ أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ بحكم هذا الحديث الصادر ، ميزان الإيمان ، ومقياس الهدى
، بعد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وهذه صفة مخصوصة به ـ عليهالسلام ـ ، وهي لا تبارحها الإمامة المطلقة ، فإنّ من المقطوع به
أنّ أحدا من المؤمنين لم يتحلّ بهذه المكرمة ، فليس حبّ أي أحد منهم شارة إيمان ،
ولا بغضه سمة نفاق ، وإنّما هو نقص في الأخلاق ، وإعواز في الكمال ، ما لم تكن
البغضاء لإيمانه وفي هذا كفاية ، ولا
__________________
حاجة إلى نقل سائر
الآيات والروايات ، الدالّة على لزوم محبّتهم ، وبذلك اتضحت دعوى المصنّف أنّ حبّ
أهل البيت فرض من ضروريات الدين الإسلامي التي لا تقبل الجدل والشك ، وقد اتفق
عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم.
ثم لا يذهب عليك
أنّ المحبّة الواقعيّة لهم لا تجتمع مع المحبّة لأعدائهم ، لأنّ من أحبّ شخصا أحبّ
أحباءه ، وأبغض أعداءه ، وإلّا فليس دعوى المحبّة إلّا لقلقة في اللسان.
الرابع
: في المراد من
القربى ، وقد عرفت تظافر الروايات وتواترها بأنّ المراد منه في الآية المباركة هم
أهل البيت وأهل الكساء ، وبعد ذلك لا وجه لحمل القربى على أنّ المقصود هو قرابة الرسول
ـ صلىاللهعليهوآله ـ مع مشركي قريش ، وأنّ الخطاب لقريش ، والأجر المسئول هو
مودّتهم للنبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ لقرابته منهم ، معللا بأنّ قريش كانوا يكذبونه ويبغضونه
لتعرضه لآلهتهم ، على ما في بعض الأخبار فأمر ـ صلىاللهعليهوآله ـ أن يسألهم إن لم يؤمنوا به فليودوه لمكان قرابته منهم ،
ولا يبغضوه ، ولا يؤذوه ، فالقربى مصدر بمعنى القرابة ، وفي للسببيّة ، وذلك لأنّه
اجتهاد في مقابل النصّ ، هذا مضافا إلى ما أشار إليه في دلائل الصدق من أنّه لا
معنى لسؤال الأجر على التبليغ ممن لم يعترف له بالرسالة ؛ لأنّ المقصود على هذا
التفسير هو السؤال من الكافرين .
واوضح ذلك في
الميزان حيث قال : إنّ معنى الأجر إنّما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر ،
فيعطى العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه ، فسؤال الأجر من قريش ، وهم كانوا
مكذبين له كافرين بدعوته ، إنّما كان يصحّ على تقدير إيمانهم به ـ صلىاللهعليهوآله ـ لأنّهم على تقدير تكذيبه والكفر
__________________
بدعوته لم يأخذوا
منه شيئا حتّى يقابلوه بالأجر ، وعلى تقدير الإيمان به ، والنبوّة أحد الاصول
الثلاثة في الدين لا يتصور بغض حتّى تجعل المودّة أجرا للرسالة ويسأل.
وبالجملة لا تحقق
لمعنى الأجر على تقدير كفر المسئولين ، ولا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم
حتّى يسألوا المودّة ، وهذا الإشكال وارد حتّى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعا ،
فإنّ سؤال الأجر منهم على أيّ حال إنّما يتصور على تقدير إيمانهم ، والاستدراك على
الانقطاع إنّما هو عن الجملة بجميع قيودها فأجد التأمل فيه .
وإليه يشير قوله
في دلائل الصدق في ردّ ذلك المعنى على تقدير انقطاع الاستثناء فإنّ المنقطع عبارة
عن إخراج ما لو لا إخراجه ، لتوهم دخوله في حكم المستثنى منه نظير الاستدراك ،
وأنت تعلم أنّ المستثنى الّذي ذكره الفضل أجنبي عمّا قبله بكلّ وجه ، فلا يتوهم
دخوله في حكمه حتّى يستثنى منه .
والأضعف ممّا ذكر
هو حمل القربى على التقرّب من الله بطاعة ، فإنّه مضافا إلى كونه اجتهادا في مقابل
النصّ ، لا تساعده اللغة ، إذ القربى لم تأت في اللغة بمعنى التقرّب ، قال في
القاموس : القربى القرابة وهو قريبي وذو قرابتي ، وممّا ذكر يظهر ما في تفسير
القرطبي حيث مال إليه ، واعتمد على الخبر الشاذ في مقابل الأخبار المتواترة.
ثم إنّ القربى
مختص بأهل بيته بعد تعينه في الأخبار ، قال في دلائل الصدق : قول الفضل وظاهر
الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ باطل ... لأنّ المعلوم من حال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ الاعتناء بعليّ وفاطمة والحسنين لا من ناوأه من أقربائه
، ولم يسلموا إلّا
__________________
بحدود السيوف
والغلبة ، وللقرينة العقليّة إذ لا يتصور أن يكون ودّ من لم يواد الله ورسوله أجرا
للتبليغ والرسالة ، فلا بدّ أن يكون المراد مودة من يكمل الإيمان بمودّته ، وتحصل
السعادة الأبديّة بموالاته ، ولذا قال سبحانه في آية اخرى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ) بل بلحاظ شأن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ إنّما يعدّ قرابة له ، من هو منه ، لا من بان عنه معنى
ومنزلة ، ولذا قال تعالى لنوح : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) انتهى موضع الحاجة .
وقيل : إنّ الآية
مكيّة ؛ لأنّها في سورة الشورى مع أنّ الحسنين ولدا في المدينة وأجاب عنه في
الإمامة والولاية : بأنّ هذا الإشكال ضعيف ، فإنّه قد أكّد غير واحد من أئمة هذا
الفن نزول الآية في المدينة.
على اننا لو سلمنا
كونها مكيّة ، فما المانع في ذلك؟ مع أنها نظير غيرها من الآيات الكريمة التي سيقت
لبيان قضية حقيقية ، لا خارجية ، فهي تصبح فعلية اذا وجد من تنطبق عليه .
وأجاب عنه في
الغدير أيضا : بأنّ دعوى كون جميع سورة الشورى مكية ، تكذبها استثناؤهم قوله تعالى
: «أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً
ـ إلى قوله ـ :
خَبِيرٌ
بَصِيرٌ» ، وهي أربع آيات. واستثناء بعضهم قوله تعالى :
«وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
ـ إلى قوله ـ :
مِنْ
سَبِيلٍ» ، وهي عدة آيات فضلا عن آية المودّة.
ونصّ القرطبي في
تفسيره : ج ١٦ ص ١ ، والنيسابوريّ في تفسيره ، والخازن في تفسيره : ج ٤ ص ٤٩ ،
والشوكانيّ في «فتح القدير» : ج ٤ ص ٥١٠ ، وغيرهم عن ابن عباس وقتادة على أنّها
مكيّة إلّا أربع آيات ، أوّلها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) ـ إلى أن قال ـ : وأمّا إن تزويج علي بفاطمة ـ عليهماالسلام ـ كان
__________________
من حوادث العهد
المدنيّ ، وقد ماشينا الرجل (المستشكل) على نزول الآية في مكّة ، فإنّه لا ملازمة
بين إطباق الآية بهما وبأولادهما ، وبين تقدم تزويجهما على نزولها ، كما لا منافاة
بينه وبين تأخر وجود أولادهما على فرضه ، فإنّ مما لا شبهة في كون كلّ منهما من
قربى رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالعمومة والنبوّة ، وأمّا أولادهما فكان من المقدّر في
العلم الأزلي أن يخلقوا منهما ، كما أنّه قد قضي بعلقة التزويج بينهما ، وليس من
شرط ثبوت الحكم بملاك عامّ يشمل الحاضر والغابر وجود موضوعه الفعلي ، بل إنّما
يتسرب إليه الحكم مهما وجد ، ومتى وجد ، وأنّى وجد.
على أنّ من الممكن
أن تكون قد نزلت بمكة في حجّة الوداع ، وعليّ قد تزوّج بفاطمة وولد الحسنان ، ولا
ملازمة بين نزولها بمكّة ، وبين كونه قبل الهجرة. ويرى الذين اوتوا العلم الّذي
انزل إليك من ربك هو الحق .
ثم القربى لا
تنحصر في عليّ وفاطمة والحسنين ـ عليهمالسلام ـ بل يشمل الأئمة كلّهم دون غيرهم ، كما نصّ عليه في
الأحاديث ، ومنها : ما في الكافي عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال : هم الأئمة ـ عليهمالسلام ـ.
ومنها ما في روضة
الكافي عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : ما يقول أهل البصرة في هذه الآية : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قلت : جعلت فداك ، إنّهم يقولون : إنّها لأقارب رسول الله
ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال : كذبوا إنما نزلت فينا خاصّة أهل البيت في عليّ
وفاطمة والحسن والحسين وأصحاب الكساء عليهمالسلام .
__________________
الخامس
: في دلالة وجوب
المحبّة على قرب القربى إلى الله وطهارتهم من الشرك والمعاصي ، ومن كلّ ما يبعد عن
دار كرامته ، وساحة رضاه ، وذلك واضح ، لما في المنّ ، وقريب منه ما في دلائل
الصدق حيث قال : وهي (أي الآية) تدلّ على أفضليّتهم وعصمتهم ، وأنّهم صفوة الله
سبحانه ، إذ لو لم يكونوا كذلك لم تجب مودّتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودتهم بتلك
المنزلة الّتي ما مثلها منزلة ، لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حق
يشبهه ، ولذا لم يجعل الله المودّة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما .
السادس
: أنّ ظاهر المصنّف
أنّ بغض آل محمّد موجب للخروج عن الإيمان لاستلزامه لإنكار الضرورة الإسلامية ؛
لأنّ وجوب حبّهم من ضروريات الإسلام ، ولكن مقتضى ما ذكر هو عدم كونه كذلك لو لم
يلتفت إلى كونه من الضروريات وأنكره ، مع أنّ ظواهر بعض الأخبار هو خروج المنكر
المبغض عن الإيمان ، ولو لم يكن عن التفات إلى كونه من الضروريات ، ولعلّه من جهة
أنّ البغض المذكور ملازم لعدم المعرفة بالأئمة ـ عليهمالسلام ـ وقد عرفت تصريح النصوص بأنّ عدم المعرفة بهم يوجب ميتة جاهلية.
وإليك بعض هذه
الروايات الدالّة على خروج المبغض عن الإيمان منها : ما رواه الحافظ الحاكم
الحسكانيّ عن أبي إمامة الباهلي قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : إنّ الله خلق الأنبياء من أشجار شتّى ، وخلقت وعليّ (كذا)
من شجرة واحدة فأنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا
أوراقها ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ هوى ، ولو أنّ عبدا عبد الله
بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ، حتى يصير كالشنّ البالي ، ثم لم يدرك
محبتنا أكبّه على منخريه في النار ، ثم قرأ
«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
__________________
عَلَيْهِ»
الآية .
ومنها : ما رواه
في تفسير القرطبيّ عن الثعلبيّ أنّه قد قال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ومن مات على حبّ آل
محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة والرحمة ، ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم
القيامة مكتوبا بين عينيه آيس اليوم من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمّد لم
يرح رائحة الجنّة ، ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي ، ثم قال
القرطبيّ : قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشريّ في تفسيره بأطول من هذا ، فقال : وقال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ألا ومن مات على
حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك
الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان
إلى الجنة ، ألا ومن مات في حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا
ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد
، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل
محمّد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة .
وإلى غير ذلك من
الروايات الواردة في المقامات المختلفة مثل ما ورد في تفسير قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) .
السابع
: أنّ المحبّة
والوداد بالنسبة إليهم في هذه الآية لعلّها ليست إلّا لتحكيم الاتباع عنهم ، إذ
الاتباع إذا قرن بالمحبّة كان أتمّ وأسهل ، ألا ترى أنّ
__________________
المحبّة العلويّة
والحسينيّة جذبت كثيرا من الآحاد والنفوس نحو العبادة والتعبّد والجهد والجهاد
والتضحية والفداء ، فالدعوة إلى المحبّة والوداد دعوة في الحقيقة إلى العمل
والاتباع.
قال في كتاب
الإمامة والولاية : إنّ هذا الأجر المطلوب في هذه الآية الكريمة ، هو في الواقع من
أروع ما يعود على الامة بالخير ، ويرتبط بمسيرتها ومستقبلها وقيادتها ، حيث يشدّها
الشدّ العاطفي الواعي إلى القيادة مقربا بذلك الشدّ العقائدي بها ، وإذا اقترنت
العقيدة بالعاطفة المبنيّة على أساسها أمكن ضمان قيام القائد بمهماته التاريخيّة
الكبرى الملقاة على عاتقه في مجال تربية الإنسانية ككل ، وهدايتها إلى شواطئ
الكمال ، فهذا الأجر المسئول هو في الواقع تعليم اجتماعي رائح لصالح الامة نفسها
وليس أجرا شخصيّا للرسول ـ صلىاللهعليهوآله ـ بعد أن كان أشدّ الناس إخلاصا للحقيقة ، وبعد أن كان
القرآن يعلن : (وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى على لسان نبيه
: (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وكذا يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ولذا أنكر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ من ترك الطاعة مغرورا بمحبّة أهل البيت ، كما نقل جابر
عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : قال لي : «يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول
بحبّنا أهل البيت ، فو الله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه ، وما كانوا
يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشع والأمانة ، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة
والبرّ بالوالدين ، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة
__________________
والغارمين
والأيتام ، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الالسن عن الناس إلّا من خير ، وكانوا
أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر : فقلت : يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا
بهذه الصفة ، فقال : يا جابر لا تذهبن بك المذاهب ، حسب الرجل أن يقول : احبّ
عليّا وأتولّاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالا ، فلو قال : إنّي احبّ رسول الله فرسول
الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ خير من عليّ ـ عليهالسلام ـ ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا
، فاتقوا الله ، واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحبّ
العباد الى الله عزوجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته ، يا جابر والله ما
يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة ، وما معنا براءة من النار ، ولا على
الله لأحد من حجّة ، من كان لله مطيعا فهو لنا وليّ ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا
عدوّ ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»
__________________
٦
ـ عقيدتنا في الأئمة
لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغلاة
والحلوليون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم). بل عقيدتنا الخالصة أنّهم بشر مثلنا ،
لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، وإنّما هم عباد مكرمون اختصّهم الله تعالى بكرامته
وحباهم بولايته ؛ إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم
والتقوى والشجاعة والكرم والعفة ، وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، لا
يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به. وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمة وهداة ومرجعا
بعد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ في كلّ ما يعود للناس من أحكام وحكم ، وما يرجع
للدين من بيان وتشريع ، وما يختصّ بالقرآن من تفسير وتأويل.
قال إمامنا الصادق ـ عليهالسلام
ـ : «ما جاءكم عنّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا
تجحدوه وردّوه إلينا ، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه
ولا تردوه إلينا» (١).
______________________________________________________
(١) ولا يخفى عليك
ـ بعد ما عرفت من أنّ ما سوى الله تعالى ليس إلّا
ممكنا ـ أنّ
اعتقاد الألوهية في الأئمة أو الأنبياء ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ باطل جدا ،
ولذا أنكر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ على الغالين أشد الإنكار. قال الصادق ـ عليهالسلام ـ : «احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم ، فإنّ الغلاة
شرّ خلق الله يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباد الله ، والله فإنّ الغلاة
شرّ خلق اليهود والنصارى والمجوس ، والّذين أشركوا» الحديث وقال مولانا أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «اللهم إنّي بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من
النصارى ، اللهم اخذلهم أبدا ، ولا تنصر منهم أحدا» ، وقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «لا ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله تعالى اتخذني عبدا قبل
أن يتخذني نبيا» ، وقال أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «إيّاكم والغلوّ فينا قولوا : إنّا عبيد مربوبون ،
وقولوا في فضلنا ما شئتم» ، قال سدير : قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ إنّ قوما يزعمون أنّكم آلهة يتلون بذلك علينا قرآنا ،
وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله ، فقال : «يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي
ودمي وشعري من هؤلاء براء ، وبرئ الله منهم ، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي
، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلّا وهو ساخط عليهم» .
وهكذا بعد ما عرفت
من أنّ كلّ شيء يحتاج إلى الله في أصل وجوده وحياته وقدرته وعلمه وغير ذلك لا يصح
اعتقاد الاستقلال بالنسبة إليه في أمر من الامور ، ويكون غلوّا كما ورد في التوقيع
عن صاحب الزمان ـ صلوات الله عليه ـ ردا على الغلاة : «يا محمّد بن علي ، تعالى
الله عزوجل عمّا يصفون ،
سبحانه وبحمده ، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته» . قال العلّامة
__________________
المجلسي ـ قدسسره ـ بيان : المراد من نفي علم الغيب عنهم أنّهم لا يعلمونه
من غير وحي وإلهام ، وأمّا ما كان من ذلك فلا يمكن نفيه ؛ إذ كانت عمدة معجزات
الأنبياء والأوصياء ـ عليهمالسلام ـ الإخبار عن المغيّبات ، وقد استثناهم الله تعالى في قوله
: (إِلَّا مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ) .
وأيضا بعد ما عرفت
من أنّ النبوّة ختمت بوجود نبينا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ فلا مجال لاعتقاد النبوّة في الأئمة ـ عليهمالسلام ـ قال الصادق ـ عليهالسلام ـ : «من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة الله ، ومن شكّ في
ذلك فعليه لعنة الله» .
__________________
٧
ـ عقيدتنا في أنّ الإمامة بالنصّ
نعتقد أن الإمامة كالنبوّة لا تكون إلّا
بالنصّ من الله تعالى على لسان رسوله ، أو لسان الإمام المنصوب بالنصّ إذا أراد أن
ينصّ على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوّة بلا فرق ، فليس للناس أن
يتحكّموا في من يعيّنه الله هاديا ومرشدا لعامّة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو
ترشيحه أو انتخابه ؛ لأنّ الشخص الذي له من نفسه القدسيّة استعداد لتحمّل أعباء الإمامة
العامّة ، وهداية البشر قاطبة ، يجب أن لا يعرف إلّا بتعريف الله ولا يعيّن إلّا
بتعيينه.
ونعتقد أن النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ نصّ على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعيّن ابن عمه علي بن أبي طالب
أميرا للمؤمنين ، وأمينا للوحي ، وإماما للخلق ، في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة
له بإمرة المؤمنين يوم الغدير ، فقال : «ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم
وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه
كيف ما دار».
ومن أوّل مواطن النصّ على إمامته قوله
حينما دعا أقرباءه الأدنين
وعشيرته
الأقربين فقال : «هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وهو يومئذ
صبيّ لم يبلغ الحلم وكرّر قوله له في عدّة مرّات : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى
إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» إلى غير ذلك من روايات وآيات كريمة دلّت على ثبوت الولاية
العامّة له كآية المائدة : ٥٥ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وقد نزلت فيه عند ما تصدّق بالخاتم وهو
راكع ، ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كلّ ما ورد في إمامته من الآيات
والروايات ، ولا بيان وجه دلالتها.
ثم
إنّه ـ عليهالسلام ـ نصّ على إمامة الحسن والحسين ،
والحسين نصّ على إمامة ولده علي زين العابدين ، وهكذا إماما بعد إمام ينصّ
المتقدّم منهم على المتأخر إلى آخرهم ، وهو أخيرهم على ما سيأتي (١).
______________________________________________________
(١) يقع الكلام في امور :
الأوّل
: أنّه قد مضى البحث
عن كون أمر تعيين النبيّ بيد الله أو بيد النبيّ الاخر الذي عيّنه الله فإنه لا
يقول إلّا عن الله ، وحيث إنّ الإمامة كالنبوّة عندنا إلّا في تلقّي الوحي فالأمر
فيه واضح ، فلا مجال لانتخاب الناس وتعيينهم ، كما لا يخفى ، ولذلك قال في العقائد
الحقّة : فمن قال بلزوم بعث النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ من جانب الله تبارك وتعالى ، لا بدّ له من القول بلزوم
نصب الإمام من جانب الله تبارك وتعالى ، وليس هذا من قبيل نصب السلطان أو نصب
السلطان وليّ العهد ؛ لأنّ نصب الناس أو نصب السلطان راجع إلى نصب من يلي أمر
الناس من جهة معاشهم ، وما يكون مربوطا بدنياهم ولا ربط له بامور الآخرة ، فنصب
الإمام من جانب الناس ، كنصب
الناس من يكون
طبيبا لهم يعالجهم من دون أن يكون عالما بعلم الطب .
وأشار إليه المحقق
الطوسيّ ـ قدسسره ـ حيث قال : «والعصمة تقتضي النصّ وسيرته عليهالسلام» ، وقال العلّامة الحليّ ـ قدسسره ـ في شرحه : «أقول : ذهبت الإمامية خاصة إلى أنّ الإمام
يجب أن يكون منصوصا عليه ، وقالت العبّاسية : إنّ الطريق إلى تعيين الإمام ، النصّ
أو الميراث. وقالت الزيدية : تعيين الإمام بالنصّ أو الدعوة إلى نفسه. وقال باقي
المسلمين : الطريق إنّما هو النصّ أو اختيار أهل الحلّ والعقد.
والدليل على ما
ذهبنا إليه وجهان ، الأوّل : أنّا قد بيّنا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوما ،
والعصمة أمر خفي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى ؛
لأنّه العالم بالشرط دون غيره.
الثاني
: أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتّى أنّه ـ عليهالسلام ـ أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده ، كما
أرشدهم في قضاء الحاجة إلى امور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع ، وكان ـ عليهالسلام ـ إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم
بأمر المسلمين ، ومن هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمّته ، وعدم إرشادهم في أجلّ
الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا ، وأكثرها فائدة وأشدّهم حاجة إليها وهو المتولي
لامورهم بعده ، فوجب من سيرته ـ عليهالسلام ـ نصب إمام بعده والنصّ عليه وتعريفهم إيّاه وهذا برهان
لميّ .
هذا كلّه ما يقضيه
الدليل العقلي والاعتبار ، وتؤيده الأخبار والروايات منها : ما عن الرضا ـ عليهالسلام ـ في ضمن حديث «أنّ الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى
مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم ،
__________________
أو ينالوها
بآرائهم ، أو يقيموا إماما باختيارهم» الحديث .
ومنها : ما عن
الصدوق عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ يقول : «أترون الأمر إلينا نضعه حيث نشاء كلا والله ،
إنّه لعهد معهود من رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ إلى رجل فرجل حتّى ينتهي إلى صاحبه» ، وغير ذلك من الروايات.
وبالجملة فهو من
المسلّمات عند الشيعة في الإمام المعصوم ، ومن المعلوم أنّ مع التعيين والتشخيص من
جانب الله لا مورد لاختيار الناس ، ثم لا يخفى أنّ التنصيص أحد الطرق التي يعرف
الإمام بها لإمكان المعرفة بالإمامة من إقامة المعجزة مع دعوى الإمامة ، ولذا صرّح
الميرزا القمّي ـ قدسسره ـ بذلك حيث قال : إنّ الإمام إذا ادعى الإمامة ، وأقام على
طبقها المعجزة دلّ ذلك على حقّيته كما مرّ في النبوّة ، بل ظاهر الكلمات أنّ الإمام يعرف بالأفضلية في الصفات ،
فإنّ تقديم المفضول على الأفضل قبيح ، فهو طريق ثالث للمعرفة بالإمام كما صرّح به
المحقق القمّي أيضا فراجع ، والمحقق اللاهيجي في كتاب سرمايه إيمان .
الثاني
: في ثبوت النصوص
على أنّ الإمام بعد النبيّ هو عليّ بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ وتدلّ عليه الروايات الصحاح والمتواترات وذلك واضح ، وقد
أشار المصنف إلى بعض هذه الروايات وفي ما أشار إليه غنى وكفاية.
ثم إنّ المصنّف
أشار إلى أن تعيينه ـ صلىاللهعليهوآله ـ لعليّ ـ عليهالسلام ـ في عدة مواطن وهو كذلك ، بل قد كرّر بعضها في مواطن
متعددة ، وهذا التكرار يشهد على أن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ اهتم بهذا الأمر
__________________
كمال الاهتمام ولم
يهمله ، بل من أوّل الأمر وشروعه في دعوة الناس إلى التوحيد توجّه إليه وأحكم أمر
الإمامة بعده ، فنسبة الإهمال إليه ـ صلىاللهعليهوآله ـ إفك وافتراء ، وعليه فلا مجال بعد نصب النبيّ عليّا من
جانب الله تعالى للخلافة لهذه الأبحاث ، من أنّ نصب الإمام واجب على الناس؟ أم لا
يكون واجبا؟ فإذا كان واجبا ، فهل هو واجب على جميع الامّة؟ أو على بعضها؟ وعلى
الأخير هل المراد من البعض أصحاب الحلّ والعقد؟ أو المراد غيرهم ، فإنّ تلك
الأبحاث من متفرعات الإمارة والخلافة الظاهريّة دون الخلافة الالهيّة المنصوصة ،
فإنّ النصب فيه نصب إلهي كنصب النبيّ ، والمفروض هو وقوعه ، فتلك الأبحاث اجتهاد
في قبال النصّ ، ثم من المعلوم أنّ النصب الإلهي خال عن الانحراف وأبعد عن
الاختلاف فيه ، ولعلّه لذلك قال الشيخ أبو علي سينا : والاستخلاف بالنصّ أصوب ،
فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف .
ثم إنّ المصنّف لم
يشر إلى البحث السندي عن هذه الروايات ، لأنّها من المتواترات ، وقد تصدّى لإثباته
جمع من أعاظم الأصحاب كالعلّامة مير سيّد حامد حسين موسوي النيشابوريّ الهنديّ ـ قدسسره ـ في عبقات الأنوار ، وكالعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني
ـ قدسسره ـ في الغدير ، قال العلّامة الأميني حول حديث الغدير : ولا
أحسب أنّ أهل السنّة يتأخرون بكثير من الإمامية في إثبات هذا الحديث ، والبخوع
لصحته ، والركون إليه ، والتصحيح له ، والإذعان بتواتره ، اللهم إلّا شذاذ تنكبت
عن الطريقة ، وحدت بهم العصبية العمياء إلى رمي القول على عواهنه ، وهؤلاء لا
يمثّلون من جامعة العلماء إلّا أنفسهم ، فإنّ المثبتين المحققين للشأن المتولعين
في الفن لا تخالجهم أية شبهة
__________________
في اعتبار أسانيدهم
التي أنهوها متعاضدة متظافرة ، بل متواترة إلى جماهير من الصحابة والتابعين وإليك
أسماء جملة وقفنا على الطرق المنتهية إليهم على حروف الهجاء ، ثم ذكر مائة وعشرة
من أعاظم الصحابة ، وقال : هؤلاء من أعاظم الصحابة الذين وجدنا روايتهم لحديث
الغدير ولعلّ فيما ذهب علينا أكثر من ذلك بكثير ، وطبع الحال يستدعي أن تكون رواة
الحديث أضعاف المذكورين ؛ لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف أو يزيدون ،
وبقضاء الطبيعة أنّهم حدّثوا به عند مرتجعهم إلى أوطانهم شأن كلّ مسافر ينبئ عن
الأحداث الغريبة التي شاهدها في سفره ، نعم ، فعلوا ذلك إلّا شذاذا منهم صدّتهم
الضغائن عن نقله ، والمحدثون منهم وهم الأكثرون فمنهم هؤلاء المذكورون ، ومنهم من
طوت حديثه أجواز الفلى بموت السامعين في البراري والفلوات قبل أن ينهوه إلى غيرهم
، ومنهم من أرهبته الظروف والأحوال عن الإشادة بذلك الذكر الكريم.
وجملة من الحضور
كانوا من أعراب البوادي لم يتلق منهم حديث ولا انتهى إليهم الإسناد ، ومع ذلك كلّه
ففي من ذكرناه غنى لإثبات التواتر ، ثم ذكر أربعة وثمانين من التابعين ، ثم قال :
ليست الصحابة والتابعين بالعناية بحديث الغدير بدعا من علماء القرون المتتابعة بعد
قرنهم ، فإنّ الباحث يجد في كلّ قرن زرافات من الحفّاظ الأثبات ، يروون هذه
الإثارة من علم الدين ، متلقين عن سلفهم ، ويلقونها إلى الخلف ، شأن ما يتحقق
عندهم ، ويخضعون لصحته من الأحاديث ، فإليك يسيرا من أسمائهم في كلّ قرن شاهدا على
الدعوى ، ونحيل الحيطة بجميعها إلى طول باع القارئ الكريم ، والوقوف على الأسانيد
ومعرفة المشيخة.
ثم شرع من القرن
الثاني إلى القرن الرابع عشر ، وذكر وعدّ ستين وثلاثمائة من الحفّاظ والناقلين
لحديث الغدير مع أنّ جمعا من هؤلاء كانوا يروون ذلك
بطرق مختلفة ، كما
قال في هامش ص ١٤ : إن أحمد بن حنبل رواه من أربعين طريقا وابن جرير الطبريّ من
نيف وسبعين طريقا ، والجزريّ المقرئ من ثمانين طريقا وابن عقدة من مائة وخمس طرق ،
وأبو سعيد السجستانيّ من مائة وعشرين طريقا ، وأبو بكر الجعابيّ من مائة وخمس
وعشرين طريقا ، وفي تعليق هداية العقول ص ٣٠ عن الأمير محمّد اليمنيّ (أحد شعراء
الغدير في القرن الثاني عشر) أنّ له مائة وخمسين طريقا ، ثم قال العلّامة الأميني
ـ قدسسره ـ في متن الغدير : بلغ اهتمام العلماء بهذا الحديث إلى
غاية غير قريبة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة خلال الكتب ، حتّى أفرده جماعة
بالتأليف ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طريقه ،
كلّ ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ، ثم أيّد
تواتره بالمناشدة والاحتجاج ، حيث قال : لم يفتأ هذا الحديث منذ الصدر الأوّل ،
وفي القرون الأولى ، حتّى القرن الحاضر من الاصول المسلّمة ، يؤمن به القريب ،
ويرويه المناوئ ، من غير نكير في صدوره ، وكان ينقطع المجادل إذا خصمه مناظره
بإنهاء القضية إليه ، ولذلك كثر الحجاج به ، وتوفرت مناشدته بين الصحابة والتابعين
، وعلى العهد العلويّ وقبله.
ثم ذكر الاثنين
والعشرين ، من مواضع المناشدة والاحتجاج ، وبين أعلام الشهود فيها ، ثم ذكر جماعة
من علماء العامّة الذين اعترفوا بصحّة الحديث وثبوته وتواتره ، وهم الثلاثة
والأربعون ، وهذا هو المحصّل لما أفاده ـ قدسسره ـ في تحقيق سند حديث الغدير فراجع .
قال في إحقاق الحق
: وقد شهد بتواتره فطاحل الآثار وحفظة الأخبار أودعوه في كتبهم على تنوّعها ،
وأذعنوا بعد التأويلات الباردة بصراحته في
__________________
ما نقول نحن معاشر
شيعة أهل البيت ، ثم نقل ذلك عن جمع منهم فراجع .
قال في دلائل
الصدق : بل الحق أنّ هذا الحديث من المتواترات حتّى عند القوم ، فقد نقل السيد
السعيد ـ رحمهالله ـ عن الجزريّ الشافعيّ أنّه أثبت في رسالته أسنى المطالب
في مناقب عليّ بن أبي طالب تواتره من طرق كثيرة ، ونسب منكره إلى الجهل والعصبية
إلخ هذا يكفيك بالنسبة إلى سند حديث الغدير.
وأمّا سند حديث
المنزلة فهو أيضا في غاية القوّة ويكفيك فيه ما حقّقه آية الله السيد شرف الدين ـ قدسسره ـ في المراجعات حيث قال : «لم يختلج في صحّة سنده ريب حتّى
الذهبيّ ـ على تعنّته ـ صرّح في تلخيص المستدرك بصحته ، وابن حجر الهيثميّ ـ على
محاربته بصواعقه ـ ذكر الحديث في الشبهة ١٢ من الصواعق ، فنقل القول بصحته عن أئمة
الحديث الّذين لا معوّل فيه إلّا عليهم فراجع ، ولو لا أنّ الحديث بمثابة من
الثبوت ، ما أخرجه البخاري في كتابه ، فإنّ الرجل يغتصب نفسه عند خصائص عليّ
وفضائل أهل البيت اغتصابا ، ومعاوية كان إمام الفئة الباغية ، ناصب أمير المؤمنين
وحاربه ، ولعنه على منابر المسلمين ، وأمرهم بلعنه ، لكنّه ـ بالرغم من وقاحته في
عدوانه ـ لم يجحد حديث المنزلة ، ولا كابر فيه سعد بن أبي وقاص حين قال له ـ فيما
أخرجه مسلم ـ ما منعك أن تسب أبا تراب ، فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول
الله فلن أسبه ؛ لإن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله
يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى
إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ... الحديث ، فأبلس معاوية ، وكفّ عن تكليف سعد.
__________________
أزيدك على هذا
كلّه أنّ معاوية نفسه حدّث بحديث المنزلة ، قال ابن حجر في صواعقه : أخرج أحمد أنّ
رجلا سأل معاوية عن مسألة ، فقال : سل عنها عليّا فهو أعلم ، قال : جوابك فيها
أحبّ إليّ من جواب عليّ ، قال : بئس ما قلت : لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغرّه
بالعلم غرا ، ولقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي
، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه ... إلى آخر كلامه.
وبالجملة فإنّ
حديث المنزلة مما لا ريب في ثبوته بإجماع المسلمين على اختلافهم في المذاهب
والمشارب ، ثم أشار إلى جمع من كتب السير وجوامع الحديث التي نقل فيها حديث
المنزلة كالجمع بين الصحاح الستة ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن ابن ماجة ،
ومسند احمد بن حنبل ، والطبراني ، ثم قال : وكلّ من تعرّض لغزوة تبوك من المحدّثين
وأهل السير والأخبار ، نقلوا هذا الحديث ، ونقله كلّ من ترجم عليّا من أهل المعاجم
في الرجال من المتقدمين والمتأخرين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، ورواه كلّ من
كتب في مناقب أهل البيت ، وفضائل الصحابة من الأئمة ، كأحمد بن حنبل ، وغيره ممن
كان قبله أو جاء بعده ، وهو من الأحاديث المسلّمة في كلّ خلف من هذه الامّة وخصّ صاحب عبقات الأنوار جلدا ضخما بحديث المنزلة جزاه
الله عن الإسلام خيرا ، وروى في غاية المرام مائة حديث من طريق العامّة ، وسبعين
حديثا من طرق الخاصّة حول حديث المنزلة فراجع ، هذا كلّه بالنسبة إلى حديث المنزلة.
وأمّا اعتبار نصّ
الدار يوم الإنذار فيكفيك ما في المراجعات حيث قال : وحسبك منها (أي النصوص) ما
كان في مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهور
__________________
الاسلام بمكة ،
حين أنزل الله تعالى عليه (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فدعاهم إلى دار عمه ـ أبي طالب ـ وهم يومئذ أربعون رجلا
يزيدون رجلا أو ينقصونه ، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، والحديث
في ذلك من صحاح السنن المأثورة ، ثم أشار إلى من أخرج هذا الحديث في كتابه ، وكان
فيهم ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقيّ والطبريّ
والثعلبيّ ، ثم قال : وأرسله ابن الأثير إرسال المسلمات ، وصحّحه غير واحد من
أعلام المحققين كابن جرير والاسكافيّ والذهبيّ ، وصرّح في آخر كلامه بتواتره عند
الشيعة فراجع .
هذه جملة من
النصوص التي وردت لتعيين عليّ ـ عليهالسلام ـ للولاية والإمامة وبقيتها تطلب من المطوّلات كما لا
يخفى.
الثالث
: في فقه الحديث ،
ولا يخفى عليك أنّ المصنّف اكتفى بوضوح الدلالة ، ولم يبحث عنه ، ولكن الأولى هو
أن يبحث عنه بعد ورود إشكالات من ناحية بعض إخواننا العامّة ، وإن كان جوابها واضحا
ولذلك نقول : أمّا حديث الغدير : فالمراد منه هو إثبات كونه ـ عليهالسلام ـ أولى بالتصرّف من دون فرق بين كون المولى كالوليّ ظاهرا
فيه بحسب الوضع اللغويّ ، أو مشتركا لفظيّا بين المعاني ، أو مشتركا معنويا بينها
، لفهم من حضر ومن يحتجّ بقوله في اللغة من الادباء والشعراء ، فإنّه يوجب الوثوق
والاطمئنان بالمعنى المراد ، وهو كاف في كلّ مقام كما لا يخفى.
قال العلّامة
الأميني ـ قدسسره ، : وأمّا دلالته على إمامة مولانا أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ فإنّا مهما شككنا في شيء فلا نشك في أنّ لفظة المولى
سواء كانت نصّا في المعنى الذي نحاوله بالوضع اللغوي ، أو مجملة في مفادها
__________________
لاشتراكها بين
معان جمّة ، وسواء كانت عريّة عن القرائن لإثبات ما ندعيه من معنى الإمامة ، أو
محتفّة بها فإنّها في المقام لا تدلّ إلّا على ذلك لفهم من وعاه من الحضور في ذلك
المحتشد العظيم ، ومن بلغه النبأ بعد حين ممن يحتج بقوله في اللغة من غير نكير
بينهم ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الأدب حتّى عصرنا الحاضر
، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد ، وفي الطليعة من هؤلاء : مولانا أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ حيث كتب إلى معاوية في جواب كتاب له من أبيات ستسمعها ما
نصّه :
وأوجب لي ولايته
عليكم
|
|
رسول الله يوم
غدير خمّ
|
ومنهم : حسّان بن
ثابت الحاضر مشهد الغدير ، وقد استأذن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله :
فقال له : قم يا
عليّ فإنّني
|
|
رضيتك من بعدي
إماما وهاديا
|
ومن أولئك :
الصحابيّ العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ الذي يقول :
وعليّ إمامنا
وإمام
|
|
لسوانا اتى به
التنزيل
|
يوم قال النبيّ
: من كنت مولاه
|
|
فهذا مولاه خطب
جليل
|
ومن القوم : محمّد
بن عبد الله الحميريّ القائل :
تناسوا نصبه في
يوم خمّ
|
|
من البادي ومن
خير الأنام
|
ومنهم : عمرو بن
العاص الصحابيّ القائل :
وكم قد سمعنا من
المصطفي
|
|
وصايا مختصة في
عليّ
|
وفي يوم خمّ رقى
منبرا
|
|
وبلّغ والصحب لم
ترحل
|
فأمنحه إمرة
المؤمنين
|
|
من الله مستخلف
المنحل
|
وفي كفّه كفّه
معلنا
|
|
ينادي بأمر
العزيز العليّ
|
وقال : فمن كنت
مولى له
|
|
عليّ له اليوم
نعم الوليّ
|
ومن أولئك : كميت
بن زيد الأسديّ الشهيد ١٢٦ ، حيث يقول :
ويوم الدوح دوح
غدير خمّ
|
|
أبان له الولاية
لو اطيعا
|
ولكنّ الرجال
تبايعوها
|
|
فلم أر مثلها
خطرا مبيعا
|
ثم نقل عن
الحميريّ والعبديّ الكوفيّ وغيره من شعراء القرن الثاني والثالث أشعارا ، ثم قال :
وتبع هؤلاء جماعة من بواقع العلم والعربية الذي لا يعدون مواقع اللغة ، ولا يجهلون
وضع الألفاظ ، ولا يتحرّون إلّا الصحة في تراكيبهم وشعرهم ، كدعبل الخزاعيّ ،
والحمانيّ ، والأمير أبي فراس ، وعلم الهدى المرتضى ، والسيد الشريف الرضيّ ،
والحسين بن الحجّاج ، وابن الروميّ ، وكشاجم ، والصنوبريّ ، والمفجع ، والصاحب بن
عباد ، ثم ذكر عدة اخرى من الشعراء ـ إلى أن قال ـ : إلى غيرهم من اساطين الأدب
وأعلام اللغة ، ولم يزل اثرهم مقتصّا في القرون المتتابعة إلى يومنا هذا ، وليس في
وسع الباحث أن يحكم بخطإ هؤلاء جميعا ، وهم مصادره في اللغة ، ومراجع الامة في
الأدب .
وأيضا يدلّ على
هذا الفهم المذكور استشهادات الصحابة وغيرهم بهذا الحديث للخلافة ، قال في دلائل
الصدق : وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ ـ عليهالسلام ـ لمّا نوزع أيام خلافته كما مرّ ، وسيأتي. ثم قال صاحب
دلائل الصدق : أقول : وهذا صريح في دلالة الحديث على الخلافة .
هذا مضافا إلى
القرائن الداخلية والخارجية الدالة على تعيين المراد من كلمة المولى ، وهي كثيرة ،
ولا بأس بالإشارة إلى بعضها.
القرينة
الاولى : هو قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : ألست أولى بكم من
__________________
أنفسكم في صدر
الحديث ، فإنّه يدلّ على اولويّة نفسه على الناس في الامور والأنفس ، فتفريع قوله
: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» على الصدر يدلّ على أنّ المقصود هو أن يثبت
بذلك لعليّ ـ عليهالسلام ـ مثل ما كان لنفسه من ولاية التصرف والاولويّة المذكورة ،
فلو أريد من المولى غير الاولويّة ، فلا مناسبة لتصدير هذه المقدمة وتفريع قوله
عليه كما لا يخفى.
ولذا قال العلّامة
الحليّ ـ قدسسره ـ : ووجه الاستدلال به أنّ لفظة مولى تفيد الأولى ؛ لأنّ
مقدمة الحديث تدلّ عليه ، وتبعه الأعلام والفحول. قال العلّامة الأمينيّ ـ قدسسره ـ : وقد رواها (أي المقدمة المذكورة) الكثيرون من علماء
الفريقين ، وذكر أربعة وستين منهم وفيهم أحمد بن حنبل والطبريّ والذهبيّ وابن
الصبّاغ والحلبيّ وابن ماجة والترمذيّ والحاكم وابن عساكر والنسائي والكنجيّ وابن
المغازليّ والخوارزميّ والتفتازانيّ والبيضاويّ وابن الأثير والمقريزيّ والسيوطيّ
، وغيرهم من الأعلام.
ثم قال : أضف إلى
ذلك من رواها (أي المقدمة المذكورة) من علماء الشيعة الذين لا يحصى عددهم ـ إلى أن
قال ـ : ويزيدك وضوحا وبيانا ما في «التذكرة» لسبط ابن الجوزي الحنفيّ : ص ٢٠
فإنّه بعد عدّ معان عشرة للمولى ، وجعل عاشرها الأولى ، قال : والمراد من الحديث :
الطاعة المخصوصة ، فتعيّن الوجه العاشر وهو الأولى ، ومعناه : من كنت أولى به من
نفسه فعليّ أولى به ، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفيّ
الأصبهانيّ في كتابه المسمّى بمرج البحرين ، فإنّه روى هذا الحديث بإسناده إلى
مشايخه وقال فيه : فأخذ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ بيد عليّ فقال : من كنت وليّه وأولى به من نفسه فعليّ
وليّه الخ .
__________________
وأيضا نقل في
احقاق الحقّ القرينة الأولى من العلامة ابن بطريق الأسديّ الحلّي .
القرينة
الثانية : هي قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ في ذيل الحديث : هنئوني هنئوني ، إنّ الله تعالى خصّني
بالنبوّة وخصّ أهل بيتي بالإمامة ، فلقى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين فقال : طوبى
لك يا أبا الحسن ، اصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، رواه في الغدير عن شرف
المصطفى فراجع . قال العلّامة الأميني ـ قدسسره ـ : فصريح العبارة هو الإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين
سيدهم والمقدّم فيهم هو أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ وكان هو المراد في الوقت الحاضر ، ثم نفس التهنئة
والبيعة والمصافحة والاحتفال بها واتصالها ثلاثة أيام ، كما مرّت هذه كلّها ص ٢٦٩
ـ ٢٨٣ (وقد نقل في هذه الصفحات قصة تهنئة الشيخين عن الستين من أعاظم علماء أهل
السنّة) لا تلائم غير معنى الخلافة والاولويّة ، ولذلك ترى الشيخين أبا بكر وعمر
لقيا أمير المؤمنين فهنئاه بالولاية .
القرينة
الثالثة : هي التعبير عن يوم
الغدير بيوم نصب عليّ علما وإماما ، كما روي في مودة القربى على ما حكاه في كتاب
الغدير عن عمر بن الخطاب أنّه قال : نصّب رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ عليّا علما ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه الحديث وروى فرائد السمطين ، عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب
وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار ، أنّهم قالوا : نشهد لقد حفظنا قول رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وهو قائم على المنبر : «وأنت (والخطاب لعلي عليهالسلام) إلى جنبه وهو يقول : أيّها الناس ، إن الله عزوجل أمر أن انصبّ
__________________
لكم إمامكم ،
والقائم فيكم بعدي ، ووصيي وخليفتي» الحديث . هذا صريح في أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتصرف لا
سائر المعاني.
القرينة
الرابعة : الأخبار المفسّرة
منها : ما رواه في الغدير عن طريق العامّة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه لمّا سئل عن معنى قوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه
، قال : الله مولاي أولى بي من نفسي ، لا أمر لي معه وأنا مولى المؤمنين أولى بهم
من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي ، فعليّ
مولاه أولى به من نفسه ، لا أمر له معه .
ومنها : ما رواه
شيخ الإسلام الحمويني في حديث احتجاج أمير المؤمنين أيام عثمان قوله ـ عليهالسلام ـ : ثم خطب رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقال : أيّها الناس أتعلمون أنّ الله عزوجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟
قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : قم يا علي فقمت ، فقال : من كنت مولاه فعليّ
مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. فقام سلمان فقال : يا رسول الله ولاء
كما ذا؟ قال ولاء كولاي ، من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه ، وغير ذلك من الأخبار.
القرينة
الخامسة : وهي كما في دلائل
الصدق أنّه ـ صلىاللهعليهوآله ـ بيّن قرب موته كما في رواية الحاكم ورواية الصواعق
وغيرهما ، حيث قال فيه : «أيّها الناس إنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر
نبيّ إلّا نصف عمر النبي الذي يليه من قبله وإنّي لأظن أنّي يوشك أن ادعى فاجيب
وإني مسئول وإنكم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنّك بلّغت وجهدت
ونصحت ، فجزاك الله خيرا» الحديث وهو مقتض للعهد بالخلافة ومناسب له ، فلا بدّ من
__________________
حمل قوله : «من
كنت مولاه فعليّ مولاه» على العهد لأمير المؤمنين بالخلافة لا على بيان الحبّ
والنصرة ، ولا سيّما مع قوله في رواية الحاكم : «إنّي تركت» إلى آخره الدالّ على
الحاجة إلى عترته وكفايتهم مع الكتاب في ما تحتاج إليه الامة ، وقوله في رواية
الصواعق : «إنّي سائلكم عنهما» وقوله : «لن يفترقا» بعد أمره بالتمسك بالكتاب ،
فإنّ هذا يقتضي وجوب التمسك بهم واتباعهم ، فيسأل عنهم وذلك لا يناسب إلّا الإمامة
.
القرينة
السادسة : هي كما في دلائل
الصدق قرائن الحال الدالة على أنّ ما أراد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ بيانه هو أهم الامور وأعظمها كأمره بالصلاة جامعة في
السفر بالمنزل الوعر بحرّ الحجاز وقت الظهيرة مع إقامة منبر من الاحداج له ،
وقيامه خطيبا بين جماهير المسلمين ، الذين يبلغ عددهم مائة ألف أو يزيدون ، فلا
بدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ بيان إمامة أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ التي يلزم إيضاح حالها والاهتمام بشأنها وإعلام كلّ مسلم
بها ، لا مجرد بيان أن عليّا محبّ لمن أحببته ، وناصر لمن نصرته ، وهو لا أمر ولا
إمرة له ، وعلى هذا فبالنظر إلى خصوص كلّ واحدة من تلك القرائن الحالية والمقالية
، فضلا عن مجموعها ، لا ينبغي أن يشكّ ذو ادراك في إرادة النصّ على عليّ ـ عليهالسلام ـ بالإمامة ، وإلّا فكيف تستفاد المعاني من الألفاظ ، وكيف
يدلّ الكتاب العزيز أو غيره على معنى من المعاني ، وهل يمكن أن لا تراد الإمامة
وقد طلب أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ من الصحابة بمجمع الناس بيان الحديث ، ودعا على من كتمه
؛ إذ لو اريد به مجرد الحبّ والنصرة لما كان محلا لهذا الاهتمام ، ولا كان مقتض
لأن يبقى في أبي الطفيل منه شيء وهو أمر ظاهر ليس به عظيم فضل ، حتّى قال له زيد
بن أرقم : ما
__________________
تنكر قد سمعت رسول
الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يقول ذلك له كما سبق .
ولا كان مستوجبا
لتهنئة أبي بكر وعمر ، لأمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ بقولهما «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» فإنّ التهنئة
لأمير المؤمنين الذي لم يزل محلا لذكر رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالفضائل العظيمة والخصائص الجليلة ، إنّما تصحّ على أمر
حادث تقصر عنه سائر الفضائل ، وتتقاصر له نفوس الأفاضل ، وتتشوق إليه القلوب ،
وتتسوف له العيون ، فهل يمكن أن يكون هو غير الإمامة من النصرة ونحوها ممّا هو
أيسر فضائله وأظهرها وأقدمها ، ولكن كما قال الغزالي في سر العالمين : «ثم بعد ذلك
غاب الهوى وحبّ الرئاسة وعقود البنود وخفقان الرايات وازدحام الخيول وفتح الأمصار
والأمر والنهي ، فحملهم على الخلاف ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا
، فبئس ما يشترون» وقد ذكر جماعة من القوم أنّ سرّ العالمين للغزالي كالذهبي في
ميزان الاعتدال بترجمة الحسن بن الصباح الاسماعيلي هذا .
وإلى غير ذلك من
القرائن الكثيرة المذكورة في المطولات.
هذا مضافا إلى فهم
أهل البيت الذين كانوا مصونين عن الخطأ والاشتباه بنصّ الرسول الأعظم ـ صلىاللهعليهوآله ـ ولذا أعظموا يوم الغدير ، وأوصوا وأكدوا بتعظيمه ، وجعله
عيدا ؛ لكونه يوم نصب عليّ عليهالسلام ـ للإمامة والخلافة
__________________
بحيث صار مفاد
الحديث عند الشيعة قطعيّا ويقينيّا كما لا يخفى. فالحديث مع ما قد خفّ به من
القرائن نصّ جليّ على خلافة عليّ ـ عليهالسلام ـ وعلى وجوب الاتباع له ، كوجوب الاتباع عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ هذا كلّه بالنسبة إلى حديث الغدير وبقية الكلام تطلب من
دلائل الصدق والغدير والمراجعات وغير ذلك.
وأمّا الكلام في
حديث المنزلة فوجه الاستدلال به كما في العقائد الحقّة أنّ المستفاد من هذا الخبر
ثبوت جميع منازل هارون من موسى ، واستثنى منزلة النبوّة ، ومن جملة المنازل
الخلافة بعده .
بل يمكن أن يستفاد
من حديث المنزلة خلافته وإمامته من زمان حياة الرسول الأعظم ـ صلىاللهعليهوآله ـ.
قال في دلائل
الصدق ونعم ما قال : لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم ، فتثبت لعليّ ـ عليهالسلام ـ جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوّة ، ومن
منازل هارون الإمامة ؛ لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) هو الأعمّ من النبوّة التي هي التبليغ عن الله تعالى ومن
الإمامة ، التي هي الرئاسة العامّة ، فإنّهما أمران مختلفان ، إلى أن قال ـ :
ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية الأخبار السابقة المتعلّقة بآخر
الآيات ، التي ذكرناها في الخاتمة المصرّحة تلك الأخبار بأنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ دعا فقال : «اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى ، أن
تشرح لي صدري ، وأن تيسر لي أمري ، وتحلّ عقدة من لساني يفقهوا قولي ، واجعل لي
وزيرا من أهلي ، عليّا أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري» فإنّ المراد هنا
بالاشراك في أمره هو الإشراك بالإمامة لا الإشراك بالنبوّة كما هو ظاهر ، ولا
المعاونة على تنفيذ
__________________
ما بعث فيه ؛
لأنّه قد دعا له أولا بأن يكون وزيرا له.
وبالجملة معنى
الآية أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوّة والإمامة ؛ ولذا نقول : إنّ خلافة
هارون لموسى لمّا ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ، ممن لا حكم ولا رئاسة له
ذاتا ، بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ؛ ولذا لا يتصرف بحضوره فكذا عليّ بحكم الحديث
لدلالته على أنّ له جميع منازل هارون ، التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوّة
، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ـ إلى أن قال ـ : فلا بدّ أن تستمر إمامته
إلى ما بعد وفاته ولا سيّما أنّ النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أيضا ، ولذا قال : إلّا أنه لا نبيّ بعدي. ولو تنزّلنا
عن ذلك فلا إشكال بأنّ من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده ؛ لأنّ
الشريك أولى الناس بخلافة شريكه ، فكذا يكون عليّ ـ عليهالسلام ـ إلى أن قال ـ : وقد علم على جميع الوجوه أنّه لا ينافي
الاستدلال بالحديث على المدعى موت هارون قبل موسى ، كما علم بطلان أن يكون المراد
مجرد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصّة ، فإنّ خصوص المورد لا يخصص العموم
الوارد ، ولا سيّما أن الاستخلاف بالمدينة ليس مختصا بأمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ لاستخلاف النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ غيره بها في باقي الغزوات ، ومقتضى الحديث أن استخلاف
منزلة خاصّة به كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلّا النبوّة. فلا بدّ أن
يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة له العامّة له إلى ما بعد النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ إلى أن قال ـ : ويدلّ على عدم إرادة ذلك الاستخلاف
الخاصّ (أيّ في غزوة تبوك) بخصوصه ورود الحديث في موارد لا دخل لها به. (فمنها) :
ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ علّل تحليل المسجد لعليّ جنبا بأنّه منه بمنزلة هارون من
موسى. (ومنها) : ما رواه في كنز العمال عن أمّ سليم أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال لها : يا أمّ سليم ، إنّ
عليّا لحمه من
لحمي ودمه من دمي وهو منّي بمنزلة هارون من موسى. (ومنها) : ما رواه في الكنز أيضا
عن ابن عباس أنّ عمر قال : «كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يقول في عليّ ثلاث خصال لان يكون لي واحدة منهن أحبّ
إليّ مما طلعت عليه الشمس : كنت وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول الله
والنبيّ متكئ على عليّ حتّى ضرب على منكبه ، ثم قال : انت يا عليّ أوّل المؤمنين
ايمانا وأولهم اسلاما ، ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب من زعم
أنّه يحبني ويبغضك» ـ إلى أن قال ـ : إلى غيرها من الموارد الكثيرة .
ثم إنّ الأحاديث
المذكورة شطر من الأحاديث الكثيرة الدالة على إمامة عليّ وأولاده ـ عليهمالسلام ـ فعليك بالكتب الكلامية ، وجوامع الحديث ، والسّير ،
والتفاسير.
الرابع
: في الآيات وهي
كثيرة وقد اشير إليها في الكتب التفسيريّة والكلاميّة والمصنّف ـ قدسسره ـ اكتفى بآية واحدة ، وهي آية الولاية ، وهي من الآيات الباهرات
، وتقريب تلك الآية على ما في العقائد الحقّة وغيرها : أنّ وجه الاستدلال أنّ لفظة
إنّما للحصر لاتفاق أهل العربية عليه ، والوليّ وإنّ ذكر له معان ، لكن لا يناسب
مع الحصر المذكور معنى غير الأولى بالتصرّف ، كقولهم : السلطان وليّ من لا وليّ له
ووليّ الدم ووليّ الميّت وقوله : أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ،
وقد ذكر المفسرون أنّ المراد بهذه الآية الشريفة علي بن أبي طالب ـ صلوات الله
عليه ـ لأنّه لمّا تصدّق بخاتمه حال ركوعه نزلت هذه الآية .
قال العلّامة
الحليّ ـ قدسسره ـ : أجمعوا على نزولها في عليّ ـ عليهالسلام ـ
__________________
وهو مذكور في
الصحاح الستة لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة ، والوليّ
هو المتصرف ، وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته ، وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين
وولاية الله عامّة فكذا النبيّ والوليّ فالمحصور فيه الولاية معلوم للصحابة على ما تشهد له
الأخبار الواردة في الصحاح وهو عليّ عليهالسلام.
وقال الاستاذ
الشهيد آية الله المطهريّ ـ قدسسره ـ : لم يرد في الشرع أمر بأداء الزكاة في حال الركوع حتّى
يكون ذلك قانونا كليا وله أفراد ، فالآية إشارة إلى قضية خارجية لم تقع إلّا مرّة
واحدة ، والشيعة وأهل التسنن اتفقوا على أنّ هذه القضية هي التي وقعت من عليّ ـ عليهالسلام ـ حال ركوعه في الصلاة ، فالآية نزلت في حقّه ، وعليه
فالآية لا تدلّ إلّا على ولاية عليّ عليهالسلام .
وبالجملة فالحصر
في المقام يدلّ على أنّ المراد من الولاية هو الأولى بالتصرف لا غير ، وإلّا فلا
يصحّ الحصر إذ المحبّة والنصرة لا اختصاص لهما بقوم دون قوم ، هذا مضافا إلى وحدة
السياق فإنّ المراد من الوليّ في الله تعالى ورسوله الأعظم هو الأولى بالتصرف ،
وهكذا في الذين آمنوا ... الآية ، كما أنّ خارجية القضية تشهد بكون المراد منها هو
ما وقعت من عليّ ـ عليهالسلام ـ بمحضر الصحابة ، وهذا التقريب أسدّ وأخصر ممّا في دلائل
الصدق حيث قال : لا يبعد أنّ الوليّ مشترك معنى موضوع للقائم بالأمر أي الذي له
سلطان على المولى عليه ولو في الجملة ، فيكون مشتقا من الولاية بمعنى السلطان ،
ومنه وليّ المرأة والصبي والرعية أي القائم بأمورهم ، وله سلطان عليهم في الجملة ،
ومنه أيضا الوليّ بمعنى الصديق والمحبّ فإنّ للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على
__________________
صديقه وقياما
باموره ، وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار
بالنسبة إلى جاره ، إلى غير ذلك ، فحينئذ يكون معنى الآية : إنّما القائم باموركم
هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شك أنّ ولاية الله تعالى عامّة في ذاتها مع
أنّ الآية مطلقة ، فتفيد العموم بقرينة الحكمة ، فكذا ولاية النبيّ والوصيّ فيكون
عليّ ـ عليهالسلام ـ هو القائم بامور المؤمنين ، والسلطان عليهم ، والإمام
لهم.
ولو سلّم تعدد
المعاني واشتراك الوليّ بينها لفظا فلا ريب أنّ المناسب لا نزال الله الآية في
مقام التصدق أن يكون المراد بالوليّ هو القائم بالامور لا الناصر ، إذ أي عاقل
يتصور أنّ إسراع الله سبحانه بذكر فضيلة التصدّق واهتمامه في بيانها بهذا البيان
العجيب لا يفيد إلّا مجرد بيان أمر ضروري ، وهو نصرة علي ـ عليهالسلام ـ للمؤمنين.
ولو سلّم أنّ
المراد الناصر فحصر الناصر بالله ورسوله وعليّ لا يصحّ إلّا بلحاظ إحدى جهتين : (الاولى)
: أنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرّف بامورهم ، وحينئذ يرجع إلى
المعنى المطلوب.
(الثانية) أن تكون
نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتمّ المطلوب أيضا ؛ إذ
من لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، ولا سيّما قد حكم الله عزوجل بأنّها في قرن نصرته ونصرة رسوله.
وبالجملة قد دلّت
الآية الكريمة على انحصار الولاية بأيّ معنى فسّرت بالله ورسوله وأمير المؤمنين ،
وأنّ ولايتهم من سنخ واحد ، فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ ممتازا على الناس جميعا بما لا يحيط به وصف الواصفين ،
فلا يليق إلّا أن يكون إماما لهم ونائبا من الله تعالى عليهم جميعا.
ويشهد لإرادة
الإمامة من هذه الآية ، الآية التي قبلها الداخلة معها في خطاب واحد ، وهى قوله
تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ
يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا
يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ» الآية ، فإنّها ظاهرة في أنّ من يأتي بهم الله ، تعالى من
أهل الولاية على الناس ، والقيام بامورهم ؛ لأن معناها يا أيّها الذين آمنوا من
يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مخصوصين معه بالمحبة بينه وبينهم ، أذلّة
على المؤمنين ، أي متواضعين لهم تواضع ولاة عليهم ؛ للتعبير ب «على» التي تفيد
العلوّ والارتفاع ، أعزّة على الكافرين أي ظاهري العزّة عليهم والعظمة عندهم ، ومن
شأنهم الجهاد في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم ، ومن المعلوم أنّ هذه الأوصاف
إنّما تناسب ذا الولاية والحكم والإمامة ، فيكون تعقبها بقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) الآية دليلا على أنّ المراد بوليّ المؤمنين إمامهم القائم
بامورهم للارتباط بين الآيتين .
وهنا تقريب آخر
مذكور في كتاب الإمامة والولاية حيث قال : إنّ هذا الخطاب الإلهي يتوجه إلى الامة
الإسلامية ليحدّد لها أولياءها بالخصوص ، وأنّ من الواضح جدا هنا أن المولى غير
المولى عليه فالذين آمنوا ـ في تعبير الآية ـ هم غير المخاطبين المولّى عليهم ،
وسياق هذه الآية ليس كسياق الآية الشريفة (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)
لأنّ الآية في مقام بيان الأولياء من الله تعالى والرسول الأعظم والذين آمنوا ،
وهو أمر لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.
وعليه ف (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) هم أفراد معيّنون ، لهم شأن وامتياز عن الآخرين ، وذلك
إمّا لأنّ هذه الصفات المذكورة تتجلّى بكلّ واقعها فيهم أو لأنّهم سبقوا غيرهم
إليها ، كما أنّ من
__________________
الواضح أيضا أنّ حقيقة
هذه العلاقة المعبّر عنها بالولاية ، بين الله ورسوله وهؤلاء الذين آمنوا ، وبين
أفراد الامة الإسلامية ليست كالرابطة المتقابلة بين فردين أو جماعتين من الامة أي
رابطة الحبّ والتعاون والتناصر ، وإنما هي علاقة خاصّة يكون أحد الطرفين فيها
مؤثّرا في الآخر دون العكس ، وليست هي إلّا الأولوية في التصرف ، وإن اختلفت
بالنسبة إلى الله تعالى وإلى غيره أصالة وتبعا وشدّة وضعفا ، فولاية الله تعالى هي
الأصيلة في حين أنّ ولاية الرسول ومن يتلوه هي ولاية مستمدّة من ولاية الله تعالى.
إذا لاحظنا هذا
الذي قلناه وأدركنا الربط بين الحكم الوارد في هذه الآية ومدى تناسبه مع موضوعه ،
وركّزنا على جعل ولاية الذين آمنوا ـ هؤلاء ـ في سياق ولاية الله تعالى ورسوله
عرفنا بدقّة أنّ المراد منهم أولو الأمر الذين افترض الله طاعتهم على المؤمنين ،
وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ـ إلى أن قال ـ : وقد جاءت الولاية المعطاة لهؤلاء
مطلقة في الآية بلا أي تقييد بجانب معيّن من الجوانب ؛ ولذا فيلتزم بهذا الإطلاق
إلّا ما خرج بالدليل القطعيّ ، وهو الاستقلال بالولاية التكوينيّة والتشريعيّة ،
فولايتهم على أيّ حال تبعية متفرعة على ولاية الله تعالى الأصيلة المستقلة .
وبالجملة مقتضى
مغايرة المضاف مع المضاف إليه في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) أنّ المراد من الوليّ هو الأولى بالتصرّف وإلّا فلا مغايرة
بعد كون النصرة أو المحبّة لا تختص بقوم دون قوم ؛ لأنّ كلّ مؤمن بالنسبة إلى آخر
يكون كذلك ، مع أنّ سياق الآية لا يكون في مقام بيان كون المؤمنين بعضهم محبّا أو
ناصرا للبعض ؛ إذ الآية في مقام بيان تعيين الأولياء من طرف واحد ، وهم : الله
والرسول والذين آمنوا.
__________________
وكيف كان فالآية
من آيات الولاية والإمامة ، ويؤيدها الأخبار الكثيرة ، منها : ما عن الثعلبيّ عن
أبي ذر الغفاري قال : أما إني صليت مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يوما من الأيام الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه
أحد شيئا ، فرفع السائل يديه إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد نبيّك
محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ فلم يعطني أحد شيئا ، وكان عليّ ـ رضياللهعنه ـ في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وفيه خاتم
فاقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بمرأى من النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ وهو في المسجد ، فرفع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ طرفه إلى السماء وقال : «اللهم إنّ أخي موسى سألك ، فقال
(رَبِّ اشْرَحْ لِي
صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا
قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)» فانزلت عليه قرآنا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) اللهم وإنّي محمّد نبيّك وصفيّك اللهم واشرح لي صدري ويسر
لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري. قال أبو ذر ـ رضياللهعنه ـ فما استتم دعاءه حتّى نزل جبرئيل ـ عليهالسلام ـ من عند الله عزوجل قال يا محمّد اقرأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) .
ومنها : ما رواه
الكلينيّ ـ قدسسره ـ عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : أمر الله عزوجل رسوله بولاية عليّ وأنزل عليه (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ). الحديث .
ومنها : ما رواه
ابن بابويه عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ في قول الله عزوجل :
__________________
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال : «ان رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام
وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا فأتوا النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقالوا : يا نبيّ الله ، إنّ موسى ـ عليهالسلام ـ أوصى إلى يوشع بن نون فمن وصيّك يا رسول الله؟ ومن ولينا
بعدك؟ فنزلت هذه الآية : إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : قوموا ، فقاموا وأتوا المسجد ، فإذا سائل خارج ، فقال
يا سائل ما أعطاك أحد شيئا؟ قال : نعم هذا الخاتم قال : من أعطاكه قال : أعطانيه
ذلك الرجل الذي يصلي ، قال : على أي حال أعطاك؟ قال : كان راكعا ، فكبّر النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ وكبّر أهل المسجد ، فقال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : عليّ وليّكم بعدي. قالوا رضينا بالله ربّا وبالإسلام
دينا وبمحمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ نبيّا وبعليّ بن أبي طالب وليّا ـ فأنزل الله عزوجل : (وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) وبقية الكلام تطلب من المطولات.
وأمّا مفاد نصّ
الدار فهو واضح ، ولا كلام فيه ، ويستفاد منه أنّ الدعوة إلى الإمامة مقرونة مع
دعوى الرسالة ، وهو حاك عن أهمّية الإمامة ، كما أنّه يحكي عن عظمة عليّ ـ عليهالسلام ـ مع كونه عند ذلك في حوالي عشر سنوات ، حيث قام بإجابة
دعوة الرسول والإيمان به ونصرته مع مخالفة كبراء عشيرة النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ لدعوته.
__________________
٨
ـ عقيدتنا في عدد الأئمة
ونعتقد أنّ الأئمة ـ الذين لهم صفة الإمامة
الحقّة ، هم مرجعنا في الأحكام الشرعيّة المنصوص عليهم بالأدلة ـ اثنا عشر إماما
نصّ عليهم النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ جميعا بأسمائهم ، ثم نصّ المتقدّم منهم
على من بعده على النحو الآتي :
١ ـ أبو الحسن علي بن أبي طالب (المرتضى)
المتولد سنة ٢٣ قبل الهجرة والمقتول سنة ٤٠ بعدها.
٢ ـ أبو محمّد الحسن بن علي «الزكي» (٢
ـ ٥٠)
٣ ـ أبو عبد الله الحسين بن علي «سيّد
الشهداء» (٣ ـ ٦١)
٤ ـ أبو محمّد علي بن الحسين «زين
العابدين» (٣٨ ـ ٩٥)
٥ ـ أبو جعفر محمّد بن علي «الباقر» (٥٧
ـ ١١٤)
٦ ـ أبو عبد الله جعفر بن محمّد «الصادق» (٨٣ ـ ١٤٨)
٧ ـ أبو إبراهيم موسى بن جعفر «الكاظم» (١٢٨ ـ ١٨٢)
٨ ـ أبو الحسن علي بن موسى «الرضا» (١٤٨
ـ ٢٠٣)
٩ ـ أبو جعفر محمّد بن علي «الجواد» (١٩٥
ـ ٢٢٠)
١٠ ـ أبو الحسن علي بن محمّد «الهادي» (٢١٢
ـ ٢٥٤)
١١ ـ أبو محمّد الحسن بن علي «العسكري» (٢٣٢
ـ ٢٦٠)
١٢ ـ أبو القاسم بن الحسن «المهدي» (٢٥٦
ـ ٠٠٠)
وهو الحجّة في عصرنا الغائب المنتظر
عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه ، ليملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا (١).
______________________________________________________
(١) يكفيك جوامع
الحديث منها : الاصول من الكافي ، وبحار الأنوار ، وإثبات الهداة ، وغاية المرام ،
وقد أوردوا فيها النصوص التي وردت من طرق الشيعة والعامة لتعيين الائمة الطاهرين ـ
عليهمالسلام ـ وهذه الروايات كثيرة ومتواترة جدا.
قال الشيخ الحرّ
العامليّ ـ قدسسره ـ في إثبات الهداة : إذا عرفت هذا ظهر لك تواتر النصوص
والمعجزات الآتية إن شاء الله تعالى ، بل تجاوزها حدّ التواتر بمراتب ، فإنّها
أكثر بكثير من كلّ ما اتفقوا على تواتره لفظا أو معنى ، مثل وجوب الصلاة والزكاة ،
وتحريم الخمر ، وأخبار المعاد ، وكرم حاتم ، وغزاة بدر وأحد وحنين ، وخبر الخضر
وموسى ، وذي القرنين ، وأمثال ذلك ، وكثرة النقلة ـ من الشيعة وغيرهم بحيث لا يحصى
لهم عدد ـ ظاهر واجتماع الشرائط المذكورة واضح ، لا ريب فيه ، ومن خلا ذهنه من
شبهة أو تقليد حصل له العلم من هذه الأخبار بحيث لا يحتمل النقيض عنده أصلا ، ولو
أنصف العامّة لعلموا أنّ نصوص أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ ومعجزاتهم أوضح تواترا من نصوص النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ ومعجزاته ، ولو أنصف اليهود والنصارى وأمثالهم لعلموا أن
تواتر نصوص نبينا وأئمتنا ـ عليهمالسلام ـ ومعجزاتهم أوضح وأقوى من تواتر نصوص أنبيائهم ومعجزاتهم
، كما أشرنا إليه سابقا .
__________________
ثم إنّ الشيخ
الحرّ العامليّ مع أنّه جمع النصوص في سبعة أجلاد ضخمة قال : وقد تركت أحاديث
كثيرة ـ من الكتب التي رأيتها وطالعتها ، لضعف دلالتها ، واحتياجها إلى بعض
التوجيهات ، وضمّ بعض المقدمات ـ لعدم الاحتياج إلى ذلك القسم ، ومن جملته أحاديث
تفضيل أمير المؤمنين وسائر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ فإنّها أكثر من أن تحصى ، وما لم أنقله منه ربّما كان
أكثر مما نقلته ، ولكن لكثرة النصوص والمعجزات اكتفيت بما ذكرته ، ومن شكّ أو شكّك
أو تعصّب بعد الاطلاع على ما جمعته ، فالله تعالى حاكم بيننا وبينه ، فإنّه قد
تجاوز حدّ التواتر اللفظيّ والمعنويّ ، ولا يوجد في شيء من المتواترات اللفظيّة
والمعنويّة ما يماثله ولا يقاربه ، وناهيك بنقل جميع الخصوم له وعدم خلوّ شيء من
مؤلفات الفريقين منه إلّا النادر ، والله ولي التوفيق .
ولذا قال الخواجه
نصير الدين الطوسيّ ـ قدسسره ـ بعد إثبات إمامة عليّ ـ عليهالسلام ـ : والنقل المتواتر دلّ على الأحد عشر.
وكيف كان
فالروايات على أصناف وطوائف ، منها : ما يدلّ على أنّ الأئمة اثنا عشر من قريش وقد
مرّت الإشارة إليها.
ومنها : ما يدلّ
على أنّهم كانوا معيّنين عند الرسول الأعظم ـ عليه الصلوات والسّلام ـ ، كقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أخبرني جبرئيل بأسمائهم وأسماء آبائهم» .
ومنها : ما يدلّ
على ذكر بعض خصوصياتهم كقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت ميتني ويدخل الجنة التي
وعدنيها ربّي ، ويتمسّك بقضيب غرسه ربّي بيده ، فليتول علي بن أبي طالب وأوصياءه
من بعده ، فإنّهم لا يدخلونكم في باب ضلال ، ولا يخرجونكم من باب هدى ، ولا
__________________
تعلموهم فإنّهم
أعلم منكم» الحديث .
وكقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدي
أئمة على الناس من الله من أهل بيتي ، يقومون في الناس فيكذبون ، ويظلمهم أئمة
الكفر والضلال وأشياعهم» الحديث .
وكقول عليّ ـ عليهالسلام ـ : «إنّ ليلة القدر في كلّ سنة وأنّه ينزل في تلك الليلة
أمر السنة ، وإنّ لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله ، فقيل من هم؟ فقال : أنا وأحد
عشر من صلبي أئمة محدّثون» .
وكقول أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ : «نحن اثنا عشر إماما منهم حسن وحسين ثم الأئمة من ولد
الحسين عليهالسلام» .
وكقول رسول الله ـ
صلىاللهعليهوآله ـ : «من بعدي اثنا عشر نقيبا نجيبا محدّثون مفهّمون آخرهم
القائم بالحقّ يملأها كما ملئت جورا» وهكذا زادت الروايات بيانا من جهة الأسماء
والصفات وسائر الخصوصيات ، حتّى لا يبقى مجال للترديد والتشكيك فكلّ واحد من
الأئمة الاثني عشر ، منصوص من قبل الإمام السابق ، حتّى ينتهي إلى تنصيص الرسول ـ صلىاللهعليهوآله ـ وتنصيصه ينتهي إلى تنصيص الله سبحانه وتعالى.
قال الشارح
العلّامة ـ قدسسره ـ عند تبيين إمامة الأئمة الأحد عشر : «واستدلّ على ذلك
بوجوه ثلاثة ، الوجه الأوّل : النقل المتواتر من الشيعة خلفا عن سلف ، فإنّه يدلّ
على إمامة كلّ واحد من هؤلاء بالتنصيص ، وقد نقل المخالفون ذلك من طرق متعددة تارة
على الإجمال ، واخرى على التفصيل ، كما روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ متواترا أنّه قال للحسين
__________________
ـ عليهالسلام ـ : هذا ابني إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو ائمّة تسعة
تاسعهم قائمهم ، وغير ذلك من الأخبار ، وروي عن مسروق ، وقال : بينا نحن عند عبد
الله بن مسعود ، إذ قال له شابّ : هل عهد إليكم نبيّكم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كم يكون من بعده خليفة؟ قال : إنّك لحديث السنّ وأن هذا
شيء ما سألني أحد عنه ، نعم عهد إلينا نبيّنا ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل.
الوجه الثاني : قد
بيّنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير هؤلاء ليسوا معصومين إجماعا فتعيّنت
العصمة لهم ، وإلّا لزم خلوّ الزمان عن المعصوم ، وقد بيّنا استحالته.
الوجه الثالث :
أنّ الكمالات النفسانيّة والبدنيّة بأجمعها موجودة في كلّ واحد منهم ، وكلّ واحد
منهم كما هو كامل في نفسه ، كذا هو مكمّل لغيره وذلك يدلّ على استحقاقه الرئاسة
العامّة ؛ لأنّه أفضل من كلّ أحد في زمانه ، ويقبح عقلا المفضول على الفاضل ، فيجب
أن يكون كلّ واحد منهم إماما ، وهذا برهان لمّي.
هذا كلّه مضافا
إلى دعوى الإمامة عن كلّ واحد من الأئمة الاثني عشر ، وظهور المعجزة في أيديهم ،
وقد تواترت معجزاتهم عند خواصّهم وشيعتهم كما هي مسطورة في كتب الآثار عن الأئمة
الأطهار ، وهي شاهدة على صدقهم في دعواهم ، ولذا تسلّم الإماميّة لإمامتهم ،
وأجمعوا عليها جيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، كما هو واضح.
ثم إنّك بعد ما
عرفت من قطعيّة أنّ الأئمة هم الاثنا عشر لا أقلّ ولا أكثر ، نعلم بطلان دعوى
الإمامة عن غيرهم ، كما نعلم بعد قطعيّة الخاتميّة ، بطلان
__________________
دعوى النبوّة بعد
نبوّة نبينا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ ولا حاجة بعد بطلانها إلى الفحص والتحرّي حول مدّعي من
ادعى الإمامة ، كما لا حاجة إلى الفحص والتحرّي حول مدّعي النبوّة بعد العلم
ببطلان دعواها كما لا يخفى.
٩
ـ عقيدتنا في المهديّ «ع»
إنّ البشارة بظهور المهديّ من ولد فاطمة
في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ثابتة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله
ـ بالتواتر ، وسجّلها المسلمون جميعا فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم
، وليست هي بالفكرة المستحدثة عند (الشيعة) دفع إليها انتشار الظلم والجور ،
فحلموا بظهور من يطهّر الأرض من رجس الظلم ، كما يريد أن يصوّرها بعض المغالطين
غير المنصفين.
ولو لا ثبوت (فكرة المهدي) عن النبيّ
على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكن مدّعو
المهديّة في القرون الأولى كالكيسانيّة والعبّاسيين ، وجملة من العلويّين وغيرهم
من خدعة الناس ، واستغلال هذه العقيدة فيهم ، طلبا للملك والسلطان ، فجعلوا
ادعاءهم المهديّة الكاذبة طريقا للتأثير على العامّة وبسط نفوذهم عليهم.
ونحن مع إيماننا بصحّة الدين الإسلامي ،
وأنّه خاتمة الأديان الإلهية ، ولا نترقب دينا آخر لإصلاح البشر ، ومع ما نشاهد من
انتشار
الظلم واستشراء
الفساد في العالم على وجه ، لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة ،
ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع
الممالك الإسلامية ، وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام ، ونحن مع كلّ
ذلك لا بدّ أن ننتظر الفرج بعودة الدين الإسلامي إلى قوّته وتمكينه من إصلاح هذا
العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.
ثم لا يمكن أن يعود الإسلام إلى قوّته
وسيطرته على البشر عامّة ، وهو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في
قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه ، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع
والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادعاءاتهم.
نعم لا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته
إلّا إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم يجمع الكلمة ، ويردّ عن الدين تحريف المبطلين ،
ويبطل ما الصق به من البدع والضلالات بعناية ربّانيّة وبلطف إلهي ، ليجعل منه شخصا
هاديا مهديّا ، له هذه المنزلة العظمى والرئاسة العامّة والقدرة الخارقة ، ليملأ
الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. والخلاصة أنّ طبيعة الوضع الفاسد في
البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم مع الإيمان بصحة هذا الدين وأنّه الخاتمة
للأديان يقتضي انتظار هذا المصلح «المهديّ (ع)» ، لإنقاذ العالم ممّا هو فيه.
ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع
الفرق المسلمة ، بل الامم من غير المسلمين غير أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو
أنّ الإمامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخص معيّن معروف ولد سنة ٢٥٦ هجرية
ولا
يزال حيّا هو ابن
الحسن العسكري واسمه (م ح م د).
وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من
الوعد به وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.
ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتحول في عصر
من العصور وإن كان الإمام مخفيّا ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى الذي هو
من الأسرار الإلهية التي لا يعلم بها إلّا هو تعالى.
ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه
المدة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له ، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماما
للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى ولا هي بأعظم من معجزة
عيسى إذ كلّم الناس في المهد صبيّا وبعث في الناس نبيا.
وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي ، أو
الذي يتخيل أنه العمر الطبيعي ، لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها ، غير أنّ الطبّ
بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعمير حياة الإنسان.
وإذا عجز عنه الطب فإنّ الله تعالى قادر
على كلّ شيء ، وقد وقع فعلا تعمير نوح ، وبقاء عيسى ـ عليهماالسلام ـ
كما اخبر عنهما القرآن الكريم ... ولو شكّ الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الإسلام
السلام.
ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إمكان
ذلك ، وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز.
وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد
ونذكّر أنفسنا به ، أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي ـ عليهالسلام ـ)
، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحقّ من دينهم ، وما يجب عليهم
من نصرته والجهاد في
سبيله ، والأخذ بأحكامه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل المسلم أبدا مكلّف بالعمل بما انزل
من الأحكام الشرعيّة ، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة
إليها حقيقة ، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت
إليه قدرته (كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته). فلا يجوز له التأخر عن واجباته
بمجرّد الانتظار للمصلح (المهدي ـ عليهالسلام
ـ) والمبشّر الهادي.
فإنّ هذا لا يسقط تكليفا ولا يؤجل عملا
ولا يجعل الناس هملا كالسوائم (١).
______________________________________________________
(١) يقع البحث في مقامات :
أحدها
: أنّ مقتضى ما مرّ
من ادلّة لزوم الإمامة والعصمة ، هو عدم خلوّ كلّ عصر وزمان عن وجود الإمام
المعصوم سواء قام بالسيف أو لم يقم ، ظهر أو لم يظهر ، وعليه فنعتقد بوجود الإمام
المعصوم الحيّ في كلّ زمان.
وبهذا الأمر
الثابت يظهر بطلان المذاهب التي أهمل أصحابها هذا الأصل الأصيل كالزيدية الذين
قالوا بإمامة كلّ فاطميّ عالم زاهد خرج بالسيف مع ادعاء الإمامة فإنّهم أهملوا العصمة بما اعتقدوا وذهبوا إليه ، هذا مضافا
إلى أنّ بعض الأئمة الذين لم يشهروا سيفهم ، كعلي بن الحسين والإمام الباقر
والإمام الصادق إلى الإمام الثاني عشر ممّن نصّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ
__________________
والأئمة الاول على
إمامتهم ، فاشتراط القيام بالسيف اشتراط شيء في قبال نصّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ على إمامتهم ، ألا ترى ما روي في كتب الفريقين عن النبيّ
ـ صلىاللهعليهوآله ـ في الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ :
هذان ولداي إمامان
قاما أو قعدا ، ولو كان القيام بالسيف شرطا لما صدر ذلك عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال العلّامة الحليّ ـ قدسسره : كلام الزيدية باطل من وجوه ، الأوّل : قولهم بعدم العصمة
، وهم يشاركون كلّ من خالف الإمامية في هذه المقالة إلى أن قال : الخامس ليس
القيام بالسيف شرطا لقوله ـ عليهالسلام ـ في الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ هذان ولداي إمامان قاما أو قعدا ، ولو كان القيام بالسيف
شرطا لما صحّ نفيه عنهما كالعلم والعدالة . ومما ذكر يظهر أيضا بطلان مذهب الفطحية ، الذين قالوا
بإمامة عبد الله بن جعفر ، وهكذا بطلان مذهب الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة
إسماعيل بن جعفر ، مع أنّهما ليسا بمعصومين ، وليسا بداخلين فيما نصّ النبيّ
والأئمة السابقة ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ على إمامتهم.
ثانيها
: أنّ مقتضى الأخبار
المتواترة إنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ هم الاثنا عشر ، لا أقل ولا أكثر ، ولازم ذلك أيضا بطلان
اعتقاد من ذهب إلى الأزيد ، كالزيدية ، أو إلى الأقلّ كالكيسانية الذين قالوا
بإمامة عليّ ـ عليهالسلام ـ وبعده الحسن ثم الحسين ثم محمّد بن الحنفية ، وقالوا :
إنّه الإمام المنتظر أعني المهديّ الذي يملأ الأرض عدلا ، وهو إلى الآن مستتر في
جبل رضوى بقرب المدينة .
هذا مضافا إلى
إهمالهم العصمة وإعراضهم عن النصوص الخاصّة من النبيّ والأئمة الماضين على أشخاص
الأئمة اللاحقين عليهمالسلام.
__________________
ومما ذكر يظهر
أيضا بطلان مذهب الناووسية ، الذين وقفوا على إمامة الإمام جعفر الصادق ـ عليهالسلام ـ وبطلان مذهب الواقفية الذين وقفوا على إمامة الإمام موسى
الكاظم ـ عليهالسلام ـ وعليه فالحقّ هو مذهب الاثنى عشرية الذين قالوا بإمامة
اثني عشر ، كما نصّ النبيّ والأئمة الأول ـ صلوات الله عليهم ـ على أشخاصهم.
ثالثها
: أنّ فكرة وجود
الإمام في كلّ عصر وزمان ليست فكرة حديثة ، بل هي أمر له سابقة من لدن خلقة البشر
، لما عرفت من إقامة البراهين التامّة على لزوم الارتباط بين الخلق وخالقه
بالنبوّة أو الإمامة ، وأكّدها النبيّ صلىاللهعليهوآله بجملات ، منها : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة
الجاهلية فالاعتقاد بالإمامة كان مبتنيا على أساس قويم برهاني ، بل
فكرة كون الأئمة في الإسلام اثني عشر ، وفكرة كون الأئمة الأحد عشر ـ عليهمالسلام ـ من نسل النبيّ ونسل علي وفاطمة ، ونسل الحسين ـ عليهمالسلام ـ وبعض خصوصيات أخر أمر سماويّ أخبر به الأنبياء السالفة
ونبيّنا ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالتواتر من الأخبار.
روى في منتخب
الأثر عن كفاية الأثر بإسناده إلى أمّ سلمة قالت : قال : رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : لمّا اسري بي إلى السماء ، نظرت فإذا مكتوب على العرش
لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، أيدته بعليّ ، ونصرته بعليّ ، ورأيت أنوار
عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وأنوار علي بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد
وموسى بن جعفر وعليّ بن موسى ومحمّد بن عليّ ، وعليّ بن محمّد ، والحسن بن عليّ ،
ورأيت نور الحجّة يتلألأ من بينهم كأنّه كوكب درّي ،
__________________
فقلت يا رب من هذا؟
ومن هؤلاء؟ فنوديت يا محمّد هذا نور عليّ وفاطمة ، وهذا نور سبطيك الحسن والحسين ،
وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهّرون معصومون ، وهذا الحجّة الذي يملأ
الأرض (الدنيا نخ) قسطا ، وعدلا وعليه ففكرة ظهور الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ وغلبته
على الظلم والجور ، وإقامته للعدل والقسط والحكومة الإلهية الإسلامية في جميع
أقطار الأرض ، أمر سماوي أخبر به الأنبياء السابقة ونبيّنا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ والأئمة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ بالتواتر ، ووقع
كما أخبروا من دون ريب وشبهة ، بل يمكن إقامة البرهان عليه بما يلي :
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ في «الشيعة في الاسلام» تحت عنوان بحث في ظهور المهدي ـ عجل
الله فرجه ـ من وجهة نظر العامّة : وكما أشرنا في بحث النبوّة والإمامة وفقا
لقانون الهداية الجارية في جميع أنواع الكائنات ، فالنوع الإنساني منه مجهّز بحكم
الضرورة بقوة (قوّة الوحي والنبوّة) ترشده إلى الكمال الإنساني والسعادة النوعيّة
، وبديهي أنّ الكمال والسعادة لو لم يكونا أمرين ممكنين وواقعين للإنسان الذي
تعتبر حياته حياة اجتماعية لكان أصل التجهيز لغوا وباطلا ، ولا يوجد لغو في الخلقة
مطلقا.
وبعبارة اخرى أنّ
البشر منذ أن وجد على ظهر البسيطة كان يهدف إلى حياة اجتماعية مقرونة بالسعادة ،
وكان يعيش لغرض الوصول إلى هذه المرحلة ، ولو لم تتحقق هذه الامنية في الخارج ،
لما منّى الإنسان نفسه بهذه الامنية ، فلو لم يكن هناك غذاء لم يكن هناك جوع ،
وإذا لم يكن هناك ماء لم يكن عطش ، وإذا لم يكن تناسل لم تكن علاقة جنسية.
__________________
فعلى هذا وبحكم
الضرورة (الجبر) فإنّ مستقبل العالم سيكشف عن يوم يهيمن فيه العدل والقسط على
المجتمع البشري ، ويتعايش أبناء العالم في صلح وصفاء ومودّة ومحبّة ، تسودهم
الفضيلة والكمال وطبيعي أنّ استقرار مثل هذه الحالة بيد الإنسان نفسه ، والقائد
لمثل هذا المجتمع سيكون منجي العالم البشري ، وعلى حدّ تعبير الروايات سيكون
المهديّ .
وكيف كان فنذكر من
الروايات الكثيرة المتواترة رواية واحدة ، وهي ما رواه في فرائد السمطين عن عبد
الله بن عباس قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاثنا
عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي قيل : يا رسول الله ومن أخوك؟ قال : عليّ بن أبي
طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال : المهديّ الذي يملأها قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا
وظلما والذي بعثني بالحقّ بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك
اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهديّ ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ،
وتشرق الأرض بنور ربّها ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب .
قال الشهيد السيد
محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ : «إن فكرة المهديّ بوصفه القائد المنتظر لتغير العالم
إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموما ، وفي روايات أئمة أهل البيت
خصوصا ، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، وقد احصي
أربعمائة حديث عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ من طرق إخواننا أهل السنّة كما احصي مجموع الأخبار الواردة
في الإمام المهديّ من طرق الشيعة والسنّة ، فكان أكثر من ستة آلاف رواية. هذا رقم
إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام
__________________
البديهيّة التي لا
شكّ فيها لمسلم عادة» .
ثم مما ذكر يظهر
وجه ضعف القول بأنّ فكرة ظهور المهديّ مستحدثة عند الشيعة ، هذا مضافا إلى ما أشار
إليه في المتن من أنّه لو لا ثبوت فكرة المهديّ عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبّعت في نفوسهم
واعتقدوها لما كان يتمكن مدّعو المهديّة في القرون الاولى كالكيسانية والعبّاسيين
وجملة من العلويين ، وغيرهم من خدعة الناس ، واستغلال هذه العقيدة فيهم طلبا للملك
والسلطان ، فجعلوا ادعاءهم المهديّة الكاذبة طريقا للتأثير على العامّة وبسط
نفوذهم عليهم.
ثم لا يخفى عليك
قصور ما أفاده المصنّف من أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في
الفساد والظلم مع الإيمان بصحّة هذا الدين ، وأنّه الخاتمة للأديان يقتضي انتظار
هذا المصلح (المهديّ) لإنقاذ العالم مما هو فيه ، ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار
جميع الفرق المسلمة الخ.
فإنّ مجرد طبيعة
الوضع الفاسد يقتضي إظهار مصلح وإخراجه حتّى يتمكّن به إصلاح العالم مما هو فيه
ولا يدلّ على وقوع هذا الإصلاح إلّا بضميمة ما بشّر الله به في الكتاب العزيز من
غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان كقوله : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أو بضميمة بشارة النبيّ والأئمة الماضين ـ عليهمالسلام ـ بوقوع هذا الأمر وحتميته ، وهذا هو السبب في إيمان جميع
الفرق المسلمة بذلك الانتظار لا مجرد طبيعة الوضع الفاسد فلا تغفل.
رابعها
: أنّ الفرق بين
الإمامية وغيرها من الفرق المسلمة ، بل الامم من غير المسلمين ، هو أنّ الامامية
تعتقد بوجود هذا المصلح ، وأنّه المهديّ بن الحسن
__________________
العسكريّ ، ومتولد
في سنة ٢٥٦ هجرية ، ولا يزال حيّا.
والدليل عليه هو
أمران ، أحدهما : الروايات الدالّة على خصوص شخصه ، وأنّه ثاني عشر من الأئمة ،
وأنّه التاسع من ولد الحسين ـ عليهالسلام ـ ونحو ذلك ، فإنّ مثل هذه الروايات الكثيرة المتواترة
تدلّ على وجوده وإلّا لم يكن تاسعا من ولد الحسين أو ثاني عشر من الأئمة الذين لا
تخلو الأرض منهم ، وهذه الروايات نقلت قبل وجوده وشاعت وكانت محفوظة ومسطورة في
الجوامع.
قال الشهيد السيد
محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ في ذيل قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «الخلفاء والامراء اثنا عشر» : «قد أحصى بعض المؤلفين
رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة
والسنّة ، بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم
على الصحيحين ، ويلاحظ أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصرا للإمام الجواد
والإمامين الهادي والعسكري ـ عليهمالسلام ـ» .
وثانيهما : هو ما
أشار إليه في المتن حيث قال : وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه ، ولا يجوز أن
تنقطع الإمامة وتحوّل في عصر من العصور وإن كان الامام مخفيا الخ.
ولقد أفاد وأجاد
الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ حيث قال : «إنّ المهديّ حقيقة عاشتها امة من الناس ،
وعبّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاما من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم
يلحظ عليهم أحد كلّ هذه المدّة تلاعبا في الكلام أو تحايلا في التصرّف ، أو تهافتا
في النقل ، فهل تتصور ـ بربّك ـ أنّ بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاما ، ويمارسها
أربعة على سبيل
__________________
الترتيب ، كلّهم
ينفقون عليها ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضيّة يعيشونها بأنفسهم ويرونها
بأعينهم دون أن يبدر منهم أيّ شيء يثير الشكّ ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة
خاصّة متميّزة تتيح لهم نحوا من التواطؤ ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من
واقعية ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضيّة ، التي يدّعون أنّهم يحسّونها
ويعيشون معها ـ إلى أن قال ـ : وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى ، يمكن أن
تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد
بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن
المسرح ، ولم يكشف نفسه لأحد» .
هذا مضافا إلى
إخبار الإمام العسكري ـ عليهالسلام ـ بولادته لأصحابه ورؤية جمع منهم إياه ، قبل وفاة أبيه
كأحمد بن اسحاق وغيره ، وظهور المعجزة على يده ، وقد ذكر الطبرسيّ ـ قدسسره ـ جمعا كثيرا ممّن رآه في حال غيبته ، ووقف على معجزاته من
الوكلاء وغيرهم ، وقال : «وأمّا غيبته الصغرى منها فهي التي كانت فيها سفراؤه
موجودين وأبوابه معروفين لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن عليّ فيهم ،
فمنهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ومحمّد بن علي بن بلال وأبو عمرو عثمان بن
سعيد السمّان وابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان وعمر الأهوازي وأحمد بن اسحاق وأبو
محمّد الوجناني وإبراهيم بن مهزيار ومحمّد بن إبراهيم في جماعة اخرى ربّما يأتي
ذكرهم عند الحاجة إليهم في الرواية عنهم ، وكانت مدة هذه الغيبة اربعا وسبعين سنة
، وكان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري بابا لأبيه وجدّه من قبل ، وثقة لهما ، ثم
تولى الباقية من قبله ، وظهرت المعجزات على يده الخ» .
__________________
وقال الشيخ المفيد
ـ قدسسره ـ في ذيل باب من رأى الإمام الثاني عشر ، وطرف من دلائله
وبيّناته ، وأمثال هذه الأخبار في معنى ما ذكرناه كثيرة ، والذي اقتصرنا عليه منها
كاف فيما قصدناه .
وقال أيضا في ذيل
باب (دلائله ومعجزاته) : «والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي موجودة في الكتب
المصنّفة المذكورة فيها أخبار القائم ـ عليهالسلام ـ وإن ذهبت إلى إيراد جميعها طال بذلك الكتاب ، وفيما
أثبته منها مقنع ولله الحمد والمنّة» .
هذا مع رؤية جمع
كثير إياه ـ عليهالسلام ـ في حال غيبته الكبرى ، وقد تصدّى بعض الأعلام لذكر قصصهم
، ويكفيك النجم الثاقب ، ولنا طرق صحيحة لرؤية بعض الأعزة الكرام ، واتصالهم معه ،
أرواحنا فداه ، وسنشير إليها عند المناسبة.
قال في منتخب
الأثر في ذيل الفصل الخامس الباب الأوّل في معجزاته في غيبته الكبرى : «وقد ذكر في
البحار حكايات كثيرة جدا في ذلك ، وهكذا ذكر المحدّث النوري في دار السلام ، وجنّة
المأوى ، والنجم الثاقب ، والفاضل الميثمي العراقي في دار السلام ، وغيرهم من
المحدّثين والعلماء معجزات كثيرة تتجاوز عن حدّ التواتر قطعا ، وأسناد كثير منها
في غاية الصحّة والمتانة رواها الزهاد والأتقياء من العلماء. هذا مع ما نرى في كلّ
يوم وليلة من بركات وجوده ، وثمرات التوسل والاستشفاع به ممّا جرّبناه مرارا» وقال أيضا في ذيل الفصل المذكور الباب الثاني فيمن رآه في
غيبته الكبرى : «واعلم أنّ ما ذكرناه في هذا الفصل ليس إلّا قليلا من الحكايات
والآثار المذكورة في
__________________
الكتب المعتبرة
والاكتفاء به ؛ لعدم اتساع هذا الكتاب لأزيد منه مضافا إلى أنّ هذه الآثار والحكايات
بلغت في الكثيرة حدا يمتنع إحصاؤها وقد ملئوا العلماء كتبهم عنها ، فراجع البحار
والنجم الثاقب وجنّة المأوى ، ودار السلام المشتمل على ذكر من فاز بسلام الإمام ،
والعبقريّ الحسان وغيرها ، حتّى تعرف مبلغا من كثرتها ، ومن تصفّح الكتب المدوّنة
فيها هذه الحكايات التي لا ريب في صحّة كثير منها لقوّة إسناده ، وكون ناقليه من
الخواصّ ، والرجال المعروفين بالصداقة والأمانة والعلم والتقوى يحصل له العلم
القطعيّ الضروريّ بوجوده ـ عليهالسلام ـ» .
خامسها
: أنّ مسألة الغيبة
للإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه مما نصّ عليه النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ والأئمة الأطهار ـ عليهمالسلام ـ قبل ولادته وغيبته وإليك بعض هذه الأخبار.
قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «المهديّ من ولدي يكون له غيبة وحيرة تضل فيهما الامم
، يأتي بذخيرة الأنبياء فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» .
وقال ـ صلىاللهعليهوآله ـ أيضا : «طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتمّ به في
غيبته قبل قيامه ، ويتولّى أولياءه ، ويعادي أعداءه ذاك من رفقائي وذوي مودّتي ،
وأكرم أمّتي يوم القيامة» .
وقال أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «للقائم منّا غيبة أمدها طويل ، كأني بالشيعة يجولون
جولان النعم في غيبته ، يطلبون المرعى فلا يجدونه ، ألا فمن ثبت منهم على دينه لم
يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم
__________________
القيامة» .
وقال الإمام الحسن
بن عليّ ـ عليهماالسلام ـ : «إذا خرج ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة
الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون أربعين
سنة ، ذلك ليعلم أنّ الله على كل شيء قدير» .
وقال الإمام
الحسين بن عليّ ـ عليهماالسلام ـ : «قائم هذه الامة هو التاسع من ولدي ، وهو صاحب الغيبة
وهو الذي يقسّم ميراثه وهو حي» .
روى المفضل عن
الصادق ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «إنّ لصاحب هذا الأمر لغيبتين ، أحدهما أطول
من الاخرى» الحديث.
قال الشيخ الطوسي
بعد نقل هذا الحديث : «ويدلّ أيضا على إمامة ابن الحسن ـ عليهالسلام ـ وصحّة غيبته ما ظهر واشتهر من الأخبار الشائعة الذائعة
عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ قبل هذه الأوقات بزمان طويل من أنّ لصاحب هذا الأمر غيبة
وصفة غيبته ، وما يجري فيها من الاختلاف ، ويحدث فيها من الحوادث ، وأنّه يكون له
غيبتان إحداهما أطول من الاخرى ، وأنّ الاولى تعرف فيها أخباره ، والثانية لا تعرف
فيها أخباره ، فوافق ذلك على ما تضمنته الأخبار ، ولو لا صحّتها وصحّة إمامته ،
لما وافق ذلك ، لأنّ ذلك لا يكون إلّا بإعلام الله على لسان نبيه» .
وقال أمين الإسلام
الطبرسيّ ـ قدسسره ـ : «ومن جملة ثقات المحدّثين والمصنّفين من الشيعة الحسن
بن محبوب الزراد ، وقد صنّف كتاب المشيخة الذي هو في اصول الشيعة أشهر من كتاب
المزني وأمثاله ، قبل زمان الغيبة
__________________
بأكثر من مائة سنة
تذكر فيه بعض ما أوردناه من أخبار الغيبة ، فوافق الخبر الخبر وحصل كلّ ما تضمنه
الخبر بلا اختلاف» . فأخبار الغيبة متواترة ومسطورة في الكتب قبل ولادته ـ عليهالسلام ـ قال المحقّق اللاهيجي ـ قدسسره ـ : إنّ وجوب غيبة الإمام الثاني عشر متواتر عن النبيّ ،
وكلّ واحد من الأئمة عليهم الصلوات والسّلام .
قال المحقّق
القميّ ـ قدسسره ـ : «إنّ كثيرا من جوامع الشيعة الفت قبل ولادة جنابه ـ عليهالسلام ـ فهذه الأخبار مضافا إلى كونها متواترة ومفيدة لليقين ،
تكون مقرونة بالإعجاز ؛ لاشتمالها على الأخبار بتولّده ووقوع ما أخبروا به» .
ثم إنّ الغيبة
الصغرى وقعت من سنة ٢٦٠ الهجرية إلى سنة ٣٢٩ ، وهي تقرب من سبعين سنة ، والغيبة
الكبرى وقعت من سنة ٣٢٩ ودامت إلى يومنا هذا سنة ١٤٠٩ الهجرية ، وتدوم إلى يوم
الظهور عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وجعلنا من أعوانه وأنصاره بلطفه وكرمه ،
ولعلّ الغيبة الصغرى وقعت على ما لها من نوع ارتباط خاصّ بين نوّابه الخاصّة وبين
المؤمنين به تمهيدا لوقوع الغيبة الكبرى التي لا صلة بينه وبين المؤمنين ولو بعنوان
النيابة الخاصّة ، وإنّما كانت وظيفة المؤمنين فيها هو الرجوع إلى النّواب
العامّة.
قال الشهيد السيد
محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ : «وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجأة حقّقت صدمة
كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الامة الإسلامية ؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة
على الاتصال بالإمام في كل عصر والتفاعل معه ، والرجوع إليه في حلّ المشاكل
المتنوعة ، فإذا غاب الإمام عن
__________________
شيعته فجأة ،
وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحيّة والفكريّة سبّبت هذه الغيبة المفاجأة ،
الإحساس بفراغ دفعيّ هائل قد يعصف بالكيان كلّه ، ويشتّت شمله ، فكان لا بدّ من
تمهيد لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج ، وتكيّف نفسها شيئا فشيئا على
أساسها ، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى ، التي اختفى فيها الإمام المهديّ عن
المسرح العام ، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوّابه ،
والثقات من أصحابه ، الذين يشكّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه
الإمامي» .
ثم إنّ النوّاب
الخاصة في الغيبة الصغرى أربعة ، وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (بفتح العين
وسكون الميم) وأبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري وأبو القاسم حسين بن روح
النوبختي وأبو الحسن علي بن محمّد السمري ، وهم الأجلاء الكرام والوجوه العظام.
قال الشيخ الطوسي
ـ قدسسره ـ : «فأمّا السفراء الممدوحون في زمان الغيبة ، فأوّلهم من
نصبه أبو الحسن علي بن محمّد العسكري ، وأبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد ابنه ـ عليهالسلام ـ وهو الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ،
وكان أسديا الى أن نقل في حقّه عن الإمام عليّ بن محمّد الهادي ـ صلوات الله عليه
ـ أنّه قال : هذا أبو عمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعنّي يقوله ، وما أدّاه
إليكم فعنّي يؤديه ، وإلى أن نقل في حقّه وابنه عن أبي محمّد الحسن ـ عليهالسلام ـ واشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وأنّ ابنه
محمدا وكيل ابني مهديكم ـ إلى أن قال ـ : وكانت توقيعات صاحب الأمر ـ عليهالسلام ـ تخرج على يديّ عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن
عثمان إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد بالأمر والنهي والأجوبة عمّا تسأل
__________________
الشيعة عنه إذا
احتاجت إلى السؤال فيه بالخطّ الذي كان يخرج في حياة الحسن ـ عليهالسلام ـ فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفي عثمان بن
سعيد رحمهالله ، وغسّله ابنه أبو جعفر ، وتولى القيام به ، وحصل الأمر
كلّه مردودا إليه ، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته ؛ لما تقدم له من
النصّ عليه بالأمانة ، والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن وبعد موته في حياة أبيه
عثمان ـ رحمهالله إلى أن قال ـ : خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن
عثمان بن سعيد العمري ـ قدّس الله روحه ـ في التعزية بأبيه ـ رضياللهعنه ـ وجاء في التوقيع المذكور : أجزل الله لك الثواب ، وأحسن
لك العزاء ، رزئت ورزئنا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا ، فسرّه الله في منقلبه ، وكان من
كمال سعادته أن رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده ، ويقوم مقامه بأمره ويترحم
عليه ، وأقول الحمد لله ، فإنّ الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله عزوجل فيك وعندك ، أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفّقك وكان لك وليا
وحافظا وراعيا.
ثم قال الشيخ ـ قدسسره : والتوقيعات تخرج على يده إلى الشيعة في المهمّات طول
حياته بالخطّ الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره
، ولا يرجع إلى أحد سواه ، وقد نقلت عنه دلائل كثيرة ومعجزات الإمام (التي) ظهرت
على يده وامور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة ، وهي مشهورة عند الشيعة
وقدّمنا طرفا منها ، فلا نطوّل بإعادتها ، إلى أن روي أنّه لمّا حضرت أبا جعفر
محمّد بن عثمان العمري الوفاة ، كان جعفر بن أحمد بن متيل جالسا عند رأسه وأبو
القاسم بن روح جالسا عند رجليه ، فالتفت إلى جعفر بن أحمد بن متيل وقال : امرت أن
اوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح ، فقام جعفر بن أحمد بن متيل من عند رأسه ،
وأخذ بيد أبي القاسم وأجلسه في مكانه وتحوّل بنفسه إلى عند رجليه.
إلى أن قال : لمّا
اشتدت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة ـ إلى أن
قال ـ : فدخلوا
على أبي جعفر ـ رضياللهعنه ـ فقالوا له : إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم : هذا
أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ، القائم مقامي ، والسفير بينكم
وبين صاحب الأمر ، والوكيل له ، والثقة الأمين ، فارجعوا إليه في اموركم ، وعوّلوا
عليه في مهمّاتكم فبذلك امرت ، وقد بلّغت.
إلى أن قال الشيخ
: وكان أبو القاسم ـ رحمهالله ـ من أعقل الناس عند المخالف والموافق ـ إلى أن قال ـ :
وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري ـ رضياللهعنه ـ فقام بما كان إلى أبي القاسم فلمّا حضرته الوفاة حضرت
الشيعة عنده ، وسألته عن الموكّل بعده ، ولمن يقوم مقامه؟ فلم يظهر شيئا من ذلك
وذكر أنّه لم يؤمر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن الى أن قال : فأخرج إلى
الناس توقيعا قبل وفاته نسخته :
بسم الله الرحمن
الرحيم يا علي بن محمّد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميت ما بينك
وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد ، فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت
الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد
وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى
المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله
العليّ العظيم قال الشيخ : قال راوي الخبر : فنسخنا هذا التوقيع ، وخرجنا من عنده
، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيّك من بعدك؟
فقال : لله أمر هو بالغه وقضى ، فهذا آخر كلام. سمع منه رضياللهعنه وأرضاه» .
فالمستفاد من
ملاحظة الكلمات المذكورة هو ظهور تسالم الشيعة على نيابتهم
__________________
الخاصّة ، ووجه
ذلك : ما عرفت من ظهور الكرامات والمعجزات على أيديهم بحيث بكشف عن صلتهم مع
الإمام الثاني عشر أرواحنا فداه.
هذا مضافا إلى ما
ورد في وثاقتهم وجلالتهم ، وكيف كان فقد تمهّدت جامعة الشيعة بعد مضيّ زمان
النوّاب الأربعة أن تصطبر لطيلة الغيبة الكبرى لإمامها الثاني عشر ـ أرواحنا فداه
ـ حتّى يظهر بإذن الله تعالى.
سادسها
: أنّ السبب في
الغيبة ليس من ناحية الله تعالى ولا من ناحية الإمام الثاني عشر ـ عليهالسلام ـ لأنّ كمال لطفه تعالى يقتضي ظهور وليّه ، كما أنّ مقتضى
عصمة الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ هو أن لا يغيب عن وظائفه وهداية الناس
وإرشادهم ، ولذلك قال المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسيّ ـ قدسسره ـ على ما حكي عنه : «ليست غيبة المهدي ـ عليهالسلام ـ من الله سبحانه ، ولا منه ـ عليهالسلام ـ بل من المكلّفين والناس ، وهي من غلبة الخوف وعدم تمكين
الناس من إطاعة الإمام ، فإذا زال سبب الغيبة وقع الظهور» .
وأيضا قال الفاضل
المقداد : «وأمّا سبب خفائه : فإما لمصلحة استأثر الله بعلمها ، أو لكثرة العدو ،
وقلّة الناصر ؛ لأنّ حكمته تعالى وعصمته ـ عليهالسلام ـ لا يجوز معهما منع اللطف ، فيكون من الغير المعادي ،
وذلك هو المطلوب» .
ويؤيد ذلك ما ورد
عن مولانا أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «واعلموا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله ،
ولكنّ الله سيعمي خلقه منها بظلمهم وجورهم ، وإسرافهم على أنفسهم» .
فالغيبة ناشئة من
تقصير الناس ، وقد يوجه ذلك بأنّ إقامة العدل العام العالميّ تتوقف على قبول نصاب
من عامّة الناس في أقطار العالم لإقامة العدل
__________________
العالمي الإلهي من
ناحية الرجل الإلهي ، ولمّا يحصل هذا النصاب وإن قرب الناس إلى قبوله ، لازدياد
إحساس أنّ البشر من دون إمداد غيبي لا يتمكن من الإصلاح العالمي ولو أخذوا
بالمؤتمرات والمجالس المعدّة للقيام بالعدل والإصلاح ، فإنّ هذه المؤتمرات
والمجالس عجزت عن ذلك المقصد العالي ؛ لأنهم ليسوا أهلا له.
هذا مضافا إلى
سلطة المفسدين من الدول القويّة عليهم ، ولذلك بسط الظلم والفساد في النظام
العالمي ، وكلّما ازدادت الأيام زادت المفاسد والمظالم في أقطار الأرض ، ولا ترفع
تلك إلّا بأن يرجع أهل العالم في أقطار الأرض عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم ،
ويستعدّون لقبول العدل الإلهي العالمي حتّى يظهر الله تعالى وليّه الأعظم ـ أرواحنا
فداه ـ لإقامة العدل وإزالة الجور ، وإليه يؤول ما أشار إليه المحقّق اللاهيجي ـ قدسسره ـ حيث قال : إذا كان الإمام المعصوم موجودا وغائبا فليس
علينا بيان سبب غيبته بالتفصيل ، نعم يعلم إجمالا أنّ السبب في غيبته ليس من جانبه
؛ لأنّه معصوم ، ويمتنع ترك الواجب منه ، مع أنّ الظهور والقيام بأمر الإمامة
وإقامة الشرائع من الواجبات ، فسبب غيبة الإمام من طرف رعيته لعدم نصرتهم إياه ،
فإذا تحقّقت مظنة النصرة من قبل الرعيّة وجب ظهوره . ولقد أفاد وأجاد الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ حيث قال : «وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي ـ عليهالسلام ـ لنجد أنّ عملية التغيير التي اعدّ لها ترتبط من الناحية
التنفيذيّة كأيّ عملية تغيير اجتماعي اخرى ، بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ
الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقّت وفقا لذلك ، ومن المعلوم أنّ
المهدي لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود ولا لعملية تغيير تقتصر على
__________________
هذا الجزء من
العالم أو ذاك ؛ لأنّ رسالته التي ادّخر لها من قبل الله سبحانه وتعالى ، هي تغيير
العالم تغييرا شاملا واخراج البشرية كلّ البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل ،
وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرّد وصول الرسالة والقائد الصالح
، وإلّا لتمّت شروطها في عصر النبوّة بالذات ، وإنّما تتطلب مناخا عالميا مناسبا
وجوّا عامّا مساعدا يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.
فمن الناحية
البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملا أساسيا في خلق ذلك المناخ المناسب
لتقبل رسالة العدل الجديدة ، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسّخ من خلال التجارب
الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلا بسلبيات ما بنى مدركا حاجته
إلى العون ملتفتا بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول» .
هنا سؤال وهو :
إنّا نسلم أنّ القيام بالعدل العالمي يتوقف على قبول الناس لذلك وقبولهم يرتبط
بشعور حاجتهم إلى الاستمداد من الغيب ، ولكن ذلك لا يوجّه غيبته عن الناس ، لإمكان
أن يعيش بينهم ، ويصبر حتّى يجد الظرف الصالح لإقامة العدل الإلهي.
والجواب عنه : أنّ
الإمام ـ عليهالسلام ـ إن ظهر قبل الموعد فإن اتقى عن حكومة الجور فهو لا
يناسبه ، وإن لم يتق فهم قتلوه ، فالغيبة مانعة عن قتله ، وهذا أمر تدلّ عليه الأخبار
:
منها : ما عن أبي
عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : لا بدّ للغلام من غيبة ، فقيل له : ولم يا رسول الله؟
قال : يخاف القتل» .
__________________
ومنها : ما عن أبي
عبد الله ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : «صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على (هذا) الخلق
لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج» .
قال الشيخ الطوسي
ـ قدسسره ـ : «لا علّة تمنع من ظهوره ـ عليهالسلام ـ إلّا خوفه على نفسه من القتل ؛ لأنّه لو كان غير ذلك لما
ساغ له الاستتار ، وكان يتحمّل المشاق والأذى ، فإنّ منازل الأئمة وكذلك الأنبياء
ـ عليهمالسلام ـ إنّما تعظم لتحمّلهم المشاقّ العظيمة في ذات الله تعالى.
فإن قيل : هلّا
منع الله من قتله بما يحول بينه وبين من يريد قتله؟ قلنا : المنع الذي لا ينافي
التكليف هو النهي عن خلافه والأمر بوجوب اتباعه ونصرته ، وإلزام الانقياد له ،
وكلّ ذلك فعله تعالى ، وأمّا الحيلولة بينهم وبينه فإنّه ينافي التكليف وينقض
الغرض ؛ لأنّ الغرض بالتكليف استحقاق الثواب ، والحيلولة تنافي ذلك ، وربّما كان
في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق ، فلا يحسن من الله فعلها» .
وأمّا كون الغيبة
موجبة لامتحان الخلق وتمحيصهم كما افيد في بعض الأخبار عن موسى بن جعفر ـ عليهماالسلام ـ : «إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فالله في
أديانكم ، لا يزيلنكم عنها أحد ، يا بني إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ،
حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به ، إنّما هي محنة من الله امتحن الله بها
خلقه» وغيره فهو بيان فائدة الغيبة لا سببها ، ولذلك قال الشيخ ـ قدسسره ـ : «وأمّا ما روي من الأخبار من امتحان الشيعة في حال
الغيبة وصعوبة الأمر عليهم واختبارهم للصبر عليه ، فالوجه فيها الأخبار عما يتفق
من ذلك من الصعوبة والمشاق ـ إلى أن قال ـ : بل سبب الغيبة هو الخوف على
__________________
ما قلناه ،
وأخبروا بما يتفق في هذه الحال ، وما للمؤمن من الثواب على الصبر على ذلك ،
والتمسك بدينه إلى أن يفرّج الله (تعالى) عنهم» .
سابعها
: أن جميع أبعاد
وجود الإمام لطف فوجوده في نفسه مع قطع النظر عن سائر أبعاده لطف ؛ لأنّه وجود
إنسان كامل في النظام الأحسن ، وهو مما يقتضيه علمه تعالى به ورحمته المطلقة
وكماله المطلق ، هذا مضافا إلى أنّ مقتضى تماميّة الفاعل وقابلية القابل كما هو
المفروض في وجود أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ هو لزوم وجودهم وإلّا لزم الخلف ، إمّا في تمامية الفاعل
أو قابلية القابل ، والأوّل محال لعدم العجز والنقصان والبخل فيه تعالى ، والثاني
خلاف المفروض فإنّ قابلية الأئمة ـ عليهمالسلام ـ لكمال الإنسانية واضحة وبديهية عند الشيعة الإمامية وفي
لسان الأخبار فتدوم الخلافة الإلهية بوجودهم ، كما دلّ في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) على استمرار هذه الخلافة الإلهية ، ولذا استدل الإمام
الصادق والإمام الكاظم ـ عليهماالسلام ـ في موثقة اسحاق بن عمّار على استمرار الخلافة وعدم
انقطاعها بقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقالا : وأنّ الله عزوجل إذا قال قولا وفي به . ويؤيده ما ورد في الحديث القدسي عنه تعالى أنّه قال : «كنت
كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق لكي اعرف» ؛ إذ يعلم منه أنّ الباعث على إيجاد الإنسان هو المعرفة
الكاملة به تعالى ، فليكن في كلّ وقت فرد بين آحاد الإنسان يعرفه كما هو حقّه ،
ولا يحصل ذلك في غير النبيّ والإمام ، فلا بدّ من وجود النبيّ أو الإمام بين الناس
حتّى تحصل المعرفة الكاملة به تعالى كما هو حقه.
ولعلّ إليه ترجع
الروايات الدالّة على أنّه لو لا محمّد وآله ـ عليهمالسلام ـ لما
__________________
خلق الله الخلق ،
كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ولا حوّاء ولا
الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض» .
ويؤكّد ذلك ما
استفيض من الأخبار الدالّة على أنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ علّة غائية للخلقة كما ورد «نحن الذين بنا يمسك الله
السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبنا ينزل
الغيث وينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها» وورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان ... وإنّي
لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء .
قال العلّامة
المجلسي ـ قدسسره ـ : «ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم العلل الغائية لإيجاد
الخلق ، فلو لا هم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ،
والتوسل إليهم ، يظهر العلوم والمعارف على الخلق ، ويكشف البلايا عنهم ، فلو لا هم
لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم ، أنواع العذاب» وإلى غير ذلك من شواهد الأخبار وهذا كلّه بالنسبة إلى أصل
وجوده ثم إنّ تصرّفه أيضا لطف سواء كان ظاهريا أو باطنيا وسواء كان في الإنس أو
الجن ، أو غيرهما ، فإذا منع مانع عن ظهوره للناس بحيث يستر ويغيب فلا يضرّ بكونه
لطفا من جهة أو جهات اخر ، فإنّ المانع يمنعه عن نوع من أنواع لطف أبعاد وجوده.
هذا مضافا إلى أنّ
تصرّفه في الناس لا يتوقف جميع أنواعه على الظهور ، بل له أن يتصرف في بعض الامور
مع غيبته عن الناس.
__________________
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ : «إنّ وظيفة الإمام ومسئوليته لم تنحصر في بيان المعارف
الإلهية بشكلها الصوري ولم يقتصر على إرشاد الناس من الناحية الظاهرية ، فالإمام
فضلا عن تولّيه إرشاد الناس الظاهري يتصف بالولاية والإرشاد الباطني للأعمال أيضا
، وهو الذي ينظم الحياة المعنويّة للناس ، ويتقدم بحقائق الأعمال إلى الله جلّ
شأنه ، وبديهي أنّ حضور أو غيبة الإمام الجسماني في هذا المضمار ليس له أي تأثير ،
والإمام عن طريق الباطن يتصل بالنفوس ويشرف عليها وإن بعد عن الأنظار ، وخفي عن
الأبصار ، فإنّ وجوده لازم دائما وإن تأخّر وقت ظهوره وإصلاحه للعالم . بل إتمام الحجّة به على المتمرّدين متوقف على وجوده بخلاف
ما إذا لم يكن موجودا فإنّ تعذيب الناس حينئذ قبيح لعدم إتمام الحجة من الله عليهم
.
على أنّ غيبته عن
الناس لا يستلزم غيبته عن جميع آحادهم ، بل له أن يظهر لبعضهم وإرشاده لهم ، كما
ثبت ذلك بالتواتر من الحكايات الواردة في تشرّفهم بخدمته وحلّ مشاكلهم واهتدائهم
بهدايته ، كما لا يستلزم غيبته عن الجنّ من الخلق ، مع أنّه إمام لهم فإنّهم أيضا
محجوجون بوجوده ـ فبمثل ما ذكر يظهر أنّ لطف وجود الإمام لطف مضاعف ولطف على لطف ،
كما هو نور على نور ، وعليه ففوائد وجوده في زمن الغيبة واضحة ، فلا وجه للقول
بأنّه لا فائدة لوجوده بعد ما غاب عن الناس ، وهذا أمر اشير إليه في الأخبار أيضا
وإليك بعضها :
روى الأعمش عن
الصادق ـ عليهالسلام ـ قال : «لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها
ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم
__________________
الساعة من حجة لله
فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ، قال سليمان : فقلت للصادق ـ عليهالسلام ـ : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال : كما
ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» .
ثامنها
: أنّ مسألة طول عمر
الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ سهلة ، لمن اعتقد بالمعجزات وخوارق العادات ؛
إذ الامتناع العادي لا يمنع عن إمكانه كسائر المعجزات ، فإنّ العلل والأسباب لا
دليل على انحصارها في الأسباب العادية الموجودة المألوفة.
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ : «لكنّ الذي يطالع الأخبار الواردة عن الرسول الأعظم في
خصوص الإمام الغائب ، وكذا سائر أئمة أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ سيلا حظ أنّ نوع الحياة للإمام الغائب تتصف بالمعجزة
خرقا للعادة ، وطبيعي أن خرق العادة ليس بالأمر المستحيل ، ولا يمكن نفي خرق
العادة عن طريق العلم مطلقا.
لذا لا تنحصر
العوامل والأسباب التي تعمل في الكون في حدود مشاهدتنا والتي تعرّفنا عليها ، ولا
نستطيع نفي عوامل اخرى وهي بعيدة كلّ البعد عنّا ، ولا علم لنا بها ، أو أنّنا لا
نرى آثارها وأعمالها ، أو نجهلها ، ومن هذا يتضح إمكان إيجاد عوامل في فرد أو
أفراد من البشر ، بحيث تستطيع تلك العوامل أن تجعل الإنسان يتمتع بعمر طويل جدا قد
يصل إلى الألف أو آلاف من السنوات ، فعلى هذا فإنّ عالم الطب لم ييأس حتّى الآن من
كشف طرق لإطالة عمر الإنسان» .
ولكن لا يذهب عليك
أنّ عدم اليأس عن كشف طرق للإطالة ، لا يخرج طول عمر الإمام ، الثاني عشر عن كونه
خارق العادة ؛ لأنّ طول العمر المذكور
__________________
بدون كشف طرق
الإطالة غير طبيعي ، سيّما إذا بقي على صورة رجل له أقلّ من أربعين سنة كما في بعض
الأخبار ، وعليه فطول عمره ـ عليهالسلام ـ إعجاز أخبر به النبيّ والأئمة الأطهار ـ عليهم صلوات
الله وسلامه ـ بالتواتر ، وأجمع الأصحاب على الإيمان به كسائر المعجزات بلا كلام.
ولقد أفاد وأجاد
المصنّف ـ قدسسره ـ حيث قال : «ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدّة
الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له ، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماما للخلق
، وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى ، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى
، إذ كلّم الناس في المهد صبيّا وبعث في الناس نبيا» إلى آخر ما قال.
نعم يزيد مثل هذه
المعجزة على سائر المعجزات التي ليست من قبيلها من جهة وجود الإمكان العلمي فيها
الذي أشار إليه العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ بقوله : «فعلى هذا فإنّ عالم الطب لم ييأس حتّى الآن من
كشف طرق لإطالة عمر الإنسان» دون سائر المعجزات التي ليست من قبيلها فإنّ العلم
التجربي لا يرجو فيها بكشف طرق للنيل إليها ، كإحياء الموتى أو جعل النار بردا
وسلاما ، أو جعل صبي أو طفل عالما بجميع العلوم والمغيبات ، وإن كانت هذه الامور
ممكنة بالإمكان العقلي ؛ إذ لا يلزم من وجودها تناقض ، ولا اجتماع الضدين ، ولا
اجتماع المثلين ، ولقد أفاد وأجاد وأطال الشهيد السيد محمّد باقر الصدر في هذا
المجال فراجع .
وكيف كان فازدياد
الإمكان العلمي في مثل المقام ، وإن لم يوجب تفاوتا في قبول المؤمنين بالله تعالى
وقدرته للمعجزات ، ولكن يمكن أن يوجب تفاوتا في تسليم غير المؤمنين من المادّيين ،
الذين أشكلوا علينا بطول العمر زائد أعلى المألوف.
__________________
تاسعها
: أنّ الارتباط مع
الإمام الثاني عشر ـ عليهالسلام ـ صار منقطا من زمن الغيبة الكبرى ؛ إذ لا يكون له محل
معلوم حتى نرجع إليه ، أو نسأل عنه ، أو نتصل معه ونراه ، أو نكتب إليه ونأخذ
الجواب ، ولكن المنقطع هو بعض الأنواع من الارتباط الذي كان مألوفا بينه وبين
الشيعة ، وبقي أنواع اخر ، وهو أنّه ـ عليهالسلام ـ يرانا ولا نراه إلّا إذا يرينا نفسه ويحضر بعض مجالسنا ،
ويزور الحسين وسائر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ ويحجّ ويحضر المواسم ، ويجيب بعض من يليق لجوابه ، وينظر
إلى أعمال الشيعة وخواصّه ، ويسرّ من حسناتهم ، ويغضب من سيئاتهم ، ويعين وكلاءه
العامّة بالدعاء والإرشاد والتصرّف في قلوبهم ، ويشرف على أحوال الشيعة ، فإذا
اتصلوا إليه بالدعاء للفرج والتوسل والاستشفاع به أقبل عليهم ويدعو لهم ، ويطلب من
الله تعالى أن يقضي حوائجهم ، وقد ورد في توقيعه ـ عليهالسلام ـ إلى الشيخ المفيد : إنّا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا
ناسين لذكركم ، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء .
وهذه الارتباطات
معلومة واضحة ، لمن أمعن النظر في جوامع الحديث والحكايات الواردة في هذه
الاتصالات ، وليست هي بقليلة طيلة الغيبة الكبرى ؛ إذ كثير جدا من رآه ومن استشفى
به فأشفاه ، ومن استجاب منه فأجاب ، وقد ثبت عندي مع قلة اطلاعي جملة من ذلك في
عصري ، وما إليه قريب.
منها : أنّه ـ عليهالسلام ـ حضر لإقامة صلاة الميت على أم بعض أصدقاء أبي ـ رحمهماالله ـ بعد تشييعها وتجهيزها في صحن ابن بابويه ـ قدسسره ـ في الري.
ومنها : أنّه حضر
في مجلس دعاء الندبة الذي كان يقيمه الشيخ الزاهد
__________________
العارف المتّقي
المرتضى المجدّ ـ قدسسره ـ في طهران.
ومنها : أنّه حضر
عند السيد محمّد الفشاركي شيخ مشايخنا في سرّ من رأى لحلّ مشكلته في المسائل
العلمية.
ومنها : أنّه حضر
في موسم الحج ، وقال لبعض الأخيار من أهل دزفول : إذا رجعت فأبلغ سلامي إلى الشيخ
محمّد طاهر ، وقل له : اقرأ هذا الدعاء ، ثم غاب الإمام ونسى بعض الأخيار الدعاء
فرجع إلى دزفول ، وذهب إلى بيت الشيخ محمّد طاهر لإبلاغ سلام الإمام المهدي ـ عليهالسلام ـ فإذا فرغ من إبلاغ السلام تذكر الدعاء وقال : قال الإمام
: اقرأ هذا الدعاء ، ثم نسى الدعاء بعد ما قاله للشيخ ولم يتذكره ، ولمّا استدعى
من الشيخ أن يذكر له الدعاء ، قال الشيخ : هو سرّ من الأسرار فلم يتجاوزني ، وغير
ذلك من التشرفات.
هذا مضافا إلى
إرسال بعض الخواصّ لحلّ بعض مشاكل الشيعة أو إخبارهم ببعض الامور المهمّة ، وغير
ذلك من الإمدادات التي هي كثيرة جدا بحيث لو التفت الإنسان إليها حصل له اطمئنان
بأنّه لا يكون بعيدا عن سيده ومولاه ، بل يكون تحت ولايته وإمداده وعنايته ،
وإنّما علينا التوجه والالتفات إليه والارتباط معه ، كما فسّر في بعض الصحاح قوله
تعالى : (رابِطُوا) في الآية الكريمة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) بالارتباط مع الإمام الثاني عشر ـ عليهالسلام ـ.
عاشرها
: أنّ رؤية الإمام
الثاني عشر ـ عليهالسلام ـ وقعت في زمن الغيبة الكبرى لبعض الصالحين ، وقصصهم
وحكاياتهم كثيرة جدا ، ومذكورة في الكتب ، منها : النجم الثاقب وجنة المأوى ، ومن
أمعن النظر إليها اطمأنّ بوقوعها ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ مسألة
الرؤية هل تنافي قوله ـ عليهالسلام ـ في التوقيع الوارد على عليّ بن محمّد السمري ـ قدسسره ـ : «وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادعى
المشاهدة قبل خروج
السفياني والصيحة
فهو كذّاب مفتر» أم لا تنافي؟ والذي يمكن أن يقال : إنّ ملاحظة صدر هذا التوقيع
تكفي لرفع المنافاة ؛ لأنّه يشهد على أنّ المراد نفي من ادعى البابية كبابية
النّواب الأربعة ، ولا يظهر منه نفي مطلق الرؤية.
وإليك صدر التوقيع
: بسم الله الرحمن الرحيم يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك ،
فإنّك ميّت ما بينك وبين ستة أيّام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد
وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك
بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي شيعتي من يدّعي
المشاهدة ، الخ.
كما احتمله في
البحار حيث قال : لعله محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من
جانبه ـ عليهالسلام ـ إلى الشيعة ، على مثال السفراء لئلا ينافي الأخبار التي
مضت وستأتي فيمن رآه ـ عليهالسلام ـ والله يعلم
واستظهره السيد
صدر الدين الصدر في كتابه «المهدي» حيث قال : «وهذه الكتب تخبرنا عن جماعة أنّهم
شاهدوه وتشرّفوا بخدمته ، ولا ينافي ذلك ما ورد من تكذيب مدّعي الرؤية ، فإنّ
المراد تكذيب مدّعي النيابة الخاصّة بقرينة صدر الرواية» . وهنا أجوبة اخرى ذكرها العلّامة الحاج ميرزا حسين النوري
في جنّة المأوى .
هذا مضافا إلى أنّ
مثل قوله وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة إلخ ، مع قطع النظر عن الصدر لا يفيد
إلّا الظن والظن لا يقاوم مع القطع الحاصل من القضايا التي تدلّ على رؤيته ، ولعلّ
إليه ينظر ما حكي عن فوائد العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ حيث قال : «وقد يمنع أيضا امتناعه (أي امتناع
__________________
رؤيته) في شأن
الخواصّ وإن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار ودلالة بعض الآثار» .
الحادي
عشر : مسألة الانتظار
وقد أكّد في الأخبار على انتظار الفرج وإليك بعضها :
عن ينابيع المودة
عن مناقب الخوارزمي عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين قال : قال رسول
الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «أفضل العبادة انتظار الفرج» .
عن الاحتجاج ، عن
أبي حمزة الثمالي ، عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين ـ عليهماالسلام ـ قال : «تمتد الغيبة بوليّ الله الثاني عشر من أوصياء
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ والأئمة بعده ، يا أبا خالد ، إنّ أهل زمان غيبته
القائلون بإمامته ، المنتظرون لظهوره أفضل أهل كلّ زمان ؛ لأنّ الله تعالى ذكره
أعطاهم من العقول والإفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة ،
وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالسيف ، اولئك المخلصون حقّا ، وشيعتنا صدقا والدعاة
إلى دين الله سرا وجهرا ، وقال ـ عليهالسلام ـ انتظار الفرج من اعظم الفرج» .
وعن الخصال
الأربعمائة قال أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله ، فإنّ أحبّ
الأعمال إلى الله عزوجل انتظار الفرج» .
وعن محاسن البرقي
عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «من مات منكم
__________________
على هذا الأمر
منتظرا له ، كان كمن كان في فسطاط القائم عليهالسلام» ، وعن محاسن البرقي أيضا ، عن عبد الحميد الواسطي قال : «قلت
لأبي جعفر ـ عليهالسلام ـ أصلحك الله ، والله لقد تركنا أسواقنا انتظارا لهذا
الأمر ، حتى أوشك الرجل منّا يسأل في يديه ، فقال : يا عبد الحميد ، أترى من حبس
نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجا؟ بلى ، والله ليجعلن الله له مخرجا ، رحم
الله عبدا حبس نفسه علينا ، رحم الله عبدا أحيا أمرنا قال : قلت : فإن مت قبل أن
أدرك القائم ، فقال : القائل منكم إن أدركت القائم من آل محمّد نصرته كالمقارع معه
بسيفه ، والشهيد معه له شهادتان» . ولعلّ المراد من ترك الأسواق هو ترك ما لا يليق بالمنتظر.
وعن إكمال الدين
عن عمار الساباطي قال : «قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ العبادة مع الإمام منكم المستتر في السرّ في دولة الباطل
أفضل ، أم العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟ فقال : يا عمّار ،
الصدقة في السرّ والله أفضل من الصدقة في العلانية ، وكذلك عبادتكم في السرّ ، مع
إمامكم المستتر في دولة الباطل أفضل لخوفكم من عدوّكم في دولة الباطل وحال الهدنة
، ممن يعبد الله في ظهور الحقّ مع الإمام الظاهر في دولة الحقّ ، وليس العبادة مع
الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحق اعلموا أنّ من صلّى منكم
صلاة فريضة وحدانا مستترا بها من عدوّه في وقتها فأتمّها ، كتب الله عزوجل له بها خمسة وعشرين صلاة فريضة وحدانية ، ومن صلّى منكم
صلاة نافلة في وقتها فأتمّها كتب الله عزوجل له بها عشر صلوات نوافل ، ومن عمل منكم حسنة كتب الله له
بها عشرين حسنة ، ويضاعف الله تعالى حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ، ودان
الله بالتقية على دينه ،
__________________
وعلى إمامه وعلى
نفسه ، وأمسك من لسانه ، أضعافا مضاعفة كثيرة إنّ الله عزوجل كريم.
قال : فقلت : جعلت
فداك قد رغّبتني في العمل ، وحثثتني عليه ، ولكنّني أحبّ أن أعلم : كيف صرنا نحن
اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحقّ ، ونحن وهم على دين
واحد ، وهو دين الله عزوجل؟
فقال : إنّكم
سبقتموهم إلى الدخول في دين الله ، وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كلّ فقه وخير ،
وإلى عبادة الله سرا من عدوّكم مع الإمام المستتر ، مطيعون له ، صابرون معه ،
منتظرون لدولة الحق ، خائفون على إمامكم وعلى أنفسكم من الملوك تنظرون إلى حقّ
إمامكم وحقّكم في أيدي الظلمة ، قد منعوكم ذلك ، واضطروكم إلى جذب الدنيا وطلب
المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة ربّكم والخوف من عدوكم ، فبذلك ضاعف
الله أعمالكم فهنيئا لكم هنيئا.
قال : فقلت جعلت
فداك فما نتمنى إذا أن نكون من أصحاب القائم ـ عليهالسلام ـ في ظهور الحق؟ ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالا
من أعمال أصحاب دولة الحق.
فقال : سبحان الله
أما تحبون أن يظهر الله عزوجل الحقّ والعدل في البلاد ، ويحسن حال عامّة الناس ، ويجمع
الله الكلمة ويؤلّف بين القلوب المختلفة ، ولا يعصى الله في أرضه ، وتقام حدود
الله في خلقه ، ويردّ الحقّ إلى أهله ، فيظهروه حتّى لا يستخفي بشيء من الحقّ
مخافة أحد من الخلق.
أما والله يا
عمّار لا يموت منكم ميّت على الحال التي أنتم عليها إلّا كان أفضل عند الله عزوجل من كثير ممن شهد بدرا واحدا فابشروا» .
__________________
وعن إكمال الدين
عن محمّد بن الفضيل عن الرضا ـ عليهالسلام ـ قال : «سألته عن شيء من الفرج ، فقال : أليس انتظار
الفرج من الفرج؟ إنّ الله عزوجل يقول : «فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين» .
وعن إكمال الدين
عن الرضا ـ عليهالسلام ـ : «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج أما سمعت قول الله تعالى
: (وَارْتَقِبُوا إِنِّي
مَعَكُمْ رَقِيبٌ) وقوله عزوجل : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فعليكم بالصبر فإنّه إنّما يحبيء الفرج على اليأس فقد كان
الذين من قبلكم أصبر منكم» .
وعن إكمال الدين ،
عن أبي إبراهيم الكوفيّ إلى أن قال : فقال لي أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ إلى أن قال : «المنتظر للثاني عشر كالشاهر سيفه وبين يدي
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يذبّ عنه» .
عن غيبة الشيخ
الطوسي ـ قدسسره ـ عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين
منكم ، قالوا : يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر واحد وحنين ، ونزل فينا القرآن ،
فقال : إنّكم لو تحمّلوا لما حمّلوا لم تصبروا صبرهم» .
عن غيبة النعماني
، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ أنّه قال ذات يوم : «ألا اخبركم بما لا يقبل الله عزوجل من العباد عملا إلّا به ، فقلت : بلى فقال : شهادة أن لا
إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما أمر الله والولاية لنا ،
والبراءة من أعدائنا ، يعني أئمة خاصّة والتسليم لهم ، والورع والاجتهاد
والطمأنينة والانتظار للقائم ، ثم قال : إنّ لنا دولة يجيء الله بها إذا
__________________
شاء ، ثم قال : من
سرّ أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر ،
فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه فجدّوا وانتظروا هنيئا
لكم أيتها العصابة المرحومة» عن غيبة النعماني عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ جعلت فداك متى الفرج؟ فقال : يا أبا بصير ، أنت ممن يريد
الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فرّج عنه بانتظاره» .
وعن تفسير
النعماني عن أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «يا أبا الحسن ، حقيق على الله أن يدخل أهل الضلال
الجنّة وإنّما عني بهذا المؤمنين الذين قاموا في زمن الفتنة على الائتمام بالإمام
الخفيّ المكان ، المستور عن الأعيان ، فهم بإمامته مقرون ، وبعروته مستمسكون ،
ولخروجه منتظرون موقنون غير شاكّين ، صابرون مسلمون وإنّما ضلّوا عن مكان إمامهم ،
وعن معرفة شخصه» الحديث .
وعن إكمال الدين
عن علي بن محمّد بن زياد قال : كتبت إلى أبي الحسن ـ عليهالسلام ـ أسأله عن الفرج ، فكتب إليّ : «إذا غاب صاحبكم عن دار
الظالمين فتوقعوا الفرج» .
وعن إكمال الدين
عن أبي بصير قال : «قال الصادق جعفر بن محمّد ـ عليهماالسلام ـ في قول الله عزوجل (يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) قال : يعني يوم خروج القائم المنتظر منّا.
ثم قال ـ عليهالسلام ـ : يا أبا بصير طوبى لشيعة قائمنا ، المنتظرين لظهوره في
__________________
غيبته والمطيعين
له في ظهوره اولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» .
تنبيه
واعلم أنّ
الانتظار ليس بمعنى رفض المسئولية والعمل والتعهد ، وإحالة ذلك إلى الإمام المهديّ
ـ عليهالسلام ـ لقيام الضرورة على بقاء التكاليف ، هذا مضافا إلى
التصريح في رواية غيبة النعماني وغيرها ، بلزوم الالتزام بأمر الله والولاية
للأئمة والبراءة من أعدائهم ، واختيار الورع والاجتهاد والطمأنينة ، فمن ادعى أنّه
من المنتظرين ، ومع ذلك خالف أمر الله أو تولّى لأعداء الله أو أراد غير الأئمة ـ عليهمالسلام ـ من الطواغيت ، ولا يكون من أهل الورع ولا يجتهد في العمل
بالدين ، وليس له طمأنينة في هذا السبيل وسلب عن نفسه المسئولية وتكاليفه ، فهو من
الضالّين المنحرفين ، وليس في الحقيقة من المنتظرين ، وإنّما المنتظر من يصلح نفسه
وأصلح الامور ، وينتظر ويتوقع الفرج ، فيما لم يقدر على اصلاحه فالمنتظر لمقدم
مولانا الإمام القائم ـ أرواحنا فداه ـ أتى بما عليه وأعدّ نفسه لنصرة الإمام ،
ولا يزال مراقبا ، والمراقب هو المعدّ لذلك سيّما إذا انتظر الفرج صباحا ومساء ،
فالمنتظرون هم الجند المجند ، والمسئولون المتعهدون ، والصالحون المصلحون ، ومن
المعلوم أنّ هؤلاء يحتاجون إلى الصبر والمقاومة ، وأمّا الذين سلبوا عن أنفسهم
المسئولية فلا حاجة لهم إلى الصبر ، وتعبير رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ عن الانتظار بالعبادة يناسب انتظار هؤلاء المتعهدين لا
الذين رفضوا التكاليف والمسئولية ، كما أنّ الانتظار بالمعنى المذكور يوجب الفرج
عن الضلالة والنجاة عن الانحراف عن المسير بحيث إن ظهر الإمام
__________________
الثاني عشر ـ أرواحنا
فداه ـ أمكن له أن يدخل في زمرة ناصريه ، فإيمانه بالإمام قبل ظهوره وانتظاره
ينفعه عند ظهوره ، ويصير كما نصّ عليه الإمام الصادق ـ عليهالسلام ـ من مصاديق قوله تعالى : «اولئك أولياء الله الذين لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون».
وهؤلاء المنتظرون
هم المستحقّون لما ورد من أنّ المنتظر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله
ـ صلىاللهعليهوآله ـ يذبّ عنه ، وغير ذلك من الفضائل.
ولقد أوضح ذلك آية
الله السيد صدر الدين الصدر ـ قدسسره ـ حيث قال : «الانتظار هو ترقب حصول الأمر المنتظر وتحقّقه
، ولا يخفى ما يترتب على انتظار ظهور المهدي ، من الامور الإصلاحية الراجعة إلى
كلّ إنسان ، فضلا عن الهيئة الاجتماعية سيّما الشيعة الإمامية :
الأول : أنّ
الانتظار بنفسه من حيث هو رياضة مهمّة للنفس حتى قيل : الانتظار أشدّ من القتل ،
ولازمه اشغال القوّة المفكرة وتوجيه الخيال نحو الأمر المنتظر ، وهذا ممّا يوجب
قهرا أمرين : الأول : قوة المفكّرة ضرورة توجب ازدياد القوى بالأعمال. الثاني :
تمكّن الإنسان من جمعها وتوجيهها نحو أمر واحد ، وهذان الأمران من أهمّ ما يحتاج
إليهما الإنسان في معاده ومعاشه.
الثاني : يسهّل
وقع المصائب والنوائب ويخفف وطأتها إذا علم الإنسان وعرف أنّها في معرض التدارك
والرفع وشتّان بين مصيبة علم الإنسان تداركها وبين مصيبة لا يعلم ذلك ، سيّما إذا
احتمل تداركها عن قريب والمهدي ـ عليهالسلام ـ بظهوره يملأ الأرض قسطا وعدلا.
الثالث : لازم
الانتظار محبة أن يكون الإنسان من أصحاب المهدي وشيعته ، بل من أعوانه وأنصاره ،
ولازم ذلك أن يسعى في إصلاح نفسه وتهذيب أخلاقه ، حتّى يكون قابلا لصحبة المهدي ،
والجهاد بين يديه ، نعم إنّ
ذلك يحتاج إلى
أخلاق قلّما توجد بيننا اليوم.
الرابع : الانتظار
كما أنّه يبعث إلى إصلاح النفس بل والغير ، كذلك يكون باعثا وراء تهيئة المقدمات
والمعدات الموجبة لغلبة المهدي على عدوّه ، ولازمه تحصيل ما يحتاج إليه من المعارف
والعلوم سيّما وقد علم أنّ غلبته على عدوّه تكون بالأسباب العاديّة» .
ثم إنّ الانتظار
أثر الإيمان بمجيء الإمام الثاني عشر ، الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا
مع كون ظهوره محتمل في كلّ عصر وزمان وصباح ومساء ، إذ القول بتأخير الظهور مردود
بحسب الأخبار ، كما أنّ القول بتوقيته كذلك ، وأمّا ما ذكر من علائم الظهور فهي
ليس جميعها من المحتومات ، مع أنّ محتوماتها أيضا قابلة للتغيير كما دلّ عليه بعض
الروايات.
هذا مضافا إلى
إمكان وقوعها في زمان قليل ، فالانتظار ممكن في كلّ الأحوال ؛ إذ ظهوره لا يكون
معلقا بزمان آخر.
__________________
١٠
ـ عقيدتنا في الرجعة
إنّ الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما
جاء عن آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ أنّ الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها ،
فيعزّ فريقا ، ويذلّ فريقا آخر ، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من
الظالمين ، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسّلام.
ولا يرجع إلّا من علت درجته في الإيمان
، أو من بلغ الغاية من الفساد ، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور
، وما يستحقونه من الثواب أو العقاب كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي
هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله ، أنّ يخرجوا ثالثا
لعلهم يصلحون : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)
المؤمن : ١١.
نعم قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة
إلى الدنيا وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة والإمامية بأجمعها عليه إلّا قليلون
منهم تأوّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل
البيت
بظهور الإمام المنتظر
من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى. والقول بالرجعة يعدّ عند أهل السنّة من
المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها ، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدّون
الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته
وطرحها. ويبدو أنّهم يعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع ، فكان هذا الاعتقاد من
أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنّع به عليهم.
ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات
التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضدّه ،
ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل ؛ لأنّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة
التوحيد ولا في عقيدة النبوّة ، بل يؤكد صحة العقيدتين ؛ إذ الرجعة دليل القدرة
البالغة لله تعالى ، كالبعث والنشر ، وهي من الامور الخارقة للعادة التي تصلح أن
تكون معجزة لنبينا وآل بيته ـ صلّى الله عليه وعليهم ـ وهي عينا معجزة إحياء
الموتى التي كانت للمسيح ـ عليهالسلام
ـ بل أبلغ هنا لأنّها بعد أن يصبح الأموات رميما (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)
يس : ٧٩.
وأمّا من طعن في الرجعة باعتبار أنّها
من التناسخ الباطل ؛ فلأنّه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني
والرجعة من نوع المعاد الجسماني ، فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى
بدن آخر منفصل عن الأوّل ، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني ، فإنّ معناه رجوع نفس
البدن الأوّل بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة.
وإذا كانت الرجعة تناسخا فإنّ إحياء
الموتى على يد عيسى
ـ عليهالسلام
ـ كان تناسخا ، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا.
إذن لم يبق إلّا أن يناقش في الرجعة من
جهتين (الأولى) : أنّها مستحيلة الوقوع. (الثانية) : كذب الأحاديث الواردة فيها.
وعلى تقدير صحّة المناقشتين ، فإنّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة
التي هوّلها خصوم الشيعة. وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الامور
المستحيلة ، أو التي لم يثبت فيها نصّ صحيح ، ولكنّها لم توجب تكفيرا وخروجا عن
الإسلام ، ولذلك أمثلة كثيرة : منها : الاعتقاد بجواز سهو النبيّ أو عصيانه ،
ومنها : الاعتقاد بقدم القرآن ، ومنها : القول بالوعيد ، ومنها : الاعتقاد بأنّ
النبيّ لم ينص على خليفة من بعده.
على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما
من الصحة ، أمّا أنّ الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني
غير أنّها بعث موقوت في الدنيا ، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها ، ولا
سبب لاستغرابها إلّا أنّها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا.
ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما
يقرّبها إلى اعترافنا أو يبعدها وخيال الإنسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم
يألفه ، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول : (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)
فيقال له : (يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
نعم في مثل ذلك ممّا لا دليل عقلي لنا
على نفيه أو إثباته أو نتخيّل عدم وجود الدليل ، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية
التي هي مصدر الوحي الإلهي ، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى
الدنيا لبعض الأموات
، كمعجزة عيسى ـ عليهالسلام
ـ في إحياء الموتى (وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ)
وكقوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)
والآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ...)
فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت ، وإن تكلّف بعض
المفسّرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يحقّق معنى الآية.
وأمّا المناقشة الثانية وهي دعوى أنّ
الحديث فيها موضوع فإنّه لا وجه لها ؛ لأنّ الرجعة من الامور الضرورية فيما جاء عن
آل البيت من الأخبار المتواترة.
وبعد هذا أفلا تعجب من كاتب شهير يدّعي
المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول : «فاليهودية ظهرت في
التشيع بالقول بالرجعة» فأنا أقول له على مدّعاه : فاليهودية أيضا ظهرت في القرآن
بالرجعة ، كما تقدّم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة.
ونزيده فنقول : والحقيقة أنّه لا بدّ أن
تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والأحكام الإسلامية ؛ لأنّ النبيّ
الأكرم جاء مصدّقا لما بين يديه ، من الشرائع السماوية ، وإن نسخ بعض أحكامها ،
فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ، ليس عيبا في الإسلام ،
على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.
وعلى كلّ حال فالرجعة ليست من الاصول
التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها وإنّما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة
الواردة عن آل
البيت ـ عليهمالسلام
ـ الذين ندين بعصمتهم من الكذب ، وهي من الامور الغيبية التي أخبروا عنها ولا
يمتنع وقوعها (١).
______________________________________________________
(١) لا كلام في
ثبوت الرجعة في الجملة بعد كونها من ضروريات المذهب كما أشار إليه المصنّف ـ قدسسره ـ وصرّح به غيره كالشيخ الحرّ العاملي ـ قدسسره ـ في الإيقاظ من الهجعة حيث قال : «إن ثبوت الرجعة من
ضروريات مذهب الإمامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنفين المشهورين ، بل يعلم
العامّة أنّ ذلك من مذهب الشيعة» .
وهكذا لا مجال
للكلام فيه بعد كون الأخبار الدالّة على ثبوت الرجعة متواترة جدا كما أشار إليه
المصنّف قدسسره أيضا ، وصرّح به غيره كالشيخ الحرّ العامليّ فإنّه بعد
اختصاص كتابه المذكور بالرجعة ، وجمع أدلتها فيه ، قال في أواخره ص ٣٩١ : «فهذه
جملة من الأحاديث التي حضرتني في هذا الوقت مع ضيق المجال عن التتبع التامّ وقلة
وجود الكتب التي يحتاج إليها في هذا المرام ، ولا ريب في تجاوزها حدّ التواتر
المعنوي ـ إلى أن قال ـ : ولعلّ ما لم يصل إلينا في هذا المعنى أكثر ممّا وصل
إلينا» وكالعلّامة المجلسي ـ قدسسره ـ حيث قال : «وإذا لم يكن مثل هذا متواترا ففي أيّ شيء
يمكن دعوى التواتر مع ما روته كافّة الشيعة خلفا عن سلف» .
وكالعلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ حيث قال : «إن الروايات متواترة معنى عن أئمة أهل البيت
حتّى عدّ القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر
الأوّل» .
__________________
وأمّا الإشكال في
إمكان الرجعة فلا وقع له بعد وقوعها في الامم السالفة كما نصّ عليه في القرآن
الكريم كقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ
بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وقال في الإيقاظ
من الهجعة : «فهذه الآية صريحة ، في أنّ المذكور فيها مات مائة سنة ثم أحياه الله
وبعثه إلى الدنيا وأحيا حماره ، وظاهر القرآن يدلّ على أنّه من الأنبياء لما
تضمّنه من الوحي والخطاب له ، وقد وقع التصريح في الأحاديث الآتية بأنّه كان نبيّا
، ففي بعض الروايات أنّه ارميا النبيّ ، وفي بعضها أنّه عزير النبيّ ـ عليهماالسلام ـ وقد روى ذلك العامة والخاصة» .
وكقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا
ثُمَّ أَحْياهُمْ ...) . قال في الإيقاظ من الهجعة : «وقد روت الأحاديث الآتية
وغيرها أنّ المذكورين في هذه الآية كانوا سبعين ألفا فأماتهم الله مدة طويلة ثم
أحياهم فرجعوا إلى الدنيا وعاشوا أيضا مدة طويلة» .
وكقوله تعالى :
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
ـ إلى قوله ـ :
وَإِذْ
قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
__________________
وَأَنْزَلْنا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ...» .
وكقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ
اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْياً ...) .
وغير ذلك من
الآيات الصريحة ، فإنّ أدلّ دليل على امكان شيء وقوعه ، فيعلم من وقوعها في الامم
السالفة بطلان ما يتخيل من استحالتها. هذا مضافا إلى ما أشار إليه في المتن من
اختصاص الاستحالة بالتناسخ الذي هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن
الأوّل ، والرجعة ليست كذلك لأنّها من نوع المعاد الجسماني ، ومعناه رجوع النفس
إلى البدن الأوّل بمشخصاته النفسية ، وإنّما الفرق بين المعاد والرجعة أنّ الرجعة
عود ورجوع موقوف في الدنيا والمعاد هو عود ورجوع في الآخرة.
على أنّ الرجعة
كالمعاد لا تستلزم عود ما خرج من القوّة إلى الفعل إلى القوّة ثانيا ، فإنّ من
الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى
فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعدّ له في الزمان الثاني ، أو يستعدّ لكمال مشروط
بتخلّل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط ، فيجوز على أحد
الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال ، وتمام الكلام موكول إلى غير هذا
المقام .
هذا مضافا إلى ما
أفاده آية الله السيد أبو الحسن الرفيعي ـ قدسسره ـ في رجعة الأئمة ـ عليهمالسلام ـ بما حاصله : «من أنّ التناسخ هو عود الروح إلى البدن
الآخر ، مع ما عليه من الفعلية الأوّلية ، وضعف الوجود ، وأمّا رجوع
__________________
الروح مع بقاء
كماله وجوهريته المخصوصة التي حصلت له بالموت ، لتدبير بدن على نحو أكمل من
التدبير السابق ، فليس بتناسخ محال ، بل الرجوع المذكور كتمثل بعض الملائكة ،
فإنّهم مع عدم احتياجهم إلى الاستكمال من ناحية البدن المحسوس تمثّلوا في موارد
بأمره تعالى في أبدان مخصوصة ، كتمثّل جبرئيل بصورة بشر في قصة مريم سلام الله
عليها» وبقية الكلام تطلب من مظانّها.
ثم إنّ الرجعة
التي تواترت الأخبار بوقوعها في الامة الإسلامية ، تقع بعد ظهور الإمام المهديّ ـ أرواحنا
فداه ـ ثم إنّ المرجوعين هم الأشخاص وذواتهم ، لا رجوع أوصافهم ودولتهم ، فإنّه
أجنبيّ عن صريح الأخبار وحقيقة الرجعة ، كما أنّ رجوع الأوصاف لا اختصاص له بآخر
الزمان ، بل هو أمر واقع من لدن خلقة آدم ، فإنّ كلّ نبيّ ووصيّ كان يقوم في مقام
نبيّ أو وصيّ سابق ـ بل أصحابهم أيضا كانوا يقومون مقام أصحاب الماضين من الأنبياء
والأوصياء .
ثم إنّ الأخبار
على طوائف ، منها : تدلّ على رجوع من محض الإيمان محضا ، ومن محض الكفر محضا ، وعن
الشيخ الجليل أمين الدين أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان
لعلوم القرآن عند قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أنّه قال : «قد تظاهرت تلك الأخبار عن أئمة الهدى من آل
محمّد ـ عليهمالسلام ـ في أن الله سيعيد عند قيام المهدي ـ عليهالسلام ـ قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب
نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ،
وينالوا بعض ما يستحقّونه من العذاب والقتل على أيدي شيعته ، والذلّ والخزي بما
يشاهدون من علوّ كلمته» .
__________________
وروي في مختصر
البصائر عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : «إنّ الرجعة ليست بعامّة وهي خاصّة ، لا يرجع إلّا من
محض الإيمان أو محض الشرك محضا» ولذا قال العلّامة المجلسي ـ قدسسره ـ : «والرجعة عندنا يختصّ بمن محض الإيمان ومحض الكفر ،
دون من سوى هذين الفريقين» .
ومنها : تدلّ على
رجعة رسول الله والأئمة ـ عليهمالسلام ـ روى سعد بن عبد الله في مختصر البصائر على ما نقل عنه
الحسن بن سليمان بن خالد عن أحمد بن محمّد بن عيسى ومحمّد بن الحسين عن البزنطي عن
حمّاد بن عثمان عن بكير بن أعين قال : «قال لي من لا أشك فيه يعني أبا جعفر ـ عليهالسلام ـ : إنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وأمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ سيرجعان» .
وعن الصادق ـ عليهالسلام ـ : «ليس منّا من لم يؤمن بكرّتنا ويستحل متعتنا» وقد ورد في بعض الزيارات : «إنّي من القائلين بفضلكم مقرّ
برجعتكم» وفي الزيارة الجامعة : «فثبتني الله أبدا ما حييت على
موالاتكم ... وجعلني ممن يقتصّ آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهديكم ويحشر في زمرتكم
ويكرّ في رجعتكم» وفي زيارة قبر الحسين ـ عليهالسلام ـ : «اشهدكم أني بكم مؤمن وبإيابكم موقن» وروى علي بن إبراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى
الحلبي عن عبد الحميد الطائي عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين ـ عليهماالسلام ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : يرجع إليكم نبيكم وأمير المؤمنين والأئمة عليهمالسلام» وإلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
__________________
ومنها : تدلّ على
بعض أشخاص الأئمة ـ عليهمالسلام ـ كأمير المؤمنين.
روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في ضمن حديث «أنّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال لعلي ـ عليهالسلام ـ : يا علي ، إذا كان في آخر الزمان أخرجك الله في أحسن
صورة ومعك ميسم تسمّ به اعداءك» وكحسين بن علي ـ عليهماالسلام ـ روى في مختصر البصائر على ما نقل عنه عن عمر بن عبد
العزيز عن جميل بن دراج عن المعلّى بن خنيس وزيد الشحام عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «سمعناه يقول : أوّل من تكرّ في رجعته الحسين بن
علي ـ عليهالسلام ـ يمكث في الأرض حتّى يسقط حاجباه على عينيه» وإلى غير ذلك من الأخبار.
ومنها : تدلّ على
رجعة الأنبياء روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن مسكان
عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في قوله تعالى :
«وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» قال : ما بعث الله نبيا من لدن آدم وهلمّ جرا إلّا ويرجع
إلى الدنيا فينصر رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وأمير المؤمنين» الحديث .
ومنها : تدلّ على
رجعة بعض الخواصّ من الشيعة ، روى الشيخ الطوسي ـ قدسسره ـ في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان عن محمّد بن علي عن
جعفر بن بشير عن خالد أبي عمارة عن المفضل بن عمر قال : «ذكرنا القائم ـ عليهالسلام ـ ومن مات من أصحابنا ينتظره ، فقال لنا أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ : اذا قام اتى المؤمن في قبره فيقال له : يا هذا انه قد
ظهر صاحبك
__________________
فان شئت أن تلحق
به فالحق ، وان تشأ ان تقيم في كرامة ربك فاقم» .
ومنها : تدلّ على
أنّ لعلي ـ عليهالسلام ـ كرّات ورجعات ، روي عن مختصر البصائر عن أبي حمزة
الثمالي عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : «قال أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ ... وإن لي الكرّة بعد الكرّة والرجعة بعد الرجعة ، وأنا
صاحب الكرّات والرجعات ، وصاحب الصولات والنقمات والدولات العجيبات ، وأنا صاحب
الكرّات والرجعات ، وصاحب الصولات والنقمات والدولات العجيبات ، وأنا دابّة الأرض
وأنا صاحب العصا والميسم» الحديث . وإلى غير ذلك من أصناف أخبار الباب.
ثم إن الرجعة وإن
كانت من حيث هي مما لا دليل عقلي على نفيه وإثباته ، ولكن يمكن إقامة الدليل
العقلي على إثبات رجعة الأئمة ـ عليهمالسلام ـ فيما إذا خلت الأرض عن الحجّة بن الحسن ـ عليهالسلام ـ إن أمكن ذلك كما أشير إليه في بعض الأخبار فإنّ برهان
اللطف حينئذ يحكم بالرجعة بعد فرض عدم تجاوز عدد الأئمة عن اثني عشر ، كما لا يخفى
، هذا مضافا إلى ما في رسالة إثبات الرجعة لآية الله السيد أبي الحسن الرفيعي ـ قدسسره ـ فراجع . ومما ذكر يظهر وجوب الاعتقاد بها عقلا في ذلك الفرض مع
قطع النظر عن أخبار الرجعة فلا تغفل.
__________________
١١
ـ عقيدتنا في التقية
روي عن صادق آل البيت ـ عليهالسلام
ـ في الأثر الصحيح :
«التقية ديني ودين آبائي» و «من لا تقية
له لا دين له».
وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت ـ عليهمالسلام ـ
دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم ، وحقنا لدمائهم ، واستصلاحا لحال المسلمين ، وجمعا
لكلمتهم ولمّا لشعثهم.
وما زالت سمة تعرف بها الإمامية دون
غيرها ، من الطوائف والامم ، وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب
نشر معتقده أو التظاهر به ، لا بدّ أن يتكتّم ويتّقي في مواضع الخطر. وهذا أمر
تقتضيه فطرة العقول ، ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف
الضيق على حرّياتهم في جميع العهود ، ما لم تلاقه أيّة طائفة أو امة اخرى ،
فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية ، بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم
، وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصّة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في
الدين والدنيا ، ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعرفوا بها دون سواهم.
وللتقية أحكام ـ من حيث وجوبها وعدم
وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر ـ مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة.
وليست هي بواجبة على كلّ حال ، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال ، كما إذا
كان في إظهار الحقّ والتظاهر به نصرة للدين ، وخدمة للإسلام ، وجهاد في سبيله ،
فإنّه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعزّ النفوس.
وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب
قتل النفوس المحترمة ، أو رواجا للباطل أو فسادا في الدين أو ضررا بالغا على
المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.
وعلى كلّ حال ليس معنى التقية عند
الإمامية أنّها تجعل منهم جمعية سرّية لغاية الهدم والتخريب كما يريد أن يصورّها
بعض أعدائهم غير المتورّعين في إدراك الأمور على وجهها ، ولا يكلّفون أنفسهم فهم
الرأي الصحيح عندنا. كما أنّه ليس معناها أنّها تجعل الدين وأحكامه سرّا من
الأسرار ، لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به ، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما
يخصّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات ، قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحدّ
الذي ينتظر من أيّة امة تدين بدينها.
بلى ، إنّ عقيدتنا في التقيّة قد
استغلّها من أراد التشنيع على الإمامية ، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم ، وكأنّهم
كان لا يشفى غليلهم إلّا أن تقدّم رقابهم إلى السيوف ، لاستئصالهم عن آخرهم في تلك
العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت ،
من الامويّين ، والعباسيّين ، بل العثمانيّين.
وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى
زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية فإنّا نقول له :
«أولا» : إنّا متبعون لأئمتنا ـ عليهمالسلام
ـ ونحن نهتدي بهداهم ، وهم أمرونا بها ، وفرضوها علينا وقت الحاجة ، وهي عندهم من
الدين ، وقد سمعت قول الصادق ـ عليهالسلام
ـ : «من لا تقية له لا دين له».
و «ثانيا» : قد ورد تشريعها في نفس
القرآن الكريم ذلك قوله تعالى :
(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)
، النحل : ١٠٦ ، وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر
بالكفر خوفا من أعداء الإسلام وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)
آل عمران : ٢٨.
(وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)
المؤمن : ٢٨ (١).
______________________________________________________
(١) ولا يخفى عليك
أنّ التقيّة قد تكون خوفا من الضرر على نفس المتقي أو عرضه أو ماله أو ما يتعلق به
أو على نفس غيره من المؤمنين ، أو على حوزة الإسلام ، لأجل تفريق كلمتهم ، وقد
تكون التقيّة مداراة من دون خوف وضرر فعلي ، بأن يكون المقصود منها هو جلب مودة
العامّة والتحبيب بيننا وبينهم ، ولعلّ المصنّف أشار إلى الأوّل حيث قال : «وكذلك
هي لقد كانت شعارا لآل البيت ـ عليهمالسلام ـ دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقنا لدمائهم» وأشار إلى
الثاني حيث قال : «واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم ولمّا لشعثهم» ولكنّ
الظاهر من ملاحظة تمام العبادة أنّه بصدد بيان القسم الأوّل فإنّ الاستدلال له
بمثل أنّ الكتم والاتقاء في مواضع الخطر من فطرة العقول يشهد على أنّ مقصوده هو
القسم الأوّل.
اللهم إلّا أن
يقال : إنّ ترك المداراة مع العامّة ، وهجرهم في المعاشرة في
بلادهم وإن لم يكن
مقارنا بالخوف والضرر الفعلي ، ولكن ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للتضرر
منهم ، وعليه فيشمل التقيّة المداراتية أيضا ، وكيف كان فما دلّ على التقية
المداراتية ، خبر هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ يقول : «إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به ، فإنّ ولد
السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا ،
صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من
الخير ، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخباء قلت :
وما الخباء؟ قال
التقيّة» ؛ إذ الظاهر منها الترغيب إلى العمل موافقا لآرائهم ، وإلى
الاتيان بالصلاة مع عشائرهم ، وكذا غيرها من الخيرات ، ومن المعلوم أنّ العمل معهم
موافقا لهم مستلزم لترك بعض الأجزاء والشرائط ، وليس ذلك إلّا للتقية المداراتية.
ثم إنّ التقية
محكومة بالأحكام الخمسة قال الشيخ الأعظم الأنصاري ـ قدسسره ـ : «أمّا الكلام في حكمها التكليفي فهو أنّ التقية تنقسم
إلى الأحكام الخمسة ، فالواجب
منها : ما كان لدفع الضرر
الواجب فعلا وأمثلته كثيرة.
والمستحب
: ما كان فيه التحرز
عن معارض الضرر ، بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر كترك المداراة مع
العامّة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فإنّه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة
الموجبة لتضرره منهم.
والمباح
: ما كان التحرز عن
الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع ، كالتقيّة في إظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع
من الأصحاب ويدلّ عليه الخبر الوارد في رجلين اخذا بالكوفة وامرا بسبّ أمير
المؤمنين عليهالسلام.
__________________
والمكروه
: ما كان تركها
وتحمّل الضرر أولى من فعله ، كما ذكر بعضهم في إظهار كلمة الكفر ، وأنّ الأولى
تركها ممّن يقتدي به الناس إعلاء لكلمة الإسلام ، والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون
ضده أفضل.
والمحرّم
منه : ما كان في الدماء»
قال الشهيد الثاني ـ قدسسره ـ في القواعد : «والحرام التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا
وآجلا أو في قتل مسلم» ويشهد له ما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم
فليس تقية» .
ثم إنّ الظاهر عدم
انحصار موارد حرمة التقية بما ذكر ، بل تحرم التقيّة فيما إذا كانت التقية موجبة
للفساد في الدين ، كما يشهد له موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ في حديث ... وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر
حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة
مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز .
هذا مضافا إلى ما
أفاده السيّد المجاهد آية الله العظمى الإمام الخميني ـ قدسسره ـ من أن تشريع التقيّة لبقاء المذهب ، وحفظ الاصول ، وجمع
شتات المسلمين لإقامة الدين واصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ،
ولذا ذهب إلى عدم جواز التقية فيما إذا كان أصل من اصول الإسلام أو المذهب أو
ضروريّ من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون
الطغاة تغيير أحكام الإرث ، والطلاق ، والصلاة ، والحج ، وغيرها ، من اصول الأحكام
فضلا عن اصول الدين أو المذهب.
__________________
بل ذهب فيما إذا
كان بعض المحرّمات والواجبات في نظر الشارع في غاية الأهميّة كهدم الكعبة والمشاهد
المشرّفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده ، وغيرها من عظائم المحرّمات ، إلى
استبعاد التقية عن مذاق الشرع غاية الاستبعاد ، وقال : فهل ترى من نفسك إن عرض على
مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أو الحبس شهرا أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه ،
يجوز له ذلك تمسّكا بدليل الحرج والضرر.
ثم استظهر الرجوع
في أمثال تلك العظائم إلى تزاحم المقتضيات من غير توجّه إلى حكومة تلك الأدلّة على
أدلتها ، والحقّ بذلك ما إذا كان المتّقي ممّن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث
يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية ، أو تركه لبعض الواجبات مما يعدّ موهنا للمذهب
، وهاتكا لحرمته ، كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فإنّ جواز التقية في
مثله تشبثا بحكومة دليل الرفع ، وأدلّة التقية ، مشكل بل ممنوع . هذه جملة من الموارد التي استثنيت من أدلّة التقية ،
وبقية الكلام في محله ، وكيف كان فالدليل على وجوب التقية فيما إذا كانت واجبة هو
عمومات التقية التي أشار إليها المصنّف .
هذا مضافا إلى
أدلّة نفي الضرر ، وحديث رفع عن امتي تسعة أشياء ، ومنها : ما اضطروا إليه.
قال الشيخ الأعظم
ـ قدسسره ـ : «ثم الواجب منها يبيح كلّ محظور من فعل الحرام أو ترك
الواجب والأصل في ذلك أدلّة نفي الضرر وحديث رفع عن امتي تسعة أشياء ، ومنها : ما
اضطروا إليه ، مضافا إلى عمومات التقية مثل قوله في الخبر : أن التقية واسعة ليس
شيء من التقية إلّا وصاحبها مأجور ، وغير ذلك
__________________
من الأخبار
المتفرّقة في خصوص الموارد ، وجميع هذه الأدلّة حاكمة على أدلّة الواجبات
والمحرّمات ، فلا يعارض بها شيء منها حتّى يلتمس الترجيح ويرجع إلى الاصول بعد
فقده كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة» .
والدليل على
التقية فيما إذا كانت مستحبّة هو ما عرفت من صحيحة هشام بن الحكم ، ولذا قال الشيخ
الأعظم ـ قدسسره : «وأمّا المستحب من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على
مورد النصّ ، وقد ورد النصّ بالحث على المعاشرة مع العامّة وعيادة مرضاهم وتشييع
جنائزهم ، والصلاة في مساجدهم ، والأذان لهم ، فلا يجوز التعدّي عن ذلك إلى ما لم
يرد النصّ من الأفعال المخالفة للحقّ ، كذمّ بعض رؤساء الشيعة ، للتحبيب إليهم» ولكن مرّ عن الشهيد في قواعده من أنّه جعل المستحب من
التقية فيما إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا ، ويتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا ، أو كان
تقيته في المستحب كالترتيب في تسبيح الزهراء ـ صلوات الله عليها ـ وترك بعض فصول
الأذان ، ومقتضاه هو عدم الاقتصار فيه على مورد النص فافهم.
وأمّا المباح
والمكروه ، فقد قال الشيخ الأعظم ـ قدسسره ـ : «إن الكراهة أو الإباحة خلاف عمومات التقية فيحتاج إلى
الدليل الخاص» وقد أطلعت الكلام ، ومع ذلك بقي الكلام وعليك بالمراجعة
إلى المطولات ، كالرسالة في التقية للشيخ الأعظم ـ قدسسره ـ والرسائل للسيّد المجاهد آية الله العظمى الإمام الخميني
ـ قدسسره ـ ولله الحمد.
__________________
الفصل الرابع
ما أدّب به آل البيت شيعتهم
١ ـ عقيدتنا
في الدعاء
٢ ـ أدعية
الصحيفة السجادية
٣ ـ عقيدتنا
في زيارة القبور
٤ ـ عقيدتنا
في معنى التشيع عند آل البيت
٥ ـ عقيدتنا
في الجور والظلم
٦ ـ عقيدتنا
في التعاون مع الظالمين
٧ ـ عقيدتنا
في الوظيفة في الدولة الظالمة
٨ ـ عقيدتنا
في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
٩ ـ عقيدتنا
في حقّ المسلم على المسلم
تمهيد
:
إنّ الأئمة من آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم ، وأنّهم وشيعتهم سيبقون
تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.
فكان من الطبيعي ـ من جهة ـ أن يتخذوا
التكتم «التقية» دينا وديدنا لهم ولأتباعهم ، ما دامت التقية تحقن من دمائهم ولا
تسيء إلى الآخرين ولا إلى الدين ، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن
والثائر على آل البيت بالإحن.
وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم ـ من جهة
اخرى ـ أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلى توجيههم
توجيها دينيا صالحا ، وإلى أن يسلكوا بهم مسلكا اجتماعيا مفيدا ، ليكونوا مثال
المسلم الصحيح (العادل).
__________________
وطريقة آل البيت
في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة ، وكتب الحديث الضخمة متكفلة بما نشروه من تلك
المعارف الدينيّة ، غير أنّه لا بأس أن نشير هنا إلى بعض ما يشبه أن يدخل في باب
العقائد فيما يتعلق بتأديبهم لشيعتهم ، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي
المفيد ، وتقرّبهم زلفى إلى الله تعالى ، وتطهّر صدورهم من درن الآثام والرذائل ،
وتجعل منهم عدولا صادقين. وقد تقدّم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب
المفيدة اجتماعيا لهم ، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعن لنا من هذه الآداب.
١
ـ عقيدتنا في الدعاء
قال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ
: «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السّماوات والأرض» ، وكذلك هو ، أصبح من
خصائص الشيعة التي امتازوا بها ، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة
عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة. وقد اودع في هذه الكتب ما كان
يهدف إليه النبيّ وآل بيته ـ صلّى الله عليهم وسلّم ـ من الحثّ على الدعاء
والترغيب فيه. حتّى جاء عنهم «أفضل العبادة الدعاء» و «أحبّ الأعمال إلى الله
عزوجل في الأرض الدعاء» بل ورد عنهم «أنّ الدعاء يردّ القضاء والبلاء» و «أنّه
شفاء من كلّ داء».
وقد ورد أنّ «أمير المؤمنين» صلوات الله
عليه كان رجلا «دعّاء» ، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيد الموحدين
وإمام الإلهيين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن
زياد المشهور ، وقد تضمّنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينيّة ما يصلح أن
تكون منهجا رفيعا للمسلم الصحيح.
وفي الحقيقة أنّ الأدعية الواردة عن
النبيّ وآل بيته ـ عليهم الصلاة
والسّلام ـ خير منهج
للمسلم ـ إذا تدبّرها ـ تبعث في نفسه قوّة الإيمان ، والعقيدة وروح التضحية في
سبيل الحق ، وتعرّفه سرّ العبادة ، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه ،
وتلقّنه ما يجب على الإنسان أن يعلمه لدينه وما يقرّبه إلى الله تعالى زلفى ،
ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد اودعت
فيها خلاصة المعارف الدينيّة من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس ، ومن ناحية
العقيدة الإسلامية ، بل هي من أهمّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلميّة في
الالهيات والأخلاقيات.
ولو استطاع الناس ـ وما كلّهم بمستطيعين
ـ أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية ، لما كنت تجد
من هذه المفاسد المثقلة بها الأرض أثرا ، ولحلّقت هذه النفوس المكبّلة بالشرور في
سماء الحقّ حرّة طليقة ، ولكن أنّي للبشر أن يصغى إلى كلمة المصلحين والدعاة الى
الحق ، وقد كشف عنهم قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
نعم إن ركيزة السوء في الإنسان اغتراره
بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعا فيما أتخذ من عمل : فيظلم
ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويطاوع شهواته ما شاء له هواه ، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم
يفعل إلّا ما ينبغي أن يفعل ، أو يغضّ بصره متعمّدا عن قبيح ما يصنع ويستصغر
خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمد من منبع الوحي تجاهد أن تحمل
الانسان على الاختاء بنفسه والتجرّد إلى الله تعالى ، لتلقّنه الاعتراف بالخطإ
وأنّه المذنب الذي يجب عليه
الانقطاع إلى الله
تعالى لطلب التوبة والمغفرة ، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه ، مثل أن
يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد :
«إلهي ومولاي أجريت عليّ حكما اتبعت فيه
هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي ، فغرّني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء
، فتجاوزت بما جرى عليّ من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض أو امرك».
ولا شكّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة
أسهل على الإنسان من الاعتراف علانية مع الناس ، وإن كان من أشقّ أحوال النفس
أيضا. وإن كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تمّ ذلك للإنسان فله شأن كبير في
تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يريد تهذيب نفسه لا بدّ أن
يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرّية لمحاسبتها ، وخير طريق لهذه الخلوة
والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار
النفس ، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ :
«أي رب ، جلّلني بسترك ، واعف عن توبيخي
بكرم وجهك».
فتأمّل كلمة «جلّلني» فإنّ فيها ما يثير
في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ ، ليتنبّه الإنسان إلى هذه
الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك :
«فلو أطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته
، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته».
وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه
إلى الحرص على كتمان ما
عنده من المساوئ
يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى ، لئلا يفتضح عند الناس لو
أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله ، فيلتذّ الإنسان ساعتئذ
بمناجاة السر ، وينقطع إلى الله تعالى ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة
فلم يفضحه ؛ إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم :
«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك
بعد قدرتك».
ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار
عمّا فرط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه تعالى ، لئلا تنقطع الصلة بين العبد
وربّه ، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول :
«ويحملني ويجزئني على معصيتك حلمك عنّي
، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ. ويسرعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة
رحمتك وعظيم عفوك».
وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في
مناجاة السرّ ، لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة
هذه بتكثير النماذج من هذا النوع. وما أكثرها.
ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الأدعية
الواردة باسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة ، مثل ما تقرأ في دعاء
كميل بن زياد :
«وليت شعري يا سيدي ومولاي أتسلط النار
على وجوه خرت لعظمتك ساجدة ، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى
قلوب اعترفت بإلهيتك محقّقة ، وعلى ضمائر حوت من
العلم بك حتّى صارت
خاشعة ، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة ، ما هكذا
الظن بك ولا اخبرنا بفضلك».
كرّر قراءة هذه الفقرات ، وتامّل في لطف
هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه ، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف
بتقصيرها وعبوديتها ، يلقّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه ، ثم يكلّم
النفس بابن عمّ الكلام ومن طرف خفي لتلقينها ، واجباتها العليا ؛ إذ يفرض فيها
أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة ، ثم يعلّمها أنّ الإنسان بعمل هذه الواجبات
يستحق التفضل من الله بالمغفرة ، وهذا ما يشوق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل
ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.
ثم تقرأ اسلوبا آخر من الاحتجاج من نفس
الدعاء : «فهبني يا إلهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني
يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!».
وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب
الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته ، حبّا له وشوقا إلى ما عنده ، وبأنّ هذا
الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من
العذاب وحرّ النار ، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّن من أن يصبر على حرّ النار فإنّه لا
يتمكن من الصبر على هذا الترك ، كما تفهّمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحبّ والالتذاذ
بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى
لطف هذا النوع من التعجب والتملّق إلى
الكريم الحليم قابل
التوب وغافر الذنب.
ولا بأس في أن نختم بحثنا هذا بايراد
دعاء مختصر جامع لمكارم الأخلاق ولما ينبغي لكلّ عضو من الإنسان وكلّ صنف منه أن
يكون عليه من الصفات المحمودة : «اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية ، وصدق
النيّة وعرفان الحرمة».
«وأكرمنا بالهدى والاستقامة ، وسدّد
ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة ، وطهّر بطوننا من الحرام
والشبهة ، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة ، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة ،
واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة».
«وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة ،
وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة ، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة».
«وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة ،
وعلى موتانا بالرأفة والرحمة».
«وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة ، وعلى
الشباب بالإنابة والتوبة ، وعلى النساء بالحياء والعفّة ، وعلى الأغنياء بالتواضع
والسعة ، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة».
«وعلى الغزاة بالنصر والغلبة ، وعلى
الاسراء بالخلاص والراحة ، وعلى الامراء بالعدل والشفقة ، وعلى الرعية بالإنصاف
وحسن السيرة».
«وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة
، واقض ما أوجبت عليهم من الحجّ والعمرة».
«بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».
وإني لموص إخواني القرّاء ألّا تفوتهم
الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية ، بشرط التدبّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب
والإقبال ، والتوجه إلى الله بخشوع وخضوع ، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها
عن نفسه ، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت ، فإنّ قراءتها بلا
توجه من القلب صرف لقلقة في اللسان ، لا تزيد الإنسان معرفة ، ولا تقرّبه زلفى ،
ولا تكشف له مكروبا ، ولا يستجاب معه له دعاء.
«إنّ الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر
قلب ساه ، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة» (١).
__________________
٢
ـ أدعية الصحيفة السجادية
بعد واقعة الطف المحزنة ، وتملّك بني
امية ناصية أمر الامّة الإسلاميّة ، فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء
واستهتروا في تعاليم الدين ، بقي الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين ـ عليهالسلام
ـ جليس داره محزونا ثاكلا ، وجليس بيته لا يقرّبه أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى
الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.
فاضطر أن يتخذ من اسلوب الدعاء «الذي
قلنا أنّه أحد الطرق التعليميّة لتهذيب النفوس» ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب
الإسلام وطريقة آل البيت ، ولتلقين الناس روحيّة الدين والزهد ، وما يجب من تهذيب
النفوس والأخلاق وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له
، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم ، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة ، وقد جمعت
بعضها «الصحيفة السجادية» التي سمّيت ب «زبور آل محمّد». وجاءت في اسلوبها ومراميها
في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقّ أسرار التوحيد
والنبوّة ، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمديّة والآداب الإسلامية ،
وكانت في مختلف
الموضوعات التربويّة الدينيّة ، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء ، أو
دعاء في اسلوب تعليم للدين والأخلاق. وهي بحقّ بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى
أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفيّة في الإلهيات والأخلاقيات :
فمنها : ما يعلمك كيف تمجّد الله
وتقدّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه. ومنها : ما يعلمك كيف تناجيه وتخلو به بسرّك
وتنقطع إليه. ومنها : ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه
وكيفيتها. ومنها : ما يفهّمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك. ومنها : ما يشرح لك حقوق
الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الارحام أو حقوق
المسلمين عامّة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس. ومنها : ما ينبّهك على ما
يجب ازاء الديون للناس عليك وما ينبغي أن تعمله في الشئون الاقتصادية والمالية ،
وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ، ومن تستعملهم في مصالحك.
ومنها : ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجا كاملا لعلم
الأخلاق. ومنها : ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض
والصحة. ومنها : ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلاميّة وواجبات الناس معهم ... إلى
غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المحمّديّة والشريعة الإلهية ، وكلّ ذلك بأسلوب الدعاء
وحده.
والظاهرة التي تطغو على أدعية الإمام
عدة امور : «الأوّل» : التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته وبيان توحيده وتنزيهه
بأدق التعبيرات العلمية ، وذلك يتكرر في كلّ دعاء بمختلف
الأساليب ، مثل ما
تقرأ في الدعاء الأوّل : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله والآخر بلا آخر يكون
بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع
بقدرته الخلق ابتداعا واخترعهم على مشيته اختراعا» فتقرأ دقيق معنى الأوّل والآخر
وتنزه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم ، ودقيق معنى الخلق والتكوين. ثم تقرأ
اسلوبا آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء السادس : «الحمد لله الذي خلق
الليل والنهار بقوّته وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكلّ منهما حدّا محدودا ، يولج
كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه ، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به
وينشئهم عليه ، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب ، وجعله
لباسا ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماما وقوّة لينالوا به لذّة وشهوة»
إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار والليل وما ينبغي أن يشكره الإنسان من هذه
النعم.
وتقرأ اسلوبا آخر في بيان أنّ جميع
الامور بيده تعالى في الدعاء السابع : «يا من تحلّ به عقد المكاره ، ويا من يفثأ
به حدّ الشدائد ، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج ، ذلّت لقدرتك الصعاب ،
وتسببت بلطفك الأسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك
دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».
«الثاني» : بيان فضل الله تعالى على
العبد وعجز العبد عن أداء حقّه مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى
، كما تقرأ في الدعاء
السابع والثلاثين : «اللهم
إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا ، ولا يبلغ
مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك ، فأشكر عبادك عاجز
عن شكرك ، وأعبدهم مقصّر عن طاعتك».
وبسبب عظم نعم الله تعالى على العبد
التي لا تتناهى يعجز عن شكره ، فكيف إذا كان يعصيه مجترئا ، فمهما صنع بعدئذ لا
يستطيع أن يكفّر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء السادس
عشر : «يا إلهي لو بكيت إليك حتّى تسقط أسفار عيني ، وانتحبت حتّى ينقطع صوتي ،
وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقأ
حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال
ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت
بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي».
«الثالث» : التعريف بالثواب والعقاب
والجنّة والنار وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضل ، وأنّ العبد يستحقّ العقاب منه
بأدنى معصية يجتري بها ، والحجّة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السجّادية
تلهج بهذه النغمة المؤثرة ، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى والرجاء في
ثوابه. وكلّها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب
المتدبّر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.
مثل ما تقرأ في الدعاء السادس والأربعين
: «حجّتك قائمة ، وسلطانك ثابت لا يزول ، فالويل الدائم لمن جنح عنك ، والخيبة
الخاذلة
لمن خاب منك ،
والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرّفه في عذابك ، وما أطول تردّده في عقابك!
وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلا من قضائك لا تجور فيه ،
وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه ، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار ...»
ومثل ما تقرأ في الدعاء الواحد
والثلاثين : «اللهم فارحم وحدتي بين يديك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، واضطراب أركاني
من هيبتك ، فقد أقامتني ـ يا ربّ ـ ذنوبي مقام الخزي بفنائك ، فإن سكت لم ينطق
عنّي أحد ، وإن شفعت فلست بأهل الشفاعة».
ومثل ما تقرأ في الدعاء التاسع
والثلاثين : «فإنّك إن تكافني بالحقّ تهلكني وإلّا تغمدني برحمتك توبقني ...
وأستحملك من ذنوبي ما قد بهظني حمله وأستعين بك على ما قد فدحني ثقله ، فصلّ على
محمّد وآله وهب لنفسي على ظلمها نفسي ، ووكّل رحمتك باحتمال إصري ...».
«الرابع» : سوق الداعي بهذه الأدعية إلى
الترفّع عن مساوئ الأفعال وخسائس الصفات ، لتنقية ضميره وتطهير قلبه ، مثل ما تقرأ
في الدعاء العشرين : «اللهم وفّر بلطفك نيّتي وصحّح بما عندك يقيني ، واستصلح
بقدرتك ما فسد منّي» «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ومتّعني بهدى صالح لا أستبدل
به وطريقة حقّ لا أزيغ عنها ، ونيّة رشد لا أشك فيها».
«اللهم لا تدع خصلة تعاب منّي إلّا
أصلحتها ، ولا عائبة أونب بها إلّا حسّنتها ، ولا أكرومة فيّ ناقصة إلّا أتممّتها».
«الخامس» الايحاء إلى الداعي بلزوم
الترفّع عن الناس وعدم
التذلّل لهم ، وألّا
يضع حاجته عند أحد غير الله ، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسّ ما يتصف به
الإنسان ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «ولا تفتنّي بالاستعانة بغيرك إذا
اضطررت ، ولا بالخشوع لسؤال غيرك إذا افتقرت ، ولا بالتضرع إلى من دونك إذا رهبت ،
فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك».
ومثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والعشرين
: «اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك ، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت
مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك ، ورأيت أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه
وضلة من عقله».
ومثل ما تقرأ في الدعاء الثالث عشر : «فمن
حاول سدّ خلّته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك ، فقد طلب حاجته في مظانّها
وأتى طلبته من وجهها. ومن توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك ، أو جعله سبب نجاحها دونك
، فقد تعرّض للحرمان واستحقّ منك فوت الإحسان».
«السادس» : تعليم الناس وجوب مراعاة
حقوق الآخرين ومعاونتهم والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض ، والايثار فيما بينهم.
تحقيقا لمعنى الأخوّة الإسلامية. مثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والثلاثين : «اللهم
إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدى إليّ فلم أشكره ،
ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره ، ومن ذي فاقة سألني فلم أؤثره ، ومن حقّ ذي حقّ
لزمني لمؤمن فلم أوفره ، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره ...» إن هذا الاعتذار من
أبدع ما ينبّه النفس
إلى ما ينبغي عمله من
هذه الأخلاق الإلهية العالية.
وفي الدعاء التاسع والثلاثين ما يزيد
على ذلك ، فيعلّمك كيف يلزمك أن تعفو عمّن أساء إليك ويحذّرك من الانتقام منه ،
ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين : «اللهم وأيّما عبد نال منّي ما حظرت عليه وانتهك
منّي ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميّتا أو حصلت لي قبله حيا ، فاغفر له ما ألم به
منّي ، وأعف له عمّا أدبر به عنّي ، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ ، ولا تكشفه عمّا
اكتسب بي ، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم وتبرّعت من الصدقة عليهم أزكى صدقات
المتصدّقين ، وأعلى صلات المتقرّبين ، وعوّضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم
رحمتك ، حتّى يسعد كلّ واحد منّا بفضلك».
وما أبدع هذه الفقرة الأخيرة وما أجمل
وقعها في النفوس الخيرة لتنبيهها على لزوم سلامة النيّة مع جميع الناس وطلب
السعادة لكلّ أحد حتّى من يظلمه ويعتدي عليه. ومثل هذا كثير في الأدعية السجّادية
، وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماويّة المهذّبة لنفوس البشر لو
كانوا يهتدون.
٣
ـ عقيدتنا في زيارة القبور
وممّا امتازت به الإمامية العناية
بزيارة القبور «قبور النبيّ والائمة عليهم الصلاة والسلام» وتشييدها وإقامة
العمارات الضخمة عليها ، ولأجلها يضحّون بكلّ غال ورخيص عن إيمان وطيب نفس.
ومردّ كلّ ذلك إلى وصايا الأئمة ،
وحثّهم شيعتهم على الزيارة ، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى ،
باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة ، وباعتبار أنّ
هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى. وجعلوها
أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة ، «إذ أنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته
، وأنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في
زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة» (١).
وفي زيارة القبور من الفوائد الدينيّة
والاجتماعيّة ما تستحق العناية من أئمتنا ، فإنّها ـ في الوقت الذي تزيد من رابطة
الولاء والمحبّة بين الأئمة
__________________
وأوليائهم ، وتجدّد
في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحقّ ـ تجمع في مواسمها أشتات
المسلمين المتفرّقين على صعيد واحد ، ليتعارفوا ويتآلفوا ، ثم تطبع في قلوبهم روح
الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه وطاعة أوامره ، وتلقنهم في مضامين عبارات
الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام
والرسالة المحمّديّة ، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى
مدبّر الكائنات وشكر آلائه ونعمه ، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية
المأثورة التي تقدّم الكلام عليها ، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها
كزيارة «أمين الله» وهي الزيارة المرويّة عن الإمام «زين العابدين» ـ عليهالسلام
ـ حينما زار قبر جده «أمير المؤمنين» ـ عليهالسلام.
كما تفهّم هذه الزيارات المأثورة مواقف
الأئمة ـ عليهمالسلام.
وتضحياتهم في سبيل نصرة الحقّ وإعلاء كلمة الدين وتجرّدهم لطاعة الله تعالى ، وقد
وردت باسلوب عربيّ جزل ، وفصاحة عالية ، وعبارات سهلة يفهمها الخاصّة والعامّة ،
وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه تعالى. فهي
بحقّ من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم
؛ إذ اودعت فيها خلاصة معارف الأئمة ـ عليهمالسلام
ـ فيما يتعلق بهذه الشئون الدينيّة والتهذيبيّة.
ثم إنّ في آداب أداء الزيارة أيضا من
التعليم والإرشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينيّة السامية : من نحو رفع
معنوية المسلم وتنمية
روح العطف على الفقير
، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس. فإنّ من آدابها : ما
ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في «المرقد المطهّر» وزيارته.
ومنها : ما ينبغي أن يصنع في أثناء
الزيارة وفيما بعد الزيارة. ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها
التي قلناها :
١ ـ من آدابها أن يغتسل الزائر قبل
الشروع بالزيارة ويتطهّر ، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة ، وهي أن ينظف الإنسان
بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء ، ولئلا يتأفّف من روائحه
الناس (١) ، وأن يطهّر نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد
الانتهاء من الغسل لغرض تنبيه على تلكم الأهداف العالية فيقول : «اللهم اجعل لي
نورا وطهورا وحرزا كافيا من كلّ داء وسقم ومن كلّ آفة وعاهة ، وطهّر به قلبي
وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري ، ومخّي وعظمي وما أقلّت الأرض منّي ،
واجعل لي شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي».
٢ ـ أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من
الثياب ، فإنّ في الإناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يحبّب الناس بعضهم إلى
بعض ويقرّب بينهم ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.
ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا
التعليم أنه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم ، بل يلبس أحسن ما
يتمكن
__________________
عليه ؛ إذ ليس كلّ
أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين
ما ينبغي من الإناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.
٣ ـ أن يتطيّب ما وسعه الطيب. وفائدته
كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.
٤ ـ أن يتصدق على الفقراء بما يعن له أن
يتصدّق به. ومن المعلوم فائدة التصدّق في مثل هذه المواسم ، فإنّ فيه معاونة
المعوزين وتنمية روح العطف عليهم.
٥ ـ أن يمشي على سكينة ووقار عاضّا من
بصره. وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة وتعظيم للمزور وتوجه إلى الله
تعالى وانقطاع إليه ، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور
وعدم إساءة بعضهم إلى بعض ٦ ـ أن يكبّر بقول : «الله أكبر» ويكرّر ذلك ما شاء. وقد
تحدّد في بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله
وأنّه لا شيء أكبر منه. وأنّ الزيارة ليست إلّا لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في
إحياء شعائر الله وتأييد دينه.
٧ ـ وبعد الفراغ من الزيارة للنبيّ أو
الإمام يصلي ركعتين على الأقل ، تطوّعا وعبادة لله تعالى ليشكره على توفيقه إياه ،
ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه
الصلاة ما يفهم الزائر ، أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده وأنّه لا يعبد سواه ،
وليست الزيارة إلّا نوع التقرب إليه تعالى زلفى ؛ إذ يقول :
«اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك
لا شريك لك ؛ لأنه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلّا لك ، لأنّك أنت الله لا
إله إلّا أنت. اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وتقبّل منّي زيارتي واعطني سؤلي
بمحمّد وآله الطاهرين».
وفي هذا النوع من الأدب ما يوضّح لمن
يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعا لهم في زيارة القبور ، وما
يلقم المتجاهلين حجرا حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرّب
إليها والشرك بالله. وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة
الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينيّة في مواسم الزيارات ؛ إذ أصبحت شوكة في
أعين أعداء آل بيت محمّد ، وإلّا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها.
حاشا اولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم وتجرّدوا له في عباداتهم ، وبذلوا مهجهم في
نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.
٨ ـ ومن آداب الزيارة «أن يلزم للزائر
حسن الصحبة لمن يصحبه وقلّة الكلام إلّا بخير ، وكثرة ذكر الله (١) ، والخشوع وكثرة
الصلاة والصلاة على محمّد وآل محمّد ، وأن يغضّ من بصره ، وأن يعدو إلى أهل الحاجة
من إخوانه إذا رأى منقطعا ، والمواساة لهم ، والورع عمّا نهى عنه
__________________
وعن الخصومة وكثرة
الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان»
ثم إنّه ليست حقيقة الزيارة إلّا السلام
على النبيّ أو الإمام باعتبار أنّهم (أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
فهم يسمعون الكلام ويردّون الجواب ، ويكفي أن يقول فيها مثلا : «السلام عليك يا
رسول الله» غير أن الأولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت ؛
لما فيها ـ كما ذكرنا ـ من المقاصد العالية والفوائد الدينيّة ، مع بلاغتها
وفصاحتها ، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتّجه بها الإنسان إلى الله تعالى
وحده.
__________________
٤
ـ عقيدتنا في معنى التشيّع عند آل البيت
إنّ الائمة من آل البيت ـ عليهمالسلام ـ
لم تكن لهم همّة ـ بعد أن انصرفوا عن أن يرجع أمر الامّة إليهم ـ إلّا تهذيب
المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم ، فكانوا مع كلّ من
يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعية
وتلقينه المعارف المحمّديّة ، ويعرّفونه ما له وما عليه.
ولا يعتبرون الرجل تابعا وشيعة لهم إلّا
إذا كان مطيعا لأمر الله مجانبا لهواه آخذا بتعاليمهم وإرشاداتهم. ولا يعتبرون
حبّهم وحده كافيا للنجاة كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات ويلتمس
عذرا في التمرّد على طاعة الله سبحانه. إنّهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاة إلّا
إذا اقترن بالأعمال الصالحة وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى.
«يا خيثمة! أبلغ موالينا أنّه لا نغني
عنهم من الله شيئا إلّا بعمل ، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع ، وإنّ أشدّ
الناس حسرة يوم القيامة
من وصف عدلا ثم خالفه
إلى غيره» (١).
بل هم يريدون من أتباعهم أن يكونوا دعاة
للحقّ وأدلّاء على الخير والرشاد ، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة
باللسان : «كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق
والورع» (٢).
ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي
جرت لهم مع بعض أتباعهم ، لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس :
١ ـ محاورة أبي جعفر الباقر ـ عليهالسلام
ـ مع جابر الجعفي : (٣) «يا جابر! أيكتفى من ينتحل التشيع أن يقول بحبّنا أهل
البيت! فو الله ما شيعتنا إلّا من أتقى الله وأطاعه».
«وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع ،
والتخشع ، والأمانة ، وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبرّ بالوالدين ،
والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث ،
وتلاوة القرآن ، وكف الألسن عن الناس إلّا من خير ، وكانوا أمناء عشائرهم في
الاشياء».
«فاتقوا الله واعملوا لما عند الله! ليس
بين الله وبين أحد قرابة ، أحبّ العباد إلى الله عزوجل أتقاهم وأعملهم بطاعته» (٤).
__________________
«يا جابر والله ما نتقرب إلى الله تبارك
وتعالى إلّا بالطاعة ، وما معنا براءة من النار ، ولا على الله لأحد من حجّة. من
كان لله مطيعا فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوّ. وما تنال ولايتنا
إلّا بالعمل والورع».
٢ ـ محاورة أبي جعفر أيضا مع سعيد بن
الحسن (١) : أبو جعفر : أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا
يدفعه؟
سعيد : ما أعرف ذلك فينا.
أبو جعفر : فلا شيء إذن.
سعيد : فالهلاك إذن.
أبو جعفر : إن القوم لم يعطوا احلامهم
بعد.
٣ ـ محاورة أبي عبد الله الصادق ـ عليهالسلام
ـ مع أبي الصباح الكناني (٢) : الكناني لأبي عبد الله : ما نلقى من الناس فيك؟!
أبو عبد الله : وما الذي تلقى من الناس؟
الكناني : لا يزال يكون بيننا وبين
الرجل الكلام ، فيقول : جعفريّ خبيث.
أبو عبد الله : يعيّركم الناس بي؟!
الكناني : نعم!
__________________
أبو عبد الله : ما أقلّ والله من يتّبع
جعفرا منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!
٤ ـ ولأبي عبد الله ـ عليهالسلام
ـ كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي : أ ـ «ليس منّا ـ ولا كرامة ـ من كان في
مصر فيه مائة ألف أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه».
ب ـ «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمنا حتّى
يكون لجميع أمرنا متّبعا ومريدا ألا وإن من اتّباع أمرنا وإرادته الورع ، فتزينوا
به يرحمكم الله».
ج ـ «ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدّرات
بورعه في خدورهن ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق
لله أورع منه».
د ـ «إنّما شيعة «جعفر» من عفّ بطنه
وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه. فإذا رأيت اولئك فاولئك
شيعة جعفر».
٥
ـ عقيدتنا في الجور والظلم
من أكبر ما كان يعظّمه الأئمة ـ عليهمالسلام
ـ على الإنسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس ، وذلك اتّباعا لما جاء
في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصارُ).
وقد جاء في كلام أمير المؤمنين ـ عليهالسلام
ـ ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه ، كقوله وهو الصادق المصدّق من
كلامه في نهج البلاغة برقم ٢١٩ : «والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها
على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت». وهذا غاية ما يمكن أن يتصوره
الإنسان في التعفّف عن الظلم والحذر من الجور واستنكار عمله ، أنّه لا يظلم «نملة»
في قشرة شعيرة وإن اعطي الأقاليم السبعة. فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب
أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟
وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟ إنّ هذا هو
الأدب الإلهي الرفيع
الذي يتطلّبه الدين من البشر.
نعم ، إنّ الظلم من أعظم ما حرّم الله
تعالى ، فلذا اخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأوّل في ذمّه وتنفير
أتباعهم عنه.
وهذه سياستهم ـ عليهمالسلام
ـ وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم ويجترئ على مقامهم. وقصة الإمام الحسن ـ عليهالسلام
ـ معروفة في حلمه عن الشاميّ الذي اجترأ عليه وشتمه ، فلاطفه الإمام وعطف عليه ،
حتّى أشعره بسوء فعلته. وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في
العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السموّ النفسيّ
والإنسانيّة الكاملة ، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزا في
الشريعة وكذا الدعاء عليه جائز مباح ، ولكنّ الجواز شيء والعفو الذي هو من مكارم
الأخلاق شيء آخر ، بل عند الأئمة أنّ المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلما
، قال الصادق ـ عليهالسلام
ـ : «إنّ العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتّى يكون ظالما». أي حتّى يكون ظالما
في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره. يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم
إذا تجاوز الحدّ ظلما؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور ، ويعتدي على الناس ، أو
ينهش أعراضهم ، أو ينهب أموالهم أو يمشي عليهم عند الظالمين ، أو يخدعهم فيورّطهم
في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم ، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل
البيت عليهمالسلام؟
إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى ، وأشدّهم إثما وعقابا ، وأقبحهم أعمالا
وأخلاقا.
٦
ـ عقيدتنا في التعاون مع الظالمين
ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أن نهى
الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).
هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل
البيت ـ عليهمالسلام
ـ. وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين ، والاتصال بهم
ومشاركتهم في أيّ عمل كان ، ومعاونتهم ولو بشقّ تمرة.
ولا شكّ أن أعظم ما مني به الإسلام
والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور ، والتغاضي عن مساوئهم ، والتعامل معهم ، فضلا
عن ممالاتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم ، وما جرّ الويلات على الجامعة
الإسلامية إلّا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحقّ ، حتّى ضعف الدين بمرور الأيام
، فتلاشت قوّته ، ووصل إلى ما عليه اليوم ، فعاد غريبا ، وأصبح المسلمون أو ما
يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتّى على أضعف
أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم ، كاليهود الأذلّاء فضلا عن الصليبيّين الأقوياء.
لقد جاهد الأئمة ـ عليهمالسلام ـ
في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين ، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة
أهل الظلم والجور وممالاتهم ، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب ، ومن ذلك ما
كتبه الإمام زين العابدين ـ عليهالسلام
ـ إلى محمّد بن مسلم الزهري بعد أن حذّره عن إعانة الظلمة على ظلمهم : «أو ليس
بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى
بلاياهم ، وسلّما إلى ضلالتهم ، داعيا إلى غيّهم ، سالكا سبيلهم. يدخلون بك الشكّ
على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم. فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى
أعوانهم إلّا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم ، فما
أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا
عليك. فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول ...» (١).
ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجل مسئول»
فإنّ الإنسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه ، بمعنى
أنّه لا يجده مسئولا عن أعماله ، ويستحقر ما يأتي به من أفعال ، ويتخيّل أنّه ليس
بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه ، أنّ هذا من أسرار النفس
الإنسانيّة الأمّارة ، فاراد الإمام أن ينبّه الزهري على هذا السرّ النفساني في
دخيلته الكامنة ، لئلا يغلب عليه الوهم فيفرّط في مسئوليته عن نفسه.
وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة
الظالمين حديث صفوان
__________________
الجمّال مع الإمام
موسى الكاظم ـ عليهالسلام ـ
وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثقين قال ـ حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة
صفوان ـ : «دخلت عليه فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ، خلا شيئا واحدا.
قلت : جعلت فداك! أيّ شيء؟
قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل «يعني
هارون».
قلت : والله ، ما أكريته أشرا ولا بطرا
، ولا للصيد ، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق «يعني طريق مكة» ولا أتولّاه
بنفسي ولكن أبعث معه غلماني.
قال : يا صفوان أيقع كراك عليهم؟
قلت : نعم جعلت فداك.
قال : أتحبّ بقاهم حتّى يخرج كراك؟
قلت : نعم.
قال : فمن أحبّ بقاهم فهو منهم ، ومن
كان منهم فهو كان ورد النار.
قال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها».
فاذا كان نفس حبّ حياة الظالمين وبقائهم
بهذه المنزلة ، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور ، وكيف حال من
يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم؟!
٧
ـ عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة
إذا كان معاونة الظالمين ولو بشقّ تمرة
بل حب بقائهم ، من أشدّ ما حذّر عنه الأئمة ـ عليهمالسلام
ـ فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم ، بل ما حال من يكون
من جملة المؤسسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم
«وذلك أنّ ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه ، وإحياء الباطل كلّه ، وإظهار الظلم
والجور والفساد» كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق عليهالسلام.
غير أنّه ورد عنهم ـ عليهمالسلام
ـ جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله ، والإحسان إلى
المؤمنين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوّر
الله به البرهان ومكّن له في البلاد ، فيدفع بهم عن أوليائه ويصلح بهم امور
المسلمين ... اولئك هم المؤمنون حقّا. اولئك منار الله في أرضه اولئك نور الله في
رعيته ...» كما جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر ـ عليهالسلام ـ.
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضّح النهج الذي ينبغي
أن يجري عليه الولاة
والموظفين ، مثل ما في رسالة الصادق ـ عليهالسلام
ـ إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز (راجع الوسائل : كتاب البيع ، الباب ٧٨).
٨
ـ عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
عرف آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ بحرصهم على بقاء مظاهر الإسلام ، والدعوة إلى عزّته ، ووحدة كلمة أهله ، وحفظ
التآخي بينهم ، ورفع السخيمة من القلوب ، والأحقاد من النفوس.
ولا ينسى موقف أمير المؤمنين ـ عليهالسلام
ـ مع الخلفاء الذين سبقوه ، مع توجّده عليهم واعتقاده بغصبهم لحقّه ، فجاراهم
وسالمهم بل حبس رأيه في أنّه المنصوص عليه بالخلافة ، حتّى أنّه لم يجهر في حشد
عام بالنصّ إلّا بعد أن آل الأمر إليه فاستشهد بمن بقى من الصحابة عن نصّ (الغدير)
في يوم (الرحبة) المعروف. وكان لا يتأخر عن الإشارة عليهم فيما يعود على المسلمين
أو للإسلام بالنفع والمصلحة وكم كان يقول عن ذلك العهد : «فخشيت إن لم أنصر
الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما».
كما لم يصدر منه ما يؤثر على شوكة ملكهم
أو يضعّف من سلطانهم أو يقلّل من هيبتهم ، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت ،
بالرغم مما كان يشهده منهم. كلّ ذلك رعاية لمصلحة الإسلام العامّة ، ورعاية
أن لا يرى في الإسلام
ثلما أو هدما ، حتّى عرف ذلك منه ، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول
: «لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» أو «لو لا عليّ لهلك عمر».
ولا ينسى موقف الحسن بن علي ـ عليهالسلام
ـ من الصلح مع معاوية بعد أن رأى أنّ الإصرار على الحرب سيديل من ثقل الله الأكبر
ومن دولة العدل بل اسم الإسلام إلى آخر الدهر ، فتمحى الشريعة الإلهية ويقضى على
البقية الباقية من آل البيت ، ففضّل المحافظة على ظواهر الإسلام واسم الدين ، وإن
سالم معاوية العدوّ الألد للدين وأهله والخصم الحقود له ولشيعته ، مع ما يتوقع من
الظلم والذلّ له ولأتباعه وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذة تأبى أن تغمد ،
دون أن تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح ، ولكن مصلحة الإسلام العليا كانت عنده فوقع
جميع هذه الاعتبارات. وأمّا الحسين الشهيد ـ عليهالسلام
ـ فلئن نهض فلأنّه رأى من بني امية إن دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف
سوء نيّاتهم ، سيمحون ذكر الإسلام ويطيحون بمجده ، فأراد أن يثبت للتأريخ جورهم
وعدوانهم ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول ، وكان ما أراد. ولو لا نهضته
المباركة لذهب الإسلام في خبر كان يتلهى بذكره التأريخ كأنه دين باطل ، وحرص
الشيعة على تجديد ذكراه بشتى أساليبهم إنّما هو لإتمام رسالة نهضته في مكافحة
الظلم والجور ولإحياء أمره امتثالا لأوامر الأئمة من بعده.
وينجلي لنا حرص آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ على بقاء عزّ الإسلام وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم ، في موقف الإمام زين
العابدين
ـ عليهالسلام
ـ من ملوك بني امية ، وهو الموتور لهم ، والمنتهكة في عهدهم حرمتهم وحرمه ، والمحزون
على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء ، فإنّه ـ مع كلّ ذلك ـ كان يدعو
في سرّه لجيوش المسلمين بالنصر وللإسلام بالعزّ وللمسلمين بالدعوة والسلامة ، وقد
تقدّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء ، فعلّم شيعته كيف يدعون
للجيوش الإسلامية والمسلمين ، كدعائه المعروف ب (دعاء أهل الثغور) الذي يقول فيه :
«اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وكثّر عددهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ،
وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم
، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر» إلى أن يقول ـ بعد أن
يدعو على الكافرين ـ : «اللهم وقوّ بذلك محالّ أهل الإسلام ، وحصّن به ديارهم ،
وثمّر به أموالهم ، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتّى
لا يعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفر لأحد منهم جبهة دونك» (١) وهكذا يمضي في
دعائه البليغ ـ وهو من أطول أدعيته ـ في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من
مكارم الأخلاق وأخذ العدّة للأعداء ، وهو يجمع إلى التعاليم الحربيّة للجهاد
الإسلامي بيان الغاية منه وفائدته ، كما ينبّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم
وما يجب أن يتّخذوه في معاملتهم ومكافحتهم ، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله
تعالى والانتهاء عن محارمه ، والإخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.
__________________
وكذلك باقي الأئمة ـ عليهمالسلام
ـ في مواقفهم مع ملوك عصرهم ، وإن لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكلّ قساوة
وشدّة ، فإنّهم لمّا علموا أنّ دولة الحقّ لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس
معالم دينهم وتوجيه أتباعهم التوجيه الدينيّ العالي. وكلّ الثورات التي حدثت في
عصرهم من العلويّين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم ، بل كانت كلّها مخالفة
صريحة لأوامرهم وتشديداتهم ، فإنّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الإسلامية من كلّ
أحد حتّى من خلفاء بني العباس أنفسهم.
وكفى أن نقرأ وصية الإمام موسى بن جعفر
ـ عليهالسلام
ـ لشيعته «لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم ، فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاه
، وإن كان جائرا فاسألوا الله إصلاحه ، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم ، وأنّ
السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبوا له ما تحبّون لأنفسكم ، واكرهوا له ما
تكرهون لأنفسكم» (١).
وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعيّة
على سلامة السلطان أن يحبّوا له ما يحبّون لأنفسهم ، ويكرهوا له ما يكرهون لها.
وبعد هذا ، فما أعظم تجنّي بعض كتاب
العصر إذ يصف الشيعة بأنّهم جمعية سريّة هدّامة. أو طائفة ثوروية ناقمة. صحيح أنّ
من خلق الرجل المسلم المتّبع لتعاليم آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ بغض الظلم والظالمين والانكماش عن أهل الجور والفسوق ، والنظرة إلى أعوانهم
__________________
وأنصارهم نظرة الاشمئزاز
والاستنكار ، والاستيحاش والاستحقار ، وما زال هذا الخلق متغلغلا في نفوسهم
يتوارثونه جيلا بعد جيل ، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل ، ولا من
طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الإسلام ، لا سرّا ولا
علنا ، ولا يبيحون لأنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلم مهما كان مذهبه وطريقته ،
أخذا بتعاليم أئمتهم ـ عليهمالسلام
ـ بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال محقون الدم ، محرم العرض «لا يحل مال
امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» ، بل المسلم أخو المسلم عليه من حقوق الأخوّة لأخيه ما
يكشف عنه البحث الآتي.
٩
ـ عقيدتنا في حقّ المسلم على المسلم
إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين
الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. كما أنّ
من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالأخذ بمقتضيات هذه
الاخوّة الإسلاميّة.
لأنّ من أيسر مقتضياتها ـ كما سيجيء في
كلمة الإمام الصادق عليهالسلام
ـ أن يحبّ لأخيه المسلم ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه.
أنعم النظر وفكّر في هذه الخصلة اليسيرة
في نظر آل البيت ـ عليهمالسلام
ـ فستجد أنّها من أشقّ ما يفرض طلبه من المسلمين اليوم ، وهم على مثل هذه الأخلاق
الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الإسلام ، فكّر في هذه الخصلة لو قدّر للمسلمين
أن ينصفوا أنفسهم ويعرفوا دينهم حقّا ويأخذوا بها فقط ـ أن يحبّ أحدهم لأخيه ما
يحبّ لنفسه ـ لما شاهدت من أحد ظلما ولا اعتداء ، ولا سرقة ولا كذبا ، ولا غيبة
ولا نميمة ، ولا تهمة بسوء ولا قدحا بباطل ، ولا إهانة ولا تجبرا.
بلى ، إنّ المسلمين لو وقفوا لإدراك
أيسر خصال الاخوّة فيما بينهم
وعملوا بها لارتفع
الظلم والعدوان من الأرض ، ولرأيت البشر إخوانا على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى
درجات السعادة الاجتماعيّة ولتحقّق حلم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة ،
فما احتاجوا حينما يتبادلون الحبّ والمودة إلى الحكومات والمحاكم ، ولا إلى الشرطة
والسجون ، ولا إلى قانون للعقوبات وأحكام للحدود والقصاص ، ولما خضعوا لمستعمر ولا
خنعوا لجبّار ، ولا استبدّ بهم الطغاة ، ولتبدلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنّة
النعيم ودار السعادة.
أزيدك ، أنّ قانون المحبّة لو ساد بين
البشر ـ كما يريده الدين بتعاليم الاخوّة ـ لانمحت من قاموس لغاتنا كلمة (العدل) ،
بمعنى أنّا لم نعد نحتاج إلى العدل وقوانينه حتّى نحتاج إلى استعمال كلمته ، بل
كفانا قانون الحبّ لنشر الخير والسلام ، والسعادة والهناء ، لأنّ الإنسان لا يحتاج
إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلّا إذا فقد الحبّ فيمن يجب أن يعدل معه
، أمّا فيمن يبادله الحبّ كالولد والأخ إنّما يحسن إليه ويتنازل له عن جملة من
رغباته فبدافع من الحبّ والرغبة عن طيب خاطر ، لا بدافع العدل والمصلحة.
وسرّ ذلك أنّ الإنسان لا يحبّ إلّا نفسه
وما يلائم نفسه ، ويستحيل أن يحبّ شيئا أو شخصا خارجا عن ذاته إلّا إذا ارتبط به
وانطبعت في نفسه منه صورة ملائمة مرغوبة لديه. كما يستحيل أن يضحّي بمحض اختياره
له ، في رغباته ومحبوباته لأجل شخص آخر لا يحبّه ولا يرغب فيه ، إلّا إذا تكوّنت
عنده عقيدة أقوى من رغباته مثل عقيدة حسن العدل والإحسان ، وحينئذ إذ يضحي بإحدى
رغباته إنّما يضحي لأجل
رغبة اخرى أقوى
كعقيدته بالعدل إذا حصلت التي تكون جزء من رغباته بل جزء من نفسه.
وهذه العقيدة المثالية لأجل أن تتكون في
نفس الإنسان تتطلب منه أن يسمو بروحه على الاعتبارات الماديّة ، ليدرك المثال
الأعلى في العدل والإحسان إلى الغير ، وذلك بعد أن يعجز أن يتكون في نفسه شعور
الاخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.
فأوّل درجات المسلم التي يجب أن يتّصف بها
أن يحصل عنده الشعور بالاخوّة مع الآخرين فإذا عجز عنها ـ وهو عاجز على الأكثر
لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيّته ـ فعليه أن يكون في نفسه عقيدة في العدل والإحسان
اتباعا للإرشادات الإسلامية ، فإذا عجز عن ذلك فلا يستحقّ أن يكون مسلما إلّا
بالاسم وخرج عن ولاية الله ولم يكن لله فيه نصيب على حد التعبير الآتي للإمام.
والإنسان على الأكثر تطغى عليه شهواته العارمة فيكون من أشقّ ما يعانيه أن يهيئ
نفسه لقبول عقيدة العدل ، فضلا عن أن يحصل عليها عقيدة كاملة تفوق بقوّتها على
شهواته.
فذلك كان القيام بحقوق الاخوّة من أشقّ
تعاليم الدين إذا لم يكن عند الإنسان ذلك الشعور الصادق بالاخوّة. ومن أجل هذا
أشفق الإمام أبو عبد الله الصادق ـ عليهالسلام
ـ أن يوضح لسائله وهو أحد أصحابه «المعلى بن خنيس» عن حقوق الإخوان أكثر مما ينبغي
أن يوضح له خشية أن يتعلم ما لا يستطيع أن يعمل به. قال المعلى
:
__________________
«قلت له ما حقّ المسلم على المسلم؟
قال أبو عبد الله : له سبعة حقوق واجبات
، ما منهن حقّ إلّا وهو عليه واجب ، إن ضيّع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ،
ولم يكن لله فيه نصيب.
قلت له : جعلت فداك! وما هي؟
قال : يا معلى ، إنّي عليك شفيق ، أخاف
أن تضيع ولا تحفظ ، وتعلم ولا تعمل.
قلت : لا قوّة إلّا بالله.
وحينئذ ذكر الإمام الحقوق السبعة بعد أن
قال عن الأوّل منها :
«أيسر حقّ منها أن تحب له ما تحب لنفسك
، وتكره له ما تكره لنفسك».
يا سبحان الله! هذا هو الحق اليسير!
فكيف نجد ـ نحن المسلمين اليوم ـ يسر هذا الحقّ علينا؟ شاهت وجوه تدعي الإسلام ولا
تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق. والأعجب؟ أن يلصق بالإسلام هذا التأخر الذي أصاب
المسلمين ، وما الذنب إلّا ذنب من يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، ولا يعلمون بأيسر ما
يجب أن يعملوه من دينهم.
ولأجل التأريخ فقط ، ولنعرف أنفسنا
وتقصيرها ، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الإمام عليهالسلام.
١ ـ أن تحبّ لأخيك المسلم ما تحبّ لنفسك
، وتكره له ما تكره لنفسك.
٢ ـ أن تجتنب سخطه ، وتتبع مرضاته ، وتطيع
أمره.
٣ ـ أن تعينه بنفسك ، ومالك ، ولسانك ،
ويدك ، ورجلك.
٤ ـ أن تكون عينه ، ودليله ، ومرآته.
٥ ـ أن لا تشبع ويجوع ، ولا تروى ويظمأ
، ولا تلبس ويعرى.
٦ ـ أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم ،
فواجب أن تبعث خادمك ، فتغسل ثيابه ، وتصنع طعامه ، وتمهّد فراشه.
٧ ـ أن تبرّ قسمه ، وتجيب دعوته ، وتعود
مريضه ، وتشهد جنازته.
وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها ،
ولا تلجئه إلى أن يسألكها ، ولكن تبادره مبادرة».
ثم ختم كلامه ـ عليهالسلام
ـ بقوله :
«فإذا فعلت ذلك وصلت ولا يتك بولايته
وولايته بولايتك».
وبمضمون هذا الحديث روايات مستفيضة عن
ائمتنا جمع قسما كبيرا منها كتاب الوسائل في أبواب متفرقة.
وقد يتوهم المتوهم أنّ المقصود بالاخوّة
في أحاديث أهل البيت ـ عليهمالسلام
ـ خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصة» ، ولكنّ الرجوع إلى
رواياتهم كلّها يطرد هذا الوهم ، إن كانوا من جهة اخرى يشدّدون النكير على من
يخالف طريقتهم ولا يأخذ بهداهم ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب (١) قال :
«قلت له ـ أي الصادق عليهالسلام
ـ : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا
على أمرنا ،
__________________
فقال : تنظرون إلى
ائمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون ، فو الله ، إنهم ليعودون مرضاهم ،
ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم».
أمّا الاخوّة الإسلامية ، وقد سمعت بعض
الأحاديث في فصل تعريف الشيعة. ويكفي أن تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين
الصادق ـ عليهالسلام
ـ من حديث أبان نفسه (١). قال أبان : كنت أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجل من
أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته ، فأشار إليّ ، فرآنا أبو عبد الله.
قال : يا أبان إياك يريد هذا؟
قلت : نعم! قال : هو على مثل ما أنت
عليه؟
قلت : نعم.
قال : فاذهب إليه واقطع الطواف.
قلت : وان كان طواف الفريضة.
قال : نعم.
قال أبان : فذهبت ، ثم دخلت عليه بعد ،
فسألته عن حقّ المؤمن ، فقال : دعه لا تردّه! فلم أزل أرد عليه حتّى قال : يا أبان
تقاسمه شطر مالك ، ثم نظر إليّ فرأى ما داخلني ، فقال : يا أبان أما تعلم أنّ الله
قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟ قلت : بلى! قال : إذا أنت قاسمته فلم تؤثره ،
__________________
إنّما تؤثره إذا أنت
أعطيته من النصف الآخر!
(أقول) : إنّ واقعنا المخجل لا يطمعنا
أن نسمّي أنفسنا بالمؤمنين حقّا. فنحن بواد وتعاليم أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ في
واد آخر. وما داخل نفس أبان يداخل نفس كل قارئ لهذا الحديث ، فيصرف بوجهه متناسيا
له كأنّ المخاطب غيره ، ولا يحاسب نفسه حساب رجل مسئول.
الفصل الخامس
المعاد
١ ـ عقيدتنا
في البعث والمعاد
٢ ـ عقيدتنا
في المعاد الجسماني
١
ـ عقيدتنا في البعث والمعاد
نعتقد أنّ الله تعالى يبعث الناس بعد
الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده فيثيب المطيعين ، ويعذّب العاصين
وهذا أمر على جملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتفقت عليه الشرائع السماويّة
والفلاسفة ، ولا محيص للمسلم من الاعتراف به ، عقيدة قرآنية ، جاء بها نبينا
الأكرم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ فإنّ من يعتقد بالله اعتقادا قاطعا ويعتقد كذلك بمحمّد ـ صلىاللهعليهوآله
ـ رسولا منه أرسله بالهدى ودين الحقّ ، لا بدّ أن يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم
، من البعث والثواب والعقاب والجنّة والنعيم والنار والجحيم ، وقد صرّح القرآن
بذلك ، ولمح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة وإذا تطرّق الشك في ذلك إلى شخص فليس
إلّا لشكّ يخالجه في صاحب الرسالة أو وجود خالق الكائنات أو قدرته ، بل ليس إلّا
لشكّ يعتريه في أصل الأديان كلّها ، وفي صحة الشرائع جميعها.
٢
ـ عقيدتنا في المعاد الجسماني
وبعد هذا ، فالمعاد الجسماني بالخصوص
ضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، دلّ صريح القرآن الكريم عليها : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)
، القيامة : ٣ ، (وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
، الرعد : ٥ ، (أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)
، ق : ١٤.
وما المعاد الجسماني على إجماله إلّا
إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب ، وإرجاعه إلى هيئته الاولى
بعد أن يصبح رميما. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه
العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن ، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط
والميزان والجنّة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنيّة.
«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا
يصلها إلّا صاحب النظر الدقيق ، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما
يعود ما يماثلها بهيئاتها ، وأنّ الأرواح هل تعدم كالأجساد أو تبقى مستمرّة حتّى
تتصل
بالأبدان عند المعاد
، وأنّ المعاد هل يختصّ بالإنسان أو يجري على كافّة ضروب الحيوان ، وأن عودها بحكم
الله دفعي أو تدريجي. وإذا لزم الاعتقاد بالجنّة والنار لا تلزم معرفة وجودهما
الآن ، ولا العلم بأنّهما في السماء أو الأرض أو يختلفان ، وكذا إذا وجبت معرفة
الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية ، أو لها كفّتان ، ولا تلزم معرفة أنّ
الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنويّة ، والغرض أنّه لا يشترط في تحقق
الإسلام معرفة أنّها من الأجسام ...» (١).
نعم ، إن تلك العقيدة في البعث والمعاد
على بساطتها هي التي جاء بها الدين الإسلامي ، فإذا أراد الإنسان أن يتجاوزها إلى
تفصيلها بأكثر ممّا جاء في القرآن ليقنع نفسه دفعا للشبه التي يثيرها الباحثون
والمشكّكون بالتماس البرهان العقلي ، أو التجربة الحسيّة ، فإنّه إنّما يجني على
نفسه ، ويقطع في مشكلات ومنازعات ، لا نهاية لها. وليس في الدين ما يدعو إلى مثل
هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلمين والمتفلسفين ، ولا ضرورة دينية ولا
اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب
عبثا والتي استنفدت كثيرا من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.
والشبه والشكوك التي تثار حول التفصيلات
يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراك هذه الامور الغائبة عنّا ، والخارجة
عن افقنا ، ومحيط وجودنا ، والمرتفعة فوق مستوانا الأرضي ، مع علمنا بأنّ الله
تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.
__________________
وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل
أن تتناول شيئا لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختباره إلّا بعد موته وانتقاله من
هذا العالم ـ عالم الحس والتجربة والبحث ـ فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره
وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته ، فضلا عن أن يتناول تفاصيله وخصوصيّاته إلّا
إذا اعتمد على التكهن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب ، كما هو من طبيعة خيال
الإنسان أن يستغرب كلّ ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسّه كالقائل المندفع بجهله
لاستغراب البعث والمعاد (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).
ولا سند لهذا الاستغراب إلّا أنّه لم ير ميّتا رميما قد اعيدت له الحياة من جديد ،
ولكنّه ينسى هذا المستغرب كيف خلقت ذاته لأوّل مرّة ، ولقد كان عدما ، وأجزاء بدنه
رميما تألّفت من الأرض وما حملت ومن الفضاء وما حوى من هنا وهنا حتّى صار بشرا
سويا ذا عقل وبيان (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ).
يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلقه ، (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)
يقال له : إنّك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته ، وتعترف بالرسول وما أخبر به
، مع قصور علمك حتّى عن إدراك سرّ خلق ذاتك وسرّ تكوينك ، وكيف كان نموّك وانتقالك
من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفا من ذرات متباعدة
، لبلغ بشرا سويّا عاقلا مدبرا ذا شعور وإحساس. يقال له : بعد هذا كيف تستغرب أن
تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميما ، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة
ما لا قبل لتجاربك
وعلومك بكشفه؟ يقال
له : لا سبيل حينئذ إلّا أن تذعن صاغرا للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها
مدبّر الكائنات العالم القدير ، وخالقك من العدم والرميم. وكلّ محاولة لكشف ما لا
يمكن كشفه ، ولا يتناوله علمك ، فهي محاولة باطلة ، وضرب في التيه ، وفتح للعيون
في الظلام الحالك أنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الأخيرة ، فاكتشف
الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة ، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدّث عنها
في السنين الخوالي ، لعدّها من أوّل المستحيلات ومن مواضع التندّر والسخريّة ،
إنّه مع كلّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سرّ الذرة ، بل حتّى حقيقة احدى
خواصّها وأحد أوصافها ، فكيف يطمع أن يعرف سرّ الخلقة والتكوين ، ثم يترقّى فيريد
أن يعرف سرّ المعاد والبعث.
نعم ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام
أن يجتنب عن متابعة الهوى ، وأن يشغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه وفيما يرفع قدره
عند الله وأن يتفكر فيما يستعين به على نفسه ، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد
القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلّام ، وأن يتّقي (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ)
(١).
______________________________________________________
(١) ويقع البحث في مقامات :
الأوّل
: في أنّ المعاد
بفتح الميم في الاصطلاح هو زمان عود الروح إلى بدنه الذي تعلّق به في الحياة
الدنيا ، فالمراد به هو يوم القيامة أو هو مكان عود الروح
إلى بدنه المذكور
، فالمراد به حينئذ هو الآخرة ، وقد يستعمل المعاد بمعناه المصدري من عاد يعود
عودا ومعادا ، فالمراد به هو عودة الأرواح إلى أبدانها هذا كلّه بناء على بقاء
الروح وانفكاكه عن البدن بالموت كما هو المختار ، وأمّا بناء على اتحاده مع البدن
وفنائه بالموت ، فالمراد من المعاد حينئذ هو الوجود الثاني للأجسام والأبدان
وإعادتها بعد موتها وتفرّقها ، وكيف كان فقد استعمل المعاد في القرآن الكريم ،
ولكن لم يعلم أنّ المقصود منه هو المعاني الاصطلاحية المذكورة لاحتمال أن يكون
المقصود منه محل عود النبي إليه وهو مكّة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وأمّا كلمة الميعاد فهي مستعملة في يوم القيامة ، ولكنّه
ليست من العود بل هي من الوعد (رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) .
نعم شاع استعماله
في كلمات المتشرعة ، بل في الآثار والأخبار ، ومنها ما ورد عن مولانا أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «فاتقوا الله تقية من سمع فخشع ـ إلى أن قال ـ : وأطاب
سريرة وعمّر معادا واستظهر زاد اليوم ليوم رحيله» .
ومنها ما جاء في
بعض الأدعية : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد أهل الذكر الذين امرت بمسألتهم وذوي
القربى الذين امرت بمودّتهم وفرضت حقّهم وجعلت الجنة معاد من اقتصّ آثارهم» .
الثاني
: أنّ الإنسان الحي
ليس بدنا محضا ولا روحا محضا ، بل هو مركب من الروح والبدن ، والروح وإن لم يعلم
حقيقته ، ولكن يعلم أنّه غير البدن وقابل
__________________
للارتباط مع ما
وراء الطبيعة وللإرسال والإحضار وباق بعد موت البدن ، ويشهد لذلك ـ مضافا إلى ما
نجده من الفرق بينهما بالعلم الحضوري بالروح دون البدن ورؤية بعض الأرواح في بعض
المنافات الصادقة بعد موت الأشخاص وغير ذلك ـ قوله تعالى في القرآن الكريم : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، ولا يختصّ ذلك بالشهداء ، لقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ) ، لصراحة الآية الكريمة على بقاء آل فرعون إلى يوم القيامة
وعذابهم صباحا ومساء فالشهداء والكفّار لا يفنون بفناء أبدانهم ، بل كلّ من يموت
لا يفنى ، بل هو باق بنصّ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ؛ لصراحة (ارْجِعُونِ) في أنّهم رحلوا عن الدنيا ودخلوا في النشأة الاخرى ، وهي
البرزخ ، فمع موت الأبدان والرحلة عن الدنيا تكون الأرواح باقية في البرزخ ولهم
مطلوبات وتمنّيات ومكالمات ومخاطبات ، وأيضا تبقى كلّ نفس بنصّ قوله تعالى أيضا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ؛ إذ المراد من التوفّي : هو الأخذ ، والمأخوذ هو شيء غير
البدن أخذه الملك وحفظه وأرجعه إلى ربّه.
قال بعض المحققين
: «هذه الآية دلّت على أنّ في الإنسان شيئا آخر غير البدن يأخذه ملك الموت وعلى
أنّ الروح تبقى بعد الموت ، وعلى أنّ حقيقة الإنسان وشخصيته بذلك الروح الذي يكون
عند ملك الموت» والأصرح من هذه الآية قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها
__________________
فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ؛ إذ الإمساك والإرسال بعد الأخذ والتوفّي ممّا يصرّحان
على وجود شيء آخر مع البدن وهو الروح ، وهو يبقى بعد الموت ويمسكه الله تعالى ،
وغير ذلك من الأدلّة المتعددة المتظافرة القطعيّة .
الثالث
: أنّ بين الحياة
الدنيويّة والحياة الاخروية حياة اخرى ، وهي الحياة البرزخية ، والآيات الدالّة
على تلك الحياة متعددة ، وقد مرّ شطر منها ، وبقيت الاخرى ، منها : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ ...) ؛ لأنّ البشارة بالذين لم يلحقوا بهم بعد القتل في سبيل
الله والشهادة لا تكون إلّا في الحياة البرزخية.
ومنها : قوله
تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ؛ إذ التمنّي بعد القتل والدخول في الجنة بالنسبة إلى قومه
الذين قتلوه ولم يسمعوا إرشاده وكانوا أحياء لا يكون إلّا في الحياة البرزخية ،
قال بعض الأعلام ـ بعد نقل جملة من الآيات الدالّة على الحياة البرزخية ـ : ظاهر
الآيات الكريمة أنّ الإنسان المؤمن بعد الموت يدخل الجنّة كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
__________________
وَجَنَّةُ
نَعِيمٍ) وقوله تعالى : (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وقوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) ؛ لأنّ الظاهر الأمر بدخول الجنّة بعد موتهم لا يوم
القيامة ، بل قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ) صريح في أنّه في البرزخ لقوله تعالى : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
كما أنّ بعض
الآيات الكريمة ظاهرة في المطلب ، وإن لم يذكر فيها لفظ الجنّة من أجل أنّ الرزق
بكرة وعشيا ليس من صفات الجنّة الاصليّة ؛ لأن النعم فيها دائميّة ، ولا بكرة فيها
، ولا عشي ، لعدم الشمس وقتئذ كما يأتي إن شاء الله تعالى أنّ (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) و «أنّ
أُكُلُها
دائِمٌ» وأنّ فواكهها (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا
مَمْنُوعَةٍ) و «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ
و
يَدْعُونَ
فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ»
و (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ) انتهى موضع الحاجة .
أقول : وقد دلّ
بعض الآيات على أنّ الكفار كآل فرعون أيضا لهم حياة برزخية ، ويعذّبون فيها بكرة
وعشيا ، فلا تختصّ الحياة البرزخية بالمؤمنين ، هذا مضافا إلى تواتر الأخبار بوجود
الحياة البرزخية ، كالروايات الدالّة على السؤال في القبر وضغطة القبر والروايات
الدالّة على أنّ القبر ، أمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران ،
والروايات الدالّة على أنّ الأموات بعد قبض الروح يتلاقون ، ويتعارفون ويتساءلون ،
كما عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «إذا مات الميت اجتمعوا عنده فاسألوه عمّن مضى
وعمّن بقي ، فإن كان مات ولم يرد عليهم ، قالوا : قد هوى هوى ، ويقول بعضهم : دعوه
حتى يسكن ممّا مرّ عليه من الموت» .
__________________
والروايات الدالّة
على أنّ الأموات يأنسون بمن زار قبورهم ، ويدّعون في حقّ الأحياء ، والروايات
الدالّة على أنّ أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة في حجرات في الجنّة يأكلون من
طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويتزاورون فيها ، ويقولون : ربّنا أقم لنا الساعة
لتنجز لنا ما وعدتنا ، والروايات الدالّة على أنّ أرواح الكفّار في حجرات النار
يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويتزاورون فيها ، ويقولون : ربّنا لا تقم
لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا.
والروايات الدالّة
على أنّ أرواح المؤمنين حشرهم الله إلى وادي السلام في ظهر الكوفة ، وهم حلق حلق
قعود يتحدثون.
والروايات الدالّة
على مكالمة النبي أو الأئمة ـ عليهم صلوات الله ـ مع الأموات ، كما روي عن النبيّ
ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أنّه وقف على قليب بدر فقال للمشركين الذين قتلوا
يومئذ وقد ألقوا في القليب : لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه
، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فقال له عمر : يا رسول الله ما خطابك لهام قد
صديت ، فقال له : مه يا ابن الخطاب فو الله ما أنت بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن
تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن اعرض بوجهي هكذا عنهم» وغير ذلك من طوائف الأخبار.
ثم إنّ الظاهر من
الأخبار أنّ الأرواح في عالم البرزخ يعيشون في قالب مثالي كأبدانهم ، كما ورد عن
أبي ولّاد عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «قلت له : جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في
حواصل طيور خضر حول العرش فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في
حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم» وفي رواية اخرى : «فإذا قبضه الله عزوجل صيّر
__________________
تلك الروح في قالب
كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصور التي
كانت في الدنيا» فالحياة البرزخية مسلمة لا مجال للتشكيك فيها.
الرابع
: أنّ حقيقة الموت
ليست هي الانعدام والفناء ، بل هي انقطاع ارتباط الأرواح مع الأبدان ، والانتقال
من الحياة الدنيويّة إلى الحياة البرزخية ، وقد عرفت قيام الأخبار المتواترة جدا
على بقاء الأرواح بعد الموت ، ووجود الحياة البرزخية ، وإليه يشير ما عن مولانا
أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «أيّها الناس إنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ،
ولكنكم من دار تنقلون ، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ، والسلام» .
وما عن الحسن بن
علي ـ عليهماالسلام ـ حيث سئل : «ما الموت الذي جهلوه؟ أنّه قال : أعظم سرور
يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، وأعظم ثبور يرد على
الكافرين إذا نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد» .
وما عن علي بن
الحسين ـ عليهماالسلام ـ أنّه قال : «لما
أشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب ، نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ،
لأنّهم كلّما اشتد الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، وكان
الحسين ـ صلوات الله عليه ـ وبعض من معه من خصائصهم تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم
، وتسكن نفوسهم ، فقال بعض لبعض : انظروا لا يبالي بالموت ، فقال لهم الحسين ـ عليهالسلام ـ :
صبرا بني الكرام
فما الموت إلّا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى
__________________
الجنان الواسطة ،
والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلّا
كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، أنّ أبي حدّثني عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر
هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، وما كذبت ولا كذبت» ، وقال أيضا في خطبته المعروفة : «خطّ الموت على ابن آدم
مخطّ القلادة على جيد الفتاة» إلى آخرها ، مع أنّ الزينة بدون المتزين لا إمكان
لها. وقيل لمحمّد بن علي ـ عليهماالسلام ـ : «ما الموت قال : هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا
أنّه طويل مدته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة ، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح
ما لا يقادر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره ، فكيف حال فرح في النوم
ووجل فيه ، هذا هو الموت فاستعدوا له» .
فالموت ليس إعداما
للإنسان فإطلاق الإعدام والإفناء على بعض أنواع الموت لا يكون على سبيل الحقيقة ؛
إذ الأرواح باقية وتشخص الأشخاص بالأرواح ، فزيد باق ما دام روحه باقيا ؛ إذ البدن
كالثوب فكما أنّ نزع الثوب لا يوجب سلب الزيدية عن زيد ، فكذلك نزع البدن لا يوجب
ذلك ، ولذا كثيرا ما رأينا آباءنا أو امهاتنا أو أقرباءنا أو أصدقاءنا في المنام
بعد مماتهم ونقول : رأيناهم ولا يكون إسناد الرؤية إليهم إسنادا مجازيّا ، وربّما
يخبرونا بالواقعيات ، وبما يختصّ بهم ، ممّا لم يعلم به إلّا بهم ، فهذه آية
وجودهم في الواقع من دون ريب وارتياب.
بل الموت وسيلة
انتقال للإنسان وارتقائه وتخليصه عن الأوساخ والأقذار ، وسبب نجاته عن سجن الدنيا
وكدوراتها ، وموجب لاستراحة المؤمن وإراحة الناس عن الكفّار والأشرار ، وهو حقّ
يأتي كلّ إنسان «إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ
__________________
مَيِّتُونَ».
الخامس
: أنّ إعادة الأرواح إلى الأبدان في القيامة لا تكون إعادة المعدوم ، لأنّ المفروض
كما عرفت هو بقاء الأرواح في البرزخ ، فالأرواح لا تكون معدومة حتّى تكون إعادتها
إعادة المعدوم ، كما لا يكون أيضا إعادة أجزاء البدن إعادة المعدوم ، لأنّ الأجزاء
المتفرقة موجودة معلومة عند الله تعالى ، ولا يعزب شيء منها عن علمه تعالى مهما
تبدّلت وتغيّرت.
هذا مضافا إلى عدم
اشتراط بقاء أجزاء مادة البدن في عينية الإنسان المعاد واتحاده مع الإنسان الذي
كان في الدنيا عقلا ؛ لما عرفت من أنّ تشخص الشخص بحقيقته ، وهي روحه ، ولذا لم
يضر ببقائه تبدّل أجزائه في الحياة الدنيا بتمامها ، مع ما قيل من أنّ أجزاء
الإنسان تتبدّل مرّات عديدة في طول سنوات عمره ، ويشهد له حكم المحاكم بمجرمية من ارتكب جرما في أيام
شبابه ، ثم هرب واخذ في أيام هرمه ، ولزوم عقوبته مع تبدّل أجزاء بدنه مرّات عديدة
، في طول حياته فلو خلق مثل بدن ميت في العقبى ، اعيد روحه إليه ، لكانت العينيّة
محفوظة كما لا يخفى ، ولكن مقتضى الأدلّة الشرعيّة هو خلق البدن من الأجزاء
المتفرّقة التي كانت بدنا له في أيام الدنيا ، كما يشهد له قوله تعالى : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، فإنّ الإخراج والخروج فرع بقائهم في الأرض ، ـ وإلّا فلا
يصدق عنوان الإخراج والخروج وغير ذلك من الشواهد والأدلّة.
ولعلّ إليه يؤول
ما ذكره المحقق اللاهيجي ـ قدسسره ـ : «من أنّ المحققين يقولون : إنّ البدن بعد مفارقة الروح
، وإن انعدم بحسب الصورة ، ولكن يبقى بحسب المادة ففي وقت الإعادة افيض عليها مثل
الصورة الأوّلية ، وتتعلّق الروح الباقية بالبدن المعاد (وتتحد الهوهوية) لأنّ
تشخّص الإنسان بتشخّص النفس
__________________
الناطقة ، التي هي
الروح ، ولا دخل في تشخص النفس الناطقة إلّا مادة البدن مع صورة ما ، فالصورة
المعينة لا مدخلية لها ، ألا ترى أن شخص الطفل بعينه هو شخص الكهل ، أو الشيخ ، مع
أنّ بدن الكهل أو الشيخ ، ليس بدن الطفل بعينه ، فإذا كانت روح المثاب روح المطيع
الباقي بعينه ، ومادة بدنه مادة بدنه بعينها ، فلا يلزم أن يكون المثاب غير المطيع
، كما لا يلزم أن يكون الكهل غير الطفل» ، ولا يخفى عليك أنّه إن أراد من قوله : ولا دخل في تشخّص
النفس الناطقة» إلخ ، دخالة مادة ما في تشخّص النفس الناطقة عقلا ، ففيه منع ، لما
عرفت آنفا.
وإن أراد دخالتها
شرعا فهو ، وإليه يرجع أيضا ما في متن تجريد الاعتقاد حيث قال : «ويتأوّل (أي
العدم يتأول) في المكلّف (بفتح اللام) بالتفريق كما في قصة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ» وقال الشارح العلّامة في شرح عبارة المحقق الطوسي ـ قدسسرهما ـ : «وأما المكلّف الذي يجب إعادته فقد أوّل المصنّف ـ رحمهالله ـ معنى إعدامه بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك ـ إلى أن
قال ـ : فإذا فرّق أجزاءه كان هو العدم ، فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك
الأجزاء وألّفها كما كانت ، فذلك هو المعاد» إلى آخر عبارته فراجع .
ولا استغراب في
هذا الجمع عن الحكيم القدير الخبير ، روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن
أبي عمير عن أبي أيّوب عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : «إنّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ نظر إلى جيفة ، على ساحل البحر تأكلها سباع البر ، وسباع
البحر ثم يثب السباع بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا ، فتعجب إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فقال : «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ
__________________
الْمَوْتى» فقال الله له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فأخذ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ الطاوس والديك والحمام
والغراب ، قال الله عزوجل : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطعهن ثم أخلط لحماتهن (لحمهن ـ خ ل) وفرّقها على كلّ
عشرة جبال ، ثم خذ مناقيرهن وادعهن يأتينك سعيا ، ففعل إبراهيم ذلك وفرّقهن على
عشرة جبال ثم دعاهن فقال : أجيبيني بإذن الله تعالى ، فكانت يجتمع ويتألف لحم كلّ
واحد ، وعظمه إلى رأسه ، وطارت إلى إبراهيم ، فعند ذلك قال إبراهيم : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال العلّامة المجلسي ـ قدسسره ـ : «تلك الأخبار تدلّ على أنّه تعالى يحفظ أجزاء المأكول
في بدن الآكل ، ويعود في الحشر إلى بدن المأكول كما أخرج تلك الأجزاء المختلطة
والأعضاء الممتزجة من تلك الطيور وميّز بينها» .
وروي عن هشام بن
الحكم أنّه قال الزنديق للصادق ـ عليهالسلام ـ : «أنّى للروح بالبعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت؟
فعضو في بلدة تأكلها سباعها ، وعضو باخرى تمزّقه هوامها ، وعضو قد صار ترابا ، بني
به مع الطين حائط قال : إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره على غير مثال كان سبق
إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه ، قال : أوضح لي ذلك ، قال : إنّ الروح مقيمة في
مكانها : روح المحسنين في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير
ترابا منه خلق (وفي المصدر : كما منه خلق) وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها
، فما أكلته ومزقته كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في
ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وأنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في
التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت
__________________
الأرض فتربو الأرض
، ثم تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب ، إذا غسل بالماء
، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب (وفي المصدر : كلّ قالب إلى
قالبه فينتقل) فينتقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر
كهيئتها ، وتلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» .
وروي في الكافي عن
عمّار بن موسى عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : «سئل عن الميّت يبلى جسده ، قال : نعم ، حتّى لا
يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، تبقي في القبر
مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة» .
قال العلّامة
المجلسي ـ قدسسره ـ : توضيح : «مستديرة أي بهيئة الاستدارة أو متبدلة متغيرة
في أحوال مختلفة ككونها رميما وترابا ، وغير ذلك ، فهي محفوظة في كلّ الأحوال» انتهى موضع الحاجة.
وعليه فلا مانع من
جمع المتفرّقات خصوصا إذا اكتفى بالطينة الأصلية كما هو مفاد بعض الأخبار.
السادس
: في إمكان المعاد :
ولا يخفى أنّ عود الأرواح إلى أبدانها ممكن ذاتا ولا استحالة فيه ، لما عرفت من
أنّ عود الأرواح إلى أبدانها ليس إعادة المعدوم ، حتّى يقال باستحالتها ؛ لأنّ
المعدوم لا شيئية له حتّى يعاد ، ففرض إعادة المعدوم لا يعقل إلّا إذا فرض المعدوم
موجودا حتّى يكون قابلا للاعادة ، ومع هذا الفرض يجتمع العدم والوجود في شيء واحد
وهو محال ، وأيضا عودة الأرواح ، وتجديد الحياة ، تكون بعد موت الأبدان ، لا في
حال موت الأبدان حتّى يكون تناقضا ، فمع عودة الأرواح عادت الحياة ، ولا موت
للأبدان ، فلا
__________________
يجتمع موت الأبدان
مع حياتها حتّى يناقضها ، وعليه فالمعاد ، هو إعادة الموجود إلى الموجود ، لبقاء
الأرواح ولبقاء أجزاء الابدان ، أو مادتها ، وتجديد حياة الأبدان بعد موتها لا في
حال موتها ، وهذا لا استحالة فيه ، بل أمر ممكن ذاتا هذا كلّه بالنسبة إلى الإمكان
الذاتي.
وأمّا الإمكان
الوقوعي فهو أيضا واضح ؛ إذ لا يستلزم المعاد محالا ، بل المقتضي لوجوده موجود ،
ولا مانع منه ، أمّا المقتضى فهو لتماميّة شرط الفاعلية بسبب كونه موافقا للحكمة
والعدالة ونحوهما كما سيأتي إن شاء الله بيانه ، وأمّا عدم المانع فلعدم وجه صحيح
ليمتنع وقوعه ، بل أدلّ شيء على إمكان وقوعه ، هو وقوع مثل المعاد وهو الرجعة في
الدنيا ؛ إذ الرجعة في الحقيقة عود الأرواح إلى أبدانها كالمعاد ، وإنّما الفرق
بينهما في التوقيت وعدمه ، وقد عرفت آنفا إمكان الرجعة ، ووقوعها في الامّة
السالفة بنصّ القرآن الكريم ، وعرفت أيضا قيام الأخبار المتواترة على وقوعها في
الأمة الإسلامية بعد ظهور الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ فما تخيل أنّه مانع
ليس بمانع ، وإنّما هو حاك عن قصور المتخيل في درك الحقائق كما لا يخفى ، فلا يبقى
إلّا استبعادات من الكفّار والملحدين ، وهذه الاستبعادات ناشئة عن قياس قدرة
الخالق وعلمه بقدرة المخلوق وعلمه ، وإلّا فمن آمن بالله تعالى وأوصافه على ما
اقتضته الأدلّة والبراهين القطعيّة ، لا يستبعد صدور شيء منه تعالى ، وقد أشار إلى
بعضها في القرآن الكريم مع الجواب عنه كقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ، والآية الكريمة أشارت إلى قدرته تعالى التي أوجبت إنشاء
العظام وغيرها أوّل مرّة ، وإلى علمه الواسع الذي لا يعزب عنه شيء من المخلوقات
__________________
حتّى يرفع
استبعادهم في عودة حياة العظام البالية ، وفي جمع الأجزاء المتفرّقة في أقطار
الأرض وأكّد ذلك في ضمن آيات عديدة اخرى أيضا ، منها قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) ، ومنها قوله تعالى : «(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) ـ إلى أن قال عزّ شأنه ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ
هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)» .
فمن شك في صدور
المعاد عن قدرته تعالى فلينظر إلى ما صدر وما يصدر عنه تعالى في خلقة الإنسان مع
عجائب ما فيه ، وفي خلقة الأشجار والأثمار والنباتات ، فهل يمكن أن يقدر الله
تعالى على مثل هذه الامور ولا يقدر على إحياء الموتى بعد تفرّق أجزائهم ، فالتأمل
حول قدرته تعالى والعلم بأنّها مطلقة ، وهكذا التأمل حول علمه تعالى وأنّه لا يعزب
شيء عن حيطة علمه ، يوجب رفع الاستبعادات والظنون الواهية ؛ إذ لا موجب لها ، بل
هذه الظنون والدعاوى الباطلة لا توافق حكمة الله تعالى ، وقد أشار إليه في كتابه
العزيز بقوله : (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عند الإشارة إلى
الأدلّة العقليّة لوقوع المعاد ووجوبه.
ثم إنّ هذه الظنون
سواء كانت عن الذين آمنوا بالله ، أو عن الذين لم يؤمنوا به ، التي لا دليل عليها
تنشأ عن ضعفهم في المعرفة بالله تعالى وقدرته وعلمه ، مضافا إلى مطابقتها لأهوائهم
وأميالهم الفاسدة ، لأنّ الاعتقاد بالمعاد يصلح للرادعية ، والدعوة إلى ترك اللذات
والشهوات الفاسدة ، فبإنكار المعاد يرفع
__________________
هذا الرادع عن
أمامهم ولعلّ إليه يشير قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ، فإرادتهم للشهوات والأهواء من دون مانع تدعوهم إلى
الإنكار ، كما يشهد قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ
إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) . على أنّ التجاوز والذنوب ألجأتهم إلى الإنكار. فينقدح
ممّا ذكر أنّ المعاد الجسماني أمر ممكن ذاتا ووقوعا ، ولا دليل على خلافه.
السابع
: في حتمية المعاد ،
ولا ريب أنّ القرآن الكريم أخبر عن وقوع القيامة والمعاد أخبارا جزميّا قطعيّا مع
التأكيدات المختلفة. وتعرّض لخصوصياته في ضمن آيات كثيرة التي تقرب من ألفين على
ما ذكره بعض المحققين وإليك بعض الآيات : (وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) .
وفي هذه الآية
أخبر عن وقوع القيامة والمعاد الجسماني بالجزم والقطع ، ونفى عنه مطلق الريب
والشكّ مع التأكيدات وأكّد وقوعها في ضمن آيات اخر بالقسم كقوله عزّ شأنه :
(زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وفي هذه الآية ذكر أصناف التأكيدات من القسم ولام القسم
ونون التأكيد ، وقرن هذه التأكيدات بمثل قوله : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ) في ذيل الآية ، لبيان حتميّة البعث ، والنشر من القبور
الذي أنكره الكفار ، وعبّر عن القيامة والبعث المذكور بالماضي ، لحتمية وقوعه
كقوله عزّ شأنه : (إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ) ، وقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها) .
__________________
وجعل القيامة
قريبة ممكنة خلافا لما تخيله الكفّار من كونها بعيدة ، وقال جلّ جلاله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ
قَرِيباً) ، وأرسل رسله للإنذار والتبشير بالآخرة والقيامة ، كما قال
تعالى : (وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، وليس ذلك إلّا لحتمية وقوعها ، وأيضا جعل القيامة من
ميعاده التي لا تخلف فيها ، لحتمية وقوعها ، كما قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ
لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) .
وغير ذلك من
الآيات ، فإنّ كلّها تحكي عن حتميّة وقوع القيامة والبعث والنشور المذكور في
القرآن بالمطابقة أو الملازمة ، فإنّ بيان أوصاف القيامة ، وبيان أوصاف المؤمنين
والكافرين والمجرمين ، أو بيان أوصاف الجنّة والجحيم أو غير ذلك ، أيضا تدلّ على
حتمية وقوع القيامة والبعث والنشور ، إذ البحث عن هذه الخصوصيّات يكون بعد الفراغ
عن أصل وقوعها.
ثم إنّ مقتضى قوله
: (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وغيره هو أنّ المعاد الذي آمن به إبراهيم وغيره في الأزمان
السالفة قبل الإسلام هو المعاد الجسماني.
فالآيات القرآنية
تدلّ بالصراحة على وقوع المعاد وحتميته ، وعلى كونه معادا جسمانيا ، وعلى كونه مما
اعتقد وآمن به كلّ نبيّ وكلّ مرسل وكلّ مؤمن في كلّ عصر من الأعصار الماضية ، هذا
مع قطع النظر عمن الأخبار والروايات المتواترات الواردة في المعاد الجسماني ، فلا
مجال للريب في أصل وقوع المعاد ،
__________________
وفي كونه جسمانيّا
، بمعنى عودة الأرواح إلى أبدانها ولا في أدلّة المعاد لصراحتها وتواترها.
ولقد أفاد وأجاد
العلّامة الحلي ـ قدسسره ـ حيث قال : «المعاد الجسماني معلوم بالضرورة من دين محمّد
ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ والقرآن دلّ عليه في آيات كثيرة بالنصّ ، مع أنّه ممكن
فيجب المصير إليه ، وإنّما قلنا بأنّه ممكن ؛ لأنّ المراد من الإعادة جمع الأجزاء
المتفرقة وذلك جائز بالضرورة» فقول بعض الفلاسفة من أتباع المشّائين باختصاص المعاد
بالمعاد الروحاني على المحكي مخالف للضرورة من الدين ، كما أنّ قول جمع من
المتكلّمين بعدم بقاء الروح وفنائه بموت الأبدان يخالف الآيات والروايات المتواترة
الدالّة على بقاء النفس ، ووجود الحياة البرزخية ، فالحقّ هو بقاء الأرواح وأنّ
معادها هو عودتها إلى أبدانها.
الثامن
: في الأدلّة
العقليّة : ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى الاستدلال بالأدلّة العقليّة ، على وقوع
المعاد بعد قيام الأدلّة السمعيّة القطعيّة وضرورة الإسلام بل ضرورة الدين ، على
إثبات المعاد ، ولكن حيث أشير في الأدلّة السمعيّة إلى الوجوه العقليّة فلا بأس
بذكر بعضها :
١
ـ دليل الحكمة :
إنّ الحدّ الوسط
في هذا الدليل هو حكمته تعالى ، والشكل القياسي في هذا الدليل ، يكون هكذا : أنّ
الله تعالى حكيم ، والحكيم لا يفعل عبثا وسفها ، فهو تعالى لا يفعل عبثا وسفها.
ثم ينضم إليه
القياس الاستثنائي ، وهو أنّه لو لم يكن للإنسان معاد لكان
__________________
خلقه عبثا وباطلا
، ولكنّ الله تعالى لا يفعل عبثا وسفها ، فالمعاد للإنسان ثابت ، فحكمته تعالى
تقتضي أن يكون للإنسان حياة دائمية ومعاد في القيامة وتوضيح
ذلك يحتاج إلى بيان مقدمات.
الأولى
: أنّ الله تعالى
حكيم ، والحكيم لا يفعل العبث والسفه ؛ لأنّه قبيح لرجوعه إلى ترجيح المرجوح ، أو
لأنّه محال ، لأوّله إلى الترجح من غير مرجح ، وقد مرّ البحث عنه في العدل ، ولا
ينافي ذلك ما عرفته في المباحث المتقدّمة من أنّ الله تعالى لا غاية له وراء ذاته
؛ لأنّ المقام يثبت الغاية للفعل لا للفاعل وكم من فرق بينهما.
الثانية
: أنّ العبث والسفه
هو ما لا يترتب عليه غاية عقلائيّة ، مثل ما إذا صرف ذو ثروة ماله فيما لا منفعة
له ، أو فيما يكون منفعته أقلّ ممّا صرفه ، ولا يكون الصرف ذا حكمة ، إلّا إذا
ترتب عليه المنفعة الزائدة عمّا صرف ، فالفعل لا يخرج عن العبثية والسفاهة ، إلّا
إذا ترتب عليه فائدة وغاية عقلائية.
وعليه فخلقة
الإنسان مع ابتلائه بأنواع المشكلات ، وكون نهايته الفناء من دون ترتب فائدة على
ذلك بالنسبة إلى الله تعالى لكونه كمالا محضا وغنيا مطلقا ، ولا بالنسبة إلى
المخلوق بعد فرض كونه سيصير فانيا عبث وسفاهة ؛ لأنّه بمنزلة ذي صنعة يصنع شيئا
مهمّا ثم يخرّبه قبل أن يستفيد منه نفسه أو غيره ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ،
وعبادة الإنسان وإطاعته لله عزوجل لا تنفع في حقّه تعالى ، لكونه غنيا مطلقا ، ولا في حقّ
المطيع بعد كون المفروض أنّه سيصير فانيا ، والاستكمال بالطاعة والعبادة لا
مطلوبية له إلّا إذا كان المطيع باقيا ، فإنّ العبادة والطاعة حينئذ توجبان رفعة
نفس المطيع إلى مقام يتلذذ منه ، كالقرب والدنوّ من ساحة ربّه المتعال ، وكلياقته
للمجالسة مع الأولياء الكرام ، في جنّات النعيم وغير ذلك.
قال الاستاذ
الشهيد المطهري ـ قدسسره ـ : «إن كان خلف كلّ وجود
عدم ، أو خلف كلّ
عمران تخريب ، وإن كان كلّ نيل للتخلية فما يحكم على النظام العالمي إلّا التحرير
والضلال ، وتكرار المكررات ، فيقوم وجود كلّ شيء على العدم والباطل» .
وقرّره الحكيم
المتأله محمّد مهدي النراقي بوجه آخر ، وهو : «أنّا نرى في هذا العالم بعض الناس
يطيعون ، وبعضا آخر يعصون ، وبعضهم يحسنون ، وبعضا آخر يسيئون ، وبعضهم يديمون في
العبادة والطاعة ، وبعضا آخر يديمون المعاصي والسيئات ، ونرى جمعا في الخيرات
والمبرّات ، وجمعا آخر في الظلم والخطيئات.
ونرى طائفة نالوا
مقام رضاية الله تعالى ، وفرقة اخرى ذهبوا في الطغيان والضلال ، ونرى طبقة في
الإحسان والنصح ، وزمرة في الملاهي والمناهي.
ونرى مع ذلك أنّ
الموت يعرض على جميعهم ويفنيهم ، مع عدم نيل كلّ واحد منهم بجزاء عمله ، فلو لم
يكن عالم آخر يجزى كلّ واحد بعمله ، لكان خلقة هذا النوع العظيم شأنه عبثا وسفها» ونحوه كلام الفاضل الشعراني ـ قدسسره ـ في ترجمة وشرح تجريد الاعتقاد فراجع.
وكيف كان فما يخرج
خلقة الإنسان عن السفاهة والعبث ، هو وقوع المعاد ، لأن يصل الإنسان إلى نتيجة
عمله الذي عمله في الدنيا ، من الاستكمال أو جزائه ، وإليه يؤول قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) .
فقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) إشارة إلى أنّ
خلقة الإنسان بدون الرجوع والمعاد ليس إلّا عبثا وسفاهة وهي المقدمة الثانية.
وقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) إشارة إلى عدم وقوع العبث منه
__________________
تعالى لعلوّه عن
ذلك وهو المقدمة الاولى ، ولعلّ قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) إشارة إلى عدم حاجته إلى خلقة الإنسان ومعاده ؛ لأنّه مالك
الملك ، والذي يكون كذلك ، لا حاجة إلى غيره ، فنيل الإنسان إلى غايته وعدمه لا
يؤثران في مالكيته للملك ، وإنّما الخلقة ومعادها تنشأ من علوّه ، وكماله ، وغناه
، فلا مورد لاستكمال الكامل المطلق بالخلقة والمعاد.
الثالثة
: أنّ المستفاد من
دليل الحكمة هو معاد الإنسان كما تشير إليه الآية الكريمة ، وأمّا معاد عالم
المادة والحيوانات فقد ذهب بعض أساتيذنا إلى الاستدلال له بدليل الحكمة ، ولكنّه
محلّ تأمّل ؛ لإمكان أن يقال : إنّ خلقة المادة والحيوانات لانتفاع الإنسان ، كما
يدلّ عليه قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فمع وجود هذه الغاية في خلقة المادة والحيوانات ، وهي
استفادة الإنسان منها بحيث يتمكن من الحياة الدنيويّة حتّى يعيش ويعمل ما يعمل
ليست خلقتها عبثا وسفها ، ولو لم يكن لها معاد فإثبات المعاد لهما بهذا الدليل
محلّ تأمّل ، بل منع ، نعم لو لم يكن للإنسان معاد فلا يكون خلقة كلّ ذلك إلّا
عبثا وسفها وباطلا كما لا يخفى.
وكيف كان فإذا
عرفت هذه المقدمات يكون خلقة الإنسان أحسن شاهد على وقوع المعاد ؛ إذ العبث لا
يصدر منه تعالى ، فإذا كان الإنسان مخلوقا فلا يكون عبثا مع أنّه لا يخرج عن
العبثية إلّا بوقوع المعاد ، فحكمته تعالى توجب البعث والمعاد ، كما صرّح به
المحقّق الطوسي ـ قدسسره ـ في متن تجريد الاعتقاد .
وقال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ في ذيل قوله تعالى :
«وَما خَلَقْنَا
__________________
السَّماءَ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً
لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ»
: «إنّ للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا
، فمن الواجب أن يكون هناك نبوّة ودعوة ، ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من
الاعتقاد والعمل ، فالمعاد هو الغرض من الخلفة الموجب للنبوّة ، ولو لم يكن معاد
لم يكن للخلقة غرض وغاية ، فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى ، وهو غير جائز ،
ولو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو
فعل خارج من ذاته ؛ لأنّ من المحال أن يؤثر غيره فيه ويحتاج إلى غيره بوجه ، وإذ
لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية وهو المعاد ، ويستلزم ذلك النبوّة ، ومن لوازمه أيضا
نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا وأسرفوا وتوقف عليه إحياء الحقّ ، كما يشير إليه
قوله بعد ، بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» .
وقال أيضا في ذيل
قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) : «وهو احتجاج من طريق الغايات ؛ إذ لو لم يكن خلق السماء
والأرض وما بينهما ـ وهي امور مخلوقة مؤجلة توجد وتفنى ـ مؤديا إلى غاية ثابتة
باقية غير مؤجلة كان باطلا ، والباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقّق في
الأعيان ، على أنّه مستحيل من الحكيم ، ولا ريب في حكمته تعالى» .
وقرّب في كنز
الفوائد في اصول العقائد دليل الحكمة بما حاصله : «أنّ بعد ثبوت حكمة الله تعالى
في أفعاله نعلم بأنّ خلقة العالم ليست عبثا ، بل فيها حكمة
__________________
ومصلحة ، ثم ننظر
أنّ المصلحة ترجع إلى الله تعالى ، أو إلى خلقه وحيث علمنا أنّه تعالى غنيّ بالذات
وكامل من جميع الجهات ، فالمصلحة والحكمة ترجع إلى الخلق لا محالة ، ولا تكون
الخلقة بمصلحتهم إلّا إذا كانت نشأة اخرى عقيب هذه الدنيا ، وإلّا لزم عدم كون
الخلقة بمصلحتهم ، وهو نقض للغرض ، والنقض من أقبح الامور ، ووجهه أنّ المنافع
والمصالح الدنيويّة منقطعة لا دوام ولا ثبات لها ، ووجودها لقلّة دوامها كعدمها ،
ولا يكون إعطاء هذه المنافع والمصالح لائقا بشأن الحكيم على الاطلاق.
هذا مضافا إلى
اختلاطها وشوبها بأضعاف مضاعفة من الصعوبات والمشاكل ، والمصائب والمحن ، والأمراض
والفتن ، والمنافرات ، وحصول هذه المنافع والمصالح لا تكون غرضا من الخلقة ، وإلّا
لزم نقضا للغرض ؛ لأنّه خلاف الإحسان ، هذا نظير كريم يدعو جمعا كثيرا للضيافة ،
وغرضه من الدعوة هو الإحسان إليهم لا غير ، فيدخلهم في مجلس الضيافة ، وحضر لهم
أنواع الأطعمة والأشربة ، مع إدخال أنواع الموذيات من السباع والذئاب والكلاب
والحيّات والعقارب ونحوها مما تمنعهم ، قبل الالتذاذ الكامل بالأطعمة والأشربة ،
ولا يعدّ ذلك عند العقلاء إلّا من أقبح القبائح التي لا تصدر ممن لا يبالي ، فضلا
عمّن يبالي ، فضلا عن الحكيم على الإطلاق ، هذا بخلاف ما إذا أمر المولى الكريم
عباده بالمشقات الجزئية في زمان قليل لينال في النشأة الاخرى النعمة الدائمة ،
والمناصب الجليلة ، والعطايا العظيمة ، فإنّ الخلقة حينئذ تصير مستحسنة وقابلة
للمدح والثناء ، وهذا برهان قاطع أرشد إليه الحقّ سبحانه وتعالى في كلامه المجيد
بقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) .
__________________
٢
ـ دليل العدالة :
ويمكن تقريبه بأن
الله تعالى عادل والعادل لا يسوّي بين الظالم والمظلوم كما لا يقدّمه ولا يقدّره
عليه ، بل ينتقم من الظالم ، فهو تعالى ينتقم من الظالم ، ولا يسوّي بين الظالم
والمظلوم ، ولا يقدّمه ولا يقدّره على المظلوم.
ثم ينضم إليه
القياس الاستثنائي ، ويقال : لو لم يكن للإنسان معاد ، لزم التسوية بين الظالم
والمظلوم ، ولزم إقدار الظالم على المظلوم ، ولزم الإخلال بالانتقام من الظالمين ،
ولكنّه تعالى منزّه عن تلك الامور فالمعاد ثابت للإنسان حتّى يجزي كلّ إنسان بما
يستحقّه.
وتوضيح ذلك أيضا يحتاج إلى بيان امور :
الأوّل
: أنّ الله تعالى
عادل ولا يظلم شيئا ؛ لأنّه كمال محض ومحض الكمال لا يكون ناقصا ، حتّى يظلم ،
والظلم معلول النقص ؛ إذ سببه إمّا الجهل أو حاجة الظالم ، أو شقاوته وخبث ذاته ،
أو حسادته ، وكلّ واحد نقص ، وهو منتف فيه تعالى ، وقد مرّ تفصيل ذلك في بحث العدل
فراجع.
الثاني
: أنّ التسوية بين
الظالم والمظلوم في الجزاء ، كتقديم الظالم على المظلوم ، وإعداده وإعانته ، في
كونه ظلما وقبيحا ، وتنافي العدل ؛ لأنّ العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ،
والتسوية كالتقديم إبطال الحقّ وهو عين الظلم.
الثالث
: أنّه لو لم يكن
معاد لجزاء الإنسان لزم التسوية بين المجرمين والصالحين ، وتقديم الظالمين على
المظلومين ، وإعداد الأشرار واقدارهم ؛ لأنّ أبناء البشر كانوا ويكونون على الصلاح
والفساد ، وعلى الإصلاح والإفساد ، وعلى الهداية والضلالة ، وكثيرا ما تتغلّب
الفئة الظالمة على المظلومة ، والأشرار على الصلحاء ، وعليه فإن اكتفى بهذه الدنيا
ولا يكون ورائها الآخرة ، كان معناه هو عدم مكافاة الظالمين والمجرمين ، وعدم جزاء
الصالحين والمتّقين ، بل
معناه هو تقديم
الطائفة الظالمة على الطائفة المظلومة ، لإعدادهم بأنواع النعمات دون الطائفة
المغلوبة.
لا يقال : هذه
الدنيا تكفي لجزاء الصالحين والطالحين فمن عمل صالحا أعطاه النعم الدنيويّة
والعزّة ، ومن عمل سيئا سلب منه النعم ، وابتلاه بالخزي والذلّة ، ومع جزاء كلّ
فرقة بما يناسبهم ، لا يلزم التسوية بين المجرمين وغيرهم ، كما لا يلزم تقديم إحدى
الطائفتين على الاخرى.
لأنّا نقول : ليس
كذلك إذ نرى عدم جزاء كثير من الظالمين والفاسدين والمفسدين بل هم يعيشون إلى آخر
عمرهم في غاية العزّة الدنيويّة ، والقدرة ، بخلاف غيرهم فإنّهم في غاية المهانة
والصعوبة ، وهو أمر محسوس لا سترة فيه ، هذا مضافا إلى أنّ أعمال المؤمنين
والكافرين على درجات مختلفة وقد يكون بعضها ممّا لا يمكن جزاؤه في عالم الدنيا ،
كمن يقتل ألف ألف نفس ببعض أنواع الصواريخ ، ومن المعلوم أنّ سلب نعمة الحياة ، أو
إعدام هذا القاتل مرّة واحدة لا يكون جزاء إفساده ، كما أن من يحيى النفوس الكثيرة
بالمعالجة أو الهداية ، لا يمكن أن يكون جزاؤه هو نعمة الدنيا مع محدوديتها فضلا
عن الأنبياء والأولياء الذين لا يمكن تقويم عملهم ، ولا تصلح مثل الدنيا الدنيّة
لجزائهم ، لا سيّما محمّدا وآله ، إذ قد فاق بعض دقائق عمرهم على جميع عمر الآخرين
، وقد اشتهر في جوامع الحديث ، أنّ ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين. على
أنّ بعض الأعمال في حال الموت وبعده ، فلا يمكن جزاء العامل في الدنيا بعد موته ،
كما إذا جاهد المؤمنون مع الكافرين فمن استشهد من المؤمنين لا يمكن جزاؤه ، كما
أنّ من هلك من الكافرين لا يمكن جزاؤه ، وكما إذا أسّس سنّة حسنة أو سنّة سيئة ،
فحمله بعد الموت يدوم بدوام ما أسّسه مع عدم إمكان جزاء العامل ، فطبع الدنيا لا
يليق بكونها جزاء كاملا للعاملين.
لا يقال : هذا
صحيح لو كان التناسخ محالا وإلّا يمكن العودة المتكرّرة
حتّى يتكامل
الجزاء ، فمن كان صالحا يعود بعد موته في بدن يعيش عيشا مباركا ، ومن كان طالحا
يعود بعد موته في بدن يعيش عيش سوء ، وهذا أمر واسع ، ولا يكون محدودا ، وإنّما
يتكرّر بحسب ما يستحقّه ، وعليه فيجزى كلّ عامل بجزاء عمله ومعه لا تسوية ولا
تقديم للفرقة الظالمة على الفرقة المظلومة.
لأنّا نقول : إنّ
التناسخ ممّا قامت ضرورة الأديان على خلافه ، فلا مجال لاحتماله ، فهو مفروض العدم
، هذا مضافا إلى عدم إمكانه لوجوه كثيرة ، منها : ان النفس بخروج البدن السابق من
القوة الى الفعلية ، قد خرجت من القوة إلى الفعلية ، فلو تعلقت بعد خروجها عن
البدن السابق إلى بدن آخر ، لكانت النفس في مرتبة الفعلية ، والبدن الذي تعلقت به
كالجنين مثلا في مرتبة القوة ، فيلزم عدم تكافؤهما في مرتبة القوة والفعلية .
ومنها : أنّ
انتقال النفس المستنسخة إلى نطفة مستعدة ، لا يمنع فيضان النفس الابتدائية ، فيلزم
اجتماع النفسين في بدن واحد ، وهو مستحيل لامتناع كون الشيء ذا ذاتين ، أعني ذا
نفسين ، وما من شخص إلّا وهو يشعر بنفس واحدة له .
ومنها : ما أشار
إليه العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ في تفسيره حيث قال : «إنّ التناسخ وهو تعلّق النفس
المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال ، فإنّ هذا البدن إن كان
ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد ، وهو وحدة الكثير ، وكثرة الواحد ،
وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة» .
ويمكن إيضاح
امتناع رجوع ما بالفعل إلى القوّة بما في المبدأ والمعاد ، من أنّ
__________________
النفس ما دامت
تكون بالقوّة يمكن لها اكتساب أيّ مرتبة شاءت لمكان استعدادها قبل صيرورتها بالفعل
شيئا من الأشياء المتحصلة ، وأمّا إذا صارت مصوّرة بصورة فعلية ، واستحكمت
فعليّتها ورسوخها ، وقوي تعلّقها ، ولصوقها بالنفس ، فاستقرّت على تلك المرتبة ،
وبطل عنها استعداد الانتقال من النقص إلى الكمال ، والعبور من حال إلى حال ، فإنّ
الرجوع إلى الفطرة الاولى ، والعود إلى مرتبة التراب ، والهيولاني ، كما في قوله
تعالى : (لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً) مجرد تمنّي أمر مستحيل كما مرّ ، والمحال غير مقدور عليه .
هذا مضافا إلى
احتفاف الدنيا بأنواع المصيبات والآلام التي لا تكون معها لائقة لجزاء الأولياء
والأنبياء والصالحين ، بل المناسب لهم هو جزاؤهم بما لا يحتف بهذه المكاره
والمصائب ، وهو لا يكون إلّا الآخرة ، على أنّ مجازاة الكفرة والعصاة بدون تنبههم
بما فعلوا في الدورات السابقة ، ليست بمجازاة ، فالتناسخ لا يمكن أولا ، وعلى فرض
إمكانه قامت الضرورة على خلافه ثانيا.
هذا مضافا إلى عدم
مناسبتها للجزاء بالنسبة إلى الصالحين ، لاحتفافها بالمكاره ، وبالنسبة إلى
الصالحين لغفلتهم عن المكافاة ، ومضافا إلى ما أفاد بعض أساتيذنا مدّ ظله ، من أنّ
الجزاء هو النعمة المحضة التي لا يشوبها تكليف ، ومسئولية ، والنعم الدنيويّة ليست
كذلك ؛ لعدم خلوّها عن التكليف ، والمسئولية كما لا يخفى.
فإذا عرفت هذه
المقدمات ظهر لك أنّ عدالته تعالى ، تقتضي المعاد ، وهو أمر أرشد إليه القرآن
الكريم في ضمن آيات عديدة ، منها : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) .
__________________
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ في ذيل قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) : «هذه هي الحجّة الثانية على المعاد ، وتقريرها : أنّ
للإنسان كسائر الأنواع كمالا بالضرورة ، وكمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم
والعمل من القوّة إلى الفعل ، بأن يعتقد الاعتقادات الحقّة ، ويعمل الأعمال
الصالحة ، اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة ، وهما الإيمان بالحقّ والعمل الصالح
، اللذين بهما يصلح المجتمع الانساني الذي في الارض ، فالذين آمنوا وعملوا
الصالحات وهم المتقون الكاملون من الإنسان والمفسدون في الأرض بفساد اعتقادهم
وعملهم ، وهم الفجّار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيّتهم حقيقة ، ومقتضى هذا
الكمال والنقص ، أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة وعيش طيّب ، وبإزاء خلافه خلاف
ذلك.
ومن المعلوم أنّ
هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب والعوامل الماديّة
ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السواء ، فمن أجاد العمل ووافقته
الأسباب الماديّة فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة.
فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيويّة ، التي نسبتها إلى الفريقين على
السواء ولم تكن حياة تختص بكلّ منهما ، وتناسب حاله ، كان ذلك منافيا للعناية
الإلهيّة ، بإيصال كلّ ذي حقّ حقّه ، وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه ، وإن شئت فقل
تسوية بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك خلاف عدله تعالى» .
ومن الآيات
المذكورة قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
__________________
وَخَلَقَ
اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ، وغير ذلك من الآيات.
ثم إنّ هذا الدليل
لا يثبت إلّا المعاد للمكلّفين والعاملين ، فإنّ محدودة كلّ برهان تابع لحدّ وسطه
، والحدّ الوسط في هذا البرهان ، هو العدل ، وهو لا يكون إلّا في موارد استحقاق
الجزاء بالطاعة أو المخالفة ، وهما من أفعال المكلفين ، فتسوية المطيع مع المسيء ،
تنافي العدالة ، أو في موارد ظلم بعض العباد على بعض آخر ، فإنّ مقتضى العدل هو
استيفاء حقّ المظلوم من الظالم ، فكلّ موارد العدل من موارد التكليف ، وعليه فلا
يشمل هذا الدليل معاد غير المكلّفين.
٣
ـ دليل الوعد :
هذا الدليل مركب
من الدليل الشرعي والعقلي إذ الجزء الأوّل منه شرعي وهو الآيات الدالّة على الوعد
بالثواب والعقاب ، وبالجنّة والنار ، منها : قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ
اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) ، ولمّا كان الوعد بهما مكرّرا وشايعا صار عنوان اليوم
الموعود من عناوين يوم القيامة كما صرّح به في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) .
والجزء الثاني منه عقلي وهو أنّ الله تعالى لا يخلف الوعد ؛ لأنّ الخلف ناش عن
النقص ، وهو تعالى لا نقص فيه ، أو ناش عن الاضطرار والضرورة ، وهو أيضا لا مورد
له في حقّه ؛ لأنّه سبحانه لا يضطره ضرورة ، ولذا قال العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره : «وخلف الوعد وإن لم يكن قبيحا بالذات لأنّه ربّما
__________________
يحسن عند الاضطرار
لكنّه سبحانه لا يضطره ضرورة ، فلا يحسن منه خلف الوعد في حال» وقد أرشد إليه بقوله عزوجل : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) .
وعليه فصورة
القياس هكذا : إنّ الله تعالى وعد بالثواب والعقاب الاخرويّين ، وبالجنّة والنار ،
وكلّ ما وعده الله آت ولا يخلفه الله تعالى ، فالجنّة والنار والثواب والعقاب
الاخرويّان حتميّان ، ولا خلف فيهما.
وإليه أشار
المحقّق الطوسي في متن تجريد الاعتقاد حيث قال : «ووجوب إيفاء الوعد ... يقتضي
وجوب البعث ، وقال الشارح العلّامة في شرحه : إنّ الله تعالى وعد بالثواب وتوعّد
بالعقاب ، مع مشاهدة الموت للمكلّفين فوجب القول بعودهم ، ليحصل الوفاء بوعده
ووعيده» .
وقال المحقّق
اللاهيجي ـ قدسسره ـ : «وليعلم أنّ ... إيصال ثواب وعقاب جسمانيّين يتوقف لا
محالة على إعادة البدن ؛ لأنّ اللّذة والألم الجسمانيّين ، لا يمكن بدون وجود
البدن ، ثم لا ينافي ثبوت اللّذة والألم الجسمانيّين مع ثبوت اللّذة والألم
الروحانيّين ، كما هو مذهب المحقّقين ، الذين قالوا بتجرّد النفس الناطقة ، فالحقّ
هو ثبوت الثواب والعقاب الروحانيّين والجسمانيّين ، أمّا الروحاني : فهو بناء على
تجرّد النفس الناطقة وبقائها بعد مفارقتها عن البدن ، والتذاذه بالكمالات الحاصلة
له من ناحية العلم والعمل ، وتألمه عن ضد الكمالات المذكورة ، وأمّا الجسماني :
فهو بناء على وجوب الإيفاء بالوعد والوعيد الموجبين لإيصال الثواب والعقاب
الجسمانيّين» .
__________________
٤
ـ دليل حبّ البقاء والخلود :
ولا خفاء في كون
الإنسان بالفطرة محبا للبقاء والخلود ، ولعلّه لذا تنافر الناس عن الموت لزعمهم
أنّه فناء ومناف لمحبوبهم الفطري من البقاء ، ويشهد أيضا على فطرية هذا الحبّ ،
أنّ الحبّ المذكور لا يزول عن النفس بالعلم بفناء الدنيا ، هذه صغرى القياس ،
وينضمّ إلى هذه الكبرى ، وهي أنّ كلّ ما كان فطريا فهو مطابق لواقع الأمر ، لأنّ
الفطرة أثر الحكيم المتعال ، ولا يكون فعله تعالى لغوا وعبثا ، فكما أنّ غريزة
الأكل والشرب والنكاح حاكية عن وجود ما يصلح للأكل والشرب والنكاح ، كذلك تشهد هذه
المحبّة الفطريّة على وجود عالم آخر يصلح للبقاء والخلود.
ولعلّ إليه يرجع
ما ذكره شيخ مشايخنا آية الله الشيخ محمّد علي الشاه آبادي ـ قدسسره ـ في «الإنسان والفطرة» حيث قال : «ويدلّ عليه عشق اللقاء
والبقاء مع القطع بعدم البقاء مثل هذا البقاء الملكي ، والحياة الدنيويّة مع عدم
فتور العشق الكذائي ، فإنّه بحكم الفطرة المعصومة ، ينكشف أنّ هناك عالما غير داثر
، وتلاقي معشوقك في مقعد صدق عند مليك مقتدر» كما حكى الاستدلال به عن الحكيم المتأله آية الله السيد
أبو الحسن الرفيعي وغيره من الأعلام والفحول ، وكيف كان فمحبّة البقاء آية
وجود الآخرة ودليلها ، وإلّا لزم الخلف في حكمته تعالى ، هذا مضافا إلى أنّ رحمته
تعالى تقتضي إيصال كلّ شيء إلى ما يستحقّه ، ورفع حاجة كلّ محتاج ، وعليه فهو
تعالى يوصل كلّ محبّ للخلود والبقاء إلى محبوبه برحمته كما أفاده عزوجل بقوله : «قُلْ لِمَنْ ما فِي
__________________
السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ»
.
وفي ما ذكر غنى
وكفاية فمن شاء الزيادة فليراجع المطوّلات.
التاسع
: في حشر الحيوانات
، وقد يستدلّ له بقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) .
قال العلّامة
الطباطبائي ـ قدسسره ـ : «أمّا السؤال الأوّل : (هل للحيوان غير الإنسان حشر؟)
فقوله تعالى في الآية : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ) يتكفّل الجواب عنه ، ويقرب منه قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) ، كورت : ٥ .
وقال أيضا : «وببلوغ
البحث هذا المبلغ ، ربّما لاح أنّ للحيوان حشرا ، كما أنّ للإنسان حشرا ، فإنّ
الله سبحانه يعدّ انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الإنسان ، ملاكا
للحشر ، ويستدلّ به عليه كما في قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ، ص : ٢٨» .
وقال أيضا : «وهذان
الوصفان ، أعني الإحسان والظلم ، موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة ، ويؤيده
ظاهر قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، فإنّ ظاهره أنّ ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية
كان ذلك ؛ لأنه ظلم ، والظلم شايع بين كلّ ما يسمّى دابّة ، الإنسان وسائر
الحيوانات ، فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كلّ دابّة على ظهرها ، هذا.
__________________
وأن ذكر بعضهم أنّ
المراد بالدابّة في الآية ، خصوص الإنسان ، ولا يلزم من شمول الأخذ والانتقام يوم
القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور والإرادة ، ويرقى الحيوان العجم
إلى درجة الإنسان في نفسيّاته وروحيّاته ، والضرورة تدفع ذلك ، والآثار البارزة
منها ومن الإنسان تبطله ، وذلك أنّ مجرد الاشتراك في الأخذ والانتقام ، والحساب
والأجر ، بين الإنسان وغيره لا يقتضي بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات ، كما لا
يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك ، بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم
من حيث المداقّة والمناقشة مجرى واحدا ، فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف
في موقف واحد» .
قال الفاضل
المقداد ـ قدسسره ـ : «النقل الشريف دالّ على أنّه ما من دابّة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلّا امم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربّهم
يحشرون ، فهؤلاء منهم من يحكم العقل بوجوب البعثة وهو كلّ من له حقّ أو عليه حقّ
للإنصاف والانتصاف ، ومنهم من لم يحكم بوجوبه بل بجوازه كمن عدا هؤلاء» .
وروي عن أبي ذر
قال : «بينا أنا عند رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ إذ انتطحت عنزان فقال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : أتدرون فيما انتطحا؟ فقالوا : لا ندري ، قال : لكن
الله يدري وسيقضي بينهما» .
قال العلّامة
المجلسي ـ قدسسره ـ : «وأمّا حشر الحيوانات فقد ذكره المتكلمون من الخاصّة
والعامّة على اختلاف منهم في كيفيته ، إلى أن قال : أقول : الأخبار الدالّة على
حشرها عموما وخصوصا ، وكون بعضها ممّا يكون في
__________________
الجنّة كثيرة
سيأتي بعضها في باب الجنّة ، وقد مرّ بعضها في باب الركبان يوم القيامة وغيره ،
كقولهم ـ عليهمالسلام ـ في مانع الزكاة : تنهشه كلّ ذات ناب بنابها ويطؤه كلّ
ذات ظلف بظلفها ، وروى الصدوق في الفقيه بإسناده عن السكوني بإسناده أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ أبصر ناقة معقولة ، وعليها جهازها ، فقال أين صاحبها؟
مروه فليستعد غدا للخصومة ، وروي فيه عن الصادق ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : أيّ بعير حجّ عليه ثلاث سنين ، يجعل من نعم
الجنّة ، وروي سبع سنين ، وقد روي عن النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ : استفرهوا ضحاياكم فإنّها مطاياكم على الصراط ، وروي
أنّ خيول الغزاة في الدنيا خيولهم في الجنة» .
العاشر
: في تأثير الإيمان
بالآخرة ، ولا يخفى أنّه إذا علمنا بوجود الآخرة بعد الدنيا ، وأنّ أعمالنا في هذه
الدنيا مضبوطة للمحاسبة في الآخرة ، ولا يمكن إخفاؤها ، وإذا علمنا أنّ الجزاء
متناسب للأعمال ، وآخرتنا رهينة أعمالنا ، ولا يعطى أحد فيها شيء من دون ملاحظة
إيمانه ، وعمله في الدنيا ، وأنّه لا مجال لإعمال القدرة في الآخرة ، بل المحاسبة
والجزاء جرت من دون خطأ وانحراف ، وإذا آمنّا بكلّ هذه الامور ، واطمأنا بها ظهر
أثره في أعمالنا وعقائدنا ، وأفكارنا ، ونيّاتنا ، ولذا أكد الأنبياء والأولياء
على الإيمان بالآخرة ، واختصّ ثلث القرآن تقريبا بالآخرة وأحوالها ، والجنّة
والنار ، ومقامات الأولياء ، ودركات الجحيم ، والحساب والصراط وغيرها ، وأوصى
النبيّ والائمة الطاهرة ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ بذكر الموت والآخرة ، ومنه ورد
عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أكيس الناس من كان أشدّ ذكرا للموت» ثم كلّما ازداد ذكر الموت والآخرة ازداد الصلاح والإصلاح ؛
ولذا عرف الله تعالى عباده الصالحين
__________________
بهذه الخصيصة وقال
عزوجل : (وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) .
وفي هذه الآية
الكريمة أيضا دلالة على أنّ إخلاص العباد وجعلهم من المخلصين ـ بفتح اللام ـ بواسطة
هذه الخصّيصة والصفة المباركة ، وكيف كان فيكفي في أهمية ذكر الآخرة أنّ الإنذار
والتبشير كان من اصول دعوة الأنبياء والمرسلين ، فمن أراد إصلاح نفسه وغيره ،
فعليه بذكر الموت والآخرة وأحوالها ، وعليه أن يقتفي بالقرآن الكريم وبالأنبياء
العظام وبالأولياء الكرام في تربية الناس وإصلاحهم ، بأن ينذرهم ويبشّرهم كما كانت
تلك سيرة العلماء الأبرار.
إذ علّة انحراف
الجوامع البشريّة في يومنا هذا هي الغفلة عن الله وعن الآخرة ، ولا يرتفع الانحراف
والسقوط إلّا بإزالة هذه العلّة ، ولا تزول هذه العلّة ، إلّا بذكر الآخرة ،
والالتفات المستمر إليها ، كما قال الله تبارك وتعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ) .
فمن طلب الجنّة
ومقاماتها فعليه بالإيمان الخالص وبالأخلاق الحسنة وبالأعمال الصالحة ؛ لأنّ
الجنّة ومقاماتها حصيلة هذه الامور والدنيا ـ كما اشتهر عن النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ مزرعة الآخرة ؛ لأنّ زاد الآخرة لا يمكن تحصيله إلّا في
هذه الدنيا ، كما قال مولانا أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ : «الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممرّكم
لمقرّكم» وقال أيضا : «فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به
أنفسكم غدا» ومن المعلوم أنّ رجاء الآخرة بدون
__________________
الإيمان والعمل
كرجاء الزارع بدون أن يحرث ويبذر ، ويسقي في أنّه لا ينتج إلّا الندامة والحسرة ،
قال عزوجل : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) ، وأنّ النفرة عن الجحيم والنار ودركاتها من دون ترك
موجباتها ، كالنفرة عن السبع والعقارب والحيّات مع المشيّ نحوها ، خصوصا بناء على
تجسّم الأعمال ، كما هو مفاد بعض الآيات كقوله عزوجل : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) ، فعلى العاقل الخبير أن يفرّ عن المحرّمات كما يفرّ عن
السبع والعقارب والحيّات ، ويبتعد عن المشتبهات ، ويستعدّ للآخرة ولا يغفل عنها
طرفة عين أبدا.
هذا ما حصل لي من
شرح هذا الكتاب الفخيم بعون الله وإمداده ، وأسأله أن يجعله ذخرا لمعادي وهو مجيب
الدعوات ، وآخر كلامي الحمد لله ربّ العالمين.
العبد السيّد محسن الخرّازي
قم المشرفة ـ ١٦ محرم الحرام ١٤٠٩ الهجرية القمرية
__________________
فهرس المحتويات
الفصل الثالث : الإمامة
عقيدتنا في الإمامة............................................................. ٥
معنى الإمامة لغة............................................................ ٦
معنى الإمامة اصطلاحا....................................................... ٧
شؤون الإمامة ومنزلتها..................................................... ١١
الإمامة من أصول الدين.................................................... ١٥
وجوب النظر في إمامة
أئمتنا عليهم السلام................................... ١٩
كون الإمامة لطفا
ورحمة.................................................... ٢٢
لزوم الإمامة والأدلة
العقلية على ذلك........................................ ٢٤
فوائد وجود الإمام
الحجة عجل الله فرجه الشريف.............................. ٢٨
الأدلة السمعية على
لزوم الإمامة............................................ ٣٠
عقيدتنا في عصمة الإمام...................................................... ٣٩
عقيدتنا في صفات الإمامة وعلمه.............................................. ٤٢
ضرورة اتصاف الإمام
بالصفات الإلهية....................................... ٤٤
كيفية تعلم الإمامة........................................................ ٤٦
مقدار علم الأئمة
عليهم السلام............................................. ٤٨
معنى الحدس والالهام....................................................... ٥١
الميز بين علوم الأئمة
والعلوم البشرية......................................... ٥٢
عقيدتنا في طاعة الأئمة....................................................... ٥٤
أدلة وجوب الرجوع
إليهم عليهم السلام...................................... ٥٦
كلام للفخر الرازي
والرد عليه............................................... ٥٩
كون الأئمة هم الشهداء
على الناس......................................... ٦١
كونهم أبواب الله
والسبيل إليه............................................... ٦٣
كونهم عيبة علم الله
وتراجمة وحيه............................................ ٦٥
كونهم أمان لأهل الأرض................................................... ٦٧
كونهم العباد المكرمون
المطهرون.............................................. ٦٩
الآيات الدالة على
عصمتهم................................................ ٧٠
عد طاعة أهل البيت
طاعة لله.............................................. ٧٧
أثر الاعتقاد بولاية
أهل البيت في الغيبة...................................... ٧٨
عقيدتنا في حب آل البيت.................................................... ٧٩
معنى المودة والمحبة.......................................................... ٨٠
الحب في الله والبغض
في الله................................................. ٨١
وجوب المحبة لأهل
البيت عليهم السلام...................................... ٨٣
بيان المراد من القربى....................................................... ٨٧
خروج المبغض لهم عن
دائرة الايمان........................................... ٩١
مدلول آخر للمودة........................................................ ٩٢
عقيدتنا في الأئمة............................................................ ٩٥
انحراف الغلاة
والتحذير منهم............................................... ٩٦
عقيدتنا في أن الإمامة بالنص.................................................. ٩٨
الإمامة بالنص لا
بالانتخاب................................................ ٩٩
ثبوت النصوص على إمامة
الإمام علي (ع) بعد النبي (ص)................... ١٠١
حديث الغدير.......................................................... ١٠٢
حديث المنزلة........................................................... ١٠٥
نص الدار يوم الانذار.................................................... ١٠٦
القرائن الدالة على
ذلك.................................................. ١٠٩
الكلام في فقه حديث
المنزلة............................................... ١١٥
آية الولاية ونزولها
في علي عليه السلام...................................... ١١٧
عقيدتنا في عدد الأئمة...................................................... ١٢٤
الروايات الواردة في
المقام.................................................. ١٢٦
استدلال العلامة الحلي
على ذلك.......................................... ١٢٧
عقيدتنا في المهدي (عجل الله فرجه الشريف).................................. ١٣٠
فكرة المهدي ليست
جديدة............................................... ١٣٥
كلام الشهيد السيد
محمد باقر الصدر (قده) في المهدي...................... ١٣٧
اختلاف الإمامية عن
غيرهم في المهدي..................................... ١٣٨
كلام الطبرسي (قده) في
المقام............................................. ١٤٠
رؤية المهدي (عجل) في
الغيبة الكبرى...................................... ١٤١
الأحاديث الواردة في
مسألة الغيبة.......................................... ١٤٢
الغيبة الصغرى تاريخها
وما يتعلق بها من حوادث.............................. ١٤٤
النواب الأربعة في
الغيبة الصغرى........................................... ١٤٥
ما قيل في سبب الغيبة.................................................... ١٤٨
وجود المهدي لطف في
جميع أبعاده......................................... ١٥٢
مسألة طول العمر وحل
الاشكال فيها...................................... ١٥٥
هل انقطع الارتباط
بالإمام (ع) في الغيبة الكبرى؟........................... ١٥٧
ادعاء المشاهدة في
الغيبة الكبرى........................................... ١٥٨
الحث عن انتظار الفرج................................................... ١٦٠
البعد الايجابي في
الانتظار................................................. ١٦٥
عقيدتنا في الرجعة.......................................................... ١٦٨
ثبوت الرجعة من
ضروريات المذهب........................................ ١٧٢
الإشكال في إمكان
الرجعة ودفعه.......................................... ١٧٣
أخبار الرجعة............................................................ ١٧٥
عقيدتنا في التقية........................................................... ١٧٩
التقية المداراتية
والدليل عليها.............................................. ١٨١
انقسام التقية إلى
الأحكام الخمسة......................................... ١٨٢
الفصل الرابع : ما أدب به آل البيت شيعتهم
تمهيد.................................................................. ١٨٩
عقيدتنا في الدعاء.......................................................... ١٩١
أدعية الصحيفة
السجادية................................................ ١٩٨
عقيدتنا في زيارة القبور...................................................... ٢٠٥
آداب زيارة المشاهد
المشرفة................................................ ٢٠٧
عقيدتنا في معنى التشيع..................................................... ٢١١
محاورات الأئمة عليهم
السلام مع شيعتهم................................... ٢١٢
عقيدتنا في الجور والظلم..................................................... ٢١٥
عقيدتنا في التعاون مع الظالمين............................................... ٢١٧
عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة........................................... ٢٢٠
عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية....................................... ٢٢٢
عقيدتنا في حق المسلم على المسلم............................................ ٢٢٧
رواية المعلى بن خنيس.................................................... ٢٣٠
رواية معاوية بن وهب.................................................... ٢٣١
محاورة أبان بن تغلب
مع الإمام الصادق عليه السلام......................... ٢٣٢
الفصل الخامس : المعاد
عقيدتنا في البعث والمعاد.................................................... ٢٣٧
عقيدتنا في المعاد الجسماني................................................... ٢٣٨
معنى المعاد والميعاد....................................................... ٢٤١
قوم الانسان ببدنه
وروحه................................................. ٢٤٢
حياة البرزخ............................................................. ٢٤٤
تعريف بحقيقة الموت..................................................... ٢٤٧
هل إعادة الأرواح
للأبدان إعادة للمعدوم................................... ٢٤٩
امكان المعاد............................................................ ٢٥٣
حتمية المعاد............................................................ ٢٥٥
دليل العدالة............................................................ ٢٦٣
دليل الوعد............................................................. ٢٦٨
دليل حب البقاء
والخلود.................................................. ٢٧٠
حشر الحيوانات......................................................... ٢٧١
تأثير الايمان بالآخرة...................................................... ٢٧٣
|