



بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد ، وعلى الهداة الميامين من آله
الطاهرين.
الحلقة الثالثة
الجزء الأوّل
تمهيد
حجّية
القطع
الأدلّة
المحرزة
١
ـ الجزء الأوّل
تمهيد
تعريف علم الاصول.
موضوع علم الاصول.
الحكم الشرعي وتقسيماته.
تنسيق البحوث المفبلة.
تعريف
علم الاصول
عُرِّف علم الاصول
بأ نّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي» . وقد لوحظ على هذا التعريف :
أوّلاً : بأ نّه
يشمل القواعد الفقهية ، كقاعدة أنّ (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده).
وثانياً : بأ نّه
لا يشمل الاصول العملية ؛ لأنّها مجرّد أدلّةٍ عمليةٍ وليست أدلّةً محرزة ، فلا
يثبت بها الحكم الشرعيّ ، وإنّما تحدَّد بها الوظيفة العملية.
وثالثاً : بأ نّه
يعمّ المسائل اللغويّة ، كظهور كلمة «الصعيد» ـ مثلاً ـ لدخولها في استنباط الحكم.
أمّا الملاحظة
الاولى فتندفع : بأنّ المراد بالحكم الشرعيّ الذي جاء في التعريف : جعل الحكم
الشرعيّ على موضوعه الكلّي ؛ فالقاعدة الاصولية ما يستنتج منها جعل من هذا القبيل
، والقاعدة الفقهية هي بنفسها جعل من هذا القبيل ، ولا يستنتج منها إلاّتطبيقات
ذلك الجعل وتفصيلاته.
ففرق كبير بين
حجّية خبر الثقة والقاعدة الفقهية المشار اليها ؛ لأنّ الاولى
__________________
يثبت بها جعل وجوب
السورة تارةً ، وجعل حرمة العصير العنبيّ اخرى ، وهكذا ، فهي اصولية. وأمّا
الثانية فهي جعل شرعيّ للضمان على موضوعٍ كلّي ، وبتطبيقه على مصاديقه المختلفة ـ كالإجارة
والبيع مثلاً ـ نثبت ضماناتٍ متعدّدةً مجعولةً كلّها بذلك الجعل الواحد.
وأمّا الملاحظة
الثانية فقد يجاب عليها : تارةً بإضافة قيدٍ إلى التعريف ، وهو (أو التي ينتهى
اليها في مقام العمل) ، كما صنع صاحب الكفاية . واخرى بتفسير «الاستنباط» بمعنى الإثبات التنجيزي
والتعذيري ، وهو إثبات تشترك فيه الأدلّة المحرزة والاصول العملية معاً .
وأمّا الملاحظة
الثالثة فهناك عدّة محاولاتٍ للجواب عليها :
منها : ما ذكره
المحقّق النائينيّ ـ قدّس الله روحه ـ من إضافة قيد الكبروية في التعريف
لإخراج ظهور كلمة (الصعيد) ، فالقاعدة الاصولية يجب أن تقع كبرى في قياس الاستنباط
، وأمّا ظهور كلمة (الصعيد) فهو صغرى في القياس وبحاجةٍ إلى كبرى حجّية الظهور.
ويرد عليه : أنّ
جملةً من القواعد الاصولية لا تقع كبرى أيضاً ، كظهور صيغة الأمر في الوجوب ،
وظهور بعض الأدوات في العموم أو في المفهوم ، فإنّها محتاجة إلى كبرى حجّية الظهور
، فما الفرق بينها وبين المسائل اللغوية؟ وكذلك أيضاً مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛
فإنّ الامتناع فيها يحقّق صغرى لكبرى التعارض بين خطابَي : «صلِّ» و «لا تغصب» ،
والجواز فيها يحقّق صغرى لكبرى
__________________
حجّية الإطلاق.
ومنها : ما ذكره
السيّد الاستاذ من استبدال قيد الكبروية بصفةٍ اخرى ، وهي : أن تكون القاعدة وحدها
كافيةً لاستنباط الحكم الشرعيّ بلا ضمّ قاعدةٍ اصوليةٍ اخرى ، فيخرج ظهور كلمة (الصعيد) ؛ لاحتياجه إلى ضمِّ ظهور صيغة
«افعل» في الوجوب ، ولا يخرج ظهور صيغة «افعل» في الوجوب وإن كان محتاجاً إلى كبرى
حجّية الظهور ؛ لأنّ هذه الكبرى ليست من المباحث الاصولية ؛ للاتّفاق عليها .
ونلاحظ على ذلك :
أوّلاً
: أنّ عدم احتياج
القاعدة الاصولية إلى اخرى : إن اريد به عدم الاحتياج في كلّ الحالات فلا يتحقّق
هذا في القواعد الاصولية ؛ لأنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب ـ مثلاً ـ بحاجةٍ في
كثيرٍ من الأحيان إلى دليل حجّية السند حينما تجيء الصيغة في دليلٍ ظنّيّ السند.
وإن اريد به عدم
الاحتياج ولو في حالةٍ واحدةٍ فهذا قد يتّفق في غيرها ، كما في ظهور كلمة «الصعيد»
إذا كانت سائر جهات الدليل قطعيّة.
وثانياً
: أنّ ظهور صيغة
الأمر في الوجوب وأيّ ظهورٍ آخر بحاجةٍ إلى ضمِّ قاعدة حجّية الظهور ، وهي اصوليّة
؛ لأنّ مجرّد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها اصوليّة ؛ لأنّ المسألة لا تكتسب
اصوليّتها من الخلاف فيها ، وإنّما الخلاف ينصبّ على المسألة الاصوليّة.
وهكذا يتّضح أنّ
الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.
__________________
والأصحّ في
التعريف أن يقال : «علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعلٍ شرعي» ،
وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغوية كظهور كلمة «الصعيد» ؛ لأنّها لا تشترك
إلاّفي استنباط حال الحكم المتعلّق بهذه المادّة فقط ، فلا تعتبر عنصراً مشتركاً.
موضوع علم الاصول
موضوع علم الاصول
ـ كما تقدم في الحلقة السابقة ـ «الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي». والبحث
الاصوليّ يدور دائماً حول دليليّتها.
وعدم تمكّن بعض
المحقّقين من تصوير موضوع العلم على النحو الذي ذكرناه أدّى إلى
التشكّك في ضرورة أن يكون لكلّ علمٍ موضوع ، ووقع ذلك موضعاً للبحث ، فاستدلّ على
ضرورة وجود موضوعٍ لكلّ علمٍ بدليلين :
أحدهما : أنّ
التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى أنّ استقلال علم النحو عن علم الطبّ إنّما
هو باختصاص كلٍّ منهما بموضوعٍ كلّيٍّ يتميّز عن موضوع الآخر ، فلابدّ من افتراض
الموضوع لكلّ علم.
وهذا الدليل أشبه
بالمصادرة ؛ لأنّ كون التمايز بين العلوم بالموضوعات فرع وجود موضوعٍ لكلّ علم ،
وإلاّ تعيّن أن يكون التمييز قائماً على أساسٍ آخر ، كالغرض.
والآخر : أنّ
التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلابدّ من موضوعٍ لكلّ علمٍ إذن لكي يحصل
التمايز ، وإن كان بالغرض على أساس أنّ لكلّ علمٍ غرضاً يختلف عن الغرض من العلم
الآخر فحيث إنّ الغرض من كلّ علمٍ واحد ، والواحد لا يصدر إلاّمن واحدٍ فلابدّ من
افتراض مؤثِّرٍ واحدٍ في ذلك الغرض. ولمّا كانت
__________________
مسائل العلم
متعدّدةً ومتغايرةً فيستحيل أن تكون هي المؤثّرة بما هي كثيرة في ذلك الغرض الواحد
، بل يتعيّن أن تكون مؤثّرةً بما هي مصاديق لأمرٍ واحد. وهذا يعني فرض قضيةٍ
كلّيّةٍ تكون بموضوعها جامعةً بين الموضوعات ، وبمحمولها جامعةً بين المحمولات
للمسائل ، وهذه القضية الكلّية هي المؤثرة ، وبذلك يثبت أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً ؛ وهو
موضوع تلك القضية الكلّية فيه .
وقد اجيب على ذلك
: بأنّ الواحد على ثلاثة أقسام : واحد بالشخص ، وواحد بالنوع وهو الجامع الذاتيّ
لأفراده ، وواحد بالعنوان ، وهو الجامع الانتزاعيّ الذي قد ينتزع من أنواعٍ
متخالفة. واستحالة صدور الواحد من الكثير تختصّ بالأوّل ، والغرض المفترض لكلّ علمٍ ليست وحدته شخصيّة ، بل
نوعيّةً أو عنوانيّة ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في المقام.
وهكذا يرفض بعض
المحقّقين الدليل على وجود موضوعٍ لكلّ علم ، بل قد يبرهن على عدمه :
بأنّ بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود ، وعلى مسائل موضوعها
الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائله إلى مقولاتٍ ماهويّةٍ وأجناسٍ متباينة ،
كعلم الفقه الذي موضوع مسائله الفعل تارةً
__________________
والترك اخرى ،
والوضع تارةً والكيف اخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامعٍ بين موضوعات مسائله؟
وعلى هذا الأساس
استساغوا أن لا يكون لعلم الاصول موضوع. غير أنّك عرفت أنّ لعلم الاصول موضوعاً
كلّياً على ما تقدّم .
__________________
الحكم الشرعيّ وتقسيماته
الأحكام التكليفية والوضعية :
قد تقدَّم في
الحلقة السابقة أنّ الأحكام الشرعية على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفية
، والآخر الأحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقاً نبذةً عن الأحكام التكليفية. وأمّا
الأحكام الوضعيّة فهي على نحوين :
الأوّل
: ما كان واقعاً
موضوعاً للحكم التكليفي ، كالزوجية الواقعة موضوعاً لوجوب الإنفاق ، والملكية
الواقعة موضوعاً لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.
الثاني
: ما كان منتزعاً عن
الحكم التكليفي ، كجزئيّة السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركّب منها ،
وشرطيّة الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط
بالزوال.
ولا ينبغي الشكّ
في أنّ القسم الثاني ليس مجعولاً للمولى بالاستقلال ، وإنّما هو منتزع عن جعل
الحكم التكليفي ؛ لأنّه مع جعل الأمر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الأمر
التكليفيّ في انتزاع عنوان الجزئية للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن أن تتحقّق
الجزئيّة للواجب بمجرّد إنشائها وجعلها مستقلاًّ.
وبكلمةٍ اخرى :
أنّ الجزئية للواجب من الامور الانتزاعية الواقعية ؛ وإن كان وعاء واقعها هو عالم
جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئيّة الجزء للمركّبات الخارجيّة من حيث كونها
أمراً انتزاعياً واقعياً ؛ وإن اختلفت الجزئيتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ،
وما دامت الجزئية أمراً واقعياً فلا يمكن إيجادها
__________________
بالجعل التشريعيّ
والاعتبار.
وأمّا القسم
الأوّل فمقتضى وقوعه موضوعاً للأحكام التكليفية عقلائيّاً وشرعاً هو كونه مجعولاً
بالاستقلال ؛ لا منتزعاً عن الحكم التكليفي ؛ لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفيّ
تقتضي سبقه عليه رتبةً ، مع أنّ انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.
وقد تُثار شبهة
لنفي الجعل الاستقلاليّ لهذا القسم أيضاً بدعوى أنّه لغو ؛ لأنّه بدون جعل الحكم
التكليفيّ المقصود لا أثر له ، ومعه لا حاجة إلى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم
التكليفيّ ابتداءً على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعيّ عليه.
والجواب على هذه
الشبهة : أنّ الأحكام الوضعية التي تعود إلى القسم الأوّل اعتبارات ذات جذورٍ
عقلائية ؛ الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية ، فلا
تكون لغواً.
شمول الحكم للعالم والجاهل :
وأحكام الشريعة ـ تكليفيةً
ووضعيةً ـ تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم.
وقد ادّعي أنّ الأخبار الدالّة على ذلك مستفيضة ، ويكفي دليلاً على ذلك إطلاقات أدلّة تلك الأحكام. ولهذا
أصبحت
__________________
قاعدة اشتراك
الحكم الشرعيّ بين العالم والجاهل مورداً للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ،
إلاّإذا دلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك في مورد.
وقد يبرهن على هذه
القاعدة عن طريق إثبات استحالة اختصاص الحكم بالعالم ؛ لأنّه يعني أنّ العلم
بالحكم قد اخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخّر الحكم رتبةً عن العلم به وتوقّفه
عليه وفقاً لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.
ولكن قد مرّ بنا
في الحلقة السابقة : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه لا
أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه.
ويترتّب على ما
ذكرناه من الشمول : أنّ الأمارات والاصول التي يرجع اليها المكلّف الجاهل في
الشبهة الحكمية أو الموضوعية قد تصيب الواقع ، وقد تخطئ ، فللشارع إذن أحكام واقعية
محفوظة في حقّ الجميع ، والأدلّة والاصول في معرض الإصابة والخطأ ، غير أنّ خطأها
مغتفر ؛ لأنّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.
وفي مقابله ما
يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو : أنّ أحكام الله تعالى ما يؤدّي إليه الدليل والأصل
، ومعنى ذلك أنّه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وإنّما يحكم تبعاً للدليل أو الأصل
، فلا يمكن أن يتخلّف الحكم الواقعيّ عنهما.
وهناك صورة
مخفَّفة للتصويب ، مؤدّاها : أنّ الله تعالى له أحكام واقعية ثابتة من حيث الأساس
؛ ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة من أمارةٍ أو أصلٍ على
__________________
خلافها ، فإن قامت
الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.
وكلا هذين النحوين
من التصويب باطل :
أمّا الأوّل
فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث إنّ الأدلّة والحجج إنّما جاءت لتُخبرنا عن حكم الله
وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف نفترض أنّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!
وأمّا الثاني فلأ
نّه مخالف لظواهر الأدلّة ، ولِما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام
الواقعية.
الحكم الواقعي والظاهري :
ينقسم الحكم
الشرعيّ ـ كما عرفنا سابقاً ـ إلى واقعيٍّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، وظاهريٍّ اخذ
في موضوعه الشكّ في حكمٍ شرعيٍّ مسبق. وقد كنّا نقصد حتى الآن في حديثنا عن الحكم
: الأحكام الواقعية.
وقد مرَّ بنا في
الحلقة السابقة أنّ مرحلة الثبوت للحكم ـ الحكم الواقعيّ ـ تشتمل على
ثلاثة عناصر ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والاعتبار. وقلنا : إنّ الاعتبار ليس
عنصراً ضروريّاً ، بل يستخدم غالباً كعملٍ تنظيميٍّ وصياغي.
ونريد أن نشير
الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالباً.
وتوضيحه : أنّ
المولى كما أنّ له حقَّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه كذلك له حقّ تحديد مركز
حقّ الطاعة في حالات إرادته شيئاً من المكلّف ، فليس ضرورياً ـ إذا تمّ الملاك في
شيءٍ وأراده المولى ـ أن يجعل نفس ذلك
__________________
الشيء في عهدة
المكلّف مصبّاً لحقّ الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدمة ذلك الشيء ـ التي يعلم
المولى بأنّها مؤدِّية إليه ـ في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ، فيكون حقّ الطاعة
منصبّاً على المقدّمة ابتداءً ، وإن كان الشوق المولويّ غير متعلّقٍ بها إلاّ
تبعاً. وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدّده المولى ـ عند إرادته لشيءٍ ـ
مصبّاً له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادةً للكشف عن
المصبّ الذي عيّنه المولى لحقّ الطاعة ، فقد يتّحد مع مصبّ إرادته ، وقد يتغاير.
[شبهات حول الحكم الظاهري :]
وأمّا الأحكام
الظاهرية فهي مثار لبحثٍ واسع ؛ وُجِّهت فيه عدّة اعتراضاتٍ للحكم الظاهريّ تبرهن
على استحالة جعله عقلاً ، ويمكن تلخيص هذه البراهين في ما يلي :
١
ـ إنّ جعل الحكم
الظاهريّ يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ ثابت في فرض
الشكّ بحكم قاعدة الاشتراك المتقدّمة ، وحينئذٍ فإن كان الحكم الظاهريّ المجعول
على الشاكّ مغايراً للحكم الواقعيّ نوعاً ـ كالحلّيّة والحرمة ـ لزم اجتماع
الضدّين ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين.
وما قيل سابقاً من أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهري لأنّهما
__________________
سنخان مجرّد كلامٍ
صوريٍّ إذا لم يُعطَ مضموناً محدَّداً ؛ لأنّ مجرّد تسمية هذا بالواقعيِّ وهذا
بالظاهريِّ لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفية ، وهي متضادّة.
٢
ـ إنّ الحكم
الظاهريّ إذا خالف الحكم الواقعيّ فحيث إنّ الحكم الواقعيّ بمبادئه محفوظ في هذا
الفرض ـ بحكم قاعدة الاشتراك ـ يلزم من جعل الحكم الظاهريّ في هذه الحالة نقض
المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته ؛ اعتماداً على الحكم الظاهريّ في
حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة ، وتفويت المصالح
الواقعية المهمّة عليه.
٣
ـ إنّ الحكم
الظاهريّ من المستحيل أن يكون منجِّزاً للتكليف الواقعيّ المشكوك ومصحّحاً للعقاب
على مخالفة الواقع ؛ لأنّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكاً بقيام الأصل أو الأمارة
المثبِتَين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيانٍ ـ بناءً على مسلك
قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ، والأحكام العقلية غير قابلةٍ للتخصيص.
شبهة التضادّ ونقض الغرض :
أمّا الاعتراض
الأوّل فقد اجيب عليه بوجوه :
منها : ما ذكره
المحقِّق النائيني قدسسره من أنّ إشكال التضادّ نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهريّ
حكم تكليفي ، وأنّ حجّية خبر الثقة ـ مثلاً ـ معناها جعل حكمٍ تكليفيٍّ يطابق ما
أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمّى ب (جعل الحكم المماثل) ، فإن أخبر الثقة
بوجوب شيءٍ وكان حراماً في الواقع ، تمثّلت حجّيته في
__________________
جعل وجوبٍ ظاهريٍّ
لذلك الشيء وفقاً لما أخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدّين ، وهما
: الوجوب الظاهري والحرمة الواقعية.
ولكنّ الافتراض
المذكور خطأ ؛ لأنّ الصحيح أنّ معنى حجّية خبر الثقة ـ مثلاً ـ جعلُه عِلماً
وكاشفاً تامّاً عن مؤدّاه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفيّ ظاهريّ زائداً على
الحكم التكليفيّ الواقعيّ ليلزم اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين ؛ وذلك لأنّ
المقصود من جعل الحجية للخبر ـ مثلاً ـ جعله منجِّزاً للأحكام الشرعية التي يحكي
عنها ، وهذا يحصل بجعله علماً وبياناً تامّاً ؛ لأنّ العلم منجِّز ، سواء كان
علماً حقيقةً كالقطع ، أو علماً بحكم الشارع كالأمارة. وهذا ما يسمّى بمسلك (جعل
الطريقية).
والجواب على ذلك :
أنّ التضادّ بين الحكمين التكليفيّين ليس بلحاظ اعتباريهما حتى يندفع بمجرّد تغيير
الاعتبار في الحكم الظاهريّ من اعتبار الحكم التكليفيّ إلى اعتبار العلمية
والطريقية ، بل بلحاظ مبادئ الحكم ، كما تقدّم في الحلقة السابقة . وحينئذٍ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهريّ ناشئ من مصلحةٍ
ملزمةٍ وشوقٍ في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم ، حصل التنافي بينه وبين
الحرمة الواقعية مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري. وإن قيل بعدم
نشوئه من ذلك ـ ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهريّ ـ زال التنافي
بين الحكم الواقعيّ والحكم الظاهري ، سواء جُعِل هذا حكماً تكليفياً ، أو بلسان
جعل الطريقية.
ومنها : ما ذكره
السيّد الاستاذ من أنّ التنافي بين الحرمة والوجوب
__________________
ـ مثلاً ـ ليس بين
اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون
مبغوضاً ومحبوباً ، وبين متطلّباتهما في مقام الامتثال من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ
كلاًّ منهما يستدعي تصرّفاً مخالفاً لِمَا يستدعيه الآخر. فإذا كانت الحرمة واقعية
والوجوب ظاهرياً فلا تنافي بينهما في المبادئ ؛ لأنّنا نفترض مبادئ الحكم الظاهريّ
في نفس جعله لا في المتعلق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي ، ولا تنافي بينهما في
متطلّبات مقام الامتثال ؛ لأنّ الحرمة الواقعية غير واصلة ـ كما يقتضيه جعل الحكم
الظاهريّ في موردها ـ فلا امتثال لها ولا متطلّبات عملية ؛ لأنّ استحقاق الحكم
للامتثال فرع الوصول والتنجّز.
ولكن نتساءل : هل
يمكن أن يجعل المولى وجوباً أو حرمةً لملاكٍ في نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتّفق
حقّاً أنّ المولى أحسّ بأنّ من مصلحته أن يجعل الوجوب على فعلٍ بدون أن يكون
مهتّماً بوجوده إطلاقاً ، وإنّما دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما
إذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا
يقع ، أقول : لو اتّفق ذلك حقّاً فلا أثر لمثل هذا الجعل ، ولا يحكم العقل بوجوب
امتثاله. فافتراض أنّ الأحكام الظاهرية ناشئة من مبادئ في نفس الجعل يعني تفريغها
من حقيقة الحكم ومن أثره عقلاً.
فالجواب المذكور
في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تامّ ، ولكنّه في افتراضه أنّ الحكم الظاهريّ
لا ينشأ من مبادئ في متعلّقه بالخصوص تامّ ، فنحن بحاجةٍ إذن في تصوير الحكم
الظاهريّ إلى افتراض أنّ مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقه بالخصوص ؛
لئلاّ يلزم التضاد ، ولكنّها في نفس الوقت ليست قائمةً بالجعل فقط ؛ لئلاّ يلزم
تفريغ الحكم الظاهريّ من حقيقة الحكم ، وذلك بأن نقول : إنّ مبادئ الأحكام
الظاهرية هي نفس مبادئ الأحكام الواقعية.
وتوضيح ذلك : أنّ
كلّ حرمةٍ واقعيةٍ لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضية القائمتان بالفعل ،
وكذلك الأمر في الوجوب. وأمّا الإباحة فقد تقدم في الحلقة السابقة أنّ ملاكها قد يكون اقتضائياً وقد يكون غير اقتضائي ؛
لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاكٍ في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، وقد تنشأ عن خلوّ
الفعل المباح من أيِّ ملاك.
وعليه فإذا اختلطت
المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدِّ ذلك إلى تغيّرٍ في
الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعية ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له
عن الحرام يصبح مبغوضاً ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ،
فالحرام على حرمته واقعاً ولا توجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا
توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.
غير أنّ المولى في
مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن
يُرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته.
وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرَّمات الواقعية يدعوه إلى المنع عن ارتكاب
كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان
الاجتناب عن المحرّمات الواقعية الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهريّ ناشئ من مبغوضية
المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.
وفي مقابل ذلك إن
كانت الإباحة في المباحات الواقعية ذات ملاكٍ لا اقتضائيّ فلن يجد المولى ما يحول
دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع
__________________
سيشمل الحرام
الواقعيّ والمباح الواقعيّ أيضاً إذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله
للمباح الواقعيّ لا يكون منافياً لإباحته ؛ لأنّه ـ كما قلنا ـ لم ينشأ عن مبغوضية
نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضية المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.
وأمّا إذا كانت
الإباحة الواقعية ذات ملاكٍ اقتضائيٍّ ، فهي تدعو ـ خلافاً للحرمة ـ إلى الترخيص
في كلّ ما يحتمل إباحته ، لالأنّ كلّ ما يحتمل إباحته ففيه ملاك الإباحة ، بل
لضمان إطلاق العنان في المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الإباحة ، فهو
ترخيص ظاهريّ ناشئ عن الملاك الاقتضائيّ للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه.
وفي هذه الحالة
يَزِنُ المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائيّ في
الإباحة أقوى وأهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعيّ
والحرام الواقعيّ إذا كان محتمل الإباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعيّ لا يكون
منافياً لحرمته ؛ لأنّه لم ينشأ عن ملاكٍ للإباحة في نفس متعلّقه ، بل عن ملاك
الإباحة في المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرّمات
الواقعية أهمّ منع من الإقدام في المحتملات ضماناً للمحافظة على الأهمّ.
وهكذا يتّضح أنّ
الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلّب
كلّ نوعٍ منها الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.
وبهذا اتّضح الجواب
على الاعتراض الثاني ، وهو : أنّ الحكم الظاهريّ يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإلقاء
في المفسدة ، فإنّ الحكم الظاهريّ وإن كان قد يسبِّب ذلك ، ولكنّه إنّما يسبّبه من
أجل الحفاظ على غرضٍ أهمّ.
شبهة تنجّز الواقع المشكوك :
وأمّا الاعتراض
الثالث فقد اجيب : بأنّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعيّ الذي أخبر عنه
الثقة بلحاظ حجّية خبره لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ المولى حينما
يجعل خبر الثقة حجّةً يعطيه صفة العلم والكاشفية اعتباراً على مسلك الطريقية
المتقدم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعيّ عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يصبح
معلوماً بالتعبّد الشرعي ؛ وإن كان مشكوكاً وجداناً.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ هذه المحاولة إذا تمّت فلا تجدي في الأحكام الظاهرية المجعولة في الاصول
العملية غير المحرزة ، كأصالة الاحتياط ؛ على أنّ المحاولة غير تامّة ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
والصحيح : أنّه لا
موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ؛ لِمَا تقدّم من أنّ هذا المسلك المختار
يقتضي إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ رأساً.
وقد تلخّص ممّا
تقدم : أنّ جعل الأحكام الظاهرية ممكن.
الأمارات والاصول :
تنقسم الأحكام
الظاهرية إلى قسمين :
أحدهما : الأحكام
الظاهرية التي تُجعل لإحراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلّب وجود طريقٍ ظنّيٍّ له
درجة كشفٍ عن الحكم الشرعي ؛ ويتولّى الشارع
__________________
الحكم على طبقه
بنحوٍ يلزم على المكلّف التصرّف بموجبه. ويسمّى الطريق ب (الأمارة) ، ويسمّى الحكم
الظاهريّ ب (الحجّية) ، من قبيل حجّية خبر الثقة.
والقسم الآخر :
الأحكام الظاهرية التي تُجعل لتقرير الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك ، ولا
يراد بها إحرازه ، وتسمّى ب (الاصول العملية).
ويبدو من مدرسة
المحقّق النائيني قدسسره التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول
الاعتباريّ في الحكم الظاهري ، فإن كان المجعول هو الطريقية والكاشفية دخل المورد
في (الأمارات). وإذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجهاً إلى
إنشاء الوظيفة العملية دخل في نطاق (الاصول).
وفي هذه الحالة
إذا كان إنشاء الوظيفة العملية بلسان تنزيل مؤدَّى الأصل منزلة الواقع في الجانب
العملي ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوِّم له منزلة اليقين في جانبه
العمليّ لا الإحرازيّ فالأصل تنزيلي ، أو أصل محرز. وإذا كان بلسان تسجيل وظيفةٍ
عمليةٍ محدّدةٍ بدون ذلك فالأصل أصل عمليّ صرف.
وهذا يعني أنّ
الفرق بين الأمارات والاصول ينشأ من كيفية صياغة الحكم الظاهريّ في عالم الجعل
والاعتبار.
ولكنّ التحقيق :
أنّ الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فإنّ روح الحكم الظاهريّ في موارد الأمارة تختلف
عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر عن نوع
__________________
الصياغة ، وليس
الاختلاف الصياغيّ المذكور إلاّتعبيراً عن ذلك الاختلاف الأعمق في الروح بين
الحكمين.
وتوضيح ذلك : أنَّا
عرفنا سابقاً أنّ الأحكام الظاهرية مردّها إلى خطاباتٍ تُعيِّن الأهمّ من الملاكات
والمبادئ الواقعية حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها ضمان الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن
به الحفاظ على النوع الآخر ، وكلّ ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند
المكلّف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرَّمات مثلاً.
والأهميّة التي
تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقاً لها : تارةً تكون بلحاظ الاحتمال ، واخرى بلحاظ
المحتمل ، وثالثةً بلحاظ الاحتمال والمحتمل معاً. فإنّ شكّ المكلّف في الحكم يعني
وجود احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذٍ فإن قُدِّمت بعض
المحتملات على البعض الآخر ، وجعل الحكم الظاهريّ وفقاً لها ؛ لقوة احتمالها وغلبة
مصادفته للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهمّية بلحاظ
الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم أمارة ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل
للحكم الظاهريّ لسان جعل الطريقية ، أو وجوب الجري على وفق الأمارة.
وإن قُدِّمت بعض
المحتملات على البعض الآخر لأهمّيّة المحتمل بدون دخلٍ لكاشفية الاحتمال في ذلك
كان الحكم من الاصول العملية البحتة ، كأصالة الإباحة وأصالة الاحتياط الملحوظ في
أحدهما أهمّية الحكم الترخيصيّ المحتمل ، وفي الآخر أهمّية الحكم الإلزاميِّ
المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم
الظاهريّ لسان تسجيل وظيفة عملية ، أو لسان جعل الطريقية.
وإن قُدِّمت بعض المحتملات
على البعض الآخر بلحاظ كلا الأمرين من
الاحتمال والمحتمل
، كان الحكم من الاصول العملية التنزيلية أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.
نعم ، الأنسب في
موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهريّ بلسان جعل الطريقية.
والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوة المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ
هذا الاختلاف الصياغيّ هو جوهر الفرق بين الأمارات والاصول.
التنافي بين الأحكام الظاهرية :
عرفنا سابقاً أنّ الأحكام الواقعية المتغايرة نوعاً ـ كالوجوب والحرمة
والإباحة ـ متضادّة ، وهذا يعني أنّ من المستحيل أن يثبت حكمان واقعيّان متغايران
على شيءٍ واحد ، سواء علم المكلّف بذلك ، أوْ لا ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في
الواقع.
والسؤال هنا هو :
أنّ اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعاً هل هو معقول ، أوْ لا؟ فهل يمكن أن يكون
مشكوك الحرمة حراماً ظاهراً ومباحاً ظاهراً في نفس الوقت؟
والجواب على هذا
السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهريّ والتوفيق بينه وبين الأحكام
الواقعية. فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنّ مبادئ الحكم الظاهريّ ثابتة في نفس
جعله لا في متعلّقه أمكن جعل حكمين ظاهريّين بالإباحة والحرمة معاً ، على شرط أن
لا يكونا واصلين معاً ، فإنّه في حالة عدم وصول كليهما معاً لا تنافي بينهما ، لا
بلحاظ نفس الجعل ؛ لأنّه مجرّد
__________________
اعتبار ، ولا
بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مركزها ليس واحداً ، بل مبادئ كلّ حكمٍ في نفس جعله لا في
متعلّقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ؛ لأنّ أحدهما على الأقلّ
غير واصلٍ فلا أثر عمليّ له ، وأمّا في حالة وصولهما معاً فهما متنافيان متضادّان
؛ لأنّ أحدهما ينجِّز والآخر يؤمِّن.
وأمّا على مسلكنا
في تفسير الأحكام الظاهرية وأ نّها خطابات تحدِّد ما هو الأهمّ من الملاكات
الواقعية المختلطة ، فالخطابان الظاهريان المختلفان ـ كالإباحة والمنع ـ متضادّان
بنفسيهما ، سواء وصلا إلى المكلّف أوْ لا ؛ لأنّ الأوّل يثبت أهميّة ملاك المباحات
الواقعية ، والثاني يثبت أهميّة ملاك المحرّمات الواقعية ، ولا يمكن أن يكون كلّ
من هذين الملاكين أهمَّ من الآخر ، كما هو واضح.
وظيفة الأحكام الظاهرية :
وبعد أن اتّضح أنّ
الأحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الأهمّ من الأحكام الواقعية ومبادئها ، وليس
لها مبادئ في مقابلها نخرج من ذلك بنتيجة ، وهي : أنّ الخطاب الظاهريّ وظيفته
التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعية المشكوكة ، فهو ينجِّز تارةً ويعذّر اخرى
، وليس موضوعاً مستقلاًّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعية ؛
لأنّه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الأحكام الواقعية ، فحين يحكم الشارع
بوجوب الاحتياط ظاهراً يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعيّ المحتمل
واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه ، لا على مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط
بما هو.
وهذا معنى ما يقال
من أنّ الأحكام الظاهرية طريقية لا حقيقية. فهي مجرّد وسائل وطرقٍ لتسجيل الواقع
المشكوك وإدخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون
هي بنفسها موضوعاً
مستقلاًّ للدخول في العهدة ؛ لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها.
ولهذا فإنّ من
يخالف وجوب الاحتياط في موردٍ ويتورّط نتيجةً لذلك في ترك الواجب الواقعيّ لا يكون
مستحقّاً لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعيّ ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل
لعقابٍ واحد ، وإلاّ لكان حاله أشدّ ممّن ترك الواجب الواقعيّ وهو عالم بوجوبه.
وأمّا الأحكام
الواقعية فهي أحكام حقيقية لا طريقية ، بمعنى أنّ لها مبادئ خاصّةً بها ، ومن أجل
ذلك تُشكِّل موضوعاً مستقلاًّ للدخول في العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها
واستحقاق العقاب على مخالفتها.
التصويب بالنسبة إلى بعض الأحكام الظاهرية :
تقدّم أنّ الأحكام الواقعية محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل ،
واتّضح أنّ الأحكام الظاهرية تجتمع مع الأحكام الواقعية على الجاهل دون منافاةٍ
بينهما ، وهذا يعني أنّ الحكم الظاهريّ لا يتصرّف في الحكم الواقعي. ولكن هناك مَن
ذهب إلى أنّ الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية ـ كأصالة الطهارة ـ تتصرَّف في
الأحكام الواقعية ، بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ بشرطية الثوب الطاهر في الصلاة ـ مثلاً
ـ يتّسع ببركة أصالة الطهارة ؛ فيشمل الثوب المشكوكة طهارته الذي جرت فيه أصالة
الطهارة حتّى لو كان نجساً في الواقع ، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج أنّ الصلاة
في مثل هذا الثوب تكون صحيحةً واقعاً ، ولا تجب إعادتها على القاعدة ؛ لأنّ
الشرطية قد اتّسع موضوعها.
__________________
وتقريب ذلك : أنّ
دليل أصالة الطهارة بقوله : «كلّ شيءٍ طاهر حتى تعلم أنّه قذر» يعتبر حاكماً على دليل شرطية الثوب الطاهر في الصلاة ؛
لأنّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وإيجاد فردٍ له ، فالشرط موجود إذن. وليس
الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالأمارة فقط ؛ لأنّ مفاد دليل حجّية الأمارة ليس
جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقية والمنجِّزية ، فهو بلسانه لا يوسِّع موضوع
دليل الشرطية ؛ لأنّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول : هذا طاهر ، بل
يقول : هذا محرز الطهارة بالأمارة ، فلا يكون حاكماً.
وعلى هذا الأساس
فصَّل صاحب الكفاية بين الأمارات والاصول المنقِّحة للموضوع ، فبنى على أنّ
الاصول الموضوعية توسّع دائرة الحكم الواقعيّ المترتّب على ذلك الموضوع دون
الأمارات ، وهذا غير صحيح ، وسيأتي بعض الحديث عنه إن شاء الله تعالى .
القضية الحقيقية والخارجية للأحكام :
مرّ بنا في الحلقة
السابقة أنّ الحكم تارةً يُجعل على نهج القضية الحقيقية ، واخرى
يُجعل على نهج القضية الخارجية.
__________________
والقضية الخارجية
: هي القضية التي يَجعل فيها الحاكم حكمه على أفرادٍ موجودةٍ فعلاً في الخارج في
زمان إصدار الحكم ، أو في أيّ زمانٍ آخر ، فلو اتيح لحاكمٍ أن يعرف بالضبط من
وُجِد ومن هو موجود ومن سوف يوجَد في المستقبل من العلماء فأشار إليهم جميعاً وأمر
بإكرامهم فهذه قضية خارجية.
والقضية الحقيقية
: هي القضية التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره وذهنه بدلاً عن الواقع الخارجي ،
فيشكِّل قضيةً شرطية ؛ شرطها هو الموضوع المقدَّر الوجود ، وجزاؤها هو الحكم ،
فيقول : إذا كان الإنسان عالماً فأكْرِمه ، وإذا قال : «أكْرِم العالم» قاصداً هذا
المعنى فالقضية روحاً شرطيّة وإن كانت صياغةً حمليّة.
وهناك فوارق بين
القضيتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزىً عملي.
فمن الفوارق أنّنا
بموجب القضية الحقيقية نستطيع أن نشير إلى أيّ جاهلٍ ونقول : لو كان هذا عالماً
لوجب إكرامه ؛ لأنّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة ، وهذا مصداقها ،
وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافاً للقضية الخارجية التي تعتمد على الإحصاء
الشخصيِّ للحاكم ، فإنّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلاً فيها ، لا بالفعل ولا على
تقدير أن يكون عالماً.
أمّا الأوّل فواضح
، وأمّا الثاني فلأنّ القضية الخارجية ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هي تنصبّ على
موضوعٍ ناجز.
ومن الفوارق : أنّ
الموضوع في القضية الحقيقية وصف كلّيّ دائماً يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم ،
سواء كان وصفاً عرضياً كالعالم ، أو ذاتياً كالإنسان.
وأمّا الموضوع في
القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية ـ أي ما يقبل أن يُشار إليه في الخارج بلحاظ
أحد الأزمنة ـ ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ؛ لأنّ الذات الخارجية وما
يقال عنه (هذا) خارجاً لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو
محقَّق الوجود.
فإن كان وصفٌ ما
دخيلاً في ملاك الحكم في القضية الخارجية تصدّى المولى نفسه لإحراز وجوده ، كما
إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب إكرام أبناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم ،
فإنّه يتصدّى بنفسه لإحراز تديّنهم ، ثمّ يقول : «أكرم أبناءَ عمِّك كلَّهم» ، أو
: «إلاّزيداً» ، تبعاً لما أحرزه من تديّنهم كُلاًّ أو جُلاًّ.
وأمّا إذا قال : «أكرم
أبناء عمِّك إن كانوا متديِّنين» فالقضية شرطية وحقيقية من ناحية هذا الشرط ؛
لأنّه قد افتُرِض وقُدِّر.
ومن الفوارق
المترتّبة على ذلك : أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقية إذا انتفى
ينتفي الحكم ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه. وإن شئت قلت : لأنّه شرط ، والجزاء ينتفي
بانتفاء الشرط ، خلافاً لباب القضايا الخارجية ، فإنّ الأوصاف ليست شروطاً ،
وإنّما هي امور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم ، فإذا أحرز المولى
تديّن أبناء العمِّ فحكم بوجوب إكرامهم على نهج القضية الخارجية ثبت الحكم ولو لم
يكونوا متديّنين في الواقع ، وهذا معنى أنّ الذي يتحمّل مسؤولية تطبيق الوصف على
أفراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقية للأحكام ، وهو المولى في باب القضايا
الخارجية لها.
[تعلّق الأحكام بالعناوين الذهنيّة :]
وينبغي أن يُعلَم
: أنّ الحاكم ـ سواء كان حكمه على نهج القضية الحقيقية أو على نهج القضية الخارجية
، وسواء كان حكمه تشريعياً كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع ، أو تكوينيّاً
وإخبارياً كالحكم بأنّ النار محرقة أو أنّها في الموقد ـ إنّما يصبّ حكمه في
الحقيقة على الصورة الذهنية ، لا على الموضوع الحقيقيّ للحكم ؛ لأنّ الحكم لَمَّا
كان أمراً ذهنياً فلا يمكن أن يتعلّق إلاّبما هو حاضر في
الذهن ، وليس ذلك
إلاّالصورة الذهنية ، وهي وإن كانت مباينةً للموضوع الخارجيّ بنظرٍ ولكنّها عينه
بنظرٍ آخر.
فأنت إذا تصوّرت (النار)
ترى بتصوّرك ناراً ، ولكنّك إذا لاحظت بنظرةٍ ثانيةٍ إلى ذهنك وجدت فيه صورةً
ذهنيةً للنار ، لا النار نفسها ، ولمَّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجيّ
بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّليّ صحّ أن يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع
الخارجيّ من خصوصيات كالإحراق بالنسبة إلى النار.
وهذا يعني أنّه
يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورةٍ ذهنيةٍ تكون بالنظر التصوّريّ عين
الخارج وربط الحكم بها ، وإن كانت بنظرةٍ ثانويةٍ فاحصةٍ وتصديقيةٍ ـ أي بالحمل
الشائع ـ مغايرةً للخارج.
تنسيق البحوث المقبلة
وسوف نتحدّث في ما
يلي ـ وفقاً لِمَا تقدّم في الحلقتين السابقتين ـ عن حجّية القطع أولاً ـ باعتباره
عنصراً مشتركاً عامّاً ـ ثمّ عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أدلّةٍ محرزة ،
وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في اصولٍ عملية ، وفي الخاتمة نعالج
حالات التعارض إن شاء الله تعالى.
٢ ـ الجزء الأوّل
حُجّية القطع
الحجّية على مبنى حقّ الطاعة.
الحجّية على مبنى المشهور.
العلم الإجمالي.
حجّية القطع غير المصيب.
[الحجّية على مبنى حقّ الطاعة :]
تقدّم في الحلقة
السابقة أنّ للمولى الحقيقيّ (سبحانه وتعالى) حقّ الطاعة بحكم
مولويّته. والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى (منجِّزية
القطع) كما أنّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ إلى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف
جزماً وهذا معنى (معذّريّة القطع) والمجموع من (المنجّزيّة) و (المعذّرية) هو ما
نقصده بالحجّية.
كما عرفنا سابقاً أنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة
والمحتملة أيضاً فيكون الظنّ والاحتمال منجِّزاً أيضاً ، ومن ذلك يُستنتج أنّ
المنجّزيّة موضوعها مطلقُ انكشاف التكليف ولو كان انكشافاً احتمالياً ؛ لسعة دائرة
حقّ الطاعة ، غير أنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمِّنٍ من قبل
المولى نفسه في مخالفة ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيصٍ جادٍّ منه في مخالفة
التكليف المنكشَف ، إذ من الواضح أنّه ليس لشخصٍ حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة
بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخَّص بصورةٍ جادّةٍ في مخالفته.
أمّا متى يتأتّى
للمولى أن يرخِّص في مخالفة التكليف المنكشَف بصورةٍ جادّة؟
__________________
فالجواب على ذلك :
أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ ، وذلك
بجعل حكمٍ ظاهريٍّ ترخيصيٍّ في موردها ، كأصالة الإباحة والبراءة. ولا تنافي بين
هذا الترخيص الظاهريّ والتكليف المحتمل أو المظنون ؛ لِمَا سبق من التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وليس الترخيص
الظاهري هنا هزلياً ، بل المولى جادّ فيه ضماناً لِمَا هو الأهمّ من الأغراض
والمبادئ الواقعية.
وأمّا التكليف
المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمِّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته ؛
لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعيّ حقيقي ، وإمّا حكم ظاهريّ طريقي ، وكلاهما
مستحيل.
والوجه في استحالة
الأوّل : أنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين متنافيَين في حالة كون التكليف
المقطوع ثابتاً في الواقع ، ويلزم اجتماعهما على أيّ حالٍ في نظر القاطع ؛ لأنّه
يرى مقطوعه ثابتاً دائماً ، فكيف يصدّق بذلك؟!
والوجه في استحالة
الثاني : أنّ الحكم الظاهريّ ما يؤخذ في موضوعه الشكّ ، ولا شكّ مع القطع ، فلا
مجال لجعل الحكم الظاهري.
وقد يناقش في هذه
الاستحالة : بأنّ الحكم الظاهريّ ـ كمصطلحٍ متقوّمٍ بالشكّ ـ لا يمكن أن يوجد في
حالة القطع بالتكليف ، ولكن لماذا لا يمكن أن نفترض ترخيصاً يحمل روح الحكم
الظاهريّ ولو لم يسمَّ بهذا الاسم اصطلاحاً؟
لأ نّنا عرفنا
سابقاً أنّ روح الحكم الظاهري : هي أنّه خطاب يُجعل في موارد اختلاط المبادئ
الواقعية وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو أهمّ منها ، فإذا افترضنا
أنّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكاليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد
التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الإباحة
__________________
الاقتضائية تستدعي
الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضماناً للحفاظ على تلك الملاكات ، فلماذا
لا يمكن صدور الترخيص حينئذٍ؟
والجواب على هذه
المناقشة : أنّ هذا الترخيص لمَّا كان من أجل رعاية الإباحة الواقعية في موارد خطأ
القاطعين فكلّ قاطعٍ يعتبر نفسه غير مقصودٍ جدّاً بهذا الترخيص ؛ لأنّه يرى قطعه
بالتكليف مصيباً ، فهو بالنسبة إليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا في ما سبق : إنّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ
في المخالفة.
ويتلخّص من ذلك :
أوّلاً : أنّ كلّ
انكشافٍ للتكليف منجِّز ، ولا تختصّ المنجِّزية بالقطع ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة.
وثانياً : أنّ هذه
المنجِّزية مشروطة بعدم صدور ترخيصٍ جادٍّ من قبل المولى في المخالفة.
وثالثاً : أنّ
صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد
الانكشاف القطعي. ومن هنا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجِّزية عنه ، بخلاف
غيره من المنجّزات.
هذا هو التصوّر
الصحيح لحجّية القطع ومنجِّزيته ، ولعدم إمكان سلب هذه المنجزية عنه.
[الحجّية على مبنى المشهور :]
غير أنّ المشهور
لهم تصوّر مختلف : فبالنسبة إلى أصل المنجِّزية ادّعوا أنّها من لوازم القطع بما
هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه
__________________
بقاعدة قبح العقاب
بلا بيان.
وبالنسبة إلى عدم
إمكان سلب المنجّزية وردع المولى عن العمل بالقطع برهنوا على استحالة ذلك : بأنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف حكم
العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصاً في المعصية القبيحة عقلاً ،
والترخيص في القبيح محال ومنافٍ لحكم العقل.
أمّا تصوّرهم
بالنسبة إلى المنجّزية فجوابه : أنّ هذه المنجّزية إنّما تثبت في موارد القطع
بتكليف المولى ، لا القطع بالتكليف من أيّ أحد ، وهذا يفترض مولىً في الرتبة
السابقة ، والمولوية معناها : حقّ الطاعة وتنجّزها على المكلّف ، فلابدّ من تحديد
دائرة حقّ الطاعة المقوِّم لمولوية المولى في الرتبة السابقة ، وهل يختصّ
بالتكاليف المعلومة ، أو يعمّ غيرها؟
وأمّا تصوّرهم
بالنسبة إلى عدم إمكان الردع فجوابه : أنّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه
ترخيصاً في القبيح فرع أن يكون حقّ الطاعة غير متوقّفٍ على عدم ورود الترخيص من
قبل المولى ، وهو متوقّف حتماً ؛ لوضوح أنّ من يرخِّص بصورةٍ جادّةٍ في مخالفة
تكليفٍ لا يمكن أن يطالب بحقّ الطاعة فيه.
فجوهر البحث يجب
أن ينصبّ على أنّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحوٍ يكون جادّاً ومنسجماً مع
التكاليف الواقعية ، أوْ لا؟ وقد عرفت أنّه غير ممكن.
وكما أنّ منجِّزية
القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذِّريته ؛ لأنّ سلب
__________________
المعذِّرية عن
القطع بالإباحة : إمّا أن يكون بجعل تكليفٍ حقيقي ، أو بجعل تكليفٍ طريقي ،
والأوّل مستحيل ؛ للتنافي بينه وبين الإباحة المقطوعة. والثاني مستحيل ؛ لأنّ
التكليف الطريقيّ ليس إلاّوسيلةً لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم ، والمكلّف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفاً واقعياً في
مورد قطعه لكي يتنجَّز ، فلا يرى للتكليف الطريقيّ أثراً.
العلم الإجمالي :
كما يكون القطع
التفصيليّ حجّةً كذلك القطع الإجمالي ـ وهو ما يسمّى عادةً بالعلم الإجمالي ـ كما
إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة. ومنجِّزية هذا العلم الإجمالي لها مرحلتان
:
الاولى : مرحلة
المنع عن المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.
والثانية : مرحلة
المنع حتّى عن المخالفة الاحتمالية المساوق لإيجاب الموافقة القطعية ، وذلك بالجمع
بين الصلاتين.
أمّا المرحلة
الاولى فالكلام فيها يقع في أمرين :
أحدهما : في حجّية
العلم الإجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعية.
والآخر : في إمكان
ردع الشارع عن ذلك ، وعدمه.
أمّا الأمر الأوّل
فلا شك في أنّ العلم الإجماليّ حجّة بذلك المقدار ؛ لأنّه مهما تصوّرناه فهو مشتمل
حتماً على علمٍ تفصيليٍّ بالجامع بين التكليفين ، فيكون مُدخِلاً لهذا الجامع في
دائرة حقّ الطاعة. أمّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح. وأمّا على مسلك قاعدة
قبح العقاب بلا بيانٍ فلأنّ العلم الإجماليّ
__________________
يستبطن انكشافاً
تفصيلياً تامّاً للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح
العقاب بلا بيان.
وأمّا الأمر
الثاني فقد ذكر المشهور : أنّ الترخيص الشرعيّ في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي
غير معقول ؛ لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ؛
ويكون ترخيصاً في القبيح ، وهو محال.
وهذا البيان غير
متّجه ؛ لأنّنا عرفنا سابقاً أنّ مردَّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه
بحقّ الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في
المخالفة ، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة
القطعية قبيحةً عقلاً.
وعلى هذا فالبحث
ينبغي أن ينصبَّ على أنّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحوٍ
يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعية؟
والجواب : أنّه
معقول ؛ لأنّ الجامع وإن كان معلوماً ولكن إذا افترضنا أنّ الملاكات الاقتضائية
للإباحة كانت بدرجةٍ من الأهمّية تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتى في
المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا
الترخيص ، ويكون ترخيصاً ظاهرياً بروحه وجوهره ؛ لأنّه ليس حكماً حقيقياً ناشئاً
من مبادئ في متعلّقه ، بل خطاباً طريقياً من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات
الاقتضائية للإباحة الواقعية. وعلى هذا الأساس لا يحصل تنافٍ بينه وبين التكليف
المعلوم بالإجمال ، إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعية
ليكون منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال.
__________________
فإن قيل : ما
الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ، إذ تقدّم أنّ الترخيص الطريقيّ في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلاً
مستحيل ، وليس العلم الإجمالي إلاّعلماً تفصيلياً بالجامع؟
كان الجواب على
ذلك : أنّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيليّ لا يرى التزامه بعلمه مفوِّتاً
للملاكات الاقتضائية للإباحة ؛ لأنّه قاطع بعدمها في مورد علمه ، والترخيص
الطريقيّ إنّما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني أنّه يرى عدم
توجّه ذلك الترخيص إليه جدّاً. وهذا خلافاً للقاطع في موارد العلم الإجمالي ،
فإنّه يرى أنّ إلزامه بترك المخالفة القطعية قد يعني إلزامه بفعل المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعية ، وعلى هذا الأساس
يتقبَّل توجّه ترخيصٍ جادٍّ إليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على
الملاكات الاقتضائية للإباحة.
ويبقى بعد ذلك
سؤال إثباتي ، وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن
إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الاصول؟
والجواب : هو
النفي ؛ لأنّ ذلك يعني افتراض أهمّية الغرض الترخيصيّ من الغرض الإلزامي ، حتّى في
حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالاً ، أو مساواته له على الأقلّ ، وهو وإن كان
افتراضاً معقولاً ثبوتاً ولكنّه على خلاف الارتكاز
__________________
العقلائي ؛ لأنّ
الغالب في الأغراض العقلائية عدم بلوغ الأغراض الترخيصية إلى تلك المرتبة ، وهذا
الارتكاز بنفسه يكون قرينةً لُبِّيةً متّصلةً على تقييد إطلاق أدلّة الاصول. وبذلك
نثبت حرمة المخالفة القطعيَّة للعلم الإجماليّ عقلاً.
ويسمّى الاعتقاد
بمنجِّزية العلم الإجماليّ لهذه المرحلة على نحوٍ لا يمكن الردع عنها عقلاً أو
عقلائياً بالقول بعلِّيَّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيَّة.
بينما يسمّى
الاعتقاد بمنجِّزيّته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلاً وعقلائياً
بالقول باقتضاء العلم الإجماليّ للحرمة المذكورة.
وأمّا المرحلة
الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الاصول العملية إن شاء الله تعالى.
حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي :
هناك معنيان
للإصابة :
أحدهما : إصابة
القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتاً.
والآخر : إصابة
القاطع في قطعه ، بمعنى أنّه كان يواجه مبرِّراتٍ موضوعيّةً لهذا القطع ولم يكن
متأثّراً بحالةٍ نفسيّة ، ونحو ذلك من العوامل.
وقد يتحقّق المعنى
الأول من الإصابة دون الثاني ، فلو أنّ مكلَّفاً قطع بوفاة إنسانٍ لإخبار شخصٍ
بوفاته وكان ميّتاً حقّاً ، غير أنّ هذا الشخص كانت نسبة الصدق في إخباراته عموماً
بدرجة سبعين في المائة فقطعُ المكلّف مصيب بالمعنى الأول ، ولكنّه غير مصيبٍ
بالمعنى الثاني ؛ لأنّ درجة التصديق بوفاة ذلك الإنسان يجب أن تتناسب مع نسبة
الصدق في مجموع أخباره.
ونفس المعنيَين من
الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الاخرى أيضاً ، فَمَن ظنّ بوفاة إنسانٍ
لإخبار شخصٍ بذلك ، وكان ذلك الإنسان حياً فهو غير مصيبٍ في ظّنه بالمعنى الأول ،
ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني إذا كانت
نسبة الصدق في
إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.
ونطلق على التصديق
المصيب بالمعنى الثاني اسم (التصديق الموضوعيّ) و (اليقين الموضوعي) ، وعلى
التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم (التصديق الذاتيّ) و (القطع الذاتي).
وانحراف التصديق
الذاتيّ عن الدرجة التي تفترضها المبرِّرات الموضوعية له مراتب ، وبعض مراتب
الانحراف الجزئية ممّا ينغمس فيه كثير من الناس ، وبعض مراتبه يعتبر شذوذاً ، ومنه
قطع القَطَّاع ، فالقَطَّاع إنسان يحصل له قطع ذاتيّ وينحرف غالباً في قطعه هذا
انحرافاً كبيراً عن الدرجة التي تفترضها المبرِّرات الموضوعية.
وحجّية القطع من
وجهة نظرٍ اصولية ـ وبما هي معبِّرة عن المنجِّزية والمعذِّرية ـ ليست مشروطةً
بالإصابة بأيّ واحدٍ من المعنيَين.
أمّا المعنى الأول
فواضح ، إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة ، كما أنّ القطع بعدمه
تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ. ومن هنا كان المتجرِّي مستحقّاً للعقاب
كاستحقاق العاصي ؛ لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحوٍ واحد. ونقصد بالمتجرِّي من
ارتكب ما يقطع بكونه حراماً ولكنّه ليس بحرامٍ في الواقع.
ويستحيل سلب
الحجّيّة أو الردع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ؛ لأنّ مثل هذا الردع يستحيل
تأثيره في نفس أيِّ قاطع ؛ لأنّه يرى نفسه مصيباً ، وإلاّ لم يكن قاطعاً.
وكما يستحقّ
المتجرِّي العقاب ـ كالعاصي ـ كذلك يستحقّ المنقاد الثوابَ بالنحو الذي يفترض
للممتثل ؛ لأنّ قيامهما بحقّ المولى على نحوٍ واحد. ونقصد بالمنقاد : من أتى بما
يقطع بكونه مطلوباً للمولى فعلاً أو تركاً رعايةً لطلب المولى ، ولكّنه لم يكن
مطلوباً في الواقع.
وأمّا المعنى
الثاني فكذلك أيضاً ؛ لأنّ عدم التحرّك عن القطع الذاتيّ بالتكليف يساوي عدم
التحرّك عن اليقين الموضوعيّ في تعبيره عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون
للمولى حقّ الطاعة فيهما على السواء ، والتحرّك عن كلٍّ منهما وفاء بحقّ المولى
وتعظيم له.
وقد يقال : إنّ
القطع الذاتيّ وإن كان منجِّزاً ـ لما ذكرناه ـ ولكنّه ليس بمعذِّر ، فالقَطَّاع
إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتاً في الواقع فلا يعذَّر في ذلك
؛ لأحد وجهين :
الأوّل
: أنّ الشارع ردع عن
العمل بالقطع الذاتيّ أو ببعض مراتبه المتطرِّفة على الأقلّ ، وهذا الردع ليس
بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهي عن المقدّمات التي تؤدّي إلى نشوء
القطع الذاتيّ للقَطّاع ، أو الأمر بترويض الذهن على الاتِّزان ، وهذا حكم طريقيّ
يراد به تنجيز التكاليف الواقعية التي يخطئها قطع القَطّاع وتصحيح العقاب على
مخالفتها ، وهذا أمر معقول ، غير أنّه لا دليل عليه إثباتاً.
الثاني
: أنّ القَطّاع في
بداية أمره إذا كان ملتفتاً إلى كونه إنساناً غير متعارَفٍ في قطعه ، كثيراً ما
يحصل له العلم الإجماليّ بأنّ بعض ما سيحدث لديه من قُطوعٍ نافيةٍ غير مطابقةٍ
للواقع ؛ لأجل كونه قَطّاعاً ، وهذا العلم الإجماليّ منجّز.
فإن قيل : إنّ
القَطّاع حين تتكوّن لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا
يمكنه أن يشكّ في قطعه وهو قاطع بالفعل.
كان الجواب : أنّ
هذا مبنيّ على أن يكون الوصول كالقدرة ، فكما أنّه يكفي في دخول التكليف في دائرة
حقّ الطاعة كونه مقدوراً حدوثاً ـ وإن زالت القدرة بسوء اختيار المكلّف ـ كذلك
يكفي كونه واصلاً حدوثاً وإن زال الوصول بسوء اختياره.
٣ ـ الجزء الأوّل
الأدلّة
المحرزة
مبادئ عامّة.
الدليل الشرعي.
الدليل العقلي.
؟ ـ الأدلّة المحرزة
مبادئ عامّة
تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّية.
مقدار ما يثبت بدليل الحجّية.
تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة
المطابقيّة.
وفاء الدليل بدور القطع الطريقي
والموضوعي.
إثبات الأمارة لجواز الإسناد.
إبطال طريقيّة الدليل.
تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة.
تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة :
الدليل إذا كان
قطعياً فهو حجّة على أساس حجّية القطع ، وإذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعيّ على
حجّيته اخذ به ، وأمّا إذا لم يكن قطعيّاً وشكّ في جعل الحجّية له شرعاً مع عدم
قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجّية. ونعني بهذا الأصل : أنّ احتمال
الحجّية ليس له أثر عملي ، وأنّ كلّ ما كان مرجعاً لتحديد الموقف بقطع النظر عن
هذا الاحتمال يظلّ هو المرجع معه أيضاً.
ولتوضيح ذلك
نطبِّق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجّية يدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال
مثلاً ، وفي مقابله البراءة العقلية (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) عند من يقول بها
، والبراءة الشرعية ، والاستصحاب ، وإطلاق دليلٍ اجتهاديٍّ تفرض دلالته على عدم
وجوب الدعاء.
أما البراءة
العقلية فلو قيل بها كانت مرجعاً مع احتمال حجّية الخبر أيضاً ؛ لأنّ احتمال
الحجّية لا يكمل البيان ، وإلاّ لَتمَّ باحتمال الحكم الواقعي.
ولو أنكرناها
وقلنا : إنّ كلّ حكمٍ يتنجّز بالاحتمال ما لم يقطع بالترخيص الظاهريّ في مخالفته ،
فالواقع منجّز باحتماله من دون أثرٍ لاحتمال الحجّية.
وأمّا البراءة
الشرعية فإطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجّية أيضاً ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم
بالتكليف الواقعي ، وهو ثابت مع احتمال الحجّية أيضاً ، بل حتى مع قيام الدليل على
الحجِّية. غير أنّه في هذه الحالة يقدَّم دليل حجِّية الخبر على دليل البراءة ؛
لأنّه أقوى منه وحاكم عليه مثلاً ، وأمّا مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل
البراءة ، وكذلك الكلام في الاستصحاب.
وأمّا الدليل
الاجتهادي المفترض دلالته بالإطلاق على عدم الوجوب فهو حجَّة مع احتمال حجِّية
الخبر المخصِّص أيضاً ؛ لأنّ مجرّد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد عن الإطلاق.
ونستخلص من ذلك :
أنّ الموقف العملي لا يتغيّر باحتمال الحجّية ، وهذا يعني أنّ احتمالها يساوي
عملياً القطع بعدمها.
ونضيف إلى ذلك :
أنّ بالإمكان إقامة الدليل على عدم حجّية ما يشكّ في حجِّيته ، بناءً على تصوّرنا
المتقدِّم للأحكام الظاهرية ، حيث مرّ بنا أنّه يقتضي
التنافي بينها بوجوداتها الواقعية ، وهذا يعني أنّ البراءة عن التكليف المشكوك
وحجّية الخبر الدالّ على ثبوته حكمان ظاهريان متنافيان ، فالدليل الدالّ على
البراءة دالّ بالدلالة الالتزامية على نفي الحجِّية المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم
يقم دليل أقوى على الحجّية.
وقد يقام الدليل
على عدم حجّية ما يشكّ في حجِّيته من الأمارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على
النهي عن العمل بالظنّ وغير العلم ، فإنّ كلّ ظنٍّ يشكّ في حجِّيته يشمله إطلاق
هذا النهي.
__________________
وقد اعترض المحقّق
النائينيّ ـ قدّس الله روحه ـ على ذلك : بأنّ حجِّية الأمارة معناها
جعلها عِلماً ؛ لأنّه بنى على مسلك جعل الطريقية ، فمع الشكّ في الحجِّية يشكّ في
كونها علماً ، فلا يمكن التمسّك بدليل النهي عن العمل بغير العلم حينئذٍ ؛ لأنّ
موضوعه غير محرز.
وجواب هذا
الاعتراض : أنّ النهي عن العمل بالظنّ ليس نهياً تحريميّاً ، وإنّما هو إرشاد إلى
عدم حجِّيته ، إذ من الواضح أنّ العمل بالظنّ ليس من المحرَّمات النفسية ، وإنّما
محذوره احتمال التورّط في مخالفة الواقع ، فيكون مفاده عدم الحجّية ، فإذا كانت
الحجّية بمعنى اعتبار الأمارة عِلماً فهذا يعني أنّ مطلقات النهي تدلّ على نفي
اعتبارها علماً ، فيكون مفادها في رتبة مفاد حجِّية الأمارة ، وبهذا تصلح لنفي الحجِّية
المشكوكة.
مقدار ما يثبت بدليل الحجِّية :
وكلّما كان الطريق
حجّةً ثبت به مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزاميّ فيثبت في حالتين بدون
شكٍّ ، وهما :
أوّلاً : فيما إذا
كان الدليل قطعياً.
وثانياً : فيما
إذا كان الدليل على الحجّية يرتِّب الحجِّية على عنوانٍ ينطبق على الدلالة
المطابقية والدلالة الالتزامية على السواء ، كما إذا قام الدليل على حجِّية عنوان (الخبر)
وقلنا : إنّ كلاًّ من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية مصداق لهذا العنوان.
وأمّا في غير
هاتين الحالتين فقد يقع الإشكال ، كما في الظهور العرفيّ
__________________
الذي قام الدليل
على حجِّيته فإنّه ليس قطعياً ، كما أنّ دلالته الالتزامية ليست ظهوراً عرفياً ،
فقد يقال : إنّ أمثال دليل حجِّية الظهور لا تقتضي بنفسها إلاّإثبات المدلول
المطابقيّ ما لم تقم قرينة خاصّة على إسراء الحجِّية إلى الدلالات الالتزامية
أيضاً.
ولكنّ المعروف بين
العلماء التفصيل بين الأمارات والاصول ، فكلّ ما قام دليل على حجِّيته من باب
الأماريّة ثبتت به مدلولاته الالتزامية أيضاً ، ويقال حينئذٍ : إنّ مثبتاته حجَّة.
وكلّ ما قام دليل على حجِّيته بوصفه أصلاً عملياً فلا تكون مثبَتاته حجَّة ، بل لا
يتعدّى فيه من إثبات المدلول المطابقي ؛ إلاّإذا قامت قرينة خاصّة في دليل
الحجِّية على ذلك.
وقد فسّر المحقّق
النائينيّ ذلك ـ على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقيَّة في الأمارات ـ
بأنّ دليل الحجِّية يجعل الأمارة علماً ، فيترتّب على ذلك كلّ آثار العلم. ومن
الواضح أنّ من شؤون العلم بشيءٍ العلم بلوازمه ، ولكنّ أدلّة الحجِّية في باب
الاصول ليس مفادها إلاّالتعبّد بالجري العمليّ على وفق الأصل ، فيتحدّد الجري
بمقدار مؤدّى الأصل ، ولا يشمل الجري العمليّ على طبق اللوازم إلاّمع قيام قرينة.
واعترض السيّد
الاستاذ على ذلك : بأنّ دليل الحجِّية في باب الأمارات وإن كان
يجعل الأمارة عِلماً ولكنّه علم تعبّديّ جعلي ، والعلم الجعليّ يتقدَّر بمقدار
الجعل. فدعوى أنّ العلم بالمؤدّى يستدعي العلم بلوازمه إنّما تصدق على العلم
الوجداني ، لا العلم الجعلي.
__________________
ومن هنا ذهب إلى
أنّ الأصل في الأمارات أيضاً عدم حجّية مثبتاتها ومدلولاتها الالتزامية ، وأنّ
مجرّد جعل شيءٍ حجَّةً من باب الأماريّة لا يكفي لإثبات حجِّيته في المدلول
الالتزامي.
والصحيح ما عليه
المشهور من : أنّ دليل الحجِّية في باب الأمارات يقتضي حجِّية الأمارة في
مدلولالتها الالتزامية أيضاً ، ولكن ليس ذلك على أساس ما ذكره المحقّق النائينيّ
من تفسير ، فإنّه فسَّر ذلك بنحوٍ يتناسب مع مبناه في التمييز بين الأمارات
والاصول ، وقد مرّ بنا سابقاً أنّه ـ قدس الله
روحه ـ يميِّز بين الأمارات والاصول بنوع المجعول والمنشأ في أدلّة حجِّيتها ،
فضابط الأمارة عنده كون مفاد دليل حجِّيتها جعل الطريقية والعلمية ، وضابط الأصل
كون دليله خالياً من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسِّر حجِّية مثبتات
الأمارات بنفس النكتة التي تُميِّزها عنده عن الاصول ، أي نكتة جعل الطريقية.
مع أنّنا عرفنا
سابقاً أنّ هذا ليس هو جوهر الفرق بين الأمارات والاصول ، وإنّما
هو فرق في مقام الصياغة والإنشاء ، ويكون تعبيراً عن فرقٍ جوهريٍّ أعمق ، وهو أنّ
جعل الحكم الظاهريّ على طبق الأمارة بملاك الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال ،
وجعل الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهمّية الناشئة من قوة المحتمل ، فكلّما
جعل الشارع شيئاً حجَّةً بملاك الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال كان أمارة ، سواء
كان جعله حجّةً بلسان أنّه علم ، أو بلسان الأمر بالجري على وفقه.
__________________
وإذا اتّضحت
النكتة الحقيقية التي تُميِّز الأمارة أمكننا أن نستنتج أنّ مثبتاتها ومدلولاتها
الالتزامية حجّة على القاعدة ؛ لأنّ ملاك الحجِّية فيها حيثيّة الكشف التكوينيّ في
الأمارة الموجبة لتعيين الأهمّية وفقاً لها ، وهذه الحيثية نسبتها إلى المدلول
المطابقيّ والمداليل الالتزامية نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل في
الحجِّية ما دامت الحيثية المذكورة هي تمام الملاك في جعل الحجِّية كما هو معنى
الأماريّة ، وهذا يعني أنّا كلّما استظهرنا الأماريّة من دليل الحجِّية كفى ذلك في
البناء على حجِّية مثبتاتها بلا حاجةٍ إلى قرينةٍ خاصّة.
تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية :
إذا كان اللازم
المدلول عليه من قبل الأمارة بالدلالة الالتزامية من قبيل اللازم الأعمِّ ، فهو
محتمل الثبوت حتى مع عدم ثبوت المدلول المطابقي ، وحينئذٍ إذا سقطت الأمارة عن
الحجِّية في المدلول المطابقيّ لوجود معارضٍ أو للعلم بخطئها فيه فهل تسقط حجّيتها
في المدلول الالتزامي أيضاً ، أوْ لا؟
قد يقال : إنّ
مجرّد تفرّع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية وجوداً لا يبرِّر تفرّعها
عليها في الحجِّية أيضاً.
وقد يقرَّب
التفرّع في الحجّية بأحد الوجهين التاليين :
الأوّل
: ما ذكره السيّد
الاستاذ من أنّ المدلول الالتزاميّ مساوٍ دائماً للمدلول المطابقي
، وليس أعمّ منه. فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقيّ أو المعارضة معه يوجب ذلك
بشأن المدلول الالتزاميّ أيضاً. والوجه في المساواة ـ مع أنّ ذات اللازم قد يكون
أعمّ من ملزومه ـ أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان :
__________________
إحداهما مقارنة مع
الملزوم الأخصّ ، والاخرى غير مقارنة ، والأمارة الدالّة مطابقةً على ذلك الملزوم
إنّما تدلّ بالالتزام على الحصّة الاولى من اللازم ، وهي مساوية دائماً.
ونلاحظ على هذا
الوجه : أنّ المدلول الالتزاميّ هو طرف الملازمة ، فإن كان طرف الملازمة هو الحصّة
كانت هي المدلول الالتزامي ، وإن كان طرفها الطبيعيّ وكانت مقارنته للملزوم
المحصّصة له من شؤون الملازمة وتفرّعاتها كان المدلول الالتزاميّ ذات الطبيعي.
ومثال الأوّل :
اللازم الأعمّ المعلول بالنسبة إلى إحدى عِلله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة إلى
دخول زيدٍ في النار ، فإذا أخبر مخبر بدخول زيدٍ في النار فالمدلول الالتزاميّ له
حصّة خاصّة من الموت ، وهي الموت بالاحتراق ؛ لأنّ هذا هو طرف الملازمة للدخول في
النار.
ومثال الثاني :
الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه ، كعدم أحد الأضداد بالنسبة إلى وجود ضدٍّ
معيّنٍ من أضداده ، فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقةٍ فالمدلول الالتزاميّ له عدم سوادها
، لا حصّةً خاصّةً من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ؛ لأنّ طرف الملازمة
لوجود أحد الأضداد ذات عدم ضدّه ، لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وإنّما هذا
التقيّد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا أنّه مأخوذ في طرف الملازمة
وتطرأ الملازمة عليه.
الثاني
: أنّ الكشفين في
الدلالتين قائمان دائماً على أساس نكتةٍ واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة
في إدراكه الحسّيّ للواقعة ، فإذا أخبر الثقة عن دخول شخصٍ للنار ثبت دخوله
واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار ، فإذا
عُلم بعدم دخوله وأنّ المخبر اشتبه في ذلك فلا يكون افتراض أنّ الشخص لم يمت أصلاً
متضمِّناً لاشتباهٍ أزيد
ممّا ثبت. وبذلك
يختلف المقام عن خبرين عرضيّين عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية
الحريق ، فإنّ ذلك لا يبرِّر سقوط الخبر الآخر عن الحجّية ؛ لأنَّ افتراض عدم صحة
الخبر يتضمّن اشتباهاً وراء الاشتباه الذي علم.
فالصحيح : أنّ
الدلالة الالتزاميّة مرتبطة بالدلالة المطابقية في الحجِّية. وأمّا الدلالة
التضمّنية فالمعروف بينهم أنّها غير تابعةٍ للدلالة المطابقية في الحجِّية.
وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي :
إذا كان الدليل
قطعياً فلا شكّ في وفائه بدور القطع الطريقيّ والموضوعيّ معاً ؛ لأنّه يحقّق القطع
حقيقةً.
وأمّا إذا لم يكن
الدليل قطعياً وكان حجّةً بحكم الشارع فهناك بحثان :
الأوّل : بحث
نظريّ في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي ؛ مع الاتّفاق عملياً على قيامه مقامه في
المنجِّزية والمعذِّرية.
والثاني : بحث
واقعيّ في أنّ دليل حجِّية الأمارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي ،
أوْ لا؟
أمّا البحث الأوّل
: فقد يستشكل تارةً في إمكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجِّزية والمعذِّرية
، بدعوى أنّه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل اخرى في كيفية صياغة
ذلك تشريعاً وما هو الحكم الذي يحقِّق ذلك.
أمّا الاستشكال
الأوّل فجوابه :
أولاً : أنّنا
ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ رأساً.
وثانياً : أنّه لو
سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالأحكام المشكوكة التي لا يعلم
بأهمّيتها على
تقدير ثبوتها ، وأمّا المشكوك الذي يعلم بأ نّه على تقدير ثبوته ممّا يهتمّ المولى
بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولاً للقاعدة من أوّل الأمر ، والخطاب الظاهريّ ـ أيّ
خطابٍ ظاهريّ ـ يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مورده على تقدير ثبوتها
، وبذلك يخرجها عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا الاستشكال
الثاني فينشأ من أنّ الذي ينساق إليه النظر ابتداءً أنّ إقامة الأمارة مقام القطع
الطريقيّ في المنجِّزية والمعذِّرية تحصل بعملية تنزيلٍ لها منزلته ، من قبيل تنزيل
الطواف منزلة الصلاة.
ومن هنا يعترض
عليه : بأنّ التنزيل من الشارع إنّما يصحّ فيما إذا كان للمنزَّل عليه أثر شرعيّ
بيد المولى توسيعه وجعله على المنزَّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام
القطع الطريقيّ ليس له أثر شرعيّ بل عقلي ـ وهو حكم العقل بالمنجِّزية والمعذِّرية
ـ فكيف يمكن التنزيل؟
وقد تخلّص بعض
المحققين عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم
التكليفيِّ على طبق المؤدّى ، فإذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها
ظاهراً ، وبذلك يتنجَّز الوجوب ، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك (جعل الحكم المماثل).
وتخلّص المحقّق
النائينيّ بمسلك (جعل الطريقية) قائلاً : إنّ إقامة الأمارة مقام
القطع الطريقيّ لا تتمثّل في عملية تنزيلٍ لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار
الظنّ علماً ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسداً على طريقة
__________________
المجاز العقلي ؛
والمنجِّزية والمعذِّرية ثابتتان عقلاً للقطع الجامع بين الوجود الحقيقيّ
والاعتباري.
والصحيح : أنّ
قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ في التنجيز وإخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب
بلا بيانٍ ـ على تقدير القول بها ـ إنّما هو بابراز اهتمام المولى بالتكليف
المشكوك على نحوٍ لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته ، كما تقدم. وعليه فالمهمّ في
جعل الخطاب الظاهريّ أن يكون مبرزاً لهذا الاهتمام من المولى ؛ لأنّ هذا هو جوهر
المسألة ، وأمّا لسان هذا الإبراز وصياغته وكون ذلك بصيغة (تنزيل الظنّ منزلة
العلم) ، أو (جعل الحكم المماثل للمؤدّى) ، أو (جعل الطريقية) فلا دخل لذلك في
الملاك الحقيقي ، وإنّما هو مسألة تعبيرٍ فحسب ، وكلّ التعبيرات صحيحة ما دامت
وافيةً بإبراز الاهتمام المولويّ المذكور ؛ لأنّ هذا هو المنجِّز في الحقيقة.
وأمّا البحث
الثاني : فإن كان القطع مأخوذاً موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ بوصفه منجِّزاً ومعذِّراً
فلا شك في قيام الأمارة المعتبرة شرعاً مقامه ؛ لأنّها تكتسب من دليل الحجِّية صفة
المنجِّزية والمعذِّرية فتكون فرداً من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجِّية في هذه
الحالة وارداً على دليل ذلك الحكم الشرعيّ المرتَّب على القطع ؛ لأ نّه يحقِّق
مصداقاً حقيقياً لموضوعه.
وأمّا إذا كان
القطع مأخوذاً بما هو كاشف تامّ فلا يكفي مجرّد اكتساب الأمارة صفة المنجِّزية
والمعذِّرية من دليل الحجِّية لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلابدّ من عنايةٍ
إضافيةٍ في دليل الحجِّية ، وقد التزم المحقّق النائينيّ قدسسره بوجود هذه العناية بناءً على ما تبنّاه من مسلك جعل
الطريقية.
__________________
فهو يقول : إنّ
مفاد دليل الحجِّية جعل الأمارة علماً ، وبهذا يكون حاكماً على دليل الحكم الشرعيّ
المرتّب على القطع ؛ لأنّه يوجد فرداً جعلياً وتعبّدياً لموضوعه ، فيسري حكمه
إليه.
غير أنّك عرفت في
بحث التعارض من الحلقة السابقة أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكماً إذا كان ناظراً إلى
الدليل المحكوم ، ودليل الحجِّية لم يثبت كونه ناظراً إلى أحكام القطع الموضوعي ،
وإنّما المعلوم فيه نظره إلى تنجيز الأحكام الواقعية المشكوكة خاصّةً إذا كان دليل
الحجِّية للأمارة هو السيرة العقلائية ، إذ لا انتشار للقطع الموضوعيّ في حياة
العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجِّية الأمارة ناظرةً إلى القطع الموضوعيّ والطريقيّ
معاً.
إثبات الأمارة لجواز الإسناد :
يحرم إسناد ما لم
يصدر من الشارع إليه ؛ لأنّه كذب ، ويحرم أيضاً إسناد ما لا يعلم صدوره منه إليه
وإن كان صادراً في الواقع ، وهذا يعني أنّ القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي
موضوع الحرمة الاولى ، فهو [من هذه الناحية] قطع طريقي. وموضوع لنفي الحرمة
الثانية ، فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.
وعليه فإذا كان
الدليل قطعياً انتفت كلتا الحرمتين ؛ لحصول القطع ، وهو طريق إلى أحد النفيين
وموضوع للآخر. وإذا لم يكن الدليل قطعياً بل أمارةً معتبرةً شرعاً فلا ريب في جواز
إسناد نفس الحكم الظاهريّ إلى الشارع ؛ لأنّه مقطوع به.
__________________
وأمّا إسناد
المؤدّى فالحرمة الاولى تنتفي بدليل حجِّية الأمارة ؛ لأنّ القطع بالنسبة اليها
طريقي ، ولا شكّ في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي ، غير أنّ انتفاء الحرمة
الاولى كذلك مرتبط بحجّية مثبتات الأمارات ؛ لأنّ موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب
وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزاميّ للأمارة الدالّة
على ثبوت الحكم ؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على شيءٍ مطابقةً يدلّ التزاماً على أنّ
الإخبار عنه ليس كذباً.
وأمّا الحرمة
الثانية فموضوعها ـ وهو عدم العلم ـ ثابت وجداناً ، فانتفاؤها يتوقّف : إمّا على
استفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ من دليل حجِّيتها ، أو على إثبات
مخصِّصٍ لِمَا دلّ على عدم جواز الإسناد بلا علم ، من إجماعٍ أو سيرةٍ يخرج موارد
قيام الحجّة الشرعيّة.
إبطال طريقيّة الدليل :
كلّ نوعٍ من أنواع
الدليل حتّى لو كان قطعياً يمكن للشارع التدخّل في إبطال حجِّيته ، وذلك عن طريق
تحويله من الطريقية إلى الموضوعية ، بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاصّ على الجعل
الشرعيِّ في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليلٍ خاصٍّ على
الجعل الشرعيّ قيداً في الحكم المجعول ، فإذا قام هذا الدليل الخاصّ على الجعل
الشرعيِّ انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفياً فلا منجِّزية ولا
معذِّرية.
وليس ذلك من سلب
المنجِّزية عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون وجود هذا القطع ؛ لأنّ
القطع المنجِّز هو القطع بفعلية المجعول ، لا القطع بمجرّد الجعل ، ولا قطع في
المقام بالمجعول وإن كان القطع بالجعل ثابتاً ، غير أنّ هذا القطع الخاصّ بالجعل
بنفسه يكون نافياً لفعلية المجعول نتيجةً لتقيّد المجعول
بعدمه. وقد سبق في
أبحاث الدليل العقليّ في الحلقة السابقة أنّه لا مانع من
أخذ علمٍ مخصوصٍ بالجعل شرطاً في المجعول ، أو أخذ عدمه قيداً في المجعول ، ولا
يلزم من كلّ ذلك دور.
وقد ذهب جملة من
العلماء إلى أنّ العلم المستند إلى الدليل العقليّ فقط ليس بحجّة.
وقيل في التعقيب على ذلك : إنّه إن اريد بهذا تحويله من طريقيٍّ إلى موضوعيٍّ
بالطريقة التي ذكرناها بأن يكون عدم العلم العقليّ بالجعل قد اخذ قيداً في المجعول
فهو ممكن ثبوتاً ولكنّه لا دليل على هذا التقييد إثباتاً. وإن اريد بهذا سلب
الحجّية عن العلم العقليِّ بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ؛ لأنّ القطع
الطريقيَّ لا يمكن تجريده عن المنجِّزية والمعذِّرية. وسيأتي الكلام عن ذلك في
مباحث الدليل العقليِ إن شاء الله تعالى.
تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :
وسنقسِّم البحث في
الأدلّة المحرزة وفقاً لِمَا تقدّم في الحلقة السابقة إلى قسمين :
أحدهما : في
الدليل الشرعي.
والآخر : في
الدليل العقلي.
كما أنّ القسم
الأوّل نوعان :
أحدهما : الدليل
الشرعيّ اللفظي.
__________________
والآخر : الدليل
الشرعيّ غير اللفظي.
والبحث في الدليل
الشرعيّ : تارةً في تحديد ضوابط عامّةٍ لدلالته وظهوره ، واخرى في ثبوت صغراه ـ أي
في حيثية الصدور ـ وثالثةً في حجِّية ظهوره.
وعلى هذا المنوال
تجري البحوث في هذه الحلقة.
١ ـ الأدلة المحرزة
الدليل الشرعي
تحديد دلالات الدليل الشرعي.
إثبات صغرى الدليل الشرعي.
حجّية الظهور.
١ ـ الدليل الشرعي
تحديد
دلالات الدليل الشرعي
١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظيّ.
٢ ـ الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ.
١
ـ الدليل الشرعيّ اللفظي
الدلالات الخاصّة والمشتركة
هناك في الألفاظ
دلالات خاصّة لا تشكِّل عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط تتولاّها علوم اللغة ولا
تدخل في علم الاصول. وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه
يبحث عنها علم الاصول بوصفها عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، كدلالة صيغة (إفعل)
على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، ونحو ذلك.
وقد يقال : إنّ
غرض الاصوليّ إنّما هو تعيين ما يدلّ عليه اللفظ من معنى أو ما هو المعنى الظاهر للَّفظ
عند تعدّد معانيه لغةً ، وإثبات هذا الغرض إنّما يكون عادةً بنقل أهل اللغة ، أو
بالتبادر الذي هو عملية عَفْوية يمارسها كلّ إنسانٍ بلا حاجةٍ إلى تعمُّلٍ ومزيد
عناية ، فأيّ مجالٍ يبقى للبحث العلميّ ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل
لكي يتولّى ذلك علم الاصول؟
والتحقيق : أنّ
البحوث اللفظية التي يتناولها علم الاصول على قسمين :
أحدهما : البحوث
اللغويّة.
والآخر : البحوث
التحليلية.
أمّا البحوث
اللغوية فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنىً معيّن ، من قبيل البحث عن
دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطية على المفهوم.
وأمّا البحوث
التحليلية فيفترض فيها مسبقاً أنّ معنى الكلام معلوم ودلالة الكلام عليه واضحة ،
غير أنّ هذا المعنى مستفاد من مجموع أجزاء الكلام على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول
، فكلّ جزءٍ من المعنى يقابله جزء في الكلام ، ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء
الكلام من أجزاء المعنى واضحاً ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح ، فيبحث بحثاً
تحليلياً عن تعيين المقابل.
ومثال ذلك : البحث
عن مدلول الحرف والمعاني الحرفية ، فإنَّنا حين نقول : (زيد في الدار) نفهم معنى
الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولةٍ أن ندرك ما يقابل كلمة (زيدٍ) وما يقابل كلمة (دار)
، وأمّا ما يقابل كلمة (في) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى
الحرف ، وهو ليس بحثاً لغويّاً ، إذ لا يوجد في من يفهم العربية من لا يتصوّر معنى
(في) ضمن تصوّره لمدلول جملة (زيد في الدار) ، وإنّما هو بحث تحليليّ بالمعنى الذي
ذكرناه.
ومن الواضح أنّ
البحث التحليليّ بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرّد التبادر أو نصّ علماء اللغة ،
بل هو بحث علميّ تولاّه علم الاصول في حدود ما يترتّب عليه أثر في عملية الاستنباط
، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
وأمّا البحوث
اللغوية فهي يمكن أن تقع موضعاً للبحث العلميّ في إحدى الحالات التالية :
الحالة
الاولى : أن تكون هناك
دلالة كلّيّة ، كقرينة الحكمة ، ويراد إثبات ظهور الكلام في معنىً كتطبيقٍ لتلك
القرينة الكلّيّة.
ومثال ذلك : أن
يقال بأنّ ظاهر الأمر هو الطلب النفسيّ لا الغيري ، والتعيينيّ لا التخييري ؛
تمسّكاً بالإطلاق وتطبيقاً لقرينة الحكمة عن طريق إثبات أنّ الطلب الغيريّ
والتخييريّ طلب مقيّد ، فينفى بتلك القرينة ، كما تقدّم في الحلقة
__________________
السابقة ، فإنّ هذا بحث في التطبيق يستدعي النظر العلميّ في حقيقة
الطلب الغيريّ والطلب التخييري ، وإثبات أنّهما من الطلب المقيّد.
الحالة
الثانية : أن يكون المعنى
متبادراً ومفروغاً عن فهمه من اللفظ ، وإنّما يقع البحث العلميّ في تفسير هذه
الدلالة ؛ وهل هي تنشأ من الوضع ، أو من قرينة الحكمة ، أو من منشأٍ ثالث؟
ومثال ذلك : أنّه
لا إشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم
الاصول أنّ هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دالٍّ آخر كقرينة
الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الإحساس بالتبادر الساذج ، بل لابدّ من جمع
ظواهر عديدةٍ ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.
الحالة
الثالثة : أن يكون المعنى
متبادراً ، ولكن يواجه ذلك شبهة تُعيق الاصوليّ عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلاًّ
فنّياً لتلك الشبهة.
ومثال ذلك : أنّ
الجملة الشرطية تدلّ بالتبادر العرفيّ على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك نحسّ أيضاً
بأنّ الشرط فيها إذا لم يكن علّةً وحيدةً ومنحصرةً للجزاء لا يكون استعمال أداة
الشرط مجازاً ، كاستعمال لفظ (الأسد) في الرجل الشجاع ، ومن هنا يتحيّر الإنسان في
كيفية التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدّي ذلك إلى الشكّ في الدلالة على المفهوم
ما لم يتوصّل إلى تفسيرٍ يوفِّق فيه بين الوجدانين.
وهناك أيضاً بعض
الحالات الاخرى التي يجدي فيها البحث التحقيقي.
وعلى هذا الأساس
وبما ذكرنا من المنهجة والاسلوب يتناول علم الاصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية
، ويبحثها لغوياً أو تحليلياً.
__________________
المعاني الحرفيّة
المعنى الحرفيّ
مصطلح اصوليّ تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفية ، إذ لوحظ منذ
البدء أنّ الحرف يختلف عن الاسم المناظر له ، كما مرّ بنا سابقاً ، ففي تخريج ذلك
وتحديد المعنى الحرفيّ وجد اتّجاهان :
الاتّجاه
الأوّل : ما ذهب إليه صاحب
الكفاية رحمهالله من : أنّ معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتاً ،
وإنّما يختلف عنه اختلافاً طارئاً وعرضياً ، ف (مِن) و (الابتداء) يدلاّن على
مفهومٍ واحد ، وهذا المفهوم إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائماً مرتبط بالمبتدئ
والمبتدأ منه ، إذ لا يمكن وقوع ابتداءٍ في الخارج إلاّوهو قائم ومرتبط بهذين
الطرفين. وإذا لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود : فتارةً يلحظ بما هو ، ويسمّى
باللحاظ الاستقلالي ، واخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقاً لواقعه
الخارجي ، ويسمّى باللحاظ الآلي ، وكلمة (ابتداء) تدلّ عليه ملحوظاً بالنحو الأوّل
، و (مِن) تدلّ عليه ملحوظاً باللحاظ الثاني.
فالفارق بين
مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معاً. إلاّأنّ
هذا لا يعني أنّ اللحاظ الاستقلاليّ أو الآليّ مقوِّم للمعنى الموضوع له أو
المستعمل فيه وقيد فيه ؛ لأنّ ذلك يجعل المعنى أمراً ذهنياً
__________________
غير قابلٍ
للانطباق على الخارج ، وإنّما يؤخذ نحو اللحاظ قيداً لنفس العلقة الوضعية المجعولة
للواضع ، فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلاليّ استعمال في معنىً
بلا وضع ؛ لأنّ وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة ، لا استعمال في غير ما وضع له.
والاتّجاه
الثاني : ما ذهب إليه مشهور
المحقّقين بعد صاحب الكفاية ، من أنّ المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ متباينان ذاتاً ،
وليس الفرق بينهما باختلاف كيفية اللحاظ فقط ، بل إنّ الاختلاف في كيفية اللحاظ
ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين ، على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
أمّا الاتّجاه
الأوّل فيرد عليه : أنّ البرهان قائم على التغاير السنخيّ والذاتيّ بين معاني
الحروف ومعاني الأسماء ، وملخّصه : أنّه لا إشكال في أنّ الصورة الذهنية التي تدلّ
عليها جملة (سار زيد من البصرة إلى الكوفة) مترابطة ، بمعنى أنّها تشتمل على معانٍ
مرتبطةٍ بعضها ببعض ، فلابدّ من افتراض معانٍ رابطةٍ فيها لإيجاد الربط بين (السير)
و (زيد) و (البصرة) و (الكوفة).
وهذه المعاني
الرابطة إن كانت صفة الربط عرضيةً لها وطارئةً فلا بدّ أن تكون هذه الصفة مستمدّةً
من غيرها ؛ لأنّ كلّ ما بالعَرَض ينتهي إلى ما بالذات ، وبهذا ننتهي إلى معانٍ
يكون الربط ذاتياً لها ، وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتياً له ؛
لأنّ ما كان الربط ذاتياً ومقوّماً له ـ وبعبارةٍ اخرى عين حقيقته ـ يستحيل تصوّره
مجرّداً عن طرفيه ؛ لأنّه مساوق لتجرّده عن الربط ، وهو خلف ذاتيّته له.
وكلّ مفهومٍ
اسميٍّ قابلٌ لأَنْ يُتصوّر بنفسه مجرّداً عن أيّ ضميمة ، وهذا
__________________
يثبت أنّ المفاهيم
الاسمية غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتياً لها ، وهذه المعاني هي مداليل
الحروف ، إذ لا يوجد ما يدلّ على تلك المعاني بعد استثناء الأسماء إلاّالحروف.
وحتّى نفس مفهوم
النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتي (النسبة) و (الربط) ليسا من المعاني
الحرفية ، بل من المعاني الاسمية ؛ لإمكان تصوّرهما بدون أطراف ، وهذا يعني أنّهما
ليسا نسبةً وربطاً بالحمل الشائع وإن كانا كذلك بالحمل الأوّلي. وقد مرّ عليك في
المنطق أنّ الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل
الشائع ، كالجزئي فإنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي ، ولكنّه كلّيّ بالحمل الشائع.
وهذا البيان كما
يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحة الاتّجاه الثاني إجمالاً ، وتوضيح الكلام في
تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :
المرحلة
الاولى : أنّا حين نواجه
ناراً في الموقد ـ مثلاً ـ ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :
الأوّل : مفهوم
بإزاء (النار).
والثاني : مفهوم
بإزاء (الموقد).
والثالث : مفهوم
بإزاء (العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار والموقد).
غير أنّ الغرض من
إحضار مفهومَي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على
النار والموقد الخارجيَّين ، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن. وواضح أنّه
يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن ناراً بالنظر التصوّري
وبالحمل الأوّلي ؛ لِمَا تقدّم منّا
__________________
سابقاً ـ في البحث
عن القضايا الحقيقية والخارجية ـ من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.
وأمّا الغرض من
إحضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجية والربط المخصوص بين النار
والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ؛ لكي يحصل الارتباط حقيقةً بين
المفاهيم في الذهن. ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبةً بالنظر
التصوّري والحمل الأوّلي ـ أي مفهوم النسبة ـ وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر
التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذٍ ربط بين المفاهيم ذهناً.
وبذلك يتّضح أول
فرقٍ أساسيٍّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفي ، وهو أنّ الأوّل سنخ مفهومٍ يحصل
الغرض من إحضاره في الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري ، والثاني سنخ
مفهومٍ لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلاّبأن يكون عين حقيقته بالنظر
التصديقي.
وهذا معنىً عميق
لإيجادية المعاني الحرفية ، بأن يراد بإيجادية المعنى الحرفيّ كونه عين حقيقة نفسه
، لا مجرّد عنوانٍ ومفهومٍ يُري الحقيقة تصوّراً ويغايرها حقيقة ، والأنسب أن تحمل
إيجادية المعاني الحرفية التي قال بها المحقّق النائيني على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.
المرحلة
الثانية : أنّ تكثّر النوع
الواحد من النسبة كنسبة الظرفية ـ مثلاً ـ لا يعقل إلاّمع فرض تغاير الطرفين ذاتاً
، كما في نسبة (النار) إلى (الموقد) ، ونسبة (الكتاب) إلى (الرفّ). أوموطناً ، كما
في نسبة الظرفية بين (النار) و (الموقد)
__________________
في الخارج ، وفي
ذهن المتكلّم ، وفي ذهن السامع.
وكلّما تكثّرت
النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتيٍّ حقيقيٍّ بينها ، وذلك إذا
عرفنا مايلي :
أولاً
: أنّ الجامع
الذاتيّ الحقيقيّ ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتية للأفراد ، خلافاً للجامع العرضيّ
الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال الأوّل : (الإنسان) بالنسبة إلى زيد وخالد.
ومثال الثاني : (الأبيض) بالنسبة إليهما.
ثانياً
: أنّ انتزاع الجامع
يكون بحفظ جهةٍ مشتركةٍ بين الأفراد مع إلغاء ما به الامتياز.
ثالثاً
: أنّ ما به امتياز
النسب الظرفية المذكورة بعضها على بعضٍ إنّما هو أطرافها ، وكلّ نسبةٍ متقوّمة
ذاتاً بطرفيها ، أي أنّها في مرتبة ذاتها لا يمكن تعقّلها بصورةٍ مستقلّةٍ عن طرفيها
، وإلاّ لم تكن نسبةً وربطاً في هذه المرتبة.
وعلى هذا الأساس
نعرف أنّ انتزاع الجامع بين النسب الظرفية ـ مثلاً ـ يتوقّف على إلغاء ما به
الامتياز بينها ، وهو الطرفان لكلّ نسبة ، ولمَّا كان طرفا كلّ نسبةٍ مقوِّمَين
لها فما يحفظ من حيثيةٍ بعد إلغاء الأطراف لا تتضمَّن المقوّمات الذاتية لتلك
النسب ، فلا تكون جامعاً ذاتياً حقيقياً. وهذا برهان على التغاير الماهويِّ
الذاتيِّ بين أفراد النسب الظرفية وإن كان بينها جامع عَرَضي اسمي ، وهو نفس مفهوم
النسبة الظرفية.
المرحلة
الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم
أثبت المحقّقون أنّ الحروف موضوعة بالوضع العامِّ والموضوع له الخاصّ ؛ لأنّ المفروض عدم تعقّل جامعٍ ذاتيٍّ بين
__________________
النسب ليوضع الحرف
له ، فلابدّ من وضع الحرف لكلّ نسبةٍ بالخصوص ، وهذا إنّما يتأتّى باستحضار جامعٍ
عنوانيٍّ عَرَضيٍّ مشير ، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.
وليس المراد
بالخاصِّ هنا الجزئيّ بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّ النسبة كثيراً ما
تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّيّة طرفيها ، بل [المراد] كون الحرف موضوعاً لكلّ
نسبةٍ بما لها من خصوصية الطرفين ، فجزئية المعنى الحرفيّ جزئية بلحاظ الطرفين ؛
لا بلحاظ الانطباق على الخارج.
هيئات الجمل :
كما أنّ الحروف
موضوعة للنسبة على أنحائها كذلك هيئات الجمل ، غير أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة
لنسبةٍ ناقصة ، وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ يصحّ السكوت عليها.
وخالف في ذلك
السيّد الاستاذ ، إذ ذهب إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لِمَا هو مدلول
الدلالة التصديقية الاولى ، أي لقصد إخطار المعنى ، وأنّ هيئة الجملة التامّة
موضوعة لِمَا هو مدلول الدلالة التصديقية الثانية ، وهو قصد الحكاية في الجملة
الخبرية ، والطلب وجعل الحكم في الجملة الإنشائية ، وهكذا . وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهّد الذي
يقتضي أن تكون الدلالة الوضعية تصديقيةً والمدلول الوضعيّ تصديقياً ، كما تقدم .
__________________
والصحيح : ما عليه
المشهور من أنّ المدلول الوضعيّ تصوّريّ دائماً في الكلمات الأفرادية وفي الجمل ،
وأنّ الجملة حتّى التامّة لا تدلّ بالوضع إلاّعلى النسبة دلالةً تصوّرية ، وأمّا
الدلالتان التصديقيّتان فهما سياقيّتان ناشئتان من ظهور حال المتكلِّم.
الجملة التامّة والجملة الناقصة :
ولا شكّ في الفرق
بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول
التصديقيّ موضوعاً له ميَّز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقي ، كما تقدّم
في الحلقة السابقة . وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول
التصديقيّ هو المعنى الموضوع له فنحن بين أمرين :
إمّا أن نقول :
إنّه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوري ، ونحصر
الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي.
وإمّا أن نسلِّم
باختلافهما في مرحلة المدلول التصوري.
والأوّل باطل ؛
لأنّ المدلول التصوّريّ إذا كان واحداً وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة
التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلولٍ
تصديقيٍّ من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة؟ ولماذا لا يصحّ أن يقصد الحكاية
بالجملة الناقصة؟
وأمّا الثاني فهو
يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوري لهيئة الجملة هو
النسبة فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما
__________________
تتحقّق التماميّة
والنقصان.
والتحقيق : أنّ
التماميّة والنقصان من شؤون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج. ف (مفيد) و (عالم)
تكون النسبة بينهما تامةً إذا جعلنا منهما مبتدأً وخبراً ، وناقصةً إذا جعلنا
منهما موصوفاً ووصفاً. وجعل (مفيد) مبتدأً تارةً وموصوفاً اخرى أمر ذهني لا خارجي
؛ لأنّ حاله في الخارج لا يتغيّر ، كما هو واضح.
وتكون النسبة في
الذهن تامةً إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلاً ، وهذا يتطلّب أن يكون
لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين. وتكون النسبة ناقصةً إذا
كانت اندماجيّةً تدمج أحد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوماً أفرادياً واحداً
وحصّةً خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذٍ حقيقة في صقع الذهن الظاهر ، وإنّما هي مستترة
وتحليلية. ومن هنا قلنا سابقاً : إنّ الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسبٍ اندماجية
، أي تحليلية ، وإنّ هيئات الجمل التامة موضوعة لنسبٍ غير اندماجية.
الجملة الخبرية والإنشائية :
وتنقسم الجملة
التامّة إلى (خبريةٍ) و (إنشائية) ، ولا شكّ في اختلاف إحداهما عن الاخرى حتى مع
اتّحاد لفظيهما ، كما في (بعتُ) الخبرية و (بعتُ) الإنشائية ، فضلاً عن (أعاد) و (أعد)
، وقد وُجدتْ عدّة اتّجاهاتٍ في تفسير هذا الاختلاف :
__________________
الأول
: ما تقدم في الحلقة
الاولى عن صاحب الكفاية وغيره من وحدة الجملتين في مدلولهما
التصوّري واختلافهما في المدلول التصديقيّ فقط ، وقد تقدم الكلام عن ذلك.
الثاني
: أنّ الاختلاف
بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوري ؛ وذلك في كيفية الدلالة ، فقد يكون المدلول
التصوريّ واحداً ولكنّ كيفية الدلالة تختلف ، فإنّ جملة (بعتُ) الإنشائية دلالتها
على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة (بعتُ) الإخبارية دلالتها على
مدلولها بمعنى إخطارها للمعنى وكشفها عنه.
فكما ادُّعي في
الحروف أنّها إيجاديّة كذلك يدّعى في الجمل الإنشائية ، لكن مع فارق [بين]
الإيجاديّتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجداً للربط الكلامي ، وهذه بمعنى كون (بعتُ)
موجدةً للتمليك بالكلام ، فما هو الموجَد ـ بالفتح ـ في باب الحروف حالة قائمة
بنفس الكلام ، وما هو الموجَد ـ بالفتح ـ في باب الإنشاء أمرٌ اعتباريّ مسبَّب عن
الكلام.
ويرد على ذلك :
أنّ التمليك اعتبار تشريعيّ يصدر من البائع ويصدر من العقلاء ومن الشارع. فإن اريد
بالتمليك الذي يوجد بالكلام ، الأوّل فمن الواضح سبقه على الكلام ، وأنّ البائع
بالكلام يُبرِز هذا الاعتبار القائم في نفسه ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا
الاعتبار في نفسه.
وإن اريد الثاني
أو الثالث فهو وإن كان مترتّباً على الكلام غير أنّه إنّما يترتّب عليه بعد فرض
استعماله في مدلوله التصوّريّ وكشفه عن مدلوله التصديقي ، ولهذا لو أطلق الكلام
بدون قصدٍ أو كان هازلاً لم يترتّب عليه أثر ، فترتّب الأثر إذن ناتج عن استعمال (بعتُ)
في معناها ، وليس محقِّقاً لهذا
__________________
الاستعمال.
الثالث
: أنّ الجملتين
مختلفتان في المدلول التصوّري حتى في حالة اتّحاد لفظهما ودلالتهما على نسبةٍ
واحدة ، فإنّ الجملة الخبرية موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ منظوراً اليها بما هي حقيقة
واقعة وشيء مفروغ عنه. والجملة الإنشائية موضوعة لنسبةٍ تامّةٍ منظوراً اليها بما
هي نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدّم في الحلقة الاولى .
ويمكن أن نفسّر على
هذا الأساس إيجادية الجملة الإنشائية ، فليست هي بمعنى أنّ استعمالها في معناها هو
بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى أنّ النسبة المبرَزة بالجملة الإنشائية نسبة
منظور اليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والإيجاد.
الثمرة :
قد يقال : إنّ من ثمرات
هذا البحث أنّ الحروف بالمعنى الاصولي الشامل للهيئات إذا ثبت أنّها موضوعة بالوضع
العامّ والموضوع له الخاصّ فهذا يعني أنّ المعنى الحرفيّ خاصّ وجزئي ، وعليه فلا
يمكن تقييده بقرينةٍ خاصّة ، ولا إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ؛ لأنّ
التقييد والإطلاق من شؤون المفهوم الكلّيّ القابل للتحصيص.
وممّا يترتّب على
ذلك أنّ القيد إذا كان راجعاً في ظاهر الكلام إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله ،
كما في الجملة الشرطية فإنّ ظاهرها كون الشرط قيداً لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث إنّ
هيئة الجزاء موضوعة لمعنىً حرفيٍّ ـ وهو جزئيّ ـ فلا يمكن تقييده ، فلابدّ من
تأويل الظهور المذكور. فإذا قيل : (إذا جاءك زيد
__________________
فأكرمه) دلّ
الكلام بظهوره الأوّليّ على أنّ المقيّد بالمجيء مدلول هيئة الأمر في الجزاء ، وهو
الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي ، فيكون الوجوب مشروطاً ، ولكن حيث
يستحيل التقييد في المعاني الحرفية فلابدّ من إرجاع الشرط إلى متعلّق الوجوب ، لا
إلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقاً ومتعلقه مقيّداً بزمان المجيء على نحو
الواجب المعلّق ، الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة .
ولكنّ الصحيح :
أنّ كون المعنى الحرفيّ جزئيّاً ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل
فيه التقييد والإطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعاً لقابلية طرفيه ، وإنّما هو جزئيّ
بلحاظ خصوصية طرفيه ، بمعنى أنّ كلّ نسبةٍ مرهونة بطرفيها ؛ ولا يمكن الحفاظ عليها
مع تغيير طرفيها.
__________________
الأمر أو أدوات الطلب
ينقسم ما يدلّ على
الطلب إلى قسمين :
أحدهما : ما يدلّ
بلا عناية ، كمادّة الأمر وصيغته.
والآخر : ما يدلّ
بالعناية ، كالجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب.
فيقع الكلام في
القسمين تباعاً :
القسم الأوّل : [ما يدلّ على الطلب بلا عناية]
الطلب : هو السعي
نحو المقصود ، فإن كان سعياً مباشراً ـ كالعطشان يتحرّك نحو الماء ـ فهو طلب
تكويني ، وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي.
ولا شكّ في دلالة
مادّة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كلّ طلب ، بل الطلب التشريعيّ من
العالي.
كما لا إشكال في
دلالة صيغة الأمر على الطلب ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرسالية ،
والإرسال يُنتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إنّ الإرسال سعي نحو المقصود من قبل
المرسِل ، فتكون الهيئة دالّةً على الطلب بالدلالة التصوّرية تبعاً لدلالتها
تصوّراً على منشأ انتزاعه.
كما أنّ الصيغة
نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقاً حقيقياً للطلب ؛ لأنّها سعي
نحو المقصود.
وممّا اتّفق عليه
المحصِّلون من الاصوليّين تقريباً دلالة الأمر ـ مادةً
__________________
وهيئةً ـ على
الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف العامّ على كون الطلب الصادر من المولى بلسان
الأمر مادّةً أو هيئةً وجوباً. وإنّما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها إلى
عدّة أقوال :
القول
الأوّل : إنّ ذلك بالوضع ، بمعنى أنّ لفظ (الأمر) موضوع للطلب الناشئ من داعٍ لزومي
، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرسالية الناشئة من ذلك ، ودليل هذا القول هو
التبادر مع إبطال سائر المناشئ الاخرى المدَّعاة لتفسير هذا التبادر.
القول
الثاني : ما ذهب إليه
المحقّق النائيني رحمهالله من : أنّ ذلك بحكم العقل ، بمعنى أنّ الوجوب ليس مدلولاً
للدليل اللفظي ، وإنّما مدلوله الطلب ، وكلّ طلبٍ لا يقترن بالترخيص في المخالفة
يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص
المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالاستحباب.
ويرد عليه :
أوَّلاً
: أنّ موضوع حكم
العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ؛
لوضوح أنّ المكلّف إذا اطّلع بدون صدور ترخيصٍ من قبل المولى على أنّ طلبه نشأ من
ملاكٍ غير لزوميٍّ ولا يؤذي المولى فواته لم يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فالوجوب
العقليّ فرع مرتبةٍ معيّنةٍ في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف عنها إلاّالدليل
اللفظي ، فلابدّ من فرض أخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب
العقلي.
__________________
وثانياً
: أنّ لازم القول
المذكور أن يبنى على عدم الوجوب فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في
عنوانٍ يشمل بعمومه مورد الأمر.
وتوضيح ذلك : أنّه
إذا بنينا على أنّ اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالأمر في الحالة التي أشرنا اليها
يكون مخصِّصاً لذلك العامّ الدالّ على الإباحة ومخرجاً لمورده عن عمومه ؛ لأنّه
أخصّ منه ، والدالّ الأخصّ يقدَّم على الدالّ العامّ ، كما تقدّم .
وأمّا إذا بنينا
على مسلك المحقّق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحوٍ غير مستقرٍّ بين الأمر
والعامّ ، ليقدّم الأمر بالأخصية ؛ وذلك لأنّ الأمر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب
بناءً على هذا المسلك ، بل المتعيّن بناءً عليه أن يكون العامّ رافعاً لموضوع حكم
العقل بلزوم الامتثال ؛ لأنّ العامّ ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلّق على
عدم ورود الترخيص من المولى ، مع أنّ بناء الفقهاء والارتكاز العرفيّ على تخصيص
العامّ في مثل ذلك والالتزام بالوجوب.
وثالثاً
: أنّه قد فرض أنّ
العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلّقاً على عدم ورود الترخيص من الشارع ،
وحينئذٍ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلّقاً على عدم اتّصال الترخيص بالأمر ، أو
على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً ولو بصورةٍ منفصلةٍ عن الأمر ، أو على عدم
إحراز الترخيص ويقين المكلّف به؟ والكلّ لا يمكن الالتزام به.
أمّا الأول فلأ
نّه يعني أنّ الأمر إذا ورد ولم يتّصل به ترخيص تمّ بذلك موضوع حكم العقل بلزوم
الامتثال ، وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافياً لحكم العقل باللزوم ، فيمتنع
، وهذا اللازم واضح البطلان.
وأمّا الثاني فلأ
نّه يستلزم عدم إحراز الوجوب عند الشكّ في الترخيص
__________________
المنفصل واحتمال
وروده ؛ لأنّ الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهو معلّق ـ بحسب الفرض
ـ على عدم ورود الترخيص ولو منفصلاً ، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في الوجوب.
وأمّا الثالث فهو
خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعيّ الذي يشترك فيه الجاهل
والعالم ، لا في المنجِّزية.
القول
الثالث : إنّ دلالة الأمر
على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة ، وتقريب ذلك بوجوه :
أحدها
: أنّ الأمر يدلّ
على ذات الإرادة ، وهي تارةً شديدة كما في الواجبات ، واخرى ضعيفة كما في
المستحبّات. وحيث إنّ شدّة الشيء من سنخه ـ بخلاف ضعفه ـ فتتعيّن بالإطلاق الإرادة
الشديدة ؛ لأنّها بحدّها لا تزيد على الإرادة بشيء ، فلا يحتاج حدّها إلى بيانٍ
زائدٍ على بيان المحدود ، بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدّها عن حقيقة الإرادة فلو
كانت هي المعبّر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدِّها الزائد ؛ لأنّ
الأمر لا يدلّ إلاّعلى ذات الإرادة.
وقد اجيب على ذلك : بأنّ اختلاف حال الحدّين أمر عقليّ بالغ الدقّة
وليس عرفياً ، فلا يكون مؤثّراً في إثبات إطلاقٍ عرفيٍّ يعيّن أحد الحدّين.
ثانيها
: وهو مركّب من
مقدِّمتين :
المقدِّمة
الاولى : أنّ الوجوب ليس
عبارةً عن مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ ذلك ثابت في المستحبّات أيضاً ، فلابدّ من فرض
عنايةٍ زائدةٍ بها يكون الطلب وجوباً ، وليست هذه العناية عبارةً عن انضمام النهي
والمنع عن الترك إلى طلب الفعل ؛ لأنّ النهي عن شيءٍ ثابت في باب المكروهات أيضاً
، وإنّما هي عدم ورود الترخيص
__________________
في الترك ؛ لأنّ
هذا الأمر العدميّ هو الذي يميّز الوجوب عن باب المستحبّات والمكروهات.
ونتيجة ذلك : أنّ
الممميِّز للوجوب أمر عدميّ وهو عدم الترخيص في الترك ، فيكون مركّباً من أمرٍ
وجوديٍّ وهو طلب الفعل ، وأمرٍ عدميٍّ وهو عدم الترخيص في الترك ، والمميِّز
للاستحباب أمر وجودي وهو الترخيص في الترك ، فيكون مركّباً من أمرين وجوديّين.
المقدِّمة
الثانية : أنّه كلّما كان
الكلام وافياً بحيثيةٍ مشتركةٍ ويتردّد أمرها بين حقيقتين : المميِّز لإحداهما أمر
عدميّ والمميز للُاخرى أمر وجوديّ ، تعيّن بالإطلاق الحمل على الأول ؛ لأنّ الأمر
العدميّ أسهل مؤونةً من الأمر الوجودي.
فإذا كان المقصود
ما يتميّز بالأمر الوجوديّ مع أنّه لم يذكر الأمر الوجوديّ فهذا خرق عرفيّ واضح ؛
لظهور حال المتكلّم في بيان تمام المراد بالكلام. وأمّا إذا كان المقصود ما يتميّز
بالأمر العدميّ فهو ليس خرقاً لهذا الظهور بتلك المثابة عرفاً ؛ لأنّ المميِّز
حينما يكون أمراً عدميّاً كأ نّه لا يزيد على الحيثية المشتركة التي يفي بها
الكلام.
ومقتضى هاتين
المقدمتين تعيّن الوجوب بالإطلاق.
ويرد عليه المنع
من إطلاق المقدمة الثانية ، فإنّه ليس كلّ أمرٍ عدميٍّ لا يلحظ أمراً زائداً عرفاً
، ولهذا لا يرى في المقام أنّ النسبة عرفاً بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ
والأكثر ، بل [هي] النسبة بين مفهومين متباينين فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق.
ثالثها
: أنّ صيغة الأمر
تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ، ولمّا كان الإرسال والدفع مساوقاً
لسدِّ تمام أبواب العدم للتحرّك والاندفاع ، فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول
التصوريّ والمدلول التصديقيّ أنّ الطلب والحكم
المبرَز بالصيغة
سنخ حكمٍ يشتمل على سدِّ تمام أبواب العدم ، وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.
ولعلّ هذا التقريب
أوجه من سابقيه ، فإن تمّ فهو ، وإن لم يتمَّ يتعيّن كون الدلالة على الوجوب
بالوضع.
وتترتّب فوارق
عملية عديدة بين هذه الأقوال على الرغم من اتّفاقها على الدلالة على الوجوب ، ومن
جملتها : أنّ إرادة الاستحباب من الأمر مرجعها على القول الأول إلى التجوّز
واستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ومرجعها على القول الأخير إلى تقييد الإطلاق ،
وأمّا على القول الوسط فلا ترجع إلى التصرّف في مدلول اللفظ أصلاً.
وعليه فإذا جاءت
أوامر متعدّدة في سياقٍ واحدٍ وعُلم أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة اختلّ ظهور
الباقي في الوجوب على القول الأول ، إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذٍ تغاير
مدلولات تلك الأوامر مع وحدة سياقها ، وهو خلاف ظهور السياق الواحد في إرادة
المعنى الواحد من الجميع.
وأمّا على القول
الثاني : فالوجوب ثابت في الباقي ؛ لعدم كونه دخيلاً في مدلول اللفظ لتثلم وحدة
المعنى في الجميع.
وكذلك الحال على
القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيةً وبعضها استحبابيةً لا
يعني ـ على هذا القول ـ تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنىً واحد ؛ ولكنّه اريد
في بعضها مطلقاً وفي بعضها مقيّداً.
الأوامر الإرشادية :
ومهما يكن فالأصل
في دلالة الأمر أنّه يدلّ على طلب المادة وإيجابها ، ولكنّه يستعمل في جملةٍ من
الأحيان للإرشاد ، فالأمر في قولهم : (استقبل القبلة
بذبيحتك) ليس
مفاده الطلب والوجوب ؛ لوضوح أنّ شخصاً لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثماً
، وإنّما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر إذن الإرشاد إلى شرطية الاستقبال في
التذكية ، وقد يعبّر عن ذلك بالوجوب الشرطي ، باعتبار أنّ الشرط واجب في المشروط.
والأمر في (اغسل ثوبك من البول) ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الإرشاد إلى
نجاسته بالبول ، وأنّ مطهِّره هو الماء. وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس
مفاده إلاّالإرشاد إلى ما في الدواء من نفعٍ وشفاء.
وفي كلّ هذه
الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصوريّ الوضعي ، وهو النسبة الإرسالية ، غير
أنّ مدلولها التصديقيّ الجدّيّ يختلف من موردٍ إلى آخر.
القسم الثاني : [ما يدلّ على الطلب بالعناية]
ونقصد به : الجملة
الخبرية المستعملة في مقام الطلب ، والكلام حولها يقع في مرحلتين :
الاولى
: في تفسير دلالتها
على الطلب مع أنّها جملة خبرية مدلولها التصوريّ يشتمل على صدور المادة من الفاعل
، ومدلولها التصديقيّ قصد الحكاية ، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟
وفي تصوير هذه
العناية وجوه :
الأول
: أن يحافظ على
المدلول التصوريّ والتصديقيّ معاً ، فتكون الجملة إخباراً عن وقوع الفعل من الشخص
، غير أنّه يقيّد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه بمَن كان يطبِّق عمله على الموازين
الشرعية ، وهذا التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع ، لا نقل أنباءٍ
خارجية.
الثاني
: أن يحافظ على
المدلول التصوريّ وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إنّ المقصود حكايته ليس
نفس النسبة الصدورية المدلولة تصوّراً ، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى ،
فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيدٍ بجملة (زيد كثير الرّماد) على نحو الكناية.
الثالث
: أن يفرض استعمال
الجملة الخبرية في غير مدلولها التصوريّ الوضعيّ مجازاً ، وذلك بأن تستعمل كلمة (أعاد)
أو (يعيد) في نفس مدلول (أعِد) ، أي النسبة الإرسالية.
ولا شكّ في أنّ
الأقرب من هذه الوجوه هو الأول ؛ لعدم اشتماله على أيّ عنايةٍ سوى التقييد الذي
تتكفّل به القرينة المتّصلة الحالية.
الثانية
: في دلالتها على
الوجوب ، أمّا بناءً على الوجه الأول في إعمال العناية فدلالتها على الوجوب واضحة
؛ لأنّ افتراض الاستحباب يستوجب تقييداً زائداً في الشخص الذي يكون الإخبار بلحاظه
، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممّن يطبِّق عمله على الموازين الشرعية ، بل
لابدّ من فرض أنّه يطبِّقه على أفضل تلك الموازين.
وأمّا بناءً على
الوجه الثاني فتدلّ الجملة على الوجوب أيضاً ؛ لأنّ الملازمة بين الطلب والنسبة
الصدورية المصحِّحة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم إنّما هي في الطلب الوجوبي ،
وأمّا الطلب الاستحبابيّ فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدورية ، أو هناك ملازمة
بدرجةٍ أضعف.
وأمّا بناءً على
الالتزام بالتجوّز في مقام استعمال الجملة الخبرية ـ كما هو مقتضى الوجه الأخير ـ فيشكل
دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن أن تكون مستعملةً في النسبة الإرسالية الناشئة
من داعٍ لزوميٍّ ، كذلك يمكن أن تكون مستعملةً في النسبة الإرسالية الناشئة من
داعٍ غير لزومي.
[دلالة النهي :]
وكلّ ما قلناه في
جانب مادّة الأمر وهيئته ، والجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب يقال عن مادّة
النهي وهيئته والنفي الخبريّ المستعمل في مقام النهي ، غير أنّ مفاد الأمر طلب
الفعل ، ومفاد النهي الزجر عنه.
وكما توجد أوامر
إرشادية توجد نواهٍ إرشادية أيضاً ، والمرشَد إليه : تارةً يكون حكماً شرعياً ،
كالمانعية في (لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه) ، واخرى نفي حكمٍ شرعيٍّ من قبيل (لا
تعمل بخبر الواحد) فإنّه إرشاد إلى عدم الحكم بحجّيته ، وثالثةً يكون المرشَد إليه
شيئاً تكوينياً ، كما في نواهي الأطبّاء للمريض عن استعمال بعض الأطعمة إرشاداً
إلى ضررها.
[الفور والتراخي ، والمرّة والتكرار :]
ثمّ إنّ الأمر لا
يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإسراع بالإتيان
بمتعلّقه ، ولا لزوم التباطؤ ؛ لأنّ الأمر لا يقتضي إلاّالإتيان بمتعلّقه ،
ومتعلّقه هو مدلول المادّة ، ومدلول المادّة طبيعيّ الفعل الجامع بين الفرد الآنيّ
والفرد المتباطَأ فيه.
كما أنّ الأمر لا
يدلّ على المرّة ، ولا على التكرار ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإتيان بفردٍ
واحدٍ أو بأفرادٍ كثيرة ، وإنّما تلزم به الطبيعة ، والطبيعة بعد إجراء قرينة
الحكمة فيها يثبت إطلاقها البدلي ، فتصدق على ما يأتي به المكلّف من وجودٍ لها ،
سواء كان في ضمن فردٍ واحدٍ أو أكثر. فلو قال الآمر : (تصدَّقْ) تحقّق الامتثال
بإعطاء فقيرٍ واحدٍ درهماً ، كما يتحقّق بإعطاء فقيرين درهمين في وقتٍ واحد. وأمّا
إذا تصدّق المكلّف بصدقتين مترتّبتين زماناً ، فالامتثال يتحقّق بالفرد الأول
خاصّة.
الإطلاق واسم الجنس
الإطلاق يقابل
التقييد ، فإن تصوّرت معنىً وأخذت فيه وصفاً زائداً أو حالةً خاصّةً ـ كالإنسان
العالم ـ كان ذلك تقييداً. وإذا تصوّرت مفهوم الإنسان ولم تُضِف إليه شيئاً من ذلك
فهذا هو الإطلاق.
وقد وقع الكلام في
أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيداً في
المعنى الموضوع له ، أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الإطلاق تارةً والتقييد اخرى؟
[أنحاء لحاظ الماهيّة :]
ولتوضيح الحال
تُقدَّم عادةً مقدمة لتوضيح أنحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهيّة في الذهن ، لكي
تحدِّد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على أساس ذلك.
وحاصلها ـ مع أخذ
ماهيّة (الإنسان) وصفة (العلم) كمثال ـ : أنّ ماهيّة (الإنسان) إذا تتبّعنا أنحاء
وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما :
الإنسان الواجد للصفة خارجاً ، والإنسان الفاقد لها خارجاً. ولا يتصوّر لها حصّة
ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معاً ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ومن هنا نعرف
أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّةً ثابتةً في الخارج في عرض
الحصّتين السابقتين.
ولكن إذا تجاوزنا
الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّلية التي ينتزعها من
الخارج مباشرةً نجد ثلاث حِصَصٍ أو ثلاثة أنحاءٍ من لحاظ الماهيّة ، كلّ واحدٍ
يشكِّل صورةً للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين
الاخرَيَين ؛ لأنّ
لحاظ ماهيّة الإنسان في الذهن :
تارةً : يقترن مع
لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد ، أو لحاظ الماهيّة بشرط شيء.
واخرى : يقترن مع
لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيّد ، ويسمّى (لحاظ الماهيّة بشرط لا).
وثالثةً : لا
يقترن بأيّ واحدٍ من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمّى ب (المطلق) ، أو (لحاظ الماهية
لا بشرط).
وهذه حصص ثلاث
عرضية في اللحاظ في وعاء الذهن.
وإذا دقّقنا النظر
وجدنا أنّ هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهيّة تتميز بخصوصياتٍ ذهنيةٍ وجوداً
وعدماً ، وهي : لحاظ الوصف ، ولحاظ عدمه ، وعدم اللحاظين. وأمّا الحصّتان
الممكنتان للماهيّة في الخارج فتتميَّز كلّ واحدةٍ منهما بخصوصيةٍ خارجيةٍ وجوداً
وعدماً ، وهي : وجود الوصف خارجاً ، وعدمه كذلك.
وتسمّى الخصوصيات
التي تتميّز بها الحصص الثلاث لِلحاظ الماهيّة في الذهن بعضها عن بعضٍ بالقيود
الثانوية ، وتسمّى الخصوصيات التي تتميّز بها الحصّتان في الخارج إحداهما عن
الاخرى بالقيود الأوّلية.
ونلاحظ أنّ القيد
الثانويّ المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ـ وهو لحاظ صفة العلم ـ مرآة لقيدٍ
أوّلي ، وهو نفس صفة العلم المميّز لإحدى الحصّتين الخارجيّتين ، ومن هنا كان لحاظ
الماهيّة بشرط شيءٍ مطابقاً للحصّة الخارجية الاولى.
كما نلاحظ أنّ
القيد الثانويّ المميِّز للحاظ الماهيّة بشرط لا وهو لحاظ عدم صفة العلم مرآة
لقيدٍ أوّلي ، وهو عدم صفة العلم المميِّز للحصّة الخارجية الاخرى ، ومن هنا كان
لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابقاً للحصّة الخارجية الثانية.
وأمّا القيد
الثانويّ المميِّز للحاظ الماهية لا بشرطٍ ـ وهو عدم كلا اللحاظين ـ فليس مرآة
لقيدٍ أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآةً لشيء.
ومن هنا كان
المرئيّ بلحاظ الماهية لا بشرط ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد.
وعلى هذا الأساس صحّ القول بأنّ المرئيّ والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطيّ جامع
بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين ؛ لا نحفاظه فيهما ، وإن كانت نفس
الرؤية واللحاظ متباينةً في اللحاظات الثلاثة.
فاللحاظ
اللابشرطيّ بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الآخَرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمّى
باللابشرط القسمي ، ولكن إذا التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان
جامعاً بينهما ، لا قسماً في مقابلهما ، بدليل انحفاظه فيهما معاً ، والقسم لا
يحفظ في القسم المقابل له.
ثمّ إذا تجاوزنا
وعاء المعقولات الأوّلية للذهن إلى وعاء المعقولات الثانية التي ينتزعها الذهن من
لحاظاته وتعقّلاته الأوّلية وجدنا أنّ الذهن ينتزع جامعاً بين اللحاظات الثلاثة
للماهيّة المتقدّمة ، وهو عنوان لحاظ الماهيّة من دون أن يقيّد هذا اللحاظ بلحاظ
الوصف ، ولا بلحاظ عدمه ، ولا بعدم اللحاظين ، وهذا جامع بين لحاظات الماهيّة
الثلاثة في الذهن ، ويسمّى بالماهية اللابشرط المقسمي تمييزاً له عن لحاظ الماهية
اللابشرط القسمي ؛ لأنّ ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهيّة في الذهن ، وهذا هو
الجامع بين تلك الأقسام الثلاثة.
[وضع اسم الجنس :]
إذا توضّحت هذه
المقدمة فنقول : لا شكّ في أنّ اسم الجنس ليس موضوعاً للماهيّة اللا بشرط المقسميّ
؛ لأنّ هذا جامع ـ كما عرفت ـ بين الحصص
واللحاظات الذهنية
، لا بين الحصص الخارجية ، كما أنّه ليس موضوعاً للماهيّة المأخوذة بشرط شيءٍ أو
بشرط لا ؛ لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل في حاقِّ المفهوم فيتعيّن
كونه موضوعاً للماهيّة المعتبرة على نحو اللابشرط القسمي.
وهذا المقدار ممّا
لا ينبغي الإشكال فيه ، وإنّما الكلام في أنّه هل هو موضوع للصورة الذهنية الثالثة
ـ التي تمثِّل الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بحدِّها الذي تتميّز به عن الصورتين
الاخريين ، أو لذات المفهوم المرئيّ بتلك الصورة ، وليست الصورة بحدّها إلاّمرآةً
لما هو الموضوع له؟
فعلى الأول يكون
الإطلاق مدلولاً وضعياً لِلَّفظ. وعلى الثاني لا يكون كذلك ؛ لأنّ ذات المرئيّ
والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل إلاّعلى ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المقيّد
أيضاً ، ولهذا أشرنا سابقاً إلى أنّ المرئيّ باللحاظ الثالث جامع بين المرئيَّين
والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.
ولا شكّ في أنّ
الثاني هو المتعيّن ، وقد استدلّ على ذلك :
أولاً : بالوجدان
العرفيّ واللغوي.
وثانياً : بأنّ
الإطلاق حدّ للصورة الذهنية الثالثة ، فأخذه قيداً معناه وضع اللفظ للصورة الذهنية
المحدَّدة به ، وهذا يعني أنّ مدلول اللفظ أمر ذهنيّ ولا ينطبق على الخارج.
وعلى هذا فاسم
الجنس لا يدلّ بنفسه على الإطلاق ، كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج إفادة كلٍّ
منهما إلى دالٍّ ، والدالّ على التقييد خاصّ عادةً ، وأمّا الدالّ على الإطلاق فهو
قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
__________________
التقابل بين الإطلاق والتقييد :
عرفنا أنّ
الماهيّة عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره : تارةً تكون مطلقة ، واخرى مقيّدة ،
وهذان الوصفان متقابلان ، غير أنّ الأعلام اختلفوا في تشخيص هويّة هذا التقابل.
فهناك القول بأ
نّه من تقابل التضادّ ، وهو مختار السيّد الاستاذ .
وقول آخر : بأ نّه
من تقابل العدم والملكة .
وقول ثالث : بأ
نّه من تقابل التناقض .
وذلك لأنّ الإطلاق
إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجوداً وعدماً تمّ القول الثالث. وإن كان عدم
لحاظه حيث يمكن لحاظه تمّ القول الثاني. وإن كان الإطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول
الأول.
والفوارق بين هذه
الأقوال تظهر في ما يلي :
١ ـ لا يمكن تصوّر
حالةٍ ثالثةٍ غير الإطلاق والتقييد على القول الثالث ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين ،
ويمكن افتراضها على القولين الأوّلين ، وتسمّى بحالة الإهمال.
٢ ـ يرتبط إمكان
الإطلاق بإمكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الإطلاق في كلّ حالةٍ لا يمكن
فيها التقييد.
ومثال ذلك : أنّ
تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الإطلاق أيضاً
__________________
على القول المذكور
؛ لأنّ الإطلاق بناءً عليه هو عدم التقييد في الموضع القابل [للتقييد] ، فحيث لا
قابلية للتقييد لا إطلاق.
وهذا خلافاً لِمَا
إذا قيل بأنّ مردّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى التناقض ، فإنّ استحالة
أحدهما حينئذٍ تستوجب كون الآخر ضرورياً لاستحالة ارتفاع النقيضين.
وأمّا إذا قيل
بأنّ مردَّه إلى التضادّ فتقابل التضادّ بطبيعته لا يفترض امتناع أحد المتقابلين
بامتناع الآخر ولا ضرورته.
والصحيح : هو
القول الثالث دون الأوّلَين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصية التي تقتضي
صلاحيّة المفهوم للانطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصية يكفي فيها مجرّد عدم
لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد ؛ لأنّ كلَّ مفهومٍ له قابلية ذاتية للانطباق
على كلّ فردٍ يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابلية تجعله صالحاً لإسراء الحكم
الثابت له إلى أفراده شمولياً أو بدلياً. وهذه القابلية بحكم كونها ذاتيةً لازمةٌ
له ، ولا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه.
والتقييد لا
يفكِّك بين هذا اللازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوماً جديداً مبايناً للمفهوم
الأوّل ؛ لأنّ المفاهيم كلّها متباينة في عالم الذهن ، حتّى ما كان بينهما عموم
مطلق في الصدق ، وهذا المفهوم الجديد له قابلية ذاتية أضيق دائرةً من قابلية
المفهوم الأول.
وهكذا يتّضح أنّ
الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد.
وبهذا الصدد يجب
أن نميِّز التقابل بين الإطلاق الثبوتيّ والتقييد المقابل له ـ وهذا ما كنّا
نتحدّث عنه فعلاً ـ عن التقابل بين الإطلاق الإثباتي ـ أي عدم ذكر القيد الكاشف عن
الإطلاق بقرينة الحكمة ـ والتقييد المقابل له ، فإنّ مردّ التقابل
بين الإطلاق
الإثباتيّ والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد إنّما
يكشف عن الإطلاق في حالةٍ يمكن فيها للمتكلِّم ذكر القيد ، كما مرّ في الحلقة
السابقة .
احترازيّة القُيود وقرينة الحكمة :
قد يقول المولى : (أكرم
الفقير العادل) ، وقد يقول : (أكرم الفقير). ففي الحالة الاولى يكون موضوع الحكم
في مرحلة المدلول التصوريّ للكلام حصّةً خاصّةً من الفقير ، أي الفقير العادل.
وبحكم الدلالة التصديقية الاولى نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل الكلام لإخطار صورة
حكمٍ متعلّقٍ بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقية الثانية نثبت أنّ المولى
جادّ في هذا الكلام ، بمعنى أنّ هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقةً وليس
هازلاً.
وبحكم ظهور الحال
في التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية يثبت أنّ
الحكم الجدّيّ المدلول للدلالة التصديقية الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة ، كما هو
كذلك في الدلالة التصديقية الاولى ، وبهذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة في
المثال ، أو أيّ قيدٍ من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوريّ والتصديقيّ الأوّلي
كونه قيداً في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّاً ، وذلك ما يسمّى بقاعدة
احترازية القيود.
ومرجع ظهور
التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة إلى ظاهر حال المتكلّم [في] أنّ كل ما يقوله يريده
جدّاً.
والدلالة التصورية
والدلالة التصديقية الاولى بمجموعهما يكوِّنان الصغرى
__________________
لهذا الظهور ، إذ
يثبتان ما يقوله المتكلّم ، فتنطبق حينئذٍ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق
المذكور.
وقاعدة الاحترازية
التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلاّأ نّها
إنّما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي أيَ حكمٍ آخر من قبيله ،
وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته ، حيث إنّه يقتضي انتفاء طبيعيّ الحكم
وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدّم في الحلقة السابقة .
وأمّا في الحالة
الثانية فقد انيط الحكم في مرحلة المدلول التصوريّ بذات الفقير ، وقد تقدّم أنّ
مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الإطلاق ، والدلالة التصديقية الأوّلية
إنّما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصورية للكلام.
وبهذا ينتج : أنّ
المتكلّم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يُفِد دخل قيد العدالة في الحكم ،
ولم يقل ذلك ، لا أنّه أفاد الإطلاق وقال به ؛ لأنّ صدق ذلك يتوقّف على أن يكون
الإطلاق دخيلاً في مدلول اللفظ وضعاً ، وقد عرفت عدمه ، فقصارى ما يمكن تقريره أنّه
لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقّق صغرى لظهورٍ حاليٍّ سياقي ، وهو ظهور حال
المتكلّم في أنّه في مقام بيان موضوع حكمه الجدّيّ بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله
في أنّ ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه. وبذلك نثبت أنّ قيد العدالة
غير مأخوذٍ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الإطلاق ، وهذا ما يسمّى
بقرينة الحكمة ، أو (مقدِّمات الحكمة).
__________________
وبالمقارنة نجد
أنّ الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازية
القيود ، فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده ، والإطلاق
يعتمد على ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله لا يريده.
ويمكن القول بأنّ
الظهور الأول هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظيّ للكلام والمدلول التصديقيّ
الجدّيّ إيجابياً ، (نريد بالمدلول اللفظي : المدلول المتحصّل من الدلالة التصورية
والدلالة التصديقية الاولى) ، وأنّ الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبياً.
ويلاحظ أنّ ظهور حال
المتكلّم في التطابق الإيجابي ـ أي في أنّ ما يقوله يريده ـ أقوى من ظهور حاله في
التطابق السلبي ، أي في أنّ ما لا يقوله لا يريده.
ومن هنا صحّ القول
بأ نّه متى ما تعارض المدلول اللفظيّ لكلامٍ مع إطلاق كلامٍ آخر قُدِّم المدلول
اللفظيّ على الإطلاق وفقاً لقواعد الجمع العرفي.
ويتّضح ممّا
ذكرناه أنّ جوهر الإطلاق يتمثّل في مجموع أمرين :
الأوّل
: يشكِّل الصغرى
لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ تمام ما ذكر وقيل موضوعاً للحكم بحسب المدلول اللفظيّ
للكلام هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.
والثاني
: يشكِّل الكبرى
لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ ما لم يقله ولم يذكره إثباتاً لا يريده ثبوتاً ؛ لأنّ
ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّيّ بالكلام ، وتسمّى
هاتان المقدمتان بمقدِّمات الحكمة.
فإذا تمّت هاتان
المقدمتان تكوّنت للكلام دلالة على الإطلاق وعدم دخل أيِّ قيدٍ لم يذكر في الكلام.
ولا شكّ في أنّ
هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ؛
لأنّ دخله في
موضوع الحكم يكون طبيعياً حينئذٍ ما دام القيد داخلاً في جملة ما قاله ، وتختلّ
بذلك المقدمة الصغرى.
وإنّما وقع الشكّ
والبحث في حالتين :
[دور القيد المنفصل :]
الاولى
: إذا ذكر القيد في
كلامٍ منفصلٍ آخر فهل يؤدّي ذلك إلى عدم دلالة الكلام الأول على الإطلاق رأساً كما
هي الحالة في ذكره متّصلاً ، أو أنّ دلالة الكلام الأول على الإطلاق تستقرّ بعدم
ذكر القيد متّصلاً ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضاً لظهورٍ قائمٍ بالفعل ،
وقد يقدّم عليه وفقاً لقواعد الجمع العرفي؟
ويتحدّد هذا البحث
على ضوء معرفة أنّ ذلك الظهور الحالي الذي يشكِّل الكبرى هل يقتضي كون المتكلّم في
مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه ، أو بمجموع كلماته؟
فعلى الأول يكون
صغراه عدم ذكر القيد متّصلاً بالكلام ، ويكون ظهور الكلام في الإطلاق منوطاً بعدم
ذكر القيد في شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجيء التقييد في كلامٍ منفصل.
وعلى الثاني يكون
صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلامٍ منفصل ، فينهدم أصل الظهور بمجيء القيد في كلامٍ
آخر.
والمتعيّن
بالوجدان العرفيّ : الأوّل ، بل يلزم على الثاني عدم إمكان التمسّك بالإطلاق في
موارد احتمال البيان المنفصل ؛ لأنّ ظهور الكلام في الإطلاق إذا كان منوطاً بعدم
ذكر القيد ولو منفصلاً فلا يمكن إحرازه مع احتمال ورود القيد في كلامٍ منفصل.
[القدر المتيقّن في مقام التخاطب :]
الثانية
: إذا كان هناك قدر
متيقّن في مقام التخاطب فهل يمنع عن دلالة الكلام على الإطلاق ، أوْ لا؟
وتوضيح ذلك : أنّ
المطلق إذا صدر من المولى :
فتارةً : تكون
حصصه متكافئةً في الاحتمال ، فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك ،
أو بالعكس ، أو شموله لهما معاً. وهذا معناه عدم وجود قدرٍ متيقّن ، وفي مثل ذلك
تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال.
وثانيةً : تكون
إحدى الحصّتين أولى بالحكم من الحصّة الاخرى ، غير أنّها أولوية عُلِمت من خارج
ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن من الخارج ،
والمعروف في مثل ذلك تمامية قرينة الحكمة أيضاً.
وثالثةً : يكون
نفس الكلام صريحاً في تطبيق الحكم على إحدى الحصّتين ، كما إذا كانت هي مورد
السؤال وجاء المطلق كجوابٍ على هذا السؤال ، من قبيل أن يسأل شخص من المولى عن
إكرام الفقير العادل ، فيقول له : (أكرم الفقير) ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن
في مقام التخاطب.
وقد اختار صاحب
الكفاية رحمهالله أنّ هذا يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ في هذه
الحالة قد يكون مراده مختصّاً بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال ؛ لأنّ
كلامه وافٍ ببيان القدر المتيقّن فلا يلزم حينئذٍ أن يكون قد أراد ما لم يقله.
والجواب على ذلك :
أنّ ظاهر حال المتكلّم ـ كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة ـ أنّه في مقام بيان تمام
الموضوع لحكمه الجدّيّ بالكلام ، فإذا كانت
__________________
العدالة جزءاً من
الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بيّناً ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد
العدالة. ومجرّد أنّ الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني أخذ قيد العدالة
في الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضي ـ إذن ـ عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه
الحالة.
وبذلك يتّضح أنّ
قرينة الحكمة ـ أي ظهور الكلام في الإطلاق ـ لا تتوقّف على عدم المقيّد المنفصل ،
ولا على عدم القدر المتيقّن ، بل على عدم ذكر القيد متّصلاً.
هذا هو البحث في
أصل الإطلاق وقرينة الحكمة.
وتكميلاً لنظرية
الإطلاق لا بدّ من الإشارة إلى عدّة تنبيهات :
[تنبيهات حول الإطلاق :]
التنبيه
الأوّل : أنّ أساس الدلالة
على الإطلاق ـ كما عرفت ـ هو الظهور الحاليّ السياقي ، وهذا الظهور دلالته
تصديقية. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق ناظرةً إلى المدلول
التصديقيّ للكلام ابتداءً ولا تدخل في تكوين المدلول التصوري ، خلافاً لِمَا إذا
قيل بأنّ الدلالة على الإطلاق وضعية ؛ لأخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، فإنّها
تدخل حينئذٍ في تكوين المدلول التصوري.
التنبيه
الثاني : أنّ الإطلاق تارةً
يكون شمولياً يستدعي تعدّد الحكم بتعدّد ما لِطَرفه من أفراد ، واخرى بدلياً
يستدعي وحدة الحكم. فإذا قيل : (أكرم العالم) كان وجوب الإكرام متعدّداً بتعدّد
أفراد العالم ، ولكنّه لا يتعدّد في كلِّ عالمٍ بتعدّد أفراد الإكرام.
وقد يقال : إنّ
قرينة الحكمة تنتج تارةً الإطلاق الشمولي ، واخرى الإطلاق البدلي.
ويعترض على ذلك :
بأنّ قرينة الحكمة واحدة ، فكيف تنتج تارةً الإطلاق الشمولي ، واخرى الإطلاق
البدلي؟
وقد اجيب على هذا
الاعتراض بعدّة وجوه :
الأول
: ما ذكره السيّد
الاستاذ من أنّ قرينة الحكمة لا تثبت إلاّالإطلاق بمعنى [عدم]
القيد ، وأمّا البدليّة والاستغراقية فيثبت كلّ منهما بقرينةٍ إضافية.
فالبدلية في
الإطلاق في متعلّق الأمر ـ مثلاً ـ تثبت بقرينةٍ إضافية ، وهي : أنّ الشمولية غير
معقولة ؛ لأنّ إيجاد جميع أفراد الطبيعة غير مقدورٍ للمكلّف عادةً.
والشمولية في
الإطلاق في متعلّق النهي ـ مثلاً ـ تثبت بقرينةٍ إضافية ، وهي : أنّ البدليّة غير
معقولة ؛ لأنّ ترك أحد أفراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجةٍ إلى النهي.
ولا يصلح هذا
الجواب لحلّ المشكلة ، إذ توجد حالات يمكن فيها الإطلاق الشموليّ والبدليّ معاً ،
ومع هذا يُعيَّن الشموليّ بقرينة الحكمة ، كما في كلمة (عالم) في قولنا : (أكرم
العالم) ، فلابدّ إذن من أساسٍ لتعيين الشمولية أو البدلية غير مجرّد كون بديله
مستحيلاً.
الثاني
: ما ذكره المحقّق
العراقي رحمهالله من أنّ الأصل في قرينة الحكمة إنتاج الإطلاق البدلي ،
والشمولية عناية إضافية بحاجةٍ إلى قرينة ؛ وذلك لأنّ هذه القرينة تثبت أنّ موضوع
الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيدٍ تنطبق
__________________
على القليل
والكثير ، وعلى الواحد والمتعدّد. فلو قيل : (أكرم العالم) وجرت قرينة الحكمة
لإثبات الإطلاق كفى في الامتثال إكرام الواحد ؛ لانطباق الطبيعة عليه. وهذا معنى
كون الإطلاق من حيث الأساس بدلياً دائماً ، وأمّا الشمولية فتحتاج إلى ملاحظة
الطبيعة ساريةً في جميع أفرادها ، وهي مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة.
الثالث
: أن يقال ـ خلافاً
لذلك ـ : إنّ الماهيّة عندما تلحظ بدون قيدٍ وينصبّ عليها حكم إنّما ينصبّ عليها
ذلك بما هي مرآة للخارج ، فيسري الحكم نتيجةً لذلك إلى كلِّ فردٍ خارجيٍّ تنطبق
عليه تلك المرآة الذهنية ، وهذا معنى تعدّد الحكم وشموليته.
وأمّا البدلية ـ كما
في متعلّق الأمر ـ فهي التي تحتاج إلى عناية ، وهي تقييد الماهية بالوجود الأول.
فقول : (صَلِّ) يرجع إلى الأمر بالوجود الأوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني.
وعلى هذا فالأصل
في الإطلاق الشمولية ما لم تقم قرينة على البدلية.
وتحقيق الحال في
المسألة يوافيك في بحثٍ أعلى إن شاء الله تعالى.
التنبيه
الثالث : إذا لاحظنا متعلّق
النهي في (لا تكذب) ومتعلّق الأمر في (صَلِّ) نجد أنّ الحكم في الخطاب الأوّل
يشتمل على تحريماتٍ متعدّدةٍ بعدد أفراد الكذب ، وكلّ كذبٍ حرام بحرمةٍ تخصّه ،
ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحقّ عقابين.
وأمّا الحكم في
الخطاب الثاني فلا يشتمل إلاّعلى وجوبٍ واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك
عصياناً واحداً ويستحقّ بسببه عقاباً واحداً. وهذا من نتائج الشمولية في إطلاق
متعلّق النهي التي تقتضي تعدّد الحكم ، والبدليّة في إطلاق متعلّق الأمر الذي
يقتضي وحدة الحكم.
ولكن قد يتجاوز
هذا ويفترض النهي في حالةٍ لا يعبِّر إلاّعن تحريمٍ واحد ، كما في النهي المتعلّق
بماهيّةٍ لا تقبل التكرار ، من قبيل (لا تحدث) بناءً على أنّ الحدث لا يتعدّد ،
ففي هذه الحالة يكون التحريم واحداً ، كما أنّ الوجوب في (صلِّ) واحد.
ولكن مع هذا نلاحظ
أنّ هناك فارقاً يظلّ ثابتاً بين الأمر والنهي ، أو بين الوجوب والتحريم ، وهو أنّ
الوجوب الواحد المتعلّق بالطبيعة لا يستدعي إلاّ الإتيان بفردٍ من أفرادها ، وأمّا
التحريم الواحد المتعلّق بها فهو يستدعي اجتناب كلّ أفرادها ولا يكفي أن يترك بعض
الأفراد.
وهذا الفارق ليس
مردّه إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الإطلاق ، بل إلى أمرٍ عقلي ، وهو أنّ
الطبيعة توجد بوجود فردٍ واحد ، ولكنّها لا تنعدم إلاّبانعدام جميع أفرادها. وحيث
إنّ النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بدّ من ترك سائر أفرادها ، وحيث إنّ
الأمر بها يستدعي إيجادها فيكفي إيجاد فردٍ من أفرادها.
التنبيه
الرابع : أنّه في الحالات
التي يكون الإطلاق فيها شمولياً يسري الحكم إلى كلّ الأفراد ، فيكون كلّ فردٍ من
الطبيعة المطلقة شمولياً موضوعاً لفردٍ من الحكم ، كما في الإطلاق الشموليّ
للعالِم في (أكرم العالم).
ولكنّ هذا التكثّر
في الحكم والتكثّر في موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم
بوجوب الإكرام على طبيعيّ العالِم ، فإنّ المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعيّ
العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة ، فبنظره الجعليّ ليس لديه إلاّموضوع واحد
وحكم واحد ، ولكنّ التكثّر يكون في مرحلة المجعول. وقد ميّزنا سابقاً بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعلية المجعول
__________________
تابعةٌ لفعلية
موضوعه خارجاً ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعاً لتكثّر أفراد
العالِم في الخارج.
والخطاب الشرعيّ
مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضية الحقيقية ، وليس
ناظراً إلى فعلية المجعول. وهذا يعني أنّ الشمولية وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق
الشموليّ إنّما يكون في مرتبةٍ غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.
ومن هنا صحّ القول
بأنّ السريان بمعنى تعدّد الحكم وتكثّره الثابت بقرينة الحكمة ليس من شؤون مدلول
الكلام ، بل هو من شؤون عالَم التحليل والمجعول.
أدوات العُموم
تعريف العموم وأقسامه :
العموم : هو
الاستيعاب المدلول عليه باللفظ. وباشتراط أن يكون مدلولاً عليه باللفظ يخرج المطلق
الشمولي ، فإنّ الشمولية فيه ليست مدلولةً للكلام ؛ لأنّها من شؤون عالَم المجعول
، والكلام إنّما ينظر إلى عالَم الجعل ، خلافاً للعامّ فإنّ تكثّر الأفراد فيه
ملحوظ في نفس مدلول الكلام وفي عالم الجعل.
ودلالة الكلام على
الاستيعاب تفترض عادةً دالّين :
أحدهما : يدلّ على
نفس الاستيعاب ، ويسمّى بأداة العموم.
والآخر : يدلّ على
المفهوم المستوعب لأفراده ، ويسمّى بمدخول الأداة.
ففي قولنا : (أكرم
كلّ فقيرٍ) الدالّ على الاستيعاب كلمة (كلّ) ، والدالّ على المفهوم المستوعب
لأفراده كلمة (فقير).
وأداة العموم
الدالّة على الاستيعاب : تارةً تكون اسماً وتدلّ على الاستيعاب بما هو مفهوم اسمي
، كما في (كلّ) و (جميع). واخرى تكون حرفاً وتدلّ عليه بما هو نسبة استيعابية ،
كما في لام الجمع في قولنا : (العلماء) ، بناءً على أنّ الجمع المعرَّف باللام
يدلّ على العموم ، فإنّ أداة العموم فيه هي اللام ، واللام حرف ، فاذا دلّت على
الاستيعاب فهي إنّما تدلّ عليه بما هو نسبة.
وسيأتي تصوير ذلك إن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّ العموم
ينقسم إلى : الاستغراقي ، والبدلي ، والمجموعي ؛ لأنّ
__________________
الاستيعاب لكلّ
أفراد المفهوم يعني مجموعة تطبيقاته على أفراده ، وهذه التطبيقات : تارةً تلحظ
عرضية ، واخرى تبادلية ، فالثاني هو البدلي ، والأول إن لوحظت فيه عناية وحدة تلك
التطبيقات فهو المجموعي ، وإلاّ فهو عموم استغراقي.
وقد يقال : إنّ انقسام العموم إلى هذه الأقسام إنّما هو في مرحلة
تعلّق الحكم به ؛ لأنّ الحكم إن كان متكثّراً بتكثّر الأفراد فهو استغراقي. وإن كان
واحداً ويكتفى في امتثاله بأيّ فردٍ من الأفراد فهو بدلي. وإن كان يقتضي الجمع بين
الأفراد فهو مجموعي.
ولكنّ الصحيح :
أنّ هذا الانقسام يمكن افتراضه بقطع النظر عن ورود الحكم ؛ لوضوح الفرق بين
التصورات التي تعطيها كلمات من قبيل : (جميع العلماء) و (أحد العلماء) و (مجموع
العلماء) حتّى لو لوحظت بما هي كلمات مفردة وبدون افتراض حكم ، فالاستغراقية
والبدلية والمجموعية تعبِّر عن ثلاث صورٍ للعموم ينسجها ذهن المتكلّم وفقاً لغرضه
، توطئةً لجعل الحكم المناسب عليها.
نحو دلالة أدوات العموم :
لا شكّ في وجود
أدواتٍ تدلّ على العموم بالوضع ، ككلمة (كلّ) ، و (جميع) ، ونحوهما من الألفاظ
الخاصّة بإفادة الاستيعاب ، غير أنّ النقطة الجديرة بالبحث فيها وفي كلّ ما يثبت أنّه
من أدوات العموم هي : أنّ إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة ـ أي (عالم)
مثلاً في قولنا : (أكرم كلّ عالم) ـ هل يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في
المدخول ، أو أنّ دخول أداة
__________________
العموم على الكلمة
يغنيها عن قرينة الحكمة وتتولّى الأداة نفسها دور تلك القرينة؟
وظاهر كلام صاحب
الكفاية رحمهالله أنّ كِلا الوجهين ممكن من الناحية النظرية ؛ لأنّ أداة
العموم إذا كانت موضوعةً لاستيعاب ما يراد من المدخول تعيّن الوجه الأول ؛ لأنّ
المراد بالمدخول لا يعرف حينئذٍ من ناحية الأداة ، بل من قرينة الحكمة. وإذا كانت
موضوعةً لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعيّن الوجه الثاني ، لأنّ
مفاد المدخول صالح ذاتاً للانطباق على تمام الأفراد ، فيتمّ تطبيقه عليها فعلاً
بتوسّط الأداة مباشرة. وقد استظهر ـ بحقٍّ ـ الوجه الثاني.
وقد يبرهن على
إبطال الوجه الأوّل ببرهانين :
البرهان
الأول
:
لزوم اللَغوية منه
، كما تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة .
ولكنّ التحقيق عدم
تمامية هذا البرهان ؛ لعدم لزوم لَغويّة وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، ولا
لَغويّة استعمالها في مقام التفهيم من قبل المتكلّم ؛ وذلك لأنّ العموم والإطلاق
ليس مفادهما مفهوماً وتصوراً شيئاً واحداً ، فإنّ أداة العموم مفادها الاستيعاب
وإراءة الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، وأمّا قرينة الحكمة فلا تفيد الاستيعاب ،
ولا تُري الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، بل تفيد نفي الخصوصيات ولحاظ الطبيعة
مجرّدةً عنها ، فالتكثّر ملحوظ في العموم ، بينما الملحوظ في الإطلاق ذات الطبيعة
، وهذا يكفي لتصحيح الوضع حتّى لو لم ينتهِ إلى نتيجةٍ عمليةٍ بالنسبة إلى الحكم
الشرعي ؛ لأنّ الفائدة المترقَّبة من الوضع إنّما هي إفادة المعاني المختلفة.
وكذلك يكفي لتصحيح الاستعمال ، إذ قد يتعلّق غرض
__________________
المستعمل بإفادة
التكثّر بنفس مدلول الخطاب.
البرهان
الثاني : أنّ قرينة الحكمة
ناظرة ـ كما تقدّم في بحث الإطلاق ـ إلى المدلول التصديقيّ الجدّي ، فهي تُعيِّن
المراد التصديقي ، ولا تساهم في تكوين المدلول التصوري. وأداة العموم تدخل فى
تكوين المدلول التصوريّ للكلام ، فلو قيل بأنّها موضوعة لاستيعاب المراد من
المدخول الذي تعيّنه قرينة الحكمة ـ وهو المدلول التصديقي ـ كان معنى ذلك ربط
المدلول التصوريّ للأداة بالمدلول التصديقيّ لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان ؛
لأنّ المدلول التصوريّ لكلّ جزءٍ من الكلام إنّما يرتبط بما يساويه من مدلول
الأجزاء الاخرى ، أي بمدلولاتها التصورية ، ولا شكّ في أنّ للأداة مدلولاً
تصوّرياً محفوظاً حتى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي نهائياً ـ كما
في حالات الهزل ـ فكيف يناط مدلولها الوضعيّ بالمدلول التصديقي؟
العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد :
يلاحظ أنّ كلمة (كلّ)
ـ مثلاً ـ ترد على النكرة فتدلّ على العموم والاستيعاب لأفراد هذه النكرة. وترد
على المعرفة فتدلّ على العموم والاستيعاب أيضاً ، لكنّه استيعاب لأجزاء مدلول تلك
المعرفة لا لأفرادها. ومن هنا اختلف قولنا : (اقرأ كلّ كتاب) عن قولنا : (اقرأ كلّ
الكتاب) ، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي :
هل أنّ لأداة
العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب؟ وإلاّ كيف فهم منها في الحالة الاولى استيعاب
الأفراد وفي الحالة الثانية استيعاب الأجزاء؟
وقد أجاب المحقّق
العراقي رحمهالله على هذا السؤال : بأنّ (كلّ) تدلّ على
__________________
استيعاب مدخولها
للأفراد ، ولكنّ اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء في حالة كون المدخول معرَّفاً
باللام ؛ من أجل أنّ الأصل في اللام أن يكون للعهد ، والعهد يعني تشخيص الكتاب في
المثال المتقدّم ، ومع التشخيص لا يمكن الاستيعاب للأفراد ؛ فيكون هذا قرينةً
عامّةً على اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء كلّما كان المدخول معرَّفاً باللام.
دلالة الجمع المعرَّف باللام على العموم :
قد عُدَّ الجمع
المعرَّف باللام من أدوات العموم ، ولابدّ من تحقيق كيفية دلالة ذلك على العموم
ثبوتاً أوّلاً ، ثمّ تفصيل الكلام في ذلك إثباتاً.
أمّا
الأمر الأول : فهناك تصويرات لهذه الدلالة :
منها أن يقال :
إنّ الجمع المعرَّف باللام يشتمل على ثلاثة دوالّ :
أحدها : مادّة
الجمع التي تدلّ في كلمة (العلماء) على طبيعيّ العالم.
والآخر : هيئة
الجمع التي تدلّ على مرتبةٍ من العدد لا تقلّ عن ثلاثةٍ من أفراد تلك المادّة.
والثالث : اللام ،
وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام أفراد المادّة ، ويكون الاستيعاب
مدلولاً لِلاّم بما هو معنىً حرفيّ ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعِب ـ بالكسر
ـ وهو مدلول هيئة الجمع ، والمستوعَب ـ بالفتح ـ وهو مدلول مادّة الجمع.
وأمّا
الأمر الثاني : فإثبات اقتضاء اللام الداخلة على الجمع للعموم يتوقّف على إحدى دعويين :
إمّا أن يدّعى
وضعها للعموم ابتداءً ، وحيث إنّ اللام الداخلة على المفرد لا تدلّ على العموم
فلابدّ أن يكون المدّعى وضع اللام الداخلة على الجمع
بالخصوص لذلك.
وإمّا أن يدّعى أنّها
تدلّ على معنىً واحدٍ في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعيّن في
المدخول ؛ على ما تقدّم في معنى اللام الداخلة على اسم الجنس في الحلقة السابقة .
فاذا كان مدخولها
اسم الجنس كفى في التعيّن المدلول عليه باللام تعيّن الجنس الذي هو نحو تعيّنٍ
ذهنيٍّ للطبيعة ، كما تقدّم في محلّه.
وإذا كان مدخولها
الجمع فلابدّ من فرض التعيّن في الجمع ، ولا يكفي التعيّن الذهنيّ للطبيعة
المدلولة لمادّة الجمع. وتعيّن الجمع بما هو جمع إنّما يكون بتحدّد الأفراد
الداخلة فيه ، وهذا التحدّد لا يحصل إلاّمع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع
المساوقة للعموم ؛ لأنّ أيَّ مرتبةٍ اخرى لا يتميَّز فيها ـ من ناحية اللفظ ـ الفرد
الداخل عن الخارج.
النكرة في سياق النهي أو النفي :
ذكر بعض : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات
العموم.
وأكبر الظنّ أنّ
الباعث على هذه الدعوى أنّ النكرة ـ كما تقدّم في حالات اسم الجنس من الحلقة
السابقة ـ يمتنع إثبات الإطلاق الشموليّ لها بقرينة الحكمة ؛ لأنّ
مفهومها يأبى عن ذلك ، بينما نجد أنّنا نستفيد الشمولية في حالات وقوع
__________________
النكرة في سياق
النهي أو النفي ، فلابدّ أن يكون الدالّ على هذه الشمولية شيئاً غير إطلاق النكرة
نفسها ، فمن هنا يُدّعى أنّ السياق ـ أي وقوع النكرة متعلّقاً للنهي أو النفي ـ من
أدوات العموم ليكون هو الدالّ على هذه الشمولية.
ولكنّ التحقيق :
أنّ هذه الشمولية سواء كانت على نحو شمولية العامّ أو على نحو شمولية المطلق
بحاجةٍ إلى افتراض مفهومٍ اسميٍّ قابلٍ للاستيعاب والشمول لأفراده بصورةٍ عرضية
لكي يدلّ السياق حينئذٍ على استيعابه لأفراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي
، كما تقدم ، فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدلّ السياق على
عمومه وشموله؟
ومن هنا نحتاج إذن
إلى تفسيرٍ للشمولية التي نفهمها من النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، ويمكن
أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليَين :
الأول
: أن يُدّعى كون
السياق قرينةً على إخراج الكلمة عن كونها نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح
للإطلاق الشمولي. وأمّا الشمولية فتثبت بإجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون
حاجةٍ إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشمولية والعموم.
الثاني
: ما ذكره صاحب
الكفاية رحمهالله من أنّ الشمولية ليست مدلولاً لفظياً ، وإنّما هي بدلالةٍ
عقلية ؛ لأنّ النهي يستدعي إعدام متعلَّقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد
واحد.
غير أنّ هذه
الدلالة العقلية إنّما تُعيِّن طريقة امتثال النهي ، وأنّ امتثاله لا يتحقّق
إلاّبترك جميع أفراد الطبيعة ، ولا تثبت الشمولية ـ بمعنى تعدّد الحكم والتحريم ـ بعدد
تلك الأفراد ، كما هو واضح.
__________________
المفاهيم
تعريف المفهوم :
لا شكّ في أنّ
المفهوم مدلول التزاميّ للكلام ، ولا شكّ أيضاً في أنّه ليس كلّ مدلولٍ التزاميٍّ
يعتبر مفهوماً بالمصطلح الاصولي.
ومن هنا احتجنا
إلى تعريفٍ يميِّز المفهوم عن بقية المدلولات الالتزامية.
وقد ذكر المحقّق
النائيني رحمهالله بهذا الصدد : أنّ المفهوم هو اللازم البيِّن مطلقاً ، أو
اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ في مصطلح المناطقة .
ونلاحظ على ذلك :
أنّ بعض الأدلّة التي تُساق لإثبات مفهوم الشرط ـ مثلاً ـ تثبت المفهوم كلازمٍ
عقليٍّ بحتٍ دون أن يكون مبيّناً ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
فالأولى أن يقال :
إنّ المدلول الالتزاميّ : تارةً يكون متفرِّعاً على خصوصيّة الموضوع في القضية
المدلولة للكلام بالمطابقة على نحوٍ يزول باستبداله بموضوعٍ آخر.
واخرى يكون
متفرِّعاً على خصوصية المحمول بهذا النحو.
وثالثةً يكون
متفرّعاً على خصوصية الربط القائم بين طرفي القضية ؛ على نحوٍ يكون محفوظاً ولو
تبدّل كلا الطرفين.
فقولنا : (إذا
زارك ابن كريم وجب احترامه) يدلّ التزاماً على وجوب
__________________
احترام الكريم
نفسه عند زيارته ، وعلى وجوب تهيئة المقدّمات التي يتوقّف عليها احترام الابن
الزائر ، وعلى أنّه لا يجب الاحترام المذكور في حالة عدم الزيارة.
والمدلول الأول
مرتبط بالموضوع ، فلو بدّلنا ابن الكريم باليتيم ـ مثلاً ـ لم يكن له هذا المدلول.
والمدلول الثاني
مرتبط بالمحمول وهو الوجوب ، فلو بدّلناه بالإباحة لم يكن له هذا المدلول.
والمدلول الثالث
متفرّع على الربط الخاصّ بين الجزاء والشرط ، ومهما غيّرنا من الشرط والجزاء يظلّ
المدلول الثالث بروحه ثابتاً معبِّراً عن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، وإن كان
التغيير ينعكس عليه ، فيغيّر من مفرداته تبعاً لِمَا يحدث في المنطوق من تغيّرٍ في
المفردات.
وهذا هو المفهوم ،
لكن على أن يتضمّن انتفاء طبيعيّ الحكم ، لا شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب ؛
تمييزاً للمفهوم عن قاعدة احترازيّة القيود التي تقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء
القيد.
ضابط المفهوم :
ونريد الآن أن
نعرف الربط المخصوص الذي يؤخذ في المنطوق ويكون منتجاً للمفهوم. وتوضيح ذلك : أنّا
إذا أخذنا الجملة الشرطية كمثالٍ للقضايا التي يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها ،
نجد أنّ لها مدلولاً تصوّرياً ومدلولاً تصديقياً.
وحينما نفترض
المفهوم للجملة الشرطية : تارةً نفترضه على مستوى مدلولها التصوّري ، بمعنى أنّ
الضابط الذي به يثبت المفهوم يكون داخلاً في المدلول التصوّريّ للجملة. واخرى
نفترضه على مستوى مدلولها التصديقي ، بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم لا
يكون مدلولاً عليه بدلالةٍ تصوّرية ، بل
بدلالةٍ تصديقية.
أمّا الضابط
لإفادة المفهوم في مرحلة المدلول التصوريّ فهو أن يكون الربط المدلول عليه بالأداة
أو الهيئة في هذه المرحلة من النوع الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ ربط
قضيةٍ أو حادثةٍ بقضيةٍ أو حادثةٍ اخرى إذا أردنا أن نعبِّر عنه بمعنىً اسميٍّ
وجدنا بالإمكان التعبير عنه بشكلين :
فنقول تارةً :
زيارة شخصٍ للإنسان تستلزم أو توجد وجوب إكرامه.
ونقول اخرى : إنّ
وجوب إكرام شخصٍ يتوقّف على زيارته ، أو هو معلَّق على فرض الزيارة وملتصق بها.
ففي القول الأول
استعملنا معنى الاستلزام ، وفي القول الثاني استعملنا معنى التوقّف والتعليق
والالتصاق. والمعنى الأوّل لا يدلّ التزاماً على الانتفاء عند الانتفاء ، والثاني
يدلّ عليه.
فلكي تكون الجملة
الشرطية ـ مثلاً ـ مشتملةً في مرحلة المدلول التصوري على ضابط إفادة المفهوم لابدّ
أن تكون دالّةً على ربط الجزاء بالشرط بما هو معنىً حرفيّ موازٍ للمعنى الاسميّ
للتوقّف والالتصاق ، لا على الربط بما هو معنىً حرفيّ موازٍ للمعنى الاسميّ
لاستلزام الشرط للجزاء.
ولابدّ ـ إضافةً
إلى ذلك ـ أن يكون المرتبط على نحو التوقّف والالتصاق طبيعيّ الوجوب ، لا وجوباً
خاصّاً ، وإلاّ لم يقتضِ التوقّف إلاّانتفاء ذلك الوجوب الخاصّ ، وهذا القدر من
الانتفاء يتحقّق بنفس قاعدة احترازية القيود ولو لم نفترض مفهوماً.
وإذا ثبتت دلالة
الجملة في مرحلة المدلول التصوري على النسبة التوقّفية والالتصاقية ثبت المفهوم ،
ولو لم يثبت كون الشرط علّةً للجزاء أو جزءَ علّةٍ له ، بل ولو لم يثبت اللزوم
إطلاقاً وكان التوقّف لمجرّد صدفة.
وأمّا على مستوى
المدلول التصديقي للجملة فقد تكشف الجملة في هذه المرحلة عن معنىً يبرهن على أنّ
الشرط علّة منحصرة ، أو جزء علّةٍ منحصرةٍ للجزاء ، وبذلك يثبت المفهوم. وهذا من
قبيل المحاولة الهادفة لإثبات المفهوم تمسّكاً بالإطلاق الأحواليّ للشرط لإثبات
كونه مؤثّراً على أيِّ حال ، سواء سبقه شيء آخر أوْ لا ، ثمّ لاستنتاج انحصار
العلّة بالشرط من ذلك ، إذ لو كانت للجزاء علّة اخرى لَما كان الشرط مؤثّراً في
حال سبق تلك العلّة ، فإنّ هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقي ؛ لأنّ الإطلاق
الأحواليّ للشرط مدلول لقرينة الحكمة ، وقد تقدّم سابقاً أنّ قرينة الحكمة ذات
مدلولٍ تصديقيٍّ ولا تساهم في تكوين المدلول التصوري.
هذا ما ينبغي أن
يقال في تحديد الضابط.
وأمّا المشهور فقد
اتّجهوا إلى تحديد الضابط للمفهوم في ركنين ، كما مرّ بنا في الحلقة السابقة :
أحدهما : استفادة
اللزوم العلِّيِّ الانحصاري.
والآخر : كون
المعلّق مطلق الحكم لا شخصه ، ولا كلام لنا فعلاً في الركن الثاني.
وأمّا الركن الأول
فالالتزام بركنيَّته غير صحيح ، إذ يكفي في إثبات المفهوم ـ كما تقدّم ـ دلالة
الجملة على الربط بنحو التوقّف ولو كان على سبيل الصدفة.
مورد الخلاف في ضابط المفهوم :
ثمّ إنّ المحقّق
العراقيّ رحمهالله ذهب إلى أنّه لا خلاف في أنّ جميع الجمل
__________________
التي تكلّم
العلماء عن دلالتها على المفهوم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند
الانتفاء ، أي على التوقّف ؛ وذلك بدليل أنّ الكلّ متّفقون على انتفاء شخص الحكم
بانتفاء القيد شرطاً أو وصفاً ، وإنّما اختلفوا في انتفاء طبيعيّ الحكم ، فلولا
اتّفاقهم على أنّ الجملة تدلّ على الربط الخاصّ المذكور لَما تسالموا على انتفاء
الحكم ـ ولو شخصاً ـ بانتفاء القيد.
وعلى هذا الأساس
فالبحث في إثبات المفهوم في مقابل المنكِرِين له ينحصر في مدى إمكان إثبات أنّ طرف
الربط الخاصّ المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيّه ليكون هذا الربط مستدعياً
لانتفاء الطبيعيّ بانتفاء القيد.
وإمكان إثبات ذلك
مرهون بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الجزاء ونحوها ممّا يدلّ على
الحكم في القضية.
وهكذا يعود البحث
في ثبوت المفهوم لجملة (إذا كان الإنسان عالماً فأكرمه) أو لجملة (أكرم الإنسان
العالم) إلى أنّه هل يجري الإطلاق في مفاد (أكرم) في الجملتين لإثبات أنّ المعلّق
على الشرط أو الوصف طبيعيّ الحكم ، أوْ لا؟ ونسمّي هذا بمسلك المحقّق العراقيِّ في
إثبات المفهوم.
مفهوم الشرط :
ذهب المشهور إلى
دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، وقُرِّب ذلك بعدّة وجوه :
الأول
: دعوى دلالة الجملة
الشرطية بالوضع على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.
وعلى الرغم من
صحّة هذا التبادر اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة ، وهي : أنّها تؤدّي إلى افتراض
التجوّز عند استعمال الجملة الشرطية في موارد
عدم الانحصار ،
وهو خلاف الوجدان ، فكأ نّه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بدّ من التوفيق بينهما :
أحدهما : وجدان
التبادر المدَّعى في هذا الوجه.
والآخر : وجدان
عدم الإحساس بالتجوّز عند استعمال الجملة الشرطية في حالات عدم الانحصار.
الثاني
: دعوى دلالة الجملة
الشرطية على اللزوم وضعاً ، وعلى كونه لزوماً علّيّاً انحصارياً بالانصراف ؛ لأنّه
أكمل أفراد اللزوم.
ولوحظ على ذلك :
أنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف ، وأنّ الاستلزام في فرض الانحصار ليس بأقوى منه
في فرض عدم الانحصار.
الثالث
: دعوى دلالة الأداة
على الربط اللزوميِّ وضعاً ، ودلالة تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرِّعه
عنه ثبوتاً ، وكون الشرط علّةً تامّةً له ؛ لأصالة التطابق بين مقام الإثبات
والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الإطلاق الأحواليّ في الشرط على أنّه علّة
تامّة بالفعل دائماً ، وهذا يستلزم عدم وجود علّةٍ اخرى للجزاء ، وإلاّ لكانت
العلّة في حال اقترانهما المجموع ، لا الشرط بصورةٍ مستقلّة ؛ لاستحالة اجتماع
علّتين مستقلَّتين على معلولٍ واحد ، فيصبح الشرط جزءَ العلّة ، وهو خلاف الإطلاق
الأحواليّ المذكور.
ويبطل هذا الوجه
بالملاحظات التالية :
أولاً
: أنّه لا ينفي ـ لو
تمّ ـ وجود علّةٍ اخرى للجزاء فيما إذا احتمل كونها مضادّةً بطبيعتها للشرط ، أو
دخالة عدم الشرط في علِّيّتها للجزاء ، فإنّ احتمال علّةٍ اخرى من هذا القبيل لا
ينافي الإطلاق الأحواليّ للشرط ، إذ ليس من أحوال الشرط حينئذٍ حالة اجتماعه مع
تلك العلّة.
ثانياً
: أنّ كون الشرط
علّةً للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على
الشرط في الكلام
الكاشف عن التفريع الثبوتيّ والواقعي ؛ وذلك لأنّ التفريع الثبوتيّ لا ينحصر في
العلّيّة ، بدليل أنّ التفريع بالفاء كما يصحّ بين العلّة والمعلول كذلك بين الجزء
والكلّ ، والمتقدّم زماناً والمتأخّر كذلك ، فلا معيِّن لاستفادة العلّية من
التفريع.
ثالثاً
: إذا سلّمنا
استفادة علّية الشرط للجزاء من التفريع نقول : إِنّ كون الشرط علّةً تامّةً للجزاء
لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط ؛ لأنّ التفريع يناسب مع كون المفرَّع
عليه جزءَ العلّة ، وإِنّما يثبت بالإطلاق ؛ لأنّ مقتضى إطلاق ترتّب الجزاء على
الشرط أنّه يترتّب عليه في جميع الحالات ، مع أنّه لو كان الشرط جزءاً من العلّة
التامة لاختصّ ترتّب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الآخر ، فإطلاق ترتّب
الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزءَ العلّة ، إلاّأ نّه إنّما
ينفي النقصان الذاتيّ للشرط (والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته محتاجاً في إيجاد
الجزاء إلى شيءٍ آخر) ، ولا ينفي النقصان العرضي الناشئ من اجتماع علّتين
مستقلّتين على معلولٍ واحد (حيث إنَّ هذا الاجتماع يؤدّي إلى صيرورة كلٍّ منهما
جزءَ العلّة) ؛ لأنّ هذا النقصان العرضيّ لا يضرّ بإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط.
الرابع
: ويفترض فيه أنّا
استفدنا العلّيّة على أساسٍ سابق ، فيقال في كيفية استفادة الانحصار : إنّه لو
كانت هناك علّة اخرى : فإمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ سبباً للحكم
، وإمّا أن يكون السبب هو الجامع بين العلّتين بدون دخلٍ لخصوصية كلٍّ منهما في
العلّة.
وكلاهما غير صحيح
:
أمّا الأول فلأنّ
الحكم موجود واحد شخصيّ في عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصيّ يستحيل أن تكون
له علّتان.
وأمّا الثاني
فلأنّ ظاهر الجملة الشرطية كون الشرط بعنوانه الخاصّ دخيلاً في الجزاء.
والجواب أنّ بالإمكان
اختيار الافتراض الأول ، ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين
متعدّدين في عالم التشريع : أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاصّ ، والآخر معلول
لعلّةٍ اخرى ، فالبيان المذكور إنّما يبرهن على عدم وجود علّةٍ اخرى لشخص الحكم لا
لشخصٍ آخر مماثل.
الخامس
: ويفترض فيه أيضاً أنّا
استفدنا العلّيّة على أساسٍ سابق ، فيقال في كيفية استفادة الانحصار : إنّ تقييد
الجزاء بالشرط على نحوين :
أحدهما : أن يكون
تقييداً بالشرط فقط.
والآخر : أن يكون
تقييداً به أو بعدلٍ له على سبيل البدل.
والنحو الثاني ذو
مؤونةٍ ثبوتيةٍ تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف العِدل ب (أو) ، فإطلاق الجملة
الشرطية بدون عطفٍ ب (أو) يعيّن النحو الأول.
وقد ذكر المحقّق
النائينيّ رحمهالله : أنّ هذا إطلاق في مقابل التقييد ب (أو) الذي يعني تعدّد
العلّة ، كما أنّ هناك إطلاقاً للشرط في مقابل التقييد بالواو الذي يعني كون الشرط
جزءَ العلّة ، وكون المعطوف عليه بالواو الجزء الآخر.
وكلّ هذه الوجوه
الخمسة تشترك في الحاجة إلى إثبات أنّ المعلّق على الشرط طبيعيّ الحكم ؛ وذلك
بالإطلاق وإجراء قرينة الحكمة في مفاد الجزاء.
والتحقيق : أنّ
الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطية : تارةً يكون بمعنى توقّف الجزاء على الشرط
، واخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه
__________________
للجزاء ، كما
عرفنا سابقاً .
فعلى الأول يتم
إثبات المفهوم بلا حاجةٍ إلى ما افترضه المحقّق النائينيّ رحمهالله من إطلاقٍ مقابلٍ للتقييد ب (أو) ؛ وذلك لأنّ الجزاء متوقف على الشرط بحسب
الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لمَا كان متوقّفاً عليه.
وعلى الثاني لا
يمكن إثبات الانحصار والمفهوم بما سمّاه الميرزا بالإطلاق المقابل ل (أو) ؛ لأنّ
وجود علّةٍ اخرى لا يضيّق من دائرة الربط الاستلزاميِّ بين الشرط والجزاء ، فلا
يكون العطف ب (أو) تقييداً لمِا هو مدلول الخطاب ليُنفى بالإطلاق ، بل إفادة
لمطلبٍ إضافي ، وليس كلّما سكت المتكلّم عن مطلبٍ إضافيٍّ أمكن نفيه بالإطلاق ، مالم
يكن المطلب المسكوت عنه مؤدِّياً إلى تضييقٍ وتقييدٍ في دائرة مدلول الكلام.
فالأولى من ذلك
كلّه أن يستظهر عرفاً كون الجملة الشرطية موضوعةً للربط بمعنى التوقّف والالتصاق
من قِبَل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.
وأمّا ما نحسّه من
عدم التجوّز في حالات عدم الانحصار فيمكن أن يفسَّر بتفسيراتٍ اخرى ، من قبيل أنّ
هذه الحالات لا تعني عدم استعمال الجملة الشرطية في الربط المذكور ، بل عدم إرادة
المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يثلم الإطلاق وقرينة الحكمة ،
ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :
يلاحظ في كلّ
جملةٍ شرطيةٍ تواجد ثلاثة أشياء ، وهي : الحكم ، والموضوع ، والشرط. والشرط تارةً
يكون أمراً مغايراً لموضوع الحكم في
__________________
الجزاء ، واخرى
يكون محقِّقاً لوجوده.
فالأول كما في
قولنا : (إذا جاء زيد فأكرمه) ، فإنّ موضوع الحكم زيد ، والشرط المجيء ، وهما
متغايران.
والثاني كما في
قولنا : (إذا رُزِقت ولداً فاختنه) ، فإنّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط
أن تُرزَق ولداً ، وهذا الشرط ليس مغايراً للموضوع ، بل هو عبارة اخرى عن تحقّقه
ووجوده.
ومفهوم الشرط ثابت
في الأول ، فكلّما كان الشرط مغايراً للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطية
على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.
وأمّا حالات الشرط
المحقّق للموضوع فهي [على] قسمين :
أحدهما : أن يكون
الشرط المحقِّق لوجود الموضوع هو الاسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال
الختان المتقدم.
والآخر : أن يكون
الشرط أحد أساليب تحقيقه ، كما في (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا) ، فإنّ مجيء
الفاسق بالنبأ عبارة اخرى عن إيجاد النبأ ، ولكنّه ليس هو الاسلوب الوحيد لإيجاده
؛ لأنّ النبأ كما يوجِده الفاسق يوجِده العادل أيضاً.
ففي القسم الأول
لا يثبت مفهوم الشرط ؛ لأنّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على
وجهٍ مخصوص ، فاذا كان الشرط عين الموضوع ومساوياً له فليس هناك في الحقيقة ربط
للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا : (إذا رزقت ولداً فاختنه) في قوّة قولنا
: (اختن ولدك).
وأمّا في القسم
الثاني فيثبت المفهوم ؛ لأنّ ربط الحكم بالشرط فيه أمر وراء ربطه بموضوعه ، فهو
تقييد وتعليق حقيقي. وليس قولنا : (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا) في قوة قولنا : (تبيّنوا
النبأ) ؛ لأنّ القول الثاني لا يختصّ بنبأ الفاسق ، بينما
الأول يختصّ به ،
وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه ، فيكون للجملة مفهوم.
مفهوم الوصف :
إذا تعلّق حكم
بموضوعٍ وانيط بوصفٍ في الموضوع ، كوصف العدالة الذي انيط به وجوب الإكرام في (أكرم
الفقير العادل) فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعيّ الحكم بوجوب الإكرام عن غير
العادل من الفقراء بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقاً لقاعدة
احترازية القيود؟
والجواب : أنّه
على مسلك المحقّق العراقي رحمهالله في إثبات المفهوم يفترض أنّ دلالة الجملة المذكورة على
الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وإنّما يتّجه البحث
إلى أنّ المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن أن نثبت كونه طبيعي الحكم
بالاطلاق وقرينة الحكمة ، أوْ لا؟
والصحيح : أنّه لا
يمكن ؛ لأنّ مفاد هيئة (أكرم) مقيّدة بمدلول المادة باعتباره طرفاً لها ، ومدلول
المادة مقيّد بالفقير ؛ لأنّ المطلوب إكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد
الشيء بوصفه. وينتج ذلك : أنّ مفاد هيئة (أكرم) هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام
يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف
انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة ـ وهذا واضح ـ لا انتفاء طبيعيّ
الحكم.
وأمّا إذا لم نأخذ
بمسلك المحقّق العراقي فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضاً منع دلالة الجملة الوصفية
على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف ، فإنّ
ربط مفاد أكرم بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديتين ؛ لأنّ مفاد هيئة
الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل ،
وهي مرتبطة بنسبةٍ
ناقصةٍ تقييديةٍ بالفقير ، وهذا مرتبط بنسبةٍ ناقصةٍ تقييديةٍ بالعادل. ولا يوجد
ما يدلّ على التوقّف والالتصاق ، لا بنحو المعنى الاسمي ، ولا بنحو المعنى الحرفي.
فالصحيح : أنّ
الجملة الوصفية ليس لها مفهوم. نعم ، لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند
الانتفاء بنحو السالبة الجزئية ؛ وفقاً لِمَا نبّهنا عليه في الحلقة السابقة .
مفهوم الغاية :
ومن الجمل التي
وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية ، من قبيل قولنا : (صُمْ إلى الليل) ، فيبحث عن
دلالته على انتفاء طبيعيّ وجوب الصوم بتحقّق الغاية ، ولا شكّ هنا في دلالة الجملة
على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ معنى الغاية يستبطن
ذلك ، فمسلك المحقّق العراقيّ في جملة الغاية واضح الصواب.
ومن هنا يتّجه
البحث إلى أنّ المغيّى هل هو طبيعيّ الحكم ، أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك
الخطاب؟ فعلى الأول يثبت المفهوم دونه على الثاني.
ولتوضيح المسألة
يمكننا أن نحوّل الغاية من مفهومٍ حرفيٍّ مُفادٍ بمثل (حتّى) أو (إلى) إلى مفهوم
اسميٍّ مُفادٍ بنفس لفظ (الغاية). فنقول تارةً : (وجوب الصوم مغيّىً بالغروب).
ونقول اخرى : (جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب) ، وبالمقارنة بين هذين
القولين نجد أنّ القول الأول يدلّ عرفاً على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّىً بالغروب
؛ لأنّ هذا هو مقتضى الإطلاق. فكما أنّ
__________________
قولنا : (الرّبا
ممنوع) يدلّ على أنّ طبيعيّ الرّبا ومطلقه ممنوع كذلك قولنا : (وجوب الصوم مغيّىً)
يدلّ على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّى ، فوجوب الصوم بمثابة الرّبا و (مغيّى)
بمثابة (ممنوع) ، فتجري قرينة الحكمة على نحوٍ واحد.
وأمّا القول
الثاني فلا يدلّ على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّىً بالغروب ، بل يدلّ على إصدار
وجوب مغيّىً بالغروب ، وهذا لا ينافي أنّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّىً بالغروب ،
فالقول الثاني ـ إذن ـ لا يثبت أكثر من كون الغروب غايةً لذلك الوجوب الذي تحدّث
عنه.
فإذا اتّضح هذا
يتبيّن أنّ إثبات مفهوم الغاية في المقام وأنّ المغيّى هو طبيعيّ الحكم يتوقّف على
أن تكون جملة (صُمْ إلى الغروب) في قوة قولنا : (وجوب الصوم مغيّىً بالغروب) ، لا
في قوة قولنا : (جعلت وجوباً للصوم مغيّىً بالغروب) ، ولا شكّ في أنّ الجملة المذكورة
في قوة القول الثاني لا الأول ، إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلاً وإبرازه بذلك
الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأول. فلا مفهوم للغاية إذن ، وإنّما
تدلّ الغاية على انتفاء شخص الحكم ، كما تدلّ على السالبة الجزئية التي كان الوصف
يدلّ عليها أيضاً ، كما تقدّم.
مفهوم الاستثناء :
ونفس ما تقدم في
الغاية يصدق على الاستثناء ، فإنّه لا شكّ في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن
المستثنى. ولكنّ المهمّ تحقيق أنّ المنفيّ عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل
هو طبيعيّ الحكم ، أو شخص ذلك الحكم؟
وهنا أيضاً لو
حوّلنا الاستثناء في قولنا : (يجب إكرام الفقراء إلاّالفساق) إلى مفهومٍ اسميٍّ
لوجدنا أنّ بالإمكان أن نقول تارةً : (وجوب إكرام الفقراء يستثنى منه الفساق) ،
وأن نقول اخرى : (جعل الشارع وجوباً لإكرام الفقراء
مستثنىً منه
الفساق).
والقول الأوّل
يدلّ على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم ،
فإن رجعت الجملة الاستثنائية إلى مفاد القول الأول كان لها مفهوم ، وإن رجعت إلى
مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الأصحّ ، كما مرّ في الغاية.
مفهوم الحصر :
لا شكّ في أنّ كلّ
جملةٍ تدلّ على حصر حكمٍ بموضوعٍ تدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الحصر يستبطن انتفاء
الحكم المحصور عن غير الموضوع المحصور به ، والحصر بنفسه قرينة على أنّ المحصور
طبيعيّ الحكم ، لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذٍ ؛ لأنّ حكم
الموضوع الخاصّ مختصّ بموضوعه دائماً. وما دام المحصور هو الطبيعيّ فمقتضى ذلك
ثبوت المفهوم ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، وإنّما الكلام في تعيين أدوات
الحصر : فمن جملة أدواته : كلمة (إنّما) فإنّها تدلّ على الحصر وضعاً بالتبادر
العرفي.
ومن أدواته : جعل
العامّ موضوعاً مع تعريفه ، والخاصّ محمولاً ، فيقال : (ابنك هو محمّد) بدلاً عن
أن نقول : (محمّد هو ابنك) ، فإنّه يدلّ عرفاً على حصر البنوّة بمحمد.
والنكتة في ذلك :
أنّ المحمول يجب أن يصدق ـ بحسب ظاهر القضية ـ على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ،
ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاصّ على العامّ إلاّبافتراض انحصار العامّ بالخاصّ.
٢ ـ الدليل الشرعي غير اللفظي
الدليل الشرعيّ
غير اللفظيِّ يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلٍّ منهما.
دلالات الفعل :
تقدّم منّا في
الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل أو الترك ، وأ نّه إن اقترن
بقرينةٍ فيتحدّد مدلوله على أساس تلك القرينة ، وإن وقع مجرّداً كان له بعض
الدلالات ، من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ،
ودلالة الإتيان به على وجهٍ عباديٍّ على مطلوبيته ، إلى غير ذلك.
إلاّأنّ الحكم
المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات ؛ لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ،
وإنما يثبت ذلك الحكم في كلّ حالةٍ مماثلةٍ لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل
كونها مؤثّرةً في ثبوت ذلك الحكم ،
__________________
على ما مرّ سابقاً
.
دلالات التقرير :
سكوت المعصوم عن
موقفٍ يواجهه يدلّ على إمضائه : إمّا على أساسٍ عقليٍّ باعتبار أنّه لو لم يكن
الموقف متّفقاً مع غرضه لكان سكوته نقضاً للغرض ، أو باعتبار أنّه لو لم يكن
الموقف سائغاً شرعاً لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه.
وإمّا على أساسٍ
استظهاريٍّ باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.
والموقف قد يكون
فردياً ، وكثيراً ما يتمثّل في سلوكٍ عامٍّ يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة
العقلائية ، ومن هنا كانت السيرة العقلائية دليلاً على الحكم الشرعي ، ولكن
لابذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وإمضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم
ردعه.
وفي هذا المجال
ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة :
أحدهما : السيرة
بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك : السيرة على تصرّفٍ معيّنٍ باعتباره الموقف الذي
ينبغي اتّخاذه واقعاً في نظر العقلاء ، سواء كان مرتبطاً بحكمٍ تكليفي ـ كالسيرة
على إناطة التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظياً ـ أو بحكمٍ وضعي ،
كالسيرة على التملّك بالحيازة في المنقولات.
والنوع الآخر :
السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ ، ونقصد
__________________
بذلك : السيرة على
تصرّفٍ معيّنٍ في حالة الشكّ في أمرٍ واقعيٍّ اكتفاءً بالظنّ مثلاً ، من قبيل
السيرة على الرجوع إلى اللغويِّ عند الشكّ في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد
سوى الظنّ ، أو السيرة على رجوع كلّ مأمورٍ في التعرّف على أمر مولاه إلى خبر
الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائية على الاكتفاء بالظنّ أو الاحتمال في مورد
الشكّ في الواقع.
أمّا النوع الأول
فيستدلّ به على أحكامٍ شرعيةٍ واقعية ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير
بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ من حاز يملك ، وهكذا ، ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه
، حيث إنّ الشارع لابدّ أن يكون له حكم تكليفيّ أو وضعيّ فيما يتعلّق بذلك التصرّف
، فإن لم يكن مطابقاً لما يفترضه العقلاء ويُجرُون عليه من حكمٍ كان على المعصوم
أن يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الإمضاء.
وأمّا النوع
الثاني فيستدلّ به عادةً على أحكامٍ شرعيةٍ ظاهرية ، كحكم الشارع بحجّية قول
اللغويّ ، وحجّية خبر الثقة ، وهكذا.
وفي هذا النوع قد
يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : أنّ التعويل على الأمارات
الظنّية ـ كقول اللغويِّ وخبر الثقة ـ له مقامان :
المقام
الأول : التعويل عليها
بصدد تحصيل الشخص لأغراضه الشخصية التكوينية ، من قبيل أن يكون لشخصٍ غرض في أن
يستعمل كلمةً معيّنةً في كتابه ، فيرجع إلى اللغويّ في فهم معناها ليستعملها في
الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظنّ الحاصل من قول اللغوي.
المقام
الثاني : التعويل عليها
بصدد تحصيل الشخص المأمور لمؤمِّنٍ أمام الآمر ، أو تحصيل الشخص الآمر لمنجّزٍ
للتكليف على مأموره ، من قبيل أن يقول
الآمر : (أكرم
العالم) ولا يدري المأمور أنّ كلمة (العالم) هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه ،
أوْ لا؟ فيرجع إلى قول اللغوي ؛ لتكون شهادته بالشمول منجِّزةً وحجّةً للمولى على
المكلف ، وشهادته بعدم الشمول معذِّرةً وحجّةً للمأمور على المولى.
وعلى هذا فبناء
العقلاء على الرجوع إلى اللغويِّ والتعويل على الظنّ الناشئ من قوله : إن كان
المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأول فهذا لا يعني حجّية قول اللغويّ بالمعنى
الاصولي ، أي المنجِّزية والمعذِّرية ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكون بالنسبة
إلى الأغراض التشريعية التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة إلى الأغراض التكوينية ،
فلا يمكن أن يستدلّ بالسيرة المذكورة على الحجِّية شرعاً.
وإن كان المقصود
بناء العقلاء في المقام الثاني فمن الواضح أنّ جعل شيءٍ منجِّزاً أو معذِّراً من
شأن المولى والحاكم ، لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول
اللغويِّ منجِّزاً ومعذِّراً إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمرٍ يجعل
قول اللغويِّ حجّةً في فهم المأمور لِمَا يصدر منه من كلامٍ بنحوٍ ينجِّز ويعذِّر.
وبعبارةٍ أشمل :
أنّ سيرة كلِّ عاقلٍ اتّجهت إلى أنّه إذا قُدِّر له أن يمارس حالةً آمريةً يجعل
قول اللغويِّ حجّةً على مأموره ، ومن الواضح أنّ السيرة بهذا المعنى لا تفوِّت على
الشارع الأقدس غرضه ، حتّى إذا لم يكن قد جعل قول اللغويِّ حجّةً ومنجِّزاً
ومعذِّراً بالنسبة إلى أحكامه ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولىً في نطاق
أغراضه التشريعية مع مأموريه ، ولا يهمّ الشارع الأغراض التشريعية للآخرين.
فكم فرقٍ بين سيرة
العقلاء على ملكية الحائز وسيرتهم على حجّية قول
اللغوي ؛ لأنَّ
السيرة الاولى تقتضي سلوكاً لا يُقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سبباً
للملكية.
وأمّا ما تقتضيه
السيرة الثانية من سلوكٍ فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغويّ منجِّز ومعذّر في
علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على أيِّ حال.
فإن قال قائل :
لماذا لا يفترض بناء العقلاء على أنّ قول اللغويّ حجّة بلحاظ كلّ حكمٍ وحاكمٍ
وأمرٍ وآمرٍ بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّاً بالشارع إذا لم يكن قد جعل
الحجّية لقول اللغوي؟
قلنا : إنّ كون
قول اللغويِّ منجِّزاً لحكمٍ أو معذِّراً عنه أمر لا يعقل جعله واتّخاذ قرارٍ به
إلاّمن قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره ومكلَّفه ، فكلّ أبٍ ـ مثلاً ـ قد
يجعل الأمارة الفلانية حجّةً بينه وبين أبنائه بلحاظ أغراضه التشريعية التي يطلبها
منهم ، ولا معنى لِأنْ يجعلها حجّةً بالنسبة إلى سائر الآباء الآخرين مع أبنائهم.
وهكذا يتّضح أنّ
الحجّية المتبانى عليها عقلائياً إنّما هي في حدود الأغراض التشريعية لأصحاب
البناء أنفسهم ، فلا يضرّ الشارع ذلك.
وليس بالإمكان
تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجّية بأفضل من القول بأنّها تمسّ الشارع ؛ لأنّها
توجب ـ على أساس العادة ـ الجريَ على طبقها حتّى في نطاق الأغراض التشريعية لمولىً
لم يساهم في تلك السيرة ، وتوحي ـ ولو ارتكازاً وخطأً ـ بأنّ مؤدّاها مورد
الاتّفاق من الجميع ، وبذلك تصبح مستدعيةً للردع على فرض عدم التوافق ، ويكون
السكوت عندئذٍ كاشفاً عن الإمضاء.
وبهذا نعرف أنّ
الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائية على الحجّية بمعناها
الاصوليّ (المنجِّزية
والمعذِّرية) أن تكون السيرة العقلائية في مجال التطبيق قد افترضت ارتكازاً اتّفاق
الشارع مع غيره في الحجّية ، وجرت في علاقتها مع الشارع على أساس هذا الافتراض ،
أو أن تكون على الأقلّ بنحوٍ يعرضها لهذا الافتراض والجري. وهذا معنىً قد يثبت في
السيرة العقلائية على العمل بالأمارات الظنّية في المقام الأول أيضاً ، أي في مجال
الأغراض الشخصية التكوينية ، فإنّها كثيراً ما تولِّد عادةً وذوقاً في السلوك يعرض
المتشرّعة بعقلائيتهم إلى الجري على طبق ذلك في الشرعيات أيضاً ، فلا يتوقّف إثبات
الحجّية بالسيرة على أن تكون السيرة جاريةً في المقام الثاني ومنعقدةً على الحجّية
بالمعنى الاصولي.
ومهما يكن الحال
فلا شكّ في أنّ معاصرة السيرة العقلائية لعصر المعصومين عليهمالسلام شرط في إمكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي ؛ لأنّ حجّيتها ليست بلحاظ
ذاتها ، بل بلحاظ استكشاف الإمضاء الشرعيِّ من التقرير وعدم الردع ، فلكي يتمّ هذا
الاستكشاف يجب أن تكون السيرة معاصرةً لظهور المعصومين عليهمالسلام ؛ لكي يدلّ سكوتهم على الإمضاء ، وأمّا السيرة المتأخّرة فلا يدلّ عدم الردع
عنها على الإمضاء ، كما تقدّم في الحلقة السابقة .
وأمّا كيف يمكن
إثبات أن السيرة كانت قائمةً فعلاً في عصر المعصومين فقد مرّ بنا البحث عن ذلك في
الحلقة السابقة .
إلاّأنّ اشتراط
المعاصرة إنّما هو في السيرة التي يراد بها إثبات حكمٍ
__________________
شرعيٍّ كلّي ،
والكشف بها عن دليلٍ شرعيٍّ على ذلك الحكم ، وهي التي كنّا نقصدها بهذا البحث
بوصفها من وسائل إثبات الدليل الشرعي.
[السيرة المحقّقة لصغرى الحكم الشرعي :]
ولكن هناك نحو آخر
من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعيّ على حكمٍ كلّي ، وإنّما يحقِّق صغرى لحكمٍ
شرعيٍّ كلّيٍّ قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة.
وإلى هذا النحو من
السيرة ترجع ـ على الأغلب ـ البناءات العقلائية التي يراد بها تحليل مرتكزات
المتعامِلَين ومقاصدهما النوعية في مقام التعامل بنحوٍ يحقِّق صغرى لأدلّة الصحة
والنفوذ في باب المعاملات.
ومثال ذلك : ما
يقال من انعقاد السيرة العقلائية على اشتراط عدم الغبن في المعاملة بنحوٍ يكون هذا
الاشتراط مفهوماً ضمناً وإن لم يصرَّح به ، وعلى هذا الأساس يثبت خيار الغبن
بالشرط الضمنيّ في العقد ، فإنّ السيرة العقلائيّة المذكورة لم تكشف عن دليلٍ
شرعيٍّ على حكمٍ كلّي ، وإنّما حقّقت صغرى لدليل «المؤمنون عند شروطهم» ، وكلّ سيرةٍ من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها على هذا
النحو أن تكون معاصرةً للمعصومين عليهمالسلام ؛ لأنّها متى ما وُجِدت أوجدت صغرى لدليلٍ شرعيٍّ ثابت ،
فيتمسّك بإطلاق ذلك الدليل لتطبيق الحكم على صغراه.
وهناك فوارق اخرى
بين السيرتين ، فإنّ السيرة التي يستكشف بها دليل شرعيّ على حكمٍ كلّيٍّ تكون
نتيجتها مُلزمةً حتّى لمن شذّ عن السيرة ، فلو فرض أنّ شخصاً لم يكن يرى ـ بما هو
عاقل ـ أنّ طيب نفس المالك كافٍ في جواز
__________________
التصرّف في ماله ،
وشذّ في ذلك عن عموم الناس كانت النتيجة الشرعية المستكشفة بسيرة عموم الناس
ملزمةً له ؛ لأنّها حكم شرعيّ كلّي.
وأمّا السيرة التي
تحقِّق صغرى لمفاد دليلٍ شرعيٍّ فلا تكون نتيجتها ملزمةً لمن شذّ عنها ؛ لأنّ
شذوذه عنها معناه أنّ الصغرى لم تتحقّق بالنسبة اليه ، فلا يجري عليه الحكم
الشرعي. ففي المثال المتقدّم لخيار الغبن إذا شذّ متعامِلان عن عرف الناس وبَنَيا
على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت غبنيةً لم يثبت لأيِّ واحدٍ منهما
خيار الغبن ؛ لأنّ هذا يعني عدم الاشتراط الضمني ، ومع عدم الاشتراط لا يشملهما
دليل «المؤمنون عند شروطهم» مثلاً.
٢ ـ الدليل الشرعي
إثباتُ
صغرى الدليل الشرعي
١ ـ وسائل الإثبات الوجدانيّ.
٢ ـ وسائل الإثبات التعبّديّ.
بعد أن تكلّمنا عن
الدلالات العامّة للدليل الشرعيِّ نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل
من الشارع ، وهي على نحوين :
أحدهما : وسائل
الإثبات الوجداني.
والآخر : وسائل
الإثبات التعبّدي.
فالكلام يقع في
قسمين :
القسم الأوّل
وسائل الإثبات الوجداني
تمهيد
المقصود بالإثبات
الوجداني : اليقين ، ولمّا كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة
إلينا كلُّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال ـ كالتواتر والإجماع ونحوهما على
ما تقدّم في الحلقة السابقة ـ فمن المناسب أن نتحدّث بإيجازٍ عن كيفية تكوّن اليقين
على أساس حساب الاحتمال.
فنقول : إنّ
اليقين ـ كما عرفنا في مباحث القطع ـ موضوعيّ وذاتي ، ونحن حينما نتكلّم عن حجّية
القطع بعد افتراض تحقّقه لا نفرِّق بين القسمين ، إذ نقول بحجّيتهما معاً ، كما
تقدّم . ولكن حينما نتكلّم عن الوسائل الموجِبة للإثبات والإحراز فمن المعقول أن
نهتمَّ بالتمييز بين أدوات اليقين الموضوعيِّ وغيرها ؛ ابتعاداً بقدر الإمكان عن
التورّط في غير اليقين الموضوعي.
واليقين الموضوعي
قد يكون أوّلياً ، وقد يكون مستنتَجاً ، واليقين
__________________
الموضوعيّ
المستنتَج بقضيةٍ مّا له سببان :
أحدهما
: اليقين الموضوعيّ
بقضيةٍ اخرى تتضمّن أو تستلزم تلك القضية ، ويكون الاستنتاج حينئذٍ قائماً على
أساس قياسٍ من الأقيسة المنطقية.
والآخر
: اليقين الموضوعيّ
بمجموعةٍ من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلاً القضية المستنتَجة ، ولكنّ كلّ
واحدةٍ منها تشكِّل قيمةً احتماليةً بدرجةٍ مّا لإثبات تلك القضية ، وبتراكم تلك
القيم الاحتمالية تزداد درجة احتمال تلك القضية حتّى يصبح احتمال نقيضها قريباً من
الصفر. وبسبب ذلك يزول لضآلته ، وكون الذهن البشريّ مخلوقاً على نحوٍ لا يحتفظ
باحتمالاتٍ ضئيلةٍ قريبةٍ من الصفر.
ومثال ذلك : أن
نشاهد اقتران حادثةٍ معيّنةٍ باخرى مرّاتٍ كثيرةً جدّاً ، فإنّ هذه الاقترانات
المتكرِّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين علّةً للُاخرى ، إذ قد
يكون اقترانهما صدفة ، ويكون للحادثة الاخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث إنّ من
المحتمل في كلِّ اقترانٍ أن لا يكون صدفةً وأن لا تكون هناك علّة غير منظورةٍ
فيعتبر كلّ اقترانٍ قرينةً احتماليةً على علّية إحدى الحادثتين للُاخرى ، وبتعدّد
هذه القرائن الاحتمالية يقوى احتمال العلّية حتّى يتحوّل إلى اليقين.
ونسمّي كلّ يقينٍ
موضوعيٍّ بقضيةٍ مستنتَجةٍ على أساس قياسٍ منطقيٍّ باليقين الموضوعيِّ الاستنباطي
، وكلّ يقينٍ موضوعيٍّ بقضيةٍ مستنتَجةٍ على أساس تراكم القرائن الاحتمالية باليقين
الموضوعيِّ الاستقرائي. والنتيجة في القياس مستبطنة دائماً في المقدمات ؛ لأنّها
إمّا أصغر منها ، أو مساوية لها. والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنةٍ في المقدّمات
التي تكوّن منها الاستقراء ؛ لأنّها أكبر وأوسع من مقدماتها.
والطرق التي تذكر
عادةً لإثبات الدليل الشرعيّ وإحرازه وجداناً من التواتر والإجماع والسيرة كلّها
من وسائل اليقين الموضوعيّ الاستقرائي ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
١ ـ التواتر
الخبر المتواتر من
وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي ، وقد عُرِّف في المنطق : بأ نّه إخبار
جماعةٍ كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبموجب هذا التعريف يمكن أن نستخلص أنّ
المنطق يفترض أنّ القضية المتواترة مستنتَجة من مجموع مقدمتين :
إحداهما بمثابة
الصغرى ، وهي تواجد عددٍ كبيرٍ من المخبِرين.
والاخرى بمثابة
الكبرى ، وهي أنّ كلَّ عددٍ من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وهذه الكبرى يفترض
المنطق أنّها عقلية ومن القضايا الأولية في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في
القضايا الضرورية الستّ التي تنتهي اليها كلّ قضايا البرهان.
وهذا التفسير
المنطقيّ للقضية المتواترة يشابه تماماً تفسير المنطق نفسه للقضية التجريبية التي
هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ عِلِّية الحادثة الاولى للحادثة
الثانية (التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالاولى في عددٍ كبيرٍ من
المرّات) مستنتَجة من مجموع مقدمتين :
إحداهما بمثابة
الصغرى ، وهي اقتران الحادثة الثانية بالاولى في عددٍ كبيرٍ من المرّات.
والاخرى بمثابة
الكبرى ، وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائمياً ، بمعنى أنّه يمتنع أن يكون هذا
الاقتران في كلّ هذه المرّات صدفةً ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة ، وهذه
الكبرى يعتبرها المنطق قضيةً عقليةً أوّلية ، ولا يمكن في رأيه أن تكون ثابتةً
بالتجربة ؛ لأنّها تشكِّل الكبرى لإثبات كلِّ قضيةٍ تجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون
هي بنفسها قضيةً تجريبيّة؟
وإذا دقّقنا النظر
وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضية المتواترة مردّها إلى نفس الكبرى التي
تعتمد عليها القضية التجريبية ، لأنّ كذب المخبر يعني افتراضَ مصلحةٍ شخصيةٍ
معيّنةٍ دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبِرين معناه افتراض أنّ
مصلحة المخبِر الأول في الإخفاء اقترنت صدفةً بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ،
والمصلحتان معاً اقترنتا صدفةً بمصلحة المخبِر الثالث في الشيء نفسه ، وهكذا ، على
الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضاً تكرّر الصدفة مرّاتٍ كثيرة.
وعلى هذا الأساس
أرجع المنطق الاستدلال على القضية التجريبيّة والقضية المتواترة إلى القياس
المكوّن من المقدّمتين المشار اليهما ، واعتقد بأنّ القضية المستدلَّة ليست بأكبر
من مقدماتها.
ولكنّ الصحيح :
أنّ اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعيّ استقرائي ، وأنّ الاعتقاد
بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصبٍّ واحد ، فإخبار كلّ مخبرٍ
قرينة احتمالية ، ومن المحتمل بطلانها ؛ لإمكان وجود مصلحةٍ تدعو المخبر إلى الكذب
، وكلّ اقترانٍ بين حادثتين قرينة احتمالية على العلّية بينهما ، ومن المحتمل
بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض وجود علّةٍ اخرى غير منظورةٍ هي السبب في
وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الاولى صدفة ، فاذا تكرّر الخبر
أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتمالية
وازداد احتمال
القضية المتواترة أو التجريبية ، وتناقص احتمال نقيضها حتى يصبح قريباً من الصفر
جدّاً ، فيزول تلقائياً لضآلته الشديدة. ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم
ليست في الحقيقة إلاّقضيةً تجريبية أيضاً.
ومن هنا نجد أنّ
حصول اليقين بالقضية المتواترة والتجريبية يرتبط بكلِّ ما له دخل في تقوية القرائن
الاحتمالية نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينةٍ احتماليةٍ أقوى وأوضح كان حصول اليقين
من تجمّع القرائن الاحتمالية أسرع.
وعلى هذا الأساس
نلاحظ أنّ مفردات التواتر إذا كانت إخباراتٍ يبعد في كلّ واحدٍ منها احتمال
الاستناد إلى مصلحةٍ شخصيةٍ تدعو إلى الإخبار بصورةٍ معيّنةٍ ـ إمّا لوثاقة
المخبِر أو لظروفٍ خارجيةٍ ـ حصل اليقين بسببها بصورةٍ أسرع.
وكذلك الحال في
الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ؛ فإنّه كلّما كان احتمال وجود علّةٍ غير
منظورةٍ أضعف كانت الدلالة الاحتمالية لكلّ اقترانٍ على العلّية أقوى ، وبالتالي
يكون اليقين بالعلّية أسرع وأرسخ ، وليس ذلك إلاّلأنّ اليقين في المتواترات
والتجريبيّات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية
المتعدِّدة في مصبٍّ واحد ، وليس مشتقّاً من قضيةٍ عقليةٍ أوّليّةٍ كتلك الكبرى
التي يفترضها المنطق.
الضابط للتواتر :
والضابط في
التواتر : الكثرة العدديّة ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل
بسببها اليقين بالقضية المتواترة ؛ لأنّ ذلك يتأثّر بعوامل موضوعيّةٍ مختلفةٍ
وعوامل ذاتيةٍ أيضاً.
أمّا العوامل
الموضوعيّة :
فمنها : نوعية
الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.
ومنها : تباعد
مسالكهم وتباين ظروفهم ، إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم
جميعاً في كون هذا الإخبار الخاصّ ذا مصلحةٍ شخصيةٍ داعيةٍ اليه بالنسبة إلى جميع
اولئك المخبِرين ـ على مابينهم من اختلافٍ في الظروف ـ أبعدَ بحساب الاحتمال.
ومنها : نوعية
القضية المتواترة ، وكونها مألوفةً أو غريبة لأنّ غرابتها في نفسها تشكّل عاملاً
عكسياً.
ومنها : درجة
الاطّلاع على الظروف الخاصّة لكلِّ شاهدٍ بالقدر الذي يبعِّد أو يقرِّب بحساب
الاحتمال افتراض مصلحةٍ شخصيةٍ في الإخبار.
ومنها : درجة وضوح
المدرَك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيةٍ حسّيةٍ مباشرةٍ ـ كنزول المطر
وقضيةٍ ليست حسّية ، وإنّما لها مظاهر حسّية ، كالعدالة ؛ وذلك لأنّ نسبة الخطأ في
المجال الأول أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال
الأوّل أسرع.
إلى غير ذلك من
العوامل التي يقوم تأثيرها إيجاباً أو سلباً على أساس دخلها في حساب الاحتمال
وتقويم درجته.
وأمّا العوامل
الذاتية :
فمنها : طباع
الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ، فإنّ هناك حدّاً
أعلى من الضآلة لا يمكن لأيّ ذهنٍ بشريٍّ أن يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه ، مع
الاختلاف بالنسبة إلى ماهو أكبر من الاحتمالات.
ومنها : المبتنيات
القبليّة التي قد تُوقف ذهن الإنسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال ، وإن لم تكن
إلاّوهماً خالصاً لا منشأ موضوعياً له.
ومنها : مشاعر الإنسان
العاطفية التي قد تزيد أو تنقص من تقويمه للقرائن الاحتمالية ، أو من قدرته على
التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعاً للتفاعل
معه إيجاباً أو
سلباً.
تعدّد الوسائط في التواتر :
إذا كانت القضية
الأصلية المطلوب إثباتها ليست موضعاً للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ،
وإنّما هي منقولة بواسطة شهاداتٍ اخرى ـ كما هو الغالب في الروايات ـ فلابدّ من
حصول أحد أمرين ليتحقّق ملاك التواتر :
أحدهما
: أن تكون كلّ
واحدةٍ من تلك الشهادات الاخرى موضوعاً للإخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ
التواتر في كلّ حلقة.
والآخر
: أن تبدأ عملية
تجميع القرائن الاحتمالية على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتمالية للخبر غير
المباشر ، فتلحظ القيمة الاحتمالية لقضيةٍ يشهد شخص بوجود شاهدٍ بها ، وتجمع مع
قيمٍ احتماليةٍ مماثلة ، وهكذا حتّى يحصل الإحراز الوجداني.
وهذا طريق صحيح ،
غير أنّه يكلِّف افتراض عددٍ أكبر من الشهادات غير المباشرة ؛ لأنّ مفردات الجمع
أصغر قيمةً منها في حالة الشهادات المباشرة.
أقسام التواتر :
إذا واجهنا عدداً
كبيراً من الأخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :
الحالة
الاولى : أن لا يوجد بين
المدلولات الخبرية مشترك يخبر الجميع عنه ، كما إذا جمعنا بطريقةٍ عشوائيةٍ مائة
روايةٍ من مختلف الأبواب ، وفي هذه الحالة من الواضح أنّ كلّ واحدٍ من تلك
المدلولات لا يثبت بالتواتر ، وإنّما يقع الكلام في إثبات أحدها على سبيل العلم
الإجماليّ لكي تُرتَّب عليه آثار العلم الإجمالي.
والتحقيق في ذلك :
أنّ قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّاً ؛ لوجود مضعِّفٍ وهو عدد الاحتمالات التي
ينبغي أن تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع ، وكلّما كانت
عوامل الضرب كسوراً تضاءلت نتيجة الضرب تبعاً لزيادة تلك العوامل ، وهذا مانسمّيه
بالمضعِّف الكمّي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلاً جدّاً ، ويحصل في المقابل
اطمئنان بصدق واحدٍ على الأقل ، ولكنّ هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحوّل إلى يقينٍ
بسبب الضآلة.
ووجه الاستحالة : أنّنا
نعلم إجمالاً بوجود مائة خبرٍ كاذبٍ في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي
التقطناها تشكّل طرفاً من أطراف ذلك العلم الإجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم
الإجماليّ عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على أيّ مائةٍ اخرى تجمع بشكلٍ آخر ،
فلو كان المضعِّف الكمّي وحده يكفي لإفناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّ
مائةٍ نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الإجمالي ، وهو خلف.
وهكذا نعرف أنّ
درجة احتمال صدق واحدٍ من الأخبار على الأقلّ تبقى اطمئناناً ، وحجّية هذا
الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائية على العمل بالاطمئنان ، وهل
تشمل الاطمئنان الإجماليّ المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه ، أوْ لا؟ إذ قد
يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الإجمالية.
الحالة
الثانية : أن يوجد بين
المدلولات الخبرية جانب مشترك يشكِّل مدلولاً تحليلياً لكلّ خبرٍ : إمّا على نسق
المدول التضمّني ، أو على نسق المدلول الالتزامي مع عدم التطابق في المدلول
المطابقي بكامله ، كالإخبارات عن قضايا متغايرةٍ ولكنّها تتضمّن جميعاً مظاهر من
كرم حاتم مثلاً.
ولا شكّ هنا في
وجود المضعِّف الكمّي الذي رأيناه في الحالة السابقة ،
يضاف اليه مضعِّف
آخر ، وهو : أنّ افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحةٍ شخصيةٍ لدى كلّ مخبرٍ دعته
إلى الإخبار بذلك النحو. وهذه المصالح الشخصية إن كانت كلّها تتعلّق بذلك الجانب
المشترك فهذا يعني أنّ هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم
اتّفق صدفةً أن كانت لهم مصالح متماثلة تماماً.
وإن كانت تلك
المصالح الشخصية تتعلّق بالنسبة إلى كلّ مخبرٍ بكامل المدلول المطابقي فهذا يعني أنّها
متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعِّف الكيفي ؛
يضاف إلى ذلك المضعِّف الكمّي. ولهذا نجد أنّ قوة الاحتمال التي تحصل في هذه
الحالة أكبر منها في الحالة السابقة.
والاحتمال القويّ
هنا يتحوّل إلى يقينٍ بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم من ذلك أن ينطبق هذا على
كل مائة خبرٍ نجمعها ؛ لأنّ المضعِّف الكيفيّ المذكور لا يتواجد إلاّفي مائةٍ
تشترك ولو في جانبٍ من مدلولاتها الخبرية.
الحالة
الثالثة : أن تكون الإخبارات
مشتركةً في المدلول المطابقي بالكامل ، كما إذا نقل المخبِرون جميعاً أنّهم شاهدوا
قضيةً معيّنةً من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعِّف الكمّي والمضعِّف
الكيفي معاً ، ولكنّ المضعِّف الكيفي هنا أشدّ قوّةً منه في الحالة السابقة ؛ وذلك
لأنّ مصالح الناس المختلِفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها في محورٍ أضيق كان ذلك
أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات ؛ لِمَا بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف
والأحوال ، فكيف أدّت مصلحة كلّ واحدٍ منهم إلى نفس ذلك المحور الذي أدّت إليه
مصلحة الآخرين؟
هذا من ناحية ،
ومن ناحيةٍ اخرى : إذا كان الكلّ ينقلون واقعةً واحدةً بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم
جميعاً أبعد ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدةً بينها
جانب مشترك.
وفي هذه الحالة
كلّما كان التوحّد في المدلول أوضح والتطابق في الخصوصيات بين إخبارات المخبِرين
أكمل كان احتمال الصدق أكبر والمضعِّف الكيفي أقوى أثراً ، ومن هنا كان اشتمال كلّ
خبرٍ على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدِّياً إلى تزايد احتمال
الصدق بصورةٍ كبيرة.
ومن أهمّ أمثلة
ذلك : التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما إذا نقل الجميع كلاماً لشخصٍ بلفظٍ
واحد ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : هل اتّفق أن كانت للجميع مصلحة في إبراز نفس
الألفاظ بعينها مع إمكان أداء المعنى نفسه بألفاظٍ اخرى ، أو كان هذا التطابق في
الألفاظ عَفْوياً وصدفةً؟ وكلّ ذلك بعيد بحساب الاحتمالات ، ومن هنا نستكشف أنّ
هذا التطابق ناتج عن واقعية القضية وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.
وعلى ضوء ما
ذكرناه يتّضح الوجه في أقوائية التواتر اللفظيّ من المعنوي ، والمعنويّ من
الإجمالي ، كما هو واضح.
٢ ـ الإجماع
الإجماع يبحث عن
حجّيته في إثبات الحكم الشرعي : تارةً على أساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخّل
الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف.
واخرى على أساس قيام
دليلٍ شرعيٍّ على حجّية الإجماع ولزوم التعبّد بمفاده ، كما قام على حجّية خبر
الثقة والتعبّد بمفاده.
وثالثةً على أساس
إخبار المعصوم وشهادته بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ،
كما في الحديث
المدّعى : «لا تجتمع امّتي على خطأ» .
ورابعةً باعتباره
كاشفاً عن دليلٍ شرعي ؛ لأنّ المجمعين لا يفتون عادةً إلاّ بدليل ، فيستكشف
بالإجماع وجود الدليل الشرعيّ على الحكم الشرعي.
والفارق بين
الأساس الرابع لحجّية الإجماع والاسس الثلاثة الاولى : أنّ الإجماع على الاسس
الاولى يكشف عن الحكم الشرعيّ مباشرةً ، وأمّا على الأساس الرابع فيكشف عن وجود
الدليل الشرعيّ على الحكم.
والبحث عن حجّية
الإجماع على الاسس الثلاثة الاولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعيّ على
الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى
الدليل الشرعي ، ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.
وقد قسَّم
الاصوليون الملازمة ـ كما نلاحظ في الكفاية وغيرها ـ إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بحثوا عن تحقّق أيّ واحدٍ منها
بين الإجماع والدليل الشرعي ، وهي : الملازمة العقلية ، والعادية ، والاتّفاقية ،
ومثّلوا للُاولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتّفاق
آراء المرؤوسين على شيءٍ ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض
وصدقه.
والتحقيق : أنّ
الملازمة دائماً عقلية ، والتقسيم الثلاثيّ لها مردّه في الحقيقة
__________________
إلى تقسيم الملزوم
لا الملازمة ، فإنّ الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سمّيت
الملازمة (عقلية) ، كالملازمة بين النار والحرارة. وإذا كان الملزوم الشيء المنوط
بظروفٍ متواجدةٍ فيه غالباً وعادةً سمّيت الملازمة (عادية). وإذا كان الملزوم
الشيء المنوط بظروفٍ قد يتّفق وجودها فالملازمة (اتّفاقية).
والصحيح : أنّه لا
ملازمة بين التواتر وثبوت القضية فضلاً عن الإجماع ، وهذا لا ينفي أنّنا نعلم
بالقضية القائلة : (كلّ قضيةٍ ثبت تواترها فهي ثابتة) ؛ لأنّ العلم بأنّ المحمول
لا ينفكّ عن الموضوع غير العلم بأ نّه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، والتلازم يعني
الثاني ، وما نعلمه هو الأول على أساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال
المخالف لضآلته ، لا لقيام برهانٍ على امتناع محتمله عقلاً.
فالصحيح : ربط كشف
الإجماع بنفس التراكم المذكور وفقاً لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر على
فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها أخباراً حدسيّة ، ومفردات التواتر بوصفها أخباراً
حسّية ، وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة .
وتقوم الفكرة في
تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقادٍ للدليل
الشرعيّ عادةً ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل
فيه الإصابة والخطأ معاً ، وبقدر احتمال الإصابة يشكِّل قرينةً احتماليةً لصالح
إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الاحتمالية لإثبات الدليل الشرعيِّ
بدرجةٍ كبيرةٍ تتحوّل بالتالي إلى يقينٍ لتضاؤل احتمال الخلاف.
__________________
ويستفاد من كلام
المحقّق الإصفهانيِ رحمهالله الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعيِّ من الإجماع بالنقطتين
التاليتين :
الاولى
: أنّ غاية ما
يتطلّبه افتراض أنّ الفقهاء لايفتون بدون دليلٍ أن يكونوا قد استندوا إلى روايةٍ
عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في إثبات الحكم وحجّيتها سنداً ، وليس من الضروريِّ أن
تكون الرواية في نظرنا لو اطّلعنا عليها ظاهرةً في نفس ما استظهروه منها ، كما أنّه
ليس من الضروريِّ أن يكون اعتبار الرواية سنداً عند المجمعين مساوقاً لاعتبارها
كذلك عندنا ، إذ قد لا نبني إلاّعلى حجّية خبر الثقة ، ويكون المجمعون قد عملوا
بالرواية لبنائهم على حجّية الحَسن أو الموثّق.
الثانية
: أنّ أصل كشف
الإجماع عن وجود روايةٍ خاصّةٍ دالّةٍ على الحكم ليس صحيحاً ؛ لأنّنا إن كنّا نجد
في مصادر الحديث روايةً من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها ؛ لا بالإجماع ، ولابدّ من
تقييمها بصورةٍ مباشرة. وإن كنا لا نجد شيئاً من هذا فلا يمكن أن نفترض وجود رواية
، إذ كيف نفسِّر حينئذٍ عدم ذكر أحدٍ من المجمعين لها في شيءٍ من كتب الحديث أو
الاستدلال ؛ مع كونها هي الأساس لفتواهم ، على الرغم من أنّهم يذكرون من الأخبار
حتّى مالا يستندون اليه في كثيرٍ من الأحيان؟!
ولنبدأ بالجواب
على النقطة الثانية ، فنقول : إنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر
الغيبة المتقدِّمِين لا نريد به أن نكتشف روايةً على النحو الذي فرضه المعترض لكي
يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريباً ، وإنمّا نكتشف به ـ في حالة عدم وجود
مستندٍ لفظيٍّ محدَّدٍ للمجمعين ـ ارتكازاً ووضوحاً في الرؤية متلقّىً من الطبقات
السابقة على اولئك الفقهاء والمتقدِّمِين ؛
__________________
لأنّ تلقِّي هذا
الارتكاز والوضوح هو الذي يفسِّر حينئذٍ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدِّمِين ،
على الرغم من عدم وجود مستندٍ لفظيٍّ مشخّصٍ بأيديهم.
وهذا الارتكاز
والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمّة عليهمالسلام يكشف عادةً عن وجود مبرِّراتٍ كافيةٍ في مجموع السنّة التي عاصروها من قولٍ
وفعلٍ وتقرير أوحت اليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ،
إذ لا يفترض تلقّي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة روايةً محدّدةً وعدم إشارتهم
اليها ، وإنّما تلقّوا جوّاً عامّاً من الاقتناع والارتكاز الكاشف ، فمن الطبيعيّ
أن لا تذكر رواية بعينها.
وعلى هذا الضوء
يتّضح الجواب على النقطة الاولى أيضاً ؛ لأنّ المكتشَف بالإجماع ليس روايةً
اعتياديةً ليُعترَض باحتمال عدم تماميتها سنداً أو دلالة ، بل هذا الجوّ العامّ من
الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي.
وجوهر النكتة في
المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة والدليل
الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة
الحديث وأمثالهم من معاصري الأئمّة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقيّ عن الدليل
الشرعي. ولهذا فإنّ أيّ بديلٍ للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه
يؤدّي نفس دور الإجماع ، فاذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفةٍ أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين
للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدةً على الالتزام بحكمٍ
معيّن كفى ذلك في إثبات هذا الحكم.
وقد سبق عند
الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما ينفع
__________________
في مجال تشخيص بعض
هذه القرائن.
الشروط المساعدة على كشف الإجماع :
وعلى أساس ما
عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعيِّ بالإجماع وتسلسلها ، يمكن أن نذكر الامور
التالية كشروطٍ أساسيةٍ لكشف الإجماع عن الدليل الشرعيّ بالطريقة المتقدّمة الذكر
، أو مساعدة على ذلك :
الأول
: أنْ يكون الإجماع
من قبل المتقدّمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتّصل عهدهم بعهد الرواة وحملة
الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين ، لأنّ هؤلاء هم الذين يمكن أن يكشفوا عن
ارتكاز عامٍّ لدى طبقة الرواة ومن اليهم ، دون الفقهاء المتأخّرين.
الثاني
: أن لا يكون
المجمعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرّحوا بمدركٍ محدَّدٍ لهم ، بل أن لا يكون
هناك مدرك معيّن من المحتمل استناد المجمعين إليه ، وإلاّ كان المهمّ تقييم ذلك
المدرك. نعم ، في هذه الحالة قد يشكِّل استناد المجمعين إلى المدرك المعيّن قوةً
فيه ، ويكمل ما يبدو من نقصه.
ومثال ذلك : أن
يثبت فهمُ معنىً معيَّنٍ للرواية من قبل كلّ الفقهاء المتقدّمين القريبين من عصر
تلك الرواية والمتاخمين لها ، فإنّ ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في
ذلك المعنى ؛ نظراً لقرب اولئك من عصر النصّ وإحاطتهم بكثيرٍ من الظروف المحجوبة
عنّا.
الثالث
: أن لا توجد قرائن
عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمّة عليهمالسلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللَذَين يراد اكتشافهما عن طريق إجماع
الفقهاء المتقدمين ، والوجه في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف
ودور الوسيط المشار اليه فيه.
الرابع
: أن تكون المسألة
من المسائل التي لا مجال لتلقّي حكمها عادةً إلاّ من قبل الشارع ، وأمّا إذا كان
بالإمكان تلقّيه من قاعدةٍ عقليةٍ ـ مثلاً ـ أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد
حكمها من عموم دليلٍ أو إطلاقٍ فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.
مقدار دلالة الإجماع :
لمَّا كان كشف
الإجماع قائماً على أساس تجمّع أنظار أهل الفتوى على قضيةٍ واحدةٍ اختصّ بالمقدار
المتّفق عليه ، ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الإجماع إلاّبالنسبة
لمورد الخاصّ. ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضية المهملة أقوى دائماً
من كشفه عن الإطلاقات التفصيلية للحكم ؛ وذلك لأنّا عرفنا سابقاً أنّ كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في
طبقة الرواة ومن إليهم ، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد أنّ احتمال
وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبياً من احتمال
خطئهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز ، فإنّ الارتكاز بحكم كونه قضيةً معنويةً غير
منصبَّةٍ في ألفاظٍ محدَّدةٍ قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.
الإجماع البسيط والمركَّب :
يُقسَّم الإجماع
إلى بسيطٍ ومركّب :
فالبسيط : هو
الاتّفاق على رأيٍ معيّنٍ في المسألة.
__________________
والمركّب : هو
انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوهٍ أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث
ثابتاً بالإجماع المركّب.
وما تقدّم من
الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط ، وأمّا المركّب من الإجماع فإن افترضنا
أنّ كلّ فقيهٍ من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورةٍ مستقلّةٍ عن تبنّيه
لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على نفي الثالث. وإن افترضنا أنّ
نفي الوجه الثالث عند كلّ فقيهٍ كان مرتبطاً بإثبات ما تبنّاه من رأيٍ فهذا هو
الإجماع المركّب على نفي الثالث ، ولا حجّيّة فيه ؛ لأنّ حجّيته إنّما هي باعتبار
كشفه الناشئ من تجمّع القيم الاحتمالية لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطأ عند
أحد الفريقين المتنازعين ، فلا يمكن أن تدخل القيم الاحتمالية كلّها في تكوين
الكشف للإجماع المركّب ؛ لأنّها متعارضة في نفسها ، كما هو واضح.
٣ ـ الشُهرة
كلمة (الشهرة)
بمعنى الذيوع والوضوح لغةً ، وتضاف في علم الاصول إلى الحديث تارةً ، وإلى الفتوى
اخرى.
ويراد بالشهرة في
الحديث : تعدّد رواة الحديث بدرجةٍ دون التواتر.
ويراد بالشهرة في
الفتوى : انتشار الفتوى المعيّنة بين الفقهاء وشيوعها بدرجةٍ دون الإجماع.
ونحن إذا حدّدنا
التواتر تحديداً كيفيّاً بالتعدّد الواصل إلى درجةٍ موجبة للعلم ـ ولو بمعنىً يشمل
الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الحديث ـ التي فرض فيها أن تكون دون التواتر
ـ درجة الظنّ ، والخبر الظنّي ليس من وسائل
الإحراز الوجدانيّ
للدليل الشرعي ، بل يحتاج ثبوت حجّيته إلى التعبّد الشرعي ، كما يأتي .
وإذا حدّدنا
الإجماع تحديداً كيفياً بتعدّد المفتين إلى درجةٍ موجبةٍ للعلم ـ ولو بمعنىً يشمل
الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى ـ التي فرض فيها أن تكون دون الإجماع
ـ درجة الظنّ بالدليل الشرعي ، وهو ليس كافياً ما لم يقم دليل على التعبّد
بحجّيته.
وإذا حدّدنا
الإجماع تحديداً كمّيّاً عددياً باتّفاق مجموعة الفقهاء كان معنى الشهرة في الفتوى
تطابقَ الجزء الأكبر من هذه المجموعة : إمّا مع عدم وجود فكرةٍ عن آراء الآخرين ،
أو مع الظنّ بموافقتهم أيضاً ، أو مع العلم بخلافهم.
والشهرة بهذا
المعنى قد تدخل في الإجماع بالتحديد الكيفيّ المتقدّم ، وتوجب إحراز الدليل
الشرعيّ بحساب الاحتمال ، وهو أمر يختلف من موردٍ إلى آخر. كما أنّ إحراز مخالفة
البعض يعيق عن الكشف القطعيّ للشهرة بدرجةٍ تختلف تبعاً لنوعية البعض وموقعه
ولخصوصياتٍ اخرى.
ثمّ إنّ في الشهرة
في الفتوى بحثاً آخر في حجّيتها الشرعية تعبّداً ، وهذا خارج عن محلّ الكلام ،
وإنّما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.
__________________
القسم الثاني
وسائل الإثبات التعبّدي
وأهمّ ما يذكر في
هذا المجال عادةً خبر الواحد ، وهو كلّ خبرٍ لا يفيد العلم ، ولا شكّ في أنّه ليس
حجّةً على الإطلاق وفي كلّ الحالات ، ولكنّ الكلام في حجّية بعض أقسامه ، كخبر
الثقة مثلاً. والكلام يقع على مرحلتين :
المرحلة الاولى :
في اثبات حجّية خبر الواحد على نحو القضية المهملة.
المرحلة الثانية :
في تحديد دائرة هذه الحجّية وشروطها.
المرحلة الاولى
في إثبات أصل حجّية الأخبار
والمشهور بين
العلماء هو المصير إلى حجّية خبر الواحد. وقد استدلّ على الحجّية بالكتاب الكريم
والسنّة والعقل.
١ ـ [دلالة الكتاب على حجّية الخبر] :
أمّا ما استدلّ به
من الكتاب الكريم فآيات :
منها : آية النبأ
، وهي قوله : (إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى ما
فَعَلْتُمْ نَادِمينَ) .
ويمكن الاستدلال
بها بوجهين :
الوجه
الأوّل : أن يستدلّ بمفهوم
الشرط فيها على أساس أنّها تشتمل على جملةٍ شرطيةٍ تربط الأمر بالتبيّن عن النبأ
بمجيء الفاسق به ، فينتفي بانتفائه ، وهذا يعني عدم الأمر بالتبيّن عن النبأ في
حالة مجيء العادل به ، وبذلك تثبت حجّية نبأ العادل ؛ لأنّ الأمر بالتبيّن الثابت
في منطوق الآية : إِمّا أن يكون إرشاداً إلى عدم الحجّية ، وإمّا أن يكون إرشاداً
إلى كون التبيّن شرطاً في جواز العمل بخبر الفاسق ، وهو ما يسمّى بالوجوب الشرطي ،
كما تقدّم في مباحث الأمر .
فعلى الأول يكون
نفيه بعينه معناه الحجّية. وعلى الثاني يعني نفيه أنّ جواز
__________________
العمل بخبر العادل
ليس مشروطاً بالتبيّن ، وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبيّن ـ وهو معنى
الحجّة ـ ويلائم عدم جواز العمل به حتى مع التبيّن ؛ لأنّ الشرطية منتفية في كلتا
الحالتين. ولكنّ الثاني غير محتمل ؛ لأنّه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ،
ولأ نّه يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي ؛ نظراً إلى أنّ الخبر بعد تبيّن صدقه
يكون قطعياً ، فيتعيّن الأول ، وهو المطلوب.
ويوجد اعتراضان
مهمّان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام :
أحدهما
: أنّ الشرط في
الجملة مسوق لتحقّق الموضوع ، وفي مثل ذلك لا يثبت للجملة الشرطية مفهوم.
والتحقيق : أنّ
الموضوع والشرط في الجملة الشرطية المذكورة يمكن تصويرهما بأنحاء :
منها : أن يكون
الموضوع طبيعيّ النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به.
ومنها : أن يكون
الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيئه به ، فكأ نّه قال : نبأ الفاسق إذا جاءكم به
فتبيّنوا.
ومنها : أن يكون
الموضوع الجائي بالخبر ، والشرط فسقه ، فكأ نّه قال : الجائي بالخبر إذا كان
فاسقاً فتبيّنوا.
ولا شكّ في ثبوت
المفهوم في النحو الأخير ؛ لعدم كون الشرط حينئذٍ محقِّقاً للموضوع. كما لا شكّ في
عدم المفهوم في النحو الثاني ؛ لأنّ الشرط حينئذٍ هو الاسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع.
وأمّا في النحو
الأول فالظاهر ثبوت المفهوم وإن كان الشرط محقِّقاً للموضوع ؛ لعدم كونه هو
الاسلوب الوحيد لتحقيقه ، وفي مثل ذلك يثبت المفهوم ، كما تقدم توضيحه في مبحث
مفهوم الشرط .
__________________
والظاهر من الآية
الكريمة هو النحو الأول ، فالمفهوم إذن ثابت.
والاعتراض
الآخر : يتلخّص فى محاولة
لإبطال المفهوم عن طريق عموم التعليل بالجهالة الذي يقتضي إسراء الحكم المعلّل إلى
سائر موارد عدم العلم.
ويجاب على هذا
الاعتراض بوجوه :
أحدها
: أنّ المفهوم
مخصِّص لعموم التعليل ؛ لأنّه يثبت الحجّية لخبر العادل غير العلمي ، والتعليل
يقتضي عدم حجّية كلّ ما لا يكون علمياً ، فالمفهوم أخصّ منه.
ويرد عليه : أنّ
هذا إنّما يتمّ إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ، ثمّ عارض عموماً من العمومات
فإنّه يخصِّصه. وأمّا في المقام فلا ينعقد للكلام ظهور في المفهوم ؛ لأنّه متّصل
بالتعليل ، وهو صالح للقرينية على عدم انحصار الجزاء بالشرط ، ومعه لا ينعقد
الظهور في المفهوم لكي يكون مخصِّصاً.
ثانيها
: أنّ المفهوم حاكم
على عموم التعليل على ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله ؛ وذلك لأنّ مفاده حجّية خبر العادل ، وحجّيته معناها ـ على
مسلك جعل الطريقية ـ اعتباره علماً ، والتعليل موضوعه الجهل وعدم العلم ، فباعتبار
خبر العادل علماً يخرج عن موضوع التعليل ، وهو معنى كون المفهوم حاكماً.
ويرد عليه : أنّه
إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علماً فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن
خبر الفاسق. وعليه فالتعليل يكون ناظراً إلى توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه على
كلِّ مالا يكون علمياً ، فكأنّ التعليل يقول : إنّ كلّ ما لا يكون علماً وجداناً
لا أعتبره علماً. وبهذا يكون مفاد التعليل ومفاد المفهوم في رتبةٍ واحدةٍ ؛ أحدهما
يثبت اعتبار خبر العادل علماً ، والآخر ينفي هذا الاعتبار ،
__________________
ولا موجب لحكومة
أحدهما على الآخر.
ثالثها
: ما ذكره المحقّق
الخراسانيّ رحمهالله من أنّ الجهالة المذكورة في التعليل ليست بمعنى عدم العلم
، بل بمعنى السفاهة والتصرّف غير المتّزن ، فلا يشمل خبر العادل الثقة ؛ لأنّه ليس
سفاهةً ولا تصرّفاً غير متّزن.
الوجه
الثاني : أن يستدلّ بمفهوم
الوصف ، حيث انيط وجوب التبيّن بفسق المخبر ، فينتفي بانتفائه. ومفهوم الوصف :
تارةً يستدلّ به في المقام بناءً على ثبوت المفهوم للوصف عموماً ، وتارةً يستدلّ
به لامتيازٍ في المقام ، حتّى لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد اخرى.
وذلك بأن يقال :
إنّ مقتضى قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبيّن بانتفاء الفسق ،
وعليه فوجوب التبيّن عن خبر العادل إن اريد به شمول شخص ذلك الوجوب له فهو خلاف
القاعدة المذكورة. وإن اريد به شخص آخر من وجوب التبيّن مجعول على عنوان خبر
العادل فهذا غير محتمل ؛ لأنّ معناه : أنّ خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في
وجوب التبيّن هذا ، وهو غير محتملٍ ، فإنّ وجوب التبيّن : إمّا أن يكون بملاك مطلق
الخبر ، أو بملاك كون المخبر فاسقاً ، ولا يحتمل دخل عدالة المخبِر في جعل وجوبٍ
للتبيّن.
أمّا اللحاظ الأول
للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه إنكار المفهوم للوصف ، خصوصاً في حالة ذكر الوصف
بدون ذكر الموصوف.
وأمّا اللحاظ
الثاني للاستدلال فجوابه : أنّ وجوب التبيّن ليس حكماً مجعولاً ، بل هو تعبير آخر
عن عدم الحجّية ، ومرجع ربطه بعنوانٍ إلى أنّ ذلك العنوان لا يقتضي الحجّية ، فلا
محذور في أن يكون خبر العادل موضوعاً لوجوب
__________________
التبيّن بهذا
المعنى ؛ لأنّ موضوعيّته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم موضوعيّته للحجّية.
ومنها : آية النفر
، وهي قوله سبحانه وتعالى : (فَلَولَا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهمْ يَحْذَرون) .
وتقريب الاستدلال
بها يتمّ من خلال الامور التالية :
أوّلاً
: أنّها تدلّ على
وجوب التحذّر لوجوه :
أحدها : أنّه وقع
مدخولاً لأداة الترجّي الدالّة على المطلوبية في مثل المقام ، ومطلوبية التحذّر
مساوقة لوجوبه ؛ لأنّ الحذر إن كان له مبرِّر فهو واجب ، وإلاّ لم يكن مطلوباً.
ثانيها : أنّ
التحذّر وقع غايةً للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة.
ثالثها : أنّه
بدون افتراض وجوب التحذّر يصبح الأمر بالنفر والإنذار لغواً.
ثانياً
: أنّ التحذّر واجب
مطلقاً ، سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أوْ لا ؛ لأنّ الوجوه المتقدّمة لإفادته
تقتضي ثبوته كذلك.
ثالثاً
: أنّ وجوب التحذّر
حتى مع عدم حصول العلم لدى السامع مساوق للحجّية شرعاً ، إذ لو لم يكن إخبار
المنذر حجّةً شرعاً لمَا وجب العمل به إلاّفي حال حصول العلم منه.
وقد يناقش في
الأمر الأول بوجوهه الثلاثة ، وذلك بالاعتراض على أوّل تلك الوجوه : بأنّ الأداة
مفادها وقوع مدخولها موقع الترقّب لا الترجّي ، ولذا قد يكون مدخولها مرغوباً عنه
، كما في قوله : «لعلّك عن بابك طردتني».
والاعتراض على
ثاني تلك الوجوه : بأنّ غاية الواجب ليست دائماً واجبة ،
__________________
وإن كانت محبوبةً
حتماً ، ولكن ليس من الضروري أن يتصدّى المولى لإيجابها ، بل قد يقتصر في مقام
الطلب على تقريب المكلّف نحو الغاية ؛ وسدّ بابٍ من أبواب عدمها ، وذلك عند وجود
محذورٍ مانعٍ عن التكليف بها وسدّ كلّ أبواب عدمها ، كمحذور المشقّة وغيره.
والاعتراض على
ثالث تلك الوجوه : بأنّ الأمر بالنفر والإنذار ليس لغواً مع عدم الحجّية التعبّدية
؛ لأنّه كثيراً مّا يؤدّي إلى علم السامع فيكون منجِّزاً ، ولمَّا كان المُنذِر
يحتمل دائماً ترتّب العلم على إنذاره ، أو مساهمة إنذاره في حصول العلم ولو لغير
السامع المباشر فمن المعقول أمره بالإنذار مطلقاً.
وهذه المناقشة إذا
تمّت جزئياً فلا تتمّ كلّياً ؛ لأنّ دلالة كلمة (لعلّ) على المطلوبية غير قابلةٍ
للإنكار. وكون مفادها الترقّب وإن كان صحيحاً ولكنّ كونه ترقّبَ المحبوب أو ترقّب
المخوف يتعيّن بالسياق ، ولا شكّ في تعيين السياق في المقام للأول.
وقد يناقش في
الأمر الثاني ـ بعد تسليم الأول ـ : بأنّ الآية الكريمة لا تدلّ على إطلاق وجوب
التحذّر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذِر ، وذلك لوجهين :
أحدهما
: أنّ الآية لم
تُسَقْ من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذّر لنتمسّك بإطلاقها لإثبات وجوبه على كلّ
حال ، وإنّما هي مسوقة لإفادة وجوب الإنذار ، فيثبت بإطلاقها أنّ وجوب الإنذار
ثابت على كلّ حال ، وقد لا يوجب المولى التحذّر إلاّعلى من حصل له العلم ، ولكنّه
يوجب الإنذار على كلّ حال ، وذلك احتياطاً منه في مقام التشريع ؛ لعدم تمكّنه من
إعطاء الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الإنذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.
والوجه
الآخر : ما يدّعى من وجود
قرينةٍ في الآية على عدم الإطلاق ؛ لظهورها في تعلّق الإنذار بما تفقّه فيه
المنذِر في هجرته ، وكون الحذر المطلوب
مترقّباً عقيب هذا
النحو من الإنذار ، فمع شكّ السامع في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لإثبات
مطلوبية الحذر.
ويمكن النقاش في
الأمر الثالث : بأنّ وجوب التحذّر مترتّب على عنوان الإنذار ، لا مجرّد الإخبار ،
والإنذار يستبطن وجود خطرٍ سابق ، وهذا يعني أنّ الإنذار ليس هو المنجِّز
والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع الحجّية له ، وإنّما هو مسبوق بتنجّز الأحكام
في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي ، أو الشكّ قبل الفحص.
هذا ، مضافاً إلى
أنّ تنجّز الأحكام الإلزامية بالإخبار غير القطعيّ لا يتوقّف على جعل الحجّية
للخبر شرعاً بناءً على مسلك حقّ الطاعة ، كما هو واضح.
٢ ـ دلالة السنّة على حجّية الخبر
وأمّا السنّة
فهناك طريقان لإثباتها :
أحدهما
: الأخبار الدالّة
على الحجّية ، ولكي يصحَّ الاستدلال بها على حجّية خبر الواحد لابدّ أن تكون قطعية
الصدور ، وتذكر في هذا المجال طوائف عديدة من الروايات ، والظاهر أنّ كثيراً منها
لا يدلّ على الحجّية.
وفي ما يلي نستعرض
بإيجازٍ جُلَّ هذه الطوائف ليتّضح الحال :
الطائفة
الاولى : ما دلّ على
التصديق الواقعيِّ ببعض روايات الثقات ، من قبيل ما ورد عن العسكري عليهالسلام عندما عرض عليه كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبدالرحمان ، إذ قال : «هذا ديني
ودين آبائي ، وهو الحقّ كلّه» .
وهذا مردّه إلى
الإخبار عن المطابقة للواقع ، وهو غير الحجّية التعبّدية التي
__________________
تجعل عند الشكّ في
المطابقة.
الطائفة
الثانية : ما تضمّن الحثّ
على تحمّل الحديث وحفظه ، من قبيل قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من حفظ على امّتي أربعين حديثاً بعثه الله فقيهاً
عالماً يوم القيامة» .
وهذا لايدلّ على
الحجّية أيضاً ، إذ لا شكّ في أنّ تحمّل الحديث وحفظه من أهمّ المستحبّات ، بل من
الواجبات الكفائية ؛ لتوقّف حفظ الشريعة عليه ، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول
تعبّداً مع الشكّ.
ومثل ذلك ما دلّ
على الثناء على المحدّثين ، أو الأمر بحفظ الكتب ، والترغيب في الكتابة .
الطائفة
الثالثة : ما دلّ على الأمر
بنقل بعض النكات والمضامين ، من قبيل قول أبي عبدالله عليهالسلام : «يا أبان ، إذا قدمت الكوفة فاروِ هذا الحديث ...» .
والصحيح : أنّ
الأمر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تمامية الحجّة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين
، ولا يتوقّف على افتراض الحجّية التعبّدية.
الطائفة
الرابعة : ما دلّ على أنّ
انتفاع السامع بالرواية قد يكون أكثر من انتفاع الراوي ، من قبيل قولهم : «فربَّ
حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه» .
ونلاحظ : أنّ هذه
الطائفة ليست في مقام بيان أنّ النقل يثبت المنقول للسامع تعبّداً ، وإلاّ لكان
الناقل دائماً من هذه الناحية أفضل حالاً من السامع ؛ لأنّ
__________________
الثبوت لديه
وجداني ، بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن توضِّح أنّ المهمَّ ليس حفظ
الألفاظ ، بل إدراك المعاني واستيعابها ، وفي ذلك قد يتفوّق السامع على الناقل.
الطائفة
الخامسة : ما دلّ على ذمّ
الكذب عليهم ، والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن خبر الواحد مقبولاً
لمَا كان هناك أثر للكذب ليستحقّ التحذير.
والصحيح : أنّ
الكذب كثيراً مّا يوجب اقتناع السامع خطأً ، وإذا افترض في مجال العقائد واصول
الدين كفى في خطره مجرّد إيجاد الاحتمال والظنّ. فاهتمام الأئمّة عليهمالسلام بالتحذير من الكاذب لا يتوقّف على افتراض الحجّية التعبّدية.
الطائفة
السادسة : ما ورد في الإرجاع
إلى آحادٍ من أصحاب الأئمة بدون إعطاء ضابطةٍ كلّيةٍ للإرجاع ، من قبيل إرجاع
الإمام إلى زرارة بقوله : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» .
أو قول الإمام
الهادي عليهالسلام : «فاسأل عنه عبدالعظيم بن عبدالله الحسني واقرأه منّي
السلام» .
وروايات الإرجاع
التي هي من هذا القبيل لمَّا كانت غير متضمّنةٍ للضابطة الكلّية فلا يمكن إثبات
حجّية خبر الثقة بها مطلقاً ، حتّى في حالة احتمال تعمّد الكذب ، إذ من الممكن أن
يكون إرجاع الإمام بنفسه معبِّراً عن ثقته ويقينه بعدم تعمّد الكذب ما دام إرجاعاً
شخصياً غير معلَّل.
__________________
الطائفة
السابعة : ما دلّ على ذمّ من
يطرح ما يسمعه من حديثٍ بمجرّد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله عليهالسلام : «وأسوأهم عندي حالاً وأمقتهم الذي يسمع الحديث يُنسب الينا ويروى عنا فلم
يقبله ، اشمئزَّ منه وجحده ، وكفَّر من دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا
خرج ، وإلينا اسند» .
إذ قد يقال : لولا
حجّية الخبر لمَا استحقّ الطارح هذا الذمّ.
والجواب : أنّه
استحقّه على الاعتماد على الذوق والرأي في طرح الرواية بدون تتبّعٍ وإعمالٍ
للموازين ، وعلى التسرّع بالنفي والإنكار ، مع أنّ مجرّد عدم الحجّية لا يسوِّغ
الإنكار والتكفير.
الطائفة
الثامنة : ما ورد في الخبرين
المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلولا أنّ خبر الواحد
حجّة لمَا كان هناك معنىً لفرض التعارض بين الخبرين وإعمال المرجّحات بينهما.
ونلاحظ : أنّ دليل
الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدوراً إذا تعارضا ، فلا يتوقّف تعقّله على
افتراض الحجّية التعبّدية.
الطائفة
التاسعة : ما ورد في الخبرين
المتعارضين من الترجيح بالأوثقيّة ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر وقوّة الظنّ
بصدوره ، وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الطائفة السابقة.
ولا يمكن هنا حمل
هذا الدليل على الحديثين القطعيّين ؛ لأنّ الأوثقيّة لا أثر لها فيهما ما دام كلّ
منهما مقطوع الصدور.
__________________
الطائفة
العاشرة : ما دلّ بشكلٍ وآخر
على الإرجاع إلى كلّيِّ الثقة : إمّا ابتداءً ، وإمّا تعليلاً للإرجاع إلى أشخاصٍ معيّنين على نحوٍ يفهم منه الضابط الكلّي ، وهذه الطائفة هي أحسن
مافي الباب.
وفي روايات هذه
الطائفة مالا يخلو من مناقشةٍ أيضاً ، من قبيل قوله : «فإنّه لا عذر لأحدٍ من
موالينا في التشكيك في ما روى عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأ نّنا نفاوضهم بسرّنا ،
ونحمله إيّاهم اليهم» .
فإنّ عنوان ثقاتنا
أخصّ من عنوان الثقات ، ولعلّه يتناول خصوص الأشخاص المعتمَدِين شخصياً للإمام
والمؤتمنين من قِبَله ، فلا يدلّ على الحجّية في نطاقٍ أوسع من ذلك.
وفي روايات هذه
الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد ابن عيسى ، قال : قلت
لأبي الحسن الرضا عليهالسلام : جعلت فداك ، إنّي لا أكاد أصل إليك لأسألك عن كلّ ما
أحتاج اليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبدالرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من
معالم ديني؟ فقال : «نعم» .
ولمّا كان المرتكز
في ذهن الراوي أنّ مناط التحويل هو الوثاقة وأقرّه الإمام على ذلك دلّ الحديث على
حجّية خبر الثقة.
غير أنّ عدد
الروايات التامّة دلالةً على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر ؛ لأ نّه عدد
محدود. نعم ، قد تُبذل عنايات في تجميع ملاحظاتٍ توجب الاطمئنان
__________________
الشخصيَّ بصدور
بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سندها ، ونحو ذلك.
والطريق
الآخر لإثبات السنّة هو
السيرة ، وذلك بتقريبين :
الأول
: الاستدلال بسيرة
المتشرِّعة من أصحاب الأئمّة على العمل بأخبار الثقات ، وقد تقدّم في الحلقة
السابقة بيان الطريق لإثبات هذه السيرة ، كما تقدّم كيفية استكشاف
الدليل الشرعيّ عن طريق السيرة ، سواء كانت سيرة اولئك المتشرِّعة على ما ذكرناه
بوصفهم الشرعي ، أو بما هم عقلاء.
الثاني
: الاستدلال بسيرة
العقلاء على التعويل على أخبار الثقات ، وذلك أنّ شأن العقلاء ـ سواء في مجال
أغراضهم الشخصية التكوينية ، أو في مجال الأغراض التشريعية وعلاقات الآمرين
بالمأمورين ـ العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه ، وهذا الشأن العامّ للعقلاء يوجب
قريحةً وعادةً لو تُرك العقلاء على سجيّتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع ،
ولعوَّلوا على أخبار الثقات في تعيين أحكامه. وفي حالةٍ من هذا القبيل لو أنّ
الشارع كان لا يقرّ حجّية خبر الثقة لتعيَّن عليه الردع عنها حفاظاً على غرضه ،
فعدم الردع حينئذٍ معناه التقرير ومؤدّاه الإمضاء.
والفارق بين
التقريبين : أنّ التقريب الأول يتكفّل مؤونة إثبات جري أصحاب الأئمة فعلاً على
العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثاني لا يدّعي ذلك ، بل يكتفي بإثبات المَيل
العقلائيِّ العامِّ إلى العمل بخبر الثقة ، الأمر الذي يفرض على الشارع الردع عنه
ـ على فرض عدم الحجّية ـ لئلاّ يتسرّب هذا المَيل إلى مجال الشرعيات.
وهناك اعتراض
يواجه الاستدلال بالسيرة ، وهو : أنّ السيرة مردوع عنها
__________________
بالآيات الناهية
عن العمل بالظنّ الشاملة بإطلاقها لخبر الواحد.
وتوجد عدّة أجوبةٍ
على هذا الاعتراض :
الجواب
الأول : ما ذكره المحقّق
النائينيّ رحمهالله من : أنّ السيرة حاكمة على تلك الآيات ؛ لأنّها تخرج خبر
الثقة عن الظنّ وتجعله عِلماً بناءً على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجّية.
ونلاحظ على ذلك :
أولاً
: أنّه إذا كان معنى
الحجّية جعل الأمارة علماً كان مفاد الآيات النافية لحجّية غير العلم نفيَ جعلها
علماً ، وهذا يعني أنّ مدلولها في عرض مدلول ما يدلّ على الحجّية ، وكلا المدلولين
موضوعهما ذات الظنّ ، فلا معنى لحكومته المذكورة.
ثانياً
: أنّ الحاكم إن كان
هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول ؛ لأنّ الحاكم يوسِّع موضوع الحكم أو
يضيِّقه في الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه أو تضييقه
، ولا معنى لِأَنْ يوسِّع العقلاء أو يضيّقوا حكماً مجعولاً من قبل غيرهم.
وإن كان الحاكم
الموسِّع والمضيِّق هو الشارع بإمضائه للسيرة فهذا يعني أنّه لابدّ لنا من العلم
بالإمضاء لكي نحرز الحاكم. والكلام في أنّه كيف يمكن إحراز الإمضاء مع وجود
النواهي المذكورة الدالّة على عدم الحجّية؟
الجواب
الثاني : ما ذكره صاحب
الكفاية رحمهالله من : أنّ الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول
؛ لأنّه دور. وبيانه : أنّ الردع بالعمومات عنها
__________________
يتوقّف على حجّية
تلك العمومات في العموم ، وهذه الحجّية تتوقّف على عدم وجود مخصِّصٍ لها ، وعدم
وجود مخصِّصٍ يتوقّف على كونها رادعةً عن السيرة ، وإِلاّ لكانت مخصَّصةً بالسيرة
ولسقطت حجّيتها في العموم.
والجواب على ذلك :
أنّ توقف الردع بالعمومات على حجّيتها في العموم صحيح ، غير أنّ حجّيتها كذلك لا
تتوقّف على عدم وجود مخصِّص لها ، بل على عدم إحراز المخصِّص ، وعدم إحراز
المخصِّص حاصل فعلاً مادامت السيرة لم يعلم بإمضائها ، فلا دور.
الجواب
الثالث : ما ذكره المحقّق
الإصفهاني من : أنّ ظهور العمومات المدّعى ردعها لا دليل على حجّيته
؛ لأنّ الدليل على حجّية الظهور هو السيرة العقلائية ، ومع انعقادها على العمل
بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ؛ لأنّ العمل
بالمتناقضين غير معقول.
وهذا الجواب غريب
؛ لأنّ انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى
بالظهور وتنجّزه بذلك ، وهذا لا ينافي استقرار عملٍ آخر لهم على خلاف ما تنجَّز
بالظهور ، فالعمل العقلائيّ بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ،
ولا ينافي نفس بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفاً وحجّة.
فالصحيح في الجواب
أن يقال : إنّه إن ادُّعي كون العمومات رادعةً عن سيرة المتشرِّعة المعاصرين
للمعصومين من صحابةٍ ومحدِّثين فهذا خلاف الواقع ؛ لأ نّنا أثبتنا في التقريب
الأول أنّ هذه السيرة كانت قائمةً فعلاً على الرغم من تلك العمومات ، وهذا يعني أنّها
لم تكن كافيةً للردع وإقامة الحجّة.
__________________
وإن ادُّعي كونها
رادعةً عن السيرة العقلائية بالتقريب الثاني فقد يكون له وجه. ولكنّ الصحيح مع هذا
عدم صلاحيتها لذلك أيضاً ؛ لأنّ مثل هذا الأمر المهمّ لا يكتفى في الردع عنه عادةً
بإطلاق دليلٍ من هذا القبيل.
٣ ـ دلالة العقل على حجّية الخبر
وأمّا دليل العقل
فله شكلان :
أ
ـ الشكل الأول : ويتلخّص في الاستدلال على حجّية الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات من
الرواة بالعلم الإجمالي.
وبيانه : أنّا
نعلم إجمالاً بصدور عددٍ كبيرٍ من هذه الروايات عن المعصومين عليهمالسلام
، والعلم
الإجماليّ منجِّز بحكم العقل كالعلم التفصيلي ؛ على ما تقدّم في حلقةٍ سابقة ، فتجب موافقته القطعية ، وذلك بالعمل بكلّ تلك الروايات
التي يعلم إجمالاً بصدور قسطٍ وافرٍ منها.
وقد اعترض على هذا
الدليل باعتراضين :
الأول
: نقضيّ ، وحاصله : أنّه
لو تمّ هذا لأمكن بنفس الطريقة إثبات حجّية كلّ خبرٍ حتّى أخبار الضعاف ؛ لأنّنا
إذا لاحظنا مجموع الأخبار بما فيها الأخبار الموثّقة وغيرها نجد أنّا نعلم إجمالاً
أيضاً بصدور عددٍ كبيرٍ منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكلّ تلك الأخبار تطبيقاً
لقانون منجِّزية العلم الإجمالي؟
والجواب على هذا
النقض : ما ذكره صاحب الكفاية من انحلال أحد
__________________
العلمين
الإجماليّين بالآخر ؛ وفقاً لقاعدة انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم
الإجماليّ الصغير ـ المتقدّمة في الحلقة السابقة ـ إذ يوجد لدينا علمان إجماليّان :
الأول : العلم
الذي ابرز من خلال هذا النقض ، وأطرافه كلّ الأخبار.
والثاني : العلم
المستدلّ به ، وأطرافه أخبار الثقات.
ولانحلال علمٍ
إجماليٍّ بعلمٍ إجماليٍّ ثانٍ وفقاً للقاعدة التي أشرنا اليها شرطان ، كما تقدَّم في محلّه :
أحدهما : أن تكون
أطراف الثاني بعض أطراف الأول.
والآخر : أن لا
يزيد المعلوم بالأول عن المعلوم بالثاني ، وكلا الشرطين منطبقان في المقام ، فإنّ
العلم الإجماليّ الثاني في المقام ـ أي العلم المستدلّ به على الحجّية ـ أطرافه
بعض أطراف العلم الأول الذي ابرز في النقض ، والمعلوم في الأول لا يزيد على
المعلوم فيه ، فينحلّ الأول بالثاني وفقاً للقاعدة المذكورة.
الثاني
: جواب حَلِّي ،
وحاصله : أنّ تطبيق قانون تنجيز العلم الإجماليّ لا يحقِّق الحجّية بالمعنى
المطلوب في المقام ، وذلك :
أوّلاً
: لأنّ هذا العلم لا
يوجب لزوم العمل بالأخبار المتكفِّلة للأحكام الترخيصية ؛ لأنّ العلم الإجماليّ
إنّما يكون منجِّزاً وملزماً في حالة كونه علماً إجمالياً بالتكليف لا بالترخيص ،
بينما الحجّية المطلوبة هي حجّية خبرالثقة ،
__________________
بمعنى كونه
منجِّزاً إذا أنبأ عن التكليف ، ومعذِّراً إذا أنبأ عن الترخيص.
وثانياً
: لأنّ العمل بأخبار
الثقات على أساس العلم الإجماليّ إنّما هو من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة
بالإجمال. ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يسوِّغ أن يجعل خبر الثقة مخصِّصاً لعامٍّ
أو مقيِّداً لمطلقٍ في دليلٍ قطعيِّ الصدور ، فإنّ التخصيص والتقييد معناه رفع
اليد عن عموم العام ، أو إطلاق المطلق في دليلٍ قطعيِّ الصدور ومعلوم الحجّية.
ومن الواضح أنّه
لا يجوز رفع اليد عمّا هو معلوم الحجّية إلاّبحجّيةٍ اخرى تخصيصاً أو تقييداً ،
فما لم تثبت حجّية خبر الثقة لا يمكن التخصيص بها أو التقييد. فإذا ورد مطلق قطعيّ
الصدور يدلّ على الترخيص في اللحوم مثلاً ، وورد خبر ثقةٍ على حرمة لحم الأرنب لم
يكن بالإمكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر مالم تثبت حجّيته بدليلٍ
شرعي.
اللهمّ إلاّأن
يقال : إنّ مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصية في الأدلّة القطعية الصدور يعلم
إجمالاً بطروّ التخصيص والتقييد عليها ، فإذا لم تثبت حجّية خبر الثقة بدليلٍ
خاصٍّ فسوف لن نستطيع أن نعيِّن مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها
جميعاً ؛ تنفيذاً لقانون تنجيز العلم الإجمالي. وبهذا ننتهي إلى طرح إطلاق ما دلّ
على حلّية اللحوم في المثال ، والتقيّد احتياطاً بما دلّ على حرمة لحم الأرنب
مثلاً. وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التي ينتهى اليها عن طريق التخصيص والتقييد.
ب
ـ الشكل الثاني للدليل العقلي : ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهو ـ لو تمّ ـ يثبت حجّية الظنّ
بدون اختصاصٍ بالظنّ الناشئ من الخبر ، فيكون دليلاً على حجّية مطلق الأمارات
الظنّية ، بما في ذلك أخبار الثقات ، وقد بُيِّن ضمن مقدمات :
الاولى
: أنّا نعلم إجمالاً
بتكاليف شرعيةٍ كثيرةٍ في مجموع الشبهات ، ولابدّ من التعرّض لامتثالها بحكم تنجيز
العلم الإجمالي.
الثانية
: أنّه لا يوجد طريق
معتبر ـ لا قطعيّ وجدانيّ ولا تعبّديّ قام الدليل الشرعيّ الخاصّ على حجّيته ـ يمكن
التعويل عليه في تعيين مواطن تلك التكاليف ومحالّها ، وهذا ما يعبَّر عنه بانسداد
باب العلم والعلمي.
الثالثة
: أنّ الاحتياط
بالموافقة القطعية للعلم الإجماليِّ المذكور في المقدّمة الاولى غير واجب ؛ لأنّه
يؤدِّي إلى العسر والحرج ؛ نظراً إلى كثرة أطراف العلم الإجمالي.
الرابعة
: أنّه لا يجوز
الرجوع إلى الاصول العملية في كلّ شبهةٍ بإجراء البراءة ونحوها ؛ لأنّ ذلك على
خلاف قانون تنجيز العلم الإجمالي.
الخامسة
: أنّه ما دام لا
يجوز إهمال العلم الإجمالي ، ولا يتيسّر تعيين المعلوم الإجماليّ بالعلم والعلمي ،
ولا يراد منّا الاحتياط في كلّ واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع إلى الاصول العملية
فنحن إذن بين أمرين :
إمّا أن نأخذ بما
نظنّه من التكاليف ونترك غيرها ، وإمّا أن نأخذ بغيرها ونترك المظنونات. والثاني
ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن الأول. وبهذا يثبت حجّية الظنّ بما في ذلك
أخبار الثقات.
ونلاحظ على هذا
الدليل :
أولاً
: أنّه يتوقّف على
عدم قيام دليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ على حجّية خبر الثقة ، وإلاّ كان باب العلميِّ
مفتوحاً وأمكن بأخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالإجمال ، فكأنّ دليل
الانسداد يُنتهى اليه حيث لا يحصل الفقيه على أيّ دليلٍ شرعيٍّ خاصّ يدلّ على
حجّية بعض الأمارات الشائعة.
وثانياً
: أنّ العلم
الإجماليَّ المذكور في المقدمة الاولى منحلّ بالعلم
الإجماليِّ في
دائرة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات ، كما تقدّم . والاحتياط التامّ في حدود هذا العلم الإجماليِّ ليس فيه
عسر ومشقّه.
وثالثاً
: أنّا إذا سلَّمنا
عدم وجوب الاحتياط التامّ ـ لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج ـ فهذا إنّما يقتضي رفع
اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج ، مع
الالتزام بوجوب سائر مراتبه ؛ لأنّ الضرورات تُقدَّر بقدرها ، فيكون الأخذ
بالمظنونات حينئذٍ باعتباره مرتبةً من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجّية
الظن؟
اللهمَّ إلاّأن يُدّعى
قيام الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس
الاحتياط ، فاذا ضُمَّت هذه الدعوى أمكن أن نستكشف حينئذٍ أنّه جعل الحجّية للظنّ.
وقد تلخّص من
استعراض أدلّة الحجّية : أنّ الاستدلال بآية النبأ تامّ ، وكذلك بالسنّة الثابتة
بطريقٍ قطعي ، كسيرة المتشرِّعة والسيرة العقلائية.
__________________
المرحلة الثانية
في تحديد دائرة حجّية الأخبار
ونأتي الآن إلى
المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجِّية وشروطها.
والتحقيق في ذلك :
أنّ مدرك حجِّية الخبر إن كان مختصّاً بآية النبأ فهو لا يثبت سوى حجّية خبر
العادل خاصّة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل. وأمّا إذا لم يكن المدرك مختصّاً
بذلك وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضاً ـ على ما تقدم ـ فلا شكّ في وفاء
السيرة والروايات بإثبات الحجِّية لخبر الثقة ؛ ولو لم يكن عادلاً.
ومن هنا قد توقع
المعارضة بالعموم من وجهٍ بين ما دلّ على حجِّية خبر الثقة الشامل بإطلاقه للثقة
الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدالّ بإطلاقه على عدم حجّية خبر الفاسق ولو كان ثقة.
وقد يقال حينئذٍ
بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجّية خبر الثقة الفاسق ، إذ لم يتمَّ
الدليل على حجّيته.
ولكنّ الصحيح : أنّه
لا إطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ؛ لأنّ التعليل بالجهالة يوجب
اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهةً ، وهذا يختصّ بخبر غير الثقة ،
فلا تعارض إذن ، وبذلك يثبت حجّية خبر الثقة دون غيره.
وهل يسقط خبر
الثقة عن الحجِّية إذا وجدت أمارة ظنّية نوعية على كذبه؟ وهل يرتفع خبر غير الثقة
إلى مستوى الحجّية إذا توفّرت أمارة من هذا القبيل على صدقه؟ فيه بحث وكلام ، وقد
تقدّم موجز عن تحقيق ذلك
في الحلقة السابقة
.
ولا شكّ في أنّ
أدلّة حجِّية خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسيّ المبنيّ على النظر
والاستنباط ، وإنّما تختصّ بالخبر الحسِّيِّ المستند إلى الإحساس بالمدلول ،
كالإخبار عن نزول المطر ، أو الإحساس بآثاره ولوازمه العرفية ، كالإخبار عن
العدالة.
وعلى هذا فقول
المفتي ليس حجّةً على المفتي الآخر بلحاظ أدلّة حجِّية خبر الثقة ؛ لأنّ إخباره
بالحكم الشرعيِّ ليس حسّياً ، بل حدسياً واجتهادياً. نعم ، هو حجّة على مقلّديه
بدليل حجِّية قول أهل الخبرة والذكر.
ومن أجل ذلك يقال
بأنّ الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتّفاق عددٍ معيّنٍ من
العلماء على الفتوى ، فأخبر بقول المعصوم استناداً إلى اتّفاق ذلك العدد لم يكن
إخباره حجّةً في إثبات قول المعصوم ؛ لأنّه ليس إخباراً حسّياً عنه ، وإنّما يكون
حجّةً في إثبات اتّفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى ـ إذا لم يعلم منه التسامح
عادةً في مثل ذلك ـ لأنّ إخباره عن اتّفاق هذا العدد حسّي ، فإن كان اتّفاق هذا
العدد يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه ، وإلاّ فلا.
وعلى هذا الأساس
نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّه كان يقال عادةً : إنّ نقل الإجماع حجّة
في إثبات الحكم الشرعي ؛ لأنّه نقل بالمعنى لقول المعصوم وإخبار عنه.
وقد اعترض على ذلك
المحقِّقون المتأخِّرون : بأ نّه ليس نقلاً حسّياً لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسيّ
مبنيّ على ما يراه الناقل من كشف اتّفاق الفتاوى
__________________
التي لاحظها عن
قول المعصوم ، فلا يكون حجّةً في إثبات قول المعصوم ، بل في إثبات تلك الفتاوى
فقط.
حجّية الخبر مع الواسطة :
ولا شكّ في أنّ
حجّية الخبر تتقوّم بركنين :
أحدهما : بمثابة
الموضوع لها ، وهو نفس الخبر.
والآخر : بمثابة
الشرط ، وهو وجود أثرٍ شرعيٍّ لمدلول الخبر ؛ لوضوح أنّه إذا لم يكن لمدلوله أثر
كذلك فلا معنى للتعبّد به وجعل الحجّية له.
والحجِّية
متأخِّرة رتبةً عن الخبر تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعن افتراض أثرٍ شرعيٍّ لمدلول
الخبر تأخّر المشروط عن شرطه.
وعلى هذا الأساس
قد يستشكل في شمول دليل الحجِّية للخبر مع الواسطة وتوضيح ذلك : أنّا إذا سمعنا
زرارة ينقل عن الإمام أنّ السورة واجبة أمكننا التمسّك بدليل الحجِّية بدون شكّ ؛
لأنّ كلا الركنين ثابت ، فإنّ خبر زرارة ثابت لدينا وجداناً بحسب الفرض ، ومدلوله
ذو أثرٍ شرعي ؛ لأنّه يتحدّث عن وجوب السورة ، وأمّا إذا نقل شخص عن زرارة الكلام
المذكور فقد يتبادر إلى الذهن أنّنا نتمسّك بدليل الحجّية أيضاً ؛ وذلك بتطبيقه
على الشخص الناقل عن زرارة أوّلاً ، فإنّ إخباره ثابت لنا وجداناً ، وعن طريق
حجِّيته يثبت لدينا خبر زرارة ، كما لو كنّا سمعنا منه ، وحينئذٍ نطبِّق دليل
الحجِّية على خبر زرارة لإثبات كلام الإمام.
ولكن قد استشكل في
ذلك ، وقيل بأنّ تطبيق دليل الحجّية على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة
بتقريبين :
الأول
: أنّه يلزم منه
إثبات الحكم لموضوعه ، مع أنّ الحكم متأخّر رتبةً عن
موضوعه ؛ وذلك
لأنّ خبر زرارة لم يثبت إلاّبلحاظ دليل الحجِّية ، مع أنّه موضوع للحجِّية
المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى إثبات الحكم لموضوعه.
الثاني
: أنّه يلزم منه
اتّحاد الحكم مع شروطه على الرغم من تأخّر الحكم رتبةً عن شرطه ؛ وذلك لأنّ حجِّية
خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود أثرٍ شرعيٍّ لما ينقله هذا الناقل ، وهو إنّما
ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعياً لخبر زرارة إلاّ الحجِّية ، فقد صارت الحجية
محقِّقةً لشرط نفسها.
وجواب كلا
التقريبين : أنّ حجّية الخبر مجعولة على نهج القضية الحقيقية على موضوعها وشرطها
المقدَّر الوجود ، وفعلية الحجِّية المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدَّر ،
وتعدّد الحجِّية الفعلية بتعدّدهما ، كما هو الشأن في سائر الأحكام المجعولة على
هذا النحو.
وعليه فنقول :
إنّه توجد في المقام حجّيتان : الاولى حجِّية خبر الناقل عن زرارة ، والثانية
حجِّية خبر زرارة. وما هو الموضوع للحجِّية الثانية ـ وهو خبر زرارة ـ لم يثبت
بالحجِّية الثانية ، بل بالحجِّية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب
الأول. كما أنّ الشرط المصحِّح للحجِّية الاولى ـ وهو الأثر الشرعي ـ يتمثّل في
الحجِّية الثانية لا في الحجِّية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب
الثاني.
قاعدة التسامح في أدلّة السنن :
ذكرنا : أنّ موضوع
الحجِّية ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة على تفصيلاتٍ متقدمة ، ولكن قد يقال في
خصوص باب المستحبّات ، أو الأحكام غير الإلزامية عموماً : إنّ موضوع الحجِّية مطلق
الخبر ولو كان ضعيفاً ؛ استناداً إلى رواياتٍ دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ ثواب
على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبيّ
لم يقله ، كصحيحة
هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من سمع شيئاً من الثواب على شيءٍ فصنعه كان له أجره
وإن لم يكن على ما بلغه» .
بدعوى أنّ هذه
الروايات تجعل الحجِّية لمطلق البلوغ في موارد المستحبّات.
والتحقيق : أنّ
هذه الروايات فيها ـ بدواً ـ أربعة احتمالات :
الأول : أن تكون
في مقام جعل الحجِّية لمطلق البلوغ.
الثاني : أن تكون
في مقام إنشاء استحبابٍ واقعيٍّ نفسيٍّ على طبق البلوغ بوصفه عنواناً ثانوياً.
الثالث : أن تكون
إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.
الرابع : أن تكون
وعداً مولوياً لمصلحةٍ في نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في
الاحتياط باعتبار حسنه عقلاً.
والفارق بين هذه
الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح ، فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي
في عدم تضمّنه إعمال المولوية بوجه ، والاحتمالان الأخيران يختلفان عن الأوّلَين
في عدم تضمّنهما جعل الحكم ، ويختلف الأول عن الثاني ـ مع اشتراكهما في جعل الحكم
ـ في أنّ الحكم المجعول على الأول ظاهري ، وعلى الثاني واقعي.
وأمّا الأثر
العمليّ لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضاً ، إذ لا يبرِّر الاحتمالان الأخيران
الإفتاء بالاستحباب ، بينما يبرِّر الاحتمالان الأوّلَان ذلك.
__________________
ولكن قد يقال ـ كما
عن السيّد الاستاذ ـ : إنّه لا ثمرة عملية يختلف بموجبها الاحتمالان
الأوّلَان ؛ لأنّهما معاً يسوِّغان الفتوى بالاستحباب ، ولا فرق بينهما في الآثار.
ولكنّ التحقيق :
وجود ثمراتٍ عمليةٍ يختلف بموجبها الاحتمال الأول عن الاحتمال الثاني ، خلافاً
لِمَا أفاده ـ دام ظلّه ـ ونذكر في ما يلي جملةً من الثمرات :
الثمرة
الاولى : أن يدلّ خبر ضعيف
على استحباب فعلٍ وخبر ثقةٍ على نفي استحبابه ، فإذا بني على الاحتمال الأول وقع
التعارض بين الخبرين ؛ لحجّية كلٍّ منهما ـ بحسب الفرض ـ ونظرهما معاً إلى حكمٍ
واقعيٍّ واحدٍ إثباتاً ونفياً. وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ؛ لأنّ
الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو
بنفسه يكون موضوعاً لاستحبابٍ واقعيٍّ مترتّبٍ على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقَّق
، وكونه معارضاً لا ينافي صدق عنوان البلوغ ، فيثبت الاستحباب.
الثمرة
الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف
على وجوب شيء ، فعلى الاحتمال الثاني لا شكّ في ثبوت الاستحباب ؛ لأنّه مصداق
لبلوغ الثواب على عمل ، وأمّا على الاحتمال الأول فلا يثبت شيء ؛ لأنّ إثبات
الوجوب بالخبر الضعيف متعذّر لعدم حجّيته في إثبات الأحكام الإلزامية ، وإثبات
الاستحباب به متعذّر أيضاً لأنّه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقاً وحجّةً لإثبات غير
مدلوله؟ وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذِّر أيضاً ؛ لأنّه مدلول
تحليليّ للخبر ، فلا يكون حجّة لإثباته عند من يرى ـ كالسيد الاستاذ ـ أنّ حجِّية الخبر في المدلول التحليليِ
__________________
متوقّفة على
حجِّيته في المدلول المطابقيِّ بكامله.
الثمرة
الثالثة : أن يدلّ خبر ضعيف
على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس ـ مثلاً ـ على نحوٍ لا يفهم منه أنّ
الجلوس بعد ذلك مستحبّ ، أوْ لا.
فعلى الاحتمال
الأول يجري استصحاب بقاء الاستحباب ، وعلى الثاني لا يجري ؛ لأ نّه مجعول بعنوان
ما بلغه ثواب عليه ، وهذا مقطوع الارتفاع ؛ لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.
ومهما يكن فلا شكّ
في أنّ الاحتمال الأول مخالف لظاهر الدليل كما تقدم في الحلقة السابقة ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجِّية الخبر في باب
المستحبّات.
__________________
٣
ـ الدليل الشرعي
حجّية الظهور
أقسام الدلالة.
دليل حجّية الظهور.
تشخيص موضوع الحجّية.
التفصيلات في الحجّية.
أقسام الدلالة :
الدليل الشرعيّ قد
يكون مدلوله مردّداً بين أمرين أو امور ، وكلّها متكافئة في نسبتها إليه ، وهذا هو
المجمل.
وقد يكون مدلوله
متعيِّناً في أمرٍ محدّدٍ ولا يحتمل مدلولاً آخر بدلاً عنه ، وهذا هو النصّ.
وقد يكون قابلاً
لأحد مدلولين ، ولكنّ واحداً منهما هو الظاهر عرفاً والمنسبق إلى ذهن الإنسان
العرفي ، وهذا هو الدليل الظاهر.
أمّا المجمل فيكون
حجّةً في إثبات الجامع بين المحتملات إذا كان له على إجماله أثر قابل للتنجيز ما
لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إمّا بتعيين المراد من المجمل مباشرةً ،
وإمّا بنفي أحد المحتملين ، فإنّه بضمِّه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل
الآخر ، وإمّا بمجملٍ آخر مردّدٍ بين محتملين ويعلم بأنّ المراد بالمجملين معاً
معنىً واحد وليس هناك إلاّمعنىً واحد قابل لهما معاً فيحملان عليه ، وإمّا بقيام
دليلٍ على إثبات أحد محتملي المجمل ، فإنّه وإن كان لا يكفي لتعيين المراد من
المجمل في حالة عدم التنافي بين المحتملين ، ولكنّه يوجب سقوط حجّية المجمل في
إثبات الجامع وعدم تنجّزه ؛
لأنّ تنجّز الجامع
بالمجمل إنّما هو لقاعدة منجِّزية العلم الإجمالي ، وهذه القاعدة لها أركان أربعة
، وفي مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث ـ كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة ـ حيث إنّ أحد المحتملين إذا ثبت بدليلٍ فلا يبقى محذور في
نفي المحتمل الآخر بالأصل العملي المؤمِّن.
وأمّا النصّ فلا
شكّ في لزوم العمل به ، ولا يحتاج إلى التعبّد بحجّية الجانب الدلاليِّ منه إذا
كان نصّاً في المدلول التصوري والمدلول التصديقي معاً.
دليل حجّية الظهور :
وأمّا الظاهر
فظهوره حجّة ، وهذه الحجّية هي التي تسمّى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها
بوجوه :
الوجه
الأول : الاستدلال بالسنّة
المستكشَفة من سيرة المتشرِّعين من الصحابة وأصحاب الأئمّة عليهمالسلام ؛ حيث كان عملهم على الاستناد إلى ظواهر الأدلّة الشرعية في تعيين مفادها ،
وقد تقدم في الحلقة السابقة توضيح الطريق لإثبات هذه السيرة.
الوجه
الثاني : الاستدلال بالسيرة
العقلائية على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائياً ممّا لا شكّ فيه ؛
لأنّه محسوس بالوجدان ، ويعلم بعدم كونها سيرةً حادثةً بعد عصر المعصومين ، إذ لم
يعهد لها بديل في مجتمعٍ من
__________________
المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعاً تكون هذه
السيرة دليلاً على حجّية الظهور.
الوجه
الثالث : التمسّك بما دلّ
على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة والعمل بهما ، بتقريب أنّ العمل بظاهر الآية أو
الحديث مصداق عرفاً لما هو المأمور به في تلك الأدلّة ، فيكون واجباً ، ومرجع هذا
الوجوب إلى الحجِّية.
وبين هذه الوجوه
فوارق. فالوجه الثالث ـ مثلاً ـ بحاجةٍ إلى تمامية دليلٍ على حجِّية الظهور ولو في
الجملة ، دونهما ؛ لأنّ مرجعه إلى الاستدلال بظهور الأحاديث الآمرة بالتمسّك
وإطلاقها ، فلابدّ من فرض حجِّية هذا الظهور في الرتبة السابقة.
كما أنّ الوجهين
الأوّلَين يجب أن لا يدخل في تتميمهما التمسّك بظهور حال المولى لإثبات الإمضاء ؛
لأنّ الكلام الآن في حجِّيته ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة .
وقد يلاحظ على
الوجه الأول : أنّ سيرة المتشرِّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكنّ الشواهد التأريخية
إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكّد من استقرار سيرتهم على العمل
بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجِّية الظهور أخفى من غيرها ، كحالة
احتمال اتصّال الظهور بقرينةٍ متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجِّية الظهور في هذه
الحالة ، خلافاً لما اخترناه في حلقةٍ سابقة .
__________________
وهنا نقول : إنّ
مدرك الحجِّية إذا كان هو سيرة المتشرِّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن
نتأكّد أنّها جرت فعلاً على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟
وأمّا إذا كان
مدرك الحجية السيرة العقلائية ، فيمكن للقائلين بالحجِّية أن يدَّعوا شمول الوجدان
العقلائيّ لهذه الحالة أيضاً.
وقد يلاحظ على
الوجه الثاني ـ وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية ـ أمران :
أحدهما
: أنّه قاصر عن
الشمول لموارد وجود أمارةٍ معتبرةٍ عقلائياً على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرةً
شرعاً ، كالقياس مثلاً ـ لو قيل بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور
ـ فلا يمكن إثبات حجِّية الظهور المبتلى بهذه الأمارة على الخلاف بالسيرة
العقلائية ، إذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلاً ، اللهمّ
إلاّإذا استفيد من دليل إسقاطها عن الحجِّية تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار.
ولكنّ الصحيح :
أنّ هذا الكلام إنّما يتّجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت
للعقلاء ، غير أنّك عرفت في الحلقة السابقة أنّ الإمضاء يتّجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل
، وهي في المقام الحجِّية الاقتضائية للظهور مطلقاً. وكلّ حجّةٍ كذلك لا يرفع اليد
عنها إلاّبحجّة ، والمفروض عدم حجّية الأمارة على الخلاف شرعاً فيتعيّن العمل
بالظهور.
والأمر الآخر الذي
يلاحظ على الوجه الثاني : أنّ السيرة العقلائية إنّما انعقدت على العمل بالظهور ،
واتّخاذه أساساً لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتياديّ الذي يندر اعتماده على
القرائن المنفصلة عادةً ، والشارع ليس من هذا
__________________
القبيل ، فإنّ
اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالةً متعارفة ، ولا توجد حالات مشابهة في
العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.
وهذا الاعتراض
إنّما قد يتّجه إذا كان دليل الإمضاء متطابقاً في الموضوع مع السيرة العقلائية.
فكما أنّ السيرة العقلائية موضوعها المتكلّم الاعتياديّ الذي يندر اعتماده على
القرائن المنفصلة ، كذلك دليل الإمضاء ، ولكنّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّ
السيرة العقلائية وإن كانت مختصّةً بالمتكلّم الاعتيادي إلاّ أنّها تقتضي الجري
على طبقها في كلمات الشارع أيضاً ؛ إمّا للعادة ، أو لعدم الاطّلاع إلى فترةٍ من
الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتيادية ،
وهذا يشكِّل خطراً على الأغراض الشرعية يُحتِّم الردع لو لم يكن الشارع موافقاً
على الأخذ بظواهر كلامه. ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجِّية الظهور
في الكلام الصادر منه.
تشخيص موضوع الحجّية :
ظهور الكلام في
المعنى الحقيقيِّ قسمان ـ كما تقدم ـ : تصوري ، وتصديقي. والظهور التصوري كثيراً مّا لا ينثلم
حتى في حالة قيام القرينة المتّصلة على الخلاف. فاذا قال المولى : (اذهب إلى البحر
، وخذ العلم منه) كانت الجملة قرينةً على أنّ المراد بالبحر معنىً آخر غير معناه
الحقيقي ، وعلى الرغم من وجود القرينة فإنّ الظهور التصوري لكلمة «البحر» في
معناها الحقيقي لا يزول ، وإنّما يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلّم لذلك
المعنى الحقيقي ، ومن هنا صحّ
__________________
القول بأنّ الظهور
التصوري للَّفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتى مع القرينة المتّصلة على الخلاف. وأنّ
الظهور التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتصلة غير أنّه محفوظ حتى مع ورود
القرينة المنفصلة ، فإنّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن أصل الظهور التصديقي
للكلام في إرادة المعنى الحقيقي ، وإنمّا تسقطه عن الحجِّية ، كما مرّ بنا في
حلقةٍ سابقة .
وعلى ضوء التمييز
بين الظهور التصوري والظهور التصديقي ، وبعد الفراغ عن حجِّية الظهور عقلائياً ،
وعن سقوطها مع ورود القرينة لابدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجِّية وكيفية
تطبيقها على موضوعها ، وبهذا الصدد نواجه عدّة محتملاتٍ بدواً :
المحتمل
الأول : أن يكون موضوع
الحجِّية هو الظهور التصوري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف ، متصلةً أو منفصلة.
المحتمل
الثاني : أن يكون موضوع
الحجِّية هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة.
المحتمل
الثالث : أن يكون موضوع
الحجِّية هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينةٍ منفصلةٍ على خلافه.
والفارق بين هذا وسابقه : أنّ عدم القرينة واقعاً دخيل في موضوع الحجِّية على
الاحتمال الثاني ، وليس دخيلاً على الاحتمال الثالث ، بل يكفي عدم العلم بالقرينة.
وتختلف هذه
الاحتمالات في كيفية تطبيق الحجِّية على موضوعها ، فإنّه على الاحتمال الأول
تُطبَّق حجِّية الظهور على موضوعها ابتداءً حتى في حالة
__________________
احتمال القرينة
المتّصلة فضلاً عن المنفصلة ؛ لأنّ موضوعها هو الظهور التصوري بحسب الفرض ، وهذا
لا يتزعزع بالقرينة المتّصلة المحتملة فضلاً عن المنفصلة ، كما عرفت ، فلا تحتاج
إذن إلاّإلى أصالة الظهور.
وأمّا على الاحتمال
الثاني فإنّما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً مع الجزم بعدم القرينة ، ولا
يمكن الرجوع اليها كذلك مع احتمال القرينة المتّصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية على هذا
الاحتمال الظهور التصديقي ، وهو غير محرزٍ مع احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف
، فلو قيل بحجِّية الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أولاً افتراض أصلٍ عقلائيٍّ
ينفي القرينة المتصلة لكي ينقّح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة.
وكذلك لا يمكن
الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً ـ على الاحتمال الثاني ـ مع احتمال القرينة
المنفصلة ؛ لأنّ المفروض أنّه قد اخذ عدمها في موضوع حجّية الظهور ، فمع الشكّ
فيها لا تحرز حجّية الظهور ، بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أوّلاً لتنقيح موضوع
الحجِّية في أصالة الظهور.
وأمّا الاحتمال
الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً مع
احتمال القرينة المتصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية ـ وهو الظهور التصديقي ـ غير محرزٍ
مع هذا الاحتمال ، إلاّ أنّ الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في إمكان الرجوع إلى
أصالة الظهور مباشرةً مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية ـ على
الاحتمال الثالث ـ محرز حتى مع هذا الاحتمال ، بينما لم يكن محرزاً معه على
الاحتمال الثاني.
والتحقيق في تمحيص
هذه الاحتمالات : أنّ الاحتمال الأول ساقط ؛ لأنّ المقصود من حجِّية الظهور تعيين
مراد المتكلّم بظهور كلامه ، وهي إنّما تُناط عقلائياً بالحيثية الكاشفة عن هذا
المقصود ، اذ ليس مبنى العقلاء في الحجِّية على
التعبّد المحض.
وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوري ، بل التصديقي ، فإناطة الحجِّية بغير
حيثية الكشف بلا موجبٍ عقلائياً ، فيتعيّن أن يكون موضوع الحجِّية هو الظهور
التصديقي.
كما أنّ الاحتمال
الثاني ساقط أيضاً ، باعتبار أنّه يفترض الحاجة في مورد الشكّ في القرينة المنفصلة
إلى إجراء أصالة عدم القرينة أوّلاً ثمّ أصالة الظهور ، مع أنّ نفي القرينة
المنفصلة عند احتمالها لا مبرِّر له عقلائياً إلاّكاشفية الظهور التصديقي عن إرادة
مفاده وأنّ ما قاله يريده ، وهي كاشفية مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.
وحيث إنّ الاصول
العقلائية تعبِّر عن حيثياتٍ من الكشف المعتبرة عقلائياً ، وليست مجرّد تعبّداتٍ
بحتةٍ فلا معنى حينئذٍ لافتراض أصالة [عدم] القرينة ؛ ثم أصالة الظهور ، بل يرجع
إلى اصالة الظهور مباشرةً ؛ لأنّ كاشفيته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة ، لا أنّها
مترتبة على نفي القرينة بأصلٍ سابق.
وهكذا يتعيّن
الاحتمال الثالث ، وعليه فإن عُلِم بعدم القرينة مطلقاً ، أو بعدم القرينة المتصلة
خاصّةً مع الشكّ في المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً.
[الشكّ في القرينة المتّصلة :]
وإن شكّ في
القرينة المتصلة فهناك ثلاث صور :
الصورة
الاولى : أن يكون الشكّ في
وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة ؛ لأنّها
على خلاف العادة وظهور الحال ، وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقّح الظهور الذي هو
موضوع الحجِّية. ونسمّي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة ؛
لأنّه بها تنتفي القرينة.
الصورة
الثانية : أن يكون الشكّ في
وجودها لاحتمال إسقاط الناقل لها.
وفي هذه الحالة
يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ـ ولو ضمناً ـ بأ نّه استوعب في نقله
تمام ما له دخل في إفادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع أصالة الظهور.
الصورة
الثالثة : أن يكون الشكّ في
وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ، ولا من الإسقاط المذكور ، فلا يمكن الرجوع إلى
أصالة الظهور ابتداءً ؛ للشكّ في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح
موضوعها بإجراء أصالة عدم القرينة ؛ لأنّه لا توجد حيثية كاشفة عقلائياً عن عدم
القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنون على أصالة عدم القرينة ، وبهذا نعرف
أنّ احتمال القرينة المتصلة في مثل هذه الحالة يوجب الإجمال.
وبما ذكرناه اتّضح
أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة كلّ منهما أصل عقلائي في مورده ، فالأول يجري
في كلّ موردٍ أحرزنا فيه الظهور التصديقي وجداناً أو بأصلٍ عقلائي آخر ، والثاني
يجري في كلّ موردٍ شكّ فيه في القرينة المتّصلة لاحتمال الغفلة ، ولا يرجع أحد
الأصلين إلى الآخر ، خلافاً للشيخ الأنصاري رحمهالله حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة ، ولصاحب
الكفاية رحمهالله حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور.
الظهور الذاتيّ والظهور الموضوعي :
الظهور ـ سواء كان
تصوّرياً أو تصديقياً ـ تارةً يراد به الظهور في ذهن إنسانٍ معيّن ، وهذا هو
الظهور الذاتي ، واخرى يراد به الظهور بموجب علاقات
__________________
اللغة وأساليب
التعبير العام ، وهذا هو الظهور الموضوعي. والأول يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصية
للذهن التي تختلف من فردٍ إلى آخر تبعاً إلى انسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني
الذي له واقع محدَّد يتمثّل في كلّ ذهنٍ يتحرّك بموجب علاقات اللغة وأساليب
التعبير العام ، وما هو موضوع الحجِّية الظهور الموضوعي ؛ لأنّ هذه الحجِّية قائمة
على أساس أنّ ظاهر حال كلّ متكلِّمٍ إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح
أنّ ظاهر حاله باعتباره إنساناً عرفياً إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعياً لا
ماهو الظاهر نتيجةً لملابساتٍ شخصيةٍ في ذهن هذا السامع أو ذاك.
وأمّا الظهور
الذاتي ـ وهو ما قد يعبَّر عنه بالتبادر أو الانسباق ـ فيمكن أن يقال بأ نّه أمارة
عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي ، فكلّ إنسانٍ إذا انسبق إلى ذهنه معنىً مخصوص
من كلامٍ ولم يجد بالفحص شيئاً محدّداً شخصياً يمكن أن يفسِّر ذلك الانسباق ،
فيعتبر هذا الانسباق دليلاً على الظهور الموضوعي.
وبهذا ينبغي أن
يميَّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.
فالأوّل : كاشف عن
الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع. والثاني :
كاشف إنِّيّ
تكوينيّ ـ مع عدم القرينة ـ عن الوضع.
الظهور الموضوعيّ في عصر النصّ :
لا شكّ في أنّ
ظواهر اللغة والكلام تتطوّر وتتغيّر على مرِّ الزمن بفعل مؤثِّراتٍ مختلفةٍ لغويةٍ
وفكريةٍ واجتماعية. فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفاً
للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث ، وموضوع حجِّية
الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له ؛ لأنّها حجِّية عقلائية
قائمة على أساس حيثية الكشف والظهور
الحالي ، ومن
الواضح أنّ ظاهر حال المتكلّم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلاً في زمان صدور
الكلام منه. وعليه فنحن بالتبادر نثبت ـ بطريق الإنِّ ـ الظهور الذاتي ، وبالظهور
الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع.
ويبقى علينا أن
نثبت أنّ الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي
هو موضوع الحجِّية ، وهذا ما نثبته بأصلٍ عقلائيٍّ يطلق عليه «أصالة عدم النقل»
وقد نسمّيه بأصالة الثبات في اللغة ، وهذا الأصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيَّل
لأبناء العرف ـ نتيجةً للتجارب الشخصية ـ من استقرار اللغة وثباتها ، فإنّ الثبات
النسبي والتطور البطيء للّغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيِّرها وتطابق
ظواهرها على مرّ الزمن ، وهذا الإيحاء وإن كان خادعاً ، ولكنّه على أيّ حالٍ إيحاء
عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره
حالةً استثنائيةً نادرةً تنفى بالأصل.
وبإمضاء الشارع
للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل ، أو أصالة الثبات. ولا يعني الإمضاء
تصويب الشارع للإيحاء المذكور ، وإنمّا يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال
التطابق حجّةً مالم يقم دليل على خلافه.
ولا شكّ أيضاً في
أنّ المتشرِّعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيالٍ عديدةٍ طيلة قرنين ونصفٍ من
الزمان كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل ، وعلى الاستناد في أواسط هذه
الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة ، مع أنّها
كانت فترةً حافلةً بمختلف المؤثِّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد
يتغيَّر الظهور بموجبها.
ولكنّ أصالة عدم
النقل لا تجري فيما إذا عُلِم بأصل التغيّر في الظهور أو الوضع وشكّ في تأريخه ؛
لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض
عدم النقل في
الفترة المشكوكة.
والسرّ في ذلك :
أنّ البناءات العقلائية إنّما تقوم على أساس حيثيات كشفٍ عامةٍ نوعية ، فحينما
يلغى احتمال النقل عرفاً يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائية
في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائية فلا تبقى حيثية
كشفٍ مبرّرةٍ للبناء على نفي احتمال تقدمها.
بل لا يخلو
التمسّك بأصالة عدم النقل من إشكالٍ في الموارد التي علم فيها بوجود ظروفٍ معيّنة
بالإمكان أن تكون سبباً في تغيّر مدلول الكلمة ، وإنّما المتيقّن منها عقلائياً
حالات الاحتمال الساذج للتغيّر والنقل.
التفصيلات في الحجّية :
توجد عدّة أقوالٍ
تتّجه إلى التفصيل في حجِّية الظهور ، وقد أشرنا إلى أحدها في الحلقة السابقة ، ونذكر في مايلي اثنين من تلك الأقوال :
القول
الأوّل : التفصيل بين
المقصود بالإفهام وغيره . فالمقصود بالافهام يعتبر الظهور حجّةً بالنسبة إليه ؛
لأنّ احتمال القرينة المتصلة على الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له ـ مع عدم إحساسه
بها ـ إلاّ احتمال غفلته عنها ، فينفى ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلاً
عقلائياً ، وأمّا غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك ، بل له منشأ آخر ،
وهو احتمال اعتماد المتكلّم على قرينةٍ تمَّ التواطؤ عليها بصورةٍ خاصّةٍ بينه
وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي
__________________
أصالة عدم الغفلة
لنفيه ، فلا يكون الظهور حجّةً في حقّه.
وقد اعترض على ذلك
جملة من المحقّقين : بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي برأسه يجري لنفي
احتمال القرينة في الحالة المذكورة ، وليس مردّها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذّر
إجراؤها في حقّ غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد إفهامه
على القرينة.
والتحقيق أنّ هذا
المقدار من البيان لا يكفي ؛ لأنّ الأصل العقلائي لابدّ أن يستند إلى حيثية كشفٍ
نوعية ، لئلاّ يكون أصلاً تعبّدياً على خلاف المرتكزات العقلائية ، [وهذه الحيثيّة]
متوفّرة لنفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها. فإذا
اريد نفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من سائر المناشئ أيضاً بأصلٍ عقلائيٍّ
فلابدّ من إبراز حيثية كشف نوعيةٍ تنفي ذلك ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفتِّش عن
مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر عموماً ، وملاحظة مدى إمكان نفي كلّ واحدٍ منها
بحيثية كشفٍ نوعيةٍ مصحِّحةٍ لإجراء أصلٍ عقلائيٍّ مقتض لذلك.
ومن هنا نقول :
إنّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في إرادة المتكلِّم للمعنى الظاهر ينشأ من أحد
امور :
الأول : احتمال
كون المتكلِّم متستِّراً بمقصوده وغير مريدٍ لتفهيمه بكلامه.
الثاني : احتمال
كونه معتمداً على قرينةٍ منفصلة.
الثالث : احتمال
كونه معتمداً على قرينةٍ متصلةٍ غفل عنها السامع.
الرابع : احتمال
كونه معتمداً على قرينةٍ ذات دلالةٍ خاصّةٍ متَّفقٍ عليها بين المتكلم وشخص آخر ،
كان نظر المتكلّم إليه.
__________________
الخامس : احتمال
وجود قرينةٍ متّصلةٍ التفت اليها السامع ولكنّه لم ينقلها إلينا ؛ ولو من أجل أنّها
كانت متمثّلةً في لحن الخطاب ، أو قسمات وجه المتكلّم ، ونحو ذلك مما لا يعتبر
لفظاً.
والفرق بين
المقصود بالإفهام وغيره : أنّ المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال الأول بشأنه ،
وكذلك الاحتمال الرابع ، كما أنّ الاحتمال الخامس غير موجودٍ في شأن السامع المحيط
بالمشهد ، سواء كان مقصوداً بالإفهام ، أوْ لا.
وحجِّية الظهور في
حقّ غير السامع ممّن لم يقصد إفهامه تتوقّف على وجود حيثيات كشفٍ مبرِّرةٍ
عقلائيةٍ لإلغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه ، وهي موجودة فعلاً بالبيان التالي :
أمّا الاحتمال
الأول فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.
وأمّا الاحتمال
الثاني فينفى بظهور حاله في أنّ ما يقوله يريده ، أي أنّه في مقام تفهيم مراده
بشخص كلامه.
وأمّا الاحتمال
الثالث فينفى بأصالة عدم الغفلة.
وأمّا الاحتمال
الرابع ـ وهو ما أبرزه المفصِّل ـ فينفى بظهور حال المتكلِّم العرفي في استعمال
الأدوات العرفية للتفهيم ، والجري وفق أساليب التعبير العام.
وأمّا الاحتمال
الخامس فينفى بشهادة الناقل ـ ولو ضمناً ـ بعدم حذف ما لَه دخل من القرائن الخاصّة
في فهم المراد.
القول
الثاني
:
وتوضيحه أنّ ظهور
الكلام يقتضي بطبعه حصول الظنّ
__________________
ـ على الأقلِّ ـ بأنّ
مراد المتكلِّم هو المعنى الظاهر ؛ لأنّه أمارة ظنّية كاشفة عن ذلك ، فاذا لم تحصل
أمارة ظنّية على خلاف ذلك أثّر الظهور فيما يقتضيه ، وحصل الظنّ الفعلي بالمراد.
وإذا حصلت أمارة ظنّية على الخلاف وقع التزاحم بين الأمارتين ، فقد لايحصل حينئذٍ
ظنّ فعليّ بإرادة المعنى الظاهر ، بل قد يحصل الظنّ على خلاف الظهور تأثّراً
بالأمارة الظنّية المزاحمة.
وعلى هذا فقد
يستثنى من حجِّية الظهور حالة الظنّ الفعلي بعدم إرادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال
بأنّ حجِّية الظهور أساساً مختصّة بصورة حصول الظنّ الفعلي على وفق الظهور.
ويمكن تبرير هذا
القول : بأنّ حجِّية الظهور ليست حكماً تعبّدياً ، وإنمّا هي على أساس كاشفية
الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظنّي الفعلي على
وفقه.
وقد اعترض الأعلام
على هذا التفصيل : بأنّ مدرك الحجِّية بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرِّقون
بين حالات الظنّ بالوفاق وغيرها ، بل يعملون بالظهور فيها جميعاً ، وهذا يكشف عن
الحجِّية المطلقة.
وهذا الاعتراض من
الأعلام قد يبدو غير صحيحٍ بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد أنّ التاجر لا يعمل
بظهور كلام تاجرٍ آخر في تحديد الأسعار ، إذا ظنّ بأ نّه لا يريد ما هو ظاهر كلامه
، وأنّ المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظنّ بأ نّه
يريد غير ما هو ظاهر كلامه ، وهكذا.
ومن هنا عمَّق
المحقّق النائيني رحمهالله اعتراض الأعلام ، إذ ميّز بين العمل
__________________
بالظهور في مجال
الأغراض التكوينية الشخصية ، والعمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين
بالمأمورين.
ففي المجال الأول
لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ، ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة
معتدٍّ بها من الكشف الفعلي. وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي
للظهور تنجيزاً وتعذيراً ، ولو لم يحصل ظنّ فعلي بالوفاق ، أو حصل ظنّ فعلي
بالخلاف.
والأمثلة المشار
إليها تدخل في المجال الأول لا الثاني.
وهذا الكلام وإن
كان صحيحاً وتعميقاً لاعتراض الأعلام ، ولكنّه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ،
ولايحلّ الشبهة التي يستند إليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفاً.
فالتحقيق الذي يفي
بذلك أن يقال : إنّ ملاك حجِّية الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلف ، بل
كشفه في نظر المولى ، بمعنى أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه : فتارةً يلحظها
بنظرةٍ تفصيلية ، فيستطيع بذلك أن يميِّز بصورةٍ جازمةٍ ما اريد به ظاهره عن غيره
؛ لأنّه الأعرف بمراده. واخرى يلحظها بنظرةٍ إجمالية ، فيرى أنّ الغالب هو إرادة
المعنى الظاهر ، وذلك يجعل الغلبة كاشفاً ظنّياً عند المولى عن إرادة المعنى
الظاهر بالنسبة إلى كلّ كلامٍ صادرٍ منه حينما يلحظه بنحو الإجمال ، وهذا الكشف هو
ملاك الحجِّية ؛ لوضوح أنّ حجّية الأمارة حكم ظاهريّ وارد لحفظ الأغراض الواقعية
الأكثر أهمّية ، وهذه الأهميّة قد اكتسبتها الأغراض الواقعية التي تحفظها الأمارة
المعتبرة بلحاظ قوة الاحتمال ، كما تقدم في محلّه .
__________________
ومن الواضح أنّ
قوة الاحتمال المؤثِّرة في اهتمام المولى إنّما هي قوة احتماله ، لا قوة احتمال
المكلف ، فمن هنا تُناط الحجّية بحيثية الكشف الملحوظة للمولى ـ وهي الظهور ـ لا
بالظنّ الفعلي لدى المكلف.
وعلى هذا الأساس
اختلف مجال الأغراض التكوينية عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ، إذ المناط في
المجال الأول كاشفية الظهور لدى نفس العامل به ، فقد يكون منوطاً بحصول الظنّ له ،
والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه لدى الآمر الموجب لشدّة اهتمامه الداعية إلى
جعل الحجِّية.
الخلط بين الظهور والحجّية :
اتّضح ممّا تقدم
أنّ مرتبة الظهور التصوري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة
التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتصلة ؛ لأنّ
ظاهر حال المتكلّم أنّه يفيد مراده بشخص كلامه ، فاذا كانت القرينة متصلةً دخلت في
شخص الكلام ولم يكن إرادة ما تقتضيه منافياً للظهور الحالي. وأمّا عدم القرينة
المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور ، وليس مقوِّماً له ، وإنّما هو شرط في استمرار
الحجّية بالنسبة إليه.
ومن هنا يتّضح وجه
الخلط في كلمات جملةٍ من الأكابر الموهِمة ؛ لوجود ثلاث رتبٍ من الظهور كلّها
سابقة على الحجّية ، ككلام المحقّق النائيني رحمهالله.
الاولى : مرتبة
الظهور التصوري.
الثانية : مرتبة
الظهور التصديقي على نحوٍ يسوِّغ لنا التأكيد على أنّه قال كذا وفقاً لهذا الظهور.
__________________
الثالثة : مرتبة
الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحوٍ يسوِّغ لنا التأكيد على أنّه
أراد كذا وفقاً لهذه المرتبة من الظهور.
والاولى لا
تتقوَّم بعدم القرينة ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتصلة ، والثالثة تتقوَّم
بعدم القرينة مطلقاً ولو منفصلة. والحجّية حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من
الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة ـ فضلاً عن المتصلة ـ هدمت المرتبة الثالثة
من الظهور ، ورفعت بذلك موضوع الحجّية.
وهذا الكلام لا
يمكن قبوله بظاهره ، فإنّه وإن كان على حقٍّ في جعل الظهور التصديقي موضوعاً
للحجّية ـ كما تقدم ـ غير أنّ الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي
استعمالاً جدّياً ليس متقوّماً بعدم القرينة المنفصلة ، بل بعدم القرينة المتصلة
فقط ؛ لأنّ هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلِّم في التطابق بين المدلول التصوري
لكلامه والمدلول التصديقي [الأوّل] ، والتطابق بين المدلول التصديقي الأول
والمدلول التصديقي الثاني. والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكلّ ما يتضمّنه
من خصوصيات ، فإذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوري والمعنى المستعمل فيه ،
تنجّز ظهور حال المتكلّم في أنّ ما قاله وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدّاً ،
ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي ، لا أنّه يعني نفيه موضوعاً.
ولهذا كان
الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الأصل العقلائي ؛ لأنّ ذلك على خلاف الظهور
الحالي. ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هي موضوع الحجية من
الظهور لمَا كان ذلك على خلاف الطبع ، ولكان حاله حال الاعتماد على القرائن
المتصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على
__________________
طبق المدلول التصوري.
الظهور الحالي :
وكما أنّ الظهور
اللفظي حجّة ، كذلك ظهور الحال ، ولو لم يتجسّد في لفظٍ أيضاً ، فكلّما كان للحال
مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ اجتماعياً أخذ به. غير أنّ إثبات الحجّية لهذه
الظواهر غير اللفظية لا يمكن أن يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلاً في عصر
المعصومين على العمل في مقام استنباط الأحكام بظواهر الأفعال والأحوال غير اللفظية
؛ لأنّ طريق إثبات قيامها في الظواهر اللفظية قد لا يمكن تطبيقه في المقام ؛ لعدم
شيوع ووفرة هذه الظواهر الحاليّة المجرّدة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات
المتعدّدة.
كما لا يمكن أن
يكون إثبات الحجّية لها بالأدلة اللفظية الآمرة بالتمسّك بالكتاب وأحاديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام ، كما هو واضح ؛ لعدم كونها كتاباً ولا حديثاً ، وإنّما
الدليل هو السيرة العقلائية على أن لا يدخل في إثبات إمضائها التمسّك بظهور حال
المولى وسكوته في التقرير والإمضاء ؛ لأنّ الكلام في حجّية هذا الظهور.
الظهور التضمّني :
إذا كان للكلام
ظهور في مطلبٍ فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي ، وله ظهور ضمنيّ في كلّ
جزءٍ من أجزاء ذلك المطلب.
ومثال ذلك : أداة
العموم في قولنا : «أكِرم كلّ مَن في البيت» ، ونفرض أنّ في البيت مائة شخص ،
فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور
ضمني في الشمول لكلّ واحدٍ من وحدات هذه المائة ،
ولا شكّ في حجّية
كلّ ظواهرها الضمنية.
ولكن إذا ورد
مخصِّص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض أفراد العام ، ولنفرض أنّ هذا البعض يشمل عشرةً
من المائة ، فهذا يعني أنّ بعض الظواهر الضمنية سوف تسقط عن الحجّية ؛ لمجيء
المخصِّص. والسؤال هنا هو : أنّ الظواهر الضمنية الاخرى التي تشمل التسعين الباقين
هل تبقى على الحجية ، أوْ لا؟
فإن قيل بالأول
كان معناه أنّ الظهور التضمّني غير تابعٍ للظهور الاستقلالي في الحجّية ، وإن قيل
بالثاني كان معناه التبعية ، كما تكون الدلالة الالتزامية تابعةً للدلالة
المطابقية في الحجّية.
والأثر العملي بين
القولين : أنّه على الأول نتمسّك بالعام لإثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص
، وعلى الثاني تسقط حجّية الظواهر التضمّنية جميعاً ، ولا يبقى دليل حينئذٍ على
أنّ الحكم هل يشمل تمام الباقي ، أوْ لا؟
وقد ذهب بعض
الاصوليّين إلى سقوط الظواهر والدلالات التضمّنية جميعاً عن الحجّية ؛
وذلك لأنّ ظهور الكلام في الشمول لكلّ واحدٍ من المائة في المثال المذكور إنّما هو
باعتبار نكتةٍ واحدة ، وهي الظهور التصديقي لأداة العموم في أنّها مستعملة في
معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد أن علمنا أنّ الأداة لم تستعمل في الاستيعاب
بدليل ورود المخصِّص وإخراج عشرةٍ من المائة نستكشف أنّ المتكلِّم خالف ظهور حاله
واستعمل اللفظ في المعنى المجازي.
وبهذا تسقط كلّ
الظواهر الضمنية عن الحجّية ؛ لأنّها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم
بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض أن تكون
__________________
الأداة في المثال
مستعملةً في التسعين أو في تسعةٍ وثمانين ؛ لأنّ كلاًّ منهما مجاز ، وأيّ فرقٍ بين
مجازٍ ومجاز؟
وقد أجاب على ذلك
جملة من المحقّقين ، كصاحب الكفاية رحمهالله : بأنّ المخصِّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلِّم لظهور
حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وإنّما يكشف فقط عن عدم تعلّق إرادته
الجدّية بإكرام الأفراد الذين تناولهم المخصّص ، فبالإمكان الحفاظ على هذا الظهور
، وهو ما كنّا نسمّيه بالظهور التصديقي الأول فيما تقدم ، ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني ، وهو ظهور حال
المتكلّم في أنّ كلّ ما قاله وأبرزه باللفظ مراد له جدّاً ، فإنّ هذا الظهور لو
خلِّي وطبعه يثبت أنّ كلّ ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّاً.
غير أنّ المخصّص يكشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا كذلك ، فكلّ فردٍ كشف المخصّص عن
عدم شمول الإرادة الجدّية له نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ،
وكلّ فردٍ لم يكشف المخصّص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لإثبات حكم
العام له.
وفي بادئ الأمر قد
يخطر في ذهن الملاحظ أنّ هذا الجواب ليس صحيحاً ؛ لأ نّه لم يصنع شيئاً سوى أنّه
نقل التبعيض في الحجّية من مرحلة الظهور التصديقي الأول إلى مرحلة الظهور التصديقي
الثاني. فاذا كان الظهور التضمّني غير تابعٍ للظهور الاستقلالي في الحجّية فلماذا
لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأول؟ وإذا كان تابعاً له كذلك
فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجّية بعض متضمّناته دون بعض؟
وردُّنا على هذه
الملاحظة : أنّ فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من
__________________
مرحلةٍ إلى مرحلةٍ
هي : أنّ الظواهر الضمنيّة في مرحلة الظهور التصديقي الأول مترابطة ولها نكتة
واحدة ، فإن ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنيّة.
والنكتة هي : ظهور
حال المتكلِّم في أنّه يستعمل اللفظ استعمالاً حقيقياً ، فإنّ هذا هو الذي يجعلنا
نستظهر أنّ هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل ، وهكذا. فاذا
علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازاً ، وأنّ المتكلِّم قد خالف ظهوره الحالي المذكور
فلا موجب بعد ذلك لافتراض أنّ هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق الاستعمال.
وهذا خلافاً
للظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فإنّ نكتة كلّ واحدةٍ منها
مستقلّة عن نكتة الباقي ، فإنّ كلّ جزءٍ من أجزاء مدلول الكلام ـ أي المعنى
المستعمل فيه ـ ظاهر في الجدّية ، فاذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض أجزاء
الكلام فلا يسوِّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الأجزاء الاخرى من مدلول الكلام في
الجدّية ، وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي.
ومن الجدير بالذكر
الإشارة إلى أنّ الاستشكال في حجّية العام في تمام الباقي بعد التخصيص ـ على النحو
المتقدم ـ إنّما اثير في المخصّصات المنفصلة دون المتصلة ؛ نظراً إلى أنّه في
حالات المخصّص المتصل ـ كما في «أكرم كلّ مَن في البيت إلاّالعشرة» ـ تكون الأداة
مستعملةً في استيعاب أفراد مدخولها حقيقةً ، غير أنّ المخصّص المتصل يساهم في
تعيين هذا المدخول وتحديده ، فلا تجوّز ليقال أيّ فرقٍ بين مجازٍ ومجاز؟
وعلى أيّ حالٍ
فبالنسبة إلى الصيغة الأساسية للمسألة المطروحة ، وهي حجّية الظهور التضمّني ،
اتّضح أنّ الظواهر التضمّنية إذا كانت جميعاً بنكتةٍ واحدةٍ وعُلِم ببطلان تلك
النكتة سقطت عن الحجّية كلّها ، وإذا كانت استقلاليةً في نكاتها لم يسقط بعضها عن
الحجّية بسبب سقوط البعض الآخر.
٢
ـ الأدلّة المحرزة
الدليل العقلي
تمهيد.
إثبات القضايا العقليّة.
حجّية الدليل العقلي.
[تمهيد]
الدليل العقلي :
كلّ قضيةٍ يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.
والبحث عن القضايا
العقلية : تارةً يقع صغروياً في إدراك العقل وعدمه ، واخرى كبروياً في حجّية
الإدراك العقلي.
ولا شكّ في أنّ
البحث الكبروي اصولي ، وأمّا البحث الصغروي فهو كذلك إذا كانت القضية العقلية
المبحوث عنها تشكِّل عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط. وأما القضايا العقلية
التي ترتبط باستنباط أحكامٍ معيّنةٍ ولا تشكِّل عنصراً مشتركاً فليس البحث عنها
اصولياً.
ثمّ إنّ القضايا
العقلية التي يتناولها علم الاصول : إمّا أن تكون قضايا فعلية ، وإمّا أن تكون
قضايا شرطية. فالقضية الفعلية من قبيل إدراك العقل استحالة تكليف العاجز. والقضية
الشرطية من قبيل إدراك العقل «أنّ وجوب شيءٍ يستلزم وجوب مقدمته» ، فإنّ مردَّ هذا
إلى إدراكه لقضيةٍ شرطيةٍ مؤدّاها : «إذا وجب شيء وجبت مقدمته». ومن قبيل إدراك
العقل «أنّ قبح فعلٍ يستلزم حرمته» ، فإنّ مردّه إلى قضيةٍ شرطيّةٍ مؤدّاها : «إذا
قبح فعلٌ حرُم».
والقضايا الفعلية
: إمّا أن تكون تحليلية ، أو تركيبية.
والمراد
بالتحليلية : ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرةٍ من الظواهر وتحليلها ، كالبحث عن
حقيقة الوجوب التخييري ، أو عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه.
والمراد
بالتركيبية : ما يكون البحث فيها عن استحالة شيءٍ بعد الفراغ عن تصوره وتحديد
معناه ، من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في موضوعه مثلاً.
والقضايا الشرطية
: إمّا أن يكون الشرط فيها مقدمةً شرعية ، من قبيل المثال الأول لها. وإمّا أن لا
يكون كذلك ، من قبيل المثال الثاني لها.
وكلّ القضايا
الشرطية التي يكون شرطها مقدمةً شرعيةً تسمّى بالدليل العقلي غير المستقلّ ؛
لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها إلى إثبات تلك المقدمة من قبل الشارع.
وكلّ القضايا
الشرطية التي يكون شرطها مقدمةً غير شرعيةٍ تسمّى بالدليل العقلي المستقلّ ؛ لعدم
احتياجها إلى ضمِّ إثباتٍ شرعي.
وكذلك تعتبر
القضايا العقلية الفعلية التركيبية كلّها أدلّةً عقليةً مستقلّة ؛ لعدم احتياجها إلى
ضمِّ مقدمةٍ شرعيةٍ في الاستنباط منها ؛ لأنّ مفادها استحالة أنواعٍ خاصّةٍ من
الأحكام ، فتبرهن على نفيها بلا توقّفٍ على شيءٍ أصلاً. ونفي الحكم كثبوته ممّا
يطلب استنباطه من القاعدةالاصولية.
وأمّا القضايا
الفعليه التحليلية فهي تقع في طريق الاستنباط عادةً عن طريق صيرورتها وسيلةً
لإثبات قضيةٍ عقليةٍ تركيبيةٍ والبرهنة عليها ، أو عن طريق مساعدتها على تحديد
كيفية تطبيق القاعدة الاصولية.
ومثال الأول :
تحليل الحكم المجعول على نحو القضيةالحقيقية ، فإنّه يشكِّل برهاناً على القضية
العقلية التركيبية القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في
موضوع نفسه.
ومثال الثاني :
تحليل حقيقة الوجوب التخييري بإرجاعه إلى وجوبين مشروطين ، أو وجوبٍ واحدٍ على
الجامع مثلاً ، فإنّ ذلك قد يتدخّل في تحديد كيفية إجراء الأصل العملي عند الشكّ ،
ودوران أمر الواجب بين كونه تعيينياً لا عِدل له ، أو تخييرياً ذا عِدل.
وسوف نلاحظ أنّ
القضايا العقلية متفاعلة فيما بينها ومترابطة في بحوثها.
فقد نتناول قضيةً
تحليليةً بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال الاتّجاهات المتعدّدة في تفسيرها قضايا
عقلية تركيبية ، إذ قد يدّعي بعضٌ صيغةً تشريعية معيّنةً في تفسيرها ، فيدّعي
الآخر استحالة تلك الصيغة ويبرهن على ذلك فتحصل بهذه الاستحالة قضية تركيبية.
أو قد نطرح قضيةً
تحليليةً للتفسير ، فيضطرّنا تفسيرها إلى تناول قضايا تحليليةٍ اخرى تساعد على
تفسير تلك القضية. وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا الاخرى عادةً ضمن إطار تلك القضية
إذا كان دورها المطلوب مرتبطاً بما لها من دخلٍ في تحليل تلك القضية وتفسيرها.
وسنتناول في ما
يلي مجموعةً من القضايا العقلية التي تشكِّل عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ،
ثمّ نتكلّم بعد ذلك عن حجّية الدليل العقلي.
١ ـ إثبات القضايا العقليّة
قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور
شرطية القدرة ومحلّها :
في التكليف مراتب
متعدّدة ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والجعل ، والإدانة.
فالملاك هو
المصلحة الداعية إلى الإيجاب.
والإرادة هي الشوق
الناشئ من إدراك تلك المصلحة.
والجعل هو اعتبار
الوجوب مثلاً ، وهذا الاعتبار تارةً يكون لمجرّد إبراز الملاك والإرادة. واخرى
يكون بداعي البعث والتحريك ، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفّل بإثبات الجعل.
والإدانة هي مرحلة
المسؤولية والتنجّز واستحقاق العقاب.
ولا شكّ في أنّ
القدرة شرط في مرحلة الإدانة ؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن مقدوراً فلا يدخل في حقّ
الطاعة للمولى عقلاً. كما أنّ مرتبتي الملاك والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة
كشرطٍ فيهما بحيث لا ملاك في الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز ، وعن عدم دخالتها
كذلك بحيث يكون الفعل واجداً للمصلحة ومحطّاً للشوق حتى من العاجز ، وقد تسمّى
القدرة في الحالة الاولى بالقدرة الشرعية ، وفي الحالة الثانية بالقدرة العقلية.
وأمّا في مرتبة
جعل الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورةٍ مجرّدةٍ لم نجد
مانعاً عقلياً عن
شمولها للعاجز ؛ لأنّها اعتبار للوجوب ، والاعتبار سهل المؤونة ، وقد يوجّه إلى
المكلّف على الإطلاق لإبراز أنّ المبادئ ثابتة في حقّ الجميع.
ولكن قد نفترض جعل
الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي. ومن الواضح هنا أنّ التحريك المولوي إنّما هو
بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسؤولية ، ومع العجز لا إدانة ولا مسؤولية ـ كما تقدم
ـ فيستحيل التحريك المولوي ، وبهذا يمتنع جعل الحكم بداعي التحريك المولوي.
وحيث إنّ مفاد
الدليل عرفاً هو جعل الحكم بهذا الداعي فيختصّ لا محالة بالقادر ، وتكون القدرة
شرطاً في الحكم المجعول بهذا الداعي. والقدرة إنّما تتحقّق في موردٍ يكون الفعل
فيه تحت اختيار المكلف ، فإذا كان خارجاً عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا إيجاباً
ولا تحريماً ، سواء كان ضروريّ الوقوع تكويناً ، أو ضروريّ الترك كذلك ، أو كان
ممّا قد يقع وقد لا يقع ولكن بدون دخالةٍ لاختيار المكلّف في ذلك كنبع الماء من
جوف الأرض ، فإنّه في كلّ ذلك لا تكون القدرة محقّقة.
وثمرة دخل القدرة
في الإدانة واضحة ، وأمّا ثمرة دخلها في جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر
بلحاظ وجوب القضاء ، وذلك في حالتين :
الاولى
: أن يعجز المكلف عن
أداء الواجب في وقته ونفترض أنّ وجوب القضاء يدور إثباتاً ونفياً مدار كون هذا
العجز مفوِّتاً للملاك على المكلف وعدم كونه كذلك ، فإنّه إذا لم نقل باشتراط
القدرة في مرتبة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات
الوجوب على العاجز ـ وإن لم تكن هناك إدانة ـ ونثبت حينئذٍ بالدلالة الالتزامية
شمول الملاك ومبادئ الحكم له ، وبهذا نعرف أنّ العاجز قد فوَّت العجز عليه الملاك
فيجب عليه القضاء ، وخلافاً لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فإنّ الدليل حينئذٍ يسقط
إطلاقه عن الصلاحية لإثبات
الوجوب على العاجز
، وتبعاً لذلك تسقط دلالته الالتزامية على المبادئ ، فلا يبقى كاشف عن الفوت
المستتبع لوجوب القضاء.
الثانية
: أن يكون الفعل
خارجاً عن اختيار المكلف ، ولكنّه صدر منه بدون اختيارٍ على سبيل الصدفة. ففي هذه
الحالة إذا قيل بعدم الاشتراط تمسّكنا بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب بمبادئه على
هذا المكلف ، ويعتبر ما صدر منه صدفةً حينئذٍ مصداقاً للواجب فلا معنى لوجوب
القضاء عليه لحصول الاستيفاء. وخلافاً لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط ، فإنّ ما أتى
به لا يتعيّن بدليل [الأداء] أنّه مسقط لوجوب القضاء ونافٍ له ، بل لابدّ من طلب
حاله من قاعدةٍ اخرى من دليلٍ أو أصل.
حالات ارتفاع القدرة :
ثمّ إنّ القدرة
التي هي شرط في الإدانة ، وفي التكليف قد تكون موجودةً حين توجُّه التكليف ، ثمّ
تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد أسباب :
الأول
: العصيان ، فإنّ
الإنسان قد يعصي ، ويؤخّر الصلاة حتى لا يبقى من الوقت ما يُتاح له أن يصلّي فيه.
الثاني
: التعجيز وذلك بأن
يعجِّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ، بأن يكلِّفه المولى بالوضوء ، والماء موجود
أمامه فيريقه ، ويصبح عاجزاً.
الثالث
: العجز الطارئ
لسببٍ خارجٍ عن اختيار المكلف.
وواضح أنّ الإدانة
ثابتة في حالات السببين : الأول والثاني ؛ لأنّ القدرة حدوثاً على الامتثال كافية
لإدخال التكليف في دائرة حقّ الطاعة ، وأمّا في الحالة الثالثة فالمكلّف إذا فوجئ
بالسبب المعجِّز فلا إدانة. وإذا كان عالماً بأ نّه سيطرأ وتماهل في الامتثال حتى
طرأ فهو مُدان أيضاً.
وعلى ضوء ما تقدم
يقال عادةً : «إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً» ، أي أنّه لا
ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطاً في الإدانة والعقاب.
ويراد بالاضطرار
بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان ، أو التعجيز.
وأمّا التكليف فقد
يقال إنّه يسقط بطروِّ العجز مطلقاً ، سواء كان هذا العجز منافياً للعقاب والإدانة
، أوْ لا ؛ لأنّه على أيّ حال تكليف بغير المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز
الناشئ من العصيان والتعجيز مسقطاً للتكليف وإن كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا
الأساس يُردَف ما تقدّم من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ،
بقولهم : «إنّه ينافيه خطاباً». ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.
والصحيح أنّهم إن
قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليته ومحرّكيته فهذا واضح إذ لا يعقل محرّكيته مع
العجز الفعلي ولو كان هذا العجز ناشئاً من العصيان ، وإن قصدوا سقوط فعليته. فيرد
عليهم : أنّ الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطاً بالقدرة ما دام ثابتاً ،
فحيث لا قدرة بقاءً لا وجوب كذلك.
وأمّا إذا كان
مشروطاً بالقدرة بالقدر الذي يحقِّق الإدانة والمسؤولية فهذا حاصل بنفس حدوث
القدرة في أول الأمر فلا يكون الوجوب في بقائه منوطاً ببقائها.
والبرهان على
اشتراط القدرة في التكليف لا يقتضي أكثر من ذلك وهو أنّ التكليف قد جعل بداعي
التحريك المولوي ، ولا تحريك مولوي إلاّمع الإدانة ، ولا إدانة إلاّمع القدرة
حدوثاً ، فما هو شرط التكليف إذن بموجب هذا البرهان هو القدرة حدوثاً.
ومن هنا صحّ أن
يقال : إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي إطلاق الخطاب والوجوب المجعول أيضاً ؛
تبعاً لعدم منافاته للعقاب والإدانة. نعم ، لا أثر عملياً لهذا الإطلاق ، إذ سواء
قلنا به أوْ لا فروح التكليف محفوظة على
كلّ حال ،
وفاعليته ساقطة على كلّ حال ، والإدانة مسجّلة على المكلّف عقلاً بلا إشكال.
الجامع بين المقدور وغيره :
ما تقدّم حتى الآن
كان يعني أنّ التكليف مشروط بالقدرة على متعلقه. فإذا كان متعلقه بكل حصصه غير
مقدورٍ انطبقت عليه قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، وأمّا إذا كان متعلقه
جامعاً بين حصّتين : إحداهما مقدورة ، والاخرى غير مقدورة ، فلا شكّ ايضاً في
استحالة تعلّق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي ، وأمّا تعلقه بالجامع على
نحو الإطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة المذكورة عليه كلام بين الأعلام. وقد ذهب
المحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّ التكليف إذا تعلّق بهذا الجامع فيختصّ لا محالة
بالحصّة المقدورة منه ، ولا يمكن أن يكون للمتعلّق إطلاق للحصّة الاخرى ؛ لأنّ
التكليف بداعي البعث والتحريك وهو لا يمكن إلاّبالنسبة إلى الحصّة المقدورة خاصّة
فنفس كونه بهذا الداعي يوجب اختصاص التكليف بتلك الحصّة. وذهب المحقّق الثاني ووافقه جماعة من الأعلام إلى إمكان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على
نحوٍ يكون للواجب إطلاق بدلي يشمل الحصّة غير المقدورة ؛ وذلك لأنّ الجامع بين
المقدور وغير المقدور مقدور ، ويكفي ذلك في إمكان التحريك نحوه ، وهذا هو الصحيح.
__________________
وثمرة هذا البحث
تظهر فيما إذا وقعت الحصّة غير المقدورة من الفعل الواجب صدفةً وبدون اختيار
المكلّف ، فإنّه على قول المحقّق النائيني يحكم بعدم إجزائها ووجوب إتيان الجامع
في ضمن حصّةٍ اخرى ؛ لأنّه يفترض اختصاص الوجوب بالحصّة المقدورة ، فما وقع ليس
مصداقاً للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.
وعلى قول المحقّق
الثاني نتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بين الحصّتين
، فيكون المأتيّ به فرداً من الواجب فيحكم بإجزائه وعدم وجوب الإعادة.
شرطية القدرة بالمعنى الأعمّ
تقدم أنّ العقل يحكم بتقيّد التكليف واشتراطه بالقدرة على
متعلّقه ؛ لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور ، ولكن هل يكفي هذا المقدار
من التقييد ، أوْ لابدّ من تعميقه؟
ومن أجل الجواب
على هذا السؤال نلاحظ أنّ المكلف إذا كان قادراً على الصلاة تكويناً ، ولكنّه
مأمور فعلاً بانقاذ غريقٍ تفوت بإنقاذه الصلاة ، للتضادّ بين عمليّتي الإنقاذ
والصلاة وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، فهل يمكن أن يؤمَر هذا المكلف
بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان بكلا الفعلين؟
والجواب بالنفي ؛
لأنّ المكلّف وإن كان قادراً على الصلاة فعلاً قدرةً تكوينيةً ، ولكنّه غير قادرٍ
على الجمع بينها وبين إنقاذ الغريق ، فلا يمكن أن يكلّف بالجمع ، ولا فرق في
استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك بإيجابٍ واحدٍ أو بإيجابين يستدعيان
بمجموعهما الجمع بين الضدين ، وعلى هذا فلا يمكن أن يؤمر بالصلاة مَن هو مكلّف
فعلاً بالإنقاذ في هذا المثال وإن كان قادراً عليها تكويناً. وذلك يعني وجود قيدٍ
آخر للأمر بالصلاة ـ ولكلّ أمرٍ ـ إضافةً إلى القدرة التكوينية ، وهو أن لا يكون
مبتلىً بالأمر بالضدّ فعلاً ، فالقيد إذن مجموع أمرين :
القدرة التكوينية
وعدم الابتلاء بالأمر بالضدّ. وهذا ما نسمّيه بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ
ولا إشكال في ذلك ، وإنّما الإشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعيّن عقلاً أخذه
شرطاً في التكليف فهل هو بمعنى أن لا يكون مأموراً بالضدّ ، أو
__________________
بمعنى أن لا يكون
مشغولاً بامتثال الأمر بالضدّ؟
والأول يعني أنّ
كلّ مكلّفٍ بأحد الضدّين لا يكون مأموراً بضدّه ، سواء كان بصدد امتثال ذلك
التكليف أوْ لا.
والثاني يعني سقوط
الأمر بالصلاة عمّن كلِّف بالإنقاذ ، لكن لا بمجرّد التكليف ، بل باشتغاله بامتثاله
، فمع بنائه على العصيان وعدم الإنقاذ يتوجّه إليه الأمر بالصلاة ، وهذا ما يسمّى
بثبوت الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب.
وقد ذهب صاحب
الكفاية رحمهالله إلى الأول مدّعياً استحالة الوجه الثاني ؛ لأ نّه يستلزم في حالة كون
المكلّف بصدد عصيان التكليف بالإنقاذ أن يكون كلا التكليفين فعلياً بالنسبة إليه.
أمّا التكليف بالإنقاذ فواضح ؛ لأنّ مجرّد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه ، وأمّا
الأمر بالصلاة فلأنّ قيده محقّق بكلا جزءيه ؛ لتوفّر القدرة التكوينية ، وعدم
الابتلاء بالضدّ بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني ، وفعلية الأمر بالضدين معاً
مستحيلة ، فلابدّ إذن من الالتزام بالوجه الأوّل فيكون التكليف بأحد الضدّين بنفس
ثبوته نافياً للتكليف بالضدّ الآخر.
وذهب المحقّق
النائينيّ رحمهالله إلى الثاني ، وهذا هو الصحيح وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية :
النقطة
الاولى : أنّ الأمرين
بالضدين ليسا متضادّين بلحاظ عالم المبادئ ، إذ لا محذور في افتراض مصلحةٍ ملزمةٍ
في كلٍّ منهما وشوقٍ أكيدٍ لهما معاً ، ولا بلحاظ عالم الجعل ، كما هو واضح ،
وإنّما ينشأ التضادّ بينهما بلحاظ التنافي ، والتزاحم بينهما في عالم الامتثال ؛
لأنّ كلاًّ منهما بقدر ما يحرّك نحو امتثال نفسه
__________________
يبعِّد عن امتثال
الآخر.
النقطة
الثانية : أنّ وجوب أحد
الضدّين إذا كان مقيّداً بعدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ، أو بالبناء على
عصيانه فهو وجوب مشروط على هذا النحو ، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط
منافياً في فاعليته ومحرّكيته للتكليف بالضدّ الآخر ، إذ يمتنع أن يستند إليه عدم
امتثال التكليف بالضدّ الآخر ؛ لأنّ هذا العدم مقدمة وجوبٍ بالنسبة إليه ، وكلّ
وجوبٍ مشروط بمقدمةٍ وجوبيةٍ لا يمكن أن يكون محرّكاً نحوها وداعياً إليها ، كما
تقدم مبرهَناً في الحلقة السابقة .
وإذا امتنع استناد
عدم امتثال التكليف بالضد الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن أنّ هذا الوجوب لا
يصلح للمانعية والمزاحمة في عالم التحريك والامتثال.
النقطة
الثالثة : أنّ التكليف
بالضدِّ الآخر إمّا أن يكون مشروطاً بدوره أيضاً بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط ،
وإمّا أن يكون مطلقاً من هذه الناحية. فعلى الأول يستحيل أن يكون منافياً للوجوب
المشروط في مقام التحريك بنفس البيان السابق. وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضاً ؛ لأنّ
التكليف بالضدِّ الآخر مع فرض إطلاقه وإن كان يبعِّد عن امتثال الوجوب المشروط ،
ويصلح أن يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب المشروط ، ولكنّه إنّما يبعِّد
عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلّف نحو امتثال نفسه الذي يساوق إفناء شرط
الوجوب المشروط ونفي موضوعه ، وهذا يعني أنّه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط
بنفي أصل الوجوب المشروط وإعدام شرطه ، لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط
__________________
وحفظ شرطه ،
والوجوب المشروط إنّما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ ذاته وشرطه ، ولا يأبى عن
نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأساً ، إذ يستحيل أن يكون حافظاً لشرطه ، ومقتضياً
لوجوده.
وبهذا يتبرهن أنّ
الأمرين بالضدّين إذا كان أحدهما على الأقلّ مشروطاً بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في
إمكان ثبوتهما معاً بدون تنافٍ بينهما.
وهكذا نعرف أنّ
العقل يحكم بأنّ كلَّ وجوبٍ مشروط ـ إضافةً إلى القدرة التكوينية ـ بعدم الابتلاء
بالتكليف بالضدّ الآخر ، بمعنى عدم الاشتغال بامتثاله ، ولكن لا أيّ تكليفٍ آخر ،
بل التكليف الذي لا يقلّ في ملاكه أهمّيةً عن ذلك الوجوب ، سواء ساواه ، أو كان
أهمَّ منه.
وأمّا إذا كان
التكليف الآخر أقلّ أهميّةً من ناحية الملاك ، فلا يكون الاشتغال بامتثاله
مبرِّراً شرعاً لرفع اليد عن الوجوب الأهمّ ، بل يكون الوجوب الأهمّ مطلقاً من هذه
الناحية ، كما تفرضه أهمّيته.
ومن هنا نصل إلى
صيغةٍ عامةٍ للتقييد يفرضها العقل على كلّ تكليف ، وهي تقييده بعدم الاشتغال
بامتثال واجبٍ آخر لا يقلّ عنه أهمّية ، وعلى هذا الأساس إذا وقع التضادّ بين
واجبين ـ كالصلاة وإنقاذ الغريق ، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد ـ فالتعرّف
على أنّ أيَّهما وجوبه مطلق ، وأيّهما وجوبه مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر يرتبط
بمعرفة النسبة بين الملاكين ، فإن كانا متساويَين كان الاشتغال بكلٍّ منهما
مصداقاً لِمَا حكم العقل بأخذ عدمه قيداً في كلّ تكليف ، وهذا يعني أنّ كلاًّ من
الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ، ويسمّى بالترتّب من الجانبين.
وإن كان أحد الملاكين
أهمَّ كان الاشتغال بالأهمِّ مصداقاً لِمَا حكم العقل بأخذ عدمه قيداً في وجوب
المهمّ ، ولكنّ الاشتغال بالمهمّ لا يكون مصداقاً لِمَا
حكم العقل بأخذ
عدمه قيداً في وجوب الأهمّ ، وينتج هذا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق ، والأمر بالمهمّ
مقيّد ، وأنّ المكلّف لا بدّ له من الاشتغال بالأهمّ لكي لا يبتلى بمعصية شيءٍ من
الأمرين ، ولو اشتغل بالمهمّ لابتُلي بمعصية الأمر بالأهمّ.
[أحكام التزاحم :]
ويترتّب على ما
ذكرناه من كون القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ شرطاً عاماً في التكليف بحكم العقل
عدّة ثمراتٍ مهمّة :
منها : أنّه كلّما
وقع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كالصلاة والإزالة ـ وتسمّى
بحالات التزاحم ـ فلا ينشأ من ذلك تعارض بين دليلَي وجوب الصلاة ووجوب الإزالة ؛
لأنّ الدليل مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلّي وضمن قيوده المقدّرة الوجود ، كما
مرّ بنا في الحلقة السابقة ، ومن جملة تلك القيود : القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ
المتقدم. ولا يحصل تعارض بين الدليلين إلاّفي حالة وجود تنافٍ بين الجعلين ، وحيث
لا تنافيَ بين جعل وجوب الصلاة المقيّد بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ ، وجعل
وجوب الإزالة المقيّد كذلك فلا تعارض بين الدليلين.
فإن قيل : كيف لا
يوجد تعارض بين دليلَي «صلِّ» و «أزل» مع أنّ الأول يقتضي بإطلاقه إيجاب الصلاة ،
سواء أزال أوْ لا ، والثاني يقتضي بإطلاقه إيجاب الإزالة ، سواء صلّى أوْ لا ،
ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين الضدّين مطلوباً؟
كان الجواب على
ذلك : أنّ كلاًّ من الدليلين لا إطلاق فيه بحدّ ذاته لحالة الاشتغال بضدٍّ لا يقلّ
عنه أهمّية ؛ لأنّه مقيّد عقلاً بعدم ذلك ، كما تقدم. فإن كان
__________________
الواجبان
المتزاحمان متساويَين في الأهمّية فلا إطلاق في كلٍّ منهما لحالة الاشتغال بالآخر
، وإن كان أحدهما أهمّ فلا إطلاق في غير الأهمّ لذلك. وعلى كلّ حالٍ فلا يوجد
إطلاقان ـ كما ذكر ـ ليقع التعارض بينهما ، وهذا ما يقال من أنّ باب التزاحم مغاير
لباب التعارض ، ولا يدخل ضمنه ولا تطبَّق عليه قواعده.
وكما يكون التزاحم
بين واجبين يعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كذلك يكون بين واجبٍ وحرامٍ يعجز
المكلّف عن الجمع بين إيجاد الواجب منهما وترك الحرام ، كما إذا ضاقت قدرة المكلّف
في موردٍ مّا عن إتيان الواجب وترك الحرام معاً.
ومنها : أنّ
القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهمّ ملاكاً على غيره ؛ لأنّ
الاشتغال بالأهمّ ينفي موضوع المهمّ ، دون العكس ، هذا إذا كان هناك أهمّ. وأمّا
مع التساوي فالمكلّف مخيَّر عقلاً ؛ لأنّ الاشتغال بكلّ واحدٍ من المتزاحمين ينفي
موضوع الآخر. وإذا ترك المكلّف الواجبين المتزاحمين معاً ، استحقّ عقابين ؛ لفعلية
كلا الوجوبين في هذه الحالة.
ومنها : أنّ تقديم
أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمّية لا يعني سقوط الواجب الآخر رأساً ،
كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين على الآخر ، بل يبقى الآخر واجباً وجوباً
منوطاً بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وهذا ما يسمّى بالوجوب الترتّبي. ولا يحتاج إثبات
هذا الوجوب الترتّبي إلى دليلٍ خاصّ ، بل يكفيه نفس الدليل العام ؛ لأنّ مفاده ـ كما
عرفنا ـ وجوب متعلقه مشروطاً بعدم الاشتغال بواجبٍ لا يقلّ عنه أهمّية. والوجوب
الترتّبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمّية المزاحم الآخر.
ومن نتائج هذه
الثمرة : أنّ الصلاة إذا زاحمت إنقاذ الغريق الواجب الأهمّ واشتغل المكلّف بالصلاة
بدلاً عن الإنقاذ صحّت صلاته ، على ما تقدم ؛ لأنّها
مأمور بها بالأمر
الترتّبي ، وهو أمر محقَّق فعلاً في حقّ من لا يمارس فعلاً امتثال الأهمّ.
وأمّا إذا أخذنا
بوجهة نظر صاحب الكفاية رحمهالله القائل بأنّ الأمرين بالضدّين لا يجتمعان ولو على وجه
الترتّب فمن الصعب تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لأنّ صحّتها فرع ثبوت أمرٍ بها ، ولا
أمر بها ولو على وجه الترتّب بناءً على وجهة النظر المذكورة.
فإن قيل : يكفي في
صحّتها وفاؤها بالملاك وإن لم يكن هناك أمر.
كان الجواب : أنّ
الكاشف عن الملاك هو الأمر ، فحيث لا أمر لا دليل على وجود الملاك.
ما هو الضدّ؟
عرفنا أنّ الأمر
بشيءٍ مقيّد عقلاً بعدم الاشتغال بضدّه الذي لا يقلّ عنه أهمّية ، وانتهينا من ذلك
إلى أنّ وقوع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما لا يؤدِّي إلى
التعارض بين دليليهما. والآن نتساءل : ماذا نريد بهذا التضاد؟
والجواب : أنّنا
نريد بذلك حالات عدم إمكان الاجتماع الناشئة من ضيق قدرة المكلف ، ولكن لا ينطبق
هذا على كلّ ضدٍّ فهو :
أولاً
: لا ينطبق على
الضدّ العام ؛ أي النقيض ؛ وذلك لأنّ الأمر بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيداً
بعدم الاشتغال بنقيضه ؛ لأنّ فرض عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ، ويكون
الأمر به حينئذٍ تحصيلاً للحاصل ، وهو محال.
ومن هنا نعرف أنّ
النقيضين لا يعقل جعل أمرٍ بكلٍّ منهما لا مطلقاً ولا مقيّداً
بعدم الاشتغال
بالآخر. أمّا الأول فلأ نّه تكليف بالجمع بين نقيضين. وأمّا الثاني فلأ نّه تحصيل
للحاصل. وهذا يعني أنّه إذا دلّ دليل على وجوب فعلٍ ، ودلّ دليل آخر على وجوب [تركه]
أو حرمة فعله ، كان الدليلان متعارضين ؛ لأنّ التنافي بين الجعلين ذاتَيهما.
وثانياً
: لا ينطبق على
الضدِّ الخاصِّ في حالة الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ؛ لنفس السبب السابق ، حيث
إنّ عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود الآخر حينئذٍ ، والحال هنا كالحال في
النقيضين.
وعلى هذا فعجز
المكلّف عن الجمع بين واجبين إنّما يحقِّق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا
من قبيل النقيضين أو الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ، وإلاّ دخلت المسألة في باب
التعارض. ويمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ ثبوت التزاحم وانتفاء التعارض مرهون بإمكان
الترتب الذي يعني كون كلٍّ من الأمرين مشروطاً بعدم الاشتغال بمتعلّق الآخر.
فكلّما أمكن ذلك صحّ التزاحم ، وكلّما امتنع الترتّب ـ كما في الحالتين المشار
اليهما ـ وقع التعارض.
إطلاق الواجب لحالة المزاحمة :
قد تكون المزاحمة
قائمةً بين متعلَّقَي أمرين على نحوٍ يدور الأمر بين امتثال هذا أو ذاك ، كما إذا
كان وقت الصلاة ضيّقاً وابتلي المكلّف بنجاسةٍ في المسجد تفوت مع إزالتها الصلاة
رأساً. وقد لا تكون هناك مزاحمة على هذا النحو ، وإنّما تكون بين أحد الواجبين
وحصّةٍ معيّنةٍ من حصص الواجب الآخر.
ومثاله : أن يكون
وقت الصلاة موسَّعاً ، وتكون الإزالة مزاحمةً للصلاة في أول الوقت ، وبإمكان
المكلّف أن يزيل ثمّ يصلّي. ونحن كنّا نتكلّم عن الحالة الاولى من المزاحمة. وأمّا
الحالة الثانية فقد يقال إنّه لا مزاحمة بين الأمرين ؛ لإمكان
امتثالهما معاً ،
فإنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين الحصّة المزاحمة وغيرها ، والمكلَّف قادر
على إيجاد الجامع مع الإزالة ، فلا تضادّ بين الواجبين ، وهذا يعني أنّ كلاًّ من
الأمرين يلائم الآخر ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كان قد أتى بفردٍ من الواجب
المأمور به فعلاً.
وقد يقال : إنّ
المزاحمة واقعة بين الأمر بالإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة للحصّة المزاحمة ، فلا
يمكن أن يتلائم الأمر بالإزالة مع هذا الإطلاق في وقتٍ واحد.
والصحيح أن يقال :
إنّ لهذه المسألة ارتباطاً بمسألةٍ متقدمة ، وهي : أنّه هل يمكن التكليف بالجامع
بين المقدور وغير المقدور.
فإن أخذنا في تلك
المسألة بوجهة نظر المحقّق النائيني القائل بامتناع ذلك ، وأخذنا القدرة التكوينية
بالمعنى الأعمّ المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال واجبٍ مزاحمٍ لا يقلّ عنه
أهمّيةً كان معنى ذلك أنّ التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاةِ بمزاحمٍ وغيرها
ممتنع أيضاً ، فيقوم التزاحم بين الأمر بالجامع والأمر بالإزالة ، وحينئذٍ يطبَّق
قانون باب التزاحم ، وهو التقديم بالأهمّية.
ولا شكّ في انّ
الأمر بالإزالة أهمّ ؛ لأنّ استيفاءه ينحصر بذلك الزمان ، بينما استيفاء الأمر
بالجامع يتأتّى بحصّةٍ اخرى ، وهذا يعني ـ وفقاً لما تقدم ـ أنّ الأمر بالجامع يكون منوطاً بعدم الابتلاء بالإزالة
الواجبة ، فإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الأمر ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ كان معنى
ذلك أنّ الحصّة المزاحمة من الصلاة لا أمر بها ، فلا تقع صحيحةً إذا آثرها المكلّف
على الإزالة.
وإن فسّرنا عدم
الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم ـ كما عليه
__________________
النائيني ـ كان
معنى ذلك أنّ الأمر بالجامع ثابت على وجه الترتّب ، فلو أتى المكلّف بالحصّة
المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.
[وإن أخذنا في تلك
المسألة بوجهة نظر المحقّق الثاني القائل بإمكان تعلّق التكليف بالجامع بين
المقدور وغير المقدور ، فلا مانع حينئذٍ عن تعلّق التكليف بالجامع بين الحصّة
المبتلاة بمزاحم وغيرها ، فيكون الأمر بالجامع ثابتاً في عرض الأمر بالإزالة ، فلو
أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحةً من دون فرض الترتّب بين
الأمرين] .
التقييد بعدم المانع الشرعي :
قلنا : إنّ
القانون المتَّبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهمّ ملاكاً ، ولكن هذا فيما
إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقلّ به العقل من اشتراطٍ. فقد عرفنا أنّ العقل
يستقلّ باشتراط مفاد كلٍّ من الدليلين بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ ، فإذا
فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطاً من قبل الشارع ـ إضافةً إلى ذلك ـ بعدم المانع
الشرعي ـ أي بعدم وجود حكمٍ على الخلاف ـ دون الدليل الآخر ، قُدِّم الآخر عليه
ولم ينظر إلى الأهمّية في الملاك.
ومثاله : وجوب
الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحجّ ، كما إذا اشترط
__________________
على الشخص أن يزور
الحسين عليهالسلام في عرفة كلّ سنةٍ واستطاع بعد ذلك ، فإنّ وجوب الوفاء
بالشرط مقيّد في دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه ، بلسان (أنّ شرط الله قبل
شرطكم) . وأمّا دليل وجوب الحجّ فلم يقيّد بذلك ، فيقدَّم وجوب
الحجّ ، ولا ينظر إلى الأهمّية.
أمّا الأوّل فلأ
نّه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر ؛ لأنّ وجوب الحجّ ذاته ـ وبقطع النظر عن
امتثاله ـ مانع شرعيّ عن الإتيان بمتعلق الآخر ، فهو حكم على الخلاف ، والمفروض
اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعلية وجوب الحجّ.
وأمّا الثاني
فلأنّ أهمّية أحد الوجوبين ملاكاً إنّما تؤثِّر في التقديم في حالة وجود هذا
الملاك الأهمّ ، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطاً بعدم المانع الشرعيّ دلّ ذلك
على أنّ مفاده حكماً وملاكاً لا يثبت مع وجود المانع الشرعي. وحيث إنّ مفاد الآخر
مانع شرعيّ فلا فعلية للأوّل حكماً ولا ملاكاً مع فعلية مفاد الآخر ، وفي هذه
الحالة لا معنى لأخذ أهمّية ملاك الأول بعين الاعتبار.
وقد يطلق على
الحكم المقيّد بالتقييد الزائد المفروض أنّه مشروط بالقدرة الشرعية ، ويطلق على ما
لا يكون مقيّداً بأزيد ممّا يستقلّ به العقل بأ نّه مشروط بالقدرة العقلية. وعلى
هذا الأساس يقال : إنّه في حالات التزاحم يقدَّم المشروط بالقدرة العقلية على
المشروط بالقدرة الشرعية. فإن كانا معاً مشروطين بالقدرة العقلية جرى قانون
الترجيح بالأهمّية. غير أنّ نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعية وما يقابله قد يطلق
على معنىً آخر مرَّ بنا في الحلقة السابقة ، فلاحظ ، ولا تشتبه.
__________________
قاعدة إمكانِ الوجوبِ المشروط
للوجوب ثلاث مراحل
، وهي : الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم. وفي كلٍّ من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ
قيود معيّنة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلاً ، فإذا أخذنا هذا الواجب في
مرحلة الملاك نجد أنّ المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه ، ليسترجع وضعه
الطبيعي ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فإنّ الإنسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء
، وبدون المرض لا يتّصف الدواء بأ نّه ذو مصلحة. ومن هنا يعبَّر عن المرض بأ نّه
شرط في اتّصاف الفعل بالملاك ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الاتّصاف.
ثمّ قد نفرض أنّ
الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضاً ، ولكنّه
ليس شرطاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، إذ من الواضح أنّ المريض مصلحته في استعمال
الدواء منذ يمرض ، وإنّما الطعام شرط في ترتّب تلك المصلحة وكيفية استيفائها بعد
اتّصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضِّح أنّ المصلحة القائمة
بالدواء لا تستوفى إلاّبحصّةٍ خاصّةٍ من الاستعمال ، وهي استعماله بعد الطعام.
وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الترتّب تمييزاً له عن شرط الاتّصاف. وشرب
الدواء سواء كان مطلوباً تشريعياً من قبل الآمر ، أو مطلوباً تكوينياً لنفس المريض
له هذان النحوان من الشروط.
وشروط الاتّصاف
تكون شروطاً لنفس الإرادة في المرحلة الثانية ، خلافاً لشروط الترتّب فإنّها شروط
للمراد ، لا للإرادة ، من دون فرقٍ في ذلك كلّه بين الإرادة التكوينية والتشريعية.
فالإنسان لا يريد
أن يشرب الدواء إلاّإذا رأى نفسه مريضاً ، ولا يريد
من مأموره أن يشرب
الدواء إلاّإذا كان كذلك. ولكنّ إرادة شرب الدواء للمريض أو لمن يوجِّهه فعليّة
قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فإنّ المريض قد يتناول الطعام لا لشيءٍ إلاّحرصاً منه
على أن يشرب الدواء بعده وفقاً لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضِّح أنّ تناول الطعام
ليس قيداً للإرادة ، بل هو قيد للمراد ، بمعنى أنّ الإرادة فعليّة ومتعلقة بالحصّة
الخاصّة ؛ وهي شرب الدواء المقيّد بالطعام ، ومن أجل فعليّتها كانت محرِّكةً نحو
إيجاد القيد نفسه.
غير أنّ الإرادة
التي ذكرنا أنّها مقيدة بشروط الاتّصاف ليست منوطةً بالوجود الخارجي لهذه الشروط ،
بل بوجودها التقديري اللحاظي ؛ لأنّ الإرادة معلولة دائماً لإدراك المصلحة ولحاظ
ما له دخل في اتّصاف الفعل بها ، لا لواقع تلك المصلحة مباشرة. وما أكثر المصالح
التي لا تؤثِّر في إرادة الانسان لعدم إدراكه ولحاظه لها. فشروط الاتّصاف بوجودها
الخارجي دخيلة في الملاك ، وبوجودها التقديري اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة
في الدواء إلاّإذا كان الإنسان مريضاً حقّاً ، ولا إرادة للدواء إلاّإذا لاحظ
الإنسان المرض وافترضه في نفسه ، أو فيمن يتولّى توجيهه.
ونفس الفارق بين
شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ينعكس على المرحلة الثالثة ؛ وهي مرحلة جعل الحكم ،
فقد علمنا سابقاً أنّ جعل الحكم عبارة عن إنشائه على موضوعه المقدّر الوجود ، فكلّ
شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود في موضوع الحكم وتعتبر شروطاً للوجوب المجعول ،
وأمّا شروط الترتّب فتكون مأخوذةً قيوداً للواجب.
وإذا لاحظنا
المرحلة الثالثة بدقّةٍ ، وميّزنا بين الجعل والمجعول ـ كما مرّ بنا في الحلقة
السابقة ـ نجد أنّ الجعل باعتباره أمراً نفسانياً منوطٌ ومرتبطٌ
بشروط
__________________
الاتّصاف بوجودها
التقديري اللحاظي ـ كالإرادة تماماً ـ لا بوجودها الخارجي ، ولهذا كثيراً ما
يتحقّق الجعل قبل أن توجد شروط الاتّصاف خارجاً. وأمّا فعلية المجعول فهي منوطة
بفعلية شروط الاتّصاف بوجودها الخارجي ، فما لم توجد خارجاً كلّ القيود المأخوذة
في موضوع الحكم لا يكون المجعول فعلياً. وأمّا شروط الترتّب فتؤخذ قيوداً في
الواجب تبعاً لأخذها قيوداً في المراد.
وبهذا نعرف أنّ
الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتّصاف ؛ لأ نّه مشروط بها في عالم
الجعل.
وأمّا ما يقال من
أنّ الوجوب المشروط غير معقول ؛ لأنّ المولى يجعل الحكم قبل أن تتحقّق الشروط
خارجاً ، فكيف يكون مشروطاً؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات
إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل بالوجود التقديري للشرط ، وإناطة المجعول بالوجود
الخارجي له.
وأمّا ثمرة البحث
عن إمكان الوجوب المشروط وامتناعه فتظهر في بحثٍ مقبلٍ إن شاء الله تعالى.
__________________
المسؤولية تجاه القيود والمقدِّمات
تنقسم المقدمات
الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام :
الأول
: المقدمات التي
تتوقّف عليها فعلية الوجوب ، وهي إنّما تكون كذلك بالتقييد الشرعي وأخذها مقدّرة
الوجود في مقام جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ؛ لأنّ الوجوب حكم مجعول تابع
لجعله ، فما لم يقيّد جعلاً بشيءٍ لا يكون ذلك الشيء دخيلاً في فعليّته. وتسمّى
هذه المقدمات بالمقدمات الوجوبية ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ.
الثاني
: المقدمات التي
يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بسبب أخذ الشارع لها قيداً في الواجب. وتسمّى
بالمقدمات الشرعية الوجوديه ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.
الثالث
: المقدمات التي
يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بدون أخذها قيداً من قبل الشارع ، كقطع المسافة
إلى الميقات بالنسبة إلى الحجّ الواجب على البعيد ، ونصب السُلَّم بالنسبة إلى من
وجب عليه المكث في الطابق الأعلى. وتُسمّى بالمقدّمات العقليّة الوجوديّة.
وبالمقارنة بين
هذين القسمين من المقدمات الوجودية نلاحظ : أنّه في مورد المقدّمة الشرعية
الوجوديّة قد تعلّق الأمر بالمقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد ،
وأنّ المقدمة المذكورة مقدّمة عقلية للتقيّد ، بينما نجد أنّ المقدّمة العقليّة
الوجوديّة هي مقدمة لذات الفعل.
والكلام تارةً يقع
في تحديد مسؤولية المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدمات ، واخرى في تحديد الضابط
الذي يسير عليه المولى في جعل المقدمة
من هذا القسم أو
ذاك.
أمّا تحديد
مسؤولية المكلف تجاه المقدمات فحاصله : أنّ الوجوب وكذلك كلّ طلبٍ لا يكون محرّكاً
نحو المقدّمات الوجوبيّة ، ولا مديناً للمكلف بها ؛ لأنّه لا يوجد إلاّبعد تحقّقها
فكيف يكون باعثاً على إيجادها؟ وإنّما يكون محرِّكاً نحو المقدمات الوجودية بكلا
قسميها ؛ لأنّه فعليّ قبل وجودها ، فيحرِّك لا محالة نحو إيجادها تبعاً لتحريكه
نحو متعلقه ، بمعنى أنّ المكلف مسؤول عقلاً من قبل ذلك التكليف عن إيجاد تلك
المقدمات. وهذا التحريك يبدأ من حين فعلية التكليف المجعول ، فقبل أن يصبح التكليف
فعلياً لا محرّكية له نحو المقدمات تبعاً لعدم محرّكيّته نحو متعلقه ؛ لأنّ
المحرّكية من شؤون الفعلية.
وإذا اتّفق أنّ
قيداً مّا كان مقدّمةً وجوبيّةً ووجوديّةً معاً امتنع تحريك التكليف نحوه ؛
لتفرّعه على وجوده ، وإنّما يكون محرّكاً ـ بعد وجود ذلك القيد ـ نحو التقيّد
وإيقاع الفعل مقيّداً به.
وأمّا تحديد
الضابط الذي يسير عليه المولى فهو : أنّ كلّ ما كان من شروط الاتّصاف في مرحلة
الملاك فيأخذه قيداً للوجوب ؛ لا للواجب ، فيصبح مقدمةً وجوبية. والوجه في ذلك
واضح ؛ لأنّه لمّا كان شرطاً في الاتّصاف فلا يهتمّ المولى بتحصيله ، بينما لو
جعله قيداً للواجب وكان الوجوب فعليّاً قبله لأصبح مقدمةً وجودية ، ولكان التكليف
محرِّكاً نحو تحصيله ، فيتعيّن جعله مقدمةً وجوبية.
وأمّا ما كان من
شروط الترتّب فهو على نحوين :
أحدهما : أن يكون
اختيارياً للمكلّف ، وفي هذه الحالة يأخذه المولى قيداً للواجب ؛ لأنّه يهتمّ
بتحصيله.
والآخر : أن يكون
غير اختياري ، وفي هذه الحالة يتعيّن أخذه قيداً
للوجوب إضافةً إلى
أخذه قيداً للواجب. ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ، إذ مع الاقتصار كذلك
يكون التكليف محرِّكاً نحوه ، ومديناً للمكلف به ، وهو غير معقول ؛ لعدم كونه
اختيارياً.
وبهذا يتّضح أنّ
الضابط في جعل شيءٍ قيداً للوجوب أحد أمرين : إمّا كونه شرط الاتّصاف ، وإمّا كونه
شرط الترتّب مع عدم كونه مقدوراً.
القيود المتأخِّرة زماناً عن المقيّد
القيد ـ سواء كان
قيداً للحكم المجعول ، أو للواجب الذي تعلّق به الحكم ـ قد يكون سابقاً زماناً على
المقيَّد به ، وقد يكون مقارناً. فالقيد المتقدم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان
الذي هو قيد لوجوب الصيام ، مع أنّ هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد
المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدم للواجب من قبيل
الوضوء ، بناءً على كون الصلاة مقيّدةً بالوضوء لا بحالةٍ مسبّبةٍ عنه مستمرّة.
والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.
وقد افترض في
الفقه أحياناً كون القيد متأخّراً زماناً عن المقيّد ، ومثاله في قيود الحكم :
قيديّة الإجازة لنفوذ عقد الفضولي ، بناءً على القول بالكشف. ومثاله في قيود
الواجب : غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحة صيام النهار المتقدّم ، على قول
بعض الفقهاء .
ومن هنا وقع البحث
في إمكان الشرط المتأخِّر وعدمه. ومنشأ الاستشكال هو : أنّ الشرط والقيد بمثابة
العلّة أو جزء العلّة للمشروط والمقيّد ، ولا يعقل أن تتأخّر العلّة أو شيء من
أجزائها زماناً عن المعلول ، وإلاّ يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأنّ
المتأخِّر معدوم في الزمان السابق ، فكيف يوثِّر في وقتٍ سابقٍ على وجوده؟
وقد اجيب على هذا
البرهان : أمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للواجب فبأنّ كون شيءٍ قيداً للواجب
مرجعه إلى تحصيص الفعل بحصّةٍ خاصّة ، وليس
__________________
القيد علّةً أو
جزءَ العلّة للفعل ، والتحصيص كما يمكن أن يكون بإضافته إلى أمرٍ مقارنٍ أو متقدمٍ
، كذلك يمكن أن يكون بأمرٍ متأخِّر.
وأمّا فيما يتعلّق
بالشرط المتأخِّر للحكم فبأنّ الحكم : تارةً يراد به الجعل ، واخرى يراد به
المجعول. أمّا الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديري اللحاظي ، لا بوجودها
الخارجي ـ كما تقدّم ـ ووجودها اللحاظي مقارن للجعل. وأمّا المجعول فهو وإن كان
منوطاً بالوجود الخارجي لقيود الحكم ولكنّه مجرّد افتراض ، وليس وجوداً حقيقياً
خارجياً ، فلا محذور في إناطته بأمرٍ متأخِّر.
والتحقيق : أنّ
هذا الجواب وحده ليس كافياً ؛ وذلك لأنّ كون شرطٍ قيداً للحكم والوجوب أو للواجب
ليس جزافاً ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدم ، وحاصله : أنّ ما كان دخيلاً وشرطاً
في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحةٍ يؤخذ قيداً للوجوب ، وما كان دخيلاً وشرطاً في
ترتّب المصلحة على الفعل يؤخذ قيداً للواجب.
والجواب المذكور
إنّما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في تحصيص الواجب ، أو في الوجوب المجعول
، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب في ترتّب المصلحة ووجودها ، ودخل قيد
الوجوب في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة وترتّب المصلحة أمر تكويني ، واتّصاف الفعل
بكونه ذا مصلحةٍ أمر تكويني أيضاً ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ، كغسل
المستحاضة في ليلة الأحد مؤثِّراً في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت
السابق إذا اخذ قيداً للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ، كالغسل المذكور
، مؤثِّراً في اتّصاف الصوم في يوم السبت بكونه ذا مصلحةٍ إذا اخذ قيداً للوجوب؟
__________________
ومن هنا قد يقال
باستحالة الشرط المتأخّر ، ويلتزم بتأويل الموارد التي تُوهِم ذلك بتحويل الشرطية
من أمرٍ متأخّرٍ إلى أمرٍ مقارن ، فيقال مثلاً : إنّ الشرط في نفوذ عقد الفضولي
على الكشف ليس هو الإجازة المتأخرة ، بل كون العقد ملحوقاً بالإجازة. والشرط في
صوم المستحاضة يوم السبت كونه ملحوقاً بالغسل ، وهذه صفة فعلية قائمة بالأمر
المتقدم.
وثمرة البحث في
الشرط المتأخر ـ إمكاناً وامتناعاً ـ تظهر من ناحيةٍ في إمكان الواجب المعلّق
وامتناعه ، فقد تقدم في الحلقة السابقة أنّ إمكان الواجب المعلّق يرتبط بإمكان الشرط المتأخّر.
وتظهر من ناحيةٍ
اخرى فيما إذا دلّ الدليل على شرطيّة شيء ، كرضا المالك الذي دلّ الدليل على
شرطيّته في نفوذ البيع وتردّد الأمر بين كونه شرطاً متقدماً أو متأخّراً ، فإنّه
على القول بامتناع الشرط المتأخّر يتعيّن الالتزام بكونه شرطاً مقارناً ، فيقال في
المثال بصحة عقد الفضولي على نحو النقل ؛ لأنّ الحمل على الشرط المتأخّر إن كان
بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخّر فهو غير معقول ، وإن كان بالتأويل فهو خلاف ظاهر
الدليل ؛ لأنّ ظاهره شرطية نفس الرضا ، لا كون العقد ملحوقاً به. وأمّا على الثاني
فلابدّ من اتّباع ما يقتضيه ظاهر الأدلّة أيّ شيءٍ كان.
__________________
زمان الوجوب والواجب
لا شكّ في أنّ
زمان الوجوب لا يمكن أن يتقدم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام في أنّه
هل يمكن أن يبدأ قبله ، أوْ لا؟ ومثاله : أن يفترض أنّ وجوب صيام شهر رمضان يبدأ
من حين طلوع هلاله ، غير أنّ زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.
وقد ذهب جملة من
الاصوليّين كصاحب الفصول إلى إمكان ذلك ، وسمِّي هذا النحو من الوجوب بالمعلق ؛
تمييزاً له عن الوجوب المشروط. فكلّ منهما ليس ناجزاً بتمام المعنى ، غير أنّ ذلك
في المشروط ينشأ من إناطة الوجوب بشرط ، وفي المعلق من عدم مجيء زمان الواجب.
فإن قيل : إذا كان
زمان الواجب متأخّراً ولا يبدأ إلاّعند طلوع الفجر ، فما الداعي للمولى إلى جعل
الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوباً معطّلاً عن الامتثال ، أو ليس ذلك
لغواً؟!
كان الجواب : أنّ
فعلية الوجوب تابعة لفعلية الملاك ، أي لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتّصف
الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعلي. فإذا افترضنا أنّ طلوع الفجر ليس من شروط
الاتّصاف بل من شروط الترتب ، وأنّ ما هو من شروط الاتّصاف طلوع هلال الشهر فقط ،
فهذا يعني أنّه حين طلوع الهلال يتّصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة ، فيكون الوجوب
فعلياً وإن كان زمان الواجب مرهوناً بطلوع الفجر ؛ لأنّ طلوع الفجر دخيل في ترتّب
المصلحة. ولفعلية
__________________
الوجوب عند طلوع
الهلال آثار عملية على الرغم من عدم إمكان امتثاله ؛ وذلك لأ نّه من حين يصبح
فعلياً تبدأ محرّكيّته نحو المقدمات ، وتبدأ مسؤولية المكلّف عن تهيئة مقدمات
الواجب.
وقد اعترض على
امكان الواجب المعلّق باعتراضين :
الأول
: أنّ الوجوب حقيقته
البعث والتحريك نحو متعلّقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلي ، وإلاّ لكان الانبعاث
والامتثال ملازماً له ؛ لأنّ البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأني ، أي أنّه
حكم قابل للباعثية ، وقابلية البعث تلازم قابلية الانبعاث ، فحيث لا قابلية
للانبعاث ، لا قابلية للبعث ، فلا وجوب.
ومن الواضح أنّه
في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابلية للانبعاث ، فلا بعث شأني ، وبالتالي
لا وجوب.
ويرد عليه : أنّ
الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري ، وليس متقوّماً بالبعث الفعلي أو الشأني
، وإنّما المستظهر من دليل جعل الوجوب أنّه قد جعل بداعي البعث والتحريك ،
والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أنّ المقصود من جعل الحكم إعداده لكي
يكون محرّكاً شأنيّاً خلال ثبوته ، ولا دليل على أنّ المقصود جعله كذلك من بداية
ثبوته.
الثاني
: أنّ طلوع الفجر
إمّا أن يؤخذ قيداً في الواجب فقط ، أو يؤخذ قيداً في الوجوب أيضاً. فعلى الأول
يلزم كون الوجوب محرِّكاً نحوه ؛ لِمَا تقدّم من أنّ كلّ قيدٍ يؤخذ في الواجب دون
الوجوب يشمله التحريك المولوي الناشئ من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ؛ لأنّ طلوع
الفجر غير اختياري.
وعلى الثاني يصبح
طلوع الفجر شرطاً للوجوب ، فإن كان شرطاً مقارناً فهذا معناه عدم تقدم الوجوب على
زمان الواجب ، وإن كان شرطاً متأخّراً يلزم محذور الشرط المتأخّر. والشيء نفسه
نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع
الفجر ، فإنّها
كطلوع الفجر في الشقوق المذكورة.
ومن هنا كنّا نقول
في الحلقة السابقة : إنّ إمكان الوجوب المعلّق يتوقّف على افتراض إمكان الشرط
المتأخّر ، وذلك باختيار الشقّ الأخير.
وأمّا ثمرة البحث
في إمكان الواجب المعلق فتأتي الإشارة اليها إن شاء الله تعالى.
__________________
المسؤولية عن المقدّمات قبل الوقت
اتّضح ممّا تقدم أنّ المسؤولية تجاه مقدمات الواجب من قبل الوجوب إنّما
تبدأ ببداية فعلية هذا الوجوب ، ويترتّب على ذلك أنّ الواجب إذا كان له زمن متأخّر
، وكان يتوقّف على مقدمة ، ولم يكن بالإمكان توفيرها في حينها ، ولكن كان بالإمكان
إيجادها قبل الوقت فلا يجب على المكلف إيجادها قبل الوقت ، إذ لا مسؤولية تجاه
مقدمات الواجب إلاّبعد فعلية الوجوب ، وفعلية الوجوب منوطة بالوقت. وتسمّى المقدمة
في هذه الحالة بالمقدمة المفوِّتة.
ومثال ذلك : أن
يعلم المكلّف قبل الزوال بأ نّه إذا لم يتوضّأ الآن فلن يُتاحَ له الوضوء بعد
الزوال ، فيمكنه أن لا يتوضّأ ، ولا يكون بذلك مخالفاً للتكليف بالصلاة بوضوء ؛
لأنّ هذا التكليف ليس فعلياً الآن ، وإنّما يصبح فعلياً عند الزوال ، وفعليته
وقتئذٍ منوطة بالقدرة على متعلقه في ذلك الظرف ؛ لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة
في ذلك الظرف على الصلاة بوضوءٍ متوقّفة ـ بحسب الفرض ـ على أن يكون المكلف قد
توضّأ قبل الزوال. فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدمات الوجوب ، وبترك المكلّف
له يحول دون تحقّق الوجوب وفعليّته في حينه ، لا أنّه يتورّط في مخالفته.
ولكن يلاحظ
أحياناً أنّ الواجب قد يتوقّف على مقدمةٍ تكون دائماً من هذا القبيل. ومثالها :
وجوب الحجّ الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع أنّ الحج
يتوقّف على السفر إلى الميقات قبل ذلك ، والصيام من
__________________
الجنب يتوقّف على
الاغتسال قبل طلوع الفجر. ولا شكّ في أنّ المكلّف مسؤول عن طَيِّ المسافة من قِبل
وجوب الحجّ ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قِبل وجوب الصيام. ومن هنا وقع البحث في
تفسير ذلك ، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلّف فيها بإيجاد المقدمات المفوِّتة.
وقد ذُكرت في
المقام عدّة تفسيرات :
التفسير
الأول : إنكار الوجوب
المشروط رأساً ، وافتراض أنّ كلَّ وجوبٍ فعليٌّ قبل تحقّق الشروط والقيود
المحدِّدة له في لسان الدليل. وإِذا كان فعلياً كذلك فتبدأ محرّكيته نحو مقدمات
الواجب قبل مجيء ظرف الواجب. ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية
العملية إلزام المكلّف بالمقدمات المفوِّتة للواجب من قبل ذلك الوجوب.
وهذه هي ثمرة
البحث في إمكان الوجوب المشروط وامتناعه. وقد تقدم أنّ الصحيح : إمكان الوجوب المشروط ـ خلافاً لِمَا في
تقريرات الشيخ الأنصاري الذي تقدّم ـ بالتفسير المذكور.
التفسير
الثاني : وهو يعترف بإمكان
الوجوب المشروط ، ولكن يقول بإمكان الوجوب المعلق أيضاً ، ويفترض أنّه في كلّ
موردٍ يقوم فيه الدليل على لزوم المقدمة المفوِّتة من قبل وجوب ذيها نستكشف أنّ
الوجوب معلَّق ؛ أي أنّه سابق على زمان الواجب. وفي كلّ موردٍ يقوم فيه الدليل على
أنّ الوجوب معلَّق نحكم فيه بمسؤولية المكلّف تجاه المقدمات المفوِّتة ، وهذه هي
ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلّق وامتناعه.
__________________
التفسير
الثالث : أنّ القدرة
المأخوذة قيداً في الوجوب ، إن كانت عقليةً ، بمعنى أنّها غير دخيلةٍ في ملاكه ،
فهذا يعني أنّ المكلّف بتركه للمقدمة المفوِّتة يعجِّز نفسه عن تحصيل الملاك مع
فعليته في ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلاً ؛ لأنّ تفويت الملاك بالتعجيز كتفويت التكليف
بالتعجيز.
وإن كانت القدرة
شرعيّةً ، بمعنى أنّها دخيلة في الملاك أيضاً ، فلا ملاك في فرض ترك المكلف
للمقدمة المفوِّتة المؤدِّي إلى عجزه في ظرف الواجب ، وفي هذه الحالة لا مانع من
ترك المقدمة المفوِّتة.
وعلى هذا ففي كلّ
حالةٍ يثبت فيها كون المكلّف مسؤولاً عن المقدمات المفوِّتة نستكشف من ذلك أنّ
القدرة في زمان الواجب غير دخيلةٍ في الملاك. كما أنّه في كلّ حالةٍ يدلّ فيها
الدليل على أنّ القدرة كذلك يثبت لزوم المقدمات المفوِّتة ، غير أنّ هذا المعنى يحتاج
إلى دليلٍ خاصّ ، ولا يكفيه دليل الواجب العام ؛ لأنّ دليل الواجب له مدلول مطابقي
وهو الوجوب ، ومدلول التزامي وهو الملاك. ولا شكّ في أنّ المدلول المطابقي مقيّد
بالقدرة ، ومع سقوط الإطلاق في الدلالة المطابقية يسقط في الدلالة الالتزامية
أيضاً ؛ للتبعيّة ، فلا يمكن أن نثبت به كون الملاك ثابتاً في حالتي القدرة والعجز
معاً.
أخذ القطع بالحكم في موضوعِ الحكم
قد يفترض تارةً
أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.
واخرى أخذه في
موضوع حكمٍ مضادٍّ له.
وثالثةً أخذه في
موضوع مثله.
ورابعةً أخذه في
موضوع حكم مخالف.
ولا شكّ في إمكان
الأخير. وإنمّا وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الاولى :
أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :
أمّا الافتراض
الأول ، فقد يبرهَن على استحالته بأدائه للدور ، إذ يتوقف كلّ من الحكم والعلم به
على الآخر.
وقد يجاب : بأ نّه
لا دور ؛ لأنّ الحكم وإن كان متوقّفاً على القطع ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه إلاّأنّ
القطع بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم.
وتحقيق الحال في
ذلك : أنّ القطع بالحكم إذا اخذ في موضوع شخص ذلك الحكم : فإمّا أن يكون الحكم
المقطوع دخيلاً في الموضوع أيضاً ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب في
الموضوع ، وإمّا أن لا يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في الموضوع.
ففي الحالة الاولى
تعتبر الاستحالة واضحة ؛ لوضوح الدور وتوقّف الحكم على نفسه عندئذٍ.
وأمّا في الحالة
الثانية فلا يجري الدور بالتقريب المذكور ، ولكنّ الافتراض
مع هذا مستحيل.
وقد بُرهِن على استحالته بوجوه :
منها : أنّ
الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطاً بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن
يسلِّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفية في القطع التي تجعل القاطع دائماً
يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.
ومنها : أنّه يلزم
الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلِّ تكليفٍ يتوقّف على العلم بتحقّق
موضوعه ، وموضوعه ـ بحسب الفرض ـ هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفاً على
العلم بالعلم بالتكليف. والعلم بالعلم نفس العلم ؛ لأنّ العلم لا يعلم بعلمٍ زائد
، بل هو معلوم بالعلم الحضوري ؛ لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقّف العلم
على نفسه.
إلاّ أنّ كلّ هذا
إنّما يَرد إذا اخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا اخذ العلم بالجعل في
موضوع المجعول. فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم
بالجعل ، وأمّا مَن لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار كالمحقّق النائيني رحمهالله فقد وقع في حيرةٍ من ناحيتين :
الاولى : أنّه كيف
يتوصّل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلاً؟
الثانية : أنّه
إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، بناءً على مختاره من أنّ التقابل بين الإطلاق
والتقييد الثبوتيّين تقابل العدم والملكة. وهذا يعني أنّ الجعل الشرعيّ يبقى
مهملاً بلا تقييدٍ ولا إطلاق ، فكيف يرفع هذا الإهمال ويتعيّن في المطلق تارةً وفي
المقيد اخرى؟
وقد حَلّ رحمهالله ذلك بافتراض جعلٍ ثانٍ يتكفّل إثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأول خاصّةً
إذا اريد التقييد ، وللمكلف مطلقاً من حيث علمه بالجعل الأول وجهله به إن اريد
الإطلاق ، وبذلك تتحقق نتيجة التقييد والإطلاق. وإنّما
نُعبِّر بالنتيجة
، لابهما ؛ لأنّ ذلك لم يحصل بالجعل الأول المهمل ، وإنمّا عوِّض عن إطلاقه
وتقييده بجعلٍ ثانٍ على الوجه المذكور. ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد
والإطلاق في نفس الجعل الأول ؛ لأنّ العلم بالحكم الأول اخذ قيداً في الحكم الثاني
، لا في نفسه ، فلا دور. ونظراً إلى أنّ الجعلين قد نَشَآ من غرضٍ واحدٍ ولأجل
ملاكٍ فاردٍ كان التقييد في الثاني منهما في قوة التقييد في الأول ، ولهذا عبَّر
عن الثاني بمتمِّم الجعل الأول .
ويرد عليه : أنّه
إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأول فهذا التقييد ممكن في
الجعل الأول مباشرة ، كما عرفت.
وإن أراد تقييد
الحكم في الجعل الثاني بالعلم بفعلية المجعول في الجعل الأول المهمل ، فهذا غير
معقول ؛ لأنّه يفترض أنّ فعلية المجعول بالجعل الثاني فرع العلم بفعلية المجعول
بالجعل الأول المهمل. وحينئذٍ نتساءل : أنّ المجعول بالجعل المهمل هل ترتبط فعليته
بالعلم به ، أوْ لا؟
فعلى الأول يعود
المحذور ، وهو توقّف الشيء على العلم به. وعلى الثاني يلزم الخلف ، وأن يكون الجعل
المهمل الذي لا إطلاق فيه مطلقاً ؛ لأنّ ثبوت مجعوله بدون توقّفٍ على القيد هو
معنى الإطلاق.
وثمرة هذا البحث
تظهر في إمكان التمسّك بإطلاق دليل الحكم لنفي دخل قيد العلم في موضوعه ، فإنّه إن
بُني على إمكان التقييد والإطلاق معاً أمكن ذلك ، كما هو الحال في نفي سائر القيود
المحتملة بالإطلاق.
وإن بُني على مسلك
المحقّق النائينيّ القائل باستحالة التقييد والإطلاق معاً ، فلا يمكن ذلك ؛ لأنّ
الاطلاق في الحكم مستحيل ، فكيف يتمسّك باطلاق الدليل
__________________
إثباتاً لا كتشاف
أمر مستحيل.
وإن بُني على أنّ
التقييد مستحيل والإطلاق ضروري ، كما يرى ذلك مَن يقول بأنّ التقابل بين التقييد
والإطلاق ، تقابل التناقض أو تقابل الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ، فلا يمكن
التمسّك بإطلاق الدليل ؛ لأنّ إطلاق الدليل إنّما يكشف عن إطلاق مدلوله ، وهو
الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى. وإنمّا الشكّ في إطلاق الملاك وضيقه
، ولا يمكن استكشاف إطلاق الملاك ، لا بإطلاق الحكم المدلول للدليل ، ولا بإطلاق
نفس الدليل.
أمّا الأول فلأنّ
إطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يجعله مقيّداً ،
فلم يفعل ، والمفروض في المقام استحالة التقييد.
وأمّا الثاني
فلأنّ الدليل مفاده مباشرةً هو الحكم لا الملاك.
أخذ العلم بالحكم في موضوع ضدِّه أو مثله :
وأمّا الافتراض
الثاني فهو مستحيل ؛ لأنّ القاطع سواء كان مصيباً في قطعه أو مخطئاً ، يرى في ذلك
اجتماع الحكمين المتضادَّين ، فيمتنع عليه أن يصدِّق بالحكم الثاني ، وما يمتنع
تصديق المكلّف به لا يمكن جعله. وفي حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض
المذكور اجتماع الضدّين حقيقة.
وهذا الافتراض في
حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع ، بجعل حكمٍ على القاطع مضادٍّ لمقطوعه ،
واستحالته بتعبيرٍ آخر هي استحالة الردع عن العمل بالقطع.
وأمّا الافتراض
الثالث فقد يطبَّق عليه نفس المحذور المتقدم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدّين
بمحذور اجتماع المثلين.
وقد يجاب على ذلك
: بأنّ محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكّد والتوحّد ،
كما هو الحال في «أكرم
العادل» و «أكرم الفقير» ، فإنّهما يتأكّدان في العادل الفقير.
ولكنّ هذا الجواب
ليس صحيحاً ؛ لأنّ التأكّد على نحو التوحّد إنّما يكون في مثلَين لا طوليّة وترتّب
بينهما ، كما في المثال ، لا في المقام ، حيث إنّ أحدهما متأخّر رتبةً عن الآخر ،
لترتّبه على القطع به ، فلا يمكن أن يرتفع محذور اجتماع المثلَين بالتأكّد.
الواجب التوصّليّ والتعبّدي
لا شكّ في وجود
واجباتٍ لا يخرج المكلّف عن عهدتها إلاّإذا أتى بها بقصد القربة والامتثال ، وفي
مقابلها واجبات يتحقّق الخروج عن عهدتها بمجرّد الإتيان بالفعل بأيّ داعٍ كان.
والقسم الأول
يسمّى بالتعبّدي ، والثاني يسمّى بالتوصّلي. والكلام يقع في تحليل الفرق بين
القسمين ؛ فهل الاختلاف بينهما مردّه إلى عالم الحكم والوجوب؟ بمعنى أنّ قصد
القربة والامتثال يكون مأخوذاً قيداً أو جزءاً في متعلق الوجوب التعبّدي ولا يكون
كذلك في الوجوب التوصلي ، أو أنّ مردّ الاختلاف إلى عالم الملاك دون عالم الحكم؟
بمعنى أنّ الوجوب في كلٍّ من القسمين متعلّق بذات الفعل ، ولكنّه في القسم الأول
ناشئ عن ملاكٍ لا يستوفى إلاّ بضمِّ قصد القربة ، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاكٍ
يستوفى بمجرّد الإتيان بالفعل.
ومنشأ هذا الكلام
هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر. فإن ثبتت هذه الاستحالة
تعيّن تفسير الاختلاف بين التعبّدي والتوصّلي بالوجه الثاني ، وإلاّ تعيّن تفسيره
بالوجه الأوّل.
ومن هنا يتّجه
البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ؛ وقد بُرهِن عليها بوجوه :
الأول
: أنّ قصد امتثال
الأمر متأخِّر رتبةً عن الأمر ؛ لتفرّعه عليه ، فلو اخذ قيداً أو جزءاً في متعلّق
الأمر والوجوب لكان داخلاً في معروض الأمر ضمناً ، ومتقدِّماً على الأمر تقدّم
المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشيء الواحد
متقدِّماً
ومتأخّراً.
والجواب : أنّ ما
هو متأخّر عن الأمر ومتفرِّع على ثبوته قصد الامتثال من المكلّف خارجاً ، لا
عنوانه وتصوّر مفهومه في ذهن المولى ، وما يكون متقدّماً على الأمر تقدّم المعروض
على عارضه هو عنوان المتعلق وتصوره في ذهن المولى ؛ لأنّه ما لم يتصور الشيء لا
يمكنه أن يأمر به. وأمّا الوجود الخارجي للمتعلق فليس متقدماً على الأمر ، بل هو
من نتائجه دائماً ، فلا محذور.
وكأنّ صاحب هذا
البرهان اشتبه عليه المتعلق بالموضوع. فقد عرفنا سابقاً أنّ فعلية الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجاً ،
وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلق والموضوع ، فخُيِّل له أنّ قصد الامتثال إذا
كان داخلاً في المتعلق فهو داخل في الموضوع ويكون الوجوب الفعلي تابعاً لوجوده ،
بينما وجوده متفرّع على الوجوب.
ونحن قد ميَّزنا
سابقاً بين المتعلق والموضوع ، وميَّزنا بين الجعل والمجعول . وعرفنا أنّ المجعول تابع في فعليته لوجود الموضوع خارجاً
، لا لوجود المتعلق. وأنّ الجعل منوط بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلق والموضوع
؛ لا الخارجي ، فلا تنطوي علينا المغالطة المذكورة.
الثاني
: أنّ قصد امتثال
الأمر عبارة عن محرّكية الأمر. والأمر لا يحرِّك إلاّ نحو متعلقه ، فلو كان نفس
القصد المذكور داخلاً في المتعلق لأدّى إلى أنّ الأمر
__________________
يحرِّك نحو نفس
هذه المحرِّكية ، وهذا مستحيل.
وببيانٍ آخر : أنّ
المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر إلاّبالإتيان بما تعلَّق به ذلك الأمر ،
فإن كان القصد المذكور دخيلاً في المتعلق ، فهذا يعني أنّ الأمر لم يتعلّق بذات
الفعل ، فلا يمكن للمكلّف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.
وإن شئت قلت : إنّ
قصد امتثال الأمر بفعلٍ يتوقّف على أن يكون مصداقاً لمتعلّق الأمر ، وكونه كذلك ـ على
فرض أخذ القصد في المتعلق ـ يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدِّي
إلى توقّف الشيء على نفسه ؛ واستحالة الامتثال.
وقد اجيب على ذلك
: بأنّ القصد إذا كان داخلاً في المتعلّق انحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين ، لكلٍّ
منهما محرِّكية نحو متعلقه : أحدهما الأمر بذات الفعل ، والآخر الأمر بقصد امتثال
الأمر الأول وجعله محرِّكاً.
فيندفع البيان
الأول في البرهان المذكور : بأنّ الأمر الثاني يحرِّك نحو محرِّكية الأمر الأول ،
لا نحو محرِّكية نفسه.
ويندفع البيان
الثاني : بأنّ ذات الفعل متعلق للأمر ؛ وهو الأمر الضمني الأول.
الثالث
: أنّ قصد امتثال
الأمر إذا اخذ في متعلق الأمر كان نفس الأمر قيداً من قيود الواجب ، وحيث إنّه قيد
غير اختياريٍّ فلابدّ من أخذه قيداً في موضوع الوجوب. وهذا يعني أخذ الأمر في
موضوع نفسه ، وهو محال. وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة .
وقد يعترض عليه :
بأنّ القيد غير الاختياري للواجب إنمّا يلزم أن يؤخذ
__________________
قيداً في موضوع
الوجوب ؛ لأنّه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محرِّكاً نحو المقيّد ، وهو يساوق
التحريك نحو القيد ، مع أنّه غير اختياري ، فلابدّ من أخذه في الموضوع ؛ ليكون
وجود الأمر ومحرِّكيته بعد افتراض وجود القيد. وفي هذه الحالة لا يحرِّك إلاّإلى
التقيّد وذات المقيّد.
وهذا البيان إنّما
يبرهن على أخذ القيد غير الاختياري للواجب قيداً في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون
الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأمّا إذا كان مضموناً كذلك فلن يحرِّكَ الأمر
حينئذٍ نحو القيد ؛ لأنّه موجود بنفس وجوده ، بل يتّجه في تحريكه دائماً نحو
التقيّد وذات المقّيد. والمقام مصداق لذلك ؛ لأنّ الأمر يتحقّق بنفس الجعل الشرعي
، فأيّ حاجةٍ إلى أخذه قيداً في الموضوع؟
هذه أهمّ براهين
الاستحالة مع بعض التعليق عليها.
وثمرة هذا البحث :
أنّ الاختلاف بين القسمين إذا كان مردّه إلى عالم الحكم فبالإمكان عند الشكّ في
كون الواجب تعبّدياً أو توصّلياً التمسّك بإطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد
الامتثال في متعلق الوجوب كما هو الحال في كلّ القيود المحتملة ، فتثبت التوصّلية.
وأمّا إذا كان
مردّه إلى عالم الملاك بسبب استحالة أخذ القصد المذكور في متعلق الأمر ، فلا يمكن
التمسّك بالإطلاق المذكور لإثبات التوصّلية ؛ لأنّ التوصّلية لا تثبت حينئذٍ
إلاّبإثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن إثباته بدليل الأمر
، لا مباشرةً ؛ لأنّ مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك ، ولا بصورةٍ غير مباشرةٍ عن
طريق إثبات الإطلاق في متعلق الأمر ؛ لأنّ الإطلاق في متعلّق الأمر إنّما يكشف عن
الإطلاق في متعلق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يأمر بالمقيّد فلم يفعل ،
والمفروض هنا عدم الإمكان.
وقد تذكر ثمرة
اخرى في مجال الأصل العملي عند الشكّ في التعبّدية وعدم قيام الدليل ، وهي : أنّ
هذا الشكّ مجرى للبراءة إذا كان قصد الامتثال ممّا يؤخذ في الواجب على تقدير
اعتباره ، إذ يدخل في كبرى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر. ومجرى لأصالة
الاشتغال إذا كان قصد الامتثال ممّا لا يؤخذ كذلك ، إذ لا شكّ في وجوب شيءٍ شرعاً
، وإنّما الشكّ في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.
التخيير في الواجب
التخيير تارةً
يكون عقلياً ، واخرى شرعياً. فإن كانت البدائل مذكورةً على نحو التردّد متعلّقاً
للأمر في لسان الدليل ، فالتخيير شرعي ، وإلاّ فهو عقلي.
وقد وقع الكلام في
تحليل واقع الوجوب في موارد التخيير ، وكيفية تعلّقه.
وفي ذلك عدّة
اتّجاهات :
الاتّجاه
الأول : أنّ الوجوب في
موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، وفي موارد التخيير الشرعي متعلّق بكلّ
واحدٍ من البدائل ؛ ولكن مشروطاً بترك البدائل الاخرى.
وقد يلاحظ عليه :
بأنّ الوجوبات المشروطة تستلزم اموراً لا تناسب الوجوب التخييري ، كما تقدّم في
الحلقة السابقة ، من قبيل تعدّد العقاب بترك الجميع.
الاتّجاه
الثاني : إرجاع التخيير
الشرعي إلى التخيير العقلي ، فيلتزم بأنّ الوجوب يتعلّق بالجامع دائماً ، إمّا
ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة ـ كما اشير اليه ـ فيتعيّن هذا. وإمّا ببرهان
أنّ الوجوب التخييري له ملاك واحد ، والواحد لا يصدر إلاّمن واحد ، فلابدّ من فرض
جامعٍ بين البدائل يكون هو علّة تحصيل ذلك الملاك.
الاتّجاه
الثالث : التسليم بأنّ
الوجوب في موارد التخيير يتعلّق بالجامع
__________________
دائماً ، ولكن
يقال : إنّ وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والأفراد ، أي وجوب كلّ
واحدةٍ منها بشرط انتفاء الحصص الاخرى. وهذه الوجوبات بمجموعها لمَّا كانت روحاً
نفس ذلك الوجوب المتعلّق بالجامع فليس من ناحيتها إلاّعقاب واحد في فرض ترك
الجميع.
والفرق بين هذا
الاتّجاه وسابقه : أنّ هذا يقول بسراية الوجوب إلى الحصّة بالنحو المذكور ، وأمّا
ذاك الاتّجاه فلا يلتزم بالسِراية ، وعليه لا تكون الحصّة معروضةً للوجوب ، بل
مصداقاً لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة إلى الحصّة في موارد التخيير كالنوعية
بالنسبة إلى أفراد الإنسان ، فإنّ هذا الفرد أو ذاك مصداق لمعروض النوعية لا معروض
لها.
وقد يعترض على
الاتّجاه الثالث : بأنّ الوجوب فعلٌ اختياريّ للشارع يجعله حيثما أراد ، فاذا جعله
على الجامع لا يعقل أن يسري بنفسه إلى غير الجامع. فإن اريد بالوجوبات المشروطة
سريان نفس ذلك الوجوب فهو مستحيل. وإن اريد أنّ الشارع يجعل وجوباتٍ اخرى مشروطةً
فهو بلا موجب ، فيكون لغواً.
ويمكن أن يجاب على
ذلك : بأنّ هذا إنمّا يتمّ في مرحلة جعل الحكم والإيجاب ، لا في مرحلة الشوق
والإرادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة في هذه المرحلة بين حبّ الجامع وأنحاءٍ من
الحبّ المشروط للحصص ، ولا يأتي الاعتراض باللّغوية ؛ لأنّ الكلام هنا عن المبادئ
التكوينية للحكم. وهذه الملازمة لا برهان عليها ، ولكنّها مطابقة للوجدان.
وهذا التحليل
للوجوب التخييري له ثمرات :
منها : ما سوف
يظهر في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
ومنها : ما قد
يقال من أنّه إذا شكّ في واجبٍ أنّه تخييريّ أو تعيينيّ فعلى
القول برجوع
التخيير الشرعي إلى إيجاب الجامع يكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين
والتخيير ، فإن قيل هناك بالبراءة قيل بها هنا بإجرائها عن التعيين ، وإلاّ فلا.
وعلى القول برجوع
التخيير الشرعي إلى الوجوبات المشروطة ـ كما يقرِّره الاتّجاه الأول ـ فالشكّ
مرجعه إلى الشكّ في إطلاق الوجوب واشتراطه ، أي في ثبوته في حال الإتيان بما يحتمل
كونه بديلاً وعدلاً ، وهذا شكّ في الوجوب الزائد بلا إشكال ؛ فتجري البراءة.
الوجوب الغيري لمقدّمات الوَاجب
تعريف الواجب الغيري :
اتّضح ممّا تقدم أنّ المكلّف مسؤول عن مقدمات الواجب من قبل نفس الوجوب
المتعلّق به ؛ لأنّه يحرِّك نحوها تبعاً لتحريكه نحو متعلّقه. وهذه المسؤولية في
حدودها العقلية متّفق عليها باعتبارها من شؤون حكم العقل بلزوم الامتثال ، وإنّما
وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدمة :
فالمشهور بين
الاصوليّين هو : أنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدمته فتتّصف المقدّمة بوجوبٍ شرعي
، غير أنّه تبعي ؛ إمّا بمعنى أنّه معلول لوجوب ذي المقدمة ، أو بمعنى أنّ
الوجوبين معاً معلولان للملاك القائم بذي المقدمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي إلى
إيجاب ذي المقدمة نفسيّاً ، وبضمّ مقدّمية المقدّمة يؤدّي إلى إيجابها غيريّاً ،
وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.
ويعرِّف هؤلاء
القائلون بالملازمةالواجب الغيري بأ نّه : ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجبٍ آخر.
والواجب النفسيّ بأ نّه : ما وجب لنفسه ، أو ما وجب لا لواجبٍ آخر. وعلى هذا
الأساس يصنِّفون الواجبات في الشريعة إلى قسمين : فالصلاة ، والصيام ، والحجّ
ونحوها واجبات نفسية. والوضوء ، والغسل ، وطيّ المسافة واجبات غيرية.
وقد لوحظ عليهم :
أنّ الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلاّ لِمَا يترتّب عليها من
الفوائد والمصالح ، وهي مغايرة وجوداً لتلك الفوائد
__________________
والمصالح ، فيصدق
عليها أنّها وجبت للغير ، وهذا يعني أنّ كلَّ هذه الواجبات تصبح غيريةً ؛ ولا يبقى
في نطاق الواجب النفسي إلاّما كانت مصلحته ذاتيةً له ، كالإيمان بالله سبحانه
وتعالى.
وأجاب هؤلاء على
الملاحظة المذكورة : بأنّ الصلاة وإن كانت واجبةً من أجل المصلحة المترتِّبة عليها
إلاّأنّ هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ؛ لأنّ الواجب الغيري ليس كلّ ما
وجب لغيره ، بل ما وجب لواجبٍ آخر ، والمصلحة الملحوظة في إيجاب الصلاة ليست
متعلقاً للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة أنّها وجبت لواجبٍ آخر.
فإن سألت : كيف لا
تكون تلك المصلحة واجبةً مع أنّ الصلاة الواجبة إنّما اوجبت من أجلها؟
كان الجواب : أنّ
الإيجاب مرجعه إلى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في
مقام الثبوت ، وغاية الواجب إنّما يجب أن تكون مشاركةً للواجب بدرجةٍ أقوى في عالم
الحبّ والإرادة ؛ لأنّ حبَّه إنّما هو لأجلها ، لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ
الجعل قد يحدِّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحوٍ يكون مغايراً لمركز حبّ
الأصيل ؛ لِمَا تقدم في بداية هذه الحلقة من أنّ المولى له أن يحدِّد مركز حقّ الطاعة في مقدمات
مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها ، لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل
دونه.
وعلى هذا فاذا جعل
الشارع الإيجاب على الصلاة ابتداءً وحدّدها مركزاً لحقّ الطاعة ، ولم يدخل المصلحة
المنظورة له في العهدة ، كانت الصلاة واجباً نفسياً لا غيرياً ؛ لأنّها لم تجب
لواجبٍ آخر وإن وجبت لمصلحةٍ مترتّبةٍ عليها.
__________________
وخلافاً لذلك
الوضوء فإنّه وجب من أجل الصلاة الواجبة ، فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.
خصائص الوجوب الغيري :
ولا شكّ لدى
الجميع في أنّ الوجوب الغيري للمقدمة ـ إذا كان ثابتاً ـ فهو لا يتمتّع بجملةٍ من
خصائص الوجوب النفسي ، ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري في ما يلي :
أولاً
: أنّه ليس صالحاً
للتحريك المولوي بصورةٍ مستقلّةٍ ومنفصلةٍ عن الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ من لا
يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحجّ لا يمكن أن يتحرّك بروحية الطاعة
والإخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيِ المسافة ؛ لأنّ إرادة العبد المنقاد
التكوينية يجب أن تتطابق مع إرادة المولى التشريعية ، ولمَّا كانت إرادة المولى
للمقدمة في إطار مطلوبية ذيها ومن أجل التوصّل إليه ، فلا بدّ أن تكون إرادة العبد
المنقاد لها في إطار امتثال ذيها.
وثانياً
: أنّ امتثال الوجوب
الغيري لا يستتبع ثواباً بما هو امتثال له ؛ وذلك لأنّ المكلّف إن أتى بالمقدمة
بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بدايةً في امتثال الوجوب النفسي ، ويستحقّ
الثواب عندئذٍ من قبل هذا الوجوب. وإن أتى بالمقدمة وهو منصرفٌ عن امتثال الواجب
النفسي فلن يكون بإمكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري ؛ لِمَا تقدّم من عدم
صلاحية الوجوب الغيري للتحريك المولوي.
وثالثاً
: أنّ مخالفة الوجوب
الغيري بترك المقدمة ليست موضوعاً مستقلًّا لاستحقاق العقاب إضافةً إلى مايستحقّ
من عقابٍ على مخالفة الوجوب النفسي ؛
وذلك لأنّ استحقاق
العقاب على مخالفة الواجب إنّما هو بلحاظ ما يعبِّر عنه الواجب من مبادئ وملاكاتٍ
تفوت بذلك ، ومن الواضح أنّ الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ماللواجب
النفسي من ملاك ، فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.
ورابعاً
: أنّ الوجوب الغيري
ملاكه المقدّميّة ، وهذا يفرض تعلّقه بواقع المقدمة دون أن يؤخذ فيه أيّ شيءٍ
إضافيٍّ لا دخل له في حصول ذي المقدمة.
ومن هنا كان قصد
التوصّل بالمقدمة إلى امتثال المولى والتقرّب بها نحوه تعالى خارجاً عن دائرة
الواجب الغيري ؛ لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي.
فطيّ المسافة إلى
الميقات كيفما وقع وبأيّ داعٍ اتّفق يحقِّق الواجب الغيري ، ولا يتوقّف الحجّ على
وقوع هذا الطيّ بقصدٍ قربي. وهذا معنى ما يقال من أنّ الواجبات الغيرية توصّلية.
مقدمات غير الواجب :
كما تتّصف مقدمات
الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتّصف مقدمات المستحبّ
بالاستحباب الغيري لنفس السبب. وأمّا مقدمات الحرام فهي على قسمين :
أحدهما
: مالا ينفكّ عنه
الحرام ، ويعتبر بمثابة العلّة التامة أو الجزء الأخير من العلّة التامة له ،
كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق.
والقسم
الآخر : ما ينفكّ عنه
الحرام ، وبالإمكان أن يوجد ومع هذا يترك الحرام.
فالقسم الأول من
المقدمات يتّصف بالحرمة الغيرية ، دون القسم الثاني ؛ لأنّ المطلوب في المحرّمات
ترك الحرام وهو يتوقّف على ترك القسم الأول من
المقدمات ، ولا
يتوقّف على ترك القسم الثاني.
ومقدمات المكروه
كمقدمات الحرام.
الثمرة الفقهية للنزاع في الوجوب الغيري :
ومسألة الملازمة
بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته على الرغم من كونها من المسائل الاصولية العريقة في
علم الاصول قد وقع شيء من التحيّر لدى باحثيها في ثمرتها الفقهية. وقد يبدو لأوّل
نظرةٍ أنّ ثمرتها إثبات الوجوب الغيري ، وهو حكم شرعيّ نستنبطه من الملازمة
المذكورة.
ولكنّ الصحيح عدم
صواب هذه النظرة ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبحثه علم الفقه ـ ويطلب من علم الاصول
ذكر القواعد التي يستنبط منها ـ إنّما هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع
مخالفته موضوعاً لاستحقاق العقاب. وقد عرفت أنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير ثبوته ـ
ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرةً لهذه المسألة الاصولية.
وأفضل ما يمكن أن
يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي :
أولاً
: أنّه إذا اتّفق أن
أصبح واجبٌ علّةً تامةً لحرامٍ ، وكان الواجب أهمّ ملاكاً من الحرام : فتارةً ننكر
الملازمة ، واخرى نقبلها :
فعلى الأول يكون
الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع إلى قانون باب التزاحم
، وهو تقديم الأهمّ ملاكاً ، ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التعارض ، كما عرفنا
سابقاً.
وعلى الثاني يكون
دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ؛ لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيرية بنفس
الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعلٍ واحد ، وهذا يعني أنّ التنافي بين
الجعلين ، وكلّما كان التنافي بين
الجعلين دخل
الدليلان في باب التعارض وطُبِّقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.
ثانياً
: أنّه إذا اتّفق
عكس ما تقدّم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفةً متوقّفاً على مقدمةٍ محرّمة ،
كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة ، فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا
اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراماً ؛ لأنّ الحرمة تسقط في هذه
الحالة رعايةً للواجب الأهمّ.
وأمّا إذا اجتاز
الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراماً إذا أنكرنا الملازمة ، وكذلك إذا
قلنا بأنّ الوجوب الغيري يختصّ بالحصّة الموصلة من المقدمة. ولم يرتكب حراماً إذا
قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيري لا يختصّ بالحصّة الموصلة. أمّا أنّه ارتكب
حراماً على الأوّلَين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ، ولا يوجد ما
يحول دون اتّصافه ـ في حالة عدم التوصّل به إلى الإنقاذ ـ بالحرمة. وأمّا أنّه لم
يرتكب حراماً على الأخير فلأنّ الوجوب الغيري يحول دون اتّصافه بالحرمة.
شمول الوجوب الغيري :
قام القائلون
بالملازمة بعدّة تقسيماتٍ للمقدمة ، وبحثوا في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلّ تلك
الأقسام ، أوْ لا؟ ونذكر في مايلي أهمَّ تلك التقسيمات :
التقسيم
الأول : تقسيم المقدمة إلى
داخليةٍ وخارجية ، ويراد بالداخلية جزء الواجب ، وبالخارجية ما توقّف عليه الواجب
من أشياء سوى أجزائه.
وقد وقع البحث
بينهم في أنّ الوجوب الغيري هل يعمّ المقدّمات الداخلية أو يختصّ بالمقدمات
الخارجية؟
فقد يقال بالتعميم
؛ لأنّ ملاكه التوقّف ، والواجب كما يتوقّف على المقدمة
الخارجية يتوقّف
أيضاً على وجود جزئه ، إذ لا يوجد مركّب إلاّإذا وجدت أجزاؤه.
ويقال في مقابل
ذلك بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء ، إمّا لعدم المقتضي له ، أو لوجود
المانع.
وبيان عدم المقتضي
أن يقال : إنّ التوقّف والمقدّمية يستبطن المغايرة بين المتوقِّف والمتوقَّف عليه
؛ لاستحالة توقّف الشيء على نفسه ، والجزء ليس مغايراً للمركّب في الوجود الخارجي
، فلا معنى لاتّصافه بالوجوب الغيري.
وبيان المانع بعد
افتراض المقتضي أن يقال : إنّ الجزء متّصف بالوجوب النفسي الضمني ، فلو اتّصف
بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين.
فإن قيل : يمكن أن
يفترض تأكّدهما وتوحّدهما من خلال ذلك في وجوبٍ واحد ، فلا يلزم محذور.
كان الجواب : أنّ
التأكّد والتوحّد هنا مستحيل ؛ لأنّ الوجوب الغيري إذا كان معلولاً للوجوب النفسي
ـ كما يقال ـ فيستحيل أن يتّحد معه وجوداً ؛ لاستحالة الوحدة بين العلّة والمعلول
في الوجود.
التقسيم
الثاني : تقسيم المقدمة إلى
مقدمة واجبٍ ومقدمة وجوب. ولا شكّ في أنّ المقدمة الوجوبيّة كما لا يكون المكلّف
مسؤولاً عنها من قِبل ذلك الوجوب ـ على ما تقدم ـ كذلك لا يتعلّق الوجوب الغيري بها ؛ لأنّه إمّا معلول
للوجوب النفسي ، أو [ملازم] معه ، فلا يعقل ثبوته إلاّفي فرض ثبوت الوجوب النفسي ،
وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني أنّ مقدمات الوجوب قد تمّت ووجدت ، فلا معنى
لإيجابها.
__________________
التقسيم
الثالث : تقسيم المقدمة إلى
شرعيةٍ وعقليةٍ وعلمية.
والمقدمة الشرعية
: ما أخذها الشارع قيداً في الواجب. والمقدمة العقلية : ما يتوقّف عليها ذات
الواجب تكويناً. والمقدمة العلمية هي : ما يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان
بالواجب ، كالجمع بين أطراف العلم الإجمالي.
ولا شكّ في أنّ
الوجوب الغيري لا يتعلّق بالمقدمة العلمية ؛ لأنّها ممّا لا يتوقّف عليها نفس
الواجب ، بل إحرازه. كما لا شكّ في تعلّقه بالمقدمة العقلية إذا ثبتت الملازمة.
وإنّما الكلام في تعلقه بالمقدمة الشرعية ، إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّ المقدمة الشرعية كالجزء تتّصف بالوجوب النفسي
الضمني ، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري.
ودعوى الوجوب
النفسي للمقدمة الشرعية تقوم على افتراض أنّ مقدّميتها بأخذ الشارع لها في الواجب
النفسي ، ومع أخذها في الواجب ينبسط عليها الوجوب.
ونردّ على هذه
الدعوى بما تقدّم من أنّ أخذها قيداً يعني تحصيص الواجب بها وجعل الأمر
متعلقاً بالتقيّد ، فيكون تقيّد الفعل بمقدمته الشرعية واجباً نفسياً ضمنياً لا
القيد نفسه.
فإن قيل : إنّ
التقيّد منتزع عن القيد ، فالأمر به أمر بالقيد.
كان الجواب : أنّ
القيد وإن كان دخيلاً في حصول التقيّد ؛ لأنّه طرف له ، لكنّ هذا لا يعني كونه
عينه ، بل التقيّد بما هو معنىً حرفيّ له حظّ من الوجود والواقعية مغاير لوجود
طرفيه ، وذلك هو متعلق الأمر النفسي ضمناً. فالمقدمة
__________________
الشرعية إذن تتّصف
بالوجوب الغيري كالمقدمة العقلية إذا تمّت الملازمة.
تحقيق حال الملازمة :
والصحيح إنكار
الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب ، مع التسليم بالشوق الغيري في مرحلة
الإرادة.
أمّا الأول فلأنّ
الوجوب الغيري إن اريد به الوجوب المترشّح بصورةٍ قهريّة من قبل الوجوب النفسي ،
فهذا غير معقول ؛ لأنّ الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختياري للجاعل ولا يمكن
ترشّحه بصورةٍ قهرية.
وإن اريد به وجوب
يجعل بصورةٍ اختياريةٍ من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرِّرٍ ومصحِّحٍ لجعله ،
مع أنّ الوجوب الغيري لا مصحِّح لجعله ؛ لأنّ المصحِّح للجعل ـ كما تقدّم في محلّه
ـ إمّا إبراز الملاك بهذا اللسان التشريعي ، وإمّا تحديد مركز حقّ الطاعة والإدانة
، وكلا الأمرين لا معنى له في المقام ؛ لأنّ الملاك مبرَز بنفس الوجوب النفسي ، والوجوب
الغيري لا يستتبع إدانةً ولا يصلح للتحريك ـ كما مرّ بنا ـ فيلغوا جعله.
وأمّا الثاني :
فمن أجل التلازم بين حبّ شيءٍ وحبّ مقدّمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وإنمّا
نؤمن به لشهادة الوجدان ، وبذلك صحّ افتراض الحبّ في جُلِّ الواجبات النفسية التي
تكون محبوبةً بما هي مقدمات لمصالحها وفوائدها المترتّبة عليها. ولو أنكرنا
الملازمة بين حبّ الشيء وحبّ مقدمته لما أمكن التسليم بمحبوبية هذه الواجبات
النفسية.
حدود الواجب الغيري :
وفي حالة التسليم
بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحبّ معاً ، أو في إحدى المرحلتين على الأقلّ ،
يقع الكلام في أنّ متعلق الوجوب الغيري هل هو
الحصّة الموصلة من
المقدمة أو طبيعيّ المقدمة؟
قد يقال : بأنّ
المسألة مبنيّة على تعيين الملاك والغرض من الواجب الغيري ، فإن كان الغرض هو
التمكّن من الواجب النفسي فمن الواضح أنّ هذا الغرض يحصل بطبيعيّ المقدمة ، ولا
يختصّ بالحصّة الموصلة ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري تبعاً لغرضه متعلقاً
بالطبيعي أيضاً. وإن كان الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختص بالمقدمة الموصلة ؛
ويثبت حينئذٍ اختصاص الوجوب بها أيضاً تبعاً للغرض.
وفي المسألة قولان
: فقد ذهب صاحب الكفاية وجماعة إلى الأول ، وذهب صاحب الفصول وجماعة إلى الثاني.
ويمكن أن يبرهن
على الأول : بأنّ الوجوب الغيري لو كان متعلقاً بالحصّة الموصلة إلى الواجب النفسي
خاصّةً لزم أن يكون الواجب النفسي قيداً في متعلق الوجوب الغيري والقيد مقدمة
للمقيّد ، وهذا يؤدِّي إلى أن يصبح الواجب النفسي مقدمةً للواجب الغيري.
ويمكن أن يبرهن
على الثاني : بأنّ غرض الوجوب الغيري ليس هو التمكّن ، بل نفس حصول الواجب النفسي
؛ لأنّ دعوى أنّ الغرض هو التمكّن إن اريد بها أنّ التمكّن غرض نفسي فهو باطل
بداهةً وخلف أيضاً ؛ لأنّه يجعل المقدّمة موصلةً دائماً ؛ لعدم انفكاكها عن
التمكّن الذي هو غرض نفسي ، مع أنّنا نتكلّم عن المقدمة التي تنفكّ خارجاً عن
الغرض النفسي.
__________________
وإن اريد بها أنّ
التمكّن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرضٍ نفسيٍّ لا محالة ، إذ وراء كلّ غرضٍ
غيريٍّ غرض نفسي ، فإن كان الغرض النفسي منه حصول الواجب النفسي ثبت أنّ هذا هو
الغرض الأساسي من الواجبات الغيرية ، وإلاّ تسلسل الكلام حتى يعود إليه لا محالة.
فالصحيح إذن :
اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة ، ولكن لا بمعنى أخذ الواجب النفسي قيداً في متعلق
الوجوب الغيري كما توهّم في البرهان على القول الأول ، بل بمعنى أنّ الوجوب الغيري
متعلق بمجموعة المقدمات التي متى ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضموناً.
مشاكل تطبيقية :
استعرضنا في ما
سبق أربع خصائص وحالاتٍ للوجوب الغيري ، وتنصّ الثانية منها على أنّ امتثال
الوجوب الغيري لا يستتبع ثواباً ، وتنصّ الرابعة منها على أنّ الواجب الغيري
توصّلي. وقد لوحظ أنّ ما ثبت من ترتّب الثواب على جملةٍ من المقدمات ـ كما دلّت عليه
الروايات ـ ينافي الحالة الثانية للوجوب الغيري ، وأنّ ما ثبت من عبادية الوضوء
والغسل والتيمّم واعتبار قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.
والجواب : أمّا
فيما يتّصل بالحالة الثانية فهو : أنّها تنفي استتباع امتثال الوجوب الغيري بما هو
امتثال له للثواب ، ولا تنفي ترتّب الثواب على المقدمة بما هي شروع في امتثال
الوجوب النفسي ، وذلك فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى امتثاله. وما ثبت
بالروايات من الثواب على المقدمات يمكن تطبيقه على
__________________
ذلك.
وأمّا فيما يتّصل
بالحالة الرابعة فإنّها في الحقيقة إنّما تنفي دخول أيِّ شيءٍ في دائرة الواجب
الغيري زائداً على ذات المقدمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي ، فاذا كان الواجب
النفسي متوقّفاً على ذات الفعل امتنع أخذ قصد القربة في متعلق الوجوب الغيري ؛
لعدم توقّف الواجب النفسي عليه. وإذا كان الواجب النفسي متوقّفاً على الفعل مع قصد
القربة تعيّن تعلق الوجوب الغيري بهما معاً ؛ لأنّ قصد القربة في هذه الحالة يعتبر
جزءاً من المقدمة. وفي كلّ موردٍ يقوم فيه الدليل على عبادية المقدمة نستكشف
انطباق هذه الحالة عليها.
فإن قيل : أليس
قصد القربة معناه التحرّك عن محرِّكٍ مولويٍّ لإيجاد الفعل ، وقد فرضنا أنّ الأمر
الغيري لا يصلح للتحريك المولوي ـ كما نصّت عليه الحالة الاولى من الحالات الأربع
المتقدمة للوجوب الغيري ـ فما هو المحرِّك المولوي نحو المقدمة؟
كان الجواب : أنّ
المحرِّك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلق بذيها ، وهذا التحريك يتمثّل في
قصد التوصّل ، هذا إضافةً إلى إمكان افتراض وجود أمرٍ نفسيٍّ متعلقٍ بالمقدمة
أحياناً ، بقطع النظر عن مقدميّتها ، كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه
النفسي.
دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الإجزاء
لا شكّ في أنّ
الأصل اللفظي في كلّ واجبٍ لدليله إطلاق أنّه لا يجزي عنه شيء آخر ؛ لأنّ إجزاءه
عنه معناه كونه مسقِطاً ، ومرجع مسقطيّة غير الواجب للواجب أخذ عدمه قيداً في
الوجوب ، وهذا التقييد منفيّ بإطلاق دليل الواجب. وهذا ما قد يسمّى بقاعدة عدم
الإجزاء.
ولكن يدّعى الخروج
عن هذه القاعدة في بعض الحالات استناداً إلى ملازمةٍ عقلية ، كما في حالة الإتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ، إذ قد يقال
بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدلّ دلالةً التزاميةً عقليةً على إجزاء متعلّقه
عن الواجب الواقعي ؛ على أساس وجود ملازمةٍ بين جعله وبين نكتةٍ تقتضي الإجزاء.
والتفصيل كما يلي :
دلالة الأوامر الاضطرارية على الإجزاء عقلاً :
إذا تعذّر الواجب
الأصلي على المكلّف فامِر بالميسور اضطراراً ، كالعاجز عن القيام تشرع في حقّه
الصلاة من جلوسٍ ، فتارةً يكون الأمر الاضطراري مقيّداً باستمرار العذر في تمام
الوقت ، واخرى يكون ثابتاً بمجرّد عدم التمكّن في أول الوقت.
ولنبدأ بالثاني
فنقول : إذا بادر المريض فصلّى جالساً في أول الوقت ، ثمّ ارتفع العذر في أثناء
الوقت فلا تجب عليه الإعادة.
والبرهان على ذلك
: أنّ المفروض أنّ الصلاة من جلوسٍ التي وقعت منه في أوّل الوقت كانت مصداقاً
للواجب بالأمر الاضطراري.
وحينئذٍ نتساءل :
أنّ وجوبها هل هو تعييني أو تخييري؟
والجواب هو : أنّه
تخييري ، ولا يحتمل أن يكون تعيينياً ؛ لوضوح أنّ هذا المريض كان بإمكانه أن يؤخِّر
صلاته إلى آخر الوقت فيصلّي عن قيام. وإذا كان وجوبها تخييرياً فهذا يعني وجود
عِدلَين وبديلَين يخيَّر المكلف بينهما فإن كان هذان العِدلان هما الصلاة
الاضطرارية والصلاة الاختيارية فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب هو
الجامع بين الصلاتين وقد حصل ، فلا موجب للإعادة. وإن كان هذان العِدلان هما :
مجموع الصلاتين من ناحيةٍ ، والصلاة الاختيارية من ناحيةٍ اخرى ؛ بمعنى أنّ المكلف
مخيّر بين أن يصلّي من جلوسٍ أوّلاً ومن قيامٍ أخيراً ، وبين أن يقتصر على الصلاة
من قيامٍ في آخر الوقت ، فهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر ، وهو مستحيل ، وبهذا
يتبرهن الإجزاء.
وأمّا إذا كان
الأمر الاضطراري مقيّداً باستيعاب العذر لتمام الوقت : فتارة يصلّي المريض في أوّل
الوقت ثمّ يرتفع عذره في الأثناء ، واخرى يصلّي في جزءٍ من الوقت ، ويكون عذره
مستوعباً للوقت حقّاً.
ففي الحالة الاولى
لا يقع ما أتى به مصداقاً للواجب الاضطراري ، إذ لا أمر اضطراريّ في هذه الحالة
ليبحث عن دلالته على الإجزاء.
وفي الحالة
الثانية لا مجال للإعادة ، ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء ، فقد يقال بعدم وجوب
القضاء ؛ لأنّ الأمر الاضطراري يكشف عقلاً عن وفاء متعلّقه بملاك الواجب الاختياري
، إذ لولا ذلك لمَا امِر به ، ومع الوفاء لافوت ليجب القضاء.
ولكن يرد على ذلك
: أنّ الأمر الاضطراري يصحّ جعله في هذه الحالة إذا كانت الوظيفة الاضطرارية
وافيةً بجزءٍ من ملاك الواقع مع بقاء جزءٍ آخر مهمٍّ لابدّ من استيفائه ، إذ في
حالةٍ من هذا القبيل يمكن للمولى أن يأمر بالوظيفة
الاضطرارية في
الوقت إدراكاً لذلك الجزء من الملاك في وقته الأصلي ، ثمّ يأمر بعد ذلك بالقضاء
استيفاءً للباقي ، فلا دلالة للأمر الاضطراري عقلاً على الإجزاء في هذه الحالة ،
بل يبقى على الفقيه استظهار الحال من لسان دليل الأمر الاضطراري وإطلاقه ، فقد
يستظهر منه الإجزاء ؛ لظهور لسانه في وفاءالبدل بتمام مصلحة المبدل ، أو ظهور حاله
في أنّه في مقام بيان تمام ما يجب ابتداءً وانتهاءً ، فإنّ سكوته عن وجوب القضاء
حينئذٍ يدلّ على عدمه.
دلالة الأوامر الظاهرية على الإجزاء عقلاً :
قد تؤدِّي الحجّة
إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي ، بأن تدلّ على أنّ الواجب صلاة
الظهر مع أنّه صلاة الجمعة ، أو على أنّ الثوب طاهر مع أنّه نجس. فإذا أتى المكلّف
بالوظيفة وفقاً للحجّة الظاهرية فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجةٍ إلى
قيام دليلٍ خاصٍّ على الإجزاء ، أو يحتاج إثبات الإجزاء في كلّ موردٍ إلى دليلٍ
خاصٍّ ، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء؟
قد يقال بالإجزاء
بدعوى الملازمة العقلية بين الأمر الظاهري وبينه ؛ لأنّ الأمر الظاهري في حالات
المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحةٍ في مورده على نحوٍ يُستوفى به الملاك الواقعي
الذي يفوت على المكلف بسبب التعبّد بالحجّة الظاهرية ، وذلك ببرهان : أنّه لولا
افتراض مصلحةٍ من هذا القبيل لكان جعل الأمر الظاهري قبيحاً ؛ لأنّه يكون مفوِّتاً
للمصلحة على المكلّف وملقياً له في المفسدة ، ومع اكتشاف مصلحةٍ من هذا القبيل يتعيّن
الإجزاء ، فلا تجب الإعادة فضلاً عن القضاء ؛ لحصول الملاك الواقعي واستيفائه ،
والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببيّة في جعل الحجّية ، بمعنى أنّ
الأمارة الحجّة تكون
سبباً في حدوث
ملاكٍ في موردها.
ويرد على ذلك :
أولاً
: أنّ الأحكام
الظاهريّة ـ على ما تقدم ـ أحكام طريقية لم تنشأ من مصالح وملاكاتٍ في متعلقاتها ،
بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعية. وقد مرّ دفع محذور استلزام الأحكام الظاهرية
لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.
ولو كانت الأحكام
الظاهرية ناشئةً من مصالح وملاكاتٍ ـ على ما ادّعي ـ للزم التصويب ، إذ بعد فرض
وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي
مختصّاً بمتعلقه الأول ، بل ينقلب لا محالة ويتعلق بالجامع بين الأمرين ، وهذا نحو
من التصويب.
وثانياً
: إذا سلّمنا أنّ ما
يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهرية من مصالح لابدّ أن تضمن الحجّة تداركه ،
إلاّأنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحةٍ إلاّ بقدر ما يفوت بسببها ، فإذا فرضنا انكشاف
الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة إلاّفضيلة الصلاة في أول وقتها ـ
مثلاً ـ لا أصل ملاك الواقع ، لإمكان استيفائه معها ، وهذا يعني أنّ المصلحة
المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبّد العملي بها
بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلف بهذا السلوك ، وليست قائمةً بالمتعلق وبالوظيفة
الظاهرية بذاتها ، فاذا انقطع التعبّد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد
المصلحة. وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكية ، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلاً.
نعم ، يبقى إمكان
دعوى الإجزاء بتوهّم حكومة بعض أدلّة الحجّية على
__________________
أدلّة الأحكام
الواقعية وتوسعتها لموضوعها ، وقد أوضحنا ذلك سابقاً ، وهو إجزاء مبنيّ على الاستظهار من لسان دليل الحجّية ،
ولا علاقة له بالملازمة العقلية.
ويأتي دفع هذا
التوهّم عند التمييز بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.
__________________
امتناع اجتماع الأمرِ والنهي
لا شكّ في التضادّ
بين الأحكام التكليفية الواقعية ، وعلى هذا الأساس يمتنع اجتماع الأمر والنهي ؛
لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك ، وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال.
أمّا الأول فلأنّ
مبادئ الأمر هي المصلحة والمحبوبية ، ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضية.
وأمّا الثاني
فلضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معاً ، وعدم امكان الترتب بينهما. وقد سبق في
مباحث القدرة أنّه كلّما ضاقت
قدرة المكلف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالإمكان الترتّب بين أمريهما وحكميهما
امتنع جعل الحكمين.
وعلى هذا الأساس
إذا دلّ دليل على الأمر بشيءٍ ودلّ دليل آخر على النهي عنه ، من قبيل «صلِّ» و «لا
تصلِّ» كان الدليلان متعارضَين ؛ للتنافي بين الجعلين بسبب التضادّ في عالم الملاك
أوّلاً ، وبسبب ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم إمكان الترتّب
ثانياً.
وهذا ممّا لا
إشكال فيه من حيث الأساس ، ولكن قد نفترض بعض الخصوصيات في الأمر والنهي التي قد
تخرجهما عن كونهما مجتمعَين حقّاً على شيءٍ واحد ، فيزول الامتناع ولا ينشأ
التعارض بين دليليهما. ويمكن تلخيص
__________________
تلك الخصوصيات في
ما يلي :
[اختلاف الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد :]
الخصوصية
الاولى : أن نفترض تعلّق
الأمر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها وتعلّق النهي بحصّةٍ معيّنةٍ من
حصصها ، من قبيل «صلِّ» و «لا تصلِّ في الحمّام» وهذا الافتراض يوجب اختلاف
المتعلَّقين بالإطلاق والتقييد ، ولا شكّ في أنّ ذلك يوجب زوال السبب الثاني
للتنافي ، وهو ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين ؛ وذلك لأنّه إذا كان
بإمكان المكلّف أن يصلّي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين.
وإنّما المهمّ
تحقيق حال السبب الأول للتنافي ، وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله
أيضاً ؛ لأنّ الوجوب بمبادئه متعلِّق بالجامع ولا يسري إلى الحصّة ، والحرمة
بمبادئها قائمة بالحصّة ، فلم يتّحد المعروض لهما. وهذا مبنيّ على بحثٍ تقدم في
التخيير العقلي وأ نّه هل يستبطن تخييراً شرعياً ووجوباتٍ مشروطةً للحصص ولو بلحاظ
عالم المبادئ؟ فإن قيل باستبطانه ذلك لم يُجْدِ اختلاف المتعلّقين بالإطلاق
والتقييد في التغلّب على السبب الأول للتنافي ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه
إلى الحصص. وإن أنكرنا الاستبطان المذكور اتّجه القول بعدم التنافي وجواز الأمر
بالمطلق والنهي عن الحصّة.
غير أنّ مدرسة
المحقّق النائيني رحمهالله برهنت على التنافي بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة
بطريقةٍ اخرى منفصلةٍ عن الاستبطان المذكور ، وهي : أنّ الأمر بالمطلق يعني أنّ
الواجب لوحظ مطلقاً من ناحية حصصه ، والإطلاق
__________________
مؤدّاه الترخيص في
تطبيق الجامع على أيّ واحدةٍ من تلك الحصص ، وهذا متعدّد بعدد الحصص ، وعليه
فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة [المعروضة] للنهي ينافي هذا النهي لا محالة ؛
لأنّ نفس الحصّة معروضة لهما معاً ، فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة
والأمر بالمطلق ، بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن إطلاق متعلَّق
الأمر.
والفرق بين إثبات
التنافي بطريقة الميرزا هذه وإثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقاً : أنّه على
طريقة الميرزا لا يكون هناك تنافٍ بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن
حصّةٍ من حصصه ؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الترخيص ، ومن هنا فسّر الميرزا كراهة
الصلاة في الحمّام وأمثالها. وأمّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقاً فالتنافي
واقع بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة ، سواء كان تحريمياً أو كراهتيّاً.
ولكنّ التحقيق :
أنّ طريقة الميرزا هذه في إثبات التنافي غير وجيهة ؛ لأنّ الإطلاق ليس ترخيصاً في
التطبيق ولا يستلزمه :
أمّا أنّه ليس
ترخيصاً ، فلأنّ حقيقة الإطلاق ـ كما تقدّم ـ عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عندما يراد جعل الحكم عليها.
وأمّا أنّه لا
يستلزم الترخيص ، فلأنّ عدم لحاظ القيد إنّما يستلزم عدم المانع من قِبَل الأمر في
تطبيق متعلّقه على أيّ حصّةٍ من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء ، وعدم
المانع من قبل جاعل الأمر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلاً
هو الثاني دون الأول.
__________________
وعلى أيّ حالٍ
فاذا تجاوزنا هذه الخصوصية وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف
بالإطلاق والتقييد بين المتعلَّقين نصل حينئذٍ إلى الخصوصية الاخرى ، كما يلي :
[اختلاف الأمر والنهي في عنوان المتعلّق :]
الخصوصية
الثانية : أن نفترض تعدّد
العنوان ، وتعلّق الأمر بعنوانٍ والنهي بعنوانٍ آخر ، وتعدّد العنوان قد يسبِّب
جواز الاجتماع ورفع التنافي بأحد وجهين :
الأول : أنّ تعدّد
العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.
والثاني : دعوى
الاكتفاء بمجرّد تعدّد العنوان في دفع التنافي ؛ مع الاعتراف بوحدة المعنون
والوجود خارجاً.
أمّا الوجه الأول
فهو إذا تمّ يدفع التنافي بكلا تقريبيه ، أي بتقريب استبطان الأمر بالجامع
للوجوبات المشروطة بالحصص ، وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة
المنافي للنهي ، إذ مع تعدّد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين.
ولكنّ الإشكال في
تمامية هذا الوجه ، إذ لا برهان على أنّ مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد
المعنون خارجاً ؛ لأنّ بالإمكان انتزاع عنوانين من موجودٍ خارجيٍّ واحد.
نعم ، إذا ثبت أنّ
العنوان ماهية حقيقية للشيء تمثِّل حقيقته النوعية فمن الواضح أنّ تعدّده يساوق
تعدّد الشيء خارجاً ، إذ لا يمكن أن يكون للشيء الخارجيّ الواحد ماهيتان نوعيّتان
، ولكن ليس كلّ عنوان يشكِّل الماهية النوعية لمعنونه ، بل كثيراً ما يكون من
العناوين العرضية المنتزعة.
وأمّا الوجه
الثاني فحاصله : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية لا بالوجود
الخارجي مباشرةً. فإذا كان العنوان في افق الذهن متعدّداً كفى ذلك في عدم التنافي.
فإن قيل : إنّ
العناوين في الذهن إنّما يعرض لها الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني
استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسّط العنوان ، والوجود الخارجي
واحد فلا يمكن أن يثبت أمر ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.
كان الجواب على
ذلك : أنّ ملاحظة العنوان في الذهن مرآةً للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني أنّ
الحكم يسري إلى الخارج حقيقةً ، وإنّما يعني أنّ العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب
، لا بما هو صورة ذهنية.
وهذا الوجه إذا
تمّ إنمّا يدفع التنافي بالتقريب الأول ، أي بدعوى الاستبطان المذكور سابقاً ،
فإنّ الأمر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوباتٍ مشروطةً بعدد الحصص فكلّ وجوبٍ
متعلّق بحصّةٍ من حصص الصلاة بهذا العنوان ، لابها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا
تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان.
ولكنّ الوجه
المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي أفاده المحقّق النائيني ، وهو
المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق ؛ لأنّ إطلاق الواجب لحالة
غصبية الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيّد بهذه الحالة فهو منافٍ
لتحريم هذه الغصبيّة لا محالة.
[اختلاف الأمر والنهي في زمان الفعليّة :]
الخصوصية
الثالثة : أن نسلِّم بأنّ
الخصوصيّتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي ، وأنّ الصلاة في المكان المغصوب
لا يمكن أن يجتمع عليها أمر ونهي
بعنوانين ،
ولكنّنا نفترض أنّها متعلَّقة للأمر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعلية زماناً ،
فيبحث عمّا إذا كان هذا نافعاً في دفع التنافي ، أوْ لا. ومثاله المقصود حالة طروء
الاضطرار بسوء الاختيار.
وتوضيحه : أنّ
الإنسان تارةً يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره ، واخرى يدخلها بسوء اختياره
، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّاً إلى التصرّف في المغصوب بالمقدار
الذي يتضمّنه الخروج ، غير أنّ هذا المقدار يكون مضطرّاً إليه لا بسوء الاختيار في
الحالة الاولى ، ومضطرّاً إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية. ويترتّب على ذلك
: أنّ هذا المقدار في الحالة الاولى يكون مرخَّصاً فيه من قِبَل الشارع ، خلافاً
للحالة الثانية ؛ لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسؤولية والإدانة ، كما
تقدم ، ولكنّ النهي ساقط على القول المتقدّم بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ،
وينافيه خطاباً.
وعليه فلو كان وقت
الصلاة ضيّقاً وكان بإمكان المكلّف أن يصلِّي حال الخروج بدون أن تطول بذلك مدّة
الخروج فصلّى بنفس خروجه ، فهذه صلاة في المكان المغصوب ، ولا شكّ في وجوبها في
الحالة الاولى ؛ لأنّ الخروج باعتباره مضطرّاً إليه لا بسوء الاختيار غير منهيٍّ
عنه منذ البدء. وأمّا في الحالة الثانية فقد يقال بأنّها منهيّ عنها ومأمور بها ،
غير أنّ النهي والأمر غير متعاصِرَين زماناً ، ومن هنا جاز ثبوتهما معاً ؛ وذلك
لأنّ النهي سقط خطاباً بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقاباً وإدانةً
، والأمر توجّه إلى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي ، فلم يجتمعا في زمانٍ واحد.
__________________
ولكنّ التحقيق :
أنّ ذلك لا يدفع [التنافي] بين الأمر والنهي ؛ لأنّ سقوط النهي لو كان لِنَسْخٍ
وتبدّلٍ في تقدير الملاكات لأمكن أن يطرأ الأمر بعد ذلك. وأمّا إذا كان بسبب
الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان ، فهذا إنّما يقتضي سقوط الخطاب ؛
لا المبادئ. فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كلّ حال.
هذا إذا أخذنا
بالقول السابق الذي يقول بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطاباً. وإذا
أنكرنا هذه المنافاة فالأمر أوضح.
[اجتماع الوجوب الغيري مع الحرمة النفسيّة :]
وقد واجه
الاصوليّون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحيةٍ اخرى في المقام ، وحاصلها : أنّه
قد افترض كون الخروج مقدّمةً للتخلّص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ،
فيكون الخروج واجباً فعلاً مع كونه منهيّاً عنه بالنهي السابق الذي لايزال فعلياً
بخطابه وروحه معاً ، أو بروحه وملاكه فقط على الأقل ، فهل يلتزم بأنّ الخروج ليس
مقدمةً للواجب ، أو بتخصيصٍ في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحوٍ ينفي وجود
نهي من أوّل الأمر عن هذه الحصّة من التصرّف ، أو بانخرامٍ في قاعدة وجوب المقدمة؟
وجوه ، بل أقوال :
أمّا الوجه الأول
فحاصله : أنّ الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل أحد الضدّين
ليس مقدمةً لترك ضدّه ، كما تقدّم في الحلقة السابقة .
وهذا الوجه ـ حتّى
إذا تمّ ـ لا يحلّ المشكلة على العموم ؛ لأنّ هذه المشكلة لا نواجهها في هذا
المثال فقط ، بل في حالاتٍ اخرى لا يمكن إنكار المقدّمية
__________________
فيها ، من قبيل
مَنْ سبَّب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرضٍ مُهلكٍ ينحصر علاجه بشرب الشراب
المحرَّم ، فإنّ مقدِّمية الشرب في هذه الحالة واضحة.
وأمّا الوجه
الثاني فلا يمكن الأخذ به إلاّمع قيام برهانٍ على التخصيص المذكور بتعذّر أيّ حلٍّ
آخر للمشكلة.
وأمّا الوجه الثالث
فهو المتعيّن ، وذلك بأن يقال : إنّ المقدمة من ناحية انقسامها إلى فردٍ مباحٍ
وفردٍ محرَّمٍ على أقسام :
أحدها
: أن تكون منقسمةً
إلى فردين من هذا القبيل فعلاً ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو غير
المحرَّم خاصّة ؛ لأنّ الملازمة التي يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.
ثانيها
: أن تكون منحصرةً
أساساً ـ وبدون دخل للمكلف في ذلك ـ في الفرد المحرَّم ، وفي هذه الحالة يتّجه
الوجوب الغيري نحو الفرد المحرَّم إذا كان الوجوب النفسي أهمَّ من حرمته ، وتسقط
الحرمة حينئذٍ.
ثالثها
: أن تكون منقسمةً
أساساً إلى فردٍ مباحٍ وفردٍ محرَّم ، غير أنّ المكلف عجَّز نفسه بسوء اختياره عن
الفرد المباح ، وفي هذه الحالة يدرك العقل أنّ الانحصار في الفرد المحرّم غير
مسوِّغٍ لتوجّه الوجوب الغيري نحوه ما دام بسوء الاختيار ، فالفرد المحرّم يظلّ
على ما هو عليه من الحرمة ، ويكون تعجيز المكلف نفسه عن الفرد المباح من المقدمة
مع بقاء الفرد المحرّم على حرمته تعجيزاً له شرعاً عن الإتيان بذي المقدمة ؛ لأنّ
المنع شرعاً عن مقدمة الواجب تعجيز شرعيّ عن الواجب ، ولمّا كان هذا التعجيز
حاصلاً بسوء اختيار المكلف فيسقط الخطاب المتكفِّل للأمر بذي المقدمة على القول
المشهور ، دون العقاب والإدانة.
غير أنّ العقل
يحكم بلزوم تحصيل ذي المقدمة ولو بارتكاب المقدمّة المحرّمة ؛ لأنّ ذلك أهون
الأمرين ، وهذا يؤدِّي إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد
المحرَّم من
المقدمة ، غير أنّه لمّا كان منشأ هذا الاضطرار أساساً سوء الاختيار فيسقط الخطاب
على القول المشهور دون العقاب ، وينتج عن ذلك : أنّ الخطابات كلّها ساقطة فعلاً ،
وأنّ روحها بما تستتبعه من إدانةٍ ومسؤوليةٍ ثابت.
وفي كلّ حالةٍ
يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لايختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي
النفسيّين ، أو الغيريّين ، أو الغيريّ مع النفسيّ ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ،
فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون
محبوباً لغيره ومبغوضاً لنفسه مثلاً ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما
، ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا
اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كافٍ في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة
الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمةً بالوجود الجعلي للحكمين.
[ثمرة البحث في اجتماع الأمر والنهي :]
وأمّا ثمرة البحث
في مسألة الاجتماع فهي : أنّه على الامتناع يدخل الدليلان المتكفِّلان للأمر
والنهي في باب التعارض ، ويقدّم دليل النهي على دليل الأمر ؛ لأنّ دليل النهي
إطلاقه شمولي ، ودليل الأمر إطلاقه بدلي ، والإطلاق الشمولي أقوى.
وأمّا على القول
بالجواز فلا تعارض بين الدليلين ، وحينئذٍ فإن لم ينحصر امتثال الواجب بالفعل
المشتمل على الحرام وكانت للمكلف مندوحة في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضاً ، وإلاّ
وقع التزاحم بين الواجب والحرام.
وأمّا صحة امتثال
الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما ذكرنا من التعارض والتزاحم ، بأن
يقال : إنّه إذا بُني على التعارض بين الدليلين وقدِّم
دليل النهي فلا
يصحّ امتثال الواجب بالفعل المذكور ، سواء كان واجباً توصّلياً أو عبادياً ؛ لأنّ
مقتضى تقديم دليل النهي سقوط إطلاق الأمر وعدم شموله له ، فلا يكون مصداقاً للواجب
، وإجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف القاعدة ، كما تقدم .
وإذا بني على عدم
التعارض فينبغي التفصيل بين أن يكون الواجب توصّلياً أو عبادياً ، فإن كان
توصّلياً صحّ وأجزأ ، سواء وقع التزاحم لعدم وجود المندوحة ، أوْ لا ؛ لأنّه مصداق
للواجب ، والأمر ثابت به على وجه الترتّب في حالة التزاحم ، وعلى الإطلاق في حالة
عدم التزاحم ووجود المندوحة. وإن كان عبادياً صحّ وأجزأ كذلك إذا كان مبنى عدم
التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدّد المعنون.
وأمّا إذا كان
مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدّد العنوان مع وحدة المعنون فقد يستشكل في
الصحة والإجزاء ؛ لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الوجود الخارجي واحد وأ نّه حرام ، ومع
حرمته لا يمكن التقرّب به نحو المولى ، فتقع العبادة باطلةً لأجل عدم تأتّي قصد
القربة ، لا لمحذورٍ في إطلاق دليل الأمر.
وفي كلّ حالةٍ
حكمنا فيها بعدم صحة العمل من أجل افتراض التعارض فلا يختلف الحال في ذلك بين
الجاهل [بالحرمة] والعالم بها ؛ لأنّ التعارض تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة ،
وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيّين بقطع النظر عن علم المكلف وجهله.
وفي كلّ حالةٍ
حكمنا فيها بعدم صحة العمل من أجل كونه عبادةً وتعذّر قصد التقرّب به فينبغي أن
يخصَّص البطلان بصورة تنجّز الحرمة. وأمّا مع الجهل بها وعدم تنجّزها فالتقرّب
بالفعل ممكن فيقع عبادة ، ولا موجب للبطلان حينئذٍ.
__________________
اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه
وقع البحث في أنّ وجوب
شيءٍ هل يقتضي حرمة ضدّه ، أوْ لا؟ ويراد بالضدّ : المنافي على نحوٍ يشمل الضدّ
العامّ والضدّ الخاصّ. ويراد بالاقتضاء :
استحالة ثبوت وجوب
الشيء مع انتفاء حرمة ضدّه ، سواء كانت هذه الاستحالة ناشئةً من أنّ أحدهما عين
الآخر ، أو من أنّ أحدهما جزء الآخر ، أو من الملازمة بينهما.
والمشهور في الضدّ
العامّ هو القول بالاقتضاء ، وإن اختلف في وجهه :
فقال البعض : إنّه بملاك العينية ، وهو غريب ؛ لأنّ الوجوب غير
التحريم ، فكيف يقال بالعينية؟
وقد يوجّه ذلك :
تارةً بأنّ وجوب الشيء عين حرمة الضدّ العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم
الحكم والإرادة. فكما أنّ حرمة الضدّ العامّ تبعِّد عنه كذلك وجوب الشيء يبعِّد عن
ضده العام بنفس مقرِّبيته نحو الفعل ومحرّكيته إليه.
وتارةً اخرى بأنّ
النهي عن الشيء عبارة عن طلب نقيضه ، فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه ، وهو
الفعل ، فصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالفعل عين النهي عن الضدّ العامّ.
ويرد على التوجيه
الأول : أنّه لا يفي بإثبات حرمة الضدّ حقيقة. وعلى التوجيه الثاني : أنّه يرجع
إلى مجرّد التسمية ، هذا ، مضافاً إلى أنّ النهي عن شيءٍ معناه الزجر عنه ، لا طلب
نقيضه.
__________________
وقال البعض : إنّه بملاك الجزئية والتضمّن ؛ لأنّ الوجوب مركّب من طلب
الفعل والمنع عن الترك.
وقد تقدم في بحث
دلالة الأمر على الوجوب إبطال دعوى التركّب في الوجوب على هذا النحو.
وقال البعض : إنّه بملاك الملازمة ؛ وذلك لأنّ المولى بعد أمره بالفعل
يستحيل أن يرخِّص في الترك ، وعدم الترخيص يساوق التحريم.
والجواب : أنّ عدم
الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكمٍ إلزامي ، وهو كما يلائم تحريم الترك ، كذلك
يلائم إيجاب الفعل ، فلا موجب لاستكشاف التحريم.
وأمّا الضدّ
الخاصّ فقد يقال باقتضاء وجوب الشيء لحرمته بأحد دليلين :
الدليل
الأول : وهو مكوّن من
مقدّمات :
الاولى : أنّ
الضدّ العامّ للواجب حرام.
الثانية : أنّ
الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ.
الثالثة : أنّ كلّ
ما هو ملازم للحرام فهو حرام.
ويبطل هذا الدليل
بإنكار مقدمته الاولى ، كما تقدّم ، وبإنكار المقدمة الثالثة ، إذ لا دليل عليها.
الدليل
الثاني : وهو مكوّن من
مقدّماتٍ أيضاً :
الاولى : أنّ ترك
أحد الضدّين مقدّمة لضدّه.
الثانية : أنّ
مقدّمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضدّ الخاصّ للواجب
__________________
واجب.
الثالثة : إذا وجب
ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه وهو إيقاع الضدّ الخاصّ ، وبذلك يثبت المطلوب.
وقد نستغني عن
المقدمة الثالثة ونكتفي بإثبات وجوب ترك الضدّ الخاصّ ؛ لأنّ هذا يحقِّق الثمرة
المطلوبة من القول بالاقتضاء ، وهي عدم إمكان الأمر بالضدّ الخاصّ ولو على وجه
الترتّب. ومن الواضح أنّه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته ، كذلك مع الأمر بنقيضه ؛
لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معاً.
كما أنّ المقدمة
الثانية لا نريد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدمة في كلّ مراحل الحكم بما فيها
عالم الجعل ، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ ، وعليه فهذه المقدمة ثابتة.
والمهمّ إذن تحقيق
حال المقدمة الاولى ، وقد بُرهِن عليها : بأنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ،
وعدم المانع أحد أجزاء العلّة ، فتثبت مقدمية عدم أحد الضدين بهذا البيان.
ونجيب على هذا
البرهان بجوابين :
الجواب الأول
يتكفّل حلّ الشبهة التي صيغ بها البرهان ، وبيانه : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي
والشرط وعدم المانع. فالمقتضي هو السبب الذي يترشّح منه الأثر. والشرط دخيل في
ترشّح الأثر من مقتضيه. والمانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير. ومن هنا يتوقّف
وجود الأثر على المقتضي والشرط وعدم المانع ، وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضي أو
عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنّه لا ينشأ من وجود المانع إلاّفي حالة وجود المقتضي
؛ لأنّ تأثير المانع إنّما هو بمنعه للمقتضي عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضي لا
معنى لهذا المنع ، وهذا يعني أنّ المانع إنّما يكون مانعاً إذا أمكن أن يعاصر
المقتضي لكي يمنعه عن التأثير ، وأمّا
إذا استحال أن
يعاصره استحالت مانعيّته له ، وبالتالي لا يكون عدمه من أجزاء العلّة.
وعلى هذا الأساس
إذا لاحظنا الصلاة بوصفها ضداً لإزالة النجاسة عن المسجد نجد أنّ المقتضي لها هو
إرادة المكلف ، ويستحيل أن تجتمع الإزالة مع إرادة المكلف للصلاة ، وهذا معناه أنّ
مانعية الإزالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن أن يكون عدمها أحد أجزاء العلّة.
وإن شئت قلت :
إنّه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض
كون الإزالة مانعةً عن تأثيره.
فإن قيل : كيف
تنكرون أنّ الإزالة مانعة ، مع أنّها لو لم تكن مانعةً لاجتمعت مع الصلاة ،
والمفروض عدم إمكان ذلك؟
كان الجواب : أنّ
المانعية التي تجعل المانع علّةً لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلّة
للأثر إنّما هي مانعية الشيء عن تأثير المقتضي في توليد الأثر. وقد عرفت أنّ هذه
المانعية إنّما تثبت لشيءٍ بالإمكان معاصرته للمقتضي.
وأمّا المانعية
بمعنى مجرّد التمانع وعدم إمكان الاجتماع في الوجود ـ كما في الضدَّين ـ فلا دخل
لها في التأثير ، إذ متى ما تمّ المقتضي لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ،
وانتفى المانع عن تأثير المقتضي أثّر أثره لا محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي
الآخر. ونتيجة ذلك : أنّ وجود أحد الضدَّين مع عدم ضدّه في رتبةٍ واحدةٍ ولا
مقدميّة بينهما.
الجواب الثاني :
أنّ افتراض المقدميّة يستلزم الدور ، كما أشرنا إليه في الحلقة السابقة فلاحظ.
__________________
وعليه فالصحيح :
أنّ وجوب شىءٍ لا يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ.
وأمّا ثمرة هذا
البحث فهي ـ كما أشرنا في الحلقة السابقة ـ تشخيص حكم الصلاة المضادّة لواجبٍ أهمّ إذا اشتغل بها
المكلّف وترك الأهمّ ، وكذلك أيّ واجبٍ آخر مزاحم من هذا القبيل ، فإذا قلنا
بالاقتضاء تعذّر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتب فلا تصحّ. وإذا لم نقل
بالاقتضاء صحّت بالأمر الترتّبي.
وبصيغةٍ أشمل في
صياغة هذه الثمرة أنّه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلَي الواجبين
المتزاحمين ؛ لأنّ كلًّا من الدليلين يدلّ بالالتزام على تحريم مورد الآخر ، فيكون
التنافي في أصل الجعل. وهذا ملاك التعارض ، كما مرّ بنا.
وأمّا على القول
بعدم الاقتضاء فلا تعارض ؛ لأنّ مفاد كلٍّ من الدليلين ليس إلاّ وجوب مورده ، وهو
وجوب مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم ، كما تقدّم ، ولا تنافي بين وجوبين من
هذا القبيل في عالم الجعل.
__________________
اقتضاء الحرمة للبطلان
لا شكّ في أنّ
النهي المتعلّق بالعبادة أو بالمعاملة إرشاداً إلى شرطٍ أو مانعٍ يكشف عن البطلان
بفقد الشرط أو وجود المانع. وإنّما الكلام في الحرمة التكليفية واقتضائها لبطلان
العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة بمعنى
عدم ترتّب الأثر عليها ، فهنا مبحثان :
اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة :
والمعروف بينهم
أنّ الحرمة تقتضي بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :
الأول
: أنّها تمنع عن
إطلاق الأمر خطاباً ودليلاً لمتعلَّقها ؛ لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه
مصداقاً للواجب لا يجزي عنه ، وهو معنى البطلان.
الثاني
: أنّها تكشف عن كون
العبادة مبغوضةً للمولى ، ومع كونها مبغوضةً يستحيل التقرّب بها.
الثالث
: أنّها تستوجب حكم
العقل بقبح الإتيان بمتعلَّقها ، لكونه معصيةً مبعِّدةً عن المولى ؛ ومعه يستحيل
التقرّب بالعبادة.
وهذه الملاكات على
تقدير تماميتها تختلف نتائجها :
فنتيجة الملاك
الأول لا تختصّ بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصّلي أيضاً ، ولا تختص بالعالم
بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضاً ، ولا تختص بالحرمة النفسيّة ، بل تشمل
الغيريّة أيضاً.
ونتيجة الملاك
الثاني تختصّ بالعبادة ، إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها ، وبالعالم بالحرمة ؛
لأنّ مَن يجهل كونها مبغوضةً يمكنه التقرّب.
ونتيجة الملاك
الثالث تختصّ بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وأيضاً تختصّ بالنهي النفسي ؛ لأنّ
الغيريَّ ليس موضوعاً مستقلاًّ لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدم في مبحث
الوجوب الغيري .
ثمّ إذا افترضنا
أنّ حرمة العبادة تقتضي بطلانها فإن تعلّقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وإن
تعلّقت بجزئها بطل هذا الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة ، وبطل الكلّ إذا اقتصر على
ذلك المفرد من الجزء. وأمّا إذا أتى بفردٍ آخر غير محرّمٍ من الجزء صحّ المركّب
إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض
العبادات.
وإن تعلّقت الحرمة
بالشرط نُظِر إلى الشرط ؛ فإن كان في نفسه عبادة ـ كالوضوء ـ بطل وبطل المشروط
بتبعه ، وإلاّ لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط. أمّا الأول فلعدم
كونه عبادة ، وأمّا الثاني فلأنّ عباديّة المشروط لا تقتضي بنفسها عباديّة الشرط
ولزوم الإتيان به على وجهٍ قربي ؛ لأنّ الشرط والقيد ليس داخلاً تحت الأمر النفسي
المتعلّق بالمشروط والمقيّد ، كما تقدّم في محلّه.
اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة :
وتُحلَّل المعاملة
إلى السبب والمسبّب. والحرمة تارةً تتعلّق بالسبب ، واخرى بالمسبّب ؛ فإن تعلقت
بالسبب فالمعروف بين الاصوليِّين أنّها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين أن
يكون الإنشاء والعقد مبغوضاً وأن يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه.
وإن تعلّقت
بالمسبّب ـ أي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصّل إليه بالعقد ،
__________________
باعتباره فعلاً
بالواسطة للمكلف وأثراً تسبيبيّاً له ـ فقد يقال بأنّ ذلك يقتضي البطلان لوجهين :
الأول
: أنّ هذا التحريم
يعني مبغوضية المسبّب ، أي التمليك بعوضٍ في مورد البيع مثلاً ، ومن الواضح أنّ
الشارع إذا كان يبغض أن تنتقل ملكية السلعة للمشتري فلا يعقل أن يحكم بذلك ، وعدم
الحكم بذلك عبارة اخرى عن البطلان.
والجواب : أنّ
تملّك المشتري للسلعة يتوقّف على أمرين :
أحدهما : إيجاد
المتعاملين للسبب ، وهو العقد.
والآخر : جعل
الشارع للمضمون. وقد يكون غرض المولى متعلقاً بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأول
خاصّة ، لا بإعدامه من ناحية الأمر الثاني ، فلا مانع من أن يحرِّم المسبّب على
المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقّق السبب.
الثاني
: ما ذكره المحقق
النائيني من أنّ هذا التحريم يساوق الحَجْر على المالك وسلب سلطنته
على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.
والجواب : أنّ
الحَجْر على شخصٍ له معنيان :
أحدهما : الحَجْر
الوضعي ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.
والآخر : الحَجْر
التكليفي ، بمعنى منعه ؛ فإن اريد أنّ التحريم يساوق الحَجْر بالمعنى الأول فهو
أول الكلام. وإن اريد أنّه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلَّم.
ولكنْ مَن قال :
إنّ هذا يستتبع الحَجْر الوضعي؟ فالظاهر أنّ تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل
قد يقتضي الصحّة ، كما أشرنا في حلقةٍ سابقة .
__________________
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع
يقسَّم الحكم
العقلي إلى قسمين :
أحدهما : الحكم
النظري ، وهو إدراك ما يكون واقعاً.
والآخر : الحكم
العملي ، وهو إدراك ما ينبغي ، أو مالا ينبغي أن يقع.
وبالتحليل نلاحظ
رجوع الثاني إلى الأول ؛ لأنّه إدراك لصفةٍ واقعيةٍ في الفعل ، وهي : أنّه ينبغي
أن يقع وهو الحسن ، أو لا ينبغي وهو القبح. وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان
واقعيتان يدركهما العقل ، كما يدرك سائر الصفات والامور الواقعية ، غير أنّهما
تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جرياً عملياً معيّناً خلافاً للُامور الواقعية
الاخرى.
وعلى هذا الأساس
يمكن أن يقال : إنّ الحكم النظري هو إدراك الامور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها
جرياً عملياً معيّناً ، والحكم العملي هو إدراك الامور الواقعية التي تقتضي بذاتها
ذلك. ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري ؛ لأنّ المصلحة ليست
بذاتها مقتضيةً للجري العملي ، ويختصّ الحكم العملي من العقل بإدراك الحسن والقبح.
وسنتكلم في ما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.
الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع :
لا شكّ في أنّ
الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصياته
وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامة الداعية للمولى إلى
جعل الحكم على طبقه وفقاً لحكمته تعالى. وعلى هذا
الأساس فمن الممكن
نظرياً أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكلّ خصوصياته وشؤونه ، وفي مثل
ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافاً لمّياً ، أي بالانتقال من العلّة إلى
المعلول.
ولكنّ هذا
الافتراض صعب التحقّق من الناحية الواقعية في كثيرٍ من الأحيان ؛ لضيق دائرة العقل
، وشعور الإنسان بأ نّه محدود الاطّلاع ، الأمر الذي يجعله يحتمل غالباً أن يكون
قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك المصلحة في فعلٍ ولكنّه لا يجزم
عادةً بدرجتها وبمدى أهمّيتها وبعدم وجود أيِّ مزاحمٍ لها ، وما لم يجزم بكلّ ذلك
لا يتمّ الاستكشاف.
الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع :
عرفنا أنّ مرجع
الحكم العملي إلى الحسن والقبح ، وأنّهما أمران واقعيان يدركهما العقل. وقبل
الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمةً عن واقعية هذين الأمرين : فإنّ
جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيّين ، أي مجعولين من قبل
العقلاء تبعاً لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحةً كذلك
يجعلونه حَسَناً ، وما يرونه مفسدةً كذلك يجعلونه قبيحاً ، ويميّزهما عن غيرهما من
التشريعات العقلائية اتّفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ؛ لوضوح المصالح
والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما.
وهذا التفسير خاطئ
وجداناً وتجربةً. أمّا الوجدان فهو قاضٍ بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل
أيّ جاعل ، كإمكان الممكن.
وأمّا التجربة
فلأنّ الملحوظ خارجياً عدم تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون
المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق
العقلاء على قبحه
، فقتل إنسان لأجل استخراج دواءٍ مخصوصٍ من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت
إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط ، فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا
يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلاً. فالحسن والقبح إذن ليسا تابعين للمصالح
والمفاسد بصورةٍ بحتة ، بل لهما واقعية تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثيرٍ من
الأحيان وتختلف معها أحياناً.
والمشهور بين
علمائنا : الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي. وهناك مَن ذهب إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي
بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :
أمّا الاتجاه
الأول فقد قُرِّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين
بما هم عقلاء على حسن شيءٍ وقبحه فلابدّ أن يكون الشارع داخلاً ضمن ذلك أيضاً.
والتحقيق : أنّا
تارةً نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيّين يدركهما العقل ، واخرى
بوصفهما مجعولين عقلائيّين رعايةً للمصالح العامة.
فعلى الأول لا
معنى للتقريب المذكور ؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء إنّما يدركون الحسن والقبح ،
ولا شكّ في أنّ الشارع يدرك ذلك ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجعل حكماً تشريعياً
على طبقهما ، أوْ لا؟
وعلى الثاني إن
اريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامة التي
دَعَتْهم إلى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري
، لا العملي ؛ لأنّ مناطه هو إدراك المصلحة
__________________
ولا دخل للحسن
والقبح فيه.
وإن اريد استكشاف
الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح فلا مبرِّر لذلك ، إذ لا
برهان على لزوم صدور جعلٍ من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.
وأمّا الاتجاه
الثاني فقد قُرِّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛
لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسؤولية والمحرِّكية.
ويرد على ذلك :
أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة ـ مثلاً ـ وإن كانا يستبطنان درجةً من المسؤولية
والمحرِّكية غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدِّي إلى نشوء ملاكٍ آخر للحسن
والقبح ، وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسؤولية والمحرِّكية ، فإذا
كان المولى مهتّماً بحفظ واجبات العقل العملي بدرجةٍ أكبر ممّا تقتضيه الأحكام
العملية نفسها حكم على طبقها ، وإِلاّ فلا.
وبذلك يتّضح أنّه
لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم
الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تام.
٢ ـ حجّيّة الدليل العقلي
الدليل العقلي إن
كان ظنيّاً فهو بحاجةٍ إلى دليلٍ على حجّيته ، ولا دليل على حجّية الظنون العقلية.
وأمّا إذا كان قطعياً فهو حجّة من أجل حجّية القطع.
ونسب إلى بعضهم القول بعدم حجّية القطع الناشئ من الدليل العقلي ، وهو
بظاهره غير معقول ؛ لأنّ حجّية القطع الطريقي غير قابلةٍ للانفكاك عنه مهما كان
سببه. ومن هنا حاول بعض الأعلام توجيهه ثبوتاً بدعوى تحويل القطع من طريقيٍّ إلى موضوعي ،
وذلك بأن يُفرض عدم القطع العقلي قيداً في موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلي
لا حكم ليكون القطع منجِّزاً له.
ويرد على ذلك :
أولاً
: أنّ القطع العقلي
الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو القطع بالحكم المجعول ، أو بالجعل؟ والأول
واضح الاستحالة ؛ لأنّ القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلاً ،
فكيف يعقل أن يصدِّق بأ نّه يساوق انتفاءه؟ وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه
الاستحالة ، إذ قد يصدِّق القاطع بالجعل
__________________
بعدم فعلية
المجعول ، ولكنّ التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل العقلي
القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيدٍ آخر؟
وبكلمةٍ موجزة :
أنّ المكلّف إذا كان قاطعاً عقلاً بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن أن يصدِّق
بإناطته بغير ما قطع عقلاً بثبوته ، وإذا كان قاطعاً عقلاً بثبوت الملاك للحكم ،
ولكن على نحوٍ لا يجزم بأ نّه ملاك تام ، ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا
القطع حجّةً في نفسه بلاحاجةٍ إلى بذل عنايةٍ في تحويله من طريقيٍّ إلى موضوعي.
وثانياً
: أنّ القطع العقلي
لا يؤدّي دائماً إلى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدّي إلى نفيه ، من قبيل ما يستدلّ به
على استحالة الأمر بالضدين ولو على وجه الترتّب ، فماذا يقال بهذا الشأن؟ وهل
يفترض أنّ المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ مَن وصلت إليه الاستحالة بدليلٍ
عقليٍّ على الرغم من استحالته؟
فالصحيح إذن : أنّ
المنع شرعاً عن حجّية الدليل العقلي القطعي غير معقول ، لا بصورةٍ مباشرةٍ ولا
بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.
ولكنّ القائلين
بعدم حجّية الدليل العقلي استندوا إلى جملةٍ من الروايات التي ندَّدت بالعمل بالأدلّة العقلية ، وأكّدت على عدم
قبول أيّ عملٍ غير مبنيٍّ على الاعتراف بأهل البيت ونحو ذلك من الألسنة.
والصحيح : أنّ
الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يُدّعى ، وإنّما هي بصدد امورٍ اخرى ،
فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقلية ،
وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطاً في صحّة العبادة ،
__________________
وبعضها بصدد بيان
عدم جواز الانصراف عن الأدلّة الشرعية والتوجّه رأساً إلى الاستدلالات العقلية ،
مع أنّ التوجّه إلى الأدلّة الشرعية كثيراً ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال
العقلي ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة .
وبهذا ينتهي البحث
في الدليل العقلي ، وبذلك نختم الكلام في مباحث الأدلّة من الحلقة الثالثة.
وقد كان الشروع
فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية (١٣٩٧ ه) ، وكان الفراغ في اليوم
الثالث والعشرين من شهر رجب (١٣٩٧ ه).
وبما ذكرناه يتمّ
الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة
إن شاء الله تعالى ، وهو في مباحث الاصول العملية.
وإلى المولى
سبحانه نبتهل أن يتقبّل منّا هذا بلطفه ، ويوفِّقنا لمراضيه ، والحمد لله أوّلاً
وآخراً.
__________________
الحلقَة الثالثَة
الجزء الثاني
الاصول العمليّة.
الخاتمة في تعارض الأدلّة.
١ ـ الجزء الثاني
الاصول العمليّة
التمهيد.
الوظيفة العمليّة في حالة الشك.
الاستصحاب.
١ ـ الاصول العمليّة
التمهيد
خصائص الاصول العمليّة.
الاصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة.
الاصول التنزيليّة والمحرزة.
مورد جريان الاصول.
خصائص الاصول العملية :
عرفنا فيما تقدّم أنّ الاصول العملية نوع من الأحكام الظاهرية الطريقية
المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعية أو التعذير عنها ، وهو نوع متمِّيز عن
الأحكام الظاهرية في باب الأمارات. وقد مُيِّز بينهما بعدّة وجوه :
الأول
: أنّ الفرق بينهما
ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في دليل حجّية الأمارة ودليل الأصل ، فالمجعول
في الأول الطريقية مثلاً ، وفي الثاني الوظيفة العملية ، أو التنزيل منزلة اليقين
بلحاظ الجري العملي بدون تضمّنٍ لجعل الطريقية. وقد تقدّم الكلام عن
ذلك ، ومرّ بنا
أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي.
وحاصل فذلكة
الموقف : أنّه لم يرد عنوانا «الأمارة» و «الأصل» في دليلٍ ليتكلّم عن تمييز
أحدهما عن الآخر بأيّ نحوٍ اتّفق ، وإنمّا نعبِّر بالأمارة عن تلك الحجّة التي لها
آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعية المترتّبة على
__________________
اللوازم العقلية
لمؤدّاها ، ونعبِّر بالأصل عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار. وقد
عرفنا سابقاً أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجّية الطريقية لا يفي بإثبات تلك
الآثار للأمارة.
الثاني
: أنّ الفرق بينهما
ينشأ من أخذ الشكّ موضوعاً للأصل العملي ، وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجّية
المجعولة للأمارة.
وهذا الفرق مضافاً
إلى أنّه لا يفي بالمقصود غير معقولٍ في نفسه ؛ لأنّ الحجّية حكم ظاهري ، فإن لم
يكن الشكّ مأخوذاً في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الأمارة
حجّةً على العالم غير معقول. ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجّية الأمارة
مورداً لا موضوعاً ، غير أنَّنا لا نتعقّل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من
الأخذ.
الثالث
: أنّ الفرق بينهما
ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل ، وعدم أخذه في لسان دليل حجّية
الأمارة بعد الفراغ عن كونه مأخوذاً في موضوعهما ثبوتاً معاً.
وهذا الفرق لا يفي
أيضاً بالمقصود. نعم ، قد يثمر في تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل بالحكومة.
هذا ، مضافاً إلى كونه اتّفاقياً فقد يتّفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل الحجّية ،
كما لو بني على ثبوت حجّية الخبر بقوله تعالى :
(فَاسْألوا أهْلَ
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمون) فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلاً حينئذٍ؟
الرابع
: ما حقّقناه في
الجزء السابق من أنّ الأصل العملي حكم ظاهريّ
__________________
لو حظت فيه أهمّية
المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط
والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلّة الحجّية الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال
محضاً. وقد عرفنا سابقاً أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الأمارة على
الأصل من حجّية مثبتاتها.
الاصول العملية الشرعية والعقلية :
وتنقسم الاصول
العملية إلى شرعية ، وعقلية. فالشرعية : هي ما كنّا نقصده آنفاً ، ومردّها إلى
أحكامٍ ظاهريةٍ شرعيةٍ نشأت من ملاحظة أهمّية المحتمل.
والعقلية : وظائف
عملية عقلية ، ومردّها ـ في الحقيقة ـ إلى حقّ الطاعة إثباتاً ونفياً ، فحكم العقل
ـ مثلاً ـ بأنّ «الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» مرجعه إلى أنّ حق الطاعة
للمولى الذي يستقلّ به العقل إنمّا هو حقّ الطاعة القطعية ، فلا تفي الطاعة
الاحتمالية بحقّ المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ على مسلك
المشهور ـ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّةً ، بينما
يرجع حكم العقل بمنجِّزية التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة ،
وهكذا.
وللقسمين مميّزات
يمكن ذكر جملةٍ منها في مايلي :
أولاً
: أنّ الاصول
العملية الشرعية أحكام شرعية ، والاصول العملية العقلية ترجع إلى مدركات العقل
العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة.
ثانياً
: انّه ليس من
الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله. فقد يوكِل
الشارع أمر تحديد الوظيفةالعملية للشاكِّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافاً للأصل
العملي العقلي ، فإنّه لابدّ من افتراضه بوجهٍ في كلّ
واقعةٍ من وقائع
الشكّ في حدّ نفسها.
ثالثاً
: أنّ الاصول
العملية العقلية قد تُردّ إلى أصلين ؛ لأنّ العقل إن أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة
المشكوكة حكم بأصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة.
ولكن قد يفرض أصل
عملي عقلي ثالث ، وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين.
وقد يُعترض على
افتراض هذا الأصل : بأنّ التخيير إن اريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال
الذّمة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ؛ لأنّ الجامع بين الفعل والترك في
موارد الدوران بين المحذورين ضروريّ الوقوع.
وإن اريد به أنّه
لا يلزم المكلف عقلاً بفعلٍ ولا تركٍ ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة.
وسيأتي تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن
شاء الله تعالى.
وأمّا الاصول
العملية الشرعية فلا حصر عقليّ لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة
جعلها ، فقد تكون استصحاباً مثلاً.
رابعاً
: أنّ الاصول
العملية العقلية لايعقل التعارض بينها ، لا ثبوتاً ـ كما هو واضح ـ ولا إثباتاً ؛
لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها ، ولا تناقض بين إدراكين عقليّين.
__________________
وأمّا الاصول
العملية الشرعية فيعقل التعارض بينها إثباتاً بحسب لسان أدلتها ، ولابدّ من علاج
ذلك وفقاً لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.
خامساً
: أنّه لا يعقل
التصادم بين الاصول العملية الشرعية والاصول العملية العقلية ، فإذا كانا مختلفين
في التنجيز والتعذير ؛ فإن كان الأصل العملي العقلي معلَّقاً على عدم ورود أصلٍ
عملىٍّ شرعيٍّ على الخلاف كان هذا وارداً ، وإلاّ امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي
في مورده.
الاصول التنزيلية والمحرزة :
الاصول العملية
الشرعية : تارةً تكون مجرّد وظائف عمليةٍ بلسان إنشاء حكمٍ تكليفيٍّ ترخيصيٍّ أو
إلزامي ، بدون نظرٍ بوجهٍ إلى الأحكام الواقعية ، وهذه اصول عملية بحتة.
واخرى تُبذل فيها
عناية إضافية ، إذ تُطَعَّم بالنظر إلى الأحكام الواقعية ، وهذه العناية يمكن
تصويرها بوجهين :
أحدهما
: أن يجعل الحكم
الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحِلِّ وأصالة
الطهارة ، إذ يستظهر أنّ قوله : «كل شيءٍ [هو] لك حلال» أو «كل شيءٍ لك طاهر حتّى تعلم ...» يتكفّل تنزيل مشكوك
__________________
الحِلِّية ومشكوك
الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلةالطاهر الواقعي ، خلافاً لمن يقول : إنّ دليل
هذين الأصلين ليس ناظراً إلى الواقع ، بل يُنشئ بنفسه حِلّيةً أو طهارةً بصورةٍ
مستقلّة.
ويسمّى الأصل في
حالة بذل هذه العناية التنزيلية بالأصل التنزيلي. وقد تترتّب على هذه التنزيلية
فوائد ، فمثلاً : إذا قيل بأنّ أصل الإباحة تنزيليّ ترتّب عليه حين تطبيقه على
الحيوان ـ مثلاً ـ طهارة مدفوعه ظاهراً ؛ لأنّها مترتّبة على الحِلِّية الواقعية ،
وهي ثابتة تنزيلاً ، فكذلك حكمها. وأمّا إذاقيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيلياً بل
إنشاء لحلّيةٍ مستقلّةٍ فلا يمكن أن نُنقِّح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.
والآخر
: أن ينزَّل الأصل
أو الاحتمال المقوِّم له منزلة اليقين ، بأن تجعل الطريقية في مورد الأصل ، كما
ادّعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقّق النائيني والسيد الاستاذ على فرقٍ بينهما ، حيث إنّ الأول اختار : أنّ المجعول هو
العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط. والثاني اختار : أنّ المجعول هو العلم بلحاظ
الكاشفية ، فلم يبقَ على مسلك جعل الطريقية فرق بين الاستصحاب والأمارات في
المجعول على رأي السيد الاستاذ.
ويسمّى الأصل في
حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز. وهذه المحرزية قد يترتّب عليها بعض الفوائد
في تقديم الأصل المحرز على غيره ، باعتباره عِلماً وحاكماً على دليل الأصل العملي
البحت ، على ما يأتي في محلّه إن شاء الله
__________________
تعالى.
وهناك معنىً آخر
للُاصول العملية المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الأمارات والاصول ، وهو
: أنّه كلّما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتاً أهميّة المحتمل فهو أصل عملي ، فإن
لوحظ منضمَّاً اليه قوة الاحتمال أيضاً فهو أصل عملي محرز ، كما في قاعدة الفراغ ،
وإلاّ فلا.
والمحرزية بهذا
المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّةً في مثبتاتها ، إلاّأنّ استظهارها من دليل
القاعدة يترتب عليه بعض الآثار ايضاً ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد
انعدام الأمارية والكشف نهائياً. ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد
العلم بعدم التذكّر حين العمل.
مورد جريان الاصول العملية :
لاشكّ في جريان
الاصول العملية الشرعية عند الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه ، كما في
أصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه ، كما في أصالة البراءة. ولكن قد يشكّ في التكليف
الواقعي ، ويشكّ في قيام الحجّة الشرعية عليه بنحو الشبهة الموضوعية ـ كالشك في
صدور الحديث ـ أو بنحو الشبهة الحكمية ، كالشكّ في حجّية الأمارة المعلوم وجودها ،
فهل يوجد في هذه الحالة موردان للأصل العملي فنجري البراءة عن التكليف الواقعي
المشكوك ونجري براءةً اخرى عن الحجّية ـ أي الحكم الظاهري المشكوك ـ أو تكفي
البراءة الاولى؟
وبكلمةٍ اخرى :
أنّ الاصول العملية هل يختصّ موردها بالشكّ في الأحكام الواقعية ، أو يشمل مورد
الشكّ في الأحكام الظاهرية نفسها؟
قد يقال : بأ نّنا
في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين ، إذ يوجد احتمالان
صالحان للتنجيز ،
فنحتاج إلى مؤمِّنٍ عن كلٍّ منهما :
أحدهما
: احتمال التكليف
الواقعي ، ولنسمِّهِ بالاحتمال البسيط.
والآخر
: احتمال قيام
الحجّة عليه. وحيث إنّ الحجّية معناها إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي
المشكوك ـ كما عرفنا سابقاً عند البحث في حقيقة الأحكام الظاهرية ـ فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليفٍ
واقعيٍّ متعلّقٍ لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمِّ هذا
بالاحتمال المركّب.
وعليه فالبراءة عن
الاحتمال البسيط لا تكفي ، بل لابدّ من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب أيضاً
ببراءةٍ ثانية.
وقد يعترض على ذلك
: بأنّ الأحكام الظاهرية ـ كما تقدّم في الجزء السابق ـ متنافية بوجوداتها الواقعية ، فإذا جرت البراءة عن
الحجّية المشكوكة وفرض أنّها كانت ثابتةً يلزم اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين.
وجواب الاعتراض :
أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجّية المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم
الواقعي ؛ لأنّها مترتّبة على الشكّ فيها. فكما لامنافاة بين الحكم الظاهري
والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريّين طوليّين من هذا القبيل. وما تقدّم
سابقاً من التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ينبغي أن يفهم في حدود
الأحكام الظاهرية العَرضية ، أي التي يكون الموضوع
__________________
فيها نحو واحد من
الشكّ.
وقد يعترض على
إجراء براءةٍ ثانيةٍ بأ نّها لغو ، إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي
المشكوك لا تنفع البراءة المؤمِّنة عن الحجّية المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى
البراءة الثانية ، إذ لا يحتمل العقاب إلاّمن ناحية التكليف الواقعي ، وقد امِّن
عنه.
والجواب على ذلك :
أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليفٍ واقعيٍّ واصلٍ إلى مرتبةٍ من
الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّية المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأول
لا يلازم التأمين عن الثاني ، ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما
احتملت تكليفاً وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعةٍ منه ، وكلّما احتملت
تكليفاً واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه؟
ولكنّ التحقيق مع ذلك
: أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّية
المشكوكة ؛ وذلك بتوضيح مايلي :
اولاً
: أنّ البراءة عن
التكليف الواقعي والحجّية المشكوكة حكمان ظاهريان عرضيان ؛ لأنّ موضوعهما معاً
الشكّ في الواقع ، خلافاً للبراءة عن الحجّية المشكوكة فإنّها ليست في درجتها ،
كما عرفت.
ثانياً
: أنّ الحكمين
الظاهريّين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعّيين ، سواء وصلا أوْ لا ، كما
تقدّم في محلّه .
__________________
ثالثاً
: أنّ البراءة عن
التكليف الواقعي منافية ثبوتاً للحجّية المشكوكة ، على ضوء ما تقدم.
رابعاً
: أنّ مقتضى
المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجّية واقعاً ونفيها.
خامساً
: أنّ الدليل الدالّ
على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة.
وهذا يعني : أنّنا
بإجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل نفي الحجّية المشكوكة ، فلا حاجة
إلى أصل البراءة عنها وإن كان لا محذور فيه أيضاً.
ويمكن تصوير وقوع
الأحكام الظاهرية مورداً للُاصول العملية في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم
الظاهري ؛ لتمامية أركان الاستصحاب فيه ، وعدم تماميتها في الحكم الواقعي ، كما
إذا علم بالحجّية وشكّ في نسخها فإنّ المستصحَب هنا نفس الحجّية ، لا الحكم
الواقعي.
٢ ـ الاصول العمليّة
الوظيفة
العمليّة
في
حالة الشكّ
الوظيفة في حالة الشكّ البدوي.
الوظيفة في حالة العلم الإجمالي.
الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة
معاً.
الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر.
١
ـ الوظيفة العملية في حالة الشكّ
الوظيفة
في
حالة الشكّ البَدويّ
الوظيفة الأولية في حالة الشكّ.
الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ.
الوظيفة الأوّلية في حالة الشكّ
كلّما شكّ المكلف
في تكليفٍ شرعيٍّ ولم يتأتَّ له إقامة الدليل عليه إثباتاً أو نفياً فلابدّ له من
تحديد الوظيفة العملية تجاهه. ويقع الكلام أوّلاً في تحديد الوظيفة العملية تجاه
التكليف المشكوك بقطع النظر عن أيّ تدخّلٍ من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني
التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها ، وليس هو إلاّالأصل العملي
العقلي. ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :
١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان :
إنّ مسلك قاعدة
قبح العقاب بلا بيانٍ هو المسلك المشهور ، وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :
الأول
: ما ذكره المحقّق
النائيني رحمهالله من : أنّه لا مقتضيَ للتحرّك مع عدم وصول التكليف ،
فالعقاب حينئذٍ عقاب على ترك مالا مقتضي لإيجاده ، وهو قبيح.
وقد عرفت في حلقةٍ
سابقةٍ أنّ هذا الكلام مصادرة ؛ لأنّ عدم المقتضي
__________________
فرع ضيق دائرة حقّ
الطاعة ، وعدم شمولها عقلاً للتكاليف المشكوكة ؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون
المقتضي للتحرّك موجوداً ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.
الثاني
: الاستشهاد
بالأعراف العقلائية. وقد تقدم أيضاً الجواب بالتمييز بين المولوية المجعولة والمولوية
الحقيقية.
الثالث
: ما ذكره المحقّق
الأصفهاني رحمهالله من : أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي
الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج
عن رسم العبودية ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب. وأنّ
مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زِيِّ العبودية أن
لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلماً للمولى ،
وعليه فلا موجب للعقاب ، بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.
والتحقيق : أنّ
ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموماً ،
وأ نّها كلّها تطبيقات له ، وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره
من المحقّقين إلاّأ نّه لا محصّل له ؛ لأنّنا إذا حلَّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه
عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقٍّ في المرتبة
السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي. فلو لا أنّ للمنعم حقَّ الشكر
في المرتبة السابقة لَما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره.
فكون شيءٍ ظلماً
وبالتالي قبيحاً مترتّب دائماً على حقٍّ مدركٍ في المرتبة السابقة ، وهو في المقام
حقّ الطاعة.
__________________
فلابدّ أن يتّجه
البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي ، أو
يختصّ بما كان واصلاً بالوصول القطعي بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرّد
ثبوته واقعاً ولو لم يصل بوجه؟
الرابع
: ما ذكره المحقّق
الإصفهانيّ أيضاً تعميقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ على أساس مبنىً
له في حقيقة التكليف ، حاصله : أنّ التكليف إنشائي وحقيقي ، فالإنشائي ما يوجد
بالجعل والإنشاء ، وهذا لا يتوقّف على الوصول.
والتكليف الحقيقي
ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك ، وهذا متقوّم بالوصول ، إذ لا يعقل أن يكون
التكليف بمجرّد إنشائه باعثاً ومحرِّكاً ، وإنّما يكون كذلك بوصوله. فكما أنّ بعث
العاجز غير معقولٍ كذلك بعث الجاهل. وكما يختصّ التكليف الحقيقي بالقادر كذلك
يختصّ بمن وصل اليه ليمكنه الانبعاث عنه.
فلا معنى للعقاب
والتنجّز مع عدم الوصول ؛ لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا
بيانٍ لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.
ويرد عليه :
أولاً
: أنّ حقّ الطاعة إن
كان شاملاً للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثية التكليف ومحرّكيته مولوياً
مع الشكّ معقولة أيضاً ؛ وذلك لأنّه يحقِّق موضوع حقّ الطاعة. وإن لم يكن حقّ
الطاعة شاملاً للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على
مخالفتها ؛ لأنّه ليس مولىً بلحاظها بلا حاجةٍ إلى هذه البيانات والتفصيلات. وهكذا
نجد مرّةً اخرى أنّ روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.
__________________
وثانياً
: أنّ التكليف
الحقيقيّ الذي ادّعي كونه متقوّماً بالوصول إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب ـ مثلاً
ـ الناشئ من إرادة ملزمةٍ للفعل ومصلحةٍ ملزمةٍ فيه فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع
الشكّ أيضاً ، حتّى لو قلنا بأ نّه غير منجَّزٍ وإنّ المكلف الشاكّ غير ملزم
بامتثاله عقلاً ؛ لأنّ شيئاً من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.
وإن أراد به ما
كان مقروناً بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقولٍ بدون وصول ، إلاّ أنّ
ذلك لا يُنهي البحث ؛ لأنّ الشكّ في وجود جعلٍ بمبادئه من الإرادة والمصلحة
الملزمَتَين موجود على أيّ حال ، حتّى ولو لم يكن مقروناً بداعي البعث والتحريك ،
ولابدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز ، أوْ لا؟ وعدم تسمية ذلك
بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاحٍ ولا يُغني عن بحث واقع الحال.
٢ ـ مسلك حقّ الطاعة :
وهكذا نصل إلى
المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار. ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ
المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل
تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. وهذا من مدركات العقل العملي ، وهي غير
مبرهنة. فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي غير
مبرهنٍ كذلك حدوده سعةً وضيقاً. وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة
الاشتغال بحكم العقل مالم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ ، على ما تقدم في مباحث
القطع . فلابدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعاً ، وهو ما يسمّى
بالبراءة الشرعية.
__________________
الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ
والقاعدة العملية
الثانوية في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الاولى هي البراءة الشرعية. ويقع
الكلام عن إثباتها في مبحثين : أحدهما في أدلّتها ، والآخر في الاعتراضات العامّة
التي قد توجّه إلى تلك الأدلّة بعد افتراض دلالتها [ثمّ يقع الكلام في تحديد
مفادها] :
١ ـ أدلّة البراءة الشرعية
وقد استُدلّ عليها
بالكتاب الكريم والسنّة :
أدلّة البراءة من الكتاب :
أمّا من الكتاب
الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :
منها : قوله
سبحانه وتعالى : (لَايُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاّمَا
آتَاهَا) . بدعوى أنّ اسم الموصول يشمل التكليف بالإطلاق ، كما يشمل
المال والفعل ، فيدلّ على
__________________
أنّه لا يكلِّف
بتكليفٍ إلاّإذا آتاه ، وإيتاء التكليف معناه عرفاً وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ
الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.
وقد اعترض الشيخ
الأنصاريّ رحمهالله على دعوى إطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة
القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ؛ لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال
والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى
المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمالٍ واحد؟
وهناك جوابان على
هذا الاعتراض :
الأول
: ما ذكره المحقّق
العراقيّ رحمهالله من أخذ الجامع بين النسبتين.
ويرد عليه : أنّه
إن اريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ؛ لِمَا تقدّم في مبحث المعاني الحرفية من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين النسب. وإن اريد بذلك
افتراض نسبةٍ ثالثةٍ مباينةٍ للنسبتين ، إلاّأ نّها تلائم المفعول المطلق والمفعول
به معاً فلا معيِّن لإرادتها من الكلام على تقدير تصور نسبةٍ من هذا القبيل.
الثاني
: وهو الجواب الصحيح
، وحاصله : أنّ مادة الفعل في الآية هي الكُلفة بمعنى الإدانة ، ولا يراد بإطلاق
اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذن
مفعول به ، فلا إشكال.
ثمّ إنّ البراءة
التي تستفاد من هذه الآية الكريمة : إن كانت بمعنى نفي الكُلفة بسبب التكليف غير
المأتيِّ فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ
__________________
الدليل عليه ، فلا
تنفع في معارضة أدلّة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد
التكليف غير المأتيِّ فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يُدّعى من أدلّته.
والظاهر هو الحمل على المورديّة ، لا السببيّة ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل
والمال أيضاً ، فالاستدلال بالآية جيّد.
وبالنسبة إلى مدى
الشمول فيها لا شكّ في شمولها للشبهات الوجوبية والتحريمية معاً ، بل للشبهات
الحكمية والموضوعية معاً ؛ لأنّ الإيتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع
ليختصّ بالشبهات الحكمية ، بل بمعنى الإيتاء التكويني ؛ لأنّه المناسب للمال
وللفعل.
كما أنّ الظاهر
عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفاً مرتبة
من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.
ومنها : قوله
سبحانه وتعالى : (وَمَا كُنّا مُعذِّبينَ حتّى نَبْعَثَ
رسولاً) .
وتقريب الاستدلال
واضح بعد حمل كلمة «رسول» على المثال للبيان.
وقد يعترض على ذلك
تارةً : بأنّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز
التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو.
واخرى بأنّها
ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للُامم السالفة ، وهذا غير محلّ البحث.
والجواب على الأول
: أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامة للشارع التي لا يناسبه غيرها ،
كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفاً ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.
__________________
ومنه يظهر الجواب
على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافاً إلى منع نظر الآية إلى
العقوبات الدنيوية ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الاخروي ، إذ وردت
في سياق (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ اخْرى) فإنّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا. ولا
منشأ لدعوى النظر المذكور إلاّ ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله «وما كنّا» وهذا
بنكتة إفادة الشأنيّة والمناسبة ، ولا يتعيّن أنْ يكون بلحاظ النظر إلى الزمان
الماضي خاصة.
ولكن يرد على
الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثالٍ لصدور البيان من
الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.
ثمّ إنّ البراءة
إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛
لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضاً.
ومنها : قوله
تعالى : (قُلْ لا أجِدُ فيما اوحِيَ إليَّ
مُحرَّماً عَلَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكونَ مَيتَةً أوْ دَماً مَسْفُوحاً
أو لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإنّهُ رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لِغيرِ اللهِ بهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عادٍ فإنّ رَبَّكَ غَفُورٌ رحيمٌ) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كافٍ في إطلاق العنان.
ويرد عليه :
أولاً
: أنّ عدم وجدان
النبيّ فيما اوحي اليه يساوق عدم الحرمة واقعاً.
وثانياً
: أنّه إن لم يساوق
عدم الحرمة واقعاً فعلى الأقلِّ يساوق عدم صدور
__________________
بيانٍ من الشارع ،
إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبيّ ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال
اختفاء البيان؟
وثالثاً
: أنّ إطلاق العنان
كما قد يكون بلحاظ أصلٍ عمليٍّ قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها
إلاّبمخصِّصٍ واصل.
ومنها : قوله
تعالى : (وَمَا كَان اللهُ ليُضِلَّ قَوْماً بعدَ
إذْ هَداهُم حتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يتَّقُونَ إنّ الله بكُلِّ شيءٍ عَليمٌ) .
وتقريب الاستدلال
كما تقدّم في الحلقة السابقة . وما يتّقى إن اريد به ما يُتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة
الواقعية للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطةً بعدم بيان
الواقع. وإن اريد به ما يُتّقى ولو بعنوانٍ ثانويٍّ ظاهريٍّ كعنوان المخالفة
الاحتمالية كان دليل وجوب الاحتياط وارداً على هذه البراءة ؛ لأنّه بيان لما
يُتّقى بهذا المعنى.
أدلّة البراءة من السنّة :
واستُدلّ من
السنّة بروايات :
منها : ما روي عن
الصادق عليهالسلام من قوله : «كل شيءٍ مطلق حتّى يرد فيه نهي» . وفي الرواية نقطتان لابدّ من بحثهما :
الاولى
: أنّ الورود هل هو
بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود ، أو الصدور لئلاّ يفيد
في حالة احتمال صدور البيان من الشارع
__________________
مع عدم وصوله؟
الثانية
: أنّ النهي الذي
جعل غايةً هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط ، أوْ لا؟
فعلى الأول تكون
البراءة المستفادة ثابتةً بدرجةٍ يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها. وعلى
الثاني تكون بنفسها نافيةً لوجوب الاحتياط.
أمّا النقطة
الاولى فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للإجمال الكافي
لإسقاط الاستدلال. وقد تُعيَّن إرادة الوصول بأحد وجهين :
الأوّل
: ما ذكره السيّد
الاستاذ من أنّ المغيّى حكم ظاهري ، فيتعيّن أن تكون الغاية هي
الوصول لا الصدور ؛ لأنّ كون الصدور غايةً يعني أنّ الإباحة لا تثبت إلاّمع عدم
الصدور واقعاً ، ولا يمكن إحرازها إلاّبإحراز عدم الصدور ، ومع إحرازه لا شكّ فلا
مجال للحكم الظاهري.
فإن قيل : لماذا
لا يفترض كون المغيّى إباحةً واقعية؟
كان الجواب منه :
أنّ الإباحة الواقعية والنهي الواقعي الذي جعل غايةً متضادّان ، فإن اريد تعليق
الاولى على عدم الثاني حقيقةً فهو محال ؛ لاستحالة مقدّمية عدم أحد الضدين للضدّ الآخر.
وإن اريد مجرّد بيان أنّ هذا الضد ثابت حيث لا يكون ضده ثابتاً فهذا لغو من البيان
؛ لوضوحه.
ويرد على هذا
الوجه : أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف عن التحريم ، وليس هو التحريم
نفسه. والتضادّ نفسه لا يقتضي تعليق أحد الضدّين على عدم الضد الآخر ، ولا على عدم
الكاشف عن الضد الآخر ، ولكن لا محذور
__________________
في أن توجد نكتة
أحياناً تقتضي إناطة حكمٍ بعدم الكاشف عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام
إلى أن تكون فعلية الحرمة بمبادئها منوطةً بصدور الخطاب الشرعي الدالِّ عليها ،
نظير ما قيل من أنّ العلم بالحكم من طريقٍ مخصوصٍ يؤخذ في موضوعه.
الثاني
: أنّ الورود يستبطن
دائماً حيثية الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورودٍ عليه. ولكنّ هذا المقدار لا
يكفي أيضاً ، إذ يكفي لإشباع هذه الحيثية ملاحظة نفس المتعلّق موروداً عليه ، فالاستدلال
بالرواية إذن غير تام ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.
ومنها : حديث
الرفع المرويّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونصّه : «رفع عن امّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما
اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا اليه ، والحسد ،
والطَيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة» .
والبحث حول هذا
الحديث يقع على ثلاث مراحل :
المرحلة
الاولى : في فقه الحديث على
وجه الإجمال. والنقطة المهمّة في هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه فإنّه لا
يخلو عن إشكال ؛ لوضوح أنّ كثيراً ممّا فرض رفعه في الحديث امور تكوينيّة ثابتة
وجداناً. ومن هنا كان لابدّ من بذل عنايةٍ في تصحيح هذا الرفع.
وذلك : إمّا
بالتقدير بحيث يكون المرفوع أمراً مقدَّراً قابلاً للرفع حقيقةً ، كالمؤاخذة
مثلاً.
وإمّا بجعل الرفع
منصبَّاً على نفس الأشياء المذكورة ؛ ولكن بلحاظ
__________________
وجودها في عالم
التشريع بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلّقه في هذا العالم ، فشرب
الخمر المضطرّ اليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلَّق للحرمة ، وروح ذلك رفع
الحكم.
وإمّا بصبِّ الرفع
على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها التكوينية ، ولكن يفترض أنّ الرفع تنزيلي وليس
حقيقياً ، فالشرب المذكور نُزِّل منزلة العدم خارجاً ، فلا حرمة ولا حدّ.
ولا شكّ في أنّ
دليل الرفع على الاحتمالات الثلاثة جميعاً يعتبر حاكماً على أدلّة الأحكام
الأوّلية باعتبار نظره اليها ، وهذا النظر : إمّا أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك
الأدلّة ، كما هو الحال على الاحتمال الثالث ، فيكون على وزان «لا ربا بين الوالد
وولده».
أو يكون إلى جانب
المحمول ـ أي الحكم ـ مباشرة ، كما هو الحال على الاحتمال الأول إذا قدّرنا الحكم
، فيكون على وزان «لا ضرر».
أو يكون إلى جانب
المحمول ولكن منظوراً إليه بنظرٍ عنائي ، كما هو الحال على الاحتمال الثاني ؛ لأنّ
النظر فيه إلى الثبوت التشريعي للموضوع ، وهو عين الثبوت التشريعي للحكم ، فيكون
على وزان «لا رهبانية في الإسلام» .
والظاهر أنّ أبعد
الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأول ؛ لأنّه منفيّ بأصالة عدم التقدير.
فإن قيل : كما أنّ
التقدير عناية كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي مثلاً.
كان الجواب : أنّ
هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في أنّ الرفع
__________________
صادر منه بما هو
شارع وبما هو انشاء لا إخبار ، بخلاف عناية التقدير فإنّها خلاف الأصل حتى في كلام
الشارع بما هو مستعمل.
كما أنّ الظاهر
أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الثالث ؛ لأنّ بعض المرفوعات ممّا ليس له وجود خارجيّ
ليتعقّل في شأنه رفعه بمعنى تنزيل وجوده الخارجي منزلة العدم ، كما في «ما لا
يطيقون». فالمتعيّن إذن هو الاحتمال الثاني.
وتترتّب بعض
الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة :
فعلى الأول يكون
المقدّر غير معلوم ، ولابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من الآثار ،
خلافاً للآخَرَين ، إذ يتمسّك بناءً عليهما بإطلاق الرفع لنفي تمام الآثار.
كما أنّه على
الثالث قد يستشكل في شمول حديث الرفع لِمَا إذا اضطرّ إلى الترك مثلاً ؛ لأنّ نفي
الترك خارجاً عبارة عن وضع الفعل ، وحديث الرفع يتكفّل الرفع لا الوضع.
وخلافاً لذلك ما
إذا أخذنا بالاحتمال الثاني ، إذ لا محذور حينئذٍ في تطبيق الحديث على الترك
المضطرّ إليه ؛ لأنّ المرفوع ثبوته التشريعي فيما إذا كان موضوعاً أو متعلقاً لحكم
، ورفع هذا النحو من ثبوته ليس عبارةً عن وضع الفعل ، إذ ليس معناه إلاّعدم كونه
موضوعاً أو متعلّقاً للحكم ، وهذا لا يعني جعل الفعل موضوعاً ، كما هو واضح.
وعلى أيّ حالٍ
فحديث الرفع يدلّ على أنّ الانسان إذا شرب المسكر إضطراراً أو اكره على ذلك فلا
حرمة ولا وجوب للحدّ. كما أنّه إذا اكره على معاملةٍ فلا يترتّب عليها مضمونها.
نعم ، يختصّ الرفع
بما إذا كان في الرفع إمتنان على العباد ؛ لأنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، ومن
أجل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع
المضطرّ إليه
لإبطاله ؛ لأنّ إبطاله يعني إيقاع المضطرّ في المحذور ، وهو خلاف الامتنان ، بخلاف
تطبيقه على البيع المكره عليه فإنّ إبطاله يعني تعجيز المكرِه عن التوصّل إلى غرضه
بالإكراه.
المرحلة
الثانية : في فقرة الاستدلال
، وهي : «رفع مالا يعلمون» وكيفية الاستدلال بها.
وتوضيح الحال في
ذلك : أنّ الرفع هنا إمّا واقعي ، وإمّا ظاهري ، وقد يقال : إنّ الاستدلال على
المطلوب تامّ على التقديرين ؛ لأنّ المطلوب إثبات إطلاق العنان وإيجاد معارضٍ
لدليل وجوب الاحتياط لو تمَّ ، وكلا الأمرين يحصل بإثبات الرفع الواقعي أيضاً ،
كما يحصل بالظاهري.
ولكنّ الصحيح :
عدم اطّراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعي ، إذ كثيراً ما يتّفق العلم
أو قيام دليلٍ على عدم اختصاص التكليف المشكوك ـ على تقدير ثبوته ـ بالعالم ، ففي
مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع مع الحمل على الواقعية ، خلافاً لِمَا إذا
حمل على الرفع الظاهري.
نعم ، يكفي
للمطلوب عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعي ، إذ حتّى مع الإجمال يصحّ الرجوع إلى
حديث الرفع في الفرض المذكور ؛ لعدم إحراز وجود المعارض أو المخصِّص لحديث الرفع
حينئذٍ.
وعلى أيّ حالٍ فقد
يقال : إنّ ظاهر الرفع كونه واقعياً ؛ لأنّ الحمل على الظاهري يحتاج إلى عنايةٍ :
إمّا بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه مالا يعلم ـ لا نفسه ـ وهو خلاف الظاهر
جدّاً. وإمّا بتطعيم الظاهرية في نفس الرفع ، بأن يفترض أنّ التكليف له وضعان
ورفعان : واقعي ، وظاهري ، فوجوب الاحتياط وضع ظاهريّ للتكليف الواقعي ، ونفي هذا
الوجوب رفع ظاهريّ له. وكلّ ذلك عناية ، فيتعيّن الحمل على الرفع الواقعي.
والجواب على ذلك
بوجهين :
الوجه
الأول : ما عن المحقّق
العراقي ـ قدّس الله روحه ـ من : أنّ الحديث لمَّا كان امتنانياً ،
والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعي المشكوك ببعض مراتبه ـ أي برفع وجوب
الاحتياط من ناحيته ، سواء رفعت المراتب الاخرى أوْ لا ـ فلا يكون الرفع في الحديث
شاملاً لتلك المراتب ، فالامتنان قرينة محدِّدة للمقدار المرفوع.
ويمكن الاعتراض
على هذا الوجه : بأنّ الامتنان وإن كان يحصل بنفي إيجاب الاحتياط ولا يتوقّف على
نفي الواقع ولكن لمّا كان نفي إيجاب الاحتياط بنفسه قد يكون بنفي الواقع رأساً
أمكن أن تكون التوسعة الممتنّ بها مترتّبةً على نفي الواقع ولو بالواسطة ، ولا
يقتضي ظهور الحديث في الامتنان سوى كون مفاده منشأً للتوسعة والامتنان ولو
بالواسطة.
الوجه
الثاني : أنّ الرفع اذا كان
واقعياً فهذا يعني أخذ العلم بالتكليف فيه ، فإن كان بمعنى أخذ العلم بالتكليف
المجعول قيداً فيه فهو مستحيل ثبوتاً ، كما تقدم. وإن كان بمعنى أخذ العلم بالجعل
قيداً في المجعول فهو ممكن ثبوتاً ، ولكنّه خلاف ظاهر الدليل جدّاً ؛ لأنّ لازم
ذلك أن يكون المرفوع غير المعلوم ؛ لأنّ الأول هو المجعول ، والثاني هو الجعل ، مع
ظهور الحديث في أنّ العلم والرفع يتبادلان على مصبٍّ واحد ، وهذا بنفسه كافٍ لجعل
الحديث ظاهراً في الرفع الظاهري ، وبذلك يثبت المطلوب.
المرحلة
الثالثة : في شمول فقرة
الاستدلال للشبهات الموضوعية والحكمية ، إذ قد يتراءى أنّه لا يتأتّى ذلك ، لأنّ
المشكوك في الشبهة الحكمية هو التكليف ، والمشكوك في الشبهة الموضوعية الموضوع ،
فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.
__________________
والتحقيق : أنّ
الشمول يتوقّف على أمرين :
أحدهما : تصوير
جامعٍ مناسبٍ بين المشكوكين في الشبهتين ليكون مصبّاً للرفع.
والآخر : عدم وجود
قرينةٍ في الحديث على الاختصاص.
أمّا
الأمر الأول فقد قدّم
المحقّقون تصويرين للجامع :
التصوير الأول :
أنّ الجامع هو الشيء باعتباره عنواناً ينطبق على التكليف المشكوك في الشبهة
الحكمية والموضوع المشكوك في الشبهة الموضوعية.
وقد اعترض صاحب
الكفاية على ذلك : بأنّ إسناد الرفع إلى التكليف حقيقي ، وإسناده
إلى الموضوع مجازي ، ولا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي.
وحاول المحقّق
الأصفهاني أن يدفع هذا الاعتراض : بأنّ من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقية
والمجازية في إسنادٍ واحدٍ باعتبارين ، فبما هو إسناد للرفع إلى هذه الحصّة من
الجامع حقيقي ، وبما هو إسناد له إلى الاخرى مجازي.
وهذه المحاولة
ليست صحيحة ، إذ ليس المحذور في مجرّد اجتماع هذين الوصفين في إسنادٍ واحد ، بل
يُدّعى أنّ نسبة الشيء إلى ماهو له مغايرة ذاتاً لنسبة الشيء إلى غير ما هو له ،
فإن كان الإسناد في الكلام مستعملاً لإفادة إحدى النسبتين اختصّ بما يناسبها. وإن
كان مستعملاً لإفادتهما معاً فهو استعمال لهيئة الإسناد في معنيين ، ولا جامعَ
حقيقيّ بين النسب لتكون الهيئة مستعملةً فيه.
والصحيح أن يقال :
إنّ إسناد الرفع مجازيّ حتّى إلى التكليف ؛ لأنّ رفعه ظاهريّ عنائي ، وليس
واقعياً.
__________________
التصوير
الثاني : أنّ الجامع هو
التكليف ، وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفاً للموضوع الكلّيّ المقدّر الوجود ، ويشمل
المجعول بوصفه تكليفاً للفرد المحقَّق الوجود. وفي الشبهة الحكمية يشكّ في التكليف
بمعنى الجعل ، وفي الشبهة الموضوعية يشكّ في التكليف بمعنى المجعول. وهذا تصوير
معقول أيضاً بعد الإيمان بثبوت جعلٍ ومجعول ، كما عرفت سابقاً.
وأمّا
الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينةٍ على الاختصاص بالشبهة الموضوعية من ناحية وحدة السياق ،
كما قد يدّعى العكس. وقد تقدم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالإطلاق تام.
وهناك روايات اخرى
استدلّ بها للبراءة ، تقدّم الكلام عن جملةٍ منها في الحلقة السابقة ، وعن قصور دلالتها ، أو عدم شمولها للشبهات الحكمية ،
فلاحظ.
كما يمكن التعويض
عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك بإجراء استصحاب عدم جعل التكليف ، أو استصحاب عدم
فعلية التكليف المجعول. وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأول بداية الشريعة
، وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلاً ، بل قد يكون زمان ما بعد
البلوغ أيضاً ، كما إذا كان المشكوك تكليفاً مشروطاً وتحقّق الشرط بعد البلوغ فبالإمكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.
__________________
٢ ـ الاعتراضات العامّة
ويعترض على أدلّة
البراءة المتقدمة باعتراضين أساسيّين :
أحدهما
: أنّها معارَضة
بأدلّةٍ تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها ؛ لأنّها بيان
للوجوب ، وتلك تتكفّل جعل البراءة في حالة عدم البيان.
والاعتراض
الآخر : أنّ أدلّة البراءة
تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكمية ليست مشكوكاتٍ بدوية ، بل هي مقرونة
بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنةٍ في مجموع تلك الشبهات.
أمّا الاعتراض
الأول فنلاحظ عليه عدّة نقاط :
الاولى
: أنّ ما استُدلّ به
على وجوب الاحتياط ليس تاماً ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادُّعيت دلالتها
على ذلك. وقد تقدّم في الحلقة السابقة استعراض عددٍ مهمٍّ منها مع مناقشة دلالتها.
نعم ، جملة منها
تدلّ على الترغيب في الاحتياط والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.
الثانية
: أنّ أدلّة وجوب
الاحتياط المدّعاة ليست حاكمةً على أدلّة البراءة المتقدّمة ؛ لِمَا اتّضح سابقاً
من أنّ جملةً منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب
الاحتياط رافعاً لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذٍ بين الطائفتين من الأدلّة.
__________________
الثالثة
: إذا حصل التعارض
بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّ ما يعارضها من أدلّة
البراءة القرآنية الآية الاولى ، على أساس الإطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف ،
وهذا الإطلاق يقيَّد بأدلّة وجوب الاحتياط. وما يعارضها من أدلّة البراءة في
الروايات حديث الرفع ، وهي أخصّ منه أيضاً ؛ لورودها في الشبهات الحكمية ، وشموله
للشبهات الحكمية والموضوعية ، فيقيّد بها.
ولكنّ التحقيق :
أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ؛ لشمول تلك
الأدلّة موارد عدم الفحص ، واختصاص الآية بموارد الفحص ، كما تقدم عند الكلام عن
دلالتها ، فهي كما تعتبر أعمَّ بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك
تعتبر أخصَّ بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجهٍ يقدَّم الدليل القرآني
لكونه قطعياً.
كما أنَّ النسبة
بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجهٍ أيضاً ؛ لعدم شموله
مواردالعلم الإجمالي ، وشمول تلك الأدلّة لها ، ويقدَّم حديث الرفع في مادة
الاجتماع والتعارض ؛ لكونه موافقاً لإطلاق الكتاب ومخالفه معارض له.
ولو تنزّلنا عمّا
ذكرناه ممّا يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط أمكن الرجوع إلى
البراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع إلى دليل
الاستصحاب ، كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة .
__________________
وأمّا الاعتراض
الثاني بوجود العلم الإجمالي فقد اجيب عليه بجوابين :
الجواب
الأول : أنّ العلم
الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في دائرة أخبار الثقات ؛
وفقاً لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ؛ لتوفّر كلا
شرطَي القاعدة فيها ، فإنّ أطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد
المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ؛ ومع الانحلال تكون الشبهة
خارج نطاق العلم الصغير بدوية ، فتجري البراءة في كلّ شبهةٍ لم يقم على ثبوت
التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.
وهذا الجواب ليس
تامّاً ، إذ كما يوجد علم إجماليّ صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات المعتبرة
من أخبار الثقات ونحوها كذلك يوجد علم إجماليّ صغير بوجود التكاليف في نطاق
الأمارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل ـ عادةً وبحساب الاحتمالات ـ كذبها جميعاً.
فهناك إذن علمان إجماليان صغيران والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئياً ـ لأنّ
الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع ـ ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال ؛ لأنّ
المعلومين بالعِلمين الإجماليّين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق
فهذا يعني أنّ عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم
بالعلم الإجمالي الصغير
المفترض في دائرة
أخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدمين لقاعدة انحلال
العلم الإجمالي الكبير بالصغير.
وإن كان من
المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلٍّ من العِلمين
الإجماليّين الصغيرين في نفسه ، فافتراض أنّ أحدهما يوجب الانحلال دون الآخر بلا
موجب.
الجواب
الثاني : أنّ العلم
الإجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجِّزية باختلال الركن الثالث
من الأركان الأربعة التي يتوقّف عليها
تنجيزه ، وقد
تقدّم شرحها في الحلقة السابقة ؛ وذلك لأنّ جملةً من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف
بالأمارات والحجج الشرعية المعتبرة من ظهور آيةٍ وخبر ثقةٍ واستصحابٍ مثبتٍ
للتكليف ، وفي كلّ حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقية الأطراف ، ويسمّى ذلك
بالانحلال الحكمي ، كما تقدّم.
وقد قيل في تقريب
فكرة الانحلال الحكمي في المقام ـ كما عن السيّد الاستاذ ـ بأنّ العلم الإجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشكّ في
كلّ طرف ، ودليل حجّية الأمارةالمثبتة للتكليف في بعض الأطراف لمّا كان مفاده جعل
الطريقية فهو يلغي الشكّ في ذلك الطرف ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّديّ
للعلم الإجمالي.
ويرد على هذا
التقريب : أنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي هو التعارض بين
الاصول في أطرافه ، كما تقدم ، وليس هو العلم الإجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد
بإلغاء هذا العنوان ، وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك بإخراج موارد
الأمارات المثبتة للتكليف عن كونها مورداً لأصالة البراءة ؛ لأنّ الأمارة حاكمة
على الأصل ، فتبقى الموارد الاخرى مجرىً لأصل البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ
الركن الثالث ويتحقّق الانحلال الحكمي ، من دون فرقٍ بين أن نقول بمسلك جعل
الطريقية وإلغاء الشكّ بدليل الحجّية ، أوْ لا.
__________________
٣ ـ تحديد مفاد البراءة
وبعد أن اتَّضح
أنّ البراءة تجري عند الشكّ ؛ لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أنّ
الضابط في جريانهاأن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة.
وامّا إذا كان التكليف معلوماً والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة ، وإنّما تجري
أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
وهذا واضح على
مسلكنا المتقدم القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ،
بل من أسباب انتهاء فاعليته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّاً
في فعلية التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.
وأمّا إذا قيل
بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف لا محالة. ومن هنا قد
يتوهّم تحقّق موضوع البراءة وإطلاق أدلتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك :
إمّا من دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى الشكّ الناشئ من غير ناحية الامتثال ، أو
التمسّك بأصلٍ موضوعيٍّ حاكم ، وهو استصحاب عدم الامتثال.
ثمّ بعد الفراغ عن
الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في الامتثال ـ أي المكلَّف به ـ باتّخاذ الأول
ضابطاً للبراءة والثاني ضابطاً لأصالة الاشتغال يقع الكلام في ميزان التمييز الذي
به يعرف كون الشكّ في التكليف لكي تجري البراءة.
__________________
وهذا الميزان إنما
يراد في الشبهات الموضوعية التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، دون الشبهات
الحكمية التي يكون الشكّ فيها عادةً شكّاً في التكليف ، كما هو واضح.
وتوضيح الحال في
المقام : أنّ الشبهة الموضوعية تستبطن دائماً الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ،
إذ لو كانت كلّها معلومةً فلا يتصور شكّ إلاّفي أصل حكم الشارع ؛ وتكون الشبهة حينئذٍ حكمية.
وهذه الأطراف هي :
عبارة عن قيد التكليف ، ومتعلّقه ، ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي
، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها «البلوغ» ، ومتعلّقها «الشرب» ، ومتعلّق
متعلّقها «الخمر». وخطاب «أكرم عالماً اذا جاء العيد» قيد الوجوب فيه «مجيء العيد»
، ومتعلّقه «الإكرام» ، ومتعلّق متعلّقه «العالم».
فإن كان الشكّ في
صدور المتعلّق مع إحراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شكّ في الامتثال بلا إشكالٍ
وتجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف معلوم ولا شكّ فيه ؛ لبداهة أنّ فعلية
التكليف غير منوطةٍ بوجود متعلّقه خارجاً ، وإنّما الشكّ في الخروج عن عهدته ، فلا
مجال للبراءة.
وأمّا إذا كان
الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فردٍ ما مصداقاً للموضوع الخارجي
: فإن كان إطلاق التكليف بالنسبة اليه شمولياً جرت البراءة ؛ لأنّ الشكّ حينئذٍ
يستبطن الشكّ في التكليف الزائد ، كما اذا قيل : «لا تشرب الخمر» و «أكرم الفقراء»
وشكّ في أنّ هذا خمر وفي أنّ ذاك فقير.
__________________
وإن كان إطلاق
التكليف بالنسبة اليه بدلياً لم تجرِ البراءة ، كما اذا ورد «أكرم فقيراً» وشُكّ
في أنّ زيداً فقير فلا يجوز الاكتفاء بإكرامه ؛ لأنّ الشكّ المذكور لا يستبطن
الشكّ في تكليفٍ زائد ، بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم
ضمنها.
[وأمّا إذا كان
الشكّ في قيود التكليف فتجري فيه البراءة لأنّ مردّه إلى الشكّ في فعليّة التكليف]
.
وعلى هذا الضوء
يعرف أنّ لجريان البراءة إذن ميزانان :
أحدهما : أن يكون
المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليته.
والآخر : أن يكون
إطلاق التكليف بالنسبة اليه شمولياً لا بدلياً.
فإن قيل : إنّ
مردّ الشكّ في الموضوع الخارجي إلى الشكّ في قيد التكليف ؛ لأنّ الموضوع قيد فيه ؛
فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجاً ، فمع الشكّ في خمرية المائع يشكّ في
فعلية التكليف المقيّد وتجري البراءة. وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأول فقط
، كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني قدّس الله روحه .
كان الجواب : أنّه
ليس من الضروري دائماً أن يكون متعلَّق المتعلَّق
__________________
مأخوذاً قيداً في
التكليف ، سواء كان إيجاباً أو تحريماً ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان
أمراً غير اختياري ، كالقبلة مثلاً. وعليه فإذا افترضنا أنّ حرمة شرب الخمر لم
يؤخذ وجود الخمر خارجاً قيداً فيها على نحوٍ كانت الحرمة فعليةً حتى قبل وجود
الخمر خارجاً صحّ مع ذلك إجراء البراءة عند الشكّ في الموضوع الخارجي ؛ لأنّ إطلاق
التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.
ولكن بتدقيقٍ أعمق
نستطيع أن نردّ الشكّ في خمرية المائع إلى الشكّ في قيد التكليف ، لا عن طريق
افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجاً ، بل بتقريب أنّ خطاب «لا تشرب الخمر»
مرجعه إلى قضيةٍ شرطيةٍ مفادها : كلّما كان مائع مّا خمراً فلا تشربه ، فحرمة
الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمراً ، سواء وجد خارجاً أوْ لا ، فإذا شك في أنّ
الفقاع خمر أوْ لا ـ مثلاً ـ جرت البراءة عن الحرمة فيه.
وبهذا صحّ القول
بأنّ البراءة تجري كلّما كان الشكّ في قيود التكليف ، وأنّ قيود التكليف تارةً
تكون على وزان مفاد كان التامة ، بمعنى إناطته بوجود شيءٍ خارجاً ، فيكون الوجود
الخارجي قيداً. واخرى يكون على وزان مفاد كان الناقصة ، بمعنى إناطته باتّصاف شيءٍ
بعنوانٍ فيكون الاتّصاف قيداً ، فإذا شكّ في الوجود الخارجي على الأوّل أو في
الاتّصاف على الثاني جرت البراءة ، وإلاّ فلا.
وعلى هذا الضوء
نستطيع أن نعمِّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد كان الناقصة على عنوان
الموضوع وعنوان المتعلّق معاً ، فكما أنّ حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمراً
كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلامٍ مقيَّدٌ بأن يكون الكلام كذباً ،
فإذا شكّ في كون كلامٍ كذباً كان ذلك شكّاً في قيد التكليف.
وهكذا نستخلص :
أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشكّ في قيود التكليف ، وهي تارةً على
وزان مفاد كان التامة كالشكّ في وقوع الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات.
واخرى على وزان مفاد كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع ، كالشكّ في خمرية
المائع. وثالثةً على وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلق ، كالشكّ في كون
الكلام الفلاني كذباً.
استحباب الاحتياط :
عرفنا سابقاً عدم وجوب الاحتياط ، ولكنّ ذلك لا يحول دون القول
بمطلوبيته شرعاً واستحبابه ؛ لِما ورد في الروايات من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :
الاولى
: في إمكان جعل
الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتاً ، إذ قد يقال بعدم إمكانه ، فيتعيّن حمل
الأمر بالاحتياط على الإرشاد إلى حسنه عقلاً ، وذلك لوجهين :
الأول
: أنّه لغو ؛ لأنّه
إن اريد باستحباب الاحتياط الإلزام به فهو غير معقول. وإن اريد إيجاد محرِّكٍ غير
إلزاميٍّ نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ، إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي
المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه فإنّه محرِّك
بمرتبةٍ غير إلزامية.
الثاني
: أنّ حسن الاحتياط
كحسن الطاعة ، وقبح المعصية واقع في مرحلةٍ
__________________
متأخّرةٍ عن الحكم
الشرعي. وقد تقدّم المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعين في هذه المرحلة
لا يستتبعان حكماً شرعياً.
وكلا الوجهين غير
صحيح :
أمّا الأول فلأنّ
الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا أن يكون نفسياً لملاكٍ وراء ملاكات الأحكام
المحتاط بلحاظها ، وإمّا أن يكون طريقياً بملاك التحفّظ على تلك الأحكام. وعلى كلا
التقديرين لا لغوية ؛ أمّا على النفسية فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخاً لمحرّكيّة
الواقع المشكوك ، فتتأكّد إحداهما بالاخرى. وأمّا على الطريقية فلأنّ مرجعه حينئذٍ
إلى إبراز مرتبةٍ من اهتمام المولى بالتحفّظ على الملاكات الواقعية في مقابل إبراز
نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضاً ، ومن الواضح أنّ درجة محرّكيّة الواقع المشكوك
تابعة لِمَا يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.
وأمّا الوجه
الثاني : فلو سلِّم المسلك المشار اليه فيه لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود
استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي
ليرد ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وإنمّا الكلام عن المحذور المانع عن ثبوته.
ولهذا فإنّ متعلّق الاستحباب عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن
بقصدٍ قربي ، والعقل إنمّا يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة.
النقطة
الثانية : أنّ الاحتياط متى
ما أمكن فهو مستحبّ ، كما عرفت ، ولكن قد يقع البحث في إمكانه في بعض الموارد.
__________________
وتوضيح ذلك : أنّه
إذا احتمل كون فعلٍ ما واجباً عبادياً ؛ فإن كانت أصل مطلوبيته معلومةً أمكن
الاحتياط بالإتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلّقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوباً أو
استحباباً فإنّ هذا يكفي في وقوع الفعل عبادياً وقربياً. وأمّا إذا كانت أصل
مطلوبيته غير معلومةٍ فقد يستشكل في إمكان الاحتياط حينئذٍ ؛ لأ نّه إن أتى به بلا
قصدٍ قربيٍّ فهو لغو جزماً. وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن افتراض
الأمر والبناء على وجوده ، مع أنّ المكلّف شاكّ فيه ، وهو تشريع محرَّم ، فلا يقع
الفعل عبادةً لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.
وقد يجاب على ذلك
بوجود أمرٍ معلومٍ وهو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، فيقصد المكلف
إمتثال هذا الأمر ، وكون الأمر بالاحتياط توصّلياً (لا تتوقّف موافقته على قصد
امتثاله) لا ينافي ذلك ؛ لأنّ ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية
عبادية نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عبادية ما يحتاط فيه.
ولكنّ التحقيق عدم
الحاجة إلى هذا الجواب ؛ لأنّ التحرّك عن احتمال الأمر بنفسه قربيّ كالتحرّك عن
الأمر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع الفعل عبادةً على افتراض أمرٍ معلوم ، بل يكفي
الإتيان به رجاءً.
٢
ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ
الوظيفة
في حالة العلم الإجمالي
قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي.
أركان منجِّزية العلم الإجمالي.
تطبيقات منجِّزية العلم الإجمالي.
كلّ ما تقدّم كان
في تحديد الوظيفة العملية في حالات الشكّ البدوي. والآن نتكلّم عن الشكّ في حالات
العلم الإجمالي. والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :
الأول : في أصل
قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي.
والثاني : في
أركان هذه القاعدة.
والثالث : في بعض
تطبيقاتها ، كما يأتي تباعاً إن شاء الله تعالى.
١ ـ قاعدة منجِّزيّة العلم الإجمالي
والكلام في هذه
القاعدة يقع في ثلاثة امور :
الأمر الأول : في
أصل منجِّزية العلم الإجمالي ومقدار هذه المنجِّزية بقطع النظر عن الاصول الشرعية
المؤمِّنة.
والأمر الثاني :
في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي وعدمه ثبوتاً أو إثباتاً.
والأمر الثالث :
في جريانها في بعض الأطراف.
ومرجع البحث في
الأمرين الأخيرين إلى مدى مانعية العلم الإجمالي بذاته ، أو بتنجيزه عن جريان
الاصول بإيجاد محذورٍ ثبوتيٍّ أو إثباتيٍّ يحول دون جريانها في الأطراف كلاًّ أو
بعضاً. وسنبحث هذه الامور الثلاثة تباعاً :
١ ـ منجِّزية العلم الإجمالي بقطع النظر عن الاصول
المؤمِّنة الشرعية :
والبحث في أصل
منجِّزية العلم الإجمالي إنّما يتّجه بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ،
حيث إنّ كلّ شبهةٍ من أطراف العلم مؤمَّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز
التكليف فيها إلى منجِّز ، ولابدّ من البحث حينئذٍ عن حدود منجِّزية العلم
الإجمالي ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة.
وأمّا بناءً على
مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهةٍ منجِّزة في نفسها بقطع النظر عن الاصول الشرعية
المؤمِّنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك في الأمرين الأخيرين.
وعلى أيّ حالٍ
فنحن نتكلّم في الأمر الأول على أساس افتراض قاعدة
قبح العقاب بلا
بيان ، وعليه فلا شكّ في تنجيز العلم الإجمالي لمقدار الجامع بين التكليفين ؛
لأنّه معلوم وقد تمّ عليه البيان ، سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الإجمالي إلى العلم
بالجامع أو العلم بالواقع.
أمّا على الأول
فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمناً حتماً ، وعليه يحكم العقل
بتنجّز الجامع ، ومخالفة الجامع إنمّا تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين ؛ لأنّ ترك
الجامع لا يكون إلاّبترك كلا فرديه ، وهذا معنى حرمة المخالفة القطعية عقلاً
للتكليف المعلوم بالإجمال.
وإنّما المهمّ
البحث في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية عقلاً ، فقد وقع الخلاف في
ذلك.
فذهب جماعة
كالمحقّق النائيني والسيّد الاستاذ إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته وجوب الموافقة
القطعية وتنجيز كلّ أطرافه مباشرة.
وذهب المحقّق
العراقي وغيره إلى أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية ،
كما يستدعي حرمة المخالفة القطعية.
ويظهر من بعض
هؤلاء المحقّقين أنّ المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الإجمالي ، وهل هو علم
بالجامع ، أو بالواقع؟
وعلى هذا الأساس
سوف نمهِّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الإجمالي والمباني المختلفة في ذلك ، ثمّ
نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.
__________________
الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي :
ويمكن تلخيص
الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي في ثلاثة مبانٍ :
الأول
: المبنى القائل
بأنّ العلم الإجمالي علم تفصيليّ بالجامع مقترن بشكوكٍ تفصيليةٍ بعدد أطراف ذلك
العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النائيني والإصفهاني .
وهذا المبنى يشتمل
على جانبٍ إيجابيٍّ وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع ، وهذا واضح
بداهةً ، وعلى جانبٍ سلبيٍّ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع.
وبرهانه : أنّه لو
فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو : إمّا أن يكون بلا متعلّق ، أو يكون
متعلّقاً بالفرد بحدِّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدٍّ شخصيٍّ مردّدٍ بين
الحدّين أوالحدود ، والكلّ باطل.
أمّا الأوّل فلأنّ
العلم صفة ذات الإضافة ، فلا يعقل فرض انكشافٍ بلا منكشف.
وأمّا الثاني
فلبداهة أنّ العالم بالإجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ، ولابذاك بعينه.
وأمّا الثالث
فلأنّ المردّد إن اريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي ، والعلم به لا يعني
تعدّي العلم عن الجامع. وإن اريد به واقع المردّد فهو ممّا لا يعقل ثبوته فكيف
يعقل العلم به ؛ لأنّ كلّ ما له ثبوت فهو متعيّن بحدِّ ذاته في افق ثبوته؟
الثاني
: المبنى القائل
بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي يسري من الجامع
__________________
إلى الحدّ الشخصي
، ولكنّه ليس حدّاً شخصياً معيناً ؛ لوضوح أنّ كلاًّ من الطرفين بحدّه الشخصيّ
المعيّن ليس معلوماً ، بل حدّاً مردّداً في ذاته بين الحدّين.
وهذا ما يظهر من
صاحب الكفاية اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من الكفاية : أنّ أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد.
وأشار في تعليقته
على الكفاية إلى الاعتراض على ذلك بأنّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلّق الصفة
بالواحد المردّد مع أنّ الموصوف لابدّ أن يكون معيّناً في الواقع؟
وأجاب على
الاعتراض : بأنّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الإضافة ، كالعلم
الإجمالي ، فضلاً عن الوصف الاعتباري ، كالوجوب.
ويمكن الاعتراض
عليه : بأنّ المشكلة ليست هي مجرّد أنّ المردّد كيف يكون لوصفٍ من الأوصاف نسبة
واضافة اليه؟ بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ؛ وذلك لأنّ العلم
له متعلَّق بالذات وله متعلَّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنية
المقوِّمة له في افُق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من
الخارج. والفرق بين المتعلَّقين : أنّ الأول لا يعقل إنفكاكه عن العلم حتى في
موارد الخطأ ، بخلاف الثاني.
وعليه فنحن نتساءل
: ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟ فإن كان صورةً حاكيةً عن
الجامع لاعن الحدود الشخصية رجعنا إلى المبنى السابق. وإن كان صورةً للحدّ الشخصي
ولكنّها مردّدة بحدِّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيّين فهذا مستحيل ؛ لأنّ الصورة
وجود ذهني ، وكلّ وجودٍ
__________________
متعيّن في صقع
ثبوته ، وتتعيّن الماهية تبعاً لتعيّن الوجود ؛ لأنّها حدّ له.
الثالث
: ما ذهب اليه
المحقّق العراقي من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، بمعنى أنّ الصورة
الذهنية المقوِّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج
فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فالصورة شخصية ومطابقها شخصي ولكنّ
الحكاية إجمالية ، فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيدٍ من بعيدٍ دون أن تتبيّن هويّته ،
فإنّ الرؤية هنا ليست رؤيةً للجامع بل للفرد ، ولكنّها رؤية غامضة.
ويمكن أن يبرهن
على ذلك : بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ؛
لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدٍّ
شخصي ، فلابدّ من إضافة شيءٍ إلى دائرة المعلوم ، فإن كان هذا الشيء جامعاً
وكلّياً عاد نفس الكلام حتى ننتهي إلى العلم بحدٍّ شخصي. ولمَّا كان التردّد في
الصورة مستحيلاً ـ كما تقدم ـ تعيّن أن يكون العلم متقوّماً بصورةٍ شخصية معيّنةٍ
مطابقةٍ للفرد الواقعي بحدّه ، ولكنّ حكايتها عنه إجمالية.
تخريجات وجوب الموافقة القطعية :
إذا اتّضحت لديك
هذه المباني المختلفة فاعلم : أنّه قد ربط استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة
القطعية إثباتاً ونفياً بهذه المباني ، بدعوى أنّه إذا قيل بالمبنى الأول ـ مثلاً
ـ فالعلم الإجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ المزعومة سوى
الجامع ؛ لأنّه المعلوم فقط. والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الأطراف ، بل يكفي
في موافقته تطبيقه على أحد أفراده.
__________________
وإذا قيل بالمبنى
الثالث ـ مثلاً ـ فالعلم الإجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع
البراءة العقلية ويكون منجَّزاً بالعلم ، وحيث إنّه محتمل في كلّ طرفٍ فيحكم العقل
بوجوب الموافقة القطعية للخروج عن عهدة التكليف المنجَّز. ولكن الصحيح هو : أنّ
المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الأول ؛ لأنّ
الصورة العلمية الإجمالية على الثالث وإن كانت مطابقةً للواقع بحدّه ولكنّ المفروض
على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والإجمال في تلك الصورة معاً ، وبذلك تميّزت
عن الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم إنمّا هو المقدار الموازي لعنصر
الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع. ومن الواضح أنّ البراءة العقلية
إنمّا يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الإجمال ؛ لأنّ الإجمال ليس
بياناً.
وعليه فالمنجَّز
مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدمة ، وعليه فالعلم الإجمالي لا يقتضي
بذاته وجوب الموافقة القطعية.
ويوجد تقريبان
لإثبات أنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعية :
الأول
: ما قد يظهر من بعض
كلمات المحقّق الإصفهاني ، وحاصله مركّب من مقدمتين :
الاولى
: أنّ ترك الموافقة
القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفةً احتماليةً للجامع ؛ لأنّ الجامع إن كان
موجوداً ضمن ذلك الطرف فقد خولف ، وإلاّ فلا.
والثانية
: أنّ المخالفة
الاحتمالية للتكليف المنجَّز غير جائزةٍ عقلاً ؛ لأنّها
__________________
مساوقة لاحتمال
المعصية. وحيث إنّ الجامع منجَّز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.
ويندفع هذا
التقريب بمنع المقدمة الاولى ، فإنّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط
لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفةً احتمالية له ؛ لأنّ
الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين ، والمفروض أنّ العلم واقف
على الجامع بحدّه ، وأنّ التنجّز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتمالية للمقدار
المنجَّز أصلاً.
الثاني
: ما ذهبت إليه
مدرسة المحقق النائيني قدّس الله روحه ، فإنّها مع اعترافها بأنّ العلم الإجمالي
لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية بصورةٍ مباشرةٍ ـ لأنّه لا ينجِّز أزيد من الجامع
ـ قامت بمحاولةٍ لإثبات استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بصورةٍ غير
مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :
أوّلاً
: أنّ العلم
الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية.
ثانياً
: يترتّب على ذلك
عدم إمكان جريان الاصول المؤمِّنة في جميع الأطراف ؛ لأنّه يستوجب الترخيص في
المخالفة القطعية.
ثالثاً
: يترتّب على ذلك
أنّ الاصول المذكورة تتعارض فلا تجري في أيِّ طرف ؛ لأنّ جريانها في طرفٍ دون آخر
ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكلّ غير ممكن.
رابعاً
: ينتج من كلّ ذلك :
أنّ احتمال التكليف في كلّ طرفٍ يبقى بدون أصلٍ مؤمِّن ، وكلّ احتمالٍ للتكليف
بدون مؤمِّنٍ يكون منجِّزاً للتكليف ، فتجب
__________________
عقلاً موافقة
التكليف المحتمل في كلّ طرفٍ باعتبار تنجّزه ، لا باعتبار وجوب الموافقة القطعية
للعلم الإجمالي بعنوانها.
والتحقيق : أنّ
المقصود بتعارض الاصول المؤمِّنة في الفقرة الثالثة : إن كان تعارض الاصول بما
فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ على أساس أنّ جريانها في كلٍّ من الطرفين غير
ممكنٍ وفي أحدهما خاصّةً ترجيح بلا مرجّحٍ ـ فهذا غير صحيح ؛ لأنّ هذه القاعدة
نجريها ابتداءً فيما زاد على الجامع.
وبعبارةٍ اخرى : أنّنا
عندما نعلم إجمالاً بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة يكون كلّ من الوجوبين بما هو وجوب
لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص مورداً للبراءة العقلية ، وبما هو وجوب مضاف الى
الجامع خارجاً عن مورد البراءة فيتنجَّز الوجوب بمقدار إضافته الى الجامع ؛ لأنّ
هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ، ويؤمَّن عنه بما هو مضاف الى الفرد. وهذا
التبعيض في تطبيق البراءة العقلية معقول وصحيح ، بينما لا يطَّرد في البراءة
الشرعية ؛ لأنّها مفاد دليلٍ لفظيٍّ وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي
لا يساعد على ذلك.
وإن كان المقصود
التعارض بين الاصول المؤمِّنة الشرعية خاصّةً فهو صحيح ، ولكن كيف يُرتَّب على ذلك
تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمَّن عنه بالبراءة العقلية على مسلك
قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟!
وصفوة القول : أنّه
على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقلية ، بل لا معنى لذلك ،
إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل ـ وهو عدم البيان
ـ تامّاً في كلٍّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلاّ لم تجرِ
البراءة ؛ لعدم المقتضي ، لا للتعارض.
وهكذا يتّضح أنّه
على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم
الإجمالي ، وهذا بنفسه من المنبِّهات إلى بطلان
القاعدة المذكورة.
نعم ، إذا نشأ
العلم الإجمالي من شبهةٍ موضوعيةٍ تردّد فيها مصداق قيدٍ من القيود المأخوذة في
الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعية حتى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب
إكرام العالم وتردّد العالم بين زيدٍ وخالد ، فإنّ كون الإكرام إكراماً للعالم قيد
للواجب ، فيكون تحت الأمر وداخلاً في العهدة ، ويشكّ في تحقّقه خارجاً بالاقتصار
على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة «أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني»
وجوب الاحتياط حينئذٍ.
هذا كلّه في ما
يتعلّق بالأمر الأول.
٢ ـ جريان الاصول في جميع الأطراف ، وعدمه :
وأمّا الأمر
الثاني وهو في جريان الاصول الشرعية في جميع أطراف العلم الإجمالي فقد تقدّم
الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الإثبات معاً في مباحث القطع ، واتّضح : أنّ المشهور بين الاصوليّين استحالة جريان
الاصول في جميع الأطراف ؛ لأدائه الى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم ، أي في
المخالفة القطعية ، وأنّ الصحيح هو : إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلاً ، غير
أنّ ذلك ليس عقلائياً. ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجباً لانصراف أدلّة الاصول
عن الشمول لجميع الأطراف.
وينبغي أن يعلم :
أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة الى الاصول الشرعية المؤمِّنة ، وأمّا الاصول الشرعية
المنجِّزة للتكليف فلامحذور ثبوتاً ولا إثباتاً في جريانها في كلّ أطراف العلم
الإجمالي بالتكليف إذا كان كلّ طرفٍ مورداً لها في نفسه ،
__________________
حتّى ولو كان
المكلّف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليفٍ واحد ، كما إذا علم بوجود نجسٍ واحدٍ فقط
في الإناءات المعلومة نجاستها سابقاً ، فيجري استصحاب النجاسة في كلّ
واحدٍ منها. ومنه يعلم أنّه لو لم تكن النجاسة الفعلية معلومةً أصلاً أمكن أيضاً
إجراء استصحاب النجاسة في كلّ إناءٍ ما دامت أركانه تامّةً فيه ، ولا ينافي ذلك
العلم إجمالاً بطهارة بعض الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعاً ؛ لأنّ المنافاة :
إمّا أن تكون بلحاظ محذورٍ ثبوتيٍّ بدعوى المنافاة بين الاصول المنجِّزة للتكليف والحكم
الترخيصي المعلوم بالإجمال ، أو بلحاظ محذورٍ إثباتيٍّ وقصورٍ في إطلاق دليل
الأصل.
أمّا الأول فقد
يقرَّب بوقوع المنافاة بين الإلزامات الظاهرية والترخيص الواقعي الثابت في مورد
بعضها على سبيل الإجمال جزماً.
والجواب : أنّ
المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع
بعدم التضادّ ما دام أحدهما ظاهرياً والآخر واقعياً. وإن كانت بملاك ما يستتبعان
من تحرّكٍ أو إطلاق عنانٍ فمن الواضح أنّ الترخيص المعلوم إجمالاً لا يستتبع إطلاق
العنان الفعلي ؛ لعدم تعيّن مورده ، فلا ينافي الاصول المنجِّزة في مقام العمل.
وأمّا الثاني فقد
يقرَّب بقصورٍ في دليل الاستصحاب ، بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك
يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأول يستدعي إجراء الاستحصاب في تمام الأطراف ،
والثاني يستدعي نفي جريانها جميعاً في وقتٍ واحد ؛ لأنّ رفع اليد عن الحالة
السابقة في بعض الإناءات نقض لليقين باليقين.
والجواب أولاً :
أنّ هذا إنّما يوجب الإجمال في ما اشتمل من روايات
__________________
الاستصحاب على
الأمر والنهي معاً ، لافيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.
وثانياً : أنّ
ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلّقاً بعين ما تعلّق به
اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصلٍ في المقام ؛ لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضاً هو
العلم الإجمالى بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحداً مع مصبِّ أيِّ واحدٍ من
العلوم التفصيلية المتعلّقة بالحالات السابقة للإناءات.
وعليه فالاصول
المنجِّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتى مع العلم إجمالاً بمخالفة بعضها
للواقع. وهذا معنى قولهم : إنّ الاصول العملية تجري في أطراف العلم الإجمالي إذا
لم يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليفٍ معلومٍ بالإجمال.
٣ ـ جريان الاصول في بعض الأطراف ، وعدمه :
وأمّا الأمر
الثالث فهو في جريان الاصول الشرعية المؤمِّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي ،
والكلام عن ذلك يقع في مقامين : ثبوتي ، وإثباتي.
أمّا الثبوتي
فنبحث فيه عن إمكان جريان الاصول المؤمِّنة في بعض الأطراف ثبوتاً ، وعدمه ، ومن
الواضح أنّه على مسلكنا القائل بإمكان جريان الاصول في جميع الأطراف لا مجال لهذا
البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذورٍ ثبوتيٍّ في جريانها في بعض الأطراف.
وأمّا على مسلك
القائلين باستحالة جريان الاصول في جميع الأطراف فكذلك ينبغي أن نستثني من هذا
البحث القائلين بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية مباشرةً ،
فإنّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الأصل المؤمّن في بعض
الأطراف ، إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الإجمالي.
وأمّا القائلون
بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعية فيصحّ البحث عن أساس
قولهم ؛ لأنّ جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف يرخِّص في ترك الموافقة القطعية
، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه. ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في أنّ
العلم الإجمالي هل يستدعي عقلاً وجوب الموافقة القطعية استدعاءً منجّزاً على نحو
استدعاء العلّة لمعلولها ، أو استداعاءً معلّقاً على عدم ورود الترخيص الشرعي على
نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فإنّ فعليته منوطة بعدم وجود المانع.
فعلى الأول يستحيل
إجراء الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ؛ لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب
الموافقة القطعية.
وعلى الثاني يمكن
إجراؤه ، إذ يكون الأصل مانعاً عن فعلية حكم العقل ورافعاً لموضوعه.
وعلى هذا الأساس
وُجِد اتّجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية :
أحدهما : القول
بالاستدعاء على نحو العلِّية. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقّق العراقي .
والآخر : القول
بالاستدعاء على نحو الاقتضاء. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقّق النائيني على ما هو
المنقول عنه في فوائد الاصول .
وقد ذكر المحقّق
العراقي رحمهالله في تقريب العلِّية : أنّه لا شكّ في كون العلم
__________________
منجِّزاً لمعلومه
على نحو العلِّية ، فإذا ضممنا الى ذلك أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي هو الواقع لا
مجرّد الجامع ثبت أنّ الواقع منجَّز على نحو العلّية ، ومعه يستحيل الترخيص في
أيِّ واحدٍ من الطرفين ؛ لاحتمال كونه هو الواقع.
وبكلمةٍ اخرى :
أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضيَ لوجوب الموافقة القطعية
أصلاً ، وإن كان هو الواقع فلابدّ من افتراض تنجّزه على نحو العلّية ؛ لأنّ هذا
شأن كلِّ معلومٍ مع العلم.
واعترض عليه
المحقّق النائيني رحمهالله : بأنّ العلم الإجمالي ليس أشدّ تأثيراً من العلم التفصيلي
، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتمالية لمعلومه ، كما في
قاعدتي : الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّةً لوجوب الموافقة القطعية ،
فكذلك العلم الإجمالي.
وأجاب المحقّق
العراقي على هذا الاعتراض : بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست
ترخيصاً في ترك الموافقة القطعية لتكون منافيةً لافتراض علِّية العلم لوجوبها ، بل
هي إحراز تعبّدي للموافقة ، أي موافقة قطعية تعبدية ، وافتراض العلّية يعني علّية
العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجداناً أو تعبّداً ، وبهذا يظهر الفرق بين
إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّ الأول
لا ينافي العلّية ، بخلاف الثاني.
والتحقيق : أنّ
قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما إلاّ أنّ هذا مجرّد
اختلافٍ في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛
__________________
لأنّ كلاًّ منهما
نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصية على الأغراض اللزومية عند الاختلاط في مقام الحفظ
، غير أنّ هذا التقديم تارةً يكون بلسان الترخيص ، واخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة
الاحتمالية وافتراضها موافقةً كاملة ، فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون
الآخر.
والصحيح : هو عدم
علِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الترخيص الظاهري في بعض
الأطراف له نفس الحيثيات المصحّحة لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.
هذا كلّه بحسب
مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام
الإثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الاصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف ؛
لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كلّ الأطراف باطل ؛ لأنّنا فرغنا عن عدم جواز
الترخيص في المخالفة القطعية.
وجريانه في البعض
المعيَّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة دليل الأصل إلى كلٍّ من
الطرفين على نحوٍ واحد. وجريانه في البعض المردّد غير معقول ، إذ لا معنى للمردّد.
وبكلمةٍ اخرى : أنّه
بعد العلم بعدم جريان الأصل في كلِّ الأطراف في وقتٍ واحدٍ يحصل التعارض بين إطلاق
دليل الأصل لكلِّ طرفٍ وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.
وهناك اعتراض
مشهور يوجَّه الى هذا البرهان ، وحاصله : أنّ المحذور الناجم عن جريان الاصول في
كلِّ الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء
الأصل في كلٍّ من الطرفين مطلقاً ، أي سواء ارتكب المكلَّف الطرف الآخر ، أو
اجتنبه ، وإذا ألغينا إطلاق الأصل في كلٍّ منهما لحالة ارتكاب الآخر أنتج إثبات
ترخيصين مشروطين ، وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي الى الترخيص في
المخالفة القطعية ، ويعني ذلك أنّ
المحذور يندفع
برفع اليد عن إطلاق الأصل في كلِّ طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الأصل رأساً.
ولاشكّ في أنّ رفع اليد عن شيءٍ من مفاد الدليل لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضرورة
تقدَّر بقدرها ، فلماذا لا نجري الأصل في كلٍّ من الطرفين ولكن مقيّداً بترك الآخر؟
وقد اجيب على هذا
الاعتراض بوجوه :
الأول
: ما ذكره السيّد
الاستاذ من أنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان
لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية ولكنّه يؤدّي الى الترخيص القطعي في
المخالفة الواقعية ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معاً ، وهو مستحيل.
ويرد عليه : أنّ
الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلاً ، وإنّما يمتنع إذا كان منافياً للحكم الواقعي
، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ؛ لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ
مبادئه ، فلم يبقَ إلاّالتنافي بلحاظ عالم الامتثال ، وقد فرضنا هنا أنّ حكم العقل
بوجوب الموافقة القطعية قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبقَ هناك
تنافٍ بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية والتكليف المعلوم بالإجمال في أيِّ
مرحلةٍ من المراحل.
هذا ، على أنّ
بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحوٍ لا يمكن أن تصبح كلّها فعليةً في وقتٍ
واحدٍ ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم
الإجمالي ثلاثية ، ويفترض أنّ الترخيص في كلّ طرفٍ مقيّد بترك أحد بديليه وارتكاب
الآخر.
الثاني
: ما ذكره السيّد
الاستاذ أيضاً من أنّه إذا اريد إجراء الأصل مقيّداً في
__________________
كلّ طرفٍ فهناك
أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كلِّ طرفٍ مقيّداً بترك الآخر ، أو بأن
يكون قبل الآخر ، أو بأن يكون بعد الآخر ، فأيّ مرجِّحٍ لتقييدٍ على تقييد؟
ويرد عليه : أنّ
التقييد إنّما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإبقاء
الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لامعارض لها كذلك
هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلاً فجريان الأصل فيها
يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.
الثالث
: ما ذكره أيضاً من
أنّ لدليل الأصل إطلاقاً أفرادياً لهذا الطرف ولذاك ، وإطلاقاً أحوالياً في كلٍّ
من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين
الأحواليّين معاً كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد
الطرفين خاصّة ، فأيّ مرجِّحٍ لأحد الدفعين على الآخر؟
ويرد عليه : أنّ
المرجِّح هو : أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأول للمحذور ليس له معارض
أصلاً ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه له معارض.
الرابع
: أنّ الحكم الظاهري
يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ؛ لأنّ ما
هو ثابت في الواقع : إمّا الحرمة المطلقة ، وإمّا الترخيص المطلق.
ويرد عليه : أنّه
لابرهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط فيه أمران : أحدهما أن
يكون الحكم الواقعي مشكوكاً ، والآخر أن يكون الحكم الظاهري صالحاً لتنجيزه أو
التعذير عنه.
الخامس
: وهو التحقيق في
الجواب ، وحاصله : أنّ مفاد دليل الترخيص
الظاهري ومدلوله
التصديقي هو إبراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي ، ومعنى افتراض
ترخيصين مشروطين كذلك أنّ عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كلّ
طرفٍ منوط بترك الآخر ، وأ نّه في حالة تركهما معاً لا اهتمام له بالتحفّظ على
الغرض اللزومي المعلوم إجمالاً وكلّ هذا لا محصّل له ؛ لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت
مرتبةٍ ناقصةٍ من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم
بالإجمال ، واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما بإطلاق دليل
الأصل لا يمكن إلاّبالتأويل وإرجاعهما الى الترخيص في الجامع ، أي في أحدهما ،
وهذه العناية لا يفي بها إطلاق دليل الأصل.
وفي ضوء ما تقدم
قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلِّية والقول بالاقتضاء ، إذ على كلّ
حالٍ لا يجري الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ولكن سيظهر في ما يأتي تحقّق الثمرة
في بعض الحالات.
جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض :
اتّضح ممّا سبق
أنّ دليل الأصل لا يفي لإثبات جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ؛ وذلك بسبب
المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :
منها : ما إذا كان
في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل واحد مؤمِّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ،
ونقصد بالأصلين الطوليّين : أن يكون أحدهما حاكماً على الآخر ورافعاً لموضوعه
تعبّداً.
ومثال ذلك : أن
يعلم إجمالاً بنجاسة إناءٍ مردّدٍ بين إناءين : أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ،
والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معاً ، بناءً على أنّ الاستصحاب حاكم على
أصالة الطهارة ، فقد يقال في مثل ذلك : إنّ أصالة
الطهارة في الطرف
الأول تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ، ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف
الثاني في هذا التعارض ؛ لأنّها متأخّرة رتبةً عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه
فكيف تقع طرفاً للمعارضة في مرتبته؟!
وبكلمةٍ اخرى :
أنّ المقتضي لها إثباتاً لا يتمّ إلاّبعد سقوط الأصل الحاكم وهو الاستصحاب ،
والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصاله الطهارة في الطرف الأول ، وإذا كان الأصل
متفرّعاً في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفاً فيها؟ وإذا استحال أن
يكون طرفاً في تلك المعارضة سقط المتعارضان أولاً وجرى الأصل الطولي بلا معارض.
ومنها : ما إذا
كان دليل الأصل شاملاً لكلا طرفي العلم الإجمالي بذاته ، وتوفّر دليل أصلٍ آخر لا
يشمل إلاّأحد الطرفين.
ومثال ذلك : أن
يكون كلّ من الطرفين مورداً للاستصحاب المؤمِّن ، وكان أحدهما خاصّةً مورداً
لأصالة الطهارة ، ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان وتجري أصالة الطهارة
بدون معارض ، سواء قلنا بالطولية بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضية ؛ وذلك
لأنّ أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها ، لا من دليل أصالة
الطهارة نفسها ، ولا من دليل الاستصحاب.
أمّا الأول فلأنّ
دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر ـ بحسب الفرض ـ ليتعارض الأصلان.
وأمّا الثاني
فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلىً بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي
في الدليل يوجب إجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.
ومنها : أن يكون
الأصل المؤمِّن في أحد الطرفين مبتلىً في نفس مورده
بأصلٍ معارضٍ
منجّزٍ دون الأصل في الطرف الآخر.
ومثاله : أن يعلم
إجمالاً بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرىً لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ
أحدهما مجرىً لاستصحاب النجاسة أيضاً ؛ لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم
بالمتقدِّم والمتأخِّر منهما ، فقد يقال حينئذٍ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف
الآخر بلا معارض ؛ لأنّ استصحاب الطهارة الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده
باستصحاب النجاسة.
وقد يقال في مقابل
ذلك : بأنّ التعارض يكون ثلاثياً ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في
وقتٍ واحد. وتحقيق الحال متروك الى مستوىً أعمق من البحث.
وإذا صحّ جريان
الأصل بلا معارضٍ في هذه الحالات كان ذلك تعبيراً عملياً عن الثمرة بين القول
بالعلِّية والقول بالاقتضاء.
وقد تلخّص ممّا
تقدم : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ، وأ نّه كلّما تعارضت
الاصول الشرعية المؤمِّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ؛
لتنجّز الاحتمال في كلّ شبهةٍ بعد بقائها بلا مؤمِّنٍ شرعيٍّ وفقاً لمسلك حقّ
الطاعة. وحيث إنّ تعارض الاصول يستند الى العلم الإجمالي فيعتبر تنجّز جميع
الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.
ولافرق في
منجِّزية العلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفاً من نوعٍ واحدٍ أو تكليفاً من
نوعين ، كما إذا علم بوجوب شيءٍ أو حرمة الآخر.
كما لا فرق أيضاً
بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع التكليف ؛ لأنّ العلم بموضوع التكليف
إجمالاً يساوق العلم الإجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالإجمال
تمام الموضوع للتكليف الشرعي ، وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كلّ تقديرٍ
أو على بعض التقادير فلا يكون العلم
منجّزاً ؛ لأنّه
لا يساوق حينئذٍ العلم الإجمالي بالتكليف.
ومن هنا لا يكون
العلم الإجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزاً ، خلافاً للعلم الإجمالي
بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين.
أمّا الأول فلأنّ
نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليفٍ شرعي ، بل هي جزء موضوعٍ لوجوب
الاجتناب عن الماء ـ مثلاً ـ والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديدية ،
والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر. وأمّا الثاني فلأنّ نجاسة الماء تمام الموضوع
لحرمة شربه.
ومثل الأوّل العلم
الإجمالي بنجاسة قطعةٍ حديديةٍ أو نجاسة الماء ؛ لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على
أحد التقديرين.
والضابط العامّ
للتنجيز : أن يكون العلم الإجمالي مساوقاً للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ،
وكلّما لم يكن العلم الإجمالي كذلك فلا ينجّز ، وتجري الاصول المؤمِّنة في مورده
بقدر الحاجة ، ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في
الماء ، ولا تعارضها أصالة الطهارة في الحديد ، إذ لا أثرَ عمليٌّ لنجاسته فعلاً.
٢ ـ أركان منجّزيّة العلم الإجمالي
نستطيع أن نستخلص
ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزية العلم الإجمالي لها عدّة أركان :
١ وجود العلم بالجامع :
الركن
الأول : وجود العلم
بالجامع ، إذ لولا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلِّ طرفٍ بدويةً وتجري فيها
البراءة الشرعية.
ولاشكّ في وفاء
العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علماً وجدانياً ، وأمّا إذا كان ما يعبَّر
عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحثٍ فيه.
ومثاله : أن تقوم
البيّنة ـ مثلاً ـ على نجاسة أحد الإناءين ، فهل يطبَّق على ذلك قاعدة منجَّزية
العلم الإجمالي أيضاً؟ وجهان :
فقد يقال بالتطبيق
على أساس أنّ دليل الحجّية يجعل الأمارة علماً ، فيترتّب عليه آثار العلم الطريقي
التي منها منجّزية العلم الإجمالي.
وقد يقال : بعدمه
على أساس أنّ الاصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كلّ الأطراف إلى الترخيص في
المخالفة القطعية للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث ؛ لعدم العلم
بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.
وكلا هذين الوجهين
غير صحيح.
وتحقيق الحال في
ذلك : أنّ البيّنة تارةً يفترض قيامها ابتداءً على الجامع ، واخرى يفترض قيامها
على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.
أمّا في الحالة
الاولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجّية الأمارة الذي
ينجِّز مؤدّاها ،
والآخر دليل الأصل الجاري في كلٍّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان ؛
لعدم إمكان العمل بهما معاً. والوجه الأول يفترض [الفراغ عن] تماميّة الدليل الأول
، ويرتِّب على ذلك عدم إمكان إجراء الاصول. والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك
، فيقول : لا محذور في جريانها.
والاتجّاه الصحيح
هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.
فإن قيل : أليس
دليل حجية الأمارة حاكماً على دليل الأصل؟!
كان الجواب : أنّ
هذه الحكومة إنّما هي فيما إذا اتّحد موردهما ، لا في مثل المقام ، إذ تُلغي
الأمارة تعبّداً الشكَّ بلحاظ الجامع. وموضوع الأصل في كلٍّ من الطرفين الشكّ فيه
بالخصوص ، فلا حكومة ، بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزانٍ آخر لتقديم دليل الحجّية
على دليل الأصل ، من قبيل الأخصّية ، أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتِّب
عليه آثار العلم الإجمالي.
وأمّا في الحالة
الثانية فالأصل ساقط في مورد الأمارة ؛ للتنافي بينهما وحكومة الأمارة عليه.
ولمَّا كان موردها غير معيّنٍ ومردّداً بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كلٍّ من
الطرفين ؛ للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في أحدهما ، ولا مسوِّغ لإجرائه في
أحدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معاً.
٢ ـ وقوف العلم على الجامع :
الركن
الثاني : وقوف العلم على
الجامع وعدم سرايته الى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوماً في ضمن فردٍ معيّن لكان
علماً تفصيلياً لا إجمالياً ، ولمَا كان منجّزاً إلاّ بالنسبة الى ذلك الفرد
بالخصوص. وحيثما يحصل علم بالجامع ثمّ يسري العلم الى الفرد يسمّى ذلك بانحلال
العلم الإجمالي بالعلم بالفرد. وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :
أحدها
: أن يكون العلم
المتعلّق بالفرد معيِّناً لنفس المعلوم بالإجمال ، بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو
نفس المعلوم الإجمالي المردّد. ولا شكّ حينئذٍ في سراية العلم من الجامع الى الفرد
وفي حصول الانحلال.
ثانيها
: أن لا يكون العلم
بالفرد ناظراً إلى تعيين المعلوم الإجمالي مباشرة ، غير أنّ المعلوم الإجمالي ليس
له أيّ علامةٍ أو خصوصيةٍ يحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم
بوجود إنسانٍ في المسجد ثمّ علم بوجود زيد.
والصحيح هنا :
سراية العلم من الجامع الى الفرد وحصول الانحلال أيضاً ، إذ يعود العِلمان معاً
الى علمٍ تفصيليٍّ بزيدٍ وشكٍّ بدويٍّ في إنسانٍ آخر.
ثالثها
: أن لا يكون العلم
بالفرد ناظراً الى تعيين المعلوم الإجمالي ، ويكون للمعلوم الإجمالي علامة في نظر
العالم غير محرزة التواجد في ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسانٍ طويلٍ في
المسجد ، ثمّ علم بوجود زيدٍ وهو لا يعلم أنّه طويل أوْ لا.
والصحيح هنا : عدم
الانحلال ؛ لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثاني مصداقاً للمعلوم بالعلم الأول
بحيث يصحّ أن ينطبق عليه ، فلا يسري العلم من الجامع الإجمالي الى تحصُّصه ضمن
الفرد.
رابعها
: أن يكون العلم
الساري الى الفرد تعبّدياً ، بأن قامت أمارة على ذلك بنحوٍ لو كانت علماً وجدانياً
لحصل الانحلال.
وقد يتوهّم في مثل
ذلك الانحلال التعبّدي بدعوى : أنّ دليل الحجّية يرتِّب كلّ آثار العلم على
الأمارة تعبّداً ، ومن جملتها الانحلال.
ولكنّه توهّم باطل
؛ لأنّ مفاد دليل الحجّية إن كان هو تنزيل الأمارة منزلة العلم فمن الواضح أنّ
التنزيل لا يمكن أن يكون ناظراً الى الانحلال ؛ لأنّه أثر تكوينيّ للعلم وليس بيد
المولى توسيعه. وإن كان مفاد دليل الحجّية اعتبار الأمارة
علماً على
طريقةالمجاز العقلي فمن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يترتّب عليه آثار العلم
الحقيقي التي منها الانحلال ، وإنّما يترتّب عليه آثار العلم الاعتباري.
فإن قيل : نحن لا
نريد بدليل الحجّية أن نثبت الانحلال الحقيقي بالتعّبد لكي يقال بأ نّه أثر تكويني
تابع لعلّته ولا يحصل بالتعبّد تنزيلاً أو اعتباراً ، بل نريد استفادة التعبّد
بالانحلال من دليل الحجّية ؛ لأنّ مفاده التعبّد بإلغاء الشكّ والعلم بمؤدَّى
الأمارة ، وهذا بنفسه تعبّد بالانحلال ، فهو انحلال تعبّدي.
كان الجواب على
ذلك : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّداً بالانحلال ، بل بما هو علّة للانحلال ،
والتعبّد بالعلّة لا يساوق التعبّد بمعلولها.
أضف الى ذلك : أنّ
التعبّد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ؛ لأنّه إن اريد به التأمين بالنسبة الى
الفرد الآخر بلاحاجةٍ الى إجراء أصلٍ مؤمِّنٍ فيه فهذا غير صحيح ؛ لأنّ التأمين عن
كلّ شبهةٍ بحاجةٍ الى أصلٍ مؤمِّنٍ حتى ولو كانت بدوية ، وإن اريد بذلك التمكين من
إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر فهذا يحصل بدون حاجةٍ إلى التعبّد بالانحلال ،
وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن كونه مورداً للأصل المؤمِّن ،
سواء انشئ التعبّد بعنوان الانحلال ، أوْ لا.
٣ ـ شمول الأصل المؤمّن لجميع الأطراف :
الركن
الثالث : أن يكون كلّ من
الطرفين مشمولاً في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الاجمالي لدليل
الأصل المؤمِّن ، إذ لو كان أحدهما ـ مثلاً ـ غير مشمولٍ لدليل الأصل المؤمِّن
لسببٍ آخر لجرى الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر بدون محذور.
وهذه الصياغة
إنّما تلائم إنكار القول بعلِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، إذ
بناءً على هذا الإنكار يتوقّف تنجّز وجوب الموافقة القطعية على
التعارض بين
الاصول المؤمِّنة.
وأمّا على القول
بالعلّية ـ كما هو مذهب المحقّق العراقي ـ فلا تصحّ الصياغة المذكورة ؛ لأنّ مجرّد كون الأصل في
أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه ؛ لأنّه ينافي علّية العلم الإجمالي
لوجوب الموافقة القطعية ، فلا بدّ من افتراض نكتةٍ في الرتبة السابقة تعطِّل العلم
الإجمالي عن التنجيز ، ليُتاحَ للأصل المؤمِّن أن يجري.
ومن هنا صاغ
المحقّق المذكور الركن الثالث صياغةً اخرى ، وحاصلها : أنّ تنجيز العلم الإجمالي
يتوقّف على صلاحيّته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فإذا لم يكن صالحاً لذلك
فلا يكون منجِّزاً. وعلى هذا فكلّما كان المعلوم الإجمالي على أحد التقديرين غير
صالحٍ للتنجّز بالعلم الإجمالي لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً ؛ لأنّه لا يصلح
للتنجيز إلاّعلى بعض تقادير معلومه ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلاً لمثل
هذا العلم الإجمالي.
ويترتّب على ذلك :
أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً إذا كان أحد طرفيه منجّزاً بمنجّزٍ آخر غير
العلم الإجمالي من أمارةٍ أو أصلٍ منجّز ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي في هذه الحالة
لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الأمارة أو الأصل ؛ لأنّ هذا
المورد منجّز في نفسه ، والمنجّز يستحيل أن يتنجّز بمنجّزٍ آخر ؛ لاستحالة اجتماع
علّتين مستقلّتين على أثرٍ واحد. وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير صالحٍ لتنجيز
معلومه على كلّ حال ، فلا يكون له أثر.
والفرق العملي بين
هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصلٍ مؤمِّنٍ في أحد الطرفين ، وعدم ثبوت
منجّز فيه ايضاً سوى العلم الإجمالي ، فإنّ
__________________
الركن الثالث حسب
الصياغة الاولى لا يكون ثابتاً ، ولكنّه حسب الصياغة الثانية ثابت. والصحيح هو
الصياغة الاولى.
٤ ـ إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب البراءة :
الركن
الرابع : أن يكون جريان
البراءة في كلٍّ من الطرفين مؤدِّياً الى الترخيص في المخالفة القطعية وإمكان
وقوعها خارجاً على وجهٍ مأذونٍ فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعةً على
المكلف حتى مع الإذن والترخيص لقصورٍ في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة في كلٍّ
من الطرفين.
وركنيّة هذا الركن
مبنيّة على إنكار علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وأمّا بناءً على
العلّية فلا دخل لذلك في التنجيز ، إذ يكفي في امتناع جريان الاصول حينئذٍ كونها
مؤدِّيةً للترخيص ولو في بعض الأطراف.
وهناك صياغة اخرى
لهذا الركن تبنّاها السيد الاستاذ ، وهي : أن يكون جريان الاصول مؤدِّياً الى
الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية ،
وقد تقدّم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب .
كما أنّ الصياغة
المطروحة فعلاً لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيقٍ وتعديلٍ بالنسبة اليها في مبحث
الشبهة غير المحصورة إن شاء الله تعالى.
__________________
٣ ـ تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي
عرفنا في ضوء ما
تقدّم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الإجمالي ، فكلّما انهدم واحد منها بطلت
منجِّزيته. وكلّ الحالات التي قد يدّعى سقوط العلم الإجمالي فيها عن المنجِّزية لا
بدّ من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلاّ فلا مبرِّر للسقوط.
وفي مايلي نستعرض
عدداً مهمّاً من هذه الحالات لدراستها من خلال ذلك :
١ ـ زوال العلم بالجامع :
الحالة الاولى :
أن يزول العلم بالجامع رأساً ولذلك صور :
الصورة
الاولى : أن يظهر للعالم
خطؤه في علمه ، وأنّ الإناءين اللذَين اعتقد بنجاسة أحدهما ـ مثلاً ـ طاهران ، ولا
شكّ هنا في السقوط عن المنجِّزية ؛ لانهدام الركن الأول من الأركان المتقدمة.
الصورة
الثانية : أن يتشكّك العالم
فيما كان قد علم به ، فيتحوّل علمه بالجامع الى الشكّ البدوي ، والأمر فيه كذلك
أيضاً.
ولكن قد يتوهّم
بقاء الأطراف على منجِّزيتها ؛ لأنّ الاصول المؤمِّنة تعارضت فيها في حال وجود
العلم الإجمالي ، وهو وإن زال ولكنّها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ،
فتظلّ الشبهة في كلّ طرفٍ بلا أصلٍ مؤمِّنٍ فتتنجَّز.
__________________
وقد يجاب على هذا
التوهّم : بأنّ الشكّ الذي سقط أصله بالمعارضة هو الشكّ في انطباق المعلوم
بالإجمال ، وهذا الشكّ زال بزوال العلم الإجمالي ووجد بدلاً عنه الشكّ البدوي ،
وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ، ولم يقع الأصل المؤمِّن عنه طرفاً للمعارضة ،
فيجري بدون إشكال.
وفي كلٍّ من هاتين
الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأساً.
الصورة
الثالثة : أن يزول العلم
بالجامع بقاءً وإن كان العلم بحدوثه لا يزال مستمرّاً ، وهذه الصورة تتحقّق على
أنحاء :
النحو
الأول : أن يكون للجامع
المعلوم أمد محدَّد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فإذا استوفى أمده لم يعدْ هناك
علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتاً.
النحو
الثاني : أن يكون الجامع
على كلّ تقديرٍ متيقّناً الى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفي مثل ذلك يزول أيضاً
العلم بالجامع بقاءً ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذٍ
بمثابة العلم الإجمالي.
النحو
الثالث : أن يكون الجامع
المعلوم مردّداً بين تكليفين ، غير أنّ أحدهما على تقدير تحقّقه يكون أطول مكثاً
في عمود الزمان من الآخر ، كما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء الى الظهر أو
بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى المغرب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين
فعلاً ، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئدٍ لزوال العلم الإجمالي؟
والجواب بالنفي ؛
وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي ، وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفاً له ، فإنّ
الجامع المردّد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوماً حتى
الآن كما كان ، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلِّ ما يضمّ من تكاليف انحلالية
بعدد الآنات الى المغرب طرف للعلم الإجمالي.
ونسمّي مثل ذلك
بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ، وحكمه أنّه ينجِّز الطويل على
امتداده.
النحو
الرابع : أن يكون التكليف
في أحد طرفي العلم الإجمالي مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، وقد يقال في مثل ذلك
بسقوط المنجزية ؛ لأنّ فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجّزها
بالعلم الإجمالي ؛ لأنّها ليست طرفاً للعلم الإجمالي ، ولا بالاستصحاب ؛ إذ لا
يقين بالحدوث ليجري الاستصحاب.
وقد يجاب على ذلك
: بأنّ الاستصحاب يجري على تقدير الحدوث بناءً على أنّه متقوّم بالحالة السابقة لا
باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الإجمالي إمّا بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف ، أو
ثبوت التكليف الواقعي في الطرف الآخر ، وهو كافٍ للتنجيز.
٢ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف :
الحالة
الثانية : أن يعلم إجمالاً
بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرّاً فعلاً إلى تناول أحدهما ، ولا شكّ في أنّ
المكلف يسمح له بتناول ما يضطرّ اليه ، وإنّما نريد أن نعرف أنّ العلم الإجمالي هل
يكون منجِّزاً لوجوب الاجتناب عن الطعام الآخر ، أوْ لا؟
وهذه الحالة لها
صورتان :
إحداهما : أن يكون
الاضطرار متعلّقاً بطعامٍ معيَّن.
والاخرى : أن يكون
بالإمكان دفعه بأيِّ واحدٍ من الطعامين.
أمّا الصورة
الاولى فالعلم الإجمالي فيها يسقط عن المنجِّزية ؛ لزوال الركن الأول ، حيث لا
يوجد علم إجمالي بجامع التكليف.
والسبب في ذلك :
أنّ نجاسة الطعام المعلومة إجمالاً جزء الموضوع للحرمة ، والجزء الآخر عدم
الاضطرار ، وحيث إنّ المكلف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو الطعام المضطرّ اليه
بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي ، فتجري البراءة عن حرمة الطعام غير المضطرّ
اليه وغيرها من الاصول المؤمِّنة بدون معارض ؛ لأنّ حرمة الطعام المضطرّ اليه غير
محتملةٍ ليحتاج الى الأصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط أن لا يكون الاضطرار متأخّراً
عن العلم الإجمالي ، وإلاّ بقي على المنجِّزية ؛ لانّه يكون من حالات العلم
الإجمالي المردّد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلف بتكليفٍ فعليٍّ في هذا
الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو في الطرف الآخر حتّى الآن.
وقد يفترض
الاضطرار قبل العلم ولكنّه متأخّر عن زمان النجاسة المعلومة ، كما إذا اضطرّ ظهراً
الى تناول أحد الطعامين ، ثمّ علم ـ قبل أن يتناول ـ أنّ أحدهما تنجّس صباحاً ،
وهنا العلم بجامع التكليف الفعلي موجود ، فالركن الأول محفوظ ولكنّ الركن الثالث
غير محفوظ ؛ لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ،
ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلاً ، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.
ويطَّرد ما ذكرناه
في غير الاضطرار ايضاً من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها ، كما إذا
علم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين ، ثمّ تلف أحدهما أو غسل بالماء ، فإنّ العلم
الإجمالي لا يسقط عن المنجِّزية بطروّ المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن
المنجِّزية بطروّها مقارنةً للعلم الإجمالي أو قبله.
وأمّا الصورة
الثانية فلا شكّ في سقوط وجوب الموافقة القطعية بسبب الاضطرار المفروض. وإنّما
الكلام في جواز المخالفة القطعية ، فقد يقال بجوازها ،
كما هو ظاهر
المحقّق الخراساني رحمهالله. وبرهان ذلك يتكوَّن ممّا يلي :
أولاً : أنّ العلم
الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية.
ثانياً : أنّ
المعلول هنا ساقط.
ثالثاً : يستحيل
سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.
فينتج : أنّه
لابدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا
تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملاً في الطرف الآخر
ولكنّه حينئذٍ احتمال بدويّ مؤمَّن عنه بالأصل.
والجواب عن ذلك :
أولاً
: بمنع علِّية العلم
الإجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعية.
ثانياً
: بأنّ ارتفاع وجوب
الموافقة القطعية الناشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّية المذكورة ؛ لأنّ
المقصود منها عدم إمكان جعل الشكّ مؤمِّناً ؛ لأنّ الوصول بالعلم تامّ ، ولا ينافي
ذلك وجود مؤمِّنٍ آخر وهو العجز ، كما هو المفروض في حالة الاضطرار.
ثالثاً
: لو سلَّمنا فقرات
البرهان الثلاث فهي إنّما تُنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم على نحوٍ لا يكون
الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذناً في ترك الموافقة القطعية له ،
وذلك يحصل برفع اليد عن إطلاق التكليف لحالةٍ واحدة ، وهي حالة تناول الطعام
المحرَّم وحده من قبل المكلف المضطرِّ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معاً ،
فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلف المضطرّ العالم إجمالاً أحد الطعامين فقط لم
يكن قد ارتكب مخالفةً احتماليةً على الإطلاق ، واذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب
مخالفةً قطعيةً
__________________
للتكليف المعلوم
فلا يجوز.
٣ ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي :
لكلّ علمٍ
إجماليٍّ سبب ، والسبب تارةً يكون مختصّاً في الواقع بطرفٍ معيَّنٍ من أطراف العلم
الإجمالي ، واخرى تكون نسبته الى الطرفين أو الأطراف على نحوٍ واحد.
ومثال الأول : أن
تَرى قطرة دمٍ تقع في أحد الإناءين ولا تميِّز الإناء بالضبط ، فتعلم إجمالاً
بنجاسة أحد الإناءين ؛ والسبب هو قطرة الدم ، وهي في الواقع مختصّة بأحد الطرفين.
ويمكن أن تؤخذ قيداً في المعلوم بأن تقول : إنّي أعلم إجمالاً بنجاسةٍ ناشئةٍ من
قطرة الدم التي رأيتها ، لا بنجاسةٍ كيفما اتّفقت.
ويترتّب على ذلك :
أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناءٍ معيّنٍ من الإناءين : فإن كان هذا العلم
التفصيلي بنفس سبب العلم الإجمالي ، بأن علمت تفصيلاً بأنّ القطرة قد سقطت هنا
انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني ، إذ يكون من النحو
الأول من الأنحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن ذلك الركن.
وإن كان هذا العلم
التفصيلي بسببٍ آخر ، كما إذا رأيتَ قطرةً اخرى من الدم تسقط في الإناء المعيّن لم
ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ؛ لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقاً
للمعلوم الإجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع الى الفرد بخصوصه. وكذلك
الأمر إذا شكّ في أنّ سبب العلم التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا
يحرز حينئذٍ كون المعلوم التفصيلي مصداقاً للمعلوم الإجمالي ، ويدخل في النحو
الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن الركن الثاني.
ومثال الثاني ـ أي
ما كانت نسبة سبب العلم الإجمالي فيه الى الأطراف متساوية ـ أن يحصل علم إجمالي
بنجاسة أحد الإناءات التي هي في معرض استعمال الكافر أو الكلب لمجرّد استبعاد أن
يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فإنّ هذا الاستبعاد نسبته الى الأطراف على
نحوٍ واحد ، ويترتّب على ذلك : أنّه لا يصلح أن يكون قيداً محصّصاً للمعلوم الإجمالي. وعليه فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة
إناءٍ معيَّنٍ انحلّ العلم الإجمالي حتماً ؛ لانهدام الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ
المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزماً ، حيث لم يتحصّص المعلوم الإجمالي بقيدٍ زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع
الى الفرد ، ويدخل في النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدمة ، عند الحديث عن
الركن الثاني.
وفي كلّ حالةٍ
يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متّحدين في
الزمان ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّراً زماناً فلا انحلال للعلم
الإجمالي حقيقة ؛ لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذٍ مصداقاً للمعلوم الإجمالي.
ولا يشترط في
الانحلال الحقيقي وانهدام الركن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم
التفصيلي المتأخّر زماناً يوجب الانحلال أيضاً إذا احرز كون معلومه مصداقاً
للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع إحراز المصداقية لا يمنع
عن سراية العلم قهراً من الجامع الى الخصوصية ، وهو معنى الانحلال.
__________________
٤ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والاصول :
اذا جرت في حقّ
المكلف أمارات أو اصول شرعية منجِّزة للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا
انحلال حقيقي ولا تعبّدي ، كما تقدم ، ولكن ينهدم الركن الثالث بإحدى صيغتيه المتقدمتين اذا
توفّرت شروط :
أحدها
: أن لا يقلّ البعض
المنجَّز بالأمارة أو الأصل الشرعي عن عدد المعلوم بالإجمال من التكاليف.
ثانيها
: أن لا يكون
المنجِّز الشرعي من أمارةٍ أو أصلٍ ناظراً الى تكليفٍ مغايرٍ لما هو المعلوم
إجمالاً ، كما إذا علم إجمالاً بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على
حرمة أحدهما المعيَّن بسبب الغصب.
ثالثها
: أن لا يكون وجود
المنجِّز الشرعي متأخِّراً عن حدوث العلم الإجمالي.
فكلّما توفّرت هذه
الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث ؛ لجريان الأصل المؤمِّن في غير مورد المنجِّز
الشرعي بلا معارضٍ وفقاً للصيغة الاولى ، ولعدم صلاحية العلم الإجمالي للاستقلال
في تنجيز معلومه على كلّ تقديرٍ وفقاً للصيغة الثانية. ويسمّى السقوط عن المنجِّزية
في هذه الحالة بالانحلال الحكمي تمييزاً له عن الانحلال الحقيقي والانحلال
التعبّدي.
وأمّا إذا اختلّ
الشرط الأول فالعلم الإجمالي منجِّز للعدد الزائد ، والاصول بلحاظه متعارضة.
وإذا اختلّ الشرط
الثاني فالأمر كذلك ؛ لأنّ ما ينجِّزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجِّزه
الأمارة نفسها.
__________________
وإذا اختلّ الشرط
الثالث كان العلم الإجمالي منجِّزاً والركن الثالث محفوظاً ؛ لأنّ الاصول
المؤمِّنة في غير مورد الأمارة والأصل الشرعي المنجِّز معارضة بالاصول المؤمِّنة
التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما.
وبكلمةٍ اخرى :
إذا أخذنا من مورد المنجِّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجِّز ومن غيره الفترة
الزمنية على امتدادها حصلنا على علمٍ إجماليٍّ تامّ الأركان فينجِّز.
ومن هنا يعرف أنّ
انهدام الركن الثالث بالمنجِّز الشرعي مرهون بعدم تأخّر نفس المنجِّز عن العلم ،
ولا يكفي عدم تأخّر مؤدّى الأمارة ـ مثلاً ـ مع تأخّر قيامها ؛ وذلك لأنّ سقوط
العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجِّز الشرعي في بعض أطرافه إنّما هو
بسبب المنجِّزية الشرعية بإحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجِّزية لا تبدأ إلاّمن
حين قيام الأمارة أو جريان الأصل ، سواء كان المؤدّى مقارناً لقيامها أو سابقاً
على ذلك.
وبالمقارنة بين
الانحلال الحكمي ـ كما شرحناه هنا ـ والانحلال الحقيقي ـ كما شرحناه آنفاً ـ يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في
الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجِّز الشرعي عن العلم الإجمالي نلاحظ أنّ
العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن
زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع الى الفرد ، وهي
لازم قهريّ لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقية هذا لذاك ،
ولا دخل لتأريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ـ ولو بقاءً ـ وحصل
الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.
__________________
٥ ـ اشتراك علمين إجماليّين في طرف :
قد يفترض أنّ أحد
طرفي العلم الإجمالي طرف في علمٍ اجماليٍّ آخر ، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شكّ
في تنجيزهما معاً وتلقّي الطرف المشترك التنجّز منهما معاً ؛ لأنّ مرجع العلمين
الى العلم بثبوت تكليفٍ واحدٍ في الطرف المشترك ، أو تكليفين في الطرفين الآخرين.
وأمّا إذا كان
أحدهما سابقاً على الآخر فقد يقال : إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزية ؛
لاختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الاولى ، وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد
سقط عنه الأصل المؤمِّن سابقاً بتعارض الاصول الناشئ من العلم الإجمالي السابق ،
فالأصل في الطرف المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر يجري بلا معارض. وإِمّا بصيغته
الثانية ، وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد تنجِّز بالعلم السابق ، فلا يكون
العلم المتأخّر صالحاً لمنجِّزيته ، فهو إذن لا يصلح لمنجِّزية معلومه على كلّ
تقدير.
ولكنّ الصحيح :
عدم السقوط عن المنجّزية وبطلان التقريبين السابقين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي
الأول لا يوجب التنجيز في كلّ زمانٍ وتعارض الاصول في الأطراف كذلك إلاّبوجوده
الفعلي في ذلك الزمان ، لا بمجرّد حدوثه ولو في زمانٍ سابق ، وعليه فتنجّز الطرف
المشترك بالعلم الاجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء
ذلك العلم السابق الى ذلك الحين لا بمجرّد حدوثه ، وهذا يعني أنّ تنجّز الطرف
المشترك فعلاً له سببان ، أحدهما :
بقاء العلم
السابق. والآخر : حدوث العلم المتأخر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح
بلامرجح فينجَّزان معاً ، وبذلك يبطل التقريب الثاني.
كما أنّ الأصل
المؤمِّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ،
وهذا الاقتضاء
يؤثّر مع عدم المعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الأصل المؤمِّن في الطرف المشترك في
الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخّر كان معارضاً بأصلٍ واحد
ـ وهو الأصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق ـ غير أنّ جريانه في الفترة الزمنية
اللاحقة يوجد له معارضان ، وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معاً ،
وبذلك يبطل التقريب الأول ، فالعلمان الإجماليان منجِّزان معاً.
٦ ـ حكم ملاقي أحد الأطراف :
إذا علم المكلف
إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما المعيَّن حصل علم إجمالي آخر
بنجاسة الثوب أو المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة. وفي مثل
ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الإجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب
الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :
الأول
: تطبيق فرضية
العلمين الإجماليّين ـ المتقدِّم والمتأخِّر ـ في المقام ، بأن يقال : إنّه يوجد
لدى المكلف علمان إجماليان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز السابق
منهما دون المتأخّر.
وهذا التقريب إذا
تمّ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة أو العلم بها على الأقلّ عن العلم بنجاسة أحد
المائعين ، ولكنّه غير تامّ ، كما تقدم.
الثاني
: أنّ الركن الثالث
منهدم ؛ لأنّ أصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ؛ وذلك لأنّه أصل طوليّ
بالنسبة الى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب ـ ولنسمِّه المائع الأول ـ فأصالة
الطهارة في المائع الأول تعارض أصالة الطهارة في المائع الآخر ، ولا تدخل أصالة
الطهارة للثوب في هذا التعارض ؛
لطوليّتها ، وبعد
ذلك تصل النوبة اليها بدون معارضٍ وفقاً لِمَا تقدم في الحالة الاولى من حالات
الاستثناء من تعارض الاصول وتساقطها.
وهذا التقريب إذا
تمّ يجري ، سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخّر عنه
، فالتقريب الثاني إذن أوسع جرياناً من التقريب الأول.
وقد يقال : إنّ
هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الإجمالي
بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأول ، ثمّ علم بأنّ الثوب كان قد لاقى
المائع الأول ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الأول ؛ لأنّ العلم الإجمالي
المتقدِّم ليس منجِّزاً ، لاختلال الركن الثالث فيه ، كما تقدم ، فلا يمكن أن يحول
دون تنجيز العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلاً.
ولا يجري التقريب الثاني ؛ لأنّ الأصل المؤمِّن في المائع الأول لا معنى له بعد
تلفه ، وهذا يعني أنّ الأصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمِّن في
الثوب ، فيسقطان بالتعارض.
ولكنّ الصحيح :
أنّ التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضاً ؛ لأنّ تلف المائع الأول لا يمنع عن
استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلاً ، وهو طهارة الثوب.
فأصل الطهارة في المائع الأول ثابت في نفسه ويتولّى المعارضة مع الأصل في المائع
الآخر في المرتبة السابقة ، ويجري الأصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض.
٧ ـ الشبهة غير المحصورة :
إذا كثرت أطراف
العلم الإجمالي بدرجةٍ كبيرةٍ سمّيت بالشبهة غير المحصورة. والمشهور بين
الاصوليّين سقوطه عن المنجِّزية لوجوب الموافقة القطعية ، وهناك مَن ذهب الى عدم
حرمة المخالفة القطعية.
ويجب أن نفترض
عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثيرٍ في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزية
، دون أن نُدخِل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من امورٍ اخرى ، كخروج بعض
الأطراف عن محلّ الابتلاء.
وعلى هذا الأساس
يمكن أنّ نُقرِّب عدم وجوب الموافقة القطعية وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :
التقريب
الأول : أنّ هذا الاقتحام
مستند الى المؤمِّن ، وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف
المقتحَم ، إذ كلّما زادت أطراف العلم الإجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق
في كلّ طرفٍ حتّى تصل الى درجةٍ يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.
وقد استشكل
المحقّق العراقي وغيره باستشكالين على هذا التقريب :
أحدهما
: محاولة البرهنة
على عدم وجوب اطمئنانٍ فعليٍّ بهذا النحو ؛ لأنّ الأطراف كلّها متساوية في
استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلية بهذا
النحو في كلّ الأطراف لكان ذلك مناقضاً للعلم الإجمالي بوجود النجس ـ مثلاً ـ في
بعضها ؛ لأنّ السالبة الكلّية التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة
الجزئية التي يكشفها العلم الإجمالي.
والجواب على ذلك :
أنّ الاطمئنانات المذكورة إذا أدّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة
الكلّية فالمناقضة واضحة ، ولكنّ الصحيح أنّها لا تؤدّي الى ذلك ، فلا مناقضة.
وقد تقول : كيف لا
تؤدّي الى ذلك؟ أليس الاطمئنان ب «ألف» والاطمئنان ب «باء» يؤدّيان حتماً الى
الاطمئنان بمجموع «الألف والباء»؟! وكقاعدةٍ عامّةٍ
__________________
أنّ كلّ مجموعةٍ
من الإحرازات تؤدّي الى إحراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعاً بنفس تلك الدرجة من
الإحراز.
ونجيب على ذلك :
أولاً بالنقض ،
وتوضيحه : أنّ من الواضح وجود احتمالاتٍ لعدم انطباق المعلوم الإجمالي بعدد أطراف
العلم الإجمالي ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعلية بالوجدان ، ولكنّها مع هذا لا
تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فاذا صحّ أنّ «ألف» محتمل
فعلاً و «باء» محتمل فعلاً ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع «الف» و «باء»
فيصحّ أن يكون كلّ منهما مطمئنّاً به ، ولا يكون المجموع مطمئنّاً به.
وثانياً بالحلّ ،
وهو : أنّ القاعدة المذكورة إنمّا تصدق فيما إذا كان كلّ من الإحرازين يستبطن ـ إضافةً
إلى إحراز وجود متعلّقه فعلاً ـ إحراز وجوده على تقدير وجود متعلّق الإحراز الآخر
على نهج القضية الشرطية ، فمن يطمئنّ بأنّ «الف» موجود حتّى على تقدير وجود «باء»
أيضاً ، وأنّ «باء» موجود أيضاً حتّى على تقدير وجود «ألف» فهو مطمئنّ حتماً بوجود
المجموع.
وفي المقام :
الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أيّ طرفٍ وإن كان موجوداً فعلاً
ولكنّه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على
الطرف الآخر.
والسبب في ذلك :
أنّ هذا الاطمئنان إنّما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في
الأطراف الاخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هي الأساس في
تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرِّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرفٍ عند افتراض
عدم الانطباق على الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي
هي الأساس في
تكوّن الاطمئنان
بعدم الانطباق.
وأمّا
الاستشكال الآخر فيتّجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم
الانطباق لمَّا كان موجوداً في كلّ طرفٍ فالاطمئنانات معارضة في الحجّية
والمعذّرية ؛ للعلم الاجمالي بأنّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدّي الى سقوط الحجّية
عن جميع تلك الاطمئنانات.
والجواب على ذلك :
أنّ العلم الإجمالي بكذب بعض الأمارات إنمّا يؤدّي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجّية
لأحد سببين :
الأول
: أن يحصل بسبب ذلك
تكاذب بين نفس الأمارات ، فيدلّ كلّ واحدةٍ منها بالالتزام على وجود الكذب في
الباقي ، ولا يمكن التعبّد بحجّية المتكاذبَين.
الثاني
: أن تؤدّي حجّية
تلك الأمارات ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم
بالإجمال.
وكلا السببين غير
متوفّرٍ في المقام.
أمّا الأول فلأنّ
كلّ اطمئنانٍ لا يوجد ما يكذِّبه بالدلالة الالتزامية ؛ لأنّنا إذا أخذنا أيَّ
اطمئنانٍ آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معاً صادقَين ، فلماذا يتكاذبان؟
وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى لم نجد تكاذباً أيضاً ؛ لأنّ هذه المجموعة
لا تؤدّي إلى الاطمئنان بمجموع متعلقاتها ، أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر
الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ؛ وذلك لِمَا برهنَّا عليه من أنّ
كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدّي اجتماعهما إلى
الاطمئنان بالمجموع ، والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل ،
كما عرفت.
وأمّا الثاني
فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعية إنّما يلزم لو كان دليل حجّية
هذه الاطمئنانات يقتضي
الحجّية التعيينية لكلّ واحدٍ منها ، غير أنّ الصحيح : أنّ مفاده هو الحجّية
التخييرية ؛ لأنّ دليل الحجّية هنا هو السيرة العقلائية ، وهي منعقدة على الحجّية
بهذا المقدار.
التقريب
الثاني : أنّ الركن الرابع
من أركان التنجيز المتقدِّمة مختلّ ؛ وذلك لأنّ جريان الاصول في كلّ أطراف العلم
الإجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعية عملياً والإذن فيها ؛ لأنّنا
نفترض كثرة الأطراف بدرجةٍ لا تُتيح للمكلف اقتحامها جميعاً ، وفي مثل ذلك تجري
الاصول جميعاً بدون معارضة.
وهذا التقريب
متّجه على أساس الصيغة الأصلية التي وضعناها للركن الرابع فيما تقدم ، وأمّا على
أساس صياغة السيّد الاستاذ له السالفة الذكر فلا يتمّ ؛ لأنّ المحذور في صياغته
الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الاصول في كلّ الأطراف ولو
لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها. ومن هنا يظهر أنّ الثمرة
بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقويم التقريب المذكور إثباتاً
ونفياً.
غير أنّ السيّد
الاستاذ حاول أن ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب ، وحاصل النقض :
أنّ الاحتياط إذا كان غير واجبٍ في الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلف
على المخالفة القطعية يلزم عدم وجوب الاحتياط في كلّ حالةٍ تتعذّر فيها المخالفة
القطعية ولو كان العلم الإجمالي ذا طرفين أو أطرافٍ قليلة ، حيث تجري الاصول
جميعاً ولا يلزم منها الترخيص عملياً في المخالفة القطعية.
ومثاله : أن يعلم
إجمالاً بحرمة المكث في آنٍ معيَّنٍ في أحد مكانين ، مع أنّ
__________________
القائلين بعدم
وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.
والتحقيق : أنّ
الصيغة الأصلية للركن الرابع يمكن أن توضّح بأحد بيانين :
البيان
الأول : أنّ عدم القدرة
على المخالفة القطعية يجعل جريان الاصول في جميع الأطراف ممكناً ؛ لأنّه لا يؤدّي
ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص عملياً في المخالفة القطعية ؛ لأنّها غير ممكنةٍ حتى
يتصور الترخيص فيها. وهذا البيان ينطبق على كلّ حالات العجز عن المخالفة القطعية ؛
ولذلك يعتبر النقض وارداً عليه.
إلاّأنّ البيان
المذكور غير صحيح ؛ لأنّ المحذور في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي هو
: أنّ تقديم المولى لأغراضه الترخيصية على أغراضه اللزومية الواصلة بالعلم
الإجمالي على خلاف المرتكز العقلائي ، كما تقدم توضيحه سابقاً ، ومن الواضح أنّ شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف يعني ذلك ،
ومجرّد اقترانه صدفةً بعجز المكلف عن المخالفة القطعية لا يغيِّر من مفاد الدليل ،
فالارتكاز العقلائي إذن حاكم بعدم الشمول كذلك.
البيان
الثاني : أنّ عدم القدرة
على المخالفة القطعية إذا نشأ من كثرة الأطراف أدّى إلى إمكان جريان الاصول فيها
جميعاً ، إذ في غرضٍ لزوميٍّ واصلٍ كذلك ـ بوصولٍ مردّدٍ بين أطرافٍ بالغةٍ هذه
الدرجة من الكثرة ـ لا يرَى العقلاء محذوراً في تقديم الأغراض الترخيصية عليه ؛
لأنّ التحفّظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراضٍ ترخيصيةٍ كثيرة ، ومعه
لا يبقى مانع عن شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف.
__________________
وهذا هو البيان
الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ولا
يرد عليه النقض.
وهكذا نخرج
بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير أنّهما يختلفان
في بعض الجهات ، فالتقريب الأوّل ـ مثلاً ـ يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في
موردها أصل مؤمِّن ؛ لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان ، لا إلى الأصل ، بخلاف
التقريب الثاني ، كما هو واضح.
٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور :
قد يفرض أنّ
ارتكاب الواقعة غير مقدورٍ ويعلم إجمالاً بحرمتها أو حرمة واقعةٍ اخرى مقدورة ،
وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً.
وتفصيل الكلام في
ذلك : أنّ القدرة تارةً تنتفي عقلاً ، كما إذا كان المكلف عاجزاً عن الارتكاب
حقيقةً ، واخرى تنتفي عرفاً ، بمعنى أنّ الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع
والمتضمّنة للمشقّة ما يضمن انصراف المكلف عنه ، ويجعله بحكم العاجز عنه عرفاً وإن
لم يكن عاجزاً حقيقةً ، كاستعمال كأسٍ من حليبٍ في بلدٍ لا يصل اليه عادة ، ويسمّى
هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.
فإن حصل علم
إجمالي بنجاسة أحد مائعين ـ مثلاً ـ وكان أحدهما ممّا لا يقدر المكلف عقلاً على الوصول اليه فالعلم الإجمالي غير
منجِّز. ويقال في تقريب ذلك عادةً : إنّ الركن الأول منتفٍ ؛ لعدم وجود العلم
بجامع التكليف ؛ لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلف على ارتكابه
فليس موضوعاً للتكليف الفعلي ؛ لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علمَ
إجماليٌّ بالتكليف الفعلي إذن.
وكأنّ أصحاب هذا
التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما
لا ينجِّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرفٍ معيَّنٍ منه ـ على ما مرّ
في الحالة الثانية ـ كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف
مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف
ثابتاً على كلّ تقدير.
والتحقيق : أنّ
الاضطرارين يتّفقان في نقطةٍ ويختلفان في اخرى ، فهما يتّفقان في عدم صحة توجّه
النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه كذلك
لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علمَ إجماليٌّ
بالنهي في كلتا الحالتين.
ولكنّهما يختلفان
بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضية ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكِّل حصّةً
من وجود الفعل مغايرةً للحصّة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض
أنّ الحصّة الواقعة عن اضطرارٍ كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها ،
وإنمّا المفسدة والمبغوضية في الحصّة الاخرى.
وأمّا الاضطرار
إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكِّل حصّةً خاصّةً من وجود الفعل على النحو
المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير المقدور للمكلف ليس واجداً لمبادئ الحرمة ، وأ نّه لا
مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق
المبغوض ، فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن
أكله لوجوده في مكانٍ بعيدٍ عنه؟ فأكل لحم الخنزير على اضطرارٍ اليه قد لا يكون
فيه
__________________
مبادئ النهي أصلاً
، فيقع من المضطرّ بدون مفسدةٍ ولا مبغوضية. وأمّا أكل لحم الخنزير البعيد عن
المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة. وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا
يساوق الفساد ، بل لأنّه لا يمكن أن يقع.
ونستخلص من ذلك :
أنّ مبادئ النهي يمكن أن تكون منوطةً بعدم الاضطرار إلى الفعل ، ولكن لا يمكن أن
تكون منوطةً بعدم العجز عن الفعل.
وعليه ففي حالة
الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في الحالة الثانية المتقدمة
ـ يمكن القول بأ نّه لا علمَ إجماليٌّ بالتكليف ، لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ
مبادئه.
وأمّا في حالة
الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في المقام ـ فالنهي
وإن لم يكن ثابتاً على كلّ تقديرٍ ولكنّ مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالاً على
كلّ حال ، فالركن الأول ثابت ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي
بمبادئه.
ويجب أن يفسَّر
عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الاولى ، حيث إنّ الأصل
المؤمِّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير
المقدور ؛ لأنّ إطلاق العنان تشريعاً في مورد تقيّد العنان تكويناً لا محصّل له.
وإمّا بصيغته الثانية ، حيث إنّ العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ
تقدير ؛ لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلاً ، والطرف غير المقدور لا يعقل
دخوله في العهدة.
هذا كلّه فيما إذا
كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور. وأمّا إذا كان خارجاً عن محلّ الابتلاء
فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا إلى أنّ
الدخول في محلّ الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علمَ إجماليٌّ بالتكليف في الحالة
المذكورة. فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف
وخروجه عن محلّ
الابتلاء يمنعان معاً عن تنجيز العلم الإجمالي بملاكٍ واحدٍ عندهم.
وقد عرفت أنّ
التقريب المذكور غير صحيحٍ في العجز العقلي ، فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء
أوضح. بل الصحيح : أنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطاً في التكليف بمعنى الزجر
، فضلاً عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه
معقول.
فإن قيل : ما
فائدة هذا الزجر مع أنّ عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته؟
كان الجواب : أنّه
يكفي فائدةً للزجر تمكين المكلّف من التعبّد بتركه.
فالأفضل أن يفسّر
عدم تنجيز العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن
الثالث ؛ لأنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ؛
لأنّ الأصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزومية
والترخيصية ، والعقلاء لا يرون تزاحماً من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن
محلّ الابتلاء ؛ بل يرون الغرض اللزوميّ المحتمل مضموناً بحكم الخروج عن محلّ
الابتلاء بدون تفريطٍ بالغرض الترخيصي ، فالأصل المؤمِّن في الطرف الآخر يجري بلا
معارض.
٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيّات :
إذا كان أحد طرفي
العلم الإجمالي تكليفاً فعلياً والطرف الآخر تكليفاً منوطاً بزمانٍ متأخِّرٍ سمّي
هذا العلم بالعلم الإجمالي بالتدريجيّات. ومثاله : علم المرأة إجمالاً ـ إذا ضاعت
عليها أيام العادة ـ بحرمة المكث في المسجد في بعض الأيام من الشهر.
وقد استشكل بعض الاصوليّين في تنجيز هذا العلم الإجمالي ، ويستفاد من
كلماتهم إمكان تقريب الاستشكال بوجهين :
الأول
: أنّ الركن الأول
مختلّ ؛ لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجمالي لها بالتكليف الفعلي ؛ لأنّها :
إمّا حائض فعلاً فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضاً في منتصف الشهر ـ مثلاً ـ فلا
تكليف فعلاً ، فلا علم بالتكليف فعلاً على كلّ تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأول.
الثاني
: أنّ الركن الثالث
مختلّ ، أمّا اختلاله بصيغته الاولى فتقريبه : أنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل
حرمة المكث فعلاً ، وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر مثلاً ، ولمَّا كانت الحرمة
الاولى محتمَلةً فعلاً ومشكوكةً فهي مورد للأصل المؤمِّن ، وأمّا الحرمة الثانية
فهي وإِن كانت مشكوكةً ولكنّها ليست مورداً للأصل المؤمِّن فعلاً في بداية الشهر ،
إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في أوّل الشهر ، وإنّما يحتمل وجودها في منتصفه ،
فلا تقع مورداً للأصل المؤمِّن إلاّفي منتصف الشهر ، وهذا يعني أنّ المرأة في
بداية الشهر تجد الأصل المؤمِّن عن حرمة المكث فعلاً جارياً بلا معارض ، وهو معنى
عدم التنجيز.
وأمّا اختلاله
بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخِّرة لا تصلح أن تكون منجَّزةً في بداية الشهر
؛ لأنّ تنجّز كلّ تكليفٍ فرع ثبوته وفعليته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم
الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير.
والصحيح : أنّ
الركن الأوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام. أمّا الركن الأوّل فلأنّ المقصود
بالفعلية في قولنا : «العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي» ليس وجود التكليف في هذا
الآن ، بل وجوده فعلاً في عمود الزمان ؛ احترازاً
__________________
عمّا إذا كان
المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فإنّه في مثل ذلك لا علم بتكليفٍ
فعليٍّ ولو في زمان. فالجامع بين تكليفٍ في هذا الآن وتكليفٍ يصبح فعلياً في آنٍ
متأخِّرٍ لا يقصر ـ عقلاً ـ وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن
؛ لأنّ مولوية المولى لا تختصّ بهذا الآن ، كما هو واضح.
وأمّا الركن
الثالث بصيغته الاولى فلأنّ الأصل المؤمِّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي
يعارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخِّر في ظرفه ، إذ ليس التعارض بين أصلين
من قبيل التضادِّ بين لونَين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم
بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلٍّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زماناً
، وحيث لا مرجِّح للأخذ بدليل الأصل في طرفٍ دون طرفٍ فيتعارض الأصلان.
وأمّا الصيغة
الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الإجمالي صالحاً لمنجِّزية
معلومه على كلّ تقديرٍ : كونه صالحاً لذلك ولو على امتداد الزمان ، لا في خصوص هذا
الآن.
وهكذا يتّضح أنّ
الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات موهونة جدّاً ، غير
أنّ جماعةً من الاصوليّين وقعوا تحت تأثيرها.
فذهب بعضهم إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام
الطرف الآخر متأخِّراً.
__________________
وذهب البعض الآخر
إلى عدم الترخيص بإبراز علمٍ إجماليٍّ بالجامع بين طرفين فعليَّين ، كالمحقّق
العراقي ، إذ أجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علمٍ إجماليٍّ آخر
غير تدريجيِّ الأطراف.
وتوضيحه : أنّ
التكليف إذا كان في القطعة الزمانية المعاصرة فهو تكليف فعلي. وإذا كان في قطعةٍ
زمانيةٍ متأخِّرةٍ فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي ؛ لِما يعرف من مسألة
وجوب المقدّمات المفوِّتة من عدم جواز تضييع الإنسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ،
وهكذا يعلم إجمالاً بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزاً.
ونلاحظ على هذا :
أولاً
: أنّ التنجيز ليس
بحاجةٍ إلى إبراز هذا العلم الإجمالي ؛ لِمَا عرفت من تنجيز العلم الإجمالي في
التدريجيّات.
وثانياً
: أنّ وجوب حفظ
القدرة إنمّا هو بحكم العقل ، كما تقدم في مباحث المقدّمة المفوِّتة ، وحكم العقل
بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليفٍ فرع تنجّز ذلك التكليف ، فلابدّ في المرتبة
السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجِّزٍ للتكليف الآخر ، ولا منجِّز له كذلك
إلاّالعلم الإجمالي في التدريجيّات.
وثالثاً
: أنّ المنجِّز إذا
كان هو العلم الإجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال
التكليف المتأخّر فهو لا يفرض سوى عدم تفويت القدرة ، وأمّا تفويت ما يكلَّف به في
ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي ، وإنّما
يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيات ، وهو إن كان منجِّزاً
لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه.
__________________
١٠ ـ الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي :
قد يكون الطرفان
للعلم الإجمالي طوليَّين ، بأن كان أحد التكليفين مترتّباً على عدم الآخر ، من
قبيل أن نفرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب وفاء الدين وعلم إجمالاً بأحد
الأمرين ، وهذا له صورتان :
الاولى : أن يكون
وجوب الحجّ مترتّباً على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.
الثانية : أن يكون
وجوب الحجّ مترتّباً على عدم وجوب وفاء الدين واقعاً.
أمّا الصورة
الاولى فليس العلم الإجمالي منجِّزاً فيها بلا ريب ؛ لانهدام الركن الثالث ؛ لأنّ
الأصل المؤمِّن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا يعارضه الأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ
؛ لأنّ وجوب الحجّ يصبح معلوماً بمجرّد إجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع
للأصل فيه.
فإن قيل : هذا
يتمّ بناءً على إنكار علِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، واستناد عدم
جريان الأصل في بعض الأطراف إلى التعارض ، فما هو الموقف بناءً على علِّية العلم
الإجمالي واستحالة جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟
والجواب : أنّ هذه
الاستحالة إنّما هي باعتبار العلم الإجمالي ، ويستحيل في المقام أن يكون العلم
الإجمالي مانعاً عن جريان الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء ؛ لأنّه متوقّف على عدم
جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحجّ وينحلّ العلم الإجمالي ، وما
يتوقّف على عدم شيءٍ يستحيل أن يكون مانعاً عنه ، فالأصل يجري إذن حتّى على القول
بالعلِّية.
وأمّا الصورة
الثانية فيجري فيها أيضاً الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء ، ولا يعارض بالأصل
المؤمِّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ ذلك الأصل ينقِّح بالتعبّد موضوع وجوب الحجّ ،
فيعتبر أصلاً سببياً بالنسبة إلى الأصل المؤمِّن عن وجوب الحجّ ، والأصل السببي
مقدّم على الأصل المسبَّبي.
وهكذا نعرف أنّ
حكم الصورتين عملياً واحد ، ولكنّهما يختلفان في أنّ الأصل في الصورة الاولى
بجريانه في وجوب الوفاء يحقِّق موضوع وجوب الحجّ وجداناً ، ويوجب انحلال العلم
الإجمالي بالعلم التفصيلي ، ومن هنا كان وجود العلم الإجمالي متوقّفاً على عدم
جريانه ، كما عرفت. وأمّا في الصورة الثانية فلا يحقّق ذلك ؛ لأنّ وجوب الحجّ
مترتّب على عدم وجوب الوفاء واقعاً ، وهو غير محرزٍ وجداناً ، وإنّما يثبت تعبّداً
بالأصل دون أن ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحجّ. ولهذا لا يكون جريان الأصل في الصورة
الثانية موجباً لانحلال العلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون وجود العلم الإجمالي
متوقّفاً على عدم جريانه.
ومن أجل ذلك قد
يقال هنا بعدم جريان الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّية ؛ لأنّ
مانعية العلم الإجمالي عن جريانه ممكنة ؛ لعدم توقّف العلم الإجمالي على عدم
جريانه.
وهناك فارِق آخر
بين الصورتين ، وهو : أنّه في الصورة الاولى يجري الأصل المؤمِّن عن وجوب الوفاء ، سواء كان تنزيلياً أوْ لا ، ويحقّق ـ على أيّ حالٍ ـ موضوع
وجوب الحجّ وجداناً. وأمّا في الصورة الثانية فإنّما يجري إذا كان تنزيلياً ،
بمعنى أنّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعاً ؛ وذلك لأنّ الأصل
__________________
التنزيلي هو الذي
يحرز لنا تعبّداً موضوع وجوب الحجّ ، فيكون بمثابة الأصل السببي بالنسبة إلى الأصل
المؤمِّن عن وجوب الحجّ ، وأمّا الأصل العمليّ البحت فلا يثبت به تعبّداً العدم
الواقعي لوجوب الوفاء ، فلا يكون حاكماً على الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل
معارضاً.
تلخيص للقواعد الثلاث :
خرجنا حتّى الآن
بثلاث قواعد : فالقاعدة العملية الاولى قاعدة عقلية ، وهي أصالة الاشتغال على مسلك
حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والقاعدة العملية
الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعية.
والقاعدة العملية
الثالثة منجِّزية العلم الإجمالي ، أي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي
وعدم جريان البراءة عنه.
٣
ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ
الوظيفة
عندالشكّ في الوجوب والحرمة معاً
الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة.
دوران الأمر بين المحذورين.
حتّى الآن كنّا
نتكلّم عن الشكّ في التكليف ، وما هي الوظيفة العملية المقرّرة فيه عقلاً أو شرعاً
، سواء كان شكّاً بدوياً أو مقروناً بالعلم الإجمالي ، إلاّ أنّنا كنّا نقصد
بالشكّ في التكليف : الشكّ الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما : احتمال الوجوب ،
واحتمال الترخيص. أو احتمال الحرمة ، واحتمال الترخيص.
والآن نريد أن
نعالج الشك الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معاً.
وهذا الشكّ تارةً
يكون بدوياً ، أي مشتملاً على احتمالٍ ثالثٍ للترخيص أيضاً.
واخرى يكون
مقروناً بالعلم الإجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر
بين المحذورين.
فهنا مبحثان ، كما
يأتي إن شاء الله تعالى :
١ ـ الشكّ البدويّ في الوجوب والحرمة :
الشك البدويّ في الوجوب
والحرمة : هو الشكّ المشتمل على احتمال الوجوب ، واحتمال الحرمة ، واحتمال الترخيص
، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي ، وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.
أمّا باللحاظ
الأول فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيانٍ لا شكّ في جريان البراءة عن كلٍّ من الوجوب
والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزاً في نفسه ،
ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز ؛ لاستحالة تنجيزهما معاً ، وتنجيز أحدهما دون الآخر
ترجيح بلا مرجّح ، فتبطل منجّزيتهما معاً وتجري البراءة أيضاً.
وأمّا باللحاظ
الثاني فأدلّة البراءة الشرعية شاملة للمورد بإطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا
الشكّ وما سبق من شكٍّ : أنّ هذا مورد للبراءة عقلاً وشرعاً معاً حتّى على مسلك
حقّ الطاعة ، بخلاف الشكّ المتقدم.
٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين :
وهو الشكّ المقرون
بالعلم الإجمالي بجنس الإلزام ، وتوضيح الحال فيه :
أنّ هذا العلم
الإجمالي يستحيل أن يكون منجِّزاً ؛ لأنّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية غير ممكن
؛ لأنّها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ممتنع أيضاً ؛ لأنّها غير
ممكنة ، وتنجيزه لأحد التكليفين المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ؛ لأنّ
نسبة العلم الإجمالي اليهما نسبة واحدة. وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الإجمالي
منجِّزاً.
ولكن هل تجري
البراءة العقلية والشرعية عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة ، أوْ لا؟ سؤال
اختلف الاصوليون في الإجابة عليه.
فهناك من قال
بجريانها ، إذ ما دام العلم الإجمالي غير منجِّزٍ فلا يمكن أن يكون
مانعاً عن جريان البراءة عقلاً وشرعاً.
__________________
وهناك من قال بعدم
جريان البراءة على الرغم من عدم منجّزية العلم الإجمالي. واثيرت عدّة
اعتراضاتٍ على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة
العقلية ، وبعضها بالبراءة الشرعية ، وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعية. ونذكر في
ما يلي أهمّ تلك الاعتراضات :
الأوّل
: الاعتراض على
البراءة العقلية والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.
وتوضيحه على ما
أفاده المحقّق العراقي قدّس الله روحه : أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن
منجِّزاً ، وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك ولكن ليس كلّ
ترخيصٍ براءة ، فإنّ الترخيص تارةً يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ،
واخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقلية هي ما كان بالملاك الثاني.
وعليه فإن اريد في
المقام إبطال منجّزية العلم الإجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل ؛ لأنّها
فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بأنّ هذا بيان وذاك ليس ببيان ؛ لأنّها لا تنقِّح
موضوعها ، فلابدّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا
ما يتحقّق في موارد الشكّ وجداناً وتكويناً ؛ لأنّ الشكّ ليس بياناً. وأمّا في
مورد العلم الإجمالي بجنس الإلزام في المقام فالعلم بيان وجداناً وتكويناً ، فلكي
نجرِّده من صفة البيانية لابدّ من تطبيق قاعدهٍ عقليةٍ تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة
ليست نفس البراءة العقلية ؛ لِمَا عرفت من أنّها لا تنقِّح موضوعها ، وإنّما هي
قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحية العلم
__________________
الإجمالي المذكور
للمنجّزية والحجّية ، وبالتالي سقوطه عن البيانية.
وإن اريد إجراء
البراءة العقلية بعد إبطال منجِّزية العلم الإجمالي وبيانيته بالقاعدة المشار
اليها فلا معنى لذلك ؛ لأنّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي ، ولا محصّل
للترخيص في طول الترخيص.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجِّزية العلم الإجمالي ، وليس
الغرض منها إبطال منجّزية هذا العلم والترخيص في مخالفته حتى يقال : إنّه لا محصّل
لذلك ، بل إبطال منجّزية كلٍّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن
الواضح أنّ كلًّا من الاحتمالين في نفسه ليس بياناً تكويناً ووجداناً ، فنطبِّق
عليه البراءة العقلية لإثبات التأمين من ناحيته.
الثاني
: الاعتراض على
البراءة الشرعية ، وتوضيحه على ما أفاده المحقّق النائيني قدس الله روحه : أنّ ما كان منها بلسان أصالة الحِلِّ لا
يشمل المقام ؛ لأنّ الحِلِّية غير محتملةٍ هنا ، بل الأمر مردّد بين الوجوب
والحرمة. وما كان منها بلسان «رفع مالا يعلمون» لا يشمل أيضاً ؛ لأنّ الرفع يعقل
حيث يعقل الوضع ، والرفع هنا ظاهريّ يقابله الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ،
ومن الواضح أنّ إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل ، فلا
معنى للرفع إذن.
وقد يلاحظ على
كلامه :
أوّلاً
: أنّ إمكان جعل
حكمٍ ظاهريٍّ بالحلّية لا يتوقّف على أن تكون الحِلّية الواقعية محتملة ، ودعوى :
أنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ صحيحة ، ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة
الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم
__________________
الواقعي الذي يراد
التأمين عنه أو تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيءٍ مؤمِّناً عنه أو منجِّزاً
له.
وثانياً
: أنّ الرفع الظاهري
في كلٍّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده ، وهو ممكن فيكون الرفع ممكناً
أيضاً ، ومجموع الوضعين وإن كان مستحيلاً ولكنّ كلًّا من الرفعين لا يقابل
إلاّوضعاً واحداً ، لا مجموع الوضعين.
الثالث
: الاعتراض على شمول
أدلّة البراءة الشرعية عموماً بدعوى انصرافها عن المورد ؛ لأنّ المنساق منها علاج
المولى لحالة التزاحم بين الأغراض الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم
الغرض الترخيصي على الإلزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميَّين. وعليه
فالبراءة الشرعية لا تجري ، ولكنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجِّز ؛ لِما عرفت.
وينبغي أن يعلم :
أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون في واقعةٍ واحدة ، وقد يكون في أكثر من
واقعة ، بأن يعلم إجمالاً بأنّ عملاً معيّناً : إمّا محرّم في كلّ أيام الشهر ، أو
واجب فيها جميعاً ، وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعةٍ واحدة ، وأمّا
مع افتراض كونه في أكثر من واقعةٍ فنلاحظ أنّ المخالفة القطعية تكون ممكنةً حينئذٍ
، وذلك بأن يفعل في يومٍ ويترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على
الموقف ، وهذا ما نتركه لدراسةٍ أعلى.
٤ ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ
الوظيفة
عند الشكّ في الأقلّ والأكثر
التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر.
١ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في
الأجزاء.
٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في
الشرائط.
٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير
العقلي.
٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير
الشرعي.
ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر.
التقسيم الرئيسيّ للأقلّ والأكثر
درسنا في ما سبق
حالة الشكِّ في أصل الوجوب ، وحالة العلم بالوجوب وتردّد متعلّقه بين أمرين
متباينين ، فالاولى هي حالة الشكّ البدويّ التي تجري فيها البراءة الشرعية ،
والثانية هي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي التي تجري فيها أصالة الاشتغال.
والآن ندرس حالة العلم بالوجوب وتردّد الواجب بين الأقلِّ والاكثر ، وهي على قسمين
:
الأول
: دوران الأمر بين
الأقلّ والاكثر الاستقلاليَّين ، وهو يعني أنّ ما يتميّز به الأكثر على الأقلّ من
الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجباً مستقلاًّ عن وجوب الأقلّ ، كما إذا علم
المكلف بأ نّه مَدين لغيره بدرهمٍ أو بدرهمين.
الثاني
: دوران الأمر بين
الأقلّ والاكثر الارتباطيّين ، وهو يعني : أنّ هناك وجوباً واحداً له امتثال واحد
وعصيان واحد ، وهو : إمّا متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر ، كما إذا علم المكلف بوجوب
الصلاة وتردّدت الصلاة عنده بين تسعة أجزاءٍ وعشرة.
أمّا القسم الأول
فلا شكّ في أنّ وجوب الأقلّ فيه منجَّز بالعلم ، وأنّ وجوب الزائد مشكوك بشكٍّ
بدوي ، فتجري عنه البراءة عقلاً وشرعاً ، أو شرعاً فقط على الخلاف بين المسلكين.
وأمّا القسم
الثاني فتندرج فيه عدّة مسائل نذكرها تباعاً :
١ ـ الدوران بين الأقلِّ والأكثر في الأجزاء
وفي مثل ذلك قد
يقال : بأنّ حاله حال القسم الأول ، فإنّ وجوب الأقلِّ منجَّز بالعلم ، ووجوب
الزيادة ـ أي ما يشكّ في كونه جزءاً ـ مشكوك بدويّ فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ هذا
هو ما يقتضيه الدوران بين الأقل والأكثر بطبعه ، فإنّ كلّ دورانٍ من هذا القبيل
يتعيَّن في علمٍ بالأقلِّ وشكٍّ في الزائد.
ولكن قد يعترض على
إجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام ، ويبرهن على عدم جريانها بعدّة براهين :
البرهان الأول : [دعوى وجود العلم الإجمالي]
وهو يقوم على أساس
دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الإجمالي بوجوب
الأقلّ أو وجوب الزائد لينفى ذلك بأنّ وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلاً عن الأقلّ
، فكيف يجعل طرفاً مقابلاً له في العلم الإجمالي. بل هو العلم الإجمالي بوجوب
الأقلّ ، أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد ، ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب
الزائد ، لكونه جزءاً من أحد طرفي العلم الإجمالي.
وقد اجيب على هذا
البرهان بوجوه :
منها : أنّ العلم
الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب
إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي ، وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛
لأنّه جزء الواجب ، وجزء الواجب مقدمة له.
ونلاحظ على هذا
الوجه : أنّه إن اريد به هدم الركن الثاني من أركان تنجيز
العلم الإجمالي
فالجواب عليه : أنّ الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقاً للجامع
المعلوم بالإجمال ، كما تقدم ، وليس الأمر في المقام كذلك ؛ لأنّ الجامع المعلوم
بالإجمال هو الوجوب النفسي ، والمعلوم التفصيلي وجوب الأقلّ ولو غيرياً.
وإن اريد به هدم
الركن الثالث بدعوى أنّ وجوب الأقلّ منجَّز ـ على أيّ حالٍ ـ ولا تجري البراءة عنه
، فتجري البراءة عن الآخر بلا معارضٍ فالجواب عليه : أنّ الوجوب الغيري لا يساهم
في التنجيز ، كما تقدّم في مباحث المقدمة .
ومنها : أنّ العلم
الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقلّ ؛ لأنّه واجب نفساً
إمّا وحده ، أو في ضمن الأكثر ، وهذا المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم
بالإجمال ، فينحلّ العلم الإجمالي به.
وقد يجاب على هذا
الانحلال بأجوبةٍ نذكر في مايلي مُهمَّها :
الجواب
الأول : أنّ الجامع
المعلوم إجمالاً هو الوجوب النفسي الاستقلالي إمّا للأقلّ ، أو للأكثر ، وما هو
معلوم بالتفصيل في الأقلّ الوجوب النفسي ولو ضمناً ، فلا انحلال.
ويلاحظ : أنّ
الاستقلالية معنىً منتزع من حدّ الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلّق به ، والحدّ لا
يقبل التنجّز ، ولا يدخل في العهدة ، وإنمّا يدخل فيها ويتنجَّز ذات الوجوب المحدود
، فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسي الاستقلالي وإن لم
__________________
يكن منحلاًّ ولكنّ
معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة ؛ لعدم قابلية حدّ الوجوب للتنجّز ،
والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود ـ بقطع النظر عن حدّ الاستقلالية ـ هو الذي
ينجِّز معلومه ويدخله في العهدة ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي المشار اليه.
الجواب
الثاني : أنّ وجوب الأقلِّ
إذا كان استقلالياً فمتعلّقه الأقلّ مطلقاً من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان
ضمنياً فمتعلّقه الأقلّ المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالاً
إمّا بوجوب التسعة المطلقة ، أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم
التفصيلي بوجوب التسعة على الإجمال ليس إلاّنفس ذلك العلم الإجمالي بعبارةٍ موجزة
، فلا معنى لانحلاله به.
ويلاحظ هنا أيضاً
: أنّ الإطلاق ـ سواء كان عبارةً عن عدم لحاظ القيد ، أو لحاظ عدم دخل القيد ـ لا
يدخل في العهدة ؛ لأنّه يقوِّم الصورة الذهنية ، وليس له محكيّ ومرئيّ يراد إيجابه
زائداً على ذات الطبيعة بخلاف التقييد.
فإن اريد إثبات
التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل
التنجّز.
وإن اريد إثبات
التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة فهو
منحلّ. ولكن سيظهر ممّا يلي أنّ دعوى الانحلال غير صحيحة.
ومنها : أنّه إن
لوحظ العلم بالوجوب بخصوصياته التي لا تصلح للتنجّز ـ من قبيل حدّ الاستقلالية
والإطلاق ـ فهناك علم إجماليّ ولكنّه لا يصلح للتنجيز. وإن لوحظ العلم بالوجوب
بالقدر الصالح للتنجّز فلا علمَ إجماليٌّ أصلاً ، بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة
وشكّ بدوي في وجوب الزائد ، فالبرهان الأول ساقط إذن. كما أنّ دعوى الانحلال ساقطة
أيضاً ؛ لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود
علمين لولا
الانحلال ، مع أنّه لا يوجد إلاّما عرفت.
ومنها : دعوى
انهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ، ولا يعارضه
الأصل عن وجوب الأقلّ ؛ لأنّه إن اريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ مع الإتيان
بالأكثر فهو غير معقول ، إذ لا يعقل ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر ، وإن اريد به
التأمين في حالة ترك الأقل وترك الأكثر بتركه رأساً فهو غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّ
هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها.
وهكذا نعرف أنّ
الأصل [المؤمِّن] عن وجوب الأقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الأصل الآخر.
وهذا بيان صحيح في
نفسه ، ولكنّه يستبطن الاعتراف بالركنين : الأول والثاني ومحاولة التخلّص بهدم
الركن الثالث ، مع أنّك عرفت أنّ الركن الثاني غير تامٍّ في نفسه.
البرهان الثاني : [دعوى كون الشكّ في المحصّل]
والبرهان الثاني
يقوم على دعوى أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصِّل بالنسبة إلى الغرض ، وذلك
ضمن النقاط التالية :
أولاً
: أنّ هذا الواجب المردّد
بين الأقلّ والأكثر للمولى غرض معيّن من إيجابه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات في
متعلّقاتها.
ثانياً
: أنّ هذا الغرض
منجّز ؛ لأنّه معلوم ، ولا إجمال في العلم به ، وليس مردّداً بين الأقلّ والأكثر ،
وإنّما يشكّ في أنّه هل يحصل بالأقلّ ، أو بالأكثر؟
ثالثاً
: يتبيّن ممّا تقدّم
أنّ المقام من الشكّ في المحصِّل بالنسبة إلى الغرض ، وفي مثل ذلك تجري أصالة
الاشتغال ، كما تقدم.
ويلاحظ على ذلك :
أولاً
: أنّه من قال بأنّ
الغرض ليس مردّداً بين الأقلّ والأكثر كنفس الواجب ، بأن يكون ذا مراتب ، وبعض
مراتبه تحصل بالأقلّ ولا تستوفى كلّها إلاّ بالأكثر ، ويشكّ في أنّ الغرض الفعلي
قائم ببعض المراتب أو بكلها ، فيجري عليه نفس ماجرى على الواجب؟
وثانياً
: أنّ الغرض إنّما
يتنجّز عقلاً بالوصول إذا وصل مقروناً بتصدّي المولى لتحصيله التشريعي ، وذلك بجعل
الحكم على وفقه أو نحو ذلك. فما لم يثبت هذا التصدّي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر
بمنجِّز وما دام مؤمَّناً عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.
البرهان الثالث : [دعوى كون الشكّ في سقوط الأقلّ]
إنّ وجوب الأقلّ
منجّز بحكم كونه معلوماً ، وهو مردّد ـ بحسب الفرض ـ بين كونه استقلالياً أو
ضمنياً ، وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقلّ يسقط هذا الوجوب المعلوم على
تقدير كونه استقلالياً ؛ لحصول الامتثال ، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنياً ؛ لأنّ
الوجوبات الضمنية مترابطة ثبوتاً وسقوطاً ، فما لم تمتثل جميعاً لا يسقط شيء منها.
وهذا يعني أنّ المكلّف الآتي بالأقل يشكّ في سقوط وجوب الأقلّ والخروج عن عهدته
فلابدّ له من الاحتياط ، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد حتى يقال :
إنّه شكّ في التكليف ، بل إنّما هو رعاية للتكليف بالأقلّ المنجَّز بالعلم واليقين
؛ نظراً إلى أنّ «الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني».
والجواب على ذلك :
أنّ الشكّ في سقوط تكليفٍ معلومٍ إنمّا يكون مجرىً لأصالة الاشتغال فيما إذا كان
بسبب الشكّ في الإتيان بمتعلّقه ، وهذا غير حاصلٍ
في المقام ؛ لأنّ
التكليف بالأقلّ ـ سواء كان استقلالياً أو ضمنياً ـ قد أتى بمتعلّقه بحسب الفرض ،
إذ ليس متعلّقه إلاّالأقلّ ، وإنمّا ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصورٍ في نفس
الوجوب بلحاظ ضمنيّته المانعة عن سقوطه مستقلًّا عن وجوب الزائد ، وهكذا يرجع
الشكّ في السقوط هنا إلى الشكّ في ارتباط وجوب الأقلّ بوجوب زائد ، ومثل هذا الشكّ
ليس مجرىً لأصالة الاشتغال ، بل يكون مؤمَّناً عنه بالأصل المؤمِّن عن ذلك الوجوب
الزائد ، لا بمعنى أنّ ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقلّ ، بل بمعنى أنّه يجعل
المكلف غير مطالبٍ من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.
البرهان الرابع : [العلم الإجمالي الناشئ من حرمة القطع]
وهو علم إجماليّ
يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها ، كالصلاة ، إذ يقال : بأنّ
المكلّف إذا كبّر تكبيرة الإحرام ملحونةً وشكّ في كفايتها حصل له علم إجمالي :
إمّا بوجوب إعادة الصلاة ، أو حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها ؛ لأنّ
الجزء إن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده ، وإلاّ وجبت عليه الإعادة ،
فلابدّ له من الاحتياط ؛ لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة
عن حرمة قطع هذا الفرد.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التي يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار
عليها في مقام الامتثال ، إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك. وواضح
أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد ،
وإلاّ لمَا جاز الاقتصار عليها عملاً ، وهذا يعني أنّ احتمال حرمة القطع مترتّب
على جريان البراءة عن الزائد ، فلا يعقل أن يستتبع أصلاً معارضاً له.
البرهان الخامس : [دعوى دوران الأمر بين عامّين من وجه]
وحاصله : تحويل
الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامَّين من وجهٍ بدلاً عن الأقلّ والأكثر
، وتوضيح ذلك ضمن مقدمتين :
الاولى
: أنّ الواجب تارةً
يدور أمره بين المتباينين ، كالظهر والجمعة.
واخرى بين
العامَّين من وجه ، كإكرام العادل وإكرام الهاشمي. وثالثةً بين الأقلّ والأكثر.
ولا إشكال في
تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الاولى الموجب للجمع بين الفعلين ، وتنجيزه في
الحالة الثانية الموجب لعدم جواز الاقتصار على إحدى مادّتَي الافتراق ، وأمّا
الحالة الثالثة فهي محلّ الكلام.
الثانية
: أنّ الواجب
المردّد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان عبادياً فالنسبة بين امتثال الأمر
على تقدير تعلّقه بالاقلّ وامتثاله على تقدير تعلّقه بالأكثر هي العموم من وجه ،
ومادة الافتراق من ناحية الأمر بالأقلّ واضحة ، وهي : أن يأتي بالتسعة فقط. وأمّا
مادة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر فلا تخلو من خفاءٍ في النظرة الاولى ؛ لأنّ
امتثال الأمر بالأكثر يشتمل على الأقلّ حتماً.
ولكن يمكن تصوير
مادة الافتراق في حالة كون الأمر عبادياً والإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلّق
بالأكثر على وجه التقييد على نحوٍ لو كان الأمر متعلّقاً بالأقل فقط لمَا انبعث
عنه ، ففي مثل ذلك يتحقق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون
امتثالاً للأمر بالاقل على تقدير ثبوته.
ويثبت على ضوء
هاتين المقدمتين أنّ العلم الإجمالي في المقام منجِّز إذا كان الواجب عبادياً ،
كما هو واضح.
والجواب : أنّ
التقييد المفروض في النية لا يضرّ بصدق الامتثال على كلّ حالٍ حتّى للأمر بالأقلّ
ما دام الانبعاث عن الأمر فعلياً.
البرهان السادس : [لعلم الإجمالي الناشئ من مانعيّة الزيادة]
وهو يجري في
الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعةً ومبطلة ، كالصلاة. والزيادة هي الإتيان
بفعلٍ بقصد الجزئية للمركّب مع عدم وقوعه جزءاً له شرعاً.
وحاصل البرهان :
أنّ من يشكّ في جزئية السورة يعلم إجمالاً : إمّا بوجوب الإتيان بها ، وإمّا بأنّ
الإتيان بها بقصد الجزئية مبطل ؛ لأنّها إن كانت جزءً حقاً وجب الإتيان بها ،
وإلاّ كان الإتيان بها بقصد الجزئية زيادةً مبطلة ، وهذا العلم الإجمالي منجِّز
وتحصل موافقته القطعية بالإتيان بها بدون قصد الجزئية ، بل لرجاء المطلوبية ، أو
للمطلوبية في الجملة.
والجواب : أنّ هذا
العلم الإجمالي منحلّ ؛ وذلك لأنّ هذا الشاكّ في الجزئية يعلم تفصيلاً بمبطلية
الإتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت جزءً في الواقع ؛ لأنّ ذلك منه تشريع ما
دام شاكّاً في الجزئية ، فيكون محرَّماً ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة ، وهذا
يعني كونه زيادة.
٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط
والتحقيق فيها ـ على
ضوء المسألة السابقة ـ هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّ مرجع الشرطية
للواجب إلى تقيّد الفعل الواجب بقيدٍ وانبساط الأمر على التقيّد ، كما تقدم في
موضعه ، فالشكّ فيها شكّ في الأمر بالتقيّد ، والدوران إنمّا هو بين الأقلّ والأكثر
إذا لوحظ المقدار الذي يدخل في العهدة ، وهذا يعني وجود علمٍ تفصيليٍّ بالأقلّ
وشكٍّ بدويٍّ في الزائد ، فتجري البراءة عنه.
ولا فرق في ذلك
بين أن يكون الشرط المشكوك راجعاً إلى متعلق الأمر ، كما في الشك في اشتراط العتق
بالصيغة العربية واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو إلى متعلّق المتعلق ، كما في الشكّ
في اشتراط الرقبة التي يجب عتقها بالإيمان ، أو الفقير الذي يجب إطعامه بالهاشمية.
وقد ذهب المحقّق
العراقي ـ قدّس الله روحه ـ إلى عدم جريان البراءة في بعض الحالات
المذكورة ، ومردّ دعواه إلى أنّ الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها تارةً تتطلّب
من المكلف في حالة إرادته الإتيان بالأقلّ أن يكمله ويضمّ اليه شرطه ، واخرى
تتطلّب منه في الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الأقلّ الناقص رأساً وإلغاءَه إذا كان
قد أتى به ودفعه إلى الإتيان بفردٍ آخر كاملٍ واجدٍ للشرط.
ومثال الحالة
الاولى : أن يعتق رقبةً كافرة ، فإنّ شرطية الإيمان في الرقبة تتطلّب منه أن
يجعلها مؤمنةً عند عتقها ، وحيث إنّ جعل الكافر مؤمناً ممكن
__________________
فالشرطية لا تقتضي
إلغاء الأقلِّ رأساً ، بل تكميله ، وذلك بأن يجعل الكافر مؤمناً عند عتقه له
فيعتقه وهو مؤمن.
ومثال الثاني : أن
يطعم فقيراً غير هاشمي ، فإنّ شرطية الهاشمية تتطلّب منه إلغاء ذلك رأساً وصرفه إلى
الإتيان بفردٍ جديدٍ من الإطعام ؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشمياً.
ففي الحالة الاولى
تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة ؛ لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في إيجاب ضمِّ
أمرٍ زائدٍ إلى ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقاً للمطلوب في الجملة.
وهذا معنى العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الزائد ، فالأقلّ محفوظ على كلّ حالٍ
والزائد مشكوك.
وفي الحالة
الثانية لا تجري البراءة عن الشرطية ؛ لأنّ الأقلّ المأتيّ به ليس محفوظاً على كلّ
حال ، إذ على تقدير الشرطية لابدّ من إلغائه رأساً ، فليس الشكّ في وجوب ضمِّ أمرٍ
زائدٍ إلى ما أتى به ليكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
وهذا التحقيق لا
يمكن الأخذ به ، فإنّ الدوران في كلتا الحالتين دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ
الملحوظ فيه إنمّا هو عالم الجعل وتعلّق الوجوب ، وفي هذا العالم ذات الطبيعي
معروض للوجوب جزماً ويشكّ في عروضه على التقيّد فتجري البراءة عنه ، وليس الملحوظ
في الدوران عالم التطبيق خارجاً ليقال : إنّ ما اتي به من الأقلّ خارجاً قد لا
يصلح لضمّ الزائد اليه ، ولابدّ من إلغائه رأساً على تقدير الشرطية.
ولا يختلف الحال
في جريان البراءة عند الشكّ في الشرطية ووجوب التقيّد بين أن يكون القيد المشكوك
أمراً وجودياً ـ وهو ما يعبَّر عنه بالشرط عادة ـ أو عدم أمرٍ وجودي ، ويعبّر عن
الأمر الوجودي حينئذٍ بالمانع ، فكما لا يجب على المكلف إيجاد ما يحتمل شرطيته
كذلك لا يجب عليه الاجتناب عمّا يحتمل مانعيّته ؛ وذلك لجريان الأصل المؤمِّن.
٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي
وذلك بأن يعلم
بوجوب متعلّقٍ بعنوانٍ خاصٍّ أو بعنوانٍ آخر مغايرٍ له مفهوماً غير أنّه أعمّ منه
صدقاً ، كما إذا علم بوجوب الإطعام إمّا لطبيعيّ الحيوان ، أو لنوعٍ خاصٍّ منه
كالإنسان ، فإنّ الحيوان والإنسان كمفهومَين متغايران وإن كان أحدهما أعمّ من
الآخر صدقاً.
والصحيح أن يقال :
إنّ التغاير بين المفهومين تارةً يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ ، كما
في الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللَفِّ
والإجمال. واخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرّد إجمال اللحاظ وتفصيليته
، كما لو علم بوجوب إكرام زيدٍ كيفما اتّفق أو بوجوب إطعامه ، فإنّ مفهوم الإكرام
ليس محفوظاً في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع ، غير أنّ أحدهما أعمّ من
الآخر صدقاً.
فالحالة الاولى
تدخل في نطاق الدوران بين الأقلِّ والأكثر حقيقةً إذا أخذنا بالاعتبار مقدار ما
يدخل في العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ؛ لأنّ تباين المفهومين إنمّا
هو بالإجمال والتفصيل ، وهما من خصوصيات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة ، وإنمّا
يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردّد بين الأقلّ ـ وهو الجنس ـ أو الأكثر وهو النوع.
وأمّا الحالة
الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ ، لا في كيفية لحاظهما ،
ومن هنا كان الدوران فيها دوراناً بين المتباينين ؛ لأنّ الداخل في العهدة إمّا
هذا المفهوم ، أو ذاك ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي ثابت ، ولكن مع هذا تجري
البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقاً ، ولا تعارضها
البراءة عن وجوب
أعمّهما ؛ وفقاً للجواب الأخير من الأجوبة المتقدمة على البرهان الأول في المسألة
الاولى من مسائل الدوران بين الأقلّ والاكثر الارتباطيين.
وذلك : أنّ
البراءة عن وجوب الأعمّ ليس لها دور معقول لكي تصلح للمعارضة ؛ لأنّه إن اريد بها
التأمين في حالة ترك الأعمِّ مع الإتيان بالأخصِّ فهو غير معقول ؛ لأنّ نفي الأعمّ
يتضمّن نفي الأخصّ لا محالة. وإن اريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ بما يتضمّنه
من ترك الأخصّ فهذا مستحيل ؛ لأنّ المخالفة القطعية ثابتة في هذه الحالة ، والأصل
العمليّ إنمّا يؤمِّن عن المخالفة الاحتمالية ، لا القطعية.
٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي
ونتكلّم في حكم
هذا الدوران على عدّة مبانٍ في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في
المقام :
فأولاً
: نبدأ بالمبنى
القائل : بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين وشرط كلٍّ منهما ترك متعلّق
الآخر ، وهذا يعني أنّ «العتق» ـ مثلاً ـ الذي علم وجوبه إمّا تعييناً أو تخييراً
واجب في حالة ترك «الإطعام» بلا شك ، ويشكّ في وجوبه حالة وقوع الإطعام ، فتجري
البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عملياً.
وقد يقال كما في
بعض إفادات المحقّق العراقي : إنّ كلاًّ من الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري
فيه حيثية إلزامية يفقدها الآخر ، فيكون كلّ منهما مجرىً للأصل النافي ويتعارض
الأصلان.
أمّا الحيثية
الإلزامية في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي
الإلزام بالعتق حتّى ممّن أطعم ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.
وأمّا الحيثية
الإلزامية في الوجوب التخييري للعتق أو الإطعام التي يجري الأصل النافي للوجوب
التخييري تأميناً عنها فهي تحريم ضمِّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمِّ
تتحقّق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على
الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقةً بنفس ترك العتق ،
__________________
ولا يكون هناك بأس
في ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ؛ لأنّه من ضمِّ ترك المباح إلى ترك الواجب ،
فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك
العتق.
وهذا البيان وإن
كان يثبت علماً إجمالياً بإحدى حيثيتين إلزاميّتين ولكنّ هذا العلم غير منجِّز ،
بل منحلّ حكماً ؛ لجريان البراءة الاولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ؛ لأنّ
فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعية ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعية
، بخلاف فرض جريان البراءة الاولى فإنّه فرض المخالفة الاحتمالية.
وثانياً
: نأخذ المبنى
القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والحكم حينئذٍ هو الحكم في
المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين إكرام زيدٍ مطلقاً وإطعامه خاصّة.
وثالثاً
: نأخذ المبنى
القائل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميّين للمولى غير أنّهما
متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يُعجِز المكلّف عن استيفاء
الآخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كلٍّ من الفعلين مشروطاً بترك الآخر ، والحكم هنا
أصالة الاشتغال ؛ لأنّ مرجع الشكّ في وجوب العتق تعييناً أو تخييراً حينئذٍ إلى
الشكّ في أنّ الإطعام هل يُعجِز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ؛ فيكون من
الشكّ في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال؟
ملاحظات عامّة حول الأقلِّ والأكثر
فرغنا من المسائل
الأساسية في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا أن نذكر في
ختام مسائل هذا الدوران ملاحظاتٍ عامّةً حول الأقلِّ والأكثر :
١ ـ دور الاستصحاب في هذا الدوران :
قد يتمسّك
بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارةً لإثبات وجوب الاحتياط ، واخرى لإثبات نتيجة
البراءة.
أمّا التمسّك به
على الوجه الأوّل فبدعوى : أنّا نعلم بجامع وجوبٍ مردّدٍ بين فردين من الوجوب ،
وهما : وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالإتيان بالأقلّ ، ووجوب
العشرة لا يسقط بذلك ، فاذا أتى المكلف بالأقلِّ شكّ في سقوط الجامع وجرى استصحابه
، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي.
والجواب على ذلك :
أنّ استصحاب جامع الوجوب إن اريد به إثبات وجوب العشرة ـ لأنّ ذلك هو لازم بقائه ـ
فهذا من الاصول المثبتة ؛ لأنّه لازم عقليّ لا يثبت بالاستصحاب. وإن اريد به
الاقتصار على إثبات جامع الوجوب فهذا لا اثر له ؛ لأنّه لا يزيد على العلم
الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا أنّ العلم به لا ينجِّز سوى الأقلّ ، والأقلّ
حاصل في المقام بحسب الفرض.
وأمّا التمسّك به
على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت ، أو في صدر
عصر التشريع. ولا يعارض باستصحاب عدم
الوجوب الاستقلالي
للأقل ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ؛ لأنّه إن اريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة
فهو مثبت. وإن اريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ فهو غير صحيح ؛ لأنّ فرض ترك
الأقلّ هو فرض المخالفة القطعية ، ولا يصحّ التأمين بالأصل العملي إلاّعن المخالفة
الاحتمالية.
٢ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية :
إذا تردّد أمر
شيءٍ بين كونه جزءاً من الواجب أو مانعاً عنه فمرجع ذلك إلى العلم الإجمالي بوجوب
زائدٍ متعلّقٍ إمّا بالتقيّد بوجود ذلك الشيء ، أو بالتقيّد بعدمه ، وفي مثل ذلك
يكون هذا العلم الإجمالي منجِّزاً ، وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة
البراءة عن المانعية ، فيجب على المكلف الاحتياط بتكرار العمل مرّةً مع الإتيان
بذلك الشيء ، ومرّةً بدونه.
هذا فيما إذا كان
في الوقت متّسع ، وإلاّ جازت المخالفة الاحتمالية بملاك الاضطرار ، وذلك بالاقتصار
على أحد الوجهين.
وقد يقال : إنّ
العلم الإجمالي المذكور غير منجِّزٍ ، ولا يمنع عن جريان البراءتين معاً ، بناءً
على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي صيغة الميرزا القائلة : بأنّ تعارض الاصول مرهون بأداء جريانها إلى
الترخيص عملياً في المخالفة القطعية ، فإنّ جريان الاصول في المقام لا يؤدّي إلى
ذلك ؛ لأنّ المكلف لا تمكنه المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المذكور ، إذ في حالة
الإتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها
أيضاً ، فلا يلزم من جريان الأصلين معاً ترخيص في المخالفة القطعية.
__________________
فإن قيل : ألا
تحصل المخالفة القطعية لو ترك المركّب رأساً؟!
قلنا : نعم تحصل ،
ولكنّ هذا ممّا لا إذن فيه من قبل الأصلين حتى لو جَرَيا معاً.
ولكن يمكن أن يقال
على ضوء صيغة الميرزا : إنّ المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المذكور ممكنة أيضاً
فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّماً بقصد القربة على تقدير
الجزئية ، فإنّ المخالفة القطعية حينئذٍ تحصل بالإتيان به بدون قصد القربة ، ويكون
جريان الأصلين معاً مؤدِّياً إلى الإذن في ذلك ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.
٣ ـ الأقلّ والأكثر في المحرّمات :
كما قد يعلم
إجمالاً بواجبٍ مردّدٍ بين التسعة والعشرة كذلك قد يعلم بحرمة شيءٍ مردّدٍ بين
الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه ،
ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :
فأوّلاً
: وجوب الأكثر هناك
كان هو الأشدّ مؤونةً ، وأمّا حرمة الأكثر هنا فهي الأخفّ مؤونةً ، إذ يكفي في
امتثالها ترك أيّ جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقلّ في باب
الواجب.
وثانياً
: أنّ دوران الحرام
بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ حرمة
الأكثر في قوة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييراً ، وحرمة الأقلّ في قوة وجوب ترك هذا
الجزء بالذات تعييناً ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الأجزاء ووجوب ترك هذا الجزء
بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، لا الدوران بين الأقلّ
والأكثر في الأجزاء أو
الشرائط. والحكم
هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر ، بنفس
البيان الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق بدون أن تعارض بالبراءة
عن الوجوب التخييري.
٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقلِّ والأكثر :
كما يمكن افتراض
الشبهة الحكمية للدوران بين الأقلِّ والأكثر كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعية ،
بأن يكون مردّ الشكّ إلى الجهل بالحالات الخارجية ، لا الجهل بالجعل ، كما إذا علم
المكلف بأنّ مالا يؤكل لحمه مانع في الصلاة وشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا
يؤكل لحمه ، أوْ لا؟ فتجري البراءة عن مانعيّته ، أو عن وجوب تقيّد الصلاة بعدمه
بتعبيرٍ آخر.
وقد يقال كما عن
الميرزا قدسسره : إنّ الشبهة الموضوعية للواجب الضمني لا يمكن تصويرها
إلاّإذا كان لهذا الواجب تعلّقٌ بموضوعٍ خارجي ، كما في هذا المثال. ولكنّ الظاهر
إمكان تصويرها في غير ذلك أيضاً ، وذلك بلحاظ حالات المكلف نفسه ، كما إذا فرضنا
أنّ السورة كانت واجبةً على غير المريض في الصلاة وشكّ المكلف في مرضه ، فإنّ هذا
يعني الشكّ في جزئية السورة ، مع أنّها واجب ضمني لا تعلّقَ له بموضوعٍ خارجي ،
والحكم هو البراءة.
٥ ـ الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط :
كنّا نتكلّم عمّا
إذا شكّ المكلف في جزئية شيءٍ أو شرطيته ـ مثلاً ـ للواجب ، وقد يتّفق العلم
بجزئية شىءٍ أو دخالته في الواجب بوجهٍ من الوجوه ولكن يشكّ
__________________
في شمول هذه
الجزئية لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا
في إطلاق جزئيتها لحالة المرض أو السفر ، ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ
والأكثر بلحاظ هذه الحالة بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئية إطلاق لها وانتهى
الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة ، وهذا على
العموم لا إشكال فيه.
ولكن قد يقع
الإشكال في حالتين من هذه الحالات ، وهما : حالة الشكّ في إطلاق الجزئية لصورة
نسيان الجزء ، وحالة الشكّ في إطلاق الجزئية لصورة تعذّره. ونتناول هاتين الحالتين
فيما يلي تباعاً :
أ ـ الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان :
إذا نسي المكلف
جزءً من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثمّ التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به :
فإن كان لدليل الجزئية إطلاق لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ؛ لأنّه فاقد
للجزء ، من دون فرقٍ بين افتراض ارتفاع النسيان في أثناء الوقت وافتراض استمراره
إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى أنّ الأصل اللفظي في كلّ جزءٍ يقتضي ركنيته ، أي
بطلان المركّب بالإخلال به نسياناً.
وأمّا إذا لم يكن
لدليل الجزئية إطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي فقد يقال بجواز اكتفاء الناسي
بما أتى به ؛ لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان
، والأقلّ واقع والزائد منفيّ بالأصل.
وتوضيح الحال في
ذلك : أنّ النسيان تارةً يستوعب الوقت كلّه ، واخرى يرتفع في أثنائه.
ففي الحالة الاولى
لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يحتمل
التكليف بالأكثر بالنسبة اليه ؛ لأنّ الناسي لا يكلَّف بما نسيه
على أيِّ حال ، بل
هو يعلم إمّا بصحة ما أتى به ، أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشكّ في
وجوبٍ استقلاليٍّ جديدٍ وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه حتى لو منعنا من
البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.
وأمّا في الحالة
الثانية فالتكليف فعليّ في الوقت ، غير أنّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل للصلاة
الناقصة الصادرة حال النسيان ، أو بالصلاة التامّة فقط. والأول معناه اختصاص جزئية
المنسيّ بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئية لحال النسيان ، والدوران
بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامة تعييناً هو من أنحاء الدوران بين الأقلّ
والأكثر ، ويمثِّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثِّل الصلاة التامة الأكثر ، وتجري
البراءة وفقاً للدوران المذكور.
ولكن قد يقال ـ كما
في إفادات الشيخ الأنصاري وغيره ـ بأنّ هذا إنمّا يصحّ فيما إذا كان بالإمكان أن
يكلَّف الناسي بالأقلّ ، فإنّه يدور عنده أمر الواجب حينئذٍ بين الأقلّ والأكثر ،
ولكنّ هذا غير ممكن ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ إن خُصِّص بالناسي فهو محال ؛ لأنّ
الناسي لا يرى نفسه ناسياً ، فلا يمكن لخطابٍ موجّهٍ إلى الناسي أن يصل اليه. وإن
جعل على المكلف عموماً شمل المتذكِّر أيضاً ، مع أنّ المتذكِّر لا يكفي منه الأقلّ
بلا إشكال. وعليه فلا يمكن أن يكون الأقلّ واجباً في حقّ الناسي ، وإنّما المحتمل
إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشكّ في سقوطه بالأقلّ ، وفي
مثل ذلك لا تجري البراءة.
والجواب : أنّ
التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعيّ المكلف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار
المتذكّر على الأقلّ ؛ لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة
__________________
المقرونة بالنسيان
والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منه عدم إمكان الوصول إلى الناسي ؛ لأنّ موضوع
التكليف هو طبيعيّ المكلف ، غاية ما في الأمر أنّ الناسي يرى نفسه آتياً بأفضل
الحصّتين من الجامع ؛ مع أنّه إنّما تقع منه أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.
وهذا الجواب أفضل
ممّا ذكره عدد من المحقّقين في المقام من حلِّ الإشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ
بافتراض خطابين : أحدهما متكفّل بإيجاب الأقلّ على طبيعيّ المكلف ، والآخر متكفّل
بإيجاب الزائد على المتذكِّر. إذ نلاحظ على ذلك : أنّ الأقلّ في الخطاب الأول هل
هو مقيّد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيّد بلحاظ المتذكِّر ومطلق بلحاظ
الناسي ، أو مهمل؟
والأول خلف ، إذ
معناه عدم كون الناسي مكلَّفاً بالأقل. والثاني كذلك ؛ لأنّ معناه كون المتذكِّر
مكلَّفاً بالأقل وسقوط الخطاب الأول بصدور الأقلّ منه.
والثالث رجوع إلى
الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطابٍ آخر يخصّ المتذكِّر.
والرابع غير معقول ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب
والإيجاب فلا يمكن انتفاؤهما معاً.
وعلى هذا الأساس
فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان
البراءة عن الزائد. بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارقٍ يجعل المقام أحقَّ
بالبراءة من حالات الدوران المذكور ، وهو : أنّ العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ
والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علماً إجمالياً منجّزاً.
__________________
وهذه الدعوى لَئِن
قُبِلت في تلك الحالات فهناك سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام ، وعدم إمكان افتراض
علمٍ إجماليٍّ منجِّزٍ هنا ، وهو : أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر في المقام
إنمّا يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض أنّه قد أتى بالأقلِّ في
حالةالنسيان ، وهذا يعني أنّه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم
إجمالاً بوجوب زيارة أحد الإمامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم
الإجمالي غير منجِّزٍ بلا شكٍّ ؛ حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين فضلاً
عمّا اذا كان بين الأقل والأكثر. وخلافاً لذلك حالات الدوران الاعتيادية ، فإنّ
التردّد فيها يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، فاذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجِّزاً.
ب ـ الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر
إذا كان الجزء
جزءاً حتى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكلّ المشتمل عليه لا
يطالب بالناقص ، وإذا كان الجزء جزءاً في حالة التمكّن فقط فهذا يعني أنّه في حالة
العجز لا ضرر من نقصه ، وأنّ العاجز يطالب بالناقص.
والتعذّر تارةً
يكون في جزءٍ من الوقت ، واخرى يستوعبه.
ففي الحالة الاولى
يحصل للمكلف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامة ،
أو بوجوب الصلاة التامة عند ارتفاع العجز ؛ لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطةً في
حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع ، وإلاّ كان متعلقاً بالصلاة التامة عند
ارتفاع التعذّر ، وتجري البراءة حنيئذٍ عن وجوب الزائد وفقاً لحالات الدوران بين
الأقلّ والأكثر.
ويلاحظ : أنّ
التردّد هنا بين الأقلّ والأكثر يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، خلافاً لحال الناسي ؛
لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.
وفي الحالة
الثانية يحصل للمكلف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت ، أو بوجوب القضاء إذا
كان للواجب قضاء ؛ لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطةً في حال التعذّر فالتكليف
متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلاّ كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجِّز.
وليعلم : أنّ
الجزئية في حال النسيان أو في حال التعذّر إنمّا تجري البراءة عند الشكّ فيها إذا
لم يكن بالإمكان توضيح الحال عن طريق الأدلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية
:
أولاً : أن يقوم
دليل خاصّ على إطلاق الجزئية أو اختصاصها ، من قبيل حديث «لا تُعاد الصلاة إلاّمن
خمس ...» .
ثانياً : أن يكون
لدليل الجزئية إطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذّر فيؤخذ بإطلاقه ، ولا مجال
حينئذٍ للبراءة.
ثالثاً : أن لا
يكون لدليل الجزئية إطلاق ؛ بأن كان مجملاً من هذه الناحية وكان لدليل الواجب
إطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأساً ، ففي هذه الحالة يكون دليل
الجزئية مقيِّداً لإطلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث إنّ دليل الجزئية لا يشمل حال
التعذّر أو النسيان فيبقى إطلاق دليل الواجب محكَّماً في هاتين الحالتين ودالاًّ
على عدم الجزئية فيهما.
__________________
٣ ـ الاصول العمليّة ـ
الاستصحاب
أدلّة الاستصحاب.
الاستصحاب أصل أو أمارة؟
أركان الاستصحاب.
مقدار ما يثبت بالاستصحاب.
عموم جريان الاستصحاب.
تطبيقات.
أدلّة الاستصحاب
الاستصحاب قاعدة
من القواعد الاصولية المعروفة ، وقد تقدم في الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه
والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع .
والمهمّ الآن
استعراض أدلّة هذه القاعدة ، ولمّا كان أهمّ أدلّتها الروايات فسنعرض في مايلي
عدداً من الروايات التي استُدلّ بها على الاستصحاب كقاعدةٍ عامة :
[رواية النوم المبطل للوضوء :]
الرواية
الاولى : رواية زرارة قال :
قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا
زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب
الوضوء». قلت : فإن حُرِّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه
قد نام ، حتى يجيء من
__________________
ذلك أمر بيِّن ،
وإلاّ فإنّه على يقينٍ من وضوئه ، ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ ، وإنمّا تنقضه
بيقينٍ آخر» .
وتقريب الاستدلال
: أنّه حكم ببقاء الوضوء مع الشكّ في انتقاضه تمسّكاً بالاستصحاب ، وظهور التعليل
في كونه بأمرٍ عرفيٍّ مركوزٍ يقتضي كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة ، لا
قاعدة مختصّة باب الوضوء ، فيتعيّن حمل اللام في اليقين والشكّ على الجنس ، لا
العهد إلى اليقين والشكّ في باب الوضوء خاصّة. وقد تقدم في الحلقة السابقة تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها وإثبات
كلِّيتها ، فلاحظ.
[رواية دم الرعاف :]
الرواية
الثانية : وهي رواية اخرى
لزرارة كما يلي :
١ ـ قلت : أصاب ثوبي
دم رعاف (أو غيره) أو شيء من منيّ ، فعلَّمت أثره إلى أن اصيب له (من) الماء ،
فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً ، وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟
قال : «تعيد الصلاة وتغسله».
٢ ـ قلت : فإنّي
لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت
وجدته؟ قال : «تغسله وتعيد الصلاة».
٣ ـ قلت : فإن
ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أرَ شيئاً ، ثم صلّيت فرأيت فيه؟.
قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة». قلت : ولم ذلك؟ قال : «لأنّك كنت على يقينٍ من
طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين
__________________
بالشكّ أبداً».
٤ ـ قلت : فإنّي
قد علمت أنّه قد اصابه ، ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال : «تغسل من ثوبك الناحية التي
ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقينٍ من طهارتك».
٥ ـ قلت : فهل
عليَّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال : «لا ، ولكنّك إنمّا تريد أن
تُذهِب الشكّ الذي وقع في نفسك».
٦ ـ قلت : إن
رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضعٍ منه
ثمّ رأيته ، وإن لم تشكَّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على
الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» .
وتشتمل هذه
الرواية على ستة أسئلةٍ من الراوي مع أجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء في الجواب
على السؤال الثالث والسادس ، غير أنّا سنستعرض فقه الأسئلة الستّة وأجوبتها جميعاً
؛ لِمَا لذلك من دخلٍ في تعميق فهم موضعَي الاستدلال من الرواية.
ففي السؤال الأول
يستفهم زرارة عن حكم مَن علم بنجاسة ثوبه ثمّ نسي ذلك وصلّى فيه وتذكّر الأمر بعد
الصلاة ، وقد أفتى الإمام بوجوب إعادة الصلاة ؛ لوقوعها مع النجاسة المنسيّة ،
وغسل الثوب.
وفي السؤال الثاني
سأل عمَّن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخِّص موضعه ، فدخل في الصلاة
باحتمال أنّ عدم التشخيص مسوِّغ للدخول
__________________
فيها مع النجاسة
ما دام لم يصبها بالفحص ، وقوله : «فطلبته ولم اقدر عليه» إنمّا يدلّ على ذلك ،
ولا يدلّ على أنّه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فإنّ عدم القدرة غير حصول
التشكيك ، في الاعتقاد السابق ولا يستلزمه ، وقد أفتى الإمام بلزوم الغسل والإعادة
؛ لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة إجمالاً.
وفي السؤال الثالث
افترض زرارة أنّه ظنّ الإصابة ففحص فلم يجد ، فصلّى فوجد النجاسة ، فأفتى الإمام
بعدم الإعادة ، وعلّل ذلك بأ نّه كان على يقينٍ من الطهاره فشكّ ، ولا ينبغي نقض
اليقين بالشكّ.
وهذا المقطع هو
الموضع الأول للاستدلال ، وفي بادئ الأمر يمكن طرح أربع فرضياتٍ في تصوير الحالة
التي طرحت في هذا المقطع :
الفرضية
الاولى : أن يفرض حصول
القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان ، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة
بأنّ النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أوّلاً. وهذه الفرضية غير منطبقةٍ على
المقطع جزماً ؛ لأنّها لا تشتمل على شكٍّ لا قبل الصلاة ولا بعدها ، مع أنّ الامام
قد افترض الشكّ وطبَّق قاعدةً من قواعد الشكّ.
الفرضية
الثانية : أن يفرض حصول
القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشكّ عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في
أنّها تلك ، أو نجاسة متأخّرة.
وهذه الفرضية تصلح
لإجراء الاستصحاب فعلاً في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلف على يقينٍ من عدم النجاسة قبل
ظنّ الإصابة فيستصحب. كما أنّها تصلح لإجراء قاعدة اليقين فعلاً في ظرف السؤال ؛
لأنّ المكلف كان على يقينٍ من الطهارة بعد الفحص وقد شكّ الآن في صحة يقينه هذا.
الفرضية
الثالثة : عكس الفرضية
السابقة ، بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجدان
النجاسة بأنّها ما فحص عنه. وفي
مثل ذلك لا يمكن
إجراء أيّ قاعدةٍ للشكّ فعلاً في ظرف السؤال ؛ لعدم الشكّ ، وإنمّا الممكن جريان
الاستصحاب في ظرف الفحص والإقدام على الصلاة.
الفرضية
الرابعة : عكس الفرضية
الاولى ، بافتراض الشكّ حين الفحص وحين الوجدان. ولا مجال حينئذٍ لقاعدة اليقين ،
إذ لم يحصل شكّ في خطأ يقينٍ سابق ، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال
السؤال معاً.
ومن هنا يعرف أنّ
الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب موقوف على حمله على إحدى الفرضيّتين
الأخيرتين ، أو على الفرضية الثانية مع استظهار إرادة الاستصحاب.
وفي السؤال الرابع
سأل عن حالة العلم الإجمالي بالنجاسة في الثوب ، واجيب بلزوم الاعتناء والاحتياط.
وفي السؤال الخامس
سأل عن وجوب الفحص عند الشكّ ، واجيب بالعدم.
وفي السؤال السادس
يقع الموضع الثاني من الاستدلال بالرواية ، حيث إنّه سأل عمّا إذا وجد النجاسة في
الصلاة ، فاجيب : بأ نّه إذا كان قد شكّ في موضعٍ منه ثمّ رآه قطع الصلاة وأعادها.
وإذا لم يشكَّ ثمّ رآه رطباً غسله وبنى على صلاته ؛ لاحتمال عدم سبق النجس ، ولا
ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.
ويحتمل أن يراد
بالشِقِّ الأول صورة العلم الإجمالي ، وبالشِقِّ الثاني المبدوء بقوله : «وإن لم
تشكَّ» صورة الشكّ البدوي.
ويحتمل أن يراد
بالشِقِّ الأول صورة الشكّ البدوي السابق ، ثمّ وجدان نفس ما كان يشكّ فيه ،
وبالشقِّ الثاني صورة عدم وجود شكٍّ سابقٍ ، ومفاجأة النجاسة للمصلّي في الأثناء.
ولكلٍّ من الاحتمالين معزِّزات ، والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين ، وهي :
أنّ النجاسة المرئيّة في أثناء الصلاة إذا علم بسبقها بطلت الصلاة ، وإلاّ جرى
استصحاب الطهارة وكفى غسلها وإكمال الصلاة.
وقد ادُّعي في
كلمات الشيخ الأنصاري وقوع التعارض بين هذه الفتوى في الرواية والفتوى الواقعة في
جواب السؤال الثالث إذا حملت على الفرضية الثالثة ، إذ في كلتا الحالتين وقعت
الصلاة في النجاسة جهلاً إمّا بتمامها ـ كما في مورد السؤال الثالث ـ أو بجزءٍ
منها ، كما في مورد السؤال السادس ، فكيف حكم بصحة الصلاة في الأول وبطلانها في
الثاني؟!
والجواب : أنّ كون
النجاسة قد انكشفت وعلمت في أثناء الصلاة قد يكون له دخل في عدم العفو عنها ، فلا
يلزم من العفو عن نجاسةٍ لم تعلم أثناء الصلاة العفو عن نجاسةٍ علمت كذلك.
هذا حاصل الكلام
في فقه الرواية.
وأمّا تفصيل
الكلام في موقعَي الاستدلال فيقع في مقامين :
المقام
الأول : في الموقع الأول ،
والكلام فيه في جهات :
الاولى
: أنّ الظاهر من
جواب الإمام تطبيق الاستصحاب ، لاقاعدة اليقين ؛ وذلك لأنّ تطبيق الإمام لقاعدةٍ
على السائل متوقّف على أن يكون كلامه ظاهراً في تواجد أركان تلك القاعدة في حالته
المفروضة ، ولا شكّ في ظهور كلام السائل في تواجد أركان الاستصحاب من اليقين بعدم
النجاسة حدوثاً والشكّ في بقائها. وأمّا تواجد أركان قاعدة اليقين فهو متوقّف على
أن يكون قوله : «فنظرت فلم أرَ شيئاً ...» مفيداً لحصول اليقين بعدم النجاسة حين
الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجدان ، وأن يكون قوله : «فرأيت فيه» مفيداً لرؤية
نجاسةٍ يشكّ في كونها هي المفحوص عنها سابقاً. مع أنّ العبارة الاولى ليست ظاهرةً
عرفاً في افتراض حصول اليقين حتّى لو سلّمنا ظهور العبارة الثانية في الشكّ.
__________________
الجهة
الثانية : أنّ الاستصحاب هل
اجري بلحاظ حال الصلاة ، أو بلحاظ حال السؤال؟.
وتوضيح ذلك : أنّ
قوله : «فرأيت فيه» إن كان ظاهراً في رؤية نفس ما فحص عنه سابقاً فلا معنى لإجراء
الاستصحاب فعلاً ، كما أنّ قوله : «فنظرت فلم أرَ شيئاً» إذا كان ظاهراً في حصول
اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.
والصحيح : أنّه لا
موجب لحمل قوله : «فرأيت فيه» على رؤية ما يعلم بسبقه ، فإنّ هذه عناية إضافية
تحتاج إلى قرينةٍ عند تعلّق الغرض بإفادتها ، ولا قرينة ، بل حَذْفُ المفعول بدلاً
عن جعله ضميراً راجعاً إلى النجاسة المعهود ذكرها سابقاً يشهد لعدم افتراض اليقين
بالسبق.
وعليه فالاستصحاب
جارٍ بلحاظ حال السؤال ، ويؤيّد ذلك أنّ قوله : «فنظرت فلم أر شيئاً» وإن لم يكن
له ظهور في حصول اليقين ولكنّه ليس له ظهور في خلاف ذلك ؛ لأنّ إفادة حصوله بمثل
هذا اللسان عرفية ، فكيف يمكن تحميل السائل افتراض الشكّ حال الصلاة وإفتاؤه بجريان
الاستصحاب حينها؟!
وليس في مقابل
تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال السؤال إلاّاستبعاد استغراب زرارة من
الحكم بصحة الصلاة حينئذٍ ؛ لأنّ فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة ، فأيّ
استبعادٍ في أن يحكم بعدم إعادة صلاةٍ لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟! فالاستبعاد
المذكور قرينة على أنّ المفروض حصول اليقين للسائل بعد الصلاة بسبق النجاسة ، ومن
هنا استغرب الحكم بصحتها ، وهذا يعني أنّ إجراء الاستصحاب إنمّا يكون بلحاظ حال
الصلاة ، لا حال السؤال.
ولكن يمكن الردّ
على هذا الاستبعاد : بأ نّه لا يمتنع أن يكون ذهن زرارة مشوباً بأنّ المسوِّغ
للصلاة مع احتمال النجاسة الظنّ بعدمها الحاصل من الفحص ،
وحيث إنّ هذا
الظنّ يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة على نحوٍ يحتمل سبقها كان زرارة يترقّب أن
لا يكتفى بالصلاة الواقعة.
فإن تمّ هذا الردّ
فهو ، وإلاّ ثبت تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ، ويصل
الكلام حينئذٍ إلى الجهة الثالثة.
الجهة
الثالثة : أنّا إذا افترضنا
كون النجاسة المكشوفة معلومةَ السبق ، وأنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ حال الصلاة
فكيف يستند في عدم وجوب الإعادة إلى الاستصحاب ، مع أنّه حكم ظاهريّ يزول بانكشاف
خلافه ، ومع زواله وانقطاعه لا يمكن أن يرجع إليه في نفي الإعادة؟!
وقد اجيب على ذلك
: تارةً بأنّ الاستناد إلى الاستصحاب في عدم وجوب الإعادة يصحّ إذا افترضنا ملاحظة
كبرى مستترةٍ في التعليل ، وهي إجزاء امتثال الحكم الظاهري عن الواقع. واخرى بأنّ
الاستناد المذكور يصحّ إذا افترضنا أنّ الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابية بنفسها
تحقِّق فرداً حقيقياً من الشرط الواقعي للصلاة ، بأن كان الشرط الواقعي هو الجامع
بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، إذ بناءً على ذلك تكون الصلاة واجدةً
لشرطها حقيقةً.
الجهة
الرابعة : أنّه بعد الفراغ
عن دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب نقول : إنّه ظاهر في جعله على نحو القاعدة
الكلّية ، ولا يصحّ حمل اليقين والشكّ على اليقين بالطهارة والشكّ فيها خاصّة ؛
لنفس ما تقدم من مبرِّرٍ للتعميم في الرواية السابقة ، بل هو هنا أوضح ؛ لوضوح
الرواية في أنّ فقرة الاستصحاب وردت تعليلاً للحكم ، وظهور كلمة «لا ينبغي» في
الإشارة إلى مطلبٍ مركوزٍ وعقلائي. وعلى هذا فدلالة المقطع المذكور على المطلوب
تامة.
المقام
الثاني : في الموقع الثاني
من الاستدلال ، وهو قوله : «وإن لم تشكّ ...» في جواب السؤال السادس.
وتوضيح الحال في
ذلك : أنّ عدم الشك هنا تارةً يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة ، واخرى بمعنى عدم
الشكّ الفعلي الملائم مع الغفلة والذهول أيضاً.
فعلى الأول : تكون
أركان الاستصحاب مفترضةً في كلام السائل ، وكذلك أركان قاعده اليقين. أمّا
الافتراض الأول فواضح ، وأمّا الافتراض الثاني فلأن اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب
الفرض من قوله : «وإن لم تشكَّ» ، والشكّ في خطأ ذلك اليقين قد تولَّد عند رؤية
النجاسة أثناء الصلاة مع احتمال سبقها.
وعليه فكما يمكن
تنزيل القاعدة في جواب الإمام على الاستصحاب كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين ،
غير أنّه يمكن تعيين الأول بلحاظ ارتكازية الاستصحاب ومناسبة التعليل والتعبير ب «لا
ينبغي» لكون القاعدة مركوزة ، وأمّا قاعدة اليقين فليست مركوزة.
هذا ، مضافاً إلى
أنّ استعمال نفس التركيب الذي اريد منه الاستصحاب في جواب السؤال الثالث في نفس
الحوار يعزِّز بوحدة السياق أن يكون المقصود واحداً في المقامين.
وعلى الثاني يكون
الحمل على الاستصحاب أوضح ، إذ لم يفرض حينئذٍ في كلام الإمام اليقين بعدم النجاسة
حين الصلاة لكي تكون أركان قاعدة اليقين مفترضة ، فيتعيّن بظهور الكلام حمل
القاعدة المذكورة على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب. وهكذا تتّضح دلالة
المقطع الثاني على الاستصحاب أيضاً.
[رواية الشكّ في الركعات :]
الرواية
الثالثة : وهي رواية زرارة ،
عن أحدهما عليهماالسلام قال : قلت له : من لم يدرِ في أربعٍ هو أم في ثنتين وقد
أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع
سجداتٍ وهو قائم
بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد
أحرز الثلاث قام فأضاف اليها ركعةً اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ،
ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ،
ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حالٍ من الحالات» .
وفقرة الاستدلال
في هذه الرواية تماثل ما تقدم في الروايتين السابقتين ، وهي قوله : «ولا ينقض
اليقين بالشكّ ...».
وتقريبه : أنّ
المكلف في الحالة المذكورة على يقينٍ من عدم الإتيان بالرابعة في بادئ الأمر ، ثمّ
يشكّ في إتيانها ، وبهذا تكون أركان الاستصحاب تامّةً في حقّه ، فيجري استصحاب عدم
الإتيان بالركعة الرابعة. وقد أفتاه الإمام عليهالسلام على هذا الأساس بوجوب الإتيان بركعةٍ عند الشكّ المذكور ،
واستند في ذلك إلى الاستصحاب المذكور معبِّراً عنه بلسان «ولا ينقض اليقين بالشكّ».
ولكن يبقى على هذا
التقريب أن يفسَّر لنا النكتة في تلك الجمل المتعاطفة بما استعملته من ألفاظٍ
متشابهة ، من قبيل : عدم إدخال الشكّ في اليقين ، وعدم خلط أحدهما بالآخر ، فإنّ
ذلك يبدو غامضاً بعض الشيء.
وقد اعترض على
الاستدلال المذكور باعتراضات :
الأول
: دعوى أنّ اليقين
والشكّ في فقرة الاستدلال لا ظهور لهما في ركني الاستصحاب ، بل من المحتمل أن يراد
بهما اليقين بالفراغ والشكّ فيه. ومحصّل الجملة حينئذٍ : أنّه لا بدّ من تحصيل
اليقين بالفراغ ، ولا ينبغي رفع اليد عن ذلك بالشكّ ومجرّد احتمال الفراغ ، وهذا
أجنبيّ عن الاستصحاب.
__________________
والجواب : أنّ هذا
الاحتمال مخالف لظاهر الرواية ؛ لظهورها في افتراض يقينٍ وشكٍّ فعلاً ، وفي أنّ
العمل بالشكّ نقض لليقين وطعن فيه ، مع أنّه بناءً على الاحتمال المذكور لا يكون
اليقين فعلياً ، ولا يكون العمل بالشكّ نقضاً لليقين ، بل هو نقض لحكم العقل بوجوب
تحصيله.
الثاني
: أنّ تطبيق
الاستصحاب على مورد الرواية متعذّر فلابدّ من تأويلها ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب ليست
وظيفته إلاّإحراز مؤدّاه والتعبّد بما ثبت له من آثارٍ شرعية. وعليه فإن اريد في
المقام باستصحاب عدم إتيان الرابعة التعبّد بوجوب إتيانها موصولةً ـ كما هو الحال
في غير الشاكّ ـ فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ، ولكنّه باطل من الناحية الفقيهة
جزماً ؛ لاستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة. وإن اريد بالاستصحاب المذكور
التعبّد بوجوب إتيان الركعة مفصولةً فهذا يخالف وظيفة الاستصحاب ؛ لأنّ وجوب
الركعة المفصولة ليس من آثار عدم الإتيان بالركعة الرابعة لكي يثبت باستصحاب العدم
المذكور ، وإنمّا هو من آثار نفس الشكّ في إتيانها.
وقد اجيب على هذا
الاعتراض بأجوبة :
منها : ما ذكره
المحقّق العراقي من اختيار الشقّ الأول ، وحمل تطبيق الاستصحاب المقتضي
للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدّية الكبرى وواقعيتها ، فأصالة الجهة
والجدّ النافية للهزل والتقية تجري في الكبرى دون التطبيق.
فإن قيل : إنّ
الكبرى إن كانت جدّيةً فتطبيقها صوري ، وإن كانت صوريةً فتطبيقها بما لها من
المضمون جدّي ، فأصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ
__________________
في التطبيق.
كان الجواب : أنّ
أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري ، إذ لا أثر لها ؛ للعلم بعدم كونه تطبيقاً جادّاً
لكبرى جادّةٍ على أيّ حال ، فتجري أصالة الجهة في الكبرى بلا معارض.
ولكنّ الإنصاف :
أنّ الحمل على التقية في الرواية بعيد جدّاً ، بملاحظة أنّ الإمام قد تبرّع بذكر
فرض الشكّ في الرابعة ، وأنّ الجمل المترادفة التي استعملها تدلّ على مزيد
الاهتمام والتأكيد بنحوٍ لا يناسب التقية.
ومنها : ما ذكره
صاحب الكفاية رحمهالله من : أنّ عدم الإتيان بالركعة الرابعة له أثران : أحدهما
وجوب الإتيان بركعة ، والآخر مانعية التشهّد والتسليم قبل الإتيان بهذه الركعة.
ومقتضى استصحاب العدم المذكور التعبّد بكلا الأثرين ، غير أنّ قيام الدليل على فصل
ركعة الاحتياط يخصِّص دليل الاستصحاب ويصرفه إلى التعبّد بالأثر الأول لمؤدّاه دون
الثاني ، فإجراء الاستصحاب مع التبعيض في آثار المؤدّى صحيح.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ مانعية التشهّد والتسليم إذا كانت ثابتةً في الواقع على تقدير عدم الإتيان
بالرابعة فلا يمكن إجراء الاستصحاب مع التبعيض في مقام التعبّد بآثار مؤدّاه ؛
لأنّ المكلف يعلم حينئذٍ وجداناً بأنّ الركعة المفصولة التي يأتي بها ليست مصداقاً
للواجب الواقعي ؛ لأنّ صلاته التي شكّ فيها إن كانت أربع ركعاتٍ فلا أمر بهذه الركعة
، وإلاّ فقد بطلت بما أتى به من المانع بتشهّده وتسليمه ؛ لأنّ المفروض انحفاظ
المانعية واقعاً على تقديرالنقصان.
وإذا افترضنا أنّ
مانعية التشهّد والتسليم ليست من آثار عدم الإتيان في
__________________
حالة الشكّ فهذا
يعني أنّ الشكّ في الرابعة أوجب تغيّراً في الحكم الواقعي وتبدّلاً لمانعية
التشّهد والتسليم إلى نقيضها ، وذلك تخصيص في دليل المانعية الواقعية ، ولا يعني
تخصيصاً في دليل الاستصحاب كما ادّعي في الكفاية.
ومنها : ما ذكره
المحقّق النائيني ـ قدس الله روحه ـ من افتراض أنّ عدم الإتيان بالرابعة مع
العلم بذلك موضوع واقعاً لوجوب الركعة الموصولة ، وعدم الإتيان بها مع الشكّ موضوع
واقعاً لوجوب الركعة المفصولة. وعلى أساس هذا الافتراض إذا شكّ المكلف في الرابعة
فقد تحقّق أحد الجزءين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجداناً وهو الشكّ ، وأمّا الجزء
الآخر ـ وهو عدم الإتيان ـ فيحرز بالاستصحاب ، وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات وجوب
الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتاً على النحو المذكور.
وهذا التصحيح
للاستصحاب في المورد وإن كان معقولاً غير أنّ حمل الرواية عليه خلاف الظاهر ؛
لأنّه يستبطن افتراض حكمٍ واقعيٍّ بوجوب الركعة المفصولة على الموضوع المركّب من
عدم الإتيان والشكّ ، وهذا بحاجةٍ إلى البيان ، مع أنّ الإمام اقتصر على بيان
الاستصحاب على الرغم من أنّ ذلك الحكم الواقعي المستبطن هو المهمّ ، إذ مع ثبوته
لابدّ من الإتيان بركعةٍ مفصولةٍ حينئذٍ ، سواء جرى استصحاب عدم الإتيان أوْ لا ،
إذ تكفي نفس أصالة الاشتغال والشكّ في وقوع الرابعة للزوم إحرازها. فالعدول في
مقام البيان عن نكتة الموقف إلى ما يستغنى عنه ليس عرفياً.
ومن هنا يمكن أن
يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينةً على حمل الرواية على ما ذكر في الاعتراض الأول ،
وإن كان خلاف الظاهر في نفسه. وبالحمل
__________________
على ذلك يمكن أن
نفسِّر النهي عن خلط اليقين بالشكّ وإدخال أحدهما بالآخر بأنّ المقصود : التنبيه
بنحوٍ يناسب التقية على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة.
الثالث
: أنّ حمل الرواية
على الاستصحاب متعذّر ؛ لأنّ الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتّى لو بني على
إضافة الركعة الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق ؛ لأنّ الواجب إيقاع التشهّد
والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الإتيان بالرابعة يثبت وجوب
الإتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لإثبات كونها رابعةً بذلك الاستصحاب ؛
لأنّ كونها كذلك لازم عقليّ للمستصحَب فلا يثبت ، فلا يُتاح للمصلّي إذا تشهّد
وسلّم حينئذٍ [إثبات] أنّه قد أوقع ذلك في آخر الركعة الرابعة.
وقد أجاب السيّد
الاستاذ على ذلك : بأنّ المصلّي بعد أن يستصحب عدم الإتيان ويأتي
بركعةٍ يتيقّن بأ نّه قد تلبّس بالركعة الرابعة ، ويشكّ في خروجه منها إلى الخامسة
، فيستصحب بقاءه في الرابعة.
ونلاحظ على هذا
الجواب : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ؛ لأنّه يعلم
إجمالاً بأ نّه إمّا الآن أو قبل إيجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في
الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.
كما يلاحظ على أصل
الاعتراض : بأنّ إثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس أمراً محالاً ، بل محتاجاً
إلى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت
بنفسها دليلاً على الإثبات المذكور.
__________________
[رواية إعارة الثوب للذمّي :]
الرواية
الرابعة : وهي رواية عبدالله
بن سنان ، قال : سأل أبي أبا عبدالله عليهالسلام وأنا حاضر : إنّي اعير الذمّيّ ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليَّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه. فقال أبو
عبدالله عليهالسلام : «صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك اعرته إيّاه وهو
طاهر ولم تستيقن أنّه نجَّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجَّسه» .
ولا شكّ في ظهور
الرواية في النظر إلى الاستصحاب ، لاقاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة في
مقام التعليل ، إذ قال : «فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر» ، فتكون دالّةً على
الاستصحاب.
نعم ، لا عموم في
مدلولها اللفظي ، ولكن لايبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل ،
وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابية المركوزة عرفاً.
هذا هو المهمّ من
روايات الباب ، وهو يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب.
وبعد إثبات هذه
الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات ، إذ نتكلّم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث
كونها أمارةً أو أصلاً ، وكيفية الاستدلال بها ، ثمّ في أركانها ، ثمّ في مقدار
وحدود ما يثبت بها من آثار ، ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكلّ مورد ، ثمّ
في جملةٍ من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها. فالبحث إذن يكون في خمسة
مقاماتٍ كما يلي.
__________________
الاستصحاب أصل أو أمَارة؟
قد عرفنا سابقاً الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات
والحكم الظاهري في باب الاصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّية المحتمل
كان أصلاً ، وكلّما كان الملحوظ قوة الاحتمال وكاشفيته محضاً كان المورد أمارة.
وعلى هذا الضوء
إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبةً في تعيين هويّتها
ودخولها تحت أحد القسمين ؛ وذلك لأنّ إدخالها في نطاق الأمارات يعني افتراض كاشفية
الحالة السابقة وقوة احتمال البقاء ، مع أنّ هذه الكاشفية لا واقع لها ـ كما عرفنا
في الحلقة السابقة ـ ولهذا أنكرنا حصول الظنّ بسبب الحالة السابقة. وإدخالها
في نطاق الاصول يعني أنّ تفوّق الأحكام المحتملة البقاء على الأحكام المحتملة
الحدوث في الأهمّية أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع أنّ الأحكام
المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهوية والنوعية ، فهي تارةً وجوب ، واخرى حرمة ،
وثالثةً إباحة ، وكذلك الأمر في ما يحتمل حدوثه ، فلا معنى لأن يكون سبب تفضيل
الأخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الأحكام التي يحتمل بقاؤها.
وبعبارةٍ اخرى :
أنّ ملاك الأصل ـ وهو رعاية أهمّية المحتمل ـ يتطلّب أن يكون نوع الحكم الملحوظ
محدّداً ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في أصالة الحلّ ، ونوع الحكم
الإلزامي الملحوظ في أصالة الاحتياط. وأمّا إذا كان
__________________
نوع الحكم غير
محدَّدٍ وقابلاً للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.
وحلُّ الإشكال : أنّه
بعد أن عرفنا أنّ الأحكام الظاهرية تقرِّر دائماً نتائج التزاحم بين الأحكام
والملاكات الواقعية في مقام الحفظ عند الاختلاط فبالإمكان أن نفترض أنّ المولى قد
لا يجد في بعض حالات التزاحم قوةً تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس
الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتةً نفسيةً في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
ففي محلّ الكلام
حينما يلحظ المولى حالات الشكّ في البقاء لا يجد أقوائية ، لا للمحتمل إذ لا تعيّن
له ، ولا للاحتمال إذ لا كاشفية ظنّية له ، ولكنّه يرجِّح احتمال البقاء لنكتةٍ
نفسيةٍ ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العامّ إلى الأخذ بالحالة السابقة ، ولا
يخرج الحكم المجعول على هذا الأساس عن كونه حكماً ظاهرياً طريقياً ؛ لأنّ النكتة
النفسية ليست هي الداعي لأصل جعله ، بل هي الدخيلة في تعيين كيفية جعله.
وعلى هذا الأساس
يكون الاستصحاب أصلاً ؛ لأنّ الميزان في الأصل الذي لا تثبت به اللوازم على
القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوة الاحتمال محضاً ، سواء كان الملحوظ فيه قوة
المحتمل أو نكتةً نفسية ؛ لأنّ النكتة النفسية قد لا تكون منطبقةً إلاّعلى المدلول
المطابقي للأصل ، فلا يلزم من التعبد به التعبّد باللوازم.
كيفية الاستدلال بالاستصحاب :
وقد يتوهّم أنّ
النقطة السابقة تؤثّر في كيفية الاستدلال بالاستصحاب وبالتالي في كيفية علاج
تعارضه مع سائر الأدلّة ، فإن افترضنا أنّ الاستصحاب أمارة وأنّ المعوَّل فيه على
كاشفية الحالة السابقة كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليلية خبر الثقة ،
ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الأمارة الاستصحابية وما يعارضها من أصالة
الحلّ مثلاً ، فيقدّم الاستصحاب بالأخصّية
على دليل أصالة
الحلّ ، كما وقع في كلام السيد بحر العلوم انسياقاً مع هذا التصور.
وإن افترضنا
الاستصحاب أصلاً عملياً وحكماً تعبّدياً مجعولاً في دليله فالمدرك حينئذٍ لبقاء
المتيقّن عند الشكّ نفس ذلك الدليل ، لا أماريّة الحالة السابقة ، وعند التعارض
بين الاستصحاب وأصالة الحلّ يجب أن تلحظ النسبة بين دليل الاستصحاب ـ وهو مفاد
رواية زرارة مثلاً ـ ودليل أصالة الحلّ ، وقد تكون النسبة حينئذٍ العموم من وجه.
وهذا التوهّم باطل
، فإنّ ملاحظة نسبة الأخصّية والأعميّة بين المتعارضين وتقديم الأخصّ من شؤون
الكلام الصادر من متكلّمٍ واحدٍ خاصّة ، حيث يكون الأخصّ قرينةً على الأعمّ بحسب
أساليب المحاورة العرفية ، ولمّا كانت حجّية كلّ ظهورٍ منوطةً بعدم ثبوت القرينة
على خلافه كان الخبر المتكفّل للكلام الأخصّ مثبتاً لارتفاع الحجّية عن ظهور الكلام
الأعمّ في العموم. وليست الأخصّية في غير مجال القرينيّة ملاكاً لتقديم إحدى
الحجّتين على الاخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد أنّه إذا دلّت بيّنة على أنّ كلّ ما في
الدار نجس ، ودلّت اخرى على أنّ شيئاً منه طاهر قدِّمت الثانية للأخصّية ، بل يقع
التعارض ، إذ لا معنى للقرينية مع فرض صدور الكلامين من جهتين.
وعلى هذا ففي
المقام سواء قيل بأماريّة الاستصحاب أو أصليّته لا معنى لتقديمه بالأخصّية
الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من
دليل الأصل أو دليل حجّية الأمارة ، فإن كان أخصّ قُدِّم بالأخصّية ؛ لأنّ مفاد
الأدلّة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخصَّ من الآخر قُدِّم بالأخصّية.
__________________
أركان الاستصحاب
وللاستصحاب على ما
يستفاد من أدلّته المتقدمة أربعة أركان ، وهي : اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء
، ووحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات
أثرٍ عمليٍّ مصحِّحٍ للتعبّد بها. وسنتكلّم عن هذه الأركان في ما يلي تباعاً إن
شاء الله تعالى :
أ ـ اليقين بالحدوث :
ذهب المشهور إلى
أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوِّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ مجرّد ثبوت الحالة
السابقة في الواقع لا يكفي لفعلية الحكم الاستصحابي لها ، وإنمّا يجري الاستصحاب
إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ، وذلك لأنّ اليقين قد اخذ في موضوع الاستصحاب في
ألسنة الروايات ، وظاهر أخذه كونه مأخوذاً على نحو الموضوعية لا الطريقية إلى صرف
ثبوت الحالة السابقة.
نعم ، في رواية
عبدالله بن سنان المتقدمة علَّل الحكم الاستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله : «لأنّك
أعرته إيّاه وهو طاهر» ، لا باليقين بها ، وهو ظاهر في ركنية المتيقّن لا اليقين ،
وتصلح أن تكون قرينةً على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقية إذا تمّ
الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّية.
وقد نشأت مشكلة من
افتراض ركنيّة اليقين بالحدوث ، وهي : أنّه إذا كان ركناً فكيف يمكن إجراء
الاستصحاب فيما هو ثابت بالأمارة إذا دلّت الأمارة على حدوثه وشككنا في بقائه ، مع
أنّه لا يقين بالحدوث ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة ثوبٍ وشكّ في تطهيره ، أو
على نجاسة الماء المتغيّر في الجملة وشكّ
في بقاء النجاسة
بعد زوال التغير؟
وقد افيد في جواب
هذه المشكلة عدّة وجوه :
الوجه
الأول : ما ذكرته مدرسة
المحقّق النائيني ـ قدّس الله روحه ـ من أنّ الأمارة تعتبر علماً بحكم لسان
دليل حجّيتها ؛ لأنّ دليل الحجّية مفاده جعل الطريقية وإلغاء احتمال الخلاف
تعبّداً ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لحكومة دليل حجّيتها على الدليل
المتكفِّل لجعل الحكم على القطع. ومعنى الحكومة هنا : أنّ دليل الحجّية يحقِّق
فرداً تعبّدياً من موضوع الدليل الآخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الأمارة مقام اليقين
المأخوذ في موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجّيتها على دليله.
وقد تقدّم ـ في
مستهلِّ البحث عن الأدلّة المحرزة من هذه الحلقة ـ المنع عن وفاء دليل حجّية
الأمارة بإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي وعدم صلاحيّته للحاكمية ؛ لأنّها فرع
النظر إلى الدليل المحكوم ، وهو غير ثابت ، فلاحظ.
الوجه
الثاني : ما ذكره صاحب
الكفاية رحمهالله ، وحاصله على ما قيل في تفسيره : أنّ اليقين بالحدوث ليس
ركناً في دليل الاستصحاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.
وقد اعترض السيد
الاستاذ على ذلك : بأنّ مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء
في مرحلة الواقع لزم كونه دليلاً واقعياً على البقاء ، وهو خلف كونه أصلاً عملياً.
ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز
__________________
ـ فكلّما تنجَّز
الحدوث تنجَّز البقاء ـ لزم بقاء بعض أطراف العلم الإجمالي منجَّزةً حتى بعد
انحلاله بعلمٍ تفصيلي ؛ لأنّها كانت منجّزةً حدوثاً ، والمفروض أنّ دليل الاستصحاب
يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجّز.
وهذا الاعتراض
غريب ؛ لأنّ المراد بالملازمة : الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري ،
ومردّ ذلك في الحقيقة إلى التعبّد بالبقاء منوطاً بالحدوث ، فلا يلزم شيء ممّا
ذكر.
والصحيح أن يقال :
إنّ مردَّ هذا الوجه إلى إنكار الأساس الذي نجمت عنه المشكلة ، وهو ركنيّة اليقين
المعتمدة على ظهور أخذه إثباتاً في الموضوعية ، فلابدّ له من مناقشة هذا الظهور ؛
وذلك بما ورد في الكفاية من دعوى : أنّ اليقين باعتبار كاشفيته عن متعلّقه يصلح أن
يؤخذ بما هو معرِّف ومرآة له ، فيكون أخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الأساس
، ومرجعه إلى أخذ الحالة السابقة.
وهذه الدعوى لابدّ
أن تتضمّن ادّعاء الظهور في المعرِّفية ؛ لأنّ مجرّد إبداء احتمال ذلك بنحوٍ مساوٍ
للموضوعية يوجب الإجمال وعدم إمكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود
اليقين.
ويرد عليها : أنّ
المقصود بما ادُّعي إن كان إبراز جانب المرآتية الحقيقيّة لليقين بالنسبة إلى
متيقّنه فمن الواضح أنّها إنمّا تثبت لواقع اليقين في افق نفس المتيقّن الذي يرى
من خلال يقينه متيقّنه دائماً ، وليست هذه المرآتية ثابتةً لمفهوم اليقين ، فمفهوم
اليقين كأيِّ مفهومٍ آخر إنمّا يلحظ مرآةً إلى أفراده ، لا إلى متيقّنه ؛ لأنّ
الكاشفية الحقيقية التي هي روح هذه المرآتية من شؤون واقع اليقين ، لا مفهومه.
__________________
وإن كان المقصود
أخذ اليقين معرِّفاً وكنايةً عن المتيقّن فهو أمر معقول ومقبول عرفاً ، ولكنّه
بحاجةٍ إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك ، لا خاصّةً ولا عامة. أمّا
الاولى فانتفاؤها واضح. وأمّا الثانية فلأنّ القرينة العامة هي مناسبات الحكم
والموضوع العرفية ، وهي لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض.
وكان الأولى بصاحب
الكفاية أن يستند في الاستغناء عن ركنيّة اليقين إلى مالم يؤخذ في لسانه اليقين
بالحدوث من روايات الباب.
الوجه
الثالث : أنّ اليقين وإن
كان ركناً للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه في الموضوعية إلاّأ نّه مأخوذ بما هو حجّة ،
فيتحقّق الركن بالأمارة المعتبرة أيضاً باعتبارها حجّة.
ويختلف هذا الوجه
عن سابقه بالاعتراف بركنية اليقين ، وعن الأول بأنّ دليل حجّية الأمارة على هذا
يكون وارداً على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه يحقِّق فرداً من الحجّة حقيقة ، وأمّا على
الوجه الأول فدليل حجيّة الأمارة حاكم لا وارد.
ويرد على هذا
الوجه : أنّ ظاهر أخذ شيءٍ كونه بعنوانه دخيلاً ، فحمله على دخل عنوانٍ جامعٍ بينه
وبين غيره يحتاج إلى قرينة.
والتحقيق أن يقال
: إنّ الأمارة تارةً تعالج شبهةً موضوعية ، كالأمارة الدالّة على نجاسة الثوب ،
واخرى شبهة حكمية ، كالأمارة الدالّة على نجاسة الماء المتغير. وعلى التقديرين
تارةً ينشأ الشكّ في البقاء من شبهةٍ موضوعية ، كما إذا
__________________
شكّ في غسل الثوب
أو زوال التغيّر ، واخرى ينشأ من شبهةٍ حكمية ، كما إذا شكّ في طهارة الثوب بالغسل
بالماء المضاف وارتفاع النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه. فهناك إذن أربع صور
:
الاولى
: أن تعالج الأمارة
شبهةً موضوعيةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً موضوعيةً أيضاً ، كما إذا أخبرت
الأمارة بتنجّس الثوب وشكّ في طروّ المطهِّر ، وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب
النجاسة الواقعية ليرد الإشكال القائل بأنّه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن إجراء
الاستصحاب بأحد وجهين آخرين.
الأوّل
: أن نجري الاستصحاب
الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح أنّ نجاسة الثوب مترتّبة
شرعاً على موضوعٍ مركّبٍ من جزءين : أحدهما ملاقاته للنجس. والآخر عدم طروّ الغسل
عليه. والأول ثابت بالأمارة ، والثاني بالاستصحاب ؛ لأنّ أركانه فيه متوفّرة بما
فيها اليقين بالحدوث ، فيترتّب على ذلك بقاء النجاسة شرعاً.
الثاني
: أنّ الأمارة التي
تدلّ على حدوث النجاسة في الثوب تدلّ أيضاً بالالتزام على بقائها مالم يغسل ؛
لأنّنا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء مالم يغسل ، فما يدلّ على الأول
بالمطابقة يدلّ على الثاني بالالتزام. ومقتضى دليل حجّية الأمارة التعبّد بمقدار
ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، فإذا شكّ في طروّ الغسل كان ذلك شكّاً في
انتهاء أمد البقاء التعبّدي الثابت بدليل الحجّية ، فيستصحب ؛ لأنّه معلوم حدوثاً
ومشكوك بقاءً.
الثانية
: أن تعالج الأمارة
شبهةً حكميةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً موضوعية ، كما إذا دلّت الأمارة على
نجاسة الماء المتغيِّر وشكّ في بقاء التغيّر.
وهنا يجري نفس
الوجهين السابقين ، حيث يمكن استصحاب التغيّر ، ويمكن استصحاب نفس النجاسة
الظاهرية المغيّاة بارتفاع التغيّر ؛ للشّك في حصول غايتها.
الثالثة
: أن تعالج الأمارة
شبهةً موضوعيةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً حكمية ، كما إذا دلّت الأمارة على
نجاسة الثوب وشكّ في بقائها عند الغسل بالماء المضاف.
وفي هذه الصورة
يتعذّر إجراء الاستصحاب الموضوعي ، إذ لا شكّ في وقوع الغسل بالماء المضاف ، وعدم
وقوع الغسل بالماء المطلق ، ولكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني ؛ لأنّ
الأمارة المخبِرة عن نجاسة الثوب تُخبِّر التزاماً عن بقاء هذه النجاسة مالم يحصل
المطهِّر الواقعي ، وعلى هذا الأساس يكون التعبّد الثابت على وفقها بدليل الحجّية
تعبّداً مغيّىً بالمطهِّر الواقعي أيضاً ، فالتردّد في حصول المطهِّر الواقعي ولو
على نحو الشبهة الحكمية يسبِّب الشكّ في بقاء التعبّد المستفاد من دليل الحجّية
والذي هو متيقّن حدوثاً ، فيجري فيه الاستصحاب.
الرابعة
: أن تعالج الأمارة
شبهةً حكميةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً حكميةً أيضاً ، كما إذا دلّت على تنجّس
الثوب بملاقاة المتنجّس وشكّ في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.
وعلاج هذه الصورة
نفس علاج الصورة السابقة ، فإنّ النجاسة المخبَر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها
نجاسة مستمرّة مغيّاة بطروّ المطهِّر الشرعي ، وعلى هذا فالتعبّد على طبق الأمارة
يتكفّل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهراً.
ولمّا كانت الغاية
مردّدةً بين مطلق الغسل والغسل بالمطلق فيقع الشكّ في حصولها عند الغسل بالمضاف ، وبالتالي يقع
الشكّ في بقاء التعبّد المغيّى المستفاد
__________________
من دليل الحجّية ،
فيستصحب.
ففي كلّ هذه الصور
يمكن التفادي عن الإشكال بإجراء الاستصحاب الموضوعي ، أو استصحاب نفس المجعول في
دليل الحجّية. وجامع هذه الصور أن يعلم بأنّ للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته
غايةً ورافعاً ويشكّ في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية.
نعم ، قد لا يكون
الشكّ على هذا الوجه ، بل يكون الشكّ في قابلية المستصحَب للبقاء ، كما اذا دلّت
الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال ، وشكّ في بقاء هذا الوجوب بعد
الزوال فإنّ الأمارة هنا لا يحتمل أنّها تدلّ مطابقةً أو التزاماً على أكثر من
الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ التعبّد على وفقها المستفاد من دليل الحجّية لا
يحتمل فيه الاستمرار أكثر من ذلك. وفي مثل هذا يتركّز الإشكال ؛ لأنّ الحكم
الواقعي بالوجوب غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجّية غير
محتمل البقاء ، ويتوقّف دفع الإشكال حينئذٍ على إنكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل
رواية عبدالله بن سنان المتقدمة.
ب ـ الشكّ في البقا
والشكّ في البقاء
هو الركن الثاني ، وذلك لأخذه في لسان أدلّة الاستصحاب ، وقد يقال : إنّ ركنيّته
ضروريّة بلا حاجةٍ إلى أخذه في لسان الأدلّة ؛ لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري ، والحكم
الظاهري متقوّم بالشكّ ، فإن فرض الشكّ في الحدوث كان موردَ قاعدة اليقين ، فلابدّ
إذن من فرض الشكّ في البقاء.
ولكن سيظهر أنّ
ركنيّة الشكّ في البقاء بعنوانه لها آثار إضافية لا تثبت بالبرهان المذكور ، بل
بأخذه في لسان الأدلّة ، فانتظر.
وتتفرّع على
ركنيّة الشكّ في البقاء قضيتان :
الاولى
: أنّ الاستصحاب لا
يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد المردّد : حالة القسم الثاني من استصحاب
الكلّي ، كما إذا علمنا بوجود جامع الإنسان في المسجد وهو مردّد بين زيدٍ وخالد
ونشكّ في بقاء هذا الجامع ؛ لأنّ زيداً نراه الآن خارج المسجد ، فإن كان هو
المحقِّق للجامع حدوثاً فقد ارتفع الجامع ، وإن كان خالد هو المحقِّق للجامع
فلعلّه لا يزال باقياً. وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع أثر
شرعي. ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما تقدم في الحلقة السابقة ، ولا يجري استصحاب بقاء زيدٍ ولا استصحاب بقاء خالد بلا
شكّ.
ولكن قد يقال :
إنّ الآثار الشرعية إذا كانت مترتّبةً على وجود الأفراد بما هي أفراد أمكن إجراء
استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد
ونقول : إنّه على إجماله يشكّ في خروجه من المسجد فيستصحب.
ولكنّ الصحيح :
أنّ هذا الاستصحاب لا محصّل له ؛ لأنّنا حينما نلحظ الأفراد بعناوينها التفصيلية
لا نجد شكّاً في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيدٍ بحسب الفرض. وإذا
لاحظناها بعنوانٍ إجماليٍّ ـ وهو عنوان الإنسان الذي دخل إلى المسجد ـ فالشكّ في
البقاء ثابت. فإن اريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي
فهو متعذّر ، إذ لعلّ هذا الفرد هو زيد وزيد لا شكّ في بقائه ، فيكون الركن الثاني
مختلًّا. وإن اريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي فالركن الثاني محفوظ
ولكنّ الركن الرابع غير متوفّر ؛ لأنّ الأثر الشرعي غير مترتّبٍ بحسب الفرض على
العنوان الإجمالي ، بل على العناوين التفصيلية للأفراد.
__________________
ومن هنا نعرف أنّ
عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنية الشكّ في البقاء الثابتة بظهور
الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، إذ لا
يأبى العقل عن تعبّد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.
والقضية
الثانية هي : أنّ زمان
المتيقّن قد يكون متّصلاً بزمان المشكوك وسابقاً عليه ، وقد يكون مردّداً بين أن
يكون نفس زمان المشكوك أو الزمان الذي قبله. ففي الحالة الاولى يصدق الشكّ في
البقاء بلا شكّ ، وأمّا الحالة الثانية فمثالها : أن يحصل له العلم إجمالاً بأنّ
هذا الثوب إمّا تنجس في هذه اللحظة ، أو كان قد تنجّس قبل ساعةٍ وطهر ، فالنجاسة
معلومة التحقّق في هذا الثوب أساساً ، ولكنّها مشكوكة فعلاً ، وزمان المشكوك
هواللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك ، ولعلّه ساعة
قبل ذلك.
وفي مثل ذلك قد
يستشكل في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ من المحتمل وحدة زمانَي المشكوك والمتيقّن ،
وعلى هذا التقدير لا يكون أحدهما بقاءً للآخر ، فالشكّ إذن لم يحرز كونه شكّاً في
البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري الاستصحاب في كلّ الحالات التي يكون
زمان المتيقّن فيها مردّداً بين زمان المشكوك وما قبله.
ويمكن دفع
الاستشكال : بأنّ الشكّ في البقاء بعنوانه لم يؤخذ صريحاً في لسان روايات
الاستصحاب ، وإنّما اخذ الشكّ بعد اليقين ، وهو يلائم كلّ شكٍّ متعلّق بما هو
متيقّن الحدوث ، سواء صدق عليه الشكّ في البقاء أوْ لا.
والاستشكال
المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدّي إلى أنّ الاستصحاب في موارد توارد
الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل التعارض ، فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في
المتقدِّم منهما فهو يعلم إجمالاً بالحدث إمّا الآن أو
قبل ساعة ويشكّ في
الحدث فعلاً ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن ، وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن
وما قبله ، فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة. وهذا بعض
معاني ما يقال من عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.
[صياغة اخرى للركن الثاني :]
ثمّ إنّ هذا الركن
الثاني قد يصاغ بصياغةٍ اخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن
الحالة السابقة نقضاً لليقين بالشكّ. ويفرّع على ذلك : بأنّه متى مالم يحرز ذلك
واحتمل كونه نقضاً لليقين باليقين فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب. وقد
مثّل لذلك بما إذا علم بطهارة عدّة أشياءٍ تفصيلاً ثمّ علم إجمالاً بنجاسة بعضها ،
فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي لمّا كان مردّداً بين تلك الأشياء فكلّ واحدٍ منها
يحتمل أن يكون معلوم النجاسة ، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة
فيه نقضاً لليقين باليقين ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين
الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.
ونلاحظ على ذلك :
أولاً : أنّ العلم
الإجمالي ليس متعلّقاً بالواقع ، بل بالجامع ، فلا يحتمل أن يكون أيّ واحدٍ من تلك
الأشياء معلوم النجاسة.
وثانياً : لو
سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحوٍ يلائم مع الشكّ
فيه أيضاً. ودليل الاستصحاب مفاده أنّه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ
موردٍ يكون بقاؤها فيه مشكوكاً ، وهذا يشمل محلّ الكلام حتّى لو انطبق العلم
الإجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضاً.
فإن قيل : بل لا
يشمل ؛ لأنّنا حينئذٍ لا ننقض اليقين بالشكّ ، بل باليقين.
كان الجواب : أنّ «الباء»
هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشكّ ، وإلاّ لَلَزم إمكان النقض بالقرعة أو
الاستخارة ، بل يراد بذلك أنّه لا نقض في حالة الشكّ ، وهي محفوظة في المقام.
الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني :
وقد يقال : إنّ
الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، كما إذا شكّ في بقاء
نجاسة الماء أو حرمة المقاربة بعد زوال التغيّر أو النقاء من الدم ؛ وذلك لأنّ
النجاسة والحرمة وكلّ حكمٍ شرعيٍّ ليس له وجود وثبوت إلاّبالجعل ، والجعل آنيّ
دفعي ؛ فكل المجعول يثبت في عالم الجعل في آنٍ واحدٍ من دون أن يكون البعض منه
بقاءً للبعض الآخر ومترتّباً عليه زماناً ، فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها
وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زماناً في عالم الجعل ، وعليه فلا شكّ في
البقاء ، بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلاً ، بل المتيقن حصّة من الجعل والمشكوك
حصّة اخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة أو الحرمة.
وهذا الكلام مبنيّ
على ملاحظة عالم الجعل فقط ، فإنّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة
عالم المجعول ، فإنّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ،
وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض الخارجية ، فيتمّ بملاحظة هذا
العالم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ويجري الاستصحاب.
ج ـ وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة :
وهذا هو الركن
الثالث. والوجه في ركنيّته : أنّه مع تغاير القضيّتين لا يكون الشكّ شكّاً في
البقاء ، بل في حدوث قضيةٍ جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس
ركناً جديداً
مضافاً إلى الركن السابق ، بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه.
وقد طُبِّق هذا
الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية ، وعلى الاستصحاب الجاري في
الشبهات الحكمية ، وواجه في كلٍّ من المجالين بعض المشاكل والصعوبات ، كما نرى
فيما يلي :
أوّلاً : تطبيقه في الشبهات الموضوعية :
جاء في إفادات
الشيخ الأنصاري ـ قدّس الله روحه ـ التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية
: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع ، إذ مع تبدّل الموضوع لا
يكون الشكّ شكّاً في البقاء ، فلا يمكنك ـ مثلاً ـ أن تستصحب نجاسة الخشب بعد
استحالته وصيرورته رماداً ؛ لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبقَ.
وهذه الصياغة
سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصلَ وجود الشيء بقاءً ؛
لأنّ موضوع الوجود الماهية ، ولا بقاء للماهية إلاّ بالوجود ، فمع الشكّ في وجودها
بقاءً لا يمكن إحراز بقاء الموضوع فكيف يجري الاستصحاب؟
وكذلك سبّبت
الاستشكال أحياناً فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانوية المتأخّرة عن الوجود ،
كالعدالة ؛ وذلك لأنّ زيداً العادل تارةً يشكّ في بقاء عدالته مع العلم ببقائه
حيّاً ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ، لأنّ موضوعها ـ وهو حياة
زيد ـ معلوم البقاء. واخرى يشك في بقاء زيدٍ حيّاً ويشكّ أيضاً في بقاء عدالته على
تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري
__________________
استصحاب بقاء
العدالة مع أنّ موضوعها غير محرز؟
وهذه الاستشكالات
نشأت من الصياغة المذكورة ، وهي لا مبرِّر لها. ومن هنا عدل صاحب الكفاية عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية
المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر ، وأمّا افتراض
المستصحَب عرضاً وافتراض موضوعٍ له واشتراط إحراز بقائه فلا موجب لذلك.
ثانياً : تطبيقه في الشبهات الحكمية :
وعند تطبيق هذا
الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكمية نشأت بعض المشاكل ايضاً ، إذ لوحظ أنّا
حين نأخذ بالصياغة الثانية له ـ التي اختارها صاحب الكفاية ـ نجد أنّ وحدة القضية
المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة الحكمية إلاّفي حالات الشكّ في
النسخ بمعنى إلغاء الجعل ، أي النسخ بمعناه الحقيقي. وأمّا حيث لا يحتمل النسخ فلا
يمكن أن ينشأ شكّ في نفس القضية المتيقّنة ، وإنّما يشك في بقاء حكمها حينئذٍ إذا
تغيّرت بعض القيود والخصوصيات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين :
إمّا بأن تكون
خصوصية ما دخيلةً يقيناً في حدوث الحكم ويشكّ في إناطة بقائه ببقائها ، فترتفع
الخصوصية ويشكّ حينئذٍ في بقاء الحكم ، كالشكّ في نجاسة الماء بعد زوال تغيّره.
وإمّا بأن تكون
خصوصية ما مشكوكةَ الدخل من أول الأمر في ثبوت الحكم ، فيفرض وجودها في القضية
المتيقّنة ، إذ لا يقين بالحكم بدونها ، ثمّ ترتفع
__________________
فيحصل الشكّ في
بقاء الحكم. وفي كلٍّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضية المتيقّنة والمشكوكة.
كما أنّا حين نأخذ
بالصياغة الاولى لهذا الركن نلاحظ أنّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما اخذ مفروض
الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية ؛
لأنّ الشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيات المفروضة الوجود
في مقام جعله.
ولأجل حلِّ
المشكلة المذكورة نقدّم مثالاً من الأعراض الخارجية ، فنقول : إنّ الحرارة لها
معروض وهو الجسم ، وعلّة وهي النار أو الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدّد الجسم
المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدّد بتعدّد الأسباب
والحيثيّات التعليلية ، فاذا كانت حرارة الماء مستندةً إلى النار حدوثاً وإلى
الشمس بقاءً لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء.
ونفس الشيء نقوله
عن الحكم كالنجاسة ـ مثلاً ـ فإنّ لها معروضاً وهو الجسم ، وعلةً وهي التغيّر
بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلاً ، والضابط في تعدّدها تعدّد معروضها ، لا تعدّد
الحيثيّات التعليلية. فالخصوصية الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن
كانت ـ على فرض دخالتها ـ بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ، ولا
تستوجب دخالتها كحيثيّةٍ تعليليةٍ مباينةَ الحكم بقاءً للحكم حدوثاً ، كما هو
الحال في الحرارة أيضاً. وأمّا إذا كانت الخصوصية الزائلة مقوِّمةً لمعروض الحكم ـ
كخصوصية البولية الزائلة عند تحوّل البول بخاراً ـ فهي توجب التغاير بين الحكم
المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.
وعليه فكلّما كانت
الخصوصية غير المحفوظة من الموضوع أو من القضية المتيقّنة حيثيةً تعليليةً فلا
ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثاً وبقاءً ، ومعه يجري
الاستصحاب. وكلّما
كانت الخصوصية مقوِّمةً للمعروض كان انتفاؤها موجباً لتعذّر جريان الاستصحاب ؛
لأنّ المشكوك حينئذٍ مباين للمتيقّن.
ومن هنا يبرز
السؤال التالي : كيف نستطيع أن نميِّز بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية
المقوِّمة لمعروض الحكم؟
فقد يقال : بأنّ
مرجع ذلك هو الدليل الشرعي ؛ لأنّ أخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان
الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك ، فإذا ورد بلسانٍ «الماء إذا تغيّر
تنجَّس» فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيةً تعليلية. وإذا ورد بلسان «الماء المتغيّر
متنجِّس» فهمنا أنّ التغيّر حيثية تقييدية ، وعلى وزان ذلك «قلِّد العالم» أو «قلِّده
إن كان عالماً» ، وهكذا.
والصحيح : أنّ أخذ
الحيثية في الحكم بيد الشارع ، وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل
يستحضر المولى مفاهيم معيّنة ، كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبإمكانه أن يجعل
التغيّر قيداً للماء ، وبإمكانه أن يجعله شرطاً في ثبوت النجاسة تبعاً لكيفية تنظيمه
لهذه المفاهيم في عالم الجعل ، غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري
بلحاظ عالم الجعل ، بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر
الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء ، كما تقدم .
وعليه فالمعروض
محدّد واقعاً ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو
أخذه في عالم الجعل ، بل مدى قابليته للاتّصاف بالحكم خارجاً ، فالتغير ـ مثلاً ـ لا
يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغيّر سبب
الاتّصاف ، والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم
__________________
بما هو عالم أو من
علمه بحسب الحقيقة. فالتغيّر حيثية تعليلية ولو اخذت تقييديةً جعلاً ودليلاً ،
والعلم حيثية تقييدية لوجوب التقليد ولو اخذ شرطاً وعلةً جعلاً ودليلاً.
وهنا نواجه سؤالاً
آخر ، وهو : أنّ المعروض واقعاً بأيّ نظرٍ نشخِّصه؟ هل بالنظر الدقيق العقلي ، أو
بالنظر العرفي؟ مثلاً إذا أردنا في الشبهة الحكمية أن نستصحب اعتصام الكرّ بعد
زوال جزءٍ يسيرٍ منه فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء
فكيف نشخِّص معروض الاعتصام؟
فإنّنا إذا أخذنا
بالنظر الدقيق العقلي وجدنا أنّ المعروض غير محرزٍ بقاءً ؛ لأنّ الجزء اليسير الذي
زال من الماء يشكِّل جزءاً من المعروض بهذا النظر.
وإذا أخذنا بالنظر
العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقياً ببقاء معظم الماء ؛ لأنّ العرف يرى أنّه
نفس الماء السابق. والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكرّية بعد زوال الجزء اليسير
من الماء في الشبهة الموضوعية.
والجواب : أنّ
المتّبع هو النظر العرفي ؛ لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفيّ منزَّل على الأنظار
العرفية ، فالاستصحاب يتبع صدق النقض عرفاً ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض
عرفاً.
د ـ الأثر العملي :
والركن الرابع من
أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحِّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه
بإحدى الصيغ التالية :
الاولى
: أنّ الاستصحاب
يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثرٍ عملي ، إذ لو لم يترتّب أيّ أثرٍ عمليٍّ
على التعبّد الاستصحابي كان لغواً ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن
مثل ذلك.
وصياغة الركن بهذه
الصيغة تجعله بغير حاجةٍ إلى أيّ استدلالٍ سوى ما ذكرناه ، وتسمح حينئذٍ بجريان
الاستصحاب حتى فيما إذا لم يكن المستصحَب أثراً شرعياً ، أو ذا أثرٍ شرعي ، أو قابلاً
للتنجيز والتعذير بوجهٍ من الوجوه ؛ على شرط أن يكون لنفس التعبّد الاستصحابي به
أثر يخرجه عن اللَغويّة ، كما إذا اخذ القطع بموضوعٍ خارجيٍّ لا حكم له تمام
الموضوع لحكمٍ شرعيّ ، وقلنا : بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى أنّ
المجعول فيه الطريقية فإنّ بالإمكان حينئذٍ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وإن
لم يكن للمستصحَب أثر ، وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في
بعض الموارد.
الثانية
: أنّ الاستصحاب
يتقوّم بأن يكون المستصحَب قابلاً للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر
على نفس التعبّد الاستصحابي ، ولا فرق في قابلية المستصحَب للمنجِّزية والمعذّرية
بين أن تكون باعتباره حكماً شرعياً ، أو عدم حكمٍ شرعي ، أو موضوعاً لحكم أو
دخيلاً في متعلّق الحكم ، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب ـ مثلاً ـ إثباتاً
ونفياً.
ومدرك هذه الصيغة
ـ التي هي أضيق من الصيغة السابقة ـ استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ؛ لأنّ
مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي ؛ لأنّه واقع
لا محالة ولا معنى للنهي عنه ، وإنمّا هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين
هو فرض أنّ اليقين بحسب طبعه له اقتضاء عملي لينقض عملاً ، والاقتضاء العملي
لليقين إنمّا يكون بلحاظ كاشفيته ، وهذا يفترض أن يكون اليقين متعلّقاً بما هو
صالح للتنجيز والتعذير لكي يكون
__________________
اليقين به ذا
اقتضاءٍ عملي ، وأمّا في غير ذلك فلا يتصوّر النقض العملي لكي يشمله إطلاق دليل
الاستصحاب.
وهذا البيان
يتوقّف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ
إذا استظهر عرفاً إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشاداً إلى عدم
إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فإنّ المولى قد ينهى عن شيءٍ إرشاداً إلى عدم
القدرة عليه ، كما يقال في «دَعِي الصلاةَ أيّام أقرائك».
غاية الأمر أنّ
الصلاة غير مقدورةٍ للحائض حقيقةً ، والنقض غير مقدورٍ للمكلف ادّعاءً واعتباراً
لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق.
وبناءً على هذا
الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقية ، ولا يلزم في تطبيقه على موردٍ تصوير
النقض العملي والاقتضاء العملي ، غير أنّه يكفي لتعيّن الصيغة الثانية في مقابل
الاولى إجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه ،
والمتيقّن ما تقرِّره الصيغة الثانية.
الثالثة
: أنّ الاستصحاب
يتقوّم بأن يكون المستصحَب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي ، وهذه الصيغة أضيق
من كلتا الصيغتين السابقتين ، ومن هنا وقع الإشكال في كيفية جريان الاستصحاب على
ضوء هذه الصيغة في متعلّق الأمر قيداً وجزءاً ـ من قبيل استصحاب الطهارة ـ مع أنّ
قيد الواجب ليس حكماً شرعياً ، ولا موضوعاً يترتّب عليه حكم شرعي ؛ لأنّ الوجوب
يترتّب على موضوعه ، لا على متعلقه.
وقد يدفع الإشكال
: بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط للأمر فهو موضوع لعدمه ، فيجري استصحابه لاثبات عدم
الأمر وسقوطه.
وهذا الدفع بحاجةٍ
من ناحيةٍ إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملاً لعدم الحكم أيضاً ، وبحاجةٍ من
ناحيةٍ اخرى إلى التسليم بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط
لنفس الأمر ، لا
لفاعليته على ما تقدم .
والأولى في دفع
الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة ، إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :
الأول
: أنّ المستصحَب إذا
لم يكن حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ كان أجنبياً عن الشارع ، فلا معنى
للتعبّد به شرعاً.
والجواب عن ذلك :
أنّ التعبّد الشرعي معقول في كلِّ موردٍ ينتهي فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا
يختصّ بما ذكر فإنّ التعبّد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي إلى ذلك أيضاً.
الثاني
: أنّ مفاد دليل
الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهراً ، فلابدّ أن يكون المستصحَب حكماً شرعياً أو
موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.
والجواب عن ذلك : أنّه
لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي
عن نقض اليقين بالشكّ : إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة
السابقة بقاءً ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي إرشاداً إلى بقاء اليقين
السابق أو بقاء المتيقّن السابق ادّعاءً ، وعلى كلّ حالٍ فلا يلزم أن يكون
المستصحَب حكماً أو موضوعاً لحكم ، بل أن يكون أمراً قابلاً للتنجيز والتعذير لكي
يتعلّق به التعّبد على أحد هذه الأنحاء.
__________________
مقدار ما يثبت بالاستصحاب
لا شكّ في أنّ
المستصحَب يثبت تعبّداً وعملياً بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :
القسم
الأول : الآثار الشرعية ،
كما إذا كان المستصحَب موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ ، أو حكماً شرعياً واقعاً بدوره
موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ آخر. وقد يكون المستصحَب موضوعاً لحكمه ، وحكمه بدوره موضوع
لحكمٍ آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجِّس فإنّها موضوع لطهارة
الطعام ، وهي موضوع لحلّيته.
القسم
الثاني : الآثار واللوازم
العقلية التي يكون ارتباطها بالمستصحَب تكوينياً وليس بالجعل والتشريع ، كنبات
اللحية اللازم تكويناً لبقاء زيدٍ حياً ، وموته اللازم تكويناً من بقائه إلى جانب
الجدار إلى حين انهدامه ، وكون مافي الحوض كرّاً اللازم تكويناً من استصحاب وجود
كرٍّ من الماء في الحوض ، فإنّ مفاد كان الناقصة لازم عقليّ لمفاد كان التامة ،
وهكذا.
أمّا القسم الأول
فلا خلاف في ثبوته تعبّداً وعملياً بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا : إنّ مفاده
الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء المتيقن ، أو الإرشاد إلى عدم
الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء نفس اليقين ، أو النهي عن النقض العملي لليقين
بالشكّ.
أمّا على الأول
فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقةً ، بل تنزيلاً ، ومرجعه إلى
تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من أدلّة التنزيل ،
ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي للمنزَّل عليه إلى
المنزَّل إسراءً
واقعياً أو ظاهرياً تبعاً لواقعية التنزيل أو ظاهريّته وإناطته بالشكّ ، وعليه
فإطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعية للمستصحَب
بالاستصحاب.
فإن قيل : هذا
يصحّ بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب مباشرةً ، ولا يبرِّر ثبوت
الأثر الشرعيّ المترتّب على ذلك الأثر المباشر ؛ وذلك لأنّ الأثر المباشر لم يثبت
حقيقةً لكي يتبعه أثره ؛ لأنّ التنزيل ظاهريّ لا واقعي ، وإنّما ثبت الأثر المباشر
تنزيلاً وتعبّداً فكيف يثبت أثره؟
كان الجواب : أنّه
يثبت بالتنزيل أيضاً ، إذ ما دام إثبات الأثر المباشر كان إثباتاً تنزيلياً فمرجعه
إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني
تنزيلاً ، وهكذا.
وأمّا على الثاني
فقد يستشكل بأ نّه لا تنزيل في ناحية المستصحَب على هذا التقدير ، وإنمّا التنزيل
والتعبّد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه كون اليقين بالحالة السابقة باقياً
تعبّداً بلحاظ كاشفيته. ومن الواضح أنّ اليقين بشيءٍ إنمّا يكون طريقاً إلى
متعلّقه ، لا إلى آثار متعلّقه ، وإنمّا يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ،
واليقين المتولِّد هو الذي له طريقية إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقية كلِّ يقينٍ
تختصّ بمتعلّقه فكذلك منجّزيته ومحرّكيته. وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة
السابقة إنمّا يقتضي توفير المنجِّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة ، لا
بالنسبة إلى آثارها الشرعية.
فإن قيل : أليس من
يكون على يقينٍ من شيءٍ يكون على يقينٍ من آثاره أيضاً؟!
كان الجواب : أنّ
اليقين التكويني بشيءٍ يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وأمّا
اليقين التعبّدي بشيءٍ فلا يلزم منه اليقين التعبّدي بآثاره ؛
لأنّ أمره تابع
امتداداً وانكماشاً لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدلّ على أكثر من التعبّد
باليقين بالحالة السابقة.
والتحقيق : أنّ
تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل ، وصغراه وهي الموضوع ، فاليقين
التعبّدي بموضوع الأثر بنفسه منجِّز لذلك الأثر والحكم وإن لم يسرِ إلى الحكم.
ومنه يعرف الحال
على التقدير الثالث ، فإنّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجِّزاً للحكم كان
الجري على طبق حكمه داخلاً في دائرة اقتضائه العملي ، فيلزم بمقتضى النهي عن النقض
العملي.
فإن قيل : إذا كان
اليقين بالموضوع كافياً لِتنجّزِ الحكم المترتّب عليه فماذا يقال عن الحكم الشرعيّ
المترتّب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع أنّه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم
الأول؟
كان الجواب : أنّ
الحكم الثاني الذي اخذ في موضوعه الحكم الأوّل لا يفهم من لسان دليله إلاّأنّ
الحكم الأول بكبراه وصغراه موضوع للحكم الثاني ، والمفروض أنّه محرز كبرىً وصغرى ،
جعلاً وموضوعاً ، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني ، فيتنجّز الحكم الثاني
كما يتنجّز الحكم الأول.
وأمّا القسم
الثاني فلا يثبت بدليل الاستصحاب ؛ لأنّه إن اريد إثبات اللوازم العقلية بما هي
فقط فهو غير معقول ، إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي. وإن اريد إثبات ما لهذه
اللوازم من آثارٍ وأحكام شرعيةٍ فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير
الثلاثة المقتدمة.
أمّا على الأول
فلأنّ التنزيل في جانب المستصحَب إنمّا يكون بلحاظ الآثار الشرعية ، لا اللوازم
العقلية ، كما تقدم في الحلقة السابقة .
__________________
وأمّا على
الأخيرَين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّداً لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي
المترتب على اللازم العقلي ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي ، اليقين
التعبّدي بالمستصحَب ليس يقيناً تعبّدياً باللازم العقلي.
وعلى هذا الأساس
يقال : إنّ الأصل المثبت غير معتبر ، بمعنى أنّ الاستصحاب لا تثبت به اللوازم
العقلية للمستصحَب ، ولا الآثار الشرعية لتلك اللوازم.
نعم ، إذا كان
لنفس الاستصحاب لازم عقلي ـ كحكم العقل بالمنجّزية مثلاً ـ فلا شكّ في ترتّبه ؛
لأنّ الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتب عليه كلّ لوازمه الشرعية والعقلية على
السواء.
هذا كلّه على
تقدير عدم ثبوت أماريّة الاستصحاب ، كما هو الصحيح على ما عرفت. وأمّا لو قيل
بأماريّته واستظهرنا من دليل الاستصحاب أنّ اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفية
، كان حجّةً في إثبات اللوازم العقلية للمستصحَب وأحكامها أيضاً وفقاً للقانون
العامّ في الأمارات على ما تقدّم سابقاً .
__________________
عموم جريان الاستصحاب
بعد ثبوت كبرى
الاستصحاب وقع البحث بين المحقِّقين في إطلاقها لبعض الحالات. ومن هنا نشأ التفصيل
في القول به ، ولعلّ أهمَّ التفصيلات المعروفة قولان :
[التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع :]
أحدهما
: ما ذهب اليه الشيخ
الأنصاري من التفصيل بين موارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ،
والالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأول.
ومدرك المنع من
جريانه في الأول أحد وجهين :
الأول
: أن يدّعى بأنّ
دليل الاستصحاب ليس فيه إطلاق لفظي ، وإنمّا الغيت خصوصية المورد في قوله : «ولا
ينقض اليقين أبداً بالشكّ» بقرينة الارتكاز العرفي ، وكون الكبرى مسوقةً مساق
التعليل الظاهر في الإشارة إلى قاعدةٍ عرفيةٍ مركوزة ، وليست هي إلاّكبرى
الاستصحاب ولمّا كان المرتكز عرفاً من الاستصحاب لا يشمل موارد الشكّ في المقتضي
فالتعميم الحاصل في الدليل بضمِّ هذا الارتكاز لا يقتضي إطلاقاً أوسع من موارد
الشكّ في الرافع.
وهذا البيان
يتوقّف ـ كماترى ـ على عدم استظهار الإطلاق اللفظي في نفسه ، وظهور اللام في كلمتي
«اليقين» و «الشكّ» في الجنس.
__________________
الثاني
: أن يسلّم بالإطلاق
اللفظي في نفسه ولكن يدّعى وجود قرينةٍ متّصلةٍ على تقييده ، وهي كلمة «النقض» حيث
إنّها لا تصدق في موارد الشكّ في المقتضي. وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة
السابقة واتّضح أنّ كلمة «النقض» لا تصلح للتقييد.
[التفصيل بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة :]
والقول
الآخر : ما ذهب اليه
السيّد الاستاذ من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية واختصاصه
بالشبهات الموضوعية ، وذلك ـ بعد الاعتراف بإطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا
القسمين من الشبهات ـ بدعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ينشأ من
التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.
وتوضيح ذلك : أنّ
الحكم الشرعي ـ كما تقدّم في محلّه ـ ينحلّ إلى جعلٍ ومجعول ، والشكّ فيه تارةً يكون مصبّه
الجعل ، واخرى يكون مصبّه المجعول.
فالنحو الأول من
الشكّ يعني أنّ الجعل قد تعلّق بحكمٍ محدّدٍ واضحٍ بكلّ ما لَه دخل فيه من
الخصوصيات ، غير أنّ المكلف يشكّ في بقاء نفس الجعل ويحتمل أنّ المولى ألغاه ورفع
يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل.
__________________
والنحو الثاني من
الشكّ يعني أنّ الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه ، غير أنّ الشكّ في مجعوله والحكم
المنشأ به ، فلا يعلم ـ مثلاً ـ هل أنّ المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر
حتّى إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطةً بفترة التغيّر الفعلي ،
فالمجعول مردّد بين فترةٍ طويلةٍ وفترة قصيرة ، وكلّما كان المجعول مردّداً كذلك
كان الجعل مردّداً لا محالة بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة للفترة القصيرة
معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافية مشكوك.
ففي النحو الأول
من الشكّ ـ إذا كان ممكناً ـ يجري استصحاب بقاء الجعل.
وأمّا في النحو
الثاني من الشكّ فيوجد استصحابان متعارضان : أحدهما استصحاب بقاء المجعول ، أي
بقاء النجاسة في الماء بعد زوال التغيّر مثلاً ؛ لأنّها معلومة حدوثاً ومشكوكة
بقاءً ، والآخر استصحاب عدم جعل الزائد ، أي عدم جعل نجاسة الفترةالإضافية مثلاً ؛
لِمَا أوضحناه من أنّ تردّد المجعول يساوق الشكّ في الجعل الزائد. وهذان
الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية.
ولكي نعرف الجواب
على شبهة المعارضة هذه ينبغي أن نفهم كيف يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكمية
بحدّ ذاته قبل أن نصل إلى دعوى معارضته بغيره؟. فنقول :
[كيفيّة جريان استصحاب المجعول :]
إنّ استصحاب
المجعول نحوان :
أحدهما
: استصحاب المجعول
الفعلي التابع لفعلية موضوعه المقدّر الوجود في جعله ، وهو لا يتحقّق ولا يتّصف
باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء إلاّبعد تحقّق موضوعه خارجاً ، فنجاسة الماء
المتغيّر لا تكون فعليةً إلاّبعد وجود ماءٍ
متغيِّرٍ بالفعل ،
ولا تتّصف بالشكّ في البقاء إلاّبعد أن يزول التغيّر عن الماء فعلاً ، وحينئذٍ
يجري استصحاب النجاسة الفعلية.
واستصحاب المجعول
بهذا المعنى يتوقّف جريانه ـ كماترى ـ على وجود الموضوع ، وهذا يعني أنّه لا يجري
بمجرّد افتراض المسألة على وجهٍ كلّيٍّ والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء
المتغيّر. ويقضي ذلك بأنّ إجراء الاستصحاب من شأن المكلف المبتلى بالواقعة خارجاً
، لا من شأن المجتهد الذي يستنبط حكمها على وجهٍ كلّي ، فالمجتهد يفتيه بجريان
الاستصحاب في حقّه عند تمامية الأركان ، لا أنّ المجتهد يجريه ويفتي المكلف
بمفاده.
والنحو
الآخر لاستصحاب المجعول : هو إجراء الاستصحاب في المجعول الكلّي على نحوٍ تتمّ أركانه بمجرّد التفات
الفقيه إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر وشكّه في شمول هذه النجاسة لفترة ما
بعد زوال التغيّر ، وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقّفٍ على وجود الموضوع
خارجاً ، ومن هنا كان بإمكان المجتهد إجراؤه والاستناد اليه في إفتاء المكلف
بمضمونه.
ولا شكّ في انعقاد
بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل
الاستصحاب.
غير أنّه قد
يستشكل في النحو المذكور بدعوى : أنّ المجعول الفعلي التابع لوجود موضوعه له حدوث
وبقاء تبعاً لموضوعه ، وأمّا المجعول الكلّي فليس له حدوث وبقاء ، بل تمام حصصه
ثابتة ثبوتاً عرضياً آنياً بنفس الجعل بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ زماني ، وهذا يعني أنّا
كلّما لاحظنا المجعول على نهجٍ كلّيٍّ لم يكن هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء
ليجري الاستصحاب. فأركان الاستصحاب إنمّا تتمّ في المجعول بالنحو الأول ، لا
الثاني.
وقد أشرنا سابقاً إلى هذا الاستشكال وعلّقنا عليه بما يوحي بإجراء استصحاب
المجعول على النحو الأول ، غير أنّ هذا كان تعليقاً موقّتاً إلى أن يحين الوقت
المناسب.
وأمّا الصحيح في
الجواب فهو : أنّ المجعول الكلّي ـ وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلاً ـ يمكن أن ينظر
اليه بنظرين : أحدهما النظر اليه بما هو أمر ذهنيّ مجعول في افق الاعتبار ، والآخر
النظر اليه بما هو صفة للماء الخارجي ، فهو بالحمل الشائع أمر ذهني ، وبالحمل
الأوّلي صفة للماء الخارجي. وبالنظر الأول ليس له حدوث وبقاء ؛ لأنّه موجود بتمام
حصصه بالجعل في آنٍ واحد ، وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء. وحيث إنّ هذا النظر هو
النظر العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول بالنحو الثاني
لتمامية أركانه.
اذا اتّضح ذلك
فنقول لشبهة المعارضة بأ نّه في تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي في الشبهة
الحكمية لا يعقل تحكيم كلا النظرين ؛ لتهافتهما ، فإن سلّم بالأخذ بالنظر الثاني
تعيّن إجراء استصحاب المجعول ، ولم يجرِ استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر
لا نرى جعلاً ومجعولاً ولا أمراً ذهنياً ، بل صفةً لأمرٍ خارجيٍّ لها حدوث وبقاء.
وإن ادّعي الأخذ
بالنظر الأول فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا
يجري في نفسه ، لا أنّه يسقط بالمعارضة.
إن قيل : لماذا لا
نحكِّم كلا النظرين ونلتزم بإجراء استصحاب عدم الجعل الزائد تحكيماً للنظر الأول
في تطبيق دليل الاستصحاب ، وإجراء استصحاب
__________________
المجعول تحكيماً
للنظر الثاني ، ويتعارض الاستصحابان؟
كان الجواب : أنّ
التعارض لانواجهه ابتداءً في مرحلة إجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا
النظرين ، وإنمّا نواجهه في مرتبةٍ أسبق ، أي في مرحلة تحكيم هذين النظرين ،
فإنّهما لتهافتهما ينفي كلّ منهما ما يثبته الآخر من الشكّ في البقاء ، ومع تهافت
النظرين في نفسيهما يستحيل تحكيمهما معاً على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى
التعارض بين الاستصحابين ، بل لابدّ من جري الدليل على أحد النظرين ، وهو النظر
الذي يساعد عليه العرف خاصّة.
تطبيقات
١ ـ استصحاب الحكم المعلّق :
قد نحرِز كون
الحكم منوطاً في مقام جعله بخصوصيّتين ، وهناك خصوصية ثالثة يحتمل دخلها في الحكم
أيضاً ، وفي هذه الحالة يمكن أن نفترض أنّ إحدى تلك الخصوصيّتين معلومة الثبوت ،
والثانية معلومة الانتفاء ، وأمّا الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة. وهذا
الافتراض يعني أنّ الحكم ليس فعلياً ، ولكنّه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصية
الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلّق والقضية الشرطية. فإذا افترضنا أنّ الخصوصية
الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصية الثالثة حصل الشكّ في بقاء تلك
القضية الشرطية ؛ لاحتمال دخل الخصوصية الثالثة في الحكم.
وهنا تأتي الحاجة
إلى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلّق. ومثال ذلك : حرمة العصير العنبي
المنوطة بالعنب وبالغليان ، ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها ، فإذا جفّ العنب
ثمّ غلى كان مورداً لاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان.
وقد وجِّه إلى هذا
الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :
الاعتراض
الأول : أنّ أركان
الاستصحاب غير تامّة ، لأنّ الجعل لا شكّ في بقائه ، والمجعول لا يقين بحدوثه ،
والحرمة على نهج القضية الشرطية أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر
الوجود ، ولا أثر للتعبّد به. ومن أجل هذا الاعتراض بَنَت مدرسة المحقّق النائيني على عدم جريان الاستصحاب في
__________________
الحكم المعلّق.
وقد يجاب على ذلك
بجوابين :
أحدهما
: أنّا نستصحب سببية
الغليان للحرمة ، وهي حكم وضعيّ فعليّ معلوم حدوثاً ومشكوك بقاءً.
والردّ على هذا
الجواب : أنّه إن اريد باستصحاب السببية إثبات الحرمة فعلاً فهو غير ممكن ؛ لأنّ
الحرمة ليست من الآثار الشرعية للسببية ، بل من الآثار الشرعية لذات السبب الذي
رتّب الشارع عليه الحرمة. وإن اريد بذلك الاقتصار على التعبّد بالسببية فهو لغو ؛
لأنّها بعنوانها لا تصلح للمنجّزية والمعذّرية.
والجواب
الآخر : لمدرسة المحقّق
العراقي ، وهو يقول : إنّ الاعتراض المذكور يقوم على أساس أنّ
المجعول لا يكون فعلياً إلاّبوجود تمام أجزاء الموضوع خارجاً ، فإنّه حينئذٍ
يتعذّر استصحاب المجعول في المقام ، إذ لم يصبح فعلياً ليستصحب. ولكن الصحيح : أنّ
المجعول ثابت بثبوت الجعل ، لأنّه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع ، لا بوجوده
الخارجي ، فهو فعليّ قبل تحقق الموضوع خارجاً.
وقد أردف المحقّق العراقي
ناقضاً على المحقّق النائينى : بأ نّه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول
الكلّي قبل أن يتحقّق الموضوع خارجاً؟
ونلاحظ على الجواب
المذكور : أنّ المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود
اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدم في
__________________
الواجب المشروط ،
إلاّأنّ المجعول حينئذٍ لا يجري فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ ، إذ لا شكّ في
البقاء ، وإنمّا الشكّ في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقاً .
وإذا لوحظ المجعول
بما هو صفة للموضوع الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع
بالكامل ولو تقديراً وافتراضاً لا يرى للمجعول فعلية لكي يستصحَب.
ومن ذلك يعرف حال
النقض المذكور ، فإنّ المجتهد يفترض تحقّق الموضوع بالكامل فيشكّ في البقاء
مبنيّاً على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرّد افتراض جزء
الموضوع؟
وبكلمةٍ اخرى :
أنّ كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شيء ، وكفاية الثبوت
التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجاً ولا
تقديراً شيء آخر.
والتحقيق : أنّ
إناطة الحكم بالخصوصية الثانية في مقام الجعل تارةً تكون في عرض إناطته بالخصوصية
الاولى ، بأن قيل : «العنب المغليّ حرام». واخرى تكون على نحوٍ مترتّبٍ وطولي ،
بمعنى أنّ الحكم يقيّد بالخصوصية الثانية ، وبما هو مقيد بها يناط بالخصوصية
الاولى ، بأن قيل : «العنب إذا غلى حرم» ، فإنّ العنب هنا يكون موضوعاً للحرمة
المنوطة بالغليان ، خلافاً للفرضية الاولى التي كان العنب المغليّ بما هو كذلك
موضوعاً للحرمة.
ففي الحالة الاولى
يتّجه الاعتراض المذكور ، ولا يجري الاستصحاب في
__________________
القضية الشرطية ؛
لأنّها أمر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول.
وأمّا في الحالة
الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضية الشرطية التي وقع العنب موضوعاً
لها ؛ لأنّها مجعولة من قبل الشارع بما هي شرطية ومرتّبة على عنوان العنب ، فالعنب
موضوع للقضية الشرطية حدوثاً يقيناً ويشكّ في استمرار ذلك بقاءً فتستصحب.
الاعتراض
الثاني : أنّا اذا سلّمنا
تواجد ركنَي الاستصحاب في القضية الشرطية فلا نسلّم جريان الاستصحاب مع ذلك ؛
لأنّه إنّما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجّز. وأمّا ما يقبل التنجّز فهو
الحكم الفعلي ، فما لم يكن المجعول فعلياً لا يتنجّز الحكم ، وإثبات فعلية المجعول
عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذّر ؛ لانّ ترتّب فعلية المجعول عند
وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقليّ وليس شرعياً.
ونلاحظ على ذلك :
أوّلاً
: أنّه يكفي في
التنجيز إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ؛ لأنّ وصول الكبرى والصغرى معاً كافٍ
لحكم العقل بوجوب الامتثال.
وثانياً
: أنّ دليل
الاستصحاب إذا بنينا على تكفّله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكمٍ
مشروطٍ ظاهري ، وتحوّل هذا الحكم الظاهري إلى فعليٍّ عند وجود الشرط لازم عقليّ
لنفس الحكم الاستصحابي المذكور ، لا للمستصحَب ، وقد مرّ بنا سابقاً أنّ اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب تترتّب عليه بلا
إشكال.
الاعتراض
الثالث : أنّ استصحاب الحكم
المعلّق معارض باستصحاب
__________________
الحكم المنجّز ،
ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلّقة على الغليان سابقاً كذلك يعلم بالحلّية
الفعلية المنجّزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.
وقد يجاب على ذلك
بجوابين :
أحدهما
: ما ذكره صاحب
الكفاية من أنّه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما أنّ الحرمة
كانت معلّقةً فتستصحب بما هي معلّقة كذلك الحلّية كانت في العنب مغيّاةً بالغليان
فتستصحب بما هي مغيّاة ، ولا تنافي بين حلّيةٍ مغيّاةٍ وحرمةٍ معلّقةٍ على الغاية.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ الحلية التي نريد استصحابها هي الحلّية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا
علم بأنّها مغيّاة ؛ لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه
الحلّية.
فإن قيل : إنّ
الحلّية الثابتة قبل الجفاف نعلم بأ نّها مغيّاة ، ونشكّ في تبدّلها إلى الحلّية
غير المغيّاة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلّية المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.
كان الجواب : أنّ
استصحابها لا يعيِّن حال الحلّية المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت أنّها مغيّاة
إلاّبالملازمة ؛ للعلم بعدم إمكان وجود حلّيتين ، وما دامت الحلّية المعلومة بعد
الجفاف لامثبت لكونها مغيّاةً فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.
والجواب
الآخر : ما ذكره الشيخ
الأنصاري والمحقّق النائيني من أنّ
__________________
الاستصحاب
التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي.
ويمكن أن يقال في
توجيه ذلك : أنّ استصحاب القضية الشرطية للحكم إمّا أن يثبت فعلية الحكم عند تحقّق
الشرط ، وإمّا أن لا يثبت ذلك. فإن لم يثبت لم يجرِ في نفسه ، إذ أيّ أثرٍ لإثبات
حكمٍ مشروطٍ لا ينتهي إلى الفعلية. وإن أثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم
المعلّق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه ؛ وفقاً للقاعدة المتقدمة في الحلقة
السابقة القائلة : إنّه كلّما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل
الثاني دون العكس قُدِّم الأصل الأول على الثاني ، فإنّ مورد الاستصحاب التنجيزي
مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب المعلّق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ،
والمفروض أنّ استصحاب المعلّق يثبت حرمةً فعلية ، وهو معنى نفي الحلّية الفعلية.
وأما استصحاب الحلّية الفعلية فلا ينفي الحرمة المعلّقة ، ولا يتعرّض إلى الثبوت
التقديري.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعلية باستصحاب القضية المشروطة ويرى كفاية وصول
الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق على هذا
الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكماً عليه.
٢ ـ استصحاب عدم النسخ :
تقدّم في الحلقة
السابقة أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى
__________________
مبادئ الحكم ،
ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل ، وعليه فالشكّ في النسخ بالنسبة إلى عالم
الجعل يتصور على نحوين :
الأول : أن يشكّ
في بقاء نفس الجعل وعدمه ، بمعنى احتمال إلغاء المولى له.
الثاني : أن يشكّ
في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانية ، بمعنى احتمال أنّ الجعل تعلّق بالحكم
المقيّد بزمانٍ قد انتهى أمده.
فإذا كان الشكّ من
النحو الأول فلا شكّ في إمكان إجراء الاستصحاب ؛ لتمامية أركانه ، غير أنّ هنا
شبهة قد تمنع عن جريانه على أساس أنّ ترتّب المجعول على الجعل ليس شرعياً ، بل
عقلياً فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.
والجواب : أنّا
لسنا بحاجةٍ إلى إثبات شيءٍ وراء الجعل في مقام التنجيز ؛ لِمَا تقدّم من كفاية
وصول الكبرى والصغرى ، وعليه فالاستصحاب يجري خلافاً للأصل اللفظي بمعنى إطلاق
الدليل ، فإنّه لا يمكن التمسّك به لنفي النسخ بهذا المعنى.
وإذا كان الشكّ من
النحو الثاني فلا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفيه ، ولكنّ جريان
الاستصحاب موضع بحث ؛ وذلك لإمكان دعوى أنّ المتيقّن ثبوت الحكم على المكلفين في
الزمان الأول ، والمشكوك ثبوته على أفرادٍ آخرين ، وهم المكلَّفون الذين يعيشون في
الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدّد إلاّ بالنسبة إلى شخصٍ عاش كلا الزمانين
بشخصه.
وعلاج ذلك : أنّ
الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولاً على نحو القضية الخارجية التي تنصبّ على
الأفراد المحقّقة خارجاً مباشرةً ، بل على نحو القضية الحقيقية التي ينصبّ فيها
الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه
المرحلة لا فارق
بين القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعاً إلاّمن ناحية الزمان وتأخّر
الموضوع للقضية المشكوكة زماناً عن الموضوع للقضية المتيقنة ، وهذا يكفي لانتزاع
عنوانَي الحدوث والبقاء عرفاً على نحوٍ يعتبر الشكّ المفروض شكّاً في بقاء ما كان
فيجري الاستصحاب.
والاستصحاب على
هذا الضوء استصحاب تنجزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة
لطبيعيّ المكلف ، وبالإمكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار إلى
الفرد المكلف المتأخّر زماناً ويقال : إنّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا
يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم.
ولكن توجد مشكلة
اخرى يواجهها الاستصحاب في المقام ، سواء اجري بصيغته التنجيزية أو التعليقية ،
وهي : أنّه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلفين الذين يعيشون في
الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي
عموماً بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.
٣ ـ استصحاب الكلِّي :
استصحاب الكلّي هو
التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيّين إذا كان له
أثر شرعي. والكلام فيه يقع في جهتين :
الجهة
الاولى : في أصل إجراء
استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارةً ، وفي باب الموضوعات
اخرى.
أما في باب
الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم
المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذٍ : إنّ المستصحَب إذا كان هو الجامع بين الوجوب
والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل
المماثل له بدليل
الاستصحاب ، وهو باطل ؛ لأنّ الجامع بحدِّه لا يعقل جعله ، إذ يستحيل وجود الجامع
إلاّفي ضمن فرده ، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطّاً للاستصحاب ليكون
مصبّاً للتعبّد الاستصحابي.
وهذا الاعتراض
يتوقّف على قبول المبنى المشار اليه ، أمّا إذا أنكرناه وفرضنا أنّ مفاد دليل
الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنىً من المعاني فيمكن افتراض إبقائه بقدر الجامع ،
فيكون بمثابة العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع.
وأمّا في باب
الموضوعات فالاعتراض ينشأ من أنّ الأثر الشرعي مترتّب على أفراد الجامع ، لا على
الجامع بعنوانه ، فلا يترتّب على استصحابه أثر.
والجواب : أنّه إن
اريد أنّ الحكم الشرعي في لسان دليله مترتّب على العنوانين التفصيلّيين للفردين
فيرد عليه : أنّا نفرض الحكم فيما إذا رتّب في لسان الدليل على عنوان الجامع بين
الفردين ، كحرمة المسِّ المرتّبة على جامع الحدث.
وإن سلم ترتّب
الحكم في دليله على الجامع وادُّعي أنّ الجامع إنمّا يؤخذ موضوعاً بما هو معبِّر
عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني ـ فلابدّ من إجراء الاستصحاب فيما اخذ الجامع
معبِّراً عنه ومراةً له ، وهو الخارج ، وليس في الخارج إلاّالفرد ـ فيرد عليه :
أنّ موضوع الحكم وإن كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره أمراً
ذهنياً إلاّأنّ الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضاً ، ولا معنى
لجريانه في الخارج ابتداءً بلا توسّط عنوانٍ من العناوين ؛ لأنّ الاستصحاب حكم
شرعيّ ولابدّ أن ينصبَّ التعبّد فيه على عنوان. وكما أنّ العنوان التفصيلي يجري
فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج كذلك العنوان الإجمالي الكلّي.
وبما ذكرناه ظهر
الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي ، مع أنّ التوجّه في كلٍّ منهما
إلى إثبات واقعٍ خارجيٍّ واحد ، حيث إنّ الكلّي موجود
بعين وجود الفرد ،
وهذا الفارق هو : أنّ الاستصحاب باعتباره حكماً منجّزاً وموصلاً للواقع فهو إنمّا
يتعلّق به بتوسّط عنوانٍ من عناوينه وصورةٍ من صوره ، فإن كان مصبّ التعبّد هو
الواقع المرئيّ بعنوانٍ تفصيليٍّ مشيرٍ اليه فهذا استصحاب الفرد ، وإن كان مصبُّه
الواقع المرئيّ بعنوانٍ جامعٍ مشيرٍ اليه فهذا هو استصحاب الكلّي ، على الرغم من
وحدة الواقع المشار اليه بكلا العنوانين. والذي يحدِّد إجراء الاستصحاب بهذا النحو
أو بذاك كيفية أخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.
وعلى هذا الضوء
يتّضح أنّ التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي لا تتوقّف على دعوى التعدّد
في الواقع الخارجي وأنّ للكلّي واقعاً وسيعاً منحازاً عن واقعيات الأفراد ـ على
طريقة الرجل الهمداني في تصور الكلّي الطبيعي ـ وهي دعوى باطلة ؛ لِما ثبت في
محلّه من أنّ الكلّي موجود بعين وجود الأفراد.
كما أنّه لا موجب
لإرجاع الكلّي في مقام التفرقة المذكورة إلى الحصّة ، ودعوى أنّ كلّ فردٍ يشتمل
على حصّهٍ من الكلّي ومشخّصات عرضية ، واستصحاب الكلّي عبارة عن استصحاب ذات
الحصّة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصّة مع المشخّصات ، بل الصحيح في
التفرقة ما ذكرناه.
الجهة
الثانية : في أقسام استصحاب
الكلّي.
يمكن تقسيم الشكّ
في بقاء الكلّي إلى قسمين :
أحدهما : الشكّ في
بقاء الكلّي غير الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.
والآخر : الشكّ في
بقائه الناشي من الشكّ في حدوث الفرد.
ومثال الأول : أن
يعلم بدخول الإنسان ضمن زيدٍ في المسجد ويشكّ في خروجه.
ومثال الثاني : أن
يعلم بحدثٍ مردّدٍ بين الأصغر والأكبر ويشكّ في ارتفاعه بعد الوضوء ، فإنّ الشكّ
مسبّب عن الشكّ في حدوث الأكبر.
أمّا القسم الأول
فله حالتان :
الاولى
: أن يكون الكلّي
معلوماً تفصيلاً ويشكّ في بقائه ، كما في المثال المذكور حيث يعلم بوجود زيدٍ
تفصيلاً. وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً على الجامع جرى استصحاب الكلّي.
واستصحاب الكلّي
في هذه الحالة جارٍ على كلّ حال ، سواء فسّرنا استصحاب الكلّي وفرّقنا بينه وبين
استصحاب الفرد على أساس كون المستصحَب الوجود السِعيّ للكلّي على طريقة الرجل
الهمداني ، أو الحصّة ، أو الخارج بمقدار مرآتية العنوان الكلّي ، على ما تقدم في
الجهة السابقة ، إذ على كلّ هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامة.
الثانية
: أن يكون الكلّي
معلوماً إجمالاً ويشكّ في بقائه على كلا تقديريه ، كما إذا علم بوجود زيدٍ أو
خالدٍ في المسجد ويشكّ في بقائه ـ سواء كان زيداً أو خالداً ـ فيجري استصحاب
الجامع إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً عليه. ولا إشكال في ذلك بناءً على إرجاع
استصحاب الكلّي إلى استصحاب الوجود السعي له على طريقة الرجل الهمداني ، وبناءً
على المختار من إرجاعه إلى استصحاب الواقع بمقدار مرآتية العنوان الإجمالي.
وأمّا بناءً على
إرجاعه إلى استصحاب الحصّة فقد يستشكل : بأ نّه لا يقين بحدوث أيِّ واحدةٍ من
الحصّتين فكيف يجري استصحابها؟ اللهمّ إلاّأن تُلغى ركنية اليقين وتستبدل بركنية
الحدوث.
ويسمّى هذا القسم
في كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأول من استصحاب الكلّي.
وأمّا القسم
الثاني فله حالتان أيضاً :
الاولى
: أن يكون الشكّ في
حدوث الفرد المسبِّب للشكّ في بقاء الكلّي
مقروناً بالعلم
الإجمالي ، كما في المثال المتقدم لهذا القسم ، فإنّ الشكّ في الحدث الأكبر مقرون
بالعلم الإجمالي بأحد الحدثين. والصحيح : جريان الاستصحاب في هذه الحالة إذا كان
للجامع أثر شرعي ، ويسمّى في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.
وقد يعترض على
جريان هذا الاستصحاب بوجوه :
منها : أنّه لا
يقين بالحدوث ، وهو اعتراض مبنيّ على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحّصة ،
وحيث لا علم بالحصّة حدوثاً فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم اليقين بالحدوث ، بل لعدم
الشكّ في البقاء ، إذ لا شكّ في الحصّة بقاءً ، بل إحدى الحصّتين معلومة الانتفاء
والاخرى معلومة البقاء.
وقد تقدم أنّ
استصحاب الكلّي ليس بمعنى استصحاب الحصّة ، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ما يرى
بالعنوان الإجمالي للجامع ، وهذا معلوم بالعلم الإجمالي حدوثاً.
ومنها : أنّه لا
شكّ في البقاء ؛ لأنّ الشكّ ينبغي أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، ولمَّا كان
اليقين هنا علماً إجمالياً والعلم الإجمالي يتعلق بالمردّد فلابدّ أن يتعلّق الشكّ
بالواقع على ترديده أيضاً ، وهذا إنمّا يتواجد فيما إذا كان الواقع مشكوك البقاء
على كلّ تقدير ، مع أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الفرد القصير من الجامع لا شكّ في بقائه.
والجواب : أنّ
العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع المردّد ، بل بالجامع وهو مشكوك ، إذ يكفي في
الشكّ في بقاء الجامع التردّد في كيفية حدوثه.
ومنها : أنّ
الوجود القصير للكلّي لا يحتمل بقاؤه ، والوجود الطويل له لا يحتمل ارتفاعه ، وليس
هناك في مقابلهما إلاّالمفهوم الذهني الذي لا معنى لاستصحابه.
والجواب : أنّ
الشكّ واليقين إنّما يعرضان [على] الواقع الخارجي بتوسّط العناوين الحاكية عنه ،
فلا محذور في أن يكون الواقع بتوسّط العنوان التفصيلي مقطوع البقاء أو الانتفاء ،
وبتوسّط العنوان الإجمالي مشكوك البقاء ، ومصبّ التعبّد الاستصحابي دائماً العنوان
بما هو حاكٍ عن الواقع تبعاً لأخذه موضوعاً للأثر الشرعي بما هو كذلك.
نعم ، إذا أرجعنا
استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة أمكن المنع عن جريانه في المقام ؛ لأنّه يكون
من استصحاب الفرد المردّد نظراً إلى أنّ إحدى الحصّتين مقطوعة الانتفاء فعلاً.
ومنها : أنّ
استصحاب الكلّي يحكم عليه استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل الأمد ؛ لأنّ الشكّ في
بقاء الكلّي مسبَّب عن الشكّ في حدوث هذا الفرد.
والجواب : أنّ التلازم
بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلّي عقلي ، وليس شرعياً ، فلا يثبت باستصحاب
عدم الأول نفي بقاء الثاني.
ومنها : أنّ
استصحاب الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل إلى ظرف الشكّ في بقاء الكلّي ؛
لأنّ عدم الكلّي عبارة عن عدم كلا فرديه ، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء
فعلاً بالوجدان ، والفرد الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلاً باستصحاب عدمه ، فهذا
الاستصحاب بضمِّه إلى الوجدان المذكور حجّة على عدم الكلّي فعلاً ، فيعارض الحجّة
على بقائه المتمثّلة في استصحاب الكلّي.
والتحقيق : أنّه
تارةً يكون وجود الكلّي ـ بما هو وجود له ـ كافياً في ترتّب الأثر على نحوٍ لو فرض
ـ ولو محالاً ـ وجود الكلّي لا في ضمن حصّةٍ خاصّةٍ لترتّب عليه الأثر. واخرى لا
يكون الأثر مترتّباً على وجود الكلّي إلاّبما هو وجود لهذه الحصّة ولتلك الحصّة
على نحوٍ تكون كلّ حصّةٍ موضوعاً للأثر
الشرعي بعنوانها.
فعلى الأول يجري
استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر ، ولا يمكن نفي صرف الوجود للكلّي باستصحاب عدم
الفرد الطويل مع ضمّه إلى الوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود للكلّي بانتفاء هذه
الحصّة وتلك عقلي ، وليس شرعياً.
وعلى الثاني لا
يجري استصحاب الكلّي في نفسه ؛ لأنّه لا ينقِّح موضوع الأثر ، بل بالإمكان نفي هذا
الموضوع باستصحاب عدم الفرد الطويل الأمد مع ضمّه إلى الواجدان القاضي بعدم الفرد
الآخر ؛ لانّ الأثر أثر للحصص فيُنفى بإحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبّد
والوجدان.
وأمّا
الحالة الثانية من القسم الثاني فهي : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبِّب للشكّ في بقاء
الكلّي شكّاً بدوياً ، ومثاله : أن يعلم بوجود الكلّي ضمن فرد ، ويعلم بارتفاعه
تفصيلاً ، ويشكّ في انحفاظ وجود الكلّي في ضمن فردٍ آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع
الفرد الأول أو قبل ذلك. ويسمّى هذا في كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.
وقد يُتخيَّل
جريانه على أساس تواجد أركانه في العنوان الكلّي وإن لم تكن متواجدةً في كلٍّ من
الفردين بالخصوص.
ولكن يندفع هذا
التخيّل : بأنّ العنوان الكلّي وإن كان هو مصبّ الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع
فلابدّ أن يكون متيقّن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فانٍ في واقعه ومرآةً للوجود
الخارجي ، ومن الواضح أنّه بما هو كذلك ليس جامعاً للأركان ، إذ ليس هناك واقع
خارجيّ يمكن أن نشير اليه بهذا العنوان الكلّي ونقول بأ نّه متيقّن الحدوث مشكوك
البقاء لنستصحبه بتوسّط العنوان الحاكي عنه وبمقدار حكايته ، خلافاً للحالة
السابقة التي كانت تشتمل على واقعٍ من هذا القبيل.
٤ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركّبة :
إذا كان الموضوع
للحكم الشرعي بسيطاً وتمّت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا إشكال. وأمّا إذا
كان الموضوع مركّباً من عناصر متعدّدةٍ : فتارةً نفترض أنّ هذه العناصر لوحظت بنحو
التقيّد ، أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعاً للحكم ، كعنوان «المجموع» ، أو «اقتران
هذا بذاك» ، ونحو ذلك. واخرى نفترض أنّ هذه العناصر بذواتها اخذت موضوعاً للحكم
الشرعي بدون أن يدخل في الموضوع أيّ عنوانٍ انتزاعيٍّ من ذلك القبيل.
ففي الحالة الاولى
لا مجال لإجراء الاستصحاب في ذوات الأجزاء ، لأنّه إن اريد به إثبات الحكم مباشرةً
فهو متعذّر ؛ لترتّبه على العنوان البسيط المتحصّل.
وإن اريد به إثبات
الحكم بإثبات ذلك العنوان المتحصّل فهو غير ممكن ؛ لأنّ عنوان الاجتماع والاقتران
ونحوه لازم عقليّ لثبوت ذوات الأجزاء فلا يثبت باستصحابها. فالاستصحاب في هذه
الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصّل ، فمتى شكّ في حصوله جرى استصحاب عدمه
؛ حتّى ولو كان أحد الجزءين محرزاً وجداناً والآخر معلوم الثبوت سابقاً ومشكوك
البقاء فعلاً.
وأمّا في الحالة
الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء ثبوتاً أو عدماً إذا تواجد فيه اليقين
بالحالة السابقة والشكّ في بقائها.
ومن هنا يعلم بأنّ
الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركّب وعناصره بشرط ترتّب الحكم على ذوات
الأجزاء أوّلاً ، وتوفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ثانياً.
هذا على نحو
الإجمال. وأمّا تحقيق المسألة على وجهٍ كاملٍ فبالبحث في ثلاث نقاط :
إحداها : في أصل
هذه الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب في أجزاء
الموضوع ضمن
الشرطين.
والنقطة الثانية :
في تحقيق صغرى الشرط الأوّل ، وأ نّه متى يكون الحكم مترتّباً على ذوات الأجزاء؟
والنقطة الثالثة :
في تحقيق صغرى الشرط الثاني ، وأ نّه متى يكون الشكّ في البقاء محفوظاً؟
[جريان الاستصحاب في أجزاء الموضوع :]
أمّا النقطة
الاولى فالمعروف بين المحقّقين أنّه متى كان الموضوع مركّباً وافترضنا أنّ أحد
جزءيه محرز بالوجدان أو بتعبّدٍ ما فبالإمكان إجراء الاستصحاب في الجزء الآخر ؛
لانّه ينتهي إلى أثرٍ عملي ، وهو تنجيز الحكم المترتّب على الموضوع المركّب.
وقد يواجه ذلك
باعتراض ، وهو : أنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل الحكم المماثل للمستصحَب ،
والمستصحَب هنا ـ وهو الجزء ـ ليس له حكم ليجعل في دليل الاستصحاب مماثله ، وما له
حكم ـ وهو المركّب ـ ليس مصبّاً للاستصحاب.
وهذا الاعتراض
يقوم على الأساس القائل بجعل الحكم المماثل للمستصحَب في دليل الاستصحاب ، ولا
موضع له على الأساس القائل بأنّه يكفي في تنجيز الحكم وصول كبراه (الجعل) وصغراه (الموضوع)
كما عرفت سابقاً ، إذ على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذا أثرٍ عمليٍّ إلى
التعبّد بالحكم المماثل ، بل مجرّد وصول أحد الجزءين تعبّداً مع وصول الجزء الآخر
بالوجدان كافٍ في تنجيز الحكم الواصلة كبراه ؛ لأنّ إحراز الموضوع بنفسه منجّز لا
بما هو طريق إلى إثبات فعليّة الحكم المترتّب عليه ، وبهذا نجيب على
الاعتراض المذكور.
وأمّا إذا أخذنا
بفكرة جعل الحكم المماثل في دليل الاستصحاب فقد يصعب التخلّص الفنّي من الاعتراض
المذكور ، وهناك ثلاثة أجوبةٍ على هذا الأساس :
الجواب
الأول : أنّ الحكم بعد
وجود أحد جزءي موضوعه وجداناً لا يكون موقوفاً شرعاً إلاّعلى الجزء الآخر ، فيكون
حكماً له ، ويثبت باستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهراً.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ مجرّد تحقّق أحد الجزءين وجداناً لا يخرجه عن الموضوعية وإناطة الحكم به شرعاً
؛ لأنّ وجود الشرط للحكم لا يعني بطلان الشرطية ، فلا ينقلب الحكم إلى كونه حكماً
للجزء الآخر خاصّة.
الجواب
الثاني : أنّ الحكم
المترتّب على الموضوع المركّب ينحلّ تبعاً لأجزاء موضوعه ، فينال كلّ جزءٍ مرتبةً
وحصّةً من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضي جعل المماثل لتلك المرتبة التي
ينالها ذلك الجزء بالتحليل.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ هذا التقسيط تبعاً لأجزاء الموضوع غير معقول ؛ لوضوح أنّ الحكم ليس له
إلاّوجود واحد لا يتحقّق إلاّعند تواجد تلك الأجزاء جميعاً.
الجواب
الثالث : أنّ كلّ جزءٍ
موضوع لحكمٍ مشروط ، وهو الحكم بالوجوب ـ مثلاً ـ على تقدير تحقّق الجزء الآخر ،
فاستصحاب الجزء يتكفّل جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ هذا الحكم المشروط ليس مجعولاً من قبل الشارع ، وإنمّا هو منتزع عن جعل الحكم
على الموضوع المركّب ، فيواجه نفس الاعتراض الذي واجهه الاستصحاب في الأحكام
المعلّقة.
[ترتّب الحكم على ذوات الأجزاء :]
وأمّا النقطة
الثانية : فقد ذكر المحقّق النائيني رحمهالله : أنّ الموضوع تارةً يكون مركّباً من العرض ومحلّه ،
كالإنسان العادل. واخرى مركّباً من عدم العرض ومحلّه ، كعدم القرشية والمرأة.
وثالثةً مركّباً على نحوٍ آخر ، كالعرضين لمحلٍّ واحدٍ مثل الاجتهاد والعدالة في
المفتي ، أو العرضين لمحلّين كموت الأب وإسلام الابن.
ففي الحالة الاولى
يكون التقيّد مأخوذاً ؛ لأنّ العرض يلحظ بما هو وصف لمحلّه ومعروضه وحالة قائمة به
، فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إذا كان له حالة سابقة.
وفي الحالة الثانية
يكون تقيّد المحلّ بعدم العرض مأخوذاً في الموضوع ؛ لأنّ عدم العرض إذا اخذ مع
موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له ، وهو ما يسمّى بالعدم النعتي تمييزاً له
عن العدم المحمولي الذي يلاحظ فيه العدم بما هو.
ويترتّب على ذلك
أنّ الاستصحاب إنمّا يجري في نفس التقيّد والعدم النعتي ؛ لأنّه الدخيل في موضوع
الحكم ، فإذا لم يكن العدم النعتي واجداً لركني اليقين والشكّ وكان الركنان
متوفّرَين في العدم المحمولي لم يجرِ استصحابه ؛ لأنّ العدم المحمولي لا أثرَ
شرعيٌّ له بحسب الفرض.
ومن هنا ذهب
المحقّق النائيني إلى عدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقّن قبل وجود
الموضوع ، ويسمّى باستصحاب العدم الأزلي ، فإذا شكّ في
__________________
نسب المرأة
وقرشيّتها لم يجرِ استصحاب عدم قرشيّتها الثابت قبل وجودها ؛ لأنّ هذا عدم محموليّ
وليس عدماً نعتياً ، إذ أنّ العدم النعتي وصف ؛ والوصف لا يثبت إلاّعند ثبوت
الموصوف ، فإذا اريد إجراء استصحاب العدم المحمولي لترتيب الحكم عليه مباشرةً فهو
متعذّر ؛ لأنّ الحكم مترتّب ـ بحسب الفرض ـ على العدم النعتي ، لا المحمولي. واذا
اريد بذلك إثبات العدم النعتي ـ لأنّ استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة
ملازم للعدم النعتي ـ فهذا أصل مثبت.
وأمّا في الحالة
الثالثة فلا موجب لافتراض أخذ التقيّد واتّصاف أحد جزءي الموضوع بالآخر ؛ لأنّ
أحدهما ليس محلاًّ وموضوعاً للآخر ، بل بالإمكان أن يفرض ترتّب الحكم على ذات
الجزءين ، وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجزء لتوفّر الشرط الأول.
هذا موجز عمّا
أفاده المحقّق النائيني رحمهالله نكتفي به على مستوى هذه الحلقة ، تاركين التفاصيل
والمناقشات إلى مستوىً أعلى من الدراسة.
[توفّر الشكّ في البقاء :]
وأمّا النقطة
الثالثة فتوضيح الحال فيها : أنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب فيه تارةً يكون
معلوم الثبوت سابقاً ويشكّ في بقائه إلى حين إجراء الاستصحاب. واخرى يكون معلوم
الثبوت سابقاً ويعلم بارتفاعه فعلاً ، ولكن يشكّ في بقائه في فترةٍ سابقةٍ هي فترة
تواجد الجزء الآخر من الموضوع. ومثاله : الحكم بانفعال الماء فإنّ موضوعه مركّب من
ملاقاة النجس للماء وعدم كرّيته ، فنفترض أنّ الماء كان مسبوقاً بعدم الكرّية
ويعلم الآن بتبدّل هذا العدم وصيرورته كرّاً ، ولكن يحتمل بقاء عدم الكرّية في
فترةٍ سابقةٍ هي فترة حصول ملاقاة النجس
لذلك الماء.
ففي الحالة الاولى
لا شكّ في توفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيجري الاستصحاب.
وأمّا في الحالة
الثانية فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الجزء بدعوى عدم توفّر الركن الثاني وهو
الشكّ في البقاء ؛ لأنّه معلوم الارتفاع فعلاً بحسب الفرض فكيف يجري استصحابه؟
وقد اتّجه المحقّقون
في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان النسبي ، أي زمان
الجزء الآخر ، فيقال : إنّ الجزء المراد استصحابه إذا لوحظ حاله في عمود الزمان
المتّصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء ؛ للعلم بارتفاعه فعلاً. وإذا لوحظ حاله
بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان ، مثلاً : عدم
الكرّية في المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه إلى الآن ، ولكن يشكّ في بقائه إلى حين
وقوع الملاقاة ، فيجري استصحابه إلى زمان وقوعها.
وتفصيل الكلام في
ذلك : أنّه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ـ وهو عدم الكرِّية في
المثال ـ معلوماً ، وكان زمان تواجد الجزء الآخر ـ وهو الملاقاة في المثال ـ معلوماً
أيضاً ، فلا شكّ لكي يجري الاستصحاب ، ولهذا لابدّ أن يفرض الجهل بكلا الزمانين ،
أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصّة ، أو بزمان تواجد الجزء الآخر خاصّة.
فهذه ثلاث صور ، وقد اختلف المحقّقون في حكمها.
فذهب جماعة من
المحقّقين منهم السيّد الاستاذ إلى جريان
__________________
الاستصحاب في
الصور الثلاث ، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة.
وذهب بعض
المحقّقين إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما : صورة الجهل
بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، وعدم جريانه في صورة
العلم بزمان الارتفاع.
وذهب صاحب الكفاية
إلى جريان الاستصحاب في صورة واحدةٍ ، وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع
العلم بزمان تواجد الجزء الآخر ، وأمّا في صورتَي الجهل بكلا الزمانين أو العلم
بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب.
فهذه أقوال ثلاثة
:
أمّا القول الأول
فقد علّله أصحابه بما أشرنا اليه آنفاً من : أنّ بقاء الجزء المراد استصحابه إلى
زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك حتّى لو لم يكن هناك شكّ في بقائه إذا لوحظت قطعات
الزمان بما هي ، كما إذا كان زمان الارتفاع معلوماً ، ويكفي في جريان الاستصحاب
تحقّق الشكّ في البقاء بلحاظ الزمان النسبي ؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على وجوده
في زمان وجود الجزء الآخر ، لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.
ونلاحظ على هذا القول
: أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّية في المثال إذا كان معلوماً فلا يمكن أن يجري
استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة ؛ لأنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّباً
على عدم الكرّية في زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، أو على عدم الكرّية في
واقع زمان الملاقاة ، بمعنى أنّ كلا الجزءين
__________________
لوحظا في زمانٍ
واحدٍ دون أن يقيّد أحدهما بزمان الآخر بعنوانه.
فعلى الأول لا
يجري استصحاب بقاء الجزء في جميع الصور ؛ لأنّه يفترض تقيّده بزمان الجزء الآخر
بهذا العنوان ، وهذا التقيّد لا يثبت بالاستصحاب ، وقد شرطنا منذ البداية في جريان
استصحاب الجزء في باب الموضوعات المركّبة عدم أخذ التقيّد بين أجزائها في موضوع
الحكم.
وعلى الثاني لا
يجري استصحاب بقاء الجزء فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوماً ولنفرضه الظهر ؛ لأنّ
استصحاب بقائه إلى زمان وجود الملاقاة ـ التي هي الجزء الآخر في المثال ـ إن اريد
به استصحاب بقائه إلى الزمان المعنون بأنّه زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة
فهذا الزمان بهذا العنوان وإن كان يشكّ في بقاء عدم الكّرية إلى حينه ولكنّ
المفروض أنّه لم يؤخذ عدم الكرّية في موضوع الحكم مقيّداً بالوقوع في زمان الجزء
الآخر بما هو كذلك.
وإن اريد به
استصحاب بقائه إلى واقع زمان الملاقاة على نحوٍ يكون قولنا : «زمان الملاقاة»
مجرّد مشيرٍ إلى واقع ذلك الزمان فهذا هو موضوع الحكم ، ولكنّ واقع هذا الزمان
يحتمل أن يكون هو الزوال ؛ للتردّد في زمان الملاقاة ، والزوال زمان يعلم فيه
بارتفاع عدم الكرِّية ، فلا يقين إذن بثبوت الشكّ في البقاء في الزمان الذي يراد
جرّ المستصحَب إليه.
وعلى هذا الضوء
نعرف أنّ ما ذهب اليه القول الثاني من عدم جريان استصحاب بقاء الجزء في صورة العلم
بزمان ارتفاعه هو الصحيح بالبيان الذي حقّقناه.
ولكنّ هذا البيان
يجري بنفسه أيضاً في بعض صور مجهولي التأريخ ، كما إذا كان زمان التردّد فيهما
متطابقاً ، كما إذا كانت الملاقاة مردّدةً بين الساعة الواحدة والثانية ، وكذلك
ارتفاع عدم الكرّيّة بحدوث الكرّيّة ، فإنّ هذا يعني أنّ
ارتفاع عدم
الكرّيّة بحدوث الكرّيّة مردّد بين الساعة الاولى والثانية ، ولازم ذلك أن تكون
الكرّيّة معلومةً في الساعة الثانية على كلّ حال ، وإنّما يشكّ في حدوثها وعدمه في
الساعة الاولى ، ويعني أيضاً : أنّ الملاقاة متواجدة إمّا في الساعة الاولى ، أو
في الساعة الثانية ، فإذا استصحبت عدم الكرّيّة إلى واقع زمان تواجد الملاقاة فحيث
إنّ هذا الواقع يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية يلزم على هذا التقدير أن نكون قد
تعبّدنا ببقاء عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية ، مع أنّه معلوم الانتفاء في هذه
الساعة.
ومن هنا يتبيّن :
أنّ ما ذهب اليه القول الثالث من عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرّيّة في صورة
الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع هذا العدم معاً هو الصحيح.
وأمّا صورة الجهل
بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها
إلى واقع زمان الملاقاة ، إذ لا علم بارتفاع هذا العدم في واقع هذا الزمان جزماً.
ولكنّنا نختلف عن
القول الثالث في بعض النقاط ، فنحن ـ مثلاً ـ نرى جريان استصحاب عدم الكرّيّة في
صورة الجهل بالزمانين مع افتراض أنّ فترة تردّد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردّد
حدوث الملاقاة في المثال المذكور ، فإذا كانت الملاقاة مردّدةً بين الساعة الاولى
والثانية ، وكان تبدّل عدم الكرِّية بالكرِّية مردّداً بين الساعات الاولى
والثانية والثالثة فلا محذور في إجراء استصحاب عدم الكرِّية إلى واقع زمان
الملاقاة ؛ لأنّه على أبعد تقديرٍ هو الساعة الثانية ، ولا علم بالارتفاع في هذه
الساعة ؛ لاحتمال حدوث الكرّية في الساعة الثالثة ، فليس من المحتمل أن يكون جرّ
بقاء الجزء إلى واقع زمان الجزء الآخر جرّاً له إلى زمان اليقين بارتفاعه أبداً.
شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين :
بقي علينا أن نشير
إلى أنّ ما اخترناه وإن كان قريباً جدّاً من القول الثالث الذي ذهب اليه صاحب
الكفاية غير أنّه ـ قدّس الله نفسه ـ قد فسّر موقفه واستدلّ على قوله ببيانٍ يختلف
بظاهره عمّا ذكرناه ، إذ قال : بأنّ استصحاب عدم الكرّية إنمّا لا يجري في حالة
الجهل بالزمانين ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وقد فُسِّر هذا
الكلام بما يمكن توضيحه كما يلي :
إذا افترضنا أنّ
الماء كان قليلاً قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان حدثت في إحداهما الكرّية وفي الاخرى
الملاقاة للنجاسة فهذا يعني أنّ كلاًّ من حدوث الكرّية والملاقاة معلوم في إحدى
الساعتين بالعلم الإجمالي ، فهناك معلومان إجماليّان ، وإحدى الساعتين زمان أحدهما
، والساعة الاخرى زمان الآخر ، وعليه فالملاقاة المعلومة إذا كانت قد حدثت في
الساعة الثانية فقد حدثت الكرّية المعلومة في الساعة الاولى ، واستصحاب عدم
الكرّية إلى زمان الملاقاة على هذا التقدير يعني أنّ زمان الشكّ الذي يراد جرّعدم
الكرّية اليه هو الساعة الثانية ، وزمان اليقين بعدم الكريّة هو ما قبل الزوال ،
وأمّا الساعة الاولى فهي زمان الكرّية المعلومة إجمالاً ، وهذا يؤدّي إلى انفصال
زمان اليقين بعدم الكرّية عن زمان الشكّ فيه بزمان اليقين بالكرّية ، وما دام هذا
التقدير محتملاً فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.
ونلاحظ على ذلك :
أوّلاً
: أنّ الساعة الاولى
على هذا التقدير هي زمان الكرّية واقعاً ، لا زمان الكرّية المعلومة بما هي معلومة
؛ لأنّ العلم بالكرّية كان على نحو العلم الإجمالي من ناحية الزمان ، وهو علم
بالجامع فلا احتمال للانفصال إطلاقاً.
وثانياً
: أنّ البيان
المذكور لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّية
حتى في الصورة
التي اختار صاحب الكفاية جريان الاستصحاب فيها ، وهي صورة الجهل بزمان حدوث
الكرّية مع العلم بزمان الملاقاة وأ نّه الساعة الثانية مثلاً ؛ لأنّ الكرّية
معلومة بالإجمال في هذه الصورة ويحتمل انطباقها على الساعة الاولى ، فإذا كان
انطباق الكرّية المعلومة بالإجمال على زمانٍ يوجب تعذّر استصحاب عدم الكرّية إلى
ما بعد ذلك الزمان جرى ذلك في هذه الصورة أيضاً ، وتعذّر استصحاب عدم الكرّية إلى
الساعة الثانية ؛ لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ بزمان العلم
بالكرّية.
وهناك تفسير آخر
لكلام صاحب الكفاية أكثر انسجاماً مع عبارته ، ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه ، وهو
الماء الذي كان قليلاً قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان حدثت في إحداهما الكرّية وفي
الاخرى الملاقاة للنجاسة ، وحاصل التفسير : أنّ ظرف اليقين بعدم الكرّية في هذا
المثال هو ما قبل الزوال ، وظرف الشكّ مردد بين الساعة الاولى بعد الزوال والساعة
الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّية له اعتباران ، فتارةً نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات
الزمان وبصورةٍ مستقلّةٍ عن الملاقاة. واخرى نأخذه بما هو مقيس إلى زمان الملاقاة
ومقيّد به.
فإذا أخذناه
بالاعتبار الأول وجدنا أنّ الشكّ فيه موجود في الساعة الاولى وهي متّصلة بزمان
اليقين مباشرة ، فبالإمكان أن نستصحب عدم الكرّية إلى نهاية الساعة الاولى ، ولكنّ
هذا لا يفيدنا شيئاً ؛ لأنّ الحكم الشرعي ـ وهو انفعال الماء ـ ليس مترتّباً على
مجرّد عدم الكرّية ، بل على عدم الكرّية في زمان الملاقاة.
وإذا أخذنا عدم
الكرّية بالاعتبار الثاني ـ أي مقيساً ومنسوباً إلى زمان الملاقاة ـ فمن الواضح
أنّ الشكّ فيه إنمّا يكون في زمان الملاقاة ، إذ لا يمكن الشكّ قبل زمان الملاقاة
في عدم الكرّية المنسوب إلى زمان الملاقاة ، وإذا تحقّق أنّ زمان الملاقاة هو زمان
الشكّ ترتّب على ذلك أنّ زمان الشكّ مردّد بين الساعة
الاولى والساعة
الثانية تبعاً لتردّد نفس زمان الملاقاة بين الساعتين ، وهذا يعني عدم إحراز
اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ؛ لأنّ زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشكّ
محتمل الانطباق على الساعة الثانية ، ومع انطباقه عليها يكون مفصولاً عن زمان
اليقين بالساعة الاولى.
ونلاحظ على ذلك :
أولاً
: أنّ الأثر الشرعي
إذا كان مترتّباً على عدم الكرّية المقيّد بالملاقاة ـ أي على اجتماع أحدهما
بالآخر ـ فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في هذا العدم المقيّد بالملاقاة لا يكون
إلاّفي زمان الملاقاة ، وأمّا الشكّ ـ قبل زمان الملاقاة ـ في عدم الكرّية فهو ليس
شكّاً في عدم الكرّية المقيّد بالملاقاة.
ولكنّ الصحيح :
أنّ الأثر الشرعي مترتّب على عدم الكرّية والملاقاة بنحو التركيب بدون أخذ التقيّد
والاجتماع ، وإلاّ لمَا جرى استصحاب عدم الكرّية رأساً ، كما تقدم. وهذا يعني أنّ
عدم الكرّية بذاته جزء الموضوع ، [و] لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان
الملاقاة أو قبل زمانها ، غير أنّه في زمانها يكون الجزء الآخر موجوداً أيضاً ،
وعليه فعدم الكرّية مشكوك منذ الزوال وإلى زمان الملاقاة.
وإن كان الأثر
الشرعي لا يترتّب فعلاً إلاّإذا استمرّ هذا العدم إلى زمان الملاقاة فيجري استصحاب
عدم الكرّية من حين ابتداء الشكّ في ذلك إلى الزمان الواقعي للملاقاة ، وبهذا نثبت
بالاستصحاب عدماً للكرّية متّصلاً بالعدم المتيقّن. وإن كان الأثر الشرعي لا
يترتّب على هذا العدم إلاّفي مرحلةٍ زمنيةٍ معيّنةٍ قد تكون متأخّرةً عن زمان
اليقين فإنّ المناط اتّصال المشكوك الذي يراد إثباته استصحاباً بالمتيقّن ، لا
اتّصال فترة ترتّب الأثر بالمتيقّن ، فإذا كنتَ على يقينٍ من اجتهاد زيدٍ فجراً
وشككتَ في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ، ولم يكن الأثر
الشرعي مترتّباً
على اجتهاده عند الطلوع ، إذ لم يكن عادلاً وإنمّا أصبح عادلاً بعد ساعتين أفلا
يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد طلوع الشمس؟! فكذلك في المقام.
ثانياً
: أنّ ما ذكر لو تمّ
لمَنع عن جريان استصحاب عدم الكرّية فيما اذا كان زمان حدوثها مجهولاً مع العلم
بتأريخ الملاقاة ، كما اذا كان عدم الكرّية وعدم الملاقاة معلومَين عند الزوال
وحدثت الملاقاة بعد ساعةٍ ولا يدرى متى حدثت الكرّية ، فإنّ استصحاب عدم الكرّية
إلى زمان الملاقاة يجري عند صاحب الكفاية ، مع أنّه يواجه نفس الشبهة الآنفة الذكر
؛ لأنّ الشكّ في عدم الكرّية المنسوب إلى زمان الملاقاة إنمّا هو في زمان الملاقاة
بحسب تصور هذه الشبهة ، أي بعد ساعةٍ من الزوال مع أنّ زمان اليقين بعدم الكرّية
هو الزوال.
ولا نرى حاجةً
للتوسّع أكثر من هذا في استيعاب نكات الاستصحاب في الموضوعات المركبة. كما أنّ ما
تقدّم من بحوث الاستصحاب أحاط بالمهمِّ من مسائله ، وهناك مسائل في الاستصحاب لم
نتناولها بالبحث هنا ، كالاستصحاب في الامور التدريجية ، والأصل السببي والمسبّبي
؛ وذلك اكتفاءً بما تقدم من حديثٍ عن ذلك في الحلقة السابقة. وبذلك نختم الكلام عن
الاصول العملية.
٢ ـ الجزء الثاني
الخاتمة
في تعارض الأدلّة
تمهيد.
١ ـ قاعدة الجمع العرفي.
٢ ـ التعارض المستقرّ على ضوء دليل
الحجّية.
٣ ـ حكم التعارض على ضوء الأخبار
الخاصّة.
تمهيد
ما هو التعارض المصطلَح؟
التعارض المصطلَح
: هو التنافي بين مدلولي الدليلين ، ولمَّا كان مدلول الدليل هو الجعل فالتنافي
المحقِّق للتعارض هو التنافي بين الجعلين دون التنافي بين المجعولين أو الامتثالين
؛ لخروج مرتبة المجعول ومرتبة الامتثال عن مفاد الدليل ، كما تقدم في الحلقة
السابقة .
ولا يقع التعارض
المصطلح إلاّبين الأدلّة المحرزة ؛ لأنّ الدليل المحرز هو الذي له مدلول وجعل يكشف
عنه ، وأمّا الأدلّة العملية المسمّاة بالاصول العملية فلا يقع فيها التعارض
المذكور ، إذ ليس للأصل العملي مدلول يكشفه وجعل يحكي عنه ، بل الأصل بنفسه حكم
شرعيّ ظاهري.
وحينما نقول في
كثيرٍ من الأحيان : إنّ الأصلين العمليّين متعارضان لا نقصد التعارض المصطلَح
بمعنى التنافي بينهما في المدلول ، بل التعارض في النتيجة ؛ لأنّ كلّ أصلٍ له
نتيجة معلولة له من حيث التنجيز والتعذير ، فإذا كانت
__________________
النتيجتان
متنافيتين كان الأصلان متعارضين ، وكلّما كانا كذلك وقع التعارض المصطلَح بين
دليليهما المحرزين ، لوقوع التنافي بينهما في المدلول.
ومن هنا نعرف أنّ
التعارض بين أصلين عمليّين مردّه إلى وقوع التعارض المصطلَح بين دليليهما ، وكذلك
الأمر في التعارض بين أصلٍ عمليٍّ ودليلٍ محرزٍ فإنّ مردّه إلى وقوع التعارض
المصطلَح بين دليل الأصل العملي ودليل حجّية ذلك الدليل المحرز. وهكذا نعرف أنّ
التعارض المصطلَح يقوم دائماً بين الأدلّة المحرزة.
ثمّ إنّ الدليلين
المحرزين إذا كانا قطعيّين فلا يعقل التعارض بينهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى القطع بوقوع
المتنافيين. وكذلك لا يتحقّق التعارض بين دليلٍ قطعيٍّ ودليلٍ ظنّي ؛ لأنّ الدليل
القطعي يوجب العلم ببطلان مفاد الدليل الظنّي وزوال كاشفيته فلا يكون دليلاً وحجّة
؛ لاستحالة الدليلية والحجّية لمِا يعلم ببطلانه.
وإنمّا يتحقّق
التعارض بين دليلين ظنّيّين ، وهذان الدليلان إمّا أن يكونا دليلين لفظيّين ، أو
غير لفظيّين ، أو مختلفين من هذه الناحية.
فإن كانا دليلين
لفظيّين ـ أي كلامين للشارع ـ فالتعارض بينهما على قسمين :
أحدهما : التعارض
غير المستقرّ ، وهو التعارض الذي يمكن علاجه بتعديل دلالة أحد الدليلين وتأويلها
بنحوٍ ينسجم مع الدليل الآخر.
والآخر : التعارض
المستقرّ الذي لا يمكن فيه العلاج. ففي حالات التعارض المستقرّ يسري التعارض إلى
دليل الحجّية ؛ لأنّ ثبوت الحجّية لكلٍّ منهما كما لو لم يكن معارضاً يؤدّي إلى
إثبات كلٍّ منهما ونفيه في وقتٍ واحد ؛
نظراً إلى أنّ
كلاًّ منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر ، ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت
الحجّيتين على نحو ثبوتهما في غير حالات التعارض ، وهذا معنى سراية التعارض إلى
دليل الحجّية لوقوع التنافي في مدلوله.
وأمّا في حالات
التعارض غير المستقرِّ فيعالج التعارض بالتعديل المناسب في دلالة أحدهما أو كليهما
، ومعه لا يسري التعارض إلى دليل الحجّية ، إذ لا يبقى محذور في حجّيتهما معاً بعد
التعديل.
ولكنّ هذا التعديل
لا يجري جزافاً ، وإنمّا يقوم على أساس قواعد الجمع العرفي التي مردّها جميعاً إلى
أنّ المولى يفسِّر بعض كلامه بعضاً ، فإذا كان أحد الكلامين صالحاً لأن يكون
مفسِّراً للكلام الآخر جمع بينهما بالنحو المناسب. ومثل الكلام في ذلك ظهور الحال.
وإن كان الدليلان
معاً غير لفظيّين أو مختلفين كان التعارض مستقرّاً لا محالة ؛ لأنّ التعديل إنمّا
يجوز في حالة التفسير ، وتفسير دليلٍ بدليلٍ إنمّا يكون في كلامين وما يشبههما ،
وإذا استقرّ التعارض سرى إلى دليلي الحجّية ، فإن كانا لفظيّين لوحظ نوع التعارض
بينهما ، وهل هو مستقرّ أوْ لا ، وإن لم يكونا كذلك فالتعارض مستقرّ على أيِّ حال.
والبحث في تعارض
الأدلّة يشرح أحكام التعارض غير المستقرّ والتعارض المستقرّ معاً.
الورود والتعارض :
وعلى ضوء ما تقدّم
نعرف أنّ الورود ـ بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة
السابقة ـ ليس من التعارض ، سواء كان الدليل الوارد محقِّقاً في
مورده لفردٍ حقيقيٍّ من موضوع الدليل المورود ، أو نافياً في مورده حقيقةً لموضوع
ذلك الدليل.
أمّا في الأول
فواضح. وأمّا في الثاني فلأنّ التنافي إنمّا هو بين المجعولين والفعليّتين ، لا بين
الجعلين ، فالدليلان (الوارد والمورود) كلاهما حجّة في إثبات مفادهما ، وتكون
الفعلية دائماً لمفاد الدليل الوارد ؛ لأنّه نافٍ لموضوع المجعول في الدليل الآخر.
وعلى هذا صحّ
القول بأنّ الدليلين إذا كان أحدهما قد اخذ في موضوعه عدم فعلية مفاد الدليل الآخر
فلا تعارض بينهما ، إذ لا تنافي بين الجعلين ، ويكون أحدهما وارداً على الآخر في
مرحلة المجعول والفعلية.
ثمّ إنّ ورود أحد
الدليلين على الآخر يتمّ ـ كما عرفت ـ برفعه لموضوعه ، وهذا الرفع على أنحاء :
منها : أن يكون
رافعاً له بفعلية مجعوله ، بأن يكون مفاد الدليل المورود مقيّداً بعدم فعلية
المجعول في الدليل الوارد.
ومنها : أن يكون
رافعاً له بوصول المجعول لا بواقع فعليته ولو لم يصل.
ومنها : أن يكون
رافعاً له بامتثاله ، فما لم يمتثل لايرتفع الموضوع في الدليل المورود.
ومثال الأول :
دليل حرمة إدخال الجُنُب في المسجد الذي يرفع بفعلية مجعوله موضوع صحة إجارة الجنب
للمكث في المسجد ، إذ يجعلها إجارةً على
__________________
الحرام ، ودليل
صحة الإجارة مقيّد بعدم كونها كذلك.
ومثال الثاني :
دليل الوظيفة الظاهرية الذي يرفع بوصول مجعوله عنوان المشكل المأخوذ في موضوع دليل
القرعة.
ومثال الثالث :
دليل وجوب الأهمّ الذي يرفع بامتثاله موضوع دليل وجوب المهمّ ، كما تقدم في مباحث
القدرة .
وقد يتّفق التوارد
من الجانبين ، وبعض أنحاء التوارد كذلك معقول ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين ، وبعض
أنحائه معقول ويكون أحد الورودين هو المحكّم دون الآخر ، وبعض أنحائه غير معقول
فيؤدّي إلى وقوع التعارض بين الدليلين المتواردين.
فمثال الأول : أن
يكون الحكم في كلٍّ من الدليلين مقيَّداً بعدم ثبوت الحكم الآخر في نفسه ، وحينئذٍ
حيث إنّ كلاًّ من الحكمين في نفسه ولولا الآخر ثابت فلا يكون الموضوع لكلٍّ منهما
محقّقاً فعلاً ، وهذا معنى أنّ التوارد نفذ وأخذ مفعوله في كلا الطرفين.
ومثال الثاني : أن
يكون الحكم في أحد الدليلين مقيَّداً بعدم ثبوت حكمٍ على الخلاف ، وأمّا الحكم
الثاني فهو مقيّد بعدم امتثال حكمٍ مخالف ، ففي مثل ذلك يكون دليل الحكم الثاني
تامّاً ومدلوله فعلياً ، وبذلك يرتفع موضوع دليل الحكم الأول. وأمّا دليل الحكم
الأول فيستحيل أن ينطبق مدلوله على المورد ؛ لأ نّه إن اريد به إثبات مفاده حتّى
في غير حال امتثاله فهو مستحيل ؛ لأنّ غير حال
__________________
امتثاله هو حال
فعلية الحكم الثاني التي لا يبقى معها موضوع للحكم الأول. وإن اريد به إثبات مفاده
في حال امتثاله خاصّةً فهو مستحيل أيضاً ؛ لامتناع اختصاص حكمٍ بفرض امتثاله ، كما
هو واضح.
ومثال الثالث : أن
يكون الحكم في كلٍّ من الدليلين مقيَّداً بعدم حكمٍ فعليٍّ على الخلاف ، ففي مثل
ذلك يكون كلّ منهما صالحاً لرفع موضوع الآخر لو بدأنا به ، ولمّا كان من المستحيل
توقّف كلٍّ منهما على عدم الآخر يقع التعارض بين الدليلين على الرغم من ورود كلٍّ
منهما على الآخر ، ويشملهما أحكام التعارض.
وسنتكلّم في ما
يأتي عن أحكام التعارض ضمن عدّة بحوث :
ـ ١ ـ
قاعدة الجَمع العُرفي
ونتكلّم في بحث
هذه القاعدة عن النظرية العامة للجمع العرفي ، وعن أقسام الجمع العرفي ـ أو أقسام
التعارض غير المستقرِّ ـ وملاك الجمع في كلّ واحدٍ منها وتكييفه على ضوء تلك
النظرية العامة ، وعن أحكامٍ عامةٍ للجمع العرفي تشترك فيها كلّ الأقسام ، وعن
نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب ، وعن تطبيقاتٍ للجمع العرفي وقع
البحث فيها. فهذه خمس جهاتٍ رئيسية نتناولها بالبحث تباعاً :
١ ـ النظرية العامّة للجمع العرفي
تتلخّص النظريّة
العامّة للجمع العرفي في : أنّ كلّ ظهورٍ للكلام حجّة ما لم يعدّ المتكلّم ظهوراً
آخر لتفسيره وكشف المراد النهائي له ، فإنّه في هذه الحالة يكون المعوَّل عقلائياً
على الظهور المعَدّ للتفسير وكشف المراد النهائي للمتكلّم ، ويسمّى بالقرينة ، ولا
يشمل دليل الحجّية في هذه الحالة الظهور الآخر.
وهذا الإعداد
تارةً يكون شخصياً وتقوم عليه قرينة خاصّة ، واخرى يكون نوعياً ؛ بمعنى أنّ العرف
أعدَّ هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد من ذلك النوع
من التعبير وتحديد
المراد منه ، والظاهر من حال المتكلّم الجري وفق الإعدادات النوعية العرفية ، فمن
الأول قرينية الدليل الحاكم على المحكوم ، ومن الثاني قرينية الخاصِّ على العامّ.
وكلّ قرينةٍ إن
كانت متّصلةً بذي القرينة منعت عن انعقاد الظهور التصديقي أساساً ولم يحصل تعارض
أصلاً.
وإن كانت منفصلةً
لم ترفع أصل الظهور ، وإنمّا ترفع حجّيته ؛ لِمَا تقدّم ، وهذا هو معنى الجمع
العرفي.
والقرينية الناشئة
من الإعداد الشخصي يحتاج إثباتها إلى ظهورٍ في كلام المتكلّم على هذا الإعداد ، من
قبيل أن يكون مسوقاً مساق التفسير للكلام الآخر مثلاً.
والقرينة الناشئة
من الإعداد النوعي يحتاج إثباتها إلى إحراز البناء العرفي على ذلك ، والطريق إلى
إحراز ذلك غالباً هو : أن نفرض الكلامين متّصلين ونرى هل يبقى لكلٍّ منهما في حالة
الاتّصال اقتضاء الظهور التصديقي في مقابل الكلام الآخر ، أوْ لا؟
فإن رأينا ذلك
عرفنا أنّ أحدهما ليس قرينةً على الآخر ؛ لأنّ القرينة باتّصالها تمنع عن ظهور
الكلام الآخر وتعطِّل اقتضاءه. وإن رأينا أنّ أحد الكلامين بطل ظهوره أساساً عرفنا
أنّ الكلام الثاني قرينة عليه.
وعلى هذا الضوء
نعرف أنّ القرينية مع الاتّصال توجب إلغاء التعارض ونفيه حقيقةً ، ومع الانفصال
توجب الجمع العرفي بتقديم القرينة على ذي القرينة ؛ لما عرفت. كما أنّ بناء العرف
قائم على أنّ كلّ ما كان على فرض اتّصاله هادماً لأصل الظهور فهو في حالة الانفصال
يعتبر قرينةً ويقدَّم بملاك القرينية.
هذه هي نظرية
الجمع العرفي على وجه الإجمال ، وستتّضح معالمها
وتفاصيلها أكثر
فأكثر من خلال استعراض أقسام التعارض غير المستقرِّ التي يجري فيها الجمع العرفي.
٢ ـ أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقرِّ
الحكومة :
من أهمّ أقسام
التعارض غير المستقرّ أن يكون أحد الدليلين حاكماً على الدليل الآخر ، كما في «لا
ربا بين الوالد وولده» الحاكم على دليل حرمة الربا ، فإنّه في مثل ذلك يقدَّم
الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والحكومة تعبير عن تلك النكتة التي بها استحقّ
الدليل الحاكم التقديم على محكومه ، فلكي نحدِّد مفهومها لابدّ أن نعرف نكتة التقديم
وملاكه ، وفي ذلك اتّجاهان :
الاتّجاه الأول
لمدرسة المحقّق النائيني قدّس الله روحه ، وحاصله : أنّ الأخذ بالدليل الحاكم إنمّا
هو من أجل أنّه لا تعارض في الحقيقة بينه وبين الدليل المحكوم ؛ لأنّه لا ينفي
مفاد الدليل المحكوم ، وإنمّا يضيف اليه شيئاً جديداً ، فإنّ مفاد الدليل المحكوم
مردّه دائماً إلى قضيةٍ شرطيةٍ مؤدّاها في المثال المذكور : أنّه إذا كانت
المعاملة رِباً فهي محرَّمة. وكلّ قضيةٍ شرطيةٍ لا تتكفّل إثبات شرطها ، ولهذا
يقال : إنّ صدق الشرطية لا يستبطن صدق طرفيها. ومفاد الدليل الحاكم قضية منجّزة
فعلية مؤدّاها في المثال نفي الشرط لتلك القضية الشرطية ، وأنّ معاملة الأب مع
ابنه ليست ربا ، فلابدّ من الأخذ بالدليلين معاً.
__________________
وهذا الاتّجاه غير
صحيح ؛ لأنّ دليل حرمة الربا موضوعه ما كان رباً في الواقع ، سواء نفيت عنه
الربوية إدّعاءً في لسان الشارع أوْ لا ، والدليل الحاكم لا ينفي صفة الربوية
حقيقةً ، وإنمّا ينفيها ادّعاءً ، وهذا يعني أنّه لا ينفي الشرط في القضية الشرطية
المفادة في الدليل المحكوم ، بل الشرط محرز وجداناً ، وبهذا يحصل التعارض بين
الدليلين ، فلابدّ من تخريجٍ لتقديم الدليل الحاكم مع الاعتراف بالتعارض.
الاتّجاه الثاني :
وهو الصحيح ، وحاصله : أنّه بعد الاعتراف بوجود التعارض بين الدليلين يقدَّم الدليل
الحاكم تطبيقاً لنظرية الجمع العرفي المتقدمة ؛ لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى
الدليل المحكوم ، وهذا النظر ظاهر في أنّ المتكلّم قد أعدّه لتفسير كلامه الآخر
فيكون قرينة ، ومع وجود القرينة لايشمل دليل الحجّية ذا القرينة ؛ لأنّ دليل حجّية
الظهور مقيّد بالظهور الذي لم يعدَّ المتكلّم قرينةً لتفسيره ، فبالدليل الناظر
المعدِّ لذلك يرتفع موضوع حجّية الظهور في الدليل المحكوم ، سواء كان الدليل
الحاكم متّصلاً أو منفصلاً ، غير أنّه مع الاتّصال لا ينعقد ظهور تصديقي في الدليل
المحكوم أصلاً ، وبهذا لا يوجد تعارض بين الدليلين أساساً ، ومع الانفصال ينعقد
ولكن لا يكون حجّة. لِمَا عرفت.
ثمّ إن النظر الذي
هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية :
الأول
: أن يكون مسوقاً
مساق التفسير ، بأن يقول : أعني بذلك الكلام كذا ، ونحو ذلك.
الثاني
: أن يكون مسوقاً
مساق نفي موضوع الحكم في الدليل الآخر ، وحيث إنّه غير منتفٍ حقيقةً فيكون هذا
النفي ظاهراً في ادّعاء نفي الموضوع وناظراً إلى نفي الحكم حقيقةً.
الثالث
: أن يكون التقبّل
العرفي لمفاد الدليل الحاكم مبنيّاً على افتراض
مدلول الدليل
المحكوم في رتبةٍ سابقة ، كما في «لا ضرر» ، أو «لا ينجِّس الماء مالا نفس له»
بالنسبة إلى أدلّة الأحكام وأدلّة التنجيس.
وإذا قارنّا بين
الاتّجاهين أمكننا أن ندرك فارقين أساسيّين :
أحدهما : أنّ
حكومة الدليل الحاكم على الاتّجاه الثاني تتوقّف على إثبات النظر ، وأمّا على
الاتّجاه الأول فيكون الدليل الحاكم بمثابة الدليل الوارد ، وقد مرّ بنا في الحلقة
السابقة أنّه لا يحتاج
تقدّمه على دليلٍ إلى إثبات نظره إلى مفاده بالخصوص ، بل يكفي كونه متصرّفاً في
موضوعه.
والفارق الآخر :
أنّ الاتّجاه الثاني يفسّر حكومة مثل «لا حرج» ، و «لاضرر» ، و «لا ينجِّس الماء
مالانفس له» ؛ لوجود النظر فيها ، وأمّا الاتّجاه الأول فلا يمكنه أن يفسّر
الحكومة إلاّفيما كان لسانه لسان نفي الموضوع للدليل الآخر.
التقييد :
إذا جاء دليل مطلق
ودليل على التقييد فدليل التقييد على أقسام :
القسم
الأول : أن يكون دالاًّ
على التقييد بعنوانه ، فيكون ناظراً بلسانه التقييدي إلى المطلق ، ويقدَّم عليه
باعتباره حاكماً ويدخل في القسم المتقدم.
القسم
الثاني : أن يكون مفاده
ثبوت سنخ الحكم الوارد في الدليل المطلق للمقيّد ، كما إذا جاء خطاب «أعتق رقبة» ،
ثمّ خطاب «أعتق رقبةً مؤمنة».
وفي هذه الحالة إن
لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض ؛ وإن علمت وحدة الحكم المدلول للخطابين وقع التعارض
بين ظهور الأول في الإطلاق بقرينة
__________________
الحكمة وظهور
الثاني في احترازية القيود ، وحينئذٍ فإن كان الخطابان متّصلين لم ينعقد للأول
ظهور في الإطلاق ؛ لأنّه فرع عدم ذكر ما يدلّ على القيد في الكلام ، والخطاب الآخر
المتّصل يدلّ على القيد ، فلا تجري قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق.
وإن كان الخطابان
منفصلين انعقد الظهور في كلٍّ منهما ـ لِمَا تقدم في بحث الإطلاق من أنّ الإطلاق ينعقد بمجرّد عدم مجيء
القرينة على القيد في شخص الكلام ـ وقدِّم الظهور الثاني ؛ لأنّه قرينة بدليل
إعدامه لظهور المطلق في فرض الاتّصال. وقد تقدم أنّ البناء العرفي على أنّ كلّ ما
يهدم أصل الظهور في الكلام عند اتّصاله به فهو قرينة عليه في فرض الانفصال ويقدّم
بملاك القرينية.
وهناك اتّجاه يقول
: إنّ دليل القيد حتّى لو كان منفصلاً يهدم أصل الظهور في المطلق ، وهذا الاتّجاه
يقوم على الاعتقاد بأنّ قرينة الحكمة التي هي أساس الدلالة على الإطلاق متقوّمة
بعدم ذكر القيد ولو منفصلاً ، وقد تقدّم في بحث الإطلاق إبطال ذلك.
القسم
الثالث : أن يكون مفاده
إثبات حكمٍ مضادٍّ في حصّةٍ من المطلق ، كما إذا جاء خطاب «أعتق رقبة» ، ثمّ خطاب «لا
تعتق رقبةً كافرة» ، على أن يكون النهي في الخطاب الثاني تكليفياً ، لا إرشاداً
إلى مانعية الكفر عن تحقّق العتق الواجب ، وإلاّ دخل في القسم الأول.
وهذا القسم يختلف
عن القسم السابق في أنّ التعارض هنا محقَّق ـ على أيّ
__________________
حالٍ ـ بلا حاجةٍ
إلى افتراضٍ من الخارج ، بخلاف القسم السابق فإنّه يحتاج إلى افتراض العلم من
الخارج بوحدة الحكم. ويتّفق القسمان في حكم التعارض بعد حصوله ، إذ يقدَّم المقيّد
على المطلق في كلا القسمين بنفس الملاك السابق.
التخصيص :
إذا ورد عامّ ـ يدلّ
على العموم بالأداة ـ وخاصّ جرت نفس الأقسام السابقة للمقيّد هنا أيضاً ؛ لأنّ هذا
الخاصّ : تارةً يكون ناظراً إلى العامّ.
واخرى يكون
متكفِّلاً لإثبات سنخ حكم العامّ ولكن في دائرةٍ أخص ، كما اذا قيل : «أكرم كلّ
فقير» ، وقيل : «أكرم الفقير العادل».
وثالثةً يكون
الخاصّ متكفِّلاً لإثبات نقيض حكم العامّ أو ضدّه لبعض حصص العام ، كما إذا قيل : «أكرم
كلّ عالم» ، وقيل : «لا يجب إكرام النحوي» ، أو «لا تكرم النحوي».
ولا شكّ في أنّ
الخاصَّ من القسم الأول يعتبر حاكماً ويقدّم بالحكومة على عموم العام.
وأمّا الخاصّ من
القسم الثاني فمع عدم إحراز وحدة الحكم لا تعارض ، ومع إحرازها يكون الخاصّ
معارضاً للعموم هنا ، كما كان المقيّد في نظير ذلك معارضاً للإطلاق في ما تقدم.
وأمّا الخاصّ من
القسم الثالث فلا شكّ في أنّه معارض للعموم.
وعلى أيِّ حالٍ
فلا خلاف في تقدّم الخاصِّ على العامِّ عند وقوع المعارضة بينهما ، فإن كان الخاصّ
متّصلاً لم يسمح بانعقاد ظهورٍ تصديقيٍّ للعامّ في العموم.
وإن كان منفصلاً
اعتبر قرينةً على تخصيصه ، فيخرج ظهور العامّ عن موضوع دليل الحجّية ؛ لوجود
قرينةٍ على خلافه ، وهذا على العموم ممّا لا خلاف فيه.
وإنمّا الخلاف في
نقطة ، وهي : أنّ قرينية الخاصّ على التخصيص هل هي بملاك الأخصّية مباشرةً ، أو
بملاك أنّه أقوى الدليلين ظهوراً ، فانّ ظهور الخاصّ في الشمول لمورده أقوى دائماً
من ظهور العامّ في الشمول له؟
وتظهر الثمرة فيما
إذا كان استخراج الحكم من الدليل الخاصّ موقوفاً على ملاحظة ظهورٍ آخر غير ظهوره
في الشمول المذكور ، إذ قد لا يكون ذلك الظهور الآخر أقوى.
ومثاله : أن يرد «لا
يجب إكرام الفقراء» ، ويرد «أكرم الفقير القانع» فإنّ تخصيص العامّ يتوقّف على
مجموع ظهورين في الخاص : أحدهما الشمول لمورده ، والآخر كون صيغة الأمر فيه بمعنى
الوجوب ، والأول وإن كان أقوى من ظهور العامّ في العموم ولكن قد لا يكون الثاني
كذلك.
والصحيح : أنّ
الأخّصية بنفسها ملاك للقرينية عرفاً ، بدليل أنّ أيَّ خاصٍّ نفترضه لو تصوّرناه
متّصلاً بالعامّ لهدم ظهوره التصديقي من الأساس ، وهذا كاشف عن القرينية ، كما
تقدم .
وهذا لا ينافي
التسليم أيضاً بأنّ الأظهر إذا كانت أظهريّته واضحةً عرفاً يعتبر قرينةً أيضاً ،
وفي حالة تعارضه مع الظاهر يجمع بينهما عرفاً بتحكيم الأظهر على الظاهر وفقاً
لنظرية الجمع العرفي العامّة.
[نظريّة انقلاب النسبة :]
ثمّ إنّ المراد
بالأخصّية التي هي ملاك القرينية : الأخصّية عند المقارنة بين مفادي الدليلين في
مرحلة الدلالة والإفادة ، لا الأخصّية عند المقارنة بين
__________________
مفاديهما في مرحلة
الحجّية.
وتوضيح ذلك : أنّه
اذا ورد عامّان متعارضان من قبيل : «يجب إكرام الفقراء» ، و «لا يجب إكرام الفقراء»
، وورد مخصِّص على العامّ الأول يقول : «لا يجب إكرام الفقير الفاسق» فهذا
المخصِّص تارةً نفرضه متّصلاً بالعام ، واخرى نفرض انفصاله.
ففي الحالة الاولى
يصبح سبباً في هدم ظهور العامّ في العموم وحصر ظهوره التصديقي في غير الفسّاق ،
وبهذا يصبح أخصّ مطلقاً من العامِّ الثاني ، وفي مثل ذلك لا شكّ في التخصيص به.
وأمّا في الحالة
الثانية فظهور العامّ الأول في العموم منعقد ، ولكنّ الخاصّ قرينة موجبة لسقوطه من
الحجّية بقدر ما يقتضيه ، وحينئذٍ : فإن نظرنا إلى هذا العامّ والعامّ الآخر
المعارض له من زاوية المدلولين اللفظيّين لهما في مرحلة الدلالة فهما متساويان ليس
أحدهما أخصَّ من الآخر.
وإن نظرنا إلى
العامّين من زاوية مدلوليهما في مرحلة الحجّية وجدنا أنّ العامَّ الأول أخصّ من
العامِّ الثاني ؛ لأنّه بما هو حجّة لم يعد يشمل كلّ أقسام الفقراء ، فبينما كان
مساوياً للعامِّ الآخر انقلب إلى الأخصّية.
وقد ذهب المحقّق
النائيني إلى الأخذ بالنظرة الثانية ، وسمّى ذلك بانقلاب النسبة ،
بينما أخذ صاحب الكفاية بالنظرة الاولى.
واستدلّ الأول على
انقلاب النسبة : بأنَّا حينما نعارض العامَّ الثاني بالعامِّ الأول يجب أن ندخل في
المعارضة غير ما فرغنا عن سقوط حجّيته من دلالة ذلك
__________________
العامّ ؛ لأنّ ما
سقطت حجّيته لا معنى لِأنْ يكون معارضاً.
ونلاحظ على هذا
الاستدلال : أنّ المعارضة وإن كانت من شأن الدلالة التي لم تسقط بعدُ عن الحجّية
ولكنّ هذا أمرٌ وتحديد ملاك القرينية أمرٌ آخر ؛ لأنّ القرينية تمثّل بناءً عرفياً
على تقديم الأخصّ ، وليس من الضروري أن يراد بالأخصّ هنا الأخصّ من الدائرتين
الداخلتين في مجال المعارضة ، بل بالإمكان أن يراد الأخصّ مدلولاً في نفسه منهما ،
فالدليل الأخصّ مدلولاً في نفسه تكون أخصّيته سبباً في تقديم المقدار الداخل منه
في المعارضة على معارضه ، بل هذا هو المطابق للمرتكزات العرفية ؛ لأنّ النكتة في
جعل الأخصّية قرينةً هي ما تسبِّبه الأخصّية عادةً من قوة الدلالة. ومن الواضح أنّ
قوة الدلالة إنّما تحصل من الأخصّية مدلولاً ، وأمّا مجرّد سقوط حجّية العامّ
الأول في بعض مدلوله فلا يجعل دلالته في وضوح شمولها للبعض الآخر على حدِّ خاصٍّ
يرد فيه مباشرة.
فالصحيح : ما ذهب
اليه صاحب الكفاية.
٣ ـ أحكام عامّة للجَمع العرفي
للجمع العرفي
بأقسامه أحكام عامّة نذكر في مايلي جملةً منها :
١ ـ لابدّ لكي
يعقل الجمع العرفي أن يكون الدليلان المتعارضان لفظيّين أو ما بحكمهما ، وصادرين
من متكلّمٍ واحدٍ أو جهةٍ واحدة ؛ وذلك لأنّ ملاك الجمع العرفي ـ كما تقدم ـ هو إعداد أحد الدليلين لتفسير الآخر إعداداً شخصياً أو
__________________
نوعيّاً ، وهذا
إنمّا يصحّ في الكلام وعلى أن يكون المصدر واحداً ليفسّر بعض كلامه بالبعض الآخر.
٢ ـ وأيضاً إنمّا
يصحّ الجمع العرفي إذا لم يوجد علم إجمالي بعدم صدور أحد الكلامين من الشارع ، إذ
في هذه الحالة يكون التعارض في الحقيقة بين السندين ، لابين الدلالتين ، والجمع
العرفي علاج للتعارض بين الدلالتين ، لابين السندين.
٣ ـ ولا يخلو
الكلامان اللذَان يراد تطبيق الجمع العرفي عليهما من إحدى أربع حالات :
الاولى
: أن يكون صدور كلٍّ
منهما قطعياً ، وفي مثل ذلك لا يترقّب سريان التعارض إلاّإلى دليل حجّية الظهور ،
والمفروض أنّه لا يشمل ذا القرينة مع وجود القرينة ، وبذلك يتمّ الجمع العرفي.
الثانية
: أن يكون صدور كلٍّ
منهما غير قطعي ، وإنمّا يثبت بالتعبّد وبدليل حجّية السند مثلاً ، كما في أخبار
الآحاد ، وفي مثل ذلك لا يسري التعارض أيضاً ، لا إلى دليل حجّية الظهور ، ولا إلى
دليل حجّية السند.
أمّا الأول فلِمَا
تقدّم ، وأمّا الثاني فلأنّ مفاد دليل التعبّد بالسند الأخذ بالمفاد العرفي الذي
تعيّنه قواعد المحاورة العرفية لكلٍّ من المنقولين ، فاذا انحلّ الموقف على مستوى
دليل حجّية الظهور وعدِّل مفاد ذي القرينة على نحوٍ أصبح المفاد العرفي النهائي
للدليلين منسجماً لم يعدْ مانع من شمول دليل التعبّد بالسند لكلٍّ منهما استطراقاً
إلى ثبوت المدلول النهائي لهما.
الثالثة
: أن يكون صدور
القرينة قطعياً ، وصدور ذي القرينة مرهوناً بدليل التعبّد بالسند ، والأمر فيه
يتّضح ممّا تقدم في الحالة السابقة ، فإنّه لا مانع من شمول دليل التعبّد بالسند
لذي القرينة استطراقاً إلى إثبات مدلوله المعدّل حسب قواعد
المحاورة العرفية
والجمع العرفي.
الرابعة
: أن يكون صدور
القرينة مرهوناً بدليل التعبّد بالسند ، وصدور ذي القرينة قطعياً ، وفي هذه الحالة
قد يقال : بأنّ ظهور ذي القرينة باعتباره أمارةً لا يعارض ظهور القرينة بالذات
ليقال بتقدّم ظهور القرينة عليه بالجمع العرفي ، بل هو يعارض المجموع المركّب من
أمرين ، هما : ظهور القرينة ، وسندها ، إذ يكفي في بقاء ظهور ذي القرينة أن يكون
أحد هذين الأمرين خاطئاً ، وعليه فما هو المبرِّر لتقديم القرينة الظنية السند في
هذه الحالة؟
ومجرَّد أنّ أحد
الأمرين المذكورين له حقّ التقديم ـ وهو ظهور القرينة ـ لا يستوجب حقّ التقديم
لمجموع الأمرين.
وإن شئت قلت : إنّ
شمول دليل حجّية الظهور لذي القرينة وإن كان لا يعارض شموله لظهور القرينة ولكنّه
يعارض شمول دليل التعبّد بالسند لسند القرينة ، ومن هنا استشكل في تخصيص العامّ
الكتابي بخبر الواحد.
ويقال في الجواب
على ذلك : إنّ دليل حجّية الظهور قد اخذ في موضوعه عدم صدور القرينة على الخلاف ،
ودليل التعبّد بسند القرينة يثبت صدور القرينة على الخلاف ، فهو حاكم على دليل
حجّية الظهور ؛ لأنّه يثبت تعبّداً انتفاء موضوعه فيقدّم عليه بالحكومة.
نعم ، هناك ملاك
آخر للاستشكال في تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد ، وهو : إمكان دعوى القصور في
دليل التعبّد بالسند للشمول لخبرٍ مخالفٍ للعامِّ القطعي الكتابي ؛ لأنّ أدلّة
حجّية خبر الواحد مقيّدة بأن لا يكون الخبر مخالفاً للكتاب ، وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى.
__________________
٤ ـ نتائج الجمع العرفي بالنسبة الى الدليلِ المغلوب
لا شكّ في أنّ كلّ
ما يحرز شمول القرينة له من الأفراد التي كانت داخلةً في نطاق ذي القرينة لابدّ من
تحكيم ظهور القرينة فيها وطرح الدلالة الأوّلية لذي القرينة بشأنها ؛ تطبيقاً
لنظرية الجمع العرفي. كما أنّ ما يحرز عدم شمول القرينة له من تلك الأفراد يبقى في
نطاق ذي القرينة ويطبَّق عليه مفاده. وأمّا ما يشكّ في شمول القرينة له من الأفراد
فهو على أقسام :
القسم
الأول : أن يكون الشكّ في
الشمول ناشئاً من شبهةٍ مصداقيةٍ للعنوان المأخوذ في دليل القرينة يشكّ بموجبها في
أنّ هذا الفرد هل هو مصداق لذلك العنوان ، أوْ لا ، كما إذا ورد «أكرم كلّ فقيرٍ»
وورد «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، وشُكَّ في فسق زيدٍ للجهل بحاله ، فيشكّ حينئذٍ في
شمول المخصِّص له ، فما هو الموقف تجاه ذلك؟
وتوجد إجابتان على
هذا السؤال :
الاولى
: أن هذا الفرد يعلم
بأنّه مصداق للعام للقطع بفقره ، فدلالة العام على وجوب إكرامه محرزة ، ودلالة
المخصّص على خلاف ذلك غير محرزة ؛ لعدم العلم بانطباق عنوان المخصّص عليه ، وكلّما
أحرزنا دلالةً معتبرةً في نفسها ولم نحرز دلالةً على خلافها وجب الأخذ بها ، وهذا
هو معنى التمسّك بالعامِّ في الشبهة المصداقيّة.
والإجابة
الثانية ترفض التمسّك
بالعام ؛ لأنّنا بالعام إن أردنا أن نثبت وجوب إكرام زيدٍ على تقدير عدم فسقه فهذا
واضح وصحيح ، ولكن لا يثبت الوجوب فعلاً ؛ للشكِّ في التقدير المذكور. وإن أردنا
أن نثبت وجوب إكرامه حتّى
لو كان فاسقاً
فهذا ما نحرز وجود دلالةٍ أقوى على خلافه ، وهي دلالة القرينة. وإن أردنا أن نثبت
الوجوب الفعلي للإكرام لأجل تحقّق كلّ ما له دخل في الوجوب بما في ذلك عدم الفسق
فهذا متعذّر ؛ لأنّ الدليل مفاده الجعل ، لا فعلية المجعول.
وهذا هو الصحيح.
القسم
الثاني : أن يكون الشكّ في
الشمول ناشئاً من شبهةٍ مفهوميةٍ في العنوان المأخوذ في دليل القرينة ، كما إذا
تردّد عنوان الفاسق مفهوماً في المثال السابق بين مطلق المذنب ومرتكب الكبيرة
خاصّةً ، فيشكّ حينئذٍ في شمول دليل القرينة لمرتكب الصغيرة ، وفي مثل ذلك يصحّ
التمسّك بالعام لإثبات وجوب إكرام مرتكب الصغيرة ؛ لأنّ دلالة العام على حكمه
معلومة ، ووجود دلالةٍ في المخصّص على خلاف ذلك غير محرز.
فإن قيل : ألا
يأتي هنا نفس ما ذكر في الإجابة الثانية في القسم الأول لإبطال التمسّك بالعام؟!
كان الجواب : أنّ
ذلك لا يأتي ، ويتّضح ذلك بعد بيان مقدمة ، وهي : أنّ المخصِّص القائل : «لا تكرم
فسّاق الفقراء» يكشف عن دخالة قيدٍ في موضوع وجوب الإكرام زائدٍ على الفقر ، غير
أنّ هذا القيد ليس هو أن لا يسمّى الفقير فاسقاً ، فإنّ التسمية بما هي ليس لها أثر
إثباتاً ونفياً ، ولهذا لو تغيّرت اللغة ودلالاتها لمَا تغيّرت الأحكام ، بل القيد
هو : أن لا تتواجد فيه الصفة الواقعية للفاسق ، سواء سمّيناه فاسقاً ، أوْ لا ،
وتلك الصفة الواقعيّة مردّدة ـ بحسب الفرض ـ بين ارتكاب الذنب أو ارتكاب الكبائر
خاصّة ، وحيث إنّ ارتكاب الكبائر هو المتيقّن فنحن نقطع بأنّ عدم ارتكابها قيد
دخيل في موضوع الحكم بالوجوب.
وأمّا عدم ارتكاب
الصغيرة فنشكّ في كونه قيداً فيه.
وهكذا نعرف أنّ
هناك ثلاثة عناوين : أحدها نقطع بعدم كونه قيداً في
الوجوب ، وهو عدم
التسمية باسم الفاسق. والآخر نقطع بكونه قيداً فيه ، وهو عدم ارتكاب الكبيرة.
والثالث نشكّ في قيديّته ، وهو عدم ارتكاب الصغيرة.
إذا اتّضحت هذه
المقدمة فنقول : إنّ العامّ في نفسه يثبت وجوب إكرام الفقير بدون دخالة أيِّ قيد ،
غير أنّ المخصِّص حجّة لإثبات القيدية لعدم ارتكاب الكبيرة ، فيعود حكم العام بعد
تحكيم القرينة وجوباً مقيّداً بعدم ارتكاب الكبيرة ، ولا موجب لتقيّده بعدم
التسمية باسم الفاسق أو بعدم ارتكاب الصغيرة.
أمّا الأول فللقطع
بعدم قيديته ، وأمّا الثاني فلعدم إحراز دلالة المخصّص على ذلك. وعليه فيثبت
بالعام بعد التخصيص وجوب الإكرام لكلّ فقيرٍ منوطاً بعدم ارتكاب الكبيرة ، وهذا
الوجوب المنوط نثبته في مرتكب الصغيرة بلا محذورٍ أصلاً ، ويسمّى ذلك بالتمسّك
بالعامِّ في الشبهة المفهومية للمخصّص.
٥ ـ تطبيقات للجمع العرفي
هناك حالات ادُّعي
فيها تطبيق نظرية الجمع العرفي ، ووقع البحث في صحة ذلك وعدمه ، نذكر في مايلي
جملةً منها :
١
ـ إذا وردت جملتان
شرطيتان لكلٍّ منهما شرط خاصّ ولهما جزاء واحد ، من قبيل : «إذا خفي الأذان فقصِّر»
، و «إذا خفيت الجدران فقصِّر» وقع التعارض بين منطوق كلٍّ منهما ومفهوم الاخرى.
وهنا قد يقال : بأنّ منطوق كلٍّ منهما يقدّم على مفهوم الاخرى ، وينتج أنّ للتقصير
علّتين مستقلّتين : إمّا لأنّ دلالة المنطوق دائماً أظهر من دلالة المفهوم ، وإمّا
بدعوى أنّ المنطوق في المقام أخصّ فيقدَّم تخصيصاً ؛ لأنّ المفهوم في كلّ جملةٍ
يدلّ على انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها ، وهذا مطلق لحالتَي وجود شرط الجملة الاخرى
وعدم وجوده ،
والمنطوق في
الجملة الاخرى يدلّ على ثبوت الجزاء في حالة وجود شرطها فيكون مخصّصاً.
ونلاحظ على ذلك :
منع الأظهرية ، ومنع الأخصّية.
أمّا الأول فلأنّ
الدلالة على المفهوم مردّها إلى دلالة المنطوق على الخصوصية التي تستتبع الانتفاء
عند الانتفاء ، فالتعارض دائماً بين منطوقين.
وأمّا الثاني
فلأنّنا لابدّ أن نلتزم : إمّا بافتراض الشرطين علّتين مستقلّتين للجزاء ، وهذا
يعني تقييد المفهوم. وإمّا بافتراض أنّ مجموع الشرطين علّة واحدة مستقلّة ، وهذا
يعني الحفاظ على إطلاق المفهوم وتقييد المنطوق في كلٍّ من الشرطيّتين بانضمام شرط
الاخرى إلى شرطها ، فالتعارض إذن بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ، والنسبة
بينهما العموم من وجه ، فالصحيح أنّهما يتعارضان ويتساقطان ، ولا جمع عرفي.
٢
ـ إذا وردت جملتان
شرطيتان متّحدتان جزاءً ومختلفتان شرطاً ، وثبت بالدليل أنّ كلاًّ من الشرطين علّة
تامة ووجد الشرطان معاً فهل يتعدّد الحكم ، أوْ لا؟
وعلى تقدير
التعدّد فهل يتطلّب كلّ منهما امتثالاً خاصّاً به ، أوْ لا؟
ومثاله : إذا
أفطرت فأعتق ، وإذا ظاهرت فأعتق. والمشهور : أنّ مقتضى ظهور الشرطية في علّية
الشرط للجزاء أن يكون لكلّ شرطٍ حكم مسبَّب عنه ، فهناك إذن وجوبان للعتق ، وهذا
ما يسمّى ب «أصالة عدم التداخل في الأسباب» ، بمعنى أنّ كلّ سببٍ يبقى سبباً
تامّاً ، ولا يندمج السببان ويصيران سبباً واحداً.
وحيث إنّ كلّ
واحدٍ من هذين الوجوبين يمثّل بعثاً وتحريكاً مغايراً للآخر فلابدّ من انبعاثين
وتحرّكين ، وهذا ما يسمّى ب «أصالة عدم التداخل في المسبّبات» ، بمعنى أنّ
الوجوبين المسبَّبين لا يكتفى بامتثالٍ واحدٍ لهما.
فإن قيل : إنّ
هذين الوجوبين إن كان متعلّقهما واحداً ـ وهو طبيعي العتق
في المثال ـ لزم
إمكان الاكتفاء بعتقٍ واحد. وإن كان متعلّق كلٍّ منهما حصةً من العتق غير الحصّة
الاخرى لزم تقييد إطلاق مادة الأمر في «أعتق» ، وهو خلاف الظاهر.
كان الجواب أحد
وجهين :
الأول
: أن يؤخذ بالتقدير
الأول ـ بناءً على إمكان اجتماع بعثين على عنوانٍ كلّيٍّ واحدٍ ـ ويقال : إنّ
تعدّد البعث والتحريك بنفسه يقتضي تعدّد الانبعاث والحركة ؛ وإن كان العنوان الذي
انصبّ عليه البعثان واحداً.
الثاني
: أن يؤخذ بالتقدير
الثاني ـ بناءً على عدم إمكان اجتماع بعثين على عنوانٍ واحدٍ ـ ويلتزم بتقييد
إطلاق المادة ، والقرينة على التقييد نفس ظهور الجملتين في تعدّد الوجوب مع عدم
إمكان اجتماعهما على عنوانٍ واحدٍ بحسب الفرض ، وهذا نحو من الجمع العرفي.
٣
ـ إذا تعارض دليل
إلزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه ، قدِّم الدليل الإلزامي.
وقد يقرّب ذلك :
بأنّ الدليل الترخيصي ليس مفاده عرفاً إلاّأنّ العنوان المأخوذ فيه لا يقتضي
الإلزام ، فإذا فرض عنوان آخر أعمّ منه من وجهٍ دلّ الدليل الإلزامي على اقتضائه
للإلزام اخذ به ؛ لعدم التعارض بين الدليلين. وهذا في الحقيقة ليس من الجمع العرفي
؛ لأنّ الجمع العرفي يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل ، والبيان
المذكور يوضّح عدم التعارض رأساً.
٤
ـ إذا تعارض إطلاق
شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجهٍ : فإن كان أحد الدليلين دالاًّ على الإطلاق
بالوضع والأداة ، والآخر بقرينة الحكمة قدّم ما كان بالوضع ، سواء اتّصل بالإطلاق
الآخر أو انفصل عنه. أمّا في حالة الاتّصال فلأنّه بيان للقيد ، فلا يسمح لقرينة
الحكمة بالجريان وتكوين الإطلاق. وأمّا في حالة الانفصال فللأظهرية والقرينية.
وإذا كان كلاهما
بالوضع أو بقرينة الحكمة فهناك قولان : أحدهما أنّهما متكافئان فيتساقطان معاً ،
والآخر تقديم الشمولي على البدلي.
ويمكن أن يفسّر
ذلك بعدّة أوجه :
الأول
: أن يقال بأقوائية
الظهور الشمولي من الظهور البدلي في إطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيّين أو
حكمّيين ؛ وذلك لأنّ الشمولي يتكفّل أحكاماً عديدةً بنحو الانحلال ، بخلاف المطلق
البدلي الذي لا يتكفّل إلاّحكماً واحداً وسيع الدائرة ، والاهتمام النوعي ببيان
أصل حكمٍ برأسه أشدّ من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعةً وضيقاً ، فيكون التعهّد
العرفي بعدم تخلّف بيان أصل حكمٍ عن إرادته أقوى من التعهّد العرفي بعدم تخلّف
بيان سعة حكمٍ عن إرادتها ، ولمّا كان تقديم البدلي يستعدي التخلّف الأول وتقديم
الشمولي يستعدي التخلّف الثاني الأخفَّ محذوراً تعيّن ذلك.
الثاني
: أنّ الأمر في «أكرِم
فقيراً» يختصّ بالحصّة المقدورة عقلاً وشرعاً ، بناءً على أنّ التكليف بالجامع بين
المقدور وغير المقدور ليس معقولاً ، وشمول «لا تكرم الفاسق» للفقير الفاسق يجعل
إكرامه غير مقدورٍ شرعاً ، فيرتفع بذلك موضوع الإطلاق البدلي ويكون الشمولي وارداً
عليه.
ولكن تقدّم في محلّه أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره
معقول.
الثالث
: أنّ خطاب «لا تكرم
الفاسق» لا يعارض في الحقيقة وجوب إكرام فقيرٍ ما الذي هو مدلول خطاب «أكرم فقيراً»
، بل يعارض الترخيص في تطبيق الإكرام الواجب على إكرام الفقير الفاسق ، وهذا يعني
أنّ التعارض يقوم في الواقع
__________________
بين دليل الإلزام
في الخطاب الشمولي ودليل الترخيص في الخطاب البدلي ، وقد تقدّم أنّه متى تعارض
دليل الترخيص مع دليل الإلزام قدِّم الثاني على الأول.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ حرمة إكرام الفقير الفاسق تنافي الوجوب بنفسه مع فرض تعلّقه بصرف وجود الفقير
بلا قيد العدالة ، بقطع النظر عمّا يترتّب على ذلك من ترخيصاتٍ في التطبيق ،
فالتنافي إذن بين إطلاقي حكمين إلزاميّين.
اللهمّ إلاّأن
يقال : إنّ الإطلاق البدلي للأمر بالإكرام حالُه عرفاً كحال إطلاق أدلّة الترخيص ،
في أنّه لا يفهم منه أكثر من عدم وجود مقتضٍ من ناحية الأمر للتقيّد بحصّةٍ دون
حصة ، فلا يكون منافياً لوجود مقتضٍ لذلك من ناحية التحريم المجعول في الدليل
الآخر.
٥
ـ إذا تعارض أصل مع
أمارة ، كالرواية الصادرة من ثقةٍ فالتعارض ـ كما أشرنا سابقاً ـ إنمّا هو بين دليل حجّية الأصل ودليل حجّية تلك الرواية
؛ وفي مثل ذلك قد يقال بالورود بتقريب : أنّ موضوع دليل الأصل هو عدم العلم بما هو
دليل ، ودليل حجّية الخبر يجعل الخبر دليلاً ، فيرفع موضوع دليل الأصل حقيقةً وهو
معنى الورود.
ولكنّ أخذ العلم
في دليل الأصل بما هو دليل لا بما هو كاشف تامّ يحتاج إلى قرينة ؛ لأنّ ظاهر
الدليل في نفسه أخذ العلم فيه بوصفه الخاصّ.
وقد يقال بالحكومة
بعد الاعتراف بأنّ ظاهر دليل الأصل أخذُ عدم العلم في موضوعه بما هو كاشف تامّ ؛
وذلك لأنّ دليل حجّية الأمارة مفاده التعبّد بكونها علماً وكاشفاً تامّاً ، وبذلك
يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ ـ إثباتاً أو نفياً ـ موضوعاً لحكمٍ من
الأحكام. ومن أمثلة ذلك : قيامها مقام القطع المأخوذ
__________________
عدمه في موضوع
دليل الأصل ، وبهذا يكون دليل الحجّية رافعاً لموضوع دليل الأصل تعبّداً ، وهو
معنى الحكومة.
فإن قيل : هذا لا
ينطبق على حالة التعارض بين الأمارة والاستصحاب ؛ لأنّ دليل الاستصحاب مفاده
التعبّد ببقاء اليقين أيضاً ، فيكون بدوره رافعاً لموضوع دليل حجّية الأمارة وهو
الشكّ وعدم العلم.
كان الجواب : أنّ
الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية الأمارة لساناً ، بل إطلاق الدليل يشمل حتّى
حالة العلم الوجداني بالخلاف ، غير أن العقل يحكم باستحالة جعل الحجّية للأمارة مع
العلم بخلافها وجداناً. وهذا الحكم العقلي إنمّا يُخِرج عن إطلاق الدليل حالةَ
العلم الوجداني خاصّة ، فلا يكون الاستصحاب رافعاً لموضوع دليل حجّية الأمارة ،
خلافاً للعكس ، فإنّ الشكّ وعدم العلم مأخوذ في دليل الاستصحاب لساناً فبجعل
الأمارة علماً يرتفع موضوعه بالحكومة.
ونلاحظ على ذلك كلّه
: أنّ الدليل الحاكم لا تتمّ حكومته إلاّبالنظر إلى مفاد الدليل المحكوم ـ كما
تقدم ـ ودليل حجّية الخبر في المقام ـ وكذلك الظهور ـ هو السيرة العقلائية وسيرة
المتشرّعة.
أمّا السيرة
العقلائية فلم يثبت انعقادها على تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي ؛ لعدم
انتشار حالات القطع الموضوعي في الحياة العقلائية على نحوٍ يساعد على انتزاع
السيرة المذكورة. وإمضاء السيرة العقلائية شرعاً لا دليل على نظره إلى أكثر ممّا
تنظر السيرة اليه من آثار.
وأمّا سيرة
المتشرّعة فالمتيقّن منها العمل بالخبر والظهور في موارد القطع الطريقي ، ولا جزم
بانعقادها على العمل بهما في موارد القطع الموضوعي.
والأصحّ : أن
نلتزم بأخصّية دليل حجّية الخبر والظهور ، بل كونه نصّاً في
__________________
مورد تواجد الاصول
على الخلاف ؛ للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور ، وعدم
الرجوع إلى البراءة ونحوها من الاصول العملية.
فالأمارة بحكم هذه
الأخصّية والنصّية في دليل حجّيتها مقدَّمة على الأصل المخالف لها ؛ وإن لم يثبت
بدليل الحجّية قيامها مقام القطع الموضوعي عموماً.
٦
ـ إذا تعارض أصل
سببي وأصل مسبّبي كان الأصل السببي مقدَّماً ، ولهذا يجري استصحاب طهارة الماء
الذي يغسل به الثوب المتنجّس ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول. وقد فسِّر
ذلك على أساس الحكومة ؛ لأنّ استصحاب نجاسة الثوب في المثال موضوعه الشكّ في نجاسة
الثوب بقاءً ، واستصحاب طهارة الماء يلغي تعبّداً الشكّ في تمام آثار طهارة الماء
بما فيها تطهيره للثوب ، فيرتفع بالتعبّد موضوع استصحاب النجاسة ، كما تقدم في
الحلقة السابقة .
ولكن يلاحظ من
ناحية : أنّ هذا البيان يتوقّف على افتراض قيام الإحراز التعبّدي بالأصل السببي
مقام القطع الموضوعي ، وقد مرّت المناقشة في ذلك.
ومن ناحيةٍ اخرى :
أنّ التفسير المذكور غير مطّردٍ في سائر موارد تقديم الأصل السببي على المسبّبي ؛
لأنّه يختصّ بما إذا كان مفاد الأصل السببي إلغاء الشكّ وجعل الطريقية ، كما يدّعى
في الاستصحاب ، مع أنّ الأصل السببي قد لا يكون مفاده كذلك ، ومع هذا يقدّم على
الأصل المسبّبي حتّى ولو كان مفاده جعل الطريقية ، فالماء المغسول به الثوب في
المثال المذكور لو كان مورداً لأصالة الطهارة ـ لا لاستصحابها ـ لبني على تقدّمها
بلا إشكالٍ على استصحاب نجاسة الثوب المغسول ، مع أنّ دليل أصالة الطهارة ليس
مفاده إلغاء الشكّ لتجري
__________________
الحكومة بالبيان
المذكور.
وهذا يكشف عن أنّ
نكتة تقدّم الأصل السببي على المسبّبي لا تكمن في إلغاء الشكّ ، بل في كونه يعالج
موضوع الحكم ، فكأنّه يحلّ المشكلة في مرتبةٍ أسبقَ على نحوٍ لا يبقى مجال للحلّ
في مرتبةٍ متأخّرةٍ عرفاً ؛ وهذا يعني أنّ السببية باللحاظ المذكور نكتة عرفية
تقتضي بنفسها التقديم في مقام الجمع بين دليلَي الأصلين : السببي والمسبّبي.
٧
ـ إذا تعارض
الاستصحاب مع أصلٍ آخر كالبراءة وأصالة الطهارة تَقدَّم الاستصحاب بالجمع العرفي.
والمشهور في تفسير هذا التقديم وتبرير الجمع العرفي : أنّ دليل الاستصحاب حاكم على
أدلّة تلك الاصول ؛ لأنّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين وإلغاء الشكّ ، وتلك الأدلّة
اخذ في موضوعها الشكّ ، فيكون رافعاً لموضوعها بالتعبّد.
فإن قيل : كما أنّ
الشكّ مأخوذ في موضوع أدلّة البراءة وأصالة الطهارة كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل
الاستصحاب.
كان الجواب : أنّ
الشكّ وإن كان مأخوذاً في موضوع أدلّتها جميعاً ولكنّ دليل الاستصحاب هو الحاكم ؛
لأنّ مفاده التعبّد باليقين وإلغاء الشك ، بخلاف أدلّة الاصول الاخرى.
وهذا البيان يواجه
نفس الملاحظة التي علّقناها على دعوى حكومة دليل حجّية الأمارة على أدلّة الاصول ،
فلاحظ .
والأحسن : تخريج
ذلك على أساسٍ آخر من قبيل : أنّ العموم في دليل الاستصحاب عموم بالأداة ؛
لاشتماله على كلمة «أبداً» ، فيكون أقوى وأظهر في الشمول لمادة الاجتماع.
__________________
ـ ٢ ـ
التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية
نتناول الآن
التعارض المستقرَّ الذي تقدَّمَ : أنّ التنافي فيه بعد استقرار التعارض يسري إلى دليل
الحجّية ، إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجّية لهما معاً. وسنبحث هنا حكم هذا
التعارض في ضوء دليل الحجّية ، وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة التي عولج فيها
حكم التعارض ، وهذا معنى البحث عمّا تقتضيه القاعدة في المقام.
والمعروف أنّ
القاعدة تقتضي التساقط ؛ لأنّ شمول دليل الحجّية للدليلين المتعارضين غير معقول ،
وشموله لأحدهما المعيَّن دون الآخر ترجيح بلا مرجِّح ، وشموله لهما على وجه
التخيير لا ينطبق على مفاده العرفي ـ وهو الحجّية التعيينيّة ـ فيتعيّن التساقط.
ونلاحظ من خلال
هذا البيان أنّ الانتهاء إلى التساقط يتوقّف على إبطال الشقوق الثلاثة الاولى ،
فلنتكلّم عن ذلك :
[حجيّة الدليلين المتعارضين معاً :]
أمّا الشقّ الأول
ـ وهو شمول دليل الحجّية لهما معاً ـ فقد يقال : إنّ الدليلين
__________________
المتعارضين تارةً
يكون مفاد أحدهما إثبات حكمٍ إلزامي ، ومفاد الآخر نفيه.
واخرى يكون مفاد
كلٍّ منهما حكماً ترخيصياً. وثالثةً يكون مفاد كلٍّ منهما حكماً إلزامياً.
ففي الحالة الاولى
يستحيل شمول دليل الحجّية لهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى تنجيز حكمٍ إلزاميٍّ والتعذير عنه
في وقتٍ واحد.
وفي الحالة
الثانية يستحيل الشمول ؛ لأدائه ـ مع العلم بمخالفة أحد الترخيصين للواقع ـ إلى
الترخيص في المخالفة القطعية لذلك الواقع المعلوم إجمالاً.
وأمّا في الحالة
الثالثة : فإن كان الحكمان الإلزاميان متضادَّين ذاتاً ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب
الجمعة ودلّ آخر على حرمتها ـ فالشمول محال أيضاً ؛ لأدائه إلى تنجيز حكمين
إلزاميّين في موضوعٍ واحد.
وإن كانا
متضادَّين بالعرض للعلم الإجمالي من الخارج بعدم ثبوت أحدهما ـ كما إذا دلّ دليل
على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر ـ فلا استحالة في شمول دليل الحجّية لهما
معاً ؛ لأنّه إنمّا يؤدّي إلى تنجيز كلا الحكمين الإلزاميّين مع العلم بعدم ثبوت
أحدهما ، ولا محذور في ذلك.
ولكن الصحيح : أنّ
هذا التوهّم يقوم على أساس ملاحظة المدلول المطابقي في مقام التعارض فقط ، وهو خطأ
، فإنّ كلاًّ من الدليلين المفروضين يدلّ بالالتزام على نفي الوجوب المفاد بالآخر
، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لأحدهما والدلالة الالتزامية للآخر ،
وحجّيتهما معاً تؤدّي إلى تنجيز حكمٍ والتعذير عنه في
__________________
وقتٍ واحد.
فإن قيل : هذا
يعني أنّ المحذور نشأ من ضمِّ الدلالتين الالتزاميّتين في الحجّية إلى
المطابقيّتين فيتعيّن سقوطهما عن الحجّية ؛ لأنّهما المنشأ للتعارض ، وتظلّ حجّية
الدلالة المطابقية في كلٍّ من الدليلين ثابتة.
كان الجواب : أنّنا
نواجه في الحقيقة معارضتين ثُنائيّتين ، والدلالة الالتزامية تشكِّل أحد الطرفين
في كلٍّ منهما ، فلا مبرِّر لطرح الدلالة الالتزامية إلاّ التعارض ، وهو ذو نسبةٍ
واحدةٍ إلى كلا طرفي المعارضة ، فلابدّ من سقوط الطرفين معاً.
فإن قيل :
المبرِّر لطرح الدلالة الالتزامية خاصّةً دون المطابقية أنّها ساقطة عن الحجّية
على أيّ حال ، سواء رفعنا اليد عنها ابتداءً أو رفعنا اليد عن الدلالتين
المطابقيّتين ؛ لانّ سقوط المطابقية عن الحجّية يستتبع سقوط الالتزامية ، فالدلالة
الالتزامية إذن ساقطة عن الحجّية على أي حالٍ ؛ إمّا سقوطاً مستقلًّا ، أو بتبع
سقوط الدلالة المطابقية ، ومع هذا فلا موجب للالتزام بسقوط الدلالة المطابقية.
كان الجواب : أنّ
الدلالة الالتزامية في كلّ معارضةٍ ثنائيةٍ تعارض الدلالة المطابقية للدليل الآخر
، وهي غير تابعةٍ لها في الحجّية ليدور أمرها بين السقوط الابتدائي والسقوط التبعي
، فلا معيّن لحلّ المعارضة بإسقاط الدلالتين الالتزاميّتين خاصّة.
[حجيّة أحد الدليلين المتعارضين :]
وأمّا الشقّ
الثاني ـ وهو شمول دليل الحجّية لأحدهما المعيَّن ـ فقد برهن على استحالته بأنّه
ترجيح بلا مرجِّح ، إلاّأنّ هذا البرهان لا يطّرد في الحالات التالية.
الحالة
الاولى : أن نعلم بأنّ ملاك
الحجّية والطريقية غير ثابتٍ في كلٍّ من الدليلين في حالة التعارض ، وفي هذه
الحالة لا شكّ في سقوطهما معاً بلا حاجةٍ إلى برهان ؛ لأنّ المفروض عدم الملاك
لحجّيتهما.
الحالة
الثانية : أن نعلم ـ بقطع
النظر عن دليل الحجّية ـ بوجود ملاكها في كلٍّ منهما وبأنّ الملاك في أحدهما
المعيّن أقوى منه في الآخر ، ولا شكّ هنا في شمول دليل الحجّية لذلك المعيّن ولا
يكون ترجيحاً بلا مرجّح ؛ للعلم بعدم شموله للآخر. وكذلك الأمر إذا احتملنا
أقوائية الملاك الطريقي في ذلك المعيَّن ولم نحتمل الأقوائية في الآخر ، فإنّ هذا
يعني أنّ إطلاق دليل الحجّية للآخر معلوم السقوط ؛ لأنّه إمّا مغلوب أو مساوٍ
ملاكاً لمعارضه ، وأمّا إطلاق دليل الحجّية لمحتمل الأقوائية فهو غير معلوم السقوط
، فنأخذ به.
الحالة
الثالثة : أن لا يكون الملاك
محرزاً بقطع النظر عن دليل الحجّية لا نفياً ولا إثباتاً ، وإنمّا الطريق إلى
إحرازه نفس دليل الحجّية ، ونفترض أنّنا نعلم بأنّ الملاك لو كان ثابتاً في
المتعارضَين فهو في أحدهما المعيَّن أقوى ، وهذا يعني العلم بسقوط إطلاق دليل
الحجّية للآخر ؛ لأنّه إمّا لا ملاك فيه ، وإمّا فيه ملاك مغلوب. وأمّا إطلاق دليل
الحجية للمعيَّن فلا علم بسقوطه ، فيؤخذ به. ومثل ذلك ما إذا كان أحدهما المعيَّن
محتمل الأقوائية على تقدير ثبوته دون الآخر.
ومن أمثلة ذلك :
أن يكون أحد الراويين أوثق وأفقه من الراوي الآخر ، فإنّ نكتة الطريقية التي هي
ملاك الحجّية لا يحتمل كونها موجودةً في غير الأوثق والأفقه خاصّة.
وهكذا يتّضح أنّ
إبطال الشمول لأحدهما المعيَّن ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجّحٍ إنمّا يتّجه في
مثل ما إذا كان كلّ من الدليلين مورداً لاحتمال وجود الملاك الأقوى فيه.
[الحجيّة التخييريّة للدليلين المتعارضين :]
وأمّا الشقّ
الثالث ـ وهو إثبات الحجّية التخييرية ـ فقد ابطل بأنّ مفاد الدليل هو كون الفرد
مركزاً للحجّية ، لا الجامع.
ويلاحظ أنّ
الحجّية التخييرية لا ينحصر أمرها بحجّية الجامع ليقال بأنّ ذلك خلاف مفاد الدليل
، بل يمكن تصويرها بحجّيتين مشروطتين ، بأن يلتزم بحجّية كلٍّ من الدليلين لكن لا
مطلقاً ، بل شريطة أن لا يكون الآخر صادقاً ، فمركز كلٍّ من الحجّيتين الفرد لا
الجامع ، ولكن نرفع اليد عن إطلاق الحجّية لأجل التعارض. ولا تنافي بين حجّيتين
مشروطتين من هذا القبيل ، ولا محذور في ثبوتهما إذا لم يكن كذب كلٍّ من الدليلين
مستلزماً لصدق الآخر ، وإلاّ رجعنا إلى إناطة حجّية كلٍّ منهما بصدق نفسه ، وهو
غير معقول.
فإن قيل : ما دمنا
لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع أن نميّز أنّ أيّ الحجّيتين المشروطتين تحقّق
شرطها لنعمل على أساسها ، فأيّ فائدةٍ في جعلهما؟
كان الجواب : أنّ
الفائدة نفي احتمالٍ ثالث ؛ لأنّنا نعلم بأنّ أحد الدليلين كاذب ، وهذا يعني العلم
بأنّ إحدى الحجّيتين المشروطتين فعلية ، وهذا يكفي لنفي الاحتمال الثالث.
وعلى ضوء ما تقدم
يتّضح :
أولاً
: أنّ دليل الحجّية
يقتضي الشمول لأحدهما المعيَّن إذا كان ملاك الحجّية على تقدير ثبوته أقوى فيه ،
أو محتمل الأقوائية دون احتمال مماثلٍ في الآخر.
ثانياً
: أنّه في غير ذلك
لا يشمل كلاًّ من المتعارضَين شمولاً منجّزاً.
ثالثاً
: أنّه مع ذلك يشمل
كلاًّ منهما شمولاً مشروطاً بكذب الآخر لأجل نفي الثالث ، وذلك فيما اذا لم يكن
كذب أحدهما مساوقاً لصدق الآخر.
هذه هي النظرية
العامة للتعارض المستقرِّ على مقتضى القاعدة.
تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقرّ :
ومن أجل تكميل
الصورة عن النظرية العامة للتعارض المستقرِّ يجب أن نشير إلى عدّة امور :
[الحالات المختلفة لدليل الحجّية :]
الأول
: أنّ دليل الحجّية
الذي يعالج حكم التعارض المستقرّ على ضوئه تارةً يكون دليلاً واحداً ، واخرى يكون
دليلين ، وتوضيح ذلك باستعراض الحالات التالية :
الاولى
: اذا افترضنا
دليلين لفظيّين قطعيّين صدوراً ظنّيين دلالةً تعارضا معارضةً مستقرّةً فالتنافي
بينهما يسري إلى دليل الحجّية ، كما تقدم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّية الظهور.
الثانية
: إذا افترضنا
دليلين لفظّيين قطعيّين دلالةً ظنيّين سنداً تعارضا معارضةً مستقرّةً فالتنافي
بينهما يسري إلى دليل الحجّية ، كما تقدم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّية السند.
الثالثة
: إذا افترضنا
دليلين لفظّيين ظنّيين دلالةً وسنداً فلا شكّ في سراية التنافي إلى دليل حجّية
الظهور ، ولكن هل يسري إلى دليل حجّية السند أيضاً؟
قد يقال بعدم
السريان ، إذ لا محذور في التعبّد بكلا السندين ، وإنمّا المحذور في التعبّد
بالمفادين.
ولكنّ الصحيح هو
السريان ؛ لأنّ حجّية الدلالة وحجّية السند مرتبطتان إحداهما بالاخرى ، بمعنى أنّ
دليل حجّية السند مفاده هو التعبّد بمفاد الكلام
__________________
المنقول ، لا
مجرّد التعبّد بصدور الكلام بقطع النظر عن مفاده.
الرابعة
: إذا افترضنا
دليلين لفظيّين : أحدهما ظنّي سنداً قطعي دلالةً ، والآخر بالعكس ولم يكن بالإمكان
الجمع العرفي بين الدلالتين فالتنافي الذي يسري هنا لا يسري إلى دليل حجّية الظهور
بمفرده ، ولا إلى دليل حجّية السند كذلك ، إذ لا توجد دلالتان ظنّيتان ولا سندان
ظنّيان ، وإنمّا يسري إلى مجموع الدليلين ، بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّية
السند في أحدهما ودليل حجّية الظهور في الآخر ، فاذا لم يكن هناك مرجِّح لتقديم
أحد الدليلين على الآخر طبِّقت النظرية السابقة.
الخامسة
: إذا افترضنا دليلاً
ظنّياً دلالةً وسنداً معارضاً لدليلٍ قطعيٍّ دلالةً وظنّيٍّ سنداً وتعذّر الجمع
العرفي سرى التنافي ، بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّية الظهور في ظنّيّ الدلالة
ودليل السند في الآخر ، ويؤدّي ذلك إلى دخول دليل السند لظنّيّ الدلالة في التعارض
أيضاً ؛ لِمَا عرفت من الترابط. والمحصّل النهائي لذلك : أنّ دليل السند في أحدهما
يعارض كلاًّ من دليل حجّية الظهور ودليل السند في الآخر.
السادسة
: إذا افترضنا
دليلاً ظنّياً دلالةً وسنداً معارضاً لدليلٍ ظنّيٍّ دلالةً وقطعيٍّ سنداً سرى
التنافي إلى دليل حجّية الظهور ؛ لوجود ظهورين متعارضين.
ودخل دليل التعبّد
بالسند الظنّي في المعارضة لمكان الترابط المشار اليه.
[حالة التعارض غير المستوعب :]
الثاني
: أنّ التعارض
المستقرّ تارةً يستوعب تمام مدلول الدليل ، كما في الدليلين المتعارضين الواردين
على موضوعٍ واحد. واخرى يشمل جزءاً من المدلول ، كما في العامَّين من وجه. وما
تقدّم من نظرية التعارض كما ينطبق على
التعارض المستوعب
كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب ، ولكن يختلف هذان القسمان في نقطة ، وهي : أنّه
في حالات التعارض المستوعب بين دليلين ظنّيين دلالةً وسنداً يسري التنافي إلى دليل
حجّية الظهور ، وبالتالي إلى دليل التعبّد بالسند. وأمّا في حالات التعارض غير
المستوعب بينهما فالتنافي يسري إلى دليل حجّية الظهور ، ولكن لا يمتدّ إلى دليل
التعبّد بالسند ، بمعنى أنّه لا موجب لرفع اليد عن سند كلٍّ من العامَّين من وجهٍ
رأساً.
فإن قيل : إنّ
التنافي في دليل حجّية الظهور يتوقّف على افتراض ظهورين متعارضين ، ونحن لا نحرز
ذلك في المقام إلاّبدليل التعبّد بالسند ، فالتنافي في الحقيقة نشأ من دليل
التعبّد بالسند.
كان الجواب : أنّ
هذا صحيح ، ولكنّه لا يعني طرح السند رأساً ، فإنّ مفاد دليل التعبّد بالسند ثبوت
الكلام المنقول بلحاظ تمام ما لَه من آثار ، ومن آثاره حجّية عمومه في مادة
الاجتماع وحجّية عمومه في مادة الافتراق ، فإذا تعذّر ثبوت الأثر الأول للتعارض
ثبت الأثر الثاني ، وهو معنى عدم سقوط السند رأساً.
وأمّا حين يتعذّر
ثبوت كلِّ ماللكلام المنقول من آثار ـ كما في حالات التعارض المستوعب ـ فيقوم
التعارض بين السندين لا محالة.
ومن هنا نستطيع أن
نعرف أنّه في كلّ حالات التعارض بين مدلولَي دليلين ظنّيين سنداً يقع التعارض
ابتداءً في دليل التعبّد بالسند ، لا في دليل حجّية الظهور ؛ لأنّنا لا نحرز وجود
ظهورين متعارضين إلاّمن ناحية التعبّد بالسند ، فإن كان التعارض مستوعباً سقط
التعبّد بالسند رأساً في كلٍّ منهما ، وإلاّ سقط بمقداره.
وأمّا ما كنّا
نقوله من أنّ التنافي يسري إلى دليل حجّية الظهور ويمتدّ منه إلى دليل التعبّد
بالسند فهو بقصد تبسيط الفكرة ، حيث إنّ التنافي بين السندين في مقام التعبّد
متفرّع على التنافي بين الظهورين في مقام الحجّية على تقدير ثبوتهما ، فكأنّ
التنافي سرى من دليل حجّية الظهور إلى دليل التعبّد بالسند. وأمّا من الناحية
الواقعية وبقدر ما
نمسك بأيدينا فالتعارض منصبّ ابتداءً على دليل التعبّد بالسند ؛ لأنّنا لا نمسك
بأيدينا سوى السندين.
[نفي الاحتمال الثالث بالدليلين المتعارضين :]
الثالث
: وقع البحث في أنّ
المتعارضين بعد عجز كلٍّ منهما عن إثبات مدلوله الخاصِّ هل يمكن نفي الاحتمال
الثالث بهما؟
وقد يقرَّب ذلك
بوجوه :
أولها
: التمسّك بالدلالة
الالتزامية في كلٍّ منهما لنفي الثالث ، فإنّها غير معارضةٍ فتبقى حجّة. وهذا
مبنيّ على إنكار تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجّية.
ثانيها
: التمسّك بدليل
الحجّية لإثبات حجّية غير ما علم إجمالاً بكذبه ، فإنّ المتعذّر تطبيق دليل
الحجّية على هذا بعينه أو ذاك بعينه للمعارضة ، وأمّا تطبيقه على عنوان (غير معلوم
الكذب) إجمالاً فلا محذور فيه ؛ لأنّه غير معارضٍ لا بتطبيقه على عنوان (معلوم
الكذب) لوضوح أنّ جعل الحجّية لهذا العنوان غير معقول ، ولا بتطبيقه على عنوانٍ
تفصيليٍّ كهذا أو ذاك ؛ لعدم إحراز مغايرة العنوان التفصيلي لعنوان غير المعلوم.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ الخبرين المتعارضين إمّا أن يحتمل كذبهما معاً ، أوْ لا ، فإن احتمل ففي حالة
كذبهما معاً لا تعيّن للمعلوم بالإجمال ، ولا لغير المعلوم بالإجمال لتجعل الحجّية
له ، وإن لم يحتمل كذبهما معاً فهذا بنفسه ينفي احتمال الثالث بلا حاجةٍ إلى
التمسّك بدليل الحجّية.
ثالثها
: وهو تعميق للوجه
الثاني ، وحاصله : الالتزام بحجّية كلٍّ من المتعارضين ولكن على نحوٍ مشروطٍ بكذب
الآخر ، وحيث يعلم بكذب أحدهما فيعلم بحجّية أحدهما فعلاً ، وهذا يكفي لنفي الثالث
، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
[مدى تأثير كون دليل الحجّية لبّياً :]
الرابع
: ينبغي أن يعلم
أنّا في تنقيح القاعدة على ضوء دليل الحجّية كنّا نستبطن افتراضاً ، وهو التعامل
مع أدلّة الحجّية بوصفها أدلّةً لفظيةً لا ترفع اليد عن إطلاقها إلاّبقدر الضرورة
، إلاّأنّ هذا الافتراض لا ينطبق على الواقع ؛ لأنّ دليل الحجّية في الغالب لبّيّ
مرجعه إلى السيرة العقلائية ، وسيرة المتشرّعة ، والإجماع.
والأدلة اللفظية
إذا تمّت تعتبر إمضائيةً فتنصرف إلى نفس مفاد تلك الأدلّة اللبِّية وتتحدّد
بحدودها.
وعلى هذا الأساس
سوف تتغيّر نتيجتان من النتائج التي انتهينا اليها سابقاً :
الاولى
: ما كنّا نفترضه من
التمسّك بإطلاق دليل الحجّية لإثبات حجّيةٍ في كلٍّ من المتعارضين مشروطةٍ بكذب
الآخر ، وكنّا نستفيد من ذلك لنفي احتمال الثالث ، فإنّ هذا الافتراض يناسب الدليل
اللفظي الذي له إطلاق يشمل المتعارضين بحدّ ذاته. وأمّا إذا كان مدرك الحجّية
الأدلّة اللبِّية من السيرة العقلائية وغيرها فلا إطلاق فيها للمتعارضين رأساً ،
فلا يمكن أن نثبت بها حجّيتين مشروطتين على النحو المذكور.
الثانية
: ما كنّا نفترضه ـ في
حالة تعارض الدليل اللفظيّ القطعيّ سنداً مع الدليل اللفظيّ الظنّيّ سنداً وعدم
إمكان الجمع العرفي ـ من وقوع التعارض بين دليل حجّية الظهور في الأول ودليل حجّية
السند في الثاني ، فإنّ هذا يناسب الإقرار بتمامية كلٍّ من هذين الدليلين في نفسه
وصلاحيته لمعارضة الآخر ، مع أنّ الواقع بناءً على أنّ دليل حجّية السند ـ أي
حجّية خبر الواحد ـ السيرة قصوره في نفسه عن الشمول لمورد المعارضة المستقرة لظاهر
كلامٍ قطعيّ الصدور من الشارع ؛ لعدم انعقاد السيرة في مثل ذلك على التعبّد بنقل
المعارض.
ـ ٣ ـ
حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة
الروايات الخاصة
الواردة في علاج التعارض على قسمين :
أحدهما
: ما يتّصل بحالات
التعارض بين الدليل القطعيّ السند والدليل الظنّيّ السند ، إذ قد يقال بوجود ما
يدلّ على إلغاء حجّية الدليل الظنّيّ السند في هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك
عمّا قد يكون هو مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبّد بالسند في أحدهما مع دليل
التعبّد بالظهور في الآخر وتساقطهما. ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العرض على
الكتاب ؛ لأنّها تقتضي عرض الأخبار على الكتاب.
والقسم
الآخر : ما يتّصل بحالات
التعارض بين الدليلين الظنّيين سنداً ، إذ قد يقال بوجود ما يدلّ على عدم التساقط
وثبوت الحجّية لأحد المتعارضين تعييناً أو تخييراً على نحوٍ نرفع اليد به عمّا
تقتضيه القاعدة من التساقط ، ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العلاج.
وسنتكلّم عن هذين
القسمين تباعاً :
١ ـ روايات العرض على الكتاب :
ويمكن تصنيف هذه
الروايات إلى ثلاث مجاميع :
المجموعة
الاولى : ما ورد بلسان الاستنكار
والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين ، من قبيل رواية أيّوب بن راشد ،
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «مالم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» .
فإنّ التعبير
بزخرفٍ يدلّ على نفي الصدور مع الاستنكار والتحاشي. وهذه الروايات تدلّ على سقوط
كلِّ خبرٍ مخالفٍ للكتاب عن الحجّية ، وبهذا تقيِّد دليل حجّية السند على تقدير
ثبوت الإطلاق فيه.
وقد يستشكل في ذلك
:
تارةً : بأنّ
الروايات المذكورة لا تنفي الحجّية ، وليست ناظرةً اليها ، وإنمّا تنفي صدور
الكلام المخالف ، فلا تعارض دليل حجّية السند لتقيِّده ، وإنمّا تعارض نفس
الروايات الدالّة على صدور الكلام المخالف.
واخرى : بأنّ
موضوع هذه الرواية غير الموافق ، لا المخالف ، ولازم ذلك عدم العمل بالروايات التي
لا تعرّض في القرآن الكريم لمضمونها.
وثالثةً : بأنّ
صدور الكلام المخالف من الأئمّة عليهمالسلام معلوم وجداناً ، كما في موارد التخصيص والتقييد ، وهذا
يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو بحملها على المخالفة في اصول الدين.
والجواب : أمّا
على الأول فبأنّ نفي الصدور بروح الاستنكار يدلّ بالالتزام العرفي على نفي
الحجّية.
وأمّا على الثاني
فبأنّ ظاهر عدم الموافقة عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، لا السالبة بانتفاء
الموضوع التي تحصل بعدم تطرّق القرآن للمضمون رأساً.
__________________
وأمّا على الثالث
فبأنّ نفس الاستنكار والتحاشي قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح
الدليل القرآني وإلغاءه رأساً ، فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما ممّا
لااستنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعية على ذلك.
المجموعة
الثانية : ما دلّ على إناطة
العمل بالرواية بأن يكون موافقاً مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية ابن
أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ،
قال : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلاّ فالذي جاء به أولى به» .
وهذه الرواية
ونظائرها تساوق في الحقيقة إلغاء حجّية خبر الواحد ؛ لأنّها تنهى عن العمل به في
حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ، ولا محصّل عرفاً لجعل الحجّية له في خصوص حالة
التطابق ؛ لكفاية الدلالة القرآنية حينئذٍ.
وعليه فيرد على
الاستدلال بها : أنّها بنفسها أخبار آحاد ، ولا يمكن الاستدلال بأخبار الآحاد على
نفي حجّية خبر الواحد. هذا ، إضافةً إلى أنّنا لو سلّمنا أنّها لا تلغي حجّية خبر
الواحد على الإطلاق فلا شكّ في أنّها تسلب الحجّية عن الخبر الذي ليس له موافق من
الكتاب الكريم ، ومضمونها نفسه لا يوافق الكتاب الكريم ، بل يخالفه ، بناءً على
دلالة الكتاب وغيره من الأدلّة القطعية على حجّية خبر الثقة ، فيلزم من حجّيتها
عدم حجّيتها.
المجموعة
الثالثة : ما دلّ على نفي
الحجّية عمّا يخالف الكتاب الكريم ، من قبيل رواية جميل بن درّاج ، عن أبي عبدالله
عليهالسلام أنّه قال : «الوقوف
عند الشبهة
__________________
خير من الاقتحام
في الهلكة ، إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب
الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدَعوه» .
وتعتبر هذه
المجموعة مخصِّصةً لدليل حجّية الخبر ، لا ملغيةً للحجّية رأساً ، ونتيجة ذلك عدم
شمول الحجّية للخبر المعارض للكتاب الكريم. وبعد أخذ الكتاب بوصفه مصداقاً لمطلق
الدليل القطعي على ضوء مناسبات الحكم والموضوع يثبت أنّ كلّ دليلٍ ظنّيٍّ يخالف
دليلاً قطعيّ السند يسقط عن الحجّية ، والمخالفة هنا حيث لم ترد في سياق الاستنكار
بل في سياق الوقوف عند الشبهة فلا تختصّ بالمخالفة التي تقتضي طرح الدليل القرآني
رأساً كما في المجموعة الاولى ، بل تشمل كلّ حالات التعارض المستقرّ بما في ذلك
التباين والعموم من وجه.
وقد يعترض على ذلك
باعتراضين :
الأول
: أنّ هذه المجموعة
لا تختصّ بأخبار الآحاد ، بل تشمل كلّ أمارةٍ تؤدّي إلى مخالفة الكتاب ، فلا تكون
أخصّ مطلقاً من دليل حجّية الخبر ، بل قد تكون النسبة هي العموم من وجه.
والجواب : أنّ
الصحيح تقديم إطلاق هذه المجموعة ـ عند التعارض ـ على دليل حجّية الخبر باعتبار
حكومتها عليه ، إذ هي كأدلّة المانعية والشرطية فُرِض فيها الفراغ عن أصل حجّية
بعض الأمارات ليصحّ استثناء بعض الحالات من ذلك ، وهذا معنى النظر المستوجب
للحكومة.
أضف إلى ذلك : أنّ
خبر الثقة هو القدر المتيقّن منها ، باعتباره الفرد البارز من الأمارات ،
والمتعارف والداخل في محلّ الابتلاء وقتئذٍ الذي كان يترقّب
__________________
مخالفته للكتاب
تارةً وموافقته اخرى.
الثاني
: أنّ هذه المجموعة
تدلّ على إسقاط ما يخالف الكتاب عن الحجّية ، والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو
التباين أو العموم من وجهٍ كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة
؛ لأنّ ذلك كلّه يصدق عليه المخالفة ، فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب
الكريم مطلقاً ، سواء كان تعارضاً مستقرّاً أو غير مستقرّ.
وقد اجيب على هذا
الاعتراض بوجهين :
أحدهما : أنّ
المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوهما ليست بمخالفة ؛ لأنّ الخاصّ والمقيّد
والحاكم قرينة على المراد من العامّ والمطلق والمحكوم.
والآخر : أنّنا
نعلم إجمالاً بصدور كثيرٍ من المخصِّصات والمقيِّدات للكتاب عن الأئمّة عليهمالسلام ، وهذا إن لم يشكِّل قرينةً متّصلةً تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى
الأنحاء الاخرى من المخالفة ـ أي التعارض المستقرّ ـ فلا أقلّ من سقوط الإطلاقات
القرآنية عن الحجّية بالتعارض فيما بينها على أساس العلم الإجمالي ، فتبقى الأخبار
المخصّصة على حجّيتها.
ونلاحظ على هذين
الوجهين : أنّ المخالفة للقرآن المسقِطة للخبر عن الحجّية : إن اريد بها المخالفة
لدلالةٍ قرآنيةٍ ولو لم تكن حجّةً فكلا الجوابين غير صحيح ؛ لأنّ القرينة المنفصلة
والتعارض على أساس العلم الإجمالي لا يرفع أصل الدلالة القرآنية ، ولا يُخِرج
الخبر عن كونه مخالفاً لها.
وإن اريد بها
المخالفة لدلالةٍ قرآنيةٍ حجّةٍ في نفسها وبقطع النظر عن الخبر المخالف لها
فالجواب الثاني صحيح ؛ لأنّ الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجّية بسبب العلم
الإجمالي مالم يدَّع انحلاله. وأمّا الجواب الأول فهو غير صحيح ؛
لأنّ الخاصّ مخالف
لدلالة العامّ التي هي حجّة في نفسها وبقطع النظر عن ورود الخاصّ.
وإن اريد بها
المخالفة لدلالةٍ قرآنيةٍ واجدةٍ لمقتضى الحجّية حتى بعد ورود الخبر المخالف صحّ
كلا الجوابين ؛ لأنّ مقتضى الحجّية في العامِّ غير محفوظٍ بعد ورود القرينة المنفصلة
، واختصّت المخالفة المسقِطة للخبر عن الحجّية بالمخالفة على وجهٍ لا يصلح
للقرينية.
وأوجَه هذه
الاحتمالات أوسطها.
ويمكن أن يجاب
أيضاً ـ بعد الاعتراف بتمامية الاطلاق في روايات هذه المجموعة للمعارضة غير
المستقرة ـ : بأنّ هناك مخصّصاً لهذا الإطلاق ، وهو ما ورد في بعض الأخبار
العلاجية ممّا يستفاد منه الفراغ عن حجّية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه. ففي
رواية عبدالرحمان ابن أبي عبدالله قال : قال الصادق عليهالسلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله
، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب
الله فاعرضوهما على أخبار العامة ...» .
فإنّ الظاهر من
قوله : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان» أنّ الإمام عليهالسلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في نفسيهما
لولا التعارض ، فيكون دليلاً على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في الحجّية
الاقتضائية. نعم ، لا يوجد فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب ؛
لأنّه ليس في مقام بيان هذه الحيثية ليتمّ فيه الإطلاق ، فلابدّ من الاقتصار على
المتيقّن من مفاده وهو مورد القرينية.
__________________
٢ ـ روايات العلاج
ويمكن تصنيف
روايات العلاج إلى عدّة مجاميع ، أهمّها : مجموعة التخيير ، ومجموعة الترجيح :
روايات التخيير :
المجموعة الاولى :
ما استدلّ به من الروايات على التخيير ، بمعنى جعل كلٍّ منهما حجّةً على سبيل
التخيير ، والحديث عن ذلك يقع : تارةً في مقام الثبوت وتصوير إمكان جعل الحجّية
التخييرية ، واخرى في مقام الإثبات ومدى دلالة الروايات على ذلك.
أمّا البحث
الثبوتي فقد يقال فيه : إنّ الحجّية التخييرية غير معقولة ؛ لأنّه إمّا أن يراد
بها جعل حجّيةٍ واحدة ، أو جعل حجّيتين مشروطتين :
أمّا الأوّل فهو
ممتنع ؛ لأنّ هذه الحجّية الواحدة إن كانت ثابتةً لأحد الخبرين بالخصوص فهو خلف
تخييريّتها.
وإن كانت ثابتةً
للجامع بين الخبرين بنحو مطلق الوجود ـ أي الجامع أينما وجد ـ لزم سريان الحجّية
إلى كلا الفردين مع تعارضهما.
وإن كانت ثابتةً
للجامع بنحو صرف الوجود لم تسرِ إلى كلٍّ من الخبرين ؛ لأنّ ما يتعلّق بصرف الوجود
لا يسري إلى الفرد ، ومن الواضح أنّ صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول
ليكون حجّةً في إثباته.
وأمّا الثاني فهو
ممتنع أيضاً ؛ لأنّ حجّية كلٍّ من المتعارضين إن كانت مشروطةً بالالتزام به لزم
عدم حجّيتهما معاً في حالة ترك الالتزام بشيءٍ منهما ، وإن كانت مشروطةً بترك
الالتزام بالآخر لزمت حجّيتهما معاً في الحالة المذكورة.
والجواب : أنّ
بالإمكان تصوير التخيير بالالتزام بحجّية كلٍّ منهما مشروطةً بالالتزام به مع افتراض وجوبٍ طريقيٍّ للالتزام بأحدهما.
وأمّا البحث
الإثباتي فهناك روايات عديدة استدلّ بها على التخيير :
منها : رواية عليّ
بن مهزيار ، قال : قرأت في كتابٍ لعبدالله بن محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله عليهالسلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أنْ صلّهما في
المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلّهما إلاّ على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي
بك في ذلك؟ فوقّع عليهالسلام : «موسَّع عليك بأيّةٍ عملت» .
وفقرة الاستدلال
منها : قوله عليهالسلام : «موسَّع عليك بأيّةٍ عملت» الواضح في الدلالة على
التخيير وإمكان العمل بكلٍّ من الحديثين المتعارضين.
ولكن نلاحظ على
ذلك :
أولاً
: أنّ الظاهر منها
إرادة التوسعة والتخيير الواقعي ، لا التخيير الظاهري بين الحجّيتين ؛ لظهور كلٍّ
من سؤال الراوي وجواب الإمام في ذلك.
أمّا ظهور السؤال
فلأ نّه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذي تعارض فيه الخبران الظاهر في
استعلامه عن الحكم الواقعي ، على أنّ قوله : «فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟»
كالصريح في أنّ السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة ، فيكون مقتضى التطابق بينه وبين
الجواب كون النظر في كلام الإمام عليهالسلام إلى ذلك أيضاً ، إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة عن
حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام.
__________________
وأمّا ظهور الجواب
في التخيير الواقعي فباعتبار أنّه المناسب مع حال الإمام عليهالسلام ، العارف بالأحكام الواقعية والمتصدّي لبيانها فيما اذا كان السؤال عن واقعةٍ معيّنةٍ بالذات.
وثانياً
: لو تنزّلنا
وافترضنا أنّ النظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجّية فلا يمكن أن يستفاد من
الرواية التخيير في حالات التعارض المستقرّ ؛ لأنّ موردها التعارض بين مضمونين
بينهما جمع عرفي بحمل النهي على الكراهة بقرينة الترخيص ، فقد يراد بالتخيير حينئذٍ
التوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل النهي ؛ لعدم التنافي
بينهما ؛ لكون النهي غير إلزامي ، لاجعل الحجّية التخييرية بالمعنى المدّعى.
ومنها : مكاتبة
الحميري عن الحجّة عليهالسلام ، إذ جاء فيها : يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من
التشهّد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ، فإنّ بعض أصحابنا قال :
لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد؟ فكتب عليهالسلام في الجواب : «إنّ فيه حديثين : أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالةٍ إلى
حالةٍ اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي : إذا رفع رأسه من السجدة
الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك
التشهّد الأول يجري هذا المجرى ، وبأيِّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» .
وفقرة الاستدلال
منها : قوله عليهالسلام : «وبأيِّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» ،
والاستدلال بها لعلّه أوضح من الاستدلال بالرواية السابقة ، باعتبار كلمة
__________________
«أخذت من جهة
التسليم» التي قد يستشعر منها النظر إلى الحجّية والتعبّد بأحد الخبرين.
والصحيح : أنّ
الاستدلال بالرواية غير وجيه ؛ لأنّ السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين
، وإنمّا سأل عن مسألةٍ اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي ، وإنمّا يراد الاستدلال
بها على التخيير باعتبار ما في جواب الإمام عليهالسلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيِّهما شاء ،
إلاّأنّ هذا الجواب غير دالٍّ على التخيير المدّعى ؛ وذلك لعدّةِ امور :
الأول
: ظهور كلام الإمام عليهالسلام في الرخصة الواقعية ، لا التخيير الظاهري بين الحجّتين ، كما تقدم في الرواية
السابقة.
الثاني
: أنّ جملة «وكذلك
التشهّد الأول يجري هذا المجرى» تارةً تفترض جزءاً من الحديث الثاني ، واخرى تفترض
كلاماً مستقلاً يضيفه الإمام إلى الحديثين.
فإذا كانت جزءاً
من الحديث ـ ولو بقرينة أنّه مورد لسؤال الراوي الذي قال عنه الإمام : إنّ فيه
حديثين ـ كان الحديثان متعارضين ، إلاّأنّهما من التعارض غير المستقرّ الذي فيه
جمع عرفي واضح ، لا باعتبار أخصّية الحديث الثاني فحسب ، بل باعتبار كونه ناظراً
إلى مدلول الحديث الأول وحاكماً عليه ، وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم
أمر واضح عرفاً ، ومقطوع به فقهياً بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف
الجمع العرفي فيه ، فيكون هذا بنفسه قرينةً على أنّ المقصود من التخيير الترخيص
الواقعي.
وإذا كانت جملةً
مستقلّةً وكان الحديث الثاني متكفِّلاً لحكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية
، وأ نّه ليس على المصلّي تكبير فيه فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي
وهو الانتقال من التشهّد إلى القيام ، فيكون هذا
بنفسه قرينةً على
أنّ المراد هو الترخيص الواقعي.
الثالث
: أنّه لو تمّت
دلالة الرواية على التخيير الظاهري في الحجّية فموردها الحديثان القطعيان اللّذان
نقلهما الإمام بنفسه ، كما يناسبه التعبير عنهما بالحديثين الظاهر في كونهما سنّةً
ثابتةً عن آبائه المعصومين ، فلا يمكن التعدّي منه إلى التعارض بين خبرين ظنّيين
سنداً ؛ لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيّين موجباً لجعل الحجّية
التخييرية في موردهما خاصّة.
ومنها : مرسلة
الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليهالسلام ـ في حديثٍ ـ قال : قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة
بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ ، فقال : «إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيِّهما
أخذت» .
وهذه أوضح
الروايات في الدلالة على التخيير في الحجّية بالنحو المدّعى ، إلاّ أنّها ساقطة
سنداً بالإرسال.
وقد تقدّمت بعض
الروايات المستدلِّ بها على التخيير في الحلقة السابقة مع مناقشة دلالتها.
روايات الترجيح :
المجموعة الثانية
: ما استدلّ به من الروايات على ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى لمرجِّح يعود إلى
صفات الراوي كالأوثقية ، أو صفات الرواية كالشهرة ، أو صفات المضمون كالمطابقة
للكتاب الكريم أو المخالفة للعامة ، وهي
__________________
روايات عديدة :
فمنها : رواية عبد
الرحمان ابن أبي عبد الله التي دلّت على الترجيح أولاً بموافقة الكتاب ، وثانياً
بمخالفة العامة ، وقد تقدمت الرواية مع الحديث عنها في الحلقة السابقة ، واتّضح من خلال ذلك أنّها تامّة في دلالتها على
المرجِّحين المذكورين.
ومنها : مقبولة
عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دينٍ أو ميراث ،
فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال عليهالسلام : «من تحاكم اليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى
الطاغوت ...».
قلت : فكيف يصنعان؟
قال : «ينظران من
كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به
حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم
الله استخفّ وعلينا ردّ ...».
قلت : فإن كان كلّ
واحدٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما
وكلاهما اختلفا في حديثكم.
قال : «الحكم ما
حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الآخر».
قال : فقلت :
فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه.
قال : فقال : «يُنظر
إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ،
__________________
المجمع عليه عند
أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك ، فإنّ المجمع
عليه لاريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيِّن رشده فيُتَّبَع ، وأمر بيِّن
غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يُردّ حكمه إلى الله ...».
قال الراوي : قلت
: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : «ينظر فما وافق حكمه
حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب
والسنّة ووافق العامة ...» ... إلى أن قال الراوي : قلت : فإن وافق حكامهم (اي
العامّة) الخبرين جميعاً ، قال : «اذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ
الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» .
وهذه الرواية
تشتمل على المرجِّحَين السابقَين ، غير أنّها تذكر قبل ذلك ترجيحين آخرين : أحدهما
الترجيح بصفات الراوي ، والآخر الترجيح بالشهرة ، فإن تمّت دلالتها على ذلك كانت
مقيِّدةً لإطلاق الرواية السابقة ، ودالّةً على أنّ الانتهاء إلى المرجِّحَين
السابقَين متوقّف على عدم وجود أحد هذين الترجيحين.
وقد يعترض على
استفادة هذين الترجيحين بالصفات وبالشهرة من المقبولة بوجوه :
الأول
: أنّ المقبولة
مختصّة مورداً بعصر الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليهالسلام بقرينة قوله فيها : «أرجئه حتّى تلقى إمامك» ، فلا تدلّ على
ثبوت
__________________
الترجيحين في عصر
الغيبة.
ونلاحظ على هذا
الوجه : أنّ اختصاص الفقرة الأخيرة التي تأمر بالإرجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد
الإطلاق في الفقرات السابقة ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ التمكّن من لقاء الإمام ليس من
الخصوصيات التي يحتمل العرف دخلها في مرجّحية الصفات ، إذ لا يختلف حال الأوثقية
في كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصري الحضور والغيبة ، وكذلك الأمر في الشهرة.
الثاني
: أنّ الترجيح
بالصفات وبالشهرة في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر ، لا لإحدى الروايتين
على الاخرى في مقام التعارض.
وهذا الاعتراض
وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات ، وليس صحيحاً بالنسبة إلى غيره ممّا ورد في
المقبولة ، كالترجيح بالشهرة.
أمّا وجاهته
بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلأنّنا نلاحظ إضافة الصفات في المقبولة إلى
الحاكمَين ، حيث قال عليهالسلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما».
هذا ، مضافاً إلى
أنّ الإمام قد طبّق الترجيح بالصفات على أول سلسلة السندين المتعارضين ـ وهما
الحاكمان ـ من دون أن يفرض أنّهما راويان مباشران للحديث ، بينما لو كان الترجيح
بها ترجيحاً لإحدى الروايتين على الاخرى كان ينبغي تطبيقه على مجموع سلسلة الرواة
، أو على الراوي المباشر ، كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضاً ؛ لأن
الراويَين المباشرَين إذا كان أحدهما أعدل وثبت الترجيح بالصفات فهذا يعني أنّ
رواية المفضول عدالةً منهما إنّما تكون حجّةً في حالة عدم معارضتها برواية الأعدل
، وعليه فالناقل لرواية الراوي المباشر الأعدل يكون مخبِراً عن اختلال شرط الحجّية
لرواية الراوي المباشر المفضول التي ينقلها الناقل الآخر ، وبهذا يكون حاكماً على
نقل الناقل الآخر ،
إذ يخرج منقوله عن
كونه موضوعاً للحجّيّة.
وهكذا نعرف أنّ
تطبيق الإمام للترجيح بالصفات على الحاكمَين اللذَين يمثِّلان أول سلسلة السند لا
ينسجم إلاّمع افتراض كون الترجيح لأحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم.
وأمّا عدم صحة
الاعتراض بالنسبة إلى الشهرة وغيرها فلأنّ سياق الحديث ينتقل من ملاحظة الحاكمَين
إلى ملاحظة الرواية التي يستند اليها كلّ منهما ، حيث قال : «ينظر ما كان من
روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ...» ، فاضيفت
المميّزات إلى الرواية ، لا إلى الحكم.
ولكنّ الشهرة في
المقبولة التي ورد الترجيح بها في الدرجة الثانية ظاهرة في الاشتهار والشيوع
المساوق لاستفاضة الرواية وقطعيّتها ، وليست بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها ؛ لأنّ
ظاهر الحديث إضافة الشهرة إلى نفس الرواية ، لا إلى مضمونها ، وذلك يناسب ما
ذكرناه ، ويعني الترجيح بالشهرة على هذا الضوء تقديم الرواية القطعية سنداً على
الظنّية ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، كما تقدم . وليس ذلك ترجيحاً لإحدى الحجّتين على الاخرى ؛ لِمَا عرفت
سابقاً من أنّ حجّية الخبر الظنّيّ السند مشروطة في نفسها بعدم المعارضة لقطعيّ
السند.
فإن قيل : إذا كان
الأمر كذلك وجب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ؛ لأنّ الترجيح بالصفات
يفترض حجّية كلٍّ من الخبرين ويرجّح إحدى الحجّتين على الاخرى.
كان الجواب : أنّ
الترجيح بالصفات ناظر إلى الحاكمَين ، لا إلى الراويين
__________________
ـ كما تقدم ـ فلا
إشكال من هذه الناحية.
وهكذا يتّضح أنّ
المقبولة لا يمكن أن يستفاد منها في مجال الترجيح بين الحجّتين من الروايات أكثر
ممّا ثبت بالرواية السابقة.
ومنها : المرفوعة
عن زرارة ، قال : سألت الباقر عليهالسلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان
المتعارضان فبأيِّهما آخذ؟
قال عليهالسلام : «يازرارة ، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودعِ الشاذَّ النادر».
فقلت : يا سيدي ،
إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.
فقال عليهالسلام : «خُذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك».
فقلت : إنّهما
معاً عدلان مرضيان موثّقان.
فقال عليهالسلام : «انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه ، وخُذ بما خالفهم».
قلت : ربّما كانا
معاً موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟
فقال عليهالسلام : «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط».
فقلت : إنّهما
معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟
فقال عليهالسلام : «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» .
وفي هذه المرفوعة
ذكرت مرجِّحات ، وهي على الترتيب : الشهرة ، ثمّ صفات الراوي ، ثمّ المخالفة
للعامّة ، ثم الموافقة للاحتياط ، ومع التكافؤ في كلّ ذلك حكمت بالتخيير.
وقد يعترض على
الترجيح بالشهرة بنفس ما تقدم في المقبولة من كونها بمعنى استفاضة الرواية
وتواترها ، ولكنّ هذا الاعتراض غير وجيه هنا ؛ لأنّ
__________________
المرفوعة بعد
افتراض شهرة الروايتين معاً تنتقل إلى الترجيح بالأوثقية ، ونحوها من صفات الراوي
، وذلك لا يناسب الروايتين القطعيّتين. ولكنّ المرفوعة ساقطة سنداً بالإرسال فلا
يمكن التعويل عليها.
وهكذا نعرف أنّ
المستخلَص ممّا تقدّم : ثبوت المرجِّحَين المذكورين في الرواية الاولى من روايات
الترجيح ، وفي حالة عدم توفّرهما نرجع إلى مقتضى القاعدة.
[تنبيهات بحث العلاج :]
بقي علينا أن نشير
في ختام روايات العلاج إلى عدّة نقاط :
الاولى
: أنّ العاملين
بالمجموعة الاولى المستدلّ بها على التخيير اختلفوا فيما بينهم ، في أنّ التخيير
هل هو تخيير في المسألة الاصولية ـ أي في الحجّية ـ أو في المسألة الفقهية ، أي في
الجري عملاً على وفق أحدهما؟
ومعنى الأول : أنّ
الإنسان لابدّ له أن يلتزم بمضمون أحد الخبرين ، فيكون حجّةً عليه ويسند مؤدّاه
إلى الشارع.
ومعنى الثاني :
أنّ الإنسان لا بدّ له أن يطبِّق عمله على مؤدّى أحد الخبرين.
ومن نتائج الفرق :
أنّ الفقيه على الأول يفتي بمضمون ما التزم به واختاره ، وعلى الثاني يفتي
بالتخيير ابتداءً. وهذا الخلاف لا موضوع له بعد إنكار أصل التخيير.
الثانية
: أنّ هؤلاء اختلفوا
أيضاً في أنّ التخيير ابتدائي ، أو استمراري ، بمعنى أنّ المكلف بعد اختيار أحد
الخبرين التزاماً أو عملاً هل يجوز له أن يعدل إلى اختيار الآخر ، أوْ لا؟
وقد ذهب البعض إلى كونه استمرارياً ، وتمسّك بالاستصحاب ، إلاّأنّ هذا
الاستصحاب يبدو أنّه من استصحاب الحكم المعلّق إذا كان التخيير في الحجّية ؛ لأنّ
مرجعه إلى أنّ هذا كان حجّةً لو أخذنا به سابقاً وهو الآن كما كان استصحاباً. وعلى
أيّ حالٍ فلا موضوع لهذا الخلاف بعد إنكار التخيير.
الثالثة
: إذا تمّت روايات
التخيير وروايات الترجيح المتقدمة فكيف يمكن التوفيق بينهما؟
فقد يقال بحمل
روايات الترجيح على الاستحباب.
ونلاحظ على ذلك :
أنّ الأمر في روايات الترجيح إرشاد إلى الحجّية فلا معنى لحمله على الاستحباب ، بل
المتعيَّن الالتزام بتقييد روايات التخيير بحالة عدم وجود المرجِّح.
الرابعة
: أنّ أخبار العلاج
هل تشمل موارد الجمع العرفي؟
قد يقال بإطلاق
لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعةً بالإطلاق عمّا تقتضيه القاعدة
العقلائية.
وقد يجاب : بأنّ
الظاهر من أسئلة الرواة لأخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة بسبب التنافي الذي
يجدونه بين الحديثين ، ومن البعيد أن يقع الراوي ـ بما هو إنسان عرفي ـ في التحيّر
مع وجود جمعٍ عرفيّ بين المتعارضين ، فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الأخبار
إلى موارد التعارض المستقرّ خاصّة.
والصحيح أن يقال :
إنّ روايات العلاج بنفسها تتضمّن قرينةً تدلّ على عدم شمولها لحالات الجمع العرفي
، فإنّ الرواية الاولى من روايات الترجيح قد افترضت فيها حجّية الخبر المخالف
للكتاب في نفسه ، وبقطع النظر عن معارضته
__________________
بحديثٍ آخر ؛
ولذلك صار الإمام بصدد علاج التعارض بين خبرين متعارضين :
أحدهما مخالف مع
الكتاب ، والآخر موافق معه ، فتدلّ على أنّ الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن
له معارض لكان حجّةً في نفسه ، وهذا يعني أنّ المعارضة الملحوظة بين الخبرين غير
المخالفة المفترضة بين الخبر والآية ، وليس ذلك إلاّلأنّ تلك المعارضة من التعارض
المستقرّ ، وتلك المخالفة من التعارض غير المستقرّ.
الخامسة
: أنّ أخبار العلاج
هل تشمل موارد التعارض المستقرّ غير المستوعب كحالات التعارض بين العامَّين من وجه
، أوْ لا؟
وقد نقل عن المحقق
النائيني ـ قدس الله روحه ـ الجواب على ذلك بالتفصيل بين المرجّحات
التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ السند ـ وتسمّى بالمرجّحات السندية ، كالترجيح
بالأوثقية ـ والمرجّحات المضمونية التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ المضمون ، كالترجيح
بموافقة الكتاب ، فاختار رحمهالله : أنّ المرجّحات السندية لا تشمل الفرض المذكور ؛ لأنّ
تطبيقها : إن كان على نحوٍ يؤدّي إلى إسقاط أحد العامّين من وجهٍ رأساً فهو بلا
موجب ؛ لأنّه لا مسوِّغ لإسقاطه في مادة الافتراق مع عدم التعارض. وإن كان على
نحوٍ يحافظ فيه على مادّتَي الافتراق للعامّين فهو مستحيل ؛ لأنّه يستلزم التبعيض
في السند الواحد بقبول العامّ في مادة الافتراق ورفضه في مادة الاجتماع ، مع أن
سنده واحد. وأمّا المرجّحات المضمونية فبالإمكان إعمالها في مادة الاجتماع فقط ،
ولا يلزم محذور.
هذا ما أردنا
استعراضه من بحوث التعارض في الأدلة ، وبذلك نختم الجزء
__________________
الثاني من الحلقة
الثالثة التي ينتهي الطالب بدراستها من السطوح ويصبح جديراً بحضور بحوث الخارج.
وقد وقع الابتداء
بكتابة هذا الجزء من الحلقة الثالثة بعد الفراغ من الجزء الأول منها ، ووقع الفراغ
منه ـ بحول الله تعالى وعونه ـ في اليوم الثالث عشر من شهر ذي القعدة من سنة (١٣٩٧
ه).
فنسأله سبحانه
الذي يسَّر ذلك أن يتقبّل هذا بلطفه ، وينفعَنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون ،
ويعمر قلوبنا بذكره وحبّه ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على الهداة
من خلقه خاتِمِ الأنبياء وأهلِ بيته الطاهرين.
فهرس المصادر
١ ـ أجود
التقريرات ، للسيّد الخوئي ، تقرير بحث المحقّق النائيني ، ج ١ ، ط قم ، مكتبة
المصطفوي ، ج ٢ ، ط قم ، مكتبة الفقيه.
٢ ـ الاحتجاج ،
لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسي ، ط انتشارات اسوة.
٣ ـ الاستبصار ،
لشيخ الطائفة الطوسي ، ط دار الكتب الإسلامية ، طهران.
٤ ـ الانتصار ،
للسيّد المرتضى ، ط جماعة المدرّسين ، قم.
٥ ـ بحار الأنوار
، للعلاّمة المجلسي ، ط طهران ، من منشورات المكتبة الإسلامية.
٦ ـ بحوث في علم
الاصول ، للسيّد المؤلّف قدسسره ، ط مكتب الإعلام الإسلامي ، قم.
٧ ـ بدائع الأفكار
، للمحقّق الرشتي ، ط حجرية ، مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٨ ـ تأسيس الشيعة
لعلوم الإسلام ، للسيّد حسن الصدر ، ط مؤسسة النعمان ، بيروت.
٩ ـ تشريح الاصول
، لملاّ علي النهاوندي ، ط حجريّة ، طهران.
١٠ ـ تهذيب
الأحكام ، للشيخ الطوسي ، ط طهران ، من منشورات المكتبة الإسلامية.
١١ ـ جامع أحاديث
الشيعة ، للسيّد البروجردي ، ط قم ، نشر الصحف.
١٢ ـ جامع المقاصد
، للمحقّق الكركي ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
١٣ ـ حاشية فرائد
الاصول ، للمحقّق الخراساني ، ط حجريّة ، منشورات مكتبة بصيرتي ، قم.
١٤ ـ حقائق الاصول
، للسيّد الحكيم ، ط مكتبة بصيرتي ، قم.
١٥ ـ الخصال ،
للشيخ الصدوق ، ط جماعة المدرسين ، قم.
١٦ ـ الدراسات في
علم الاصول ، تقريرات السيّد الخوئي قدسسره للسيّد علي الحسيني الشاهرودي ، ط مؤسسة دائرة المعارف
الفقهيّة ، قم.
١٧ ـ درر الفوائد
، للشيخ عبدالكريم الحائري ، ط جماعة المدرسين ، قم.
١٨ ـ الدرر
النجفيّة ، للمحدّث البحراني صاحب الحدائق ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
١٩ ـ الذريعة إلى
اصول الشريعة ، للسيّد المرتضى ، ط جامعة طهران.
٢٠ ـ السرائر ،
لابن إدريس ، ط جماعة المدرسين ، قم.
٢١ ـ ضوابط الاصول
، للسيّد إبراهيم القزويني ، ط الحجريّة ، ١٢٧٥ ق.
٢٢ ـ عدّة الاصول
، للشيخ الطوسي ، ط مؤسّسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٢٣ ـ علل الشرائع
، للشيخ الصدوق ، ط مكتبة الداوري ، قم.
٢٤ ـ عوالي اللآلئ
، لابن أبي الجمهور الأحسائي ، مطبعة سيّد الشهداء ، قم.
٢٥ ـ فرائد الاصول
، للشيخ الأعظم الأنصاري ، ط مؤتمر الشيخ الأنصاري ، قم.
٢٦ ـ الفصول
الغرويّة ، للشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الإصفهاني ، ط دار إحياء العلوم
الإسلاميّة ، قم.
٢٧ ـ فهرست أسماء
مصنّفي الشيعة ، للنجاشي ، ط جماعة المدرسين ، قم.
٢٨ ـ فوائد الاصول
، للمحقّق الكاظمي ، تقرير بحث المحقّق النائيني ، ط جماعة المدرسين ، قم.
٢٩ ـ الفوائد
الاصوليّة ، للسيّد محمّد مهدي الطباطبائي ، الطبعة الحجريّة.
٣٠ ـ الفوائد
المدنيّة ، للأمين الاسترابادي ، ط دار النشر لأهل البيت عليهمالسلام.
٣١ ـ القواعد
والفوائد ، للشهيد الأوّل ، ط منشورات مكتبة المفيد ، قم.
٣٢ ـ القوانين ،
للمحقّق القمّي ، ط حجريّة ، المكتبة العلمية الإسلامية ، طهران.
٣٣ ـ الكافي ،
للكليني ، ط دار الكتب الإسلاميّة ، طهران.
٣٤ ـ كفاية الاصول
، للمحقّق الخراساني ، ط جماعة المدرسين ، قم.
٣٥ ـ مباحث الاصول
، للسيّد كاظم الحائري ، تقرير بحث السيّد الشهيد ، ط مكتب الإعلام الإسلامي ، قم.
٣٦ ـ محاضرات في
اصول الفقه ، للشيخ الفيّاض ، تقرير بحث السيّد الخوئي ، ط دار الهادي ، قم.
٣٧ ـ مستدرك
الوسائل ، للمحدّث النوري ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٣٨ ـ مسند أحمد بن
حنبل ، ط دار الفكر ، بيروت.
٣٩ ـ مصباح الاصول
، للسيّد محمّد سرور ، تقرير بحث السيّد الخوئي ، ط مكتبة الداوري ، قم.
٤٠ ـ مطارح
الأنظار ، تقريرات الشيخ مرتضى الأنصاري ، للمحقّق الشيخ أبي القاسم كلانتري ، ط
مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٤١ ـ معارج الاصول
، للمحقّق الحلّي ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٤٢ ـ معالم الدين
وملاذ المجتهدين ، ط جماعة المدرسين ، قم.
٤٣ ـ مغني اللبيب
، لابن هشام ، ط مكتبة سيّد الشهداء عليهالسلام ، قم.
٤٤ ـ مفاتيح
الاصول ، للسيّد المجاهد ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٤٥ ـ مقالات
الاصول ، لآغا ضياء الدين العراقي ، ط مجمع الفكر الإسلامي ، قم.
٤٦ ـ مناهج
الأحكام والاصول ، للمولى مهدي النراقي ، مخطوط.
٤٧ ـ من لا يحضره
الفقيه ، للشيخ الصدوق ، ط جماعة المدرّسين ، قم.
٤٨ ـ نهاية
الأفكار ، للشيخ محمّد تقي البروجردي ، تقرير بحث المحقّق العراقي ، ط جماعة
المدرسين ، قم.
٤٩ ـ نهاية
الدراية ، للمحقّق الإصفهاني ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٥٠ ـ نهاية
النهاية ، للمحقّق الإيرواني ، ط دار الكتب الشرقيّة ، طهران.
٥١ ـ هداية
المسترشدين ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
٥٢ ـ الوافية في
اصول الفقه ، للفاضل التوني ، ط مجمع الفكر الإسلامي ، قم. ٥٣ ـ وسائل الشيعة ،
للحرّ العاملي ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، قم.
فهرس الموضوعات
الجزء
الأوّل
تمهيد
(١٣ ـ ٤٢)
تعريف علم الاصول.......................................................... ١٥
موضوع علم الاصول......................................................... ١٩
الحكم الشرعيّ وتقسيماته..................................................... ٢٢
الأحكام التكليفية والوضعية................................................ ٢٢
شمول الحكم للعالم والجاهل................................................. ٢٣
الحكم الواقعي والظاهري................................................... ٢٥
[شبهات حول الحكم الظاهري].......................................... ٢٦
شبهة التضادّ ونقض الغرض............................................. ٢٧
شبهة تنجّز الواقع المشكوك.............................................. ٣٢
الأمارات والاصول......................................................... ٣٢
التنافي بين الأحكام الظاهرية................................................ ٣٥
وظيفة الأحكام الظاهرية................................................... ٣٦
التصويب بالنسبة إلى بعض
الأحكام الظاهرية................................. ٣٧
القضية الحقيقية والخارجية
للأحكام.......................................... ٣٨
[تعلّق الأحكام بالعناوين الذهنيّة]......................................... ٤٠
تنسيق البحوث المقبلة........................................................ ٤٢
حُجّية القطع
(٤٣ ـ ٥٤)
[الحجّية على مبنى حقّ الطاعة]................................................ ٤٥
[الحجّية على مبنى المشهور]................................................... ٤٧
العلم الإجمالي............................................................... ٤٩
حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي....................................... ٥٢
الأدلّة المحرزة
(٥٥ ـ ٣١٣)
مبادئ عامّة
(٥٧ ـ ٧٢)
تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة........................................... ٥٩
مقدار ما يثبت بدليل الحجِّية.................................................. ٦١
تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية.......................................... ٦٤
وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي..................................... ٦٦
إثبات الأمارة لجواز الإسناد.................................................... ٦٩
إبطال طريقيّة الدليل.......................................................... ٧٠
تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة................................................. ٧١
الدليل الشرعي
(٧٣ ـ ٢١٨)
١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظي.................................................... ٧٧
الدلالات الخاصّة والمشتركة.................................................... ٧٧
المعاني الحرفيّة................................................................ ٨٠
هيئات الجمل............................................................. ٨٥
الجملة التامّة والجملة
الناقصة................................................ ٨٦
الجملة الخبرية والإنشائية.................................................... ٨٧
الثمرة.................................................................... ٨٩
الأمر أو أدوات الطلب....................................................... ٩١
القسم الأوّل : [ما يدلّ
على الطلب بلا عناية]............................... ٩١
الأوامر الإرشادية....................................................... ٩٦
القسم الثاني : [ما يدلّ
على الطلب بالعناية]................................. ٩٧
[دلالة النهي].......................................................... ٩٩
[الفور والتراخي ، والمرّة والتكرار].......................................... ٩٩
الإطلاق واسم الجنس....................................................... ١٠٠
[أنحاء لحاظ الماهيّة]...................................................... ١٠٠
[وضع اسم الجنس]...................................................... ١٠٢
التقابل بين الإطلاق والتقييد.............................................. ١٠٤
احترازيّة القُيود وقرينة
الحكمة.............................................. ١٠٦
[دور القيد المنفصل].................................................. ١٠٩
[القدر المتيقّن في مقام التخاطب]....................................... ١١٠
[تنبيهات حول الإطلاق]................................................. ١١١
أدوات العُموم.............................................................. ١١٦
تعريف العموم وأقسامه................................................... ١١٦
نحو دلالة أدوات العموم.................................................. ١١٧
العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد............................................. ١١٩
دلالة الجمع المعرَّف باللام
على العموم...................................... ١٢٠
النكرة في سياق النهي أو
النفي............................................ ١٢١
المفاهيم................................................................... ١٢٣
تعريف المفهوم........................................................... ١٢٣
ضابط المفهوم........................................................... ١٢٤
مورد الخلاف في ضابط المفهوم.......................................... ١٢٦
مفهوم الشرط........................................................... ١٢٧
الشرط المسوق لتحقّق الموضوع.......................................... ١٣١
مفهوم الوصف.......................................................... ١٣٣
مفهوم الغاية............................................................ ١٣٤
مفهوم الاستثناء......................................................... ١٣٥
مفهوم الحصر........................................................... ١٣٦
٢ ـ الدليل الشرعي غير اللفظي.............................................. ١٣٧
دلالات الفعل............................................................. ١٣٧
دلالات التقرير............................................................ ١٣٨
[السيرة المحقّقة لصغرى
الحكم الشرعي]..................................... ١٤٣
إثباتُ صغرى الدليل الشرعي
(١٤٥ ـ ١٩٤)
القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني....................................... ١٤٩
تمهيد..................................................................... ١٤٩
١ ـ التواتر................................................................. ١٥١
الضابط للتواتر.......................................................... ١٥٣
تعدّد الوسائط في التواتر.................................................. ١٥٥
أقسام التواتر............................................................ ١٥٥
٢ ـ الإجماع................................................................ ١٥٨
الشروط المساعدة على كشف
الإجماع..................................... ١٦٣
مقدار دلالة الإجماع..................................................... ١٦٤
الإجماع البسيط والمركَّب.................................................. ١٦٤
٣ ـ الشُهرة................................................................ ١٦٥
القسم الثاني : وسائل الإثبات التعبّدي........................................ ١٦٧
المرحلة الاولى : في إثبات أصل حجّية الأخبار.................................. ١٦٨
١ ـ [دلالة الكتاب على
حجّية الخبر]...................................... ١٦٨
٢ ـ [دلالة السنّة على
حجّية الخبر]........................................ ١٧٤
٣ ـ [دلالة العقل على حجّية
الخبر]........................................ ١٨٢
المرحلة الثانية : في تحديد دائرة حجّية الأخبار.................................. ١٨٧
حجّية الخبر مع الواسطة.................................................. ١٨٩
قاعدة التسامح في أدلّة
السنن............................................. ١٩٠
حجّية الظهور
(١٩٥ ـ ٢١٨)
أقسام الدلالة.............................................................. ١٩٧
دليل حجّية الظهور......................................................... ١٩٨
تشخيص موضوع الحجّية.................................................... ٢٠١
[الشكّ في القرينة المتّصلة]................................................ ٢٠٤
الظهور الذاتيّ والظهور
الموضوعي........................................... ٢٠٥
الظهور الموضوعيّ في عصر
النصّ.......................................... ٢٠٦
التفصيلات في الحجّية...................................................... ٢٠٨
الخلط بين الظهور والحجّية................................................ ٢١٣
الظهور الحالي........................................................... ٢١٥
الظهور التضمّني......................................................... ٢١٥
٢ ـ الدليل العقلي
(٢١٩ ـ ٣١٣)
[تمهيد]................................................................... ٢٢١
١ ـ إثبات القضايا العقليّة................................................... ٢٢٥
قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.......................................... ٢٢٥
شرطية القدرة ومحلّها...................................................... ٢٢٥
حالات ارتفاع القدرة..................................................... ٢٢٧
الجامع بين المقدور وغيره.................................................. ٢٢٩
شرطية القدرة بالمعنى الأعمّ................................................... ٢٣١
[أحكام التزاحم]........................................................ ٢٣٥
ما هو الضدّ؟........................................................... ٢٣٧
إطلاق الواجب لحالة المزاحمة.............................................. ٢٣٨
التقييد بعدم المانع الشرعي................................................ ٢٤٠
قاعدة إمكانِ الوجوبِ المشروط............................................... ٢٤٢
المسؤولية تجاه القيود والمقدِّمات............................................... ٢٤٥
القيود المتأخِّرة زماناً عن المقيّد................................................ ٢٤٨
زمان الوجوب والواجب...................................................... ٢٥١
المسؤولية عن المقدّمات قبل الوقت............................................ ٢٥٤
أخذ القطع بالحكم في موضوعِ الحكم......................................... ٢٥٧
أخذ العلم بالحكم في موضوع
نفسه........................................ ٢٥٧
أخذ العلم بالحكم في موضوع
ضدِّه أو مثله.................................. ٢٦٠
الواجب التوصّليّ والتعبّدي.................................................. ٢٦٢
التخيير في الواجب......................................................... ٢٦٧
الوجوب الغيري لمقدّمات الوَاجب............................................. ٢٧٠
تعريف الواجب الغيري................................................... ٢٧٠
خصائص الوجوب الغيري................................................. ٢٧٢
مقدمات غير الواجب.................................................... ٢٧٣
الثمرة الفقهية للنزاع
في الوجوب الغيري..................................... ٢٧٤
شمول الوجوب الغيري.................................................... ٢٧٥
تحقيق حال الملازمة....................................................... ٢٧٨
حدود الواجب الغيري.................................................... ٢٧٨
مشاكل تطبيقية......................................................... ٢٨٠
دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الإجزاء................................ ٢٨٢
دلالة الأوامر الاضطرارية
على الإجزاء عقلاً................................. ٢٨٢
دلالة الأوامر الظاهرية
على الإجزاء عقلاً.................................... ٢٨٤
امتناع اجتماع الأمرِ والنهي.................................................. ٢٨٧
[اختلاف الأمر والنهي بالإطلاق
والتقييد].................................. ٢٨٨
[اختلاف الأمر والنهي في
عنوان المتعلّق].................................... ٢٩٠
[اختلاف الأمر والنهي في
زمان الفعليّة].................................... ٢٩١
[اجتماع الوجوب الغيري
مع الحرمة النفسيّة]................................. ٢٩٣
[ثمرة البحث في اجتماع
الأمر والنهي]...................................... ٢٩٥
اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه............................................ ٢٩٧
اقتضاء الحرمة للبطلان...................................................... ٣٠٢
اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة.............................................. ٣٠٢
اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة.............................................. ٣٠٣
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع........................................ ٣٠٥
الملازمة بين الحكم النظري
وحكم الشارع.................................... ٣٠٥
الملازمة بين الحكم العملي
وحكم الشارع.................................... ٣٠٦
٢ ـ حجّيّة الدليل العقلي.................................................... ٣٠٩
الجزء الثاني
الاصول العمليّة
(٣١٥ ـ ٥٢٦)
التمهيد
(٣١٧ ـ ٣٢٨)
خصائص الاصول العملية................................................... ٣١٩
الاصول العملية الشرعية والعقلية............................................. ٣٢١
الاصول التنزيلية والمحرزة...................................................... ٣٢٣
مورد جريان الاصول العملية.................................................. ٣٢٥
الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ
(٣٢٩ ـ ٤٥٠)
الوظيفة في حالة الشكّ البَدويّ
(٣٣١ ـ ٣٦٠)
الوظيفة الأوّلية في حالة الشكّ............................................... ٣٣٣
١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان............................................. ٣٣٣
٢ ـ مسلك حقّ الطاعة...................................................... ٣٣٦
الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ............................................... ٣٣٧
١ ـ أدلّة البراءة الشرعية..................................................... ٣٣٧
أدلّة البراءة من الكتاب................................................... ٣٣٧
أدلّة البراءة من السنّة..................................................... ٣٤١
٢ ـ الاعتراضات العامّة...................................................... ٣٥٠
٣ ـ تحديد مفاد البراءة....................................................... ٣٥٤
استحباب الاحتياط...................................................... ٣٥٨
الوظيفة في حالة العلم الإجمالي
(٣٦١ ـ ٤١٦)
١ ـ قاعدة منجِّزيّة العلم الإجمالي.............................................. ٣٦٤
١ ـ منجِّزية العلم الإجمالي
بقطع النظر عن الاصول المؤمِّنة الشرعية.............. ٣٦٤
الاتّجاهات في تفسير العلم
الإجمالي......................................... ٣٦٦
تخريجات وجوب الموافقة
القطعية............................................ ٣٦٨
٢ ـ جريان الاصول في جميع
الأطراف ، وعدمه.............................. ٣٧٢
٣ ـ جريان الاصول في بعض
الأطراف ، وعدمه.............................. ٣٧٤
جريان الأصل في بعض الأطراف
بلا معارض................................ ٣٨٠
٢ ـ أركان منجّزيّة العلم الإجمالي.............................................. ٣٨٤
١ ـ وجود العلم بالجامع................................................... ٣٨٤
٢ ـ وقوف العلم على الجامع.............................................. ٣٨٥
٣ ـ شمول الأصل المؤمّن
لجميع الأطراف..................................... ٣٨٧
٤ ـ إمكان وقوع المخالفة
القطعيّة بسبب البراءة.............................. ٣٨٩
٣ ـ تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي........................................... ٣٩٠
١ ـ زوال العلم بالجامع.................................................... ٣٩٠
٢ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف.......................................... ٣٩٢
٣ ـ انحلال العلم الإجمالي
بالتفصيلي........................................ ٣٩٥
٤ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات
والاصول................................... ٣٩٧
٥ ـ اشتراك علمين إجماليّين
في طرف....................................... ٣٩٩
٦ ـ حكم ملاقي أحد الأطراف............................................ ٤٠٠
٧ ـ الشبهة غير المحصورة.................................................. ٤٠١
٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة
في أحد الطرفين غير مقدور...................... ٤٠٧
٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيّات............................................. ٤١٠
١٠ ـ الطوليّة بين طرفي
العلم الإجمالي...................................... ٤١٤
تلخيص للقواعد الثلاث.................................................. ٤١٦
الوظيفة عندالشكّ في الوجوب والحرمة معاً
(٤١٧ ـ ٤٢٤)
١ ـ الشكّ البدويّ في الوجوب والحرمة......................................... ٤١٩
٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين................................................ ٤٢٠
الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر
(٤٢٥ ـ ٤٥٠)
التقسيم الرئيسيّ للأقلّ والأكثر.............................................. ٤٢٧
١ ـ الدوران بين الأقلِّ والأكثر في الأجزاء...................................... ٤٢٨
البرهان الأول : [دعوى
وجود العلم الإجمالي]............................... ٤٢٨
البرهان الثاني : [دعوى
كون الشكّ في المحصّل]............................. ٤٣١
البرهان الثالث : [دعوى
كون الشكّ في سقوط الأقلّ]....................... ٤٣٢
البرهان الرابع : [العلم
الإجمالي الناشئ من حرمة القطع]...................... ٤٣٣
البرهان الخامس : [دعوى
دوران الأمر بين عامّين من وجه].................... ٤٣٤
البرهان السادس : [لعلم
الإجمالي الناشئ من مانعيّة الزيادة]................... ٤٣٥
٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط..................................... ٤٣٦
٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي.................................. ٤٣٨
٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي................................ ٤٤٠
ملاحظات عامّة حول الأقلِّ والأكثر.......................................... ٤٤٢
١ ـ دور الاستصحاب في هذا
الدوران...................................... ٤٤٢
٢ ـ الدوران بين الجزئية
والمانعية............................................. ٤٤٣
٣ ـ الأقلّ والأكثر في
المحرّمات............................................. ٤٤٤
٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقلِّ
والأكثر....................................... ٤٤٥
٥ ـ الشكّ في إطلاق دخالة
الجزء أو الشرط................................. ٤٤٥
أ ـ الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان..................................... ٤٤٦
ب ـ الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر..................................... ٤٤٩
الاستصحاب
(٤٥١ ـ ٥٢٦)
أدلّة الاستصحاب.......................................................... ٤٥٣
[رواية النوم المبطل للوضوء].................................................. ٤٥٣
[رواية دم الرعاف]......................................................... ٤٥٤
[رواية الشكّ في الركعات]................................................... ٤٦١
[رواية إعارة الثوب للذمّي].................................................. ٤٦٧
الاستصحاب أصل أو أمَارة؟................................................ ٤٦٨
كيفية الاستدلال بالاستصحاب............................................. ٤٦٩
أركان الاستصحاب......................................................... ٤٧١
أ ـ اليقين بالحدوث......................................................... ٤٧١
ب ـ الشكّ في البقا......................................................... ٤٧٧
[صياغة اخرى للركن الثاني]............................................... ٤٨٠
الشبهات الحكمية في ضوء
الركن الثاني...................................... ٤٨١
ج ـ وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة........................................... ٤٨١
أوّلاً : تطبيقه في الشبهات
الموضوعية....................................... ٤٨٢
ثانياً : تطبيقه في الشبهات
الحكمية........................................ ٤٨٣
د ـ الأثر العملي............................................................ ٤٨٦
مقدار ما يثبت بالاستصحاب............................................... ٤٩٠
عموم جريان الاستصحاب.................................................. ٤٩٤
[التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع]............................. ٤٩٤
[التفصيل بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة].................................... ٤٩٥
[كيفيّة جريان استصحاب
المجعول]......................................... ٤٩٦
تطبيقات.................................................................. ٥٠٠
١ ـ استصحاب الحكم المعلّق................................................. ٥٠٠
٢ ـ استصحاب عدم النسخ................................................. ٥٠٥
٣ ـ استصحاب الكلِّي...................................................... ٥٠٧
٤ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركّبة........................................ ٥١٤
[جريان الاستصحاب في أجزاء
الموضوع].................................... ٥١٥
[ترتّب الحكم على ذوات
الأجزاء]......................................... ٥١٧
[توفّر الشكّ في البقاء]................................................... ٥١٨
شبهة انفصال زمان الشكّ
عن زمان اليقين.................................. ٥٢٣
الخاتمة في تعارض الأدلّة
(٥٢٧ ـ ٥٨٦)
تمهيد..................................................................... ٥٢٩
ما هو التعارض المصطلَح؟................................................... ٥٢٩
الورود والتعارض............................................................ ٥٣١
١ ـ قاعدة الجَمع العُرفي...................................................... ٥٣٥
١ ـ النظرية العامّة للجمع العرفي.............................................. ٥٣٥
٢ ـ أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقرِّ.................................. ٥٣٧
الحكومة................................................................ ٥٣٧
التقييد................................................................. ٥٣٩
التخصيص............................................................. ٥٤١
[نظريّة انقلاب النسبة]................................................ ٥٤٢
٣ ـ أحكام عامّة للجَمع العرفي............................................... ٥٤٤
٤ ـ نتائج الجمع العرفي بالنسبة الى الدليلِ المغلوب............................... ٥٤٧
٥ ـ تطبيقات للجمع العرفي.................................................. ٥٤٩
٢ ـ التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية................................... ٥٥٧
[حجيّة الدليلين المتعارضين
معاً]........................................... ٥٥٧
[حجيّة أحد الدليلين المتعارضين].......................................... ٥٥٩
[الحجيّة التخييريّة للدليلين
المتعارضين]...................................... ٥٦١
تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقرّ....................................... ٥٦٢
[الحالات المختلفة لدليل
الحجّية].......................................... ٥٦٢
[حالة التعارض غير المستوعب]........................................... ٥٦٣
[نفي الاحتمال الثالث بالدليلين
المتعارضين]................................ ٥٦٥
[مدى تأثير كون دليل الحجّية
لبّياً]........................................ ٥٦٦
٣ ـ حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة.................................. ٥٦٧
١ ـ روايات العرض على الكتاب.............................................. ٥٦٧
٢ ـ روايات العلاج......................................................... ٥٧٣
روايات التخيير.......................................................... ٥٧٣
روايات الترجيح.......................................................... ٥٧٧
[تنبيهات بحث العلاج]..................................................... ٥٨٣
فهرس المصادر............................................................. ٥٨٧
فهرس الموضوعات.......................................................... ٥٩١
|