بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

الحمد لله الذي حبانا بدينه وحبّبنا بأوليائه ، وهدانا لإيمانه وهذّبنا بشريعته ، ودلّنا على إحسانه وأرشدنا الى أحكامه ، وجعلنا من الشّاكرين لنعمائه ، والصلاة والسلام على نبيّه وأمينه ، ونجيبه ونجيّه ، وصفيّه وصفوته ، محمد وآله عباد الله ، وأهل ذكره وخزنة علمه ، وحملة كتابه وتراجمة آياته ، ومهبط وحيه ومستودع شرائعه ، الّذين علّمونا الحلال والحرام والشّرائع والأحكام ، وعرّفونا حقائق الإيمان وآيات القرآن وسبيل الرّضوان عليهم أفضل الصلاة وأتمّ السّلام.

وبعد ... فإنّ علم الأصول هو من أكبر الفنون للوصول الى أكثر الفروع ، فهو أهم وسيلة لأشرف غاية وأعمّ نتيجة لأنفع نهاية ، به نصوّب طرق الاستدلال ونصل الى أصحّ الأقوال ونبيّن المدارك ونبني المسائل ، بأفضل المباني وأظهر الدّلائل ، وكلّما ازداد به المرء مهارة ازداد معرفة ، فهو أسهل مفتاح وأدلّ باب للولوج الى أفضل علم وأعظم حكم.

وغير خفي على كل ذي لبّ أهمية الفقه وأهميّة أصوله ، فأصول الفقه هو من أهمّ العلوم ارتباطا في الاجتهاد كما ذهب إليه كثير ، ولست في مقام الاستشهاد على ذلك ، بل ولا مجال للاهتمام فعلا بذلك.

هذا وفي الغالب عند الأصوليين يبحثون في مصنّفاتهم عن أدلّة الأحكام


الأربعة الكتاب والسّنة والاجماع والعقل ، ولمّا قد مرّ البحث في الثّلاثة الاولى ، بقي الكلام عن الاخرى والمعروفة بالأدلّة العقليّة. كما ولمّا كان لا بد لهذا المؤلّف أن يكون حاويا لجميع المطالب الأصوليّة وما يتعلّق بها ، فقد جعل المؤلّف البحث عن الباقى المذكور وغيرها ممّا له تعلّق أكيد في علم الأصول في مجلّد على حدة عرف بمجلّد المباحث العقليّة من «القوانين» ، قد طبع قبل قرن من الزّمن فيما أعلم ـ والكلام فى المجلّد الثاني ، وإلّا فإنّ الأوّل قد طبع قبل عقود ثلاث في مدينة قم المقدسة ـ وقد بقى بعد طبعه بعض قليل من نسخه حتى أصبح المجلّد المعهود نادر الوجود ، قد حفظ ما فيه بنقل آرائه ممّن كتب في علم الأصول بعد المرجع المذكور.

هذا وبعد صدور المجلّد الأوّل وإقبال العلماء والفضلاء عليه ولله الحمد ، ونتيجة للحاجة الملحّة للأساتذة العظام والطلاب الكرام بضرورة نشر ما تبقى من «القوانين» ، ورغبة بعض النّاشرين في التّعجيل ، أسرعت فأخرجت عيونه وأنجزت متونه ، وذكرت ما علّقته على اولى بحوثه ما استطعت ، وما لم أسطع تركته لأيّام التّحصيل عند التّعطيل ، فاقتصرت فيه على بعض المهم واختصرت على بعض الأهم حتى صار ما توخيت ولله الحمد. وهذا الكلام كلّه في الشّرح والتّعليق ، وأمّا المتن فإنّني وفيت بالغرض وأديت المطلوب بدقة ، ليصبح الكتاب بعونه تعالى كما أراده المصنّف ويريده الطالب كاملا غير ناقص. وكنت قد اعتمدت فيه على نسختين ، واحدة بخط محمد على بن معصومعلي الأرونقي التي هي طبقا للنسخة التي نسخها عبد الرحيم بن محمد تقي التبريزي المطبوعة في شهر ربيع الأول ١٣١٩ ه‍ وأخرى بخط محمد شريف بن فيض الله المرحوم الهشرودي (الهشترودي) المطبوعة في شهر ربيع الثاني ١٣٢٤. وسرت به تحقيقا


وتدقيقا كما في المجلّدين السّابقين الذي عرفت من قبل. وهذا المجهود عادة ما تقوم به مؤسسة بجهازها وأجهزتها وعتادها وأعدادها وقد قمت به وحيدا بلا عدد ولا مدد ، وبلا إعانة ولا استعانة إلّا من الله تعالى وببركة أولياءه الكرام والسيدة المعصومة في قم عليهم الصلاة والسلام.

وهكذا اتممت كامل «القوانين» ولله الحمد ، بمجموع مجلّديه الحجريّين وجعلتها في أربعة أجزاء بطباعة عصريّة أنيسة المنظر سهلت القراءة وسريعة الملاحظة.

والدّافع الذي جعلني أسيرا لهذا الكتاب ورهينا لهذه البحوث هو لأنّني وجدت بأنّ التّعاطي بها تمنح الانسان قوّة في الاستدلال وإحاطة بالمطالب وبيانا للطالب ، فعلينا ان لا نستخفّ أبدا في مثل هذه الدروس العلمية العالية التي خاضوا أصحابها للوصول إليها اللّجج واتعبوا المهج ، وعلينا أن لا نملك الجرأة سريعا في التّسفيه لعمل الآخرين. والتّسرّع في التّغليط والتّغليظ لمجرّد قراءتنا لحروف قليلة من العلم ولمّا نصل إليه.

فمثلا تكاد تجده قد عبّر كثيرا ببعض الكلمات قاصدا بها معان لا يحيط بها إلّا كل بليغ بمؤدّاها وكل عليم بسياقها ومعانيها ، ولا يقدر عليها إلّا كل متسلّط على صياغة الكلمات وصناعة الأدبيات وقادرا على التّقديرات وعالما بالتّأويلات.

فنجده مثلا بكلمة (عن) قد قصد بها كثيرا (من) ، وهذا غير خفيّ على الطالب المجدّ بمعانيها العشرة ، فمع الملاحظة تجده جاء بها بمعنى المجاورة تارة واخرى بمعنى البدل او الاستعلاء او الظرفيّة او مرادفة (من) او غير ذلك. فالطالب المحصّل سرعان ما يعلمها فيصوّبها ، وأمّا الفاشل فيسرع الى التّغليظ فيعلّها ، ولذا أؤكد على ضرورة التّدبّر والتّوجّه ، والتّدبير والتّوجيه لكلمات هذا الفقيه. وعلى كلّ إنّ


العصمة لأهلها.

فعلينا أن لا نبخس النّاس أشياءها ، كما علينا أن نرتقي بهذا الكتاب لغزارة مواده وكثرة محتوياته وفيض معارفه. بل أقول : إن من يدرس هذا الكتاب حقّ الدّراسة ويداريه حق الدّراية ويفهمه حق الفهم ويتقنه حق الاتقان يصبح مؤهّلا لحضور أبحاث العظام ، وربما يصير مراهقا للاجتهاد ، ولكن بالشّرط الذي ذكرت ، بل الشّروط التي قلت ، وإنّني لأجد مباحث الأصول العمليّة فيه ، هي من أفخر البحوث العلميّة ، وحرام أو قل عيب على طالب العلم أن لا يكون محيطا بها او لا يستفيد منها.

كما أقول : يمكن لك أن تحصي آراء الميرزا القمي وآراء غيره ومسائل الخلاف بينهما ممّن كانوا قد أتوا من بعده على آرائه كصاحب «الرّسائل» و «الكفاية» وغيرهما من المحقّقين كالميرزا النّائيني والأصفهاني وصاحبي «الفصول» و «هداية المسترشدين» وغيرهم «رحمهم‌الله» ورغم ذلك فهي تحصى ولا تتعدى لتصل الى الأعداد الكبيرة ، وهذا ديدن أصحاب هذه العلوم للوصول الى ازدهارها ورشدها أو قل رشدهم وازدهارهم

أسأله تعالى العصمة والتّوفيق والتّعجيل بظهوره عليه الصلاة والسلام

وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين والحمد لله ربّ العالمين

قم المقدسة ـ حرم السيدة المعصومة عليها‌السلام

رضا حسين على صبح

١٤ ربيع الأول ١٤٣١ ه


المقصد الرابع

في الأدلّة العقلية

والمراد بالدّليل العقلي : هو حكم عقليّ يتوصّل به إلى الحكم الشّرعي ، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشّرعي.

وهي أقسام تذكر في طيّ قوانين :

منها : ما يحكم القل به من دون واسطة خطاب الشّرع.

ومنها : ما يحكم به بواسطة خطاب الشّرع كالمفاهيم والاستلزامات (١).

__________________

(١) المفاهيم أي ما دلّ عليه اللفظ لا في محل النطق وخلافا للماتن ، فقد توقّف في مثل هنا صاحب «هداية المسترشدين» فقال : فدرج بعضهم مباحث المفاهيم في هذا القسم ليس على ما ينبغى. والاستلزامات كاستلزام وجوب الشّيء وحرمة ضده ، فإنّ العقل لا يحكم أوّلا بوجوب المقدمة ولا بحرمة الضّد ، وإنّما يحكم بهما بعد الحكم بوجوب الشّيء ولو من جهة حكم الشّرع به ، فهو حكم عقلي تابع لحكم الشّرع.


قانون

معنى كون ما يستقلّ به العقل وينفرد به (١) ، كوجوب قضاء الدّين وردّ الوديعة وحرمة الظّلم ، واستحباب الإحسان ، ونحو ذلك (٢).

دليل حكم الشّرع ، أنّه كما تبيّن عندنا معاشر الإماميّة وفاقا لأكثر العقلاء من أرباب الدّيانات ، وغيرهم من الحكماء والبراهمة (٣) والملاحدة وغيرهم بالأدلّة القاطعة والبراهين السّاطعة ، بل بالضّرورة الوجدانية التي لا يعارضها شبهة وريبة ، أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، بمعنى أنّ بعض الأفعال بحيث يستحق فاعله من حيث هو فاعله المدح ، وبعضها بحيث يستحقّ فاعله كذلك الذّم (٤) ، وإن لم يظهر من الشّرع خطاب فيه :

__________________

(١) مسألة حسن الانفعال وقبحها ثار النزاع فيها واحتدم الخلاف عليها ، وكثر الكلام فيه واشتهر به المعتزلة والأشاعرة وطال ولا زال وكثر في الكتب الكلاميّة ، ويتفرّغ منه مسألة معروفة بين الأصوليين بالملازمة ، بمعنى الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فقد تنازعوا فيها عن أقوال ، فذهب الأكثرون ومنهم المصنّف الى ثبوت الملازمة ، وبعض الى نفيها ، وبعض آخر أنكرها في الأحكام المتعلّقة بالفروع وأثبتها في الأصول.

(٢) وكذا ذكره المحقّق في «المعتبر» ١ / ٣٢ ، الشهيد في «الذكرى» ، المقدمة ، وغيرهما كما في «الوافية» ص ١٧١.

(٣) واحدهم برهمي ، قوم لا يجوّزون على الله تعالى بعثه الرّسل ، وهم طائفة من الهنود ينكرون الشّرائع ويحرّمون لحم الحيوان ولهم عقائدهم الخاصة.

(٤) بيانه في معنى كون ما يستقلّ به العقل دليل حكم الشرع ليس على ما ينبغي لقصوره عن إفادة الملازمة ووضوحها كما هو المدّعى ، وإنّما مفاده وضوح الحكم بكل من الأمرين على ما يقتضيه العنوان ، وقد ذكر في «الفصول» ص ٣٤٠ وجه أوجه.


ويظهر عنده هذا الحسن والقبح في المواد المختلفة على مراتبهما المرتّبة فيها بحسب نفس الأمر ، فقد يدرك في شيء حسنا لا يرضى بتركه ويحكم بلزوم الإتيان به ، وفي بعضها قبحا يحكم بلزوم تركه. وقد يجوز الترك في بعضها والفعل في بعضها ، وهكذا.

فكذلك من الواضح أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال مما لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده بعنوان اللّزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللّزوم ، وأنها مما يستحق بها عن الله المجازاة إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. ولازم ذلك (١) أنّه تعالى طلب منّا الفعل والتّرك بلسان العقل.

فكما أنّ الرّسول الظّاهر يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته ، فكذلك العقل (٢) يبيّن بعضها ، فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر العدل الصّانع العالم ، فيحكم بأنّه يجازي العبد القويّ بسبب ظلمه على العبد الضعيف بالعقاب.

وكذلك الودعي الذي ائتمنه عبد من عباده ، سيّما إذا كان العبد محتاجا غاية الاحتياج بسبب ترك ردّها إليه ، ويجازي العبد القويّ الرّفيع برأفته على العبد الضعيف العاجز المحتاج بالثواب. فلو لم يكن نهانا عن الظّلم وأمرنا بردّ الوديعة ،

__________________

(١) بعد ما عرفت من معنى الملازمة.

(٢) في الرواية كما في «الكافي» كتاب العقل والجهل عن الامام الكاظم عليه‌السلام في مواعظ منه لهشام أنّه قال : إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول. كما في الحديث ١٢ ، وفي الحديث ٣٤ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره ، وبأنّ له ولهم خالقا ومدبّرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وأنّ الظّلمة في الجهل وانّ النور في العلم ، فهذا ما دلّهم عليه العقل.


ولم يكن الظّلم وترك الردّ مخالفة له ، لما حكم العقل بمؤاخذة الله وعقابه.

فإنّ القبح الذّاتي يكفي فيه محض استحقاق الذّمّ ، فيثبت من ذلك أنّ الظّلم حرام شرعا ، وردّ الوديعة واجب شرعا.

وما توهّمه بعض المتأخرين تبعا لبعض العامة من أنّ حكم العقل هو محض استحقاق المدح والذّم لا ترتّب الثّواب والعقاب أيضا ، الذي هو لازم حكم الشرع ، فلم يدلّ الحكم العقلي على الحكم الشرعي ، فهو مبنيّ على الغفلة عن مراد القوم من الحكم العقلي. وحسبان أنّ حكم العقل إنّما هو الّذي ذكروه في مبحث إدراك العقل للحسن والقبح ، قبالا للأشاعرة المنكرين لذلك. وقد عرفت أنّ العقل يحكم بأزيد من ذلك أيضا ، مع أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في العقل والجهل أيضا ، هو ذلك وأنّه ممّا به يثاب ويعاقب ، وأنّه مما يكتسب به الجنان وغير ذلك (١) ، مع أنّه يمكن أن يقال : بعد ما ثبت أنّ لكلّ أمر من الأمور حكما من الله تعالى بالضّرورة والأخبار ، وثبت من الأخبار أنّها موجودة عند المعصومين (٢) ،

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ، ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقت خلقا هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك اعاقب وإيّاك اثيب. كما في كتاب العقل والجهل الحديث الأوّل من «الكافي» ، وفيه أيضا ، الحديث (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ما العقل؟ قال : ما عبد به الرّحمن واكتسب به الجنان ، قال : قلت : فالّذي كان في معاوية؟ فقال : تلك النّكراء ، تلك الشّيطنة وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل. وغير ذلك من الأحاديث في ذلك الباب.

(٢) وقد ثبت عندنا بأنّهم صلوات الله وسلامه عليهم موضع الرّسالة ومهبط الوحي وخزّان العلم ومحال معرفة الله وحملة كتابه والمظهرين لأمره ونهيه. وعن هشام بن الحكم ـ


وإن لم يصل إلينا كلّها ، أنّ كلّ ما يدرك العقل قبحه فلا بدّ أن يكون من جملة ما نهى الله تعالى عنه ، وما يدرك حسنه لا بدّ أن يكون ممّا أمر به ، فإذا استقلّ العقل بإدراك الحسن والقبح بلا تأمّل في توقيفه على شرط أو زمان أو مكان أو مع تقييده بشيء من المذكورات ، فيحكم بأنّ الشّرع أيضا حكم به كذلك ، لأنّه تعالى لا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن ، بل إنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد يقال (١) : إنّ الثّواب والعقاب إنّما يترتّبان على الإطاعة والمخالفة لا غير ، والإطاعة والمخالفة لا يتحقق إلّا بموافقة الأوامر والنواهي من الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، وحيث لا أمر ولا نهي ولا خطاب ، فلا طاعة ، فلا ثواب ولا عقاب.

وفيه : أنّ انحصار الإطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللّفظي ومخالفته دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب الشّارع ومخالفته وإن كان ذلك الطلب بلسان العقل.

ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا عبده نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل عليه‌السلام وإتيان كلام وامتثله ، فيقال : إنّه أطاع الله جزما ، فإنّ العقل فينا نظير الإلهام فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام ، فأقبلت أقول : يقولون كذا وكذا ، قال : فيقول : قل كذا وكذا ، قلت : جعلت فداك هذا الحلال وهذا الحرام ، أعلم أنّك صاحبه وأنّك أعلم الناس به هذا هو الكلام ، فقال لي : ويك يا هشام لا يحتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه بحجّة لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه. كما في «الكافي» باب ١٠٥ ح ٥.

(١) وهنا اعتراض على لازم الملازمة.


والقول (١) : بأنّ القدر الثّابت من الأدلة ، أنّ ما يجوز اتّباعه ويجب متابعته هو ما حصل القطع به أو الظنّ من قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره دون غيره ، فالكلام في هذا الدليل العقلي مثل الكلام في جواز العمل بالرّؤيا إذا رأى أحد أحدا من المعصومين عليهم‌السلام وحكم بحكم ، ولا دليل على جواز العمل بهذا الحكم ، فهو كلام ظاهريّ ، إذ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظّلم يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظنّ بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز العمل مع اليقين به.

فإن كان ولا بدّ من المناقشة فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وأنّه لا يمكن ذلك (٢) ، وأنت خبير بأنّ دعوى ذلك بعيد عن السّداد.

ولا يرد هذا على من ادّعى ذلك ، إذ لم يدلّ دليل على امتناعه إن لم يسلم البرهان على وقوعه (٣) ، فإذا ادّعاه مدّع فكيف نكذّبه.

نعم ، لا نمنع تفاوت الأفهام في ذلك ، وندرة المواضع التي يستقلّ العقل بإدراك الحكم ، وذلك لا يوجب نفي الحكم ، رأسا ولا يرد نقضا على من جزم بذلك ، فإنّ كلّ مجتهد مكلّف بمؤدّى فهمه قطعيّا كان أو ظنّيّا ، ومعذور في خطأه.

ثم إنّ معنى قولهم : إنّ العقل والشرع متطابقان فكلّ ما حكم به الشّرع فقد حكم

__________________

(١) وهو للأخباريين فإنّهم ينكرون حجيّة إدراكات العقل ، وفي ذلك نزاع جاء في مباحث حجيّة القطع.

(٢) اي لا يمكن للعقل أن يدرك ما هو حسن أو قبيح عنده ، قبيح أو حسن عند الله تعالى.

(٣) أي أنّ مجرّد عدم ورود دليل على الامتناع يكفي في عدم ورود المناقشة وإن لم يثبت البرهان والأدلة على وقوع درك العقل بأنّ ما هو حسن أو قبيح عنده حسن أو قبيح عند الله تعالى أيضا.


به العقل ، وبالعكس ، إنّ كلّ ما حكم فيه الشّرع بحكم لو اطّلع العقل على الوجه الذي دعا الشّارع إلى تعيين الحكم الخاص في ذلك الشّيء لحكم العقل موافقا له ، وذلك لأنّ الحكيم العدل الذي لا يفعل القبيح لا يصدر عنه القبيح ، وترجيح المرجوح قبيح ، والترجيح بلا مرجّح محال (١).

فتعيين الوجوب مثلا للصلاة والزكاة ، وتعيين الحرمة للخمر والخنزير إنّما كان لجهة مرجّحة لذلك من حسن أو قبح ذاتي ، أو بحسب زمان أو مكان أو شخص.

وتلك الجهة علّة تامّة لاختيار ذلك الحكم إمّا بذاتها أو مع ملاحظة قيد من زمان أو مكان أو غيرهما. فلو فرض اطّلاع عقولنا على تلك العلّة على ما هي علّة لحكم فيه ، مثل ما حكم به لسان ظاهر الشّرع.

وما يتوهّم أنّه قد يكون في أصل الفعل رجحان ، لكنّه يأمر به امتحانا للعبد ، فهو لا ينافي ما ذكرنا ، إذ نفس الابتلاء أيضا مصلحة وإن لم يكن في نفس المأمور به مصلحة ، مع أنّه قد يكون المراد بالأمر محض (٢) الامتحان مثل حكاية إبراهيم عليه‌السلام ، فالمصلحة إنّما هي في الامتحان لا في الذّبح (٣) ، مع أنّ الإيثار أمر مخصوص للامتحان أيضا دون أمر آخر جهة مقتضية ومصلحة معيّنة لأن لا يلزم الترجيح في إيثار ذلك الأمر للامتحان عدم إدراكنا إيّاها لا يدلّ على عدمها.

وبالجملة ، العقل تابع لما أفاده الشّارع ، فإذا اطّلع على طلب الفعل من حيث

__________________

(١) وهنا لصاحبه «الفصول» ص ٣٣٨ فيه كلام.

(٢) المحض على شيء خلص عن لا يشوبه شيء يخالصه. والظّاهر أنّ المعنى هنا قد يكون الأمر صوريّاً فقط لا يقصد منه وقوع الفعل من المكلّف وكما هو في المثال هنا في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل عليهما‌السلام.

(٣) راجع «الفصول» ص ٣٣٨ ، فقد علّق على هذا الاعتراض واعتبره واضح السّقوط.


هو هذا الفعل ؛ يحكم بحسن طلبه كذلك ، وإذا اطّلع على طلبه من حيث الامتحان ، فيحكم بحسن طلبه من حيث الامتحان وهكذا.

وأمّا العكس ، أعني كلّ ما حكم به العقل فقد حكم به الشّرع ، فيتصوّر له تقريران :

أحدهما : أنّ ما حكم العقل بحسنه وقبحه بعنوان لزوم الفعل وعدم الرضا بالترك أو بالعكس أو غيرهما من الأحكام ، فيحكم الشّرع به ، بمعنى أنّ العقل دلّ على أنّه مطلوب الشّارع ومراده ونحن مكلّفون بفعله ، أو مبغوضه ومكروهة ونحن مكلّفون بتركه ، ويثيبنا على الأوّل ويعاقبنا على الآخر.

وثانيهما : أنّ ما حكم العقل بأنّه مراد الله ومطلوبه وأراد منّا فعله أو تركه بعنوان الإلزام أو غيره فهو موافق لما صدر عن الله تعالى من الأحكام وهو مخزون عند أهله من المعصومين عليهم‌السلام. وذلك مبنيّ على الاعتقاد بأنّ حكم كلّ شيء ورد عن الله تعالى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبلغنا أكثرها وبقي بعضها مخزونا عند أهلها لأجل مصلحة يرونها ، فذلك الحكم العقليّ كاشف عن أنّ ما هو مخزون من الحكم عند أهله في شأن هذا الذي أدرك العقل حكمه هو ما حكم به العقل من الأحكام ، والأظهر هو التقرير الأوّل.

وبالجملة ، لا وجه لما مرّ من الإشكال في كون دليل العقل بهذا المعنى مثبتا للحكم الشرعي مع أنّه متّفق عليه عند أصحابنا. فإنّهم يصرّحون في الكتب الاصوليّة والفقهيّة أنّ من أدلّة أحكام الشّرع هو العقل ، ثم يذكرون في أقسام الأدلّة العقلية ما يستقلّ به العقل كقضاء الدّين وردّ الوديعة وترك الظّلم.

وينادي بذلك قولهم في الكتب الكلاميّة بوجوب اللّطف على الله ، وتفسيرهم اللّطف بما يقرّب الطاعة ويبعد عن المعصية ، وجعلوا من اللّطف إرسال الرّسل


وإنزال الكتب.

وليس معنى ذلك (١) إلّا أنّ العقل يدرك الأحكام الشرعية من أنّ الله تعالى يريد منهم العدل وردّ الأمانة وينهاهم عن الظلم والفساد ، وأنّ الصدق والتواضع والسّخاء والعفو حسن ، وأنّ الكذب والكبر والبخل والنّفاق قبيح ، وأمثال ذلك. فاللّطف إنّما هو لتعاضد العقل بالنقل حتى يكمل به البيان ويثبت به الحجّة.

وقد أورد (٢) على هذا القسم من الأدلّة العقليّة وجوه من الاعتراض سخيفة لا يليق كثير منها بالذكر أعرضنا عنها ، وأقواها أمور :

__________________

(١) أي ليس معنى وجوب اللّطف في إرسال الرّسل وإنزال الكتب.

(٢) وقد أورد ذلك الفاضل التوني الذي يظهر انّه أنكر الملازمة راجع «الوافية» ص ١٧٦.

وبعده أيضا السيد صدر الدين شارح «الوافية» ، وفي «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٣ : وقد خالف فيه بعض العامة ، حكاه الزّركشي عن جماعة من العامة واختاره قال : وحكاه الحنيفيّة عن أبي حنيفة نصا ، وقد مال إليه صاحب «الوافية» من أصحابنا ، إلّا أنّه تردّد في المقام ، وكيف كان فلم يحكم بثبوت الملازمة المذكورة ، واستشكل في الحكم بثبوت الحكم في الشّريعة بعد استقلال العقل في الحكم بثبوت حسن الفعل أو قبحه ، وقد تبعه في ذلك السيد الشّارح لكلامه ، وقد ينسب الى بعض الجماعة المتقدّمة القول بإنكار الملازمة المذكورة وليس كذلك ، بل قد صرّح غير واحد منهم بثبوت الحكم إذا قضى به الضّرورة العقلية حسب ما مرّ ، نعم قد يومئ إليه بعض أدلّتهم وليس صريحا فيه ، فلا وجه للنسبة المذكورة. والسيد القزويني في حاشيته قال : ونقل ربما أدعي على خلافهما إجماع المخالف والمؤالف محصّلا ومنقولا في حدّ الاستفاضة القريبة من التّواتر بسيطا ومركبا على معنى أنّ كل من قال بحكم العقل قال بالملازمة بينه وبين حكم الشرع ، وكل من لم يقل به قال بها أيضا على تقدير حكم العقل فالأشاعرة أيضا داخلة في الإجماع المذكور إلا الزّركشي منهم على ما حكي.


أحدها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) فإنّها تدلّ على نفي التعذيب إلّا بعد بعث الرّسول وتبليغه فلا يكون ما حكم العقل بوجوبه أو حرمته واجبا شرعيا أو حراما شرعيّا ، بل هو إباحة شرعيّة.

وردّ : بأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه العقاب ، والحرام ما يستحقّ فاعله العقاب ، ولا ملازمة بين الاستحقاق وفعليّة الجزاء.

واعترض عليه (٢) : بأنّ الواجب الشرعي مثلا هو ما يجوز المكلّف العقاب على تركه ومع الجزم بعدمه لإخباره تعالى بذلك ، فلا تجويز فلا وجوب.

وفيه : أنّ هذا مناقشة في الاصطلاح.

واعترض أيضا (٣) : بأنّ الواجب الشّرعي مثلا ما يوجب فعله الثواب من حيث هو طاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، وإخبار الله تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل فلا طاعة ولا مخالفة ولا وجوب ولا حرمة.

وقد ظهر دفعه ممّا مرّ من أنّ العقل يحكم بأنّ الله تعالى أمرنا بالفعل ونهانا فيحصل الإطاعة والمخالفة ، ولا ينحصران في موافقة الخطاب اللّفظي ومخالفته ، ودلالة نفي التعذيب على الإباحة فيه منع ظاهر.

وعلى القول بكون جميع الأحكام مخزونا عند أهله والانتقال من إدراك العقل إلى ما هو الموجود عند أهله ، فصدق الإطاعة والمخالفة أظهر ، فيصدق بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ وحصول التبليغ منه في هذا الحكم أيضا فيثبت الحكم

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) المعترض يبدو هو الفاضل التوني على ما عرفت من قبل ، راجع «الوافية» ص ١٧٥.

(٣) والمعترض هنا السيد صدر الدين في شرحة «للوافية» راجع «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٣.


الشرعي بالعقل ويثبت الحكم بالثواب والعقاب.

وما قيل في دفعه : من أنّ المراد ببعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو بعثه بالبيان التفصيلي ، لا مثل هذا البيان الذي يبيّن العقل تفصيله ، ويظهر بيانه من حكم العقل فهو بعيد جدا. ألا ترى أنّا نثبت كثيرا من أحكام الله تعالى بالإجماع ، مع أنّك لا تقول ؛ بأنّ هذا ليس بتبليغ تفصيليّ ، فإنّ اتّفاق الفقهاء كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام وحكمه المعلوم إجمالا قبل العلم بالإجماع تفصيلا ؛ وليس بكاشف عن قوله التفصيليّ ، وحال استخراج العقل للحكم حال استخراج اتفاق العلماء له.

فالتّحقيق في الجواب (١) عن الآية أنّها من قبيل قوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٢) ، و : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٣) ، ولا تكليف إلّا بعد البيان ، ونحو ذلك. ولمّا كان أغلب التكاليف الشرعية مما لا يستقلّ به العقل ، فاكتفى في الآية بذكر الرسول ، فالمراد حقيقة والله يعلم : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ)(٤) حتّى تتمّ الحجّة ، ولا ريب أنّ مع إدراك العقل الحجّة تمام. أو نقول : إنّ الرسول أعمّ من الرسول الباطن (٥) كما ورد : «أنّ لله تعالى حجّتين حجّة في الباطن وهو العقل وحجّة في الظاهر وهو الرسول» (٦) مع أنّ الآية ظاهرة.

__________________

(١) في رفع الاعتراض الثاني عند ذكره ، واعترض عليه أيضا. هذا وصاحب «الفصول» أيضا ص ٣٤٢ تعرّض لكلا الاعتراضين ، وكذا الكلام عن البيان التّفصيلي الذي ذكره.

(٢) الانفال : ص ٤٢.

(٣) الطلاق : ٧.

(٤) الإسراء : ١٥.

(٥) وهذا الدّليل وما سبقه في الجواب غير مستقيم عند صاحب «الفصول» عن ٣٤٣ راجع اجابته.

(٦) وهي كما في «الكافي» كتاب العقل والجهل الحديث ١٢ عن أبي عبد الله الأشعري ـ


وفيه ألف كلام ، فلا يعارض بها الدليل القاطع من حكم العقل فيما يستقلّ.

ولو نوقش في إدراك العقل بالاستقلال فإنّما هو كلام في الصغرى وكلامنا إنّما هو على فرضه ، والمفروض انّا ندّعي استقلاله في بعض الأمور وكلّ مجتهد مكلّف بمقتضى فهمه ، فإذا جزم بشيء فهو المتّبع ، وإذا ظهر بعد ذلك خطأه فهو معذور كما هو معذور في خطأ ظنونه ، بل استقلاله في بعض الامور بديهيّ لا يقبل التشكيك ، ومنعه مكابرة ،

ولقد أغرب بعضهم حيث سلّم ذلك في المعارف والعقائد لما دلّ عليه إطلاقات الأخبار الدالّة على تعذيب عبدة الأوثان ، فإنّها تشمل حال الفترة أيضا بخلاف الأعمال ، وهو مع أنّه معارض بالإطلاقات الدالّة على العذاب واللّعنة على الظّلم والكذب وغيرهما. فيه أنّ مآل التعذيب على عبادة الأوثان مثلا يرجع إلى التعذيب على الأعمال ، فإنّ الاعتقادات ليست باختيارية ، بل المقدور منها هو النظر الذي هو من مقدّماتها والتخلية واندراج النّظر بمجرّد أنّ في تركه مظنّة الضّرر ، ودفع الضّرر المظنون واجب عقلا في الواجبات الشرعية ، وتسليم العقاب على تركه ليس بأوضح من اندراج الظلم في المحرّمات الشرعية ، وردّ الوديعة والدّين في واجباتها فهذا تحكّم بارد ، بل ترجيح المرجوح.

__________________

ـ عن بعض أصحابنا رفعه الى هشام بن الحكم قال : قال لي ابو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا هشام إنّ الله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأما الظّاهرة فالرّسل والأنبياء والائمة عليهم‌السلام وأمّا الباطنة فالعقول.

وفيه أيضا الحديث ٢٢ عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن علي بن ابراهيم عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال : حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل.


وثانيها : الأخبار التي دلّت على أنّه لا يتعلّق التكليف إلّا بعد بعث الرّسل ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١). وعلى أنّ على الله تعالى بيان ما يصلح للناس وما يفسد ، وعلى أنّه لا يخلو زمان عن إمام معصوم عليه‌السلام ليعرّف النّاس ما يصلحهم وما يفسدهم (٢) ، وعلى : «أنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل إليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام» (٣) الحديث.

ولا يخفى ضعف الاستدلال بها ، ويظهر الجواب عنها ممّا قدّمنا ، فإنّ المراد من بعث الرسل هو التبليغ ولا معنى للتبليغ بعد إدراك العقل مستقلّا ، فإنّه تحصيل الحاصل.

نعم هو لطف وتأييد وتأكيد كموعظة الواعظين في التكاليف السّمعيّة الّتي صار كثير منها من ضروريّات الدّين ، مع أنّ البيّنة أعمّ من الشّرع ، والتعليل يفيد انحصار البيّنة في الشّرع وهو لا يتمّ إلّا فيما لا يدركه العقل.

سلّمنا الدّلالة لكنها مخصّصة بالأدلّة المتقدّمة ، وبيان ما يصلح ويفسد لا ينحصر في بيان الرسول ؛ فقد بيّن الله تعالى كثيرا من المصالح والمفاسد بسبب خلق العقل ، وتعريف المصلح والمفسد ينحصر في المعصوم عليه‌السلام إذا لم يكن بحيث يدركهما العقل فهو في غير ما يستقلّ به العقل.

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) وقد ذكر ذلك بتمامه في «الوافية» ص ١٧٣ في الباب الرابع في الأدلّة العقلية ، وشبهه في «الفصول» ص ٣٤٣.

(٣) في «الكافي» كتاب التوحيد باب حجج الله على خلقه الحديث ٤ وفيه [وأنزل عليهم] وليس كما ذكر [وأنزل إليهم].


وأمّا الرّواية الأخيرة فهي على خلاف مطلب المورد أدلّ ؛ إذ الظاهر ممّا أتاهم وعرّفهم هو ما أرشدهم العقل إليه أو المذكور في الخبر من أوامر الكتاب ونواهيه هو مثل الصلاة والصيام ممّا لا يستقلّ به العقل ولا دلالة في الخبر على أنّ المراد أنّ الاحتجاج لا يتمّ إلّا بمجموع الأمرين من الإتيان والتّعريف وإرسال الرّسل.

وأما قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) ، فلا يدلّ على أنّ كلّ ما لم يرد فيه نصّ فهو مباح وإن أدرك العقل قبحه كما توهّم ، بل المراد منه ما لا يدركه العقل ، فلا بدّ إمّا من تخصيص كلمة شيء أو تعميم النهي بحيث يشمل مناهي العقل.

وقد ذكر بعضهم في تقريب الاستدلال به وجهين :

الأوّل : أنّ الرّواية من باب الخبر لا الإنشاء ، ومعناها أنّ كلّ شيء لم يرد من الشّارع منع فيه ولم يصل إلينا ، فلا يحكم عليه بالمنع الشّرعي ؛ وإن كان محظورا عند العقل استنادا إلى منع إدراك العقل العلّة المقتضية لحكم الشّرع فيبنى على أصالة البراءة حتى يصل النهي ؛ فدلّ الخبر على أنّه لا يصحّ الحكم بوجوب شيء أو حرمته شرعا لحكم العقل بحسنه وقبحه.

والثاني : أنّها إنشاء لحكم ما لم يرد فيه نهي ، ومعناها أنّ حكم كل ما لم يرد فيه نهي هو الإباحة وإن أدرك العقل قبحه ، وأنت خبير بأنّ المعنى الأوّل أيضا إنشاء للحكم ، فإنّ المنع عن الحكم بالمنع الشّرعي وأنّه حرام شرعيّ ، مثلا إذا صدر عن

__________________

(١) رواه ابن بابويه في «الفقيه» في تجويز القنوت بالفارسية ١ / ٣١٧ الحديث ١٣٧ ، وهو ما استدل به أيضا الفاضل في «الوافية» ، ص ١٧٣ إنكاره الملازمة ، وضعّف في «الفصول» ص ٣٤٧ التمسّك في المقام بهذه الرّواية.


الإمام عليه‌السلام فلا يريد به بيان الاصطلاح وأنّه لا يجوز إطلاق الحرام الشّرعي عليه في الاصطلاح ، بل وظيفته بيان الحكم.

وحاصله ، أنّ ذلك ليس بحرام شرعي ، فإذا لم يكن حراما فهو مباح فيرجع إلى المعنى الثاني.

فإن قلت : المراد من المعنى الأوّل بيان أنّ الحكم الظّاهرىّ للمكلّف هو الإباحة نظرا إلى أصل البراءة حتى يصل النهي ، لا أنّ حكمه الإباحة في نفس الأمر.

والمراد من المعنى الثاني بيان أنّ حكم ما لم يصل حكمه هو الإباحة لنفس الأمرية مطلقا.

قلت : لا يصحّ حمل المعنى الثاني على الإباحة الواقعيّة ، لأنّه لا يصحّ حينئذ جعله مغيّا بغاية ، ويدفعه كلمة «حتى» ، وإن اريد أنّ المكلّف لا بدّ له أن يبني على هذا حتّى يظهر له خلافه ، فهذا يرجع إلى بيان الحكم الظّاهرىّ فيرجع إلى الأوّل وليس معنى آخر.

فالتّحقيق : أنّ المعتبر في الدّلالة هو الظّاهر لا التأويل ، وقوله عليه‌السلام : مطلق ، مساوق لقوله : مباح. ولمّا كان العقل يحكم بقبح إباحة القبيح فما تدركه (١). عقولنا بأنّه قبيح لا يجوز أن يبيحه الشّارع ويرخّص فيه كما بيّنا سابقا ، ومنع إدراك العقل لعلّة القبح قد عرفت فساده ، وانّ كلامنا على فرض إدراكه ، فتخصّص الحديث (٢) بما تدركه العقول أو تعمّم النّهي.

__________________

(١) مبتدأ والخبر ولا يجوز الآتي.

(٢) لا يقال : إنّ تخصيص العموم وتعميم النّهي كلاهما خلاف الظّاهر ، وقد ذكروه آنفا انّ المعتبر في الدّلالة هو الظاهر لا التأويل ، لأنّه نقول إنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره ـ


فإن قلت : إنّ إطلاق الرّخصة فيما لا يدركه العقول أيضا يوجب الرّخصة في القبيح في الجملة ؛ إذ القبيح النّفس الأمريّ قبيح في نفس الأمر وله خاصّيّة ذاتيّة توجب تأثيرا كالسّمّ.

ولا ريب أنّ في جملة ما لم يرد فيه نصّ ولم يصل إلى المكلّف بعد مقابح ، فكيف يحكم الشّارع بالرخصة في جميعه.

قلت : بعد ما قدّمنا لك في مباحث الأخبار في مقام بيان أنّ الشّارع اكتفى عن المخاطبين بما يفهمونه بظنّهم وإن لم يكن موافقا للواقع لا يبقى لك مجال لهذا البحث فراجع ثمة ، وما يوافق هذا الخبر من رخصة تعاطي ما فيه حلال وحرام حتّى يعرف الحرام بعينه ، وترخيصه أخذ اللّحوم والجلود من سوق المسلمين ، وترخيصه أكل طعام أهل الكتاب من غير اللّحوم ، ونحو ذلك في غاية الكثرة.

والجواب عن الكلّ واحد ، فإنّ الحسن والقبح قد يكون بالوجوه والاعتبارات ، فتأثير الأشياء تابع لتلك الوجوه ، مثل تفاوت الأشخاص والأزمان والأمكنة ، وحال العلم والجهل وغيرهما. وقد يتدارك تأثير التسمية بترياق الإتيان من باب التسليم والانقياد والامتثال بحكم الله الظّاهرىّ.

وثالثها : أنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : إنّ التكليف فيما يستقلّ به العقل لطف ،

__________________

ـ إن كان لقرينة لفظية ظاهرة كانت أو عقلية لا تخرج الدّلالة عن الظهور ، بل يكون الظاهر حينئذ ما دلّت عليه القرينة ، فإنّ أسدا وإن كان ظاهرا في الحيوان المفترس إلّا إلّا أنّه مع قولك يرمي ليس ظاهرا فيه ، بل ظاهر في غيره ، وبعد ما بيّن انّ الشارع لا يجوز منه أن يبيح ما أدرك العقل قبحه يكون الخبر ظاهرا فيما ذكره من خصوص صدره أو عموم ذيله كما في حاشية الملا محمد تقي الهروي.


يعني أنّ انضمام التكليف الشرعي بالتكليف العقلي (١) بمعنى تواردهما معا لطف ، كما أنّ مطلق التكليف السّمعي لطف فيما لا يستقلّ به العقل ، والعقاب بدون اللّطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشّرع نصّ لعدم اللّطف فيه حينئذ.

أقول : سلّمنا وجوب اللّطف ، لكن وجوب كلّ لطف ممنوع (٢) ، إذ كثير من الألطاف مندوبة ، فإنّ التكليفات المندوبة أيضا لطف في المندوبات العقلية أو مؤكّدة للواجبات العقلية (٣) ، وقد يكتفى في اللّطف بالتكليف بسمعيّ لا يستقلّ به

__________________

(١) أريد بالتكليف الشرعي الايجاب والتحريم الشرعيين اللّذين يدركهما العقل بعد إدراكه الوجوب والحرمة العقليين بالمعنى المرادف للحسن والقبح ، لا ما هو مفاد الخطاب اللّفظي وإلّا لعبّر عنه بالتكليف السمعي كما عبّر به فيما بعد. وعلى هذا فالوجه المذكور دليل لنا لا علينا. والسرّ في ذلك انّ هذا الكلام من أصحابنا والمعتزلة إنمّا قصد به إثبات الملازمة بين حكم العقل والحكم الشّرعي بقا عدة اللّطف ، فكيف يستدلّ به لنفي الملازمة. وممّا يرشد الى ذلك أيضا انّ جمهور العدلية جعلوا الايجاب والتحريم الشرعيّين لطفا في الواجبات والمندوبات العقلية ولم يقصدوا بذلك انّه لا بد وان يكون بخطاب لفظيّ حتى في المستقلّات ، لأنّ غاية ما ذكروه كون الإيجاب والنّدب بالمعنى المتضمّن للطلب الفعلي لطفا ، وهذا أعمّ من أن يكون مدلولا عليه بالعقل وبخطاب الشّرع هذا كما أفاده السيد القزوينى في حاشية.

(٢) يعنى ان قولهم بوجوب اللّطف إنّما يسلم على طريقة القضيّة المهملة التي هي في قوّة الجزئيّة ، بل على طريقة الجزئيّة الخاصّة ، فإنّ اللّطف منه ما هو واجب ومن جملته التكليف السّمعي فيما لا يستقل به العقل ، ومنه ما هو مندوب ، ومن جملته التكليف السمعي فيما يستقل به العقل ، فبطل بذلك ما أطلقه المستدلّ من أنّ العقاب بدون اللّطف قبيح فإنّه إنّما يسلّم في الألطاف الواجبة لا المندوبة. كما في حاشية السيد القزويني أيضا.

(٣) وقد تعرّض لهذا القول في «الفصول» ص ٣٤٥ وقوله أو مؤكدة مرفوع عطفا على ـ


العقل لا بنفس التكليف العقليّ كما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١).

فوجوب كل الألطاف إذا لم يثبت ، فإن أراد من قوله : إنّ العقاب بدون اللّطف قبيح قبحه مع عدم شيء من الألطاف فسلّمناه ، لكن اللّطف لا ينحصر في توافق التكليف السّمعي وتوارده مع التكليف العقلي ، وانتفاء المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية بدون ذلك ممنوع ، إذ البلاء والمرض والموت وأمثال ذلك ، وكذلك سائر التكاليف السّمعية كلها لطف.

مع أنّا نقول : إنّ بعث الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب من الألطاف البالغة ، ومع ذلك فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمتابعة العقل وورود الكتاب بذلك كاف في التقريب والتبعيد ولا حاجة إلى الحكم الخاصّ بما يوافق مدركات العقل.

__________________

ـ قوله : لطف ، يعني إنّ التكليف النّدبي بالمندوبات العقلية مؤكد للواجبات العقلية ، وهذا قريب من ما ذكره المحقق الثاني في «جامع المقاصد» في بيان نيّة وجه الوجوب والنّدب في الوضوء حيث قال : المراد بوجه الوجوب والنّدب السّبب الباعث على ايجاب الواجب وندب المندوب فهو على ما هو قرّره جمهور العدليين من الإمامية والمعتزلة انّ السّمعيات ألطاف في العقليات ، ومعناه انّ الواجب السّمعي مقرّب من الواجب العقلي أي امتثاله باعث على امتثاله ، فإنّ من امتثل الواجبات السّمعية كان أقرب الى امتثال الواجبات العقلية من غيره ، ولا معنى للّطف إلّا ما يكون المكلّف معه أقرب الى الطاعة ، وكذا النّدب السمعي مقرّب من الندب العقلي أو مؤكدا لامتثال للواجب العقلي فهو زيادة في اللّطف والزّيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا. ولا نعني أنّ اللّطف في العقليات منحصر في السّمعيات فإنّ النّبوة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد ، بل جميع الآلام تصلح للألطاف فيها ، وإنّما هي نوع من الألطاف.

(١) العنكبوت : ٤٥.


فقوله : فلا يجوز العقاب ... الخ ؛ إن أراد عدم نصّ أصلا ، فعلى فرض تسليم أصل المسألة نسلّمه ، ولكن النصّ على لزوم مطلق متابعة العقل موجود.

وإن أراد عدم نصّ خاص يرد على ما يستقلّ به العقل فلزومه ممنوع ، وكذا عدم جواز العقاب حينئذ ممنوع.

ثم اعلم أنّ ما ذكرنا من حكم ما يستقلّ بإدراكه العقل وأنّه دليل الشّرع إنّما كان مبنيّا على القول بأنّ العقل يدرك الحسن والقبح كما هو مذهب العدليّة وأكثر العقلاء ، وحكمهم بإدراكه إنّما هو على طريق الإيجاب الجزئيّ.

فإنّ بعض الأشياء ممّا يدرك حسنها وقبحها بالضّرورة كالصّدق النافع والكذب الضارّ ، وبعضها بالنظر كقبح الصّدق الضارّ وحسن الكذب النّافع.

وبعضها ممّا لا يدرك العقل فيه شيئا ، والأشاعرة يقولون بعدم إدراكه على طريق السّلب الكلّي.

ثم إنّهم بعد التّنزّل والمماشاة ناظروا مع القائلين به في الأشياء الغير الضّرورية للتّعيّش ، كالتنفّس في الهواء ، وشرب الماء عند العطش الشّديد قبل ورود الشّرع مع وجود النّفع فيها كشمّ الطّيب ، وأكل الفاكهة ، وقالوا : بأنّ العقل لا يدرك فيها شيئا.

واختلف القائلون بالتّحسين والتّقبيح (١) : فوافقهم بعضهم.

وذهب آخرون الى الحظر.

__________________

(١) فقد اختلف القائلون بالتّحسين والتّقبيح والمنكرون لهما بعد التّنزّل في حكمه قبل ورود الشّرع فذهب الأكثرون الى الإباحة ، وآخرون الى الحظر ، وذهب الحاجبي إلى أنّه لا حكم فيه أصلا ، وتوقف شيخ الأشاعرة ، وفسّر تارة بعدم العلم بالحكم وأخرى بعدم الحكم.


وتوقّف بعضهم.

وذهب الأكثرون الى أنّ العقل يدرك إباحتها ، فيكون دليلا على الإباحة الشرعيّة(١).

ويظهر من ذلك أنّ ما هو المسلّم عند كلّ القائلين بالتّحسين والتّقبيح العقليّين ، والمتّفق عليه بينهم ، إنّما هو الأحكام الأربعة في الجملة ، وليس عندهم شيء مباح عقليّ كان متّفقا عليه بينهم (٢) إذ الحكم بالإباحة العقلية موقوف على حكم العقل باستواء الفعل والترك في المصلحة والمفسدة ، بأن لا يكون في شيء منهما مصلحة ولا مفسدة ، فإذا كان مثل أكل الفاكهة وشمّ الطيب من الخلافيّات بينهم ؛ فأيّ شيء يبقى بعد ذلك لأن يحكموا عليه بالإباحة بالاتّفاق.

فما لا منفعة فيه (٣) أصلا مثل تحريك اليد بلا جهة ولا داع ، ومضغ الخشب والنّبات الغير اللّذيذ ، لا حكم للعقل فيها عند الكلّ (٤) ، ولذلك عقدوا مسألة التنزّل

__________________

(١) لمزيد من المعرفة في المقام راجع «الفصول» ص ٣٤٦ و «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٤ ، و «المحصول» ١ / ٥٤.

(٢) وقد استدل على ضعف هذا القول في «الفصول» ص ٣٤٦.

(٣) وقد علق هذا الكلام صاحب «الفصول» فيه عند بحثه الى انقسام الفعل بالتّحسين والتّقبيح الى ما يستقل العقل بإدراك حسنه او قبحه ، والى ما لا يستقل به فقال : وكأنّهم أخذوا القيد المذكور من الحجّة المعروفة للقائلين بالإباحة حيث اعتبروا في الفعل اشتماله على المنفعة والأقرب عندي أن يحمل المنفعة المأخوذة في الدليل على منفعة ما أعني موافقة القصد والدّاعي سواء سميت عرفا منفعة أو لا ومرجعها الى ما يمتنع بدونها صدور الفعل الاختياري ، وبهذا يحصل التّوفيق بين الدّليل والعنوان ، وحمل كلام المعتبرين لهذا القيد في العنوان على ذلك تعسّف واضح.

(٤) والاتفاق الذي حكاه المصنّف على أنّه لا حكم فيما لا يشتمل على المنفعة فكأنّه ـ


فيما يشتمل على منفعة ، وما هو من ضروريّات العيش ، يحكم العقل بالرّخصة فيها اتّفاقا ، بل بوجوبها ، لأنّ تركها موجب لقتل النفس القبيح عقلا ، المنافي لغرض الخالق من خلقه ، ولذلك لم يختلف فيه القائلون بإدراك الحسن والقبح للعقل.

وممّا ذكرنا (١) ظهر ما في كلام الفاضل الجواد رحمه‌الله حيث قال : الأشياء الغير الضروريّة عند المعتزلة قسمان : ما يدرك العقل حسنها أو قبحها ، وينقسم الى الأحكام الخمسة ـ الى أن قال ـ : وما لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها ، ولكنّها ممّا ينتفع بها ، كشمّ الطّيب وأكل الفاكهة مثلا ، فهذا قبل ورود الشّرع ممّا اختلف في حكمها ... الى آخر ما ذكره (٢).

وتبعه في هذه الغفلة (٣) بعض الأفاضل ممّن تأخّر عنه أيضا.

والمختار قول الأكثر من الحكم بالإباحة ، لأنّها منفعة خالية عن أمارة المفسدة

__________________

ـ وقع سهوا من قلمه ، لأنّ من قال بالحظر في المشتمل على المنفعة كيف يقول بأن لا حكم فيما لا يشتمل على المنفعة وإنّما يلزمه بطريق الأولوية القول بالحظر.

(١) قال ليس عندنا مباح عقلي وهذا الفاضل يقول بوجود مباح عقلي.

(٢) ما يظهر من المصنّف أنّ ما فعله الفاضل الجواد شيء ابتكره هو ولم يسبقه غيره إليه ، بل تبعه بعض بعده وانّه غفلة صدرت منه ليس كذلك ، بل هو رحمه‌الله كشيخه البهائي وغيره تبعوا السّابقين. قال العضدي : قد قسّم المعتزلة الأفعال الاختيارية الى ما لا يقضي العقل فيها لحسن ولا قبح ولهم فيها ثلاثة مذاهب الحظر والإباحة والوقف ، وهو ينقسم الى الإقسام الخمسة المشهورة انتهى ، ومثله عن العلّامة والآمدي وغيرهما ، بل قد يستظهر كونه محل اتفاق المخالف والمؤالف وليس فيما ذكروه غفلة ، ولا يرد عليهم ما أورده من التّناقض كما ستعرف ان شاء الله تعالى. كما أفاد ملا محمد تقي الغروي في حاشيته.

(٣) وقد ردّ هذه الغفلة في «الفصول» ص ٣٤٦ ، واعتبر بأن ذلك الرّأي لم ينفرد به الشّارح الجواد ، بل هو متداول بين القوم.


العاجلة والآجلة ، والإذن من الله تعالى شأنه في التصرّف معلوم عقلا ، لأنّ ما يتصوّر من جانبه من المانع إنّما هو التضرّر ، وهو منتف قطعا كالاستظلال بحائط الغير ، والاستضاءة بنوره ، والتسخّن بناره ، حيث لا يوجب المذكورات ضررا على أحد ، فيكون حسنا ، بمعنى أنّ للفاعل القادر أن يفعله ولا يستحقّ ذمّا.

واحتمال حصول المفسدة في الواقع وإن لم تعلمها كما نشاهد وجودها في بعضها بعد كشف الشّرع ، مثل حرمة الغناء ، والفقّاع الغير المسكر ، وأمثال ذلك ، لا يوجب حصول تزلزل في إدراك العقل ، لأنّ هذا الاحتمال المبحث الذي لا منشأ له ولا أمارة عليه قبل ورود الشّرع ممّا لا يعتدّ به عند العقلاء ، كما ترى إنّهم يلومون من يتحرّز عن الجلوس تحت الحائط المحكم البنيان الذي لا ميل فيه ويلحقون تجويز المضرّة حينئذ بظنّ أصحاب الجنون والسّوداء ، مع أنّ هذا الاحتمال معارض باحتمال المفسدة في ترك الفعل أيضا ، وهو يستلزم التكليف بالمحال ، والمانع هنا أيضا لم يتشبّث إلّا بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فكأنّه نفى احتمال مفسدة أخرى أيضا ، وقد عرفت أنّه فاسد ، مع أنّ حرمة مطلق التصرّف في مآل الغير غير معلوم عقلا ولا نقلا ، وكذلك مطلق الغير حتى الخالق المنزّه عن النّقص والاحتياج (١).

ثمّ إنّ الفاضل الجواد بعد ما استدلّ على مختاره بمثل ما ذكرنا ، قال : لكن لا يبقى شيء هو أنّ الحكم بالحسن فيما نحن فيه لا يجتمع مع فرض أنّه ممّا لا يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه.

__________________

(١) وكل هذه الاحتجاجات للمصنّف على مختاره من الإباحة الواقعية ، لم تنهض إلّا بإثبات الإباحة الظّاهرية كما عند صاحب «الفصول» ص ٣٤٨.


ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ العقل لا يدرك الحسن ولا القبح بالنظر إلى خصوصيّاتها (١) ، ويحكم حكما عامّا بالحسن بالنّسبة إلى الجميع.

ويمكن أن يجاب أيضا عن ذلك : بأنّ المراد أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها ابتداء ومجرّدة (٢) عن ملاحظة شيء آخر ، ولا ينافي ذلك حكمه بالحسن عامّا بالنّظر إلى الدليل فتأمّل. انتهى.

أقول : والغفلة (٣) التي حصلت أوّلا : هو الذي أورد عليه هذا الإشكال وتفطّن له ، لكنّ الجوابين اللّذين ذكرهما (٤) لا ينفعانه في شيء لإمكان أن يقال : شمّ الورد منفعة مأذون فيها ، وكلّ ما هو كذلك فحسن ، يعني لا حرج في فعله ولا يستحقّ به الذمّ ، فهو حسن ، فقد علم حسنه بالخصوص من ذلك.

وأمّا الجواب الثاني : فيظهر بطلانه ممّا مرّ (٥) من عدم انحصار مدركات العقل في الضروريّات (٦).

وقد يوجّه كلامه : بأنّ مراده أنّ النّزاع فيما لا يدرك العقل حسنه أو قبحه بدليل

__________________

(١) فلا يحكم العقل في كل واحد من الأشياء غير الضّروريّة بشيء في خصوص كل واحد ، بل يحكم حكما عاما يندرج تمامها فيه ، وببيان آخر أي لا يحكم العقل في خصوص شمّ الورد بشيء ، بل يحكم أنّ كل ما فيه منفعة ولم يظهر منه ضرر ولا ضرار يجوز ويحق الاتيان به ومن هنا يظهر معنى كلامه من حكم الخاص والعام.

(٢) فيحكم من دون نظر واجتهاد كالمستقلّات العقلية الضّرورية.

(٣) وأشار صاحب «الفصول» الى كلام الفاضل الجواد في هذا.

(٤) الشّارح الجواد.

(٥) أي من حكمه بأنّ حكم العقل مستقل على قسمين ضروري ونظري فالانحصار بالابتدائي الذي هو الضروري لا وجه له.

(٦) وردّ المصنّف على الجوابين فيه كلام في «الفصول» ص ٣٤٩.


مختصّ به وإن أدرك حسنه من دليل عامّ يجري في الكلّ.

مثال الثاني : ما تقدّم وهو قوله : شمّ الورد منفعة مأذون فيها.

ومثال الأوّل : أن يقال : شمّ الورد فيه المنفعة الفلانيّة ، مثل تطريف الدّماغ ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن.

وفيه : أنّ هذا القياس في المباح لا يثمر إلّا مع انضمام كونه مأذونا فيه ، وبعد ضمّ كونه مأذونا فيه ، لا فرق بين النفع الخاصّ والنفع العامّ.

وإن أراد من النفع الخاصّ هو ما يوجد في غير المباح ، مثل أن يقال : في ردّ الوديعة جهة حسن خاصّ وهو حفظ العرض مثلا ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن ، بخلاف شمّ الورد لأنّه يقال فيه : إنّ شمّ الورد موجب لمنفعة مأذون فيها ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن ، فهو مع أنّه غير ملائم للسياق من ذكر النفع ، وتعميمه وتخصيصه لا يجدي طائلا ، لأنّه لا معنى لجعل أحدهما موضع النزاع دون الآخر مع صحة القياس وإنتاجه (١).

وربما يدفع أصل الإشكال : بأنّه لا منافاة بين عدم حكم العقل على شيء مع قطع النظر عن كونه مجهولا بين حكمه عليه مع ملاحظة وصف الجهالة. يعني أنّ حكم العقل بحسن شمّ الورد وأكل الفاكهة إنّما هو مع ملاحظة أنّهما مجهولا الحكم.

وأمّا مع قطع النظر عن كونهما مجهولي الحكم ، فلا حكم للعقل فيهما.

__________________

(١) فإنّ القياس كما هو صحيح ومنتج في ردّ الوديعة بالنّفع الخاص فكذلك في شمّ الورد بالنّفع العام المأذون فيه فإنّه صحيح ومنتج أيضا ، إذا فلا معنى لجعل شمّ الورد محلا للنزاع عند من يقولون بالتّحسين والتّقبيح العقليين دون ردّ الوديعة ، هذا مقصوده من قياسه ونتاجه على ما يبدو.


وفيه أيضا : أنّ حكم المبيح بالإباحة حينئذ ليس من جهة أنّه مجهول الحكم عند العقل ، بل لأنّه يحكم بأنّه منفعة مأذون فيها ، وحكم الحاظر بالحظر أيضا ليس من جهة أنّه مجهول الحكم ، بل لأنّه يزعم أنّه تصرّف في مال الغير وهو حرام ، فكيف يجعل محلّ النزاع مجهول الحكم ، مع كون مقتضى دليل الباحثين علمهم بالحكم؟

فإن قيل : إنّ ذلك مقتضى دليلهم نظرا إلى ظاهر الحال وإغماضا عن الاحتمال فقد يتبدّل الحكم بظهور خلافه ، كما لو حكم الشّارع بعد ذلك بالحرمة ، فيظهر الخلاف ويعلم أنّ الحكم السّابق إنّما كان حكما لمجهول الحكم.

قلنا : هذا كلام سار في جميع المطالب المعلومة عند النّاظرين ، فكثيرا ما يقام البرهان على المطلوب ، بل وقد يدّعى بداهته ثمّ يظهر خلافه. وذلك لا يوجب الحكم بكون ذلك الحكم العقليّ الذي هو مقتضى البرهان ، حكم ذلك الشّيء من حيث إنّه مجهول الحكم ، بل تكليف النّاظر في كلّ وقت مع التّخلية التامّة هو ما يصل إليه نظره ، سواء صادف الواقع أم لا.

نعم ، هذا الكلام يجري فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي لا مسرح للعقل فيها أصلا ، مثل وجوب غسل الجمعة مثلا ، فإنّ حكمه قبل ثبوته من الشّرع ، من حيث هو مجهول عدم الوجوب ، لا مع قطع النظر عنه ، وأين هو من الحكم بالإباحة. فحينئذ يمكن أن يقال : إنّ للأشياء قبل العلم بأحكامها تفصيلا حكم عقليّ من حيث كونها مجهولا بالاستقلال وإن لم يكن العقل مستقلّا بإدراك أحكامها ، مع قطع النظر عن الجهالة ، وكلّ ذلك صدر من الغفلة التي أشرنا إليها (١).

__________________

(١) للفاضل الجواد وتبعه فيها بعض الأفاضل ممّن تأخّر عنه أيضا ، وفي حاشية الملا ـ


وبما ذكرنا ظهر اندفاع ما ربّما يورد هنا من الإشكال من لزوم تسبيع الأحكام لزيادة الإباحة الظّاهرية والحظر الظّاهريّ على الأحكام الخمسة ، إذ أدلّة القائلين بها لا تفيد إلّا الإباحة والحظر ما لم يظهر مفسدة أو رخصة ، فإنّه لا يمكن نفي الاحتمال العقليّ رأسا ، سيّما مع ملاحظة ما ورد في الشّرع من تحريم بعض المنافع الخالي عن المضرّة ، مثل الغناء ، وشرب الفقّاع الغير المسكر ، ونحوهما. فربّما يكون في الشّيء مفسدة ذاتيّة لا يدرك العقل (١) ، ثمّ يكشف عنه الشّرع ، إذ ذلك إشكال سار في جميع الأحكام ولا اختصاص له فيما نحن فيه ، بل بجميع المطالب المستدلّ عليها ، والمبيح والحاظر لا يريدان إثبات الإباحة والحظر الظّاهريّتين ، بل يثبتان الإباحة والحظر النّفس الأمريّتين كما هو مقتضى دليلهما.

نعم ، قد يتّضح هذا الإشكال (٢) إذا استدلّ على هذا المطلب بمثل قولهم عليهم‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣).

ويمكن أن يقال فيه أيضا : إنّه مباح لمن لم يطّلع على النهي في نفس الأمر (٤) ، وحرام على من اطّلع عليه في نفس الأمر ، لا أنّه لغير المطّلع مباح ظاهرا وحرام

__________________

محمد تقي الهروي : يعني أنّ جميع ما ذكر من الإشكال والأجوبة المذكورة عنه ناشئ عن الغفلة التي صدرت عن الفاضل الجواد رحمه‌الله ، وقد عرفت انّه لا غفلة هنا لا منه ولا من غيره.

(١) كذا في المصنّف.

(٢) إشكال لزوم التّسبيع.

(٣) «الوسائل» ٢٧ / ١٧٤ حديث ٣٣٥٣٠ ، وفيه وجوه واحتمالات ذكره الشيخ الحرّ العاملي رحمه‌الله.

(٤) بل يمكن أن لا يسمّى محظور إلّا بعد أن يكون أعلم حظره أو دلّ عليه.


واقعا ، نظير ذلك ما بيّنا في الواجب المشروط بالنّسبة الى الواجد للشرط والفاقد ، كما بيّنا مرارا.

ثمّ قد ظهر لك أنّ الأقوال في المسألة أربعة :

الإباحة ، وهو مذهب الأكثرين من أصحابنا ، والمعتزلة البصريّة (١).

والحظر ، وهو مذهب بعض أصحابنا ، والمعتزلة البغدادية (٢).

والوقف ، وهو مذهب المفيد من أصحابنا ، وبعض العامّة (٣).

__________________

(١) وذهب أكثر المتكلّمين من البصريّين وهي المحكيّ عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء على الإباحة كما ذكر الشيخ في «العدّة» ٢ / ٧٤٢ ، وكما عن «المعتمد» ٢ / ٣١٥ ، و «التبصرة» ٥٣٢ ، و «اللّمع» ١١٦ وشرحه ٢ / ٩٧٧ ، واختاره السيّد المرتضى في «الذريعة» ٢ / ٨٠٩.

(٢) وذهب كثير من البغداديّين ، وطائفة من أصحابنا الإمامية الى أنّها على الحظر ، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء ، كما في نقل الشيخ في «العدة» ٢ / ٧٤٢ ، وكما عن «المعتمد» و «التبصرة» و «اللّمع» و «شرحه».

(٣) وذهب كثير من الناس الى أنّها على الوقف كما عن «العدة» ، وكذا في «المعتمد» و «التبصرة» و «اللمع» و «شرحه» ، وأضاف الشيخ في «العدة» ويجوّز كل واحد من الأمرين فيه وينتظر ورود السّمع بواحد منهما ، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله ، وهو الذي يقوى في نفسي.

وبالرّجوع إلى «التذكرة بأصول الفقه» للشيخ المفيد ص ٤٣ من سلسلة مؤلّفاته المطبوعة نجده يقول فيه : فأمّا القول في الحظر والإباحة فهو أنّ العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما يجوز ورود السّمع فيها بإباحته ، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره ، ولكن العقل لم ينفكّ قطّ من السّمع [باباحته وحظره] ولو أجبر الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرّهم الى مواقعة ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم الى العلم باباحته من حظره ، وألجأهم الى الحيرة التي لا تليق بحكمته.


وذهب الأشاعرة إلى أنّه لا حكم لها.

والمراد بالوقف : أنّا نجزم أنّ هناك حكما ولم نعلم أنّه إباحة أو تحريم.

والفرق بين المتوقّف والحاظر أنّه يجزم بالحرمة فيكفّ عنه لأجل الحرمة ، والمتوقّف يكفّ عنه خوفا عن الوقوع في الحرام.

بقي الكلام في معنى : قبل الشّرع ، والمراد به قبل وصول الشّرع إليه ، سواء كان ذلك في زمان الفترة ، أو في وقت اضطرار المكلّف وانقطاعه بسبب حبس أو مانع أو نحو ذلك(١).

ولا ينافي ذلك عدم خلوّ زمان من الأزمنة عن نبيّ أو وصيّ أو حافظ للشريعة على أصولنا ، ولا ما ورد بأنّ جميع الأحكام صدر عن الله تعالى وهو مخزون عند أهله ، فإنّ من المعاين المحسوس أنّ ذلك بحيث يمكن وصوله إلى كلّ أحد من المكلّفين مع أنّ بيان الأحكام تدريجيّ.

نعم ، بعد ما وردت (٢) الأحكام الشرعيّة وظهر لنا حرمة بعض الأشياء التي لم تدرك عقولنا حرمتها ، ووجوب بعض آخر كذلك ، فلا يجوز الاعتماد على ذلك الأصل حتى يقع التتبّع التّام كما في كلّ ما لا نصّ فيه ، فإنّه لا يجوز التمسّك بأصل البراءة أوّلا حتى يحصل الظنّ بعدم المعارض كما سيجيء إن شاء الله تعالى (٣).

ثمّ إنّ القول : بأنّ كلّ ما فيه منفعة خالية عن المضرّة قبل ورود الشّرع ممّا يستقلّ بحكمه العقل على القول بالإباحة والحظر ، إنّما يتمّ أن لو قلنا بأنّ الدليل

__________________

(١) في نسخة الأصل (ورد).

(٢) يبدو أنّه أتى على تبيينها لوجود كلام فيها ، وقد فصّله في «الفصول» ص ٣٥٠ ، واعتبر انّ حمل المصنّف له لا وجه له.

(٣) في مبحث البراءة الآتي.


على ذلك يفيد القطع ، كما في الظّلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، لعدم دليل على كون غير المقطوع به دليلا للشّرع بالخصوص.

ودعوى قطعيّته من حيث عدم كون التصرّف في مال الغير مانعا وإن كان يمكن ، لكن دعوى عدم مضرّة مفسدة أخرى محتملة فيه بعنوان القطع في ما ينفعنا اليوم ـ أعني بعد ثبوت الشّرع وبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصب الأوصياء ـ من ثمرات هذه المسألة ، مشكلة (١) ، إذ المفروض أنّ كثيرا ممّا يشتمل على المنفعة الخالية عن المضرّة في عقولنا قد نهى عنها الشّارع ، وصار ذلك كاشفا عن قبح واقعيّ ، ويحتمل فيما لم نقف فيه على نهي أن يكون مثل ذلك وعدمه مظنون لا مقطوع به.

فالاعتماد إذا إمّا باستصحاب الإباحة السّابقة على بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وورود الشّرع في الجملة ، أو باستصحاب عدم ورود النّهي بذلك ، أو بالظنّ الحاصل بملاحظة محض أنّه منفعة خالية عن المضرّة ، لا مؤاخذة فيه.

وكيف كان ، فالحكم بالإباحة في مثل ذلك في أمثال زماننا ، من الظنيّات ، والدليل عليه ظنّي ، فكيف يقال : إنّها ممّا يستقلّ بحكمها العقل بعنوان القطع.

نعم ، يمكن أن يقال : لمّا كان العمل بظنّ المجتهد ممّا يستقلّ به العقل بعنوان القطع لانسداد باب العلم وانحصار المناص في الظنّ وذلك من جزئيّاته ، فمن هذه الجهة يصير من جملة ما يستقلّ به العقل.

ومن ذلك ظهر أنّ ما يقال : إنّ التكلّم في هذا القسم من الأدلّة العقليّة قليل الجدوى لعدم انفكاك ما استقلّ به العقل من الدّليل الشرعي عليه ، كما يلاحظ في

__________________

(١) خبر للدعوى.


قبح الظلم وحسن العدل ووجوب ردّ الوديعة وغير ذلك لا وجه له ، فإنّ العمل بظنّ المجتهد من أعظم ثمرات هذا الأصل ، وأيّ فائدة أعظم من ذلك.

ولا ريب أنّ الدّليل المعتمد فيه هو دليل العقل إذ ما يستفاد من الشّرع في هذا الباب لا يفيد إلّا ظنّا ، والتمسّك به بدون دليل قاطع ، لا وجه له.

وهذا هو الوجه في جعل الظنّ المستفاد من الاستصحاب وغيره أيضا من الأدلّة العقليّة.

وبعد ملاحظة هذا المعنى ، واندراج المذكورات في أفراد ظنّ المجتهد ، فيعاضدها الأدلّة الشرعيّة أيضا من الآيات والأخبار في أصل الإباحة والاستصحاب وغيرهما ، كما سنشير إليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

هذا ولكن إثبات حجّية ظنّ المجتهد لا دخل له في الأدلّة الشرعيّة التي هي المناط (١) ، لاستفادة الأحكام الفرعيّة ، وهي الموضوع لعلم أصول الفقه ، والمرجع في استنباط المسائل الفقهية ، بل هو يشبه المسائل الكلاميّة كما سنشير إليه في مباحث الاجتهاد والتقليد.

نعم ، يمكن أن يقال : ظنّ المجتهد بالمسائل الفقهيّة ، كما قد يحصل من الأدلّة اللّفظية ، كالكتاب والسنّة ، فقد يحصل من الأدلّة العقلية ، وإذا حصل الظنّ له ، فيحصل الظنّ بالضّرر بمخالفته ، فيلزم اتّباعه ، ومن ذلك يظهر الكلام في

__________________

(١) قد لا يستقيم هذا الكلام ، مع العلم بأنّ إثبات مثل حجيّة الخبر الواحد والشهرة والاجماع المنقول من حيث قيام الحجّة على حجّية ظنّ المجتهد ، فمع القول بها في الأدلّة النقلية فما الذي يمنع من عدم القول بها في الأدلّة العقلية.


الاستصحاب وغيره أيضا.

فحاصل الكلام في هذا المقام ، أنّ الدليل العقلي إمّا حكم العقل بعنوان القطع على وجوب الشّيء عقلا ، كردّ الوديعة ، أو حرمته كذلك ، كالظّلم ، أو استحبابه كذلك كالإحسان ، وهكذا.

ومن جملتها : حكمه بالإباحة في المنافع الخالية عن المضرّة قبل ورود الشّرع على القول به ، أو حكمه بعنوان الظنّ به ، مثل أنّ العقل يحكم حكما راجحا ببقاء ما كان عند عروض الشّك في زواله ، وبأنّ ما ثبت يدوم الى أن يحصل الرّافع ، فإذا ظنّ بقاء الحرمة السّابقة أو الوجوب السّابق بسبب حصولهما في الآن السّابق ، فيظنّ الضّرر بمخالفة الحالتين السّابقتين ، ويحكم بعد ملاحظة أنّ دفع الضّرر المظنون واجب ، بأنّ متابعة الحالتين السّابقتين واجبة.

فهذا هو المائز (١) بين الأدلّة التي تفيد الظنّ للمجتهد ، إذ بعضها يفيد الظنّ من جهة أنّه كلام الشّارع ، وبعضها يفيد الظنّ من جهة أنّه حكم العقل ولو كان حكما ظنيّا.

ومن هذا يظهر الكلام في الحكم بإباحة ما لم يبلغنا المنع عنه بعد ظهور الشّرع أيضا ، لحصول الظنّ حينئذ من جهة العقل.

فالعقل إمّا يحكم في الموضوعات الخاصّة صريحا قطعيّا كالعدل والظّلم مطلقا ، وشمّ الورد وأكل الفاكهة قبل ورود الشّرع.

__________________

(١) المائز أو المائز كما عبّر في الكتاب وهي بالميم من التّمييز ، وفي بعض النّسخ كتبت بالحاء من الحيازة وفي الاثنين توجيهين مع درك المطلب.


وإمّا من جهة عموم حكمه بقبح تكليف ما لا يطاق ، ويندرج تحته نفي وجوب الوضوء على من فقد الماء ، والصّوم على من لم يقدر عليه ، وكذا العمل على مقتضى الحكم النّفس الأمري فيما لا نصّ فيه ولم يدرك حكمه العقل ، فيحكم العقل بعدم الوجوب وعدم الحرمة إذا لم يثبت الحكم بنصّ أو عقل قاطع ، وهذا هو الأصل المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، بل وكذلك حكمه الظّاهرىّ كما سنبيّنه (١) ، وهو ما تنازع فيه الفريقان في الإباحة والحظر والتوقّف كما سيجيء في أصل البراءة.

والظاهر أنّ العقل أيضا يحكم برفع التكليف فيه.

وإمّا من جهة عموم حكمه بأنّ ما ثبت فالمظنون بقاؤه إذا كان ما يثبت ثبوته محقّقا من عقل أو حسّ أو شرع ، ثمّ يجب العمل عليه استنادا الى أنّ دفع الضّرر

__________________

(١) فإنّ ايجاب العمل على ما هو مقتض الحكم النّفس الأمري كما يكون تكليفا بما لا يطاق فيما ليس فيه حكم من العقل ولا نص فيه من الشّرع ، كذلك إيجاب العمل على مقتضى الحكم الظاهري هو أيضا تكليف بما لا يطاق ، وذلك لأنّ الحكم الظّاهرى بعد تعارض أدلّة الإباحة والحظر الواردة في بيان الحكم الظاهري يكون مجهولا كالحكم الواقعي ، فلو كلّف بما هو حكم ظاهري بحسب نفس الأمر لا بحسب ظنّنا لكان تكليفا بما لا يطاق ، لأن الحكم الظّاهري سواء قلنا إنّه الإباحة أو الحظر يكون مظنونا كما يعلم من كلمات المصنّف في مبحثه لأصل البراءة حيث قال : إنّ الأقوى والأظهر هو العمل على البراءة الأصليّة وإنّ أدلّة البراءة الأصلية أقوى من أدلّة التّوقف ، وأمثال ذلك ممّا ينادي بأنّ الحكم الظاهري ليس مقطوعا به ، بل ظنّي والظّن كثيرا ما يخالف الواقع ، وهذا هو مراده بقوله : كما سنبيّنه ، وإلّا فليس في كلامه فيما يأتي تصريح بأنّه لو لم يكتف الشارع هنا بهذا الحكم الظّاهري في ظنّنا يلزم التكليف بما لا يطاق.


المظنون واجب.

وهذا هو أيضا ممّا يثبت بالعقل القاطع ، وهذا هو الاستصحاب.

وكذلك الأمر في استصحاب الإباحة فيما يدرك العقل إباحته ، فإنّ المظنون حينئذ ارتفاع المنع والوجوب ويثبت الإباحة بمثل ما تثبت فيما لا نصّ فيه ولم يحكم العقل فيه بشيء.

فهذا حاصل الكلام في مباني الأدلّة العقليّة ومعنى انتسابها الى العقل.

وأمّا غير هذه الثلاثة المذكورة ممّا ذكروها ، مثل أنّ عدم الدّليل دليل العدم ، والأخذ بالأقلّ عند عدم الدّليل على الأكثر ، وغيرهما ، فيرجع إليها كما سيظهر لك في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.


قانون

من جملة الأدلّة العقلية ؛ أصالة البراءة (١) ، ويقال لها : أصالة البراءة ، وربما يقال لها : أصالة النّفي.

والأصل (٢) يطلق في مصطلحهم على معان كثيرة ، مرجعها الى أربعة : الدّليل ، والقاعدة ، والاستصحاب ، والرّاجح ، وهو هنا قابل لثلاثة منها (٣).

الأوّل : استصحاب البراءة السّابقة في حال الصّغر أو الجنون ، أو حالة علم فيها عدم اشتغال الذّمة بشيء ، مثل البراءة عن المهر قبل النّكاح ، وعن الدّين قبل زمان ادّعاء المطالبة في ذلك الزّمان ، وإجراء حكم هذه الحالة في الآن الذي شكّ فيه باشتغال الذّمة.

__________________

(١) ربما جعله من الأدلّة العقلية لدلالة مثل قبح العقاب بلا بيان عليه ، وهذه القاعدة عبارة عن حكم عقلي ، هذا وبعضهم اعتبره مدلول يستنبط تارة من الأدلّة العقلية واخرى من الأدلّة النّقلية فمن هنا قال : بأنّ جعله دليلا عقليا غير سديد.

(٢) لغة أسفل كل شيء وهنا بمعنى ما يبنى عليه الشّيء. راجع «المصباح المنير» ص ١٦ ، و «لسان العرب» ١ / ١١٤.

(٣) وكذا ذكر الشهيد في «التمهيد» ص ٣٢ ، ولكن بلا ذكره لما ذكر من أنّها تطلق على معان كثيرة مرجعها الى أربعة ، وبلا ذكره : وهو هنا قابل لثلاثة منها.

هذا ولم أجدا غيره من أطلق الأصل على غير المعاني الأربعة بحسب الاصطلاح الأصولي ، نعم لها معاني وإطلاقات كثيرة ، بحسب اللغة ، وأيضا بحسب إطلاق الرّجاليين فإنّهم كثير ما يعنون بأن له أصل أي كتاب ، وأيضا كثيرا ما يستعملون كلمة الأصل في كثير من المواضع التي لا ترجع الى الأصل المذكور انّه حجّة ولا إلى القاعدة المستفادة من الشّرع. والشهيد في «قواعده» استعمل كلمة الأصل في مواضع ، منها صحيح ، ومنها لا يظهر له وجه ، وقد ذكر عدد أمثلة منها في «الوافية» ص ١٩٦.


وهذا الإطلاق إنّما يناسب بالنّسبة الى ما شكّ في تحريمه أو وجوبه ، لأنّ اشتغال الذّمة لا يكون إلّا بالتكليف ، والتكليف منحصر فيهما ، فالتمسّك بأصل البراءة بهذا المعنى إنّما يصحّ في مقابل دعوى الحرمة أو الوجوب.

والثاني : أنّ القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان أو وصول البيان إلينا بعد الفحص والطّلب بقدر الوسع فيما يحتمل فيه الحكم المخالف للأصل ، للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه.

والثالث : أنّ الرّاجح عند العقل براءة الذّمة إن جعلنا الرّاجح من معانى الأصل ، أعمّ من المتيقّن والمظنون ، ولكنّ الأصوليّين جعلوا كلّ واحد من المعنيين الأوّلين أصلا برأسه ، ودليلا على حدة ، وأصالة البراءة دليلا ثالثا.

والأوّل : هو ما يسمّونه استصحاب النّفي ، واستصحاب حال العقل ، وسيجيء الكلام فيه.

والثاني : هو الأصل المتّفق عليه المعروف بينهم من أنّ عدم الدّليل دليل على العدم ، فجعل أصالة البراءة قسما على حدة مشكل.

نعم ، هو نوع خاصّ من هذا الأصل ، كما أنّ الأصل الآخر المعروف بينهم من نفي الأكثر عند تردّد الأمر بينه وبين الأقلّ نوع من أصل البراءة ، وذلك لأنّ هذا الأصل يجري في جميع الأحكام الشرعيّة ، وأصل البراءة مختصّ بقسمين منها.

ويمكن الفرق بنحو آخر ، وهو أن يقال : إنّ ذلك الأصل ناظر الى إثبات الأحكام الشرعيّة ونفيها للموضوعات العامّة من حيث إنّها أحكام شرعيّة ، وهي ناظرة الى تعلّقها بخصوص ذمّة آحاد المكلّفين.

والحاصل ، أنّ نفس البراءة الثّابتة لا يمكن أن تصير من الأدلّة الشرعيّة ، بمعنى أن تثبت حكما شرعيا ، فينسب عدم الوجوب أو عدم الحرمة من جهتها الى


الشّارع ، فيقال : حكم الشّارع في المتنازع هو نفي الحرمة مثلا في الواقع أو في ظنّنا ، إذ غاية الأمر حينئذ عدم ثبوت حكم الشّارع بالحرمة مثلا ، أمّا نفيه ، فلا.

نعم ، يمكن إثبات الحكم من جهة القاعدة المذكورة (١) ، والأصل فيها لزوم تكليف ما لا يطاق ، وهو ممّا يصحّ أن يجعل مناطا للحكم الشرعيّ كما مرّ في البحث الأوّل.

وتوافق مقتضى هذه القاعدة من نفي التّحريم أو الوجوب مثلا لنفس البراءة لا يقتضي أن يكون ذلك ناشئا من البراءة ، بل إنّما هو من باب التّوافق الاتّفاقي.

وربّما قيل : إنّ عند التّحقيق حال استصحاب النّفي ، بل الإثبات أيضا في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم الأوّل لها أيضا إنّهما ليسا أمارة على شيء ، ولا يثبت بهما حكم ، بل يحصل منهما اعتقاد لزوم العمل على طبقهما ، إلّا أنّ حكم الشّارع الواقعي هو عدم رفع ما يثبت بهما.

أقول : وفيه نظر ، إذ غاية الأمر أنّ الاستصحاب لا يدلّ على عدم الحكم من الشّارع بخلافه ، لكنّه يعلم منه حكمه ببقاء ما كان ، وهذا أيضا حكم منه في الآن الثّاني ثبت إمّا من جهة الظنّ الحاصل بالبقاء من الكون الأوّل ، أو من جهة الأخبار الصّحيحة ، مع أنّ مقتضى تلك (٢) الأخبار (٣) نفي الغير أيضا ، فلاحظها.

__________________

(١) وهي مذهب المشهور في تحديد الموقف العملي الذي هو عبارة عن مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّ التكليف بما أنّه لم يتمّ بيانه من المولى فإنّه يقبح المعاقبة على مخالفته فحق الطاعة للمولى يختص بالتكاليف المعلومة ولا يشمل المشكوكة.

(٢) في نسخة الأصل (ذلك).

(٣) كخبر زرارة المعروف في هذا الباب ، بل وغيره من الأخبار التي تمسّكوا بها في كتب ـ


وكيف كان ، فأصل البراءة بالمعنيين اللّذين ذكرناهما (١) ، يمكن جعله موضوعا للمسألة التي نحن على صدد بيانها.

والحقّ ، أنّه بالمعنيين حجّة شرعيّة ، ومقتضاه نفي التكليف ورفع الحكم المشكوك فيه ، وهو مختار أكثر العلماء.

وذهب جماعة الى التوقّف ولزوم الاحتياط.

ثم إنّ الاستدلال بأصل البراءة إمّا فيما يستقلّ العقل بالحكم بإباحته قبل وصول الشّرع كشمّ الورد وأكل الفاكهة أو لا.

والثاني : إمّا ورد فيه نصّان متعارضان ، أو لم يرد فيه نصّ أصلا.

فالإباحة في القسم الأوّل إنّما يثبت بالعقل. وفائدة التمسّك بأصل البراءة نفي منع الشّارع ما لم يثبت المنع بدليل يقطع العذر ، إذ قد بيّنا فيما سبق أنّ حكم العقل بالإباحة لا ينافي أن يكون في ذلك الشّيء مفسدة كامنة لا يظهر إلّا ببيان الشّرع ، وأنّ احتمال ذلك لا يضرّ فلا بدّ لمن يدّعيه من إثباته ، فالتمسّك بأصل البراءة حقيقة إنّما هو لأجل نفي ذلك ، لا لإثبات الإباحة العقليّة.

وأمّا ما لا يستقلّ العقل بالحكم بإباحته ، كالتكفير حال الصلاة مثلا ، وعدم وضع الأنف على الأرض حال السّجود ؛ فأصل البراءة تنفي الحرمة في الأوّل لو لم يثبت النصّ عليها ، والوجوب في الثاني. فيبقى الفعل في الأوّل والترك في الثاني مسكوتا عنه عند العقل ، لأنّهما ليسا كشمّ الورد وأكل الفاكهة ، ولكن يلزمه

__________________

ـ الأصول وقد ذكر جملة منها في «الوافية» فراجعها.

(١) وهما استصحاب البراءة السّابقة ، والقاعدة المستفادة من العقل والنّقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان.


البقاء على مقتضى البراءة الأصليّة وإن لم يحكم العقل بالرّخصة فيه ، أو نقول : يتمّ الحكم بالإباحة حينئذ بالشرع ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١). كما أنّه يمكن في القسم الأوّل أيضا إثبات الإباحة بالشرع بأمثال ذلك أيضا.

وما ذكرناه من الحصر في إثباته بالعقل إنّما كان مضافا الى أصل البراءة لا إلى الشّرع (٢) ، ومن ذلك يظهر حال ما ورد فيه نصّان متعارضان متساقطان ، وسيجيء الكلام في تفصيل المقامات.

__________________

(١) «من لا يحضره الفقيه» ١ / ٣١٧ الحديث ٩٣٧ ، «الوسائل» ٢٧ / ١٧٣ الحديث ٣٣٥٣٠.

(٢) حيث قال آنفا : فالإباحة في القسم الأوّل إنّما يثبت بالعقل. ومراده كما عن الملا محمد تقي الهروي في حاشيته أنّ مثل التّكفير وإن كان لا نثبت إباحته إلّا بالشّرع نحو كل شيء مطلق ... إلخ ، إلّا أنّ مثل شمّ الورد نثبت اباحته بالعقل والشّرع جميعا ، وعليه فما مرّ من حصر إثبات إباحته في العقل يكون إضافيا بالنّسبة الى أصل البراءة ، إذ أصل البراءة يعني أنّ الإباحة في القسم الأوّل كشمّ الورد لا تثبت بأصل البراءة إذ أصل البراءة إنّما ينفي حرمته المحتملة النّاشئة من احتمال المفسدة الكامنة لا أنّها لا تثبت بالشّرع ، بل إنّها كما تثبت بالعقل تثبت بالنّص أيضا ، وقد تلخص من كلامه أنّ المنافع وغيرها كشمّ الورد والتّكفير سيّان في أنّ أصل البراءة ينفي الحرمة عن كل منهما ولا يثبت به الإباحة في شيء منهما ، ويفترقان في أنّ إباحة الأوّل تثبت بالعقل والشرع وإباحة الثاني تثبت بالشرع فقط. هذا ولا يكفي انّ الإباحة التي تثبت بالعقل في المنافع هي الإباحة الواقعية عنده كما صرّح به في القانون السّابق ، وأمّا الإباحة التي تثبت بمثل قوله عليه‌السلام : كل شيء مطلق فهي الإباحة الظاهرية العملية كما سيأتي في كلامه أيضا ، فلم يتوافقا على شيء واحد إلّا أنّ يحمل الحديث المذكور أيضا على الإباحة الواقعية كما احتمله في القانون السّابق حيث قال : ويمكن أن يقال فيه أيضا ... الخ ، وهو بعيد جدا مخالف لما قاله هو في بيانه هناك.


ثمّ إنّ المحقّق رحمه‌الله بعد اختياره حجّية أصل البراءة في كتاب الأصول مطلقا (١) ، خصّها في «المعتبر» بما يعمّ البلوى (٢).

وتوجيهه : أنّ العادة تقتضي بأنّه لو كان حكم من الشّارع فيما يعمّ به البلوى لنقل إلينا ، فيحصل الظنّ من عدم الوجدان بعدم الوجود ، بخلاف غير ما يعمّ به البلوى.

وهذا الكلام إنّما يناسب زمان الغيبة وما يشبهها ، كما هو المهمّ المحتاج إليه لنا ، لا أوّل زمان صدور الشّرع.

وتوجيهه على مذهبنا من صدور جميع الأحكام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها مخزونة عند الأئمّة عليهم‌السلام ، وأنّه لم يبق شيء إلّا وقد صدر حكمه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أنّ مراد المحقّق ، أنّ فيما يعمّ به البلوى يحصل الظنّ بأنّ الحكم الذي صدر فيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو الإباحة إمّا بتصريحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّه لكونه غير محتاج إليه لموافقته للأصل لم ينقل إلينا. وإمّا بتقريره ، لما هو مقتضى الأصل ، بخلاف ما لا يعمّ به البلوى ، فإنّه يحتمل أن يكون حكمه الصّادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالفا للأصل ، ولكن لم يصل إلينا ، لعدم توفّر الدّواعي ، وأنت خبير بأنّه إنّما يحسن نكتة وعلّة

__________________

(١) راجع «معارج الأصول» ص ٢١٢ ونقل فيه أيضا قولا بوجوب الاحتياط مطلقا.

(٢) فقوله : بأنّه حجة فيما يعمّ به البلوى خاصة ، وعبارته في مقدمة كتابه «المعتبر» غير ملائمة على الحكاية إذ قسّم في الفصل الثالث منها الاستصحاب الى أقسام ثلاثة : استصحاب حال العقل ، وفسّره بالبراءة الأصلية ، واستصحاب حال الشّرع ، وان يقال عدم الدّليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وذكر هذا بين القسمين الأوّلين. وقال بعد ذكره : وهذا يصحّ فيما يعلم انّه لو كان هناك دليل لظفر به أمّا لا مع ذلك فيجب التّوقف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة. وقد أفاد حول هذا المطلب صاحب «الفصول» ص ٣٥٢ يمكن لك مراجعته.


للحكم بالإباحة الشرعيّة وعدمه بالخصوص ، ولكنّه لا ينافي ذلك كون حكم ما لم يعلم حكمه من الشّارع بالخصوص هو البراءة ، للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه ، وأنّ المثمر في البيان هو البيان الواصل الى المكلّف ، لا مطلق البيان.

ومقتضى أنّ التكليف لا يصحّ إلّا بعد وصول البيان ، لا يتفاوت فيه الأمران.

وبالجملة ، الحقّ والتّحقيق جواز التمسّك بأصل البراءة فيما لم يبلغ إلينا فيه نصّ ، سواء كان ممّا يحتمل الوجوب أو الحرمة ، واقتصر الأخباريّون على ما يحتمل الوجوب ، وغير الحرمة ، وحكموا بلزوم التوقّف في غيره (١).

ومرادنا بالنصّ هو الدّليل الشّرعيّ وإن كان هو العقل القاطع كما مرّ في البحث الأوّل ، وإن فرض قلّة انفكاكه عن النصّ الشّرعيّ ، وحجّية أصل البراءة هو مذهب المجتهدين.

وما يتراءى في الكتب الفقهيّة مثل كتب الفاضلين وغيرهما من التوقّف في الفتوى ، ويقولون : فيه توقّف ، أو تردّد ، أو نحو ذلك ، فليس قولا بوجوب التوقّف منهم أو العمل عليه ، بل مرادهم بيان تعارض الأمارات من الطّرفين من حيث بيان الحكم في المسألة بالخصوص ، ولم يترجّح عندهم أحد الطرفين ، فيظهرون أنّه محلّ التوقّف عندهم من حيث خصوص المسألة بالنظر الى الدّليل الخاصّ ، وإن كان فتواهم وعملهم بعد ذلك الرّجوع الى الأصل والتخيير. وسنشير بعد ذلك الى أنّ أخبار التوقّف أيضا تحمل على ذلك ، أي على التوقّف في الخصوص.

__________________

(١) فالأخباريون فيما لم يصلنا فيه نص على أربعة مذاهب : التّوقف وهو المشهور بينهم ، والحرمة ظاهرا ، والحرمة واقعا ، ووجوب الاحتياط ، والقول بالتّحريم يحتمل أن المقصود منه يكون قبل ورود الشرع فيكون غير مختص بالأخباري. وهذا وقد ألحق الأخباريّون بما لا نصّ فيه ما قد تعارض فيه النّصان ، والأفراد غير ظاهرة الفرديّة.


فالمجتهدون والأخباريّون كلاهما متوقّفون في الحكم من حيث الخصوص ، ثمّ يختلفون في حكم الواقعة بعد ذلك من حيث إنّها مجهول الحكم.

فذهب المجتهدون الى البراءة الأصليّة ، والأخباريّون الى لزوم الاحتياط.

وكيف كان فالأقوى والأظهر هو العمل على البراءة الأصليّة ، وادّعى عليه الإجماع جماعة ، منهم الصدوق رحمه‌الله في «اعتقاداته» (١) في باب الحظر والإباحة في الأشياء المطلقة قال : اعتقادنا في ذلك أنّ الاشياء كلّها مطلقة حتّى يرد في شيء منها نهي ، فيظهر منه انّه دين الإماميّة.

وعن المحقّق رحمه‌الله أنّه قال : إنّ أهل الشّرائع كافّة لا يخطّئون من بادر الى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الإذن فيها من الشّرع أو لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكل أن يعلم التّنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا الى تخطئته حتّى يعلم الإذن. انتهى (٢).

وأيضا يحكم العقل بعدم التكليف إلّا بعد البيان ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣). والمتبادر منه أنّا لا نعذّبهم على ما يفعلون حتّى تبلغهم الأحكام ببعث الرّسول (٤).

وبعد ملاحظة ما سبق في البحث الأوّل ، يظهر أنّ المراد ، الأفعال التي لا حكم

__________________

(١) ص ٦٦ كما في النسخة المصوّرة عن الحجرية والمطبوع معها الباب الحادي عشر.

(٢) في «المعارج» ص ٢٠٥ ، وفيه لفظ المشتهيات بدل المشتبهات كما في النسخة المحققة التي بين يدي والمطبوعة حديثا. نعم أنا لا أقول باشتباه المصنّف.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) كما عن الوحيد في رسالة أصالة البراءة «من الرسائل الأصولية» ص ٣٥٣.


للعقل فيها بالأمر والنّهي. أو نقول أنّ الرسول أعمّ من الظّاهر والباطن ، وعدم التّعذيب كناية عن أنّه ليس هناك إيجاب وتحريم حتّى يبعث رسولا ، وإلّا فيلزم انفكاك اللّازم عن الملزوم ، والأخبار عن العفو عن المؤاخذة عن جميع المحرّمات وترك الواجبات الى زمان يستلزم القاء الإيجاب والتحريم (١).

والعجب من بعض الأعاظم (٢) حيث جمع في كلامه بين الاستدلال بالآية لأصل البراءة ، ودفع الإشكال الوارد من جهة الآية على الأحكام العقليّة الإلزاميّة بجواز العفو عن الله تعالى.

ثمّ إنّ نفي الإيجاب والتحريم من الشّارع ، يستلزم الرّخصة في الفعل والترك ، واحتمال ذلك للأحكام الثلاثة الباقية لا يضرّ ، إذ المراد من أصل البراءة نفي أحد الحكمين ، سواء استلزم المقام بعد ذلك ثبوت الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة بالمعنى الأخصّ. فإنّ المراد أنّ الأصل براءة الذّمّة عن الوجوب والحرمة قبل وصول ما يدلّ عليهما إلينا ، سواء وصل مطلق الرّجحان أو المرجوحيّة أم لا.

وقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٣). والتّقريب فيه يظهر ممّا تقدّم.

__________________

(١) ونقل في «الفصول» ٣٥٣.

(٢) يظهر لي أن بعض الأعاظم المعين به الوحيد كما يبدو من رسالته «أصالة البراءة» ص ٣٨٠ من «الرّسائل الأصولية» وحيث قال : كان قد صرّح به أفضل المحقّقين وأكمل المدقّقين جمال الملّة والدّين في تعليقته على «المختصر» للحاجبي. فقال : نحن معاشر الشيعة قائلون بجواز العفو منه تعالى.

(٣) الأنفال : ٤٨.


وكذلك قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١). وأمثالها من الآيات الدالّة على عدم المؤاخذة إلّا بعد البيان.

وأمّا السنّة ، فمثل ما رواه الصدوق رحمه‌الله في «الفقيه» (٢) في باب جواز القنوت بالفارسيّة عن الصادق عليه الصلاة والسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».

ورواه الشيخ رحمه‌الله أيضا (٣) ، وفي روايته : أمر أو نهي.

ودلالته ظاهرة ، فإنّ المراد : كلّ شيء مطلق عنانه ، مقيّد بزجر من الشّارع بحيث لا يمكن تناوله ، فيجوز تعاطي فعله وتركه حتى يثبت منع وزجر بسبب قيد الشّارع وحبسه بنهيه عنه.

والمراد من النّهي في حديث الصّدوق أعمّ ممّا تضمّنه الواجب من النّهي عن الترك. وحمل الرّواية على استصحاب إطلاق الحكم الوارد من الشّرع حتّى يثبت التقييد ، أو على ما لا يحتمل التحريم ، فإنّه وفاقي أو على ما يعمّ به البلوى لحصول الظنّ فيه كما مرّ ، أو نحو ذلك من المحامل البعيدة ، تأويلات بعيدة لا داعي الى ارتكابها ، لضعف معارضاته كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وما رواه الصدوق في «التوحيد» (٤) في الصحيح عن حريز عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ،

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) ١ / ٣١٧ الحديث ٩٣٧.

(٣) «تهذيب الأحكام» ٢ / ٣٢٦ الحديث ١٣٣٧.

(٤) ص ٣٥٣ ، و «الخصال» : ٤١٧ الحديث ٩ ، «الوسائل» ٧ / ٢٩٣ الحديث ٩٣٨ ، و ٨ / ٢٤٨ الحديث ١٠٥٥٩.


والحسد ، والطّيرة ، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة». ورواه في أوائل «الفقيه» (١) أيضا.

فإنّ رفع المؤاخذة عمّا لا يعلمون ظاهر في الإباحة الشرعيّة.

وما رواه في «الكافي» (٢) في باب حجج الله على خلقه في الموثّق عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عنه عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». فإنّ المراد وضع تكليفه عنهم ، أو وضع المؤاخذة ، وهذا يشمل محتمل الوجوب والحرمة ، ولا وجه لتخصيصه بمحتمل الوجوب ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على عدم التكليف والمؤاخذة إلّا بعد العلم ، مثل قوله عليه‌السلام : «أيّما إمرئ ركب أمرا بجهالة فليس عليه شيء» (٣). وقوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ممّا لم يعلموا» (٤). ونحوهما.

وقد يستدلّ بصحيحة عبد الله بن سنان ، رواه في «الكافي» في نوادر المعيشة (٥) عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال : «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

وفي الاستدلال به فيما لا نصّ فيه فيما اشتبه حكمه الشرعيّ إشكال ، بل هو ظاهر فيما اشتبه موضوع الحكم.

وبيانه : أنّ المتّصف بالحلّ والحرمة إنّما هو أفعال المكلّفين ، فإن جعلناهما أعمّ

__________________

(١) ١ / ٣٦ الحديث ١٣٢.

(٢) ١ / ١٢٦ الحديث ٣ ، «وسائل الشيعة» ٢٧ / ١٦٣ الحديث ٣٣٤٩٦.

(٣) «تهذيب الأحكام» ٥ / ٧٣ الحديث ٢٣٩ ، «الوسائل» ١٢ / ٤٨٩ الحديث ١٦٨٦١.

(٤) «الكافي» ٦ / ٢٩٧ الحديث ٢ ، «الوسائل» ٣ / ٤٩٣ الحديث ٤٢٧٠.

(٥) ٥ / ٣١٣ الحديث ٣٩.


من العقليّ فيشمل مثل التنفّس في الهواء الذي هو ممّا يضطرّ إليه الإنسان ، إذ المراد بالحلّ في الرّواية حينئذ هو الرّخصة ، لا حصول الإباحة بالمعنى الأخصّ ، وإلّا فيكون المقسّم هو غير الاضطراريّات لعدم انصراف الحلال شرعا إليها ، وقد ينسبان الى الأعيان توسّعا لكونها مشتملة على علّة الحكم المتعلّق بها وحكمته ، وفي الحقيقة ، المتّصف بهما هو الفعل المتعلّق بها.

ثمّ إنّ الفعل قد يتّصف بهما باعتبار المتعلّق كحلّ أكل الخبز وحرمة أكل الميتة ، وقد يتّصف بهما باعتبار الحال والوقت ، كالأكل على التّخمة ، وإن كان المتعلّق مباح الأكل بالذّات ، ووقت الاحتياج وإن كان حرام الأكل بالذّات ، فما علم فيه المتعلّق أو الحال والوقت وتعيّن كونه من أفراده ، فلا إشكال فيه ، وما جهل فيه المتعلّق أو الوقت ، فهو مورد هذه الرّواية وأمثالها. فاللّحم منه ما يحلّ أكله بالذّات وبالوصف وبالوقت والحال كأكل لحم الغنم المملوك الغير الجلّال ونحوه المذكّى في خلاء المعدة (١). ومنه ما يحرم بسبب خلاف أحد المذكورات ، كلحم الخنزير أو أكل الغنم المغصوب أو الجلّال أو غير المذكّى أو على التّخمة ، فإذا علم المذكورات فلا إشكال.

وأمّا لو جهل الحال ، فمقتضى الرّواية كونه حلالا حتى يعلم أنّه متّصف بواحد من جهات الحرمة ، فالشّاكّ في كونه على التّخمة أم لا مثلا ، يحلّ له الأكل ، وكذلك اللّحم المشترى من السّوق الذي لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، وهذا هو الشّبهة في الموضوع ، أعني ما يكون سبب اشتباه حكمه الشرعيّ الشّك في أنّه داخل تحت أيّ القسمين اللّذين علم حالهما بالدليل الشرعيّ ، فلو ارتفع الجهل وحصل العلم

__________________

(١) مقابل التّخمة.


بكونه أحدهما ، فلا يحتاج الى دليل شرعيّ آخر في معرفة الحكم.

وأمّا الشّبهة في نفس الحكم الشّرعيّ ، فهو أن يكون من جهة عدم الدليل أصلا

لا في هذا الشّيء ولا في شيء آخر يندرج هذا فيه كشرب التّتن مثلا ، أو من جهة تعارض الدّليلين.

وقد توجّه الرّواية (١) بحيث تشمل الشّبهة في نفس الحكم الشّرعيّ ليتمّ الاستدلال بها على أصالة البراءة فيما لا نصّ فيه ، ويقال : إنّ معنى الحديث أنّ كلّ فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة (٢) ، وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة ، إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ أو الحرمة ، فهو لك حلال ، فخرج ما لا تتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، وما علم أنّه حلال لا حرام فيه ، أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل ، أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما ؛ فهو حلال ، سواء علم حكم لكلّي فوقه أو تحته ، بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه ، علم حكمه أيضا أم لا.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك ، بمعنى أنّك تقسّمه الى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ، ولا تدري المعيّن منهما ، فهو لك حلال ، فيقال حينئذ : إنّ الرّواية صادقة على اللّحم المشترى من السّوق المحتمل

__________________

(١) وقد وجّه هذا التّوجيه السيد صدر الدين في شرحه «للوافية».

(٢) وستأتي الإشارة إليه في الأسطر القليلة الآتية في شرب التّتن.


للمذكّى والميتة ، وعلى شرب التّتن ، وعلى حلّيّة لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسّما لحكمين ، فنقول : هذا إمّا حلال وإمّا حرام ، وإنّه من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما ، واشتركت في أنّ الحكم الشّرعي المتعلّق بها غير معلوم.

أقول : وفيه نظر (١) ، إذ هذا التفسير يوجب استعمال اللّفظ في المعنيين مع كونه خلاف المتبادر من الرّواية أيضا.

بيانه : أنّ خروج الأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، كالسّماء وذات الباري تعالى مثلا إنّما هو لأجل عدم إمكان الاتّصاف بشيء من الحلّ والحرمة ، لا من جهة عدم اتّصافها بهما معا ، وعدم قابليّتها لانقسامها إليهما.

وخروج الأفعال الضّروريّة لبقاء الحياة إنّما هو لأجل أنّه لا يتّصف بأحدهما أيضا شرعا ، وإن كان يمكن اتّصافه بهما جميعا لأجل أنّه فعل مكلّف اختياريّ ، وكذلك خروج ما تعيّن حلّه أو حرمته لأنّه لا تتّصف إلّا بأحدهما ، فيلزم استعمال قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام». في معنيين :

أحدهما : أنّه قابل للاتّصاف بأحدهما.

وبعبارة اخرى ، يمكن تعلّق الحكم الشّرعي به ليخرج ما لا يقبل الاتّصاف بشيء منهما.

والثاني : أنّه ينقسم إليهما ، ويوجد النّوعان فيه إما في نفس الأمر أو عندنا ،

__________________

(١) وقد علّق في «الفصول» ص ٣٠٣ على هذا التّنظّر ، واعتبر أنّ هذه الوجوه الأربعة التي أوردها غير واردة.


وهذا غير جائز مع أنّه لا معنى لإخراج المذكورات ، لأنّ المراد بقوله : فهو لك حلال ، أنّ مجهوله حلال ، ولا يتصوّر الجهالة في المخرجات حتى يحتاج الى الإخراج ، مع أنّه لا معنى للإخراج حينئذ ، واعتبار المفهوم المخالف إلّا بتأويل السّالبة المنفيّة [المنتفية] الموضوع وهو غير مفيد.

فإن قلت : إنّ هذا يرد على ما ذكرت من اختصاصها بشبهة الموضوع أيضا.

قلت : (١) نعم ، ولكن نقول : فائدة القيد هنا التنبيه على أنّ القابليّة لهما واحتمال كلّ منهما في نظر المكلّف لا يوجب الحرمة ، ولمّا كانت الحرمة والحلّية في الموضوع ممّا ثبت في الجملة ، وأذهان المكلّفين متوجّهة إليها فيحتاج الى التنبيه ، لتبادر أذهانهم الى احتمال الحرمة ، بخلاف مجهول الحكم أصلا ، فالتقييد هنا ليس لأجل الاحتراز ولا لاعتبار [الاعتبار] مفهوم المخالف.

هذا مع أنّ ما ذكر في معنى الحديث يستلزم استعمالا آخر للّفظ في المعنيين ، إذ قوله عليه‌السلام : «حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». لا بدّ أن يكون المراد منه : حتّى تعرف من الأدلّة الشّرعية الحرمة ، إذا أريد معرفة الحكم المشتبه ، وحتّى تعرف من الخارج من البيّنة أو غيرها ، الحرمة ، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه ، فليتأمّل.

والحاصل ، أنّ الرّواية مع قطع النّظر عن كلّ ذلك أيضا ظاهرة فيما ذكرنا ، وهو المعنى المنساق منها الى الأذهان الخالية ، ويؤيّده ما روي عن الصادق عليه الصلاة والسلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل

__________________

(١) راجع «الفصول» ص ٣٤٥ ، ففيه فائدة حول هذا الجواب.


نفسك ، وذلك مثل يكون الثوب عليك (١) قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر (٢) أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» (٣). فإنّ التّمثيل وإن لم يكن مخصّصا للعام ، ولكن في شمول العام لنفس الحكم تأمّل ، مع أنّ قيام البيّنة أيضا شاهد على ما ذكرنا ، سيّما بعد التعميم بقوله : والأشياء كلّها على هذا.

وتخصيص العامّ الثاني ليس بأولى من تخصيص الأوّل. وأيضا المتبادر من العين الشّخص الموجود في الخارج ، وهو إنّما يناسب شبهة الموضوع.

وبالجملة ، فالظاهر من الرّواية أنّ كلّ شيء له نوعان أو صنفان : حكم الشّارع في أحدهما بالحلّ ، وفي الآخر بالحرمة ، فهو يعني مصداقه لك حلال وإن لم تعلم بأنّه فرد من أفراد الحلال أو من أفراد الحرام ، ويجوز لك تناوله حتّى تعرف الحرام بعينه ، يعني أنّ هذا العين حرام.

واعلم أنّ المتبادر الظّاهر من ملاحظة المصداق والمفهوم ، والكلّيّ والفرد في العرف والعادة ، هو الكلّيّ القريب المعهود إطلاقه على الفرد في اصطلاح التخاطب ، لا كلّ ما يمكن فرضه من الأجناس البعيدة والأفراد الفرضيّة ، وكذلك المعتبر في الكلّيّ ما لوحظ في عنوان الحكم من الصّفات الممكنة له.

__________________

(١) في «الكافي» مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة.

(٢) في «الوسائل» فبيع قهرا.

(٣) «الكافي» : ٥ / ٣٠٩ باب النّوادر ١٩١ الحديث ٤٠ ، «الوسائل» ١٧ / ٨٩ الحديث ٢٢٠٥٣ ، ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن ابراهيم أيضا في «التهذيب» ٧ / ٢١ باب الزيادات الحديث ٩.


فعلى هذا ، لو حصل الشّك في حرمة الميتة ، فنقول : إنّ الميتة ليس لها فردان حلال وحرام حتّى يقال : إنّه حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، وإن أمكن أن يقال : إنّ الميتة من حيث إنّه مأكول ، والمأكول منه حلال ومنه حرام ، فهو حلال حتّى تعرف أنّه حرام ، إذ المأكول ليس عنوانا للحكم الشرعيّ في مصطلحات الشّرع ومكالماته ، بل هو إمّا اللّحم أو المذكّى منه.

وكلامنا ليس على عنوان اللّحم كما هو العنوان في اللّحم المشترى من السّوق حتّى يقال : إنّ من اللّحم ما هو حلال وما هو حرام ، وكذا الكلام ليس في أكل الطيّب والخبيث حتى يقال : إنّه حلال حتّى تعرف أنّه من أيّهما ، وكذلك مثال لحم الحمير ، فإنّ لحم الدّوابّ ليس عنوانا للحكم حتى يجعل له فردان أو أفراد ، وكلامنا في معرفة لحم الحمير من حيث إنّه لحم الحمير ، وهكذا.

فالمتبادر من قوله عليه‌السلام : «فهو لك حلال». يعني المصداق الأولى المعهود المتعارف من عنوان الكلّي الصادق عليه ، وأمثلته ممّا مثّله الصادق عليه الصلاة والسلام في الرّواية واضحة.

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في التّتن والصّوت المشتبه بالغناء ، فإنّ الكلّيّ المتصوّر في التّتن إن جعل نفس المشروب المنقسم بالطيّب والخبيث ، فصدق الشّرب عليه أوّلا ممنوع ، وحرمة مطلق استعمال الخبيث ممنوع أيضا ، فلم يتردّد هذا الكلّيّ بين كلّيّين ، فيبقى اندراجه تحت الجهالة بنفس الحكم الشرعيّ ، ومقتضى الأدلّة السّابقة حلّة (١).

__________________

(١) وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي في الفائدة (٥١) من «الفوائد الطوسية» ص ٢٢٤ رسالة ـ


وأمّا الغناء ، فإنّه وإن أمكن إثبات عنوانين للصّوت ، هو الغناء وغير الغناء ، ولكنّ الأظهر فيه أيضا جهالة الحكم كما لا يخفى.

ثمّ ممّا ذكرنا ظهر لك أنّ الأصل في شبهة الموضوع أيضا أصالة البراءة ، والظّاهر أنّه لا خلاف فيه حتّى من الأخباريّين ، ووجهه ظاهر ممّا مرّ.

احتجّ القائلون بوجوب التوقّف أيضا : بالآيات والأخبار.

أمّا الآيات فمثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، و : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) ، وأمثالهما.

وأمّا الأخبار : فمثل ما رواه الكليني رحمه‌الله (٣) في الموثّق عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن موسى عليه الصلاة والسلام قال في جملتها : «وما لكم والقياس إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس». ثمّ قال : «إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها» ، وأهوى بيده الى فيه.

وفي الحسن عن هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام : ما حقّ الله تعالى على خلقه؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا الى الله حقّه» (٤).

__________________

ـ رأى فيها أولويّة الاحتياط وهو يناقش من ذهب من علمائنا الى التحريم فيها من المناسب مراجعتها.

(١) الإسراء : ٢٦.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) «الكافي» ١ / ٥٧ الحديث ١٣.

(٤) «الكافي» : ١ / ٥٠ الحديث ١٢.


وفي الموثّق (١) عن ابن بكير عن حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام حتّى إذا بلغ موضعا منها ، قال له : «كفّ واسكت». ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت له والرّد الى أئمة الهدى عليهم‌السلام حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)» (٢).

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، وهذا أوضحها دلالة.

واستدلّوا أيضا : بحديث التثليث المشهور بين الخاصّة والعامّة ، قال الصادق عليه الصلاة والسلام فيما رواه في الكافي (٣) عن عمر بن حنظلة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات فهلك من حيث لا يعلم».

وتقريب الاستدلال ، أنّ من الأشياء ما يجوز فعله لقيام دليل معتبر عليه ، ومنها لا يجوز فعله كذلك ، ومنها ما يحتمل الأمرين ، إمّا لعدم بلوغ دليله إلينا أو للاحتمال والدليل في الاشتباه ، فمن ترك الشّبهات ـ يعني جميعها ـ نجا من المحرّمات ـ أي ممّا هو حرام في الواقع ـ ومن أخذ بها ، أي بجميعها ، ارتكب المحرّمات لوجوده فيها جزما ، لإخبار المعصومين عليهم‌السلام أو للعلم العادي بذلك ، والمراد مجاز المشارفة إن لم يحمل الشّبهات على العموم ، وبغيره من الأخبار

__________________

(١) «الكافي» ١ / ٥٠ الحديث ١.

(٢) النحل : ٤٣.

(٣) ١ / ٦٨ الحديث ١٠.


الدالّة على التوقّف عند الشّبهة.

والجواب عن أدلّة الأوّل : القول بموجبها ، إذ نحن أيضا نكفّ عن حكم ما لم نعلم حكمه بالخصوص ، والذي نحكم به هو حكم ما لم نعرف حكمه بالخصوص من حيث إنّا لا نعرف حكمه بالخصوص ، لا من حيث هو بالخصوص ، فنحن لا نحكم فيما لا نصّ فيه إلّا بما علمنا من الكتاب والسنّة والإجماع ، وهو أصالة البراءة.

فإن قلت : أخبار التوقّف مطلقة ولا وجه لتقييدها بما ذكرت ، بل مقتضاها التوقّف عن الحكم فيما لا نعلم حكمه بالخصوص (١) ، خصوصا وعموما.

قلت : أوّلا : إنّ من تتبّع تلك الأخبار يظهر له أنّ مرادهم عليهم‌السلام من ذلك المنع عن العمل بالقياس (٢) ، ولا نطيل الكلام بذكر تلك الأخبار ، وإن شئت فراجع الى مظانّها من كتاب «الكافي» وغيره. وأكثر الكتب جمعا لذلك هو كتاب «وسائل الشيعة» في أبواب القضاء ، ولا ريب أنّ القياس إنّما يثبت حكم الجزئيّات لا الكلّيّات.

وثانيا : إنّ المعارضات ممّا دلّ على أصل البراءة أقوى سندا ودلالة واعتضادا بالكتاب والسنّة والعقل والعمل ، بل الإجماع والموافقة للملّة السّمحة السّهلة ، ونفي العسر والحرج والضّرر ، فهي أولى بالتقييد والتأويل (٣).

فحاصل البحث : أنّكم تقولون إنّ حكم المشتبه وما لا يعلم حكمه بالخصوص ،

__________________

(١) أي حكم واحد شخصي معلوم ولم نعلم حكمه بالخصوص ، كما في الحاشية.

(٢) ومن أين لنا حتى نقطع بثبوت هذا المراد ، والتّقييد ليس من بيّنة عليه.

(٣) وكذا ذكره الوحيد في رسالة أصالة البراءة من «الرسائل الأصولية» ص ٣٦٥.


هو التوقّف لهذه الأخبار ، ونحن نقول : هو أصالة البراءة لتلك الأخبار والأدلّة ، وأدلّتنا أقوى ، فنطرح أدلّتكم ، أو نقول : غاية الأمر تساوي الطّرفين ، فيرجع الى ما تعارض فيه النصّان ، وسيجيء أنّ المختار فيه التخيير ، فيرجع الى أصالة البراءة أيضا.

وثالثا : إنّ دلالة تلك الأخبار على الوجوب ممنوعة ، بل الظّاهر من كلّها أو من ملاحظة مجموعها ؛ الاستحباب والأولويّة ونحن لا نمنعه (١) ، بل نقول : باستحباب الاحتياط والترك (٢) فيما يحتمل الحرمة ، والتوقف (٣) في العمل والفتوى ، والعمل على الاحتياط. ولا يخفى ما ذكرنا على من لاحظها أدنى ملاحظة ، فإنّها مذكورة في سياق الوعظ والتزهيد والترغيب في الخبر ، والردع عمّا سعى أن يصير موجبا للدخول في الحرام ، لا النّهي والزّجر الصّريح في الحرمة.

ورابعا : إنّ بما ذكرنا يحصل الجمع بين الأدلّة جمعا قريبا لا تشمئزّ منه الأفهام المستقيمة ، بخلاف ما لو حمل على ظواهر ما ذكرتم ، فإنّ حمل أخبار أصل البراءة على خلاف ظاهرها ، مثل حملها إمّا على شبهة الموضوع ، أو على ما يحتمل الوجوب لا ما يحتمل الحرمة ؛ بعيد ، بل لا يمكن جريانه في بعضها ، مثل قوله عليه‌السلام : «أيّما إمرئ ركب أمرا بجهالة». حيث ورد في لبس المخيط للإحرام ، وحكاية التزويج في العدّة المذكورة في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج الآتية

__________________

(١) في الحاشية : فلا وجه لمنع دلالتها على الوجوب ، بل هي صريحة في الوجوب كما لا يخفى.

(٢) عطف تفسير.

(٣) كالعطف التّفسيري للاحتياط والترك.


في حكم الاحتياط ، وكذلك حملها على التقيّة (١) لاختلاف العامة في المسألة.

وخامسا : نقول : إنّ ذلك حيث يمكن الرّجوع الى الأئمة عليهم‌السلام كما يستفاد من بعضها ، أو الى أصحابهم وكتب أخبارهم. ونحن نقول : إنّ من شرائط العمل بأصل البراءة الفحص والبحث عن الدّليل لا مطلقا كما سيجيء.

وسادسا : يمكن أن يقال : إنّ ذلك حكم ما لا نصّ فيه قبل الاطلاع بما صدر عنهم في حكمه من الإباحة.

وأما حديث التثليث (٢) الجواب عنه :

أمّا أوّلا : فإنّه لا يدلّ على الحرمة ، بل إنّما يدلّ على أنّ ارتكاب الشّبهة مظنّة الوقوع في الحرام [الواقعي] ، وإذا وقع في الحرام الواقعي فهو يهلكه بالخاصيّة كالسّم المجهول ، أو انّ من ارتكب جميع الشّبهات فلا ينفكّ عن فعل الحرام.

وعلى فرض استلزام ذلك الحرمة إنّما يدلّ على الحرمة إذا استوعب جميع الشّبهات وهو غير محلّ النّزاع ، بل النّزاع في مطلق الشّبهة وكل ما صدق عليه لا جميعها ، فلا يفيد ذلك أزيد من الكراهة كالنهي عن الصّرف لخوف الوقوع في الرّبا ، وعن بيع الأكفان لخوف الوقوع في محبة موت النّاس ، وأمثال ذلك.

والحاصل ، أنّ مطلب المستدلّ إثبات المؤاخذة والعقاب الأخروي في ارتكاب ما لا نصّ فيه ، وهذا لا يدلّ عليه.

وأمّا ثانيا : فنقول : إنّ ما لا نصّ فيه ليس بشبهة للأدلّة المتقدمة ، غاية الأمر أن يقال : إنّه شبهة من حيث الحكم بالخصوص ، وإمّا من حيث العموم ، وإنّه من جملة

__________________

(١) اي وكذلك حمل أخبار أصل البراءة في الشّبهة الحكمية على التّقية.

(٢) الّذي عرفته قبل صفحات ثلاث.


ما لا تعلم [نعلم] حكمه ، فحكمه الواضح البيّن هو الحليّة سيما فيما هو منفعة خالصة ، ولا يدرك العقل فيها مضرّة. ولو فرض فيها مضرّة. ولو فرض فيها مضرّة كامنة لا تعلمها [نعلمها] فارتكابها من جهة الاعتماد على رخصة الشّارع لعلّه ترياق لهذا السّم الكامن فيه ، فلا مانع من القول باستحباب الاجتناب فيما لا نصّ فيه من جهة جهالة حكمه بالخصوص.

وكذلك الكلام في شبهة الموضوع وفيما تعارض فيه النصّان فللكلّ جنبتان يستحبّ الاجتناب عنها من جهة الخصوصيّة ، ويجوز ارتكابها من جهة عموم الأدلّة فيما لا نعلم.

وأمّا ثالثا : فالعمل بهذا الحديث يوجب حرمة الموضوع المشتبه أيضا (١).

والقول : بأنّ أكل الفاكهة الغير المنصوصة حرام لهذا الحديث ، وأكل مال العاشر الذي معيشته من العشور حلال إذا احتمل وجود الحلال فيه غريب ، بل هذه الرّواية في موضوع الحكم الشرعي أظهر من غيره ، وحمل ما مرّ من الأدلّة المبيحة لما لا نصّ فيه على الشّبهة في موضع الحكم ، وحمل هذه على نفس الحكم كما ترى ، فكما ترد هذه الرّواية نقضا علينا ترد عليهم أيضا (٢).

وأمّا رابعا : فعلى فرض دلالتها على الحرمة تحملها على الاستحباب كما هو ظاهر سياقها أيضا ، لكون ما ذكرناها من الأدلّة أقوى من جهات شتى كما مرّ.

فإن قلت : إنّ مقبولة عمر بن حنظلة التي ذكر فيها هذا الحديث ، ذكر الصادق عليه الصلاة والسلام فيها أوّلا من جملة وجوه الترجيح بين الأخبار تقديم

__________________

(١) كما هو في الشّبهة الحكمية.

(٢) لقولهم بعدم وجوب الاجتناب في الشّبهة الموضوعية.


المشهور على الشّاذ معلّلا بأنّه المجمع عليه ، والمجمع عليه لا ريب فيه.

ثم قال : «وإنّما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّة فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه الى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ...» الى آخر ما ذكرنا. وهذا يدلّ على وجوب ترك الشّبهات. فإنّ تعليل الامام عليه‌السلام تقديم المجمع عليه بأنّه لا ريب فيه ، وبأنّ الشاذّ النّادر من الأمر المشكل الذي لا يجوز القول به ، ويجب ردّه الى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ على وجوب ترك الشّبهة.

قلت : استدلاله عليه‌السلام بكلامه في هذا المقام إبداء للحكمة ، ووجه المنع عن اتباع الأمر المشكل ، فإنّ وجه منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشّبهة إنّما كان هو الوقوع في الحرام ، فإذا كان الوقوع في الحرام مع الجهالة منشأ للمنع ، فمع معلوميّة الحق المجمع عليه وثبوت الحجّة فهو أولى بالمنع ، فإذا كان ذلك مكروها فيكون هذا حراما ، وإن لم نوجّه المقام بذلك فلا بدّ أن نقول بعدم وجوب العمل بالمرجّحات المذكورة في هذه المقبولة ، وانّ العمل عليها يكون مستحبا وأنتم لا تقولون به.

وإن جعلتم المراد من الشّبهات في قوله عليه‌السلام نظير الشّاذّ النّادر فيما نحن فيه ، فنحن أيضا نقول بحرمتها فلا نزاع بيننا ، وإنّما النزاع فيما تكافأ الاحتمالان أو الأمارتان بالنسبة الى الشّرع (١) ، وما استدلّ عليه الصادق عليه الصلاة والسلام ليس كذلك.

وأمّا خامسا : فلأنّ الظّاهر من بعض الرّوايات أنّه لا عقاب على الشّبهات.

منها ما رواه علي بن محمد الخزّاز في «كفاية النصوص» على ما نقل عنه بسنده عن الحسن عليه الصلاة والسلام أنّه قال في جملة حديث : «إنّ في حلالها

__________________

(١) راجع مبحث البراءة في «الفصول» ص ٣٥٦ ، ففيه زيادة بيان.


ـ أي الدنيا ـ حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا فأنزل الدّنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يغنيك ، إن كان حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم تكن أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فالعتاب سهل يسير» (١).

هذا الكلام فيما لا نصّ فيه ، وأمّا الكلام فيما تعارض فيه النصّان ، فالمختار فيه أيضا أصالة البراءة عن تعيين أحدهما ، والتخيير في العمل بأيّهما أراد ، وسيجيء الكلام فيه في باب التراجيح.

وأمّا الشّبهة في موضوع الحكم فقد عرفت حالها أيضا في الجملة ، ونقول هاهنا : الظّاهر أنّه لا خلاف في أصالة البراءة فيها ، والأخباريّون أيضا وافقوا الأصوليّين في ذلك (٢) ، وحملوا الأدلّة الدالّة على أصل البراءة التي ذكرناها فيما لا نصّ فيه على شبهة الموضوع ، وأخبار التثليث ، وما دلّ على التوقّف على شبهة نفس الحكم ، وجعلوا ما لا نصّ فيه من جملة ذلك وقد عرفت بطلانه.

وكيف كان ، فالظّاهر أنّه لا إشكال في أنّ الأصل في شبهة الموضوع الإباحة ، ولكن يستحب اجتنابها ، ويظهر من الأخباريين دخولها في الحلال البيّن بمقتضى حديث التثليث ، وقد أشرنا الى أنّ ذلك مع القول بوجوب التوقّف فيما لا نصّ فيه ، غريب.

ثمّ إنّ الأدلّة على هذا المطلب في غاية الكثرة ، منها العمومات المتقدّمة فيما لا نصّ فيه ، مثل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة ، وغيرها من الأخبار المتقدّمة

__________________

(١) «كفاية الأثر» ص ٢٢٧ ، «مستدرك الوسائل» ١٢ / ٥١ الحديث ١٣٤٨٩.

(٢) راجع الفائدة (٤٩) من «الفوائد الطوسية» ص ١٩٩ ، وأشار إليها الوحيد في رسالة البراءة من «الرسائل الأصولية» ص ٣٩٦.


المستفيضة الدالّة على أنّ «كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» ، وسيجيء بعضها أيضا.

ثمّ إنّ الاشتباه في الموضوع يتصوّر على وجوه :

أحدها : مجرّد احتمال اتّصاف الموضوع بالحرمة (١) ، مثل احتمال طريان الغصب على ما حازه المسلم من المباحات كالحطب والحشيش ، بل تساوي احتماله مع احتمال عدمه.

والثاني : أن يختلط الحلال والحرام اختلاط مزج وشوب لا يتمايزان عادة ، كاختلاط حبوب الحنطة وأجزاء السّمن والدّبس.

والثالث : أن يحصل العلم لك بأنّ هذا الموضوع واحد من الأمور التي بعضها حرام يقينا ولا يعلم أنّه هل هو أو غيره ، وهو على قسمين :

الأوّل : إنّ الأمور المردّد فيها محصورة معدودة ، يمكن الإحاطة بها بلا عسر وصعوبة.

والثاني : أن يكون مردّدا بين أمور غير محصورة عادة ، بمعنى تعسّر الإحاطة وتعذّرها ، ولا خلاف في حرمة القسم الثاني ، كما أنّه لا خلاف في حلّيّة غير القسم الأوّل من القسم الثالث.

وأمّا هو فاختلفوا فيه (٢) ، فذهب جماعة من الأصوليين الى وجوب اجتنابه ،

__________________

(١) والمقصود به الاحتمال الضعيف لقرينة قوله : بل تساوي احتماله مع احتمال عدمه فيما ذكره من المثال.

(٢) راجع مبحث الشّبهة في طريق الحكم في رسالة أصالة البراءة للوحيد من «الرّسائل الأصولية» ص ٤٠١.


فقالوا : يجب اجتناب الشّبهة المحصورة دون غيرها ، واستدلّ عليه (١) بأنّ الحكم بحلّيّة المجموع ، يستلزم الحكم بحلّيّة ما هو حرام علينا قطعا ، وطهارة ما هو نجس جزما كالإناءين المشتبهين والثوبين كذلك ، والدّرهمين اللّذين أحدهما غصب.

وإن حكمنا بأنّ أحدهما نجس أو حرام ، فهو ترجيح من غير مرجّح شرعيّ ، وبأنّ الحرمة والنجاسة تكليفان يجب امتثالهما ، ولا يتمّ إلّا باجتناب الجمع ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب.

والفرق بين المحصور وغير المحصور (٢) ، أنّ ارتكاب جميع المحتملات ممكن ومتحقّق عادة في المحصور ، فيحصل اليقين باستعمال الحرام والنجس بخلاف غير المحصور ، فلا يتحقّق العلم فيه عادة لمكلّف واحد باستعمال المحظور. وحصوله لجميع المكلّفين غير مضرّ ، لأنّ كلّا مكلّف بعلم نفسه ، وإذ ليس فليس ، وذلك كواجد المنيّ في الثوب المشترك ، وبأنّ الشّبهة المحصورة ليست بداخلة فيما لا يعلم حتى يشمله أدلّة الأصل ، لأنّ حرمة أحدها أو نجاسته يقينيّة فيجب امتثالهما يقينا ، كعموم : (أَطِيعُوا اللهَ) ،وغيره.

أقول : والأقوى فيه أيضا أصالة البراءة ، بمعنى أنّه يجوز الاستعمال بحيث لا يحصل العلم بارتكاب الحرام ، ونحن لا نحكم بحلّيّة المجموع أبدا حتى يلزم الحكم بحلّيّة الحرام الواقعيّ اليقينيّ ، ولا نحكم بحلّيّة أحدهما بعينه وحرمته ليلزم التحكّم ، بل نقول بحلّيّة الاستعمال ما لم يتحقّق استعمال ما لا ينفكّ عن استعمال

__________________

(١) وهذا الدليل ضعيف لما ستعرفه من المصنّف.

(٢) راجع «الفوائد الحائرية» للوحيد ص ٢٤٦ و ٢٤٧.


الحرام جزما ، لا بمعنى الحكم بأنّه الحلال الواقعي حتّى يلزم التحكّم ، بل بمعنى التخيير في استعمال أيّ منهما أراد من حيث إنّه مجهول الحرمة لعدم المرجّح ، ونحن نقول بوجوب إبقاء ما هو مساو للحرام الواقعيّ أو أزيد منه.

فإن قلت : إذا جعلت المعيار عدم العلم بارتكاب الحرام الواقعيّ ، فلم لا تقول بجواز ارتكاب الجميع على التدريج ، لعدم حصول العلم في كلّ مرتبة من الاستعمالات ، والذي يوجب حصول العلم بارتكاب الحرام إنّما هو إذا ارتكب الجميع دفعة.

قلت : أوّلا : نقول به إذ لا دليل عقلا وشرعا يدلّ على الحرمة والعقاب ، ولا إجماع على بطلانه ، والقائل به موجود كما سنشير إليه.

وثانيا : نقول : كما أنّ ارتكاب الحرام الواقعيّ المتيقّن حرام ، فتحصيل اليقين بارتكاب الحرام أيضا حرام ، وتحريمه حينئذ من هذه الجهة ، فارتكاب الفرد الآخر الذي يوجب العلم بارتكاب الحرام الواقعيّ ، مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكابه ، ومقدّمة الحرام حرام ، ويمكن منع المقدّمتين (١).

نعم ، يثبت اشتغال الذّمّة بحق الغير ، وحصول النجاسة بعد استعمال الجميع ، ويترتّب عليهما آثارهما حينئذ ، وإن لم يحصل العقاب بالارتكاب ، فليتأمّل.

وكيف كان ، فلا دليل على حرمة ارتكاب ما لا يحصل العلم معه بالحرام ، لعموم الأدلّة المتقدّمة.

وأمّا التمسّك بأنّ الاجتناب عن الحرام والنجس واجب ولا يتمّ إلّا بالاجتناب

__________________

(١) أي حرمة تحصيل اليقين بارتكاب الحرام إذا لم يعلم بارتكاب الحرام بنفس ذلك العقل بخصوصه ، وحرمة مقدمة الحرام كما في الحاشية منه.


عن الجميع ، فبطلانه واضح ، لمنع حرمة ما لم يعلم حرمته ، ونجاسة ما لم يعلم نجاسته.

بيان ذلك : أنّ اتّصاف الأعيان بالحلّ والحرمة والنجاسة والطهارة يرجع الى ملاحظة حال فعل المكلّف ، وإن كان الحكمة الباعثة للحكم كامنة في تلك الأعيان ، فالأعيان وإن اتّصفت بذاتها من جهة تلك الحكمة بالحرام والنجس مثلا من دون تقييد بالعلم والجهل ، ولكن اتّصافها بهما من جهة ملاحظة إضافة فعل المكلّف إليها لا يكون إلّا في صورة العلم.

هذا مع أنّه يرد على ذلك النقض بغير المحصور ، فإنّ الحرام والنجس فيها أيضا يقينيّ والتمسّك بلزوم العسر والحرج لا يثبت الحلّ والطهارة ، بمعنى ترتّب جميع آثارهما ، سيّما بحيث يصير قاعدة كلّيّة مثبتة للحكم مطّرد ، لأنّ مقتضى ذلك الحكم بطهارة صحراء وسيع الفضاء الذي تنجّس بعضه ولم يعلم محلّها لمن يزاولها بالرّطوبة ويحتاج الى مزاولتها ، ولا حرج على من لا يزاولها ولا يحتاج إليها في الاجتناب عنها ، وليس تطهير عضو منه إذا اتّفق مباشرته عسرا وحرجا ، كما لا يخفى.

وقد يكون اجتناب الثوبين اللّذين أحدهما نجس حرجا عظيما ، كما لو احتاج الى لبس أحدهما في السّفر في أيّام الشّتاء ووقوع المطر ، فإن كان لزوم العسر يوجب الحكم بالطهارة ، فاحكم هنا بالطهارة.

وكذلك الكلام في الاضطرار الى أكل الميتة وشرب الماء النجس ، فإنّ الاضطرار والعسر والحرج لا يوجب الحكم بالطهارة.


أمّا ما قد يتمسّك بذلك في مثل طهارة الحديد مع ورود الأخبار بالنجاسة (١) ، فذلك تأسيس للحكم ودفع لا رفع لحكم ثابت ، وبينهما فرق واضح ، مع أنّ الإجماع وأصل الطهارة الثابتة بالأخبار والأدلّة موجودان ، والخاصّ إنّما يعارض العامّ لو قاومه ، فالأخبار الواردة في الحديد لا تقاوم تلك الأدلّة التي أحدها نفي الحرج والعسر.

والحاصل ، أنّ التمسّك بالعسر والحرج حيث استقلّ بالدّلالة أيضا ، يوجب دوران الحكم مدار لزومهما ، سيّما والاضطرار الى الحرام غايته عدم العقاب على أكله مثلا ، ولا يوجب ذلك دفع جميع آثاره ، فإذا اضطرّ الى سرقة مال الغير لدفع الجوع المهلك ، فعدم العقاب على أكل لا يستلزم عدم اشتغال الذمّة بعوضه ، سيّما إذا كان قادرا عليه.

وأمّا الفرق بأنّ ارتكاب جميع المحتملات ممكن ومتحقّق عادة في المحصور فيحصل اليقين باستعمال الحرام والنجس دون غيره.

ففيه : أنّ امكان ارتكاب الجميع لا يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الجميع ، ولا يوجب حصول اليقين باستعمال الحرام لمن لم يستعملها جميعا. وما ذكره من حكم واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، يجري في الثوب المحصور إذا ارتكب كلّ من المكلّفين بعض أفراده.

وأمّا أنّ الشّبهة المحصورة ليست بداخلة فيما لا يعلم ... الخ.

__________________

(١) وقد نقل جماعة من علمائنا إجماع الإمامية على العمل بمضمون عدد من الأخبار التي تفيد طهارته وما يمكن ان يستفاد من مثل حديث واحد على النجاسة غير مستقيم وهو شاذ مخالف لما عليه كثير الأدلّة والتي منها بعض الأخبار ، يمكن مراجعتها في «الوسائل» ج ٣ ص ٥٣٠ باب ٨٣ ، طهارة الحديد.


فيعلم جوابه ممّا مرّ. لأنّ كون حرمة أحدها يقينيّة أو نجاسته يقينيّة ، بمعنى اتّصافه في نفس الأمر بالحكمة الموجبة للحرمة أو النجاسة لا يوجب اليقين باتّصافه بالحرمة والنجاسة ، مضافا الى المكلّف ، فلم يثبت العلم بالتكليف حتى يجب الاجتناب عنه من باب المقدمة ، مع أنّ الأخبار المستفيضة وردت في حلّية الشراء من العامل والسّارق مثل صحيحة أبي عبيدة عن الباقر عليه الصلاة والسلام قال : سألته عن الرّجل منّا يشتري من السّلطان من إبل الصّدقة وغنم الصّدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم؟. قال : فقال عليه‌السلام : «ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه» (١).

وصحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام : أشتري من العامل الشّيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال : «اشتر منه» (٢).

وصحيحة أبي بصير (٣) قال : سألت أحدهما عليهما‌السلام عن شراء الخيانة والسّرقة؟

فقال عليه‌السلام : «لا ، إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره ، وأمّا السّرقة بعينها فلا ، إلّا أن يكون من متاع السّلطان فلا بأس بذلك».

وموثّقة إسحاق بن عمار ورواية محمد بن أبي حمزة ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله وغيرها ، ولا حاجة الى ذكرها.

ويدلّ عليه أيضا ما ورد من حلّيّة ما يختلط بالحرام بإخراج الخمس.

__________________

(١) كما في «الكافي» ٥ / ٢٢٨ الحديث ٢ ، و «الوسائل» ١٧ / ٢١٩ الحديث ٢٢٣٧٦.

(٢) «تهذيب الأحكام» ٦ / ٣٣٧ الحديث ٩٣٨ ، و «الوسائل» ١٧ / ٢١٩ الحديث ٢٢٣٧٥.

(٣) «الكافي» ٥ / ٢٢٨ الحديث ١ ، «الوسائل» ١٧ / ٣٣٥ الحديث ٢٢٦٩٥.


وهذا كلّه موافق للأصل الذي قرّرنا والأخبار العامة الدالّة على عدم المؤاخذة بدون العلم ، والمقيّدة للإطلاق والرّخصة حتّى يرد فيه نهي ، وما دلّ بالعموم على أنّ «كلّ ما فيه حلال وحرام فهو حلال حتّى تعرف الحرام بعينه». والقول بأنّ قاعدة الشّبهة المحصورة ووجوب الاجتناب عن الجميع لكونه مقدّمة للواجب أصل ، وخروج جوائز الظّالم ، والشّراء من العامل والسّارق بسبب تلك الأخبار ، ليس بأولى من أن يقال : قاعدة أصل البراءة الثابتة بالأدلّة العقليّة والنقليّة يقتضي الحلّ. خرجنا عن مقتضاها في الإناءين المشتبهين والوطء في المشتبهة بالأجنبيّة إن كان إجماعيّا وهو غير معلوم ، والقصاص في المشتبه بمحرّم الدّم ونحوها بالدّليل ، وبقي الباقي تحت الأصل ، مع أنّك قد عرفت بطلان كونه مقدّمة للواجب بمنع الوجوب.

ثمّ إنّ هاهنا قولا آخر وهو أنّ الحلال المشتبه بالحرام يجب التخلّص منه بالقرعة ، لما ورد من أنّها لكلّ أمر مشكل (١) ، وخصوص بعض الأخبار مثل ما رواه الشيخ الجليل الحسن بن علي بن أبي شعبة في «تحف العقول» (٢) عن موسى بن محمّد بن الرضا عن أخيه أبي الحسن الثالث عليهما‌السلام حين سأله يحيى بن أكثم عن مسائل فسأل عنها أخاه عليه‌السلام فأجابه ، فكان من جملة تلك المسائل انّه سأله عن رجل أتى الى قطيع غنم فرأى الرّاعي ينزو على شاة منها فلمّا بصر بصاحبها خلّى سبيلها فدخلت بين الغنم كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام : «إن عرفها ذبحها وأحرقها وإن لم يعرفها قسّم الغنم قسمين وساهم

__________________

(١) كما في «البحار» ٨٨ / ٢٣٤.

(٢) ص ٤٧٧ و ٤٨٠.


بينهما ، فإذا وقع على أحد النّصفين فقد نجا النّصف الآخر ، ثم يفرّق النّصف الآخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما فأيّهما وقع السّهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم».

والجواب عن العمومات في القرعة أنّه لا إشكال فيما نحن [بعد] فيه ما عرفت من الأدلّة عن خصوص الرواية بحملها على الاستحباب ، لعدم مقاومتها للعمومات والخصوصات المتقدّمة أو يعمل بها بالخصوص في هذا المورد ، كما يقال بالاجتناب في الإناءين المشتبهين بالدليل الخاصّ به.

قال العلّامة المجلسي رحمه‌الله في «الأربعين» بعد ذكر هذه الرّواية : إنّ هذا الخبر يدلّ على أنّ الحلال المشتبه بالحرام يجب التخلّص عنه بالقرعة ، اختاره بعض الأصحاب ، وهو مؤيّد بما ورد في الأخبار المستفيضة انّ كلّ مشكل فيه القرعة (١). وقيل : يجب الاحتراز عن الجميع من باب المقدّمة. وقيل : يجوز التصرّف فيه أجمع إلّا الاحتراز [الأخير] فإنّه عند التصرّف فيه يعلم أنّه أكل الحرام أو وطء بالحرام وأمثالهما.

وقيل : يحلّ له الجميع لما ورد في الأخبار الصحيحة : «إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فأنت على حلّ حتى تعرف الحرام بعينه» ، وهذا أقوى عقلا ونقلا.

ويمكن حمل هذا الخبر على الاستحباب أو العمل به في خصوص تلك المادّة والعمل بتلك الأخبار في سائر الموادّ ، والأحوط اجتناب الجميع في المحصور ، ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٢ / ١١١ الحديث ٣٠٨ ، و ٣ / ٥١١ الحديث ٦٩.


ثمّ إنّ بعضهم (١) أسند الى الأخباريين أقوالا أربعة فيما لا نصّ فيه ، وقال : التوقّف وهو المشهور ، والحرمة ظاهرا ، والحرمة واقعا ، ووجوب الاحتياط.

وصرّح بعضهم بأنّ هذه المذاهب فيما إذا احتمل الحرمة وغيرها من الأحكام ، أمّا إذا احتمل الوجوب وغيره سوى الحرمة فهم مثل المجتهدين.

أقول : ولعلّ القائل بالحرمة ظاهرا نظر إلى إفادة الأخبار الدالّة على ترك الشّبهات ، وأخبار التثليث حكم الشّبهة على الظّاهر وإن كان حلالا في الواقع ، بتقريب أنّها حكم الواقعة من حيث إنّها مجهولة لا من حيث هي ، والقائل بها واقعا نظر الى ظاهر الحكم ، فإنّه يفيد الحرمة واقعا ، ولا يخفى ضعفهما بعد ما مرّ.

وأمّا التوقّف والاحتياط فلم أتحقّق الفرق بين مواردهما.

وقال بعض المتأخّرين (٢) : إنّ التوقّف عبارة عن ترك الأمر المحتمل للحرمة ، وحكم آخر من الأحكام الخمسة ، والاحتياط عبارة عن ارتكاب الأمر المحتمل للوجوب ، وحكم آخر ما عدا التحريم كما هو ظاهر موارد التوقّف والاحتياط ، ومن توهّم أنّ التوقّف هو الاحتياط ، فقد سها وغفل.

أقول : المراد بالتوقّف هو السّكوت عن الفتوى في الواقعة الخاصّة وعدم الإذعان بالمطلوبيّة والمبغوضيّة ، والحاصل ، الإذعان بالجهل. ثمّ بعد ذلك فإمّا يحكم بأصالة البراءة والرّخصة ، أو يحكم بلزوم الاحتياط ، فالقول بالتوقّف لا ينفكّ عن أحد القولين.

أمّا عن قول المجتهدين ، فبأن نحملها على التوقّف عن الحكم للواقعة من حيث

__________________

(١) وهو الوحيد راجع رسالة أصالة البراءة من «رسائله الأصولية» ص ٣٥٠.

(٢) وهو الفاضل التوني في «الوافية» ص ١٩٢ في الجواب عن أدلّة وجوب الاحتياط.


الخصوص كما أشرنا سابقا إليه ، وذكرنا أنّ ظاهر أخبار التوقّف أيضا المنع عن العمل بالقياس ، والغرض بيان المنع عن التكليف في تحصيل الحكم الخاصّ بالواقعة من جهة القياس ونحوه ، وهو لا ينافي الحكم بأصالة البراءة من جهة أنّها مجهولة الحكم بالعموم لما مرّ من الأدلّة للمختار.

وأمّا عن قول الأخباريين ، فبأن نحملها على ذلك ونقول : إنّ الحكم العامّ من حيث الجهالة ، هو الاحتياط ، إذ لا ثالث.

والمراد بالاحتياط هو الأخذ بما لا يحتمل الضّرر ، أو ما كان أقلّ ضررا سواء كان فعلا أو تركا ، كما هو المتبادر منه في العرف والشّرع ، بل هو الظّاهر من أهل اللّغة ، وتخصيصها بما احتمل الوجوب وغيره ، لا وجه له.

فالظّاهر أنّ كلّ من يوجب الاحتياط يوجب التوقّف عن الحكم الخاصّ ، والحكم بالبراءة الأصليّة عموما ، وأنّ القائل بوجوب التوقّف يوجب الاحتياط ، ويشهد بما ذكرناه أنّ الفاضل المحدّث الحرّ العاملي رحمه‌الله قال في «الوسائل» (١) ـ باب وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى والعمل في كلّ مسألة نظرية لم يعلم حكمها بنصّ عنهم عليهم‌السلام ـ ثمّ ذكر في الباب أخبار التوقّف والاحتياط ، وفي الباب أيضا مواضع دلالة على ما قلناه. فحينئذ نقول : المجتهدون والموجبون للاحتياط ، كلاهما متوقّفون عن الحكم الخاصّ بالواقعة ، ونزاعهم في أنّ الحكم العامّ حينئذ هل هو البراءة الأصلية أو الاحتياط.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ المراد من التوقّف ، التوقّف عن الإفتاء ، والمراد من

__________________

(١) ج ٢٧ الباب ١٢ وفيه ٦٨ حديثا.


الاحتياط ، الاحتياط في العمل ، فهو غلط (١). لأنّ من أوجب الاحتياط يفتي بوجوب الاحتياط والأخذ بما لا يحتمل الضّرر أو لا يكون أقلّ ضررا ، لا بأنّ الحكم الخاص للواقعة هو هذا.

والحاصل ، أنّ جعل التوقّف والاحتياط قولين في المسألة ، لا يرجع الى محصّل.

فظهر أنّ ما ذكرناه [ذكرنا] من الآيات والأخبار الدالّة على التوقّف ، بيان لجزء مطلب المحتاطين ، وهو التوقّف عن الحكم الخاصّ أو هو مع الحكم بأصالة البراءة.

وأمّا أدلّتهم على وجوب الاحتياط ، فها أنا أذكر الكلام في الاحتياط ، ويعلم أدلّتهم في تضاعيفه فأقول : قال المحقق رحمه‌الله في «المعارج» (٢) : العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى وجوبه. وقال آخرون : مع اشتغال الذّمة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب.

مثال ذلك (٣) : إذا ولغ الكلب في الإناء فقد نجس ، واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة ، أم لا بدّ من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لا بدّ من ثلاث غسلات؟

__________________

(١) فالمتوهم يستفيد بعد جهة الخفاء بأنّ المتوقف لا يفتي والمحتاط يفتي فهذا هو الفرق بينهما ، والمصنف لا يقول ولا يظن فرقا بينهما بحسب الفتوى والعمل ، نعم إنّما الفرق بينهما بحسب التّعبير.

(٢) ص ٢١٦ في المسألة الثالثة من الفصل الثالث فيما ألحق بأدلّة الأصول وليس منها.

(٣) اي مثال اشتغال الذمّة.


احتج القائلون بالاحتياط : بقوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (١).

وبأنّ الثّابت اشتغال الذّمة يقينيّا فيجب أن لا يحكم ببراءتها إلّا بيقين ، ولا يقين إلّا مع الاحتياط.

والجواب عن الحديث أن نقول : هو خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول.

سلّمناه لكن إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة الرّيبة لأنّه إلزام بمشقّة لم يدلّ الشّرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر.

والجواب عن الثاني أن نقول : البراءة الأصليّة ـ مع عدم الدلالة الناقلة ـ حجّة.

وإذا كان التقدير ، [تقدير] عدم الدلالة الشرعيّة على الزّيادة ، كان العمل بالأصل أولى ، وحينئذ لا نسلّم اشتغال الذّمة مطلقا ، بل لا نسلّم اشتغالها إلّا بما حصل الاتّفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الأمرين.

ويمكن (٢) أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن يؤخذ بما حصل الإجماع عليه في الطهارة ليزول [فيزول] ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة. انتهى.

أقول : قد عرفت عدم الإشكال في عدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه ، وشبهة الموضوع للعقل والنقل ، وستعرف فيما تعارض فيه النصّان في محلّه. فالقول بوجوب الاحتياط مطلقا لا يحتاج ضعفه الى البيان ، ولعلّ القول به مختصّ بالأخباريين.

__________________

(١) «الوسائل» ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٦.

(٢) ربما هذا تأييد للقائل بالاحتياط على تقدير الاشتغال.


وأمّا ما يظهر من بعض المجتهدين العمل عليه وجوبا كالسيّد رحمه‌الله وغيره ، فهو في غير ما لا نصّ فيه ، بل هو ممّا ثبت اشتغال الذّمة فيه بزعمهم كما لا يخفى على من لاحظ مظانّها ، فلاحظ «الانتصار» (١) و «المسائل الناصريّة» (٢) وسائر كلمات من ذهب الى هذه الطريقة كالشهيد رحمه‌الله في كثير من كلماته.

وأمّا التفصيل (٣) ، فيحتاج الكلام فيه الى بيان المعنى المراد من اشتغال الذّمة. فأقول : لا ريب أنّ الأقوى ، بل المتعيّن أنّ مع اشتغال الذّمة بشيء لا بدّ من حصول اليقين برفعه أو الظنّ القائم مقامه للاستصحاب ، وقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله»(٤).

والمراد بالاشتغال هو الاشتغال المعلوم ، كذلك فالرّافع والمزيل أيضا لا بدّ أن يكون كذلك ، وفي غيره لم يثبت. فإذا علمنا التكليف بالصلاة في الجملة ، فلا يثبت اشتغال ذمّتنا إلّا بما ظهر لنا أنّه صلاة ، إمّا بالعلم أو الظنّ الاجتهاديّ بأنّه هو الصلاة ، ولم يثبت اشتغال ذمّتنا بما هو صلاة في نفس الأمر خاصّة ، فإنّ الألفاظ وإن كانت أسامي للأمور النّفس الأمريّة ، ولكنّ التكليف لم يثبت إلّا بما أمكننا معرفته ، لعدم توجّه الخطاب الشّفاهي إلينا حتّى نتّبع ظاهر اللّفظ بعد تسليم ظهوره

__________________

(١) في وجوب القنوت بين كل تكبيرتين من تكبيرات العيد لأنّ باقي الفقهاء لا يراعي ذلك ، تمسّكا بأنّه لا يحصل اليقين ببراءة ذمته من الوجوب إلّا بالقنوت. راجع «الانتصار» ص ١٧١.

(٢) للسيد المرتضى وكذا «الانتصار».

(٣) اي تفصيل الكلام في ردّ القول بوجوب الاحتياط مطلقا ، ويحتمل أن يكون المراد بالتّفصيل ، التّفصيل المذكور من الأقوال.

(٤) «التهذيب» ١ / ٨ الحديث ١١ ، و «الوسائل» ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.


فيه ، وعدم ثبوت الاشتراك بسبب الإجماع إلّا بما أمكننا معرفته علما أو ظنّا لاستحالة التكليف بالمحال في بعضها ، ولزوم العسر والحرج المنفيّ في أكثرها ، مع أنّا قد أشرنا في مباحث الأخبار الى أنّ طريقة مكالمة الشّارع هي طريقة العرف ، فإنّهم يكتفون بظاهر أفهام المكلّفين ، فلا يجب على الشّارع أن يتفحّص عن المخاطب أيضا ، هل فهم المراد الواقعيّ النفس الأمريّ أو شيئا آخر ، فإنّه ممّا لا يمكن غالبا ، بل يؤدّي الى التسلسل ، إذ إعادة الكلام في تفهيمه أيضا ربّما يكون فيه ذلك المحذور ، مع أنّهم عليهم‌السلام كثيرا ما رأوا من المخاطبين غفلتهم واشتباههم فيما هو مرادهم ، فقالوا : أين تذهبون إني قلت كذا وهو فهم كذا ، ومع ذلك فيكتفون بمجرّد ظهور فهم المراد والظنّ به أيضا. فلم يعلم من الخطابات المتوجّهة الى المشافهين إلّا تكليفهم بما بيّنوه لهم وأعلموهم أنّه هو الصلاة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلي» (١). أو أمكنهم معرفة أنّه هو الصلاة ، ولم يظهر أنّ الخطابات المتوجّهة إليهم كان خطابا بما في نفس الأمر مع عدم علم المخاطبين بما في نفس الأمر حتّى يقال : إنّا أيضا مشتركون معهم في ذلك للإجماع على الاشتراك. ولا ريب أنّ الظنّ الاجتهاديّ فيما يعلم مدخليّته في العبادة ، يحصل في جانب العدم وأصل البراءة ، وعدم العلم بغيره ولا الظنّ به.

فإذا رأينا الأدلّة متعارضة في وجوب السّورة في الصّلاة ولم يحصل لنا مرجّح ، فالظنّ الاجتهاديّ يفيد التخيير (٢) عقلا ونقلا ، ولم يثبت علينا في تحصيل ماهيّة الصلاة والمعرفة بها إلّا متابعة الظنّ الاجتهاديّ ، وهو في عدم

__________________

(١) «عوالي اللئالى» ٣ / ٨٥ الحديث ٧٥.

(٢) التّخيير فيما تعارض فيه النصّان.


الوجوب حينئذ.

وأمّا فيما لم يتعارض فيه النصّان لعدم بلوغ نصّ فيه إلينا ، كما شكّ في مدخليّة شيء في العبادة وعدمها ، مثل بعض الحركات والأفعال القليلة التي لم يعلم اشتراط عدمها في الصّلاة ، وشكّ في مدخليّة تركها فيها ، فنقول أيضا : الأصل عدم مدخليّة ذلك في العبادة ، والأصل براءة الذّمة عن التكليف به فيها ، إذ لم يثبت من أدلّة وجوب الصلاة إلّا هذا المقدار من الأجزاء والشّرائط ، فإنّ تكليفنا ليس إلّا تحصيل الظنّ بتلك الماهيّة ولم يثبت اشتغال ذمّتنا بتحصيل أزيد من ذلك.

والقول بعدم جواز العمل بالظنّ الاجتهاديّ ووجوب الاحتياط في أوّل الأمر كلام سخيف وخيار ركيك لا يذهب إليه (١) الأفهام المستقيمة ، كما حقّقناه سابقا في مباحث الأخبار ، وكلامنا في هذا المقام بعد الفراغ من أنّ الظنّ الاجتهاديّ حجّة ، وإشكالنا في وجوب الاحتياط وعدمه فيما لم يحصل ظنّ من جهة الأدلّة غير الأصل ، مع أنّ تحصيل اليقين في الصلاة من جهة قراءة السّورة ، لا يجدي في صيرورة الصّلاة هي الصّلاة النفس الأمريّة ، لاشتمال الصّلاة على مسائل لا تحصى ، لا يمكن تحصيل القطع في جميعها كما أشرنا إليه ثمّة ، وما بعضه قطعيّ فليس جميعه بقطعيّ.

فالقول بأنّ اشتغال الذمّة بماهيّة العبادة يوجب وجوب الاحتياط في أجزائها المشكوكة من غير نصّ ضعيف جدّا ، فضلا عما شكّ فيه من جهة تعارض النّصوص.

نعم ، القول بأنّ اشتغال الذمّة يقينا يوجب تحصيل القطع بالبراءة ، يصحّ فيما لو

__________________

(١) بتقدير (ذوي).


شكّ في حصول الماهيّة الثابتة بالدّليل المفروغ عنها في الخارج ، بسبب الشّك في حصول بعض أجزائها وهو معنى الاستصحاب ، ومقتضى قولهم : لا تنقض اليقين بالشّك أبدا ، وهذا مثل ما لو شك في فعل الصلاة مع بقاء الوقت أو في بعض أجزائها ما لم يدخل في آخر ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وأمّا ما ذكره المحقّق (١) من مثال الولوغ ، فالمفصّل يقول : إنّ الذمّة مشغولة بوجوب تطهير الإناء ، ولا يحصل اليقين به إلّا بالسّبع.

وفيه : أنّه لم يثبت اشتغال الذمّة في التطهير إلّا بأحد الأمرين أو بأقلّهما ، لأنّه هو المتيقّن الثبوت ، والمجمع على ثبوته ، وإن لم يكن مجمعا على مطهريّته. فالتطهير تكليف مغاير لوجوب الاجتناب عن الإناء ، وهذا التكليف اختلفت فيه الأمارتان ، فإذا لم يترجّح أحدهما على الآخر فنقول : مقتضى الأدلّة التخيير وهو مقتضى أصل البراءة.

وأمّا استصحاب وجوب الاجتناب فهو أمر آخر ، وهو أيضا مستصحب يمكن أن يكون مؤيّدا لإحدى الأمارتين وهو أمارة السّبع ، وهذا ليس معنى استصحاب شغل الذمّة بالتطهير المقتضي لإيجاب السّبع ، فإنّ التطهير تكليف جديد ورد فيه أمارتان مستقلّتان ، وحكم التعارض فيهما التخيير وجواز اختيار الأقلّ ، فحينئذ نقول : الأصل براءة الذمّة عن وجوب التطهير إلّا بما تيقّن اشتغالها به ، وهو الغسل مرّة ، والآخر منفيّ بالأصل وإن كان استصحاب النجاسة يؤيّد العمل بالسّبع ، وهذا هو مراد المحقق (٢) رحمه‌الله ، لا أنّ اشتغال الذّمة بوجوب الاجتناب عنه الذي هو معنى

__________________

(١) في «المعارج» ص ٢١٦.

(٢) يعنى انّ المحقّق يريد بما مرّ من قوله : ويمكن أن يقال قد أجمعنا ما ذكرناه من أنّ ـ


النجاسة يقتضي أن يكون المطهّر هو السّبع لا غير ، فإنّه لا يقتضي إلّا وجوب حصول ما يرفع النجاسة في نفس الأمر. فلمّا أمكن تحصيل العلم بالرّافع بالظنّ الاجتهاديّ ، فمقتضى الظنّ الاجتهاديّ هو الاكتفاء بالواحد كما اقتضاه التخيير ، فلا منافاة بين العمل على مقتضى استصحاب النجاسة والعمل على كون الرّافع هو الغسلة الواحدة ، لأنّ الظنّ الاجتهاديّ يقوم مقام العلم واليقين الرّافع لليقين ، فنقول حينئذ : الاستصحاب ، وقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين». يقتضي أنّ النجاسة في الإناء المذكور ثابتة (١) حتّى يحصل في الخارج ما ثبت رافعيّته لها في نفس الأمر ، لا أنّها ثابتة حتّى يثبت رافعيّة ما هو ثابت في نفس الأمر.

سلّمنا ، لكن نقول : قد ثبت رافعيّته بالأمارة الشرعيّة ، وهو التخيير بين الأمارتين المقتضي للاكتفاء بالأقلّ ، وبسبب اختلاف الاستصحاب في الموارد

__________________

ـ استصحاب النجاسة يؤيّد العمل برواية السّبع ويوافقه ، ولا يريد انّه يقتضي أن يكون المطهّر هو السّبع بالبيان الذي ذكره المصنّف ، ولكن لا يخفى انّ ما ذكره من البيان لا يلائم ظاهر كلام المحقّق ، بل ظاهر كلامه سواء كان عن جانب القائل بالاحتياط وكان مختار ، هو انّ النجاسة المتيقنة الاجماعية لا ترتفع إلا بيقين كذلك ، ولا تكفي الأدلّة الظنيّة في رفع ذلك اليقين ، فلا يحكم بالطهارة بدون سبع وإن لم يحكم أيضا بأن المطهّر هو السّبع لا غير ، فالمطهّر الواقعي مشكوك أي غير متيقن انّه الغسلة الواحدة أو الغسلات السّبع فتستصحب النجاسة الى حصول المطهّر الإجماعي هو السّبع كما عن حاشية الملا محمد تقي الهروي.

(١) أي أنّ النجاسة ليست ثابتة حتى يثبت رافعية ما هو ثابت الرّافعية في نفس الأمر حتى يترتب عليه بقاء النجاسة من بعد الغسلة الواحدة ، لأنّه لم يثبت رافعيّته عندنا ، ولو سلّمنا بقاء النجاسة حتى يثبت الرّافعية عندنا فنقول قد ثبت رافعية الغسلة الواحدة عندنا أيضا بالأمارة الشرعية.


من جهة المطابقة لأصل البراءة وعدمها ، ربّما يتوهّم أنّ الاستصحاب قد يصير مؤسّسا لإثبات حكم شرعيّ كما يقال : إنّ استصحاب الطهارة يدلّ على أنّ المذي ليس بناقض ، فأثبت الاستصحاب هذا الحكم ، أعني عدم الناقضيّة لهذا الموضوع ، أعني المذي.

وكذا فيما نحن فيه ، يقال : إنّ استصحاب النجاسة واشتغال الذمّة بالاجتناب هو الذي أوجب السّبع ، وهذا غفلة ، إذ المقتضي للحكم بعدم الناقضيّة هو أصل البراءة (١) والتخيير بين الأمارتين ، فإنّ الأمارتين في المذي قد تعارضتا في أنّه ناقض للوضوء أم لا ، وأصالة البراءة وعدم ثبوت التكليف بالطّهارة الجديدة وعدم ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى المقتضي للتخيير ، أثبت هذا الحكم. والمتوهّم قد توهّم أنّ المثبت له هو استصحاب الطّهارة ، وهو كما ترى ، فإنّه إنّما يثبت بقاء الطّهارة لو لم يثبت رافعه الواقعيّ.

فإذا فرضنا موضع هذا المثال ، أنّ الوضوء التّجديديّ إذا ظهر مسبوقيّته بالحدث ، فهل يكون رافعا للحدث أم لا ، وتعارض الأمارتان فيه ، فمقتضى التخيير والأصل هو كونه رافعا ، وإن كان مقتضى استصحاب الحدث هو العدم.

ففيما نحن فيه نقول : إنّ استصحاب النجاسة وإن كان يقتضي عدم الطهارة إلّا بالسّبع ، ولكنّ استصحاب براءة الذمّة عن التكليف بالسّبع ، وتكافؤ الأمارتين الموجب للتخيير أثبت الاكتفاء بالأقلّ.

__________________

(١) أورد عليه في «الإشارات» بأنّ الأصل بنفي التكليف والنّاقضية حكم وضعي ، وبأنّ التخيير فرع التّكافؤ وما دلّ على عدم ناقضيّته مؤيّد بما دلّ على حصر النّواقض عمل الجمهور والإجماعات المنقولة ، كما عن الملا محمد تقي الهروي.


ولعلّه الى ما ذكرنا ينظر كلام العضديّ كما فسّره التفتازاني ، قال في الاستصحاب : وأكثر الحنفيّة على بطلانه ، فلا يثبت به حكم شرعيّ.

قال التفتازاني : كأنّه يشير الى أنّ خلاف الحنفيّة في إثبات الحكم الشرعي دون النفي الأصلي ، وهذا ما يقولون : إنّه حجّة في الدّفع لا في الإثبات ، حتّى أنّ حياة المفقود بالاستصحاب يصلح حجّة لبقاء ملكه لا لإثبات الملك له في مآل مورثه.

أقول : (١) والوجه في ذلك أنّ أصالة عدم انتقال المآل الى المفقود ينافي ما يقتضيه استصحاب البقاء ، فيحتاج في إثبات الانتقال الى دليل آخر.

فحاصل مراد المحقّق : أنّه لا يمكن التمسّك في إثبات السّبع باشتغال الذّمة بالتطهير ، لأنّه لم يثبت إلّا بأحد الأمرين أو بالأقلّ خاصة.

نعم ، يمكن أن يقال بما هو موافق لترجيح السّبع من جهة الاستصحاب ، وأنت خبير بأنّ الأصل والاستصحاب لا يعارضان الدليل. وقد عرفت أنّ الدليل ـ وهو التخيير بين الأمارتين ـ موجود ، ومقتضاه الاكتفاء بالأقلّ.

وإن شئت قل : هناك تعارض الأصلان (٢) ولا مرجّح لأحدهما ، أو الترجيح للمتأخّر ، فعلم بما حقّقناه أنّه لا نزاع في وجوب الاحتياط إذا ثبت اشتغال الذمّة ، والنّزاع إنّما هو في موضوع الاشتغال وعدم الاشتغال ، فالنّزاع [بالنّزاع] لفظيّ (٣).

__________________

(١) فالعضدي مقصوده ليس ما فهمه التفتازاني ، بل مقصوده من قوله : فلا يثبت به حكم شرعي ، انّ استصحاب الوجودي معارض باستصحاب العدمي فلا يكون حجّة لأجل المعارض إلّا إن كان له مرجحا آخر.

(٢) أراد بالأصلين المتعارضين استصاب النجاسة المقتضي لإيجاب الأكثر وأصل البراءة من الزّائد المقتضي للاكتفاء بالأقل.

(٣) ونحن نرى بأنّ الاشتغال لم يثبت إلا بالقدر الذي ثبت من النص والاجماع وبما علم ـ


نعم ، هنا كلام آخر وهو ما ذكره المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في «شرح الدّروس» (١) بعد ما اختار هو أيضا ما اخترناه من جواز التمسّك بالأصل وعدم وجوب الاحتياط في ماهيّة العبادات أيضا. قال في مسألة استعمال الماء المشتبه بالنجس في ردّ الاستدلال على عدم جواز التوضّؤ : بأنّ اشتغال الذمّة متيقّن ولا يزول بالصّلاة ، ومعه أنّ اليقين بوجوب الصّلاة يقتضي اليقين بالإتيان بأجزائها وشرائطها التي تثبت بالدّليل ، وقد علمت أنّه لم يثبت بالدّليل سوى اشتراطها بالطهارة بالماء ، وبعدم التطهير بالماء [بالمياه] المتنجّسة المتيقّنة أو المظنونة على وجه ، وهذا ليس منها.

سلّمنا ثبوت اشتراطها بالماء الطاهر ، لكن نقول : إنّه طاهر بالوجه الذي قرّرنا.

نعم ، لو حصل يقين بالتكليف بأمر ، ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين أمور ، فلا يبعد حينئذ القول بوجوب تلك الأمور جميعا ليحصل اليقين بالبراءة.

وكذا لو قال الآمر : إنّ الأمر الفلانيّ مشروط بكذا ، ولم يعلم أو يظنّ المراد من كذا ، فعلى هذا أيضا الظّاهر وجوب الإتيان بكلّ ما يمكن أن يكون كذا حتّى يحصل اليقين أو الظّن بحصوله. انتهى ما أردناه.

وصرّح بعدم وجوب الاحتياط في أجزاء العبادة وشرائطها في مواضع كثيرة أخر أيضا.

__________________

ـ من الأدلّة ، فلو شك ما ثبت أو في جزء منه بعد كونه في محلّه للزم الاحتياط فيما ندّعيه بالقول إنّ الاشتغال في الواقع ونفس الأمر إلّا ما ثبت من الأدلّة فقط ، فاللازم تحصيله بالاحتياط فالكبرى مسلّمة والصغرى مختلفة فالنزاع إذا لفظي.

(١) «مشارق الشموس» ١ / ٢٨١.


ويمكن ان يكون مراده بما استثناه بقوله : نعم ... الخ. مثل الأمر بقضاء الفائتة المنسيّة المتردّدة بين الخمس (١) ، ومثل اشتراط صحة الصّلاة بعدم التكفير المختلف في تفسيره بأنّه وضع الكفّ اليمنى على اليسرى أو بالعكس ، أو غير ذلك مثل من اشتبه عليه الأمر في وجوب القصر في الصلاة أو الإتمام ، أو الظّهر والجمعة.

ونقول : وإن كان مقتضى النظر الجليل هو ما ذكره رحمه‌الله ، ولكن دقيق النظر يقتضي خلاف ذلك ، فإنّ التكليف بالأمر المجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معيّن عند الشّارع مجهول عند المخاطب ، مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة (٢) ، الذي اتّفق أهل العدل على استحالته وكلّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ، إذ غاية ما يسلّم في القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالهما ، أنّ الإجماع وقع على من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحقّ العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشّارع المبهم عندنا ، بأن ترك فعلهما مجتمعين يستحقّ العقاب.

ونظير ذلك مطلق التكليف بالأحكام الشرعيّة سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحقّ من التخطئة ، فإنّ التحقيق أنّ الذي ثبت علينا بالدّليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من الأدلّة الظنّية ، لا تحصيل الحكم النّفس الأمريّ في كلّ واقعة ، ولذلك لم نقل بوجوب الاحتياط ، وترك العمل بالظنّ الاجتهاديّ في أوّل الأمر أيضا.

نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند

__________________

(١) راجع «الفصول» ص ٣٥٩ ، ففيه زيادة بيان في المقام.

(٢) وقد لا ينهض هذا الكلام لإمكان خفاء البيان علينا وعدم وصوله إلينا.


الله مردّد عندنا بين أمور ، من دون اشتراطه بالعلم به المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطّاعة لتمّ ذلك ، ولكن لا يحسن حينئذ قوله : فلا يبعد حينئذ القول بالوجوب ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ، ولكن من أنّ أين هذا الفرض ، وأنّى يمكن إثباته.

وحكاية التكليف بثلاث صلوات فيمن فاتته إحدى الخمس ، إنّما هو بالنصّ والدليل الخاصّ ، لا لأنّه مكلّف بالإتيان بذلك المجهول ، ولا يتمّ إلّا بالمجموع ، ولذلك اقتصر المجهول على الثلاث دون الخمس كما ذهب اليه بعضهم. فإنّ الأوّل هو مورد النصّ ، ولو كان ذلك من جهة امتثال التكليف للمجهول من باب المقدّمة التي هو الاحتياط ، للزم الخمس خصوصا مع ملاحظة وجوب الجهر والإخفات.

وبالجملة ، لو لم يكن النصّ لم نقل بوجوب قضاء المنسيّة (١) على المختار من كون القضاء بالفرض الجديد ، وعموم الأوامر الدالّة على وجوب قضاء ما فات لا يشمل المجهول ، لما ذكرنا من استحالته ، ولأنّه خلاف ظاهر تلك الأوامر ، فإنّ ظاهرها صورة العلم ، فلاحظها.

ولو قلنا : بالوجوب ، لقلنا : إنّه لم يثبت إلّا العقاب على ترك جميع المحتملات لا على ترك الفائت النّفس الأمريّ حتى يلزم الإتيان بالجميع كما أشرنا.

__________________

(١) فيه : أنّ مقتضى الأصل لزوم الخمس والاكتفاء بالثّلاث لأجل النص ، لا أنّ الأصل عدم وجوب شيء أو عدم وجوب ما زاد عن واحدة والالتزام بالثّلاث للنص ، ثم إنّ مواضع النّظر في سائر كلامه أيضا ظاهرة كما انّ عدم الحاجة الى السّؤال بقوله : فإن قلت ، نعم والى جوابه مع ما فيها من التّكليفات ظاهر أيضا. هذا كما عن حاشية الهروي.


فإن قلت (١) : نعم ، جهالة المأمور به توجب استحالة طلبه ، ولكن تأخير البيان عن وقت الحاجة دليل على إرادة فعل كلّها ، فلا مانع من الأمر بقضاء المنسيّة مع جهالته وتأخير البيان ، فيكشف ذلك من إرادة كلّها لئلّا يلزم المحذور ، وذلك نظير من يحمل المفرد المحلّى في مثل قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) على العموم ، على القول باشتراكه بين العهد والجنس والاستغراق ، فيجب أن يحمل الأمر بقضاء الفائت على كلّ الخمس ، وكذلك النّهي عن التكفير على كلّ محتملاته.

قلت : مع أنّ هذا ليس إتيانا بالاحتياط والتزاما للأفراد المتعدّدة لأجل تحصيل المكلّف به كما هو المطلوب ، بل هو الإثبات لإرادة العموم وهو شيء آخر.

يرد عليه : أنّه لم يتوجّه إلينا خطاب حتّى يجري فيه ما ذكر ، ولعلّه كان البيان موجودا واختفى علينا ، فلا بدّ أن يبيّن حكم مثل ذلك ، مضافا الى أنّ إخراج كلام الحكيم عن اللّغوية والإغراء بالجهل القبيح [بالقبيح] كما يحصل بالحمل على العموم ، فقد يحصل بالتخيير ، لم لا يكون تأخير البيان مع تعدّد الاحتمال قرينة للتخيير ، فإذا فرض الأمر بالاعتداد بالقرء مثلا مع عدم البيان ، فنقول : إنّ ذلك قرينة على التخيير.

وكذلك الكلام في الفريضة المنسيّة لو فرض ثبوت دليل على وجوبها بنفسها ، مع أنّ الفائدة في الإتيان بالكلّ إن كان هو تحصيل اليقين بالمكلّف به الواقعي ، فلا ريب أنّه لا يحصل بذلك أيضا ، لأنّ اشتراط قصد التعيين في الامتثال بالمكلّف به ، من المسائل الاجتهادية ، وهو ممّا لا يمكن هنا ، فمع عدمه كيف يحصل اليقين

__________________

(١) وهو إيراد على قوله : وعموم الأوامر الدّالة على وجوب القضاء.

(٢) البقرة : ٢٧٥.


بأنّه هو ، ومجرّد المطابقة في عدد الركعات (١) لا يكفي في الإتيان به ، سيّما مع المخالفة في الجهر والإخفات.

وكما أنّ عدد الركعات دخيل في الماهيّة ، فالنيّة والجهر والإخفات أيضا كذلك ، إلّا أن يقال بعد تسليم تعلّق الخطاب ووجوب تحصيل البراءة عمّا في نفس الأمر ، فيكتفى بالظنّ مع تعذّر العلم ، وهو إنّما يتمّ في الإتيان بالجميع ، لأنّ الصلاة الموافقة للفائتة في العدد أقرب إليها من المخالفة.

ويدفعه : أنّ غاية ذلك ، أنّ ذلك أقرب البدلين ، ومطلوبك إثبات وجوب الإتيان بقضاء الفائت لا ببدله. ومرادنا من هذه البدليّة غير مثل المغايرة الحاصلة لأصل الفائت المعلوم مع تداركه ، فإنّه ممّا لا مناص عنه ، بل المراد من البدليّة هنا بدل القضاء لا بدل الأداء ، فإنّ الفرد الموافق للفائت في العدد فيما بين الخمس ، بدل من القضاء المتعيّن في صورة العلم ، كما أنّ إحدى الخمس على التخيير أيضا بدل عنها ، وأحد البدلين وإن كان أقرب من الآخر وأرجح ، لكن لم يثبت وجوب البدليّة عن القضاء ، وما يتمسّك به هنا هو أدلّة وجوب القضاء لا بدل القضاء.

ومن هذا القبيل (٢) النهي عن البهيمة الموطوءة المجهولة في جملة قطيع ، ولكنّ النصّ ورد هناك بالقرعة ، وهو أيضا مشكل (٣) لمعارضته بما ذكرنا من الأدلّة العقليّة ، وقد بيّنا الحال فيها.

__________________

(١) في نسخة الأصل (الركعة).

(٢) بمعنى انّ من قبيل الأمر بقضاء الفوائت النهي من البهيمة الموطوءة ، انّ النّهي تعلّق بنفس الحرام لا بما احتمله ، فحينئذ بعد فرضنا عدم علمنا به لا يجب الاجتناب عن الجميع.

(٣) فالعمل بالنّص كالاجتناب بالجميع مشكل.


وأمّا الكلام في مثل التّكفير (١) ، فلعلّ الكلام فيه أيضا يرجع الى الكلام في الشّبهة المحصورة ، وقد حقّقنا أنّه لا يجب فيها الاجتناب عن الجميع ، للأصل ، ولقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (٢). ومن هذا الباب الصلاة فيما شكّ في كونه ممّا يجوز فيه الصلاة وعدمه ، كالمشتبه بالخزّ والمشتبه بفضلة غير المأكول ، كالعظم المردّد بين كونه من البعير أو الفيل.

وكذلك الكلام في صورة اشتباه القبلة ، فإنّ الأصل عدم وجوب الاستقبال حينئذ ، إذ لم يثبت من الأدلّة إلّا حال الإمكان. وظهر من ذلك ضعف الاستدلال بأنّه مكلّف بالصلاة مستقبلا وهو لا يتمّ إلّا بالصلاة الى أربع جوانب.

نعم ، استدلال المشهور على ذلك برواية خراش (٣) وهي مع ضعفها معارضة بنصوص صحيحة تدلّ على كفاية الصلاة الواحدة بأيّ جهة شاء.

وممّا ذكرنا (٤) يظهر ضعف القول بوجوب الجمع بين الظهر والجمعة لمن اشتبه عليه الأمر ، وكذلك القصر والإتمام في الأربعة فراسخ ، ونحو ذلك ممّا تعارضتا

__________________

(١) الذي عرفت من الكلام السّابق في مسألة المحقّق السّبزواري.

(٢) «الكافي» ٥ / ٣١٣ ح ٣٠.

(٣) محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن اسماعيل بن عباد عن خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السّماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه «الوسائل» ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٩ ، ومثله في «التهذيب» ٢ / ٤٥ ، الحديث ١٤٥ ، و «الاستبصار» ١ / ٢٩٥ الحديث ١٠٨٦.

(٤) من عدم وجوب اتيان الجميع في الشّبهة.


فيه الأمارتان أو اختلفت الأمّة فيها على قولين ، لأنّ المقتضى تعارض الأمارتين والاحتمالين التّخيير [لأن مقتضى تعارض الأمارتين والتّخيير والاحتمالين] ، والأصل عدم وجوب التعيين لمن لم يثبت عليه الخصوصيّة ، والتكلّف بأحدهما المعيّن عند الشّارع المجهول عند المكلّف ، لم يثبت لما أشرنا سابقا ، مع أنّه لا معنى للاحتياط هنا لحرمة (١) كلّ منهما على فرض ثبوت الآخر ، فالمكلّف المحتاط وإن كان خرج بزعمك عن تبعة ترك الواجب لأجل إتيانه بمحتملاته ، لكنّه بقي عليه تبعة ارتكاب المحرّم الواقعيّ جزما.

ولا ريب أنّ ارتكاب ما لم يعلم فيه ارتكاب الحرام ، واحتمل فيه إتيان الواجب أسلم من ارتكاب ما علم فيه ارتكاب الحرام وإتيان الواجب.

فإن قلت : (٢) فعلى هذا يلزم حرمة الجمع ، لعدم الدّليل على فعله فيكون تشريعا فلا معنى لاستحبابه ، بل جوازه أيضا.

قلت : التشريع المحرّم إنّما هو إدخال ما ليس من الدّين ، أو شكّ أنّه منه بقصد أنّه منه ، لا الإتيان بما احتمل أن يكون منه رجاء أن يكون منه ، فالإتيان بهما مجتمعا باعتقاد أنّه أحد أفراد المأمور به ، وأنّ التكليف مردّد بين كلّ منهما منفردا ، وكليهما مجتمعا ، ليس عليه دليل ، بل هو تشريع محرّم ، ولكنّ الإتيان بهما من حيث إن كلّا منهما يحتمل أن يكون نفس مطلوب الشّارع الواقعيّ الذي نابه

__________________

(١) هذه الحرمة تشريعية لا شرعية فترتفع بالاحتياط كما ذكر السيد علي القزويني في حاشيته.

(٢) اي على ما ذكرت من منع الاحتياط في مسألة الظهر والجمعة يلزم حرمة الجمع مع أنّك معترف باستحباب الاحتياط على نحو الجمع. فأجاب انّ ما ذكرنا يرد على صورة وجوب الاحتياط لا رجحان الاحتياط.


التخيير بينهما في حال الاضطرار ، فلا دليل على حرمته ، والأصل جوازه ، ولكنّه يحتاج الى إثبات رجحان ذلك فإنّ العبادة مشروطة به ، ومبنى ذلك (١) هو أنّ المكلّف به حينئذ هو أحدهما تخييرا ، لكنّه إذا فعل أحدهما لأجل الامتثال ثمّ فعل الآخر لاحتمال أن يكون هو المراد في نفس الأمر الذي له مصلحة خاصّة وإن لم يكن مطلوبا منه بالخصوص رجاء أن يحصل له تلك المصلحة مع عدم اعتقاد أنّ الجميع من أفراد المأمور به ، فهو إتيان بما يرفع احتمال فوت هذه المصلحة منه. ولمّا كان المستفاد من الكتاب العزيز : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(٢). فلعلّ في هذا الفعل حسنة تذهب السّيئة ، ففعله احتياط بهذا المعنى ، وهو حسن.

__________________

(١) وهو مبنى عدم التّشريع في صورة رجاء المطلوب ، وفي الحاشية لملا محمد تقي الهروي : هذا مبنى الرّجحان على مختاره في عدم وجوب الاحتياط ، وأمّا على ما اخترناه من وجوبه فالمبنى هو انّ الشّىء المعيّن الذي هو الواجب فى الواقع لا يحصل الامتثال به على وجه اليقين إلّا بالفعلين فيكون كل منها راجحا ، بل واجبا من باب المقدمة العلمية ، فيأتي بكلّ منهما بنيّة الاحتياط ورجاء حصول الواجب به ، أي يقصد أنّ الواجب يحصل به أو بصاحبه ، لا يقصد حصوله به بخصوصه ، وحينئذ فلا يلزم تشريع أصلا. وظاهر ما يأتي من المصنّف رحمه‌الله حيث يقول ، ولقائل انّ يمنع التّشريع ... الخ إلّا أنّ احتمال التّشريع على مختارنا من وجوب الفعلين أقوى ، ولعل وجهه تخيّل أنّ وجوب كل منهما يوجب أن يقصد بكل منها حصول الواجب المعيّن به بخصوصه وهو تشريع. وفيه : أنّه لا يوجب ذلك ، بل مقتضى كون كل منها مقدمة للعلم بحصول الواجب هو ما ذكرناه من أنّه ينوي بكل منهما حصول الواجب به أو بصاحبه أي يأتي بكل منهما لا بالجزم بأنّه الواجب الأصلي المعيّن في الواقع ليلزم التّشريع ، بل رجاء انّه هو ، وهذا ليس تشريعا ، بل ناف للتشريع.

(٢) هود : ١١٤.


ويشمله عموم مثل قوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (١). فإنّه محمول على مطلق الرّجحان كما سيجيء بيانه.

ومن هذا القبيل ما يفعله الصّلحاء من إعادة عباداتهم بعد زيادة معرفتهم بمسائل العبادات ، كما هو المنقول عن أعاظم العلماء والصّلحاء مع عدم قيام دليل على وجوبه ، بل ولا نصّ بالخصوص على فعله كما صرّح به الشهيد رحمه‌الله في «قواعده» مع أنّ ذلك أيضا لا يوجب تحصيل اليقين كما لا يخفى ، فانّ تعيين النيّة من المسائل الخلافيّة ، وإنّما يجوز هذا الفعل عند من يكتفي بالنيّة المتردّد فيها. وكذلك الكلام في إعادة الوضوء احتياطا لمن يشكّ في الحدث.

قال الشهيد رحمه‌الله : فطريق الاحتياط لا يحصل بمجرّد الفعل في مسائل الأحداث أو الشّك في الطهارات ، بل ينبغي إيجاد السّبب اليقينيّ ثمّ الفعل ، لأنّ الفعل مع النيّة المشكوك فيها كلّا فعل عند بعض الأصحاب. انتهى.

هذا ولقائل أن يمنع التشريع على القول بالوجوب أيضا إذا جعل من باب المقدّمة ، فالأولى منع الوجوب.

وذكر الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» (٢) كلاما لا بأس بذكره ، قال في خاتمة مباحث الأوقات : اشتهر بين متأخّري الأصحاب قولا وفعلا الاحتياط بقضاء الصّلاة بتخيّل اشتمالها على خلل ، بل جميع العبادات الموهم فيها ذلك. وربّما تداخلوا [تداركوا] ما لا مدخل للوهم في صحّته وبطلانه في الحياة وفي الوصيّة بعد الوفاة ، ولم نظفر بنصّ في ذلك بالخصوص ، وللبحث فيه مجال ، إذ يمكن أن يقال

__________________

(١) «الوسائل» ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٦.

(٢) «ذكرى الشيعة» ص ١٣٨.


بشرعيّته بوجوه ، منها :

قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(١) ، و (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)(٣) ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٤) ، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)(٥).

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (٦) ، و : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٧) ، و : «من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» (٨). وقوله عليه‌السلام للمتيمّم لمّا أعاد صلاته لوجود الماء في الوقت : «لك الأجر مرّتين» ، والذي لم يعد : «أصبت السّنّة» (٩) ، وقول الصادق عليه الصلاة والسلام في الخبر السّالف : «انظروا الى عبدي يقضي ما لم أفترض عليه» (١٠) ، وقول العبد الصالح عليه‌السلام في مكاتبة عبد الله بن وضّاح : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (١١).

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) التغابن : ١٦.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) العنكبوت : ٦٩.

(٥) المؤمنون : ٦٠.

(٦) «الوسائل» ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٦.

(٧) «الوسائل» : ١ / ٤٨ الحديث ٨٩.

(٨) «الوسائل» ٢٧ / ١٧٣ الحديث ٣٣٥٢٧.

(٩) «سنن أبي داود» ١ / ٨٦ الحديث ٣٣٨.

(١٠) «الوسائل» ٤ / ٧٧ الحديث ٤٥٥٦.

(١١) «الوسائل» ٤ / ١٧٧ الحديث ٤٨٤٠.


وربما يخيّل المنع بوجوه ، منها :

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، و : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)(٢)(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣) ، وفتح باب الاحتياط يؤدّي إليه. وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السّمحة السّهلة» (٤).

وروى حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ما أعاد الصلاة فقيه [قطّ] يحتال لها ويدبّرها حتّى لا يعيدها» (٥).

والأقرب الأوّل ، لعموم قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى)(٦) ، وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر» (٧). ولأنّ الاحتياط المشروع في الصلاة من هذا القبيل ، فإنّ غايته التجويز. ولهذا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن كنت صلّيت أربعا كانتا هاتان نافلة لك» (٨). ولأنّ إجماع شيعة عصرنا وما راهقه (٩) عليه ، فإنّهم لا يزالون يوصون بقضاء العبادات مع فعلهم إيّاها ويعيدون كثيرا منها قضاء وأداء ، والنهي عن إعادة الصلاة هو في

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) النساء : ٢٨.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) «البحار» ٦٦ / ٤٢.

(٥) «الوسائل» ٨ / ٢٤٨ الحديث ١٠٥٥٦.

(٦) القلم : ١٠.

(٧) «مستدرك الوسائل» : ٣ / ٤٣ الحديث ٢٩٧٢.

(٨) «الوسائل» ٨ / ٢١٨ الحديث ١٠٤٦٧.

(٩) بمعنى قاربه يقال : يجب الصوم على الغلام إذا راهق الحلم أي قاربه ، من قولهم : راهق الغلام مراهقة فهو مراهق ، إذا قارب الاحتلام ولم يحتلم.


الشّك الذي يمكن فيه البناء. انتهى كلامه رحمه‌الله.

أقول : وللنظر في أكثر أدلّة الطرفين مجال واسع يظهر لمن تأمّلها ، ولكن ما ذكره الشهيد ـ مع ما تحقّق في محلّه من المسامحة في أدلّة السّنن الثابتة بالإجماع والأخبار المعتبرة ـ يكفي في جواز هذا الاحتياط واستحبابه ، ويدلّ عليه قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لكميل بن زياد : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١). وسنبيّن وجه دلالته ، هذا ولكن خوف الوقوع في الوسواس حاصل في البناء على الاحتياط وهو الغالب الوقوع في أكثر النّاس ، فمن خاف الوقوع فيه فلا يظهر رجحان الاحتياط له ، وقد أشرنا الى ذلك في مباحث الأخبار أيضا فلاحظ (٢).

ثمّ إنّ الاحتياط هو الأخذ بما هو أوقى للنفس من الهلاك في صورة الاحتمال لا في صورة الجزم ، فالإتيان بالواجب المعلوم وترك المحرّم كذلك ليس باحتياط ، فكلّ ما دلّ عليه الدليل واقتضاه فليس باحتياط ، فمثل الإتيان بالفعل المشكوك فيه من أفعال الصلاة ممّا لم يتجاوز محلّه ، والشّك في فعل الصلاة ما دام وقته باقيا ، والشّك في عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة ما دام في الصلاة وأمثال ذلك ، حكمه وجوب الإتيان ، للأصل والاستصحاب ، فالمظنون العدم.

وأمّا منع خروج الوقت في الصلاة والدّخول في الفعل اللّاحق في أجزائها ، فالظّاهر من حال المسلم الاتيان بها ، وهو مظنون ، فلا يجب ذلك فيها لذلك أو

__________________

(١) «الوسائل» ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٩.

(٢) الوجه الخامس من قانون الاختلاف في حجية خبر الواحد العاري عن القرائن من مبحث السنة ج ٢ ص ٤٣٥.


لأجل تساوي الطرفين وأصالة البراءة ، مع أنّ الشّارع نصّ على المذكورات ، فلا حاجة الى التمسّك بالقاعدة.

وأمّا البناء على الأكثر في الرّباعيّة ، فهو وإن كان خلاف الاحتياط من هذه الجهة ، لكن مع ملاحظة جبره بصلاة الاحتياط ، فهو أيضا يصير من هذا القبيل.

والحقّ أنّ أمثال هذه المقامات لا يحسن إيرادها في هذه المسألة ، وقد وافقنا فيه الشهيد رحمه‌الله فإنّ دأبه في «القواعد» الإتيان بما يمكن تحقّق القاعدة فيه مع قطع النظر عن النصّ ، وإن ورد فيه النصّ أيضا.

وقد يروى أنّه يذكر في قاعدة نفي العسر والحرج (١) القصر والتيمّم ونحوهما ، وفي قاعدة الاحتياط (٢) أمثال ما ذكرنا.

ثمّ إنّه رحمه‌الله قال في آخر القاعدة (٣) : أمّا ستارة الخنثى كالمرأة ، وجمعها بين إحرامي الرّجل والمرأة ، فالأقرب وجوبه لتساوي الاحتمالين ، ومن هذا الباب الجمع بين المذاهب مهما أمكن في صحة العبادة والمعاملة.

أقول : وما ذكره ممنوع ، وهذا باب مطّرد شائع في الفقه تجري فيه المسألة ، فإنّهم كثيرا ما يستشكلون في حكم الخنثى ، فتراهم يختلفون في وجوب الاجتناب من الحرير عليها وذلك لعدم ورود النصّ فيها بالخصوص ، فهي مكلّفة جزما ، لكنّها لا تعلم أنّ تكليفها تكليف الرجل أو المرأة ، فمن يوجب الاحتياط عليها الاجتناب عن الحرير في الصلاة. فقال في «الذكرى» (٤) : يحرم على

__________________

(١) في القاعدة الثانية المشقة موجبة لليسر من «القواعد والفوائد» ١ / ١٢٣.

(٢) من «القواعد والفوائد» ١ / ٣١٠ القاعد [١٠٧].

(٣) [١٠٧] من ١ / ٣١٢.

(٤) «ذكرى الشيعة» ص ١٤٥.


الخنثى لبسة حرير أخذا بالاحتياط. وقال في «المدارك» (١) : هل يحرم على الخنثى لبس الحرير؟ قيل : نعم ، أخذا بالاحتياط. وقيل : لا ، لاختصاص التحريم بالرّجل ، والخنثى ليست رجلا على اليقين. وكذلك في مسألة السّتر ، قال في «الذكرى» (٢) : والأقرب إلحاق الخنثى بالمرأة في وجوب السّتر ، أخذا بالمبرئ للذّمة ، وهكذا.

ومقتضى ما اخترناه في أصل المسألة التخيير وبراءة ذمّتها عن زيادة التكليف ، وخالف في «الذكرى» (٣) هذه الطريقة في مسائل الجهر والإخفات ، فقال : الخنثى تتخيّر في الجهر والإخفات ، وإن جهرت في مواضع الجهر فهو أولى ، إذا لم يستلزم سماع من يحرم سماعه.

وأمّا ما ذكروه من وجوب الصلاة على جميع القتلى إذا اشتبه الكافر بالمسلم بنيّة الصلاة على المسلمين معلّلا بعدم حصول الامتثال إلّا بذلك ، فمع أنّ الأكثر اعتبروا مراعاة كميش الذّكر (٤) فيه للرّواية الواردة في فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتلى بدر في

__________________

(١) «مدارك الأحكام» ٣ / ١٧٧.

(٢) ص ١٤٠.

(٣) ص ١٩٠.

(٤) ممّا يفيد الختان ، وفي الحديث كما عن «مجمع البحرين» «لا توار ـ يعني من القتلى ـ إلّا كميشا» يعنى من كان ذكره صغيرا ، قيل : ولا يكون ذلك إلّا في كرام الناس. وانّ هذا دليل النّجابة ، والمسلم هو النّجيب ، قال في «اللمعة وروضتها البهية» : ويجب مواراة المسلم المقتول في المعركة دون الكافر فإن اشتبه بالكافر فليوار كميش الذّكر أي صغيره ، لما ورد من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك في قتلى بدر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكون ذلك إلّا في كرام الناس. وقيل يجب دفن الجميع احتياطا وهو حسن ، والقرعة وجه ، وأمّا ـ


مواراة من كان منهم كذلك فيه ، أنّه لا دليل عليه حينئذ ، والتكليف لم يثبت بالصلاة على من هو مسلم في نفس الأمر ، بل المسلّم إنّما هو الصلاة على من علم إسلامه.

نعم ، لو ثبت الإجماع على وجوبه إذا لم يتميّز ملاحظة الذّكر أيضا مع إسقاط قصد التعيين في الامتثال ، فللوجوب على الجميع وجه كما أشرنا سابقا (١). وذهب بعضهم هنا الى وجوب القرعة ، وضعّفه في الذكرى (٢) وقال : إنّ محلّها الإشكال في مواضع مخصوصة ، ولو اطّردت القرعة لجنح إليها فيما اختلف فيه من الأحكام ، فيستغني عن الاجتهاد فقهاء الإسلام.

أقول : وإن سلّم كون القرعة فيه ضعيفا لعدم ثبوت الوجوب والإشكال في الأمر ، لكن ما ذكره أضعف ، فإنّ التمسّك بالقرعة في موضوع الحكم بعد ما ثبت تعلّق الحكم به مطّرد لعموم الحديث الوارد فيها من أنّها لكلّ أمر مشكل ، حتّى أنّ السيّد الجليل ابن طاوس رحمه‌الله ذهب الى العمل بالقرعة في الصلاة الى أيّ الجهات للمتحيّر.

وأمّا استنباط الفتاوى والأحكام بالقرعة ، فهو ممّا دلّ الإجماع على خلافه وخرج من العموم بالدّليل ، كما صرّح هو رحمه‌الله في «القواعد» (٣) ، فإنّه بعد ذكر مقامات ما يجري فيه القرعة ، مثل أئمّة الصّلاة عند الاستواء في المرجّحات ، والأولياء في تجهيز الميّت مع الاستواء ، والموتى في الصلاة والدّفن مع الاستواء

__________________

ـ الصلاة عليه فهي تابعة للدفن ، وقيل يصلّى على الجميع ويفرد المسلم بالنيّة وهو حسن ، انتهى.

(١) في ذيل كلام المحقق الخوانساري في قضاء الفائت كما في الحاشية.

(٢) ص ٥٤.

(٣) ج ٢ ص ٢٣.


في الأفضلية وعدمها ، وبين المزدحمين في الصفّ الأوّل مع استوائهم في الورود ، وفي المزاحمة في الدّعاوى ، والدّروس ، وتعارض البيّنات وغير ذلك. قال : ولا تستعمل في العبادات غير ما ذكرنا [ه] ولا في الفتاوى والأحكام المشبهة [المشتبهة] إجماعا.

وأقول : ما ذكره من عدم استعمالها في غير ما ذكره في العبادات [العبارات] ينافي ما نقلناه عن ابن طاوس وإن كان ضعيفا أيضا لما أشرنا إليه سابقا.

ثمّ إنّ القائل بوجوب الاحتياط استدلّ بروايات منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك».

وفيه : بعد سلامة السّند وجواز إثبات مثل هذا الأصل بمثل هذا الخبر (١) ، أنّ القائل بوجوب الاحتياط يقول به في الفتوى والعمل والفتوى بالاحتياط ، سيّما إذا كان حاصلا من الجمع بين المذاهب كما أشار إليه الشهيد في «القواعد» (٢) وصار شاقّا على المكلّف. وتحميل هذه الكلفة على عباد الله محلّ الرّيبة والخوف عن المؤاخذة ، مع أنّ ملّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمحة سهلة ، والعسر والحرج منفيّان بالكتاب والسّنة. فالرّواية مقلوبة على المستدلّ كما نبّه عليه كلام المحقّق السّابق (٣) ، مع أنّ العدول عن الاستحباب الى الوجوب فيما تردّد الأمر بينهما يوجب قصد الوجوب فيما يحتمل كونه مستحبّا في نفس الأمر ، وجواز مثل ذلك

__________________

(١) وقد مرّ عن المحقق في «المعارج» ص ٢١٦ في الجواب عن الحديث بأنّه خبر واحد لا نعمل بمثله في مسائل الأصول ، سلّمنا ، لكن إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة الرّيبة لأنّه إلزام مشقة لم يدل الشّرع عليها ، فيجب إطراحها بموجب الخبر.

(٢) في ١ / ٣١٢ القاعدة [١٠٧].

(٣) الحلّي صاحب «معارج الأصول».


إنّما يتمّ على القول بعدم اعتبار نيّة الوجه ، ولم يظهر من أدلّة الاحتياط أنّ عدم الاعتبار بنيّة الوجه هو الاحتياط ، مع قطع النّظر عن عدم التمكّن ممّا هو مطلوب في الواقع من الجهات الأخر أيضا ، وصيرورة بعض أجزاء المركّب قطعيّا لا يوجب قطعيّة نفسه ، كما مرّ ذكره مرارا.

هذا مع أنّا بعد ما ورد من الأدلّة القاطعة في أنّ الحكم فيما لم يبلغنا فيه نصّ أو دليل شرعيّ عامّ أو خاصّ ، هو الإباحة كما أشرنا ، فلا يبقى لنا ريبة حتّى ندعه الى ما لا يريبنا.

وكذا فيما تعارض فيه الأمارتان ، فإنّ الأدلّة من العقل والنقل دلّت على أنّ الحكم فيها التخيير أو الإباحة والرّجوع الى أصل البراءة لتساقطهما ، فأين الرّيبة ، مع أنّه لو كان الاحتياط واجبا لم تخل الأخبار الواردة في علاج المتعارضين عن ذكر الاحتياط ، والتي ذكر فيها الاحتياط ليس إلّا قليل منها ، ودلالتها على الوجوب أيضا ممنوعة ، مع أنّه يمكن أن يمنع دلالة الرّواية على المطلوب بأن يقال : الرّيبة هنا بمعنى التهمة ، يعني : دع ما يوجب وقوعك الى التهمة الى ما لا يوجبه.

قال الجوهري (١) : الرّيب : الشّك ، والرّيب : ما رابك من أمر ، والإسم : الرّيبة ـ بالكسر ـ وهي التّهمة والشّك. انتهى.

فيكون مفاد الحديث مفاد قولهم : اتّقوا مواضع التّهم ، مع أنّ الظّاهر عدم الصّحة

__________________

(١) في «الصّحاح» ١ / ١٤١.


فيما نحن فيه (١) إن أردنا التشكيك ، فإنّ المناسب للعمل بالأصل أو التخيير أنّه عمل بما لا يوجب اليقين بالبراءة ، لا بما يوجب الشّك ، والحمل على إرادة أن لا تفعل ما يحدث الشّك ، بمعنى أنّه يبدّل يقين عدم حصول المأمور به بالشّك في [الشك] حصوله بعيد ، مع أنّه يلزم حينئذ التفكيك بين الرّيبتين ، فإنّه يصير حينئذ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الى ما لا يريبك» ، الى ما لا يوجد معه شكّ في حصول الامتثال ، وإن حصل اليقين بارتفاع عدم الامتثال.

وإنّما قلنا ذلك لأنّ الشّك إنّما يكون سنوحه وحدوثه إذا ثبت هناك يقين السّابق ، واليقين السابق هو عدم الامتثال ، والمقصود بالذّات ليس إبقاء ذلك العدم ، بل اليقين بتحقّق الامتثال ، واللّفظ إنّما يناسب الأوّل ، ولكنّه لا يصحّ.

فالظّاهر أنّ مراده عليه‌السلام هو ترك ما يوجب التهمة ، ويرفع طهارة الذّيل ونظافة السّاحة ، وإطلاق التّهمة على من يسلك سبيل الاحتياط بعيد.

هذا كلّه ، مع أنّ المطلوب إن كان الاجتناب عن المشكوك فيه الى المتيقّن ، فهو يشمل ما يحتمل الاستحباب أو الكراهة مع الإباحة ، فيلزم إمّا إخراج المستحبّ والمكروه وإرادة مطلق الرّجحان من صيغة الأمر ، لعدم جواز استعمال اللّفظ في معنييه كما حقّقناه في محلّه ، والثاني يوجب بطلان الاستدلال والأوّل بعيد ، فالأولى حمل الرّواية على الاستحباب ، وكيف كان فهو لا يقاوم أدلّة أصالة البراءة فنحملها على الاستحباب.

__________________

(١) يعني عدم صحة الاستدلال بهذه الرّواية فيما نحن فيه ، يعني في الشّبهة التّحريمية أو حتى في مطلق الشّبهة التي قلنا فيها بالبراءة ، واختار الأخباريون في مثلها الاحتياط إن أريد بالرّيب في الرّواية الشّك.


ومنها : ما نقل عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أنّه قال لكميل بن زياد : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت».

وفيه : ـ بعد الإغماض عن السّند (١) ـ أنّه لا يدلّ إلّا على الرّخصة بقرينة التقييد بمشيّة المخاطب ، غاية الأمر الاستحباب.

فإنّ الظّاهر أنّ المراد حصر الأخ في الدّين إدّعاء من قبيل قولهم : الأسد زيد ، يعني هو هو. فكما أنّ الاحتياط لحفظ الأخ وتعاطي ما هو مصلحته مركوز في طبيعتك لا حاجة الى الأمر به ، فكذلك لا بدّ أن يكون دينك ، ولا مانع لك من جهة الشّارع من أخذ ما هو حائطة له ، ويستحبّ أن تأخذ بما هو الحائط له بما شئت.

ومنها : ما رواه الشيخ عن الحسن بن محمّد بن سماعة عن سليمان بن داود عن عبد الله بن وضّاح قال : كتبت الى العبد الصّالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل اللّيل ، ثمّ يزيد اللّيل ارتفاعا ويستر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّن ، فاصلّي حينئذ وافطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام إليّ : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢).

__________________

(١) رواه الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي عن أبيه عن المفيد عن علي بن محمد الكاتب عن زكريا بن يحيى التميمي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري عن الرضا عليه‌السلام كما هو في «الوسائل» ٢٧ / ١٦٧ ، وفي «أمالي الشيخ المفيد» المجلس الثالث والثلاثون يحيى بن زكريا الكتنجي يكنّى أبا القاسم ذكره الشيخ فيمن لم يرو عنهم عليه‌السلام قال : ولقي العسكري ، وفي النسخ «زكريا بن يحيى» مقلوبا وهو تصحيف. وإلّا فقد وثّق النّجاشي زكريا بن يحيى التّميمي وكذا داود بن القاسم الجعفري وفي علي بن محمد بن حبيش الكاتب مراجعة.

(٢) «الوسائل» ٤ / ١٧٦ الحديث ٤٨٤٠.


وفيه : ـ بعد الاغماض عن السند (١) ـ أنّه لا دلالة فيها على ما نحن فيه ، إذ الظّاهر أنّ الحمرة المشكوك فيها هي المتردّدة بين كونها من شعاع الحمرة المغربيّة أو من نور الشمس ، فوق الأفق اللّائحة على ذروة الجبل على القول بكفاية استتار الشمس (٢) ، بحيث لا يبقى ضوؤها في الجبال والجدران ونحوهما ، وحينئذ فلا ريب في وجوب الاحتياط لأجل استصحاب عدم الغروب.

وإن شئت فقل : لأجل اشتغال الذّمة الثّابتة بصلاة المغرب على الظّاهر ، لصحّة إطلاق اشتغال الذّمة حينئذ. فإنّ الظّاهر من حال المكلّف الصّحيح السّالف المشرف بالوقت الشّاك في تحقّقه كونه مكلّفا بالفعل ، فيصحّ أن يقال : لو فعل الصلاة حينئذ فلا يبرئ ذمّته ، ويبقى شغل ذمّته مستصحبا. وقد عرفت أنّ التمسّك بالأصل لا يجوز في مثله ، وقد ذكرنا في بحث الأمر مع علم الآمر بفقد الشّرط ما يوضّح هذا المطلب.

سلّمنا ، لكنّها لا تدلّ إلّا على الاستحباب كما لا يخفى على من لاحظ الاسلوب.

ومنها : ما رواه الشيخ رحمه‌الله (٣) عن عليّ بن السّندي عن صفوان عن عبد الرحمن

__________________

(١) ربما لسليمان بن داود فإنّه ليس بالمتحقّق بنا ، ولم يذكره الشيخ في الرجال ، وهذا غريب ، ونقل العلّامة عن ابن الغضائري تضعيفه ، والمجلسي في «الوجيزة» قال بضعفه ، ولا يبعد أن يكون الشاذكوني لقبا له ولأبيه ، وقد ذهب السيد الخوئي الى وثاقته بعد ما وثّقاه النّجاشي وعلي بن ابراهيم.

(٢) من غير حاجة الى زوال الحمرة المشرقية.

(٣) في «التهذيب» ٥ / ٥١٧ الحديث ١٦٣١ ، ورواه في «الوسائل» ١٣ / ٤٦ الحديث ١٧٢٠١ بسند آخر عن محمد بن يعقوب مثله إلّا ان فيه فقال : لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد».


بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أم على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال عليه‌السلام : «لا ، بل عليهما جميعا ويجزي كلّ واحد منهما الصّيد». فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه.

فقال : «اذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا».

وفيه : بعد سلامة السّند ـ (١) أنّ ذلك لا ينافي العمل بالأصل إذ هو مشروط باليأس عن الدّليل عند مظنّته ، وهو موقوف على التتبّع التامّ ، كما سنذكره. فكما أنّ الآن لا يمكننا الحكم بأصل البراءة حتّى نتفحّص عن الأدلّة ، فكذلك أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، إذ هم أيضا كثيرا ما ظهر لهم أنّ للشيء حكما بالإجمال ولم يعرفوه بالتفصيل ، وعرفوا أنّهم مكلّفون بالسّؤال والتحصيل ، سيّما فيما ورد أحكامهم في نوعه ، مثل مسألة جزاء الصيد ونحوه ، وقد عرفت ما يبيّن هذا المقصد في مبحث الاستقصاء في الفحص عن المخصّص. ويظهر من ذلك المبحث بطلان قول من لا يوجب الفحص مطلقا.

وأمّا ما قيل في الجواب : من أنّ ذلك ممّا ثبت فيه اشتغال الذّمة بشيء مجمل له فردان ، والمطلوب فرد واحد معيّن عند الشّارع مبهم عند المخاطب ، وذلك ممّا لا خلاف في وجوب الإتيان بما يحصل اليقين ببراءة الذمّة ، فقد عرفت بطلانه بما لا مزيد عليه (٢). ودعوى عدم الخلاف مع ما عرفت كلام المحقق رحمه‌الله ونقله

__________________

(١) حسن كالصّحيح.

(٢) فقد علم بأنّ شرط التّكليف العلم التّفصيلي ، وانّ التّكليف بالشّيء المعيّن عند الشّارع المبهم عند المكلّف لا يصحّ.


الأقوال الثلاثة كما ترى.

ومنها : ما رواه ابن أبي جمهور في «عوالي اللئالي» (١) عن العلّامة رحمه‌الله مرفوعا الى زرارة «قال : سألت الباقر عليه الصلاة والسلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النادر. فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان. فقال عليه‌السلام : انظر الى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. فقلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : إذن فخذ فيه بالحائط لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر».

وفيه : ـ بعد تسليم السّند ـ أنّه معارض بأقوى منه ممّا دلّ على التخيير (٢) أو براءة الذّمة عن التكليف من جهة التساقط والرّجوع الى الأصل كما سيجيء في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

بل ، ببعض الأخبار [أخبار] التوقّف الدّالة على الأخذ بأحدهما من باب التسليم أيضا (٣) ، غاية الأمر تعارض تلك الأخبار الواردة في العلاج وتساقطهما ، فيرجع الى

__________________

(١) ٤ / ١٣٣ الحديث ٢٢٩.

(٢) وذلك قبل إعمال النّظر في المرجّحات كما هو في الأخبار.

(٣) لما كان يتوهم أنّ أخبار التّوقف موافقة لأخبار الاحتياط ومؤيّدة لها ، وانّ المتوقفين ـ


أصل البراءة أيضا ، فالأولى حمل الرّواية ـ مثل نظائرها ـ على الاستحباب.

وقد يؤيّد ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي ابراهيم عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرّجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟

فقال عليه‌السلام : لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر النّاس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك.

فقلت : بأيّ الجهالتين يعذر ، بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟

فقال عليه‌السلام : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله حرّم عليه ذلك ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها.

فقلت : فهو في الأخرى معذور؟

قال : نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها». الحديث.

فظهر من الرّواية جواز ترك الاحتياط مع إمكان أن يحصل العلم بأنّها في العدّة ، وأنّ الاحتياط أحسن كما يشعر به كلمة : أهون (٢).

__________________

ـ هم القائلون بالاحتياط كما لا يخفى على من راجع الأقوال المنسوبة الى الأخباريين أشار المصنّف بكلمة التّرقي الى أنّ خبر «الغوالي» كما انّه معارض بما دلّ على التخيير أو البراءة كذلك معارض أيضا ببعض أخبار التّوقف كالمروي في «الكافي» عن سماعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتى يلقاه من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه ، وفي رواية أخرى بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك. انتهى كلام «الكافي» كما عن الملا محمد تقي الهروي.

(١) الكافى ٥ / ٤٣١ باب ٢٧٣ الحديث ٣ كما في «الوسائل» ج ٢٠ / ٤٥١ الحديث ٢٦٠٦٨.

(٢) وكذا في «الوافية» ص ١٩٣.


تنبيه

لا إشكال في جواز إعمال أصل البراءة قبل الشّرع ، سيّما في الأشياء النّافعة الخالية عن المضرّة ، بل العقل يحكم بالإباحة لما مرّ.

وأمّا بعد بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعث الشّريعة ، فلا ريب أنّ المكلّفين يرون كثيرا من المنافع التي لم تبلغ عقولهم الى مضارّها منهيّة عنها ، وكثيرا من الأمور التي لم تبلغ عقولهم الى منافعها وحصول الضّرر في تركها مأمورا بها ، ففيما لم تبلغهم حقيقة الأمر من جهة عدم كونهم مجاورين في خدمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستمرّين في صحبته يتردّدون في كون ذلك باقيا على حاله الأوّل أو ورد فيه حكم ، فلا يحكم العقل حينئذ بالإباحة جزما ، لخوف الضّرر إلّا بعد الفحص والسّؤال. ثمّ إذا لم يبلغهم شيء بعد ذلك ، فيحكم أيضا بالإباحة والبراءة ، ثمّ تستمرّ هذه السّجيّة الى زمان الغيبة ، بل يصير ذلك فيها أظهر (١) ، فلا يجوز العمل بالأصل من دون فحص لذلك (٢). ولأنّه (٣) يوجب انطواء باب الشّرع في غير الضّروريّات لو بني الأمر

__________________

(١) يصير الفحص والبعث والسّؤال في زمن غيبته عليه‌السلام أظهر من زمن ظهوره ، لأنّ أسباب الخلط والاختلال والاشتباه فيه كثير ، بل نقول إنّ العلم الإجمالي باختلاف الأدلة إنمّا حصل في زمن الغيبة دون زمن الحضور ، فمقتضى الفحص في زماننا موجود دون زمن الحضور.

(٢) اي لخوف الضّرر.

(٣) اي عدم لزوم الفحص يوجب نفي الشّرع لأنّ كثيرا من الأحكام الشرعية غير ضرورية وربما يعتبر البعض أكثرها لإجمالها فلا تفيد شيئا ، فلو بني على أصالة البراءة والإباحة لم يبق في الشّرع الشّريف أكثر الأحكام ، هذا دليل آخر للزوم الفحص عند العمل إلّا انّه لا يخفى عليك أنّ هذا الدّليل لا يدل على لزوم الفحص في كل مسألة ، بل يدل على مقدار من المسائل بحيث لو لم تفحص للزم نفي الشّرع.


عليه ، ولم يثبت لإعمال أصل البراءة شرط غير ذلك.

ولكنّ بعض المتأخّرين (١) ذكر هنا لجواز العمل بأصل البراءة وأصالة النّفي وأصالة عدم تقدّم الحادث شروطا ثلاثة ، ونحن نذكرها محرّرا كلامه عمّا لا يحتاج إليه ، و [أو] لا يمكن توجيهه ، ونطوّل الكلام بدفعه.

الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل مثبتا لحكم الشرعي [شرعي] من جهة أخرى ، مثل أن يقال في الإناءين المشتبهين ، أو الثّوبين المشتبهين الأصل عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما ، فإنّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ، أو يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك كرّيته : الأصل عدم بلوغه كرّا ، فإنّه يوجب الاجتناب عنه ، أو يقال في الكرّ التدريجيّ الحصول الملاقي للنجاسة : الأصل عدم تقدّم حصول الكرّية ، فإنّه يوجب الحكم بالنجاسة.

الثاني : أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم ، مثل ما لو فتح إنسان قفصا لطائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابّته ، فالتمسّك بالأصل (٢) يوجب تضرّر المالك ، ويمكن أن يندرج تحت قاعدة الإتلاف الموجب للضمان ، أو يكون المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار». ما يشمل ما نحن فيه ، فلا بدّ للمفتي التوقّف ، ولصاحب الواقعة الصّلح.

الثالث : أن لا يكون ذلك الأمر جزء عبادة مركّبة (٣) ، بل المثبت لتلك الأجزاء

__________________

(١) وهو الفاضل التوفي في «الوافية» ص ١٩٣.

(٢) فالتّمسك بأصالة عدم ضمان الفاتح والحابس والمتمسّك يوجب ضرر المالك.

(٣) أي لا يكون ذلك الأمر الذي يريد أن ينفى بالأصل جزء عبادة لو ثبت جزئيّته ، لأنّ المثبت لتلك الأجزاء الموجودة هو النص لا بالأصل ، هذا مفاد عبارته كما نقل عنه في باب الصّحيح والأعم.


هو النصّ ، وفي الكلّ نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ العقل يحكم بجواز التمسّك بأصل البراءة إذا لم يثبت دليل على شيء. فإذا فرض كون الاستدلال به موجبا لشغل الذمّة من جهة أخرى ، فلا وجه لمنعه ، لأنّ ذلك (١) دليل أيضا ، وليس ذلك إثبات الحكم من غير دليل. مثلا : إذا شكّ في اشتغال ذمّته بدين عظيم ، وكان له مال يستطيع به الحجّ لولاه ، فالتمسّك بأصالة البراءة عن ذلك الدّين يوجب إيجاب الحجّ عليه ، وذلك غير مخالف لعقل ولا نقل ، بل هو موافق لهما.

وأمّا ما ذكره من الأمثلة التي أوجبت وقوعه في هذا التوهّم ، فكلّها غير منطبقة على مدّعاه.

أمّا الأوّل (٢) : فلأنّ الدّليل قام على وجوب اجتنابهما من النصّ والإجماع ، ولذلك لا يصحّ التمسّك بالأصل.

وأمّا ما لا دليل عليه بالخصوص كالدّرهم الحرام في دراهم محصورة ، فلا دليل على وجوب اجتناب الجميع ، ويمكن جريان الأصل فيه ولا مانع من استلزامه الحكم بوجوب الاجتناب عن الباقي ، سيّما مع ملاحظة الأخبار الواردة فيه كما تقدّم.

__________________

(١) أي كون الأصل دليلا ، فهذا ليس إثبات الحكم من غير دليل.

(٢) إنّ مسألة الإناءين المشتبهين في شبهة محصورة لا ريب في وجوب اجتنابهما بالنصّ والإجماع ولذا يقول بوجوب اجتنابهما حتى من لا يذهب الى وجوب اجتناب الشّبهة المحصورة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف بأنّ أجري في أحدهما بعينه فهو معارض بالآخر ، وإن اجري بأحدهما لا يعينه فهو معارض بآخر لا بعينه ، فقول المصنّف : إنّ النصّ والاجماع أوجبا لعدم جريان الأصل لا أنّه مثبت لحكم شرعي لا يخفى ما فيه لما عرفت.


وأمّا الثاني : فالظّاهر أنّه فرضه فيما حصل الماء تدريجا ، وإلّا ، فقد يبقى ماء في الغدير بعد ما كان كثيرا غاية الكثرة ، فلا معنى للأصل هنا.

وحينئذ (١) نقول : إنّ التمسّك بأصالة عدم الكرّيّة صحيح ، ولا يوجب ذلك الحكم بوجوب الاجتناب عمّا لاقاه ، لمعارضته باستصحاب طهارة الماء وطهارة الملاقي (٢).

ولو فرض (٣) محلّ يستلزم حكما كما لو أردنا بذلك الماء تطهير نجس ، فلا مانع من استلزام التمسّك بأصالة عدم الكرّيّة فيه الحكم بعدم جواز التطهير منه كما أشرنا سابقا. كما أنّ التمسّك بأصالة طهارة الماء (٤) كما يوجب رفع وجوب الاجتناب عنه ، يثبت وجوب التّوضّؤ به ، فلا يجوز التيمّم.

وأمّا الثالث : ففيه (٥) : أنّ المراد بأصل عدم تقدّم الحادث ، التمسّك بالعدم

__________________

(١) أي وحين إذ كان مراده من المثال ما ذكرنا.

(٢) ولا يخفى عليك أيضا ، بأنّ هذه المعارضة موجودة في الدّرهم الحرام في دراهم محصورة.

(٣) اي لو فرض إجراء أصالة عدم الكريّة يستلزم حكما أي يكون له معارضا.

(٤) لا يخفى عليك بأن التمسّك بأصالة الطهارة أيضا لا يثبت وجوب التّوضؤ به لمعارضته بأصالة عدم رفع الحدث.

(٥) حاصل المراد أنّ الشك في تقدم الحادث وتأخّره قد يكون بالنّسبة الى نفس الحادث ، مثلا قد علمنا بنزول المطر ولكن نشك نحن بأنّ أوّل نزوله كان في يوم الخميس أو الجمعة ، فهنا نقول : بأنّ الأصل عدم تقدّمه عن يوم الجمعة ، ففي المثال نقول : الأصل عدم تقدّم الكريّة عن الزّمن الذي علم بكريّته التي نعلم تقدّم النجاسة عنه ، سواء كان الزّمن الذي علمنا فيه ظرف حصوله في الواقع أو ظرف العلم محال لا يوجب الحكم بالنجاسة في المثال ، وقد يكون بالنّسبة الى حادث آخر فحينئذ ـ


الأوّلي المعلوم بالنّسبة الى وجود ذلك الحادث بعينه ، فيقال : الأصل عدم تقدّم الحادث على الزّمان الذي علم بوجوده ، سواء كان ذلك الزّمان ظرف الحصول في الواقع ، أو ظرف العلم فقط.

وأمّا إذا لوحظ أحد الحادثين بالنّسبة الى الآخر ، فلا يمكن دعوى أصالة عدم تقدّم وجود أحدهما على الآخر ، فإنّ الحادثين المتحقّقين في الخارج اللّذين لم يعلم تقدّم أحدهما على الآخر ، فنسبة التقدّم والتأخّر في الوجود إليهما متساوية ، فلا يمكن التمسّك بأصالة عدم تقدّم أحدهما على الآخر ، وهذا هو الوجه في عدم الجواز.

نعم (١) ، يمكن أن يقال : إذا استعمل من ذلك الماء ثمّ علم بالنجاسة ، وشكّ في أنّ الكرّية مقدّمة أم وقوع النجاسة ، وأنّ الاستعمال هل كان بعد النجاسة أم قبله ، فيمكن أن يتمسّك بأصالة عدم تقدّم النجاسة على الاستعمال ، وذلك ليس لأصالة عدم تقدّم أحد الحادثين (٢) على الآخر ، بل لأنّ العلم بالنجاسة لمّا كان متأخّرا عن الاستعمال ، وأصالة العدم الملحوظ بالنّسبة الى النجاسة مستصحبة الى أنّ العلم بها ، فيظنّ بقاء عدم النجاسة الى حين حصول العلم والاستعمال ، أيضا قد

__________________

ـ يتعارض أصالة عدم تقدّم أحدهما على أصالة تقدّم الآخر وبعد هذه المعارضة لا يمكن لنا أن نتمسّك بأصالة عدم التقدّم ، فإنّ الوجه في عدم جواز التمسّك بأصالة النّفي والبراءة هو المعارضة لا كونه مثبتا لحكم شرعي. والكلام في جريان الأصل وعدم جريانه في هذه الأمثلة ليس إلّا بواسطة الدّليل.

(١) هذا استدراك من عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التقدّم.

(٢) وهما نجاسة الماء واستعماله.


فرض حصوله في زمان ظنّ بقاء عدم النجاسة ، وهذا لا غائلة فيه أصلا (١).

وأمّا الثاني : ففيه : أنّ نفي الضّرر من الأدلّة الشرعيّة المجمع عليها ، ولا فرق بينه وبين غيره ، وقد عرفت أنّه لا يجوز التمسّك بأصل البراءة مع ثبوت الدّليل ، بل قبل التفحّص عن الدّليل ، فإن ثبت الضّرر وتحقّق اندراج محلّ النزاع فيه ، فلا إشكال في عدم الجواز وإن ثبت عدمه ، فلا إشكال في الجواز.

وإن شكّ فيه ، فكذلك أيضا (٢) لعدم ثبوت الدّليل ، فلا محصّل لما ذكره ، والمشهور دخول أمثال ذلك (٣) تحت قاعدة الإتلاف لصدقه عليه عرفا.

وأمّا شمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» (٤) ، لذلك ، فهو موقوف على فهم فقه الحديث.

فنقول : لا ريب أنّه ليس باقيا على حقيقته يقينا ، لوجود الضّرر في الإسلام في غاية الكثرة (٥). فأمّا المراد من النّفي ، النّهي ، يعني يحرم الضّرر والضّرار ، أو المراد أنّ المنفيّ هو الضّرر الخالي عن الجبران ، فالقصاص ضرر ، لكنّه مع الجبران لمسبوقيّته بقتل النّفس عدوانا ، وكذلك مقاصّة الحقّ والغرامة عن الغاصب ، بل

__________________

(١) يعني أنّ التمسّك بأصالة عدم تقدّم النجاسة على الاستعمال ليس لأجل أصالة عدم تقدّم أحد الحادثين على الآخر فيكون فيه غائلة معارضة كل من الأصلين بالآخر كمّا مرّ ، بل لأجل أنّ العلم بالنجاسة لمّا كان متأخّرا عن الاستعمال والتمسّك بالأصل هذا لا غائلة فيه ، كما عن الملا محمد تقى الهروي.

(٢) أي جواز التمسّك بأصل البراءة في صورة الشّك في ثبوت الضّرر وعدم ثبوته.

(٣) أمثال الأمثلة التي ذكرها الشّارط.

(٤) «الوسائل» ١٨ / ٣٢ الحديث ٢٣٠٧٣ ـ ٢٣٠٧٥.

(٥) فإن كثيرا من التّكاليف قد يكون فيها ضرر ، فكيف يمكن أن يقال ببقاء النّفي على حقيقته وهي نفي الجنس أو الماهيّة.


يمكن أن يقال : إنّها ليست بضرر.

فإن قلنا : إنّ المراد به النّهي ، فلا دلالة فيها على الضّمان في المذكورات ، لأنّ غايته العقاب على تلك الأفعال.

أمّا الضّمان فيحتاج الى دليل آخر مثل قاعدة الإتلاف ، وأمّا على إبقائها على الحقيقة وتقيّدها بعدم الجبران ، فلا يدلّ على الضّمان أيضا ، لأنّ معنى الرّواية حينئذ : لم يجوّز الله للعباد ولم يشرّع لهم ضررا بغير جبران. فكلّ ما رخّص فيه الشّارع من أقسام الضّرر ، فهو مع الجبران ، ولا يستلزم ذلك أنّ كلّ ضرر حصل من فعل المكلّف. وإن لم يرخّصه الشّارع ، ففيه جبران فضلا عن قدر الجبران ، إذ ليس معنى الخبر حينئذ (١) : لا يبقى الضّرر الحاصل من المكلّف على أيّ نحو كان بلا جبران ، بل جعل الله لكل ضرر جبرانا وإن فعله المكلّف بدون إذن الشّارع ، وأنّ الجبران يتعلّق بمآل ضارّ [الضارّ] بمثل ما أضرّ ، أو نحو ذلك ، ففي كلتا الصّورتين (٢) يجوز إجراء أصل البراءة في عدم الضّمان ، بل وعدم التغرير أيضا. ويندرج في ثمرات المعنى الأوّل (٣) ، مثل ثبوت خيار الغبن ، فيقال : إلزام البيع وعدم ثبوت الخيار للبائع ، وعدم ردّ المشتري ضرر بالبائع ، ودفع هذا الضّرر يحصل بثبوت الخيار ، ولكن لا يجري ذلك (٤) في مثل الأمثلة المذكورة ، فيقال : يجب على المتلف الغرامة وإلّا لزم الضّرر وهو حرام للحديث ، فإنّ الضّرر قد

__________________

(١) أي حين قيد النّفي بعدم الجبران.

(٢) في صورة حمل النّفي على النّهي أو النفي لكن مع التّقييد.

(٣) المعنى الأوّل هو قوله : إنّ معنى الرّواية حينئذ لم يجوّز الله للعباد ولم يشرّع لهم ضررا بغير جبران.

(٤) الذي ذكرناه من المعنى الأوّل.


حصل ، وهذا عدم (١) تدارك الضّرر ، لا نفس الضّرر.

ويمكن أن يقال : (٢) يجب تداركه من بيت المال ، وإلّا لزم الضّرر فتعيين [فتعيّن] التدارك من مال المتلف يحتاج الى الرّجوع الى قاعدة الإتلاف ، وهو خروج (٣) عن الاستدلال بنفي الضّرر ، مع أنّ حكاية سمرة بن جندب المشتملة على هذا اللّفظ التي رواها الأصحاب ، لا تدلّ إلّا على تحريم الضّرر ، وسيجيء ذكرها.

نعم ، روى البزنطي في الصحيح عن حمّاد عن المعلّى [بن] الخنيس عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال : «من أضرّ بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن» (٤). وهو غير المدّعى.

وقال بعض الأفاضل في صورة كون الإضرار ظلما : الظّاهر مع ملاحظة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» ، الحكم بلزوم الجبران ، وإلزام المضارّ لما يحكم به أهل الخبرة ، ثمّ الصّلح أو إبراء المستضرّ تحصيلا ليقين البراءة (٥) ، لاحتمال الزّيادة بحسب الشّرع.

__________________

(١) عدم لزوم تدارك الغرامة.

(٢) في عدم الغرامة في الأمثلة المذكورة.

(٣) إذا الكلام في ثبوت موارد الضّرر وليس موارد قاعدة الإتلاف.

(٤) في «الوسائل» ٢٩ / ٢٤٠ الحديث ٣٥٥٤٠ ، ولكن ليس كما هو في اسناد المصنف وانّما هو عن محمد بن الحسن باسناده عن أحمد بن محمد عن علي بن النعمان عن أبي الصباح الكناني ، قال : قال ابو عبد الله عليه‌السلام : من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن. كما هو في «التهذيب» كتاب الديات ، باب ٨ الحديث ٣٤ و ٤٠ ، ورواه الصدوق في «الفقيه» ٤ / ١١٥ الحديث ٣٩٥ باسناده عن الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان مثله والكليني في «الكافي» ٧ / ٣٥٠ ح ٣٠٧.

(٥) راجع ما ذكره الفاضل التوني في «الوافية» ١٩٥.


وفيه : أنّه إن أراد استفادة ذلك من الرّواية ؛ فهو ممنوع كما ذكرنا (١).

وإن أراد من قاعدة الإتلاف ؛ فهو مع أنّه خروج عمّا نحن فيه ؛ لا وجه للزوم الصّلح وغيره مع الرّجوع الى أهل الخبرة ، لأنّه المحكم شرعا.

ثمّ إنّ ظاهر استدلال الفقهاء في كثير من المواضع يفيد أنّ المراد من الرّواية عدم إضرار الله تعالى بعباده أيضا ، كما يظهر من استدلالهم في إخراج المؤن في الزّكاة بنفي الضّرر ، وبخيار الغبن (٢) في البيع. فإنّ الله تعالى لو جعل البيع لازما حينئذ ، فيلزم منه إضرار عبده ، وهو من إضرار العبيد بعضهم بعضا أيضا (٣) وحينئذ فيكون معنى الرّواية : لم يرض لعباده بضرر ، لا من جانبه ولا من جانب بعضهم لبعض. وهذا معنى ثالث للرواية ، وهو الأظهر بالنّسبة الى الرّواية وبالنّسبة الى العقل وعمل الأصحاب ، وهو نظير (٤) استدلالهم بنفي العسر والحرج.

فإذا انجرّ الكلام الى هنا ، فلا بأس أن نشرح هذا المقام ونبيّن جليّة الحال ، فإنّ كلامهم خال عن بيانه ، ولم نقف في مقالاتهم [مقاماتهم] شيئا في توضيح هذا المقصد وتبيانه ، مع أنّه في غاية الإجمال ونهاية الإشكال.

فنقول : قد تداول العلماء الاستدلال بنفي العسر والحرج ونفي الضّرر في الموارد الكثيرة ، غاية الكثرة ، سواء كان الضّرر والحرج من جانب الله أو من جانب العبد. والآيات والأخبار الدالّة على نفي العسر والحرج كثيرة ، وبعضها

__________________

(١) من عدم دلالة الرّواية على لزوم الجبران.

(٢) وبخيار الغبن معطوف على قوله : في إخراج المؤن ، فقوله : فإنّ الله تعالى ... الخ بيان استدلالهم.

(٣) فإنّ لزوم البيع كما انّه من إضرار الله عبيده وكذلك يكون من إضرار العبيد بعضهم بعضا.

(٤) فإنّ الاستدلال بنفي الضّرر نظير الاستدلال بنفي الحرج.


صريح في العموم ، وأمّا خبر الضّرر فقد ذكر في «التذكرة» (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وعن طرق الخاصّة كثيرة ، أكثرها في حكاية سمرة بن جندب.

منها : ما رواه في «الكافي» (٢) و «التهذيب» (٣) في الموثّق لابن بكير عن زرارة عن الباقر عليه الصلاة والسلام قال : إنّ سمرة بن جندب كان له عذق (٤) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان ، وكان يمرّ به الى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فلمّا تأبى جاء الأنصاري الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبّره بقول الأنصاريّ وما شكا إليه ، وقال : إذا أردت الدّخول فاستأذن ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثّمن له ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : «لك بها عذق مذلّل في الجنّة» ، فأبى أن يقبل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاريّ : «اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار» (٥). وليس فيها قيد في

__________________

(١) «تذكرة الفقهاء» ٥ / ٢٩١.

(٢) ٥ / ٢٩٣ باب ٢ ح ١٨١.

(٣) ٧ / ١٧٤ ح ٦٥١.

(٤) العذق بالفتح ـ النّخلة بحملها ، وفي بعض النسخ وفي «الكافي» : «عذق يمدّ لك في الجنة».

(٥) الضّرار فعال من الضّر بمعنى لا يضر أحد الآخر فينقصه شيئا من حقه ، ولا هو يجازيه على إضراره بإدخال الضّرر عليه ، والضّرر فعل الواحد والضّرار فعل الاثنين أو الضّرر ابتداء الفعل ، والضّرار الجزاء عليه ، وقيل الضّرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت. وفي بعض النسخ «ولا إضرار» ولعلّه غلط كما في تصريح الطريحي في «مجمعه» ، وكذا ورد مع الألف في «من لا يحضره الفقيه» ٣ / ٤٥.


الإسلام (١).

وروى طلحة بن زيد عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال : «إنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم» (٢). وصحيحة البزنطي وقد تقدّمت.

ومعنى العسر والحرج هو المشقّة والشدّة والضيق. ومعنى الضّرر هو ما قابل الانتفاع ، وسيجيء الكلام في تفاوت معنى لفظي الضّرر والضّرار ، والعسر المنفيّ عن فعل الله تعالى ، مثل رخصة القعود في الصلاة والإفطار في الصوم للمريض ، وعن أفعال العباد كتكليف الوالدين ولدهما بما يكون حرجا.

ثمّ إنّ تلك المذكورات إمّا ترد على التكاليف الثابت نوعها كما ذكر ، أو على نفس التكليف ، فينفيه رأسا ، كعدم نجاسة الحديد.

ثمّ إنّ هاهنا اشكالا من وجوه :

الأوّل : [أنّ] نفي المذكورات بعنوان العموم كيف يجتمع مع ما نشاهد من التكليف بالجهاد والحجّ والصّوم في الصّيف الحار ، والجهاد الأكبر الذي هو مجاهدة النفس وتخليتها عن الرّذائل وتحليتها بالفضائل ، ودفع الشّكوك والشّبهات ، والتولّي عن أديان الآباء والأمّهات؟

والثاني : هل للمذكورات حدّ ، أو موكول الى العرف واللّغة؟

والثالث : أنّها مثل أصل البراءة وأصل العدم وغيرهما ، فلا يعارض بها الدّليل أو هي من الأدلّة.

وعلى الثاني فهل يخصّص بها سائر الأدلّة ، أو يرجع الى المرجّحات ، لأنّ بينها

__________________

(١) عبارة : «وليس فيها قيد في الاسلام» ليست في المصدرين «التهذيب» و «الكافي».

(٢) «الكافي» : ٢ / ٦٦٦ ج ٢ ، و ٥ / ٢٩٢ ج ١ من الباب ١٨١.


تعارضا من وجه؟

والرابع : أنّا نرى بعض التكاليف لم يرض الشّارع فيها لنا بأدنى مشقّة ، كما يظهر من باب التيمّم ، وكذلك الكلام في الضّرر ، فإنّا نرى التكليف بالخمس والزّكاة وصرف المال في الحجّ وفي إنفاق الوالدين وغيرهما ، وكذلك الإشكال من سائر الوجوه.

فنقول : الذي يقتضيه النظر في مجامع الكلام وأطرافها بعد حصول القطع بأنّ التكاليف الشّاقة واردة في الشّريعة ، أنّ العسر والحرج والضّرر المنفيّات هي التي تزيد على ما هي لازمة لطبائع التكاليف الثابتة من حيث هي ، التي معيارها طاقة متعارف الأوساط من الناس الذين هم الأصحّاء الخالون عن المرض والعجز والعذر ، بل هي منتفية من الأصل إلّا فيما ثبت ، وبقدر ما ثبت ، وهو ما لا ينفكّ عنه عامّة النّاس ، سالمين عن الأمراض والأعراض.

فنقول : إنّ الله تعالى لا يريد بعباده العسر والحرج والضّرر إلّا ما حصل منه من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف أوساط [أوسط] النّاس ، وهم الأغلبون ، فالباقي منفيّ ، سواء لم يثبت أصله أصلا ، أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزّيادة.

ثمّ إنّ ذلك النفي إمّا من جهة تنصيص الشّارع ، كالقصر والإتمام والإفطار والقعود والاضطجاع في الصلاة والتيمّم وأكل الميتة في الاضطرار والتقيّة وبيع البيض والبطّيخ ونحوهما قبل الاختبار وثبوت الخيارات في البيع وجواز تزويج المرأة من دون نظر ولا وصف دفعا لمشقّة الأقارب والمرأة للحياء ، وإمّا من جهة التعميم ، كجواز الاجتهاد في الجزئيّات كالقبلة والوقت ، أو الكلّيّات كالأحكام


الشرعيّة للعلماء.

وهذه المذكورات من باب الدّليل ، وإلّا فلا فائدة في الاستدلال بها.

فنقول : قاعدة لزوم البيع تعارض قاعدة الضّرر ، وبينهما عموم من وجه (١) ، ويحكم بالخيار ترجيحا للثاني من جهة العقل والعمل وغيرهما ، ولو كانت من باب الأصل لما عارضت الدّليل.

ثمّ إنّه يشكل الأمر في الإضرار لو استلزم نفيه تضرّر الغير ، سيّما إذا استلزم التصرّف في ملكه تضرّر الغير ، وصرّح بعضهم بجوازه حينئذ.

والأولى أن يقال : إنّه يجوز إذا لم يتضرّر الجار مع عدم تضرّر نفسه بتركه.

__________________

(١) في حاشية السيد علي القزويني : والتّحقيق أنّ هذه القاعدة كقاعدة نفي الحرج لا يعارضها سائر القواعد ولا أدلّة سائر الأحكام تكليفيّة أو وضعية إذا كانت بينها نسبة العموم من وجه حتى يرجع الى قواعد الترجيح كما زعمه ، وتبعه صاحب «العوائد» لحكومة هذه القاعدة عليها ، فإنّ دليلها وهو لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، بدلالته اللفظية متعرّض لبيان مقدار موضوعات سائر القواعد والأدلّة العامة وهو ما لا يترتب عليه ضرر ، ونحوه قاعدة الجرح. وقضية ذلك انتفاء التعارض عما بينهما ، لأنّ الدليل المحكوم عليه الذي بيّن مقدار موضوعه لا ينافي في الدليل الحاكم لكونه كالمفسّر له ، نظير ما لو قال في خطاب : أكرم العلماء ، وفي آخر : أضف الفقراء ، وفي ثالث : اخلع المرأة ، وهكذا ، ثم قال بخطاب عام آخر : إنّ موضوعات أحكامي العدول وهذا كما ترى بيان لمقدار موضوعات الخطابات المذكورة لا أنّ مدلوله ينافي مداليلها ، كما هو معنى التعارض المعروف بتنافي مدلولي الدّليلين ، وهذا هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم عليه ، لا أنّه يرجّح عليه لمرجّح داخلي أو خارجي ، لأنّ الترجيح فرع على التعارض وقد عرفت انتفائه مع الحكومة ، وإنّما لا يحكم القاعدة على أدلة التكليف الضررية كالأمثلة المتقدمة ، لعدم قبول موضوعاتها التفصيل والتقسيم الى مورد الضّرر وغير مورد الضّرر.


وأمّا مع تضرّر نفسه بتركه ، فهو أولى بعدم الضّرر.

والحديث يحكم بنفي الضّرر مطلقا ، فلا بدّ من الاكتفاء بأقل الضّررين إذا دار الأمر بينهما وأرجحهما اختيارا ، فلم يظهر وجوب دفع الضّرر عن الجار مع تضرّر نفسه. فلاحظ الرّوايات الواردة في حكاية سمرة فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد الجمع بين الحقّين بأن يستأذن سمرة في الدّخول أو يبيع نخلته بأعلى القيم أو نحو ذلك ، فلم يرض ، فحكم بقطعها ورميها. فإنّ تصرّف سمرة كان في ملكه ولكن بحيث يتضرّر الأنصاريّ ، فظهر أنّ التصرّف في ملكه مع تضرّر الجار إذا أمكن دفعه بحيث لا يتضرّر نفسه ، حرام منفيّ.

نعم ، لو قصد الإضرار فهو حرام مطلقا ، وهو غير ما نحن فيه ، وهو أحد محتملات حكاية سمرة كما يظهر من رواية أبي عبيدة. ففي آخرها قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ، اذهب يا فلان فاقطعها (١) واضرب بها وجهه» (٢).

ولكن سائر الأخبار مطلقة لا يمكن حملها على ذلك ، للإطلاق (٣) ، وظاهر اتّفاقهم على العموم.

بقي الكلام في معنى الضّرر والضّرار. قال ابن الأثير (٤) معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ضرر ولا ضرار : أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه. والضّرار فعال ، من الضّرّ ، أي لا يجازيه [بجازية] على إضراره بإدخال الضّرر عليه. والضّرر فعل الواحد ، والضّرار فعل الاثنين ، والضّرر ابتداء الفعل ، والضّرار الجزاء عليه.

__________________

(١) وفي نسخة «الوسائل» فاقلعها.

(٢) «من لا يحضره الفقيه» ٣ / ١٠٣ ح ٣٤٢٣ ، «الوسائل» ٢٥ / ٤٣٧ ح ٣٢٢٧٩.

(٣) فالإطلاق جاء في مقام البيان ، فبعد ذلك لا يمكن حمله على المقيّد.

(٤) كما عن «النهاية في غريب الحديث والأثر» ٣ / ٨١.


وقيل : الضّرر ما تضرّر به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضّرار أن تضرّه من غير أن تنتفع به.

وقيل : هما بمعنى واحد ، وتكرارهما للتأكيد. انتهى.

وقيل : الضّرر هو الإسم ، والضّرار المصدر ، فيكون منهيّا عن الفعل الذي هو المصدر وعن إيصال الضّرر الذي هو الإسم.

ولا يذهب عليك أنّ حرمة الضّرار على المعنى الأوّل لا يستلزم حرمة المقاصّة ، مع أنّه لا يعدّ ضررا ، مع أنّ الحرام هو المضارّة من حيث هي (١).

وأمّا الثالث : فقد ظهر ما فيه ممّا مرّ هنا وما أسلفناه في أوائل الكتاب ، وما ذكره من إثباته من النصّ ، فلا وجه له إذ ورود النصّ في كون الشّيء جزء عبادة لا يدلّ على انتفاء غيره.

وأمّا ما ورد في بيان العبادات ، كصحيحة حمّاد ، وبعض الأخبار الواردة في بيان الوضوء ، فهي أيضا لا تتمّ لعدم دلالتها على أكثر الواجبات ، وعدم تمييز الواجب من المستحبّ فيها ، وكذلك سائر الاشتباهات التي ليس هنا مقام ذكرها ، لا يخفى على من لاحظها ، فانحصر إتمام الماهيّة بضميمة الأصل.

__________________

(١) اي من حيث المضارة لا من حيث المقاصة.


قانون

استصحاب (١) الحال : وهو كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السّابق مشكوك البقاء في الآن اللّاحق. والمراد من المشكوك أعمّ من المتساوي الطرفين ليشمل المظنون البقاء وغيره ، وإن كان مراد القوم من الشّك هنا هو الاحتمال المرجوح في الواقع [الرافع] لأنّ بناءهم (٢) في الحجّية على حصول الظنّ.

ونحن إنّما عمّمنا الشّك لأنّا لا ننقض اليقين إلّا بيقين مثله ، بسبب الأخبار الآتية ، فلا يضرّنا تساوي الطرفين ، بل كون البقاء مرجوحا أيضا.

فالاستصحاب عندنا قد يستند في حجّيته الى الظنّ الحاصل من جهة اليقين

__________________

(١) من باب استفعال ، مأخوذ من استصحب القوم اي رافقهم يقال كما في «تاج العروس» ٢ / ١٤٠ : استصحبه : دعاه الى الصّحبة ولازمه ، وكل ما لازم شيئا فقد استصحبه ، انظر «تهذيب اللغة» ٤ / ١٥٤ ، و «معجم مقاييس اللغة» ٣ / ٣٣٥ ، و «لسان العرب» ١ / ٥٢٠ واستصحبت الكتاب وغيره حملته صحبتي ، ومن هنا قيل استصحبت الحال إذا تمسّكت بما كان ثابتا ، كأنّك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة راجع «المصباح المنير» ٣٣٣ و «مجمع البحرين» ٢ / ٩٩.

(٢) إنّ القائلين بحجيّة الاستصحاب من باب الظّن كقدماء الأصحاب لا يعتبرون الظنّ الشخصي في الاستصحاب ، بل اعتمادهم على الظنّ النّوعي ، نعم حكي عن الشيخ البهائى وصاحب «الدروس» اعتبار الظنّ الشّخصي والمعروف هو الأوّل فحينئذ الشك اللّاحق الذي هو معتبر في الاستصحاب على هذا الرّأي أعم من أن يكون مساوي الطرفين أو مظنون البقاء ومرجوح البقاء ، ومع وجود الظّن النّوعي على خلافه ، فلا معنى لإسناد المصنّف إليهم بكون تساوي الطّرفين أو مرجوح البقاء يضرّهم.


السّابق ، وقد يستند في حجّيته الى الأخبار ، وهو لا يستلزم حصول الظنّ إلّا أن يدّعى أنّ الأخبار أيضا مبتنية على الاعتماد بالظنّ الحاصل من الوجود السّابق ، وهو مشكل (١).

واعلم أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا حصل فيه الاحتمال ، فما علم استمراره أو عدم استمراره ، فليس باستصحاب ، ولا فرق في ذلك بين الموقّت وغير الموقّت ، ولا بين الأحكام الطلبيّة والوضعيّة.

وما قيل (٢) : بعدم جريانه في الأحكام الطلبيّة لأنّها إمّا أمر أو نهي وكلّ منهما موقّت أو غير موقّت. وعلى التقديرين (٣) إمّا أن يقال بدلالتهما على التكرار أو لا ، وكذلك الفور وعدمه ، ولا معنى للاستصحاب في شيء منها ، لأنّ ما يفعل في الوقت فهو بحسب الأمر ، وما يفعل خارج الوقت فهو بفرض جديد ، وفي غير الموقّت ، فإن قيل بالتّكرار ، فهو من مقتضى التّكرار ، وإن لم يقل فهو من مقتضى الامتثال اللّازم للطبيعة بعد حصول الاشتغال بها المستلزم لوجوب إبراء الذمّة ، فهو من غرائب الكلام ، إذ الشّك قد يحصل في التكليف في الموقّت ، كمن شكّ في وجوب إتمام الصّوم لو حصل له المرض في أثناء النهار ، مع شكّه في أنّه هل يبيح له الفطر أم لا ، وكذلك في صورة الدّلالة على التكرار وغيره ، وهو واضح.

__________________

(١) اي كون الأخبار مبنية على الاعتماد بالظنّ بالوجود السّابق.

(٢) والقائل هو الفاضل التوني في «الوافية» ص ٢٠١.

(٣) في الحاشية للهروي : «لا يخفى أنّ التّقادير على ما ذكره أربعة ، ومراده بالتّقديرين هما الأمر والنّهي الغير الموقتين بقرينة قوله : وفي غير الموقتين فإن قيل بالتّكرار ... الخ.


ثمّ إنّ الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة على ما ذكره المتوهّم (١) ، لا يجري فيما كان من قبيل المؤقّت كالحيض ، والتأبيد ، والدّوام كالزّلزلة ، ويجري في بعض المطلقات ، كالتغيير بالنّجاسة الذي هو سبب لتنجيس الكرّ ، والطهارة التي هو شرط لجواز المضيّ في الصلاة.

وأنت خبير بأنّ الكلام في الأوّل يظهر جوابه ممّا ذكرنا سابقا لإمكان حصول الشّك فيها والاحتياج الى التمسّك بالاستصحاب.

وأمّا الأخير فالجريان فيه واضح ، وهو إمّا بإجرائه في نفس السّبب ، كما لو شكّ في بقاء التغيير ؛ كما لو مزج للتغيّر جسم طاهر له لون ، أو في مسبّبه.

والمسبّب إمّا هو الحالة الحاصلة من النجاسة المغيّرة ، وإمّا الحكم الشرعيّ الذي هو وجوب الاجتناب عنه ، وقس عليه حال الطهارة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب يجري في الأحكام الطلبيّة والتخييريّة الابتدائية والوضعيّة وما يستتبعها من الأحكام الطلبيّة اللّازمة لها.

ثمّ إنّ الاستصحاب ينقسم على أقسام كثيرة ، فتارة من جهة الحال السّابق أنّه الوجود أو العدم ، وأنّه ما ثبت من الشّرع أو العقل أو الحسّ ، وأنّ ما ثبت من الشّرع وضعيّ أو غيره ، وهل ثبت بالإجماع (٢) أو غيره من الأدلّة.

وتارة من جهة المزيل ، فقد يكون المزيل ثابتا ، بمعنى إنّا نعلم أنّ له مزيلا في

__________________

(١) يمكن مقصوده الفاضل التوني.

(٢) فقد يثبت بالإجماع وقد يثبت بغيره ، وقد فرّق بينهما الغزالي في «المستصفى» ١ / ١٩٧.


نفس الأمر من شأنه إزالته ، وهو قد يكون (١) ماهيّته معلوم [معلومة] لنا ، ولكن قد وقع الشّك في حصوله. وقد يكون معلوما ويحصل الشّك في صدقه على الشيء الحاصل ، وقد لا يكون لنا معلوما أصلا ويشكّ في حصوله أو في صدقه على شيء حاصل ، وقد لا يكون ثابتا (٢) ، بل نشكّ في أنّ الشّيء الفلانيّ هل هو مزيل أم لا ، وسيجيء أمثلتها.

وتارة من جهة حصول الحكم السّابق ، فقد يثبت الحكم في الجملة (٣) ولا يعلم شيء من الاستمرار وعدم الاستمرار أصلا ، وقد يثبت الحكم مع الاستمرار في الجملة ، وقد يثبت الحكم مع الاستمرار المقيّد الى غاية معيّنة.

واختلف كلام القوم في حجّيته وعدمها في المقامات الثلاث (٤).

قال العضدي (٥) : معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلانيّ قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء.

وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته إيّاه.

__________________

(١) اي المزيل الذي ثبت في نفس الأمر وشكّ في وجوده.

(٢) هذا عطف على قوله : وقد يكون ثابتا.

(٣) وهذا القسم يرجع الى الشك في المقتضى.

(٤) من جهة الحال السّابق ، ومن جهة المزيل ، ومن جهة حصول الحكم السّابق.

(٥) وكما في «شرح مختصر الأصول» ٢ / ٤٥٣ ، وكذا قال ابو الحسين في «المعتمد» : ٢ / ٣٢٥ ، ذهب قوم من أهل الظّاهر وغيرهم الى الاحتجاج بذلك. وذكر الآمدي في «الإحكام» ٢ / ٣٦٧ : قد اختلف فيه ، فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلّمين كأبي الحسين البصري وغيره الى بطلانه ، ومن هؤلاء من جوّز التّرجيح به لا غير ، وذهب جماعة من أصحاب الشّافعي كالمزني والصّيرفي والغزالي وغيرهم من المحقّقين الى صحة الاحتجاج به وهو المختار.


فأكثر المحقّقين كالمزنيّ (١) والصّيرفيّ (٢) والغزاليّ (٣) ، على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه (٤) ، فلا يثبت به (٥) حكم شرعيّ.

ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا كما يقال فيما اختلف في كونه نصابا : لم يكن الزّكاة واجبة عليه والأصل بقاؤه ، أو حكما شرعيّا مثل قول الشافعيّة في الخارج من غير السبيلين : إنّه كان قبل خروج الخارج

__________________

(١) اسماعيل بن يحيى بن اسماعيل ، ابو ابراهيم المزني (١٧٥ ـ ٢٦٤) نسبته الى مزينة (من مضر) صاحب الامام الشافعي من اهل مصر وإمام الشافعيين ، قال الشافعي فيه : المزني ناصر مذهبي ، وقال في قوّة حجته : لو ناظر الشيطان لغلبه. من كتبه «الجامع الكبير» و «الجامع الصغير» و «المختصر» و «الترغيب في العلم» راجع «وفيات الأعيان» ١ / ٧١ ، «فقه الشافعية» ص ٢٥٧.

(٢) محمد بن عبد الله الصّيرفي ، أبو بكر (... ـ ٣٣٠ ه‍) من أئمّة اصول الفقه والمتكلّمين الفقهاء من الشافعية ، من أهل بغداد قال القفال الشاشي : كان الصيرفي من أعلم الناس بالأصول بعد الامام الشافعي ، وقال الإسنوى : كان إماما في الفقه والاصول ، واثنى عليه ابن السبكي ، له مصنفات منها : «شرح رسالة الشافعي ـ في اصول الفقه» و «البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام» في أصول الفقه ، أيضا.

ومن آرائه الأصولية القول بوجوب شكر المنعم ، وقد وقعت بينه وبين الأشعري مناظرة في هذا الشّأن ذكرها ابن السّبكي.

توفي لثمان بقين من شهر ربيع الآخر ، وقيل توفي بمصر في شهر رجب راجع «طبقات الشافعية الكبرى» ٢ / ١٤١ ، «طبقات الإسنوى» ص ٢٥٦ ، «طبقات الفقهاء» ص ١٢٠ ، «العقد المذهب» ص ٤٩.

(٣) راجع «المستصفى» ١ / ١٩٧.

(٤) وكذا في «المحصول» للرّازي ٤ / ١٤٣٥ ، و «الزبدة» للبهائي ص ١٠٦ ، و «التهذيب» للحلي ص ٢٩٣ ، و «العدة» للشيخ ٢ / ٧٥٦.

(٥) أي غير حال الشّرع من الموضوعات الخارجية لا حال العقل.


متطهّرا ، والأصل البقاء حتّى يحصل معارض ، والأصل عدمه ، الى آخر ما ذكره.

ويظهر منه أنّ من قال بالحجّية لم يفرّق بين استصحاب حال الشّرع وغيره (١) ، والنّفي الأصليّ الذي ذكره أعمّ من البراءة الأصليّة التي يسمّى استصحابها استصحاب حال العقل ، بل يمكن إدراج استصحاب البقاء لا يتمّ إلّا باعتبار استصحاب عدم المزيل ، فليتأمّل.

ولكنّ المحقّق الخوانساري رحمه‌الله (٢) في «شرح الدروس» (٣) في مبحث الاستنجاء بالأحجار قال : وهو ينقسم الى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه الى شرعيّ وغيره ، ومثّل للأوّل (٤) بنجاسة ثوب أو بدن ، وللثاني برطوبته.

ثمّ قال : وذهب بعضهم الى حجّيته بقسميه ، وبعضهم الى حجّية القسم الأوّل فقط.

أقول : ويدخل في غير الشرعيّ جميع ما يتعلّق بالحكم وغيره ، مثل مطلق أصالة العدم التي هو أصل في كلّ حادث ، بل ممكن.

ومنها عدم نقل اللّفظ عن المعنى اللّغوي ، وعدم تعدّد الوضع ، وعدم التغيير في الماء المتلوّن ، وعدم التذكية في الجلد المطروح. ومثل أصالة بقاء المعنى (٥) اللّغوي على حاله ، وأصالة بقاء المفقود ، وهو يستلزم كون مثل أصالة عدم النقل

__________________

(١) هذا التفريع على مذهب الحنفيّة.

(٢) استدرك عمّا ذكره العضدي.

(٣) «مشارق الشموس» ١ / ٧٦.

(٤) مراده انّ الحكم الشرعي عبارة عن الأحكام الشرعية الجزئية لا الكلية.

(٥) في نسخة الأصل (معنى).


وأصالة بقاء المعنى اللّغوي أيضا خلافيّا.

وبعضهم فرّق في استصحاب حال الشّرع بين ما ثبت بالإجماع أو بغيره ، فنفى الأوّل دون الثاني كالغزاليّ (١).

وذهب المحقّق الخوانساري الى منع حجّية الاستصحاب بالمعنى المشهور ، يعنى إثبات حكم في زمان ، لوجوده في زمان سابق عليه ، بكلا قسميه اللّذين نقلناهما عنه.

ثمّ قال : نعم ، الظّاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعيّ على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ، ثابت الى حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلا ، معيّن في الواقع ، بلا اشتراطه بشيء أصلا (٢).

فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره الى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بمجرّد الشّك في وجوده.

واستدلّ عليه أوّلا : (٣) إذا كان أمر أو نهي بفعل الى غاية مثلا ، فعند الشّك بحدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور ، لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال والخروج عن العهدة ، فلا بدّ من بقاء ذلك التكليف حال الشّك أيضا وهو المطلوب.

وثانيا : بالرّوايات الآتية.

__________________

(١) في «المستصفى» ١ / ١٩٧.

(٢) وقد صرّح في بعض كلماته عدم اشتراطه بعلم المكلّف ، بأن يكلّف بشيء معلوم عنده وغير معلوم عند المخاطب ، فإنّ مثل هذا التكليف غير قبيح بعد أن كان للمكلّف طريق الى امتثاله ولو بالأخذ بالاحتياط.

(٣) وحاصل هذا انّ قاعدة الاشتغال تدلّ على حجيّة الاستصحاب.


ثمّ قال : فإن قلت : هذا كما يدلّ على حجّية ما ذكرت كذلك يدلّ على حجّية ما ذكره القوم ، لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فينبغي أن لا ينقض في زمان آخر بالشّك ، نظرا الى الرّواية ، وهو بعينه ما ذكروه.

قلت : الظّاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشّك ، أنّه عند التّعارض لا ينقض به.

والمراد بالتّعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشّك ، وفيما ذكروه ليس كذلك ، لأنّ اليقين يحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض شكّ ، وهو ظاهر.

ثمّ قال : فإن قلت : هل الشّك في كون الشّيء مزيلا للحكم مع اليقين بوجوده كالشّك في وجود المزيل أو لا؟

قلت : فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدّليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ الى غاية معيّنة في الواقع ، ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر أم لا ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشّك. وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل إنّما ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ، ومزيله الشّيء الفلانيّ ، وشككنا في أنّ الشّيء الآخر أيضا مزيله أم لا ، فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره. انتهى.

فظهر ممّا ذكره (١) المخالفة في المقامين الأخيرين.

وقال المحقّق السّبزواري في «الذّخيرة» بعد نقل الاستدلال على نجاسة الماء

__________________

(١) قد مرّ ان الاستصحاب على مقامات ، ففي مقام الأوّل قد ظهر الخلاف من العضدي ، وامّا المقامان الآخران فقد ذكرهما المصنّف بقوله : وتارة ... وتارة ... ، قد ظهر منه المخالفة ، امّا المقام الثاني بقوله : وفيه تفصيل ، وأمّا الثالث بقوله : نعم ، الظاهر ... الخ.


الكرّ الذي سلب الإطلاق عنه بعد ممازجته بالمضاف النجس : بأنّ الماء المضاف قبل امتزاجه بالكرّ كان نجسا فيستصحب فيه الحكم المذكور الى أن يثبت الرّفع ، لأنّ اليقين لا ينقض إلّا باليقين ، وإذا ثبت نجاسته بعد الامتزاج ، يلزمه منه نجاسة الجميع ، لأنّ الكرّ المفروض بعد سلب اسم الإطلاق عنه ينفعل بذلك المضاف الممتزج به.

ويرد عليه : (١) أنّ التّحقيق أنّ استمرار الحكم تابع لدلالة الدّليل على الحكم ، فإذا دلّ الدّليل على الاستمرار كان ثابتا وإلّا فلا. وهاهنا [فهاهنا] لمّا دلّ الإجماع على استمرار النجاسة في الماء المضاف النجس الى زمان ملاقاته مع الماء الكثير ، حكمنا به ، وبعد الملاقاة ، فالحكم مختلف فيه (٢) ، فإثبات الاستمرار يحتاج الى دليل.

لا يقال : قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : (٣) «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّك أبدا ولكن تنقضه بيقين آخر» (٤) ، يدلّ على استمرار أحكام اليقين بيقين آخر ما لم يثبت الرّافع ، لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعيّ الذي تعلّق به اليقين إمّا أن يكون مستمرّا ، بمعنى أنّ له دليلا دالّا على الاستمرار بظاهره

__________________

(١) على الاستدلال المشهور ، وهو مقول لقول المحقّق السّبزواري المذكور.

(٢) فقيل بثبوت النجاسة ، وقالوا بعدم ثبوتها فلا يكون الحكم إجماعيّا.

(٣) «التهذيب» ١ / ٤٤٦ ، باب ٢١ / ٨ المياه وأحكامها ، ح ١٣٣٥ ، و «الاستبصار» ١ / ١٨٤ ح ٦٤١ ، أو باب ١٠٩ ح ١٣.

(٤) ليس في الرّواية المذكورة عبارة «ولكن تنقضه بيقين آخر» نعم يمكن أن تكون في مثل رواية أخرى ، كما في «الكافي» ٣ / ٣٥١ في باب السّهو في الثلاث والأربع ح ٣ وهي عن زرارة أيضا.


أم لا. وعلى الأوّل فالشّك في رفعه على أقسام :

الأوّل : إذا ثبت أنّ الشّيء الفلانيّ رافع للحكم ، لكن وقع الشّك في وجود الرّافع.

والثاني : أنّ الشّيء الفلانيّ رافع للحكم ، لكن معناه مجمل ، فوقع الشّك في كون بعض الأشياء هل هو فرد له أو لا.

والثالث : أنّ معناه معلوم وليس بمجمل ، لكن وقع الشّك في اتّصاف بعض الأشياء به ، وكونه فردا له لعارض كتوقّفه على اعتبار متعذّر وغير ذلك.

الرابع : وقع الشّك في كون الشّيء الفلانيّ هل هو رافع للحكم المذكور أم لا. والخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن النّقض بالشّك ، وإنّما يعقل ذلك في الصّورة الأولى من تلك الصّور الأربعة دون غيرها من الصّور ، لأنّ في غيرها من الصّور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي يشك في كونه رافعا ، لم يكن النّقض بالشّك ، بل إنّما حصل النّقض باليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا ، أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه لا بالشّك ، فإنّ الشّك في تلك الصّور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنّما حصل النّقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ، لأنّ الشّيء إنّما يستند الى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصّور نقض للحكم اليقينيّ بالشّك ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة غيرها ، فلا عموم في الخبر ... الى آخر ما ذكره. وهو أيضا يدلّ على أنّه لا يجوز العمل بالاستصحاب إلّا في بعض الصّور الذي هو ما علم الرّافع ولكن الشّك في وجوده. ويظهر منه رحمه‌الله في غير هذا المواضع نفي حجّية الاستصحاب في الأمور الخارجيّة مطلقا.


فحاصل الأقوال رجع الى ثمانية : الأوّل : الحجّية مطلقا (١).

الثاني : عدمها مطلقا (٢).

الثالث : الحجّية في نفس الحكم الشرعيّ دون الأمور الخارجيّة (٣).

الرابع : العكس.

الخامس : الحجّية في نفس الحكم الشرعيّ إذا ثبت بغير الإجماع.

السادس : الحجّية فيه إذا كان وضعيّا دون غيره (٤).

السابع : الحجّية فيه إذا كان مستمرّا الى غاية معيّنة وحصل الشّك في حصول الغاية(٥).

الثامن : الحجّية فيه إذا كان الشّك في حصول الرّافع المعلوم الرّافعيّة لا غير (٦).

والأظهر هو القول بالحجّية مطلقا كما هو ظاهر أكثر المتأخّرين.

لنا : وجوه من الأدلّة.

__________________

(١) وهو المشهور أو قل الأكثر عنه فقهائنا رحمه‌الله راجع «التمهيد» ص ٣٧١ قاعدة ٩٦ ، «الوافية» ص ٢١٨ ، «المعالم» ص ٥٢٣ ، «الزبدة» ص ١٠٦ ، رسالة الاستصحاب من «الرسائل الأصولية» ص ٤٢٤ للوحيد البهبهاني.

(٢) كما في «الوافية» ص ٢٠٣ ، و «الحدائق الناضرة» ١ / ٥٢ ، وغيرهما.

(٣) وقد حكاه بعض المعاصرين كما نقل في «الفصول» ص ٣٦٧.

(٤) كما وقد أحصاها الوحيد في «فوائده» ص ٢٧٥ ، و «رسائله ـ رسالة الاستصحاب» ص ٤٢٤ ، وصاحب «الفصول» ص ٣٦٧ ، بل وصل بها الى اثني عشر قولا.

(٥) ذهب إليه الفاضل الخوانساري في «شرح الدروس» ١ / ٧٦ في مبحث الاستنجاء بالأخبار.

(٦) ذهب اليه الفاضل السّبزواري في «الذخيرة» ص ١١٦ في بيان حكم الكرّ المسلوب اطلاقه بممازجة المضاف المتنجس.


الأوّل

إنّ الوجدان السّليم يحكم بأنّ ما تحقّق وجوده أو عدمه في حال أو في وقت ولم يحصل الظنّ بطروّ عارض يرفعه ، فهو مظنون البقاء ، وعلى هذا الظنّ بناء العالم وأساس عيش بني آدم من الاشتغال بالحرث والتجارة ، وبناء الدّار والبستان ، وإرسال المكاتب الى الأمكنة البعيدة ، والمسافرة الى الجزائر ، والبلاد الواقعة في السّواحل ، والقراض (١) ، وغير ذلك ممّا يرتكبه العقلاء والأزكياء ، من دون لزوم سفه أو منقصة عليهم.

وهذا الظنّ ليس من محض الحصول في الآن السّابق (٢) ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، بل لأنّا إذا فتّشنا من الأمور الخارجيّة من الأعدام

__________________

(١) القراض في كلام أهل الحجاز المضاربة ، ومنه حديث الزهري : لا تصلح مقارضة من طعمته الحرام ، يعني القراض كما في «لسان العرب» قال الزّمخشري : أصلها من القرض في الأرض وهو قطعها بالسّير فيها ، وكذلك هي المضاربة أيضا من الضّرب في الأرض.

(٢) وقد وافق في ذلك السيد صدر الدين فقال بعد دعوى رجحان البقاء : إنّ الرّجحان لا بد له من موجب ، لأنّ وجود كل معلول يدل على وجود علّة له إجمالا وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القار أن يستمر وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاص للإلحاق بالأعم الغالب ، هذا إذا لم يكن رجحان الدّوام مؤيّدا بعادة أو أمارة وإلّا فيقوى بهما ، وقس على الوجود حال العدم إذا كان يقينا ، انتهى ، وكلامه قدس‌سره في تتميم الدّليل يتضمّن دعويين : إحداهما قضاء الوجدان بحصول ظنّ البقاء في موارد الاستصحاب ، وأخراهما كون منشئه الغلبة وكلّ محل بحث. هذا كما أفاد السيد علي القزويني في حاشية.


والموجودات ، وجدناها باقية مستمرّة بوجودها الأوّل غالبا على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ، فنحكم فيما لم نعلم بحاله بما وجدناها في الغالب إلحاقا بالأعمّ الأغلب.

ثمّ إنّ كلّ نوع من أنواع الممكنات يلاحظ فيه زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب فيه أفراد ذلك النوع. فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ، والاستعداد الحاصل للإنسان يقتضي مقدارا منه ، وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات مقدارا آخر ، ولدود القزّ ، والبقّ ، والذّباب مقدارا آخر (١) ، وكذا للرطوبة في الصيف والشتاء ، وهكذا.

فهنا مرحلتان :

الأولى : إثبات الاستمرار في الجملة.

والثانية : إثبات مقدار الاستمرار.

ففيما جهل حاله من الممكنات القارّة ، يثبت ظنّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات ، مع قطع النّظر عن تفاوت أنواعها ، وظنّ (٢) مقدار خاصّ من الاستمرار بملاحظة حال النّوع الذي هو من جملتها.

فالحكم الشرعيّ مثلا نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة مطلق الممكن ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة مطلق الأحكام الصّادرة عن الموالي الى العبيد [العبد] ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعيّة ، فإذا أردنا

__________________

(١) تأمّل دقة المصنّف في الأمثلة التي عرضها ، فقد رتبها وبدأ بأطولها بقاء ثم الأقصر فالاقصر وهكذا.

(٢) عطف على يثبت ظنّ الاستمرار في الجملة أي ويثبت ظنّ مقدار ... الخ.


التكلّم في استصحاب الحكم الشّرعيّ فنأخذ الظنّ الذي ادّعيناه من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعيّة ، لأنّه الأنسب به والأقرب إليه ، وإن أمكن ذلك بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد أيضا.

ثمّ إنّ الظنّ الحاصل من جهة الغلبة في الأحكام الشرعيّة. محصّله : إنّا نرى أغلب الأحكام الشرعيّة مستمرّة بسبب دليلها الأوّل ، بمعنى أنّه ليس أحكامه آنيّة مختصّة بآن الصّدور ، بل يفهم من حاله من جهة أمر خارجيّ عن الدّليل ، أنّه يريد استمرار ذلك الحكم الأوّل ، من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ، وإذا رأينا منه في مواضع غير عديدة أنّه اكتفى حين إبداء الحكم بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه ، ثمّ علمنا أنّ مراده كان من الأمر الأوّل الاستمرار ، فنحكم فيما لم يظهر مراده من الاستمرار وعدمه بالاستمرار ، ونقول : إنّ مراده هنا أيضا من الأمر ؛ الاستمرار إلحاقا بالأغلب ، فقد حصل الظنّ بالدّليل ، وهو قول الشّارع بالاستمرار ، وكذلك الكلام في موضوعات [الموضوعات] الأحكام (١) من الأمور الخارجيّة ، فإنّ غلبة البقاء يورث الظنّ القويّ ببقاء ما هو مجهول الحال ، ولمّا لم يكن وجود الممكن إلّا بوجود علّته التامّة فيعلم أنّ غالب الموجودات المستمرّة (٢) علّتها موجودة إمّا بكون علّة الوجود هي علّة البقاء على حسب معتاد المعلولات ، أو بتجدّد العلّة للبقاء ، بل يمكن أن يقال ذلك (٣) في الحكم

__________________

(١) فإن هذا الحكم ليس مختصا فقط بالأحكام الشرعية ، بل يجري في موضوعات الأحكام أيضا.

(٢) صفة لغالب الموجودات لا لقوله : الموجودات ، وإلّا لم يكن لقوله : غالب فائدة ، بل يكون مضمرا ، فتأمّل ، هذا كما في الحاشية.

(٣) أي عدم إمكان وجود الممكن إلّا بوجود علّته ، إمّا أن يكون علّة الوجود ، بل علّة ـ


الشرعيّ أيضا ، فإنّه كما يمكن أن يكون علّة البقاء هو الأمر الأوّل وكان القرائن الخارجيّة كاشفة عنه (١) ، يمكن أن يكون علّة الاستمرار شيئا آخر ، وهو نفس القرائن الخارجيّة من تنصيص آخر أو إجماع على الاستمرار ونحو ذلك.

والحاصل ، أنّ العمدة هو إثبات الظنّ بالبقاء في كلّ ما ثبت ، وقد أثبتناه من الضّرورة والوجدان ، ومنكره مكابر.

ولا يهمّنا إثبات السّبب الباعث على الظنّ وإن كان الظّاهر أنّه هو الغلبة على حسب تفاوت العادة المستندة (٢) حصولها إلى علل لتلك الأفراد الحاصلة ، وإنّما اللّائق بالبحث إثبات حجّية هذا الظنّ نظرا الى أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا ما خرج بالدّليل ، وقد بيّنا سابقا في مباحث الأخبار حجّية ظنّ المجتهد مطلقا إلّا ما أخرجه الدّليل ، وأنّ هذا الأصل غير مسلّم ، فإنّ دليله إن كان هو الإجماع فهو فيما نحن فيه ممنوع ، إذ هو أوّل الكلام ، وإن كان ظواهر الآيات والأخبار ، فإن كان دليل حجّية تلك الظّواهر ؛ الآيات ، فحجّيتها فيما نحن فيه أوّل الكلام ، وإن كان غيره ، فإن كان هو دعوى القطع بسبب تواترها ، ففيه : أنّ غايته تواتر معنى اللّفظ (٣) في الجملة لا عموما ، إذ دعوى القطع بالمعنى كليّة فيما نحن فيه ممنوع ،

__________________

ـ البقاء أو تتجدّد العلّة للبقاء ، كما في الحاشية.

(١) فإنّ السّبب الباعث على ظنّ البقاء في مورد الاستصحاب في الأحكام يمكن أن يكون هو الغلبة ويمكن أن يكون القرائن الخارجية ، فعلى هذا يكون الاستصحاب من باب الشّرع لا العقل.

(٢) صفة العادة ، وفي بعض النسخ المستند بلا تاء التأنيث فحينئذ التّذكير باعتبار متعلّقها وهو الحصول ، كما عن الحاشية.

(٣) تواترا معنويّا فلا دلالة على العموم.


وإن كان دعوى الظنّ والظّهور ، فأيّ دليل على حجّيته إلّا حجّية ظنّ المجتهد وهو موجود فيما نحن فيه ، وفيما ذكرنا ثمّة غنية عن الإعادة فراجعها.

وأمّا ما استدلّ به الآخرون من أنّ ما ثبت دام (١) ، فهو كلام (٢) خال عن التحصيل.

وغاية توجيهه ما ذكره المحقّق رحمه‌الله (٣) قال : المقتضي للحكم الأوّل ثابت فيثبت الحكم ، والعارض لا يصلح رافعا له ، فيجب الحكم بثبوته في الثاني.

أمّا أنّ مقتضى الحكم الأوّل ثابت فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير.

وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا له ، فلأنّ العارض إنّما هو احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه فيكون كلّ منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثّابت سليما من رافع (٤).

وأنت خبير بما فيه ، إذا المقتضي للحكم الأوّل إن سلّم كونه مقتضيا حتّى في الأوان اللّاحقة ، فلا معنى للاستصحاب ، بل هو محض النصّ ، وإن فرض كونه مقتضيا في الآن الأوّل فقط ، فلا معنى لاقتضائه في غيره ، وإن أخذ كونه مقتضيا في الجملة ، فتساوي احتمال وجود الرّافع وعدمه وتساقطهما لا ينفع في إثبات الحكم في الأوان اللّاحقة من جهة المقتضي ، بل عدم المقتضي حينئذ هو مقتضى العدم كما مرّ إليه الإشارة.

__________________

(١) ونقل مثله في «المعارج» ص ٢٠٦ ، و «المعالم» ص ٥٢١.

(٢) لما كنت قد عرفته بأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم.

(٣) الحلّي في «المعارج» ص ٢٠٦.

(٤) الى هنا ينتهي كلام المحقق رحمه‌الله.


الثاني

الأخبار المستفيضة عن أئمّتنا عليهم‌السلام الدّالة على حجّيته عموما ، مثل صحيحة زرارة (١) عن الباقر عليه الصلاة والسلام. قال : قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب ، والأذن ، فإذا نامت العين ، والأذن ، والقلب ، وجب الوضوء.

قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به. قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وألّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشّك وإنّما تنقضه بيقين آخر».

واليقين والشّك في الحديث محمولان على العموم (٢) ، أمّا على ما اخترناه في محلّه ، من كون المفرد المحلّى باللّام حقيقة في تعريف الجنس وجواز تعليق الأحكام بالطبائع فواضح ، لعدم انفكاك الطبيعة عن الأفراد.

وأمّا على القول بالاشتراك أو عدم تعلّق الأحكام بالطبائع ، فعدم القرينة على الفرد الخاص المعيّن واستلزام إرادة فرد ما الإغراء بالجهل يعيّن الحمل على الاستغراق.

ولا يرد عليه (٣) حينئذ أنّه يصير من باب رفع الإيجاب الكلّيّ لوقوعه في حيّز

__________________

(١) كما في «الوسائل» ١ / ٢٤٧ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٢) وفرضه من هذا الكلام اثبات حجية الاستصحاب مطلقا لا خصوص اثبات استصحاب الطهارة فقط كما ظن بعض.

(٣) دفعا لما يمكن أن يقال : بأنّ اليقين والشّك لو كانا مفيدين للعموم فمجيئهما عقيب ـ


النّفي ، لأنّه بعيد عن اللّفظ ، وينفيه التّأكيد بقوله : أبدا ، فيصير ذلك من باب : (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(١). مع أنّ كون قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشّك» ، في قوّة الكبرى الكليّة (٢) لإثبات المطلوب ، يعيّن ذلك أيضا. وجعل الكبرى منزّلة على إرادة يقين الوضوء ، بعيد لإشعار قوله عليه‌السلام : فإنّه على يقين من وضوئه. على ذلك فيكون الكبرى حينئذ بمنزلة التكرار.

ومن ذلك يظهر أنّ القول بأنّ سبق حكاية يقين الوضوء يمكن أن يصير قرينة للعهد فيحمل عليه أيضا بعيد ، سيّما مع ملاحظة أنّ المعهود هو الشّخص لا نوع يقين الوضوء إلّا أن يرتكب فيه نوع استخدام ، وهو خلاف الظّاهر.

والحاصل ، أنّه لا يحسن الإشكال في العموم في اليقين ، وكذلك لفظ الشّك لأنّه تابع لليقين ، والمفهوم من الكلام أنّ موضعهما واحد.

هذا ولمّا كان من البديهيّات الأوّليّة عدم اجتماع اليقين والشّك في شيء واحد ، بل ولا الظنّ والشّك (٣) أيضا ، فلا يمكن حمل اللّفظ على ظاهره.

فمعنى عدم جواز نقض اليقين بالشّك ، عدم جواز نقض حكم اليقين ، فما كان

__________________

ـ النّفي ، يفيدان نفي العموم لا عموم النّفي ، وحينئذ مفاد ذلك السّالبة الجزئية ، فلا يفيد حجّية الاستصحاب مطلقا. فيجيب عن هذا انّه بعيد عن اللّفظ إذ الظّاهر من اللفظ عموم النّفي لا نفي العموم ، وينفي هذا الاحتمال قوله : أبدا ... الخ. فحينئذ مفاده كمفاد (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) في إفادة عموم النّفي.

(١) لقمان : ١٨.

(٢) بمعنى أنّ اليقين بالوضوء والعلم به ، وليس شيء من اليقين يجوز نقضه بشك ، فإذا ليس حكم اليقين بالوضوء مما يجوز نقضه بالشّك.

(٣) قال في الحاشية منه رحمه‌الله : فيه تعريض الى الشهيد في «الذكرى» حيث قال : إنّ مآله الى اجتماع الظنّ والشّك.


حكم الوضوء في حال تيقّنه وهو جواز الدّخول في الصلاة مثلا ، لا يجوز نقضه بالشّك في الوضوء.

ثمّ [إنّك] إذا تأمّلت في فقه الحديث ، تعلم أنّ نظر الإمام عليه‌السلام على نفي تحقّق النّوم في الخارج ليس أقلّ من نظره الى إثبات الطّهارة ، وتوجّهه عليه‌السلام الى بيان ما به يتحقّق النّوم وغلبته باستيلائه على القلب والأذن دون العين فقط ، يفيد أنّه عليه‌السلام اعتبر اليقين في الأمور الخارجيّة أيضا ، وإن كان من أسباب الأمور الشرعيّة ، فلا وجه للقول بتخصيص دلالة الحديث باستصحاب الأحكام الشرعيّة دون الخارجيّة ، لأنّ ذلك إنّما هو شأنهم ، ومن قبيل حصول النّوم في الخارج حصول الجفاف والرّطوبة وأمثال ذلك ممّا يتعلّق بها الأحكام الشرعيّة.

وأمّا ما ذكره المحقّق الخوانساري رحمه‌الله (١) : من أنّ الرّواية لا تدلّ إلّا على ما ثبت استمراره الى غاية من جهة الشّرع ، تمسّكا بأنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشّك هو عدم النقض عند التّعارض ، ومعنى التّعارض هو أن يكون الشّيء موجبا لليقين لو لا الشّك.

فقد أورد عليه : بأنّه كذلك في استصحاب القوم أيضا ، يعني ما لم يثبت الاستمرار الى غاية أيضا ، سواء ثبت الاستمرار في الجملة أو ثبت الحكم على الإطلاق ، إذ المفروض أنّ الكلام ليس فيما كان مقيّدا بوقت أو ما اختصّ ثبوته بآن ، فإنّ الشّك لو فرض عدم عروضه في الزّمان الذي عرض فيه أو عند الحال التي فرض عروضه عندها حينئذ ، لكنّا قاطعين بالبقاء أيضا ، لأنّ عدم العروض إنّما يكون عند القطع بأنّ جزء من أجزاء علّة الوجود لم يرتفع ، ومع عدم ارتفاعه

__________________

(١) فإنّ إيراده على الاستعمال أيضا هو إيراد على كليّة كبراه.


يحصل اليقين بوجود المعلول ، لأنّ بقاء المعلول إنّما هو ببقاء العلّة التامّة ، وزواله إنّما هو بعدمها.

وحاصل هذا الإيراد ، هو استدلال آنيّ على أنّ علّة الوجود في هذا المعلول هو علّة البقاء الى آن حصول الشّك. يعني يظهر من فرض انتفاء الشّك أنّ العلّة الموجدة هي المبقية ، فلا يرد الاعتراض على الإيراد بأنّ انتفاء الشّك إنّما يستلزم ثبوت اليقين لو ثبت أنّ علّة الوجود في الآن الأوّل هو علّة الوجود في الآن الثاني أيضا. فكما أنّ انتفاء الشّك في الصّورة التي فرضها المستدلّ ، يوجب اليقين بالحكم بسبب الاستمرار المنصوص عليه من الشّارع ، فكذلك فيما ذكره القوم ، انتفاء الشّك يوجب اليقين بالحكم ، ضرورة عدم الواسطة بين الشّك واليقين بالحكم السّابق.

فإنّ المراد هنا (١) من الشّك ما ينافي اليقين السّابق وهو أعمّ من الظنّ ، والقطع بانتفاء الحكم السّابق أيضا ليس كلامنا فيه حتّى يقال : إنّه إذا انتفى الشّك فقد يثبت اليقين بالوجود وقد يثبت اليقين بالعدم ، بل الكلام إنّما هو في ثبوت الحكم السّابق والشّك في زواله ، بحيث لولاه لثبت الحكم السّابق مع الفراق من انتفاء احتمال القطع بالعدم.

والحاصل ، أنّ المراد بالشّك هنا احتمال زوال الحكم السّابق ، لا مجرّد التردّد بين الاحتمالين ، فإذا انتفى هذا الاحتمال ، لا يبقى إلّا اليقين السّابق مع أنّ ذلك يضرّ المستدلّ أيضا ، فإنّ الشّك فيما فرضه على هذا التقدير إذا فرض انتفاؤه

__________________

(١) وهنا بيان لعدم وجود واسطة بين اليقين والشّك ، وأنّ المراد من الشّك هو احتمال زوال اليقين فيشمل الظّن بعدم البقاء.


فلا يثبت استصحابه ، لاحتمال تحقّقه في ضمن القطع بعدم الحكم السّابق ، لا بانسحابه.

لا يقال : إنّ الشّك قد يوجبه نفس الدّخول في الوقت الثاني ، وفرض عدمه إنّما هو بفرض عدم الوقت الثاني ، وهو لا يثبت إلّا اليقين في الآن الأوّل ، فلم يتّحد مورد الشّك واليقين ، بخلاف ما ذكره المستدلّ ، فإنّه إذا فرض انتفاء الشّك فيثبت اليقين في محلّه من جهة نصّ الشّارع على الاستمرار ، لأنّا نقول : مع أنّ هذا الفرض نادر الوقوع سيّما في الأحكام الشرعيّة المفروض عدم ملاحظة اعتبار الآن الأوّل ، ولا عدم اعتبار الآن الثاني ، غاية الأمر حصول اليقين في الآن الأوّل لا بشرط الآن الأوّل ، فالقدر المتحقّق إنّما هو ثبوته في ظرف الخارج ، وانتفاء الشّك يحصل مع ملاحظة عدم اعتبار ثانويّة الآن الثاني ، ولا يحتاج الى اعتبار عدم الآن الثاني حتّى ينتقل الى الآن الأوّل.

ويفيد اليقين في الآن الأوّل مع أنّه يرد النّقض فيما لو فرض فيما فرضه المستدلّ أيضا أن يصير الآن المتأخّر سببا للشّكّ في ثبوت الاستمرار المنصوص عليه الى غاية معيّنة ، هل هو ثابت فيه أو ينحصر في الآنات المتقدّمة عليه حرفا بحرف.

والحاصل ، أنّ ما ذكره في معنى الحديث أنّه لا ينقض اليقين المفروض في زمان الشّك الذي لو لا الشّك لكان ثابتا بالشّك ، وهو مع أنّه يجري في استصحاب القوم ليس بأولى من أن يقال : المراد بالحديث : لا ينقض حكم اليقين الثّابت سابقا بسبب الشّك كما أشرنا ، بل هذا أولى وأظهر ، وهو المتبادر من الحديث.

وأمّا قوله رحمه‌الله في جملة ما نقلنا عنه سابقا (١) : قلت فيه تفصيل ، فمرجعه ليس الى القول بعدم التفرقة بين الصّورتين ، وأنّ الفرق إنّما يتحقّق بثبوت الاستمرار الى

__________________

(١) في الصفحة ٧٦ من هذا الكتاب ، والقول هو قول المحقّق الخوانساري.


غاية وعدمه كما اختاره أوّلا كما قد يتوهّم ، بل التفصيل في الصورة الأولى (١) ، والفرق بين الشّك في كون الشّيء فردا من أفراد المزيل ، مع العلم بكونه ماهيّة واحدة ، والشّك في تعدّد ماهيّة المزيل ، ولم يتعرّض لبيان عدم الفرق ، وسنبيّنه.

وأمّا ما ذكره المحقّق السبزواري رحمه‌الله من الفرق بين الأقسام المذكورة في كلامه ، وهو أيضا لا يرجع الى محصّل ، فلتذكر [فلنذكر] أوّلا أمثلة للصّور المذكورة ، ثمّ نتعرّض لإبطال الفرق.

فمثال الأوّل : استمرار علاقة الزّوجيّة مع الشّك في ثبوت موت الزّوج ، واستمرار نجاسة البدن والثوب مع الشّك في الغسل.

ومثال الثاني : استمرار الطهارة الى زمان الحدث مع الشّك في كون المذي حدثا إذا حصل المذي ، من جهة تعارض الأدلّة واستمرار نجاسة البدن والثوب الى زمان التطهير بالماء ، مع غسله بماء السّيل المشكوك في كونه ماء.

ومثال الثالث : كلّ شيء مجهول الحال ، الذي فيه حلال وحرام ، فهو حلال حتّى تعرف أنّه حرام. فإنّ الحلال والحرام ماهيّتان معلومتان وأفرادهما الواقعيّة أيضا معلومة متعيّنة في متن الواقع ، بحيث لو علم أنّه مغصوب يقال : إنّه حرام ، ولو علم أنّه من المباحات الأصليّة المحازة من دون تعدّد يقال : إنّه حلال ، لكن بسبب الاختلاط والاشتباه الخارجيّين اللّذين أوجبا تعذّر المعرفة ، لا يعلم أنّ هذا الشّخص الموجود المجهول الحال ، فرد من أيّ الصّنفين ومتّصف بأيّهما (٢).

__________________

(١) وهي الشّك في أنّ كون الشيء مزيلا.

(٢) والمثال الذي قد ذكره المصنّف لا يعرف أنّ المستصحب أي شيء ، نعم يعرف منه أنّ فرد الحلال والحرام قد يختلطا ويشتبها ، وحينئذ يتعذر المعرفة بحالهما ، وقد مثّل ـ


ومثال الرّابع : الشّك في كون استحالة الكلب بالملح إذا وقع في المملحة ، مطهّرا.

وأقول : إنّ دلالة الخبر على الأقسام الأربعة واضحة ، ولا اختصاص له بالصّورة الأولى ، فإنّ كلّ ذلك من موارد نقض اليقين بالشّك.

قوله : بل إنّما حصل النّقض باليقين بوجود ما يشكّ ... الخ.

فيه : أنّ المتبادر من الخبر ، أنّ موضع الشّك واليقين وموردهما شيء واحد ، فاليقين بوجود المذي مثلا لم يرد على اليقين بالطهارة ، بل هما أمران متغايران ، فالشّك واليقين كلاهما لا بدّ أن يلاحظ بالنّسبة الى الطهارة ، فمراد من لا يفرّق بين الصّور أنّ وجود المذي بعنوان اليقين ، لمّا كان يستتبع الشّك بزوال الطهارة التي كانت يقينيّة ، فقد صدق تواردهما على موضوع واحد ، وهكذا غيره من الأمثلة.

قوله : فإنّ الشّك في تلك الصّور كان حاصلا من قبل ... الخ.

فيه : أنّ ما كان حاصلا من قبل هو الشّك في كون نوع هذا الشّيء دافعا لنوع ذلك الحكم.

وأمّا الشّك في رفع الحكم الخاصّ ، فإنّما حصل بشخص الشّك الحاصل من جهة يقين حصول هذا الشّيء الخاصّ ، فإنّ حصول ما هو مشكوك في كونه من الرّافعات ، مستلزم للشّك في رفع هذا الحكم الخاصّ بحصوله الخاصّ بعد الحكم الخاصّ ، وهذا

__________________

ـ صاحب «الفصول» بما لو شك المتطهر في كون الخارج منه بولا أو دما مع عدم إمكان التّميز بالمشاهدة ، وكالتّيمم بما يشك في كونه أرضا أو معدنا مع عدم إمكان التّميّز ، كما ذكر في «الفصول» ص ٣٧٢ وهو الأنسب في المقام ، هذا ولم أذكر عبارة مع إمكان المشاهدة أيضا التي هي لصاحب «الفصول» حتى ينطبق الكلام على ظاهر عبارة المحقق السّبزواري.


الشّك لم يكن من قبل ، فصدق أنّ اليقين انتقض بالشّك لا باليقين وهذا ظاهر.

وممّا ذكرنا (١) ، ظهر أنّ العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها هو الشّك المسبّب عن هذا اليقين لا نفس اليقين ، وصحيحة [وصحيحته] الأخرى وهي مذكورة في زيادات كتاب الطهارة من «التهذيب» وهي طويلة وفيها مواضع من الدّلالة ممّا يقرب من صحيحته المتقدّمة وصحيحته الأخرى أيضا ، وهي مذكورة في باب السّهو في الثلاث والأربع من «الكافي» (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشّك ولا يدخل الشّك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشّك باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشّك في حال من الحالات» (٣).

وما رواه الشيخ (٤) عن الصفّار عن عليّ بن محمد القاساني قال : كتبت إليه عليه‌السلام وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : «اليقين لا يدخل فيه الشّك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية».

__________________

(١) من مراد المحقّق السّبزواري من العلّة التّامة في غير الصّورة الأولى هو مجموع الشّك واليقين ، ومراده من الجزء الأخير هو اليقين بوجود ما يشك ، والمصنّف يقول : إنّ العلّة التامّة الخبر الأخير هو الشّك في المسبّب عن اليقين لا نفس اليقين.

(٢) ٣ / ٣٥٢ ح ٣.

(٣) وفي «الاستبصار» ج ١ في أبواب السّهو ٢١٦ ح ١٤١٧ ، و «التهذيب» باب ١٠ في أحكام السهو في الصلاة وما يجب إعادة الصلاة ح ٤١ ، «جامع أحاديث الشيعة» ٥ / ٦٦ في الخلل باب ٢٤ ح ٤.

(٤) في «التهذيب» ٤ / ٢١٤ ح ٢٨ ، «الوسائل» ١٠ / ٢٥٦ باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ح ١٣.


وما رواه العلّامة المجلسيّ رحمه‌الله في «البحار» (١) في باب من نسي أو شكّ في شيء من أفعال الوضوء عن «الخصال» (٢) عن أبيه عن سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن عيسى اليقطيني ، عن القاسم بن يحيى ، عن جدّه الحسن بن راشد ، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشّك لا ينقض اليقين».

وفي أواخر «الخصال» (٣) في حديث الأربعمائة عن الباقر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشّك لا ينقض اليقين».

وعن «البحار» (٤) أيضا أنّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال : «من كان على يقين فأصابه الشّك فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشّك».

ثمّ قال : أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة القدماء ، وإن لم يكن صحيحا بزعم المتأخرين ، واعتمد عليه الكليني وذكر أكثر أجزائه متفرّقة في أبواب «الكافي» ، وكذا غيره من أكابر المحدّثين. انتهى.

ولا يخفى أنّ ما ذكره مع اعتضادها بغيرها من الأخبار الصحيحة ، ودليل العقل يجعلها أقوى من الصّحيح ـ باصطلاح المتأخّرين ـ بكثير.

__________________

(١) ٧٧ / ٣٥٩ ح ٢.

(٢ ـ ٣) ص ٦١٩

(٤) ٢ / ٢٧٢ ح ٢ ، و «الإرشاد» ص ١٥٩ للشيخ المفيد.


الثالث

، فإنّها وإن كانت واردة في موارد خاصّة ، لكنّ استقراءها والتأمّل فيها يورث الظنّ القويّ بأنّ العلّة في تلك الأحكام هو الاعتماد على اليقين السّابق ، وهذا ليس من القياس في شيء ، بل في كلّ من الرّوايات إشعار بالعليّة لو لم نقل باستقلاله في الدلالة ، فلا أقلّ من أنّه يفيد ظنّا ضعيفا بها ، فإذا اجتمعت (١) الظّنون الضّعيفة فيقوى في غاية القوّة ، ويصدق عليه أنّه ظنّ حصل من كلام الشّارع لا من الترديد أو الدّوران ونحوهما ، وإن شئت جعلته من عموم ظنّ المجتهد الذي أثبتنا حجّيته.

والفرق بينه وبين الدّليل الأوّل أنّ المعتمد في الأوّل الظنّ الحاصل بسبب وجود الحكم في الآن السّابق ، وفيما نحن فيه الظنّ الحاصل من تلك الأخبار ، بأنّ العمل على مقتضى اليقين السّابق لازم وإن لم يكن مظنونا في نفسه ، وبينهما فرق بيّن. فمن الرّوايات قول الصادق عليه الصلاة والسلام في موثّقة عمّار (٢) : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر». وقوله عليه‌السلام أيضا (٣) بطرق متعدّدة : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

ووجه انطباقهما على الاستصحاب ظاهر إذا جعلنا المراد أنّ كلّ شيء أو كلّ ماء يحكم بطهارته حتّى يحصل العلم بإصابة ما يعلم أنّه نجس إيّاه ، مثل الشّك في

__________________

(١) في نسخة الأصل (اجتمع).

(٢) وكذا ذكره المصنّف في «جامع الشّتات» ٢ / ٤٧

(٣) «الوسائل» ١ / ١٣٣ ح ٣٢٣ وفيه : إلا ما علمت ، وفي «الوسائل» أيضا و ٢٧ / ١٧٤.


إصابة البول للثوب أو الماء.

وهناك معنيان آخران يمكن (١) حمل الرّوايتين عليهما ، نظير قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام». كما تقدّم الكلام فيه (٢).

فنقول على حملها على الشّبهة في الموضوع : إنّ الأشياء أو المياه بعضها متّصف في الخارج بالنجاسة الواقعيّة التي يعلم أنّ ملاقيها نجس ، وبعضها غير متّصف بها ولكن اشتبه حال فرد من الأفراد أنّه من أيّهما. فنقول : إنّ الشّيء المجهول الحال أو الماء المجهول الحال يحكم بأنّه طاهر واقعا من حيث إنّه مجهول الحال (٣) ، وظاهرا من حيث هو هذا الفرد حتّى يحصل العلم بأنّه هو الفرد النجس.

وعلى حملهما على الشّبهة في الحكم الشرعي ، فنقول : إنّ هذا الشّيء المشتبه الحكم في أنّه نجس أم لا ، مثل العصير العنبيّ بعد الغليان أو الجسم الملاقي له ، هل حكمه الشّرعيّ بالخصوص الطهارة أو النجاسة ، فهو طاهر حتّى تعلم أنّه قذر.

ومن هذا الباب ما استدلّ بعضهم (٤) على عدم تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بقوله عليه‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». وهذا المعنى أبعد المعاني الثلاثة من اللّفظ.

__________________

(١) فإنّ الرواية يمكن ان تنطبق على الاستصحاب ، والبعض قد يجعلها منطبقة على الشّبهة الموضوعية وعلى الشبهة الحكمية إلّا أنّ الأظهر حملها على الاستصحاب.

(٢) في أوائل القانون السّابق.

(٣) وهذا الكلام شبيه لكلام السيد في شرحه «للوافية» حيث قال فيه : إنّ الطهارة او الإباحة حكم واقعي للشيء من حيث إنّه غير معلوم الحكم ، وحكم ظاهري له من حيث إنّه شيء خاص ككونه هذا النوع من النبات او الحيوان ، ولعل حكمه الواقعي من حيث الخصوصية مخالف لحكمه الظّاهري.

(٤) كابن أبي عقيل كما نقل عنه في «المختلف» ص ١٧٧.


وتوضيح المقام : أنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر». يحتمل معاني ثلاثة :

الأوّل : كلّ جزئيّ حقيقيّ من الأشياء علم طهارته سابقا واقعا أو شرعا ، فهو محكوم بطهارته حتّى تعلم أنّه صار قذرا بملاقاة ما ينجّسه شرعا ، كما إذا شكّ عند ترشّش البول في إصابته الثوب (١).

والثاني : كلّ جزئيّ حقيقيّ لم يعلم أنّه هل هو من الأشياء التي اتّصفت بالنجاسة بسبب ملاقاتها للنجاسة أم من الأشياء الباقية على طهارتها ، فيحكم بكونه من الأشياء الباقية على الطهارة حتّى يعلم أنّه من الأشياء التي اتّصف بالنجاسة ، كما لو اشتبه الثّوب المتنجّس بالثّوب الطّاهر.

وكذلك الكلام فيما لو اشتبه الجزئيّ الطاهر المعيّن بنجس العين ، كالعذرة المتردّدة بين عذرة الإنسان وعذرة البقر (٢).

والثالث : كلّ مجهول الحكم بكلّيته ، وبشخصه جميعا ، المحتمل لأن يكون حكمه حكم الأعيان النّجسة بالذّات بكليّها كالكلب والعذرة ، أو حكم الأعيان الطّاهرة بالذّات بكليّها ، كالغنم والظبي ، وذلك مثل ابن آوى ، فهو طاهر حتّى تعلم أنّه نجس.

وكذلك المعاني الثلاثة في قوله عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٣).

والفرق بين المعنى الثالث والمعنيين الأوّلين لزوم اعتبار المفهوم الكلّي في ذلك

__________________

(١) فالشبهة في الحدوث.

(٢) الشبهة في الحادث.

(٣) فالشبهة في الحكم وفي الحادث أيضا.


الشّيء هنا ، إذ الجهالة لم تتعلّق بحكم الجزئيّ من حيث إنّه جزئي ، بل من حيث إنّه كلّيّ أو فرد لكلّيّ ، نظير قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». بخلاف الأوّلين.

وكذلك يعتبر هنا العلم بالنّجاسة من حيث الثّبوت من الدليل الشرعيّ على الوجه الكلّي ، خلاف السّابقين ، فإنّ العلم إنّما يحصل من الأمور الخارجيّة كالبيّنة والقرائن ، فهذا من جملة الشّبهة في الحكم ، والسّابقان من جملة الشّبهة في الموضوع.

إذا عرفت هذا ، وظهر لك الفرق بين المعاني ، عرفت أنّ المعاني متغايرة متباينة لا يجوز إرادتها جميعا في إطلاق واحد ، كما حقّقناه في أوائل الكتاب.

والقول بأنّ كلّ شيء عامّ قابل لإرادة الكلّي والجزئيّ ، وكذلك العلم يشمل العلم بالكلّي والجزئي ، فيصحّ إرادة معنى عامّ يندرج الكلّ فيه ، لا يصلح مع تفاوت إضافة الطهارة والقذارة الى الأشياء ، وكذلك سبب العلم.

ولا ريب أنّ كلام المعصوم عليه‌السلام منزّل على موارد حاجات المكلّفين (١).

وقد تختلف (٢) موارد الحاجات ، فقد يمكن أن يراد بسبب موضع الحاجة أنّ كلّ شيء طاهر ، طاهر باليقين السّابق حتّى تعلم من الخارج ملاقاته للنجاسة ، أو أنّ كلّ شيء مشتبه بين أمور طاهرة ونجسة فيحكم بأنّه من الأشياء الطاهرة حتّى تعلم من الخارج أنّه من الأشياء النجسة ، أو أنّ كلّ شيء يحتمل أن يكون حكمه

__________________

(١) فقد نزل بحسب موارد الحاجات للمكلّفين ، وليس مورد الحاجة إلّا أحد هذه الموارد فلا يمكن حمل الخبر على تمام المورد.

(٢) في نسخة الأصل (يختلف).


الشّرعيّ الطهارة أو النجاسة فيحكم أنّه طاهر حتّى يعلم من جانب الشّرع أنّ حكمه النجاسة ، مع أنّ المعنى الثالث يساوق أصل البراءة ، وقد عرفت اشتراط العمل به بالفحص والبحث عن الدّليل ، بخلاف المعنيين الأوّلين ، والرّواية ظاهرة في البناء على الطهارة من دون الفحص ، وهو يناسب المعنيين الأوّلين ، لا المعنى الثالث ، لأنّه من المسائل الاجتهاديّة المحتاجة الى البحث والفحص.

وإدخال المعنيين الأوّلين في الثالث بأن يقال : كلّ شيء مجهول طهارته ونجاسته ، سواء كان كابن آوى والفأرة ، أو كالجسم الطّاهر المشكوك الملاقاة بالنجس ، أو كأحد الإناءين المشتبهين ، فهو حتّى يعلم من الشّارع حكمه ، فيصير الكلّ من باب الجهل بالحكم الشرعيّ ، ولا ينافي شيء منها لزوم الفحص عن الدليل ، في غاية البعد من اللّفظ والمعنى.

والحاصل ، أنّ الجهالة بالحكم الشرعيّ إمّا جهالة به من حيث الخصوص ، أو جهالة من حيث اشتباه الحكم في الخصوص بعد وضوحه في كلّ من المشتبهين ، أو جهالة محضة مطلقة ، وكذلك العلم الذي يحصل بالحكم يختلف باختلاف الجهالة ، ولا بدّ في إرادة كلّ منهما من ذكر لفظ يدلّ عليه ، فلا بدّ أن يحمل اللّفظ على ما هو الظّاهر فيه.

فنقول : ظاهر العموم هو العموم الأفرادي وإرادة الأشخاص لا الأنواع ، فليس بظاهر في إرادة الكلّيّ ولا الجزئيّ بملاحظة الكلّيّ ، وهو يرجع الى المعنيين الأوّلين ، والثاني أظهرهما.

فالاستدلال به على المعنى الثالث غير واضح ، سيّما مع ملاحظة أنّ المتبادر من العلم هو اليقين الواقعي ، والغالب أنّه يحصل في الموضوع لا الحكم ، لأنّ العلم بالحكم الشّرعيّ غالبا إنّما هو من الأدلّة الظنيّة ، غاية الأمر كونها واجب العمل ،


وهو لا يوجب العلّيّة الحقيقية ، ولذلك قال عليه‌السلام في بيان الحكم المجهول محضا : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». لا حتّى يعلم أنّه حرام ، مع أنّ حمله على المعنى الثالث مع ورود قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». وكذلك على المعنى الأوّل مع ما ورد من الأخبار الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بالشّك ، يشبه التأكيد (١) ، بخلاف إرادة المعنى الثاني فإنّه تأسيس (٢) كبيان الحلّ في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال».

وممّا يبعّد إرادة المعنى الأوّل ويقرّب المعنى الثاني ، أنّ الظّاهر أنّ لفظ قذر صفة مشبّهة دالّة على الثّبوت ، مناسبة الإرادة [لإرادة] ما ثبت قذارته بالذّات أو بسبب الملاقاة ، لا فعل ماض مقيّد لتجدّد حصول القذارة ، فيفيد أنّ الشّك إنّما هو في أنّ الشّيء هو الطّاهر أو القذر (٣) ، لا في أنّ الشّيء حصل له قذارة أم لا.

وحاصل المقام ، أنّ إرادة معنى عامّ يشمل المعاني الثلاثة ، لا يمكن إلّا مع التجوّز والتكلّف الذي لا يناسب الاستدراك.

والحمل على المعنى الثالث دون الأوّلين بعيد لفظا ومعنى (٤) ، وكذلك إرادة

__________________

(١) وقد تعرّض في «الفصول» ص ٣٧٣ ما فيه فائدة في التّأكيد والتّأسيس.

(٢) أي لو حمل الخبر لكان من قبيل التأكيد بخلاف لو حملناه على الشّبهة الموضوعية فيكون تأسيسا لبيان قاعدة الطهارة كتأسيس كل شيء ... الخ في الشبهة الموضوعية لبيان قاعدة الحل ، هذا كما في حاشية ميرزا محمد علي چهاردهي.

(٣) والفرق بين الصّورتين انّ موضوع الاستصحاب كان معلوم الطهارة سابقا ، فلا بد وان يحصل العلم ، وأمّا في شبهة الموضوع فلم يكن الموضوع الخاص فيه بعينه معلوم الطهارة قبل زمان الشّك.

(٤) إنّ البعد بحسب اللفظ لظاهر العموم في إرادة الأشخاص لا الأنواع ، ولظاهر العلم كما كنت قد عرفت ، وأمّا بحسب المعنى فالأمر واضح.


المعنى الأوّل دون الثاني ، وفهم هذا المرام يحتاج الى تأمّل تامّ.

ثمّ نرجع الى ما كنّا فيه ونقول : إنّ انطباق الرّواية بالمعنى الأوّل على الاستصحاب ظاهر ، وكذلك على المعنيين الأخيرين ، ولكنّهما يرجعان الى استصحاب حال العقل ، وهو البراءة الأصليّة.

وأمّا المعنى الأوّل فيمكن حمله عليه ، وعلى استصحاب حال الشّرع إذا علم طهارته سابقا شرعا.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان الدّالّة على طهارة الثّوب الذي أعاره الذمّي ، وعدم وجوب غسله لأنّه أعاره طاهرا ولم يستيقن بنجاسته ، وقد مرّت الصحيحة الأخرى في شبهة الموضوع وما في معناها إلى غير ذلك من الرّوايات.

الرّابع :

إنّه ثبت الإجماع على اعتباره في بعض المسائل (١) ، كتيقّن الطهارة والشّك في الحدث وعكسه ، وتيقّن طهارة الثوب والجسد والشّك في نجاستهما ، وبناء الشّاهد على ما شهد به ما لم يعلم رافعها ، والحكم ببقاء علاقة الزّوجيّة في المفقود ، وكذا الحال [المآل] في عزل نصيبه من الميراث ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فيكون حجّة ، لأنّ علّة عملهم فيها هو اليقين السّابق فيجب العمل فيما تحقّقت علّته (٢) ، أو لأنّه ثبت حجّيته في بعض المسائل ، فلا قائل بالفصل.

وأورد عليه : بأنّ العلّة لعلّها كانت في خصوصها نصّ أو إجماع أو غير ذلك.

__________________

(١) وكذا في «الفوائد» ص ٢٧٥ للبهبهاني.

(٢) من باب تنقيح المناط.


فدعوى العليّة ممنوع ، وكذا دعوى الإجماع المركّب ، إذ هي إنّما تتمّ لو ثبت أنّ عملهم إنّما كانت من جهة الاستصحاب ، والإنصاف أنّ ملاحظة هذه الموارد الكثيرة يورث الظنّ القويّ لو لم نقل بالعلم بأنّ المناط هو الاستصحاب.

وبالجملة ، الأدلّة التي ذكرنا سيّما مع اجتماعها لا يبقى معها مجال الشّك والرّيب في حجّية الاستصحاب وجواز الاعتماد عليه.

واحتجّ النافون : بالآيات والأخبار الدالّة على حرمة العمل بالظّن إلّا ما أخرجه الدّليل ، ولا دليل على حجّية هذا الظّن ، وأنّه لا يجوز إثبات المسائل الأصوليّة بأخبار الآحاد.

وربّما منع بعضهم حصول الظّن منه (١) أيضا ، وقد عرفت الجواب عن أدلّة حرمة العمل بالظنّ في باب خبر الواحد وإثبات حجّية ظنّ المجتهد ، مع أنّك عرفت دلالة الأخبار عليه أيضا ، بل الحقّ أنّ حجّية الأخبار (٢) أيضا لا تثبت إلّا بإثبات حجّية ظنّ المجتهد كما بيّناه ثمّة.

وأمّا أنّ المسألة الأصوليّة لا تثبت بالظنّ ، فقد عرفت أنّ التّحقيق خلافه ثمّة أيضا.

__________________

(١) من الاستصحاب ، واعلم أنّ المعروف من المحقّقين النّافين أنّهم يمنعون حصول الظنّ وإلّا فكل ظن المجتهد يكون حجّة ، مسلّم عندهم من جهة الدّليل الذي ذكروا : وهو أنّ باب العلم مسدود والطريق منحصر في الظّن فيكون حجّة ولا ترجيح لظن على ظن ، غير أنّ الظنّ الذي يحصل من القياس والاستحسان والرّمل وأمثالهما ليس بحجة عندهم وفاقا للوفاق ، ولأنّه كان منهيا عنه في زمان الأئمّة عليهم‌السلام والصّدر الأوّل ، فكذا بعده ، وقد استوفى ذكر ذلك الوحيد البهبهاني في «فوائده» ص ٢٧٦ ، وفي هذا الكلام كلام.

(٢) التي تدل على حرمة العمل بالظنّ.


وأمّا إنكار حصول الظّن منه ، فمع أنّه مكابرة لا يليق بالجواب ، مدفوع بعدم الاحتياج إليه ، نظرا الى الأخبار أيضا.

حجّة القول بالحجّية ، في نفس الحكم الشرعيّ دون الأمور الخارجيّة : فهو دليل النافين من منع حجّية مطلق الظّن أو نفي الظّن ومنع دلالة الأخبار ، فإنّه لا يظهر شمولها للأمور الخارجيّة مثل رطوبة الثّوب ونحوها ، إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور الذي ليس حكما شرعيّا ، وإن كان يمكن أن يصير منشأ للحكم الشّرعيّ بالعرض ، ومع عدم الظّهور لا يمكن الاحتجاج بها.

هكذا قرّر المنع المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في «حاشية شرح الدّروس» قال : ى وهذا ما يقال أنّ الاستصحاب في الأمور الخارجيّة لا عبرة به.

أقول : وفيه : أنّ اليقين والشّك عامّان سيّما في رواية «الخصال». وبعد كون المراد بيان حكم الأمور الخارجيّة سيّما إذا كان مستلزما للأحكام الشرعيّة ممنوع ، مع أنّ عدم جواز نقض اليقين في كلامه كما يرجع في الطهارة عن الحدث والخبث الى إبقاء الطهارة بالمعنيين (١) ، فيرجع الى عدم النجاسة ، وعدم وصول النّجس وعدم حصول ما يوجب الحدث أيضا كالنّوم وغيره كما لا يخفى على من تأمّل في الرّوايات ، مثل ما في صحيحة زرارة (٢) : قلت : «إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه

__________________

(١) اي الطهارة من الحدث والخبث.

(٢) «الوسائل» ٣ / ٤٨٣ باب ٤٤ أبواب النجاسات ح ١ ، وقد رواها الشيخ الصدوق في «العلل» ٣٦١ باب ٨٠ «جامع أحاديث الشيعة» ٢ / ١٦٥ باب ٢٣ من أبواب النجاسات ح ٦.


شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقص [ينقض] اليقين بالشّك». الحديث.

بل قال المحدّث البارع الحرّ العاملي في كتاب «الفصول المهمّة في أصول الأئمّة عليهم‌السلام» (١). بعد ما ذكر فرقة من الأخبار التي ذكرنا : أقول : هذه الأحاديث لا تدلّ على حجّية الاستصحاب في نفس الحكم الشرعيّ ، وإنّما تدلّ عليه في موضوعاته ومتعلّقاته ، كتجدّد حدث بعد الطهارة أو طهارة بعد الحدث أو طلوع الصبح أو طلوع الشمس أو غروبها أو تجدّد ملك أو نكاح أو زوالهما أو نحو ذلك كما هو ظاهر من أحاديث المسألتين ، وقد حقّقناه في «الفوائد الطوسيّة» (٢).

أقول : ويظهر ممّا ذكرنا حجّة القول بالعكس وجوابه أيضا.

وحجّة القول بنفي الحجّية في الحكم الشرعيّ : إذا ثبت من الإجماع أنّ ثبوت الحكم في الآن المتأخّر يحتاج الى دليل ولو كان الإجماع ثابتا في الآن المتأخّر أيضا لما حصل هنا خلاف ، فالخلاف في مسألة المتيمّم الذي أصاب الماء في أثناء الصلاة مثلا كاشف عن أنّ الإجماع لم ينعقد إلّا على وجوب المضيّ في الحال الأوّل ، وهو ما قبل رؤية الماء وإلّا لكان المخالف خارقا للإجماع ، وإذا لم يثبت الإجماع ، والمفروض عدم دليل آخر على الانسحاب ، فلا يثبت الحكم السّابق في الآن المتأخّر.

وفيه : أنّ هذا الكلام يجري في غير ما ثبت الحكم من الإجماع أيضا ، إذ لو كان النصّ الدالّ على ثبوت الحكم في الآن الأوّل شاملا للآن المتأخّر بعمومه ، فهذا استدلال بالعموم لا بالاستصحاب ، وإن لم يكن فيه شمول له ، فلا دليل على ثبوت

__________________

(١) ١ / ٦٢٨.

(٢) ص ١٩٦ فائدة (٤٩).


الحكم في الآن المتأخّر. وهذا الدليل إنّما يناسب القول بنفي حجّية الاستصحاب مطلقا لا التفصيل.

والحلّ : أنّا لا نقول في صورة استصحاب حال الإجماع ، أنّ الإجماع موجود في الآن المتأخّر ، ولا نقول أيضا : لا بدّ أن تكون (١) المسألة في الآن المتأخّر أيضا إجماعيّة ، بل نقول : إنّ الإجماع أيضا كالنصّ كاشف من حكمة واقعيّة أوجبت صدور الحكم عن الشّارع بثبوت الحكم ، ولم يقيّد ثبوت الحكم بالآن الأوّل ، بأن يكون الإجماع بشرط الآن الأوّل وعدم انضمام الآن الآخر إليه ، وكذلك النصّ ، بل إنّما ثبت مطلق الحكم في الآن الأوّل ، وهو لا يفيد اختصاصه به.

ثمّ لا نقول : بأنّ علّة حصوله في الأوان المتأخّرة هو حصوله في الآن الأوّل ، لعدم الدّليل على ذلك ، بل نقول : أنّ الظّن الحاصل ببقاء ما ثبت في الآن الأوّل نظرا الى ملاحظة أغلب الموارد ، فيتبع ذلك الظّن ثمّ يكشف ذلك عن كون مراد الشّارع في إثبات الحكم هو إثباته مستمرّا كما أشرنا سابقا ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما ثبت بالإجماع وغيره.

وحجّة التفصيل في الحكم الوضعيّ أو غير الوضعيّ مع ظهور وهنه بحيث لا يحتاج الى البيان : قد ظهر مع جوابه ممّا مر.

وحجّة القول بحجّيته إذا كان استمرار الحكم ثابتا من الشّرع الى غاية معيّنة دون غيره : فقد عرفت ممّا نقلناه عن «شرح الدروس».

وحاصله ، أنّ الدّليل على الحجّية فيما لو ثبت استمرار الحكم الى غاية معيّنة في الواقع بدون اشتراطه بالعلم بها ، أمران :

__________________

(١) في نسخة الاصل (يكون).


أحدهما : الأخبار الحاكمة بعدم جواز نقض اليقين بالشّك.

والثاني : أنّه لا يحصل الظّن بالامتثال إلّا باستصحابه الى حصول اليقين بالغاية ، وذلك في الوجوب والتحريم وما يستلزمهما من الأحكام الوضعيّة ، فلأنّ عدم اعتقاد إباحته يوجب عدم امتثال أمر الله تعالى ، فإنّ الاعتقاد بما سنّنه واجب ، واجبا كان أو مباحا أو غيرهما.

ولعلّ نظره (١) الى أنّ اشتغال الذمّة مستصحب ، وشغل الذمّة اليقينيّ مستدع

__________________

(١) وهو حاصل كلام المحقّق الخوانساري ، قال السيد علي القزويني في حاشيته : لا بمعنى إثبات الاستصحاب مطلقا باستصحاب اشتغال الذمّة ليتوجّه إليه الدّور ، بل بمعنى إثبات وجوب الحكم ببقاء التكليف عند الشك في دخول الغاية الذي هو معنى الاستصحاب بأصل الاشتغال ، نظرا الى أنّه لو لم يمتثل التكليف المشكوك في ذلك الوقت لم يحصل الظّن بامتثال التكليف اليقيني من أوّل الأمر ، فلم يحصل امتثاله ، وحيث إنّ الشغل اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة الذي يقوم مقامه الظّن بها ، وهو موقوف على امتثال ذلك التكليف عند الشك في دخول الغاية فواجب امتثاله ، وهذا فرع على الحكم ببقائه في ذلك الوقت وهو معنى الاستصحاب ، ولا يذهب عليك انّ هذا التّقرير لا يتمّ في غير مثل وجوب الصوم الذي دلّ الدليل على استمراره الى دخول الليل الذي هو الغاية المعينة فيه إلّا بتكلّف وهو الذي أشار إليه أخيرا بقوله : فالمكلّف به أمران ... الخ.

ومحصّله ، أن كل حكم دلّ الدليل المثبت على استمراره الى غاية معينة ولو كان نحو الطهارة المستمرّة الى غاية حصول النّوم أو البول أو غيره من الأحداث ، فقد اقتضى دليله بالالتزام ووجوب إجرائه الى دخول تلك الغاية ، والإجراء المذكور من قبيل المكلّف به الذي وجوبه شغل يقيني به وينحلّ الى أصل الإجراء ، واستمراره الى الغاية على معنى اجرائه في وقت دخول الغاية ، فعند الشك في دخولها يجب اجرائه أيضا تحصيلا لليقين بالبراءة عنه ، ونتيجة ذلك وجوب الحكم ببقاء الحكم المذكور في ذلك –


لحصول البراءة اليقينيّة بالإجماع كما إدّعاه بعضهم. ورفع الاشتغال لا يحصل إلّا بالاستصحاب الى الغاية اليقينيّة فالمكلّف به أمران : نفس الحكم ، وإجراؤه الى غاية ، ولا يحصل الامتثال إلّا بإتيانهما معا.

فلا يرد عليه ما قيل : إنّ هذا الدليل جار فيما إذا ثبت تحقّق حكم في الواقع مع الشّك في تحقّقه بعد انقضاء زمان لا بدّ للتحقّق منه. وهذا هو الذي أجرى القوم فيه الاستصحاب بتقريب أنّ الدّليل للحكم يحتمل أن يراد منه وجود الحكم في الزّمان الذي يشكّ في وجود الحكم فيه ، وأن يراد منه عدم وجوده فيه ، ولا يحصل اليقين بالبراءة إلّا في الامتثال في زمان الشّك أيضا ، فإنّ الإتيان الى الغاية جزء المأمور به مثلا فيما فرضه ، بخلاف فرض استصحاب القوم ، ففي استصحابهم لم يثبت شغل الذمّة إلّا بالحكم في الجملة ، ولا ما قيل : إنّ تحصيل القطع أو الظّن بالامتثال إنّما يلزم مع القطع أو الظّن بثبوت التكليف ، وفي زمان الشّك ليس شيء منهما حاصلا ، لأنّا نقول : لا حاجة الى دليل آخر يدلّ على ثبوت التكليف في آن الشّك ، بل التكليف الأوّل لمّا كان مركّبا لا يحصل الامتثال به إلّا بإتيان جميع أجزائه ، سواء بقي اليقين بالتكليف أو الظّن أو الشّك.

والحاصل (١) ، أنّ الاستصحاب وإن أمكن فرض تحقّقه فيما نحن فيه ، لكنّه لا حاجة الى تحقّقه ولا التمسّك به ، وذلك نظير أصل البراءة ، فكما انّه بالذّات

__________________

ـ الوقت المشكوك في بقائه فيه وهو الاستصحاب وقد ثبت بأصل الاشتغال ولو لا هذا التوجيه لم يستقم التعبير عن الحكم بالمكلّف به ، وجعله أمرين نفس الحكم واجرائه الى غاية ، ولا ريب أنّ إجراء الحكم غير نفس الحكم والأوّل من فعل المكلّف بخلاف نفس الحكم فتدبر.

(١) اي ما ذكره المحقق الخوانساري من كفاية الظنّ في مقام الامتثال.


يقتضي رفع التكليف حتّى يثبت التكليف ، سواء اعتبر استصحابه أم لا ، فشغل الذمّة أيضا يقتضي إبراءه ، سواء اعتبر استصحابه أم لا ، وإنّما اكتفى بحصول ظنّ الامتثال مع أنّ المعتبر في رفع شغل الذمّة اليقينيّ هو اليقين بالرّفع ، تنبيها على كفاية الظّن الاجتهاديّ الذي هو بمنزلة اليقين ، فلو كان حصول الغاية الموصوفة المذكورة بظنّ معتبر فيكفي في الامتثال.

وهذا كلام (١) سار في مطلق التكليف الثابت ، ولا اختصاص له باستمرار الحكم وعدمه.

قال في «شرح الدروس» بعد كلام في هذا المقام : والحاصل ، أنّه إذا أورد نصّ أو إجماع على شيء معيّن مثلا معلوم عندنا ، أو ثبوت حكم الى غاية معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشّيء المعلوم حتّى يتحقّق الامتثال ، ولا يكفي الشّك في وجوده ، وكذا بلزوم الحكم ببقاء ذلك الحكم الى أن يحصل العلم أو الظنّ بوجود تلك الغاية المعلومة ، فلا يكفي الشّك في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم.

وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، ونعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشّيء مثلا ، أو على ثبوت حكم الى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ونعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم مثلا ، يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا ، وبقاء ذلك الحكم الى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الإتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في ارتفاع الحكم ، وسواء

__________________

(١) اي نظر المحقّق الخوانساري.


في ذلك كون ذلك الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولا عندنا ، أو أشياء كذلك ، أو غاية معيّنة في الواقع مجهولة عندنا ، أو غايات كذلك ، وسواء أيضا تحقّق (١) قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات أو تباينها بالكليّة.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصّ مثلا على أنّ الواجب الشّيء ، الفلاني ، ونصّ آخر أنّ ذلك الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الأمّة الى وجوب شيء والآخرون الى وجوب شيء آخر دونه ، وظهر بالنصّ أو الإجماع في الصّورتين أنّ ترك ذينك الشّيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما معا حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظّاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكليّة ، وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الى الغاية.

أقول : وقد أشرنا الى بعض هذه المطالب قبل العثور الى هذا الكلام في المبحث السّابق ، وأوردنا على ما نقلنا من بعض كلماته في «شرح الدروس» ما يدفعه تقييده هنا بقوله : ونعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشّيء ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) قال الملا محمد تقي الهروي في حاشيته : الغالب بعد كلمة سواء لفظ الماضي نحو سواء كان كذا أم كذا ، إلّا أن لفظ تحقّق هنا ليس ماضيا ، بل هو بضم القاف مصدر بقرينة عطف تباينها عليه ، وبقرينة قوله السّابق : وسواء في ذلك كون ذلك الواجب ... الخ. يعني تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء أي اشتراكها في نوع أو جنس قريب ، وتبيانها اي عدم اشتراكها في ذلك سيّان ، فالأوّل : كما إذا وجب شيء معيّن في الواقع مردّد عنده بين الصلاة والبيع والطلاق ، وكما إذا قال : افعل هذا إلى أن يجيء شعبان ، ولم يعلم أنّ المراد شهر شعبان أو شخص اسمه شعبان.


هذا ، ولكنّ التّمييز (١) بين الموارد ومعرفة ما يجري فيه هذا الاستصحاب ، أعني لزوم العمل على استمرار الاشتغال حتّى يحصل اليقين بالبراءة ، وأنّ المكلّف به في المردّد بين أمور ، هل هو أحدها المعيّن عند الله المبهم عندنا أو المكلّف به أن لا يترك جميع المحتملات ، فيكفي الإتيان بالبعض ، أمر مبهم مشكل.

والحقّ ، أنّ إثبات الأوّل في غاية الصّعوبة ونهاية النّدرة إن لم نقل بأنّه غير متحقّق. وكذلك الكلام في الأمر المستمرّ الى غاية معيّنة عند الله تعالى ، مبهمة عندنا.

وقد ذكرنا بعض الأمثلة في المبحث السّابق (٢) ، ونقول هنا أيضا : لو استدلّ القائل بوجوب ثلاثة أحجار في الاستنجاء بأنّ حكم النجاسة مستمرّ الى حصول المطهّر الشرعيّ بالإجماع ، ولم يتحقّق المطهّر إلّا بالثلاثة ، فيقال له : لا.

ثمّ الإجماع على أنّ النجاسة ثابتة الى أن يحصل المطهّر الشرعيّ ، بل إنّما نسلّمه على أنّ الصلاة لا تصحّ بعد التغوّط إلّا مع حصول أحد من أشياء ثلاثة : إمّا الغسل بالماء ، أو التمسّح بثلاثة أجسام طاهرة ، أو التمسّح بطاهر.

فلو قال : الإجماع ثبت على وجوب شيء وهو أحدها المعيّن عند الله تعالى المبهم عندنا.

فيقال : الإجماع على ذلك ممنوع ، بل إنّما يسلّم الإجماع على أنّ ترك مجموع

__________________

(١) وهذا الكلام هو أيضا في ردّه على المحقق الخوانساري.

(٢) في صحة تعيين موارد قاعدة الاشتغال.


الثلاثة موجب للعقاب. وهكذا في كلّ ما يرد عليك ، فعليك بالاجتهاد في كلّ مورد خاصّ والعمل على مقتضاه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا عن المحقّق الخوانساري ، هو ظاهر ما اختاره المحقّق (١) في آخر كلامه بعد ما اختار أوّلا حجّية الاستصحاب مطلقا ، واستحسنه صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٢) إلّا أنّه قال : هذا رجوع عن القول بالاستصحاب.

فإن أراد الرّجوع عن القول بالاستصحاب في جميع الموارد فحسن ، وإن أراد أنّه رجوع منه مطلقا ، كما هو ظاهر كلامه ، فهو غير صحيح ، لما ظهر لك أنّه أيضا انسحاب الحكم في زمان الشّك في الاستمرار وهذا معنى الاستصحاب.

وأمّا حجّة القول الأخير وجوابه : يظهر ممّا ذكرنا مفصّلا ، فلا نعيد.

وينبغي هاهنا التّنبيه على أمور :

الأول

إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع (٣) ، وحكمه في مقدار قابليّة الامتداد ، وملاحظة الغلبة فيه ، فلا بدّ من التأمّل في أنّه كلّيّ أو جزئيّ ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أوّلا مفهوما كلّيّا مردّدا بين أمور ، وقد يكون جزئيّا حقيقيّا معيّنا ،

__________________

(١) في «معارج الأصول» ص ٢٠٦.

(٢) ص ٥٢٤

(٣) لو أردنا استصحاب الموضوع فلا بد لنا من ملاحظة مقدار بقائه ، ففي زمان الاستصحاب إن أمكن له البقاء فيستصحب وإلّا فلا ، وكذلك في استصحاب حكم الموضوع لو أردنا استصحابه ، إلّا أنّ هذا لا يناسب القول بحجّية الاستصحاب مطلقا حتى في الشّك في المقتضى ، نعم يناسب القول بالشّك في الرّافع.


وبذلك (١) يتفاوت الحال ، إذ قد تختلف (٢) أفراد الكلّيّ في قابليّة الامتداد ومقداره ، فالاستصحاب حينئذ ينصرف الى أقلّها استعدادا للامتداد.

وهاهنا لطيفة يعجبني أن أذكرها من باب التّفريع على هذا الأصل ممّا ألهمني الله تعالى به ببركة دين الإسلام والصّادعين به عليهم الصلاة والسلام. وهو أنّ بعض السّادة (٣) الفضلاء الأزكياء من أصحابنا (٤) ، ذاكرني حكاية ما جرى بينه وبين أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى من أنّه تمسّك بأنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا عليه‌السلام فنحن وهم متّفقون على حقيّته ونبوّته في أوّل الأمر ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه.

ثمّ ذكر أنّه أجابه بما هو المشهور : من أنّا لا نمنع نبوّة نبيّ لا يقول بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فموسى أو عيسى عليهما‌السلام الذي يقول بنبوّته اليهود أو النصارى ، نحن لا نعتقده ، بل نعتقد بموسى أو عيسى عليهما‌السلام الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدّقه (٥) ، وهذا مضمون ما ذكره الرضا عليه الصلاة والسلام في جواب الجاثليق (٦) ، فإنّه قال له عليه‌السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا صلوات الله وسلامه عليه : «أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه و [ما]

__________________

(١) فلكونه كلّيا مردّدا.

(٢) في نسخة الأصل (يختلف).

(٣) في نسخة الأصل (سادة).

(٤) وهو السيد حسين القزويني كما نقل في بعض الحواشي.

(٥) بأن نقول بنبوّة موسى الذي أقرّ بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونبوّة عيسى الذي بشّر بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نقول بنبوّة كل موسى ، وكل عيسى لم يقرّا بنبوّة النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٦) وهو بفتح الثاء المثلّثة : رئيس النصارى في بلاد الاسلام ، ولغتهم السّريانية ، وجمعه جثالقة وهو عند بعض الطوائف المسيحية الشرقية مقدّم الأساقفة.


بشّر به أمّته ، وما أقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و [ب] كتابه ولم يبشّر به أمّته» (١).

قال الفاضل : فأجابني بأنّ عيسى بن مريم المعهود الذي لا يخفى على أحد حاله وشخصه ، أو موسى بن عمران المعلوم الذي لا يشتبه على أحد من المسلمين ولا أهل الكتاب ، جاء بدين وأرسله الله نبيّا ، وهذا القدر مسلّم الطّرفين ، ولا يتفاوت ثبوت رسالة هذا الشّخص وإتيانه بدين بين أن يقول : بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا. فنحن نقول : دين هذا الرّجل المعهود رسالته باق بحكم الاستصحاب ، فعليكم بإبطاله. وبذلك أفحم [أقحم] الفاضل المذكور في الجواب.

فتأمّلت هوينا (٢) فقلت في إبطال الاستصحاب بعد فرض تسليم جواز التمسّك به في أصول الدّين : (٣) أنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون معيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلّا النبوّة في الجملة ، وهو كلّيّ قابل للنبوّة الى آخر الأبد ، بأن يقول الله تعالى : أنت نبيّ وصاحب دين الى يوم القيامة ، وللنبوّة الممتدّة الى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن يقول له : أنت نبيّ ودينك باق الى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأن يقول : أنت نبيّ بدون أحد القيدين ، فعلى المخالف أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد الى آخر الأبد وأنّى له بإثباته ، والمفروض أنّ الكلام ليس فيه أيضا ، وإمّا الإطلاق ، فهو أيضا في معنى القيد (٤) ، ولا بدّ من إثباته ، ومن

__________________

(١) «عيون أخبار الرضا عليه‌السلام» ٢ / ١٤١ باب ١٢ ح ١.

(٢) تصغير هيّنا ، يقال شيء هيّن أي سهل ، وهنا بمعنى أنّه تأمل تأمّلا سهلا بسيطا.

(٣) إذا المطلوب فيها العلم وليس الظنّ.

(٤) في معنى دوامه واستمراره الى يوم القيامة.


الواضح أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة (١) ، والذي يمكن استصحابه هو النبوّة المطلقة لا مطلق النبوّة ، إذ الكلّيّ لا يمكن استصحابه إلّا بما يمكن من بقاء أقلّ أفراده امتدادا واستعدادا كما ذكرنا (٢).

ولنأت بمثال لتوضيح المقام ، وهو : انّا إذا علمنا أنّ في هذه القرية حيوانا ، ولكن لا نعلم أيّ نوع من الطّيور أو البهائم أو الحشار (٣) والدّيدان ، ثمّ غبنا عنها مدّة ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدّة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ، فترى أنّ الفرس أطول عمرا من الغنم ، والعصافير أطول عمرا من الخطاطيف (٤) ، والفئران من الدّيدان ، وهكذا ، فإذا احتمل عندنا كون الحيوان الذي في بيت خاصّ إمّا عصفور أو فأرة أو دودة (٥) قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بحصول القدر المشترك باستصحابها الى زمان ظنّ بقاء أطولها أعمارا ، فبذلك بطل تمسّك أهل الكتاب ، إذ على فرض التسليم والتنزّل والمماشاة معهم ، نقول : إنّ القدر الذي ثبت لنا من نبوّتهما هو القدر المشترك بين أحد المقيّدات الثلاثة ، فمع إمكان كونها النبوّة الممتدّة الى زمان نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يجري الاستصحاب الى آخر الأبد؟

__________________

(١) اعلم ان المطلق هو المقابل للمقيّد فإذا قيل : موسى نبيّ مطلقا اي مستمرا ، والنبي المطلق هو غير المقيّد.

(٢) وقد تعرّض في «الفصول» ص ٣٨٠ الى المذكور ببيان حسن كذلك.

(٣) كان الأولى به أن يقول : الحشرات أو الحشر ، ولا داعي لأن يذكر الدّيدان لأنّها قد تدخل تحت عنوان الحشرات. وحشرة هي الهامّة من هوام الأرض كالخنافس والعقارب والدّابة الصغيرة من دواب الأرض كالفئران والضّباب ، و (عند علماء الحيوان) : كل كائن يقطع في خلقه ثلاثة أطوار أي يكون (بيضة ، فدودة ، ففراشة)

(٤) جمع الخطّاف وهو العصفور الأسود أو قل طائر.

(٥) في نسخة الأصل (دود).


ثمّ إنّك بعد ما بيّنا لك سابقا (١) ، لا أظنّك رادّا علينا أمر الاستصحاب في الحكم الشرعيّ بما ذكرنا في هذا المقام ، بأن نقول : يمكن أن يردّ الاستصحاب فيها بمثل ذلك ، ويقال : إنّ الأحكام الواردة في الشّرع إنّما يسلّم جريان الاستصحاب فيها إن ثبت كونها مطلقات ولم تكن مقيّدة الى وقت خاصّ واختفى علينا ، أو ممتدّة الى آخر الأبد ، والذي يجوز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل ، وذلك لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت في الشّرع له حدّ ، ليست بآنيّة (٢) ولا محدودة الى حدّ معيّن ، وأنّ الشّارع يكتفي فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ، ويظهر من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ، فإنّ تتبّع أكثر الموارد واستقراؤها يحصّل الظّن القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هي الاستمرار الى أن يثبت الرّافع من دليل عقليّ أو نقليّ.

فإن قيل : فهذا مردود عليك (٣) في حكاية النبوّة.

قلنا : ليس كذلك ، فإنّ الغالب في النبوّة هو التّحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه الى الأبد ، هو نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّا لا نحتاج في إثباته الى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأنّ نبوّته أيضا مردّدة بين الأمور الثلاثة ، بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النّصوص والإجماع.

__________________

(١) من أنّ استصحاب كل شىء يتبعه في ملاحظة مقدار استعداده وقد رأينا أن الأحكام الشرعية مستمرّة.

(٢) ولما عرفت بأنّها ليست بآنيّة يبقى الإطلاق بمعنى قابلية الاستمرار ، وعند ذلك يمكن إجراء الاستصحاب فيها.

(٣) يعني بمثل ما ذكرناه من إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعية نقول في النبوّة.


نعم (١) لو كان تمسّكنا بالاستصحاب في الدّوام ، لاستظهر علينا الخصم بما نبّهناه عليه.

فإن قيل : قولكم بالنسخ يعيّن الإطلاق ويبطل التحديد ، لأنّ إخفاء المدّة وعدم بيان الآخر مأخوذ في ماهيّة النّسخ ، وهو بعينه مورد الاستصحاب.

قلنا : ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النّسخ وإبطال قولهم في بطلانه ، إنّما هو من باب المماشاة معهم في عدم تسليمهم التّحديد ، وإبطال قولنا بقبح النّسخ وإلّا فالتحقيق أنّ موسى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام أخبرا بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابهما ناطق به ، لا أنّ نبوّتهما مطلقة ونحن نبطلها بالنّسخ ، فلمّا كان اليهود منكرين (٢) لنطق كتابهم ونبيّهم بذلك ، وزعموا دوام دينهم أو إطلاق النّبوّة وتمسّكوا بالاستصحاب من باب المماشاة معنا ، وتمسّكوا ببطلان النّسخ بناء عليه أيضا ، فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في تصحيح النّسخ ، وهذا لا يضرّ ما أوردناه عليهم في تمسّكهم بالاستصحاب.

فإن قيل : أحكام شرع عيسى عليه‌السلام مثلا مطلقات ، والنّسخ يتعلّق بالأحكام.

قلنا : إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة عيسى عليه‌السلام برسول بعده اسمه أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفعهم ، لاستلزامه وجوب قبول رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد قبوله فلا معنى لاستصحاب أحكامهم كما لا يخفى فافهم ذلك واغتنم.

__________________

(١) اي لو أردنا إثبات نبوّة نبيّا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطّاهرين بالاستصحاب لاستظهر علينا خصمنا.

(٢) في نسخة الأصل (منكرا).


الثاني

قد عرفت أنّ الاستصحاب المصطلح ، لا يحقّق إلّا مع حصول الشّك في رفع الحكم السّابق ، فاعلم أنّ ذلك الشّك إنّما يحصل بسبب حصول تغيّر ما (١) في الموضوع ، إمّا في وصف من أوصافه القلّة والكثرة في الماء القليل المتنجّس إذا تمّم كرّا ، أو في سببه (٢) كالكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو في حال من أحواله ، كالإناءين المشتبهين ، فإنّ الاجتناب عن الإناء المتنجّس في حال العلم به كان واجبا ، وحصل الشّك في الوجوب بسبب حصول الجهالة به في وقت الاشتباه ، وأمّا مع تغيّر حقيقته (٣) فظاهرهم أنّه لا مجال للاستصحاب ، وذلك مناط قولهم بأنّ الاستحالة من المطهّرات.

وربما يستدلّ على ذلك (٤) بأنّ النجس والحرام مثلا إنّما هو الكلب والعذرة مثلا ، لا الملح والدّود والتّراب والرّماد ، مثلا إذا انقلب الكلب في المملحة بالملح ، أو العذرة بالدّود ، أو التّراب ، أو الرّماد (٥) ، ومن هذا القبيل استحالة النّطفة بقرا أو غنما ، والماء النّجس بولا لحيوان مأكول اللّحم.

__________________

(١) يحتمل ان تكون ما موصولة ويمكن أن تكون غيرها.

(٢) في حاشية السيد علي القزويني : ولا بدّ من استخدام في الضّمير المجرور ، لأنّ التّغير الزّائل بنفسه في الكرّ المتغيّر بالنجاسة ليس سببا لنفس الموضوع وهو الماء ، بل سببه لحكمه وهو النجاسة ، فعود الضّمير الى الموضوع غير صحيح والى حكمه استخدام.

(٣) لأنّه غير خفي بأنّ الاستصحاب من جملة شروطه أيضا هو بقاء موضوعه ، فإنّ الاستصحاب هو بقاء ما كان على ما كان أو قل إبقاء ما كان على الوصف الذي قد كان عليه.

(٤) يعني على انقطاع الاستصحاب مع تغير الحقيقة.

(٥) وكذا قال الوحيد في «الفوائد» ص ٢٨١ ، وإن تأمّل الميرزا القمّي في قوله كما ترى.


وفيه إشكال (١) من وجهين :

الأوّل : أنّ المناط في الحكم إن كان هو التّسمية ، فإذا تحولت (٢) الحنطة النّجسة طحينا أو خبزا ، واللّبن سمنا ، فيلزم طهارتها ، وهو باطل جزما. وإن كان المناط تبدّل الحقيقة والماهيّة [والماهيّة] فما الدليل عليه.

ثمّ ما ذا معيار تبدّل الماهيّة [الماهيّة] والحقيقة (٣)؟

فقد تراهم يحكمون بطهارة الرّماد دون الفحم ، وطهارة الخمر بانقلابه خلّا ، فما الفرق بين الأمرين؟ بل تبدّل العذرة بالفحم ليس بأخفى من تبدّل الخمر بالخلّ ، وإن لوحظ فيه تبدّل الخواصّ بالمرّة ، ففي ذلك أيضا عرض عريض لا يمكن ضبطه غالبا.

ويمكن أن يقال : (٤) المعيار هو تبدّل الحقائق عرفا ، لا محض تغيّر الأسماء ، وهذا يتمّ فيما كان مقتضى الحكم هو نفس الحقيقة ، كالعذرة والكلب ، فإنّ علّة النّجاسة في أمثالهما من النّجاسات عينا والمحرّمات عينا هو ذاتها ، فيتبع ثبوت الحكم بقاء الحقيقة ومع انتفاء الحقيقة فلا حكم ، فكأنّه قال الشّارع : الكلب نجسة أو حرام ما دام كلبا ، والعذرة نجسة (٥) ما دامت عذرة ، فإذا استحال ماهيّته ، فينتفي الحكم.

وألحق بعض الفقهاء المتنجّس ـ كالخشب المتنجّس ـ بالنجس بالأولويّة (٦) ،

__________________

(١) لأنّ الاستحالة من المطهرات ، كما أنّ مورد تغيير الموضوع ليس مورد الاستصحاب.

(٢) في نسخة الأصل (تحوّل).

(٣) وهذا إشكال آخر.

(٤) في دفع الإشكال.

(٥) في نسخة الأصل (نجس).

(٦) وفي «مفتاح الكرامة» للسيد محمد جواد العاملي ١ / ٣٢١ : وألحق في «المعالم» ـ


وفيه نظر. فإنّ من الظّاهر أنّ نجاسة الخشب حينئذ ليس لأنّه خشب لاقى نجسا ، بل لأنّه جسم لاقى نجاسة ، وهذا المعنى لم يزل.

والحاصل ، أنّ الحقائق المتخالفة عرفا ، كالعذرة والتّراب والرّماد ، لها أحكام مستقلّة برأسها ، سواء كانت متوافقة في الحكم أو متخالفة ، وأمّا مسحوق ماهيّة كالطّحين للحنطة ، أو منضوجها ، كاللّحم المطبوخ ، والخبز ، ونحو ذلك ، فلا يتبدّل بذلك حقيقتها عرفا ، كما [لا] تتبدّل حقيقة أيضا ، فما ثبت تبدّل حقيقته عرفا ، فينتفي فيه حكم الاستصحاب ، لثبوت التعارض حينئذ بين ما دلّ على حكم حقيقة المستحال إليه ، وما يستصحب من حكم المستحيل ، بعموم [فعموم] ما دلّ على طهارة التّراب أو الدّود أو الملح وحلّيتها يعارض استصحاب النجاسة. وسنبيّن (١) أنّ الاستصحاب من حيث هو ، لا يعارض الدّليل من حيث هو ، مع أنّ حصول الظّن بالبقاء في مثل ذلك ممنوع.

__________________

ـ المتنجّس بالنّجس ، ونسبه في «الذّخيرة» الى البعض ، قال الاستاذ أيّده الله تعالى كما عن المصدر المذكور : ولعلّه الظّاهر من إطلاق الفقهاء ، بل يستفاد منهم الإجماع عليه.) في حاشية السيد علي القزويني : وفيه ما لا يخفى من عدم الاستقامة لوجهين : عدم جريان استصحاب النّجاسة بعد تبدّل موضوعه ، وعدم معقولية التعارض بينه وبين دليل الطّهارة ، بل الوجه فيه الى الأدلّة الاجتهاديّة على تقدير وجودها في عنوان الرّماد ، فإن كان فيها عام أو مطلق يتناول ، وإلّا فيندرج في عموم أصالة الطّهارة المستنبطة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل شىء نظيف حتى تعلم انّه قذر. وهكذا في الملح والدّود والتّراب وغيرها من موارد الاستحالة ، فالطّهارة فيها بأسرها تثبت إمّا بعموم الدّليل أو بالأصل العام ، ولعلّه الى ذلك يرجع كلام المصنّف ، وإنّما وقع التعارض من قلمه سهوا.

(١) في التنبيه الثالث الآتي بقوله : وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث إنّه استصحاب لا يعارض الدّليل النطقي من حيث هو هو إجماعا.


ودلالة الأخبار أيضا غير واضحة ، إذ حكم اليقين إنّما كان ثابتا لشيء آخر ، والذي لا يجوز نقضه بالشّك هو الحكم المتعلّق بالماهيّة السّابقة ، ولم يبق بحالها حتّى يحكم جواز نقض حكمها ، فما حصل الجزم بالاستحالة العرفيّة ، فيحكم بانقطاع الاستصحاب فيه ، وما حصل الجزم بعدمه ، فيجزم بجريان الاستصحاب فيه ، وما حصل الشّك فيه ، فيرجع الى سائر الأدلّة ثمّ الى الأصل.

وممّا ذكرنا ، يعرف الكلام في الانتقال ، مثل انتقال دم الإنسان الى بطن القمّل والبرغوث والبقّ.

وهنا وإن كان تبدّل الحقيقة في غاية الخفاء سيّما في أوّل مصّ هذه الحيوانات للدّم ، وخصوصا في العلق ، ولكن إطلاق دم الحيوان الغير ذي النّفس على هذا الدّم ، مع عدم تصوّر دم لأغلب هذه إلّا ما في بطنها من جهة المصّ ، يوجب الحكم بالطّهارة.

ففي الحقيقة يرجع الكلام في أمثال ذلك الى وجود المعارض ، لا عدم إمكان جريان الاستصحاب ، ولذلك توقّف بعض المتأخّرين (١) في إفادة تغيّر الموضوع في ترك العمل بالاستصحاب ، وتأمّل في كون تغيّر الموضوع قاطعا للاستصحاب.

__________________

(١) نقل في الحاشية انّه المحقق والعلامة والشيخ محمد بن الشيخ حسن ولم أجد في بعض مصادرهم الأصولية ذلك أصولا ولا سيّما الأوّلين. ويمكن مقصوده ما تعرّض إليه فقها في «المعتبر» ص ١١٧ ، وص ١٢٨ المحقّق ، وفي «منتهى المطلب» ص ١٧٩ ـ ١٨٠ العلّامة أو ما نقل عنهما المحقق السّبزواري في «الذخيرة» ١٧٢ ، وأعلم أنّ الوحيد في «فوائده» ص ٢٨١ ، وفي رسالة الاستصحاب من «رسائله الأصولية» ص ٤٤٣ تعرّض لنفس المسألة قال في نهايتها : وتأمّل بعض المتأخّرين في ذلك وليس بشيء.


الثالث

ذكر بعض المتأخّرين (١) للعمل بالاستصحاب بعض الشّروط ، مثل أن لا يكون هناك دليل شرعيّ آخر يوجب انتفاء الحكم الثابت أوّلا في الوقت الثاني ، وإلّا فتعيّن العمل بذلك الدّليل إجماعا ، ومثل أن لا يعارضه استصحاب آخر.

أقول : إن أراد من الدّليل ما ثبت رجحانه على معارضه ، فلا اختصاص لهذا الشّرط بالاستصحاب ، بل كلّ دليل عارضه دليل أقوى منه مترجّح عليه ، فلا حجّية فيه ، ويعمل على الدّليل الرّاجح ، فلا مناسبة لذكر ذلك في شرائط الاستصحاب.

وإن أراد من الدّليل ما يقابل الأصل.

ففيه : أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم ، فهو في الاستصحاب ممنوع.

ألا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا : أنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته ، استصحابا للحال السّابق ، مع ما ورد من الأخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين (٢) ، ثمّ التقسيم بين الورثة ، وعمل عليها جماعة من

__________________

(١) وهو الفاضل التوني في «الوافية» ص ٢٠٨.

(٢) في حاشية السيد علي القزويني لا شهادة فيه بما استشهد له من مقاومة الاستصحاب للدليل ، فإنّ مبنى ما عليه جمهور المتأخّرين من استصحاب الحالة السّابقة في مال المفقود الى أن يحصل العلم العادي بموته ، على تقدير عدم حصول الفحص أربع ـ


المحقّقين ، فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟

وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث إنّه استصحاب لا يعارض الدّليل النّطقي من حيث هو هو إجماعا ، فله وجه.

كما أنّ العام من حيث إنّه عامّ لا يعارض الخاصّ ، والمفهوم من حيث إنّه مفهوم لا يعارض المنطوق كذلك. وذلك لا ينافي تقديمه على الدّليل من حيث الاعتضاد الخارجي ، كما هو كذلك في العامّ والمفهوم أيضا.

ثمّ إن أخذنا (١) كون الحكم مظنون البقاء في تعريف الاستصحاب ، ولا [فلا] معنى لجعل عدم الدّليل المعارض شرطا لفقد الظّن مع الدليل على خلافه ، فلا استصحاب.

وإن لم نأخذ الظّن في ماهيّة فنقول : إن جعلنا وجه حجّية الاستصحاب هو الظّن الحاصل من الوجود الأوّل ، فإذا تحقّق دليل بدّل الظّن بالوهم ، فهذا يبطل الاستدلال به ، ويصحّ أن يقال : عدم الدّليل شرط لجواز العمل به ، إذ ليس هناك ظنّ بالبقاء حينئذ.

ولكن يرد عليه أنّه لا اختصاص له بالاستصحاب كما أشرنا سابقا ، وإن جعلنا مبناه هو عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين كما هو مدلول الأخبار ، فإذا ثبت دليل

__________________

ـ سنين ، وحينئذ فلا دليل في مقابلة الاستصحاب ، وحيث حصل الفحص أربع سنين فهو قاطع شرعي للاستصحاب ، ولا نظنّ جمهور المتأخّرين انّهم معربون عنه على هذا التقدير بالعمل بالاستصحاب دون قاعدة الفحص التي هي بمنزلة الدّليل الحاكم على الاستصحاب بحكومة دليلها على دليله ، نظير الظّن الاجتهادي إذا حصل في مورد على خلاف مقتضى استصحاب الحالة السّابقة.

(١) وهنا ايراد آخر على الشّرط المذكور.


على رفع الحكم ، فإن كان يقينيّا واقعيّا فهو ليس غير يقين يرفع اليقين ، وهو مقتضى مدلول تلك الأخبار ، وكذلك إن كان ظنيّا واجب العمل.

ولا ريب أنّ عدم اليقين بالخلاف شرط في العمل باليقين السّابق ، وهذا أيضا يرجع الى اشتراط العمل بأحد الدّليلين بعدم ما يوجب بطلانه من يقين على خلافه أو ظنّ أقوى منه ، ولا اختصاص له بالاستصحاب.

وإن شئت توجيه الكلام (١) على نحو ما ذكرنا ، فقل : المراد أنّ الظّن الاستمراريّ لا يقاوم الظّن الإطلاقيّ على الوجه الأوّل (٢) ، وعدم جواز نقض اليقين الثّابت بعموم الأخبار ، لا يقاوم ما يدلّ على نقض ذلك اليقين بالخصوص ، فضعف الاستصحاب إمّا من جهة كونه انسحابا للحكم لا حكما مستقلّا ، وإمّا من جهة أنّه عامّ لثبوته من عموم الأخبار الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا بيقين ، لا يقاوم ما دلّ على نفي مورده بالخصوص ، وذلك لا ينافي جواز العمل به في موارد الدّليل النافي للحكم بالخصوص من جهة المرجّحات الخارجية كما أشرنا.

وممّا ذكرنا ، يظهر حال اشتراط عدم معارضة الاستصحاب الآخر.

ثمّ إن [إنّ] تعارض الاستصحابين قد يكون في موضوع واحد ، كما في الجلد المطروح (٣) ، فإنّ استصحاب عدم التذكية يقتضي كونه ميتة المستلزم للنجاسة.

وقد يقرّر بأنّ الموت حتف الأنف والموت بالتذكية كلاهما حادثان في مرتبة واحدة ، وأصالة عدم المذبوحيّة الى زمان الموت يقتضي النّجاسة لاستلزامه

__________________

(١) وهو كلام بعض المتأخّرين.

(٢) وهو بناء على حجيّة الاستصحاب لأجل الظنّ الحاصل من الوجود الأوّل.

(٣) وقد ذكر هذه المسألة في «الوافية» ص ٢٠٩


مقارنته مع الموت حتف الأنف ، وأصالة عدم تحقّق الموت حتف الأنف الى زمان الموت يقتضي مقارنته للتذكية المستلزمة للطهارة ، فإن ثبت مرجّح لأحدهما فهو ، وإلّا فيتساقطان.

والتّحقيق إنّما هو في محلّ التنافي ، وإلّا فيبقى كلّ منهما على مقتضاه في غيره. وكذلك إذا حصل التّرجيح لأحدهما في محلّ التنافي ، لا ينفي حكم الآخر في غيره.

فيمكن أن يقال في مثله : إنّه لا ينجس ملاقيه مع الرّطوبة (١) ، ولكن لا يجوز الصلاة معه أيضا (٢).

وممّا يرجّح الطّهارة ، الأصل واستصحاب طهارة الملاقي وغير ذلك وممّا يعاضد عدم جواز الصلاة معه ، استصحاب اشتغال الذّمة بالصلاة ، والشّك في تحقيق السّاتر الشّرعيّ.

وقد يكون في موضعين ، مثل الموضع الطّاهر الذي نشر عليه الثوب المغسول من المنيّ ثمّ شكّ في إزالة النّجاسة ، فيحكم بطهارة الموضع وجواز التيمّم والسّجود عليه ، لاستصحاب طهارته السّابقة ، ووجوب غسل الثوب ثانيا وعدم جواز الصلاة فيه.

لا يقال : إنّ الثوب حينئذ محكوم بنجاسته شرعا للاستصحاب ، وكلّ نجس لاقى مع الرّطوبة ما يقبل النّجاسة فينجّسه.

لأنّا نقول : المحلّ أيضا بعد الملاقاة ، محكوم بطهارته شرعا ، للاستصحاب ،

__________________

(١) لأصالة الطهارة فيما يلاقيه.

(٢) لأصالة النّجاسة لعدم إحراز التزكية.


فإنّ كليّة الكبرى ممنوعة ، وإنّما المسلّم في منجّسيّة المتنجّس هو غير ما ثبت نجاسته من الاستصحاب ، وكون المحلّ ممّا يقبل النّجاسة مطلقا أيضا ممنوع.

ومن هذا الباب أيضا الصّيد الواقع في الماء القليل بعد رميه بما يمكن موته به ، واشتبه استناد الموت الى الماء أو الى الجرح ، فيتعارض استصحاب طهارة الماء (١) واستصحاب عدم حصول التذكية ، أعني الموت بالمذكّى الشرعيّ المستلزم لنجاسته.

والأقرب هنا أيضا العمل بهما في غير مادّة التنافي لاستحالة الحكم بطهارة الماء ونجاسته ، ولكن يمكن الحكم بطهارة الماء وحرمة الصّيد (٢).

وأمّا نجاسة الصيد ، فيأتي فيه الكلام السّابق في الجلد المطروح ، وذلك يصير مرجّحا آخر لطهارة الماء أيضا مع سائر المرجّحات.

وإعمال الأصلين المتنافيين في غير موضع التنافي في الشّرع كثير ، فقد يحكم بحرمة الجماع لأحد الزّوجين وحليّته للآخر ، بأن أقرّت على نفسها بما يحرّمه عليها ، وأنكر الزّوج ، ونحو ذلك.

__________________

(١) والكلام فيما لم يثبت ميتته وإلّا ينجس الماء.

(٢) حرمة أكل السّمك المصطاد.


قانون

هو الحكم على الكلّيّ بما وجد في الجزئيّات ، وهو إمّا تامّ ، وإمّا ناقص.

وأمّا الأوّل : فهو ما وجد الحكم في جميع الجزئيّات ، مثل أن يقال : الجسم إمّا حيوان أو نبات أو جماد ، وكلّ منها متحيّز ، فكلّ جسم متحيّز. وهو الذي يسمّونه بالقياس المقسّم ، وهو يفيد اليقين ، ولا ريب في حجّيته ، لكنّه ممّا لا يكاد يوجد في الأحكام الشرعيّة.

وأمّا الثاني : فهو ما ثبت الحكم في الأغلب وهو ممّا يفيد الظّن الغالب ، ويتفاوت الظّن الغالب فيه بتفاوت مراتب الكثرة ، فربّما يصير الظّن متاخما للعلم ، وأمثلته في الشّرع كثيرة.

منها : الحكم بسماع شهادة العدلين ، ومنها : الحكم بأنّ كلّ صلاة واجبة لا يجوز أن تفعل (١) على الرّاحلة ، لأنّ كلّ ما وجدناه من أفراده فهو كذلك ، فيحكم على الكلّيّ بذلك. ويترتّب عليه استحباب الوتر بجوازها على الرّاحلة.

والظّاهر أنّه حجّة ، لإفادته الظّن بالحكم الشرعيّ ، وقد أثبتنا مشروحا أنّ ظنّ المجتهد حجّة ، وليس ذلك من باب القياس حتّى يشمله أدلّة حرمته ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في نسخة الأصل (يفعل).


قانون

في اللّغة : التقدير (١) والمساواة (٢) كما يقال : قست الأرض بالقصبة أي قدّرتها ، و : فلان لا يقاس بفلان أي لا يساوى.

وفي الاصطلاح : إجراء حكم الأصل في الفرع لجامع بينهما ، وهو علّة لثبوت الحكم في الأصل.

وهي إمّا مستنبطة أو منصوصة ، أما الأخير فسيجيء الكلام فيه.

وأمّا الأوّل : فذهب الأصحاب كافّة عدا ابن الجنيد رحمه‌الله من قدمائنا في أوّل أمره ، وبعض العامّة الى حرمة العمل به ، وذهب الآخرون الى جوازه.

وربّما يستدل على الحرمة بالآيات والأخبار الدالّة على حرمة العمل بالظنّ وليس بذلك ، لما مرّ من أنّها ظاهرة في أصول الدّين ، مع أنّا إذا أثبتنا جواز العمل بظنّ المجتهد مطلقا إلّا ما أخرجه الدّليل ، فلا يتمّ الاستدلال بها أيضا ، إذ حرمته بعد التسليم إنّما يسلم مع عدم انسداد باب العلم ، فالأولى الاستدلال بالأخبار المتواترة على ما إدّعاه جماعة من أصحابنا ، روتها العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) وقريب من هذا في «لسان العرب» وفي «مجمع البحرين» والأصل في القياس التقدير.

(٢) في «اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة النّاظر» : ٤ / ٢٠٩٧ يطلق القياس في اللغة على اطلاقين الأوّل : على التقدير ، والثاني : على المساواة ، واختلف العلماء في اللفظ ، فمنهم من جعله حقيقة في التقدير مجاز في المساواة ، ومنهم من جعله مشترك لفظي بين التقدير والمساواة ، ومنهم من جعله مشترك اشتراكا معنويّا بين التقدير والمساواة.


والخاصّة عن أئمّتهم عليهم الصلاة والسلام.

منها : ما نقله البيضاوي وغيره (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة بالقياس ، وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا».

ومنها ما رواه صاحب «المحصول» (٢) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستفرق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام».

وأمّا أخبار الخاصّة فكتبهم مشحونة بها (٣) لا حاجة الى نقلها.

وما يتراءى لنا [يترأنا] في بعض أخبارنا من عمل أئمتنا عليهم الصلاة والسلام بالقياس ، فهو إمّا من باب التقيّة أو المجادلة بالتي هي أحسن ، أو لتعليم أصحابهم طريق دفاع المخالفين كما لا يخفى على البصير ، بل حرمته ضروريّ من المذهب بحيث لا يتخالجه شكّ وريبة ، فإنّا نرى علماءنا في جميع الأعصار والأمصار ينادون في كتبهم الأصوليّة والفقهيّة بحرمته مستندا إيّاها الى أئمّتهم

__________________

(١) كالرّازي في «المحصول» ٤ / ١١٣٨ ، وكالغزالي في «المستصفى» ٢ / ١١٥ ، وأيضا الهيثمي في «مجمع الزّوائد» ١ / ١٨٢ ، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» ٢ / ١٧٩ وغيرهم.

(٢) ٤ / ١١٣٨ ، وكذا ذكره الغزالي في «المستصفى» كما في المصدر السّابق ، وأيضا أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٨ / ٥١ ـ ٥٠ رقم ٩٠ ، والبيهقي في «المدخل» ٢٠٧ ، والحاكم ٤ / ٣٤٠ ، وغيرهم.

(٣) ابن حجر في «المطالب العالية» ٣ / ١٢١ ، وابن عدي في «الكامل» ٢ / ٦٦٣ و ٧ / ٢٤٨٣ ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» ٢ / ١٣٤ و «سند الشّاميين» رقم (١١٧٢) ، و «المستدرك على الصحيحين» ٤ / ٤٣٠ ، و «الإحكام» لابن حزم ، ٢ / ٥٠٦ ، و «كنز العمال» ١ / ١٠٥٦ ، ١٠٥٨ ، وغيرهم كثير.


عليهم الصلاة والسلام.

فنحن نثبت أوّلا حرمة العمل بالقياس كسائر أصول ديننا ومذهبنا بالإجماع والضّرورة والأخبار المتواترة.

ثمّ نقول : إنّ الأصل في الأحكام الفقهيّة جواز العمل بالظنّ ، لا أنّه يحرم العمل بالظنّ إلّا ما أثبته الدّليل ، فإنّه طريق لا يكاد يمكن إتمامه كما شرحناه مستوفى في مباحث الأخبار ، وبذلك يتخلّص عن الإشكال في أنّ دليل وجوب عمل المجتهدين بالظنّ عقليّ قطعيّ مبنيّ على لزوم تكليف ما لا يطاق ، وترجيح المرجوح لولاه ، والدليل القطعيّ لا يقبل التخصيص ، فكيف يستثنى من ذلك القياس.

أو نقول : إنّ ما ذكروه من طرق استنباط العلّة في القياس ، ممّا لا يفيد الظّن ، سيّما بعد ملاحظة ما ورد في الأخبار وكلمات أصحابنا الأخيار من المنع عنه ، سيّما بعد ملاحظة أنّ مبنى الشريعة على جمع المختلفات وتفريق المتّفقات ، فقد ترى أنّ الشّارع حكم باتّحاد المنزوح من البئر لنجاسة الكلب والخنزير والشّاة ، وباختلاف الأبوال النّجسة والمني والبول ، وجمع في موجبات الوضوء بين النوم والبول والغائط ، وحكم بحرمة صوم العيد ووجوب سابقه وندب لاحقه ، وأمر بقطع اليد للسّارق دون الغاصب ، وأمثال ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى.

ومع ذلك ، فكيف يحصل الظّن بعلّة الحكم من دون تنصيص الشّارع العالم بالحكم الخفيّة والمصالح الكامنة ، سيّما مع ملاحظة مثل قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا)(حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) النساء : ١٦٠.


هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)(١). الآية ، فإنّه تدلّ على أنّ علّة التحريم عصيانهم ، لا وصف ثابت في المذكورات.

والإنصاف أنّ منع حصول الظنّ بكثير من الطرق التي ذكروها مكابرة ، فالأولى الاعتماد على الجواب الأوّل.

وأمّا الآيتان فلا ينافيان جواز القياس ، وإلّا فكان القياس منافيا للقول بالنسخ ، ولم يقل به أحد.

وأيضا ، سنبيّن أنّ علّة الحكم قد تكون غائيّة ، وقد تكون فاعليّة ، وقد تكون مادّيّة. فالقياس حينئذ يرجع الى ملاحظة العلّة الباعثة على التحريم ، وهو العصيان ، لا بالنسبة الى حسن أو قبح في نفس الفعل. فيمكن أن يقاس غير اليهود من الظالمين عليهم في حرمة الطيّبات ، لاشتراكهم في الظّلم والعصيان.

احتجّوا بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٢) فإنّ العبور لغة المجاوزة ، والقياس عبور عن حكم الأصل الى الفرع ، وفي هذا الاستدلال من البعد والتمحّل ما لا يخفى على ذي بصيرة ، بل الظّاهر من الاعتبار الاتّعاظ ، وإن كان فيه أيضا مجاوزة وعبور من حال الغير الى حال نفسه.

سلّمنا ، لكنّ سياق الآية يقتضي ذلك ، قال تعالى : (يُخْرِبُونَ)(بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٣) ، فإذا اريد منه حينئذ جاوزوا من

__________________

(١) الأنعام : ١٤٦.

(٢) الحشر : ٢.

(٣) الحشر : ٢.


حكم الخمر الى النبيذ ، أو من البرّ الى الذرّة ، لكان في غاية البعد من الاستقامة ، ولا يليق ذلك بجاهل ، فضلا عن الله تعالى.

وبقوله تعالى : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ)(يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)(١) أنّ كون ذلك استدلالا بالقياس ، ممنوع ، بل يجوز أن يكون مرادهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يكون بشرا ، لعدم قابلية البشر لهذه الرتبة أو أنّ ايثاركم علينا في النبوّة ترجيح بلا مرجّح ، مع أنّ ذلك استدلال بالقياس في العقليّات ، وقياس القياس في الأحكام الشرعيّات التي هو محلّ النزاع بالعقليّات يتضمّن مصادرة لا يخفى إذ المنكر ينكر القياس في الجميع.

واحتجّوا أيضا : ببعض الأخبار الضّعيفة دلالة وسندا ، وبعمل الصّحابة شائعا من دون نكير ، وهو ممنوع ، بل نقل خلافه عن أبي بكر وعمر وابن عبّاس وغيرهم.

وبالجملة ، قطعيّة بطلانه عندنا من جهة مذهب أئمّتنا عليهم الصلاة والسلام يغنينا عن إطالة الكلام في هذا المرام بالنقض والإبرام ، وذكر شرائط القياس وأقسامه وأحكامه ، فلنكتف في هذا الباب بذكر مسألتين :

الأولى

في حجّية المنصوص العلّة ، أعني ما استفيد علّة الحكم من كلام الشّارع ، قبالا لما يستنبط من العقل ، سواء كان صريحا ونصّا مصطلحا ، بمعنى مقابل الظّاهر ، كقوله عليه‌السلام لعلّة كذا ، أو لأجل كذا أو كان ظاهرا مثل دلالة التّنبيه والإيماء كما سنبيّنه.

__________________

(١) ابراهيم : ١١.


ويمكن أن يراد به المعنى المقابل للظاهر ، فيكون مقابلا لدلالة التنبيه ، كما يظهر من بعضهم ، فحينئذ لا بدّ من ذكر دلالة التنبيه على حدة.

واختلف الأصحاب في حجّيته ، فمنعه المرتضى رحمه‌الله (١) وأثبته الآخرون.

وقال المحقّق رحمه‌الله (٢) : إذا نصّ الشّارع على العلّة ، وكان هناك شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم وكان ذلك برهانا.

ولعلّ مراده بشاهد الحال ما يفيد القطع ، كما فهمه بعض المتأخّرين ، ولكن عبارة «الشرائع» (٣) في مبحث الصلاة في ملك الغير يشهد بأنّه يريد من شاهد الحال أعمّ ممّا يفيد الظّن ، حيث جعل من أفراد المأذون [فيه ما حصل الإذن] بشاهد الحال كما إذا كان هناك أمارة تشهد له أنّ المالك لا يكره. واعترضه في «المدارك» (٤) بأنّ ذلك لا يكفي ، بل يلزم العلم بالرضا.

وأمّا كلام العلّامة رحمه‌الله (٥) فليس فيه هذا القيد ، بل أطلق وقال : إنّ العلّة إذا كانت منصوصة وعلم وجودها في الفرع كان حجّة ، وإن قلنا أنّ مراد المحقّق من شاهد الحال الدّالّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة ، كون المقام خاليا عمّا يفيد اشتراك شيء آخر في سببيّة الحكم ، فيرجع كلامه أيضا الى ما هو ظاهر كلامه رحمه‌الله.

وكيف كان ، فوجه حجّية ما ذكره المحقّق ظاهر ، لأنّ التّعليل حينئذ يصير

__________________

(١) راجع «الذريعة» ٢ / ٦٨٤

(٢) في «المعارج» ١٨٥

(٣) «شرائع الاسلام» ١ / ٥٦.

(٤) «مدارك الأحكام» ٣ / ١٨٥

(٥) في «التهذيب» ص ٢٤٨ ، المبحث الثالث.


بمنزلة كبرى كليّة ينضمّ إليها صغرى وجدانيّة ، فيقال : إنّ معنى قول الشّارع : حرّمت الخمر لأنّه مسكر ، أنّ الخمر حرام لأنّه مسكر ، وكلّ مسكر حرام.

فنقول : أنّ النبيذ مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فهو حرام.

وأمّا وجه إطلاق العلّامة فهو أنّ المتبادر من التعليل هو ذلك ، فاعتبار القيد الذي ذكره المحقّق رحمه‌الله لغو ، لخروج ما لم يكن على ظاهر التعليل عن محلّ النزاع ، فلا ضرورة الى إخراجه.

بيان ذلك : أنّ قول الشّارع : حرّمت الخمر لأنّه مسكر ، معناه المتبادر ، لأنّه من أفراد المسكر ومن مصاديقه ، لا لأنّه هذا الفرد الخاصّ من المسكر.

وكذلك قوله عليه‌السلام حرّمت الخمر لإسكاره ، المتبادر منه لأجل الإسكار الحاصل في الخمر لا غير الإسكار ، لا لأجل الإسكار المختصّ بالخمر ، لا للإسكار الحاصل في غيره.

وتوضيح ذلك : أنّ القصر (١) قد يكون للصّفة وقد يكون للموصوف ، فإذا لاحظنا كون الخمر من أفراد كليّات متعدّدة كالمائع والمسكر والحاصل من العنب ، فإذا أضفنا أحد الكليّات إليها فقد يزيد بالإضافة مقصوريّة حكم عليها من جهة كونها من أفراد ذلك الكلّي دون غيره من الكليّات ، فيقال : حرمة الخمر لأجل إسكاره لا لأجل ميعانه ، ولا لأجل كونه من ماء العنب.

وقد يزيد مقصوريّة الحكم عليها من جهة تحقّق ذلك الكلّي في ضمن هذا الفرد لا الفرد الآخر ، فيقال : حرمة الخمر لأجل الإسكار المختصّ بها ، لا لأجل مطلق الإسكار ، فلا بدّ أن يلاحظ أنّ المتبادر من اللّفظ أيّ المعنيين.

__________________

(١) اي قصر الحكم.


والإنصاف أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل ، والثاني في غاية البعد ، بل هو محض احتمال لا يلتفت اليه. ومن ذلك ظهر بطلان حجّة المانعين ، وهو أنّ العلّة كما يمكن أن تكون هي الإسكار في المثال المذكور ، فيحتمل أن تكون هي إسكار الخمر بحيث تكون الإضافة الى الخمر معتبرة في العلّة ، فإن لم نقل بحصول القطع بذلك فلا ريب في حصول الظّن القويّ ، والظّن المستفاد من دلالة الألفاظ لا ريب في حجّيته ولا إشكال في جواز العمل به ، وليس الظّن الحاصل منه أقصر من سائر الظنون. وإنّما دعا المحقّق وأمثاله الى الفرار عنه (١) على ما هو ظاهر كلامه واعتبار شاهد الحال على سقوط اعتبار غيرها الخوف من الوقوع في القياس ، وأنت خبير بأنّ هذا ليس بقياس ، بل هو مدلول كلام الشّارح ، فهو في الحقيقة قضيّة كليّة مستفادة من الشّرع ، يندرج تحته ما هو من أفراده ، وعلى فرض تسليم تسميته قياسا ، فلا دليل على حرمته.

والحاصل ، أنّ الإجماع والضّرورة لم يتنافى [يتبنا في] حرمة العمل بهذا القسم من القياس لو سلّم كونه قياسا ، وكذلك الكلام في المسألة الآتية (٢) لو جعلناها من القياس.

وأمّا الأخبار ، فدلالتها موقوفة على ثبوت الحقيقة الشّرعيّة للفظ القياس في هذا القسم ، أو أنّ مرادهم من الأخبار ما يشتمل [يشمل] ذلك ولم يثبت الحقيقة الشرعية فيه ، ولم يعلم أنّ مصطلح زمانهم (٣) أيضا ذلك. والقدر المتيقّن هو

__________________

(١) اي عن الاحتمال المذكور في حجّة المانع.

(٢) وهي مسألة القياس بالأولويّة.

(٣) وهو مصطلح العرف في زمانهم.


القياس المستنبط ، سيّما ومن المعلوم أنّ ردعهم عليهم‌السلام إنّما كان عن العمل بما أحدثوه وأبدعوه من قبل أنفسهم ومن جهة عقولهم القاصرة لقصر العقول عن البلوغ الى مصالح الأحكام المخفيّة ، ولم يتمسّك من تمسّك بذلك فيما نحن فيه إلّا من جهة الاعتماد على كلام الشارع ، غاية الأمر التشكيك في الدخول وعدم الدخول ، فلم يثبت الحرمة.

وأما الجواز ، فيمكن إثباته لاندراجه تحت عموم ظنّ المجتهد ، أو نقول : إنّ النّسبة بين ما دلّ على حرمة العمل بالقياس ووجوب العمل بمدلولات الأخبار ، تعارض من وجه ، وذلك أقوى لاعتضاده بالأصل والشهرة وغيرهما.

ثمّ إنّ العلّامة رحمه‌الله قال : لا نزاع بين الفريقين في أنّ العلّة المستفادة من الشّرع بعنوان الاستقلال واجب الاتّباع. يعني ، أنّا إذا علمنا أنّ علّة حرمة الخمر هو مطلق الإسكار مستقلّا فلا نزاع في التعدّي ، إنّما النّزاع في أنّ معنى قول الشّارع : حرّمت الخمر لأنّه مسكر ، هل هو ذلك أم لا.

واعترضه صاحب «المعالم» رحمه‌الله : (١) بأنّ السّيد رحمه‌الله مع أنّه معترف بأنّه يفيد العلّيّة فهو من المانعين ، فلعلّ العلّامة رحمه‌الله لم يقف على احتجاجه ، فإنّه احتجّ على المنع بأنّ علل الشّرع إنّما تنبئ عن الدّواعي الى الفعل ، أو عن وجه المصلحة فيه ، وقد يشترك الشّيئان في صفة واحدة وقد تكون في احداهما داعية الى فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه ، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة ، وقد يدعو الشّيء الى غيره في حال دون حال ، وعلى وجه دون وجه ، وقدر منه دون قدر. قال : وهذا باب في الدّعاوي معروف ، ولهذا جاز أن يعطى على وجه الإحسان فقير دون فقير

__________________

(١) ص ٥١٦


ودرهم دون درهم وفي حال دون حال ، وإن كان فيما لم نفعله الوجه الذي فعلناه بعينه ، الى آخر ما ذكره (١).

ثمّ قال (٢) : ودلالته على كون النّزاع في المعنى ظاهرة ، يعني أنّ النزاع في إفادة العلّة تعدّي الحكم ، لا في مجرّد أنّ اللّفظ هل يفيد العليّة أم لا.

أقول : وحاصل كلام السيّد رحمه‌الله على ما فهمه بعض المحقّقين (٣) أيضا هو ما ذكرناه في حجّة المانعين ، من أنّه يمكن أن يكون العلّة باعثة وداعية الى الحكم في المحلّ الخاصّ لا مطلقا ، أو تكون تلك العلّة مصلحة للحكم في خصوص المحلّ لا غير.

سلّمنا ، لكن يرجع النّزاع مع السيّد رحمه‌الله الى أنّ المثبتين يقولون : يستفاد العليّة من قوله : لأنّه مسكر ، ولكنّ المراد من العلّة هو العلّة التامّة العامّة الغير المختصّة بالمحلّ.

والسّيد أيضا يقول : يستفاد العليّة منه ، ولكنّ المراد منها أعمّ ، فيرجع النزاع الى تفسير معنى العلّة ، كما أنّه على ما ذكره العلّامة رحمه‌الله يرجع النزاع الى تفسير قول الشّارع : لأنّه مسكر ، مثلا.

ثمّ إنّ العلّة المستفادة قد تكون من جملة العلل الفاعليّة ، وقد تكون من جملة العلل الغائيّة ، وقد تكون غيرهما ، وكلّها داخلة في المبحث ، ووجوه المصالح الكامنة في نفس الشّيء الواجب أو الحرام من الأسباب التي تشبه أن تكون من

__________________

(١) في «المعالم» ص ٥١٦

(٢) الشيخ حسن في «معالمه» ص ٥١٧

(٣) كالشيخ حسن في المعالم ص ٥١٧


العلل الماديّة.

فقول الشّارع : إذا وجدت طعم النّوم فتوضّأ ، يدلّ على أنّ العلّة في وجوب الوضوء هو النّوم ، وكذا غيره من الموجبات ، وكذلك : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) يدلّ على أنّ الصلاة علّة غائيّة.

والمراد بالعلّة هنا هو السّبب ، ولا مانع من تعدّد الأسباب.

وكذلك : يحرم الخمر لأنّه مسكر ، يدلّ على أنّ العلّة في الحرمة هو جهة القبح الحاصلة من الخمر من جهة الإسكار ، ويمكن إدراجه تحت العلّة الغائيّة ، يعني لئلّا يحصل به السّكر ، كما يمكن إدراجه تحت الماديّة. وكذلك : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأنّ له مادة» (٢).

تدلّ على أنّ تلك العلّة الماديّة يقتضي عدم التنجّس.

وبأدنى تأمّل يظهر لك وجه التعدّي وطريقته في كلّ موضع ، فالتعدّي في الأوّلين من المخاطب بالوضوء والصلاة شفاها الى غيره إذا حصل فيه العلّة ، وفي الثالث من الخمر الى كلّ مسكر ، وفي الرابع من البئر الى ماء الحمّام ونحوه ، وهكذا.

ثم إنّ العلّة قد تكون علّة لنفس الحكم من حيث هو ، فلا يتخلّف عنها أينما وجدت ولا يثبت بدونها أبدا ، وقد تكون علّة لتشريع (٣) عبادة وتأسيس أساس.

وبعبارة اخرى : تؤسّس أساسا وتشريع [والشّرع] عبادة لأجل حصول

__________________

(١) المائدة : ٦

(٢) «الوسائل» ١ / ١٤١ ح ٣٤٧

(٣) أو قل جزء علّة : وقد يسمونها بالحكمة.


مصلحة ، وذلك لا يستلزم تلازم العلّة مع جميع أفراد تلك العبادة والأساس كما أنّ سور البلد يحاط عليه لأجل دفع ما عسى أن يسنحه سانح (١) وإن لم يسنحه السّوانح في الغالب. ومن هذا القبيل تعليل غسل الجمعة برفع أرياح الآباط (٢) ، وتسنين العدّة لأجل عدم اختلاط المياه ، فذلك لا ينافي عدم الرّخصة في تركهما إذا انتفت (٣) العلّة والمصلحة ، كما لا ينافي رجحان شيء آخر يوجب ذلك من غسل البدن والتنظيف ، وغيره من غير جعله عبادة شرعيّة.

تنبيه

لمعرفة العلّة طرق مقرّرة عند القائسين مضبوطة في مظانّها.

وحاصل الكلام فيه ، أنّ العلّة إما تستفاد من جهة الشّارع من إجماع بسيط أو مركّب ، أو كتاب أو سنّة أو من جهة غيره.

أمّا الأوّل : فأمّا المستفاد من الإجماع فكثير ، مثل أنّ التعدّي (٤) من قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٥). الى وجوب غسل البدن والإزالة عن المسجد والمأكول والمشروب وغيرهما ، إنّما هو لأجل استفادة أنّ علّة

__________________

(١) السّانح : ما أتاك عن يمينك ، ويقال : سنح لي رأي وشعر يسنح أي عرض لي أو تيسّر ، وقد ذكر في موضعه ابن السّكيت يقال : سنح له سانح فسنحه عما أراد أي ردّه وصرفه ، وسنح بالرّجل وعليه : أخرجه أو أصابه بشرّ ، راجع «لسان العرب» مادة سنح.

(٢) جمع إبط وهو ما تحت الجناح ، يذكّر ويؤنّث. وأرياح : مقصوده روائح الآباط.

(٣) في نسخة الأصل (انتفى).

(٤) التّعدي بالعلّة المستفادة من الاجماع.

(٥) «الوسائل» ٣ / ٤٠٥ ح ٣٩٨٨.


وجوب الغسل عن الثّوب هي النّجاسة ودليله الإجماع ، فيجب الاحتراز عنه في كلّ ما يشترط فيه الطهارة.

وأمّا الكتاب والسنّة : فإمّا يستفاد العلّة منهما بصريح اللّفظ الدالّ عليها بالوضع ، أو بسبب التّنبيه والإيماء المحسوب من الدلالة الالتزاميّة ، ولكلّ منهما مراتب مختلفة في الوضوح والخفاء.

أمّا الأوّل : فكقوله عليه‌السلام : لعلّة كذا أو لأجل كذا أو لأنّه كذا أو كي يكون كذا أو إذن يكون كذا ، ونحو ذلك. ودونها في الظّهور اللّام والباء وإن كانت هذه أيضا ظاهرة.

وأمّا الثاني : أعني دلالة التّنبيه والإيماء ، فقد مرّ الإشارة إليه في مباحث المفاهيم. ونقول هنا أيضا : إنّ الضابطة فيه كلّ اقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا ، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعرابي الذي قال : واقعت امرأتي في شهر رمضان وأنا صائم. «أعتق رقبة» (١). فإنّ السّؤال عن مثله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتضي الجواب المطابق. فجوابه لا بدّ أن يكون لحصول غرضه. فكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا واقعت فكفّر. وكما أنّ هذا اللّفظ دالّ على التعليل ، فكذلك تقديره وإن كان دونه في الظّهور ، لحصول الاحتمال البعيد بعدم قصد الجواب ، كما إذا قال العبد : طلعت الشمس ، فقال المولى : اسقني ماء.

ولكن هذا الاحتمال في مثل ما نحن فيه ، لا يلتفت إليه قبل ، وهذا هو مراد المحقّق رحمه‌الله في «المعتبر» حيث حكم بحجّية تنقيح المناط القطعيّ كما إذا قيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّيت مع النّجاسة. فيقول : أعد صلاتك. فإنّه يعلم منه أنّ علّة الإعادة

__________________

(١) «الوسائل» ١٠ / ٤٦ ح ١٢٧٩٣


هي نجاسة البدن أو الثوب ، ولا مدخليّة لخصوص المصلّي أو الصلاة ، وكذلك لا مدخل في الأعرابية إذ الهنديّ والأعرابيّ حكمهما في الشّرع واحد ، وكذا كون المحلّ أهلا فإنّ الزّنا أجدر. وأفرط الحنفيّة وقالوا : لا مدخليّة لكونه وقاعا أيضا ، فيكون الأكل وغيره من المفطرات أيضا كذلك.

أقول : إن ثبت انحصار العليّة من القاطع الخارجيّ كالإجماع ، فلا كلام فيه ، ولكنّه خارج عمّا نحن فيه ، وإلّا فيرجع الكلام في ذلك الى السّبر والتقسيم. وسيجيء أنّه لا يفيد القطع ولا يجوز الاعتماد عليه ، مع أنّ الحكم بأولويّة لزوم العتق في صورة الزّنا ممنوع ، وستعرف الكلام في تحقيق ما هو المعتبر في القياس بطريق الأولى إذ غاية الأمر أن يحكم العقل بأنّ الزّنا أجدر وأولى بالانتقام ، لكنّه هل هو في الآخرة أو في الدّنيا وأنّه القتل أو الرّجم أو الكفّارة أو غيرها ، فيحتاج تعينها [تعيينها] الى دليل.

فالتّحقيق أنّ دلالة التّنبيه مبتنية على الاستفادة من اللّفظ من باب الالتزام ، وحجّية هذه الاستفادة تثبت بما ثبت منه حجّية سائر الدلالات اللّفظية ، وليس ذلك من جهة تنقيح المناط ، أعني إلقاء الفارق وإثبات الجامع به ، كما سنشير إليه. ومن أمثلة التّنبيه : أنّه عليه‌السلام سئل عن جواز بيع الرّطب بالتّمر (١). فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أينقص الرّطب إذا جفّ؟ فقالوا : نعم. فقال : فلا إذن». فاقتران الحكم أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا ، بالنقصان ، ينبّه على أنّ علّة منع البيع هو النقصان.

واعلم ، أنّ في هذا المثال قد اجتمع التصريح والتنبيه ، لمكان الفاء ، وإذن ، ولا منافاة ، لاستفادة العليّة بدونهما أيضا.

__________________

(١) «عوالي اللئالي» ٢ / ٢٥٤ ح ٢٨


ومن أمثلته أن يفرّق بين حكمين بوصفين مثل : للرّاجل سهم وللفارس سهمان.

وكذلك ذكر الوصف المناسب وهو في الاصطلاح وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (١). ومثل : أكرم العلماء وأهن الجهّال. فيغلب في الظّن من [مع] المقارنة مع المناسبة ظنّ الاعتبار.

وأمّا مثال النّظير ، فهو ما رواه الجمهور من حكاية سؤال الخثعميّة فإنّها قالت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحجّ ، فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك. فقالت : نعم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فدين الله أحقّ أن يقضى» (٢). فإنّها سألته عن دين الله فذكر نظيره وهو دين الناس ، فنبّه على التعليل به ، أي كونه علّة للنفع ، وإلّا لزم العبث ، فيفهم منه أنّ نظيره وهو دين الله أيضا علّة للنفع.

وأمّا الثاني : أي ما يستفاد من غير الشّرع ، فهي وجوه ، منها :

الدّوران ، وهو الاستلزام في الوجود والعدم ، وسمّي الأوّل بالطّرد والثاني بالعكس ، وقد يكون في محلّ واحد ، كإسكار الخمر ، فإنّ الحرمة دائرة معه وجودا وعدما ، فقبل حصول السّكر حلال ، وبعد انقلاب الخمر خلّا حلال ، وفي حال الإسكار حرام.

وقد يكون في محلّين ، ككون الشّيء مكيلا بحرمة التّفاضل ، فإنّ التّفاضل

__________________

(١) «الكافي» ٧ / ٤١٣ ح ٢

(٢) «بحار الأنوار» ٨٥ / ٣١٥


حلال في الثياب دون الحنطة والشّعير مثلا ، والأوّل أقوى لكونه أقلّ احتمالا من الثاني.

واختلفوا فيه ، والأكثر على المنع ، لأنّ بعض الدّورانات لا يفيد ظنّ العليّة ، كدوران الحدّ والمحدود والعلّة والمعلول المتساوي ، والمعلولين المتساويين لعلّة واحدة ، والحركات والزّمان ونحو ذلك ، فلا يفيد أصله.

بيان الملازمة : أنّ الاقتضاء إن كان من ماهيّة ، فلا يمكن التخلّف ، وإن كان من جهة خصوص محلّ خاصّ ، فلم يستفد من الدّوران. والإنصاف أنّ حصول الظّن بكثير منها ، مثل ما كان العلّة وصفا مناسبا لا يمكن إنكاره ، بل قد يوجب إفادة القطع كما في التجربيّات ، ولكنّه ليس ذلك من جهة الدّوران من حيث هو.

ومنها : السّبر والتقسيم ، وهو عبارة عن عدّ أوصاف ادّعي بالاستقراء الانحصار فيها ، وسلب العليّة عن كلّ واحد منها إلّا المدّعى ، وهو أيضا يفيد القطع إذا ثبت بالدليل القاطع انحصار الأوصاف في المعدود ، وثبت بالقاطع سلب العلّيّة من غير واحد منها ، وهو في العقليّات كثير ، لكنّها في الشرعيّات لا يكاد يوجد ، وكيف كان فالكلام في إفادة الظّن بالعلّيّة في الشرعيّات.

واحتجّ المثبت : بأنّ الأحكام لمّا كانت في الغالب معلّلة بعلل ظاهرة ، ولم يظهر للمجتهد بعد البحث والتأمّل سوى الأوصاف المذكورة ، وانتفت (١) العلّيّة عن كلّ واحد سوى الوصف المدّعى ، فيغلب الظّن بتعليل الحكم به.

واحتجّ النافون (٢) ـ وهم الأكثرون ـ : جواز الاستغناء عن العلّة ، لأنّه لو وجب

__________________

(١) في نسخة الأصل (وانتفى)

(٢) للظن وللحجيّة من جهة نفي الظّنّ.


التعليل لزم التسلسل ، فإنّ الحكم بعلّيّة العلّة يحتاج الى علّة ، وهكذا عليّة تلك العلّة وهلم جرّا.

سلّمنا ، لكن يجوز أن يكون العلّة جزئيّ أحدها أو ما يتركّب من بعضها ، مثل وصفين منها أو ثلاثة أو مجموعها.

سلّمنا ، لكن يجوز كون الحكم موقوفا على شرط موجود في الأصل مفقود في الفرع ، أو ثبوت مانع في الفرع.

والتّحقيق ، أنّ هذه الاحتمالات تمنع القطع لا الظّن ، ولكن لا حجّة في العمل بهذا الظّن ، بل قام الدليل والضّرورة على بطلانه.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ إلحاق حكم المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون بإلقاء الفارق ، فيقال : لا فرق بين الأصل والفرع إلّا كذا وكذا ، وكلّ ذلك لا تأثير له في الحكم ، وهذا الذي تسمّيه الحنفيّة استدلالا (١) ، وسمّاه الغزالي (٢) ب : تنقيح المناط ، وهو أن يقال : هذا الحكم لا بدّ له من مؤثّر ، وهو إمّا القدر المشترك بين الأصل والفرع ، أو القدر الذي امتاز به الأصل من الفرع ، والتالي باطل لأنّ الفارق ملغى ، فثبت أنّ المشترك هو العلّة ، وهو متحقّق في الفرع ، فيجب تحقّق الحكم فيه ، وأنت خبير بأنّ هذا أيضا يرجع الى السّبر والتقسيم.

ويرد عليه ما يرد عليه ، وفرض حصول القطع في ذلك إنّما يكون من جهة أمور خارجة ، كما أشرنا سابقا.

ومنها : تخريج المناط ، ووجه تسميته أنّه إبداء مناط الحكم.

__________________

(١) في «المستصفى» ٢ / ٩٨

(٢) في «المستصفى» ٢ / ٩٨ ، وفي «المحصول» ٤ / ١٢٣١


وحاصله ، تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم ، من دون نصّ أو غيره ، كالإسكار لتحريم الخمر فإنّه مناسب لشرع التحريم ، وكالقتل العمد العدواني فإنّه مناسب لشرع القصاص ، ويسمّى مناسبة وإخالة أيضا لأنّه بالنظر إليه يخال أنّه علّة ، أي يظنّ [بظنّ].

وأمّا تحقيق المناط ، فهو عبارة عن النّظر والاجتهاد في وجود العلّة المعلومة علّيّتها بنصّ الشّارع أو استنباط في الفرع.

المسألة الثانية

وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع أقوى وأوكد منه في الأصل. ويظهر من بعضهم (١) أنّه هو القياس الجليّ كما يستفاد من صاحب «المعالم» (٢). والظّاهر أنّه أعمّ منه من وجه كما يظهر من تعريف الأكثر للقياس الجليّ : بأنّه ما كان الفارق بين أصله وفرعه مقطوعا بنفيه ، أي بنفي تأثيره. سواء كانت العلّة الجامعة بينهما منصوصة ولو بالالتزام ، كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما ، العلّة كفّ الأذى عنهما.

أو غير منصوصة ، كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب [النّصف] عند العتق ، يعني إذا أعتق أحد الشّريكين شقصه (٣) ، حيث عرفنا أنّه لا فارق بينهما إلّا الذّكورة في الأصل ، والأنوثة في الفرع ، وعلمنا عدم التفات الشّارع الى ذلك في

__________________

(١) كالعلّامة في «التهذيب» ص ٢٧٢ ، وكثير من العامة.

(٢) ص ٥١٨

(٣) الشّقص : النّصيب ، وفي العين المشتركة من كل شيء ، والجمع أشقاص ، ومنه «انّ رجلا اعتق شقصا من مملوك».


العتق خاصة.

وأمّا الخفيّ ، فهو ما لا يكون نفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع مقطوعا به ، كقياس القتل بالمثقّل على القتل بالمحدّد ، وأنت خبير بأنّ هذا التعريف للجليّ يشمل ما لو كان العلّة في الفرع أضعف ، أو مساويا أيضا.

ثمّ إنّ دعوى كون ما كان الجامع فيه في الفرع أقوى ممّا يحصل به العلم الشرعيّ بسبب العلم بعدم تأثير الفارق فيه مطلقا محلّ تأمّل واضح ، لأنّه إذا كانت (١) العلّة مستفادة من غير النصّ من وجوه الاستنباط ، فإذا لم يعتمد عليها في الأصل ولم يحصل الاطمئنان بالعليّة ، فكيف يكتفى بوجودها في الفرع وإن كان أقوى ، مع أنّه كيف يحصل العلم بعدم تأثير الفارق بمجرّد كون العلّة آكد في الفرع إلّا أن يقال : إنّ المفروض نفي تأثير الفارق من جميع الوجوه إلّا من جهة مدخليّة خصوصيّة المادّة ، وفيما كان الوصف المناسب في الفرع آكد ينتفي هذا الاحتمال أيضا ، فإنّ الإيذاء إذا كان علّة لتحريم التأفيف ، فالقول بأنّه لعلّه كان لخصوصية الإيذاء الحاصل بالتأفيف مناسبة للتحريم لم تكن حاصلة في الضّرب باطل ، لأنّ احتمال مدخليّة الخصوصيّة إنّما هو لاحتمال أن يكون للمادّة مدخليّة في التحريم ، ومناسبة للحكم بالتحريم لم تكن لمادّة أخرى كالضّرب وهو معلوم الانتفاء.

فالحاصل ، أنّ القياس حجّة إذا حصل الظّن بالعليّة في مورد الحكم ، ولو من غير جهة النصّ. وفرض انحصار المانع عن حصول الظّن بالعليّة مطلقا في احتمال مدخليّة المادة ، وإذا انتفى هذا الاحتمال بسبب الأولويّة ، فتصير العلّة مستقلّة ،

__________________

(١) في نسخة الأصل (كان)


وهذا هو الباعث لبعض أصحابنا على العمل به. وأنت تعلم أنّ حصول الظّن بالعليّة لم يثبت جواز الاكتفاء به مطلقا ، بل لا بدّ إمّا من القطع أو الظّن الذي لم يدلّ دليل على بطلانه كالمنصوص العلّة ، فلا بدّ أوّلا من إثبات علّة الحكم في الأصل في الجملة ، ثمّ إبطال تأثير الفارق بينه وبين الفرع ، بحيث تصير العلّة قطعيّة في نفس الأمر ، أو قطعيّة العمل ثمّ العمل عليه ، وإلّا فلا دليل على جواز العمل عليه ، وإن كان عليّتها في الفرع أظهر وآكد.

وبالجملة ، القول بحجيّة القياس بطريق الأولى.

أمّا من جهة محض كون العلّة في الفرع آكد ، وإن كان استنباط العلّة من مثل الدّوران والترديد ، فلا دليل على حجّيته أصلا.

وأمّا من جهة الإجماع على كون الوصف علّة مستقلّة أو غيره ممّا يفيد القطع ، فلا حاجة في الحجّية الى الآكديّة في الفرع.

وأمّا من جهة النصّ بالعليّة في الأصل بأن يفهم منه كونها علّة مستقلّة ، فلا حاجة في الحجّية أيضا الى كونها في الفرع آكد كسائر أفراد المنصوص العلّة ، وكذا ما كان من قبيل دلالة التّنبيه.

وأمّا من جهة المستفاد من النصّ هو العليّة في الجملة ، بمعنى أنّا نفهم منه أنّ العلّة مع الخصوصيّة مثبتة للحكم ونشك أنّ للخصوصيّة مدخليّة أم لا ، ولم يكن تأمّل في استقلال العلّة إلّا من جهة الخصوصيّة ، واحتمال مدخليّة الأصل في عليّة العلّة لأجل مناسبة بينها وبين العلّة يقوّيها.

وحينئذ يمكن أن يقال : إنّ الآكديّة في الفرع ينفي هذا الاحتمال ، فإنّه ينفي ما يتصوّر أشديّة مناسبة العلّة للحكم في الأصل ، فينتفي الفارق رأسا على المفروض ، ومن ذلك يعلم أنّ مرادهم من القطع بانتفاء الفارق واندراج ذلك تحت


القياس الجليّ ، هو أنّ الخصوصيّة لا مدخليّة لها (١) جزما.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا يجوز الاعتماد على مجرّد آكديّة العلّة في الفرع ، بل إنّما يجوز العمل به إذا كان في النصّ تنبيه على العلّة وانتقال من الأصل الى الفرع ، وهذا هو المعبّر عنه بالمفهوم الموافق ، وذكروا له أمثلة :

منها : قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢).

ومنها : قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(٣). الآية. ومنها : قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)(٤). الآية. وهو الذي يقولون أنّه تنبيه بالأدنى على الأعلى ، أو بالأعلى على الأدنى ، أي بالتّأفيف على الضّرب مثلا ، أو بالقنطار على الدّينار ، وإن شئت فاقتصر على التّنبيه بالأدنى على الأعلى بأن تجعل الأدنى عبارة عن الأقلّ مناسبة لترتّب الحكم عليه ، والأعلى عن الأكثر مناسبة ، فإنّ التأفيف أقلّ مناسبة بالتحريم من الضّرب ، والذّرة بالجزاء ممّا فوقها ، والقنطار أقلّ مناسبة بالتأدية ممّا دونه ، والدّينار أقلّ مناسبة بعدمها ممّا فوقه ، ولذلك كان الحكم في المسكوت أولى ، ولأجل مدخليّة المناسبة اختلفوا في أنّ دلالة هذه الآيات على الأعلى هل هو من باب القياس الجليّ أو المفهوم أو المنطوق؟

فقيل : إنّه من باب القياس ، وهو ظاهر العلّامة رحمه‌الله في «التهذيب» (٥) ، حيث

__________________

(١) في نسخة الأصل (له).

(٢) الإسراء : ١٣.

(٣) الزلزلة : ٧.

(٤) آل عمران : ٧٥.

(٥) ص ٢٤٨


قال بعد نقل منع التعبّد بالقياس من الشيعة : والأقوى عندي أنّ العلّة إذا كانت منصوصة وعلم وجودها في الفرع ، كان حجّة ، وكذا قياس تحريم الضّرب على تحريم التّأفيف.

وقال في موضع آخر (١) بعد ذلك : أمّا إذا نصّ على العلّة ثمّ علم وجود تلك العلّة في الفرع فإنّ الحكم يتعدّى إليه ، إذ لولاه لوجد المقتضي مع انتفاء معلوله ، وهو باطل. ولا يمكن أن يكون ما نصّ الشّارع عليه مخصّصا بمحلّ الوفاق وإلّا لم تكن العلّة تامّة ، وقياس الضّرب على التّأفيف ليس من هذا الباب ، لأنّ الحكم في الفرع أقوى. انتهى.

وظاهر كلامه أنّه يعمل بمجرّد كون العلّة في الفرع أقوى وإن لم يثبت العليّة بالقاطع من إجماع أو نصّ صريح أو تنبيه ، وهو مشكل لظهور كونه قياسا ، واندراجه تحت ما دلّ على حرمته من الأخبار وإن لم يسلّم ثبوت الإجماع والضّرورة فيه ، سيّما مع ورود الأخبار في خصوص ما كان الفرع أقوى أيضا ، مثل ما رواه الصدوق رحمه‌الله في باب الديات (٢) ، عن أبان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل». قلت : قطع اثنين. قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : «ثلاثون». قلت : قطع أربعا؟ قال : «عشرون». قلت : سبحان الله ، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرّأ ممّن قال ، ونقول : إنّ الذي قاله شيطان.

__________________

(١) من «التهذيب» ص ٢٥١

(٢) «من لا يحضره الفقيه» ٤ / ١١٩ ح ٥٢٣٩.


فقال عليه‌السلام : مهلا يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ المرأة تعاقل الرّجل الى ثلث الدّية فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة الى النّصف. يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسّنّة إذا قيست محق الدّين».

وما روي من قوله عليه‌السلام لأبي حنيفة (١) : «لو كان الدّين يؤخذ بالقياس لوجب على الحائض أن تقضي الصلاة لأنّها أفضل من الصّوم».

وبالجملة ، ظاهر كلام العلّامة هذا وكثير من استدلالاته واستدلالات غيره من فقهائنا في كثير من المواضع ، يأبى عن حمل قولهم على ما لو كان في دليل الأصل تنبيه على العلّة أو نصّ أو إجماع ، وإلّا لما احتاج الى الاعتماد على الأولويّة.

والذي يظهر منهم الاعتماد على مجرّد الأولويّة مع أنّ كثيرا من تلك المواضع إنّما يثبت الحكم في الأصل بالإجماع ، أو يلازم دليل آخر ، وليس من الأدلّة النطقيّة التي يستفاد منها العلّة بالنصّ أو بالتّنبيه أو ثبت بالكتاب والسنّة ، لكن ليس فيها تنصيص ولا تنبيه بالعلّة. فقد تراهم يستدلّون في مسألة كون الزّنا بذات البعل محرّما أبدا بالأولويّة بالنّسبة الى تزويجها ، مع أنّهم يستدلّون في كون تزويجها محرّما أيضا بالأولويّة بالنّسبة الى تزويجها في العدّة الرجعيّة الثّابت تحريمها بالنصّ ، فأين النصّ على العلّة في الأصل أو التّنبيه عليها ، مع أنّه لو استدلّ في كون التزويج بها محرّما أبدا بالنصّ مثل موثّقة أديم بن الحرّ (٢) قال : قال أبو عبد الله عليه الصلاة والسلام : «التي تتزوّج ولها زوج ، يفرّق بينهما ، ثمّ لا يتعاودان أبدا».

__________________

(١) وفي مؤداها في «الوسائل» ج ١٨ باب ٦ صفات القاضي ح ٢٥ ـ ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) «تهذيب الأحكام» ٥ / ١٣٢٩ ح ١١٣٢ ، «الوسائل» ٢٠ / ٤٤٦ ح ٢٦٠٥٥


فنقول : لم يستفد من الحديث بعنوان القطع ولا الظّن أنّ العلّة هو (١) هتك عرض الزّوج والدّخول في حريم المتزوّجة حتّى يقال : إنّ الدّخول في الحريم وهتك العرض في جانب الزّنا أقوى وآكد ، مع أنّه لو سلّم ذلك ، فيمتنع كونها فيه أقوى ، بل التزويج أدخل في الاعراض عن الاعتناء بشأن الزّوج الأوّل ، وهو كلام وقع في البين بتقريب أنّ ظاهر كلام العلّامة رحمه‌الله أنّ مراده ليس بيان تفريع محض آية التّأفيف وأمثاله ، بل مراده حكم جواز قياس ما كان العلّة في الفرع أقوى ، سواء ورد بأصله نصّ أم لا.

فلنرجع الى ما كنّا فيه من خلافهم في تفريع آية التّأفيف وأمثاله على قياس [القياس] الجليّ أو المفهوم أو المنطوق. والذي يقول : إنّه من باب القياس الجليّ ، لا بدّ أن يقول : يحصل من ملاحظة الفرع أنّ الفارق الذي يتصوّر من جانب الأصل ـ وهو الخصوصيّة ـ ملغى ، لأنّ الفرع أشدّ مناسبة للحكم ، فيتعدّى إليه من هذه الجهة. والذي يقول : بأنّه من باب المفهوم الموافق ، يقول : إنّه دلالة التزاميّة للّفظ ويسمّونه : فحوى الخطاب ولحن الخطاب (٢). والذي يقول : إنّه [دلالة التزامية للفظ] منطوق ، يقول : إنّ المنع من التّأفيف في العرف حقيقة في المنع عن الأذيّة ، للتبادر.

__________________

(١) التّذكير باعتبار خبره وهو لفظ هتك ، كما في الحاشية.

(٢) فحوى الخطاب ما يفهم منه على سبيل القطع ذكره المحقّق السّلطان في حاشيته ص ٣٣٤ نقلا عن العلّامة الشيرازي في شرحه على «المختصر». ولحن الخطاب أيضا هو ما يفهم من الكلام ، وعن «القاموس» ألحنه القوم أفهمه إيّاه تلحنه واللاحن العالم بغرائب الكلام وهذا يقتضي دخول القطع في مفهوم اللحن أيضا ، فالفحوى واللحن مترادفان لغة واصطلاحا ، كما عن حاشية القزويني.


وكذلك مثل قولهم : لا تعطه ذرّة ، حقيقة في المنع عن الإعطاء مطلقا ، وهكذا.

واحتجّ القائل (١) : بأنّه ليس من باب القياس ، بأنّا نقطع بإفادة الصّيغة للمعنى من غير توقّف على استحضار القياس المصطلح.

وأجيب (٢) : بأنّ المتوقّف على استحضاره هو القياس الشرعيّ لا الجليّ ، فإنّه بما يعرفه كلّ من يعرف اللّغة من غير افتقار الى نظر واجتهاد.

أقول : بعد ما عرفت ما ذكرنا في القياس الجليّ ، ظهر لك بطلان هذا الإطلاق في كلام المجيب ، إلّا أن يريد بالجليّ هذا القسم الخاصّ منه.

واحتجّ القائل (٣) بأنّه من باب القياس : أنّه لو قطع النّظر عن المعنى المناسب الموجب للحكم الجامع بينهما ، وعن كونه آكد في الفرع لما حكم به ، وهو معنى القياس.

وأجيب (٤) : بأنّه لم يعتبر لإثبات الحكم حتّى يكون قياسا ، بل لكونه شرطا في دلالة الملفوظ على حكم المفهوم. يعني أنّ الانتقال الى الفرع بواسطة ملاحظة المعنى المناسب ، ليس من باب القياس بأن يفهم المخاطب هذا المعنى بتوسّط حركة ذهنيّة سريعة من الأصل الى الفرع ، وملاحظة المعنى المناسب للحكم ، بل بواسطة تبادر المعنى الى الذّهن من اللّفظ أوّلا بواسطة الدلالة اللّفظيّة الالتزاميّة ، ولو كان قياسا لما قال به النافي للقياس.

__________________

(١) وهي حجّة النّافين كما نقلها في «المعالم» ص ٥١٩.

(٢) والمجيب هو صاحب «المعالم» ص ٥١٩

(٣) وهي حجّة الذّاهبين الى كون مثله قياسا كما ذكرها في «المعالم» ص ٥١٨.

(٤) والمجيب هو صاحب «المعالم» ص ٥١٩


وردّ (١) : بأنّه لا نافي للقياس الجليّ الذي يعرف الحكم فيه بطريق الأولى ، حتّى يصحّ أن يقال إنّه قائل بهذا المفهوم دون القياس ، ويجعل هذا حجّة على إنّه ليس بقياس.

وقد يقال : أنّ هذا دفع للسند ولا يضرّ الجواب ، وهو كذلك ، لكنّه جعله بعضهم من أدلّة المانعين لكونه قياسا ، فحينئذ ينطبق الردّ عليه ويدفعه.

وقال التفتازاني : والحقّ أنّ النزاع لفظيّ ، واستحسنه في «المعالم» (٢). ولعلّ وجهه أنّ الطرفين اتّفقا على الانفهام من اللّفظ ، وأنّه لا حاجة في الانفهام الى ملاحظة الأصل والفرع والعلّة واستحضار القياس المصطلح. فالنّزاع في تسمية ذلك بالمفهوم أو القياس الجليّ ، وذلك أيضا مبنيّ على إرادة هذا القسم الخاصّ من الجليّ وهو القياس بطريق الأولى ، لما مرّ.

أقول : وهذا أيضا إنّما يتمّ إذا سلّمنا أنّ كلّ قياس بطريق الأولى ممّا لا ينفكّ تصوّر الفرع من تصوّر الأصل حتّى يصحّ أن يقال : إنّ النزاع لفظيّ. وقد عرفت الكلام فيه في حكاية إلحاق الزّنا بالتّزويج ، إلّا أن يراد تردّد المقام بين المفهوم وبين هذا القسم الخاصّ من القياس بطريق الأولى ، الذي هو قسم خاصّ من القياس الجليّ.

واعلم ، أنّ ما ذكرنا من تفسير الجلي في الردّ المذكور هو عبارة التفتازاني ، وهو موهم لكون القياس الجلي نفس القياس بطريق الأولى كما يفهم من

__________________

(١) والرّاد هو السلطان في حاشيته على «المعالم» ص ٣٣٤.

(٢) ص ٥١٩


«المعالم» (١) ، وليس كذلك ، بل لا ينافي كلامه إرادة كونه أعمّ منه ، كما هو صريح الأكثرين ، فإنّ الموصول وصلته وصف تقييديّ لا توضيحيّ.

فحاصل الكلام في القياس بطريق الأولى الذي يقول به الشّيعة ، لا بدّ أن يكون قياس نصّ على علّته أو نبّه عليها ، ودفع احتمال مدخليّة خصوصيّة الأصل فيها من جهة كون العلّة في الفرع أقوى ، لا غير. فكلّ من ينكر من أصحابنا العمل بالمنصوص العلّة مثل السيّد رحمه‌الله (٢) تمسّكا باحتمال مدخليّة الخصوصيّة ، لا بدّ أن يخصّص كلامه بما لو كان الفرع أولى بالحكم ، لأنّ ذلك الاحتمال مندفع فيه حينئذ ، فتأمّل ، فإنّ ذلك أيضا منحصر فيما لو كان الاحتمال من جهة ملاحظة أشدّيّة مناسبة خصوصيّته للعلّة لا مطلقا ، فاحفظ ما ذكرنا لئلّا يختلط عليك الأمر.

ثمّ إنّ أصحابنا قد يتمسّكون في إلحاق حكم بالآخر ، بإيجاد الطريق بين المسألتين ، ويقولون : إنّه ليس بقياس ، كما قال الشهيد الثاني في «الروضة» (٣) في مسألة إلحاق الغائب والمجنون والطفل ـ إذا كانوا مدّعى عليهم ـ بالميّت ، في وجوب اليمين الاستظهاريّ ، أنّ ذلك من باب اتّحاد طريق المسألتين لا من باب القياس ، ثمّ تنظّر فيه.

ومرادهم من اتّحاد الطّريق ، أنّ دليلهما واحد من جهة اشتمال دليل أحدهما على نصّ بالعليّة أو تنبيه عليها ، بحيث يشمل الآخر ، فيستفاد من النصّ الوارد في الميّت أنّ العلّة في وجوب اليمين هو أنّه لا لسان له للجواب.

__________________

(١) ص ٥١٩

(٢) كما عرفت عنه في «الذريعة» ص ٦٨٥ ، وصرّح عن قوله بذلك صاحب «المعالم» ص ٥١٤.

(٣) بل في «مسالك الأفهام» ١٣ / ٤٦٢


ووجه النّظر ، أنّ العلة إنّما يسلم [يسلّم] حجيّتها إذا ثبت دلالة النصّ على استقلالها مطلقا. وكذلك التّنبيه إنّما يسلم إذا ثبت عدم الفارق بينهما.

ويمكن أن يقال بالفرق هنا لعدم رجوع الميّت الى الدنيا ، واحتمال رجوع هؤلاء الى الدّعوى كاملا.

إذا عرفت هذا ، فلا تغتّر بما أوردناه على العلّامة ، ونظر أنّه في العمل بالقياس بطريق الأولى في غير صورة التّنبيه على العلّة ، وأنّ الظّاهر منه ذلك ، إذ لعلّ مراده أيضا فيما يستفاد العلّة من النصّ ، واعتماده على الأولويّة لإثبات الاستقلال فيما يحتمل فيه مدخليّة المادّة ، وكذلك فيما تمسّكوا فيه باتّحاد الطّريق.

والغفلة في طريق الاستنباط والاشتباه في الحدس لا يوجب القول بأنّهم يعملون بالقياس المحرّم ، وقد ذكرنا نظير ذلك في الإجماعات المنقولة ، فكما أنّه قد تقع الغفلة في دعوى الإجماع ويحصل الخطأ في الحدس ، فكذلك في فهم العلّة من النصّ واستقلاله ، فهم معذورون في خطائهم بعد الاجتهاد لا أنّهم عاملون بالقياس المحرّم أو يسمّون المشهور غالبا [عالما] بالإجماع ، وذلك لا يوجب القدح في أصل العمل بالعلّة المنصوصة أو المنبّهة أو الإجماع المنقول.


قانون

ممّا يستدلّ به العامّة ، الاستحسان والمصالح المرسلة.

أمّا الاستحسان : فقال به : الحنفيّة (١) ، والحنابلة (٢) ، وأنكره غيرهم (٣).

قال الشّافعيّ : من استحسن فقد شرّع (٤).

واختلفوا في تعريفه بما لا يرجع الى ما يمكن أن يكون محلّا للنزاع ، ولا حاجة لنا الى ذكرها ، وأظهرها : أنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التّعبير عنه ، أو أنّه العدول من حكم الدّليل الى العادة لمصلحة الناس ، والمناسب لطريقهم أن يوجّه بأن يكون مرادهم أن ينقدح في نفس المجتهد رجحان استحسان من غير أن يكون مستندا الى دليل شرعيّ ، أو أنّه العدول من حكم الدّليل الشرعيّ الى العادة التي لم تعتبر شرعا ، وإلّا فالحكم بالعادة المعتبرة شرعا ليس باستحسان مردود ، مثل : العدول عمّا تقتضيه قاعدة الإجارة في دخول الحمّام من غير تعيين مدّة المكث ، ومقدار الماء المسكوب ، وشرب الماء من السّقاء من غير تعيين ، لأنّ تلك العادة كالإجماع ، بل هو إجماع.

والحاصل ، أنّ الاستحسان هو ما يستحسنه المجتهد بطبعه أو بعادته أو نحو ذلك من دون أمارة شرعيّة ، وهو باطل لعدم الدّليل عليه ، ولأنّه لا يفيد الظّن بكونه

__________________

(١) وهو المحكي عنهم كما في «المحصول» ٤ / ١٤٤٦ ، و «المستصفى» ١ / ٢١٣

(٢) القول بالاستحسان مذهب احمد ، كما نقل في «شرح روضة النّاظر» عن القاضي يعقوب.

(٣) بل في «المحصول» : ٤ / ١٤٤٧ اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان.

(٤) وردّ الشّيء قبل فهمه محال ، وهو تتمّة ما في «المستصفى» ١ / ٢١٣.


حكما شرعيّا في الحقيقة ، ولإجماع الإماميّة وأخبارهم.

واحتجّوا عليه بقوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(١) ، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)(٢).

وأجيب : بأنّ المراد : الأظهر والأولى ، فعند التّعارض الرّاجح بدلالته ، فإذا تساويا فالرّاجح بحكمه ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن».

وأجيب : بأنّ المراد ما رآه جميع المسلمين حسنا وهو الإجماع.

وأمّا المصالح المرسلة (٤) :

فالمراد بالمصلحة دفع ضرر أو جلب منفعة للدّين أو الدّنيا.

والمصالح إمّا معتبرة في الشّرع ولو بالحكم القطعيّ من العقل ، من جهة إدراك مصلحة خالية عن المفسدة كحفظ الدّين والنّفس ، والعقل والمال والنّسل ، فقد اعتبر الشّارع صيانتها وترك ما يؤدّي الى فسادها.

وإمّا ملغاة ، كإيجاب صيام الشّهرين لأجل الكفّارة على الغنيّ حتما ، لكونه أزجر له.

__________________

(١) الزّمر : ١٨.

(٢) الزّمر : ٥٥.

(٣) رواه البزار والطيالسي وأبو نعيم والبيهقي في الاعتقاد عن ابن مسعود انظر «كشف الخفاء» ٢ / ١٨٨ ، «المقاصد الحسنة» ٥٨١ ، «المستصفى» ١ / ٢١٤ ، ونقله عندنا في «عوالي اللئالى» : ١ / ٣٨١ ح ٦.

(٤) وقد يعبرون بعضهم عنها بالاستصلاح كالخوارزمي في «الكافي» ، والغزالي في «المستصفى» ، واطلق إمام الحرمين وابن السّمعاني عليه اسم الاستدلال.


وإمّا مرسلة (١) ، يعني لم يعتبرها الشّارع ولا ألغاها ، وكانت راجحة وخالية عن المفسدة. وهذا هو الذي ذهب الى حجّيتها (٢) بعض العامّة (٣) ، ونفاها أصحابنا ، وأكثر العامّة (٤).

وهو الحقّ ، لعدم الدّليل على حجّيته (٥) ، ولأنّا نرى أنّ الشّارع ألغى بعضها واعتبر بعضها ، فإلحاق المرسلة بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

احتجّوا : بأنّ عدم اعتبارها يؤدّي الى خلوّ وقائع عن الحكم (٦) ، وهو باطل

__________________

(١) ووجه تسميتهم لها بالمرسلة يمكن لأنّ الشّارح أطلقها ، فلم يقيّدها ولم يلغها.

(٢) في نسخة الأصل (حجّيته).

(٣) كمالك كما عن «المحصول» ٤ / ١٤٧١ ، وبعض الشافعية كما عن «شرح روضة النّاظر» ٣ / ١٣٨٣ ، وقال الامام في «البرهان» : وهو المحكي عن مالك وأفرط في القول به حتى جرّه الى استحلال القتل ، وأخذ المال لمصالح تقتضيها في غالب الظنّ ، وإن لم يجد لها مستندا.

(٤) كابن قدامة وبعض الحنابلة وبعض الشّافية وبعض المتكلّمين كما عن «شرح روضة النّاظر» ٣ / ١٣٨٤ ، تنبيه : نسب هذا المذهب الى جمهور العلماء من الحنابلة والشّافعية والحنفيّة ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فمن تتبع واستقراء يجدهم في الفقه كلّهم يستدلّون بالمصالح المرسلة ولكن يختلفون سعة وضيقا في الأخذ بها.

قال القرافي في «شرح تنقيح الفصول» : «أمّا المصلحة المرسلة فالمنقول أنّها خاصة بنا ، وإذا تفقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرّقوا ، بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة ، فهي ـ حينئذ ـ في جميع المذاهب ، وقال ابن دقيق العبد : «إنّه لا يخلو أي مذهب من اعتباره في الجملة ، ولكن الامام مالك قد توسّع في الأخذ بها ، ويليه الامام أحمد».

(٥) في نسخة الأصل (حجّيتها).

(٦) راجع «المحصول» ٤ / ١٤٧٢.


لما عرفت في حكم ما لا نصّ فيه ، ومن أمثلتها : ضرب المتّهم بالسّرقة محافظة على المال. ومنها : فصد الحامل أو شربها لدواء ، إذا علم أنّهما يوجبان لشفائها وسقوط ولدها ، فإنّهما يوجبان إبقاء نفس ، وتركهما يوجب إتلاف نفسين.

ومن أمثلتهما : انّ أهل الحرب إذا تترّسوا بأسارى المسلمين فيجوز رميهم ، وإن أدّى الى تلف الأسارى إذا علم أنّهم إذا لم يرموا ظفروا على الإسلام وإنّما أفتى بجوازه أصحابنا لدليل خارجيّ ، ولذلك لا يجوز قتل من يعلم من حاله أنّه لو لم يقتل لأوجب تلف جماعة.


المقصد الخامس

في النّسخ

وهو في اللّغة : الإزالة (١).

وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشّرعيّ بدليل شرعيّ متأخّر (٢) على وجه لولاه لكان ثابتا.

وتقييد الحكم «بالشّرعيّ» لإخراج رفع مقتضى البراءة الأصليّة بالدّليل الشّرعيّ.

و «الدّليل الشّرعيّ» لإخراج الارتفاع بالموت والجنون ونحوهما.

و «بالمتأخّر» لإخراج الشّرط والاستثناء وغيرهما من المخصّصات.

وأمّا القيد الأخير ، فلإخراج الحكم المحدود الى وقت ، أو الوارد بصيغة الأمر على القول بعدم إفادته للتكرار ، فيبقى إثبات الحكم بعنوان الإطلاق القابل للاستصحاب مثل الحكم بحلّ الأشياء أو حرمتها ، ونحو ذلك.

وما يقال : إنّ هذا القيد مستغنى عنه ، لأنّ في أمثال المخرجات لا رفع لعدم الثبوت فيخرج بقيد الرّفع.

يمكن رفعه بأنّ الرّفع ليس مستعملا في حقيقته ، وإلّا لزم البداء المحال على الله

__________________

(١) كما في «مجمع البحرين» ، ومنه الحديث «شهر رمضان نسخ كل صوم» أي أزاله ، يقال : نسخت الشّمس الظّل : أي أزالته ، ونسخ الآية بالآية : إزالة حكمها بها ، فالأولى منسوخة والثانية ناسخة.

(٢) وكذا في «الزّبدة» ص ١٥٤.


تعالى ، ولذلك قيل : النّسخ هو رفع مثل الحكم الشّرعيّ الثّابت (١) ، وذلك يتحقّق في المخرجات أيضا ، مع أنّ ذلك يرد على القيد المتأخّر أيضا ، إذ الكلام لا يتمّ إلّا بآخره ، فلم يثبت شيء حتى يرفع إلّا أن يقال : المراد الرّفع ظاهرا ، المترتّب على الثّبوت ظاهرا فإنّ حقيقة النّسخ هو التخصيص ، فإنّه تخصيص في أزمان الحكم ، فيصحّ تعقيبه للتصريح بالدّوام أيضا ، ولا تناقض ، ولا يصحّ تعقيبه للمحدود الى زمان ، وللأمر على القول بعدم إفادته للتكرار.

__________________

(١) وقيد : مثل الحكم الثّابت بالدّليل الشّرعي جعله المحقّق في «المعارج» ص ١٦٢ ، ومثله صاحب «المعالم» ص ٥٠٩ ، والعلّامة في «مبادئ الوصول» ص ١٧٤.


قانون

الحقّ جواز النّسخ ، ووقوعه في الشّرع ، والمخالف في الأوّل بعض فرق اليهود ، وفي الثاني أبو مسلم بن بحر الأصفهاني (١) ، سيّما في القرآن ، لقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٢).

لنا على الجواز : عدم الدليل على استحالته ، وستسمع بطلان ما تمسّك به اليهود. وعلى وقوعه آية العدّة ، فإنّ قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً)(وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ)(٣) الدالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول ، وهو عدّتها ما لم تخرج ، فإن خرجت فتنقضي عدّتها ولا شيء لها ، نسخت بآية أربعة أشهر وعشرا.

وتخلّص عنها الأصفهاني : بأنّ حكمها باقية في الجملة ، فإنّ الحامل إذا كان مدّة حملها عاما فتعتدّ بالحول.

وهو مدفوع : بأنّ الاعتداد حينئذ ليس بالحول من حيث هو ، بل بالوضع ، وآية القبلة نسخت الصلاة الى بيت المقدس.

وأجاب عنه : بأنّ حكمها باق لبقاء الاستقبال إليه عند الاشتباه.

وهو مدفوع أيضا : بأنّه ليس من حيث الخصوصيّة كما لا يخفى.

__________________

(١) محمد بن بحر الأصفهاني ٢٥٤ ـ ٣٢٢ ه‍ معتزلي ، ولي اصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسي واستمر حتى دخل ابن بويه أصفهان سنة ٣٢١ ه‍ ، فعزل. ومن كتبه في التفسير «جامع التّأويل» في أربعة عشر مجلّدا ، و «مجموع رسائله».

(٢) فصّلت : ٤٠.

(٣) البقرة : ٢٤٠.


وكذلك آية الصدقة قبل النجوى مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرها ممّا لا نطيل بذكرها وذكر ترّهات أبي مسلم ، والعمر أشرف من أن يضيّع في أمثاله.

ولعلّ أبا مسلم يقول فيما ثبت بالبديهة نسخه ، كأكثر ما ورد في الشرائع السّالفة بأنّها كانت محدودة ، فلا ينافي إنكاره إسلامه.

وأمّا ما تمسّك به من الآية ، فمدفوع : بأنّ المراد أنّه لا يأتيه كتاب يبطله ، ولم يتقدّم عليه كتاب يردّه ، مع أنّ النّسخ ليس بإبطال ، بل بيان لانتهاء مدّة الحكم ، أو مرجع الضمير هو المجموع من حيث المجموع.

وأمّا اليهود ، ففرقة منهم منعوه عقلا ، وفرقة سمعا ، وفرقة جوّزه مطلقا ، لكنّها أنكرت معجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرقة أقرّت بها واعترفت بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعرب دون غيرهم.

وتمسّك من قال باستحالته عقلا باستحالة كون الشّيء حسنا قبيحا ، والأمر يقتضي كونه حسنا ، ورفعه يقتضي كونه قبيحا.

وجوابه : منع كون الحسن والقبح ذاتيّين في جميع الأشياء ، بل قد يكون بالوجوه والاعتبارات ، وذلك كشرب الأدوية وأكل الأغذية ، فقد يكون مصلحة في وقت ومفسدة في آخر ، وقد يكون الفعل مصلحة الى زمان ، ومفسدة بعده. وبذلك يندفع ما يتمسّك بعضهم بقوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(١) من باب الإلزام ، فإنّ السّنّة هو مجموع الأمرين ، فالمجموع سنّة واحدة ولا تبديل فيه ، بخلاف سنّة العباد ، فإنّ أطبّاء الأبدان قد يمهّدون شرب الدّواء على كيفيّة خاصّة ، على ترتيب خاصّ للمنضج والمسهل والمقوّي وغير ذلك ، وقد يحصل لهم البداء

__________________

(١) فاطر : ٤٣.


في هذا التمهيد والترتيب ، بخلافه تعالى فإنّه لا يمكن في حقّه البداء ، والنّسخ بيان لانتهاء مدّة الحكم الأوّل بعد إخفائها لمصلحة ، لا بداء ولا ظهور له تعالى ، بعد الجهل والخفاء تعالى شأنه عن ذلك.

واحتجّ الآخرون : (١) بقول موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، هذه شريعة مؤيّدة ما دامت السّماوات والأرض ، وقوله عليه‌السلام : (٢) «تمسّكوا بالسّبت أبدا» (٣).

والجواب : المنع.

ودعوى التّواتر غير مسموعة لانقطاع عدد التّواتر عنهم عند ما استأصلهم بخت نصّر (٤) ، بل الرّواية مختلفة من ابن الرّاوندي (٥).

سلّمنا ، لكن المراد بالتأبيد طول الزّمان ، كما ورد في التوراة : إنّ العبد يستخدم [ستّ] سنين ثمّ يعرض عليه العتق ، فإن أبى فليثقب أذنه ويستخدم أبدا (٦).

__________________

(١) القائلون بامتناعه سمعا بأحد المعاني المذكورة.

(٢) وقد ذكره العلّامة في «مبادئ الوصول» ص ١٧٨.

(٣) ففي سفر الخروج فصل ٣١ ص ١٤٤ طبع بيروت ١٩٣٧ م «فاحفظوا السّبت فإنّه مقدس لكم ، ومن خرقه يقتل قتلا ، كل من يعمل فيه عملا تنقطع تلك النّفس من شعبها ، فليحافظ بنو اسرائيل على السبت مواظبين عليه مدى أجيالهم عهدا أبديّا.

(٤) هو ابن الملك (نابو بولصر) ملك بابل ، توفي بعد ابيه سنة ٦٠٧ ق م.

انتزع بلاد الموصل ، وهاجم الإسرائيليين راجع «دائرة المعارف» لوجدي ٢ / ٥١.

وذكروا أنّ بخت بالتّشديد أصله بوخت ومعناه ابن ، ونصّر كبقم صنم ، وكان وجد عند الصّنم ولم يعرف له اب فنسب إليه (قاله في القاموس).

(٥) ابن الرّاوندي من علماء اليهود كما من الحاشية وقد روى الخبرين أو الخبر الأخير بدون ذكر قيد الأبد أو ذكر الغاية للتمسّك بالسّبت بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٦) ذكره في «الزبدة» ص ١٥٥.


وفي موضع آخر منها : يستخدم العبد خمسة سنين ثمّ يعتق ، فعلم أنّ المراد من الأوّل طول المدّة.

هذا مع ما يرد عليهم من المعارضة بوقوع النّسخ عندهم ، فقد ورد في التوراة أنّه تعالى أمر آدم عليه‌السلام بتزويج بناته من بنيه ثمّ حرم [حرّم] ذلك في شريعة موسى (١) ، وأنّه أحلّ لنوح عليه‌السلام وقت خروجه من الفلك كلّ دابّة ثمّ حرّم كثيرا منها في شرع موسى ، مع أنّ التأبيد في الزّمان بمنزلة دلالة العامّ على الأفراد ، فيجوز التخصيص فيهما معا ، والتناقض المتوهّم مندفع بذلك كنظائره.

واحتجّ اليهود أيضا : بأنّه لمّا بيّن شرع موسى عليه‌السلام فاللّفظ الدالّ عليه إمّا أن يدلّ على دوام شرعه أو لا.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يقترن بشيء يدلّ على أنّه سينسخ أم لا.

أمّا على الأوّل ، فمع أنّه مستلزم للتناقض ، يرد عليه أنّه ممّا تقضي العادة بنقله متواترا لتوفّر الدّواعي عليه ، ولو نقل لما وقع الخلاف فيه مع أنّه لو جاز ذلك ولم ينقل لورد عليكم أيضا أنّه يجوز أن يكون شرع نبيّكم أيّها المسلمون مقرونا بذلك ولم ينقل.

وأمّا على الثاني ، فيلزم التّلبيس والإغراء بالقبيح ، وعلى الثاني فلا يقتضي إلّا فعله مرّة واحدة لأنّ الأمر لا يقتضي الدّوام وذلك لا يسمّى نسخا.

وفيه : أنّا نختار أوّلا : أنّه ذكر ما يدلّ على الدّوام ولا يضرّه التصريح بخبر النّسخ ولا عدمه.

أمّا الأوّل فلأنّ التصريح بأنّه سينسخ حينئذ قرينة على التجوّز في الدّوام فلا

__________________

(١) وكذا ذكر في «الزبدة» ص ١٥٤.


تناقض.

وأمّا الثاني : فلأنّه يستلزم القبيح لو كان وقت الحاجة الى البيان.

وأمّا تأخير البيان عن وقت الخطاب فلا قبح فيه ، كما مرّ في محلّه.

وثانيا : أنّه لم يذكر ذلك ، ولكن جميع الشّرائع ليس من باب الأمر إذ بيان الحلّيّة والحرمة للأشياء ممّا يقبل الاستمرار وعدم الاستمرار ، وإذا كان ظاهره الاستمرار فيصحّ النّسخ ويتحقّق حقيقته.

وثالثا : نقول : إنّ هذا الاستدلال منهم وإن كان لإبطال النّسخ ولكن لازم مرادهم إثبات دوام شريعة موسى عليه‌السلام أيضا ، وأنت خبير بأنّ هناك شقّا آخر لم يذكروه ، وهو أن يكون البيان على سبيل التّحديد الى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما لا يكون البيان كذلك ، فلا يلزم محال ولا قبيح.

والقول : بأنّ الحسن لا يمكن أن يصير قبيحا وبالعكس ، رجوع الى الدّليل الأوّل.

نعم ، ينهض هذا الدّليل مع الإغماض عمّا أوردنا عليه الى الآن لو كان في مقابل من يريد بيان ثبوت الإسلام بإثبات نسخ شريعة موسى عليه‌السلام ، فيمكن أن يرد هذا الاعتراض بأنّ هذا الشّقّ ليس من باب النّسخ ، مع أنّ لهم أن يمنعوا النّسخ من رأس بدون التمسّك بهذه الاحتمالات ، لكن لا ينفعهم في إثبات دينهم إلّا مع التمسّك بالرّوايات أو بالاستصحاب ، وقد عرفت حال الرّوايات هنا وحال الاستصحاب في مبحث الاستصحاب ، فهم في المقامين في مقام الاستدلال ونحن في مقام المنع ، ولم يبق شيء لهم يلزموننا به بحول الله وقوّته ، وبقي الكلام مع التّحقيق ، وهو محتاج الى الإنصاف وفتح عين البصيرة.


قانون

لا ريب في جواز النّسخ بعد حضور وقت العمل بتمامه والتمكّن منه ، سواء فعله أو لم يفعله ، وإلّا فلم يكن الكفّار مكلّفين بالفروع ، بل العصاة التّاركون للفعل رأسا مع أنّ المصلحة الباعثة عليه تحصل بدونه.

ومرادنا بالتمكّن أعمّ من ارتفاع المانع الحاصل من جانب الله تعالى أوّلا أو من جانب العبد من جانب ترخيصه تعالى ، فحينئذ يدخل في جملة النّسخ قبل حضور وقت العمل نسخ الواجب الموسّع قبل الإتيان به للمريد له المؤخّر إيّاه من جهة رخصة الشّارع ، إلّا أن يكون المطلوب منه الحصول من مجموع المكلّفين لا من كلّ واحد ، فيكفي إتيان بعضهم دون الباقين في جواز النّسخ.

ولعلّه من هذا الباب نسخ آية تقديم الصّدقة على النّجوى ، وكذلك الممنوع عنه في أوّل الوقت لمرض أو إغماء ونحو ذلك. ومن هذا الباب حكاية ذبح إسماعيل عليه‌السلام ، فإنّه تعالى منع منه وحجزه عن الإتيان به ، وكذلك من تمكّن من بعضه دون بعض آخر منه.

واختلفوا في جوازه قبل حضور وقت العمل ، فأكثر أصحابنا والمعتزلة وبعض الأشاعرة: على العدم (١).

والمنقول عن المفيد : الجواز (٢) ، وهو مذهب أكثر الأشاعرة (٣).

__________________

(١) راجع «العدة» ٢ / ٥١٨ ، و «الذريعة» ١ / ٤٣٠ ، و «الزّبدة» ص ١٥٥ ، و «المستصفى» ١ / ١١١ ـ ١٢١.

(٢) كما في «المعالم» ص ٥٠٤ ، و «المعارج» ص ١٦٨ و «العدة» ٢ / ٥١٨.

(٣) راجع «البحر المحيط للزركشي» ٤ / ٩٠.


وقيل : بالوقف.

والأوّل أقوى لقبح الأمر بالقبيح والنّهي عن الحسن ، فإنّ مقتضى النّهي أوّلا عن شيء قبحه ، فإذا جاء الأمر النّاسخ فيعطى حسن القبيح إذ المفروض اتّحاد متعلّقهما ، وكذلك حكاية النّهي عن الحسن ، وللزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد من جهة واحدة وهو محال.

وما يقال : إنّ النّهي قد تعلّق بمثل ما أمر به لا بنفسه ، وكذلك الأمر ، فهو باطل.

لأنّ المكلّف به أوّلا هو الطبيعة ، أمرا كان أو نهيا ، وقد ورد النّاسخ بها أيضا ، إذ المفروض عدم تحصيل الطبيعة في ضمن فرد حتّى يتصوّر هناك مائز بينهما.

وكذلك ما يقال : إنّ الأمر الأوّل تعلّق باعتقاد وجوب الفعل والنّاسخ بنفسه ، وكذلك النهي الأوّل والنّاسخ إذ ذلك خروج عن المتنازع ، إذ بعد تسليم جواز الأمر والنهي وإرادة الاعتقاد بالوجوب والحرمة والتوطين عليهما لا نفس المأمور به والمنهيّ عنه كما هو الأظهر ، وقد بيّناه في مبحث عدم جواز الأمر مع علم الأمر بانتفاء الشّرط ، فلم يتوارد النّاسخ والمنسوخ على شيء واحد ، والكلام حينئذ في كون ذلك نسخا ، فيرجع حينئذ الى المناقشة في الاصطلاح ، وإطلاق المنسوخ على مثل ذلك ، وإلّا فلا ننكر جواز ذلك كما بيّناه ثمّة.

والقول : بأنّ حسن الاعتقاد يتبع حسن المعتقد ، فإذا لم يكن في نفس المعتقد حسن لا يجوز الأمر به للزوم الإغراء بالقبيح ؛ ضعيف ، بل قد يحسن نفس الأمر والتوطين على شيء مع علمه بأنّه سيمنعه من جهة مصلحة ، وإنّما نسلّم قبح ذلك لو ترتّب عليه مفسدة وتأخّر بيانه عن وقت الحاجة.

ويؤيّده ما ورد في الأخبار أيضا ، مثل قويّة أبي المعزا عثمان بن عيسى عن


أبي بصير (١) قال : «سألته عن رجل فجر بامرأة ثمّ أراد بعد أن يتزوّجها؟

فقال عليه‌السلام : إذا تابت حلّ له نكاحها. قلت له : كيف تعرف توبتها؟ قال : يدعوها الى ما كان عليه من الحرام ، فإن امتنعت واستغفرت ربّها ، عرف توبتها».

وموثّقة عمّار (٢) عن الصّادق عليه الصلاة والسلام قال : «سألته عن الرّجل يحلّ له أن يتزوّج امرأة كان يفجر بها ، فقال : إن أنس منها رشدا ، فنعم ، وإلّا فليراودها على الحرام ، فإن تابعته فهي عليه حرام ، وإن أبت فليتزوّجها».

والحاصل ، أنّه إن أريد من جواز النّسخ قبل حضور وقت العمل مثل ذلك فنحن نجوّزه ، وإن أريد إرادة نفس الفعل ثمّ نسخه قبل التمكّن منه ؛ فنستحيله.

والكلام فيه نظير ما حقّقنا في مبحث الأمر مع العلم بانتفاء الشّرط.

احتج المجوّزون (٣) بوجوه ضعيفة ، أقواها ثلاثة :

الأوّل : قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٤).

وفيه : أنّه أريد به ما يعمّ محو الأمر الابتلائيّ الذي قصد منه محض الاعتقاد ، فقد عرفت الكلام فيه.

وإن أريد محض الإيجاد والإعدام ، مثل إحياء زيد وإماتة عمرو ، فهو أيضا خارج عمّا نحن فيه.

وإن أريد محو الأمر بالمأمور به المطلوب بذاته في نفس الأمر ، فهو مستلزم للبداء الحقيقيّ المحال على الله تعالى الموجب لاجتماع الحسن والقبح ، وتحسين

__________________

(١) «الاستبصار» ٣ / ١٦٨ ح ٦١٤ ، «تهذيب الأحكام» ٧ / ٣٢٧ ح ١٣٤٨.

(٢) «الاستبصار» ٣ / ١٦٨ ح ٦١٥.

(٣) وقد نقلها في «المعالم» ص ٥٠٤.

(٤) الرّعد : ٣٨.


القبيح وتقبيح الحسن ، فلا بدّ من تخصيص الآية بغيره ، لقيام البرهان على استحالته ، مع أنّ مدلول الآية أنّه تعالى يمحو ما يشاء ، والكلام في ثبوت مشيّته لهذا المحو ، وهو ممنوع ، بل الظّاهر من الآية هو البداء الاصطلاحي الذي هو من خواصّ مذهب الشّيعة.

الثاني : أنّه تعالى أمر ابراهيم عليه‌السلام بذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام ثمّ نسخ ذلك قبل وقت الذّبح ، فإنّ الظّاهر من قول اسماعيل عليه‌السلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(١) بعد قول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)(٢) ، وغير ذلك ممّا هو يستفاد من المقام في الآية مثل الفداء والإقدام على ترويع الولد الذي لو لم يكن مأمورا به لامتنع من مثله ، وغير ذلك ، دالّة على أنّه كان مأمورا بالذّبح لا بمحض المقدّمات كما قيل (٣) ، مع أنّه مناف لعظم شأنهما وغير مناسب لهذا المدح العظيم ، ولا يدلّ عليه أيضا قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٤). ولا ينافي كونه مأمورا بتمام الذّبح.

وفيه : أنّ هذا الأمر أيضا ابتلائيّ ، لامتحان ابراهيم واسماعيل على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام وإظهار مرتبتهما على النّاس ، لا أنّه كان الذّبح في نفسه مطلوبا. وظاهر الأمر وإن كان هو إرادة المأمور به ، لكنّ القاطع دلّ على إخراجه من ظاهره وحمله على إرادة التوطين ، وقد مرّ بعض الكلام فيه في مباحث الأوامر. والفداء يمكن إن يكون من أجل ما اعتقده ظاهرا من فعل المأمور به.

__________________

(١ ـ ٢) الصّافات : ١٠٢.

(٣) راجع «المعالم» ص ٥٠٥.

(٤) الصّافات : ١٠٥.


وقد يجاب : بما روي أنّه قد ذبح لكن كلّما قطع التحم.

وهو مع سلامته ، فيه : أنّ التبادر من الذّبح المأمور ، به هو ما يزهق الرّوح فيرجع الى إخراج الكلام عن الظّاهر ، مع أنّه لا معنى حينئذ للنسخ إذ المأمور به لم يكن إلّا الطبيعة ، وهي تحصل بفرد واحد ، والأمر يقتضي التّكرار ، فلم يبق مورد للنسخ.

الثالث : ما روي (١) أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امر ليلة المعراج بخمسين صلاة ، ثمّ راجع الى أن عادت الى خمس.

وفيه : بعد ما أورد عليه من أنّ فيه من علامات الوضع من جهة أنّ فيه طعنا على الأنبياء عليهم‌السلام بالإقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة ، وسلامة سيّده [سنده] ، أنّ ذلك نسخ قبل التمكّن ، لأنّ علم المكلّفين من شرائط التمكّن ، وقد حصل ذلك قبله.

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك كان إخبارا عن الإيجاب فيما بعد ، معلّقا في علمه تعالى بعدم شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيندرج تحت البداء المصطلح.

الرابع : أنّ المصلحة قد تتعلّق بنفس الأمر والنهي ، فجاز الاقتصار عليهما من دون إرادة الفعل.

ويظهر الجواب عنه بملاحظة ما مرّ ، فلا نعيد.

__________________

(١) «الاحتجاج» ١ / ٣٢٩ ، «من لا يحضره الفقيه» ١ / ١٢٥ ح ٢ / ٦٦ ونقله في «المعالم» ص ٥٠٤.


قانون

يجوز نسخ الكتاب بالكتاب اتّفاقا إلّا من أبي مسلم ، وقد مرّ بطلانه.

وبالسنّة المتواترة ، خلافا للشافعي (١) ومن تبعه ، استنادا الى قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(٢) ، والسنّة ليست بخير من الكتاب ولا مثلها ، وأيضا الضمير في [نأت] لله تعالى.

وفيه : أنّ الظّاهر أنّ المراد بما ينسخه تعالى هو الحكم الثّابت بالآية ، لا نفس الآية وتلاوته.

والمراد من كونها خيرا كونها مشتملة على مصلحة ، مثل المصلحة السّابقة ، أو خيرا منها ، وهو لا يتفاوت بالكتاب والسنّة. وأمّا إضافة الإتيان إليه تعالى ، فلا يضرّ ، إذ ما يأتيه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما أتاه الله تعالى بلا ريب.

وكذلك يجوز نسخ السنّة المتواترة بالكتاب ، وخالف فيه أيضا بعض العامّة (٣) ، وهو أيضا ضعيف لا يليق بالنظر اليه.

وأمّا نسخ الكتاب والسنّة المتواترة بخبر الواحد ، فالأكثرون على المنع (٤) ، وجوّزه بعض العامّة (٥) ، وقال بعضهم : لا خلاف في جوازه إنّما الخلاف في الوقوع.

__________________

(١) كما في «المستصفى» ١ / ١٢٣.

(٢) البقرة : ١٠٦.

(٣) في «المعالم» ص ٥٠٦ : وأنكره شذوذ منهم وهو ضعيف جدا لا يلتف إليه.

(٤) وكذا عن صاحب «المعالم» ص ٥٠٦.

(٥) وجوّزه شرذمة كما في «المعالم» ص ٥٠٦.


واستدلّ الأكثرون : بأنّهما قطعيّان ، وخبر الواحد ظنّيّ ، ولا يترك القطعيّ بالظنيّ.

وادّعى بعضهم الإجماع عليه ، فإن ثبت الإجماع فهو ، وإلّا فلا يخفى أنّ الدّليل الأوّل مقدوح بما مرّ في بحث التخصيص ، إذ القدر المسلّم قطعيّته هو متن الكتاب والسنّة المتواترة.

وأمّا دلالتهما على التّأبيد فلا قطع به ، مع أنّه لو صرّح بالتّأبيد فهو أيضا يصير كالعامّ بالنسبة الى الأزمان ، فلم لا يجوز تخصيصه بظنّ أقوى منه ، فإذا فرض حصول ظنّ من خبر الواحد يغلب على الظنّ الحاصل من عموم الدّوام في الكتاب والسنّة بالنّسبة الى الوقت الذي نفاه خبر الواحد ، فلا مانع من العمل به ، وفائدة النّزاع وثمرته قليلة عندنا لندور مثله.

وذكر القائلون به أمثلة لوقوعه : منها : أنّ أهل قباء سمعوا مناديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إنّ القبلة قد تحوّلت ، واستداروا ولم ينكر عليهم أحد من الصّحابة.

وهو ممنوع ، بأنّا لا نعلم أنّه خبر واحد ، ولعلّه حفّ بقرينة أفاد القطع لهم.

ثمّ إنّ المراد بكون خبر الواحد ناسخا أن يكون نفس الخبر رافعا للحكم ، كما سنشير إليه.

أمّا دلالة الخبر على كون آية فلانيّة منسوخة بكذا ، فهو خارج عمّا نحن فيه ، والأظهر جواز إثبات النّسخ به بهذا المعنى ، وإلّا فالفائدة ليست بنادرة على ذلك.

وأمّا الإجماع : فاختلفوا في جواز نسخه أو النّسخ به ، وبنوا الخلاف على أنّ الإجماع هل يتحقّق قبل انقطاع الوحي أم لا؟

فالأكثرون على عدم انعقاد الإجماع إلّا بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه إن كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، فلا عبرة بقول غيره وإلّا فلا عبرة بقول المجمعين ، وحينئذ


فلا يجوز أن يكون منسوخا ، لأنّ النّاسخ إمّا الكتاب ، وإمّا السنّة ، وإمّا الإجماع ، وإمّا القياس.

أمّا القياس فإنّما يكون حجّة عندهم إذا لم ينعقد الإجماع على خلافه.

وأمّا الكتاب والسنّة فلأنّ المفروض أنّهما قبل الإجماع ، والنّاسخ لا بدّ أن يتأخّر.

وأمّا الإجماع فلأنّه لا بدّ له من مستند ، فهو إمّا نصّ أو قياس ، فإن كان نصّا فيكون الإجماع الأوّل باطلا ، لكونه على خلاف الشيخ ؛ فلا نسخ.

وإن كان قياسا فيكون الثاني باطلا ، لما مرّ ، وأنّه لا يجوز أن يكون ناسخا ، فلأنّ المنسوخ إمّا أن يكون نصّا أو إجماعا أو قياسا ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّلان فلامتناع انعقاد الإجماع على خلاف النصّ والإجماع.

وأمّا الثالث فلبطلانه بالذّات حينئذ ، فلا نسخ.

هذا ما ذكر الجمهور ، واعتمد المرتضى (١) من أصحابنا في عدم الجواز على الإجماع ، والشيخ (٢) على أنّ الإجماع دليل عقليّ والنّسخ لا يكون إلّا بدليل شرعيّ.

وذكر بعضهم (٣) ، أنّ الإجماع إنّما يكون من مستند قطعيّ ، فيكون النّاسخ هو لا نفس الإجماع ، ودعوى الإجماع مشكلة.

وكون الإجماع دليلا شرعيّا (٤) واضح ، وقد مرّ ما يدلّ عليه في محلّه ، ولا

__________________

(١) في «الذريعة» ١ / ٤٥٦.

(٢) في «العدة» ٢ / ٥٣٨ ، وحكاه المحقق عن الشيخ كما في «المعالم» ص ٥٠٧.

(٣) حكاه عن بعض المتأخّرين في «المعالم» ص ٥٠٧.

(٤) ردّ على ما كان قد ذكره الشيخ.


حاجة عندنا في حجّية الإجماع الى مستند آخر لكشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

والمراد من ناسخيّة الإجماع أو منسوخيّته هو باعتبار كشفه.

والمناقشة في استناد النّسخ الى المستند دون الإجماع مناقشة ضعيفة.

والتّحقيق عندنا ، أنّ الإجماع ينعقد في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا بعده كما يظهر من ملاحظة ما قدّمناه في محلّه ، ولا مانع من كونه ناسخا ولا منسوخا (١).

وأمّا المخالفون ، فيدلّ على بطلان ما ذهبوا إليه ـ مضافا الى ما ظهر هنا وفي بحث الاجماع ـ أنّ أدلّتهم على حجّية الإجماع ينادي بعدم اختصاص تحقّقه بما بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمتي على الخطأ» (٣) ، ونحو ذلك كما لا يخفى.

__________________

(١) في «الذريعة» ١ / ٤٥٦ قال المرتضى : اعلم أنّ مصنّفي أصول الفقه ذهبوا كلّهم إلى أنّ الاجماع لا يكون ناسخا ولا منسوخا واعتلّوا في ذلك : بأنّه دليل مستقرّ بعد انقطاع الوحي ، فلا يجوز نسخه ولا النّسخ به ... والأقرب أن يقال : إنّ الأمّة مجمعة على أنّ ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، هذا الكلام للسيد رحمه‌الله وقد ذكره في «المعالم» ص ٥٠٧ عنه أيضا.

(٢) النساء : ١١٥.

(٣) «المنخول» ص ٤٠٥.


قانون

زيادة العبادة المستقلّة على العبادات ليست نسخا للمزيد عليه ، صلاة كانت أو غيرها ، عند جمهور العلماء ، لأنّه لا يرفع إلّا العدم الأصليّ وهو ليس بحكم شرعيّ. ولعلّ مرادهم (١) لو لم ينف الحصر المستفاد من الشّرع ، وإلّا فثبت النّسخ للحصر ، ولكن هذا ليس بنسخ للمزيد عليه.

وذهب جماعة من العامّة الى أنّ زيادة صلاة على الصّلوات الخمس نسخ ، لأنّه يخرج الوسطى عن كونه وسطى (٢).

وأورد عليه : بأنّ ذلك نسخ لحكم عقليّ وهو كونها وسطى ، فلا يكون نسخا.

مع أنّه يرد عليهم أنّ الزيادة المستقلّة أيضا نسخ ، لأنّه يخرج الأخيرة عن كونها أخيرة.

وفيه : أنّ المراد زوال ما يترتّب على الوسطى من الأحكام الشرعيّة ، مثل شدّة المحافظة وغيرها ، وليست في الأخيرة.

وقيل : بل الحقّ أنّه نسخ إن كان ذلك لأجل كونها وسطى الصّلوات المفروضات مطلقا ، ولو كان لكونها وسطى الخمس ، لم يزل الحكم ، لعدم زوال الوصف المذكور.

أقول : وعلى الأوّل أيضا لا يلزم النّسخ ، لأنّ الحكم إذا تعلّق بوسطى مطلق الصلاة ، فالموصوف تابع لتحقّق الوصف ولا مدخليّة لخصوصيّته في الحكم ،

__________________

(١) من عدم النّسخ.

(٢) وهو ظاهر الفساد كما في «المعالم» ص ٥١٠.


فانتقال الحكم من ذات الى ذات من جهة أنّها شيء واحد من جهة الوصف ، لم يوجب زوال الحكم من المتّصف بالصّفة من جهة أنّه متّصف بها ، وإن زال الحكم عنه من جهة الخصوص.

وأمّا العبادة الغير المستقلّة ، فاختلفوا في كون زيادتها نسخا ، ومثّلوا لذلك بزيادة ركعتين على ركعتين على سبيل الاتّصال.

والحقّ ، أنّه ليس بنسخ لنفس الركعتين كما يفهم من بعضهم ، فإنّ وجوب الرّكعتين باق على حاله ، وانضمام الركعتين إليهما لا يخرجهما عن وجوب. وكذلك ليس بنسخ من جهة الإجزاء وعدم الإجزاء لأنّهما مع أنّهما حكمان عقليّان لا يجري فيهما النّسخ لم يثبت ارتفاع إجزاء الأوّلين [الأوليين] ، غاية الأمر أنّ إجزاءهما كان على حال ، والآن صار على حال آخر.

نعم ، لو فرض حكم الشّارع بأنّهما لا يجزيان إلّا منفردين ، ثمّ قال : لا يجزيان إلّا منضمّين ، فهو يصير نسخا.

وكذلك إذا استفاد من الشّرع وجوب إلصاق التشهّد بالركعتين الأوّلين [الأوليين] ثمّ رفع حكم وجوبه وأخّره عن الرّكعتين الأخيرتين ، إذ أوجب التشهد والتسليم أوّلا بشرط الاتّصال بالأوليين ثمّ أخّرهما عن الأخيرتين.

وثمرة هذا النّزاع ، تظهر في جواز إثبات مثل ذلك بخبر الواحد بناء على عدم جوازه إذا ثبت الأصل بالقطعيّ ، وهذه الثّمرة نادرة عندنا ، بل لا تكاد توجد.


قانون

يعرف النّاسخ إمّا بتنصيص الشّارع صريحا ، كأن يقول : هذا ناسخ لذلك ، أو بما يؤدّي ذلك ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «كنت نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزوروها ، وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي ألّا فادّخروها».

أو بالاجماع عليه.

وإمّا بالعلم بالمتأخّر لضبط التّاريخ.

وإذا حصل التضادّ ولم يعلم النّسخ بأحد الوجوه المذكورة فيجب التوقّف لا التخيير.

وهذا ليس من قبيل الأخبار الواردة عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وثبوت التخيير في العمل بين متضادّيها ومناقضيها لو امتنع التّرجيح ، بل الكلام فيما نحن فيه إنّما هو إذا علم بأنّ أحدهما رافع لحكم الآخر.

وأيضا قد أشرنا سابقا الى الفرق بين إثبات النّسخ بخبر الواحد ، بمعنى أنّ خبر الواحد هو الذي يرفع الحكم مستقلا ، وما كان خبر الواحد ناقلا لحكاية النّسخ ، والحكم فيهما مختلف ، فلا تغفل.

__________________

(١) «علل الشّرائع» ح ٣ ، وقد نقله في «المستصفى» ١ / ١٢٧


قانون

يجوز نسخ التّلاوة دون الحكم وبالعكس ، وهما معا.

والمخالف في المذكورات شاذّ ، وحجّته واهية ، ويكفينا الوقوع.

أمّا الأوّل : فكما ورد في أخبارنا أنّه كان من القرآن أنّ الشيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الحقّ ، فنسخ تلاوته مع استقرار حكمه (١).

وأمّا الثاني : فهو إمّا مع البدل ، كتبديل العدّة بالحول بأربعة أشهر وعشرا ، أو بلا بدل كنسخ الصّدقة قبل النّجوى (٢).

ويجوز بالأثقل كما يجوز بالأخفّ والمساوي كما في تبديل الكفّ عن الكفّار الثّابت بقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٣) بآية الجهاد ، وصوم عاشوراء برمضان (٤).

وأمّا الثالث : فروي أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، ونسخ حكمها وتلاوتها (٥).

__________________

(١) وكذا عندهم كما في «المستصفى» ١ / ١٢٢.

(٢) وذكرهما في «المستصفى» ١ / ١٢٢.

(٣) الكافرون : ٦.

(٤) وكذا في «المستصفى» ١ / ١١٩.

(٥) «بحار الأنوار» ٣١ / ٤٢٤ ، «الاحتجاج» ١ / ٢٢٢ ، وراجع تفسير «البيان» للسيد الخوئي مبحث النّسخ لمزيد من البيان.

القوانين المحكمة في الاصول - ٣

المؤلف:
الصفحات: 230