المقدّمة

حمدا لك اللهم ، بك المعونة والتوفيق ، ومنك الهداية لأقوم طريق ، اذا أظلمت الشبهات ، في دجنة الخطوب المدلهمات ، وبفضلك نطلب يقينا يملأ الصدر ، ويستولي على زمام القلب ، ويكبت سورة النفس ، فيردها عن غيها ، ويكبح جماح شهواتها ، فإنك الملجأ والنصير والمعين ، وصلاة وسلاما على محمد عبدك ورسولك الذي آتيته الحكمة وفصل الخطاب ، وعصمته من الخطأ وألهمته الصواب ، ومننت عليه بفضيلة البيان ، ففند بقاطع حجته قول من عارضه من أهل الزور والبهتان.

وبعد ـ فإن موضع علوم البيان من علوم العربية ، موضع الرأس من الإنسان ، او اليتيمة من قلائد العقيان ، فهي مستودع سرها ، ومظهر جلالها ، فلا فضيلة لكلام على كلام ، إلا بما يحويه من لطائفها ، ويودع فيه من مزاياها وخصائصها ، ولا تبريز لمتكلم على آخر ، إلا بما يحوكه من وشيها ، ويلفظه من درها ، وينفثه من سحرها ، ويجنيه من يانع ثمرها.

إلى أن بها نعرف وجه إعجاز القرآن ، وندرك ما فيه من خصائص البيان ، ونفهم براعة أسلوبه ، وانسجام تأليفه ، وسهولة نظمه وسلامته ، وعذوبته وجزالته ، الى أمثال تلك المحاسن التي أسالت على العرب الوادي عجزا ، حتى حارت عقولهم ، وقصرت عن بلوغ شأوه جهابذتهم وفحولهم ، حتى اضطر ذلكم المتكبر الجاحد ، والصلف المعاند ، الوليد بن المغيرة ، أن يقول فيه مقالته المأثورة : «والله إن لكلامه لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمورق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما هو بقول البشر» فالجاهل بأسرارها ،


والمحروم من اقتطاف جنى ثمارها ، لا يعرف وجه الإعجاز إلا بالتقليد ، ولا يعلم ذلك إلا بالسماع ، فسواء في قضية النظر ، هو والزنجي والبربري ، والفارسي والنبطي ، إذ كل أولئك يتلقونه سماعا ، ويصل إليه علمه مشافهة.

مما تقدم تعلم جليل خطرها ، وعظيم منزلتها ، وأنها لا تدانيها منزلة علم آخر من علوم العربية ، فلا غرو اذا اتجهت همم العلماء والباحثين في مختلف العصور الى التأليف فيها ، وبسط القول في بيان مغازيها ومراميها ، وقد رأينا أن ندلي دلونا بين الدلاء ، ونضرب بسهم في هذا الميدان ، والله ولي التوفيق ، والهادي لأقوم طريق.

أحمد مصطفى المراغي


نبذة في تاريخ علوم البيان ...

١ ـ الحاجة الى وضع قواعدها

(أ) اشتعلت نار الجدل صدر الدولة العباسية حتى اندلع لهيبها وتطاير شررها الى جميع أنحاء البلاد الإسلامية ردحا من الزمن غير قليل بين أئمة الأدب وأرباب المقالات من علماء الكلام في بيان وجه إعجاز القرآن ، واختلفوا في ذلك طرائق قددا ، وتفرقوا أيدي سبا ، وتعددت نزعاتهم ، وتضاربت مذاهبهم وآراؤهم كما هو مسطور في زبر المتكلمين كالمواقف لعضد الدولة ، والمقاصد لسعد الدين التفتازاني.

وكان الرأي الآفن من بين هذه الآراء وأبعدها عن الصواب ، رأي إبراهيم النظام صاحب المذهب الذي ينسب اليه (مذهب الصرفة) إذ قال : إن القرآن ليس معجزا بفصاحته وبلاغته ، وإن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله ، لكن الله صرفهم عن ذلك تصديقا لنبيه ، وتأييدا لرسوله حتى يؤدي رسالات ربه ، فانبرى للرد عليه جم غفير من العلماء من بينهم الجاحظ والباقلاني ، وإمام الحرمين ، والفخر الرازي ، وناضلوا نضالهم المحمود الذي خلد لهم في بطون الأسفار فكتبوا الفصول الممتعة مبينين خطل رأيه وفساد مذهبه ، بما أملته عليهم قرائحهم الوقادة ، وأفكارهم النقادة ، حتى لم يبق في القوس منزع ، ولا زيادة لمستزيد.

(ب) كذلك قامت سوق نافقة للحجاج والمناظرة ، بين أئمة اللغة والنحو أنصار الشعر الجاهلي ، الذين رأوا أن الخير كل الخير في المحافظة على أساليب العرب وأوضاعها ، والأدباء والشعراء أنصار الشعر المحدث الذين لم يحفلوا بما درج عليه أسلافهم من العرب ، ورأوا أنهم في حل من كل قديم ، لا يشاكل بيئة


الحضارة التي غذوا بلبانها ، وربوا في أحضانها ، ولم يكن الغرب ليحلموا بها من قبل ، ولو أن القدر أتاح لهم أن يروا زخارف تلك المدنية ، وطرائف لطائفها ، لكان لهم شأن في آدابهم ، ومهيع في أساليبهم غير شأنهم هذا.

(ج) أضف الى تلك الضوضاء وذلك اللجب ، ما شجر من الخلاف بين أئمة الأدب وأساطينه ، في بيان وجوه تحسين الكلام حتى يرقى في سلم البلاغة ، وينال قسطه من الفصاحة ، وتناقضت آراؤهم في ذلك أيما تناقض ، ففريق مال الى رصين الكلام الجامع بين العذوبة والجزالة ، وفريق أولع بالمنطق الموشى المشتمل على صنعة البديع ، يرشد الى ذلك ما تراه في كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦ ه‍ حين حكم على تلك الأبيات المشهورة لكثيّر عزة بأنها مونقة خلابة في لفظها ، لكنك اذا فتشتها وبحثت عن ذات نفسها لم تحل منها بطائل ، وهي :

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

ثم ما تجده في كتاب «الصناعتين» لأبي هلال العسكري من استحسان هذه الأبيات ونقد حكم ابن قتيبة واتهام ذوقه ، ووافقه على نقده أبو الفتح بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ ه‍ في كتاب «الخصائص» ، والإمام عبد القاهر في «أسرار البلاغة» ، وأطال الإطراء لثالثها الى غير ذلك من مختلف الآراء مما لسنا بصدد سرده الآن.

كل أولئك لفت أنظار أئمة البلاغة الى أن يضعوا قوانين وضوابط يتحاكمون اليها عند الاختلاف ، وتكون دستورا للناظرين في آداب العرب ، منثورها ومنظومها ، ونشأ من ذلك البحث في علوم البيان ، أو علوم البلاغة.

٢ ـ أول من دونها

لا نعلم أحد سبق أبا عبيدة معمر بن المثنى الراوية تلميذ الخليل بن أحمد المتوفى سنة ٢١١ ه‍. فقد وضع كتابا في علم البيان سماه «مجاز القرآن» لكنه لم يرد بالمجاز الوصف الذي ينطبق على ما وضع من القواعد بعد ، بل هو أشبه بكتاب


في اللغة توخى فيه جمع الألفاظ التي أريد بها غير معانيها الوضعية ، ألا تراه وقد سئل مرة عن قول الله عز وعلا : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(١) ، فقال : هو مجاز كقول امرىء القيس : «ومسنونة زرق كأنياب أغوال».

كما لا نعرف بالضبط أول من ألف في علم المعاني ، وإنما أثر فيه نبذ عن بعض البلغاء كأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني المتوفى سنة ٢٥٥ ه‍ إمام الأدباء وسلطان المنشئين في عصره ، والقدوة في أساليبه التي اختص بها ، وتحداه فيها الأئمة من بعده.

فقد أشار الى مسائل منه في كتابه «إعجاز القرآن» وعنى في كتابه «البيان والتبيين» بدرس بعض القواعد التي كثر ولوع القوم بها في عصره ، كبيان معنى الفصاحة والبلاغة ، وحسن البيان والتخلص من الخصم ، وحسن الاسجاع ، ثم قفّاه ابن قتيبة في كتابه «الشعر والشعراء» والمبرّد في كتابه «الكامل» فتعرضا لبعض نتف من هذه العلوم.

وغني عن البيان أن المتكلمين بداءة ذي بدء في أي فن من الفنون لا يحيطون بأطرافه ، ولا يتغلغلون في استقصاء مباحثه.

لكنا نعلم أن أول من دون البديع الخليفة عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي المتوفى سنة ٢٩٦ ه‍ فقد استقصى ما في الشعر من المحسنات ، وألف كتابا سماه «البديع» ذكر فيه سبعة عشر نوعا منها الاستعارة والكناية والتورية والتجنيس والسجع ، الى غير ذلك ، وقال : «ما جمع قبلي فنون البديع أحد ، ولا سبقني الى تأليفه مؤلف ، ومن رأى أن يقتصر على ما اخترنا فليفعل ، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن اليه فله اختباره».

ومن البين أن اسم البديع بهذا الإطلاق يتناول ما سماه المتأخرون بعلم البيان ، ثم ألف معاصره قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفى سنة ٣١٠ ه‍ كتابا في نقد الشعر سماه «نقد قدامة» ذكر فيه ثلاثة عشر نوعا من البديع زيادة على ما أملاه ابن المعتز فتممها ثلاثين نوعا.

__________________

(١) سورة الصافات الآية ٦٥.


تلا هذين العالمين أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري المتوفى سنة ٣٩٥ ه‍ وألف كتابه «الصناعتين» صناعتي النثر والنظم ، جمع فيه خمسة وثلاثين نوعا من البديع ، وبحث فيه عن عدة مسائل أخرى كالفصاحة والبلاغة والإيجاز والإطناب والحشو والتطويل وعدة أبواب في نقد الشعر ، الى غير ذلك من جليل المباحث.

وكتابه يعتبر أول مصنف أشير فيه الى مسائل علوم البيان الثلاثة (المعاني والبيان والبديع).

٣ ـ رقي هذه العلوم بتأليف الامام عبد القاهر

تمخض القرن الخامس فولد نادرة البطن ، ونابغة البلغاء ، وإمام حلبة الفصحاء أبا بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ الذي نظر يمنة ويسرة فلم يجد من مسائل هذه الفنون إلا نتفا مبعثرة لا تسمن ولا تغني من جوع فشمر عن ساعد الجد ، وجمع متفرقاتها ، وأقام بناءها على أسس متينة ، وركز دعائمها على أرض جدد لا تنهار ، وأملى من القواعد ما شاء الله أن يملي في كتابيه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» وأحكم بنيانها بضرب الأمثلة والشواهد ، حتى أناف بها على اليفاع ، وقرن فيهما بين العلم والعمل ، اذ رأى أن مسائل الفنون لا يستقر لها قرار إلا بكثرة الأمثلة والنماذج ، فالصور الإجمالية التي تؤخذ من القواعد ، إن لم تؤيدها الصور التفصيلية التي تستفاد من النماذج ، لا تتمثل في الأذهان حق التمثل ، ولا تنجلي حقيقتها تمام الإنجلاء.

وقد ساعده على ذلك ما آتاه الله من عذوبة البيان ، وما تجلى به قلمه من الطلاوة الخلابة ، والبلاغة الساحرة للألباب.

٤ ـ الامام جار الله الزمخشري

نبغ إثر عبد القاهر أستاذ المفسرين ، جار الله الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ ه‍ وألف تفسيره «الكشاف» نحا فيه نحو الغرض المقصود من تفسير التنزيل ، وهو إظهار أسراره ، وشرح وجه إعجازه ، ببيان وفاء دلالته على المراد ، وكشف خصائصه ومزاياه التي استأثر بها ، حتى بلغ هذه المرتبة ، وحتى تحدى البشر بأنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.


وغني عن البيان أنه لن يصل الى تلك المنزلة إلا من أتاه الله فطرة سليمة ، ورأيا حصيفا ، وفكرا ثاقبا ، وبرهانا ساطعا ، وقلما أطوع له من بنانه حتى يتاح له بواضح البرهان ، وبديع البيان ، أن يوضح خصائص التراكيب ولطائف الأساليب التي هي من أسرار التنزيل ، وبذا أبان في عرض كلامه كثيرا من قواعد هذه الفنون التي اتخذها من جاء بعد ، دستورا للكلام في كثير من مسائلها.

٥ ـ أبو يعقوب يوسف السكاكي

جاء بعد من تقدم ذكرهم العلامة أبو يعقوب ، يوسف السكاكي ، المتوفى سنة ٦٢٦ ه‍ وألف كتابه «مفتاح العلوم» وجمع في القسم الثالث منه زبدة ما كتبه الأئمة قبله في هذه الفنون ، ونظم لآلئها المتفرقة في تضاعيف كتبهم ، وأحاط بكثير من قواعدها المبعثرة في الأمهات ، ورتبها أحسن ترتيب ، وبوبها خير تبويب ، وفصل فنون البيان الثلاثة بعضها من بعض ، لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة.

ولو لا أن المؤلف أولع بتطبيق أساليب العرب على علوم اليونان واصطلاحاتهم مع ما بينهما من بعد الدار ، وشط المزار واختلاف البيئات وتباين المعتقدات ، لكان خير كتاب أخرج للناس في هذه الفنون ، لجمعه شتاتها ، وضمه ما تفرق من قواعدها.

وقد اختصر مؤلفه في كتاب آخر سماه «التبيان» ، ولخصه بعض المتأخرين في أمهات مشهورة ، كما فعل ابن مالك في كتابه «المصباح» والخطيب جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة ٧٣٩ ه‍ في كتابيه «تلخيص المفتاح» و «شرح الإيضاح» والأخير مؤلف جليل ، جمع فيه مؤلفه خلاصة «المفتاح» و «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» و «سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي.

٦ ـ الوزير ضياء الدين ابن الأثير

بينما السكاكي يؤلف كتابه «مفتاح العلوم» اذا بالوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر بن محمد الموصلي الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة ٦٣٧ ه


وزير الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي ، يصنف كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» وهو كتاب فريد في بابه يفوق أنداده وأترابه ، جمع فيه فأوعى ، ولم يترك شاردة ولا واردة ، لهما مساس بالكتابة والقريض إلا ذكرهما بشرح واف ، يدل على طول باع ، وسعة اطلاع ، مع قدرة على النقد ، وبديهة حاضرة في إدراك خصائص البلاغة ، ومن ثمة اشتمل كتابه على كثير من أبواب تلك الفنون ، وطبق عليهما كثيرا من آي الكتاب والسنّة النبوية ، وتلك منقبة امتاز بها من بين هاتيك المؤلفات في تلك العلوم.

وكان يحاكي في أسلوبه أسلوب القاضي الفاضل المتوفى سنة ٥٩٦ ه‍ وزير صلاح الدين الأيوبي (على ما بينهما من شاسع البون) وطريقة القاضي معروفة بين المتأدبين وهي من النوع الذي يغلب عليه السجع والجناس وغيرهما من المحسنات اللفظية ، وكانت براعة الكتّاب في هذا العصر وما بعده تظهر في استعمال تلك الطلاوة اللفظية ، وبها يفوق كاتب كاتبا ، ويبز الأقران في هذا الميدان.

٧ ـ عصور الاختصار ووضع الشروح والحواشي

طفق المؤلفون من القرن الثامن وما بعده يوسعون الشروح والحواشي على المفتاح وتلخيصه للقزويني ، وصرفوا جل همتهم في تفسير ما أشكل من عبارات المؤلفين ، والجمع بين ما تناقض من آرائهما.

ومن أجلّ تلك الشروح شروح مسعود سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة ٧٩١ ه‍ وشروح السيد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ ه‍ ، ثم تتابعت التقارير والحواشي توضح ما انبهم من تلك التراكيب المجملة ، والعبارات الغامضة ، وليس علينا من غضاضة في التصريح بأن أساليب التأليف في تلك العصور قد ملكت عليها العجمة أمرها ، وجلبت عليها أنواع التعقيد بخيلها ورجلها ، فلم تكن هي الأساليب التي يجدر أن تكتب بها علوم البلاغة ، أو بالأحرى علوم خصائص اللسان العربي المبين.

ومن ثمة لم يكن القارىء ليجعلها قدوة في أساليبها ، أو نماذج في تراكيبها ، فهي أحرى أن تكون أساليب اصطلاحية علمية ، لا لغوية أدبية ، تشرح خصائص كلام العرب وتبين مزايا أساليبه ، وما زالت تتدلى وتتدهور حتى وصلت الى ما تراه اليوم ، تتضاءل في أطمارها البالية وتنزوي أمام أهل الجيل الحاضر.


٨ ـ تأليف معاصرينا في هذه الفنون

أنشئت المدارس العالية والثانوية بمصر في نهاية القرن الغابر ، وسلكت في التربية والتعليم طريقا سويا ، لا مشاكلة بينه وبين ما تقدمه في معهد العرفان ، وكان في مقدمة تلك المدارس التي شيدت ، مدرسة دار العلوم من نحو أربعين سنة ونيف ، فألف أساتذتها مختصرات تناسب تلك البرامج المدرسية ، ويسهل على الطلبة أن يحصلوا على بغيتهم منها ، فحمد لهم الناس جميل صنعهم وأوفوهم حقهم في الثناء والتقريظ مقدار ما كان لمؤلفاتهم من الميزة إبان ظهورها.

وفي الحق أن تلك الرسائل وإن اختلف ترتيبها ، وتنوع تبويبها ، تنحو على الجملة في أسلوبها ، منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه ، وتسير على خطتهم وتحذو حذوهم (وقد عرفت حال هذه التآليف) فضلا عن خلوها من الأمثلة المنوعة التي تتضح بها مجملات تلك القواعد.

وأفضل تلك المختصرات كتاب «دروس البلاغة» فهو على إيجازه الذي لوحظ فيه حال النشء ، وهم في بدء تحصيل مختلف العلوم ، كفيل بتصوير القواعد في أذهانهم جهد المستطاع.

٩ ـ طريقنا في التأليف

رأينا أن نضع كتابا يجمع بين طريق المتقدمين ، من سعة الشرح والبيان ، والاعتماد على الأمثلة والشواهد ، حتى تستبين للقارىء خصائص البلاغة مرموقة محسوسة ، ولطائف الكلام مجسمة ملموسة ، ويسهل تطبيق العلم على العمل ، والإجمال على التفصيل ، وذلك أمثل الطرق ، لبنائه على قواعد علم النفس ، من تعويد الناظر الركون الى الوجدان والحس ، وطريق المتأخرين من حسن الترتيب والتبويب ، وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون ، ليكون أنجع في الدرس ، وأقرب إلى التناول.

فإذا كنا قد وفقنا الى ما قصدنا وهدينا الى الغرض الذي توخينا ، فذلك من فضل الله علينا ، وإن كنا تنكّبنا عن جادة الحق وأخطأنا شاكلة الصواب ، فليغض القارىء الطرف عما يراه من الهفوات ، ويعثر عليه من الزلات ،


فإن الطريق وعر ، والمركب غير ذلول ، وقديما قال الأول : «كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه».

وليعلم أنّا لم ندخر وسعا في تمحيص ما كتبنا وتهذيبه ، وتنقيح ما رتبنا وتجويده ، بعد أن قضينا زمنا طويلا في البحث والتنقيب ، في الأمهات المؤلفة في هذه الفنون وغيرها للمتقدمين والمتأخرين ، واطلعنا على الرسائل التي صنفها معاصرونا ، ومن تقدمهم ، جزى الله الجميع خيرا ، وعليه التكلان ، وبه المستعان.

أحمد مصطفى المراغي


المقدمة

في حقيقة الفصاحة والبلاغة لغة واصطلاحا

للفصاحة لغة ومعان متعددة كلها تشف عن الظهور والإبانة ، فيقال :

١ ـ فصح اللبن وأفصح اذا أخذت عنه الرغوة ، قال نضلة السلمي : وتحت الرغوة اللبن الفصيح (١)

٢ ـ أفصح الصبح : بدا ضوؤه ، ومنه المثل : «أفصح الصبح لذي عينين» (٢).

٣ ـ يوم مفصح وفصح لا غيم فيه ولا قرّ.

٤ ـ أفصح الأعجمي بالعربية ، وفصح لسانه بها اذا خلصت لغته من اللكنة وفي التنزيل : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(٣) أي أبين مني قولا.

والبلاغة لغة : تنبىء عن الوصول والانتهاء.

يقال : بلغت الغاية اذا انتهيت اليها ، ومبلغ الشيء منتهاه ، ورجل بليغ وبلغ وبلغ ، حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه ، وبلغ بالضم بلاغة : صار بليغا ، وتبالغ في كلامه تعاطى البلاغة وما هو ببليغ ، وتبالغ به الفرح والحزن : تناهى.

أما البلاغة اصطلاحا فالبلغاء في ذلك فريقان :

١ ـ المتقدمون كالإمام عبد القادر الجرجاني ومن لف لفه ، وهؤلاء يرون

__________________

(١) يضرب مثلا للامر ظاهره غير باطنه.

(٢) يقال للشيء ينكشف بعد استتاره.

(٣) سورة القصص الآية ٣٤.


أن الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة ألفاظ مترادفة لا تتصف بها المفردات ، وإنما يوصف بها الكلام بعد توخي (١) معاني النحو فيما بين الكلم بحسب الأغراض التي يصاغ لها ، والى ذلك أشار في دلائل الإعجاز في مواضع عدة منها قوله : «فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة وكل ما شاكل ذلك مما يعبر عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه ، غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة» ، ثم قال : «ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية».

وقال قبله أبو هلال العسكري في الصناعتين : «الفصاحة والبلاغة ترجعان الى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ، لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة على المعنى والإظهار له».

وقال الفخر الرازي في نهاية الإيجاز : وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما.

ويشهد لذلك قول الجوهري في الصحاح : الفصاحة : البلاغة.

وعلى هذا الرأي فمرجعهما وما شاكلهما النظم والكلام دون الألفاظ المجردة والكلمات المفردة.

٢ ـ المتأخرون كأبي يعقوب يوسف السكاكي وابن الأثير ، ومن شايعهما ، وأولئك يرون إخراج الفصاحة من كنف (٢) البلاغة ، ويجعلونها اسما لما كان بنجوة (٣) من تنافر الحروف وغرابة الألفاظ ومخالفة القياس ، الى آخر ما سيذكر

__________________

(١) الطلب والتحري.

(٢) الناحية والجانب.

(٣) يقال : هو بنجوة من كذا اذا كان بعيدا.


بعد ، ويجعلون البلاغة اسما لما طابق مقتضى الحال مع الفصاحة ، وعلى هذا الرأي فالبلاغة كل والفصاحة جزؤه ، وعليه أيضا فالفصاحة من صفات المفرد كما هي من صفات المركب بحسب الاعتبارات الآتية :

والى هذا أشار صاحب الصناعتين حيث قال ، وقيل : الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ ، لأن الآلة تتعلق باللفظ ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى الى القلب ، فكأنها مقصورة على المعنى ، اه

وها نحن أولاء نشرحهما لك على الرأي الأخير فقد استقر عليه البحث ، وبالله التوفيق ، ومنه الهداية لأقوم طريق.

الفصاحة

تقع الفصاحة وصفا للمفرد والكلام والمتكلم.

فصاحة المفرد

فصاحة المفرد تتحقق بسلامته من أربعة عيوب (١) :

١ ـ تنافر الحروف.

٢ ـ غرابة اللفظ

٣ ـ مخالفة القياس.

٤ ـ الكراهة في السمع.

تنافر الحروف

صفة في الكلمة ينجم عنها ثقلها على اللسان وصعوبة النطق بها ، ولا ضابط لذلك غير الذوق السليم والشعور الذي ينشأ من مزاولة أساليب البلغاء ، وليس منشؤه قرب مخارج الحروف كما قيل ألا ترى أنك تجد الحسن في لفظ الجيش مع تقارب مخارج حروفه ، ونحوه ، الفم والشجر ، وتجد لفظ ملع بمعنى أسرع متباعد المخارج وهو متنافر ، ولا طول الكلمات لأنه إن صح ذلك في نحو

__________________

(١) لتسلم من الخلل مادته وصيغته ومعناه.


صهصلق (١) وخنشليل (٢) وما جرى مجراهما ، فليس يصح في نحو ليستخلفنهم في الأرض فسيكفيكهم الله.

ولكن يمكن وضع ضابط إجمالي أساسه المشاهدة ، وهو أن أصول الأبنية لا تحسن إلا في الثلاثي وفي بعض الرباعي نحو : عذب وعسجد. أما الخماسي الأصول نحو : صهصلق وجحمرش ، وما جرى مجراهما ، فإنه قبيح ، ومن ثمة لم يوجد شيء من هذا الضرب في القرآن الكريم إلا ما كان معربا من أسماء الأنبياء كإبراهيم وإسماعيل.

والتنافر ضربان :

١ ـ شديد متناه في الثقل كالصمعمع (٣) والطسّاسيج (٤) والظشّ (٥).

٢ ـ خفيف كالنقاخ (٦) والنقنقة (٧) والمثغنجر (٨) ومستشزرات في قول امرىء القيس :

غدائره مستشزرات الى العلا

تضل المدارى في مثني ومرسل (٩)

والضمير في غدائره يرجع الى فرع في قوله قبله :

وفرع يزين المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النخلة المتعثكل (١٠)

__________________

(١) الشديد من الاصوات.

(٢) السيف.

(٣) الصغير الرأس.

(٤) جمع طسوج القرية ونحوها.

(٥) الموضع الخشن.

(٦) الماء العذب.

(٧) صوت الضفادع.

(٨) السائل من ماء أو دمع.

(٩) غدائره أي ذوائبه جمع غديرة وهي الشعر المشدود بخيوط على الرأس ومستشزرات أي مرتفعات وتضل تغيب والمداري جمع مدارة آلة تعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط أو أطول منه يسرح بها الشعر المتلبد ، والمثنى المفتول وضده المرسل.

(١٠) الفرع الشعر والاثيث الكثير والقنو الكباسة والمتعثكل كثير العثاكيل أي العيدان التي عليها البسر ومراده من كل ذلك الدلالة على وفرة شعرها ، وكان من عادة نساء العرب أن تشد قسما من الشعر كالرمانة ، ثم ترسل فوقه المثنى والمرسل.


الغرابة

هي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ، ولا مألوفة الاستعمال عند خلّص العرب (لا عند المولدين لأن كثيرا مما في المعاجم غريب عندهم).

ولذلك سببان (١) :

١ ـ احتياجها الى بحث وتفتيش في كتب اللغة ، ثم يعثر على معناها بعد كمسحنفرة (٢) وبعاق (٣) وجردحل (٤) وجحيش بمعنى فريد مستبد برأيه في قول تأبط شرا يصف ابن عم له بكثرة الترحال :

يظل بموماة ويمسي بغيرها

جحيشا ويعروري ظهور المسالك (٥)

وهمرجلة وزيزم في قول ابن جحدر :

حلفت بما أرقلت حوله

همرجلة خلقها شيظم

وما شبرقت من تنوفية

بها من وحي الجن زيزم (٦)

وربما لا يعثر على معناها كجحلنجع ، قال في اللسان : قال أبو تراب : كنت سمعت من أبي الهميسع حرفا وهو جحلنجع فذكرته لشمر بن حمدويه وتبرأت اليه من معرفنه ، وكان أبو الهميسع من أعراب مدين لا نفهم كلامه ، وأنشدته ما كان أنشدني :

__________________

(١) لأن الغرابة أما في الجوامد والمصادر المشتقات باعتبار مبادئها أي أصولها وهو القسم الاول ، وإما في المشتقات باعتبار هيئاتها ، وهو القسم الثاني.

(٢) أي متسعة.

(٣) المطر.

(٤) الوادي.

(٥) الموماة المفازة ويقال : للمستبد برأيه جحيش وحده بالتصغير عند إرادة الذم واعرورى الفرس ركبه عريانا.

(٦) الارقال ضرب من السير والهمرجلة الناقة السريعة والشيظم الشديد الطويل من الابل ، والخيل وشبرقت قطعت ، والتنوفية المفازة والوحي الصوت الخفي وزيزم حكاية صوت الجن اذا قالت زي زي على زعمهم. يريد أنه حلف بما سارت حوله الناقة الشديدة السير العظيمة الخلق وبما قطعت من مفازة لا يسمع فيها إلا صوت الجن.


إن تمنعي صوبك صوب المدمع

يجري على الخد كضئب الثعثع

وطمحة صيرها جحلنجع

لم يحضها الجدول بالتنوع (١)

قال في المثل السائر : ومن الغريب من يعاب استعماله في النثر دون النظم كلفظ مشمخر في أبيات بشر في وصف الأسد :

وأطلقت المهند من يميني

فقدّ له من الأضلاع عشرا

فخرّ مضرجا بدم كأني

هدمت به بناء مشمخرّا (٢)

ولفظ الشدنية ، وهي ضرب من النوق في قول أبي تمام :

يا موضع الشدنية الوجناء

ومصارع الأدلاج والاسراء (٣)

ثم قال : واعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور يسوغ استعماله في المنظوم دون العكس ، وذلك شيء استنبطته ودلني عليه الدوق.

وقال الجاحظ في البيان والتبيين : ورأيت الناس يديرون في كتبهم ، أن امرأة خاصمت زوجها الى يحيى بن يعمر ، فانتهرها مرارا فقال له يحيى : أن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلبها وتضهلها (٤) ، فإن كانوا قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة ، وإن كانوا فعلوا ذلك لأنه غريب فأبيات من الشعر العجاج والطرماح تأتي لهم مع الوصف الحسن على أكثر من ذلك.

٢ ـ احتياجها الى التخريج على وجه بعيد حتى يفهم منها المعنى المقصود نحو مسرجا وصفا للأنف في قول رؤبة بن العجاج (شاعر إسلامي) :

__________________

(١) الصوب المطر المنصب والضئب حب اللؤلؤ والطمحة النظرة والصبير السحابة البيضاء وحضا النار حركها والجدول النهر والتنوع تحريك الريح الغصن والتذبذب وصيرورة الشيء أنواعا.

(٢) قد قطع والمضرج الملطخ بالدم والمشمخر العالي.

(٣) الايضاع نوع من السير ، والوجناء عظيمة الوجنتين ، والادلاج والاسراء من سرى الليل.

(٤) الشكر بفتح الشين وكسرها عضو التناسل ، والشبر النكاح ، وضهل فلان حقه نقصه وطله مطله.


أيام أبدت واضحا مفلّجا

أغر براقا وطرفا أبرجا

ومقلة وحاجبا مزججا

وفاحما ومرسنا مسرجا (١)

فالمرسن الأنف ولا يدري ما ذا أراد بوصفه بمسرج ، ومن ثم اختلف أئمة اللغة في تفسيره ، فابن دريد قال : هو من قولهم للسيوف سريجية أي منسوبة الى حداد يسمى سريجا ، فهو يريد تشبيهه بالسيف السريجي في الدقة والاستواء ، وابن سيده صاحب (المحكم) قال : هو من السراج فهو يقصد أنه شبيه به في البريق واللمعان ، وهذا قريب من قولهم : سرج وجهه بالكسر ، أي حسن ، وسرج الله وجهه ، بهّجه وحسّنه.

وعلى كلا الحالين فهو غير ظاهر الدلالة على ذلك المعنى ، لأن مادة فعّل بالتشديد إنما تدل على مجرد نسبه شيء الى آخر لا على التشبيه ، فدلالتها عليه بعيدة ، وقريب من هذا امتناع استعمال اللفظ المشترك بين معنيين فأكثر بدون قرينة لما فيه من دخول الحيرة على السامع كاستعمال اللفظ المشترك بين المعنى وضده ، إلا إذا وجدت قرينة تخصصه بالمراد ، نحو عزّر ، فإنه لفظ مشترك بين التعظيم والإهانة فلا تقول لقيت فلانا فعزرته إلا بقرينة ، ومن ثم لم يستعمله القرآن الكريم إلا مع القرينة فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)(٢) فذكر النصر قرينة على إرادة التعظيم

مخالفة القياس

كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب كجمع ناكس على نواكس ، بمعنى مطأطئي الرءوس في قول الفرزدق :

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرقاب نواكس الأبصار

«مع أن فواعل إنما تنقاس في وصف لمؤنث عاقل ، لا لمذكر كما هنا» ، وكفك الادغام في أجلل من قول أبي النجم بن قدامة من رجّاز الإسلام :

__________________

(١) الضمير في أبدت يعود الى محبوبته ليلى في الابيات قبله وواضحا ، أي فما فيه أسنان واضحة والفلج تباعد ما بين الأسنان والأغر الابيض والبريق اللمعان والبرج بالتحريك عظم العين وحسنها والترجيح التدقيق مع تقويس ، وفاحما أي شعر اسود كالفحم.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٥٧.


الحمد لله العلي الأجلل

أنت مليك الناس ربا فاقبل

واستعمال همزة القطع بدل همزة الوصل في قول جميل :

ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة

على حدثان الدهر مني ومن جمل (١)

وعكسه في قوله : إن لم أقاتل فألبسوني برقعا.

فهذا وأمثاله قبيح يشين الكلام ويذهب بمائه (٢).

قال في الصناعتين : وإنما استعمل ذلك القدماء لأنهم كانوا أصحاب بداية ، والبداية مزلة ، مع أن أشعارهم لم تكن تنقد عليهم ، ولو نقدت كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة ويبهرج (٣) من كلامهم ما كان فيه أدنى عيب لتجنبوه.

وقال القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه : ولو لا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام الحجة لوجدت كثيرا من أشعارهم معيبا مترذلا ومردودا منفيا ، لكن هذا الظن الجليل ستر عليهم ونفى الظنة عنهم فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام. اه

ويستثنى من ذلك ما ثبت عن العرب من الشواذ نحو : أبى ، يأبي (٤) ، وعور (٥) واستحوذ (٦) وقطط (٧) شعره.

الكراهة في السمع

هي أن تمج الكلمة الأسماع وتأنف منها الطباع لوحشيتها وغلظتها كالجرشيّ ، بمعنى النفس في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة :

__________________

(١) الشيمة الخلق والحدثان نوائب الدهر وجمل فرسه أو جمله.

(٢) حسنه ورونقه.

(٣) البهرج الرديء.

(٤) قياس مضارعه الكسر ، لأن المفتوح العين لا يكون إلا إذا كائت عين ماضية أو لامه حرف حلق كسأل ونفع.

(٥) القياس فيه عار لتحرك الواو وانفتاح ما قبلها.

(٦) القياس استحاذ.

(٧) تجعد.


مبارك الاسم أغرّ اللقب

كريم الجرشي شريف النسب (١)

وكالنقاخ فيما أنشده شمر :

وأحمق ممن يلعق الماء قال لي

دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد (٢)

لكن البصير بصنعة الكلام يعلم أن استثقال الطبع لما يسمع ، إنما يتصور من جهة غرابة الكلمة ووحشيتها ، ففي ذكر الغرابة غنية عن ذكرها.

تدريب أول

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

قال المتنبي يمدح سيف الدولة :

١ ـ وما أرضى لمقلته بحلم

اذا انتبهت توهمه (ابتشاكا) (٣)

٢ ـ لم يلقها إلا بشكة باسل

يخشى الحوادث حازم (مستعدد) (٤)

٣ ـ يا نفس صبرا كل حي لاق

وكل (اثنين) إلى افتراق

٤ ـ فلا يبرم الأمر الذي هو (حالل)

ولا (يحلل) الأمر الذي هو يبرم

٥ ـ أن بني للئام زهده

مالي في صدورهم من (مودده)

٦ ـ كتب بعض أمراء بغداد رقعة طرحها في المسجد الجامع حين مرضت أمه فقال : صين أمرؤ ورعى دعا لامرأة (إنقحلة) ، (مقسئنة) فقد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله (الاستمصال) أن يمن الله عليها (بالاطرغشاش) ، و (الابرغشاش) (٥).

__________________

(١) مبارك الاسم لأن اسمه علي من العلو ، وأغر اللقب أي مشهوره لأنه سيف الدولة.

(٢) يلعق يلحس ، والنقاخ العذب من الماء.

(٣) الابتشاك الكذب والحلم والرؤيا التي يراها النائم.

(٤) الضمير يعود الى الحرب ، والشكة الخصلة ، والباسل الشجاع.

(٥) أنقحلة يابسة ومقسئنة مسنة عجوز ومنيت ابتليت والطرموق الخفاص والاستمصال الاسهال والاطرغشاش والابرغشاش البرء من المرض.


الاجابة

تدريب ثان

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ قال ابن نباته في خطبة له يذكر أهوال يوم القيامة :

(أقمطر) وبالها ، و (اشمخرّ) نكالها ، فما ساغت ولا طابت (١).

٢ ـ يوم (عصبصب) و (هلوف) ملا السجسج طلا (٢).

٣ ـ قد قلت لما (اطلخمّ) الأمر وانبعثت

عشواء تالية غبسا (دهاريسا) (٣)

٤ ـ نعم متاع الدنيا حباك به

أروع لا (جبدر) ولا جبس (٤)

__________________

(١) اقمطر اشتد والوبال الثقل والوخامة واشمخر طال.

(٢) والعصبصب الشديد الحر والهلوف الذي يستر غمامه شمسه والسجسع الارض السهلة والطل المطر الندى أو المطر القليل.

(٣) اطلخم اشتد وعظم والدهاريس الدواهي والعشواء الناقة الضعيفة البصر والغبس جمع أغبس وغبساء وهي الشديدة الظلمة وهو لأبي تمام وبعده :

لي حرمة بك أضحى حق نازلها

وقفا عليك فدتك النفس محبوبا

(٤) حباك أعطاك والاروع المعجب والجيدر القصير والجبس الثقيل.


٥ ـ تقي نقي لم يكثر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا (بحقلد) (١)

٦ ـ قال امرؤ القيس حين أدركته المنية وكان قد ذهب الى ملك الروم يستنجده على قتلة أبيه : رب جفنة (مثعنجره) ، وطعنة (مسحنفره) ، وخطبة مستحضسره ، وقصيدة محبره ، تبقى غدا بأنقره (٢).

الاجابة

تمرين (١)

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ تشكو الوجى من (أظلل وأظلل)

من طول إملال وظهر ممللّ (٣)

٢ ـ فأرحام شعر تتصلن (لدنّه)

وأرحام مال ما تني تقطّع (٤)

٣ ـ رواق العز حولك (مسبطر)

وملك عليّ ابنك في كمال (٥)

__________________

(١) النهكة الغلب والحقلد الاثم.

(٢) المثعنجرة الملأى والمسحنفرة المتسعة ، وأنقرة بلد بآسيا الصغرى.

(٣) الوجى الحفي والأظل باطن خف البعير وبعير ممل أكثر ركوبه حتى دبر ظهره.

(٤) تنا تتأخر ، وتنقطع تتمزق.

(٥) مسبطر ممتد.


٤ ـ لا نسب اليوم ولا خلة

(إتسع) الفتق على الراقع (١)

٥ ـ فأيقنت أني عند ذلك ثائر

غد اتئذ أو هالك في (الهوالك) (٢)

٦ ـ قال أبو علقمة يوما لحاجمه : أرهف ظبات المشارط ، وأمر المسح ، واستنجل الرشح ، وخفف الوطء ، وعجل النزع ، ولا تكرهن أبيا ، ولا تردّن أتيا ، فقال له الحجّام : ليس لي علم بالحروف (٣).

تمرين (٢)

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ جرت سحا فقلت لها (اخبريني)

نوى مشمولة فمتى اللقاء (٤)

٢ ـ اعاذل قد جربت من خلقي

أني أجود لأقوام وإن (ضننوا)

٣ ـ من كلام أم الهيثم الأعرابية لأبي عبيدة الراوية ، وقد عادها في علة أصابتها ، كنت وحمى (سدكة) ، وشهدت مآدبة ، فأكلت (جبجبة) ، من صفيف (هلعة) فاعترتني (زلخّة) ، فقيل لها أي شيء تقولين ، فقالت أو للناس كلامان ، والله ما كلمتكم إلا بالعربي الفصيح (٥).

٤ ـ يا نرجس الدنيا أقم أبدا

(للاقتراح) ودائم النخب (٦)

٥ ـ قال بعض الأدباء لكاتبه يوصيه بحسن الجلسة للكتابة والاستماع لما يملي عليه ، ألصق روانفك (بالجبوب) ، وخذ المسطر (بشناترك) ،

__________________

(١) الخلة للصداقة والفتق الشق والراقع مصلح الفتق.

(٢) الثابار الذي لا يبقى على شيء حتى يدرك ثأره.

(٣) أرهف رقق ، والظبات جمع ظبة وهي السيف والموسى ، والمشارط جمع مشرط وهو مبضع الحجام الذي يشرط به الجلد واستنجل استخرج والرشح النز والأبي الممتنع والأتي الجائي والحروف هنا اللغات.

(٤) السح الشديدة والنوى البعد وهو خبر لمبتدأ محزوف أي هذه والمشمولة العامة.

(٥) سدكة مشتهية للطعام والجبحبة كرش يحشى باللحم المقطع ، والصفيف الشواء ، والهلعى أنثى المعز ، والزلخة وجع في الظهر.

(٦) الاقتراح الابتداع والاختيار ، والنخب الشربة العظيمة من الخمر وغيرها.


واجل (حندورتيك) الى (قيهلى) حتى لا أنغى نفية ، إلا أودعتها (حماطة جلجلانك) (١).

فصاحة الكلام

يراد بالكلام هنا ما يشمل المركب للتام والناقص (٢)

وفصاحته تكون بسلامته من كل ما ينغلق به معناه وينبهم مغزاه ، وإلا كان مردودا خارجا عن حدود البلاغة ، ورسوم الفصاحة ، ولو احتوى على أجل المعاني وأشرفها ، وإنما يتم له ذلك اذا عرى عن الأشياء الآتية :

١ ـ تنافر الكلمات مجتمعة ، ويدخل فيه كثرة التكرار وتتابع الإضافات.

٢ ـ ضعف التأليف.

٣ ـ التعقيد اللفظي.

٤ ـ التعقيد المعنوي.

تنافر الكلمات ـ المعاظلة (٣) اللفظية

هو وصف يعرض للكلمات مجتمعة فيوجب ثقلها واضطراب اللسان عند النطق بها ، وقد علم بالاستقراء أن منشأه إما :

١ ـ تكرير حرف أو حرفين من كلمة في المنثور أو المنظوم ، وهو قسمان :

(ا) ما اشتد ثقله وتناهى كالذي أنشده الجاحظ :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر (٤)

فأنت ترى أن قافاته وراءاته قلقة نابية ، وكأنها سلسلة تتبرأ بعض حلقاتها من بعض.

__________________

(١) الروانف جمع رانفة الالية والجبوب الأرض ، والقلم والشناتر الأصابع ، والحندورتان حدتتا العين ، والقيهل الوجه ، والحماطة حبة القلب ، والجلجلان الصدر.

(٢) كالمركب الاضافي ، والمركب التقييدي ، وهو مجاز من اطلاق الخاص على العام.

(٣) عاظل الكلام عقده ووالى بعضه فوق بعض.

(٤) حرب هو حرب بن أمية بن عبد شمس ولشدة الثقل فيه زعموا أنه من شعر الجن قالوه لما قتلوه بثأر حية منهم ودفنوه بناحية بعيدة وقفر ، نعت مقطوع للضرورة أو هو خبر ، والباء بمعنى في أي مكان.


(ب) ما كان فيه بعض الثقل كقول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدى (١)

وقول المتنبي :

كيف ترثي التي ترى كل جفن

راءها غير جفنها غير راقي (٢)

فتكرار الحاء والهاء المتقاربتي المخرج في بيت أبي تمام ، والجيم والراء في أكثر كلمات بيت المتنبي ، أوجب الثقل فيهما.

وقال بعض الوعاظ في كلام أورده : (حتى جنأت وجنات جنّات الحبيب) فلما سمعه بعض الحاضرين صاح وقال : سمعت جيما في جيم فصحت.

٢ ـ إيراد أفعال يتبع بعضها بعضا بدون عطف ، سواء اختلفت بين المضي والاستقبال نحو قول القاضي الأرجاني يحدث عن الشمع :

بالنار فرقت الحوادث بيننا

وبها نذرت أعود أقتل روحي (٣)

أم لم تختلف كقول المتنبي يمدح سيف الدولة :

أفل أنل أقطع احمل على سل أعد

زدهش بش تفضل أدن سر صل (٤)

فورود نذرت أعود أقتل متتابعة على تلك الشاكلة في البيت الأول جاء ثقيلا متعاظلا ، كما أن مجيء أفعال الأمر متكررة في البيت الثاني جعل للثقل فيها حظا عظيما ، فإن جاءت الأفعال مع حرف العطف لم تكن في الثقل كالأول نحو قول عبد السّلام بن رغبان المعروف بديك الجن :

احل وامرر وضر وانفع ولن واخشن وأبرر ثم انتدت للمعالي (٥).

__________________

(١) وفيه عيب آخر وهو مقابلة المدح باللوم وأنما يقابل بالذم ، وكأنه أراد أن ينفي الذم عنه بنفيه اللوم بالطريق الأولى.

(٢) وراءها رآها فحصل فيه إعلال بالقلب بتقديم الألف وتأخير الهمزة ورقا الدمع والدم انقطع ، يريد أنها لا ترحم باكيا لأنها تحسب الدمع في أجفان العشاق خلقيا.

(٣) يقول بلسان الشمع أنه ألف العسل وهو أخوه الذي ربي معه لكن النار فرقت بينه ، وأنه نذر أن يقتل نفسه بها أيضا من ألم الفراق.

(٤) أقل من الاقالة وأقطع من الأقطاع لأرض ونحوها وعل من العلو وصل ، أي بالعطية.

(٥) أبرر من قولهم أبر اليمين أمضاها على الصدق وانتدب لكذا ساسها.


٣ ـ إيراد صفات متعددة على طريق واحدة كقول المتنبي في المديح ، وقد أولع كثيرا بهذا النوع :

دان بعيد محب مبغض بهج

أغرّ حلو ممر لين شرس

ند أبي غر واف أخي ثقة

جعد سرنه ندب رضى ندس (١)

ولا يخفي ما فيه من الثقل فما أشبه بسلسلة طويلة متصلة الحلقات.

٤ ـ تعاقب الأدوات ومجيء بعضها إثر بعض كمن وإلى ، وفي وعن وعلى كقول أبي تمام :

كأنه في اجتماع الروح فيه له

في كل جارحة من جسمه روح (٢)

وقول المتنبي يصف فرسا :

وتسعدني في عمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد (٣)

فمجيء في بعد له في البيت الأول ، ولها منها عليها في البيت الثاني ، أورث فيهما ثقلا جعل اللسان يتعثر عند النطق بهما ، قال صاحب الصناعتين : وسبيل تلافي ذلك أن تفصل بين الحرفين كأن تقول : اقمت به شهيدا عليه.

٥ ـ تتابع الإضافات كما تقول : سرج فرس تابع الأمير ، وعليه ورد قول ابن بابك :

حمامة جرعي حومة الجندل اسجعي

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع (٤)

قال في دلائل الإعجاز : ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الإستكراه ، قال الصاحب بن عبادة : إياك والإضافات المتداخلة ، وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقوله :

__________________

(١) الشرس الصلب هنا والقرى المغرى بفعل الجميل وجعد الماضي في الأمور والسري الشريف والنهي العاقل والندب السريع في أموره ، والندس العارف البحاثة ، يريد أنه محب لأهل الفضل مبغض لأهل النقص يبهج بالقصاد ويحلو لأوليائه ويمر على أعدائه.

(٢) الجارحة العصو يريد أن يقظ نشيط.

(٣) الغمرة الشدة ، والسبوح الفرس الحسن العدو الذي لا يتعب راكبه كأنه يسبح في الماء يريد أنه يعينه على الشدائد ، وله شواهد دالة على كرم خصاله.

(٤) الجرعى تأنيث الأجرع وهي الرملة لا تنبت شيئا ، والحومة معظم الشيء ، والجندل الحجارة ، والسجع هديل الحمام المعنى اطربي لأن الحبيبة تراك وتسمعك.


يا علي بن حمزة بن عمارة

أنت والله ثلجة في خيارة (١)

(تنبيه) لا يقبح القسمان الأخيران إلا اذا أوجبا ثقلا على اللسان ، وإلا فلا يخلان بالفصاحة ، فقد تكررت الأدوات وكانت حسنة مليحة في قول قطري بن الفجاءة :

ولقد أراني للرماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي (٢)

كما تكررت الإضافة ولطفت في قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)(٣) وقول ابن المعتر :

وطلت تدير الراح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح (٤)

ومن ذلك تعلم أنه لا وجه لعد هذين القسمين بعيدين عن التنافر.

ضعف التأليف

هو أن يكون تأليف الكلام مخالفا لما اشتهر من قوانين النحو المشهورة ، كوصل الضميرين ، وتقديم غير الأعراف (مع وجوب الفصل في نحو هذا) ، كقول المتنبي :

خلت البلاد من الغزالة ليلها

فأعاضهاك الله كي لا تحزنا (٥)

وكنصب المضارع بلا ناصب نحو :

أنظرا قبل تلوماني الى

طلل بين النقا والمنحنى (٦)

وكحذف نون يكن في الجزم حين يليها ساكن نحو :

__________________

(١) قوله ثلجة في خيارة في أي خيارة ثلجة ، وفي هذا اشتباه من عبد القاهر ، لأنه ليس فيه تتابع اضافات.

(٢) الدريئة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن والرمي (النشان).

(٣) سورة مريم.

(٤) الراح الخمر ، والجاذر جمع جؤذر ولد البقر الوحشية تشبه به الحسان لجمال عينيه ، والعتاق النجائب ودنانير الوجوه أي وجوههم متلألئة كالدنانير.

(٥) الغزالة الشمس ، يريد أن البلاد اذا خلت من الشمس ليلا جعلك الله عوضا منها.

(٦) الطلل ما بقي من آثار الديار ، والنقا والمنحنى موضعان.


لم يك الحق سوى أن هاجه

رسم دار قد تعفّت بالمرر (١)

وكالاضمار قبل الذكر لفظا ومعنى وحكما (٢) في قول حسان بن ثابت :

ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده الدهر مطعما (٣)

التعقيد

هو ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى المراد ، ولذلك سببان ، أحدهما يرجع الى خلل في النظم والتركيب وهو التعقيد اللفظي ، وثانيهما يرجع الى المعنى وهو التعقيد المعنوي.

التعقيد اللفظي (٤)

حقيقته أن تكون الألفاظ مرتبة لا على وفق ترتيب المعاني ، فيفسد نظام الكلام وتأليفه بسبب ما يحصل فيه من تقديم وتأخير ونحو ذلك ، كتقديم الصفة على الموصوف ، والصلة على الموصول.

وهو مذموم مرفوض عند أهل البيان لأنه يوجب اختلال المعنى واضطرابه ، وذلك ضد الفصاحة التي هي ظهور وإبانة ، ومن ثم قال العتابي : الألفاظ أجساد والمعاني أرواح ، وإنما تراها بعين القلوب ، فإذا قدمت منها مؤخرا أو أخرت منها مقدما ، أفسدت الصورة وغيرت المعنى ، كما لو حوّل رأس الى موضع يد أو يد الى موضع رجل ، فإن الخلقة تتحول والحلية تتغير.

وأكثر من استعمله الفرزدق وكأنه كان يقصده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا ، إذ لو خلى الإنسان ونفسه تجري على سجيتها في الاسترسال لم يعرض لها شيء من هذا النوع ، فمن ذلك قوله يمدح الوليد بن عبد الملك :

__________________

(١) هاج ثار ورسم الدار أثرها وتعفت درست واضمحلت والمرر موضع.

(٢) فان تقدم الضمير لفظا وتأخر معنى جاز نحو ضرب غلامه محمد ، وكذا إن تقدم لفظا وتأخر حكما نحو نعم رجلا على.

(٣) يرثي مطعم بن عدي أحد رؤساء المشركين وكان يدافع عن النبي عليه الصلاة والسّلام.

(٤) قد يحصل التعقيد باجتماع عدة أمور موجبة لصعوبة فهم المعنى وإن كان كل منها جاريا على قانون النحو ، فلا يغني ذكر ضعف التأليف عنه.


إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره (١)

يريده الى ملك أبوه ليست أمه من محارب ، فقدم وأخر حتى أبهم المعنى.

وقوله في البيت المشهور الذي جرى مجرى المثل في التعقيد يمدح به إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك :

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حمي أبوه يقاربه (٢)

مراده : وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه ويشبهه في الفضائل إلا مملكا أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح ، فيكون الممدوح خال الملك ، وخلاصة ذلك أنه لا يماثله إلا ابن أخته.

فانظر رعاك الله كيف عقد المعنى ، وصار به الى النعمية دون الافصاح ، ولهذا قال الرماني : قد اجتمع في البيت أسباب الإشكال الثلاثة : سوء الترتيب وبه تغير نظام الكلام ، وسلوك الطريق الأبعد في قوله : أبوه أمه أبوه ، وكان يجزئه أن يقول : خاله ، وإيقاع مشترك الألفاظ في قوله : حي يقاربه ، لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان بالحياة.

قال في المثل السائر ومن أقبح هذا النوع قول الآخر :

فأصبحت بعد خط بهجتها

كأن قفرا رسومها قلما (٣)

يريد فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها ، ففصل بين الفعل الناقص وخبره ، وبين كأن واسمها ، وبين المضاف والمضاف اليه ، وقدم خبر كأن عليها ، وعلى اسمها.

التعقيد المعنوي

هو خفاء دلالة الكلام على المعنى المراد من أجل ما عاقها من اللوازم البعيدة والكنايات المفتقرة الى وسائط ، أو اللوازم القريبة الخفية العلاقة ، مع عدم

__________________

(١) محارب وكليب قبيلتان.

(٢) فصل فيه بين المبتدأ والخبر وهو أبو أمه أبوه بالأجنبي الذي هو حي ، وبين الموصول الصفة ، أعني حي يقاربه بالأجنبي الذي هو أبوه ، وتقديم المستثنى أعنى مملكا على المستثنى منه ، وهو حي ، وفصل كثير بين البدل وهو حي ، والمبدل منه وهو مثله.

(٣) الظاهر أنه يصف ديارا درست وعفت آثارها.


ظهور القرائن الدالة على المقصود ، فبعجز الكلام عن أداء المعنى ، كقول العباس ابن الأحنف :

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

يريد أنه يتحمل الفراق وآلامه ، ويوطن النفس على الحزن والأسى ، عله يحظى بوصل يدوم ، وسرور لا ينقطع ، فطالما نال الصابرون أمانيهم ، وفرجت كروبهم. وهذا المعنى مطروق لهجت به ألسن الشعراء والكتاب ، قال عروة ابن الورد :

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا

ولم تدر أني للمقام أطوف

وقال أبو تمام :

أآلفة النحيب كم افتراق

ألمّ فكان داعية اجتماع (١)

وقيل للربيع بن خيثم ، وقد صلى ليلة حتى أصبح : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها أطلب.

إلا أن ابن الأحنف لم يتم له ما أراد على سنن قويم ، فإنه كنى عما قصد بكنايتين أصاب في أولاهما ، المحزّ وطبّق المفصل ، وأخطأ في آخراهما وجه الحقيقة ، ولم يسلك المهيع الواضح في الرمز والإيماء الى ما أراد ، بيان هذا أنه دل بديئا بسكب الدمع على ما يلزم فرقة الأحباب من الحزن والكمد والتعب والنصب ، فأصاب شاكلة الصواب ، فإن البكاء عنوان الحزن والأمارة الدالة عليه ، فيرمز به اليه حتى قالوا : «أبكاني وأضحكني» على معنى ساءني وسرني ، كما قال الحماسي :

أبكاني الدهر ويا ربما

أضحكني الدهر بما يرضى (٢)

ثم تلا ذلك فدل بجمود العين على ما يوجبه دوام التلاقي ، من الفرح والسرور ، لكن التوفيق لم يكن حليفه في هذا ، إذ الجمود إنما هو خلو العين من البكاء عند الداعية اليه ، فهو كناية عن البخل بالدموع حين الحاجة اليها ، كما قال أبو عطاء يرثي أبي هبيرة :

__________________

(١) ألم نزل ، ولنحيب البكا.

(٢) قبله : أنزلني الدهر على حكمه من شامخ عال الى خفض.


ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك مجاري دمعها لجمود

لا كناية عن السرور لأنه لو صح ذلك لجاز أن يدعى به فيقال : لا زالت عينك جامدة ، كما يقال : لا أبكى الله عينك ، ولا خفاء في بطلان ذلك ، كما يرشد اليه قول أهل اللغة : سنة جماد لا مطر فيها وناقة جماد لا لبن فيها ، على معنى أن السنة بخيلة بالقطر ، والناقة لا تسخو بالدر.

وهكذا حال الكنايات التي استعملها العرب ، لأغراض اذا غيرها المتكلم وأراد بها أغراضا أخرى ، كما اذا استعمل قولهم : بيته كثير الجرذان ، كناية عن وسخ المنزل وسوء نظامه ، وقولهم : أبيض سربال الطباخ ، كناية عن نظافة الطاهي وحسن هندامه ، كان ذلك خروجا من سنن العرب واستعمالاتهم ، وعد ذلك تعقيدا ، إذ هذا غير ما يتبادر الى الفهم ، لأن العرب كنت بالأولى عن كثرة الطعام ، وبالثانية عن البخل.

تدريب أول

أذكر ما أخلّ بفصاحة الكلام فيما يلي :

١ ـ تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

٢ ـ لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا

وكاد لو ساعد المقدور ينتصر

٣ ـ لو كنت كنت كتمت السر كنت كما

كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن

٤ ـ لما عصى أصحابه مصعبا

أدوا اليه الكيل كيلا بصاع

٥ ـ ولم أر مثل جيراني ومثلي

لمثلي عند مثلهم مقام

الاجابة

١ ـ في البيت تعقيد لفظي ، إذ تقديره : نكن يا ذئب مثل من يصطحبان.

٢ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في طالبوه يعود الى مصعب وهو متأخر لفظا ومرتبة.

٣ ـ فيه تنافر في الكلمات ، أوجبه تكرار لفظ كنت عدة مرات.

٤ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في أصحابه يعود الى مصعب المتأخر لفظا ومرتبة.

٥ ـ فيه تنافر في الكلمات ، سببه تكرار لفظ : مثل.


تدريب ثان

اذكر ما أخلّ بفصاحة الكلام فيما يلي :

١ ـ ولذا اسم أغطية العيون جفونها

من أنها عمل السيوف عوامل

٢ ـ تجمعت في فؤادهم همم

ملء فؤاد الزمان إحداها

٣ ـ ألا ليت شعري هل يلومنّ قومه

زهيرا على ما جرّ من كل جانب

٤ ـ لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو

عقمت بمولد نسلها حواء

٥ ـ قبيل أنت أنت أو كنت منهم

وجدّك بشر الملك الهمام

٦ ـ جواب مسائلي اله نظير

ولا لك في سؤالك لا ألالا

الاجابة

١ ـ فيه تعقيد لفظي ، لأن تقديره من أجل أن العيون عوامل عمل السيوف سميت أغطيتها جفونا.

٢ ـ فيه تنافر ، أوجبه ثقل النطق بالهاء والميم مجتمعتين في كلمتين.

٣ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في قومه يعود الى متأخر لفظا ورتبة.

٤ ـ فيه تنافر ، لثقل تأليف البيت وركة صوغه.

٥ ـ فيه تعقيد وتنافر ، لأن تقديره قبيل أنت على شرف قدرك ، أنت منهم ، وأنت أنت ، واذا كنت أنت منهم وجدك بشر فكفاهم بذلك فخرا.

٦ ـ فيه تنافر ، أوجبه تكرار لا عدة مرات ، حتى قال الصاحب بن عباد : ما قدرت أن مثل هذا البيت يلج سمعا ، وقد سمعت الفأفاء ولم أسمع باللألاء حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف الذي لا يقف حيث يعرف.

تمرين (١)

أذكر سبب خروج ما يأتي من الأساليب الفصيحة :

١ ـ وازور من كان له زائرا

وعاف عافي العرف عرفانه (١)

٢ ـ لم تر من نادمت إلا كا

لا لسوى ودك لي ذا كا

__________________

(١) ازور عدل وعاف كره والعافي طالب المعروف والعرف النوال والعطاء.


٣ ـ وبه يضنّ على البرية لا بها

وعليه منها لا عليها يوسى (١)

٤ ـ هو السيف الذي نصر بن أروى

به عمان مروان المصابا

٥ ـ ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٢)

٦ ـ الطيب أنت اذا أصابك طيبه

والماء أنت اذا اغتسلت الغاسل (٣)

تمرين (٢)

(١)وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا

قلاقل عيسى كلهن قلاقل (٤)

(٢) ليس إلاك يا عليّ همام

سيفه دون عرضه مسلول

(٣) ومن جاهل بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بي جاهل

(٤) صان اللئيم وصنت وجهي ماله

ووني فلم يبذل ولم اتبذل (٥)

(٥) فما من فتى كنا من الناس واحدا

به نبتغي منهم عديلا نبادله (٦)

(٦) فتنتني فجنتني تجني

بتجن يفتن غب تجني (٧)

(٧) زار داود أروى وأروى

ذات دل اذا رأت داودا (٨)

فصاحة المتكلم

هي صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التعبير عما يجول في خاطره من الأغراض والمقاصد.

__________________

(١) الضن البخل والبرية الخلق ، يوسي يحزن ، يريد أنه يبخل بالممدوح على الناس كلهم لا بهم يبخل عليه.

(٢) نهنه كف وزجر.

(٣) يريد أنك أطيب من الطيب وأطهر من الماء اذا اغتسلت به.

(٤) قلقل حرك والحشا داخل الجوف وقلاقل الأولى جمع قلقلة وهي الناقة السريعة والثانية جمع قلقة وهي الحركة ، وضمير كلهن للعيس لا للقلاقل ، والمعنى : حركت بسبب الهم الذي حرك نفسي نوقا حفافا في السير سريعات الحركة.

(٥) الأصل صان اللئيم ماله وونى ، فلم يبذل وصنت وجهي ولم أتبذل.

(٦) تقديره فما فتى واحدا من الناس كنا نبتغي به عديلا نبادله منهم ، أي أنه لا نظير له يكون عوضا منه.

(٧) تجبني آخر المصراع الأول اسم امرأة وبتجن ، أي بدعوى ذنب ، ويفتن بتنوع ، وغب عقب.

(٨) أروى اسم امرأة ، والدل الدلال.


وبتلك الصفة يتمكن من صياغة ضروب الكلام ، من مديح وهجاء وتهان ومراث ، وخطب محبرة ، ورسائل منمقة في الوعظ والإرشاد ، والمفاخرات والمنافرات.

ولن يبلغ شاعر أو ناثر هذه المنزلة إلا اذا كان ملما باللغة كثير الاطلاع على كتب الأدب ، محيطا بأسرار أساليب العرب ، حافظا لعيون كلامهم من شعر جيد ونثر مختار ، عالما بأحوال الشعراء والخطباء ، ومجالس الملوك والأمراء ، محيطا بعدات العرب وأخبار أيامهم.

البلاغة

تقع البلاغة وصفا للكلام ، والمتكلم ، ولم يسمع وصف الكلمة بها.

بلاغة الكلام

بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال التي يورد فيها مع فصاحته (١).

ولن يطابق الحال إلا إذا كان وفق عقول المخاطبين واعتبار طبقاتهم في البيان وقوة المنطق ، فللسوقة كلام لا يصح غيره في موضعه والغرض الذي يبني له ، ولسراة القوم والأمراء فن آخر لا يسد مسداه سواه ، ولقد أفصح عن ذلك الحطيئة حين خاطب عمر بن الخطاب فقال :

تحنن على هداك المليك

فإن لكل مقام مقالا

قال صاحب الصناعتين : وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية ، فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ، والسراة كأبي علقمة إذ قال لطبيب : «أجد رسيسا في أسناخي وأرى رجعا فيما بين الوابلة الى الأطرة من دأيات العنق» (٢) فقال له الطبيب (متهكما) : هل من وجع القرشي؟ قال له : وما يبعدنا منهم يا عدي نفسه ، نحن من أرومة واحدة ونجل واحد. قال الطبيب : كذبت ، وكلما خرج هذا الكلام من جوفك كان أهون لك. قال : بل لك الهوان والخسارة والسباب.

__________________

(١) فاذا قلت : فلان مستعدد للامر ، لم يكن بليغا.

(٢) الرسيس ابتداء الحمى اذا فتر الجسم ، والاسناخ منابت الأسنان ، والوابلة طرف الكتف والأطرة كل ما أحاط بشيء ، ودأيات العنق نقارها.


ومما سبق تعلم أن :

(١) الحال (المقام) هو الأمر الذي يدعو المتكلم الى إيراد خصوصية في التركيب.

(٢) المقتضى (الاعتبار المناسب) هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة.

(٣) مقتضى الحال هو إيراد الكلام على تلك الصورة.

فمثلا الوعظ حال ومقام يقتضي البسط والأطناب ، وذلك البسط مقتضى ، وإيراد الكلام على صورة الأطناب مطابقة للمقتضى.

وكذا كون المخاطب منكرا يوم البعث حال يقتضي التأكيد ، والتأكيد مقتضى ، وكونك تخاطبه بقولك «إن يوم الساعة لا شك فيه» مطابقة لمقتضى الحال ، وهكذا مقام الذكي يخالف في الخطاب مقام الغبى ، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ، لأن لكل منهما من الاعتبارات واللطائف وما يخالف ضده.

مراتب البلاغة

بلاغة الكلام متفاوتة ، لأن الألفاظ اذا ركبت لإفادة المعاني المرادة منها حصل لها بالتركيب صور مختلفة لا يحصرها العد ، ألا ترى أن طلبة الفرقة اذا كتبوا في موضوع واحد في منشئاتهم تناولوا معاني متقاربة ، أو متشابهة ، لكنهم يتفاوتون في الأشياء الآتية :

(١) العبارة التي ينشئونها.

(٢) ترتيب المعاني.

(٣) بسط الألفاظ أو إيجازها.

وكلما كان المتكلم أكثر مراعاة للمقتضيات والاعتبارات ازداد الكلام حسنا وكلما كان أوفى بها كان أبلغ ، وبالعكس اذا قل وفاؤه بتلك الخصوصيات المعتبرة عند البلغاء كان أقل مرتبة في البلاغة ، ولا يزال ينزل حتى يصل الى المرتبة السفلى ، فيلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوان ، وإن كان صحيح الإعراب.

والمرتبة العليا وما يقرب منها هي مرتبة المعجز ، وهو كلام الله تعالى الذي عجز البشر قاطبة أن يأتوا بأقصر سورة من مثله ، وقد نزل في أرقى العصور


فصاحة وأكملها بلاغة ، ومع ذلك وجم العرب ، وخرست شقاشقهم مع طول التحدي وشد النكير عليهم ، وحقت له الكلمة العليا.

ثم يليه في الرتبة كلام رسوله عليه‌السلام ، فقد أوتي من جوامع الكلم ما حارت في أمره جهابذة الفصاحة وأساطين البلاغة ، ثم كلام البلعاء من العرب جاهليين وإسلاميين.

شواهد

من فصيح الكلام تشرح أسرار الفصاحة وتبين مراتب البلاغة

القرآن الكريم هو الينبوع الذي لا يغيض ماؤه والشجرة التي لا ينقطع ثمرها والجديد الذي لا تبلى جدته ، فقد ضرب الأمثال ، وتفجرت منه ضروب الحكمة وقص علينا من أخبار الماضين وسير الغابرين ما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وبسط ذلك برائع الأساليب ، وبديع التراكيب ، انظر الى ما جاء فيه عند ذكر الحساب والصراط والميزان ، تجد اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، نحو : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١). كما تجد السهل المهلهل خطابا لنبيه عليه‌السلام نحو : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٢) الى آخرها.

وقد اغترفت السنّة النبوية من ذلك البحر وقطفت من تلك الرياض فأوتيت من موجز الحكم وجامع الكلم ما لا يزال نجعة الرائد وكعبة القاصد ، فمن جزلها قوله عليه‌السلام : «يابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح ، أنت فيما يكفيك ، وتطلب ما يطغيك ، لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع».

__________________

(١) سورة الزمر.

(٢) سورة الضحى.


ومن مهلهلها وسهلها قوله عليه‌السلام : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى ، فإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح ، واذا أصبحت فلا تحدثها بالمساء ، وخذ من صحتك لسقمك ، ومن شبابك لهرمك ، ومن فراغك لشغلك».

وإن شئت إيضاحا وبيانا ، وعلما وعرفانا ، فوازن بين قول النمر بن تولب يذم الحياة :

يود الفتى طول السلامة والغنى

فكيف ترى طول السلامة يفعل

يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة

ينوء اذا رام القيام ويحمل

وقول الفند الزمّاني :

أيا تملك يا تمل

وذات الطوق والحجل

ذريني وذرى عذلي

فإن العذل كالقتل

تجد المدى واسعا والهوة بينهما سحيقة والتفاوت لا حد لغايته ، أو اقرن بين قول معن بن أوس في الفخر :

لعمرك ما أهويت كفي لريبة

ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة

من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي

وقول بشار بن برد :

ربابة ربة البيت

تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصوت

ترى عجبا عاجبا وتفاوتا في الصنعة لا يحتاج الى مراء أو جدل.

وإن شاقك أن تعرف فاخر الكلام ورصينه ، وما يسابق معناه ولفظه ، ولفظه معناه ، وما لا يكون لفظه أسبق الى سمعك من معناه الى قلبك ، وما قالوا في مثله إنه يدخل في الآذان بلا استئذان فانظر قول الرقاشي في العظة والاعتبار : «سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا». وقول بعض الكتاب : مثلك أوجب حقا لا يجب عليه ، وسمح بحق وجب له ، وقبل واضح العذر ، واستكثر قليل الشكر ، لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك ، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك.


بلاغة (١) المتكلم

هي ملكة يقتدر بها على التصرف في فنون الكلام وأغراضه المختلفة ، ببديع القول وساحر البيان ، ليبلغ من المخاطب غاية ما يريد ، ويقع لديه الكلام موقع الماء من ذي الغلة الصادي ، وتلك الملكة لا يصل اليها إلا من أحاط بأساليب العرب خبرا ، وعرف سنن تخاطبهم في منافراتهم ومفاخراتهم ومديحهم وهجوهم واعتذارهم وشكرهم ، ليلبس لكل حال لبوسها ، ويراعي الخصائص والمقتضيات التي تناسبها.

انظر الى النبي عليه‌السلام تجده راعى حال من يخاطبه ، فكتب الى أهل فارس بما يسهل ترجمته ، فقال : «من محمد رسول الله الى كسرى أبرويز عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، فأدعوك بداعية الإسلام فإني أنا رسول الله الى الخلق كافة ، لينذر من كان حيا ويحق للقول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإثم المجوس عليك».

وكتب بضدها الى وائل بن حجر الحضرمي وقومه ففخم لهم اللفظ لما عرف من فضل قوتهم على فهمه ، وعادتهم سماع مثله فقال : «من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، على النيعة الشاة ، والتيمة لصاحبها ، وفي السيوب الخمس ، لا خلاط ولا وراط ، لا شناق ولا شغار ، ومن أجبى فقد أربى ، وكل مسكر حرام» (٢).

__________________

(١) قال صاحب الصناعتين : وصف المتكلم بالبلاغة من قبل التوسع ، والمجاز ، وحقيقته بليغ الكلام كما تقول رجل محكم وتعني إحكام أفعاله كما قال تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) فوصف الحكمة بالبلاغة ولم يصف بها الحكيم.

(٢) الأقيال واحدة قيل بفتح القاف وهو الملك ، والعباهلة الذين أقروا على ملكهم ، والنيعة الأربعون من الغنم ، والنيمة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى ، والسيوب المغادن ، ولا خلاط أي لا يخلط رجل إبله بابل غيره أو بقره ليمنع الصدقة ، والوراط الخديعة والغش ، والشباق ما بين الفريضتين حتى تنم ، والشغار أن يزوج كل واحد صاحبه امرأة على أن يزوجه أخرى بلا مهر ، والاجباء بيع الزرع قبل أن يعدو صلاحه.


متممات

أولا : علمت مما سبق في بيان تعريف الفصاحة والبلاغة ، ما يعتور الكلام من العيوب ، ويزري بقيمته ويحط من قدره ، فوجب أن تعرف بم تداوي هذه العيوب ، فتقول :

(أ) مخالفة القياس ـ يمكن تجنبها بالاطلاع على علم التصريف ، فهو الكفيل بمعرفة سنن المفردات العربية ونهج استعمالها ، ألا ترى أن نافع بن أبي نعيم ، وهو من أكابر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا ، قال في معايش ، معائش بالهمز ، مع أن الياء (١) فيها ليست زائدة لأنها من العيش ، فعيب عليه ذلك ، حتى إن أبا عثمان المازني قال : إن نافعا لم يدر ما العربية.

(ب) ضعف التأليف والتعقيد اللفظي ـ يتباعد عنهما بملاحظة قواعد النحو ، إذ هو الباحث عن كيفية استعمال المركبات على وجه الصواب. وقد يشذ عن قانونه الخاصة بله العامة فينزل كلامهم الى الدرك الأسفل ويكون عرضة للقادح ، انظر ما وقع فيه أبو نواس حيث يقول في مدح الأمين :

يا خير من كان ومن يكون

إلا النبيّ الطاهر الميمون

فرفع المستثنى في موجب الكلام ، ومعرفة هذا من ظواهر النحو لا من خوافيه.

(ج) الغرابة ـ يسهل التباعد عنها بالاطلاع على متن اللغة ، فإذا تتبع المتكلم مشهور الكتب وأحاط بمعاني المفردات المأنوسة ، عرف أن ما سواه مما يفتقر إلى بحث وتنقير ، أو تخريج على وجه بعيد فغريب.

(د) الأحوال ومقتضياتها ـ تعلم من دراسة علم المعاني.

(ه) التعقيد المعنوي ـ يمكن التجافي عنه بدراسة علم البيان.

(و) وجوه تحسين الكلام التي تكسوه طلاوة وتكسبه رقة ، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ووضوح الدلالة ـ تعرف من علم البديع.

(ز) التنافر ـ وملاك معرفته الذوق السليم والشعور النفسي.

__________________

(١) ظن أن مفردها فعلية فجمعها على فعائل ، وليس كذلك ، بل هي مفعلة بكسر العين ، فأصلها معيشة بكسر الياء ، فياؤها ليست كياء صحيفة فلا تنقلب في الجمع همزة.


ثانيا : علم البيان في اصطلاح المتقدمين اسم جامع للعلوم الثلاثة (المعاني والبيان والبديع) وعليه قول الجاحظ : البيان اسم جامع لكل ما كشف لك المعنى ، وقول ابن المعتز : البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول.

بعض الأئمة يسمي الثلاثة علم البديع لما فيها من بديع الصنعة ، كما يسمي بعضهم الأول علم المعاني ، والأخيرين علم البيان.

ثالثا : للمتقدمين في حدود البلاغة ورسومها ، كلمات مجملة تقرب لك بعضا مما فصلناه ، منها قول محمد بن الحنفية : البلاغة قول تضطر العقول الى فهمه بأيسر العبارة. وقول ابن المعتز : البلاغة البلوغ الى المعنى ولما يطل سفر الكلام ، وقول ابن الأعرابي : البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير. وقول بعضهم : هي قلة اللفظ ، وسهولة المعنى ، وحسن البديهة.

علم المعاني

هو قواعد يعرف بها كيفية مطابقة الكلام مقتضى الحال حتى يكون وفق الغرض الذي سيق له ، فبه نحترز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، فنعرف السبب الذي يدعو الى التقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، والإيجاز حينا والاطناب آخر ، والفصل والوصل ، الى غير ذلك مما سنذكر بعد.

فمنه نعرف مثلا :

(١) أن العرب توجز إذ شكرت أو اعتذرت.

(٢) أن العرب تطنب إذا مدحت.

(٣) أن الجملة الاسمية تأتي لإفادة الثبات بمقتضى المقام.

فمتى وضع المتكلم تلك القواعد نصب عينيه لم يزغ عن أساليبهم ونهج تراكيبهم وجاء كلامه مطابقا لمقتضى الحال التي يورد فيها ، فالشكر حال يقتضي الايجاز وإيراد الكلام على هذه الصورة مطابقة لمقتضى الحال.

واضعة : أول من بسط قواعده الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ ، فهو الذي هذب مسائله وأوضح قواعده ، وقد وضع فيه الأئمة قبله نتفا كالجاحظ وأبي هلال العسكري ، إلا أنهم لم يوفقوا الى مثل ما وفق اليه ذلكم الحبر الجليل.


فائدته

(١) الوقوف على أسرار البلاغة في منثور الكلام ومنظومه ، فنحتذي حذوهما ، وننسج على منوالهما ، ونعرف السر في افتخار النبي عليه‌السلام بقوله : «أنا أفصح من نطق بالضاد». وقوله : «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا». ونفهم وجه تعجب الصحابة من فصاحته عليه‌السلام ، فقد روي أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قال له : ما بالك يا رسول الله؟ أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا.

(٢) معرفة وجه إعجاز القرآن من وجهة ما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب ، وما اشتمل عليه من عذوبة وجزالة وسهولة وسلاسة ، فنقتنع ببلاغته وندرك السر في فصاحته ، وكيف كان معجزة خالدة على وجه الدهر لا يبليها كر الجديدين ولا مرور الملوين.

وقد رتبنا الكلام في هذا الفن على اثني عشر بابا :


الباب الاول في الخبر

وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول في تعريف الخبر

الخبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته ، قولنا ليدخل فيه الأخبار الواجبة الصدق ، كأخبار الله وأخبار رسله ، والواجبة الكذب كأخبار المتنبئين في دعوى النبوة ، والبديهيات المقطوع بصدقها أو كذبها ، فكل هذه إذا نظر اليها لذاتها دون اعتبارات أخرى احتملت أحد الأمرين ، أما اذا نظر فيها الى خصوصية في المخبر ، أو في الخبر تكون متعينة لأحدهما ، وإن شئت قلت الخبر ما لا تتوقف تحقق مدلوله على النطق به نحو : الصدق فضيلة ، وإنفاق المال في سبيل الخير محمود. وبضد هذين التعريفين الإنشاء.

صدق الخبر

لكل خبر تتلفظ به نسبتان :

(١) نسبة تفهم من الخبر ، ويدل عليها الكلام ، وتسمى النسبة الكلامية.

(٢) نسبة أخرى تعرف من الخارج والواقع بقطع النظر عن الخبر وتسمى بالنسبة الخارجية ، فإن طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية في الايجاب أو في النفي كان الكلام صدقا ، وإلا كان كذبا. مثلا اذا قلنا : «الشمس طالعة» وكانت هي في الواقع والخارج كذلك سمي الكلام صدقا ، وإن لم تكن طالعة سمي الكلام كذبا ، فصدق الخبر اذا مطابقته الواقع والخارج ، وكذبه عدمها.

تنبيه

ما تقدم من انحصار الخبر في الصادق والكاذب ، ومن تعريف الصدق والكذب بما ذكر هو مذهب الجمهور الذي عليه المعول.


ويرى إبراهيم النظام ومن تابعه أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر به ، ولو كان خطأ غير مطابق للواقع ، وكذبه عدمها ، فإذا قال قائل : الشمس أصغر حجما من الأرض ، معتقدا ذلك ، كان صدقا ، واذا قال : الشمس أكبر من الأرض ، وكان غير معتقد ذلك ، كان كذبا.

واحتج لذلك بوجهين :

(١) أن من اعتقد أمرا فأخبر به ، ثم ظهر خبره مخالفا للواقع فإنه يقال : ما كذب ولكنه أخطأ ، كما روى أن عائشة قالت فيمن شأنه كذلك : ما كذب ولكنه وهم ، ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب ، بدليل تكذيبنا اليهودي اذا قال : الإسلام باطل ، وتصديقنا إياه اذا قال : الإسلام حق.

(٢) قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) ، فقد كذبهم في قولهم : إنك لرسول الله ، وإن كان مطابقا للواقع لأنهم لم يعتقدوه. وأجيب عن ذلك بوجوه :

(أ) أن المعنى نشهد شهادة وافقت فيها قلوبنا ألسنتنا كما يرشد الى ذلك التأكيد بأن واللام والجملة الاسمية في قولهم : إنك لرسول الله ، فالتكذيب راجع الى الشهادة باعتبار تضمنها خبرا كاذبا ، وهو أنها من صميم القلب ، وخلوص الاعتقاد.

(ب) أن التكذيب متجه الى تسمية إخبارهم شهادة ، لأن الإخبار اذا خلا عن المواطأة للاعتقاد لم يكن شهادة في الحقيقة.

(ج) أن المراد لكاذبون في قولهم : إنك لرسول الله ، لا في الواقع ، بل في زعمهم واعتقادهم لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع ، فيكون كذبا باعتبار اعتقادهم ، وإن كان صادقا في الواقع والحقيقة ، فكأنه قيل إنهم يزعمون أنهم كاذبون في هذا الخبر الصادق.

ويرى تلميذه الجاحظ أن الخبر غير منحصر في القسمين الصادق والكاذب ، بل الأقسام الثلاثة : صادق وكاذب وواسطة بينهما ، لأن الحكم إن طابق الواقع مع اعتقاد المخبر أنه مطابق فهو صدق ، وإن لم يطابق الواقع مع اعتقاده أنه

__________________

(١) سورة المنافقون.


غير مطابق ، فهو كذب ، وغير هذين (١) ليس بصدق ولا كذب.

واحتج لذلك بقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(٢) ، فقد حصر المشركون إخبار النبي بالحشر والنشر في الافتراء ، والاخبار حال الجنون على طريق منع الخلو والاجتماع معا. ولا شك أن أخباره حال الجنون ليس كذبا لجعلهم الافتراء (٣) في مقابلته ، ولا صدقا لأنهم اعتقدوا عدم صدقه.

وقد رد هذا المعنى قولهم : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أم لم يفتر فيكون مرادهم أن اخباره عليه‌السلام إما مختلقة قصدا أو مختلقة بلا قصد ، فعبروا عن الأول بالإفتراء وعن الثاني بوجود الجنة لاستلزامه (٤) عدم الافتراء ، وعلى هذا يكون حصر الأخبار في الإفتراء وعدمه من قبيل حصر الكذب في نوعية العمد وغيره لا حصر الخبر مطلقا.

المبحث الثاني في تأليف الجمل

لكل جملة ركنان أساسيان لا بد منهما في تكوينها (وهما المسند إليه) وهو المبتدأ ونحوه (والمسند) الخبر ونحوه ، وما زاد عليهما من مفعول وحال وتمييز فهو قيد زائد إلا صلة الموصول والمضاف اليه :

__________________

(١) وهو أربعة أقسام : المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة ، أو بدون الاعتقاد أصلا ، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة ، أو بدون الاعتقاد أصلا.

(٢) سورة سبأ الآية ٨.

(٣) وهو الكذب.

(٤) على طريق المجاز المرسل فقد أطلق اسم الملزوم وأراد اللازم.


المبحث الثالث في الغرض من إلقاء الخبر

الأصل في الخبر أن يلقي لأحد غرضين :

(١) إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة ، ويسمى ذلك فائدة الخبر ، نحو : حروب المستقبل جوية.

(٢) إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بهذا الحكم ، ويسمى ذلك لازم الفائدة ، كما تقول لشخص أخفى عليك سفره فعلمته من طريق آخر :

أنت سافرت أمس.

وربما لا يقصد من القاء الخبر أحد ذينك الغرضين ، بل يلقي لأغراض أخرى تستفاد من سياق الكلام ، أهمها :

(أ) إظهار الأسف والحسرة على فائت نحو :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

(ب) إظهار الضعف نحو :

فقد كنت عدتي التي أسطو بها

ويدي اذا اشتد الزمان وساعدي

(ج) الاسترحام والاستعطاف نحو :

رب إني لا أستطيع اصطبارا

فاعف عني يا من يقيل العثارا

(د) التوبيخ كما تقول للطالب المهمل الذي رسب في الإمتحان : «أنت رسبت في الإمتحان».

(ه) إظهار الفرح ، كما يقول من نجح في الإمتحان لمن يعرف ذلك : «فزت في الإمنحان».

(و) التنشيط وتحريك الهمة لنيل ما يلزم تحصيله نحو : الناس يشكرون المحسن.

(ز) التذكير بما بين المراتب من التفاوت نحو : لا يستوي كسلان ونشيط.

(ح) الوعظ والإرشاد نحو : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)(١).

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٢٦.


نموذج أول

اذكر ما يستفاد من هذه الأخبار :

(١)هناء محا ذاك العزاء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

(٢)أصبت بسادة كانوا عيونا

بهم نسقي إذا انقطع الغمام (١)

(٣) إلهي عبدك العاصي أتاكا

مقرا بالذنوب وقد دعاكا

(٤) أنا القائد الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

(٥) تقول للعاثر : المصباح في يدك

(٦) الحياة كطيف الخيال

الاجابة

(١) الفرح بالمقبل ونسيان الأحزان المدبرة.

(٢) الأسف والحزن على فقدان أولئك السادة الأمجاد.

(٣) الخشوع والضعف.

(٤) الفخر والشجاعة والحمية.

(٥) التوبيخ والتأنيب لوجود حال تقتضي ضد ما حصل.

(٦) العظة والاعتبار.

نموذج ثان

(١)أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا

والحظ عني بالجهال في شغل

(٢)ذهب الشباب فما له من عودة

وأتى المشيب فأين منه المهرب

(٣) ما أنت بالذي يعول عليه

(٤) قيمة كل امريء ما يحسنه

(٥) كل امريء بما كسب رهين

(٦) تقول لضيف زارنا الغيث

__________________

(١) كانوا يطلبون الماء اذا انقطع الغيث بالاشادة بذكر العظماء والأشراف.


الاجابة

(١) الأسف والحسرة على فوات ما كان مرجوا.

(٢) الأسف والحسرة على ما فات.

(٣) التوبيخ وإغاظة المخاطب.

(٤) تنشيط السامع ، وحثه على صالح العمل.

(٥) الحث والتنشيط على العمل.

(٦) الفرح والسرور بمقدمه.

تمرين (١)

ماذا يراد من هذه الأخبار :

(١) (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١).

(٢)وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعا

وليس له أم سواك ولا أب

(٣)ذل من يغبط الذليل يعيش

رب عيش أخفّ منه الحمام

(٤) تقول لمن يحث على الحرب : الحرب متلفلة للعباد. ذهابة بالطارف والنلاد.

(٥) يقول الطالب لأهله : نلت الجائرة الأولى.

(٦) يقول التاجر الذي خسر : ضاعت أتعابي سدى.

(٧)أودى الشباب فما له منقفر

وفقدت أترابي فأين المغبر (٢)

تمرين (٢)

(١) كل نفس ذائقة الموت.

(٢) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا.

(٣) الظلم ظلمات يوم القيامة.

(٤) من حفر حفرة لأخيه المؤمن وقع فيها.

(٥)مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها يوم حلّت

(٦)رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله

فلله ريب الحادثات بمن وقع

(٧)دفعنا بك الأيام حتى اذا أتت

تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا (٣)

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٤٦.

(٢) المنقفر المنتبع ، والأتراب جمع ترب ، وهو من في سنك ، والمغبر المهرب.

(٣) مدفعا أي دفعا.


المبحث الرابع في طريق إلقاء الخبر

من مزايا اللغة العربية دقة التعبير واختلاف الأساليب ، بتنوع الأغراض والمقاصد ، فمن الخطل عند ذوي المعرفة البسط والأطناب ، اذا لم تكن الحاجة ماسة اليه ، والإيجاز حيث تطلب الزيادة ، وقد خفيت هذه الدقائق على الخاصة بله العامة ، ويرشد الى ذلك ما رواه الثقات من أن المتفلسف الكندي ركب الى أبي العباس المبرد ، وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا ، فقال ابو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : عبد الله قائم ، ويقولون أن عبد الله قائم ، ثم يقولون أن عبد الله لقائم ، فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ، فالأول إخبار عن قيامه والثاني جواب عن سؤال سائل والثالث جواب عن إنكار منكر قيامه ، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني ، فما أحار المتفلسف جوابا.

ومن هذا تعلم أن العرب لاحظت أن يكون الكلام بمقدار الحاجة لا زائدا عليها ، وإلا كان عبثا ، ولا ناقصا وإلا أخل بالغرض ، وهو الإفصاح والبيان ، وتعلم أيضا أن المخاطب لا يخلو من أن يكون واحدا من ثلاثة :

(١) خالي الذهن من الحكم ، ومن التردد فيه فيلقي اليه الكلام ساذجا غفلا من أدوات التوكيد التي سترد عليك ، ويسمى هذا الضرب ابتدائيا ، نحو : محمد مسافر.

(٢) المتردد في ثبوت الحكم وعدمه بألا يترجح عنده هذا على ذلك ، وحينئذ يحسن تقوية الحكم بمؤكد ليزيل ذلك التردد ، ويسمى هذا الضرب طلبيا.

ويرى عبد القاهر أنه إنما يحسن التوكيد اذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكمك ، وله تشوف الى الوقوف على الحقيقة ، فيحسن تقوية الحكم له بأن ونحوها ليتمكن المعنى المراد في نفسه ويطرح الخلاف وراء ظهره.

ثم قال : ومن ثم يحسن موقع إن اذا كان الخبر بأمر يبعد في الظن مثله لأن العادة جرت بخلافه كقول أبي نواس :

عليك باليأس من الناس

إن غنى نفسك في اليأس

لما كان في مجرى العرف والعادة ألا يدع الناس الطمع والرجاء ويحملوا أنفسهم على اليأس ويجعلوا فيه الغنى كما ادعى ، أكده بأن.


(٣) المنكر للحكم ، وهذا يجب أن يؤكد له الكلام بقدر إنكاره ، قوه وضعفا ، ذاك أن المتكلم أحوج ما يكون الى الزيادة في تثبيت خبره إذا كان هناك من ينكره ويدفع صحته ، فهو حينئذ يبالغ في تأكيده حتى يزيل إنكاره ، يدل على ذلك ما قصه الله تعالى علينا حكاية عن رسل عيسى عليه‌السلام حين بعثهم الى أهل أنطاكية فكذبوهم فقالوا لهم في المرة الأولى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١) وفي الثانية : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)(٢) فأكدوا لهم أولا بأن واسمية الجملة ، وثانيا بالقسم (إذ ربنا يعلم في حكم ، علم الله وشهد الله) وان اللام والجملة الاسمية لما رأوا من شديد إنكارهم ، ويسمى هذا الضرب إنكاريا (٣).

والجري على هذا المنهج والسير على تلك الطريق في الأضرب الثلاثة يسمى : إخراج الكلام على مقتضى الظاهر.

وقد يلاحظ المتكلم اعتبارات أخرى خفية ، فيخرج كلامه على اعتبارها ، ويسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، ولذلك صور كثيرة ، منها :

(١) أن ينزل غير السائل منزلة السائل ، فيؤكد له الكلام اذا تقدم ما يشير الى حكم الخبر فتستشرف نفسه وتتطلع اليه استشراف الطالب المتردد ، وذلك كثير في القرآن الكريم وكلام العرب ، نحو قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٤) فحين تقدم قوله : واصنع الفلك بأعيننا ، وقوله : ولا تخاطبني ، صار المقام مقام تردد بأن القوم هل حكم عليهم بالإغراق؟ فقيل : إنهم مغرقون ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٥). وقوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(٦).

__________________

(١ و ٢) سورة يس الآية ١٤ و ١٦.

(٣) واعتبارات النفي كاعتبارات الاثبات فيجرد عن المؤكدات فى الابتدائي ويقوي بموكد استحسانا في الطلبي ويجب التوكيد في الانكاري.

(٤) سورة المؤمنون الآية ٢٧.

(٥) سورة الحج الآية ١ ، فان أمرهم بالتقوى يشير الى جنس الخبر الآتي بعده وأن هناك أهوالا تؤمن التقوى من فزعها في ذلك اليوم ، فكان المقام مقام تردد في أنه هل هناك أمامهم أمر مهم يقع لهم أن لم يتقوا ، فقيل أن زلزلة الخ ، وهكذا يقال فيما بعده.

(٦) سورة التوبة الآية ١٠٣.


وقول بعض العرب :

فغنها وهي لك الفداء

إن عناء الإبل الحداء

وقول بشار :

بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التكبير

(٢) أن ينزل من لا ينكر الخبر منزلة من ينكره تهكما به إذا لاح عليه شيء من أمارات الإنكار كقول حجل بن نضلة القيسي ، وهو من أولاد عم شقيق :

جاء شقيق عارضا رمحه

إن بني عمك فيهم رماح

فمجيء شقيق هكذا مدلا بنفسه معجبا بشجاعته ، واضعا رمحه عرضا (١) ، دليل على صلفه وزهوه ببسالته ، واعتقاده أنه لن يجد مقاوما من بني عمه ، حتى كأنهم عزل ليس معهم ما يدافعون به ، ومن ثم نزله منزلة المنكر ، وخاطبه بالشطر الثاني خطاب التفات بعد غيبة ، تهكما به ، ورميا له بالنزق ، وخرق الرأي.

(٣) أن يجعل المنكر كأنهم غير منكر ، فلا يعتد بإنكاره ، لأن أمامه من الدلائل الساطعة والبراهين القاطعة ، ما فيه مقنع له لو أزال تلك الغشاوة عن عينيه والتفت الى ما يحيط به ، وعليه قوله تعالى خطابا لمنكري الوحدانية : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(٢) إذ العقل قاض بأن تعدد الآلهة يقتضي تخالف أفعالهم لاختلاف علومهم وإرادتهم ، وكل منهم له التصرف في السموات والأرض ، والقدرة على إيجاد الممكنات فتتضارت أفعالهم ويفسد نظام الكون ، والمشاهد أنه على أتم نظام ، فهو الواحد لا شريك له.

(٤) أن ينزل العالم بالفائدة ولازمها منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم (وهو العمل به) كما تقول لمن يسيء الى أبيه ويقسو عليه : هذا أبوك فأحسن اليه. فكأنك تقول له : إن هذه المعاملة لتدل على أنك تجهل أبوته لك.

وهذا كله اعتبارات الإثبات ، وقس عليه اعتبارات النفي كقولك : ليس زيد منطلقا وبمنطلق ، وو الله ليس على المنطلق ، وهكذا.

__________________

(١) بأن يجعل الرمح على فخذيه وهو راكب بحيث يكون عرضه جهة العدو.

(٢) سورة البقرة الآية ١٦٣.


تنبيهات

(١) التوكيد تمكين الشيء في النفس وتقويته ، لإزالة الشكوك وإماطة الشبهات عما أنت بصدد الإخبار عنه ، والمراد به في هذا الباب تأكيد الحكم ، لا تأكيد المسند اليه ، ولا تأكيد المسند ، فلو قلت : على نفسه قائم ، أو جاء عليّ ، لا يكون مما نحن فيه.

(٢) التوكيد في الجمل الإسمية يكون بأن ، أو بأن ، واللام ، أو بأن واللام والقسم كما قد عرفت ، وفي الجمل الفعلية يكون بقد ، أو بقد والقسم ، كقول العباس بن مرداس :

لقد عظم البعير بغير لبّ

فلن يستغن بالعظم البعير

(٣) المؤكدات المشهورة هي : إن ، أن ، لام الابتداء ، نونا التوكيد ، القسم ، أما المشرطية ، أحرف التنبيه ، أحرف الزيادة ، ضمير الفصل ، تقديم الفاعل في المعنى ، نحو : محمد يقوم ، السين وسوف الداخلتان على فعل دال على وعد ، أو وعيد ، نحو : سأمنح المجتهد جائزة ، وسأعاقب المسيء ، قد التي للتحقيق ، تكرير النفي ، إنما.

(٤) الخطاب بالجملة الإسمية وحدها آكد من الخطاب بالجملة الفعلية ، فإذا أريد مجرد الأخبار فقط أتى بالفعلية ، وإن أريد التأكيد فبالإسمية وحدها ، أو بها مع إن أو بهما وباللام ثم بالثلاثة والقسم.

هذا والتأكيد كما يأتي في الخبر يأتي في الإنشاء كقول الشاعر :

هلا تمنن بوعد غير مخلفة

كما عهدتك في أيام ذي سلم

ولكنه لا يكون فيه لدفع التردد ، أو الإنكار ، لكن لدلالته على استبعاد الحكم من المخبر ، كما في قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ)(١).

(٥) من فوائد إن غير التوكيد :

(أ) ربط الجملة بما قبلها ، كما تقدم في قوله : إن غناء الإبل الحداء ، فلو أسقطت إن ، لم يقل إلا بالفاء ، فيقال : فغناء الإبل الحداء.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١١٧.


(ب) تهيئة النكرة وصلاحيتها ، لأن تكون مسندا اليه كقوله :

إن دهرا يلف شملي بسعدي

لزمان يهم بالإحسان

(ج) غناؤها عن الخير في بعض المواضع كقولهم : إن مالا ، وإن ولدا ، وإن عددا يريدون إن لهم مالا ، وإن لهم مالا ، وإن لهم عددا ، وعليه قول الأعشى :

إن محلا وإن مرتجلا

وإن في السفر إذ مضوا مهلا (١)

(د) الدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي كان أنه لا يكون كقولك للشيء هو بمرأى ومسمع من المخاطب : إنه كان من الأمر ما ترى ، وأحسنت الى فلان ثم إنه جعل جزائي ما ترى ، وعليه قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(٢). (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ)(٣). قاله عبد القاهر في «دلائل الإعجاز».

(ه) أن لضمير الشأن معها حسنا لا يكون بدونها ، نحو : أنه من يتق ويصبر.

أنه من يعمل سوءا يجز به. أنه لا يفلح الكافرون.

تدريب أول

اذكر أضرب الخبر فيما يلي ، وبيّن المؤكدات التي في كل جملة :

(١)ما أن ندمت على سكوتي مرة

ولقد ندمت على الكلام مرارا

(٢)وإني لصبّار على ما ينوبني

وحسبك أن الله أثنى على الصبر

(٣)فما الحداثة عن حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

(٤)ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي

والنصح أغلى ما يباع ويوهب

(٥)فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

(٦)وإني لحلو تعتريني مرارة

وإني لترّاك لما لم أعود

__________________

(١) تقدير المحذوف إن لنا في الدنيا محلا ، ولنا عنها الى الآخرة مرتحلا.

(٢) سورة آل عمران الآية ٣٦.

(٣) سورة الشعراء الآية ١١٧.


الاجابة

تدريب ثان

(١)إن الحياة لثوب سوف نخلعه

وكل ثوب إذا ما رث ينخلع

(٢)أتتك الخلافة منفادة

إليك تجرر أذيالها

(٣) إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة

(٤) قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق

(٥)ألا إن أخلاق الفتى كزمانه

منهن بيض في العيون وسود

الاجابة


تمرين (١)

من أي الأضرب الجمل الآتية ، وأيها جرى على خلاف مقتضى الظاهر؟

١ ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ)(١).

٢ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢).

٣ ـ قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أن البلاء موكل بالمنطق.

٤ ـ (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٣).

٥ ـ الإسلام حق.

٦ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(٤).

تمرين (٢)

(١)ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

(٢) (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥).

(٣)إن على سائلنا أن نسأله

والعبء لا تعرفه أو تحمله

(٤)ولقد علمت لتأتين منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها

(٥)إن السلاح جميع الناس تحمله

وليس كل ذوات المخلب السبع

(٦)هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

المبحث الخامس في الجملة الاسمية والفعلية

مما تمس الحاجة الى معرفته ، الفرق بين الجملة الاسمية والفعلية في الاستعمال ، لوعورة المسلك ودقة الصنع ، إذ قلما يفطن له الفصحاء ذوو الدراية في المنطق ، وبيان ذلك أن الجملة قسمان :

__________________

(١) سورة القصص الآية ٧٦.

(٢) سورة يونس الآية ٦٢.

(٣) سورة البقرة الآيتان ١ و ٢.

(٤) سورة المؤمنون الآية ١٦.

(٥) سورة آل عمران الآية ١٠١.


(١) اسمية وتفيد بأصل وضعها ثبوت الحكم فحسب ، بلا نظر الى تجدد ولا استمرار ، فلا يستفاد من قولنا : علي مسافر ، سوى ثبوت السفر فعلا لعلي دون نظر الى تجدد ولا حدوث ، فالمعنى فيه شبيه بالمعنى في قولنا : محمد طويل ومحمود قصير ، فكما لا يقصدها هنا الى أن يجعل الطول والقصر يتجدد ويحدث ، بل يقصد إيجابهما وثبوتهما فقط ، كذلك لا يتعرض في قولنا : علي مسافر لأكثر من إثبات السفر فعلا لعلي.

ولكن قد تحف بها قرائن أخرى تستفاد من سياق الكلام ، كأن يكون في معرض مدح أو ذم أو حكمة ، أو نحو ذلك ، فتفيد الدوام والاستمرار حينئذ ، وعليه قول النضر بن جويرية يتمدح بالغنى والكرم :

لا يألف الدرهم المضروب صرّتنا

لكن يمر عليها وهو منطلق (١)

فهو يريد أن دراهمهم دائمة الانطلاق تمرق من الكيس مروق السهام من قسيها لتوزع على المعوزين وأرباب الحاجات ، كما يرشد الى ذلك ما قبله :

إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا

ظلت الى طرق المعروف تستبق

ونظيره قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٢) ، فسياق الحديث في معرض المدح دال على إفادة الاستمرار والدوام.

(٢) فعلية ، وتدل بأصل وضعها على التجدد في زمن معين مع الاختصار ، فلا يستفاد من نحو : طلعت الشمس ، إلا إثبات الطلوع فعلا للشمس في زمن مضى.

تفسير هذا أن الفعل يدل على أحد الأزمنة الثلاثة بذاته لا بقرينة (٣) خارجة عنه ، وهذا الزمن الذي هو أحد مدلوليه (مدلوله الثاني الحدث) لا تجتمع أجزاؤه في الخارج ، بل تتصرم وتنقضي شيئا فشيئا ، ومن ثم كان الفعل مع إفادته الزمن يفيد أيضا تجدد الحدث وحصوله بعد أن لم يكن ، بخلاف الاسم ، فإنه إنما يدل على الزمن المعين بقرينة أخرى ، كأن يقال : أمس أو الآن أو غدا.

__________________

(١) الصرة كيس الدراهم.

(٢) سورة القلم.

(٣) أما احتياج الفعل المضارع الى قرينة في تعيين الحال أو الاستقبال فهو تعيين للمراد لا تعيين للزمن لأنه دال عليه بالوضع.


وقد تفيد الاستمرار التجددي شيئا فشيئا بمعونة القرائن اذا كان الفعل مضارعا ، ومن البيّن في ذلك قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)(١) ، فالقصد الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال آنا إثر آن ، وحالا بعد حال. ونحوه قول طريف بن تميم العنبري يتمدح بجرأته وشجاعته :

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا الى عريفهم يتوسم (٢)

إذ يريد أن كل قبيلة ترد سوق عكاظ تبعث عريفها ليتفرس في وجوه القوم مرة بعد أخرى ، ويتوسمها وقتا بعد وقت ، لعله يهتدي الى معرفتي. وقول المتنبي :

تدبر شرق الأرض والغرب كفه

وليس لها يوما عن الجود شاغل

فقرينة المدح تدل على أن تدبير الملك ديدنه وحاله المستمرة التي لا يحيد عنها.

تنبيهات

١ ـ الجملة الاسمية إنما تفيد الدوام والثبات بقرينة المقام اذا كان خبرها مفردا أو جملة اسمية ، نحو : محمد كريم ، على أبوه جواد. أما اذا كان خبرها جملة فعلية فإنها تفيد التجدد.

٢ ـ المسند تارة يكون مفردا فعلا كان أو اسما ، وطورا يكون ظرفا للأختصار ، نحو : البركة في البكور. وحينا يكون جملة للأسباب الآتية :

(أ) اذا قصد تقوية الحكم بتكرير الإسناد ، نحو قول المتنبي :

والله يسعد كل يوم جده

ويزيد من أعدائه في آله

(ب) اذا قصد قصر الحكم وتخصصه بالمسند ، نحو : أنا سعيت في حاجتك ، أي لا غيري.

(ج) اذا كان سببيا أي جملة معلقة على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا اليه في تلك الجملة ، نحو : محمد أخوه نبيه ـ إبراهيم نجح ابنه.

__________________

(١) سورة ص الآية ١٨.

(٢) عكاظ أكبر الأسواق العربية التي كانت من أسباب تهذيب اللغة ، وفيها كانوا يجتمعون للتفاخر والتنافر ليلا ولتصريف المتاجر نهارا.


تدريب أول

بيّن فائدة التعبير بالجملة الاسمية أو الفعلية في التراكيب الآتية :

١ ـ قال تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١).

٢ ـ نروح ونغدو لحاجاتنا

وحاجة من عاش لا تنقضي

٣ ـ وعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام

٤ ـ الحلف منفعة للسلعة ممحقة للبركة (٢)

٥ ـ يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه ، أمن الحلال أم من الحرام

٦ ـ وتحي له المال الصوارم والقنا

ويقتل ما تحي التبسم والجدا (٣)

الاجابة

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٣٩.

(٢) نفقت السلعة راجت في السوق ، والمحق الزوال.

(٣) الصوارم السيوف والقنا الرماح والجدا العطاء.


تدريب ثان

١ ـ سلام على القبر الذي لا يجيبنا

ونحن نحيي تربه ونخاطبه

٢ ـ لا خير في ود امرىء متملق

حلو اللسان وقلبه يتلهب

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١)

٤ ـ ثمرة القناعة الراحة ، وثمرة التواضع المحبة

٥ ـ لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

الى ضوء نار باليفاع تحرق

٦ ـ الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبودة مذ كانت النار

الاجابة

تمرين (١)

بيّن ما يستفاد من الجمل فيما يلي واذكر أضرب الخبر :

١ ـ فدعوت ربي بالسلامة جاهدا

ليصحني فإذا السلامة داء

٢ ـ (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ)(٢).

٣ ـ يهوى الثناء مبرز ومقصر

حب الثناء طبيعة الإنسان

__________________

(١) سورة الفجر الآية ١٤.

(٢) سورة الفرقان الآيتان ٢٥ و ٢٦.


٤ ـ بك اجتمع الملك المبدد شمله

وضمت قواص منه بعد قواصي

٥ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١)

٦ ـ العين ترى كل شيء ، ولا ترى نفسها إلا بمرآة.

تمرين (٢)

١ ـ يكفكف غيلة إحدى يديه

ويبسط للوثوب على أخرى

٢ ـ المجد عوفي إذ عوفيت والكرم

وزال عنك الى اعدائك السقم

٣ ـ السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحدّ بين الجد واللعب

٤ ـ ليس الزمان وإن حرصت مسالما

خلق الزمان عداوة الأحرار

٥ ـ والشيخ لا يترك أخلاقه

حتى يواري في ثرى رمسه

٦ ـ هناء محا ذاك العزاء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩.


الباب الثاني في الانشاء

وفيه ستة مباحث

المبحث الأول في تعريف الانشاء

الإنشاء في اللغة الإيجاد والاختراع في الاصطلاح يطلق بأحد إطلاقين :

١ ـ المعنى المصدري وهو إلقاء الكلام الدي ليس لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه.

٢ ـ المعنى الاسمي وهو نفس الكلام الملقى الذي له الصفة المتقدمة.

وينقسم بالاعتبار الأول الى :

(١) طلبي وهو خمسة (١) أنواع : الأمر والنهي والتمني والاستفهام والنداء ، ويعرف بأنه ما يستدعي مطلوبا غير حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الطلب.

(٢) غير طلبي وهو ما يستدعي مطلوبا حاصلا.

وأنواعه كثيرة ، منها صيغ المدح والذم ، نحو : نعم الخليفة عمر ، وبئس الظالم الحجاج ، والعقود كبعت واشتريت ووهبت ، والقسم نحو : تالله لاصدقنك ، والتعجب نحو : ما أجمل الصدق ، والرجاء بعسى ولعل ونحوهما نحو : لعل الله يأتي بالفرج ، ورب وكم الخبرية.

والذي يهتم البليغ بالبحث عنه هو القسم الأول (٢) لأن فيه من المزايا واللطائف ما ليس في القسم الثاني.

__________________

(١) لأن المطلوب إن كان غير متوقع الحصول فهو التمني وإن كان متوقعا ، فاما حصول صورة شيء في الذهن فهو الاستفهام وإما حصول صورة شيء في الخارج فان كان انتفاء فهو النهي ، وإن كان ثبوتا فاما بأحرف النداء فهو المنادى ، وإما بغيرها فهو الأمر.

(٢) ولأن كثيرا من الانشاءات غير الطلبية أخبار في الأصل نقلت الى الانشاء.


المبحث الثاني في التمني

هو طلب حصول شيء محبوب لا يرجى حصوله ، إما لكونه مستحيلا ، كقول المتنبي :

فليت وقارك فرقته

وحملت أرضك ما تحمل

واما لكونه بعيد التحقق والحصول نحو : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(١) ، فإن كان منتظر الحصول قريب الوجود كان ترجيا ويعبر فيه بعسى ولعل. كقوله :

عسى الله أن يجري المودة بيننا

ويوصل حبلا منكمو بحباليا

وقوله :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبا

لعل له عذرا وأنت تلوم

وقد يعبر فيه بليت كقول قريط من بلعنبر يهجو قومه :

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا

شدوا الإغارة فرسانا وركبانا

وألفاظ التمني أربعة : واحدة أصلية ، وهي ليت ، وثلاثة نائبة عنها ، وهي :

١ ـ (هل) نحو : (فَهَلْ)(٢) لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا (٣) ويبرز بها التمني في شكل المستفهم عنه الذي لا يجزم بانتفائه ، إظهارا لكمال العناية به حتى لا يستطاع الاتيان به إلا في صورة الممكن المطموع في وقوعه.

٢ ـ (لو) نحو : (فَلَوْ)(٤) أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٥) ، ويتمنى بها إشعارا يعزه التمني حيث أبرز في صورة ما لا يوجد (٦).

٣ ـ (لعل) ويتمنى بها إذا كان المرجو بعيدا ميئوسا من حصوله ، فصار شبيها بالمحالات والممكنات التي لا طماعية في حصولها ، نحو :

أسرب القطا هل من يعير جناحه

لعلّي الى من قد هويت أطير

__________________

(١) سورة القصص الآية ٧٩.

(٢) دليل أنها للتمني أنهم يعلمون عدم الشفيع.

(٣) سورة الشعراء الآية ١٠٢.

(٤) دليل أنها للتمني نصب الجواب والكرة والرجعة.

(٥) سورة الأعراف الآية ٥٣.

(٦) لأن لو بحسب أصلها حرف امتناع.


(تنبيه) يتمنى بهلا وألا ولو لا ولو ما ، وهي ألفاظ مركبة من هل ولو مع لا وما ، والشرط ألا هلا ، قلبت الهاء همزة ، لتتبين دلالتها على التمني ، ويزول احتمال الاستفهام والشرط ، ويتولد من التمني معنى التنديم في الماضي ، نحو : هلا (١) سافرت ، ومعنى التحضيض في المستقبل ، نحو : هلا تخلص في عملك (٢).

ولاستعمال هذه الأدوات في التمني ينصب المضارع في جوابها.

تمرين

بيّن الأدوات التي تفيد التمني والتي تفيد الترجي في التراكيب الآتية :

١ ـ ليت المدائح تستوفي مناقبه

فما كليب وأهل الأعصر الأول

٢ ـ لعل رحمة ربي حين يقسمها

تأتي على حسب العصيان في القسم

٣ ـ فيا ليت ما بيني وبين أحبتي

من البعد ما بيني وبين المصائب

٤ ـ فليتك إذ لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

٥ ـ لعل عتبك محمود عواقبه

وربما صحت الأجسام بالعلل

٦ ـ فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي

أكون رفاقا لا عليّ ولا ليا

٧ ـ فلو نشر المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب أي زير (٣)

٨ ـ (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)(٤)

المبحث الثالث في الاستفهام

الاستفهام هو طلب فهم شيء لم يتقدم لك علم به ، بأداة من إحدى أدواته وهي : الهمزة وهل ومن ومتى وأيان وأين وأنى وكيف وكم وأي.

وتنقسم بحسب الطلب ثلاثة أقسام :

__________________

(١) فالمعنى ليتك سافرت.

(٢) تقصد حثه على الاخلاص.

(٣) قاله مهلهل في رثاء أخيه كليب وذلك أن مهلهلا زير نساء ولا يأخذ بثأر ، فلما أدرك ثأر أخيه قال ذلك ، والذنائب موضع ، وأي رفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، فكأنه : أي زير أنا.

(٤) إذ أهل النار يعلمون أنه لا مرد لهم ، الآية ٤٤ من سورة الشورى.


١ ـ ما يطلب به التصور تارة ، والتصديق أخرى ، وهو الهمزة.

٢ ـ ما يطلب به التصديق فحسب وهو هل.

٣ ـ ما يطلب به التصور فحسب ، وهو الباقي.

الكلام على الهمزة

للهمزة حالتان :

١ ـ أن تكون لطلب تصور المفرد ومعرفته ، كطلب معرفة المسند اليه ، أو المسند أو غيرهما فتقول : أمحمد مسافر أم محمود ، اذا كنت تعتقد أن أحدهما مسافر ، ولا تعلم عينه فتطلب تعيينه فتجاب بأنه محمود مثلا ، وتقول : أمسافر محمود ، أم مقيم؟ فتجاب بأنه مقيم مثلا. وهذه الهمزة لا يليها إلا المسئول عن سواء أكان :

(أ) مسندا كما تقول : أبنيت الدار التي كنت أزمعت أن تبنيها؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في مثل هذا بالفعل ، لأنك متردد بين وجوده وانتفائه.

(ب) أم مسند اليه نحو : أأنت ابتكرت هذه الخطبة؟ أأنت بنيت هذه الدار؟ تبدأ في هذا بالفاعل ، لأنك لم تشك في الفعل أنه كان ، وكيف يجول الشك بخاطرك وأنت ترى دارا مبنية ، وتشير الى خطبة مكتوبة ، وإنما أنت تشك في الفاعل من هو ، فلو قلت : أأنت أنشأت الخطبة التي كان في نفسك أن تكتمها ، خرجت عن سنن التخاطب ، وكذا لو قلت : أبنيت هذه الدار ، أقلت هذا الشعر ، تكون قد قلت ما لا يصح أن يقال لفساد أن تقول في شيء مشاهد نصب عينيك أموجود أم لا.

(ج) أم مفعولا نحو : أإياي تريد؟

(د) أم حالا نحو : أمستبشرا جاء على.

(ه) أم ظرفا نحو :

أبعد بني عمرو أسرّ بمقبل

من العيش أو آسي على إثر مدبر

وهكذا قياس سائر المتعلقات.


(تنبيه) يجوز أن يذكر مع همزة التصور معادل بعد لفظ أم كما تقدم ، ويجوز حذفه ، نحو : أراغب أنت في إنجاز حاجتي ، إذ تقديره : أم راغب عنها وكاره إنجازها.

٢ ـ أن يطلب بها التصديق أي إدراك نسبة يتردد العقل بين ثبوتها ونفيها ، والكثير أن يكون ذلك بجملة فعلية نحو : أقدم صديقك؟ (١) ويقل أن يكون بجملة اسمية نحو : أقادم صديقك؟ ويجاب في هذين بلا أو بنعم.

ويمتنع أن يذكر مع هذه معادل ، فإن جاءت أم بعدها قدرت منقطعة بمعنى بل (٢).

اللام في هل

هل حرف لطلب التصديق فحسب أي معرفة وقوع النسبة أم عدم وقوعها فتقول : هل قدم أخوك من السفر؟ فتجاب بنعم أو بلا.

ولأجل اختصاصها بالتصديق لأصل الوضع :

١ ـ امتنع أن يذكر معها معادل بعد أم ، لأن ذلك يؤدي الى التناقض ، فإن هل تفيد أن المسائل جاهل بالحكم ، لأنها لطلبه ، وأم المتصلة تفيد أن السامع عالم به ، وإنما يطلب تعيين أحد الأمرين ، فإن جاءت بعدها أم كانت منقطعة بمعنى بل التي تفيد الأضراب كقول قتيلة ترثي أباها النضر :

هل يسمعن النضر إن ناديته

أم كيف يسمع ميت لا ينطق

٢ ـ وقبح استعمالها في التراكيب التي هي مظنة العلم بمضمون الحكم ، نحو : هل محمدا كلمت؟ إذ تقديم المعمول على الفعل يكون للتخصيص غالبا (٣) ، وهذا يفيد علم المتكلم بالحكم ، وإنما يطلب المخصص فحسب ، وحينئذ تكون هل لطلب تحصيل ما هو حاصل وهو عبث.

__________________

(١) فقد تصورت القدوم والصديق والنسبة بينهما وسألت عن وقوع النسبة بينهما هل هو محقق خارجا ، فاذا قيل : قدم ، حصل التصديق ، فالسائل في مثل هذا يطلب تعيين النسبة.

(٢) لم نر شاهدا عربيا يؤيد استعمال أم بعد همزة التصديق ، بل سمع ذلك بعد هل فقط.

(٣) ومن غير الغالب يكون التقديم للاهتمام بالمقدم وحينئذ فلا يفيد التقديم العلم بالحكم.


تنبيهات

١ ـ هل كالسين وسوف تخلص المضارع للاستقبال ، فلا تستعمل فيما هو للحال فلا يقال : هل تنهر هذا وهو أبوك ، بل يقال : أتنهر هذا وهو أبوك.

٢ ـ الراجح أن توصل هل بفعل لفظا أو تقديرا ، نحو : هل يقدم هاشم من السفر؟ وهل هاشم يقدم من السفر؟ وذلك لاختصاصها بالتصديق وتخليصها المضارع للاستقبال ، فإن عدل عنها الى الاسمية كان ذلك لنكتة تلاحظ لدى البلغاء (وهي جعل ما سيحصل كأنه حاصل موجود اهتماما بشأنه) ومن ثم كان قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)(١) أدل على طلب شكر العباد من : (أفأنتم شاكرون (٢) فهل تشكرون ، فهل انتم تشكرون (٣)).

٣ ـ هل نوعان :

(أ) بسيطة (٤) وهي ما يستفهم بها عن وجود الشيء أو عدم وجوده نحو : هل الخلّ الوفيّ موجود؟

(ب) مركبة ، وهي ما يستفهم بها عن وجود شيء لشيء ، نحو : هل المريخ مسكون؟

٤ ـ علم مما سبق أن همزة التصور يليها المسئول عنه ، وليس كذلك همزة التصديق وهل ، لأن السؤال بهما إنما يكون عن النسبة.

٥ ـ بيّن الهمزة ، وهل الفروق الآتية :

لا تدخل هل على

(أ) النفي فيمتنع هل لم يسافر علي.

(ب) المضارع الذي للحال فيمتنع هل تحتقر عليا وهو مؤدب؟

(ج) الشرط فيمتنع هل إن نجحت أكافأ.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٨٠.

(٢) لأن الجملة وإن كانت اسمية تفيد الثبوت لكن هل أدعى للفعل من الهمزة فتركه معها أدل على كمال العناية بحصول ما سيتجدد.

(٣) إذ هي داخلة على الفعل تقديرا لأن أنتم فاعل فعل محذوف يفسره المذكور.

(٤) اذا اعتبر في هذا وجود الحل فقط ، بخلاف الذي بعده ، فانه يلاحظ فيه وجود المريخ وسكناه ، ولهذا ساغ أن تسمى الاولى بسيطة والثانية مركبة.


(د) إن فيمتنع هل إنك مسافر.

(ه) حرف العطف فيمتنع هل فيتقدم بعد ذلك وتدخل الهمزة على جميع ما ذكر.

من وما

(من) يطلب بها تعيين أحد العقلاء ، نحو : من شيد الهرم الأكبر.

(ما) للاستفهام عن غير العقلاء ، وهي أقسام :

(أ) ما يطلب بها إيضاح الاسم وشرحه ، نحو : ما اللجين؟ فيجاب بأنه الفضة.

(ب) ما يطلب بها بيان حقيقة (١) المسمى نحو : ما الحسد؟ فيجاب : بأنه تمني زوال نعمة المحسود.

(ج) ما يطلب بها بيان حال الشيء نحو قولك لقادم عليك وأنت لا تعرفه : ما أنت؟ وقول المتنبي :

ليت المدائح تستوفي مناقبه

فما كليب وأهل الأعصر الأول

متى وأيان وأين وأنى

(متى) يطلب بها تعيين الزمان ماضيا كان أو مستقبلا ، نحو : متى قدمت؟ ومتى تسافر؟

(أيان) يطلب بها تعيين الزمان المستقبل خاصة ، وتكون في مقام التفخيم والتهويل ، نحو : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(٢).

(أين) يطلب بها تعيين المكان نحو : أين تسافر؟

(أنى) تكون :

(أ) بمعنى كيف ، نحو : أنى تتقدم الصناعة ، ولم تعرها الأمة عناية؟

(ب) بمعنى من أين نحو : أنى لك هذا المال ، وقد عهدتك معدما؟

(ج) بمعنى متى ، نحو : أنى يفيض نهر النيل؟

__________________

(١) تقع هل البسيطة في الترتيب بين الاولى والثانية ، لأن الترتيب الطبيعي يقتضي أن يطلب أولا شرح الاسم ثم وجود الشيء معرفة ماهيته وحقيقته.

(٢) سورة القيامة الآية ٦.


كيف كم وأي

(كيف) يطلب بها تعيين الحال ، نحو : كيف التعليم بمصر؟

(كم) يطلب بها تعيين عدد منهم ، نحو : كم مملكة اشتركت في الحرب العظمى؟

(أي) يطلب بها تعيين أحد المتشاركين في شيء يعمهما نحو : أي البلدين أدفأ جو القاهرة أم الإسكندرية؟ وهي بحسب ما تضاف اليه فيسأل بها عن الزمان والمكان والحال والعدد ، الى غير ذلك ، في أي يوم تسافر؟ في أي مكان تقيم؟ أي صاحبيك أحسن خلقا أمحمد أم علي؟ بأي ذنب قتلت؟

(تنبيه) قد تخرج ألفاظ الاستفهام عن أصل وضعها فيستفهم بها عن الشيء مع العلم به لأغراض تستفاد من سياق الحديث ودلالة الكلام ، أهمها :

١ ـ الاستبطاء ، نحو قوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ)(١). وقول أبي العلاء :

إلام وفيم تنقلنا ركاب

وتأمل أن يكون لنا أوان (٢)

٢ ـ التعجب ، نحو : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ)(٣) ، وقول الآخر :

أنشأ يمزق أثوابي يؤدبني

أبعد شيبي عندي الأدباء

٣ ـ التنبيه على ضلال المخاطب ، نحو : فأين تذهبون (٤)؟

٤ ـ الوعيد والتخويف ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ)(٥).

٥ ـ الأمر ، نحو : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، ونحو : أتصون يديك عن الأذى؟

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢١٤.

(٢) الى متى تسير هذه المطايا وترجو أن يكون لنا وقت نجزيها فيه على إحسانها بنا.

(٣) سورة المائدة الآية ٨٤.

(٤) فليس المقصد الاستفهام عن مذهبهم بل التنبيه عن ضلالهم وأنه لا مذهب لهم ينجون به.

(٥) سورة المرسلات الآية ١٦.


٦ ـ النهي ، نحو : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ)(١).

٧ ـ التقرير بحمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وإلجائه اليه.

وحكم الهمزة فيه حكمها في همزة الاستفهام من إيلاء المقربة الهمزة ، فإذا قلت : أفعلت هذا؟ كان غرضك أن تقرره بأن الفعل كان منه ، وإذا قلت : أأنت فعلت هذا؟ كان غرضك أن تقرره بأنه هو الفاعل ، وعليه قوله تعالى حكاية عن قوم نمرود : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)(٢) إذ غرضهم أن يقرّ لهم بأنه قد كسر أصنامهم لا أن يقرّ لهم بأنه هل حصل كسر ، يدل على ذلك جواب إبراهيم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا)(٣) ، ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أم لم أفعل.

٨ ـ الإنكار ، ويشترط فيه أن يلي المنكر الهمزة ، ويكون :

(أ) إما للتوبيخ على الفعل بمعنى ما كان ينبغي أن يكون كقوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)(٤) وأما بمعنى لا ينبغي أن يكون كقولك للرجل يضيع الحق : أتنسى قديم إحسان فلان اليك؟ وقولك للرجل يركب الخطر : أتخرج في هذا الوقت؟ والغرض في مثل هذا تنبيه السامع حتى يرجع الى نفسه فيخجل ويرتدع عن فعل ما هم به.

(ب) وإما للتكذيب في الماضي بمعنى لم يكن ، نحو : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً)(٥) : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ)(٦) أو في المستقبل بمعنى لا يكون نحو : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)(٧).

وقول امريء القيس :

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١٣.

(٢ و ٣) سورة الأنبياء الآيتان ٦٢ و ٦٣.

(٤) سورة البقرة الآية ٤٤.

(٥) سورة الاسراء الآية ٤٠.

(٦) سورة الصافات الآية ١٥٣.

(٧) أي أنلزمكم تلك الحجة ونفسركم على قبولها وأنتم كارهون لها.


أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

وقول الآخر :

أأترك أن قلت درهم خالد

زيارته إني إذا للئيم

ومن مجيء الهمزة للإنكار قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)(٢).

وقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٣)

إذ المعنى : الله بكاف عبده ، وأنتم خير من ركب المطايا ، لأن نفي النفي إثبات ، وهذا مراد من قال : إن الهمزة فيه للتقرير ، أي للتقرير بما دخله النفي ، لا للتقرير بالانتفاء.

٩ ـ التهكم ، نحو : أرأيك يرشدك الى ما تقول؟ وعليه قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا)(٤). وقوله :

وما أدري ولست إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

١٠ ـ الاستبعاد ، نحو : أنى يرى ذلك وهو أكمه ، وعليه قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)(٥).

١١ ـ التهويل ، نحو : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ)(٦).

١٢ ـ التحقير ، نحو : أهذا الذي كنت تطنب في مدحه ، أهذا الذي كنت تركن اليه.

١٣ ـ التعظيم ، نحو قول أبي نواس :

__________________

(١) المشرفي منسوب الى مشارف اليمن ، وهي بلاد تعمل فيها السيوف وسهام مسنونة حادة النصال ، وزرق صافية مجلوة كأنياب الأغوال في الحدة.

(٢) سورة الزمر الآية ٣٦.

(٣) المطايا جمع مطية ، وأندى من الندى وهو الكرم ، والراح جمع راحة باطن الكف.

(٤) كان شعيب كثير الصلوات اذا رآه قومه تضاحكوا واستهزءوا به (سورة هود الآية ٨٧).

(٥) سورة الدخان الآية ١٣.

(٦) القارعة النازلة الشديدة تنزل عليهم بأمر عظيم وبه سمي يوم القيامة (سورة القارعة).


إذا لم تطأ أرض الخصيب ركابنا

فأي فتى بعد الخصيب تزور (١)

١٤ ـ النفي :

هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي

بما كان فيها من بلاء ومن خفض

١٥ ـ التمني ، نحو :

هل بالطول لسائل ردّ

أم هل لها بتكلم عهد

١٦ ـ التشويق ، نحو : (أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٢).

١٧ ـ التكثير ، نحو قول أبي العلاء المعري :

صاح هذي قبورنا تملأ الرح

ب فأين القبور من عهد عاد

١٨ ـ التسوية ، نحو : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ)(٣).

تدريب أول

١ ـ أتلهو وأيامنا تذهب

ونلعب والموت لا يلعب

٢ ـ متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

٣ ـ فعلام يلتمس العدو مساءتي

من بعد ما عرف الخلائق شاني

٤ ـ وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

ورأى أمير المؤمنين جميل

٥ ـ وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا

ودون الذي أملت منك حجاب

٦ ـ أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

٧ ـ ومن مثل كافور إذ الخيل أحجمت

وكان قليلا من يقول لها اقدمي

٨ ـ متى يستقيم الظل والعود أعوج

وهل ذهب الابريز يحكيه بهرج

__________________

(١) الخصيب من ولاة مصر.

(٢) سورة الصف الآية ١٠.

(٣) سورة الشعراء الآية ١٣٦.


الاجابة

(١) التوبيخ بمعنى لا ينبغي أن يكون.

(٢) النفي أي لا يبلغ التمام مطلقا.

(٣) الاستبعاد.

(٤) النفي أي لا أخاف الفقر.

(٥) النفي.

(٦) التعظيم لشأنه.

(٧) التعظيم لشأن الممدوح.

(٨) النفي.

تدريب ثان

١ ـ أفي الحق أن يعطى ثلاثون شاعرا

ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي

٢ ـ أعندي وقد مارست كل خفية

يصدق واش أو يخيب سائل

٣ ـ فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير (١)

٤ ـ ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة

وسيف المنايا بين عينيه مصلت (٢)

٥ ـ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

٦ ـ ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

الاجابة

(١) الإنكار وبيان أن ذلك ما كان ينبغي أن يكون.

(٢) التهكم أو الإنكار لا ينبغي أن يكون.

(٣) التحقير لشأن المخاطب بضرب المثل.

(٤) التعظيم لشأن ذلك الموقف.

(٥) التعظيم لشأن ذلك الجامع الجميل الخصال.

(٦) التقرير وبيان أنه قد أعطى البطش والقوة.

__________________

(١) الطنين صوت أجنحة الذباب ، ويضير يضر.

(٢) مصلت مسلول.


تدريب ثالث

سل عما يأتي :

(١) حال الزراعة بالسودان.

(٢) مكان اصطياد الحيوانات المفترسة.

(٣) معنى القند.

(٤) مخترع البرق الأثيري (التلغراف اللاسلكي).

(٥) مدخل زراعة القطن بمصر.

(٦) موسم الحج وإقامة شعائره.

(٧) عدد الناجحين في الإمتحان.

(٨) ترددت في مجيء علي في عربة أو سيارة.

(٩) ترددت في زرع القطن في يناير أو فبراير.

(١٠) الفائز في لعب الكرة الخديوية ، أو التوفيقية.

الاجابة

(١) كيف الزراعة بالسودان؟

(٢) أين تصطاد الحيوانات المفترسة بالسودان؟

(٣) ما القند (عسل السكر)؟

(٤) من اخترع البرق الأثيري؟

(٥) من أدخل زراعة القطن بمصر؟

(٦) متى موسم الحج؟

(٧) كم الناجحون في الإمتحان؟

(٨) أفي عربة جاء علي أم في سيارة؟

(٩) أفي يناير أم فبراير يزرع القطن؟

(١٠) الخديوية فازت أم التوفيقية؟

تمرين أول

بيّن المعاني التي تستفاد من الاستفهام في الجمل الآتية :

(١) قال تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً)(١).

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٨.


(٢) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)(١).

(٣) (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)(٢).

(٤) أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.

(٥) هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه.

(٦) ألا تحبون أن يغفر الله لكم.

(٧) أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما.

(٨) أهذا الذي بعث الله رسولا.

تمرين ثان

١ ـ أتراني وقد طويت حياتي

في مراس لم أبلغ اليوم رشدي

٢ ـ من ذا يعيرك عينه تبكي بها

أرأيت عينا للبكاء تعار

٣ ـ كيف ترقى رقيك الإنبياء

يا سماء ما طاولتها سماء

٤ ـ شرف العصامين صنع نفوسهم

من ذا يقيس بهم بني الأشراف

٥ ـ مالي أراكم تنكرون مكانتي

الشمس لا تخفى مع الإشراق

٦ ـ أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع

٧ ـ أعندكم نبأ عن أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

٨ ـ ما أنت يا دنيا أرؤيا نائم

أم ليل عرس أم بساط سلاف

تمرين ثالث

سل عما يأتي :

(١) إقامة مهرجان المولد النبوي.

(٢) شككت في اسم المأمون.

(٣) حال المعادن بمصر.

__________________

(١) سورة القيامة الآية ٣٦.

(٢) سورة مريم الآية ٢٠.


(٤) فاكهة على المائدة لا تعرف اسمها.

(٥) عن الوقت لتضبط ساعتك.

(٦) نزل مطر لا تعلم زمن نزوله.

(٧) بدء نزول الأمطار بالسودان.

(٨) قدم أحد أخويك ولا تدري من هو.

(٩) عدد صفحات الكتاب.

(١٠) وقت دخول المجلس النيابي بمصر.

(١١) مكان المدرسة.

(١٢) مستقبل مصر.

المبحث الرابع في الأمر

هو طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء (١) ، وله صيغ أربع :

١ ـ فعل الأمر كقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٢).

٢ ـ المضارع المقترن بلام الأمر نحو : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)(٣).

٣ ـ اسم فعلي الأمر ، نحو :

وحذار أن ترضى مودّة من

يقلي المقلّ ويعشق المثري

٤ ـ المصدر النائب عن فعله ، نحو :

فصبرا معين الملك إن عن حادث

فعاقبه الصبر الجميل جميل

والأصل في صيغة الأمر أن تفيد الإيجاب أي طلب (٤) الفعل على وجه اللزوم وهذا هو المفهوم منها عند الإطلاق ، نحو : قم وسافر. وما عداه يحتاج الى قرائن أخرى تستفاد من سياق الحديث ، وأهمها ما يأتي :

(١) الدعاء ، نحو :

فأسلم أمير المؤمنين ولا تزل

مستعليا بالنصر والتأييد

__________________

(١) وهو عد الآمر نفسه عاليا سواء كان عاليا في الواقع أم لا.

(٢) سورة هود الآية ٣٧.

(٣) سورة الطلاق الآية ٧.

(٤) ويستفاد الفور أو التراخي من القرائن.


(٢) الإلتماس : كما تقول لمن هو في منزلتك : أعطني كتابك.

(٣) الإرشاد ، نحو : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(١).

(٤) التعجيز كقول الفرزدق يخاطب جريرا :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

(٥) الإهانة والتحقير ، كقول أبي العلاء المعري في الفخر :

أرى النقاء تكبر أن تصطادا

فعائد من تطيق له عنادا (٢)

(٦) التهديد ، نحو :

إذا لم تخش عاقبة الليالي

ولم تستحى فاصنع ما تشاء

(٧) الاعتبار ، نحو : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)(٣).

(٨) التمني ، نحو :

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي (٤)

(٩) التخيير ، نحو :

عش عزيزا أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود (٥)

(١٠) الإباحة ، نحو : اختر ما تشاء.

(١١) الدوام ، نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٦).

(١٢) التأديب ، وهو ما يكون لتهذيب الأخلاق والعادات نحو : كل مما يليك.

(١٣) التعجب ، نحو : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ)(٧).

__________________

(١) العفو نقيض الجهد أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس ولا تكلفهم ما يشق عليهم العرف الجميل من الأفعال ، والاعراض عن الجاهلين يكون بالحلم عنهم (سورة الأعراف الآية ١٩٩).

(٢) العنقاء طائر معروف الاسم مجهول الجسم.

(٣) سورة الأنعام الآية ٩٩.

(٤) عبلة بنت عمه ، والجواء واد بديار بني عبس ، وعمي صباحا كلمة تحية.

(٥) البنود جمع بند العلم الكبير ، وخفقها اضطرابها.

(٦) سورة الفاتحة الآية ٥.

(٧) سورة الاسراء الآية ٤٨.


نموذج أول

بيّن ما يراد بصيغ الأمر في التراكيب الآتية :

١ ـ قال عليه‌السلام : «أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام».

٢ ـ اسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تفلت

٣ ـ عش ما بدا لك سالما

في ظل شاهقة القصور

٤ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١).

٥ ـ قف بتلك القصور في اليم غرقي

ممسكا بعضها من الذعر بعضا

٦ ـ انظر الى القبة الغراء مذهبة

كأنما الشمس أعطتها محياها

الاجابة

نموذج ثان

١ ـ أريني جوادا مات هزلا لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

٢ ـ قال تعالى : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢).

٣ ـ قد رشحوك لأمر إن فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

٤ ـ (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)(٣).

٥ ـ ليس هذا بعشك فادرجي.

٦ ـ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

__________________

(١) سورة الملك الآية ١٣.

(٢) سورة البقرة الآية ١١١.

(٣) سورة طه الآية ٢٥.


الاجابة

تمرين (١)

بيّن ما يستفاد من صيغ الأمر فيما يلي :

١ ـ (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

٢ ـ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

٣ ـ (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

٤ ـ (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ).

٥ ـ (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ.)

٦ ـ (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ.)

تمرين (٢)

١ ـ فانهض الى صهوات المجد معتليا

فالباز لم يأو إلا عالي القلل

٢ ـ الما على معن وقولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا

٣ ـ حاول جسيمات الأمور ولا تقل

إن المحامد والعلا أرزاق

٤ ـ فيا موت زر إن الحياة كريهة

ويا نفس جدي إن دهرك هازل

٥ ـ ليدع المدعون العلم والأدبا

فقد تغيّب عبد الله واحتجبا

٦ ـ أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا


المبحث الخامس في النهي

هو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء ، وليس له إلا صيغة واحدة ، هي : المضارع ، مع لا الناهية ، نحو : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)(١).

ومدلوله طلب الكف عن الفعل فورا كما يستفاد من تتبع فصيح التراكيب ، وقد يستعمل منه معان أخرى تفهم بالقرائن من سياق الحديث تجوزا واتساعا في الاستعمال ، وأهمها :

١ ـ الدعاء ، نحو : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(٢).

٢ ـ الإرشاد ، نحو :

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

٣ ـ التهديد ، نحو : لا تنته عن غيك.

٤ ـ التيئيس ، نحو :

فلا يخدعنك لموع السراب

ولا تأت أمرا إذا ما اشتبه

٥ ـ الالتماس ، نحو :

لا تطويا السر عني يوم

نائبة فإن ذلك ذنب غير مغتفر

٦ ـ التمني ، نحو :

أعيني جودا ولا تجمدأ

ألا تبكيان لصخر الندى

٧ ـ التوبيخ ، نحو :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

٨ ـ التسلية والصبر ، نحو : ولا تجزع فإن الله رحيم بعباده.

نموذج

أذكر ما يراد بصيغ النهي الآتية :

١ ـ (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٣).

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٨٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٦.

(٣) سورة البقرة الآية ٤٢.


٢ ـ لا تكن رطبا فتعصر ، ولا يابسا فتكسر.

٣ ـ لا تعتذروا اليوم.

٤ ـ لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

٥ ـ لا تحتجب عن العيون أيها القمر.

٦ ـ لا تعرضن لجعفر متشبها

بندى يديه فلست من أنداده

الاجابة

(١) التوبيخ لهم على خلطهم الحق بالباطل.

(٢) الإرشاد الى حسن الخلق.

(٣) التيئيس.

(٤) التوبيخ والتقريع.

(٥) التمني.

(٦) التوبيخ والتأنيب.

تمرين (١)

ماذا يراد بصيغ النهي الآتية :

(١) ولا تمش في الأرض مرحا.

(٢) ولا يضار كاتب ولا شهيد.

(٣) ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك.

(٤) ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا.

(٥) لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم.

(٦) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.

تمرين (٢)

١ ـ ولا يغرنك بشر من أخي ملق

فرونق الآل لا يشفى من الغلل

٢ ـ لا تلهينك عن معادك لذة

تفنى وتورث دائم الحسرات

٣ ـ لا تودع السر مشّاء به مذلا

فما رعى غنما في الدوّ سرحان (١)

__________________

(١) المشاء كثير الوشاية ، والمذل المفسد ، والدو الفلاة ، والسرحان الذئب.


٤ ـ لا تلتمس من عيوب الناس ما ستروا.

٥ ـ لا تحسبنّ سرورا دائما أبدا.

٦ ـ لا تعاد الناس في أوطانهم.

المبحث السادس في النداء

هو دعوة المخاطب بحرف نائب مناب فعل كأدعو ونحوه ، وأدواته ثمان :

يا والهمزة وأي وآي وآ وأيا وهيا ووا.

وهي في الاستعمال قسمان :

١ ـ الهمزة وأي للقريب.

٢ ـ باقي الأدوات للبعيد.

وقد ينزل البعيد منزلة القريب فينادى بالهمزة أو أي تنبيها على أنه لا يغيب عن القلب ، بل هو مالك الفؤاد واللب ، فكأنه حاضر الجثمان ، ليس بناء عن العيان ، كقول الضبيّ في رثاء ابنه :

أأبيّ لا تبعد وليس بخالد

حي ومن تصب المنون بعيد

كما قد يعكس فينزل القريب منزلة البعيد فينادى بإحدى أدواته إما :

(أ) للدلالة على أن المنادى رفيع القدر عظيم الشأن فيجعل بعد المنزلة كأنه بعد في المكان كقول أبي بكر بن النطاح في مدح أبي دلف العجلي :

أبا دلف بوركت في كل بلدة

كما بوركت في شهرها ليلة القدر (١)

(ب) للإشارة الى أنه وضيع ، منحط الدرجة ، وعليه قول الفرزدق يهجو جريرا :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

(ج) للإشعار بأن السامع غافل لاه ، فتعتبره كأنه غير حاضر في مجلسك ، وعليه قول البارودي :

يأيها السادر المزورّ من صلف

مهلا فإنك بالأيام منخدع (٢)

__________________

(١) أبو دلف العجلي أحد القواد الشجعان في عهد المأمون والمعتصم ، توفي سنة ٢٦٢ ه‍.

(٢) السادر الذاهب عن الشيء ترفعا ، والمزور المنحرف ، والصلف الكبر.


وقد تخرج ألفاظ النداء الى معان أخرى تستفاد من القرائن ، ومن ذلك :

١ ـ التحسر والتوجع ، كقول حافظ في الرثاء :

يا درة نزعت من تاج والدها

فأصبحت حلية في تاج رضوان

وقول من رثى معن بن زائدة :

فيا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البر والبحر مترعا (١)

٢ ـ التعجب ، كقول طرفة :

يا لك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري (٢)

٣ ـ الاختصاص ، كقوله :

إنا بني نهشل لا ندعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

٤ ـ الندبة ، كقول أبي العلاء :

فوا عجباكم يدعى الفضل ناقص

ووا أسفاكم يظهر النقص فاضل

٥ ـ الإغراء ، كقولك للجندي المتردد في الدفاع : يا شجاع تقدم.

٦ ـ الزجر والملامة ، نحو :

أفؤادي متى المتاب ألما

تصح والشيب فوق رأسي ألما (٣)

٧ ـ الاستغاثة ، نحو :

يا للرجال ذوي الألباب من نفر

لا يبرح السفيه المردي لهم دينا (٤)

٨ ـ التحير والتذكر ، وقد كثر ذلك في نداء الأطلال والمنازل والمطايا ، كقوله :

أيا منازل سلمى أين سلماك

من أجل هذا بكيناها بكيناك (٥)

__________________

(١) المترع المملوء.

(٢) الشطر الثاني يضرب مثلا للحاجة يتمكن منها صاحبها.

(٣) ألم الثانية بمعنى نزل.

(٤) المردي المهلك ، والدين العادة.

(٥) فيه حذف حرف العطف ، أي وبكيناك ، يريد أنه بكى على سلمى ، وبكى على المنازل لعدم وجود سلمى بها.


وقول أبي العلاء :

يا ناق جدي فقد أفنت أناتك بي

صبري وعمري وأحلاسي وأنساعي (١)

تنبيه

الأكثر أن يصحب النداء أمر أو نهي ، نحو : يأيها الناس اعبدوا ربكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٢).

ويقل أن تصحبه الجملة الخبرية ، نحو : يا عباد لا خوف عليكم اليوم.

أو الاستفهامية ، نحو : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر.

نموذج

بيّن المعاني التي تستفاد من النداء :

١ ـ يا ليل قد طلت فهل مات السحر

أم استحالت شمسه الى القمر

٢ ـ يا راحلا أخلي الديا

ر وفضله أم يرحل

٣ ـ صادح الشرق قد سكت طويلا

وعزيز عليه ألا تقولا

٤ ـ أبا الهول طال عليك العصر

وبلّغت في الأرض أقصى العمر

٥ ـ يا ابن أمي ويا حبيّب نفسي

أنت خلّفتني لدهر شديد

٦ ـ يا أيها القمر المباهي وجهه

لا تكذبن فلست من أشكاله

الاجابة

(١) المراد بالنداء التحير والتضجر.

(٢) يراد به التحسر.

(٣) التذكر والتضجر.

(٤) التعجب.

(٥) التحسر والتأسف.

(٦) الزجر والملامة.

__________________

(١) الأناة التأني والتأخر ، والاحلاس جمع حلس وهو كساء يطرح على ظهر البعير ، والانساء جمع نسع وهو سير عريض يوضع في صدر البعير.

(٢) أي لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل وإما مقتدين برسول الله (ص).


تمرين

بيّن المعاني المستفادة من النداء فيما يلي :

١ ـ ويك يا قبر صرت للفضل مثوى

لا يسامى وللنبوغ مقيلا

٢ ـ أحجّاج لا يقلل سلاحك إنما

المنايا بكف الله حيث يراها

٣ ـ أمحمد والجود فيك سجية

يهنيك طيّب ذكرها يهنيكا

٤ ـ فيصاحبي رحلي دنا الموت فانزلا

برابية إني مقيم لياليا

٥ ـ ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي

بصبح وما الأصباح منك بأمثل

٦ ـ يا موته لو أقلت عثرته

يا يومه لو تركه لغد


الباب الثالث في الذكر

لم يتعرض لهذا الباب كثير من أئمة هذا الفن كأبي هلال العسكري والإمام عبد القاهر ، وكأنهم لم يروا فيه من اللطائف والمزايا ما يسيغ البحث عنه في علوم الفصاحة إذ هو بمباحث علم النحو أشبه.

ولكن المتأخرين كالسكاكي وشيعته ذكروا فيه نكات ومزايا لم يستطيعوا أن يردفوها بآي من التنزيل ، أو بشواهد من كلام ذوي اللسن والفصاحة ، وقصارى ما قالوه إن المسند اليه يذكر وجوبا اذا لم تقم قرينة تدل عليه كان الكلام معمى لا يستبين المراد منه ، ويترجح اذا وجدت القرينة لمزية من المزايا الآتية :

١ ـ أنه الأصل وليس هناك ما يقتضي العدول عنه ، كما تقول : هذا أخي وذلك صديقي.

٢ ـ زيادة الكشف والإيضاح ، كما تقول : اللبيب من فكّر في العواقب ، اللبيب من خالف نفسه الأمارة بالسوء.

وعليه قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١). ففي تكرير اسم الإشارة تنبيه الى أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح أيضا ، فجعلت كل واحدة منهما في تمييزهم بها عن غيرهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها ، قاله في «الكشاف».

بسط الكلام في مقام الافتخار ، كقول سامي البارودي :

أنا مصدر الكلم البوادي

بين المحاضر والنوادي

أنا فارس أنا شاعر

في كل ملحمة ونادي

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٥.


٤ ـ التسجيل على السامع حتى لا يتأتي له الانكار ، كقول الفرزدق يمدح زين العابدين :

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

٥ ـ الاستلذاذ بذكر الاسم المحبوب ، كما يكرر المادحون ذكر ممدوحيهم ، كقوله :

فعباس يصد الخطب عنا

وعباس يجير من استجارا

٦ ـ التهويل ، كما تقول : ملك البلاد يأمرك بكذا.

٧ ـ التعظيم ، اذا كان اللفظ يفيد ذلك ، كما يقال في جواب أحضر الملك؟ : حضر سيف الدولة.

٨ ـ التحقير ، اذا كان اللفظ يشعر بالإهانة ، نحو : حضر المجرم في جواب : هل حضر فلان؟

٩ ـ التعجب ، اذا كان الحكم غريبا في مجرى الالف والعادة ، نحو : علي يصرع الأسد في جواب : هل يصرع علي الأسد؟

١٠ ـ ضعف القرينة ، فتقل الثقة بها فلا يعتمد عليها ، نحو : أول الإنسان نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة.

ويذكر المسند اللطائف ومزايا تشبه ما ذكر في المسند اليه ، أهمها :

(١) كون الذكر هو الأصل ولا داعي للعدول عنه ، نحو : الأدب خير من العلم.

(٢) الرد على المخاطب ، اذا كان ينكر صحة ما يقال له ، كقوله تعالى : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) بعد قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(١).

(٣) الاحتياط لضعف التعويل على القرينة نحو : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٢).

(٤) التعريض بغباوة المخاطب ، نحو : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) بعد قوله (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)(٣).

__________________

(١) سورة ياسين الاية ٧٩.

(٢) سورة الزخرف الاية ٩.

(٣) سورة الانبياء الاية ٦٢.


(٥) إفادة أنه فعل فيفيد التجدد والحدوث مقيدا بأحد الأزمنة على أخصر طريق أو اسم فيفيد الثبوت مطلقا مثل : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(١) ، فإن يخادعون يفيد التجدد حينا بعد آخر مقيدا بالزمان بدون حاجة الى قرينة تدل عليه ، وقوله : وهو خادعهم ، يفيد الثبوت مطلقا من غير نظير الى زمان مخصوص.

نموذج

بيّن السر في ذكر المسند اليه أو المسند ، فيما يلي :

١ ـ وقد علم القبائل من معد

اذا قبب بأبطحها بنينا

بأنا المطعمون إذا قدرنا

وأنا المهلكون اذا ابتلينا

٢ ـ قال عليه‌السلام : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

٣ ـ أعينيّ جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجواد الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا

٤ ـ قال الحافظ في وصف الشمس :

هي أم الأرض في نسبتها

هي أم الكون والكون جنين

هي أم النار والنور معا

هي أم الريح والماء المعين

٥ ـ أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب.

٦ ـ الرجال المخلصون هم الذين يذودون عن الوطن ، الرجال المخلصون هم الذين يظهرون عند الشدائد.

٧ ـ مليك البلاد يأمر بالعدل والانصاف.

الاجابة

(١) ذكر المسند اليه لبسط الكلام في معرض الفخر.

(٢) ذكر المسند اليه لزيادة التقرير والإيضاح.

__________________

(١) سورة النساء الاية ١٤٢.


(٣) ذكر المسند لإفادة التجدد بالجملة الفعلية.

(٤) ذكر المسند اليه لأن المقام مقام تعظيم وتفخيم.

(٥) ذكر المسند اليه لأن المقام للافتخار.

(٦) ذكر المسند اليه لتعظيم شأن الرجال العاملين.

(٧) ذكر المسند اليه للتهويل.

تمرين

بيّن أسباب ذكر المسند اليه أو المسند ، فيما يلي :

١ ـ إن حل في روم ففيها قيصر

أو حل في عرب ففيها تبع

٢ ـ ونحن النار كون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

٣ ـ وإني لحلو تعتريني مرارة

وإني لتراك لما لم أعود

٤ ـ إلهي نصيري ، يحفظني شر الهمازين المشائين بنميم

٥ ـ أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين

٦ ـ (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١)

٧ ـ إذا نزل الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام اذا هز القناة سقاها

__________________

(١) سورة الطارق الآية ١٧.


الباب الرابع في الحذف

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول في مزايا الحذف وشروطه

من دقائق اللغة ، وعجيب سرها ، وبديع أساليبها ، أنك قد ترى الجمال والروعة تتجلى في الكلام اذا أنت حذفت أحد ركني الجملة أو شيئا من متعلقاتها ، فإن أنت قدرت ذلك المحذوف وأبرزته صار الكلام الى غث سفساف ونازل ركيك لا صلة بينه وبين ما كان عليه أولا.

ومن ثم قال في «دلائل الإعجاز» : هذا باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر ، والصمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون اذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانا اذا لم تبين ، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر ، وتدفعها حتى تنظر. اه.

ومن شرط الحذف أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف ، وإلا كان تعمية وإلغازا ، ومن شرط حسنه أنه متى أظهر المحذوف زال ما كان في الكلام من البهجة والطلاوة ، وهو على ضربين :

١ ـ ضرب يظهر فيه المحذوف عند الاعراب كقولهم : أهلا وسهلا ، فإن نصب الأهل والسهل يدل على ناصب محذوف يقدر بنحو : جئت أهلا ونزلت مكانا سهلا ، وليس لهذا الحذف من الحسن والاريحية ما تجده في قسميه الثاني.

٢ ـ ضرب لا يظهر بالاعراب ، وإنما تعلم مكانه اذا أنت تصفحت المعنى ووجدته لا يتم اذا لم يراع ذلك المحذوف كما يقال : فلان يحل ويعقد ، ويعطي ويمنع ، إذ من البين أن المعنى يحل الأمور ويعقدها ، ويعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء ، ولكن لا سبيل الى إظهار ذلك المحذوف ، ولو أظهرته زالت تلك البهجة وضاع ما تشعر به من رواء وجمال.


المبحث الثاني في حذف المسند اليه

يحذف المسند اليه لأغراض ، أهمها :

١ ـ ظهوره بدلالة القرائن عليه ، فذكره يعد حينئذ عبثا في الظاهر (١) كقوله تعالى : (فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)(٢) أي أنا.

٢ ـ ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب التوجع والتضجر ، نحو :

قال لي كيف أنت قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

٣ ـ إخفاء الأمر عن غير المخاطب ، كما تقول : (انتهت) ، أي المسألة المعهودة بينكما.

٤ ـ خوف فوات فرصة سانحة ، كقول من رأى طيارا مقبلا : طيار.

٥ ـ المحافظة على سجع أو قافية ، فالأول نحو : من طابت سريرته حمدت سيرته ، أي حمد الناس سيرته. والثاني نحو :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن ترد الودائع (٣)

٦ ـ اتباع الاستعمال الوارد بالحذف كقولهم في المثل : رمية من غير رام (٤) ، أي هذه رمية ، أو الوارد على ترك نظائره ، كما في الرفع على المدح ، أو الذم أو الترحم ، فإن المسند اليه لا يكاد يذكر في هذه المواضع ، فيقولون بعد أن يذكروا (٥) الممدوح : غلام من شأنه كذا وكذا ، وفتى من شأنه كيت وكيت ، كما قال ابن عنقاء الفزاري يمدح عميلة ، وقد شاطره ماله لما رآه معوزا :

رآني على ما بي عميلة فاشتكي

الى ماله حالي أسركما جهر

غلام رماه الله بالخير يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر (٦)

__________________

(١) وإلا فلا عبث في ذكره على الحقيقة لأنه أحد ركني الاسناد.

(٢) سورة الزاريات الاية ٢٩.

(٣) إذ لو قيل أن يرد الناس الودائع لاختلفت القافية.

(٤) يريد رمية مصيبة من رام غير محسن ، يضرب مثلا لمن صدر منه فعل حسن ليس أهلا لأن يصدر منه. قاله الحكم بن عبد يغوث المضري.

(٥) قال الرازي : يشبه أن يكون السبب في ذلك أنه بلغ في استحقاق الوصف الى حيث أنه لا يكون إلا للموصوف ، سواء أكان في نفسه كذلك ، أم بحسب دعوى الشاعر على طريق المبالغة.

(٦) رماه الله وضع فيه ، واليافع الشاب ، والسيمياء العلامة والهيئة ، ولا تشق على البصر أي تفرح به من ينظر اليه.


وكما قال عبد الله الأسدي يمدح عمرو بن عثمان بن عفان :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى اذا النعل زلت

رأى خلني من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت (١)

وبعد أن يذكروا الديار والمنازل ربع كذا وكذا كما قال :

اعتاد قلبك من ليلى عوائده

وهاج أهواءك المكنونة الطلل

ربع قراء أذاع المعصرات به

وكل حيران سار ماؤه خضل (٢)

٧ ـ تعيينه وعدم احتمال غيره ، إما بحسب الحقيقة والواقع ، كما تقول : خلاق لما يشاء ، أي الله تعالى ، وإما بحسب المبالغة والادعاء ، كما يقول المادح وهّاب الألوف أي الممدوح.

٨ ـ تكثير الفائدة باحتمال أمرين عند الحذف ، نحو قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣) ، أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل بي وأولى.

٩ ـ تأتي الانكار عند الحاجة إلى ذلك ، كما يقال : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)(٤) اذا قامت القرينة على أن المراد خالد مثلا.

١٠ ـ إيهام العدول الى أقوى الدليلين ، وهو الدليل العقلي دون اللفظي ، فإن الاعتماد عند الذكر على دلالة اللفظ وعند الحذف على دلالة العقل وهي أقوى وإنما قيل لإيهام ، لأن الدال في الحقيقة عند الحذف هو اللفظ المدلول عليه بالقرينة ويحتمله (قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل).

ومن حذف المسند اليه ما اذا أسند الفعل الى نائب الفاعل لاعتبارات ، منها :

١ ـ جهل الفاعل ، كقول المرقش الأكبر :

إن تبتدر غاية يوما لمكرمة

تلق السوابق منا والمصلينا

__________________

(١) زلت النعل كناية عن الخصاصة والفاقة.

(٢) أذاع المعصرات أنزلت ماءها بكثرة ، والحيران الساري هو المزن يجري ليلا ، والخضل الصافي ، وربع قواء لا انيس به.

(٣) سورة يوسف الاية ١٨.

(٤) سورة القلم الاية ١١.


٢ ـ الخوف عليه ، كقول النابغة يعتذر إلى النعمان :

نبئت أن أبا قابوس أو عدني

ولا قرار على زأر من الأسد (١)

٣ ـ العلم به ، كقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج :

أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال

منايا بكف الله حيث يراها

٤ ـ احتقاره ، كقول النابغة :

لئن كنت قد بلّغت عني وشاية

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب

٥ ـ الخوف منه ، كما تقول : صودرت أموال فلان ، اذا كان ظالم ذو سطوة. قد أخذها.

المبحث الثالث في حذف المسند

يحذف المسند لأغراض ، منها :

١ ـ قصد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر مع ضيق المقام بسبب التحسر والتوجع كقول ضابىء البرجمي من أبيات قالها في الحبس :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب (٢)

تقديره فإني لغريب وقيار كذلك ، والباعث على تقديم قيار على خبر إن قصد التسوية بينهما في التحسر على الاغتراب حتى كأن قيارا تأثر بما تأثر هو به أيضا ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٣) تقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.

٢ ـ الثقة بشهادة العقل دون الاعتماد على اللفظ كما تجيب من قال : هل لك أحد؟ إن الناس إلب (٤) عليك (إن محمدا وإن عليا) أي إن لي محمدا ، وإن لي عليا ، وعليه قول الأعشى :

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضوا مهلا

يريد أن لنا محلا في الدنيا ، وإن لنا مرتحلا عنها الى الآخرة.

__________________

(١) أبو قابوس كنية النعمان بن المنذر والمنيء له عصام حاجب النعمان ، وقد أسر له بذلك.

(٢) في الأساس الماء في رحله أي منزله ومأواه ، وقيار اسم جمل ، والبيت خبر أريد به إنشاء التحسر والتوجع من الغربة.

(٣) سورة التوبة الآية ٦٢.

(٤) مجتمعون على عداوتك.


٣ ـ الدلالة على الاختصاص ، نحو : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي.

تقديره لو تملكون تملكون بالتكرار للتوكيد ، ثم حذف الفعل فانفصل الضمير وأفاد الاختصاص ، وأن الناس هم المختصون بالشح المتناهي ، ونظيره قول حاتم : لو ذات سوار لطمتني (١).

ولا بد للحذف من قرينة دالة على المحذوف ليفهم المعنى كوقوع الكلام جوابا عن سؤال محقق نحو : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٢) أو مقدر ، نحو : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ، في قراءة من بني الفعل للمجهول ، كأنه قيل : من يسبح؟ فقيل : يسبحه رجال ، ونحو قول ضرار بن نهشل يرثي يزيد أخاه :

لبيك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطبح الطوائح (٣)

كأنه قيل : من يبكيه؟ فقال : ضارع ذليل لخصومة إذ هو ملجأ الأذلاء وعون الضعفاء.

المبحث الرابع في حذف المفعول

للفعل رابطة بكل من الفاعل والمفعول ، وإن تنوعت جهتها ، فارتباطه بالفاعل لإفادة وقوعه منه لا إفادة وجوده في نفسه فحسب ، وارتباطه بالمفعول لبيان وقوعه عليه.

ولاختلاف نوع الارتباط اختلف العمل ، فعمل الفعل في الفاعل الرفع ، وفي المفعول النصب ، أما اذا أريد الإخبار بوقوع الفعل في ذاته من غير إرادة أن يعلم ممن وقع ، أو على من وقع ، فالعبارة التي تدل على ذلك أن يقال : كان ضرب ، أو وقع أو وجد أو نحو ذلك من الألفاظ التي تدل على الوجود المجرد.

اذا علمت ذلك نقول : الفعل المتعدي اذا أسند الى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين :

__________________

(١) يضرب مثلا للشريف يهينه الوضيع ، والعرب تكنى بذات السوار عن الحرة.

(٢) سورة الزمر الآية ٣٨.

(٣) الضارع الذليل ، والمختبط هو الذي يطلب منك المعروف من غير وسيلة ، والاحاطة الاذهاب ، والطوائح جمع مطيحة على غير قياس ، ومما متعلق بمختبط وما مصدرية أي يبكي ضارع لا ذهاب المنايا يزيد.


١ ـ أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل من غير اعتبار عمومه وخصوصه ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه ، وحينئذ يكون المتعدي بمنزلة اللازم فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به ، باعتبار تعلقه بالمفعول ، ألا ترى أنك اذا قلت : فلان يعطي الدنانير ، كان المقصد بيان جنس المعطي لا بيان كونه معطيا ، ويكون كلاما مع من أثبت له إعطاء ولا يدري ما معطاه ، كما لا يقدر له مفعول أيضا ، لأن المقدر في حكم المذكور ، وهذا الضرب نوعان :

(أ) أن يجعل الفعل حال كونه مطلقا عن اعتبار العموم والخصوص كناية (١) عنه متعلقا بمفعول مخصوص بدلالة سبق ذكر أو دليل حال إلا أنك تنسيه نفسك وتوهم أنك لم تذكر الفعل إلا لأن تثبت معناه من غير أن تقصد تعديته الى مفعول مخصوص ، وعليه قول البحتري يمدح المعتز بالله ويعرّض بالمستعين بالله :

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع (٢)

فالمعنى المراد أن يرى مبصر آثاره ويسمع واع أخباره ، ولكنه أغفل هذين المفعولين وأبعدهما عن وهمه (٣) ليتسنى له أن يبين أن محاسن الممدوح قد ذاع صيتها واشتهر أمرها فلا تخفى على ذي بصر وسمع ، فيكفي في معرفة أنها سبب في استحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتى يعلم الرائي والسامع أنه لا يليق لمقام الخلافة غيره ، ومن ثم ترى الحساد والعدا يتمنون ألا توجد عين تبصر ولا أذن تسمع لنخفي هذه الفضائل فيجدوا الى منازعته فيها سبيلا.

__________________

(١) فالمطلق يجعل كناية عن المقيد فالفعل عند تنزيله منزلة اللازم يكون مدلوله الماهية الكلية ، ثم بعد ذلك يكون كناية عن شيء مخصوص ، فيكون مدلوله جزئيا ، والمقيد وإن لم يكن لازما للمطلق يدعى فيه اللزوم بالقرينة.

(٢) شجاه الأمر أحزنه.

(٣) ونزلهما منزل اللازمين أي تصدر منه الرؤية والسماع من غير تعلق بمفعول مخصوص ثم جعلهما كنايتين عن الرؤية والسماع المتعلقين بمفعول مخصوص هو محاسنه وأخباره بادعاء الملازمة بين مطلق الرؤية ورؤية محاسنه وبين مطلق السماع وسماع أخباره للدلالة على أن آثاره وأخباره بلغت من الشهرة مبلغا لا يستطيع خفاؤها معه فلا يرى الرائي إلا آثاره ولا يسمع إلا أخباره ، فذكر الملزوم وأراد اللازم على ما هو طريق الكناية.


(ب) ألا يجعل كناية عن مفعول مخصوص ، بل يقصد إثبات المعنى في نفسه من غير تعرض لمفعول كقولهم : فلان يحل ويعقد ويأمر وينهي ويضر وينفع ، فالمقصود أن له حلا وعقدا وأمرا ونهيا وضرا ونفعا ، وعليه قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) ، فالمعنى : هل يستوي من له علم ومن لا علم له ، وقوله عز اسمه : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(٢).

٢ ـ أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول ، ويجب تقديره بحسب القرائن ، ويحذف حينئذ لداع من الدواعي الآتية ، وهي :

١ ـ البيان بعد الإبهام ليكون أوقع في النفس كما فعل في المشيئة اذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة ، فتقول : لو شئت جئت ولو شئت لم أجيء ، علم السامع أن هاهنا شيئا تعلقت المشيئة بوجوده أو عدمه ، فإذا قلت : جئت أو لم أجيء عرف ذلك الشيء ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٣) ، وقول البحتري :

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ولم تهدم مآثر خالد

فإن كان تعلق الفعل به غرابة ذكر المفعول ليتقرر في نفس السامع ويأنس به كما يقول الرجل مخبرا عن عزه : لو شثت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته ، وعليه قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ)(٤) ، وقول إسحاق الخزيمي يرثي حفيده :

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

لأنه لما كان من البدع العجيب أن يقابل أحد الخليفة كل يوم ، وأن يريد رب العالمين ولدا ، وأن يشاء الإنسان بكاء الدم صرح فيها بذكر المفعول.

٢ ـ دفع توهم الساهم من أول وهلة إرادة شيء غير ما هو مراد ، كقول البحتري يذكر ذود الممدوح ومساعدته إياه :

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٩.

(٢) سورة النجم الآية ٤٣.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

(٤) سورة الزمر الآية ٤.


وكم ذدت عني من تحامل حادث

وسورة أيام حززن الى العظم

إذ لو قال : حززن اللحم ، لجاز أن يدور في خلد السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم يصل الى العظام ، فترك ذكر اللحم لينفي عن فكره ما ربما يختلج في خاطره باديء ذي بداءة.

٣ ـ إرادة ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه لكمال البناية به والاهتمام بوقوعه ، كقول البحتري :

قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ

دد والمجد والمكارم مثلا

إذ تقديره طلبنا لك مثلا فلم نجده ، لكنه حذف المثل ليوقع نفي الوجود على لفظ المثل صراحة.

(الملاحظة) مثل هذا الغرض عكس ذو الرمة في قوله :

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أصاب مالا

فأعمل الفعل الأول وهو أمدح في لفظ اللئيم وأعمل أرض في ضميره ، لما كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون الإرضاء ، ولو عكس لأبهم الأمر فيما هو الأصل وأبانه فيما ليس بأصل.

٤ ـ قصد التعميم مع الاختصار (١) ، كما تقول : قد كان منك ما يؤلم ، أي ما الشأن في مثله أن يؤلم كل أحد ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)(٢) ، أي جميع عباده.

٥ ـ رعاية السجع وروي الفاصلة كقوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣) ، أي ما قلاك وأبغضك.

ويرى صاحب «الكشاف» أن حذف المفعول في مثل هذا الاختصار اللفظي لعلم به.

٦ ـ استهجان ذكره ، كقول عائشة رضي‌الله‌عنها : ما رأيت منه ولا رأى مني (تعني العورة).

__________________

(١) أي إن هذا التعميم ، وإن استفيد من ذكر المفعول بصيغة المفعول ، يفوت الاختصار.

(٢) سورة يونس الآية ٢٥.

(٣) سورة الضحى الآية ١.


٧ ـ مجرد الاختصار كقولك : أصغيت اليه أذني وأغضيت عليه أي بصري ومنه قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(١) ، أي بعثه الله.

٨ ـ تعينه ، كقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً)(٢) ، أي لينذر الذين كفروا.

وكثير من الأغراض السابقة تجري هنا كإخفائه على غير السامع أو التمكن من إنكاره عند الحاجة أو ادعاء تعينه أو نحو ذلك.

تدريب

بيّن أسباب حذف المسند اليه أو المسند أو المفعول ، فيما يلي :

١ ـ برّد حشاي إن استطعت بلفظة

فلقد تضر إذا تشاء وتنفع

٢ ـ قال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)(٣).

٣ ـ لسن اذا صعد المنابر أو نضا

قلما شأى الخطباء والكتّابا (٤)

٤ ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ)(٥).

٥ ـ حريص على الدنيا مضيع لدينه

وليس لما في بيته بمضيع

٦ ـ (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)(٦).

٧ ـ خليل لا يغيره صباح

عن الخلق الجميل ولا مساء

٨ ـ وإني رأيت البخل يزري بأهله

فأكرمت نفسي أن يقال بخيل

الاجابة

(١) حذف المفعول ، أي تضرني وتنفعني لتنزيل الفعل منزلة اللام ، إذ المراد أنه يحصل منك نفع وضرر.

(٢) حذف المفعول رعاية لحسن الكلام ، وتجانس الفواصل ، وتقديره : آواك وهداك.

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ٤١.

(٢) سورة الكهف الآية ٢.

(٣) الضلال هنا الجهل بالشرائع وما طريقه السمع ... الآيتان ٦ و ٧ من سورة الضحى.

(٤) نضا أمسك ، وشأى سبق.

(٥) سورة هود الآية ٤٤.

(٦) سورة الزخرف الآية ٥٧.


(٣) حذف المسند اليه أي هو لسن لا دعاء العلم به.

(٤) حذف المسند اليه وهو الله تعالى للعلم به في باب المدح.

(٥) حذف المسند اليه لا دعاء العلم به في باب الذم.

(٦) حذف المسند اليه للعلم به وهو الله تعالى.

(٧) حذف المسند اليه للعلم به ادعاء في باب المدح.

(٨) حذف المسند اليه للجهل به.

تدريب ثان

١ ـ على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخرج منه لا عليّ ولا ليا

٢ ـ وعد بالحضور ليلا (تقصد شخصا معهودا).

٣ ـ يقول مبصر اللص : لص.

٤ ـ شرير غبي مشاء بنميم.

٥ ـ أرني أنظر اليك.

٦ ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ، قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ)(١).

٧ ـ (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ)(٢).

٨ ـ فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ولكن الرماح أجرت

الاجابة

(١) حذف المسند للمحافظة على الوزن والأصل : لا عليّ شيء ولا لي شيء.

(٢) حذف المسند اليه لإخفاء الأمر على غير المخاطب.

(٣) حذف المسند اليه لانتهاز الفرصة والأصل : هذا لص.

(٤) حذف المسند اليه لتأتي الإنكار عند الحاجة.

(٥) حذف المفعول للاختصار والأصل : أرني ذاتك.

__________________

(١) سورة القصص الآيتان ٢٢ و ٢٣.

(٢) سورة الشورى الآية ٢٤.


(٦) حذف المفعول هنا في مواضع ، فحذف مفاعيل : يسقون وتذودان ونسقي ، لتنزيل الفعلة منزلة اللازم ، لأنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومستقيمهم إبل مثلا ، وكذلك قولهما : لا نسقي ، المقصود منه السقي لا المسقى.

(٧) حذف المفعول في باب المشيئة للبيان بعد الإبهام.

(٨) حذف المفعول هنا لجعل الفعل المطلق كناية عن الفعل متعلقا بمفعول معين ، لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن مدحهم والافتخار بهم ليتوصل الى مطلوبه وهو أنها أجرته.

تمرين

بيّن أسباب الحذف فيما يلي :

١ ـ جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين فزلت (١)

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا

تلاقي الذي لاقوه منا لملت

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا

إلى حجرات أدفأت وأظلت

٢ ـ فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت

مخافة ملوى من القد مخصد (٢)

٣ ـ قوم اذا أكلوا أخفوا حديثهم

واستوثقوا من رتاج الباب والدار

٤ ـ وما أدراك ما هي نار حامية

٥ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(٣)

٦ ـ كل عذر من كل ذنب ولكن

أعوز العذر من بياض العذار (٤)

٧ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطويّ رماني (٥)

٨ ـ قد قال عزولي مناك أتى

فأجبت وقلت كذبت متى

فقال حبيبك ذو خفر

وكبير السن قلت فتى

__________________

(١) زلت النعل كناية عن الفقر.

(٢) الأرقال سرعة السير ، والقد جلد غير مدبوغ ، والملوى المفتول ، والمخصد المحكم الفتل.

(٣) سورة الجن الآية ١٠.

(٤) أعوز ضاق.

(٥) الطوي البئر المبنية ، وقد كان خصمه رماه باللصوصية.


الباب الخامس في التقديم

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول في مزايا التقديم وأقسامه

الألفاظ قوالب المعاني ، فيجب أن يكون ترتيبها الوضعي بحسب ترتيبها الطبعي ، ومن البين أن رتبة المسند اليه التقديم لأنه المحكوم عليه ، ورتبة المسند التأخير ، إذ هو المحكوم به ، وما عداهما فتوابع ومتعلقات تأتي تالية لهما في الرتبة.

ولكن قد يعرض لبعض الكلم من المزايا ما يدعو الى تقديمه ، وإن كان حقه التأخير ، فيكون من الحسن تغيير هذا النظام ليكون المقدم مشيرا الى الغرض الذي يراد ، ومترجما عما يقصد منه. ومن ثم قال في «دلائل الإعجاز» : إن هذا التقديم كثير الفوائد ، جم المحاسن ، لا يزال يفترّ لك عن بديعة ، ويفضي بك الى لطيفة ، ولا تزال ترى شعرا يروقك سجعه ، ويلطف لديك موقعه ، ثم تنظر فتجد سبب ان راقك ولطف عندك ، ان قدم فيه شيء وحول اللفظ من مكان الى مكان. اه.

وللتقدم أحوال أربع :

١ ـ ما يفيد زيادة في المعنى مع تحسين في اللفظ ، وذلك هو الغاية القصوى ، وإليه المرجع في فنون البلاغة ، والعمدة في هذا هو الكتاب الكريم انظر قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(١) تجد أن تقديم الجار والمجرور في هذا قد أفاد التخصيص ، وأن النظر لا يكون إلا لله ، مع جودة الصياغة وتناسق السجع.

__________________

(١) سورة القيامة الآية ٢٢.


٢ ـ ما يفيد زيادة في المعنى فحسب نحو : بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، فتقديم المفعول في هذا لتخصيصه بالعبادة دون سواه ، ولو أخر لم يفد الكلام ذلك.

٣ ـ ما يتكافأ فيه التقديم والتأخير ، وليس لهذا الضرب شيء من الملاحة ، نحو :

وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت

(بحمد إلهي) وهي منه سليب (١)

فتقديره : ثم أصبحت وهي منه سليب بحمد الله.

٤ ـ ما يختل به المعنى ويضطرب ، وذلك هو التعقيد اللفظي ، أو المعاظلة التي تقدمت كتقديم الصفة على الموصوف ، والصلة على الموصول ، ونحو ذلك ، كقول الفرزدق :

إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

إذ تقديره الى ملك أبوه ما أمه من محارب ، أي ما أم أبيه منهم ، ولا شك أن هذا لا يفهم من كلامه للنظرة الأولى ، بل يحتاج الى تأمل ورفق حتى يفهم المراد منه.

المبحث الثاني في تقديم المسند اليه

يقدم المسند اليه لأغراض ، منها :

١ ـ أنه الأصل إذ هو المحكوم عليه ولا مقتضى للعدول عنه ، نحو : العدل أساس الملك.

٢ ـ ليتمكن الخبر في ذهن السامع ، لأن في المبتدأ تشويقا اليه كقوله تعالى :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢) ، وقول أبي العلاء :

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

يريد أن الخلائق تحيرت في المعاد الجسماني ، كما يرشد الى ذلك ما قبله :

بأن أمر الإله واختلف الناس

فداع الى ضلال وهادي

فإتيانه بالمسند اليه على تلك الشاكلة موصوفا بحيرة البريّة فيه ، يستدعي تشوق السامع الى أن يعرف ما حكم به عليه ، فإذا جاء الخبر تمكن في النفس لما تقدمه من التوطئة له.

__________________

(١) سليب بمعنى مسلوب ، أي منتزع مأخوذ.

(٢) سورة الحجرات الآية ١٣.


٣ ـ تعجيل المسرة للتفاؤل ، لأن السامع اذا قرع سمعه في ابتداء الكلام ما يشعر بالسرور هشّ وفرح به ، نحو : الهدى في قلوب المخلصين.

٤ ـ تعجيل المساءة ليتطير السامع ويتبادر الى ذهنه حصول الشر باديء ذي بدء ، نحو : السجن على جهة التأييد حكم به عليك اليوم.

٥ ـ التبرك به نحو : اسم الله اهتديت به.

٦ ـ إيهام أنه لا يزول عن البال لكونه مطلوبا ، نحو : رحمة الله ترجى ، نصر الله قريب.

٧ ـ إفادة التخصيص إذا كان الخبر فعلا وولى المسند اليه حرف النفي ، نحو : ما أنا قلت هذا ، أي لم أقله وهو مقول لغيري. لا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول ، لكن تريد أن تنفي كونك قائلا له. ومنه قول المتنبي :

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا

إذ المعنى : ما أنا الجالب لهذا السقم الموجود والضرم الثابت ، ولأجل هذا لا تقول : ما أنا قلت هذا ولا أحد غيري للتناقض بين أول الكلام وآخره ، ولا ما أنا رأيت كل أحد ، لأنه يفيد أن غيرك رأى كل أحد ، ولا ما أنا كلمت إلا محمدا ، لأنه يقتضي أن يكون إنسان غيرك قد كلم كل أحد سوى محمد (١).

فإن لم يل المسند اليه حرف النفي (٢) ، فإما أن يكون معرفة أو نكرة ، فإن كان معرفة أفاد تقديمه أحد أمرين :

(أ) تخصيصه بالمسند ردا على من زعم انفراد غيره به أو مشاركته فيه ، كما تقول : أنا سعيت في حاجة فلان ، وعلى الأول يؤكد بنحو : لا غيري ، وعلى الثاني بنحو : وحدي. ومن الواضح في ذلك قولهم في المثل : أتعلمني بضبّ أنا حرشته (٣).

__________________

(١) لأن المستثنى منه مقدر عام وكل ما نفيته عن المذكور على وجه الحصر يجب ثبوته لغيره تحقيقا لمعنى الحصر سواء كان على وجه الخصوص أو على وجه العموم.

(٢) بألا يكون في الكلام حرف نفي ، أو يكون حرف النفي متأخرا عن المسند اليه.

(٣) حرش الضب صاده ، فهو حارش ، وهو أن يحرك يده على باب جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها وبذلك يأخذه ، يضرب مثلا لمن يريد أن يعلم المتعلم.


وقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا)(١) عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (٢) ، أي : لا يعلم أسرارهم ولا يطلع على دخائل ما أبطنوا من الكفر إلا نحن.

(ب) تقوية (٣) الحكم وتقريره لدى السامع بدون تخصيص ، كقولك : هو يعطى الجزيل ، وهو يحب الثناء. ألا ترى أنك لا تريد أن غيره لا يعطى الجزيل ولا يحب الثناء.

يرشد الى ذلك أن هذا الضرب يجيء فيما سبق فيه إنكار منكر ، نحو أن يقول الرجل : ليس لي علم بالذي تقول ، فتقول له : أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل الى خصمي ، وعليه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤) ، والفعل المنفي كالمثبت في ذلك ، فتارة يفيد التخصيص ، كما تقول : أنت ما سعيت في حاجتي ، وتارة يفيد التقوية نحو : أنت لا تكذب ، وعليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(٥).

وإن كان نكرة أخبر عنه بفعل أفاد تخصيص الجنس أو الواحد به ، نحو : رجل جاءني أي لا امرأة ولا رجلان ، ذاك أن أصل النكرة أن تكون لواحد من الجنس فيقع القصد بها تارة الى الجنس فحسب ، كما اذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت من هو جنس الرجال ولم يدر أرجل هو أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان.

(تنبيه) مما رأت العرب تقديمه كاللازم لفظ (مثل) : اذا استعمل كناية من غير تعريض ، نحو : مثلك لا يبخل ، ومثلك رعى الحق والحرمة ، ونحو قول ابن القبعثري (٦) مجيبا الحجاج ، على سبيل المغالطة ، حينما توعده ، بقوله :

__________________

(١) مرنوا واستمروا.

(٢) سورة التوبة الآية ١٠١.

(٣) علة التقوية ما ذكره عبد القاهر من أن الاسم لا يؤتى به معرى عن العوامل إلا لحديث قد نوى إسناده اليه ، فاذا جئت بالحديث دخل على القلب دخل المأنوس.

(٤) سورة آل عمران الآية ٧٥.

(٥) سورة المؤمنون الآية ٥٩.

(٦) هو الغضبان بن القبعثري الشيباني ، وكان ممن خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي ، وأراد بالأدهم الأول القيد ، وبالثاني الفرس الأدهم.


لأحملنك على الأدهم ، مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. ونحو قول المتنبي يعزي عضد الدولة بعمته :

مثلك يثنى المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه (١)

فلا يقصد في كل هذا وأشباهه بمثل الى إنسان سوى الذي أضيف اليه ، بل يريدون أن كل من كان هذا شأنه وتلك حاله كان من موجب العرف والعادة أن يفعل أو لا يفعل ، ولأجل إفادتها ذلك المعنى قال المتنبي في تلك القصيدة :

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه

وكمثل (غير) اذا سلك بها هذا المسلك تقول : غيري يفعل كذا ، على معنى أنك لا تفعله ، لا أن تعرض بإنسان آخر ، وعليه قول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

وتشحب عنده بيض الأيادي (٢)

فهو لم يرد أن يعرّض بشاعر سواه فيزعم أن الذي اتهم به من هجو الممدوح كان من ذلك الشاعر ، لا منه ، بل أراد أن ينفي عن نفسه كفران النعمة وجحدها ، لا غير.

واستعمال (مثل وغير) على تلك الشاكلة مما ركز في الطباع وجرى على جميع الألسن ، فمن نحا بهما غير هذا النحو ، فقد قلب الكلام عن جهته ، وغيّره عن صورته ، وما ذاك إلا لأنه قد غفل عن سر تقدمهما ، وهو إفادة تقوية الحكم وتأكيده.

٨ ـ إفادة التعميم والنص على شمول النفي (عموم السلب) وذلك حين تتقدم أداة العموم ككل وجميع ونحوهما على أداة النفي ، وهي غير معمولة للفعل المنفي فيتوجه النفي إذ ذاك الى أصل الفعل ، ويعم كل فرد من أفراد ما أضيف إليه كل ، نحو : كل ظالم لا يفلح ، فالمعنى : لا يفلح أحد من الظلمة. وعليه قول أبي النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله أصنع

__________________

(١) الغروب مجاري الدموع ، والصوب القصد ، ويثني يدفع ، يريد أنك قدير على دفع الحزن ورد الدموع الى مجاريها إذ لا مشبه لك.

(٢) السحت المال الحرام ، وتشحب تتغير.


وعلة ذلك أنك اذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه ، وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه وذلك يقتضي ألا يشذ عنه شيء.

أما إن قدم النفي على أداة العموم لفظا ، كقول أبي الطيب :

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (١)

أو تقديرا بأن قدمت أداة العموم على الفعل المنفي وأعمل فيها ، كقولك : كل الدراهم لم آخذ ، توجه النفي الى الشمول خاصة دون أصل الفعل ، وأفاد الكلام نفي المجموع (سلب العموم) فيحتمل ثبوت البعض ، كما يحتمل نفي كل فرد ، يدل على ذلك الذوق والاستعمال ، وهذا الحكم أكثري ، وليس بكلي ، بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ)(٣) فَخُورٍ (٤) ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)(٥). الى غير ذلك.

المبحث الثالث في تقديم المسند

يقدم المسند لأغراض ، منها :

١ ـ تخصيصه بالمسند إليه ، نحو : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦) ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٧) ، (لا فِيها غَوْلٌ)(٨) ،

__________________

(١) وفي رواية يشتهي بالياء ، والسفن بفتح فكسر ، أي ربان السفينة.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٦.

(٣) يرى أستاذنا الامام الشيخ محمد عبده أن مثل هذا من عموم السلب لا من سلّب العموم حيث قال : قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب الى ما يفيد سلب العموم والسلب عام بحسب الحقيقة تعريضا بأن المخاطب شر هذا النوع فالمعنى في هذه الآية أن محبة الله لا تعم المختالين الفخورين حتى تشمل هؤلاء فلو تعلقت محبته بمختال فخور لم تتعلق بأولئك لأن مختالهم وفخورهم شر مختال وفخور ، وهكذا باقي الآي التي جاءت على النمط.

(٤) سورة لقمان الآية ١٨.

(٥) سورة القلم الآية ١٠.

(٦) دينكم مقصور على الاتصاف بلكم لا يتصف بلي وديني مقصور على الاتصاف بلي ، فهو من قصر الصفة على الموصوف (سورة الكافرون).

(٧) ملك السموات مقصور على الاتصاف بالله (سورة المائدة).

(٨) أي أن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي خمور الجنة لا يتجاوزه الى الاتصاف بفي خمور الدنيا ، وان اعتبر النفي في جانب المسند ، فالمعنى أن الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتجاوزه الى عدم الحصول في خمور الدنيا فهو قصر غير حقيقي.


أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول وتوجب دوار الرأس وثقل الأعضاء ، ومن ثم لم يقدم الظرف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ)(١) لأنه لو قدم لاقتضى ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى ما عدا القرآن.

٢ ـ التنبيه ابتداء دون حاجة إلى تأمل في الكلام على أنه خبر لا نعت ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢) ، وقول أبي بكر ابن النطاح في وصف أبي دلف العجلي :

له همم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجلّ من الدهر

له راحة لو أن معشار جودها

على البرّ كان البرّ أندى من البحر

٣ ـ التفاؤل بسماع ما يسرّ المخاطب ، نحو :

سعدت بغرة وجهك الأيام

وتزينت بلقائك الأعوام

٤ ـ التشويق (٣) إلى ذكر المسند اليه ، ويكثر ذلك في باب المدح ، كقول محمد ابن وهيب يمدح المعتصم :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

وفي باب الوعظ كقول أبي العلاء المعري :

وكالنار الحياة فمن رماد

أواخرها وأولها دخان

المبحث الرابع في تقديم متعلقات الفعل

الأصل في العامل أن يقدم على المعمول ، وقد يعكس ذلك فيقدم المفعول ونحوه من الجار والمجرور والظرف والحال لأغراض أهمها :

١ ـ رد الخطأ في التعيين كقولك : محمدا كلمت ، ردا على من اعتقد أنك كلمت إنسانا غير محمد ، وتقول لتأكيده : محمدا كلمت لا غيره. أو في ظن الاشتراك ، نحو : عليا رأيت ، أي وحده ، ردا على من اعتقد أنك رأيت عليا ومحمدا. ومن ثم لا يقال : ما محمدا كلمت ولا غيره ، لتناقض دلالتي الأول والثاني ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢.

(٢) سورة الأعراف الآية ٢٤.

(٣) اذا كان في المسند المتقدم طول يشوق النفس الى ذكر المسند اليه ، فيكون ذكره بعدئذ أوقع وأتم.


ولا أن تعقب الفعل المنفي بإثبات ضده ، كقولك : ما محمدا ضربت ، ولكن أكرمته (١) ، وقولك : بمحمد مررت ، لمن اعتقد أنك مررت بإنسان وأنه غير محمد ، وكذا سائر المعمولات ، نحو : يوم الجمعة سرت ، وفي المسجد صليت ، وماشيا جئت.

٢ ـ التخصيص ، وهو لازم للتقديم غالبا بشهادة الإستقراء ، وحكم الذوق ، ومن ثم قال المفسرون في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٢) ، إن المعنى نخصك بالعبادة والإستعانة ولا نعبد غيرك ولا نستعين به ، وفي قوله : لإلى الله تحشرون ، أي لا الى غيره.

وفي التقديم فائدة أخرى ، وهي الاهتمام بشأن المقدم ، ومن ثم قدر المحذوف في : باسم الله مؤخرا ، أي باسم الله أفعل كذا ، بيانا لاهتمام الموحد بالاسم الكريم وردا على المشركين الذين كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم ، فيقولون : باسم اللات ، أو باسم العزّى.

ولا يشكل على هذا آية : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،) بتقديم الفعل على اسم الله ، لأن الأمر بالقراءة في ذلك الموضع أهم ، إذ بالقراءة حفظ المقروء عادة ، وذلك هو المقصود من الإنزل أو بأن باسم الله متعلق بإقرأ الثاني ، ومعنى إقرأ الأول ، أوجد القراءة كقولك : فلان يعطي. وإنما قلنا لازم غالبا لأن التقديم قد يكون.

٣ ـ للاهتمام بالمقدم نحو : حسن الخلق لزمت.

٤ ـ التبرك به نحو : محمدا عليه‌السلام اتبعت.

٥ ـ الاستلذاذ به نحو : ليلى كلمت.

٦ ـ موافقة كلام السامع نحو : محمدا أكرمت ، في جواب : من أكرمت؟

٧ ـ ضرورة الشعر نحو :

سريع الى ابن العم يلطم وجهه

وليس الى داعي الندى بسريع

__________________

(١) لأن الكلام لم يبن على الخطأ في الفعل وهو الضرب حتى يرد الى الصواب بأنه الاكرام وإنما بني على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه محمد ، فرده الى الصواب أن يقال : لكن عليا مثلا.

(٢) سورة الفاتحة الآية ٢.


٨ ـ رعاية السجع والفاصلة نحو : خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ، الى غير ذلك مما لا يحسن فيه اعتبار التخصيص ، لأن المقام ينبو عنه ، كما بينه ابن الأثير في المثل السائر.

٩ ـ أن يكون المقدم محط الإنكار ، كما يقول : أبعد طول عشرة فلان تخدع بمواعيده. وعليه قول أبي العلاء :

أعندي وقد مارست كل خفية

يصدّق واش أو يخيب سائل

ويقدم بعض معمولات الفعل على بعض لأسباب ، منها :

(أ) أن التقديم هو الأصل ولا داعي للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول ، نحو : كلم محمد عليا. وتقديم المفعول الأول على الثاني ، نحو : أعطيت محمدا درهما.

(ب) أن ذكره أهم والعناية به أتم ، فيقدم المفعول على الفاعل اذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه لا وقوعه ممن وقع منه ، كما إذا عاث لص فاتك في البلاد وكثره أذاه فأمسك وأردت أن تخبر بذلك فتقول : أمسك اللص فلان ، إذ ليس للناس كبير فائدة في أن يعرفوا الممسك ، وإنما الذي يهمهم عمله هو من أمسك ليتخلصوا من شره.

ويقدم الفاعل اذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه ، كما اذا كان شخص خامل الذكر لا يظن به أن يقوم بعمل جليل فاخترع شيئا مفيدا وأردت أن تخبر بذلك فتقول : اخترع فلان كذا. لأن الذي يهم الناس من شأن هذا الفعل استبعاد صدوره من ذلك الفاعل.

(ج) ان التأخير يوهم غير المعنى المراد كما في قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)(١) ، إذ لو أخر (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عما بعده لتوهم أنه متعلق بيكتم ، فلا يفيد أن ذلك الرجل منهم.

(د) أن التأخير يخل بتناسب الفواصل نحو : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)(٢) ، بتقديم الجار والمجرور والمفعول على الفاعل إذ فواصل الآي على الألف.

__________________

(١) سورة غافر الآية ٢٨.

(٢) سورة طه الآية ٦٧.


(تتمة) من سنن العرب أن يبدءوا في باب المديح بالصفة الدنيا ثم يثنوا بما هو أعلى منها ، وهكذا وعلى ذلك قول البحتري يصف نحول الركاب :

يترقرقن كالسراب وقد خضن

غمارا من السراب الجاري

كالقسّى المعطفات بل الاسهم

مبرية بل الأوتار

فقد ترقى في تشبيه نحو لها فشبهها بالقسى ، ثم بالأسهم المبرية ، ثم بالأوتار ، وهي أشد الثلاثة نحولا ، كما يعكسون في باب الذم.

تدريب أول

اذكر الأسباب التي دعت الى تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ فيا لك من ذي حاجة حيل دونها

وما كلّ ما يهوى امرؤ هو نائله

٢ ـ أنا لا اختار تقبيل يد

قطعها أفضل من تلك القبل

٣ ـ أبعد أن بات عبد الله مرتهنا

تحت الثرى يرتجي صفو وينتظر

٤ ـ عند الصباح يحمد القوم السّري

وتنجلي عنهم غياهب الكرى

٥ ـ جنات عدن يدخلونها

٦ ـ النار وعدها الله الذين كفروا

٧ ـ خير الصنائع في الأنام صنيعة

تنبو مجاملها عن الاذلال

٨ ـ بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسموا على أترابي

الاجابة

(١) وقع المسند اليه بعد حرف النفي لإفادة سلب العموم في شطره الثاني.

(٢) قدم المسند اليه على حرف النفي لإفادة التخصيص.

(٣) قدم الظرف لكونه محط الإنكار.

(٤) قدم متعلق الفعل وهو الظرف لإفادة التخصيص.

(٥) قدم المفعول لتعجيل المسرة.

(٦) قدم المسند اليه لتعجيل المساءة.

(٧) قدم المسند اليه لتعجيل السرور.

(٨) قدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص في شطري البيت.


تدريب ثان

اذكر أسباب تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ وما كلّ هاو للجميل بفاعل

ولا كلّ فعال له بمتمم

٢ ـ ثلاثة ليس لها إياب

الوقت والجمال والشباب

٣ ـ نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر (١)

٤ ـ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا

٥ ـ وبالآخرة هم يوقنون

٦ ـ قل أغير الله أبغي ربا وهو ربّ كل شيء

٧ ـ سواي بتحنان الأغاريد يطرب

وغيري باللذات يلهو ويلعب

٨ ـ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

الاجابة

(١) وقع المسند اليه بعد حرف النفي ليفيد سلب العموم.

(٢) قدم الخبر للتشويق الى ما بعده.

(٣) قدم المسند اليه لتقوية الحكم وتوكيده.

(٤) قدم المسند اليه للتخصيص.

(٥) قدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص.

(٦) قدم المفعول لكونه محط الإنكار.

(٧) قدم المسند اليه لإفادة تقوية الحكم وتوكيده.

(٨) أخر الجار والمجرور بعد شهداء في الأول لأن الغرض إثبات شهادتهم على الأمم ، وقدم في الثاني لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

تمرين (١)

بيّن السبب في تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ)(٢).

__________________

(١) المشتاة مكان الشتاء أو زمانه ، والجفلى الدعوة العامة الى الطعام ، والنقرى الدعوة الخاصة ، والآدب من يدعو الناس لمأدبة يفتخر بجودهم وكرمهم.

(٢) سورة يونس الآية ٤١.


٢ ـ (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(١).

٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٢).

٤ ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣).

٥ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(٤).

٦ ـ جميع المصريين لا يرغبون في أذى الضيف.

٧ ـ (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)(٥).

تمرين (٢)

بيّن السبب في تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ إن في عدلك وكرمك ورأفتك رحمة بالضعفاء

٢ ـ بك اقتدت الأيام في حسناتها

وشيمتها لولاك همّ وتخريب

٣ ـ أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرّتاعا

٤ ـ إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

٥ ـ إذا شئت يوما أن تسود عشيرة

فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم

٦ ـ ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

٧ ـ ما كلّ رأي الفتى يدعو الى رشد

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٦.

(٢) سورة الإخلاص الآية ٣.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٧.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٩٦.

(٥) سورة التوبة الآية ١٠٨.


الباب السادس في التعريف

وفيه ثمانية مباحث

المبحث الأول في الفرق بين النكرة والمعرفة والداعي الى التعريف

كل من النكرة والمعرفة يدل على معين وإلا امتنع الفهم ، إلا أن النكرة تدل على معين من حيث ذاته لا من حيث هو معين ، أي ليس في لفظ النكرة ما يشير الى أن السامع يعرفه فليس في اللفظ دلالة على ملاحظة التعين ، والمعرفة تدل على معين أي إن في لفظ المعرفة ما يشير إلى أن السامع يعرفه ، وإذا فالنكرة يفهم منها ذات المعين فحسب ولا يفهم منها كونه معلوما للسامع ، والمعرفة يفهم منها ذات المعين وكونه معلوما للسامع.

والتعين في المعرفة ، إما أن يكون بنفس اللفظ ، كما في الاعلام ، وإما بقرينة خارجية ، كما في غيره من بقية المعارف.

ويعدل عن التنكير الى التعريف لتزداد الفائدة وتتم ، فإن فائدة الخبر أو لازمها كلما ازداد متعلقها معرفة زاد غرابة ، واعتبر ذلك بما تراه من عظيم الفرق بين قولنا : ثوب نفيس اشترى في السوق ، وقولنا : ثوب حرير مطرز من صنع بلدة كذا اشتراه فلان أمس بألف دينار.

المبحث الثاني في تعريف المسند اليه بالاضمار

يعرف المسند اليه بالاضمار ، لأن المقام مقام تكلم ، كقوله عليه‌السلام يوم بدر : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب» وقول بشار :

أنا المرعث لا أخفى على أحد

ذرت بي الشمس للقاصي وللداني (١)

__________________

(١) الرعثة القرط يعلق في شحمة الأذن ، ولقب بشار بالمرعث لرعثة كانت له في صغره ، وذرت طلعت.


أو مقام خطاب كقول الحماسية :

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمت بي من كان فيك يلوم

أو مقام غيبة ، ولا بد من تقدم ذكره إما لفظا نحو : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١) ، وقول أبي تمام :

بيمن أبي إسحاق طالت يد العلا

وقامت قناة الدين واشتد كاهله

هو البحر من أي النواحي أتيته

فلجّته المعروف والبحر ساحله

وإما معنى لدلالة لفظ عليه ، نحو : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ)(٢) لما في ارجعوا من معنى الرجوع ، أو لقرينة حال كقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)(٣) ، أي ولأبوي الميت ، وإما حكما كما في باب رب نحو ربه فتي ، وباب ضمير الشأن نحو : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٤).

والأصل في الخطاب أن يكون لمشاهد معين نحو : أنت استرققتني بإحسانك ، وقد يخاطب :

١ ـ غير المشاهد اذا كان مستحضرا في القلب كأنه نصب العين ، كما في : إياك نعبد.

٢ ـ غير المعين ليعم كل من يمكن خطابه على سبيل البدل لا على طريق التناول دفعة واحدة ، كما تقول : فلان لئيم إن أحسنت اليه أساء اليك ، فلا يراد في مثله مخاطب معين ، بل يراد أن سوء معاملته ، غير مختص بواحد دون آخر. وعليه قول المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٥) أخرج الكلام في صورة الخطاب ، مع إرادة العموم ، تنبيها الى تقطيع حالهم ،

__________________

(١) سورة يونس الآية ١٠٩.

(٢) سورة النور الآية ٢٨.

(٣) سورة النساء الآية ١١.

(٤) سورة يوسف الآية ٩٠.

(٥) سورة السجدة الآية ١٢.


من تنكيس الرءوس والخجل ، من أهوال يوم القيامة ، وبيانا لأنها بلغت الغاية في الظهور ، بحيث لا تخفى على أحد ، ولا تختص بها رؤية راء ، بل كل من يتأتى منه الرؤية يدخل في الخطاب ، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، نحو : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)(١).

المبحث الثالث في تعريف المسند اليه بالعلمية

يؤتى بالمسند إليه لأغراض ، منها :

١ ـ إحضار معناه في ذهن السامع باسمه الخاص ليمتاز عما عداه كقوله تعالى :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢).

٢ ـ التعظيم في الاعلام التي تشعر بمدح كسيف الدولة وصلاح الدين.

٣ ـ الاهانة في الاعلام التي تشعر بذم نحو صفوان وصخر.

٤ ـ الاستلذاذ بذكره كما يذكر المحبون أسماء من يحبون ، ومن ثم يقول المتنبي مادحا عضد الدولة :

أساميا لم تزده معرفة

وإنما لذة ذكرناها

وعليه قول مجنون ليلي :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

٥ ـ الكناية عن معنى يصلح العلم له بحسب معناه قبل العلمية ، كما يقال : أبو الفضل وأخو الحرب ، فاطلاق ذلك اطلاقا علميا يجوّز أن يلاحظ فيه الأصل مع القرينة ، فيلمح في الأول أنه ملابس للفضل فهو صاحب المكارم ، وفي الثاني أنه ملاصق للحرب ، فهو شجاع فاتك.

٦ ـ التفاول في الاعلام التي تشعر بذلك نحو : سعد وسعيد.

٧ ـ التطير والتشاؤم نحو : السفاح والجراح.

٨ ـ التسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار ، كما يقول القاضي لشخص : هل أقرّ إبراهيم بكذا ، فيقول إبراهيم : أقر بكذا ، فلم يقل هو لتسجيل الحكم وضبطه لئلا يجد المشهود عليه سبيلا للإنكار.

__________________

(١) سورة الانسان الآية ٢٠.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٧.


المبحث الرابع في تعريف المسند إليه باسم الاشارة

يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأغراض كثيرة يلاحظ البلغاء منها :

١ ـ تعين اسم الإشارة طريقا الى إحضار المشار إليه بعينه في ذهن السامع بأن يكون حاضرا محسوسا ، والمتكلم والسامع لا يعرفان اسمه الخاص ولا معينا آخر.

٢ ـ تمييزه أكمل تمييز لإحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة الحسية ، كأن يكون المقام للمدح فيكون أعون على كماله ، وعليه قول الحطيئة :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا (١)

٣ ـ التعريض بغباوة السامع حتى كأن الأشياء لا تتميز لديه إلا بالإشارة الحسية ، كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفخر بآبائه :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع (٢)

٤ ـ قصد تحقيره بالقرب ، نحو : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(٣) ، ومنه في غير المسند إليه : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)(٤).

٥ ـ قصد تعظيمه بالقرب نحو : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(٥) وذلك كثير في التنزيل.

٦ ـ قصد تحقيره بالبعد نحو : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)(٦).

٧ ـ قصد تعظيمه بالبعد نحو : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(٧) من حيث لم تقل : فهذا ، وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن وتمهيدا لعذر الإفتتان به.

__________________

(١) البنى جمع بنية كرشوة ورشى.

(٢) يظهر ان نكتة التعبير باسم الاشارة التعظيم أو تمييزهم.

(٣) حكاية لقول المشركين حينما كانوا يستهزءون به (وردت في سورة الأنبياء).

(٤) سورة البقرة الآية ٢٦.

(٥) سورة الإسراء الآية ٩.

(٦) يدع : يقهر (الماعون).

(٧) سورة يوسف الآية ٣٢.


٨ ـ قصد التنبيه على أن المشار اليه المعقب بأوصاف جدير بما يذكر بعد اسم الإشارة نحو : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، فقد عقب المشار اليه وهم المنقون بأوصاف ، وهي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بينهما ، ثم عرف المسند اليه بالإشارة تنبيها على أن المشار اليهم أحقاء أجل تلك الخصال بأن يفوزوا بالهداية عاجلا أو آجلا ، قال في «الكشاف» ، ونظيره قول حاتم :

ولله صعلوك يساور همه

ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

اذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمم كبراهن ثمت صما

اذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت

وولّ هدان القوم أقبل معلما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما (٢)

فقد قال : لله صعلوك ، ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما وتيمم كبرى المكرمات والتأهب للحرب ، الى غير ذلك مما ذكره بعد ، ثم عقبه بقوله : فذلك إن يهلك.

٩ ـ التهكم والسخرية كقوله : من يهزأ بأعمى هذا الهلال في السماء.

١٠ ـ الإشارة الى فطانته وذكائه حتى كأن غير المحسوس عنده كالمحسوس ، نحو : هذا ما تشير اليه عبارتك.

المبحث الخامس في تعريف المسند اليه بالموصولية

يعرف المسند اليه بالموصولية لدواع ، منها :

١ ـ عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة ، نحو : من دخل هذا الحصن استحق أكبر ألقاب الشرف.

٢ ـ التفخيم ، أي التهويل والتعظيم ، نحو قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(٣).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٦.

(٢) صعاليك العرب فقراؤهم ومتلصصوهم ، والمساورة المواثبة ، والهم العزيمة والقصد ، وأعرضت ظهرت ، والهدان الأحمق الثقيل.

(٣) سورة طه الآية ٧٨.


٣ ـ تنبيه المخاطب الى خطئه ، كقول عبدة بن الطبيب ، من قصيدة يعظ فيها ابنه :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا (١)

٤ ـ زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، كقوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)(٢) فالغرض الذي سيق له الكلام نزاهة يوسف عليه‌السلام وبعده عن مظنة الريبة ، وهذا التعبير أوضح في الدلالة على هذا الغرض مما لو قيل امرأة العزيز أو زليخا أو نحو ذلك ، لأنه اذا امتنع عن الفحشاء ولم ينخدع مع كونه غلامها وفي بيتها مع كمال قدرتها عليه ، كان ذلك غاية النزاهة ونهاية الطهارة وعليه قول أبي العلاء المعري :

أعباد المسيح يخاف صحبي

ونحن عبيد من خلق المسيحا (٣)

فقوله : عبيد من خلق المسيح أدل على تقرير غرضه وهو نفي خوف أصحابه من قوله : عبيد الله.

٥ ـ الإيمان والإشارة الى نوع الخبر من مدح أو ذم أو عقاب أو غير ذلك فيتنبه الفطن من فاتحة الكلام الى خاتمته ، ويدرك ما تومىء اليه من المقاصد ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٤) ففي مضمون الصلة وهو الاستكبار عن العبادة ، تلميح الى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة.

قال السكاكي : ثم يتفرع على هذا اعتبارات لطيفة ، فربما جعل ذريعة الى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر كقولك : الذي يرافقك يستحق الإجلال ، والذي يفارقك يستحق الإذلال ، وعليه قول الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا

دعائمه أعزّ وأطول (٥)

__________________

(١) أن تصرعوا أي تهلكوا أي فمن تظنونهم إخوانكم يتمنون لكم الهلاك والدمار فأنتم مخطئون في هذا الظن.

(٢) سورة يوسف الآية ٢٣.

(٣) المراد ايخاف اصحاب المسلمون من عباد المسيح مع اننا عبيد الإله الذي خلق المسيح.

(٤) داخرين صاغرين (سورة المؤمن).

(٥) سمك رفع ، والبيت بيت العز والشرف قاله يفخر بقبيلته على قبيلة جرير.


فهو مع كونه يشير الى أن الخبر المبني عليه من جنس الرفعة والبناء ، يعرّض بتعظيم بناء بيته لأنه فعل من رفع السماء ، أو ذريعة الى تحقيق الخبر نحو :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول (١)

ففي ضربها البيت في مكان المهاجرة تحقيق للحكم بزوال محبتها وودها.

٦ ـ الحث على التعظيم نحو : جاء الذي أدبك ، ورباك فأحسن تربيتك.

٧ ـ التهكم ، نحو : (قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٢).

٨ ـ الحث على الترحم ، نحو : الذي سبى أولاده ، ونهب طريقه وتلاده ، يستحق المعونة.

٩ ـ تعليل الحكم ، نحو : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)(٣).

ففي ذكر الإيمان والعمل الصالح بيان لسبب فوزهم بالجنات ورفع الدرجات ، وعلى الجملة ، فلطائف هذا الباب لا تكاد تنحصر.

المبحث السادس في تعريف المسند اليه باللام

يؤتى بالمسند اليه معرفا باللام ، لإفادة معنى من المعاني التي تفيدها اللام ، ذلك أنها تنقسم قسمين : لام العهد الخارجي ، وهي ثلاثة أنواع : صريحي ، وكنائي ، وعلمي. ولام الحقيقة ، وهي أربعة أقسام : لام الحقيقة أو لام الجنس ، ولام العهد الذهني ، ولام الاستغراق الحقيقي ، ولام الاستغراق العرفي :

١ ـ لام العهد الصريحي هي ما يتقدم مدخولها صراحة ، كما في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ)(٤) ، فقد ذكر المصباح والزجاج منكّرين ثم أعيدا معرّفين.

__________________

(١) سميت الكوفة كوفة الجند لاقامة جند العرب بها عند تمصيرها ، وغالته غول ، أي أزالته وأهلكته.

(٢) سورة الحجر الآية ٦.

(٣) سورة الكهف الآية ١٠٨.

(٤) سورة النور الآية ٣٥.


٢ ـ لام العهد الكنائي : هي ما يتقدم ذكرها كناية ، أي مبهما ، تعينه القرائن ، كقوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(١) فالذكر ، وإن لم يتقدم صريحا ، قد استفيد من (ما) في قولها : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)(٢) إذ التحرير وهو العتق لخدمة بيت المقدس لم يكن إلا للذكور فهو المعنى ب (ما) في كلامها.

٣ ـ لام العهد العلمي : هي ما علم مدخولها عند المخاطب سواء أكان حاضرا أم لا ، نحو : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(٣)(إِذْ هُما فِي الْغارِ) أي الشجرة والغار المعهودين لك ، وكما تشير الى حاضر ، وتقول : هذا الخطيب تكلم فأحسن الكلام.

٤ ـ لام الحقيقة : هي ما يشار بها الى الحقيقة ، بقطع النظر عن عمومها ، وخصوصها ، وتسمى لام الجنس ، كقولهم : أهلك الناس الدينار والدرهم ، وشربت الماء. وقول أبي العلاء :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفاء ويخفيها مع الكدر

وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٤) إذ المراد : جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس وهو الماء.

٥ ـ لام الحقيقة في ضمن فرد مبهم : إذا قامت القرينة على ذلك ، وتسمى لام العهد الذهني ، كنا في قوله تعالى : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)(٥) ومدخولها في المعنى كالنكرة فيعامل معاملتها فيوصف بالجملة ، كما توصف النكرة ، كقول عميرة بن جابر الحنفي :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

أما في اللفظ فتجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا للمعرفة وموصوفا بها ، وإنما لم تقل نكرة لما بينهما من التفاوت إذ النكرة معناها

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٣٦.

(٢) سورة آل عمران الآية ٣٥.

(٣) سورة الفتح الآية ٢٨.

(٤) سورة الأنبياء الآية ٣٠.

(٥) سورة يوسف الآية ١٣.


بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة ، وأما المعرف باللام فمعناه نفس الحقيقة ، وتستفاد البعضية من القرائن كالأكل في الآية ، وإذا فالمجرد وذو اللام مع القرينة (١) سواء ، وبالنظر إلى أنفسهما مختلفان.

٦ ـ لام الحقيقة ، في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب اللغة ، وتسمى لام الاستغراق الحقيقي ، ودليل الشمول والاستغراق ، إما :

(أ) قرينة حالية نحو : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(٢) ، أي كل غيب وشهادة.

(ب) قرينة مقالية نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(٣) ، أي كل إنسان ، بدليل الاستثناء الذي هو علامة إرادة العموم ، إذ شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه ، لو لم يذكر.

٧ ـ لام الحقيقة في ضمن جميع الافراد التي يتناولها اللفظ بحسب متفاهم العرف كما تقول : جمع الملك الوزراء وألقى عليهم نصائح ذهبية ، فإن المقصود وزراء مملكته ، لا وزراء العالم أجمع.

(تنبيه) من القضايا المشهورة قولهم (استغراق المفرد أشمل) ، ومعنى ذلك أن اسم الجنس المفرد إذ دخلت عليه أداة الاستغراق كحرف التعريف أو النفي كان شموله للافراد وتناوله إياها أكثر من شمول المثنى والجمع الداخلة عليهما تلك الأداة.

بيان ذلك أن المفرد يتناول كل واحد من الأفراد ، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين ، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة ، ودليل ذلك صحة قولك : لا رجال في الدار ، اذا كان فيها رجل أو رجلان ، وعدم صحة قولك : لا رجل إذا كان فيها واحد أو اثنان من هذا الجنس ، وهذه القضية ليست بصحيحة على عمومها ، وإنما تصح في النكرة المنفية دون الجمع المعرف باللام ، لأن المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد ، بل هو في المفرد أقوى كما دل عليه الاستقراء وصرح به أئمة اللغة وعلماء التفسير في كل ما وقع في القرآن الكريم ،

__________________

(١) في أن كلا منهما يفيد بعضا غير معين وضعا فى النكرة وبالقرينة في ذي اللام.

(٢) سورة التوبة الآية ٩٤.

(٣) سورة العصر الآية ٢.


نحو : (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١) ، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢) ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٣) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

المبحث السابع في تعريف المسند اليه بالاضافة

يعرف المسند اليه بالإضافة لمزايا كثيرة ، منها :

١ ـ أن تكون أخصر طريق لإحضاره في ذهن المخاطب والمقام يقتضي ذلك لفرط الضجر والسآمة ، كقول جعفر بن عبلة حين حبس بمكة :

هو أي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق (٤)

فهو أي مهوى أخصر من الذي أهواه ونحوه ، مع كون الاختصار مطلوبا لضيق المقام.

٢ ـ أن تغني عن تفصيل متعذر نحو : أجمع أهل الحق على كذا ، وقول حسان بن ثابت :

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل (٥)

أو متعسر إما باعتبار الكثرة نحو : أهل القاهرة فعلوا كذا ، أو باعتبار لزوم تقديم بعض على بعض بدون مرجح نحو : علماء البلد اتفقوا على كذا.

٣ ـ أن تتضمن تعظيم شأن المضاف ، أو المضاف اليه ، أو غيرهما ، نحو : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٦) ، ونحو : خادمي اليوم عمل كذا ، ونحو : رسول السلطان زار فلانا ، وعليه من غير المسند اليه قوله :

لا تدعني إلا بياعبدها

فإنه أشرف أسمائي

٤ ـ أن تتضمن تحريضا على الإكرام نحو : صديقك عندك.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٨.

(٣) سورة البقرة الآية ٣١.

(٤) اليمانون جمع يمان ، ومصعد من أصعد في الارض ، سار فيها. والجنيب المجنوب المستتبع والجثمان الشخص ، والموثق للقيد.

(٥) أولاد جفنة من الغساسنة الذين مدحهم حسان بالشام.

(٦) سورة الحجر الآية ٤٢.


٥ ـ أن تتضمن تحريضا على الإذلال نحو : عدوك ببابك.

٦ ـ أن تتضمن استهزاء وتهكما نحو : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(١).

المبحث الثامن في تعريف المسند

يعرف المسند لإفادة السامع حكما على أمر معلوم بإحدى طرق التعريف بآخر (٢) مثله في كونه معلوما للسامع بإحدى طرق التعريف سواء اتحد الطريقان نحو : الراكب هو المنطق ، أم اختلفا نحو : على هو المنطق.

بيان ذلك أن الشيء قد يكون له صفتان من صفات التعريف يعلم المخاطب اتصافه بإحداهما دون الأخرى فتحبره باتصافه بها فتفيده ما كان يجهله من اتصافه بالأخرى ، كما إذا كان للمخاطب أخ يسمى عليا وهو يعرفه بعينه واسمه لكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرّفه ذلك فتقول : علي أخوك ، وإن عرف أن له أخا وأردت أن تعينه عنده باسمه قلت : أخوك علي. ومن البين في اختلاف المعنى اذا تقدمت إحدى المعرفتين ، أو تأخرت ، قولهم : (الحبيب أنت) (وأنت الحبيب) فمعنى الجملة الأولى أنه لا فرق بينك وبين من تحب اذا صدقت المحبة ، فما مثل المتحابين إلا مثل روح حل في جسمين ، كما قيل : الحبيب أنت إلا أنه غيرك ، ومعنى الثانية أنك أنت الذي اصطفيته من بين الناس بمحبتي واجتبيته بمودتي ، كما قال المتنبي :

أنت الحبيب ولكني أعوذ به

من أكون محبا غير محبوب

واعلم أن التعريف بلام الجنس قد يفيد قصر الخبر على المبتدأ ، وذلك على وجوه (٣) :

١ ـ أن يقصر المبتدأ على الخبر على سبيل الحقيقة نحو : محمد الرئيس في البلد اذا لم يكن هناك رئيس غيره.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٢٧.

(٢) في هذا إشارة الى وجوب تغاير المسند اليه والمسند بحسب المفهوم ليكون الكلام مفيدا أما نحو : «أنا أبو النجم ، وشعري شعري» فمؤول أي شعري الآن مثل شعري فيما مضى.

(٣) أما التعريف بلام العهد فيفيد ما هو معهود للمخاطب كقولك : محمد هو المسافر.


٢ ـ أن يقصر عليه على سبيل المبالغة وعدم الاعتداد بما سواه ، كما تقول : علي الشجاع ، أي الكامل في الشجاعة ، فقد أخرجت الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لا توجد إلا فيه ، لأنك لا تعتد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال.

٣ ـ أن يقصر عليه على سبيل الحقيقة ، لكن لا باعتبار ذاته ، بل باعتبار القيد بظرف أو حال ، كما تقول : هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا ، فالمقصود هو الوفاء في هذا الوقت لا مطلقا ، ونحوه : هو الشجاع حين يحجم الأبطال ، قال الأعشى :

هو الواهب المائة المصطفا

ة إما مخاضا وإما عشارا (١)

فقد قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالين لا هبتها مطلقا ، ولا الهبة مطلقا ، وفي كل هذه الأحوال يمتنع العطف بالواو ونحوها على ما حكم عليه بالمعرف فلا يقال : محمد الأمير ، وعمرو ، ولا إبراهيم الشجاع فخالد.

وربما لا يفيد قصر المعرف على ما حكم عليه به ، كقول الخنساء ترثي أخاها صخرا :

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

فهي لم ترد أن ما عدا البكاء عليه ليس بحسن ولا جميل ، لكنها أرادت أن تقره في جنس ما جنسه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد ، ونحوه قول الآخر :

أسود إذا ما أبدت الحرب نابها

وفي سائر الدهر الغيوث المواطر

تدريب

بيّن الأغراض التي اقتضت تعريف المسند اليه ، أو المسند بإحدى طرق التعريف :

١ ـ أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناء

__________________

(١) المخاض الحوامل من النوق أجمع ، والعشار جمع عشراء وهي من النوق كالنفساء.


٢ ـ مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي (١)

٣ ـ إن الذي الوحشة في داره

تؤنسه الرحمة في لحده

٤ ـ ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الاذلان عير الحي والوتد (٢)

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثي له أحد

٥ ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٣)

٦ ـ بنو مطر يوم اللقا كأنهم

أسود لها في غيل خفّان أشبل (٤)

٧ ـ (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٥)

٨ ـ أخوك الذي إن تدعه لملمة

يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب

الاجابة

(١) أتى بالمسند اليه علما لإحضاره باسمه المختص به.

(٢) أتى بالمسند اليه اسم موصول للتفخيم وتعظيم شأن ذلك الذاهب من العقل.

(٣) أتى بالمسند اليه اسم موصول للإيماء الى وجه بناء الخبر وكونه مدحا للمحدث عنه.

(٤) أتى بالمسند اليه اسم إشارة للتحقير بالقرب.

(٥) أتى بالمسند اليه اسم إشارة للتحقير بالقرب.

(٦) أتى بالمسند اليه مضافا لإغناء الإضافة عن تفصيل متعذر.

(٧) أتى بالمسند اليه مضافا لتعظيم شأن المضاف.

تمرين

اذكر الغرض من تعريف المسند اليه أو المسند بإحدى طرق التعريف :

١ ـ ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

__________________

(١) في وصف الخمر.

(٢) العير الحمار ، والرمة الحبل يربط به ، والخسف الاهانة.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٦٣.

(٤) الغيل الاجمة وخفان مأسدة مشهورة بضراوة أسدها ، والأشبل جمع شبل ولد الأسد.

(٥) سورة الفرقان الآية ٤١.


٢ ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١)

٣ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ)(٢)

٤ ـ هو الكريم حين يبخل كل جواد

٥ ـ وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد (٣)

٦ ـ أبو لهب آذى محمدا عليه‌السلام

٧ ـ إن الناس لفي شغل عن عمل الآخرة

__________________

(١) سورة الإخلاص الاية ١.

(٢) سورة الاحزاب الاية ٤٠.

(٣) قاله حسان يهجو أبا سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وجعل الحرث عبدا لأن أمه ليست قرشية ولم تلدها قبيلة مشهورة.


الباب السابع في التنكير

لم يتعرض لهذا الباب كثير ممن كتب في هذا الفن ، وأول من فتق أكمام زهاره صاحب «الكشاف» وتبعه من جاء بعده من علماء البيان. وقصارى ما قالوه : إن المسند اليه ينكر لأغراض ، منها :

١ ـ ألا يعلم المتكلم جهة من جهات التعريف من علمية أو صلة أو غيرها ، فتقول : جاء هنا رجل يسأل عنك ، إذا لم تعرف له اسما ولا نحوه.

٢ ـ أن يقصد فرد غير معين مما يصدق عليه اسم الجنس نحو : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)(١) أي فرد من جنس الرجال.

٣ ـ أن يمنع من التعريف مانع ، كقوله :

اذا سئمت مهنده يمين

لطول الحمل بدّله شمالا (٢)

لم يقل يمينه تحاشيا من نسبة السآمة الى يمين الممدوح.

٤ ـ أن يقصد نوع مخصوص نحو :

لكل داء دواء يستطبّ به

إلا الحماقة أعيت من يداويها

يريد لكل نوع من أنواع الأدواء ما يناسبه من أصناف الأدوية ، وعليه قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣).

قال في «الكشاف» : معنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.

__________________

(١) سورة ياسين الاية ٢٠.

(٢) المهند السيف.

(٣) سورة البقرة الاية ٧.


ويرى السكاكي أن التنكير في هذا للتعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم دفعة واحدة ، وتحول بينهم وبين الإدراك ، وعذاب عظيم لا يقدر قدره.

٥ ـ أن يقصد التكثير نحو : (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً)(١) ، وقولهم : أن له الأبلاق وأن له لغنما ، إذ المقام للمدح.

٦ ـ أن يقصد التقليل نحو : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٢) ، أي فشيء مما من رضوانه أكبر من الجنة ونعيمها ، فإن العبد إذا علم رضى مولاه عنه عد ذلك من أعظم النعم وعاش عيشة راضية.

٧ ـ التعظيم والتحقير ، وقد اجتمعا في البيت الثاني من قول مروان ابن أبي حفصة :

فتى لا يبالي المدلجون بنوره

إلى بابه ألا تضيء الكواكب (٣)

له حاجب عن كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب (٤)

فمقام المدح يفيد أن له مانعا عظيما عن كل قبيح وشين وليس له أي مانع ولو حقيرا عن طلاب المعروف فهم يحصلون على مقاصدهم بلا كد ولا تعب.

والفرق بين التعظيم والتكثير أن الأول ينظر فيه لارتفاع الشأن وعلو القدر ، والثاني يلاحظ فيه الكميات والمقادير ، وهكذا الحال في الفرق بين التحقير والتقليل.

٨ ـ قصد إخفائه عن المخاطب نحو : سمعت رجلا يقول : إنك حدت عن الصواب. وينكر المسند لأغراض ، منها :

١ ـ عدم الحصر والعهد الدال عليهما التعريف ، كما تقول : محمد كاتب ، وعلي شاعر.

٢ ـ قصد التفخيم والتعظيم ، نحو : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٥) ، أي هدى لا يكتنه كنهه.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٤.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٥.

(٣) أدلج سار ليلا.

(٤) حاجب أي مانع ، ويشينه أي يعيبه.

(٥) سورة البقرة الآية ٢.


٣ ـ قصد التحقير ، نحو : ما محمد شيئا. وينكر غير المسند اليه والمسند ، للدلالة على :

١ ـ الافراد ، نحو : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(١) ، أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة.

٢ ـ النوعية ، نحو : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ)(٢) ، أي نوع من الحياة المتطاولة ، فهم أحرص الناس على أن يزدادوا الى حياتهم الماضية حياة في المستقبل.

٣ ـ التحقير ، نحو : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)(٣).

٤ ـ التقليل ، كقول المتنبي :

فيوما بخيل تطرد الروم عنهمو

ويوما يجود يطرد الفقر والجدبا

يريد بعدد يسير من خيولك ونزر من فيض جودك.

٥ ـ عدم التعين ، نحو : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)(٤).

تدريب

بيّن دواعي تنكير المسند اليه ، أو المسند ، أو غيرهما ، فيما يلي :

(١) قال تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٥).

(٢) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٦).

(٣) (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)(٧).

(٤)وفي السماء نجوم لا عداد لها

وليس يكسف إلا الشمس والقمر

(٥)إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا

ندمت على التفريط في زمن البذر

__________________

(١) سورة النور الآية ٤٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٩٩.

(٣) سورة الجاثية الآية ٣٢.

(٤) سورة يوسف الآية ٩.

(٥) سورة البقرة الآية ٢٧٩.

(٦) سورة الشعراء الآية ١٧٣.

(٧) سورة الانبياء الآية ٤٦.


٦ ـ ومن طلب العلوم بغير كدّ

سيدركها متى شاب الغراب

٧ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١).

٨ ـ ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

الاجابة

(١) نكر حرب للدلالة على التعظيم.

(٢) نكر المطر للدلالة على النوعية ، أي مطرا عجيبا من الحجارة.

(٣) نكرت النفحة للدلالة على التحقير.

(٤) نكرت النجوم للدلالة على التكثير.

(٥) نكر الحاصد للدلالة على عدم التعين أو للدلالة على الافراد.

(٦) نكر كدّ للدلالة على التعظيم.

(٧) نكرت رسل للدلالة على التعظيم والتكثير ، أي رسل ذوو عدد كثير وآيات عظام.

(٨) نكر جانب الأول للدلالة على التعظيم ، وجانب الثاني للدلالة على التحقير.

تمرين

بيّن دواعي تنكير المسند اليه أو المسند أو غيرهما ، فيما يلي :

١ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ)(٢).

٢ ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(٣).

٣ ـ رجل قال إنك اغتبتني

٤ ـ دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت

تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا

٥ ـ آراؤه وعطاياه ونعمته

وعفوه رحمة للناس كلهم

٦ ـ وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضيا خديه مكتسب

٧ ـ قلت ثقلت إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي بالأيادي

٨ ـ لئن صدفت عنا فربّت أنفس

صواد الى تلك النفوس الصوادف (٤)

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٤.

(٢) سورة مريم الآية ٤٥.

(٣) سورة البقرة الآية ١٧٩.

(٤) صدفت أعرضت ، وصواد جمع صادية أي عطشى.


الباب الثامن في التقييد

وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول في فوائد التقييد

اعلم أن التقييد بأحد الأنواع الآتية يكون لزيادة الفائدة وتقويتها لدى السامع لما هو معروف من أن الحكم كلما ازدادت قيوده ، ازداد إيضاحا وتخصيصا ، فتكون فائدته أتم وأكمل ، لا فرق في ذلك بين تقييد المسند اليه والمسند ، ولا بين التقييد بتابع ومفعول ، ونحو ذلك.

وكثير من مسائل هذا الباب ذكر في كتب النحاة على النحو الذي يشاكل بحثهم دون نظر الى غامض الفروق ولطيف المزايا ، فإن تينك الفائدتين من مقاصد علماء البيان الذين قصروا مباحثهم على تعرّف خواص التراكيب وأسرار الأساليب وما فيها من دقيق الوضع وباهر الصنع.

المبحث الثاني في التقييد بالمفاعيل ونحوها

التقييد بالمفاعيل ونحوها من الحال والتمييز لزيادة التخصيص المستلزم كثرة الفائدة ، وبالنواسخ للأغراض التي تؤديها معاني ألفاظها كالاستمرار وحكاية الحال الماضية في كان (١) ، والتوقيت بزمن معين في ظل وأخواتها ، والمقاربة في كاد وكرب ، والتأكيد في أن ، والتشبيه في كأن ، إلى نحو ذلك.

المبحث الثالث في التقييد بالتوابع

سنجمل الكلام في هذا المبحث ، لأنه قد بيّن في علم النحو يبسط واطناب فينعت المسند اليه لنكات ، منها :

__________________

(١) فالمقيد في كان محمد منطلقا هو منطلقا لا كان إذ هو المسند ، وكان قيد له.


١ ـ تمييزه بتخصيصه ، إن كان نكرة ، وتوضيحه إن كان معرفة.

٢ ـ الكشف عن حقيقته ، كما يقال : الجسم الطويل العريض العميق يحتاج الى فراغ يشغله ، ومنه في غير المسند اليه قول أوس بن جحر التميمي في مرثية فضالة ابن كلدة :

الألمعي الذي يظن بك المظن

كان قد رأى وقد سمعا

فالألمعي هو المتوقد ذكاء وفطنة ، ومن لوازمه أنه اذا ظن بك ظنا طابقت فراسته الواقع ، وقد روي أن الأصمعي سئل عن الألمعي فأنشد البيت.

٣ ـ التأكيد ، نحو : أمس الدابر ، وكان يوما عظيما ، وعليه قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(١).

٤ ـ بيان المقصود وتفسيره نحو : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢) ، قال في «الكشاف» : فإن قلت : هلا قيل وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم ، وما معنى الزيادة؟

قلت : معنى ذلك زيادة التعميم والاحاطة كأنه قيل : وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها.

٥ ـ المدح ، نحو : حاءني محمد الأديب.

٦ ـ الذم ، نحو : سافر إبراهيم الأحمق.

ويؤكد لاعتبارات ، منها :

(١) تحقيق المراد ، بحيث لا يحتمل الكلام غيره ، كما تقول : جئت أنا.

(٢) دفع توهم السامع تجوز المتكلم أو سهوه نحو : قدم صديقك نفسه.

(٣) دفع توهم عدم الشمول نحو : جاء القوم كلهم ، إذ لو قلت : جاء القوم وسكت ، لكان يجوز أن يخطر ببال السامع أن بعضهم قد تخلف ، إلا أنك لم تعتد به أو جعلت الواقع من البعض كأنه واقع من الجميع ، كما يقال للقبيلة :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٦.

(٢) سورة الأنعام الآية ٣٨.


صنعتم وفعلتم ، ويراد فعل قد كان من البعض ، يرشد الى ذلك قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ)(١) ، والعاقر لها قدار ، لكنهم نزلوا منزلته لرضاهم بفعلته.

ويبين لمزايا ، منها :

١ ـ المدح ، نحو : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ)(٢) ، فالبيت الحرام عطف بيان على الكعبة لغرض مدحها بأنها حرم آمن.

٢ ـ الإيضاح والتفسير بما يختص بالمتبوع ويوضح ذاته ، نحو : قال أبو الحسن علي كرم الله وجهه.

ويبدل لأغراض ، أهمها :

زيادة التقرير ، إذ البدل كالتفسير بعد الإبهام ، فيزداد به تقرير المقصود في ذهن السامع ، ومنه في غير المسند اليه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٣).

أما في بدل الكل فللذكر مرتين ، وأما في بدل البعض ، فلأن المتكلم لما أتى بالمبدل منه أولا ثم أتى بالبدل ثانيا كان كالمنبه على التجوز والإجمال في المبدل منه فيؤثر في النفس تأثيرا لا يوجد عند الإقتصار على الثاني ، وأما في بدل الاشتمال فلأن البدل تشعر به النفس في الجملة قبل ذكره وتتشوف لشيء يطلبه الكلام السابق فإذا ذكر صار متكررا.

ويعطف عليه لدواع ، منها :

١ ـ تفصيل المسند اليه باختصار ، نحو : جاء محمد وعلي ، فإنه أخصر من جاء محمد وجاء علي ، مع إفادة التفصيل بالنسبة لقولك : جاءني رجلان ، ولا يعلم منه تفصيل المسند ، إذ الواو لمطلق الجمع ، ولا دلالة فيه لمجيء أحدهما قبل الآخر أو بعده أو معه.

٢ ـ تفصيل المسند ، مع الاختصار ، نحو : جاء محمد فعلي ، أو ثم علي ، أو جاء القوم حتى خالد. فهذه الثلاثة الحروف ، وان اشتركت في تفصيل المسند ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٧٧.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٧.

(٣) سورة الفاتحة الآية ٥.


فالأول يدل على التنقيب من غير مهلة ، والثاني مع المهلة ، والثالث يفيد ترتيب أجزائه من الأضعف الى الأقوى ، أو بالعكس ، نحو :

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى

بي الحال حتى صار إبليس من جندي

٣ ـ الشك من المتكلم اذا كان لا يدري الحقيقة.

٤ ـ التشكيك ، أي إيقاع السامع في الشك.

٥ ـ التجاهل ، نحو : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

٦ ـ التخيير أو الإباحة نحو : ليدخل الدار محمد أو علي ، والفرق بينهما أنه يجوز الجمع في الإباحة دون التخيير.

٧ ـ رد السامع عن الخطأ في الحكم الى الصواب ، نحو : جاءني علي لا خالد لمن اعتقد أن خالدا جاءك دون علي ، أو أنهما جاءاك معا.

المبحث الرابع في التقييد بضمير الفصل

يؤتى بعد المسند اليه بضمير الفصل لأغراض ، منها :

١ ـ التخصيص ، أي قصر المسند على المسند اليه ، إذا لم يكن في الكلام ما يفيد القصر سواه نحو : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)(٢).

٢ ـ تأكيد التخصيص إذا كان في التركيب مخصص آخر ، نحو : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ)(٣) ، ومنه قول أبي الطيب :

إذا كان الشباب السكر والشي

ب همّا فالحياة هي الحمام

يريد أنه اذا كان الشخص إبان الشباب كالسكران غافلا عن العواقب ، وفي الشيب حزينا بسبب ضعفه ، فلا خير في الحياة ، بل هي الموت.

٣ ـ تمييز الخبر عن الصفة ، نحو : الفصيح هو جيد البيان طلق اللسان.

__________________

(١) سورة سبأ الاية ٢٤.

(٢) سورة التوبة الاية ١٠٤.

(٣) سورة الذاريات الاية ٥٨.


المبحث الخامس في التقييد بالشرط

يقيد الفعل بالشرط للأغراض التي تستفاد من معاني الأدوات كالزمان في :

متى ، والمكان في : أين ، والحال في : كيفما ، إلى آخر ما استوفى بيانه علم النحو ، لكن نذكر هنا ما بين : إن ، وإذا ، ولو ، من الفروق الدقيقة التي تشاكل مباحث هذا الفن.

بيان هذا أن المقصود من الجملة الشرطية عند علماء العربية ، إنما هو النسبة التي يدل عليها الجزاء سواء أكانت خبرية أم إنشائية ، والشرط قيد لها وسبب فيها لا يغيرها عن حالها الأولى من الخبرية أو الإنشائية ، وقد خرج بدخول الأداة عليه عن كونه خبرا يحتمل صدقا وكذبا ، فقولك : إن نجحت أكافئك ، معناه أكافئك حين نجاحك ، وقولك : إن جاء محمد فأكرمه ، أي أكرمه وقت مجيئه.

(إن) و (إذا) تشتركان في الدلالة على تعليق حصول الجزاء على حصول الشرط في المستقبل ، وتمتاز كل منهما بما يلي :

(أ) تمتاز (إن) بدلالتها بحسب الوضع اللغوي على عدم جزم المتكلم بوقوع الشرط في الزمن المستقبل ، نحو : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)(١) ، ومن ثم لا تقع في كلام الله تعالى إلا على سبيل الحكاية أو التأويل فالأول كقوله تعالى حكاية عن يوسف : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ)(٢) ، والثاني نحو : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(٣) فقد جاءت في التنزيل على نمط أساليبهم ، وعلى الطريقة التي يعبر بها المتكلم منهم حينما يكون غير جازم بوقوع الشرط.

(ب) تمتاز (إذا) باستعمالها لغة في كل ما يجزم المتكلم بوقوعه في الزمن المقبل نحو : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)(٤).

ومن أجل ما بينهما من الفرق كانت الأحكام النادرة الوقوع مع لفظ المضارع مواقع لإن ، والأحوال الكثيرة الوقوع ولفظ الماضي الدال على تحقيق الوقوع

__________________

(١) سورة المائدة الاية ٤٢.

(٢) سورة يوسف الاية ٣٣.

(٣) سورة الأعراف الاية ١٣١.

(٤) سورة الزلزلة الاية ١.


قطعا نظرا إلى نفس لفظه (وإن كان قد نقل بعد دخول الأداة عليه الى معنى الاستقبال) مواقع لإذا ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(١) ، أي إذا جاء آل فرعون حسنة كخصب ورخاء وكثرة أولاد قالوا نحن أحقاء بها ، وإن أصابهم جدب وبلاء تشائموا من موسى ومن آمن معه ، فعبّر بإذا في جانب الحسنة ، لأن المقصود منها الجنس ، وهو مقطوع بحصوله لكثرته ، وبأن في جانب السيئة لندورها ، ولهذا أنكرت للدلالة على القلة.

قال في «الكشاف» : وللجهل بمواقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ، ألا ترى الى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها :

ذممت ولم يحمد وأدركت حاجتي

تولى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثته على الخير مرة

عصاها وإن همت بشر أطاعا

ولو عكس في استعمال الأداتين لأصاب الغرض.

(تنبيه) قد تستعمل كل من الأداتين موضع الأخرى فتستعمل (إن) في الشرط المجزوم بثبوته لأغراض ، منها :

(١) التجاهل اذا اقتضاه المقام ، كما يقول المعتذر : إن كنت فعلت هذا فعن غير قصد.

(٢) تنزيل المخاطب منزلة الجاهل لأنه لم يجر على مقتضى علمه كما يقال للابن الذي لا يراعي حقوق الأبوة : إن كان هذا أباك فراع حقوقه عليك.

(٣) التوبيخ على الفعل ، تنبيها على أنه لقيام البراهين المقتضية وقوع خلافه ، كأنه محال الوقوع ، فيفرض كما يفرض المحال نحو : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٢) في قراءة الكسر ، إذ إسرافهم محقق ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٣١.

(٢) المعنى : أنهملكم ونضرب عنكم القرآن بترك القرآن بترك إنزاله لكم وترك ما فيه من وعد أو وعيد إعراضا عنكم إن كنتم مسرفين (سورة الزخرف).


لكنه عبر عنه بإن توبيخا لهم وإشارة الى أنهم لو تأملوا الآيات الظاهرة لصار الإسراف كأنه محال الحصول إذ هو لا يصدر عن عاقل في مثل هذه الحال.

(٤) تغليب غير من اتصف بالشرط على من اتصف به ، نحو : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(١) ، فقد غلب من لم يرتب من المخاطبين على من ارتاب وكان يعرف الحق وينكره عنادا ، كما تستعمل أيضا في المستحيل المجزوم بنفيه على سبيل المساهلة وإرخاء للعنان لإلزام الخصم وتبكيته نحو : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)(٢).

وتستعمل (إذا) في مواضع الشك لأغراض ، أهمها :

١ ـ الإشارة الى أن مثل ذلك الشرط لا ينبغي أن يكون مشكوكا فيه ، نحو قولك لمن قال : لا أدري أيتفضل عليّ الأمير بالنوال ، اذا تفضل عليك فكيف يكون شكرك.

٢ ـ عدم شك المخاطب.

٣ ـ تنزيل المخاطب منزلة الجازم الذي لا شك عنده.

٤ ـ تغليب الجازم على غير الجازم.

ولما كانت الأداتان لتعليق الجزاء بالشرط في الاستقبال التزم في جملتيهما الفعلية والاستقبال ، ذاك أن الشرط مفروض الحصول في المستقبل فيمتنع ثبوته ومضيه والجزاء معلق عليه ، ولا يعدل عن الاستقبال في اللفظ والمعنى إلى المعنى فقط ، إلا لنكتة ، كابراز غير الحاصل في معرض ما هو حاصل ، وذلك اما :

(١) للتفاؤل نحو : إن عشت نفعت أمتي وبلادي.

(٢) لقوة الأسباب وتوافرها ، كأن تقول حين انعقاد الشراء : إن اشتريت كان كذا.

(٣) لإظهار الرغبة في وقوعه ، فيكثر تصور المتكلم إياه ، حتى يخيل اليه ما ليس بالحاصل حاصلا ، كما تقول : إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك ما أبغي ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٢) سورة الزخرف الآية ٨١.


وعليه قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) ، جيء بلفظ الماضي للدلالة على توافر الرغبة في تحصينهن.

(٤) للتعريض ، نحو : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٢) ، قال في «الكشاف» : هذا كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ، وفيه لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى.

ونظيره في التعريض : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣) ، إذ المراد : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، كما يدل عليه (تُرْجَعُونَ).

ووجه حسن التعريض وملاحته إسماع المخاطبين الحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب ، وذلك لأنك تترك التصريح بنسبتهم الى الباطل ، وذلك أنفذ في أعماق القلوب ، حيث لا يريد المتكلم لهم إلا ما يريده لنفسه ، وهذا النوع كثير جدا في القرآن الكريم ، نحو : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٤).

(تنبيه) قد تستعمل إن في غير الاستقبال قياسا مطردا في موضعين :

١ ـ اذا كان الشرط لفظ كان ، نحو : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)(٥) الآية.

٢ ـ اذا جيء بها في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرد الربط دون الشرط نحو : علي وإن كثر ماله بخيل ، وقليلا في غير ذلك ، كقول أبي العلاء :

فيا وطني إن فإنني بك سابق

من الدهر فلينعم بساكنك البال (٦)

كما إذا إما :

__________________

(١) الفتيات الأماء ، وكان من عادتهم في الجاهلية أن يكرهوهن على تلك الفعلة الشنعاء.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٠.

(٣) سورة يس الآية ٢٢.

(٤) سورة سبأ الآية ٢٥.

(٥) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٦) الغرض من ذلك التحسر ، وجواب إن محذوف ، أي : فلا لوم علي لأني تركتك كرها يدل عليه فلينعم.


١ ـ للماضي ، نحو : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)(١).

٢ ـ أو للاستمرار ، نحو : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا)(٢).

(لو) للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط ، فيلزم انتفاء الجزاء ، بمعنى أن الجزاء كان يمكن أن يقع لو وجد الشرط ، فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، فهم منه أن المجيء شرط في الإكرام ، وأنه على تقدير وقوعه يقع الإكرام ، ولهذا قيل : ان (لو) لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وعليه قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٣) أي إن انتفاء الهداية ، إنما هو بسبب انتفاء المشيئة ونحوه قول الحماسي :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر (٤)

فإن عدم طيران ذلك الفرس بسبب أنه لم يطر ذو حافر قبلها.

وتجيء قليلا لامتناع الأول لامتناع الثاني ، فتفيد الدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات ، الى أن انتفاء الجزاء في الخارج ما هي ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٥) ، إذ المعنى أنه علم انتفاء تعدد الآلهة بسبب العلم بانتفاء الفساد ، ويكثر هذا في مقام الأدلة والبراهين ، لكن الاستعمال الأول هو الشائع المستفيض في القرآن والحديث وأشعار العرب.

ويجب كون جملتيهما فعليتين ماضويتين ، فإن دخلت على مضارع كان ذلك لنكتة ، إما :

١ ـ قصد الاستمرار في الماضي حينا فحينا ، نحو : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(٦). قال في «الكشاف» : إنما قيل : يطيعكم دون أطاعكم للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه ، وأنه كلما

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٩٦.

(٢) سورة البقرة الآية ١٤.

(٣) سورة النحل الآية ٩.

(٤) إن عدم طيران الفرس معلوم ، والمقصد بيان السبب ، وهو أنه لم يطر قبلها ذو حافر.

(٥) سورة الأنبياء الآية ٢٢.

(٦) العنت : الهلاك (سورة الحجرات).


عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله في كثير من الأمر كما تقول : فلان يقري الضيف ، ويحمي الحريم ، تريد أنه مما اعتاده ووجد منه على طريق الاستمرار.

٢ ـ وإما لتنزيل المضارع منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في وقوع أخباره ، نحو : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(١) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ)(٢) ، ونظيره (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣) ، قال الزمخشري : فإن قلت : لم أدخلت ربما على المضارع ، وقد أبوا دخولها إلا على الماضي ، قلت : لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ود.

__________________

(١) سورة الأنعام الاية ٢٧.

(٢) سورة السجدة الاية ١٢.

(٣) سورة الحجر الاية ٢.


الباب التاسع في الخروج عن مقتضى الظاهر

ما مضى في الأبواب السالفة هي الأحوال التي يلاحظ فيها البليغ مقتضى ظاهر الحال ، وقد يعدل عنها لنكتة ، فعلى المخاطب أن يبحث عن سبب العدول مستعينا بالقرائن ، ويسمى ذلك : الخروج عن مقتضى الظاهر.

وقد سبق ذكر شيء من أحواله نبهناك عليه في حينه ، كتنزيل العالم منزلة الجاهل ، والمعقول منزلة المحسوس ، وقد بقي منه أمور أهمها (١) تجاهل العارف (مزج الشك باليقين) وهو إخراج ما يعرف صحته مخرج ما يشك فيه ليزداد تأكيدا ، والداعي اليه :

١ ـ إما المدح كقول ذي الرمة :

أبا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقي آ أنت أم أم سالم (٢)

وقول أبي هلال العسكري :

أثغر ما أرى أم أقحوان

وقدّ ما أرى أم خيزران

٢ ـ وإما الذم كقول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

٣ ـ وإما التعجب كقوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)(٣).

٤ ـ وإما التوبيخ كقول ليلى بنت طريف الخارجية في أخيها الوليد :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف (٤)

__________________

(١) سماه ابن رشيق في العمدة التشكيك وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا ينخفى ما له من حسن الروعة وجمال الموقع.

(٢) الوعساء ، وجلاجل ، والنقي ، مواضع.

(٣) سورة الطور الاية ١٥.

(٤) الخابور نهر بديار بكر يصب في الفرات.


الالتفات : وهو فن من البلاغة ، ملاكه الذوق السليم ، والوجدان الصادق ، ويلقب (بشجاعة العربية) لأن فيه ورود الموارد الصعبة واقتحام مضايق الأساليب.

وحقيقته التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة : التكلم ، والخطاب ، والغيبة ، بعد التعبير عنه بطريق آخر منها ، وذلك ست صور :

١ ـ فمن التكلم الى الخطاب نحو : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١) دون (أرجع).

٢ ـ ومن التكلم الى الغيبة نحو : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(٢) دون (لنا).

٣ ـ ومن الخطاب الى التكلم نحو قول علقمة بن عبدة العجلي :

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب (٣)

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

وكان مقتضى الظاهر يكلفك أي القلب.

٤ ـ ومن الخطاب الى الغيبة نحو : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(٤) دون (بكم).

٥ ـ ومن الغيبة الى التكلم نحو : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ)(٥) دون (فساقه).

٦ ـ ومن الغيبة الى الخطاب نحو : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(٦) دون (إياه).

__________________

(١) سورة يس الاية ٢٢.

(٢) سورة الكوثر الايتان ١ و ٢.

(٣) طحا ذهب ، وبعيد تصغير بعد ، وحان قرب ، والولي القرب ، وفاعل يكلف القلب ، أي يطالبني القلب بوصل ليلى.

(٤) سورة يونس الاية ٢٢.

(٥) سورة فاطر الاية ٩.

(٦) سورة الفاتحة الاية ٣.


ووجه حسنه ما ذكره الزمخشري ، وهو أن الكلام إذا نقل من أسلوب الى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية وتجديدا لنشاط السامع وأكثر إيقاظا للإصغاء اليه من اجرائه على أسلوب واحد ، ومن ثم قيل : لكل جديد لذة ، وقد تختص مواقعه بلطائف كما في سورة الفاتحة ، فإن العبد اذا افتتح حمد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكره لما هو فيه بقوله : الحمد لله ، الدال على اختصاصه بالحمد ، وأنه حقيق به وجد من نفسه محركا للإقبال عليه ، فإذا انتقل إلى قوله : رب العالمين ، الدال على أنه : مالك للعالمين ، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته ، قوى ذلك المحرك ، وهكذا كلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام قوى ذلك المحرك ، الى أن يؤول الأمر الى خاتمتها المفيدة أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء ، حينئذ يجد من نفسه إقبالا عليه وتخصيصا له بالخطاب بغاية الخضوع والاستعانة به في المهمات.

الأسلوب الحكيم : وسماه الإمام عبد القاهر : المغالطة ، وهو نوعان :

١ ـ تلقي المخاطب (١) بغير ما يترقب بحمل كلامه على غير ما يريد تنبيها على أنه الأولى بالقصد كقول ابن حجاج البغدادي :

فقلت ثقلت إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي بالأيادي

قلت طولت قال لا بل تطول

ت وأبرمت قال حبل ودادي

فلفظ ثقلت وقع في كلام المتكلم بمعنى حملتك المئونة فحمله المخاطب على تثقيل عاتقه بالمنن والأيادي.

٢ ـ تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأهم كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(٢) ، فقد سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصارف تنبيها على أن المهم هو السؤال عنها لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها.

__________________

(١) التلقي المواجهة ، والمخاطب (بفتح الطاء) أي تلقي المتكلم بالكلام الثاني المخاطب به ، وهو المتكلم بالكلام الاول.

(٢) سورة البقرة الآية ٢١٥.


الإضمار في مقام الإظهار ، وذلك في موضعين :

١ ـ باب ضمير الشأن والقصة ، ويكون مرفوعا نحو : هي الدولة استعدت ، وهو الحق حصحص ، ومنصوبا نحو : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(١) وسر هذا الأسلوب المبالغة وتعظيم تلك القصة وتفخيمها ، من قبل أن الشيء اذا كان مبهما كانت النفوس متشوقة الى فهمه ، متطلعة الى علمه ، فإذا وضح وفسر حل محلا رفيع القدر لديها ، ومن ثمة لا يكون إلا في المواضع التي يقصد فيها التهويل.

٢ ـ باب نعم وبئس ، نحو : نعم رجلا محمد ، وبئس غلاما سعيد ، وانتصاب ما بعدهما من النكرات يجيء على جهة التفسير ، والداعي اليه المبالغة في المدح أو الذم ، من حيث انه عند الابهام يكون للأفئدة تطلع الى ايضاح المبهم وشغف إلى بيانه.

الاظهار في مقام الاضمار ، فإن كان المظهر اسم اشارة كان :

١ ـ اما لكمال العناية به لأجل اختصاصه بحكم غريب ، كقول ابن الراوندي (٢) :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا (٣)

فأتى باسم الاشارة لأجل الحكم البديع الذي اختص به المشار اليه وهو تركه الأوهام حائرة وتصييره العالم النحرير زنديقا.

٢ ـ وإما للتهكم بالسامع ، كما اذا كان فاقد الصبر ، فتقول له : هذا الهلال بين السحاب.

٣ ـ وإما لإظهار بلاهته ، كأن غير المحسوس عنده محسوس ، نحو : فجئني بمثلهم.

__________________

(١) سورة الحج الآية ٤٦.

(٢) هو احمد بن يحيى الراوندي المتوفى سنة ٢٩١ ه‍ ، اتهم بالزندقة ونسب اليه أنه عارض القرآن ، وأتى بما تضحك منه الثكلى.

(٣) أعيت أعجزت ، ومذاهبه وسائل عيشه ، والزنديق من يبطن الكفر ويظهر الاسلام ، واسم الاشارة يعود الى الحكم السابق وهو حرمان العاقل ورزق الجاهل.


٤ ـ وإما لكمال فطنته حتى كأن غير المحسوس عنده محسوس ، نحو :

تعاللت كي أشجى وما بك علة

تريدين قتلي قد ظفرت بذلك (١)

أي بقتلي ، وكان من حقه أن يقول به لكنه ادعى أن قتله قد ظهر ظهور المحسوس ، وإن كان المظهر غير اسم اشارة ، فإما :

(١) لزيادة تمكينه في ذهن السامع نحو : (اللهُ الصَّمَدُ)(٢) ، ونحو : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ)(٣) ، وقول الحماسي :

شددنا شدة الليث

غدا والليث غضبان

(٢) وإما للاستعطاف والخضوع الموجبين للشفقة ، كقوله :

إلهي عبدك العاصي أتاكا

مقرا بالذنوب وقد دعاكا

(٣) وإما لادخال الروعة والمهابة في نفس السامع نحو : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٤) ، لاندراج كل كمال تحت لفظ الجلالة فأجدر به أن يكون موضع النّكلان.

(٤) وإما للتهكم والتعجب ، نحو : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٥) ، ثم قال بعد : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ)(٦) ، فالغرض شد النكير عليهم والتعريض بأنهم حقا أهل التمرد والعناد.

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للدلالة على تحقيق وقعه ، نحو : ونادى أصحاب النار ، فقد جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع ، ومثله التعبير عنه باسم الفاعل نحو : (وَإِنَّ الدِّينَ)(٧) لَواقِعٌ بدل يقع ، أو باسم المفعول ، نحو : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ)(٨) بدل يجمع.

__________________

(١) تعاللت : ادعيت العلة ، أشجى : أحزن.

(٢) سورة الإخلاص الآية ٢.

(٣) سورة الحاقة الآية ١.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٥٩.

(٥ و ٦) سورة ص الآيات ١ و ٢ و ٤.

(٧) أي الجزاء حاصل ، فوقوع الجزاء استقبالي (سورة الذاريات).

(٨) سورة هود الآية ١٠٣.


(القلب) ، وهو جعل جزء من أجزاء الكلام مكان الآخر ، والآخر مكانه ، على وجه (١) يثبت حكم كل منهما للآخر ، وهو قسمان :

١ ـ ما يكون موجبه تصحيح حكم لفظي فقط والمعنى صحيح بدونه ، كقول القطامي :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا (٢)

لما نكر موقفا وهو في وضع المبتدأ وعرف الوداع وهو في موضع الخبر جعل من (باب القلب).

٢ ـ ما يكون موجبه تصحيح المعنى ، كقولهم : عرضت الناقة على الحوض ، وأدخلت القلنسوة في الرأس ، مكان : عرضت الحوض على الناقة ، وأدخلت الرأس في القلنسوة ، إذ الأصل أن يجاء بالمعروض الى المعروض اليه ، وأن ينقل المظروف الى الظرف لا بالعكس كما هنا.

والصحيح جوازه اذا اشتمل على مغزى شريف ومعنى حسن ، كقول رؤبة :

ومهمة مغبرة أرجاؤه

كأن لون أرضه سماؤه (٣)

يريد كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه لقصد المبالغة ، ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح :

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل (٤)

وإن لم يشتمل على اعتبار لطيف رد ، كقول عروة بن الورد :

(فديت بنفسه نفسي ومالي)

(التغلب) ، وهو إعطاء أحد المصطحبين أو المتشاكلين حكم الآخر ، وهو باب ذو شعب كثيرة ، فمن ذلك :

١ ـ تغليب المذكر على المؤنث ، نحو : وكانت من القانتين ، أدرجت مريم

__________________

(١) فان لم يثبت ذلك الحكم نحو : في الدار علي ، وكلم محمدا علي ، فان كلا منهما وإن جعل في مكان الآخر باق على حكمه ، لا يسمى ذلك قلبا.

(٢) قفي يا ضباعة ساعة حتى أودعك قبل التفرق فلا جعل الله لنا موقف الوداع موقفا.

(٣) المهمة المفازة ، والمغبرة المملوة بالغبار ، والأرجاء النواحي.

(٤) الأرى العسل ، واشتارته جنته ، والعواسل جمع عاسلة وهي جانية العسل.


في القانتين من الرجال ، تغليبا لهم على القانتات ، وقد جروا على خلاف الغالب في ألفاظ معدودات فغلبوا المؤنث على المذكر.

٢ ـ تغليب الكثير على القليل نحو : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ، غلب الملائكة على إبليس وهو ليس منهم ، وسمي الجميع ملائكة.

٣ ـ تغليب المعنى على اللفظ نحو : بل أنتم قوم تجهلون ، بدل يجهلون ، الذي ضميره للقوم ولفظه غائب مراعاة للخطاب بأنتم.

٤ ـ تغليب المخاطب على الغائب نحو : أنت وعلي صنعتما كذا.

٥ ـ تغليب أحد المتناسين على الآخر كالأبوين والقمرين للأب والأم والشمس والقمر ، وعليه قول المتنبي :

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا

٦ ـ تغليب العقلاء على غيرهم نحو : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.*)

يوضع الخبر موضع الإنشاء لأغراض ، منها :

(١) التفاؤل في الجمل الدعائية ، نحو : وفقك الله الى ما فيه الخير ، وقول النابغة :

أتاني (أبيت اللعن) أنك لمتني

وتلك التي أهتمّ منها وأنصب (١)

(٢) التباعد عن صيغة الأمر تأدبا واحتراما للسامع كما تقول لعظيم : ينظر مولاي في شأني ويقضي طلبتي ، مكان : انظر واقض.

(٣) التنبيه على تيسر المطلوب لوفرة الأسباب واستكمال العدة ، كما يقول القائد حاثا جنده : تفتكون بالأعداء وتنزلونهم من حصونهم وتذيقونهم الردى ، مكان : افتكوا وأنزلوهم وأذيقوهم.

(٤) إظهار الرغبة في حصول المطلوب كما تقول في الكتاب لغائب : جمع الله الشمل وقرّب أيام اللقاء.

__________________

(١) أبيت اللعن أي أبيت أن تفعل شيئا تلعن به وكانت هذه تحية الملوك ، وأهتم أصير لأجلها ذا هم ، والنصب التعب.


(٥) التنبيه على سرعة الامتثال ، ولو ادعاء ، نحو : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ)(١) مكان : لا تسفكوا ، مبالغة في النهي بادعاء أنهم نهوا فامتثلوا ، ثم أخبروا.

(٦) حمل المخاطب على الفعل بألطف أسلوب ، كقولك لرجل لا تحب أن يكذبك : تجيء غدا ، مكان قولك : جيء ، لتحمله على المجيء لأنه إن لم يأت غدا صرت كاذبا من حيث الظاهر (٢) لكون كلامك في صورة الخبر.

يوضع الإنشاء موضع الخبر لاعتبارات ، منها :

١ ـ إظهار العناية بالشيء والاهتمام به ، نحو : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٣) لم يقل : وإقامة وجوهكم ، إشعار بالعناية بالصلاة لعظيم خطرها وجليل قدرها في الدين.

٢ ـ التباعد عن مساواة اللاحق بالسابق ، نحو : (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ)(٤) لم يقل : وأشهدكم ، تحاشيا عن مساواة شهادتهم بشهادة الله تعالى.

٣ ـ الرضا بما هو حاصل كأنه مطلوب في قوله عليه‌السلام : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» مكان يتبوأ.

الانتقال من الماضي الى المضارع ، أو بالعكس :

(١) فالأول نحو : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ)(٥) جاء تثير ، بدل أثارت ، لتستحضر تلك الصورة الماضية ، حتى كأن الإنسان يشاهد اثارة الريح للسحاب ، فيستدل من ذلك على عجيب قدرته ، وباهر حكمته.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٨٤.

(٢) أما في الحقيقة فلا كذب ، لأنه كلام في معنى الإنشاء.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٩.

(٤) سورة هود الآية ٥٤.

(٥) سورة الروم الآية ٤٨.


(٢) والثاني كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(١) عطف ففزع على ينفخ تأكيدا للثبوت ومبالغة في الحصول ودلالة على أن ذلك كائن لا محالة.

تدريب

بيّن السر في خروج التراكيب الآتية عن مقتضى الظاهر :

١ ـ كل خليل كنت خاللته

(لا ترك الله له واضحة) (٢)

كلهم أروغ من ثعلب

(ما أشبه الليلة بالبارحة) (٣)

٢ ـ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا (٤) من رحمة الله.

٣ ـ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(٥).

٤ ـ أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيعتك الحياء

كريم لا يغيره صباح

عن الخلق الجميل ولا مساء

٥ ـ ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي (٦)

٦ ـ وقالوا قد صفت منا قلوب

نعم صدقوا ولكن عن ودادي

٧ ـ يقول العبد للمولى إذا حول وجهه عنه : ينظر مولاي إليّ هنيهة.

٨ ـ يكون مزاحها عسل وماء.

الاجابة

(١) وضع الخبر موضع الانشاء للدعاية عليه في قوله : لا ترك الله له واضحة.

(٢) فيه التفات بالانتقال من الخطاب الى الغيبة في رحمة الله.

(٣) فيه التفات بالانتقال من الخطاب الى التكلم.

__________________

(١) سورة يس الآية ٥١.

(٢) الخليل الصديق ، والواضحة الأسنان تبدو عند الضحك.

(٣) مثل يضرب لتشابه الأمور.

(٤) القنوط : اليأس.

(٥) سورة هود الآية ٩٠.

(٦) الضاحي : البارز.


(٤) فيه التفات من الخطاب الى الغيبة.

(٥) فيه تجاهل العارف.

(٦) فيه الأسلوب الحكيم ، فقد حمل صفاء القلوب على خلوها من الود.

(٧) وضع الخبر موضع الانشاء تأدبا في قوله : ينظر ، بدل : انظر.

(٨) فيه قلب ، والأصل يكون : مزاجها عسلا وماء.

تمرين

١ ـ تطاول ليلك بالأئمد

ونام الخلى ولم ترقد (١)

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العاثر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني

وخبرته عن أبي الأسود

٢ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)(٢)

٣ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)(٣)

٤ ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٤)

٥ ـ فلما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا (٥)

٦ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً)(٦)

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى)(٧)

٧ ـ بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

__________________

(١) قاله امرؤ القيس ، والأئمد موضع ، والعاثر مرض العين.

(٢) سورة النساء الآية ٦٤.

(٣) سورة البقرة الآية ١٨٩.

(٤) سورة الكهف الآية ٤٧.

(٥) الفدن القصر ، وسباع الطين المخلوط بالتبن وجواب لما في البيت بعده.

(٦) سورة الأعراف الآية ٤.

(٧) سورة النجم الآية ٨.


الباب العاشر في القصر

وفيه ستة مباحث

المبحث الأول في تعريفه لغة واصطلاحا

القصر في اللغة : الحبس ، وفي التنزيل : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ)(١) ، قال الفراء : قد قصرن أنفسهن على أزواجهن فلم يطمحن الى غيرهم.

وفي الاصطلاح إثبات الحكم للمذكور في الكلام ونفيه عما عداه ، أو هو تخصيص أمر بأمر بإحدى الطرق الآتية ، والتعريف الثاني أصح لشمول الأول لقولك : محمد مقصور على القيام ، وذلك لا يسمى قصرا اصطلاحا.

فإذا قلنا : ما سافر إلا علي ، استفيد من ذلك تخصيص السفر بعلي ونفيه عن غيره ممن يظن فيه ذلك ، فما قبل إلا مقصور وما بعدها مقصور عليه (ما وإلا) طريق القصر.

المبحث الثاني في طرقه

طرق القصر والاختصاص كثيرة أوصلها السيوطي في كتابه «الاتقان» الى أربعة عشر طريقا (٢) أشهرها ستة تقدم الكلام على اثنين منها وهما توسط ضمير الفصل نحو : كليم الله هو موسى ، تعريف المسند بأل نحو : خير الزاد التقوى ، وسنتكلم هنا على الأربعة الباقية وهي :

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٧٢.

(٢) منها التصريح بلفظ وحده أو لا غير أو فقط ، أو بمادة الاختصاص ، أو بمادة القصر ، وكل هذه ليست من الطرق الاصطلاحية.


١ ـ ووجه إفادة النفي والاستثناء القصر أنه اذا قيل : ما محمد ، توجه النفي الى صفته لا الى ذاته ، لأن الذوات لا تنفى ، ومن حيث إنه لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك ، وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفي ، فإذا قيل : إلا شاعر جاء القصر ، هذا في قصر الموصوف على الصفة ، أما في قصر الصفة على الموصوف فإنه متى قيل : ما شاعر ، فأدخل النفي على الوصف المسلم ثبوته وهو الشعر لغير الشخصين اللذين الكلام فيهما كمحمد وعلي مثلا ، توجه النفي اليهما فإذا قيل : إلا محمد ، حصل القصر.

٢ ـ ووجه إفادة إنما القصر تضمنها معنى : ما وإلا ، دليل ذلك البراهين الآتية :

(أ) ما قاله النحاة من كون إنما لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.

(ب) ما قاله المفسرون في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)(١) بنصب الميتة من أن المعنى : ما حرم عليكم إلا الميتة ، وهذا المعنى هو المطابق لقراءة رفع الميتة لانحصار التحريم فيها ، إذ ما في قراءة الرفع اسم موصول ، فتقدير الكلام حينئذ إن المحرم الميتة والخبر معرف بلام الجنس فيفيد الحصر كما تقدم.

(ج) صحة انفصال الضمير معها فتقول : إنما يسافر أنا ، كما تقول : ما يسافر إلا أنا ، كما قال الفرزدق :

أنا الزائد الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (٢)

__________________

(١) سورة النحل الآية ١٥٥.

(٢) الذود الطرد ، والذمار العهد ، وفي الأساس هو الحامي الذمار اذا حمى ما لو لم يحمه ليم وعنف ، والحسب ما يعده المرء من مفاخر نفسه وآبائه.


إذ لو كان المراد الايجاب لم يستقم ، لأنك لا تقول : يدافع أنا ، وإنما تقول : أدافع ، ولكن لما كان المعنى : ما يدافع إلا أنا ، فصل الضمير كما يفصل مع النفي والاستثناء ليتأتي له ما قصد وهو تخصيص المدافع لا المدافع عنه ، إذ لو قال : وإنما أدافع عن أحسابهم لصار المعنى أنه يدافع عن أحسابهم لا عن غيرهم ، وليس ذلك بمقصود بما فيه من قصور المدح والمقام مقام مبالغة إذ هو في معرض التفاخر وعدا المآثر.

قال السكاكي ويذكر لذلك وجه لطيف يسند الى علي بن عيسى الربعي ، وهو أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ثم اتصلت بها ما المؤكدة لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ، ناسب أن يضمن معنى القصر لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد.

٣ ـ يراد بالتقديم تقديم ما كان حقه أن يؤخر ، كتقديم الخبر على المبتدأ ، وتقديم بعض معمولات الفعل عليه ، نحو : أنا أنجزت مسألتك ، أي وحدي ، لمن اعتقد أنك وغيرك أنجزتماها ، أو بمعنى : لا غيري ، لمن اعتقد أن غيرك أنجزها دونك.

وهذه الطرق تفترق من وجوه :

(١) أن التقديم يدل على القصر بمفهوم الكلام ، فإن ذا الذوق السليم اذا تأمل في كلام فيه التقديم ، فهم منه القصر ، وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء في ذلك ، والثلاثة الباقية بالوضع اللغوي ، لأن الواضع وضعها لتفيد ذلك.

(٢) أن الأصل أن ينص في العطف على المثبت والمنفي معا ، فلا يترك ذلك إلا خوف التطويل ، كما اذا قيل : محمد يعلم الكيمياء والطب والهندسة والجبر والفلك ، أو محمد يعلم الكيمياء ، وإبراهيم وخالد إلى آخره .. فتقول فيهما : محمد يعرف الكيمياء لا غير ، أي لا الطب ولا الهندسة الى آخره في الأول ، ولا إبراهيم ولا خالد في الثاني ، وينص في الثلاثة الباقية على المثبت فقط.

(٣) أن النفي بلا العاطفة لا يجتمع مع النفي والاستثناء ، فلا تقول : ما محمد إلا مجتهد لا كسل ، لأن شرط جواز النفي بلا ، أن يكون ما قبلها منفيا بغيرها ، ولذا عيب على صاحب «الكشاف» حيث قال في تفسير قوله تعالى :


فإذا عزمت فتوكل على الله ، أي لأن الأصلح لك لا يعلمه إلا الله ، لا أنت ، وعلى الحريري في قوله :

لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه

على ما تجلى يومه لا ابن أمسه

ويجتمع مع إنما والتقديم فتقول : إنما محمد مجتهد لا كسلان ، وهو يجتهد لا علي ، لأن النفي فيهما غير مصرح به ، بل المصرح به هو الاثبات ، فلا يقبح تأكيد ما تضمناه والنفي بلا ، بخلاف ما وإلا فإنه قد صرح فيهما بالنفي ، والنفي الصريح ليس كالضمني.

(تنبيه) لا يحسن العطف بعد إنما اذا كان الوصف مختصا بالموصوف كالتذكر الذي يعلم أنه لا يكون إلا من أولي الألباب في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١) ، فلا يحسن أن تقول : إنما يتذكر أولو الألباب لا الجهال ، كما يحسن أن تقول : إنما يجيء محمد لا علي.

(٤) أن الأصل في (النفي والاستثناء) أن يكون لأمر ينكره المخاطب أو يشك فيه أو لما هو منزل هذه المنزلة ـ بيان ذلك أنك لا تقول ما هو إلا مخطى إلا لمن ينكر أن يكون الأمر على ما قلت ، وإذا رأيت شبحا من بعد فقلت : ما هو إلا علي ، لم تقله إلا والمخاطب يتوهم أنه ليس بعلي.

وأما ما هو منزل هذه المنزلة فكقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(٢) أي مقصور على الرسالة لا يتعداها الى التبري والتباعد عن الهلاك ، نزل استفظاعهم هلاكه وشدة حرصهم على بقائه منزلة إنكارهم ذلك.

ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(٣) ، لأن الكفار جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم.

وأما قوله تعالى : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)(٤) ، فمن باب مجاراة الخصم وتسليم بعض مقدماته لتنقطع حجته

__________________

(١) سورة الرعد الآية ١٩.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٤.

(٣) سورة النحل الآية ٥٨.

(٤) سورة إبراهيم الآية ١١.


كما هي العادة فيمن ادعى على خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه ، كما اذا قال لك من يحاجك في مسألة : أنت من دأبك كيت وكيت ، فتقول : نعم أنا من دأبي كيت وكيت لكن لا ضير عليّ ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت ، فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا : إن ما قلتم هو كما قلتم ، لكن ذلك لا يمنع الرسل وفضل الله علينا.

(٥) ان الأصل في إنما أن تجيء لأمر من شأنه ألا يجهله المخاطب ولا ينكره وإنما يراد تنبيهه فقط ، أو لما هو منزل هذه المنزلة.

تفسير هذا أنك تقول للرجل : إنما هو صاحبك القديم ، وإنما هو أخوك ، لمن يعلم ذلك ويعترف به ، لكنك تريد أن تنبهه لما يجب عليه من حرمة الصاحب وحق الأخوة لترققه وتستعطف قلبه ، ألا ترى الى أبي الطيب حين يقول :

إنما أنت والد والأب القا

طع أحني من واصل الأولاد

لم يرد أن يعلم كافورا أنه لابن الأخشيد مولاه بمنزلة الوالد ، ولا كافور في حاجة إلى أن يعلم بذلك ، لكنه أراد أن يذكره بالأمر المعلوم ليجعله ذريعة إلى استدعاء ما يستوجبه من العطف والحنان ، ونظير ذلك قولهم : إنما يعجل من يخشى الفوت ، وقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(١). وأما ما هو منزل هذه المنزلة فكقوله تعالى حكاية عن اليهود : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(٢) ، فهم قد ادعوا أن اصلاحهم أمر جلي ظاهر ، ولذا جاء الرد عليهم مؤكدا بأن واسمية الجملة وتعريف الخبر باللام وضمير الفصل وتصدير حرف التنبيه حيث قال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(٣). ونحو ذلك قول ابن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير :

إنما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظلماء

حيث ادعى أن ثبوت هذه الصفة لممدوحه أمر ظاهر ، لا يخفى على أحد ، كما هو دأب الشعراء اذا مدحوا أن يدعوا الشهرة فيما يصفون به ممدوحهم ، ألا ترى الى البحتري حين يقول :

لا أدعي لأبي العلاء فضيلة

حتى يسلمها اليه عداه

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٣٦.

(٢ و ٣) سورة البقرة الآيتان ١١ و ١٢.


هذا وقد علم بالاستقراء أن أحسن موقع تستعمل فيه إنما اذا كان الغرض منها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها نحو : إنما يتذكر أولوا الألباب ، فإنه تعريض بذم الكافرين من حيث أنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب ، ونظيره : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)(١) إذ المراد أن من لم تكن له من هذه الخشية ، فكأنه ليس له أذن تسمع ، ولا قلب يعقل ، فالإنذار وعدمه سيان. وعلى ذلك جاء قوله :

أنا لم أرزق محبتها

إنما للعبد ما رزقا

فهذا تعريض بأنه لا مطمع له في وصلها فهو يائس منه.

(٦) لأنما مزية على العطف ، وهي أن يعقل منها إثبات الفعل للشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة بخلاف العطف ، فإنه يفهم منه أولا الاثبات ثم النفي ، نحو : محمد قائم لا قاعد ، أو بالعكس نحو : ما محمد قائما بل قاعد.

المبحث الثالث في تقسيمه باعتبار الواقع والحقيقة (٢)

ينقسم القصر باعتبار الواقع والحقيقة الى قسمين : حقيقي وإضافي :

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٤٥.

(٢) لم يذكر هذا التقسيم صاحب «المفتاح» لقلة جدواه.


المبحث الرابع في تقسيمه باعتبار حال المقصور

ينقسم كل من الحقيقي والإضافي باعتبار حال المقصور الى قسمين :

١ ـ قصر موصوف على صفة بألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة الى صفة أخرى أصلا (في القصر الحقيقي) نحو : ما الله إلا كامل ، وهذا التقسيم متعذر لا يكاد يوجد أو هو محال لتعذر (١) الاحاطة بصفات الشيء فلا يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداه ولذا لم يقع في التنزيل ، أو بألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة الى صفة أخرى مخصوصة وإن أمكن أن يتجاوزها الى صفات أخرى غير تلك الصفة الأخرى المخصوصة (في القصر الإضافي) نحو : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(٢) فالمقصود قصره على الرسالة بألا يتعداها الى التباعد عن الموت الذي استعظموه ، وهذا لا ينافي أنه متصف بالصحة واليقظة ونحوهما.

٢ ـ قصر صفة على موصوف بألا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف الى موصوف آخر أصلا (في القصر الحقيقي) نحو : لا يعلم الغيب إلا الله ، أو بألا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف الى موصوف آخر مخصوص ، وإن أمكن أن تتجاوزه الى موصوف غير ذلك الموصوف الآخر (في القصر الإضافي) نحو : لا محترم إلا الصادق فالمقصود قصر الاحترام على الصادق دون الكاذب فلا يمنع هذا من احترام الأمين والمخلص لوطنه ونحو ذلك.

المبحث الخامس في تقسيمه باعتبار حال المخاطب

ينقسم القصر الإضافي (٣) باعتبار حال المخاطب الى ثلاثة أقسام :

__________________

(١) لأنك اذا قلت : ما محمد إلا كاتب وأردت القصر الحقيقي لزم إلا يتصف بالقيام والقعود مع أنه لا بد أن يتصف بواحد منها ضرورة أن النقيضين لا يجتمعان ، وأيضا يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس له غيرها.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٤.

(٣) دون الحقيقي بنوعيه لأن العاقل لا يعتقد اتصاف أمر بجميع الصفات ، ولا اتصافه بجميعها إلا واحدة ، أو يتردد في هذا ، وكيف يكون ذلك وفيها صفات متقابلة ، فلا يصح أن يقصر الحكم على بعضها وينفى عن الباقي افرادا أو قلبا أو تعيينا ، وعلى هذا المنوال قصر الصفة على الموصوف.


١ ـ قصر أفراد اذا اعتقد المخاطب (١) الشركة بين شيئين فأكثر ، نحو : إنما الله إله واحد ، خوطب به من يعتقد أن الله ثالث ثلاثة ، بدليل قوله قبلها : ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم.

٢ ـ قصر قلب اذا كان المخاطب يعتقد عكس الحكم فتقلب عليه اعتقاده ، نحو : ما شاعر إلا شوقي ، ردا على من زعم أن غيره أشعر منه.

٣ ـ قصر تعيين اذا كان المخاطب مترددا في الحكم نحو : ما شاعر إلا شوقي ردا على من تردد في إثبات الشعر له ولبعض الشعراء الآخرين.

المبحث السادس في مواقع القصر

كما يكون القصر بين المبتدأ والخبر ، كما رأيت ، يكون أيضا بين الفعل والفاعل ، وبين الفاعل والمفاعيل بأنواعها إلا المفعول معه ، وكذا بين جميع المعمولات ، نحو : ما جاء إلا علي ، وما نال عليا إلا التعب ، وما أعطيت محمدا إلا دينارا ، وما جاء علي إلا راكبا.

فإذا كان القصر : بما وإلا ، وجب تقديم المقصور وتأخير المقصور عليه ، مع إلا ونحوها من أدوات الاستثناء نحو : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)(٢) ، وهو قصر قلب لا افراد إذ المعنى أني لم أترك ما أمرتني أن أقوله لهم الى خلافه ، بدليل : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، وليس المراد أني لم أزد على ما أمرتني به شيئا إذ ليس الكلام في زيادة أو نقصان في التبليغ.

ويجوز قليلا تقديم المقصور عليه وأداة الاستثناء وهما بحالهما (٣) على المقصور نحو : ما كلم إلا محمد خالدا ، وما كلم إلا محمدا خالد ، وعليه قوله :

فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى

عليهم وهل إلا عليك المعوّل

ووجه إفادة النفي والاستثناء القصر في كل ما تقدم أن النفي في الاستثناء المفرغ يتوجه الى مقدر هو مستثنى منه ، إذ إلا للاخراج ، وهو يتطلب مخرجا منه ،

__________________

(١) شرطا في قصر الموصوف على عدم تنافي الوصفين ليصح اعتقاد المخاطب اجتماعهما.

(٢) سورة المائدة الآية ١١٧.

(٣) فالاختصاص في الذي يلي إلا ، فالمقصود عليه هو الفاعل في الأول والمفعول في الثاني.


وذلك المقدر عام مناسب للمستثنى منه في جنسه وصفته ليتحقق الاخراج ففي نحو : ما فهم إلا محمد ، يقدر ما فهم أحد ، وفي نحو : ما كسوته إلا عباءة ، ما كسوته لباسا ، فإذا أخرج منه شيء جاء القصر ضرورة بقاء ما عدا ذلك الشيء على جهة الانتفاء. وإذا كان القصر بإنما أخّر المقصور عليه ، فيكون القيد الأخير بمنزلة الواقع بعد إلا ، فيكون هو المقصور عليه نحو : إنما محمد قائم وإنما أنّبته زجرا له. ولا يجوز تقديم المقصور عليه على غيره ، لئلا يؤدي الى الإلباس ، إذ قولك : إنما كلم محمد عليا يفهم عنه عكس قولك : إنما كلم محمدا علي. ولا إلباس في النفي والاستثناء.

قال السكاكي : ومما ذكر تعثر على الفرق بين قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(١) ، وقوله إنما يخشى العلماء من عباد الله فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء ، والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله.

تدريب أول

بيّن نوع القصر وطريقه فيما يأتي :

١ ـ لا يألف العلم إلا ذكي ، ولا يجفوه إلا غبي.

٢ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنا (٢)

٣ ـ إنما الدنيا هبات

وعوار مسترده

شدة بعد رخاء

ورخاء بعد شده

٤ ـ إن الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد الناس

٥ ـ بك اجتمع الملك المبدد شمله

وضمت قواص منه بعد قواصي (٣)

٦ ـ ليس اليتيم الذي قد مات والده

بل اليتيم يتيم العلم والأدب

٧ ـ محاسن أوصاف المغنين جمة

وما قصبات السبق إلا لمعبد (٤)

٨ ـ عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

__________________

(١) سورة فاطر الاية ٢٨.

(٢) قطر الفارس ألقاه على قطريه أي جانبيه.

(٣) المبدد المفرق ، والقواصي جمع قاصية : الناحية البعيدة.

(٤) مغن مشهور أيام بني أمية وبني العباس.


الاجابة

تدريب ثان

١ ـ هات جملة تفيد نجاح محمد وعدم نجاح خالد بواسطة إنما.

٢ ـ رد بطريق القصر بإنما على من ظن أن المطر يكثر شتاء في السودان.

٣ ـ اجعل الجملة الآتية دالة على قصر الصفة على الموصوف بطرق القصر الأربع ، وهي (أكرم المؤدب).

٤ ـ (أ) من تخاطب بالجملة الآتية فيكون القصر قصر قلب.

(ب) من تخاطب بالجملة الآتية فيكون القصر قصر افراد.

(ج) من تخاطب بالجملة الآتية فيكون القصر قصر تعيين ، وهي : ما كتبت إلا ما طلبته مني.

٥ ـ غيّر الجملة الآتية ، بحيث تفيد للقصر بالعطف (بك اجتمع الملك المبدد شمله).

٦ ـ اجعل الجملة الآتية مفيدة للقصر بواسطة النفي والاستثناء (إن الطيور على أشكالها تقع).

٧ ـ اجعل الجملة الآتية مفيدة للقصر بواسطة إنما (يحمد الناس الصادق).

٨ ـ اجعل الجملة الآتية مفيدة للقصر بواسطة العطف (ينال المجد المجتهد).


الاجابة

١ ـ إنما نجح محمد لا خالد.

٢ ـ إنما يكثر المطر في السودان ربيعا لا شتاء.

٣ ـ (أ) لا أكرم إلا المؤدب.

(ب) إنما أكرم المؤدب.

(ج) أكرم المؤدب لا سيء الخلق.

(د) المؤدب أكرم.

٤ ـ (أ) اذا كان المخاطب يعتقد أنك كتبت غير ما طلب.

(ب) اذا كان المخاطب يعتقد أنك كتبت ما طلب وغيره.

(ج) اذا كان المخاطب مترددا في كتابتك ما طلب وغيره.

٥ ـ اجتمع الملك المبدد شمله بك لا بغيرك.

٦ ـ لا تقع الطيور إلا على أشكالها.

٧ ـ إنما يحمد الناس الصادق.

٨ ـ ينال المجد المجتهد لا الكسلان.

تمرين أول

بيّن طريق القصر ونوعه باعتبار المقصود عليه وباعتبار الواقع وباعتبار المخاطب :

١ ـ وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى

ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا

٢ ـ وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

٣ ـ وللفتى من ماله ما قدمت

يداه قبل موته لا ما اقتنى

٤ ـ ما افترينا في مدحه بل وصفنا

بعض أخلاقه وذلك يكفي

٥ ـ ليس عار بأن يقال فقير

إنما العار أن يقال بخيل

٦ ـ وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

٧ ـ سيذكرني قومي اذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

٨ ـ وما بلد الإنسأن غير الموافق

ولا أهله الأدنون غير الأصادق

٩ ـ عمر الفتى ذكره لا طول مدته

وموته خزيه لا يومه الداني

١٠ ـ بالعلم والمال يبني الناس ملكهم

لا يبن ملك على جهل واقلال


تمرين ثان

١ ـ رد بطريق القصر على من زعم تأخر فن الطب بمصر.

٢ ـ ضع الجملة الآتية بإحدى طرق القصر المتقدمة : يحب الناس المخلص لوطنه.

٣ ـ من تخاطب بهذه الجملة على طريق قصر القلب : لا ينال العلا إلا مجدّ.

٤ ـ حوّل القصر في هذه الجملة الى قصر بإنما : وما قصبات السبق إلا لمعبد.

٥ ـ حوّل طريق القصر الآتي الى نفي واستثناء : وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

٦ ـ رد بطريق القصر على من زعم قلة الحر في الصعيد.

٧ ـ غيّر الجملة التالية بحيث تفيد القصر بالعطف : بك وثقت.

٨ ـ ضع الجملة الآتية بحيث تفيد القصر بإنما (يجلّ الناس الجواد).


الباب الحادي عشر في الفصل والوصل

وفيه تمهيد وخمسة مباحث

تمهيد في دقة مسلكه وعظيم خطره

الفصل والوصل هو العلم بمواضع العطف أو الإستئناف والتهدي الى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها ، أو تركها عند الحاجة اليها ، وذلك صعب المسلك لطيف المغزى كثير الفائدة غامض السر لا يوفق للصواب فيه إلا من أوتي حظا من حسن الذوق وطبع على البلاغة ورزق بصيرة نقادة في إدراك محاسنها ، ولصعوبة ذلك جعل حدا للبلاغة ، ألا ترى الى بعض البلغاء وقد سئل عن البلاغة فقال : «هي معرفة الفصل والوصل» ، فجعل ما سواه تبعا ومفتقرا إليه وليس بالخفي أنه لم يرد بذلك إلا التنبيه على غموضه وجليل خطره وأن أحدا لا يكمل في معرفته إلا كمل في سائر فنونها ، فإن سبك الكلام وقوة أسره وشدة تلاحم أجزائه تحتاج الى صانع صنع وحاذق ماهر يبين بين أقسام الجمل التي تفصل والتي توصل فيرى الفرق واضحا بين جملتين تمتزجان حد الامتزاج حتى كأن إحداهما الأخرى وجملتين لا تناسب بينهما (١) فإحداهما مشئمة (٢) والأخرى معرقة ، وجملتين هما وسط بين الأمرين فيحكم بوجوب الفصل في النوعين الأولين والوصل في النوع الثالث ، واعتبر ذلك بما تراهم قد أجمعوا عليه من النعي على أبي تمام وهو ما هو ، في قرض الشعر ، ورفيع المنزلة ، في صياغة الكلام ، في قوله يمدح أبا الحسين محمد الهيثم :

__________________

(١) المراد بذلك شدة التباين بينهما.

(٢) أي ناحية في الشام.


زعمت هواك عفا الغداة كما

عفت منها طلول باللوى ورسوم

لا والذي هو عالم أن النوى

صبر وأن أبا الحسين كريم (١)

إذ قد وصل (وأن أبا الحسين كريم) بما قبله ولا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ، ولا تعليق لأحدهما بالآخر ، إذ لا يقتضي الحديث ، بهذا الحديث ، بذلك.

المبحث الأول في وصل المفردات وفصلها

البحث في وصل الجمل وفصلها لا يتضح إلا اذا سبقه الكلام على وصل المفردات وفصلها ، وبيان هذا أن عطف مفرد على آخر يستفاد منه مشاركة الثاني للأول في اعرابه من رفع ، ونصب ، وجر ، ولكن الأكثر في الصفات ألا يعطف بعضها على بعض ، نحو : جاء محمد العاقل الفاضل الكريم ، وسر هذا أن الصفة جارية مجرى موصوفها ، فهي تدل على ذات لها تلك الصفة ، ومن ثم يمتنع عطفها على موصوفها ، فلا يجوز : جاءني محمد والكريم ، على أن الكريم هو محمد ، لأنه لا يصح عطف الشيء على نفسه ، وجاء قليلا عطف بعضها على بعض باعتبار المعاني الدالة عليها ، فنقول : نظرت الى علي الفاضل ، والمؤدب والكريم ، كأنك قلت : نظرت الى من اتصف بالفضل والأدب والكرم ، وعلى ذلك جاء قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

المبحث الثاني في وصل الجمل

وصل الجمل عطف بعضها على بعض بالواو ، أو إحدى أخواتها ، وفائدته تشريك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ، ومن حروف العطف ما يفيد العطف فحسب ، وهو الواو ، ولذا قد تخفى الحاجة اليها فلا يدركها إلا من أوتي حظا من حسن الذوق ، ومنها ما يفيد مع التشريك معاني أخرى كالترتيب من غير تراخ

__________________

(١) زعمت : أي محبوبته ، عفا : درس وزالت معالمه ، والطلول جمع طلل آثار الديار التي هجرها أهلها ، والصبر ثمر شجر مر ، والخطاب في هواك للنفس ، وجواب القسم ما ذكره في البيت بعده :

ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت

نفسي على إلف سواك تحوم


في الفاء ، وهو مع التراخي في ثم ، وهكذا ، ومن أجل ذلك لا يقع اشتباه في استعمال ما عدا الواو ، ولذا لا يبحث هنا إلا عنها.

والجمل المعطوف بعضها على بعض ضربان :

١ ـ أن يكون للجملة المعطوف عليها موضع من الاعراب ، وحكم هذه حكم المفرد لأنها لا تكون كذلك حتى تكون واقعة موقعه ، وحينئذ يكون وجه الحاجة فيها الى الواو ظاهرا ، والإشراك بها في الحكم موجودا ، فإذا قلت : نظرت إلى رجل خلقه حسن ، وخلقه قبيح ، كنت قد أشركت الثانية في حكم الأولى ، وهو كونها في موضع جر صفة للنكرة ، ونظائر ذلك كثيرة ، وخطبها يسير.

٢ ـ ألا يكون لها موضع من الاعراب ، وتحت هذه نوعان :

(أ) أن تتفق (١) الجملتان خبرا وإنشاء ، وتكون بينهما مناسبة وجامع يصحح العطف مع عدم المانع ، نحو : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٢) ، ونحو : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) ، ويسمى ذلك توسطا بين الكمالين.

(ب) أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء ، لكن لو ترك العطف لأوهم خلاف المقصود ، كما تقول : لا وشفاه الله ، جوابا لمن سألك : هل أبلّ محمد من مرضه؟

فترك الواو حينئذ يوهم الدعاء عليه مع أن المقصود الدعاء له ، وقد روي أن هارون الرشيد سأل وزيره عن شيء فقال : لا وأيد الله الخليفة. فلما بلغ ذلك الصاحب ابن عباد قال : هذه الواو أحسن من الواوات في خدود الملاح.

وقد ذكر صاحب المغرب أن أبا بكر الصديق رضي‌الله‌عنه مر برجل في يده ثوب ، فقال له الصديق : أتبيع هذا؟ فقال : لا يرحمك الله ، فقال له : لا تقل هكذا وقل لا ويرحمك الله.

ويسمى ذلك كمال الانقطاع مع إيهام خلاف المراد.

__________________

(١) المدار في ذلك على اتفاقهما خبرا وإنشاء في المعنى ، سواء كانتا خبريتين لفظا ومعنى ، أو خبريتين معنى لا لفظا أو الأولى خبرية معنى لا لفظا أو بالعكس أو إنشائيتين لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا أو الأولى خبرية لفظا والثانية إنشائية أو بالعكس.

(٢) سورة الانفطار الآية ١٤.


المبحث الثالث في الجامع

لا بد في الضرب الأول والنوع الأول من الضرب الثاني من صور الوصل من وجود جامع بين الجملتين به تتجاذبان وعليه تعتمدان.

بيان هذا أنه لا يقع العطف موقعه ولا يحل المحل اللائق به إلا إذا وجد بين الجملة الأولى والثانية جهة جامعة نحو : محمد يعطي ويمنع ، ويكتب ويشعر ، ويقبح أن تقول : خرجت من داري ، وأحسن ما قيل من الشعر ، كذا إذ لا صلة بين الثانية والأولى ولا تعلق لها بها.

والجامع (١) أما عقلي أو وهمي أو خيالي ، فالعقلي أن يكون بين الجملتين اما :

(١) اتحاد في المسند اليه أو في المسند ، أو في قيد من قيودهما نحو : محمد يكتب ويشعر ، وقوله :

يشقى الناس ويشقى آخرون بهم

ويسعد الله أقواما بأقوام

وخالد الكاتب أديب ومحمد الكاتب فقيه.

(٢) وإما تماثل واشتراك فيهما أو في قيد من قيودهما ، ولا يكفي مطلق تماثل بل التماثل والمراد أن يكون في وصف له نوع اختصاص بالمسند اليه أو المسند أو القيد ، فنحو : محمد شاعر وعمر كاتب ، إنما يحسن اذا كان محمد وعمر أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة.

(٣) وإما تضايف بينهما بحيث لا يتعقل أحدهما إلا بالقياس الى الآخر كالأبوة مع النبوة والعلو مع السفل والأقل مع الأكثر ، ونحو ذلك.

والوهمي أن يكون بين الجملتين اما :

١ ـ شبه تماثل كلوني بياض وصفرة ، فإن الوهم لبرزهما في معرض المثلين ، لكن العقل يعرف أنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس واحد وهو اللون ، ومن أجل هذا حسن الجمع بين الثلاثة في قوله :

__________________

(١) لا بد من وجود الجامع بين المسند اليه في الجملتين ، وكذا بين المسند فيهما ، فلو وجدت مناسبة بين المسند اليه فهما فقط أو بين المسند فيهما ، كذلك لم يكن ذلك كافيا ولم يصح العطف ، فقد صرح السكاكي بامتناع عطف قول القائل : خفي ضيق ، على قوله : خاتمي ضيق ، مع اتخاذ المسند فيهما.


ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو اسحاق والقمر (١)

٢ ـ أو تضاد وهو التقابل بين أمرين وجوديين بينهما غاية الخلاف ويتعاقبان على محل واحد كالسواد والبياض والايمان والكفر والقيام والقعود.

٣ ـ أو شبه تضاد كالسماء والأرض فإنهما وإن كان بينهما غاية الخلاف من جهة الارتفاع والانحطاط لا يتعاقبان على محل واحد كما في التضاد.

والخيالي أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماع الأمرين في الفكر لأسباب مختلفة باختلاف المتكلمين كصناعة خاصة أو عرف عام كالسيف والرمح في خيال الفارس والقلم والقرطاس في خيال الكاتب والدرس والسبورة في خيال الطالب ، وهكذا.

وللقرآن الكريم في هذا الباب القدح المعلّى نحو : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)(٢) ، فبين المسندين فيهما تضاد وبين المسند اليه فيهما اتحاد وبين القيدين تضايف ، وقوله عز شأنه : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٣) ، فإنه وإن لم تكن مناسبة بين الإبل والسماء وبينهما وبين الجبال والأرض بحسب الظاهر لكن لما كان الخطاب مع العرب والإبل شاغلة لأخيلتهم ، لكونها أعز أموالهم ، وكانت الأرض لرعيها والسماء لسقيها والجبال لالتجائهم اليها عند إلمام الملمات ، ناسب إيراد الكلام طبق تخيلاتهم.

وهناك أمثلة تشرح لك ما مضى ، فإذا قلت : العدل نور ، الظلم ظلام ، كان هناك تقابل وتضاد بين كل من المسند اليه والمسند في الجملتين ، وإذا قلت : الأمير يصل ويقطع ، فيهما اتحاد في المسند اليه فيهما وتقابل بين المسند ، وإذا قلت :

أقبل علي وأدبر أخوه ، كان فيهما تماثل بين المسند اليه فيهما وتقابل بين المسند ، وهلم جرا.

__________________

(١) فالوهم يتبادر اليه أن هذه الثلاثة من نوع واحد كأن كلا منها شمس ، لكنها اختلفت بالعوارض المشخصة.

(٢) سورة التوبة الآية ٨٢.

(٣) سورة الغاشية الآيتان ١٧ و ١٨.


المبحث الرابع في محسنات الوصل

مما يزيد الوصل حسنا بعد وجود المصحح المجوز للعطف ، اتحاد الجملتين في الكيفية كأن تكونا اسميتين أو فعليتين أو شرطيتين أو ظرفيتين ، ثم في الاسميتين اتفاقهما في كون الخبر اسما أو فعلا ماضيا أو مضارعا ، وفي الفعليتين اتفاقهما في كونهما ماضويتين أو مضارعتين إلا لداع يدعو الى التخالف وذلك :

١ ـ بأن يقصد التجدد في إحداهما والثبات في الأخرى كقوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)(١) ، فهم كانوا يزعمون أن اللعب حال إبراهيم المستمرة فاستفهموا عن تجدد مجيئه لهم بالحق.

٢ ـ بأن يقصد المضي في إحداهما والاستقبال في الأخرى كقوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٢) ، فقد عبّر بالمضارع في الثانية ، وإن كان القتل في الماضي لاستحضاره في النفوس وتصويره في القلوب بيانا لفظاعته.

٣ ـ بأن يقصد الاطلاق في إحداهما والتقييد في الأخرى ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)(٣) ، فقد أطلقت الجملة الأولى وقيدت الثانية بالإنزال ، إذ الشرط قيد في الجواب.

المبحث الخامس في الفصل

من حق الجمل اذا ترادفت ووقع بعضها في إثر بعض أن تربط بالواو لتكون متسقة منتظمة ، وقد يعرض لها ما يوجب ترك الواو ، ويسمى ذلك فصلا ، ويكون في خمس أحوال :

١ ـ كمال الاتصال ، وهو أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وامتزاج معنوي ، حتى كأنهما أفرغا في قالب واحد ، وهذا يكون في :

(أ) باب التوكيد ، لزيادة التقرير أو لدفع توهم تجوز أو غلط ، سواء أكان

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٥٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٨٧.

(٣) أي : هلا أنزل عليه ملك فتؤمن به ، ولكنه لو حصل ذلك لقضي الأمر بهلاكهم لعدم إيمانهم به (سورة الأنعام).


تأكيدا لفظيا ، نحو : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١) أم تأكيدا معنويا نحو : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٢) ، فإنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ، فإثبات كونه ملكا تأكيد وتحقيق لنفي كونه بشرا. وعليه قول الشاعر :

إنما الدنيا فناء

ليس للدنيا ثبوت

(ب) باب البدل والمقتضى له كون الثانية أوفى بالمطلوب من الأولى والمقام يستدعي عناية بشأن المراد سواء أكان بدل كل نحو : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا)(٣) أم بدل بعض نحو : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٤) أبدلت الثانية من الأولى تنبيها الى نعم الله على عباده وهي أوفى مما قبلها لدلالتها على المراد مع التفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين لعنادهم واستكبارهم ، أم بدل اشتمال نحو : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٥) أبدلت الثانية من الأولى بدل اشتمال ، لأنها أبين في المراد وهو حمل المخاطبين على اتباع الرسل (٦) ، وعليه قول الشاعر :

أقول له إرحل لا تقيمن عندنا

وإلا فكن في السر والجهر مسلما (٧)

فسياق الحديث في إظهار كراهته إقامته ، لأنه يسرّ غير ما يعلن ، وجملة لا تقيمن أدل على هذا الغرض ولا سيما مع التأكيد بالنون.

(ج) باب عطف البيان ، والداعي اليه خفاء الأولى ، والمقام يستدعي إزالة

__________________

(١) سورة الطارق الآية ١٧.

(٢) سورة يوسف الآية ٣١.

(٣) سورة المؤمنون الآية ٨٢.

(٤) سورة الشعراء الآيتان ١٣٢ و ١٣٣.

(٥) سورة يس الآيتان ٢٠ و ٢١.

(٦) إذ مفادها انكم لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم وينتظم لكم خير الدنيا والآخرة.

(٧) يطلب منه الرحلة ، لأن باطنه ليس كظاهره لأنه يتناول أعراضهم.


هذا الخفاء ، نحو : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(١) ، وقوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ)(٢). وعليه قول الشاعر :

كفى زاجرا للمرء أيام دهره

تروح له بالواعظات وتغتذى

٢ ـ كمال الانقطاع ، وهو أن يكون بين الجملتين تباين تام دون إيهام خلاف المراد ، وتحت هذا نوعان :

(أ) أن تختلفا خبرا وإنشاء لفظا ومعنى نحو قوله تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٣) ، وقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٤) ، وقول الشاعر :

لا تسأل المرء عن خلائقه

في وجهه شاهد من الخبر

أو تختلفا معنى فقط ، نحو قولك : نجح فلان وفقه الله ، وقول الشاعر :

جزى الله الشدائد كل خير

عرفت بها عدوي من صديقي

(ب) ألا تكون بينهما مناسبة في المعنى ، ولا ارتباط بين المسند اليه فيهما ، ولا بين المسند ، نحو قوله :

إنما المرء بأصغريه

كل امريء رهن بما لديه

٣ ـ شبه كمال الاتصال ، وهو أن تكون الجملة السابقة كالمورد للسؤال أو المنشأ له ، فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال ، ويسمى الفصل لذلك استئنافا ، وهو على ثلاثة (٥) أضرب ، لأن السؤال الذي تضمنته الجملة ، إما :

__________________

(١) سورة طه الآية ١٢٠.

(٢) سورة البقرة الآية ٤٩.

(٣) سورة الحجرات الآية ٩.

(٤) سورة الفاتحة الآية ٣.

(٥) لأن السامع إما أن يجهل السبب من أصله ، فيسأل عنه ، وإما أن يتصور نفي جميع الأسباب إلا سببا خاصا يتردد في حصوله أو نفيه ، فيسأل عنه ، واما عن غير السبب بأن ينبهم عليه شيء مما يتعلق بالجملة الأولى.


(أ) عن سبب عام للحكم ، نحو :

قال لي كيف أنت قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

كأن المخاطب لما سمع قوله عليل ، قال ما سبب علتك ، فقال : سهر دائم وحزن طويل.

(ب) واما عن سبب خاص كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(١) ، كأنه قيل : هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل : نعم إن النفس لأمارة بالسوء ، وهذا يقتضي تأكيد الحكم الذي في جملة الجواب ، كما سبق لك في أضرب الخبر ، وعليه قول الشاعر :

يرى البخيل سبيل المال واحدة

إن الكريم يرى في ماله سبلا

كأنه قيل : فماذا يرى الكريم من ماله ، فقيل : إن الكريم .. الخ.

(ج) وأما عن غيرهما كقوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)(٢) كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم عليه‌السلام ، فقيل : (قالَ سَلامٌ) ، وعليه قوله :

زعم العواذل أنني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي (٣)

إذ مساق الكلام في إظهار الشكوى من العذال ، وذلك مما يدعو السامع لأن يسأل : أصدقوا أم كذبوا ، فقيل : صدقوا.

وقد يحذف صدر الجواب ، اسما كان أو فعلا ، نحو : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ)(٤) فيمن قرأه بالبناء للمفعول ، كما قد يحذف الجواب كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول مساور بن هند يهجو بني أسد :

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (٥)

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٥٣.

(٢) سورة الذاريات الآية ٢٥.

(٣) العواذل جمع عاذلة ، يراد هنا جماعة عاذلة بدليل قوله صدقوا ، والغمرة الشدة.

(٤) سورة النور الآية ٣٦.

(٥) إيلاف في الرحلتين المعروفتين لهم في التجارة رحلة في الشتاء الى اليمن ورحلة في الصيف الى الشام ، وبعده :

أولئك أومنوا جوعا وخوفا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا


فحذف الجواب وهو كذبتم في زعمكم وأقام مقامه قوله لهم : إلف .. الخ ، لدلالته عليه.

قال عبد القاهر : واعلم أن الذي تراه في التنزيل من لفظ قال مفصولا غير معطوف هذا هو التقدير فيه والله أعلم ، أعني مثل قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ)(١) فقد جاء على ما يقع في أنفس المخاطبين اذا قيل : دخل قوم على فلان فقالوا كذا أن يقولوا فما قال هو ويقول المجيب قال كذا أخرج الكلام ذلك المخرج ، لأن الناس خوطبوا بما يتعارفون.

وقال السكاكي : وتنزيل السؤال المفهوم من الكلام السابق منزلة الواقع لا يصار اليه إلا لاعتبارات لطيفة كإغناء السامع عن أن يسأل ، أو ألا يسمع منه شيء تحقيرا له ، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، بترك السؤال ، وترك العاطف ، الى غير ذلك ، مما ينخرط في هذا السلك. اه.

٤ ـ شبه (٢) كمال الانقطاع ، وهو أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفهما على إحداهما ، ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى ، فيترك العطف دفعا لهذا الوهم ، ويسمى الفصل حينئذ قطعا ، كقوله :

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضلال تهيم

فبين الجملتين مناسبة ظاهرة لاتحاد المسندين ، لأن المعنى أراها أظنها ، وكون المسند اليه في الأولى محبوبا والثانية محبا ، ولكن ترك العطف لئلا يتوهم أنه عطف على أبغي ، فيكون من مظنونات سلمى ، كالمعطوف عليه ، وهو خلاف المراد (٣).

__________________

(١) سورة الذاريات الآيات ٢٥ و ٢٦ و ٢٧.

(٢) الفرق بينه وبين الانقطاع إن المانع هنا خارجي يمكن إزالته ، وهناك مانع ذاتي.

(٣) لأنه إنما يريد الحكم على سلمى بخطئها في الظن حين ظنت أنه يبغي بها بدلا ، يدل على ذلك قوله قبله :

زعمت هواك عفا الغداة كما عفا

عنها طلال باللوى ورسوم


٥ ـ التوسط بين الكمالين ، وهو أن تكون الجملتان متناسبتين ، ولكن يمنع من العطف مانع وهو عدم قصد التشريك في الحكم كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١) فجملة الله يستهزيء بهم لا يصح عطفها على إنا معكم لاقتضائه أنها من مقول المنافقين ، وليس ذلك كذلك ، ولا على جملة قالوا لأنه يكون المعنى ، فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ، وهذا لا يستقيم ، لأن استهزاء الله بهم بأن خذلهم وخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إياه في قولهم آمنا ، لا على أنهم حدثوا عن أنفسهم بأنهم مستهزئون ، إذ المؤاخذة على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان لا في قولهم : إنا استهزأنا ، من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونية.

(تتمة) لما كانت الجملة الحالية تارة تجيء بالواو ، وأخرى بغيرها ، ناسب أن تذكر عقب الوصل والفصل ، وذلك أن الحال نوعان : لازمة (٢) ومنتقلة (٣) ، ويفترقان في أن الأولى لا تقترن بواو البتة ، وتكون وصفا غير ثابت كاسم الفاعل والمفعول ، نحو : جاء علي ضاحكا ، ويمتنع جاء علي طويلا أو أبيض ، ويشتركان في شيئين :

١ ـ أنهما يأتيان عاريين من حرف النفي ، تقول : هو الحق بينا ، وجاء علي مستبشرا ، ولا يجوز أن تقول : لا خفيا في الأول ، ولا عبوسا في الثاني.

٢ ـ أنهما يكونان بغير واو لأسباب ذكرها في الايضاح ، وهي :

(أ) أن إعراب الحال أصلي ، ليس تبعا لغيره ، ولا مجال للواو في المعرب أصالة ، إذ الاعراب دال على التعلق المعنوي ، المغني عن الاحتياج ، إلى تعلق آخر.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٤.

(٢) سواء وردت بعد جملة فعلية نحو : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، أم اسمية نحو : هذا أبوك عطوفا.

(٣) أي غير لازمة لصاحبها بل تفيد معنى حال نسبة العامل الى صاحب الحال.


(ب) أن حكم الحال مع صاحبها كحكم الخبر مع المخبر عنه (١) ، إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم يحصل به أصالة في ضمن شيء آخر ، والحكم بها إنما يحصل ضمن غيرها ، فإن الركوب في قولك : جاء خالد راكبا ، محكوم به على خالد ، لكن بالتبعية للمجيء ، وجعله قيدا له.

(ج) أن الحال وصف لذي الحال ، فلا تدخل عليها الواو كالنعت (٢). لكن خولف هذا الأصل وجاءت الحال مقترنة بالواو إذا كانت جملة لأنها من حيث هي جملة (٣) مستقلة بالإفادة لا بد لها من ربطها بما جعلت حالا عنه.

والصالح للربط شيئان : الواو ، والضمير ، والثاني هو الأصل بدليل أنه يقتصر عليه في الحال المفردة والنعت والخبر.

والجمل التي تقع حالا ضربان :

١ ـ خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه ، وهذه يجب أن تقترن بالواو حتى لا تنقطع عما قبلها ، ويستثنى منها المضارع المثبت على ما سيجيء.

٢ ـ غير خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه ، وهذه تارة تجب فيها الواو ، وطورا تمتنع فيها ، وحينا يجوز الأمران.

(أ) فإن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت امتنع فيها الواو كقوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ)(٤). وقول الشاعر :

ولقد أغتدي يدافع ركني

أحوذي ذو ميعة إضريج (٥)

وسر هذا أن الحال المتنقلة تدل على حصول صفة غير ثابتة مع مقارنة حصولها لما جعلت قيدا له وهو عاملها.

__________________

(١) ما جاء من الأخبار بالواو كخبر باب كان في قول الحماسي :

فلما صرح الشر

ر فأمسى وهو عريان

وقولهم : ما أحد إلا وله نفس أمارة بالسوء ، فمحمول على الحال لشبهها به.

(٢) ما جاء من الجملة الوصفية مصدرا بالواو ونحو : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، فمحمول ومشبه بالحال.

(٣) أما من حيث هي حال فهي متوقفة على التعليق بكلام سابق قصد تقييده بها.

(٤) سورة يوسف الآية ١٦.

(٥) أغتدي أذهب غدوة مبكرا ، والأحوذي السريع ، والأضريج الفرس السريع.


والمضارع المثبت يفيد الأمرين فيدل على الحصول غير الثابت من قبل كونه فعلا يدل على التجدد ، ويدل على المقارنة من جهة كونه مضارعا وهو حقيقة في الحال ، وقد ورد قليلا قرنها بالواو ، كقولهم : قمت وأصك وجهه ، وقول عبد الله بن همام السلولي :

فلما خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنهم مالكا (١)

فاختلفت الأئمة في تأويله ، فقيل : إنه على حذف المبدأ ، أي : وأنا أصك وأنا أرهنهم ، فهي جملة اسمية.

وقال عبد القاهر : ليست الواو فيهما للحال ، بل هي للعطف ، لأن أصك وأرهن بمعنى صككت ورهنت ، عبر فيهما بلفظ المضارع حكاية للحال الماضية (٢) كما في قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

يدل لذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثل هذا.

(ب) وإن كانت فعلية ذات مضارع منفي بلا أو ما استوى فيها الأمران ، فمن مجيئها بالواو قراءة بن ذكوان فاستقيما ولا تتبعان (٣) بالتخفيف ، وقول بعض العرب : كنت ولا أخشّى الذئب (٤) ، وقول مسكين الدرامي :

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب (٥)

ومن ترك الواو قوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ)(٦) ، وقول خالد بن يزيد ابن معاوية :

لو أن قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

__________________

(١) الأظافير هنا الشوكة والقوة ، والمعنى : لما خفت منهم هربت وجعلت مالكا رهنا لديهم.

(٢) هي أن يفرض ما كان في الماضي واقعا الآن لغرابته أو الاعجاب به.

(٣) وإنما لم تكن للعطف لامتناع عطف الخبر على الانشاء وعلى قراءة تشديد النون ، فالواو للعطف ، ولا ناهية.

(٤) أخشى : أخوف.

(٥) الورق : الفضة.

(٦) سورة المائدة الآية ٦٤.


وسبب ذلك دلالته على المقارنة لكونه مضارعا ، ويناسب ذلك ترك الواو وعدم الحصول ، ويناسبه ذكرها.

(ج) وإن كانت فعلية ذات ماض لفظا ومعنى ، فكذلك يجوز فيها الأمران فمن مجيئها بالواو قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)(١) ، وقول امريء القيس :

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى الستر إلا لبسة المتفضل (٢)

ومن ترك الواو قوله عزوجل : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)(٣) ، وقول عمرو ابن كلثوم :

فآبوا بالرماح مكسرات

وأبنا بالسيوف قد انحنينا

وشرط ذلك ألا تقع بعد إلا أو (أو العاطفة) وإلا امتنع الاقتران بها ، نحو : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٤) ، وقوله :

كن للخليل نصيرا جار أو عدلا

ولا تشح عليه جاد أو بخلا

(د) وكذا الماضوية معنى فقط (هي المضارع المنفي بلم أو لما) فمن مجيئها بالواو قول كعب بن زهير :

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

أذنب وإن كثرت في الأقاويل

وقوله عز اسمه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)(٥) ، ومن تركها قوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً)(٦) ، وقوله :

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدّرتا كالدر لما يثقب

وسبب جواز الأمرين أنه اذا كان الماضي مثبتا دل على حصول صفة غير ثابتة

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٤٠.

(٢) نضى الثوب ونضاه : خلعه ، ولبسة المتفضل : كساء رقيق ، يلبس عند النوم.

(٣) سورة النساء الآية ٩٠.

(٤) سورة الحجر الآية ١١.

(٥) سورة البقرة الآية ٢١٤.

(٦) سورة الأحزاب الآية ٢٥.


لكونه فعلا ، وهذا مما يناسبه ترك الواو لمشابهته المفرد ، ودل على عدم المقارنة لكونه ماضيا ، ولأجل هذا اشترط فيه أن يكون بقد إما ظاهرة أو مقدرة ، حتى يقرب من الحال ، وهذا مما يناسبه ذكر الواو لبعده عن تلك المشابهة.

وإن كان الماضي منفيا دل على المقارنة دون الحصول ، ذاك أن لما لاستغراق النفي من حين الانتفاء الى زمن التكلم ، وغيرها لانتفاء متقدم والأصل فيه أن يستمر فيحصل بهذا الاستمرار الدلالة على المقارنة عند الانطلاق وترك التقييد بما يدل على انقطاع ذلك الانتفاء.

(ه) وإذا كانت جملة اسمية فالمشهور جواز الأمرين ، لكن مجيء الواو أولى فمن وجودها قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١) ، وقول امريء القيس :

أيقتلني والمشرّفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

ومن تركها ما رواه سيبويه : كلمته فوه إلى فيّ ، وما أنشده الجوهري من قول بلال :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بمكة حولي إذخر وجليل (٢)

وإنما جاز الأمران ، لأن الجملة الاسمية تدل على المقارنة لكونها مستمرة ، وهذه يناسبها سقوط الواو ، لا على حصول صفة غير ثابتة لدلالتها على الدوام والثبات ، فهي بعكس الماضي المثبت ، وهذا مما يستدعي وصلها بها. وإنما كان المجيء أولى ، لأنها ليس فيها دلالة على عدم ثبوت الصفة بل هي تدل على الثبوت مع ظهور الاستئناف فيها ، إذ هي مستقلة بالفائدة فيحسن زيادة رابط يؤكد الربط ويقويه.

وقال عبد القاهر : إن (٣) كان المبتدأ ضمير ذي الحال وجبت الواو ، نحو : جاء زيد ، وهو يسرع ، أو وهو مسرع.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢.

(٢) الاذخر نبات طيب الرائحة ، الواحد إذخرة ، والجليل النخلة العظيمة الكثيرة الحمل.

(٣) فهو يخالف المشهور في أنه حكم على غير المبدوءة بالظرف ، وغير ما دخل عليها حرف على المبتدإ وغير المعطوفة على مفرد بوجوب الواو فيها اذا بدئت بضمير ذي الحال وبجواز الأمرين فيما عدا ذلك مع أرجحية الذكر.


وعلة ذلك أن الفائدة كانت حاصلة بقوله : يسرع ، من غير ذكر الضمير ، فالاتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال ، فلا يكفي الضمير حينئذ في الربط ، بل لا بد من الواو.

وقال أيضا : إن كان الخبر في الجملة الاسمية ظرفا قد قدم على المبتدإ كقولنا جاء زيد على كتفه سيف ، وفي يده سوط ، كثر فيها أن تجيء بغير واو ، كقول بشار :

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها

خرجت من البازي عليّ سواد (١)

وقول أبي وائلة في عبد الملك بن المهلب :

لقد صبرت للذل أعواد منبر

تقوم عليها في يديك قضيب

والوجه أن يقدر الاسم في هذه الأمثلة مرتفعا على الفاعلية بالظرف ، فإنه جائز باتفاق صاحب «الكتاب» والأخفش لاعتماده على ما قبله.

ويقدر متعلقه على ما اختاره عبد القاهر : اسم فاعل لا فعلا ، إلا إذا قدر ماضيا مع قد.

وقال أيضا : ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب أنك ترى الجملة جاءت حالا بغير واو ، ويحسن ذلك من أجل حرف دخل عليها ، كقول الفرزدق :

فقلت عسى أن تبصريني كأنما

بنى حواليّ الأسود الحوارد (٢)

لأنه لو لا دخول كأن عليها لم تحسن إلا بالواو ، كأن يقال : وبني حوالي ... وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالا ، بعقب مفرد ، فلطف مكانها ، كقول ابن الرومي :

والله يبقيك لنا سالما

برداك تبجيل وتعظيم (٣)

فبرداك تبجيل في موضع حال ثانية لو لم يتقدمها قوله : سالما ، لم يحسن فيها ترك الواو.

__________________

(١) علي سواد أي بقية من الليل.

(٢) الحوارد : الغضاب ، قاله يخاطب زوجته ، وقد عيرته لأنه لا يولد له.

(٣) البرداك تثنية برد ، وهو الثوب.


تدريب أول

بيّن سبب الفصل والوصل فيما يأتي :

١ ـ اخط مع الدهر إذا ما خطا

واجر مع الدهر كما يجري

٢ ـ حكم المنية في البرية جاري

ما هذه الدنيا بدار قرار

٣ ـ لا تدعه إن كنت تنصف نائبا

هو في الحقيقة نائم لا نائب

٤ ـ من للمحافل والجحافل والسرى

فقدت بفقدك نيرا لا يطلع (١)

٥ ـ قالت بليت فما نراك كعهدنا

ليت العهود تجددت بعد البلى

٦ ـ (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً)(٢)

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)(٣)

٨ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)(٤)

الاجابة

(١) وصل بين الجملتين المتوسط بين الكمالين مع عدم المانع من العطف لاتفاقهما إنشاء مع وجود المناسبة.

(٢) فصل الشطر الثاني عن الأول لأنه توكيد معنوي له إذ يفهم من جريان حكم الموت على الخلق أن الدنيا ليست دار بقاء ، فأكد ذلك بالشطر الثاني ، فبينهما كمال الاتصال.

(٣) فصل الشطر الثاني عن الأول لاختلافهما خبرا وإنشاء ، فبينهما كمال الانقطاع.

(٤) فصل بين الشطرين لاختلافهما خبرا وإنشاء فبينهما كمال الانقطاع.

__________________

(١) الجحافل الجيوش ، والسرى سير عامة الليل.

(٢) سورة النمل الآية ٨٨.

(٣) سورة لقمان الآية ٧.

(٤) سورة الشعراء الآية ٢٣.


(٥) بين الشطرين كمال الانقطاع لاختلافهما خبرا وإنشاء ، ولذا فصل بينهما.

(٦) بين جملتي : ترى وتحسب ، كمال الاتصال ، لأن الثانية بدل اشتمال من الأولى.

(٧) فصل الجملة الثانية والجملة الثالثة عن الأولى ، لأن كلا منهما توكيد معنوي للأولى.

(٨) فصل جملة قال الثانية ، لوقوعها جوابا عن سؤال مقدر نشأ من الأولى ، فبينهما شبه كمال الاتصال.

تدريب ثان

بيّن سبب الفصل والوصل ، واذكر الجمل الحالية فيما يلي :

١ ـ نفسي له نفسي الفداء لنفسه

لكن بعض المالكين عفيف

٢ ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١)

٣ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(٢)

٤ ـ فما الحداثة عن حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

٥ ـ يهوى الثناء مبرّز ومقصر

حب الثناء طبيعة الإنسان

٦ ـ إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

ولا تك بالترداد للرأي مفسدا

٧ ـ فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دار منك محلالا (٣)

٨ ـ مضوا لا يريدون الرواح وغالهم

من الدهر أسباب جرين على قدو

الاجابة

(١) بين نفسي له ونفسي الفداء لنفسه كمال الاتصال ، لأن الثانية توكيد لفظي للأولى.

(٢) بين الجملتين كمال الاتصال ، لأن الثانية توكيد معنوي للأولى ، لأن تقرير كونه وحيا نفي لأن يكون عن هوى.

__________________

(١) سورة النجم الآية ٣.

(٢) سورة الرعد الآية ٢.

(٣) المرتفق المتكىء ، وغمدان حصن بصنعاء ، وروضة محلال يكثر حلول الناس فيها


(٣) بين يدبر ويفصل كمال الاتصال لأن الثانية بدل بعض من كل.

(٤) بين الشطرين شبه كمال الاتصال ، إذ الجملة الثانية جواب عن سؤال مقدر.

(٥) بين الشطرين كمال الاتصال ، إذ الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدا معنويا.

(٦) وصل الجملتين لتوسطهما بين الكمالين لاتحادهما إنشاء مع وجود المناسبة وعدم المانع مع من العطف.

(٧) جملة (عليك التاج) في موضع الحال ، ويكثر فيها ترك الواو لتقدم الظرف.

(٨) جملة (لا يريدون الرواح) حال ، وهي مضارع منفي ، فيجوز فيها ذكر الواو وتركها وإن كان الأكثر في النفي بلا ترك الواو.

تمرين أول

بيّن أسباب الفصل والوصل واستخرج الجمل الحالية فيما يلي :

١ ـ (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)(١)

٢ ـ يقولون إني أحمل الضيم عندهم

أعوذ بربي أن يضام نظيري

٣ ـ لست مستسقيا لقبرك غيثا

كيف يظما وقد تضمن مجرا

٤ ـ (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢)

٥ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٣)

٦ ـ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف

٧ ـ ولست بهياب لمن لا يهابني

ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا

٨ ـ متى أرى الصبح قد لاحت مخايله

والليل قد مزقت عنه السرابيل

٩ ـ لا تأمنن عدوا لأن جانبه

خشونة الصل عقبي ذلك اللين

__________________

(١) سورة النحل الآية ١٢٧.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٣) سورة البقرة الآية ٨.


تمرين ثان

١ ـ أتيناكم قد عمكم حذر العدا

فنلتم بنا أمنا ولم تعدموا نصرا

٢ ـ إن تلقني لا ترى غيري بناظرة

تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد

٣ ـ ولو لا جنان الليل ما آب عامر

الى جعفر سرباله لم يمزّق (١)

٤ ـ يزعم صديقي أني أحسده على نعمته أراه مخطئا فيما زعم

٥ ـ والغدر بالعهد قبيح جدا

شر الورى من ليس يرى العهدا

٦ ـ يا من يقتل من أراد بسيفه

أصبحت من قتلاك بالإحسان

٧ ـ بانت قطام ولما يحظ ذو مقة

منها بوصل ولا إنجاز ميعاد

٨ ـ كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حب الفنا لم يحطم (٢)

٩ ـ من أغفل الشعر لم تعرف مناقبه

لا يجتنى ثمر من غير أغصان

__________________

(١) جنان الليل ظلمته الحالكة ، والسربال السراويل.

(٢) العهن الصوف الأحمر ، والفنا واحدته فناة عنب الثعلب ، وحبه أحمر ما لم يكسر.


الباب الثاني عشر في الايجاز والاطناب والمساواة

وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول في دقة مسلكها واختلاف الأئمة في تعريفها

هذا الباب أساس في بنيان الفصاحة وركن ركين في تكوين ملكة البلاغة ، حتى نقل صاحب «سر الفصاحة» عن بعضهم أنه قال : «البلاغة هي الإيجاز والاطناب».

واعلم أن علماء البيان افترقوا فرقتين : فرقة منهم ثبت واسطة بين الإيجاز والاطناب هي المساواة ، وعليها درج السكاكي ومن تبعه وقالوا إنها ليست محمودة ولا مذمومة ، وفرقة منها ابن الأثير في جماعة ذهبوا الى نفي الواسطة ، ومن ثم قسموا إيجاز غير الحذف قسمين : إيجاز تقدير وهو ما ساوى لفظه معناه من غير زيادة وهذه هي المساواة على الرأي الأول ، وإيجاز قصر وهو ما يزيد معناه على لفظه.

ومن هذا تعلم أن الخلاف بينهم في الاسم ، لا في المسمى ، والطريقة الأولى أشهر بين أئمة الفن ، ولذا قد جرينا عليها.

المبحث الثاني في الايجاز

الإيجاز لغة التقصير ، يقال : أوجز في كلامه ، اذا قصره ، وكلام وجيز أي قصير.

وفي الإصطلاح اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل ، أو هو التعبير عن المقصود بلفظ أقل من المتعارف (١) واف بالمراد لفائدة (٢).

__________________

(١) أي متعارف أوساط الناس على ما سيأتي في المساواة.

(٢) والفائدة كون المأتى به هو المطابق للحال ولا مقتضى للعدول عنه.


فإذا لم يف كان إخلالا وحذفا رديئا كقول الحارث بن حلزة اليشكري :

والعيش خير في ظلا

ل النوك ممن عاش كدا (١)

لا شك أنه يريد : والعيش الناعم الرغد خير في ظلال النوك والحمق من العيش الشاق في ظلال العقل ، لكن لحن كلامه لا يدل على هذا ، إلا بعد التأمل ، وإمعان النظر.

وقول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا

فإنه يريد : إذ يقتلون نفوسهم في السلم.

وقول بعضهم نثرا :

(فإن المعروف إذا زجا (٢) كان أفضل منه إذا توفر وأبطا)

لا شك أنه يريد : إذا قلّ وزجا.

وهو ضربان : إيجاز حذف ، وإيجاز قصر ، لأن الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه فهو الأول ، وإن كان كلاما يفيد معنى كلام آخر أطول منه فهو الثاني.

إيجاز الحذف

الحذف إما مفردا أو حذف جملة أو حذف جمل :

١ ـ حذف المفرد أوسع مجالا من حذف الجملة ، إذ هو أكثر استعمالا ، وذلك على صور :

__________________

(١) النوك بضم النون وفتحها : الحمق ، وقبله :

عش بجد لا يضر

ك النوك ما أوليت جدا

(٢) زجا الخراج : تيسرت جبايته ، فهو يريد السهولة والتيسير.


(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ)(١) أي سدهما ، وقوله عزوجل : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ)(٢) أي رحمته ، وقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ)(٣) أي عذاب ربهم.

(ه) حذف المضاف اليه ، وهو قليل ، كقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٤) أي من قبل ذلك ومن بعده.

(و) حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وهو فاش كثير الاستعمال نحو : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ)(٥) ، أي حور قاصرات الطرف ، وأكثر ما يكون ذلك في باب النداء ، نحو : يا أيها الظريف ، تقديره : يا أيها الرجل الظريف ، وفي باب المصدر ، نحو : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٦) تقديره : وعمل عملا صالحا.

(ز) حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها ، وهو نادر (٧) ، ومن ذلك ما حكاه سيبويه ، من نحو قولهم : سير عليه ليل ، يريدون : ليل طويل.

وقول الحماسي : كل امريء ستئيم منه العرس أو منها يئيم ، تقديره : كل امريء متزوج ، لأن المعنى لا يصح إلا به ، ومنه أن يتقدم مدح إنسان والثناء عليه ، فتقول : كان والله رجلا ، فأنت تعني أنه كان رجلا فاضلا جوادا كريما.

(ح) حذف القسم ، كقولك : لأخرجن ، أي : والله لأخرجن.

(ط) حذف جواب القسم ، وهو كثير في القرآن الكريم ، نحو :

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٩٦.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٢١.

(٣) سورة النمل الآية ٥٠.

(٤) سورة الروم الآية ٤.

(٥) سورة ص الآية ٥٢.

(٦) سورة الفرقان الآية ٧١.

(٧) وإنما قل حذف الصفة وكثر حذف الموصوف لأن الصفة ما جاءت إلا للايضاح والبيان ، فيكثر أن تقوم مقام الموصوف ، بخلافه هو ، فانه يكثر إبهامه ، فلا جرم ان كان قيامه مقامها نادرا.


(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(١) تقديره : لتعذبن يا كفار مكة.

(ي) حذف الشرط ، نحو : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(٢) تقديره : فإن لم يتسن لكم إخلاص العبادة لي في أرض فإياي فاعبدون في غيرها.

(ك) حذف جواب الشرط ، وهو نوعان :

١ ـ أن يحذف لمجرد الاختصار ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٣) ، أي اعرضوا ، بدليل قوله تعالى بعده : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٤).

٢ ـ أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فلا يتصور شيئا إلا والأمر أعظم منه ، نحو : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(٥).

(ل) حذف حروف المعاني ، وقد توسعوا في ذلك ، لكثرة دورانها ، وفشو استعمالها ، وكثر ذلك في :

(لا) كقول عاصم المنقري :

رأيت الخمر جامحة وفيها

خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها حياتي

ولا أسقي بها أبدا نديما

(لو) نحو : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ)(٦) تقديره : إذ لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق.

__________________

(١) سورة الفجر الايات ١ و ٢ و ٣.

(٢) سورة العنكبوت الاية ٦.

(٣ و ٤) سورة يس الايتان ٤٥ و ٤٦.

(٥) سورة الزمر الاية ٧٣.

(٦) سورة المؤمنون الاية ٩١.


(الواو) ولحذفها فائدة لا توجد عند إثباتها لأن وجودها يؤذن بالتغاير بين الجملتين ، وحذفها يصير الجملتين كأنهما جملة واحدة ، وهذا من بديع الإيجاز وحسنه ، كحديث أنس بن مالك : كان أصحاب رسول الله ينامون ، ثم يصلون لا يتوضئون ، وفي رواية ولا يتوضئون ، فالحذف دل على اتصال الجملتين حتى كأن الثانية إحدى متعلقات الأولى ، فهو في حكم : ينامون ، ثم يصلون غير متوضئين ، وبذا تتم المبالغة المرادة ، وهي أنهم لا يذوقون النوم إلا غرارا.

٢ ـ حذف الجملة (١) ، وهذا يكون إما :

(أ) بحذف مسبب ذكر سببه نحو : ليحق الحق ويبطل الباطل ، أي فعل ما فعل ، ومنه قول أبي الطيب :

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرهم وأتيناه على الهرم

(أي فساءنا).

(ب) عكسه نحو : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)(٢) ، أي فضربه بها فانفجرت.

(ج) بحذف الأسئلة المقدرة ويلقب بالإستئناف ، وذلك على أنواع :

١ ـ استئناف باعادة اسم ما استؤنف عنه ، كقولك : أحسنت (٣) الى علي ، علي حقيق بالإحسان ، فتقدير المحذوف ، وهو السؤال المقدر : لماذا أحسن ، أو نحو ذلك.

٢ ـ استئناف باعادة صفته كقولك : أكرمت محمدا ، صديقك القديم أهل لذلك منك. تقدير السؤال المحذوف : هل هو حقيق بالإكرام ، والنوع الثاني أبلغ ، لاشتماله على بيان السبب الموجب للحكم كالصداقة في هذا المثال.

٣ ـ حذف الجمل وأكثر ما يرد في كلام رب العزة ، فهناك تتجلى مراتب

__________________

(١) المراد بالجملة هناك ، الكلام المستقل بالافادة ، الذي لا يكون جزء من كلام آخر ، وإلا دخل الشرط والجزاء ، وقد تقدم عد حذفهما من حذف المفرد.

(٢) سورة البقرة الاية ٦٠.

(٣) المقصود من الاخبار ، إعلام المخاطب بأنه وقع الاحسان منه الى على ، لتقرير الاحسان السابق واستجلاب الاحسان اللاحق.


الإعجاز ، ويظهر مقدار التفاوت في صنعة الكلام ، وذلك كقوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)(١) ، أي فضربوه بها فحيي ، فقلنا : كذلك يحيي الله الموتى ، وقوله تعالى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ)(٢) ، أي فأرسلوني الى يوسف لأستعيره الرؤيا فأرسلوه اليه فأتاه وقال : يا يوسف ، وقوله (فقلنا اذهبا الى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا) أي فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.

والحذف على وجهين :

١ ـ ألا يقام شيء مقام المحذوف كما تقدم.

٢ ـ أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ)(٣) ، أي فلا لوم عليّ لأني قد أبلغتكم.

وأدلة الحذف كثيرة ، منها :

(أ) العقل الدال على المحذوف ، والمقصود الأظهر ، الدال على تعيينه كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(٤) الآية ، فالعقل يدل على أن الحرمة إنما تتعلق بالأفعال لا بالذوات ، والذي يتبادر قصده من مثل هذه الأشياء إنما هو التناول الذي يعم الأكل والشرب.

(ب) العقل الدال عليهما معا ، كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمره ، أو عذابه.

ويرى صاحب «الكشاف» أن هذا ليس من باب الحذف وإنما هو تمثيل لظهور قدرته وتبيين لسلطانه وقهره ، فمثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه على بكرة أبيهم.

(ج) العقل الدال على المحذوف والعادة الدالة على تعيينه ، كقوله تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة الاية ٧٣.

(٢) سورة يوسف الاية ٤٥.

(٣) سورة هود الاية ٥٧.

(٤) سورة المائدة الاية ٣.


(فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(١) ، فقد دل العقل على الحذف لأنه لا معنى للوم على ذات الشخص ، وأما تعيين المحذوف فإنه يحتمل أن يقدر في حبه ، لقوله : شغفها حبا ، أو في مراودته لقوله : تراود فتاها عن نفسه ، أو في شأنه حتى يشملهما معا ، ولكن العادة تقتضي بأن الحب المفرط لا يلام عليه صاحبه ، لأنه ليس من كسبه واختياره ، وإنما يلام على المراودة التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.

(د) العقل الدال على المحذوف ، والشروع في الفعل الدال على تعيينه ، كما في : باسم الله ، فإنك تقدر المتعلق ما جعلت التسمية مبدأ له من نحو : آكل أو أشرب أو أسافر.

(ه) العقل الدال على المحذوف واقتران الكلام بالفعل الدال على تعيينه ، كما تقول للمعرس : بالرفاه والبنين ، أي أعرست.

إيجاز القصر

هو ما تزيد فيه المعاني على الألفاظ الدالة عليها بلا حذف ، وللقرآن الكريم فيه المنزلة التي لا تسامى والغاية التي لا تدرك ، نحو : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢) ، فتلك آية جمعت مكارم الأخلاق ، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل ، إذ في العفو الصفح عمن أساء ، والرفق في سائر الأمور ، بالمسامحة والاغضاء ، وفي الأمر بالمعروف صلة الأرحام ومنع اللسان عن الكذب والغيبة ، وغض الطرف عن المحارم ، وفي الاعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وكظم الغيظ.

ويقول عز اسمه : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ)(٣) ، فقد استوعبت تلك الكلمات القليلة أنواع المتاجر وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد ، وقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فهاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء ، ولذا روي أن ابن عمر قرأها ، فقال : من بقي له شيء فليطلبه.

__________________

(١) سورة يوسف الاية ٣٢.

(٢) سورة الأعراف الاية ١٩٩.

(٣) سورة البقرة الاية ١٦٤.


وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(١) ، فتلك جملة تضمنت سرا من أسرار التشريع الجليلة ، التي عليها مدار (سعادة المجتمع البشري في دنياه وأخراه) بيان ذلك أن الإنسان اذا همّ بقتل آخر لشيء غاظه منه فذكر أنه إن قتله قتل ، ارتدع عن القتل ، فسلم المهموم بقتله ، وصار كأنه استفاد حياة جديدة ، فيما يستقبل بالقصاص مضافة الى الحياة الأصلية ، وأن هذا مما أثر عن العرب من قولهم : القتل أنفى للقتل ، فإن الآية تمتاز بوجوه (٢) :

١ ـ أنها كلمتان وما أثر عنهم أربع.

٢ ـ لا تكرار فيها وفيما قالوه تكرار.

٣ ـ ليس كل قتل يكون نافيا للقتل ، وإنما يكون ذلك إذا كان على جهة القصاص.

٤ ـ حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحسن فيها لا في ما قالوه.

٥ ـ أن فيها الطباق للجمع بين القصاص والحياة ، وهما كالضدين كما ستعرف ذلك في البديع.

٦ ـ أن فيها التصريح بالمطلوب وهو الحياة بالنص عليها ، فيكون أزجر عن القتل بغير حق وأدعى إلى الاقتصاص.

٧ ـ أن القصاص جعل فيها كالمنبع للحياة والمعدن لها بادخال (في) عليه ، فكأن أحد الضدين ، وهو الفناء ، صار محلا لضده الآخر ، وهو الحياة ، وفي ذلك ما لا يخفى من المبالغة ، وقد نظم أبو تمام معنى ما ورد عن العرب في شطر بيت ، فقال :

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم

(إن الدم المغبر يحرسه الدم)

كما للسنّة النبوية من ذلك الحظ الأوفر ، ويرشد الى ذلك قوله عليه‌السلام : «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا».

فمن ذلك قوله عليه‌السلام : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وعوّدوا كل جسم ما اعتاد .. فهو قد جمع من الأسرار الطبية الشيء الكثير.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧٩.

(٢) فاضل بينهما السيوطي في «الاتقان» بأكثر من عشرين وجها ، أهمها ما ذكرنا.


وقوله عليه‌السلام : الطمع فقر واليأس غنى.

وقول علي كرم الله وجهه : ثمرة التفريط الندامة ، لكل مقبل إدبار وما أدبر كان كأن لم يكن ، لا يعد من الصبور الظفر وإن طال به الزمان ، من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ ، من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أسد الباطل.

وقول بعض الأعراب : اللهم هب لي حقك وارض عني خلقك.

فلما سمعه علي كرم الله وجهه قال : هذا هو البلاغة.

وقول السمؤل بن عاديا الغساني :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس الى حسن الثناء سبيل

فقد اشتمل على مكارم الأخلاق من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر وتكلف واحتمال مكاره ، إذ كل هذه مما تضيم النفس ، لما يحصل في تحملها من المشقة والعناء.

المبحث الثالث في المساواة (١) ـ إيجاز التقدير

هي التعبير عن المعنى المقصود بلفظ مساو له لفائدة (٢) ، بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر ، حتى لو نقص اللفظ تطرق الخرم الى المعنى بمقدار ذلك النقصان ، وهي المذهب المتوسط بين الإيجاز والاطناب.

وإليها يشير القائل كأن ألفاظه قوالب معانيه ، كقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(٣)(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٤) ومتعوهن على الموسع قدره (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)).

__________________

(١) وهي لا تحمد ولا تذم ، إذ لا يحتاج فيها الى اعتبار نكتة ، بل يكفي فيها عدم المقتضى للعدول عنها ، إلا إذا اقتضى المقام تأدية أصل المعنى وراعاه البليغ فان ذلك يكون محمودا ، ومن هذا ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف وغيرهما من كلام فصحاء العرب.

(٢) وهو كون المأتي به هو الأصل ، ولا داعي للعدول عنه.

(٣) سورة الروم الآية ٤٤.

(٤) سورة الطور الآية ٢١.


وقوله عليه‌السلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك مشتبهات .. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى .. الضعيف أمير الركب».

وقول علي كرم الله وجهه : عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته ، قد بصرتم إن أبصرتم وهديتم إن اهتديتم.

المبحث الرابع في الاطناب

هو لغة مصدر أطنب في كلامه اذا بالغ فيه وطول ذيوله ، واصطلاحا زيادة اللفظ على المعنى لفائدة ، فخرج بذكر الفائدة التطويل والحشو ، والفرق بينهما أن الزائدة إن كان غير متعين كان تطويلا ، وإن كان متعينا كان حشوا ، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة ، فالأول نحو :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد

فالنأي والبعد واحد ، ولا يتعين أحدهما للزيادة.

والثاني ضربان :

(أ) ما يفسد به المعنى كقول أبي الطيب في رثاء غلام لسيف الدولة :

ولا فضل فيها للشجاعة والندى

وصبر الفتى لو لا لقاه شعوب

يريد أنه لا خير في الدنيا للشجاعة الصبر لو لا الموت ، وهذا حسن جميل ، لأنهما إنما عدا من الفضائل لما فيهما من الاقدام على الموت واحتمال المكاره ، ولو علم الإنسان أنه خالد في الدنيا لهان عليه اقتحام المخاطر ، كما أنه لو أيقن بزوال المكروه صبر لوثوقه بالخلاص ، أما الندى فعلى العكس من ذلك لأن الموت يجعل البذل سهلا إذ من علم أنه ميت فهو جدير أن يجود بماله ، كما قال طرفة :

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي

فهو حشد مفسد ، وقد اعتذر له بعض الناس بما فيه تكلف وتعسف.

(ب) ما لا يفسد به كقول أبي العيال الهذلي :

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب (١)

فذكر الرأس مع الصداع حشو ، لأنه لا يكون في غيره من الأعضاء.

__________________

(١) الوصب : نحول الجسم ، من تعب ، أو مرض.


وقول أبي عدي :

نحن الرؤوس وما الرؤوس اذا

سمت في المجد للأقوام كالأذناب

فإن قوله : للأقوام ، حشو لا فائدة فيه ، مع أنه غير مفسد.

(تنبيه) قال بدر الدين بن مالك في «المصباح» : يكثر الحشو بلفظ : أصبح وأمسى وعدا وإلا وقد واليوم ولعمري ويا صاحبي.

كما قال أبو تمام :

أقروا (لعمري) بحكم السيوف

وكانت أحق بفصل القضا

وكما قال البحتري :

ما أحسن الأيام إلا أنها

(يا صاحبي) إذا مضت لم ترجع

والداعي إليه إما إصلاح وزن الشعر ، أو تناسب للقوافي وحروف الروي ، أو قصد السجع في النثر.

ويكون الاطناب بأمور شتى ، منها :

١ ـ الايضاح بعد الابهام ، ليرى المعنى في صورتين مختلفتين ، وليتمكن في النفس فضل تمكن ، فإن الكلام اذا قرع السمع على جهة الابهام ذهب السامع فيه كل مذهب ، فإذا وضح تمكن في النفس فضل تمكن ، وكان شعورها به أتم ، ومنه قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(١).

فقوله تعالى : أن دابر هؤلاء ، تفسير لذلك الأمر ، تفخيما لشأنه ، ولو قيل : وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع ، لم يكن له من الروعة مثل ما كان له حين الابهام ـ يرشد الى ذلك أنك لو قلت : هل أدلكم على أكرم الناس أبا وأفضلهم حسبا وأمضاهم عزيمة وأنفذهم رأيا ، ثم قلت : فلان ، كان أدخل في مدحه وأنبل وأفخم مما لو قلت : فلان الأكرم الأفضل.

ومن ضروبه باب : نعم وبئس ، على قول : من يجعل المخصوص خبر مبتدإ محذوف ، إذ لو أريد الاختصار لقيل : نعم وبئس أبو لهب ، عوضا من قولك : نعم الرجل محمد ، وبئس الرجل أبو لهب.

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٦٦.


ووجه حسنه إبراز الكلام في معرض الاعتدال ، نظرا الى اطنابه من وجه ، وإيجازه من وجه آخر ، الى إيهام الجمع بين المنافقين.

والتوشيع (١) ، وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين ، أحدهما معطوف على الآخر ، نحو قوله عليه‌السلام : «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن ، البخل وسوء الخلق» ، وقول ابن الرومي يمدح عبد الله بن وهب :

اذا أبو القاسم جادت لنا يده

لم يحمد الأجودان البحر والمطر

وإن أضاءت لنا أنوار غرته

تضاءل النيران الشمس والقمر

٢ ـ ذكر الخاص بعد العام تنبيها الى ما له من المزية حتى كأنه ليس من جنس العام ، وتنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٢) ، فذكر جبريل وميكايل مع دخولهما في الملائكة ، للتنبيه على زيادة فضلهما.

٣ ـ التكرير ، وقد جاء في القرآن الكريم ، وكلام العرب منه شيء كثير ، ويكون إما :

(أ) للتأكيد كقوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)(٣) ، وقوله : كم نعمة كانت لكم كم كم وكم.

(ب) لزيادة التنبيه الى ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ، نحو : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ)(٤) اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٥) ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع.

(ج) لتعدد المتعلق ، كما كرر الله عزوجل في سورة الرحمن قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦) لأنه تعالى عدّد فيها نعماءه وذكّر عباده آلاءه ،

__________________

(١) لغة لف القطن المندوف.

(٢) سورة البقرة الآية ٩٨.

(٣) سورة النبأ الآيتان ٤ و ٥.

(٤) إذ تكرار يا قوم مع إضافة الى ياء المتكلم يفيد بعد القائل عن التهمة في النصح إذ أنهم قومه ، فلا يريد لهم إلا ما يريده لنفسه.

(٥) سورة غافر الآية ٣٨.

(٦) سورة الرحمن الآية ١٦.


ونبههم الى قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها ، وجعلها فاصلة بين كل نعمة ليعرف موضع ما أسداه اليهم منها.

وقد جاء مثل ذلك كثيرا في كلام العرب ، ألا ترى الى مهلهل وقد كرر قوله : «على أن ليس عدلا من كليب (١)» في أكثر من عشرين بيتا من قصيدته ، وإلى الحرث بن عباد وقد كرر قوله : «قربا مني مربط النعامة (٢)» أكثر من سابقة ، لأنهما رأيا الحاجة ماسة إلى التكرير ، والضرورة داعية اليه ، لعظم الخطب وشدة موقع النكبة.

٤ ـ الإيغال (٣) ، وهو ختم البيت بما يفيد النكتة ، يتم المعنى بدون التصريح بها ، وذلك إما :

(أ) لزيادة المبالغة والتأكيد ، كقول الخنساء :

وإن صخرا لشأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فقولها : في رأسه نار ، من الإيغال الحسن ، إذ لم تكتف بأن تشبهه بالعمل الذي هو الجبل المرتفع المشهور بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا ، لما في ذلك من زيادة الظهور والانكشاف.

(ب) لتحقيق التشبيه ، كقول امريء القيس :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (٤)

فقد أكد التشبيه وأظهر رونقه بقوله : لم يثقب ، لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان بالعيون أشبه ، وقيل : لا يختص بالشعر ، بل يكون في النثر كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٥) ، فإن الرسل مهتدون لا محالة ، فالمعنى يتم بدون التصريح بقوله تعالى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلا أن فيه زيادة حث وترغيب على اتباع الرسل.

__________________

(١) العدل : النظير ، وتكملة البيت الأول منها : اذا طرد اليتيم عن الجزور.

(٢) النعامة فرسه ، وبجير ابنه وكان قد قتله مهلهل حين الأخذ بالثأر.

(٣) من أوغل في البلاد اذا أبعد فيها.

(٤) الجزع (بفتح الجيم) خرز يمان فيه بياض وسواد تشبه به العيون.

(٥) سورة يس الآية ٢١.


٥ ـ التذييل (١) ، وهو الاتيان يجملة مستقلة عقب الجملة الأولى التي تشمل على معناها للتأكيد ، وهو ضربان :

(أ) أن يخرج مخرج المثل بأن يقصد بالجملة الثانية حكم كلي منفصل عما قبله جار مجرى الأمثال في فشو الاستعمال ، نحو : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٢) ، وقول الحطيئة :

نزور فتى يعطي على الحمد ما له

ومن يعط أثمان المكارم يحمد

(ب) ألا يخرج مخرج المثل بألا يستقل بالإفادة دون ما قبله ، نحو قول ابن نباتة السعدي :

لم يبق وجودك لي شيئا اومّله

تركنني أصحب الدنيا بلا أمل

وقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٣).

وينقسم أيضا الى :

(أ) ما كان تأكيدا لمنطوق الكلام كالآية : وقل جاء الحق ، الخ.

(ب) ما كان تأكيدا لمفهومه ، كقول النابغة :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أيّ الرجال المهذّب (٤)

فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال ، وقد حقق ذلك بعجزه :

٦ ـ التكميل ، ويسمى الاحتراس أيضا ، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المراد بما يدفعه ، وهو ضربان :

(أ) أن يتوسط الكلام ، كقوله :

لو أن عزّة خاصمت شمس الضحى

في الحسن (عند موفّق) لقضى لها

إذ التقدير : عند حاكم موفق ، فقوله : موفق ، تكميل.

__________________

(١) هو أعم من الايغال من جهة أن يكون في الآخر وغيره وأخص من جهة أن الايغال قد يكون بغير الجملة ولغير التوكيد.

(٢) سورة الإسراء الآية ٨١.

(٣) إذ المراد : ذلك الجزاء المخصوص (سورة سبأ).

(٤) الشعث : التفرق والخصال الذميمة.


وقول ابن المعتز :

صببنا عليها (ظالمين) سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

فقوله : ظالمين ، تكميل دفع به توهم أنها بليدة تستحق الضرب.

(ب) أن يقع آخر الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(١) ، فإنه لو اقتصر على وصفهم : بالذلة على المؤمنين ، لتوهم أنها ناشئة من ضعفهم ، فدفع هذا ، بقوله تعالى : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).)

وقول السموأل بن عادياء.

وما مات منا سيد في فراشه

ولا طلّ منا حيث كان قتيل

فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم فربما علق بالوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم ، فأزال هذا الوهم بالانتصار من قاتليهم.

٧ ـ التتميم ، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم ، خلاف المقصود بفضله ، كمفعول أو حال أو نحو ذلك ، لقصد المبالغة (٢) ، كقول زهير يمدح هرم بن سنان :

من يلق يوما على علّاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلفا

فقوله : على علاته ، أي على كل حال أو على ما فيه من الأحوال والشئون ، تتميم وقع في غاية الحسن والرشاقة.

٨ ـ الاعتراض ، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام (٣) أو بين كلامين متصلين معنى (٤) بجملة أو أكثر لا محل لها من الاعراب (٥) لنكتة سوى دفع الإيهام (٦).

وهو من دقائق البلاغة وسحر البيان (٧) ، وفائدته إما :

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٥٤.

(٢) فالمتكلم يحاول ألا يدع شيئا مما به يتم حسن المعنى.

(٣) خرج الايغال لأنه في الآخر.

(٤) بأن يكون الثاني بيانا للاول أو تأكيدا أو بدلا منه.

(٥) خرج التتميم لوجود الاعراب فيه.

(٦) خرج التكميل.

(٧) لما فيه من حسن الافادة مع مجيئه مجيء ما لا معول عليه في الافادة ، فهو كالحسنة تأتي من حيث لا ترتقب.


(أ) التنزيه والتعظيم ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١) فسبحانه (٢) مسوق للتنزيه عن اتخاذ البنات.

(ب) أو التقرير في نفس السامع نحو : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ)(٣) فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها (٤) فقوله : والله مخرج ، جاءت معترضة لتقرير أن تدافع بني إسرائيل في قتل النفس ليس نافعا في إخفائه وكتمانه ، لأن من لا تخفى عليه خافية مظهره لا محالة.

(ج) أو التصريح بما هو المقصود ، كقول كثير عزة :

لو أن الباخلين وأنت منهم

رأوك تعلّموا منك المطالا

فقوله : وأنت منهم ، تصريح بما هو المقصود من ذمة وتأكيد ، لانصراف الذم اليه.

(د) أو الدعاء ، كقول أبي الطيب :

ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا

فقوله : وحاشاك ، اعتراض حسن في موضعه ، والواو في مثله اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية (٥).

(ه) أو تنبيه المخاطب على أمر يؤكد الإقبال على ما أمر به مما فيه مسرته كقوله :

واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كل ما قدرا

(و) أو الاستعطاف ، كقول المتنبي :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

يا جنتي لرأيت فيه جهنما

(ز) أو تنبيه المخاطب على أمر غريب ، كقوله :

__________________

(١) سورة النحل الآية ٥٧.

(٢) هو جملة لأنه مصدر بتقدير الفعل.

(٣) تدافعتم واختصمتم.

(٤) سورة البقرة الآية ٧٢.

(٥) الفرق بين الواو الحالية والاعتراضية بالقصد ، فان قصد كون الجملة قيدا للعامل ، فهي حالية ، وإلا فهي اعتراضية.


فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه

فإن قوله : فلا هجره يبدو ، يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه ، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب ، فقال : (وفي اليأس راحة) لينبه إلى السبب.

ومما جاء بين كلامين متصلين معنى ، وهو أكثر من جملة أيضا ، قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ)(١) ، فإن قوله : نساؤكم حرث لكم ، بيان لقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله ، لإفادة أن الغرض الأصلي من الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فقط ، وما بينهما اعتراض للترغيب فيما أمروا به ، والتنفير عما نهوا عنه.

٩ ـ النفي والإثبات بأن يذكر الشيء على جهة النفي ، ثم يثبت أو بالعكس نحو : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(٢) ، نفى عنهم أولا العلم بما خفى عليهم من تحقيق وعده ، ثم أثبت لهم آخرا العلم بظاهر الحياة الدنيا دون ما كان مؤديا الى الجنة.

١٠ ـ ما كان كقولهم : رأيته بعيني ، وقبضته بيدي ، ووطئته بقدمي ، وذقته بلساني ـ يذكرون الظروف فيما يصعب حصوله ، دلالة على أن نيله ليس بمتعذر ، وعلى هذا جاء قول البحتري :

تأمل من خلال السجف وانظر

بعينك ما شربت ومن سقاني

تجد شمس الضحى تدنو بشمس

إليّ من الرحيق الخسرواني (٣)

فحضور مثل هذا المجلس نادر ، ولا سيما اذا كان الساقي فيه على ما وصف من الحسن ، ومن ثم قال : انظر بعينك.

(تنبيه) قد يوصف الكلام بالإيجاز والاطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة الى كلام آخر مساويا له في أصل المعنى كقول الشماخ يمدح عرابة الأوسي :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢٣.

(٢) سورة الروم الآية ٦.

(٣) السجف بالكسر والفتح : الستار ، والخسرواني ضرب من الثياب منسوب لبلاد فارس.


إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

مع قول بشر بن أبي حازم يمدحه أيضا :

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها (١)

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس اليها فاحتواها

المبحث الخامس ـ الايجاز أفضل أم الاطناب مواضع كل منهما

اختلفت آراء الأئمة في تفضيل الايجاز على الاطناب ، أو العكس ، فمن مفضل للايجاز ، كشبيب بن شيبة ، إذ يقول : القليل الكافي خير من كثير غير شاف.

ويقول آخر : اذا طال الكلام عرضت له أسباب التكلف ، ولا خير في شيء يأتي به التكلف.

ومن مرجح للاطناب وحجته أن المنطق إنما هو البيان ، والبيان لا يكون إلا بالإشباع ، والشفاء لا يقع إلا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينه ، وأبينه أشده إحاطة بالمعاني ، ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة إلا بالاستقصاء ، أضف الى ذلك أن الايجاز للخواص ، والاطناب مشترك بين الخاصة والعامة ، والغبي والفطن.

والمختار ، أن الحاجة الى كل ماسة ، وأن لكل موضعا لا يسد عنه فيه سواه ، فمن استعمل أحدهما في موضع الآخر ، فقد أخطأ.

قال جعفر بن يحيى : متى كان الايجاز أبلغ كان الاكثار وعيا ، ومتى كانت الكفاية في موضع الاكثار ، كان الايجاز تقصيرا ، يرشد الى ذلك قول القائل يصف خطباء إباد :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ خشية الرقباء (٢)

وقد استحبوا الايجاز في المواضع الآتية :

__________________

(١) رفع المكرمات يراد به بروزها للطالبين ، ومبتغوها طالبوها ، واحتواها أخذها.

(٢) الوحي الاشارة بالكلام الخفي ، والملاحظ جمع ملحظ كمطلب اللحظ ووحي منصوب على المصدر ، أي تارة يوحون ، أي يأتون بكلام سريع خفي ، كحال من ينظر الى حبيبه بمؤخر عينيه خوفا من الرقباء.


١ ـ الكتب الصادرة عن الملوك الى الولاة في أوقات الحروب والأزمات.

٢ ـ الأوامر والنواهي السلطانية.

٣ ـ كتب السلطان بطلب الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال.

٤ ـ كتب الوعد والوعيد.

٥ ـ الشكر على النعم التي تسبغ ، والعوارف التي تسدى.

٦ ـ الاستعطاف وشكوى الحال وسؤال حسن النظر وشمول العناية.

٧ ـ التنصل من الذنب والاعتذار من التقصير بإيراد الحجج التي تقنع المخاطب وتزيل موجدته.

واستحسنوا البسط والاطناب في المواضع التالية :

(١) ما يكتب به عن الملوك في جسيمات الأمور التي يراد تقريرها في نفوس العامة ، كأخبار الفتوح المتجددة ، فهذا موضع يشبع فيه القول ، حتى تعرف الرعية قدر النعمة ، فتزيد في الطاعة ، ولا بأس من تهويل أمر العدو ووصف جمعه ، وعظيم إقدامه ، لأن في تصغير أمره تحقيرا للظفر به.

(٢) ما يكتب به عن الملوك الى أهل الثغور ، في أوقات التحرش بالمملكة ، وإقدام العدو على الهجوم عليها ، ليعلموا ذلك فيستعدوا للقاء.

(٣) ما يكتب به الولاة ، ومن في حكمهم ، الى الملوك لإخبارهم بأحوال ما ينظرون فيه من الأعمال وما يجري على أيديهم من مهام الأمور.

(٤) الموعظة والارشاد بالترغيب في الطاعة والنهي عن المعصية ، حتى يرتاح قلب المطيع وينبسط أمله ، ويرتاع قلب المسيء ويأخذ الخوف منه كل مأخذ.

(٥) الخطب في الصلح بين العشائر لإصلاح ذات البين.

(٦) المدح والثناء والهجاء.

أسرار البلاغة في الايجاز والاطناب

قد عرفت كلا من الايجاز والاطناب ومواضع كل منهما ، فعليك أن تعرف الدواعي التي لأجلها استعملتها العرب في كلامها.

فمن دواعي الايجاز :


١ ـ سهولة الحفظ ، فقد قيل لأبي عمرو بن العلاء : هل كانت العرب تطيل؟

قال : نعم كانت تطيل ليسمع منها ، وتوجز ليحفظ عنها.

٢ ـ إخفاء الأمر عن غير المخاطب.

٣ ـ ضيق المقام خوف فوات الفرصة.

٤ ـ ذكاء المخاطب ، حيث تكفيه اللمحة والوحي والاشارة.

ومن دواعي الاطناب :

(١) توكيد المعنى وتثبيته في النفس ، أفلا ترى الى قوله تعالى في باب الموعظة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(١).

(٢) دفع اللبس الذي كان يحتمل وجوده مع الايجاز واعتبر ذلك بما تراه في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(٢) فكلمة القلب تحتمل أحد معنيين : القطعة من اللحم ، والفهم والادراك ـ لهذا أتي بكلمة في جوفه ليتعين المعنى الثاني ، ويزول اللبس ، وقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٣) ، فأتى بكلمة في الصدور لدفع اللبس بأن المراد بها العيون الباصرة.

(٣) التعظيم والتهويل ، انظر الى قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(٤) ، إذ كان يكفي في الدلالة على وقت علم النفس ما أحضرت قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أو غيره مما بعده من الاثني عشر المذكورة ، لكنه عدّدها لتهويل شأن هذا اليوم.

__________________

(١) سورة الأعراف الآيتان ٩٨ و ٩٩.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٤.

(٣) سورة الحج الآية ٤٦.

(٤) سورة التكوير الآيات ١ ـ ١٤.


تدريب أول

بيّن الايجاز والاطناب والمساواة ، مع ذكر السبب فيما يلي :

١ ـ (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ،) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

٢ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً)(١)

٣ ـ وقال اعرابي : إن شككت فيّ فاسأل قلبك عن قلبي.

٤ ـ واحرص على حفظ القلوب من الأذى

إن الزجاجة كسرها لا يشعب

٥ ـ (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(٢)

٦ ـ جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين فزلت

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا

إلى حجرات أدفأت وأظلت

٧ ـ أخرج منها ماءها ومرعاها.

٨ ـ (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)(٣)

الاجابة

__________________

(١) سورة النبأ الآية ٣٣.

(٢) سورة الفجر الآيات ٣ و ٤ و ٥.

(٣) سورة الزخرف الآية ٧١.


تدريب ثان

١ ـ علمتني نبوتك سلوتك ، وأسلمني يأسي منك الى الصبر عنك.

٢ ـ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(١)

٣ ـ والسعي في الرزق والأرزاق قد قسمت

بغي ألا إن بغي المرء يصرعه

٤ ـ لا تودع السر وشاء به مذلا

فما رعى غنما في الدو سرجان

٥ ـ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(٢)

٦ ـ ألا حبذا حبذا حبذا

حبيب تحملت منه الأذى

٧ ـ قال أبو دعبل الجمحي يمدح النبي عليه‌السلام :

نزر الكلام من الحياء تخاله

ضمنا وليس بجسمه سقم

٨ ـ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.

الاجابة

__________________

(١) سورة الانشراح الآيتان ٥ و ٦.

(٢) سورة الطلاق الآية ٣.


تمرين أول

بيّن الايجاز والاطناب والمساواة وأسبابها فيما يلي :

١ ـ يهون بالرأي ما يجري القضاء به

من أخطأ الرأي لا يستذنب القدرا

٢ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ)(١).

٣ ـ تراه كأن الله يجدع أنفه

(وعينيه) إن مولاه ثاب له وفر

٤ ـ أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة

ونأي حبيب إن ذا لعظيم

وإن امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنه لكريم

٥ ـ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٢).

٦ ـ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا.

٧ ـ فسائل هداك الله أي بني أب

من الناس يسعى سعينا ويقارض

٨ ـ سئل بعض الأدباء : ما كان سبب موت أخيك؟ فقال : (كونه) فأحسن ما شاء.

٩ ـ (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)(٣).

تمرين ثان

١ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

٢ ـ (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)(٤).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «حبك الشيء يعمي ويصمّ».

٤ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٥).

__________________

(١) سورة غافر الآية ٣٩.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٠٤.

(٣) سورة آل عمران الآية ٣٦.

(٤) سورة الإسراء الآية ١٩.

(٥) سورة الواقعة الآية ٧٥.


٥ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(١).

٦ ـ حليم اذا ما الحلم زين أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب

٧ ـ فدعوا نزال فكنت أول نازل

وعلام أركبه اذا لم أنزل

٨ ـ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.

٩ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢).

نموذج عام على المعاني

تكلم من المعاني على ما يأتي :

تهوى الثناء مبرّر ومقصّر

حب الثناء طبيعة الإنسان

الاجابة

إن تطبيق جملة من النثر أو بيت من الشعر على فن المعاني يستدعي أن نعرض أبوابه ، فنرى في هذا البيت :

(١) جملتان خبريتان أولاهما فعلية مضارعة تقتضي الاستمرار التجددي ، بدليل أن الغرض الموعظة ، والثانية اسمية تفيد الاستمرار والدوام ، كما هو شأن الاخلاق والغرائز.

(٢) كل من الجملتين ضرب ابتدائي خال من المؤكدات.

(٣) ذكر المفعول لأن القصد تعلق الفعل به.

(٤) قدم المفعول على المستند اليه في الجملة الأولى ، لأنه الأهم في الكلام.

(٥) نكر المسند اليه لقصد التعميم.

(٦) عرف المفعول بأل لإرادة الجنس.

(٧) فصل بين الشطرين ، لأن بينهما شبه كمال الاتصال ، لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر.

(٨) في البيت إطناب بالتذييل الجاري مجرى المثل.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٩٢.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٣٤.


نموذج ثان

أنشأ يمزق أثوابي يؤدبني

أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا

الاجابة

(١) في الشطر الأول جملتان خبريتان من الضرب الابتدائي وفي الشطر الثاني جملة إنشائية.

(٢) الغرض من إلقاء الخبر فيهما التحسر على تلك المعاملة القاسية التي عامله بها ابنه.

(٣) قدم الظرف وهو بعد في الشطر الثاني لأنه محط الإنكار.

(٤) الاستفهام فيه للتوبيخ.

(٥) قيد الجملة الأولى بتابع وهو عطف البيان لغرض الايضاح والبيان ، وقيد الجملة الثانية بظرف الزمان ، لأنه هو المقصود بالإنكار.

(٦) فصل بين جملتي : أنشأ ويؤدبني ، لأن بينهما كمال الاتصال ، لأن الثانية بيان للأولى ، وبين جملتي : أنشأ ، وأبعد شيبي ، لأن بينهما كمال الانقطاع لاختلافهما خبرا وإنشاء.

(٧) في البيت اطناب بالتذييل غير الجاري مجرى المثل.


علم البيان

البيان لغة الكشف والايضاح ، يقال : فلان أبين من فلان ، أي أوضح منه كلاما واصطلاحا ـ علم يستطاع بمعرفته إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة ، وتراكيب متفاوتة في وضوح الدلالة ، مع مطابقة كل منها مقتضى الحال.

وتقييد الاختلاف بالوضوح لتخرج الألفاظ المترادفة كليث وأسد وغضنفر ، فإنها وإن كانت طرقا مختلفة لإيراد المعنى الواحد ، فاختلافهما إنما هو في اللفظ والعبارة ، لا في الوضوح والخفاء.

واللام في المعنى الواحد للاستغراق العرفي ، أي كل معنى يدخل تحت قصد المتكلم وإرادته ، فلو عرف أحد إيراد معنى واحد ، كقولنا : علي جواد ، بطرق مختلفة لم يكن بذاك عارفا بالبيان.

إيضاح هذا التعريف ، أن الضليع بهذا الفن ، اذا حاول التعبير عما يختلج في صدره من المعاني وجد السبيل ممهدا ، فيختار ما هو أليق بمقصده وأشبه بمطلبه من فنون القول وأساليب الكلام ، فإذا حث همة الشجعان على اقتحام غمار الوغى بهرهم بساحر بيانه وعظيم إحسانه ، فإن شاء شبههم بأسود خفان ، فقال : كأنكم أسود لها في غيل خفّان (١) أشبل ، وإن شاء استعار ، وقال : إني أرى هنا أسودا تتحفز للكر والفر وتثب لاقتناص فرائسها ولها قرم (٢) الى الأخذ بنواصيها وحز رؤسها ، وإن أراد كنى عن مقصده وروى عن مراده فقال : البسوا لعدوكم جلد النمر (٣) واقلبوا له ظهر المجن فإنه قد ورم أنفه عليكم وداسكم تحت أقدامه.

__________________

(١) مأسدة مشهورة بضراوة أسدها.

(٢) شهوة الطعام.

(٣) كناية عن إظهار العداوة ، ومثله ما بعده.


هنالك تناديه القلوب وتتسابق اليه الفرسان قائلة : لبيك لبيك ها نحن أولاء نحمي الذمار ، ونجير الجار ، ونجدل الأقران ، ونصرعهم في الميدان ، ونبيع النفوس رخيصة ونشتري بها المجد والسؤدد :

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وإن دعا النفوس لمكرمة وهز العطف لمحمدة أمكنه أن يقول : كأنكم البحور يعمّ فيضها القاصي والداني وتطعم بأنعامها الفقير والغني.

أو يقول : هذه البحور على سواحلها القصاد تقذف أمواجها ما يفرج كربة البائس ويدفع الضر عن المعدم.

أو يقول : إني أرى مجدا مد سرادقه ، وندى ضربت خيامه.

إذ ذاك تسخو كف البخيل ويهتز عطف الكريم وتصبو النفوس لاكتساب المحامد ونيل المجد بالثمن الربيح.

موضوعه : اللفظ العربي ، من حيث التفاوت في وضوح الدلالة بعد رعاية مطابقته مقتضى الحال.

فائدته : ستعلم مما يلي أن مباحث البيان محصورة في المجاز على أنحائه ، أي انه بمعنى أعم يشمل الكناية ، وأن التشبيه إنما ذكر فيه لبناء الاستعارة عليه.

والمجاز ثروة كبيرة في اللغة من جهات عدة ، منها :

١ ـ الإكثار من الألفاظ وتعدد الوضع تفننا في التعبير كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث ، على ما سيأتي.

٢ ـ التذرع الى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات ، كقولهم : ساق الشجرة ، وإبط الوادي ، وعنق الابريق ، وذوابة الرحل (١).

٣ ـ التذرع الى الوضع لتمثيل صور المعاني ، كقولهم : نبض (٢) البرق ، سبح (٣) الفرس.

__________________

(١) الجلدة المعلقة على آخر الرحل.

(٢) لمع خفيفا ، أخذوه من نبض العرق.

(٣) مد يديه في الجري ، كما يفعل السابح.


٤ ـ الرمز الى حقائق المعاني كقولهم : سافر ولا ظهر (١) له ، وفلان يملك رقبة أي عبدا.

وهاك مثلا يبين لك اتساع اللغة بالمجاز ، ذلك أن مادة كف أصلها الكف ، وهو الجارحة ، ثم تصرفوا فيها واستعملوها على أنحاء شتى مجازا ، فقالوا :

كفه عن الأمر ، اذا منعه ، كأنه دفعه بكفه من استعمال اللفظ في لازمه مجازا مرسلا ، وكف هو عن الأمر اذا امتنع وهو من وادي سابقه ، واستكف السائل وتكفف اذا طلب بكفه ، واستكف بالصدقة اذا مد يده بها لتعطيه إياها ، وكفه الميزان لشبهها بالكف في الشكل ، والكفة النقرة المستديرة ، يجتمع فيها الماء ، واستكفوا حوله اذا أحاطوا به ينظرون اليه ، الى نحو هذه المعاني التي ترجع كلها إلى معنى الكف.

فالمجاز إذا غذاء اللغة والروح الذي لا تحيا بدونه ، ولا قوام لها إلا به ، ولولاه ما كنا نرى فيها البهجة والجمال اللذين يتذوقهما كل ناطق بالضاد.

(واضعه) أول من دوّن مسائل هذا العلم أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه «مجاز القرآن» ، وتبعه الجاحظ ، وابن المعتز ، وقدامة بن جعفر ، وأبو هلال العسكري ، وما زال يشدو شيئا فشيئا حتى جاء الإمام عبد القاهر فأحكم أساسه وشيد بناءه.

الدلالة

علمت مما سبق أن فائدة هذا العلم إبراز المعنى بطرق مختلفة في وضوح الدلالة فناسب تعريف الدلالة وبيان أقسامها ، فنقول :

الدلالة فهم أمر من أمر ، والأول المدلول ، والثاني الدال ، وهي : إما لفظية وإما غير لفظية.

والثانية لا علاقة لها بمباحث هذا الفن .. والأولى أقسام ثلاثة :

١ ـ دلالة اللفظ على تمام مسماه وتسمى دلالة المطابقة : كدلالة الإنسان والأسد على حقيقتيهما.

__________________

(١) أي لا دابة له يركب ظهرها.


٢ ـ دلالة اللفظ على بعض مسماه ، وتسمى : دلالة التضمن ، كدلالة البيت على السقف أو الحائط.

٣ ـ دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة الإنسان على كونه متحركا أو شاغلا لجهة ، أو نحو ذلك ، وشرطه اللزوم الذهني (١) (سواء أصاحبه لزوم خارجي ، أم لا) بحيث يلزم من حصول المعنى الموضوع له في الذهن حصول فيه إما على الفور ، أو بعد التأمل في القرائن والامارات ، لكن لا يشترط أن يكون اللزوم مما يثبته العقل (٢) ، بل يكفي أن يكون لعرف عام (٣) ، أو عرف خاص (٤) ، كاصطلاحات أرباب الصناعات والاصطلاحات الشرعية واللغوية.

والدلالة الأولى تسمى عند البيانين وضعية ، ويستحيل تفاوتها وضوحا وخفاء لأن السامع لشيء من الألفاظ الموضوعية ، إما أن يكون عالما بالوضع للمسمى أولا ، فإن كان الأول فإنه يعرفه بتمامه بلا زيادة ولا نقصان ، وإن كان الثاني فإنه لا يعرف منه شيئا أصلا.

والثانية والثالثة تسميان : عقليتين ، لأن دلالة اللفظ على الجزء ، واللازم مصدرها العقل الحاكم بأن حصول الكل مستلزم حصول الجزء ، ووجود الملزوم مستلزم وجود اللازم ، ويتأتى فيهما الاختلاف وضوحا وخفاء ، إذ اللوازم كثيرة بعضها قريب اللزوم يسبق الى الذهن فهمه بسرعة ، وبعضها بعيد ، فيصح اختلاف الطرق فيها ويكون بعضها أكمل من بعض في الإفادة.

وكذا يجوز أن يكون المعنى جزءا من شيء وجزءا من شيء آخر ، فدلالة الشيء الذي ذلك المعنى جزء منه على ذلك المعنى ، أوضح دلالة من الشيء الذي ذلك المعنى جزء من جزئه على ذلك المعنى.

__________________

(١) أي أنه لا يشترط باللزوم الخارجي أيضا ، ألا ترى أن العمى يدل على البصر التزاما إذ هو عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا مع التنافي بينهما في الخارج.

(٢) وهو اللزوم البين المعتبر عند المنطقيين وإلا لما تأتى الاختلاف بالوضوح في دلالة الالتزام ولخرج كثير من المعاني المجازية والكنائية ، لأنه ليس بينها وبين ملزوماتها مثل هذا اللزوم.

(٣) كلقاء الحبيب بالنسبة لاختلاج العين ، إذ كثير من الناس يعتقد أن اختلاج العين يبشر بلقاء الحبيب ، فاذا قلت لواحد : من هؤلاء عيني تختلج ، فهم من ذلك أنك ستلقى حبيبا.

(٤) كما اذا قلت : هذا قدوم ، على فهم السامع أنه نجار.


فدلالة الحيوان على الجسم أوضح (١) من دلالة الإنسان عليه ، ودلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة البيت عليه.

وفي هذا مجال لقائل : إذ الدلالة الوضعية ربما يعرض لها الوضوح والخفاء ، ألا ترى أنا نجد في أنفسنا ألفاظا محفوظة لدينا ، معلومة الوضع ، ومع ذلك يحضر لنا معنى بعضها بنفس الالتفات اليه ، لكثرة الممارسة ، أو لقرب العهد باستعماله في معناه ، أو لقرب العهد بعلم وضعه ، وبعضها لا يحضر معناه إلا بالمراجعة مرة بعد أخرى لطول العهد بعلم وضعه ولعدم تداوله.

أضف الى ذلك أن التركيب الذي فيه تعقيد لفظي لا يفهم معناه إلا بعد التأمل ، مع العلم بوضع جميع ألفاظه ، فليس ببعيد إذا أن تكون قابلة للوضوح والخفاء. وقد أجيب عن الأول بأن التوقف والمراجعة لطلب تذكر الوضع المنسي ، لا لخفاء الدلالة ، بدليل أنه عند ما نتذكر الوضع نعلم المعنى من غير توقف ، وعن الثاني بأن الهيئة مختلفة ، والكلام عند اتفاقها ، لأن لها دخلا في الفهم الوضعي.

أبواب الفن

اعلم أن اللفظ إن استعمل في معناه الموضوع له فحقيقة ، وإن استعمل في غيره ، لعلاقة مع قرينة ، فإما مانعة من إرادة المعنى الأصلي فمجاز ، وإما غير مانعة فكناية.

والمجاز إن كان لعلاقة المشابهة فاستعارة مفردا كان أو مركبا ، وإن كان لعلاقة غير المشابهة فإن كان مفردا سمي مجازا مرسلا ، وإن كان مركبا قيل له : مجاز مركب مرسل.

والاستعارة مبنية على التشبيه ، فوجب التعرض له ، فعلم من هذا وبما تقدم من أن الدلالة الوضعية لا تتفاوت وضوحا وخفاء على المشهور ، أن أبواب هذا الفن أربعة : التشبيه المجاز بقسميه ، الكناية ـ أما الحقيقة فإنما تذكر فيه ليتضح مقابلها ، وهو المجاز أشد الوضوح (وبضدها تتميز الأشياء) وأيضا فهي أصل المجاز ، وهو فرع لها تناسب ذكرها في الفن تبعا.

__________________

(١) لأن دلالة الحيوان عليه بلا واسطة ، بخلاف الثانية.


ويمكن إيضاح ذلك بما تراه في الرسم الآتي :


الباب الاول في التشبيه

وفيه اثنا عشر مبحثا

المبحث الأول في شرح حقيقته وبيان جليل فائدته

التشبيه لغة التمثيل ، يقال : هذا شبه هذا ومثيله ، وشبهت الشيء بالشيء أقمته مقامه لما بينهما من الصفة المشتركة.

واصطلاحا : إلحاق أمر (المشبه) بأمر (المشبه به) في معنى مشترك (وجه الشبه) بأداة (الكاف وكأن وما في معناهما) لغرض (فائدة) (١).

(أركانه) مما سبق تعلم أن أركانه أربعة : مشبه ومشبه به ، ويسميان بالطرفين ، ووجه شبه ، وأداة.

(فائدته) إيضاح المعنى المقصود مع الايجاز والاختصار ، ألا ترى أنك إذا قلت : علي كالأسد ، كان الغرض أن تبين حال علي ، وأنه متصف بقوة البطش وشدة المراس وعظيم الشجاعة ، وما الى ذلك من أوصاف الأسد البادية للعيون.

ولا شيء أدل على ذلك من تشبيهه بالأسد من أجل أن كانت هذه الصفات خصيصي بالأسد مقصورة عليه ، فصار هذا القول أكشف وأبين للقصد من قولك علي شجاع جريء ، الى أشباه ذلك.

ومن أسباب ذلك ما يلي :

١ ـ ما يحصل للنفس من الأنس به بإخراجها من الخفي الى الجلي الواضح ، ألا ترى أنك اذا وصفت يوما بالقصر ، فقلت : هذا يوم من أقصر ما يتصور ، لم يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولك : يوم كإبهام القطاة.

__________________

(١) عرفه ابن رشيق في «العمدة» بأنه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة ، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية كان إياه ، وقيل : هو إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها واختلفا في كيفيتها قوة وضعفا.


أو لنحو قوله :

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذباب (١)

٢ ـ ما يحصل لها من الانس بإخراجها مما لم تألفه ، الى ما هي به آلف ، فإذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمر على شاطىء نهر وأردت أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على فائدة ، فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له : انظر ، هل حصل في كفي شيء من الماء ، فكذلك أنت في أمرك ـ كان لذلك تأثير في النفس وتمكين للمعنى في القلب يزيد على القول المرسل إرسالا.

٣ ـ ما يحصل لها بالانتقال مما تعلمه الى ما هي به ، فإنك ترى الفرق بينها وبين أن تقول : الدنيا لا تدوم ، ثم تسكت ، وبين أن تذكر عقب ذلك قوله عليه‌السلام : «من في الدنيا ضيف ، وما في يده عارية ، والضيف مرتحل ، والعارية مؤداة» ، أو تنشد قول لبيد :

وما المال والأهلون إلا وديعة

ولا بد يوما أن ترد الودائع

المبحث الثاني في الطرفين

ينقسم الطرفان الى حسيين وعقليين ومختلفين ، وإلى مفردين ومركبين ومختلفين ، فالحسيان ما يدركان هما أو مادتهما أي أجزاؤهما بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ، وبهذا التفسير دخل في الحسي شيئان :

ما كان للطرفان فيه مشتركين ، إما : في صفة مبصرة كتشبيه الحور الحسان بالياقوت والمرجان في قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٢).

وقول عنترة يصف غدرانا :

جادت عليها كل عين ثرة

فتركن كل قرارة كالدرهم (٣)

أو في صفة مسموعة كتشبيه الصوت الحسن بالموسيقى ، والأسلحة في وقعها بالصواعق ، والأصوات غير المفهومة بأصوات الفراريج ، في قول عياش بن سلمة يذم بني دالان :

__________________

(١) السالفة صفحة العنق ، وأراد هنا العنق كله.

(٢) سورة الرحمن الآية ٥٨.

(٣) الثرة كالثرثارة النويرة الماء ، والقرارة الحفرة ، والعين مطر أيام لا تقلع.


كأن بني دالان إذا جاء جمعهم

فراريج يلقى بينهن سويق (١)

أو في صفة مذوقة ، كتشبيه الفواكه الحلوة بالعسل ، والبرقوق الكرز ، والريق بالخمر ، في قول امرىء القيس :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر

يعل به برد أنيابها

إذا طرب الطائر المستحر (٢)

أو في الصفة المشمومة كتشبيه رائحة الرياحين المجتمعة بالغالية (٣) والنكهة بريح العنبر.

أو في الصفة الملموسة ، كما يشبه الجسم بالحرير في النعومة ، كقول ذي الرمة :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

(الخيالي) وهو المعدوم الذي يفرض مجتمعا من أمور عدة ، كل منها مدرك بالحس ، كقول أبي الغنائم المحصي :

خود كأن بنانها

في خضرة النقش المزرد

سمك من البلور في

شبك تكون من زبرجد (٤)

فسمك على هذه الشاكلة ، وشبك بهذه الصفة لا يوجدان حتى يدركا بالحس ، لكن ما يتألفان منه وهو السمك والبلور وشبك والزبرجد ، يدركان بالحس.

والعقليان ما لم يدركا ، هما ولا مادتهما بإحدى الحواس ، كتشبيههم الضلال عن الحق بالعمى ، والعلم بالحياة ، وبهذا التفسير دخل في العقلي.

(الوهمي) (٥) وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس ، لكنه لو أدرك ، لكان مدركا بها ، كرؤوس الشياطين ، وأنياب الأغوال ، في قوله تعالى :

__________________

(١) الفراريج صغار الدجاج ، والسويق : الناعم من دقيق الحنطة والشعير ، وشبههم بذلك لدقة أصواتهم وعجلة كلامهم.

(٢) الصوب المطر ، والخزامى نبت طيب الرائحة ، والنشر الريح الطيبة ، والمستحر المغرد في السحر.

(٣) أخلاط من الطيب.

(٤) الخود الشابة الناعمة.

(٥) هو ما تخترعه المتخيلة من نفسها ، وهي قوة من قوى الادراك من شأنها اختراع أشياء لا حقيقة لها ، كما تصور الغول بصورة السبع وتخترع له أنيابا.


(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(١) ، وقول امريء القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فهاتان لا تدركان بالحس ، لعدم وجودهما ، لكن لو أدركتا لم تدركا إلا بحاسة البصر.

(الوجداني) كتشبيههم الجوع بالنار ، والعطش باللهب وتسعر النار.

والمختلفتان إما بأن يكون المشبه عقليا والمشبه به حسيا ، كما يشبه العدل بالقسطاس ، والرأي بسواد الليل في قوله :

الرأي كالليل مسود جوانبه

والليل لا ينجلي إلا بإصباح

أو بالعكس بتقدير المعقول كأنه محسوس ويجعل كالأصل لذلك المحسوس مبالغة ، ويكون حينئذ من التشبيه المقلوب كما في تشبيه العطر بحسن الخلق في قول الصاحب بن عباد :

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدي له أخلاقه

والمفردان إما مطلقان ، كما في تشبيه الشعر بالليل ، والمخاطب بالحالم ، في قوله :

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة

فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

وأما مقيدان بوصف أو إضافة أو ظرف أو حال ، أو نحو ذلك ، مما يكون له تعلق بوجه الشبه ، كقولهم لمن يفخر بما ليس له ، كالحادي ، وليس له بعير (٢) ، فهذه الجملة الحالية محتاج اليها في تحقيق الشبه بينهما ، وكقول القاضي الفاضل :

والشمس بين الأرائك قد حكت

سيفا صقيلا في يد رعشاء

وأما مختلفان ، والمقيد هو المشبه ، نحو :

كأن فجاج الأرض وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفة حابل (٣)

ونحو قول المتنبي :

__________________

(١) سورة الصافات الآية ٦٥.

(٢) يضرب مثلا للرجل يفخر بما ليس له.

(٣) الفجاج جمع فج الطريق الواسع بين جبلين ، والكفة ما يصاد به (الشبكة).


وإذا الأرض أظلمت كان شمسا

وإذا الأرض أمحلت كان وبلا

وأما بالعكس كقول الخنساء :

أغرّ أبلج تأثمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وقول السري الرفاء :

والفجر كالراهب قد مزقت

من طرب عنه الجلابيب

واما مركبان (١) كقول بشار :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٢)

فالشبه (٣) هو مجموع الغبار والسيوف المتألقة في خلاله والمشبه به هو الليل الذي تتهافت كواكبه إذ لم يقصد تشبيه النقع بالليل والسيوف بالكواكب ، بل عمد الى تشبيه هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها ، وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب وتضطرب اضطرابا شديدا وتتحرك بسرعة الى جهات مختلفة ، وكذا الى هيئة الكواكب في تهاويها وتصادمها وتداخلها واستطالة أشكالها عند السقوط.

وهذا القسم ضربان :

١ ـ ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الثاني كقول القاضي التنوخي :

كأنما المريخ والمشتري

قدامه في شامخ الرفعة (٤)

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدامه شمعة

فإن المريخ في مقابلة المنصرف عن الدعوة ، ولو قيل : كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة ، كان ضربا من الهذيان.

__________________

(١) ليس الفرق بين المقيد والمركب باعتبار التركيب اللفظي لاستوائه فيهما غالبا ، بل باعتبار قصد المتكلم الهيئة بالذات والأجزاء يالتبع في المركب وباعتبار قصد جزء من الأجزاء والربط بغيره بالتبع في المفرد المقيد.

(٢) المثار من أثار الغبار.

(٣) ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من سقوط أجرام مستطيلة منيرة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم.

(٤) واو المشتري للحال ، فهو يقصد الهيئة التي تكون للمريخ متى كان المشتري أمامه.


٢ ـ ما يصح تشبيه كل جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر ، غير أن الحالة تتغير ، كقول أبي الطيب الرقيّ :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزر

فلو قيل : كأن النجوم درر وكأن السماء بساط أزرق ، كان تشبيها صحيحا ، ولكن أين هذا من ذاك الذي يملأ نفسك عجبا ، إذ يريك هيئة نجوم طالعة متألقة متفرقة في أديم سماء صافية الزرقة.

واما مختلفان ، وهو ضربان :

١ ـ أن يكون المشبه مفردا والمشبه به مركبا ، كقول الصنوبري :

وكأن محمر الشقيق

إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد (١)

فالمشبه هو الشقيق عند تصوبه (٢) وتصعده ، والمشبه به مركب ، وهو الصورة الحادثة من نشر أجرام حمر مبسوطة على رؤوس سيقان خضر مستطيلة.

٢ ـ أن يكون المشبه مركبا ، والمشبه به مفردا ، كقول أبي تمام يصف الربيع :

يا صاحبيّ تقصيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الربا فكأنما هو مقمر (٣)

يريد أن النبات لشدة خضرته مع كثرته وتكاثفه ، صار لونه يميل الى السواد فنقص من ضوء الشمس حتى صار كأنه ليل مقمر.

فهو قد شبه النهار الذي خالطه زهر الربا (وهذا مركب) بالليل المقمر (وهذا مفرد مقيد بالصفة).

__________________

(١) محمر الشقيق ورد أحمر في وسطه سواد ، يقال له : شقائق النعمان.

(٢) فهو مفرد مقيد بالظرف ، لأن أوراق الشقائق إنما تكون على هيئة العلم اذا مالت الى السفل أو العلو.

(٣) تقصيت الشيء بلغت أقصاه ، وشابه خالطه ، والربا جمع ربوة وهي المكان المرتفع ، وخص زهر الربا لأنها أنضر وأشد خضرة ، وفي الكلام حذف مضاف أي لون زهر الربا.


المبحث الثالث في تقسيم التشبيه

باعتبار الطرفين الى ملفوف ومفروق

الطرفان إن تعددا كان ذلك على ضربين :

١ ـ أن يؤتى بالمشبهات أولا على طريق العطف ، أو غيرها ، ثم يؤتى بالمشبهات بها كذلك ، ويسمى حينئذ تشبيها ملفوفا ، كقول امريء القيس يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

ولدى وكرها العناب والحشف البالي (١)

فقد شبه الرطب من قلوب الطير بالعناب ، وشبه اليابس العتيق منها بالحشف البالي.

وفضيلة هذا الضرب من التشبيه اختصار اللفظ ، وحسن الترتيب ، إلا أن في الجمع فائدة في المقصود من التشبيه كما هو الحال في التشبيه المركب.

٢ ـ أن يؤتى بمشبه ومشبه به ، ثم بآخر وآخر ، ويسمى تشبيها مفروقا ، كقول ابن سكرة :

الخد ورد والصدغ غالية

والريق خمر والثغر كالدر (٢)

المبحث الرابع في تقسيم التشبيه

باعتبار الطرفين الى تشبيه تسوية ، وتشبيه جمع

اذا تعدد أحد الطرفين كان ذلك على ضربين :

١ ـ فان كان المتعدد المشبه سمي تشبيه التسوية ، كقوله :

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كالليالي

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي (٣)

__________________

(١) العناب بزنة رمان حب أحمر مائل الى الكدرة قدر قلوب الطير يثمره السدر البستاني والحشف أردأ التمر.

(٢) الغالية أخلاط من الطيب مركبة تركيبا خاصا.

(٣) للصدغ إطلاقان ما بين الأذن والعين ، والشعر المتدلي ، وهو المراد هنا ، والسواد في حاله تخييلي.


فقد شبه في البيت الأول صدغ الحبيب (وهو الشعر البادي من الرأس فيما بين الأذن والعين) وحاله بالليالي ، وشبه في البيت الثاني ثغر الحبيب (وهو مقدم أسنانه) ودموعه باللآليء في القدر والصفاء والإشراق.

٢ ـ وإن كان المشبه به سمي تشبيه الجمع كقول البحتري :

بات نديما لي حتى الصباح

أغيد مجدول مكان الوشاح

كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضد أو برد أو أقاح

المبحث الخامس في وجه الشبه

وجه الشبه هو الوصف الخاص (١) الذي قصد اشتراك الطرفين فيه ، فقولك : علي كالأسد ، ووجه سعدى كالشمس ـ الوجه في الأول الجرأة والإقدام وشدة البطش المشهورة في الأسد ، وفي الثاني الحسن والبهاء الثابتان للشمس.

فمن أراد أن يشبه حركة أو هيئة بغيرها فعليه أن يتطلب أمرا يشترك فيه الطرفان ، كما فعل ابن المعتز حين يقول :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرة وانفتاحا (٢)

فهو لم ينظر الى جميع صفات البرق ، بل نظر الى انبساط يعقبه انقباض ، وانتشار يتلوه انضمام ، فشبه ذلك بمصحف ، القارىء يفتحه مرة ، ويطبقه مرة أخرى.

ومما ذكر تعلم أن قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» يريدون به أن الكلام لا ينتفع به إلا بمراعاة أحكام النحو فيه ، كما لا ينتفع بالطعام ما لم يصلح بالملح ، إلا أن القليل من النحو مفيد والكثير مفسد ، كما يفسد الملح الطعام ، اذا كثر فيه ، إذ لا تتصور زيادة ولا نقصان في جريان أحكامه في الكلام ، لأنه إن استوفى احكامه من رفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك ، فقد وجد النحو وانتفى الفساد وانتفع به في فهم المراد وإلا لم يوجد وكان

__________________

(١) قال ابن رشيق في «العمدة» : التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته ، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه ، ألا ترى أن قولهم : فلان كالبحر ، إنما يريدون كالبحر سماحة وعلما ، ولا يريدون ملوحة البحر وزعوقته. انتهى.

(٢) قار أصله قارىء حذفت منه الهمزة بعد قلبها ياء ، ثم أعلى إعلال قاض.


الكلام فاسدا. فقول أبي بكر الخوارزمي : «والبغض عندي كثرة الاعراب» كلام ليس له معنى ، وينقسم الوجه الى عدة أقسام :

١ ـ تحقيقي وتخييلي :

(أ) فالتحقيقي ما كان متقررا في الطرفين على وجه التحقيق كقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)(١) ، فوجه الشبه وهو العظم والضخامة ، موجود في كل من المراكب والجبال حقيقة.

(ب) والتخييلي ما لا يكون وجوده في أحد الطرفين إلا على ضرب من التأويل ، فمثاله في المشبه قوله : صدغ الحبيب وحالي ، كلاهما كالليالي ، ومثاله في المشبه به قول التنوخي :

وكأن النجوم بين دجاه

سنن لاح بينهن ابتداع

فوجه الشبه هو الهيئة الحادثة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود ، وهي غير موجودة في المشبه به ، إلا على طريقة التخييل ، ذاك أنه لما كانت البدع والضلالات تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي الى الطريق الذي تقع له به النجاة!!

شبهت بالظلمة وشاع ذلك حتى قيل : شاهدت سواد الفكر من جبين فلان ، لتخييل أن البدعة نوع له زيادة اختصاص بسواد اللون ، وبطريق العكس شبه الهدى ، والعلم بالنور ، واشتهر ذلك كما ورد : «أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها» من حيث تخيل أن السنن ونحوها جنس من الأجناس التي لها إشراق (٢) وبياض في العين.

ومن أجل هذا صار تشبيه النجوم بين الدياجي بالسنن بين الابتداع واضحا جليا كتشبيهها ببياض الشيب في سواد الشباب.

٢ ـ واحد ومركب من متعدد منزل منزلة الواحد ، وكل منهما : إما حسي ، وإما عقلي ، ومتعدد (يقصد فيه اشتراك الطرفين في عدة أمور كل منها وجه شبه

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٢٤.

(٢) فتمام التشبيه يكون بأن يتخيل ما ليس بمتلون متلونا ، ثم يتخيل كونه أصلا للمتلونات الحقيقية من ذلك الجنس.


على حدته ، وبهذا يخالف المركب المنزل منزلة الواحد ، فإن وجه الشبه فيه الهيئة المنتزعة من عدة أمور) وهو : إما حسي ، وإما عقلي ، وإما مختلف بعضه حسي وبعضه عقلي :

(أ) فالواحد الحسي طرفاه لا يكونان إلا حسيين ، فإن الوجه أمر منتزع من الطرفين موجود فيهما ، وكل ما يؤخذ من العقلي وينتزع منه يجب أن يدرك بالعقل لا بالحس ، لأن أوصاف العقلي يجب أن تكون عقلية ، وذلك كتشبيه الخد بالورد بجامع الحمرة والغضاضة.

(ب) والواحد العقلي طرفاه إما عقليان كما يشبه وجود ما لا ينتفع به بعدمه بجامع العراء عن الفائدة في قولهم : وجوده كالعدم ، وإما حسيان كتشبيه الرجل بالأسد في الجرأة والإقدام والبطش ، وإما المشبه عقلي والمشبه به حسي ، كما يشبه العلم بالنور بجامع الهداية في كل ، وإما بالعكس كما يشبه العطر بخلق الكريم بجامع ارتياح النفس وانتعاشها.

(ج) والمركب الحسي طرفاه إما مفردان كتشبيه الثريا بعنقود من الكرم لاشتراكهما في الهيئة الحادثة من تقارن الصور البيض المستديرة الصفار في رأي العين على كيفية مخصوصة ومقدار معين في قول كسناجم محمود بن الحسين :

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نوّرا (١)

وإما مركبان كالهيئة الحاصلة من سقوط أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم في قول بشار :

كأن مثار النقع فوق رؤوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

إما مختلفان كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، فالمشبه مفرد ، والمشبه به مركب ، وإما بالعكس كتشبيه النهار المشمس الذي شابه زهر الربا بليل مقمر.

ومن بديع المركب الحسي ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة ، وذلك على وجهين :

__________________

(١) الملاحية بضم الميم وتشديد اللام ، والأكثر تخفيفها عنب أبيض في حبه طول وحين نور ، أي تفتح نوره بفتح النون.


١ ـ أن تقترن هيئة الحركة بغيرها من أوصاف الجسم ، كالشكل واللون ، كقول جبار بن جزء بن أخي الشماخ :

والشمس كالمرآة في كف الأشل

لما رأيتها بدت فوق الجبل

فوجه الشبه : الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة مع الإشراق حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من الوسط الى جوانب الدائرة ، ثم يبدو له أن يرجع من الانبساط الذي هم به الى الانقباض كأنه يرجع من الجوانب الى الوسط ، فإن الإنسان اذا أحدّ النظر لينظر الى الشمس ، ولا سيما أول شروقها ، ليتبين جرمها ، وجدها تؤدي هذه الهيئة ، وكذلك المرآة في كف الاشل.

٢ ـ أن تجرد هيئة الحركة عن غيرها من الأوصاف ، فهناك لا بد من اختلاط حركات كثيرة للجسم الى جهات مختلفة ، كان يتحرك بعضه الى اليمين وبعضه الى الشمال وبعضه الى العلو وبعضه الى السفل ، فحركة الدولاب والرحا والسهم ، لا تركيب فيها لاتحاد الحركة.

وحركة المصحف في قول ابن المعتز :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرة وانفتاحا

فيها تركيب لأنه يتحرك في حالتي الانطباق والانفتاح الى جهتين في كل حال الى جهة ، ومن لطيف ذلك قول الأعشى ، يصف السفينة في البحر ، وتقاذف الأمواج بها :

تقص السفين بجانبيه كما

ينزو الرياح خلاله كرع (١)

شبه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه ، فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ويكون هناك تسفل وتصعيد على غير ترتيب ، وبحيث تكاد تدخل إحدى الحركتين في الأخرى ، فلا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه متسفلا ، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين تتدافعها الأمواج.

__________________

(١) تقص تثب ، والنزو الوثوب والرياح كرمان ، ويخفف القرد أو الفصيل ، والكرع ماء السماء ، وخلا فعل ماض.


وكما يقع التركيب في هيئة الحركة ، قد يقع في هيئة السكون ، كقول أبي الطيب في صفة الكلب :

يقعى جلوس البدي المصطلي

بأربع مجدولة لم تجدل (١)

فلم ينل التشبيه حظا من الحسن إلا لما فيه من التفصيل من حيث كان لكل عضو من أعضاء الكلب في إقعائه موقع خاص ، وكان مجموع تلك الجهات في حكم أشكال مختلفة تؤلف منها صورة خاصة ، وكذلك صورة جلوس البدوي عند الاصطلاء.

والمركب العقلي كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٢) ، فالتشبيه منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها الى بعض ، ذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل ، وأن يكون المحمول أوعية العلوم ومستودع ثمار العقول ، وأن الحمار جاهل لما فيها ، فلاحظ له إلا أن يثقل عليه الحمل أو يكد جنبيه ، وكذا في جانب المشبه ، فقد روعي أنهم فعلوا فعلا مخصوصا ، هو الحمل المعنوي ، وكون المحمول أوعية العلوم وكونهم جاهلين لما فيها.

(تنبيه) قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها ، فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها ، كقوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت (٣)

فإنه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه ، لا حاجة به الى الثاني ، على أن المراد به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة اليه ،

__________________

(١) الاقعاء الجلوس على الاليتين ، والاصطلاء الاستدفاء بالنار ، ومجدولة محكمة الخلق لم يحد لها انسان ، والغرض مدح الكلب بشدة الحرص.

(٢) سورة الجمعة الآية ٥.

(٣) أقشعت اضمحلت وذهبت ، وأبرقت قوما أي لقوم ، ففي الأساس : أبرقت لي فلانه إذا تحسنت لك وتعرضت ، وعطاش جمع عطشان. وقبله :

لقد أطمعتني بالوصال تبسما

وبعد رجائي أعرضت وتولت


لكن ، بعد التأمل ، يظهر أن مقصد الشاعر أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس ، وذلك يتوقف على البيت كله.

وهذا بخلاف التشبيهات المجتمعة في نحو : محمد كالأسد ، والسيف والبحر ، فإن المقصد فيها التشبيه بكل واحد على حدته ، حتى لو حذف بعضها ، لا يتغير الباقي في إفادة معناه ، بخلاف المركب ، فإن المقصود يختل باسقاط بعض الأمور ، كما أنه لو قدم بعضها وأخر بعضها الآخر لا يتغير المعنى ، إذ ليس لهذه التشبيهات نسق مخصوص ، ولا ترتيب معين (١) بخلاف المركب.

والمتعدد الحسي : كالموت والطعم والرائحة ، في تشبيه النبق الكبير بالتفاح في هذه الأمور الثلاثة.

والمتعدد العقلي : كحدة النظر وكمال الحذر وإخفاء السفاد ، عند تشبيه طائر بالغراب ، فيما ذكر.

والمتعدد المختلف ، كحسن الطلعة ونباهة الشأن عند تشبيه إنسان بالشمس ، واعلم أنه قد ينتزع التشبه من نفس التضاد لاشتراك الضدين فيه ، فينزل التضاد منزلة التناسب ، فيشبه أحد الضدين بالآخر ، للتلميح والظرافة ، أو للتهكم والاستهزاء ، كما يشبه بخيل بحاتم ، وعي بقس في الفصاحة ، كما قال الإمام المرزوقي ، وفي قول شقيق الأسدي :

أتاني من أبي أنس وعيد

فسل لغيظه الضحاك جسمي (٢)

إن قائل هذا البيت قصد به الاستهزاء والتلميح بما يستظرفه السامعون.

المبحث السادس في تقسيم التشبيه باعتبار الوجه الى تمثيل وغيره

التمثيل تشبيه وجه منتزع من متعدد أمرين ، أو أمور ، كقوله :

وكأن النجوم والليل داج

نقش عاج يلوح في سقف ساج (٣)

__________________

(١) فقد ظهر من هذا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في أمرين : الأول أنه لا يجب فيها ترتيب خاص ، والثاني أنه اذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف.

(٢) الوعيد التخويف ، وسل ذاب ، وهو بصيغة المبني للمجهول ، والضحاك هو أبو أنس ، وهو بالجر بدل من الهاء ، ففيه إظهار في موضع الاضمار زيادة الاستهزاء لذكره باسمه العلم.

(٣) الساج : شجر ينبت ببلاد الهند.


فوجه الشبه هيئة مأخوذة من أشياء بيضاء مستديرة لامعة في وسط شيء أسود ، وكقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١) فقد شبهت حال المنافقين بحال من استوقد نارا الى آخر هذه الآية ، بجامع الطمع في حصول شيء بوشرت أسبابه وهيئت وسائله ، ثم تلا ذلك الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب وتقويض أركانها رأسا الى عقب ، وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك ، نحو : فلان كالسيف في المضاء.

الفرق بين التشبيه والتمثيل

التشبيه أعم من التمثيل ، فكل تمثيل تشبيه دون عكس إذ التمثيل مختص بما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد.

وللتمثيل موقعان :

١ ـ أن يكون في مفتتح الكلام فيكون قياسا موضحا وبرهانا مصاحبا ، وهو كثير جدا في القرآن الكريم نحو : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)(٢).

٢ ـ ما يجيء بعد تمام المعاني لإيضاحها وتقريرها فيشبه البرهان الذي تثبت به الدعوى ، كقول أبي العتاهية :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

تأثير التمثيل في النفس

إذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى الى النفس بوضوح وجلاء مؤيدا بالبرهان ، واذا أتى بعد استيفاء المعاني كان :

١ ـ إما دليلا على إمكانها ، كقول المتنبي :

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

٢ ـ أو تأييدا للمعنى الثابت ، كقوله :

ونار لو نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٦١.


وهو في كلتا الحالين يكسب المعاني منقبة ، ويرفع قدرها ، ويجعل لها في القلوب هزة وارتياحا ، فإنك اذا تأملت حالك وحال المعنى قبل التمثيل وبعده ترى بونا شاسعا ومسافة الخلاف متسعة ، ألا تراك تحس الفرق بين أن تقول : أرى قوما لهم بهاء ومنظر وليس لهم مخبر ، وأن تنشد قول الشاعر :

في شجر السرو منهم مثل

له رواء وما له ثمر (١)

فإن جاء في باب المدح كسا المعنى حلة من الفخامة وقضى للمادح بغر المنائح كقوله :

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

وإن جاء في باب الذم كان وقعه أشد وحده ، كقوله تعالى : فيأوتي الآيات فانسلخ منها (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٢).

وإن جاء في مقام الاحتجاج كان ساطع البرهان باهر البيان ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣).

وإن جاء في مقام الوعظ كان أبلغ في التنبيه والزجر ، كقوله تعالى في وصف نعيم الدنيا : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً)(٤).

وإن جاء في موضع الاعتذار خلب القلب وسحر اللب وسل السخيمة وأزال الموجدة والضغينة ، كقول المتنبي :

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا

فالطير يرقص مذبوحا من الألم

وهكذا حاله في كل فنون القول وضروب الكلام ، ولا سيما باب الوصف ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)(٥).

__________________

(١) هو فصيلة الصفصاف.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٧٦.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤١.

(٤) سورة الحديد الآية ٢٠.

(٥) سورة إبراهيم الآية ٢٤.


وقول الشاعر :

والليل تجري الدراري في مجرته

كالروض تطفو على نهر أزاهره

المبحث السابع في تقسيم التشبيه

باعتبار الوجه الى مجمل مفصل

فالمجمل هو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه ، وهو قسمان :

١ ـ ظاهر يفهمه كل أحد كأن يشبه الشيء اذا استدار بالكرة في وجه والحلقة في وجه آخر ، وكقوله :

إنما الدنيا كبيت

نسجته العنكبوت

٢ ـ خفي لا يعرف المقصود منه ببديهة السمع ، بل يحتاج الى تأويل كقول كعب بن معدان الأشعري في وصف بني المهلب (هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها) ، فهذا يحتاج الى فضل تأمل ورفق ، ولا يفهمه إلا من ارتفع عن طبقة العامة ودخل في عداد الخاصة.

ومن المجمل ما ذكر معه وصف المشبه به ، كقول زياد الأعجم :

وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق

أو وصفهما معا ، كقول أبي تمام يمدح الحسن بن رجاء :

ستصبح العيس بي والليل عند فتى

كثير ذكر الرضا في ساعة الغضب

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عني وعاوده ظني فلم يخب

كالغيث إن جئته وافاك ريقه

وإن ترحلت عنه لج في الطلب (١)

فقد وصف المشبه ، أعني الممدوح ، بأن عطاياه فائضة عليه ، أعرض أو لم يعرض ، ووصف المشبه ، أعني الغيث ، بأنه يصيبك ، جئته أو ترحلت عنه ، والوصفان دالان على وجه الشبه ، أعني الإفاضة ، في حالتي الطلب وعدمه ، وحالتي الإقبال عليه والإعراض عنه.

__________________

(١) العيس ابل ابيض ، والليل أي سيره ، وصدفت أعرضت ، والريق من كل شيء أفضله وترحلت تباعدت ، ولج تمادى. وقد تركنا ما ذكر معه وصف المشبه فقط لعدم الظفر له بمثال عربي مسموع.


والمفصل ما ذكر (١) فيه وجه الشبه أو ذكر فيه مكان الوجه أمر يستلزمه فالأول نحو :

يا هلالا يدعي أبوه هلالا

جل باريك في الورى وتعالى

أنت بدر حسنا وشمس علوا

وحسام حزما وبحر نوالا

والثاني كقولهم للألفاظ إذا وجدوها لا تثقل على اللسان ولا تبعد دلالتها على معانيها ، وهي كالعسل حلاوة ، وكالماء سلاسة ، وكالنسيم رقة.

والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة ، وهو ميل الطبع ولازم السلاسة والرقة ، وهو نشاط النفس وانتعاشها.

المبحث الثامن في تفسير التشبيه

باعتبار الوجه الى قريب مبتذل وبعيد غريب

فالقريب المبتذل هو ما ينتقل فيه المشبه الى المشبه به من غير تدقيق لظهور وجه الشبه بادىء ذي بدء ، فيسهل تداوله بين العامة والخاصة ، كما اذا نظرت الى السيف الصقيل عند سله وبريق لمعانه ، لم يتباعد عنك أن تذكر لمعان البرق.

وسبب ظهوره أحد أمرين :

١ ـ كونه أمرا جمليا لا تفصيل فيه ، فإن الجملة أسبق الى النفس من التفصيل إذ الرؤية تصل الى الوصف أولا على الجملة ثم يتلوها التفصيل ، ألا ترى أن السمع يدرك من تفاصيل الصوت ، والذوق يدرك من تفاصيل المذوق في المرة الثانية ما لا يدركه في المرة الأولى.

٢ ـ كونه (٢) قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن ، إما مطلقا لتكرره على الحس ، كما تقدم من تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة ، وإما عند حضور المشبه ، لقرب المناسبة ، كما تشبه الضبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل والمقدار ، والجرة الصغيرة بالكوز.

__________________

(١) على جهة التمييز أو الجر بفي.

(٢) أي ليس جمليا ، بل فيه تفصيل ، لكنه قليل.


والبعيد الغريب ما يحتاج في الانتقال من المشبه الى المشبه به الى فكر ودقة نظر ، لخفاء وجهه.

وسبب خفاء الوجه (١) أحد أمرين :

١ ـ كونه كثير التفصيل كما سبق من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل ، فإن هذه الهيئة لا تقوم في نفس الرائي المرآة الدائمة الاضطراب ، إلا أن يتمهل في نظره ويستأنف التأمل مليا حتى يتجلى له وجه الشبه فيهما.

٢ ـ ندور حضور المشبه به في الذهن ، إما عند حضور المشبه لبعد المناسبة بينهما ، كما في تشبيه البنفسج بنار الكبريت ، وإما مطلقا لكونه وهميا كما سبق من تشبيه نصاب السهام بأنياب الأغوال ، أو مركبا خياليا كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام الياقوت المنشورة على رماح من زبرجد ، أو مركبا عقليا كما في تشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا.

تنبيهات

١ ـ يراد بالتفصيل أن ينظر في الأوصاف واحدا فواحدا ، ويفصل بعضها من بعض بعد التأمل ، وينظر في الشيء الواحد لغير جهة ، ويقع ذلك على ضروب ، أشهرها :

(أ) أن يؤخذ بعض ويترك بعض ، كما فعل امرؤ القيس في قوله :

حملت ردينيا كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان (٢)

فقد اعتبر في اللهب والشكل واللون واللمعان ، ونفى اتصاله بالدخان.

(ب) أن يعتبر الجميع ، كما فعل الآخر في قوله (وقد تقدم) :

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نوّرا

__________________

(١) خلاصة ذلك أن الوجه يكون قريبا اذا كان مفردا أو متعددا أو مركبا حسيا ابتذل بكثرة الاستعمال ويكون غريبا اذا كان وهميا أو خياليا أو مركبا حسيا يجري على ألسنة الخاصة أو نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه.

(٢) الرديني : رمح منسوب لردينه ، وهي اموأة صناع كانت تجيد صنع الرماح ، والسنا : الضوء والاشراق.


فإنه قد لاحظ في الأنجم الشكل والمقدار واللون واجتماعها على مسافة مخصوص في القرب ، ثم نظر الى مثل ذلك في العنقود المنور من الملاحية.

وكلما كان التركيب (خياليا كان أو عقليا) من أمور أكثر كان التشبيه أبعد لكون تفاصيله أكثر.

٢ ـ التشبيه البليغ هو البعيد الغريب لغرابته ، ولأن الشيء إذا نيل بعد طول الاشتياق اليه كان نيله أحلى وموقعه من النفس ألطف ، كما قال الجاحظ : يذكر ما في الفكر والنظر من الفضيلة ، وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع (١) الدم وأكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه.

٣ ـ ربما تصرف الفطن الحاذق بصنعة الكلام في القريب المبتذل فجعله بديعا نادرا وغريبا لا ترتقي اليه أفكار العامة ، كأن يشترط في تمام التشبيه وجود وصف لم يكن ، وانتفاء وصف قد كان ولو ادعاء ، ويسمى التشبيه المشروط ، وذلك على ضروب ، منها :

١ ـ أن يكون كقول المتنبي :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيه حياء (٢)

فتشبيه الحسناء بالشمس مطروق مبتذل يستوي فيه الخاصة والعامة ، لكن حديث الحياء وما فيه من الدقة والخفاء أخرجه من الابتذال الى الغرابة وشبيه به قول أبي نواس :

إن السحاب لتستحي اذا نظرت

الى نداك فقاسته بما فيه

حتى تهم باقلاع فيمنعها

خوف من السخط من إجلال منشيها

٢ ـ أن يكون كقول الوطواط :

عزماته مثل النجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أفول (٣)

__________________

(١) لطع : لحس.

(٢) تلق إما بمعنى تبصر ، فالتشبيه غير مصرح به ، وإما من لقيته بمعنى قابلته وعارضته ، فهو فعل يدل على التشبيه ، وهو تشبيه مقلوب ، إذ المقصود تشبيه الوجه بالشمس ، لا العكس.

(٣) العزمات جمع عزمة ، وهي المرة من العزم ، والثواقب اللوامع.


فقد شرط لتمام المماثلة بين النجوم وبينه عدم مغيبها ، ونظيره قول البديع الهمداني :

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

٣ ـ أن يكون كقول ابن بابك :

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى

نسيمك مسروق ووصفك منتحل

حكيت أبا سعد فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل

٤ ـ أن يجمع بين عدة تشبيهات فيزداد بذلك لطفا وعرابة ، كقوله :

كأنما يبسم عن لؤلؤ

أو فضة أو برد أو أقاح

المبحث التاسع في الكلام على أدوات التشبيه

أدوات التشبيه هي : الكاف ، وكأن ، ومثل ، ونحوها مما يفيد معنى المماثلة والمشابهة ، نحو : فجعلهم كعصف مأكول ، كأنهم الياقوت والمرجان ، وإنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء .. الى آخر الآية.

ويفرق بين الكاف وكان بوجوه :

(أ) أن الكاف يليها المشبه به (١) ، وكأن يليها المشبه ، نحو :

الحليم كالجبل في سكونه

كأنك سحبان فصاحة

(ب) أن الكاف تدل دائما على التشبيه ، وكأن تفيد التشبيه ، اذا كان خبرها جامدا أو مؤولا به ، نحو :

وكأن دجلة إذ تلاطم موجها

ملك يعظم خيفة ويبجل

وتفيد الشك اذا كان خبرها مشتقا ، نحو :

كأنك قائم فيهم خطيبا

وكلهم قيام للصلاة

(ج) التشبيه بكأن أبلغ من التشبيه بالكاف ، لما فيه من التوكيد ، لتركبها من : الكاف ، وأن.

__________________

(١) قد يليها غير المشبهة به اذا كان التشبيه مركبا نحو : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء .. الآية ، إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا ، ولا بمفرد آخر يتحمل تقديره ، بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن.


وقد ينوب عن الأداة ويغني عنها فعل من أفعال اليقين (١) أو الرجحان كعلم وظن وحسب ، ويكون منبئا عن حال التشبيه في القرب أو البعد ، ولا يعتبر أداة ، بل الأداة محذوفة ، كقوله :

قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها

سجا مزردة على أقمار (٢)

المبحث العاشر في تقسيم التشبيه باعتبار الأداة

ينقسم التشبيه باعتباره الأداة إلى :

١ ـ مؤكد ، وهو ما حذفت أداته ، نحو : وهي تمر مر السحاب. وقوله :

هم البحور عطاء حين تسألهم

وفي اللقاء اذا تلقاهم بهم (٣)

ومنه ما أضيف المشبه به الى المشبه ، كقوله :

فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى

مصباح رأيك تزده ضوء مصبح

٢ ـ مرسل ، وهو ما ذكرت فيه الأداة ، نحو :

كأن عيون النرجس الغض حولنا

مداهن درّ حشوهن عقيق

التشبيه البليغ (٤)

هو ما ذكر فيه الطرفان فقط وحذف منه الوجه والأداة ، وسبب تسميته بذلك أن حذف الوجه والأداة يوهم اتحاد الطرفين وعدم تفاضلهما فيعلو المشبه إلى مستوى المشبه به ، وهذه هي المبالغة في قوة التشبيه ، أما ذكر الأداة فيفيد ضعف المشبه وعدم إلحاقه بالمشبه به ، كما أن ذكر الوجه يفيد تقييد التشبيه وحصره في جهة واحدة.

ومن أمثلته ما يأتي :

__________________

(١) إذ ادعى فيه كمال المشابهة وألفاظ الرجحان ان بعد التشبيه ، لما في الحسبان ونحوه من عدم التيقن.

(٢) الدرع ثوب ينسج من زرد الحديد يلبس في الحرب للوقاية ، والسحب : جمع سحابة ، والمزردة المنسوجة.

(٣) البهم : جمع بهمة ، وهو الشجاع الذي يستبهم على أقرانه مأتاه.

(٤) هذه طريقة لبعضهم ، وتقدم أن بعضهم يسمي التشبيه البعيد الغريب بالبليغ.


فالأرض ياقوته والجو لؤلؤه

والنبت فيروزج والماء بلور

طلعن بدورا وانقبن أهلة

ومسن غصونا والتفتن جآذرا

فاقضوا مآربكم عجالا إنما

أعماركم سفر من الأسفار

التشبيه الضمني (١)

هو ما لم يصرح فيه بأركان التشبيه على الطريقة المعلومة ، بل يفهم من معنى الكلام وسياق الحديث كقوله :

علا فما يستقر المال في يده

وكيف تمسك ماء قنة الجبل

فإنه قد شبه الممدوح المفهوم من ضمير علا بقنة الجبل ووجه الشبه عدم استقرار شيء والأداة محذوفة ، ونحوه قول المتنبي :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وقول الطغرائي :

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع

والشمس رأدالضحى كالشمس في الطفل (٢)

المبحث الحادي عشر في الغرض من التشبيه

الغرض من التشبيه وهو الإيضاح والبيان مع الايجاز والاختصار يعود في الأغلب (في التشبيه غير المقلوب) الى المشبه لوجوه ، منها :

١ ـ بيان إمكانه ، إذا كان أمرا غريبا لا يمكن فهمه وتصوره إلا بالمثال ، كقول البحتري :

دنوت تواضعا وعلوت مجدا

فشأناك انحدار وارتفاع

كذلك الشمس تبعد أن تسامي

ويدنو الضوء منها والشعاع

فحين أثبت للمدوح صفتين متناقضتين ، هما القرب والبعد ، وكان ذلك غير ممكن في مجرى العرف والعادة ، ضرب لذلك المثل بالشمس ، ليبين إمكان ما قال.

__________________

(١) سمي ضمنيا لأنه يفهم ضمن القول وسياق الكلام.

(٢) شرع أي سواء ، ورأد الضحى : ارتفاعه ، والطفل : احمرار الشمس عند الغروب.


٢ ـ بيان حاله ، إذا كان غير معروف الصفة قبل التشبيه ، كقول النابغة يمدح النعمان :

كأنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

فالوجه عظم حال النعمان وصغر حال الملوك الآخرين إذا قيسوا به.

ويكثر استعماله على هذا النحو في العلوم والفنون للايضاح والبيان لتقريب الحقائق الى أذهان المتعلمين ، كما يقال لهم : الأرض كالكرة ، والذئب كالكلب في الحجم.

٣ ـ بيان مقدار حاله في القوة والضعف إذا كان معروف الصفة قبل التشبيه فبه يعرف مقدار نصيبه ، كقول الأعشى :

كأن مشيتها من بيت جارتها

مرّ السحابة لا ريث ولا عجل (١)

٤ ـ تقرير حاله في نفس السامع ، بإبرازها فيما هي فيه أظهر وأقوى ، ويكثر في تشبيه الأمور المعنوية بأخرى تدرك بالحس كقولك للمشتغل بما لا فائدة فيه : أنت كالراقم على الماء ، إذ بالتشبيه يظهر أنه قد بلغ من الخيبة أقصى الغاية وكقول المتنبي :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام (٢)

وقوله :

إن القلوب إذا تنافر ودها

مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

٥ ـ تزيين المشبه وتحسين حاله ليرغب فيه ، كقول ابن المعتز يصف الهلال :

أهلا بفطر قد أنار هلاله

فالآن فاغد على الشراب وبكر

انظر اليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر (٣)

٦ ـ تشويه المشبه وذمه ليكره ويرغب عنه ، نحو :

كلف في شحوب وجهك يحكي

نكتا فوق وجنة برصاء

__________________

(١) الريث : البطء.

(٢) فيه تشبيه ضمني إذ قد شبه حال من يقبل الهوان بحال الميت بجامع عدم التأثر ، وذلك مفهوم ضمنا.

(٣) الحمولة : ما يحمل فيه ويوضع ، والوجه وجود شيء أسود في داخل شيء أبيض.


وقوله في ذم القصر :

وترى أناملها دبت على أوتارها

كخنافس دبت على أوتار

٧ ـ استطرافه وجعله مستحدثا بديعا إما لابرازه في صورة ما يمتنع عادة كما يشبه الجمل الموقد ببحر من المسك موجه الذهب وإما لندور حضور المشبه به في النفس عند حضور المشبه كقولى ابن الرومي في تشبيه بنفسجة :

ولازوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها بين قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت (١)

قال الإمام عبد القاهر : فقد أراك شبها لنبات غض يرف (٢) وأوراق رطبة من لهب نار في جسم مستول عليه اليبس ، ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه ، وخرج من موضع ليس بعدن له كانت صيانة النفوس به أكثر وكان الشغف به أجدر.

ونحوه قول عدي ابن الرّفاع يصف قرن غنان :

تزجى أغن إبرة روقه

قلم أصاب من الدواة مداها

وقد يعكس التشبيه (فيجعل المشبه مشبها به وبالعكس) ، وعندئذ يجعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، ويشبه الزائد بالناقص للمبالغة ، وإيهام أن المشبه أقوى وأتم من المشبه به في وجه الشبه ، فتعود الفائدة حينئذ الى المشبه به لا الى المشبه ، كقول محمد ابن وهيب يمدح المأمون :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح (٣)

فقد جعل وجه الخليفة كأنه أعرف وأتم من غرة الصباح في الإشراق والضياء ، وقوله :

وأرض كأخلاق الكريم قطعتها

وقد كحل الليل السماك فأبصرا

__________________

(١) الواو واو رب ، واللازوردية أزهار من البنفسج ، وحمر اليواقيت الأزهار ، والقامات السيقان ، وضعفن بها : أي ضعفن عن حملها.

(٢) يرف : يهتز.

(٣) في قوله يمتدح : دلالة على اتصاف الممدوح بمعرفة حق المادح وتعظيم شأنه لدى الحاضرين بالاصغاء اليه حيث يرتاح لسماع المدائح وتظهر عليه علامات البشر والسرور.


وذلك أنه لما رأى استمرار وصف الأخلاق بالضيق وبالسعة ، تعمد تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم بادعاء أنه في السعة أكمل من الأرض المتباعدة الأطراف ، وقوله تعالى حكاية عن مستحلي الربا : إنما البيع مثل الربا ، إذ مقتضى الظاهر أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، لكنهم خالفوا ذلك ذهابا منهم الى جعل الربا في الحل أقوى حالا من البيع.

ومنه قول البحتري :

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تئنيها

وقوله في وصف بركة المتوكل :

كأنها حين لجت في تدفقها

يد الخليفة لما سال واديها

وكل هذا إذا أريد إلحاق الناقص في وجه الشبه حقيقة ، أو ادعاء بالزائد فيه فإن أريد مجرد الجمع بين شيئين في أمر جاز التشبيه ، ولكن الأحسن تركه والعدول الى التشابه ليكون كل من الطرفين مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر ، كما فعل أبو إسحاق الصابي في قوله :

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي

فمن مثل ما في الكاس عيني تسكب

فو الله ما أدري أبالخمر أسلبت

جفوني أم من عبرتي كنت أشرب (١)

ويجوز التشبيه أيضا كتشبيههم غرة الفرس بالصبح وعكسه متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه ، من غير قصد ، الى المبالغة في وصف الغرة بالضياء وفرط التلألؤ ، ونحو ذلك ، وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة ، أو الدينار الخارج من السكة ، كما قال ابن المعتز :

وكأن الشمس المنيرة دينا

ر جلته حدائد الضراب

وعكسه متى أريد استدارة متلألىء متضمن لخصوص في اللون ، وإن عظم التفاوت بين نور الشمس ونور المرآة ، والدينار وبين الجرمين ، إذ ليس شيء من ذلك بمنظور اليه في التشبيه.

__________________

(١) سكب الدمع : إرساله ، وأسبل الدمع والمطر اذا مطل.


المبحث الثاني عشر في أقسام التشبيه باعتبار الغرض

ينقسم التشبيه باعتبار الغرض الى : حسن وقبيح ، أو : مقبول ومردود :

١ ـ فالحسن هو الوافي (١) بإفادة الغرض المطلوب منه ، وذلك هو النمط الذي تسمو اليه نفوس البلغاء ، كقول امرىء القيس يصف فرسا :

على الذبل جياش كأن اهتزامه

إذا جاش فيه حمية غلى مرجل (٢)

وقول ابن نباتة في وصف فرس أغر أبلق :

وكأنما لطم الصباح جبينه

فاقتص منه فخاض في أحشائه

وقول الآخر :

نشرت إلي غدائرا من شعرها

حذر الكواشح والعد والموبق

فكأنني وكأنها وكأنه

صبحان باتا تحت ليل مطبق (٣)

٢ ـ والقبيح هو ما لم يف بالغرض لعدم وجود وجه شبه بين المشبه والمشبه به ، أو مع وجوده ، لكن على بعد ، وما أحق مثل هذا بالاستكراه والذم ، وأي شيء أولى بنفور الطبع السليم منه ، وذلك كقول أبي نواس يصف الخمر :

وإذا ما الماء واقعها

أظهرت شكلا من الغزل

لؤلؤات ينحدرن بها

كانحدار الذر من جبل

فهذا تشبيه بعيد ركيك ، غث اللفظ بشعه ، فهو قد شبه الحبب بنمل صغار ينحدر من جبل ، وشبيه به قول الفرزدق :

يمشون في حلق الحديد كما مشت

جرب الجمال بها الكحيل المشعل (٤)

__________________

(١) وذلك بأن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه اذا كان الغرض بيان حال المشبه أو مقدار الحال ، أو أتم شيء فيه اذا قصد إلحاق الناقص بالكامل ، أو مسلم الحكم معروفا عند المخاطب اذا كان الغرض بيان إمكان الوجود.

(٢) الذبل والذبول : الضمور وقلة اللحم ، والاهتزام : التكسر ، والحمى : حرارة القيظ ، والمرجل : القدر.

(٣) الكاشح الذي يضمر العداوة ، والموبق المهلك.

(٤) الكحيل : القطران ، تطلى به الابل ، والمشعل : الكثير.


فقد شبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب ، وذلك من البعد بمكان لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما فيه ، فإن لون حديد الدروع أبيض ، وإن أراد شيئا آخر فليس بواضح مع ما فيه من السخف ، ونحوه قول المتنبي :

وجرى على الورق النجيع القاني

فكأنه النارنج في الأغصان (١)

إذ لا مشاكلة بين لون الدم ولون النارنج.

تذييل

وفيه أمران :

١ ـ التشبيه ، باعتبار المبالغة أقسام ثلاثة :

(أ) أعلاها ما حذف فيه الوجه والأداة ، نحو : محمد أسد.

(ب) المتوسط في المبالغة ، وهو ما حذف فيه الوجه ، أو الأداة ، نحو :

علي كالبدر ، أو : علي بدر في الحسن والبهاء.

(ج) أدناها ما ذكر فيه الوجه والأداة ، نحو : علي كالأسد في الشجاعة.

ذاك أن القوة إما بعموم وجه الشبه ظاهرا (٢) ، أو بحمل المشبه به على المشبه وإيهام أنه هو ، فما اشتمل على الوجهين معا فهو في غاية القوة ، وهو القسم الأول ، وما خلا منهما معا ، فلا قوة له ، وهو القسم الثالث ، وما اشتمل على أحدهما فقط فهو متوسط ، وهو القسم الثاني.

٢ ـ اختلف القوم في التشبيه ، أيعد من المجاز أم لا؟ فأهل التحقيق قالوا : الطرفين مستعمل في موضوعه.

وذهب ابن الأثير الى أنه مجاز وحجته أن مضمر الأداة من التشبيه معدود في الاستعارة فيجب أن يكون مظهرها كذلك إذ لا فرق بينهما إلا بظهور الأداة وظهورها إن لم يزده قوة ودخولا في المجاز لم يكن مخرجا له عن سننه ، كذا في «الطراز» بتصرف.

__________________

(١) النجيع : الدم الطري ، يريد أنه جرت دماء القتلى على ورق الشجر.

(٢) إنما قلنا ظاهرا لأن الوجه لا بد أن يكون صفة خاصة قصد اشتراك الطرفين فيها كالشجاعة ونحوها ، لكن قولك : كالأسد ، يفيد أن وجه الشبه عام في أوصاف كثيرة ، كالشجاعة والمهابة والقوة وكثرة الجري ، الى غير ذلك من أوصاف الأسد.


أثر التشبيه في النفس

قال المبرد في «الكامل» : التشبيه جار كثيرا في كلام العرب حتى لو قال قائل هو أكثر كلامهم لم يبعد ، قال الله عزوجل وله المثل الأعلى في الزجاجة : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ)(١).

وقال أبو هلال في «الصناعتين» : التشبيه يزيد المعنى وضوحا ، ويكسبه تأكيدا ، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه ، ولم يستغن أحد عنه.

وسر هذا أن للخيال نصيبا كبيرا فيه ، فهو يفتنّ حتى لا يقف عند غاية ، وأنه يعمل عمل السحر في إيضاح المعاني وجلائها ، فهو ينتقل بالنفس من الشيء الذي تجهله ، الى شيء قديم الصحبة ، طويل المعرفة ، وغير خاف ما لهذا من كثير الخطر ، وعظيم الأثر.

انظر قوله عليه‌السلام في ذم من يعلم الخير ولا يعمل به : «مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس وهو يحترق».

وإنك لترى فيه تشنيع حال من اتصف به ، وكأنك تشاهد النار وهي تعلق به وتأخذ منه بالنواصي والأقدام.

وتأمل قول أبي العلاء المعري :

إن الشبيبة نار إن أردت بها

أمرا فبادره إن الدهر مطفيها

تجده جعل عزيمة الشباب الوثابة المتحفزة للعمل كالنار ، يمتد لهيبها ، ويشتد أوارها ، لكنها لا تلبث حتى تخمد جذوتها ، وينطفىء ذلك اللهب المتقد ، ومن ثم طلب الى الشباب البدار الى نيل المآرب ، وعدم التواني في درك المقاصد.

وإلى قول مهيار الديلمي :

وبعض مودات الرجال عقارب

لها تحت ظلماء العقوق دبيب

تره صور بعض المودات بصورة عقارب ، تسير في الظلماء على غير هدى ، وتنفث سمومها ما استطاعت الى ذلك سبيلا.

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٥.


وكلما كان عمل الخيال أكثر ، كانت صورته أعجب ، والنفس به أطرب ، ولن نجد تلك الروعة وذاك الجمال في تشبيه المحسوسات بعضها ببعض ، فتشبيه ابن المعتز للشمس بالدرهم المضروب في قوله :

وكأن الشمس المنيرة دينا

ر جلته حدائد الضرّاب

وللهلال بالزورق من الفضة التي حمولته من عنبر في قوله :

فانظر اليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

أقل جمالا من ذاك الذي تقدم ، وليس له في النفس أريحية ، ولا تأخذها منه هزة ، والتشبيهات المستعملة ، في العلوم والفنون ، ما هي إلا وسيلة من وسائل الإيضاح لكشف ما يخفى من الحقائق.

قال صاحب «الصناعتين» : والطريق المسلوكة والمنهج القاصد في التمثيل عند القدماء والمحدثين ـ تشبيه الجواد بالبحر والمطر ، والشجاع بالأسد ، والحسن بالشمس والقمر ، والسهم الماضي بالسيف ، والعالي الرتبة بالنجم ، والحليم الرزين بالجبل ، والقاسي بالحديد والصخر ، والبليد بالجماد ، واللئيم بالكلب.

وشهر قوة بخصال محمودة ، فصاروا فيها أعلاما ، فجروا مجرى ما قدمناه كالسموءل (١) في الوفاء ، وحاتم في السخاء ، والأحنف (٢) في الحلم ، وسحبان في البلاغة ، وقس (٣) في الخطابة ، ولقمان (٤) في الحكمة.

وآخرون بأضدادها فشبه بهم في حال الذم ، كباقل (٥) في العي ، وهنّقة (٦) في الحق ، والكسعي (٧) في الندم ، ومادر (٨) في البخل.

__________________

(١) هو ابن حبان اليهودي.

(٢) من سادات التابعين.

(٣) هو قس بن ساعدة الإيادي خطيب العرب.

(٤) هو حكيم اشتهر بأصالة الرأي في القول والعمل.

(٥) اشتهر بالعي وعدم الإبانة عن مراده.

(٦) هو يزيد بن ثروان من قيس.

(٧) هو غامد ابن الحرث.

(٨) مخارق الهلالي سقى إبله فبقي في الحوض قليل فسلح فيه ومدر الحوض به.


تدريب أول

بيّن أركان التشبيه وأقسامه باعتبار كل منها فيما يلي :

١ ـ تحطمنا الأيام حتى كأننا

زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

٢ ـ ولم أر مثل هالة في معد

يشابه حسنها إلا الهلالا

٣ ـ كأن بني نبهان يوم وفاته

نجوم سماء خرّ من بينها البدر

٤ ـ كأن سهيلا والنجوم وراءه

صفوف صلاة قام فيها إمامها

٥ ـ العلم في الصدرمثل الشمس في الفلك

والعقل للمرء مثل التاج للملك

٦ ـ والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

٧ ـ وتراكضوا خيل الشباب وبادروا

أن تسترد فإنهن عوار

تدريب ثان

١ ـ وقصائد مثل الرياض أضعتها

في باخل ضاعت به الأحساب

٢ ـ انظر الى حسن هلال بدا

يهتك من أنواره الحندسا (١)

كمنجل قد صيغ من فضة

يحصد من زهر الدجا نرجسا

٣ ـ والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر

وإنما صفوة بين الورى لمع

٤ ـ فإذا ركبت فإنني زيدالفوارس في الجلاد

وإذا نطقت فإنني قسّ بن ساعدة الإيادي (٢)

__________________

(١) الحندس : الليل الشديد الظلمة ،

(٢) زيد الفوارس : زيد الخيل ، أحد الصحابة ، كان له خمس أفراس ، سماه رسول الله :

زيد الخير ، وقس أحد خطباء العرب.


٥ ـ والبدر في أفق السماء كغادة

بيضاء لاحت في ثياب حداد (١)

٦ ـ والليل في لون الغراب كأنه

هو في حلوكته وإن لم ينعب (٢)

٧ ـ قال عليّ كرم الله وجهه : مثل الذي يعلم الخير ، ولا يعمل به ، مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه.

٨ ـ قال صاحب «كليلة ودمنة» : الدنيا كالماء المالح ، كلما ازددت منه شربا ، ازددت عطشا.

الاجابة

(١) المشبه القصائد ، مفرد محسوس ، المشبه به الرياض مفرد محسوس الأداة مثل ، وهو تشبيه مرسل ، الوجه الحسن والجمال ، مجمل غير تمثل الغرض تزيين المشبه.

(٢) المشبه الهلال مفرد محسوس مقيد ، المشبه به المنجل مفرد محسوس مقيد ، الأداة الكاف ، تشبيه مرسل ، الوجه إزالة شيء مظلم ، مجمل غير تمثيل تزيين المشبه.

(٣) المشبه الدهر مفرد معقول ، المشبه به البحر مفرد محسوس ، الأداة الكاف تشبيه مرسل ، الوجه الكدر غالبا مجمل غير تمثيل ، الغرض بيان حاله.

(٤) المشبه ضمير المتكلم مفرد محسوس ، المشبه به زيد الفوارس مفرد محسوس والأداة محذوفة مؤكد ، الوجه الجلاد مفصل غير تمثيل ، الغرض بيان حال المشبه ومثله البيت الثاني.

(٥) المشبه البدر مفرد مقيد محسوس ، المشبه به حسناء في ثياب حداد مفرد محسوس مقيد ، الأداة الكاف مرسل ، الوجه بياض يعلوه سواد مجمل غير تمثيل والغرض بيان مقدار حال المشبه به ، وهو تشبيه مقلوب.

(٦) المشبه ضمير الليل مفرد محسوس ، المشبه به الغراب مفرد محسوس ، الأداة كأن ، مرسل ، الوجه الحلوكة والسواد مفصل غير تمثيل ، الغرض بيان مقدار حاله.

__________________

(١) الحداد : الحزن.

(٢) النعيب : صوت الغراب ، والحلوكة : السوداء.


٧ ـ المشبه الذي يعلم الخير ولا يعمل به مفرد مقيد محسوس ، المشبه به السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه مفرد مقيد محسوس ، الأداة مثل تشبيه مرسل ، الوجه نفع غيره وحرمان نفسه ، مجمل غير تمثيل الغرض تقبيح حال المشبه.

٨ ـ المشبه الدنيا مفرد محسوس ، المشبه به الماء المالح مفرد مقيد محسوس ، والأداة الكاف وهو تشبيه مرسل ، الوجه عدم الفائدة مجمل غير تمثيل ، الغرض تقبيح حال المشبه.

تمرين أول

بيّن أركان التشبيه وأقسامه باعتبار كل فيما يلي :

١ ـ ومكلف الأيام ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار

٢ ـ الشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة ليس لها حاجب

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

٣ ـ كأن سماءها لما تجلت

خلال نجومها عند الصباح

رياض بنفسج خضل نداه

تفتح فيه أنوار الأقاحي (١)

٤ ـ قال علي كرم الله وجهه : إنه لم يبق من الدنيا إلا كإناخة راكب أو صر حالب.

٥ ـ قال صاحب «كليلة ودمنة» : من صنع المعروف لعاجل الجزاء فهو كملقي الحب للطير لا لينفعها بل ليصيدها.

٦ ـ فأنهض بنار الى فحم كأنهما

في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

٧ ـ فإن أغش قوما بعده أو أزورهم

فكالوحوش يدنيها من الانس المحل (٢)

٨ ـ إذا أقبلت قيس كأن عيونها

حدق الكلاب وأظهرت سيماها (٣)

٩ ـ بفرع ووجه وقد وردف

كليل وبدر وغصن وحقف

__________________

(١) هما لابن المعتز في وصف سحابة ، وقبلهما :

وموقرة بثقل الماء جاءت

تهادي فوق أعناق الرياح

(٢) الانس محركا من تأنس به جمعه آناس ولغة في الانس ، والمحل : الجدب.

(٣) السيما والسيمياء : العلامة والهيئة.


تمرين ثان

١ ـ قال عليه‌السلام : «أمتي كالمطر لا يدري أوله أم آخره».

٢ ـ ولقد ذكرنك والزمان كأنه

يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

٣ ـ فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة

من كف جارية ممشوقة القد

٤ ـ كأن أثيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل (١)

٥ ـ إني وتزييني بمدحي معشرا

كمعلق درا على خنزير

٦ ـ قال صاحب «كليلة ودمنة» : صحبة الأشرار تورث النثر كالريح اذا مرت على المنثر حملت نتنا ، وإذا مرت على الطيب حملت طيبا.

٧ ـ وما منع الضغائن مثل ضرب

ترى منه السواعد كالقلينا (٢)

٨ ـ إذا قامت لحاجتها تثنت

كأن عظامها من خيزران

٩ ـ ثغر وخد ونهد واحمرار يد

كالطلع والورد والرمان والبلح

__________________

(١) أثير : جبل ، وعرانين السحاب أوائل مطره ، والبجاد : كساء مخطط.

(٢) القلة : مضرب الكرة.


الباب الثاني في الحقيقة والمجاز

وفيه عشرون مبحثا وتتمة

المبحث الأول في أقسام الحقيقة

الحقيقة التي نبحث عنها هنا (١) ضربان : حقيقة من طريق اللغة ، وحقيقة من ناحية المعنى والمعقول ـ بيان هذا أنا إذا وصفنا كلمة مفردة بكونها حقيقة ، كما إذا أطلقنا السبع على الحيوان المعروف ، واليد على الجارحة المخصوصة ، كان ذلك الاطلاق حكما آتيا من ناحية اللغة ، ألا ترى أنا نقول : إن المتكلم استعمل الكلمة فيما وضعت له ابتداء في اللغة ، وإذا وصفنا بالحقيقة الجملة من الكلام كان ذلك الوصف آتيا من جانب المعقول دون اللغة ، لأن الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث إنها جمل لا يصح ردها الى اللغة ، ولا وجه لنسبتها الى واضعها ، لأن التأليف هو إسناد فعل الى اسم ، أو اسم الى اسم ، وذاك شيء يحصل بقصد المتكلم ، فمثلا كتب لا يصير خبرا عن محمد في قولك محمد كتب بوضع اللغة ، بل بمن قصد إثبات الكتابة فعلا له ، كذا في «أسرار البلاغة» بتصرف.

المبحث الثاني في تعريف الحقيقة

الحقيقة في اللغة فعيل بمعنى فاعل من حق الشيء اذا ثبت ، أو بمعنى مفعول من حققت الشيء إذا أثبته ، ثم نقل الى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي والتاء فيها للنقل من الوصفية الى الاسمية.

وقد علمت مما سبق أن الحقيقة التي نبحث عنها ضربان : حقيقة لغوية ، وحقيقة عقلية.

__________________

(١) أما بقية أنواع الحقائق فلا يهم علماء الفصاحة البحث عنها.


١ ـ فاللغوية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت (١) له في إصلاح التخاطب ، فخرج بقولنا المستعملة الكلمة قبل الاستعمال ، فلا تسمى حقيقة ولا مجازا ، وبقولنا فيما وضعت له الغلط ، نحو : خذ هذا الكتاب ، مشيرا الى مسطرة ، والمجاز الذي لم يستعمل فيما وضع له ، لا في اصطلاح التخاطب ، ولا في غيره ، كالأسد المستعمل في الرجل الشجاع ، لأن الاستعارة وإن كانت موضوعة فوضعها تأويلي ، أي يحتاج الى قرينة لا تحقيقي ، والمفهوم من إطلاق الوضع التحقيقي وهو ما كانت الدلالة فيه بنفسه لا بقرينة ، وبقولنا في اصطلاح التخاطب المجاز المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب كالزكاة اذا استعملها الشرعي في النماء ، فإنها تكون مجازا لأنها لفظ استعمل في غير ما وضع له في اصطلاح الشرع ، وهو الجزء المخصوص الذي يؤخذ من المال ، ويعطى للسائل والمحروم ، وإن كان مستعملا فيما وضع له في اصطلاح اللغة ، فلو لا هذا القيد لتناول تعريف الحقيقة والمجاز.

٢ ـ والعقلية هي إسناد الفعل ، أو ما في معناه الى ما هو له عند المتكلم في الظاهر ، أي إسناد الفعل ، أو ما في معناه ، وهو المصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول والصفة المشبهة ، واسم التفضيل والظرف ، إلى ما هو له عند المتكلم فيما يفهم من ظاهر (٢) حاله بألا ينصب قرينة على أنه غير ما هو له في اعتقاده ، ومعنى كونه له أن حقه أن يسند اليه لأنه وصف له وذلك كإسناد الفعل المبنى للفاعل الى الفاعل ، وإسناد الفعل المبني للمفعول ، وستأتي الأمثلة عند ذكر أقسامها ، وهي أربعة :

١ ـ ما يطابق الواقع والاعتقاد معا كقول الموحد : خلق الله العالم.

٢ ـ ما يطابق الواقع دون الاعتقاد ولا يكاد يوجد له مثال ومثلوا له بقول المعتزلي لمن لا يعرف حقيقة حاله وهو يخفيها عنه (خلق الله الأفعال كلها)

__________________

(١) الوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه ، فخرج بقولنا بنفسه المجاز ، لأن دلالته بالقرينة ، ودخل المشترك ، لأنه قد عين للدلالة على كل من المعنيين بنفسه وعدم فهم أحدهما بالتعيين لعارض لا ينافي ذلك ، فالقر ، مثلا عين مرة للدلالة على الطهر بنفسه وأخرى للدلالة على الحيض بنفسه ، فهو موضوع لكل منهما على وجه الاستقلال.

(٢) سيأتي إيضاح ذلك في المجاز.


إذ هو لا يعتقد ذلك ، وإنما يعتقد أن الأفعال الاختيارية مخلوقة بكسب العبد واختياره.

٣ ـ ما يطابق الاعتقاد دون الواقع كقول الطبعي ، المنكر لوجود الإله : شفى الطبيب المريض ، وعليه قوله تعالى ، حكاية عن بعض الكفار : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)(١).

٤ ـ ما لا يطابق شيئا منهما كالأقوال الكاذبة التي يكون المتكلم عالما بحالها دون المخاطب ، كما تقول : سافر محمد ، وأنت تعلم أنه لم يسافر ، فلو علمه المخاطب كما علمه المتكلم لما تعين كونه حقيقة لجواز (٢) أن يجعل المتكلم علم السامع بأنه لم يسافر قرينة على عدم إرادة ظاهرة ، فلا يكون إسنادا الى ما هو له عند المتكلم في الظاهر.

المبحث الثالث في تعريف المجاز وأقسامه

المجاز مفعل واشتقاقه من الجواز وهو التعدي من قولهم : جزت موضع كذا ، اذا تعديته ، سمي به المجاز الآتي بيانه لأنهم جازوا به موضعه الأصلي ، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا.

وفي الاصطلاح قسمان : مجاز عقلي ، ولغوي ، والأول سنتكلم عنه بعد ، والثاني ضربان : مفرد ومركب ، فالمركب سيأتي بيانه.

والمفرد هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب لملاحظة علاقة (٣) بين الثاني والأول مع قرينة (٤) تمنع إرادة المعنى الأصلي ، كالأسد المستعمل في الشجاع ، والغيث المستعمل في النبات ، فخرج بقولنا : الكلمة المستعملة الكلمة قبل الاستعمال ، فلا هي حقيقة ولا مجاز ، وبقولنا :

__________________

(١) سورة الجاثية الآية ٢٤.

(٢) فيكون مجازا عقليا إن كان الاسناد الى محمد لملابسة كأن كان محمد سببا في سفر المسافر حقيقة ، أو يكون حقيقة كاذبة إذا كان المتكلم لم يجعل علم السامع قرينة على أنه لم يرد ظاهره.

(٣) هي بفتح العين على الأفصح ، وسميت كذلك لأن بها يتعلق ويرتبط المعنى الثاني بالمعنى الأول.

(٤) هي ما يفصح عن المراد من اللفظ وسيأتي أنها تارة تكون لفظا وتارة تكون غيره.


في غير ما وضعت له الحقيقة ، وبقولنا : في اصطلاح التخاطب الحقيقة التي لها معنى آخر في اصطلاح التخاطب كالزكاة إذا استعملها المتكلم باصطلاح اللغة في النماء ، فإنها يصدق عليها أنها كلمة مستعملة في غير ما وضعت له لكن باصطلاح آخر ، وهو اصطلاح الشرع لا اصطلاح المتكلم ، وهو اللغة ، فلو لا هذا القيد لأمكن دخول هذه الحقيقة في تعريف المجاز ، وبقولنا الملاحظة : علاقة ، وهي المناسبة الخاصة بين المعنى المنقول عنه والمنقول اليه ، الغلط كالكتاب اذا استعمل في المسطرة غلطا في نحو قولك : خذ الكتاب ، مشيرا الى مسطرة ، فإنه ليس فيه علاقة ملحوظة ، وبقولنا : مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي الكناية فإن قرينتها لا تمنع من إرادة الموضوع له.

وينقسم الى : مجاز مرسل واستعارة ، لأن العلاقة المصححة للتجوز إن كانت غير المشابهة فمجاز مرسل ، وإلا فاستعارة.

المبحث الرابع في المجاز المرسل (١)

هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة ومناسبة غير المشابهة كاليد اذا استعملت في النعمة ، لما جرت به العادة من صدورها عن الجارحة ، وبواسطتها تصل الى المقصود بها.

ويجب أن يكون في الكلام دلالة على رب تلك النعمة ومصدرها بنسبتها اليه ومن ثم لا تقول : اقتنيت يدا ، ولا اتسعت اليد في المد ، كما تقول : اقتنيت نعمة ، وكثرت النعمة في البلد ، وإنما تقول : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ، أو ما شابه ذلك.

ومن هذا قوله عليه‌السلام لأزواجه : «أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا» ، إذ المراد بسط اليد بالعطاء والبذل.

ونظير ذلك اليد اذا استعملت في القدرة ، لأن أجلى مظاهرها وأحكمها في اليد ، ألا ترى أن بها البطش والتنكيل والأخذ والقطع والرفع والوضع ، الى غير ذلك من أفاعيلها التي ترشدك الى وجوه القدرة ومكانها.

__________________

(١) سمي بذلك لإرساله وإطلاقه عن التقييد بعلاقة خاصة.


ومن هذا النمط الأصبع في قولهم لراعي الإبل إن له عليها إصبعا ، أي أثرا حسنا ، كما قال الراعي يصف راعيا :

ضعيف العصا بادي العروق ترى له

عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا

دلوا على أثر المهارة والحذق بالأصبع من قبل أنهما لا يظهران في عمل اليد إلا في حسن التصريف الأصابع وخفة رفعها ووضعها كما يظهر ذلك في الخط والنقش وغيرهما من دقائق الصناعات.

وعلاقات هذا المجاز كثيرة ، أشهرها :

١ ـ السببية ، وهي كون الشيء المنقول عنه سببا ومؤثرا في شيء آخر ، نحو : رعى جوادي المطر ، أي الكلأ ، الحادث بالغيث.

٢ ـ المسببية ، وهي كون المنقول عنه مسببا ومتأثرا من شيء آخر ، نحو : أمطرت السماء نباتا ، أي ماء ، به يوجد النبات ، وتناولت كأس الشفاء ، أي الدواء ، وعليه قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً)(١) ، أي مطرا يسبب الرزق ، وقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(٢) ، أي سلاح يحدث القوة والمنعة.

٣ ـ الكلية ، وهي كون الشيء متضمنا لشيء آخر ولغيره ، كالأصابع المستعملة في الأنامل في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)(٣) ، أي رؤوس أناملهم ، ونحو : شربت ماء النيل ، أي بعضه ، والقرينة : شربت ، وسكنت مصر ، أي منزلا من منازلها ، والقرينة : سكنت.

٤ ـ الجزئية ، بمعنى أن الشيء يتضمنه وغيره شيء آخر كإطلاق العين على الربيئة (٤) لكونها هي المقصودة في كون الرجل ربيئة ، لأن ما عداها لا يعني شيئا مع فقدها ، فصارت كأنها الشخص كله ، ومن هذا قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)(٥) أي صلّ ، وقوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تصلّ.

__________________

(١) سورة غافر الآية ١٣.

(٢) سورة الأنفال الآية ٦٠.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩.

(٤) هو الشخص يطلع على عورات العدو في مكان عال ، وهو أيضا الجاسوس.

(٥) سورة المزمل الآية ٢.


وقولهم : قال فلان اليوم كلمة نالت استحسان الجميع ، أي كلاما مفيدا.

وشروط هذه العلاقة أمران :

(أ) أن يكون الكل مركبا تركيبا حقيقيا.

(ب) أن يستلزم انتفاء الجزء انتفاء الكل عرفا كما في إطلاق الرقبة ، أو الرأس ، على الإنسان دون إطلاق الظفر أو الأذن مثلا ، أو أن يكون زائد الاختصاص بالمعنى المطلوب من الكل كما في إطلاق اليد على المعطى والعين على الربيئة ، أو أن يكون أشرف أجزائه ، كما في إطلاق القافية على القصيدة في قول معن بن أوس :

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافي

فلما قال قافية هجاني (١)

٥ ـ الملزومية ، وهي كون الشيء يجب عند وجوده وجود شيء آخر ، كما في إطلاق الشمس على الضوء في قولك : دخلت الشمس من الكوة ، والقرينة على ذلك : دخلت.

٦ ـ اللازمية (٢) ، وهي كون الشيء يلزم وجوده عند وجود شيء آخر ، كما في إطلاق الحرارة على النار ، وإطلاق الضوء على الشمس في قولك : انظر الحرارة ، أي النار ، وطلع الضوء ، أي الشمس ، والقرينة على ذلك : نظر وطلع.

٧ ـ اعتبار ما كان ، وهو النظر الى الشيء بما كان عليه في الزمن الماضي ، نحو : شربت بنا جيدا ، تريد قهوة بن ، ونحو : مشيت اليوم في شارع بلاق ، تريد شارع ٢٦ يوليو قبل تغيير الاسم ، وعليه قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(٣) ، سمي الذين أمرنا بايتائهم أموالهم حال البلوغ : يتامى ، لما كانوا عليه من اليتم ، ونحوه : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً)(٤) ، سماه مجرما باعتبار الدنيا ، والقرينة على ذلك : شربت ، واليوم ، وآتوا ، ويأت.

__________________

(١) استد من السداد في الرأي أي استقام.

(٢) المعتبر هنا اللزوم الخاص وهو عدم الانفكاك.

(٣) سورة النساء الآية ٢.

(٤) سورة طه الآية ٧٤.


٨ ـ اعتبار ما سيكون ، وهو النظر الى الشيء بما سيكون عليه في الزمن المستقبل ، نحو : غرست اليوم شجرا ، وأنت تعني بذورا ، وطحنت خبزا ، أي قمحا ، وعليه قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(١) أي صائرا الى الكفر والفجور ، وقوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(٢) أي عنبا يؤول عصيره الى الخمرية ، والقرينة على ذلك حالية في الأول ومقالية في الباقي ، وهي طحن ويلد وأعصر.

٩ ـ الحالية ، وهي كون الشيء حالا في غيره نحو : نزلت بالقوم فأكرموني أي بدارهم ، وعلى ذلك قوله تعالى : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣) ، أي في الجنة التي هي محل الرحمة ، والقرينة : نزل و (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

١٠ ـ المحلية ، وهي كون الشيء يحل فيه غيره ، نحو : انصرف الديوان ، أي عماله ، وحكمت المحكمة أي قضاتها ، وأقرت المدرسة توزيع الجوائز على النابغين أي ناظريها ، والقرينة على ذلك : انصرف ، وحكمت ، وأقرت.

وقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ)(٤) ، أي أهل النادي ، وقوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(٥) أي القدرة ، وقوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها)(٦) أي عقول ، وقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(٧) أي ألسنتهم ، والقرينة : انصرف وحكمت ويدعو وبيده ويفقهون ويقولون.

١١ ـ الآلية ، وهي كون الشيء آلة لإيصال أثر شيء الى آخر ، نحو : يتكلم فلان خمس ألسن ، أي خمس لغات ، ونحو : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٨) ، أي بلغة قومه.

__________________

(١) سورة نوح الآية ٢٧.

(٢) سورة يوسف الآية ٣٦.

(٣) سورة آل عمران الآية ١٠٧.

(٤) سورة العلق الآية ١٧.

(٥) سورة الملك الآية ١.

(٦) سورة الأعراف الآية ١٧٩.

(٧) سورة آل عمران الآية ١٦٧.

(٨) سورة إبراهيم الآية ٤.


وقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(١) أي ذكرا جميلا ، والقرينة : يتكلم ، وأرسلنا ، واجعل.

١٢ ـ العموم ، وهو كون الشيء شاملا لكثيرين ، كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)(٢) أي محمدا عليه‌السلام ، وقوله عز من قائل : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(٣) يعني نعيم بن مسعود الأشجعي ، والقرينة على ذلك أن الحسد ما كان إلا له ، وأن القائل ما كان إلا نعيما.

١٣ ـ الخصوص ، كاطلاق اسم الشخص على القبيلة ، نحو : ربيعة ، ومضر ، وقريش ، وتميم.

١٤ ـ البدلية ، وهي كون الشيء بدلا وعوضا من شيء آخر ، نحو : قضيت الدين في موعده ، أي أديته ، وفي ملك فلان ألف دينار ، أي متاع يساوي ألفا ونحو : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ)(٤) أي أديتم ، والقرينة : في موعده في الأول وحالية في الثاني والثالث.

١٥ ـ المبدلية ، أي كون الشيء مبدلا من شيء آخر نحو : أكلت دم القتيل أي ديته ، كما قال عروة الرحال ، يخاطب امرأته متوعدا :

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر (٥)

١٦ ـ المجاورة ، وهي كون الشيء يجاور غيره ، فيطلق عليه اسمه كاطلاق الراوية على القربة ، والثياب على النفس في قول عنترة :

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم

وقد تكون المجاورة في الذكر فقط ، وتسمى المشاكلة ، نحو : اطبخوا لي جبة وقميصا.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٨٤.

(٢) سورة النساء الآية ٥٤.

(٣) سورة آل عمران الآية ١٧٣.

(٤) سورة النساء الآية ١٠٣.

(٥) مهوى القرط : طول العنق ، قاله يتوعد زوجه بالزواج بأخرى حسنة جميلة ، وقبله :

أما لك عمر إنما أنت حية

إذا هي لم تقتل تعش آخر العمر

ثلاثين حولا لا أرى منك راحة

لهنك في الدنيا لباقية العمر


١٧ ـ الدالية ، وهي كون الشيء يدل على شيء آخر ، نحو : فهمت الكتاب أي معناه ، كما قال المتنبي :

فهمت الكتاب أبر الكتب

فسمعت لأمر أمير العرب

١٨ ـ المدلولية ، وهي كون الشيء مدلولا لغيره ، نحو : قرأت معناه مشغوفا بتقبيل ، تريد لفظه.

١٩ ـ إقامة صيغة مقام أخرى ، وتسمى هذه العلاقة بالتعلق الاشتقاقي ، ويندرج تحت هذا أنواع :

(أ) إطلاق المصدر على اسم المفعول نحو : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)(١) أي معلومه.

(ب) إطلاق اسم المفعول على المصدر ، نحو : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)(٢) ، أي الفتنة.

(ج) إطلاق اسم الفاعل على المصدر ، نحو : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ)(٣) ، أي تكذيب ، أو على اسم المفعول نحو : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ)(٤) ، أي مدفوق ، (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(٥) ، أي لا معصوم.

(د) إطلاق اسم المفعول على اسم الفاعل نحو : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(٦) أي آتيا ، (حِجاباً مَسْتُوراً)(٧) أي ساترا.

تنبيهات

(١) ليس المقصود من العلاقة إلا بيان الارتباط ، فالفطن اللبيب يعرف ما يناسب كل مقام فيصح أن يعتبر في إطلاق الدال على المدلول علاقة المجاورة بأن يتخيل أن الدال مجاور للمدلول ، أو علاقة الحالية نظرا الى أن الدال محل

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٥٤.

(٢) سورة القلم الآية ٦.

(٣) سورة الواقعة الآية ٢.

(٤) سورة الطارق الآية ٦.

(٥) سورة هود الآية ٤٣.

(٦) سورة مريم الآية ٦١.

(٧) سورة الإسراء الآية ٤٥.


للمدلول ، كما يقولون : الألفاظ قوالب المعاني ، أو علاقة السببية والمسببية ، أو نحو ذلك ، بحسب ما يهدي اليه الذوق ، ويرشد اليه الوجدان الصادق.

(٢) قد يكون اللفظ الواحد صالحا لأن يكون بالنظر الى معنى واحد مجازا مرسلا واستعارة باعتبارين ، فإذا جاز مراعاة علاقتين أو أكثر فالمعول عليه هو ما لاحظه المتكلم ، فإن لم يعرف مقصده ، صح للمخاطب أن يعتبر ما يشاء ، ولكن بعد أن ينعم النظر ويرجح أكثرها قوة وأشدها ملاءمة للغرض ، ومن ثمة يرجح علاقة المشابهة على غيرها ، والمشابهة الحقيقية على الصورية ، فمثلا المشفر اذا أطلق على شفة الإنسان ، فإن لوحظ في إطلاقه عليها المشابهة في الغلظ ، فهي استعارة ، وإن لوحظ أنه من إطلاق اسم المقيد على المطلق كان مجازا مرسلا.

(٣) قسم الإمام عبد القاهر هذا المجاز الى قسمين : خال من الفائدة ومفيد ، فالخالي منها ما استعمل في شيء بقيد مع كونه موضوعا في أصل اللغة لذلك الشيء بقيد آخر من غير قصد التشبيه كالمرسن الذي أصله للحيوان والشفة التي أصلها للإنسان ، والجحفلة التي أصل وضعها للفرس ، اذا استعمل شيء منها في غير الجنس الذي وضعت له ، كقول العجاج : وفاحما ومرسنا مسرجا ، يريد أنفا كالسراج ، وقول الآخر :

فبتنا جلوسا لدى مهرنا

ننزّع من شفتيه الصفارا (١)

أما المفيد فما عدا هذا الضرب والاستعارة كما اذا قصد التشبيه في الأمثلة الماضية ، كقولهم في الذم إنه لغليظ الجحافل وغليظ المشافر ، فإنه بمنزلة أن يقال كأن شفتيه في الغلظ مشفر البعير ، وعليه قول الفرزدق :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجي غليظ المشافر

يريد : ولكنك زنجي ، كأنه لا يسمو فكره الى معرفة شرفي.

(٤) يلاحظ مما سبق أن اسم العلاقة يستفاد من وصف الكلمة التي تذكر في الجملة ، فإن كانت الجزء جعلت العلاقة الجزئية ، وإن كانت الكل جعلت الكلية ، وهكذا.

__________________

(١) شفتيه : اسم لإحدى شفتي البعير ، الصفار : يطلق على ما يبقى في أصول أسنان الدابة من تبن ونحوه.


أسرار البلاغة في المجاز المرسل

المجاز المرسل ضرب من التوسع أساليب اللغة وفن من فنون الإيجاز في القول انظر قوله :

كفى بالمرء عيبا أن تراه

له وجه وليس له لسان

تراه قد سلك طريقا أرشد بها السامعين الى أن من فقد الفصاحة والبيان ، فكأنه فقد اللسان جملة ، وفي هذا من كمال المبالغة ما أنت تشعر به وتتذوقه.

وهكذا تشاهد مثل هذا الخيال الرائع اذا أنت تأملت قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

فإنك لتستبين منه أنه رعى الغيث ، وكأن النبات كله ماء.

وفي هذا كبير دلالة على أن النبات لا يحيا بدون الماء ، وعلى أن عليه حياة الحيوان على وجه الأرض ، وأنه بدونه لا يعيش.

تدريب أول

بيّن المجاز المرسل ، وعلاقته فيما يلي :

١ ـ إن العدو وإن تقادم عهده

فالحقد باق في الصدور مغيب

٢ ـ (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١)

٣ ـ وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

٤ ـ ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

٥ ـ مكثنا في (النعيم المقيم)

٦ ـ (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٢)

٧ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى)(٣)

٨ ـ (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(٤)

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٥.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٧.

(٣) سورة البقرة الآية ١٧٨.

(٤) سورة النساء الآية ١٠.


الاجابة

(١) في الصدور مجاز مرسل مفرد ، علاقته المحلية : لأن الصدور محل القلوب التي تتأثر بالحقد وغيره.

(٢) في الأنباء مجاز مرسل ، علاقته : التعلق الاشتياقي ، إذ الوعيد ليس بالنبأ بل بالمنبأ به ، أي المخبر به.

(٣) في كلمة البنان مجاز علاقته الجزئية ، إذ المراد الكف ، وكذا في يمين مجاز علاقته السببية ، إذ المراد : ليس لها وفاء بالمحلوف عليه.

(٤) في دناهم مجاز مرسل علاقته المسببية ، إذ المراد : جاز بناهم كما في المثل كما تدين تدان ، أي كما تفعل تجازى.

(٥) في كلمة يمينه ، مجاز مرسل علاقته المحلية ، إذ المعنى : بقوته وقدرته.

(٦) في كلمة القتلى ، مجاز مرسل علاقته ما سيكون ، إذ المراد : فيمن سيقتلون.

(٧) في كلمة نارا ، مجاز مرسل علاقته المسببية ، لأن أكل هذه الأموال يوصل الى النار.

تدريب ثان

١ ـ «ذلك بما قدمت أيديهم»

٢ ـ (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)

٣ ـ ناولني الطبيب جرعة الشفاء

٤ ـ (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)

٥ ـ بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام

٦ ـ لك القلم الأعلى الذي بشباته

يصاب من الأمر الكلي والمفاصل (١)

٧ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)

٨ ـ (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)

__________________

(١) الشباة : حد السيف ونحوه ، والمراد هنا : حد القلم ، وإصابة الكلى كنية عن إصابة الصواب.


تمرين أول

بيّن المجاز المرسل ، وعلاقته ، فيما يلي :

(١) تنبت أرض مصر ذهبا.

(٢) هذا خلق الله.

(٣) (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ)

(٤) حفرنا الماء (البئر)

(٥) قرأت شعر أبي العلاء

(٦) ركبت القطار

(٧) (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ)

(٨) يتخرج في المدرسة رجال نافعون

تمرين ثان

١ ـ أصدق كلمة قالها لبيد : «ألا كل شيء ما خلا الله باطل».

٢ ـ اذا الكماة تنحوا أن يصيبهم

حدّ الظبات وصلناها بأيدينا (١)

٣ ـ كفى بالمرء عيبا أن تراه

له وجه وليس له لسان

٤ ـ أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الانسان إحسان

٥ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

٦ ـ وليست أيادي الناس عندي غنيمة

ورب يد عندي أشد من الأسر

٧ ـ تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

__________________

(١) الظبات : جمع ظبة ، حد السيف ، والمراد هنا : السيف جميعه.


٨ ـ ألما على معن وقولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا بعد مربع (١)

٩ ـ قال الحطيئة :

ندمت على لسان كان مني

فليت بأنه في جوف عكم

المبحث الخامس في الاستعارة ومنزلها في البلاغة

قال الإمام في «أسرار البلاغة» : اعلم أن الاستعارة أمد ميدانا وأشد افتنانا وأوسع سعة وأبعد غورا وأذهب نجدا في الصناعة وغورا (٢) من أن تجمع شعبها وشعوبها وتحصر فنونها وضروبها ، ومن خصائصها أنها تعطيك الكثير من المعاني حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر ، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها ، إن شئت أرتك المعاني التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون ، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها الظنون ، انتهى.

وللاستعارة إطلاقان :

١ ـ المعنى المصدري ، وهو فعل المتكلم ، أعني استعمال لفظ المشبه به في المشبه بقرينة صارفة عن الحقيقة.

وأركانها بهذا المعنى ثلاثة : مستعار وهو اللفظ ، ومستعار منه وهو المشبه به ومستعار له وهو المشبه.

٢ ـ المعنى الاسمى ، وهو اللفظ المستعمل في غير المعنى الموضوع له لمناسبة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه مع قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي ، كقولك : رأيت أسدا ، تعني رجلا شجاعا ، وبحرا تريد جوادا ، وشمسا تريد إنسانا مضيء الوجه متهللا ، وسللت سيفا على العدو تقصد رجلا ماضيا في نصرتك.

فأنت بهذا قد استعرت اسم الأسد للرجل الشجاع ، فأفدت بهذه الاستعارة المبالغة في وصفه بالشجاعة وإيقاعك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وشدته ، الى غير ذلك من المعاني المركوزة في طبيعته الدالة على الجرأة ،

__________________

(١) الغوادي جمع غادية ، السحابة تنشأ غدوة ، والمربع : المطر في الربيع.

(٢) الغور الأول : القعر ، والثاني : الوادي.


وأفدت باستعارة البحر له سعته في الجود وفيض الكف ، وباستعارة السيف له إعطائه ما لها من البهاء الحسن الذي يبهر العيون ويملأ النواظر ، وباستعارة السيف له إعطائه ما له من الحدة والمضاء.

وهي تشبيه حذف أحد طرفيه وأداته ووجه الشبه ، لكنها أبلغ منه لأننا مهما بالغنا في التشبيه فلا بد من ذكر الطرفين وهذا اعتراف بتباينهما وأن العلاقة بينهما ليست إلا التشابه والتداني فلا تصل حد الاتحاد ، إذ جعلك لكل منهما اسما يمتاز به دليل على عدم امتزاجهما واتحادهما ، بخلاف الاستعارة فإن فيها دعوى الاتحاد والامتزاج ، وأن المشبه والمشبه به صار شيئا واحدا يصدق عليهما لفظ واحد ، فإن قلت : رأيت بحرا يعطي البائس والمحتاج ، كنت قد جعلت الجواد والبحر شيئا واحدا حتى صح أن تسمي أحدهما باسم الآخر ، ولو لا ما أقمت من الدليل (القرينة) على ما تريد ، لما خطر ببال المخاطب غير البحر الذي تعورف بهذا الاسم.

ومن قبل هذا اشترط فيها تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به ، فلا يذكر وجه الشبه ، ولا أداته ، لا لفظا ولا تقديرا ، كما لا يجمع فيها بين الطرفين على وجه ينبىء عن التشبيه بأن يكون المشبه به خبرا (١) عن المشبه أو في حكم الخبر (٢) كما في بابي كان ، وإن المفعول الثاني (٣) في باب ظن ، أو حالا (٤) ، أو صفة (٥) ، أو مضافا كلجين (٦) الماء ، أو مصدرا مبينا لنوعه (٧)

__________________

(١) كقوله عليه‌السلام للانصار : «أنتم الشعار والناس الدثار».

(٢) نحو : ان محمدا قذى في عين إبراهيم ، وقول البحتري :

بنت بالفضل والعلو فأصبحت

سماء وأصبح الناس أرضا

(٣) كقوله عليه‌السلام : «لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق».

(٤) كقوله :

بدت قمرا ومالت حوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

(٥) كقولك : هذه امرأة قمر.

(٦) في قوله :

والريح تعبث بالغصون وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء

(٧) نحو : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ).


أو مبينا بالمشبه صريحا ، أو ضمنا كقوله (١) تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٢) ، فقد بيّن الخيط الأبيض بالفجر صريحا ، وفي ضمنه تبيين الخيط الأسود بالليل ، فكل هذا تشبيه محذوف الأداة.

قال الإمام عبد القاهر في بيان هذا : اذا دلت القرينة على تشبيه شيء ، فهذا على ضربين :

١ ـ أحدهما أن يسقط ذكر المشبه من البين حتى لا يعلم من ظاهر الحال أنك أردته ، كقولك : عنت لنا ظبية ، وأنت تريد امرأة ، ووردنا بحرا ، وأنت تريد الممدوح ، وهذا تقول : إنه استعارة ولا تتحاشى البتة.

٢ ـ أن يكون المشبه مذكورا أو مقدرا ، وحينئذ فالمشبه به إن كان خبرا أو في حكم الخبر ، فالوجه أن يسمى تشبيها ولا يسمى استعارة ، لأن الاسم اذا وقع هذه المواقع كان الكلام موضوعا لإثبات معناه لما يعتمد عليه ، أو نفيه عنه فإذا قلت : زيد أسد ، فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد ، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له ، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه ، فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها إذا كان إنما جاء ليفيده ، بخلاف الحالة الأولى ، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء ، كما اذا قلت :

جاءني أسد ، ورأيت أسدا ، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد والرؤية واقعا منك عليه لا لإثبات معنى الأسد لشيء ، فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير لا يعلم إلا بعد الرجوع الى شيء من النظر والتأمل.

(إذا افترقت الصورتان هذا الافتراق ناسب أن يفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة بأن نسمي احداهما تشبيها ، والأخرى استعارة).

__________________

(١) وقول بعضهم :

فما زلت في ليلين شعر وظلمة

وشمسين من خمر ووجه حبيب

وقول شوقي :

ودخلت في ليلين فرعك والدجي

ولثمت كالصبح المنور فاك

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٧.


ثم قال : فإن أبيت إلا أن تطلق اسم الاستعارة على هذا القسم ، فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه ، وذلك كأن يكون المشبه به معرفة كقولك : زيد الأسد ، فإنه يحسن أن يقال : زيد كالأسد ، وإن حسن دخول بعضها دون بعض هان الخطب في إطلاقه ، وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة كقولك : زيد أسد ، فإنه لا يحسن أن يقال : زيد كأسد ، ويحسن أن يقال : كأن زيد أسدا ، ووجدته أسدا ، وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير صورة الكلام كان إطلاقه أقرب لغموض تقدير أداة التشبيه فيه ، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به كقولك : هو بدر يسكن الأرض ، وهو شمس لا تغيب ، وكقوله :

شمس تألق والفراق غروبها

عنا وبدر والصدود كسوفه

فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة إلا بتغيير صورته كقولك : هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض ، وكالشمس إلا أنه لا تغيب ، وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها ، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه. انتهى بتصرف واختصار كثير.

والتشبيه الذي يجب تناسيه هو الذي من أجله وقعت الاستعارة لا كل تشبيه فليس بمحظور أن تقول : رأيت أسدا في الحمام مثل الفيل في الضخامة ، ولا : جاورت ليثا كأنه بحر متلاطم الأمواج.

ومن اشتراط ادعاء دخول المشبه في المشبه به يتضح لك أنه لا بد أن يكون المشبه به كليا كاسم الجنس وعلم الجنس ، فلا تتأتى الاستعارة في الأعلام الشخصية لعدم تصور الشركة فيها حتى يمكن ادعاء دخول شيء في حقائقها إلا اذا تضمنت أوصافا بها يصح أن تعتبر كأنها أجناس كتضمن حاتم الجود ، ومادر البخل ، وقسّ الفصاحة ، وباقل العي والفكاهة ، فتقول : رأيت اليوم حاتما أو قسا ، وتدعي كلية حاتم ، أو قسّ ، ودخول المشبه في جنس الجواد والفصيح ، حتى كأن حاتما موضوع لمن اتصف بالجود سواء أكان هو ذلك الطائي المشهور أم غيره ، وإن كان إطلاقه على الطائي حقيقة وعلى غيره ادعاء ، وكذا القول في قسّ ، وكل ما كان من هذا الضرب فسبيله هذه السبيل.


المبحث السادس في الاستعارة

أمجاز لغوي هي أم مجاز عقلي

يرى الجمهور أن الاستعارة مجاز لغوي وأيده الإمام في «أسرار البلاغة» ، وحجتهم على ذلك أنا إذا أجرينا اسم الأسد على الرجل الشجاع ، فإننا لا ندعي فله صورة الأسد وشكله وعبالة عنقه ومخالبه ، ونحو ذلك من الأوصاف الظاهرة التي تبدو للعيون وتشاهد بالحواس ، وإنما ندعي له ذلك من أجل اختصاصه بالشجاعة التي هي من أخص أوصاف الأسد وأمكنها.

ومن الجلي الواضح أن اللغة لم تضع الاسم لها وحدها ، بل لها في مثل تلك الجثة وهاتيك الصورة والهيئة ، ولو كانت وضعته للشجاعة وحدها لكان صفة لا اسما ، ولكان كل شيء يبلغ في شجاعته الى هذا الحد جديرا بهذا الاسم على جهة الحقيقة ، لا على طريق التشبيه والتأويل.

ويرى آخرون أنها مجاز عقلي بمعنى أن التصرف (١) فيها في أمر عقلي لا لغوي واختاره الإمام في «دلائل الإعجاز» ودليلهم على ذلك أنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به ، لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كيزيد ويشكر تستحق هذا الاسم ، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة ، لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه.

وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى كان مستعملا فيما وضع له ، ومن ثم صح التعجب في قول ابن العميد (٢) يصف غلاما له جميلا :

قامت تظللني من الشمس

نفس أعز عليّ من نفسي

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

كما صح النهي عنه في قول الحسن بن طباطبا :

__________________

(١) في هذا إشارة الى أنه لا يراد بالعقل هنا المجاز العقلي الآتي ، إذ هنا المجاز في الكلمة ، وفيما سيأتي المجاز في الاسناد ، بل المراد بالعقلي المتصرف فيه هو المعاني الحقيقية والتصرف فيها جعل بعضها نفس البعض الآخر ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة.

(٢) هو أبو الفضل محمد بن الحسين كاتب «ديوان الرسائل» للملك نوح بن نصر من الدولة البويهية.


يا من حكى الماء فرط رقته

وقلبه في قساوة الحجر

يا ليت حظي كحظ ثوبك من

جسمك يا واحدا من البشر

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر (١)

فلو لا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقي لما كان لهذا التعجب وجه ، إذ ليس ببدع ولا منكر أن يظلل إنسان حسن الوجه إنسانا ويقيه وهج الشمس بشخصه ، ولو لا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى لأن الكتان إنما يسرع اليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي لا إنسانا بلغ الغاية في الحسن.

وأنت إذا أنعمت النظر رأيت حجة الجمهور دامغة وأنها أحرى بالقبول ، بيان هذا أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يخرجه عن كونه مستعملا في غير ما وضع له ، وأما صحة التعجب والنهي عنه فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه به عين المشبه حتى تتم المبالغة ، إذ من الواضح أن أسدا في قولك : رأيت أسدا ، مستعمل في الشجاع ، والمعنى الموضوع له الأسد الحقيقي لا الادعائي ، فكأنك ادعيت أن للأسد صورتين ، إحداهما متعارفة وهي التي لها الإقدام والبطش في الهيئة المعروفة للحيوان المعروف ، وثانيتهما غير متعارفة وهي التي لها الجرأة والقوة ، لكن لا مع تلك الصورة ، بل مع صورة أخرى على النحو الذي ادعاه المتنبي في عد نفسه وجماعته من جنس الجن ، وعد جماله من جنس الطير حين يقول :

نحن ركب ملجن في زي ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

مستشهدا لدعواه بما يتخيل عرفا من نحو حكمهم اذا رأوا إنسانا لا يقاومه أحد ، إنه ليس بإنسان ، وإنما هو أسد ، أو هو أسد في صورة إنسان.

والقرينة التي تنصب في الكلام تنفي المتعارف الذي يسبق الى الفهم ، وهو المعنى الأول ، وتعين ما أنت تستعمل له الأسد ، وهو ثاني المعنيين.

__________________

(١) البلى من بلى الثوب وقدم ، والغلالة ثوب صغير صبق الكمين كالقميص ، وزررت القميص عليه شددت أزراره ، وقد قيل : إن هذا تشبيه لا استعارة ، لأن المشبه مذكور ، وهو الضمير في : غلالته ، وأزراره.


(تنبيه) الفرق بين الاستعارة والكذب من وجهين :

(أ) بناء الدعوى فيها على التأويل ، أي تأويل دخول المشبه في جنس المشبه به.

(ب) نصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها ، أما الكاذب فيتبرأ من التأويل ، ويركب كل صعب وذلول لترويج ما يدعيه وإيهام أن ليس الحق إلا ما يقول ولا ينصب دليلا على خلاف ما يزعم ، وعلى هذا فليس ببدع أن تقع في كلام الله تعالى وكلام رسوله.

المبحث السابع في قرينة الاستعارة

الاستعارة نوع من المجاز ، فلا بد لها من قرينة تفصح عن الغرض ، وترشد الى المقصود ، ويمتنع معها إجراء الكلام على حقيقته ، وهي قسمان :

١ ـ حالية ، تفهم من سياق الحديث ، نحو : رأيت قسا يخطب.

٢ ـ مقالية ، سواء أكانت معنى (١) واحدا ، نحو : يرمي بالسهام ، من قولك : لرأيت أسدا يرمي بالسهام ، أو أكثر ، نحو :

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإن في إيماننا نيرانا (٢)

فكل من العدل والإيمان باعتبار تعلق الإعاقة به قرينة على أن الغرض من النيران السيوف ، إذ هو دليل على أن جواب الشرط محذوف ، يقدر بنحو :

تحاربون أو تلجئون الى الطاعة.

أو معاني ملتئمة ، مربوطا بعضها ببعض ، بحيث تكون كلها قرينة ، لا كل واحد منها ، كما في قول البحتري :

وصاعقة من نصله تنكفي بها

على أرؤوس الأقران خمس سحائب

فإذا نظرت الى ما صنع رأيته قد استعار السحائب الخمس لأنامل يمين الممدوح

__________________

(١) سواء أكان من ملائمات المشبه كما في التصريحية ، أم من ملائمات المشبه به ، كما في المكتبة.

(٢) المعنى أنكم إن كرهتم العدل والانصاف وملتم الى الجور والخلاف فان في أيدينا سيوفا تلمع كشعل النيران نلجئكم بها الى الطاعة.


كما هي عادتهم في تشبيه الجواد بالبحر الخضم طورا ، وبالسحاب الهطال طورا آخر ، وتخيل لما أراد ، فذكر أن هناك صاعقة وبيّن أنها من نصل سيفه ، ثم قال إنها على رؤوس الأقران تفتك بهم ، ثم قال : خمس ، وهي عدد أنامل اليد ، فاستبان للسامع من كل هذا غرضه ، واتضح له مقصده.

المبحث الثامن في انقسام الاستعارة الى عنادية ووفاقية

تنقسم الاستعارة باعتبار الطرفين الى قسمين :

١ ـ وفاقية ، وهي التي يمكن اجتماع طرفيها المستعار منه والمستعار له في شيء واحد ، وسميت بذلك لما بين طرفيها من الوفاق.

٢ ـ عنادية ، وهي التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد ، وسميت بذلك لتعاند الطرفين ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) أي من كان ضالا فهديناه ، استعير الإحياء من معناه الحقيقي وهو جعل الشيء حيا للهداية التي هي الدلالة على الطريق الموصل الى المطلوب ، والاحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما إذ لا يوصف الميت بالضلال.

ومن العنادية الاستعارة التهكمية والتمليحية (٢) ، وهما ما نزل فيهما التضاد منزلة التناسب لأجل التهكم والاستهزاء ، أو لأجل الملاحة والظرافة ، نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣) استعيرت للبشارة ، وهي الخبر بما يسر للإنذار الذي هو ضدها بإدخاله في جنس البشارة هزؤ وسخرية بهم ، ونظيره كلمة نعاتبه في قول بشار :

إذ الملك الجبار صعر خده

أتينا اليه بالسيوف نعاتبه (٤)

والتحية في قول عمرو بن معد يكرب (تحية بينهم ضرب وجيع) والثواب في قولهم ما ثوابه إلا السيف.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٢٢.

(٢) الفارق بينهما أنه إن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه الهزؤ والسخرية بالمقول فيه كانت تهكمية وإن كان الغرض بسط السامعين وإزالة السآمة عنهم بواسطة الاتيان بشيء مستملح مستظرف كانت تمليحية.

(٣) سورة الانشقاق الآية ٢٤.

(٤) صعر خده : أماله عن الناس كبرا.


ومنها أيضا استعارة اسم الموجود للمعدوم الذي بقيت آثاره الجميلة أو المعدوم أو لا شيء للموجود ، اذا لم تنتج منه فائدة ، ولم يحل منه بطائل من قبل أنه شارك المعدوم في عدم غنائه ونفعه كما قال أبو تمام :

هب من له يريد حجابه

ما بال لا شيء عليه حجاب

المبحث التاسع في انقسامها باعتبار الجامع الى داخل وخارج

تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع وهو الوجه الذي يقصد اشتراك الطرفين فيه الى قسمين :

١ ـ ما يكون الجامع فيها داخلا في مفهوم الطرفين كاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب :

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم (١)

إذ النثر أن تجمع أشياه في كف أو وعاء ، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ولا نظام ، وقد استعاره لما يتضمنه ذلك التفرق على الوجه المخصوص وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة بلا ترتيب ولا نظام ، ونسبه الى الممدوح لأنه سببه.

٢ ـ ما لا يكون داخلا في مفهومها ، كقولك : وردت بحرا يتهلل وجهه ، وأنت تريد إنسانا جوادا ، فالجامع ، وهو الجود ، غير داخل في مفهومها.

المبحث العاشر في انقسامها باعتبار الجامع أيضا الى عامية وخاصية

تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع الى :

١ ـ عامية مبتذلة لاكتها الألسن لظهور الجامع فيها ، كقولك : رأيت شمسا ووردت بحرا ، وأنت تعني إنسانا جميل المحيا وجوادا كريما.

٢ ـ خاصية غريبة وهي التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة ، كقول طفيل الغنوي :

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل (٢)

__________________

(١) الأحيدب : جبل.

(٢) الكور : الرحل ، والناجية : الناقة السريعة ، تنجو براكبها.


انظر تر عجبا ، ألا تراه قد استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام ، وساعده التوفيق فيما عناه من قبل أن كان الشحم مما يصلح للقوت ، وأن الرحل أبدا ينتقص منه ويذيبه.

والغرابة على ضروب ، منها :

١ ـ أن تكون في الشبه نفسه ، كما في قول يزيد بن مسلمة عبد الملك يصف فرسا له بالأدب :

عودته فيما أزور حبائبي

إهماله وكذاك كل مخاطر

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشكيم الى انصراف الزائر (١)

فقد شبه (٢) هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج ممتدا الى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبتي المحتبى ممتدا الى جانبي ظهره ، ثم استعار الاحتباء وهو جمع الرجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره لوقوع العنان في قربوس السرج ، فجاءت الاستعارة غريبة كما ترى لغرابة الشبه.

٢ ـ أن تحصل بتصرف الاستعارة العامية ، كقول ابن المعتز :

سألت عليه شعاب الحي حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير (٣)

فهذا تشبيه معروف ، لكنه تصرف فيه بأن أسند الفعل الى الشعاب دون ووجوههم ، وعدى الفعل الى ضمير الممدوح بعلى ، فأفاد اللطف والغرابة من حيث أبان أن الشعاب امتلأت من الرجال وغصت بها من كل ناحية وجانب.

٣ ـ أن تحصل بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل ، كقول امرىء القيس :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف اعجازا وناء بكلكل

فقد أراد وصف الليل بالطول ، فاستعار له اسم الصلب وجعله متمطيا لما هو مشاهد من أن كل ذي صلب يزيد طوله شيئا ما عند التمطي ، ثم ثنى واستعار

__________________

(١) القربوس مقدم السرج ، والعلك المضغ ، والشكيم الشكيمة الحديدة المعترضة في فم الفرس ، وعنى بالزائر نفسه ، دلالة على تأدب فرسه ، حيث يقف مكانه وإن طال مكثه.

(٢) ووجه الشبه إحاطة شيء بشيئين ، ضاما أحدهما الى الآخر ، على أن أحدهما أعلى والآخر أسفل ، والتشبيه بين مفردين باعتبار ما تضمنه كل منهما من الهيئة لا أنه واقع بين هيئتين.

(٣) يريد أن الممدوح مطاع في حيه اذا دعاهم لبوا نداءه زرافات ووحدانا.


الإعجاز لثقله وبطء سيره ، وبالغ في ذلك حتى جعل بعضها يردف بعضا ، ثم ثلث فاستعار الكلكل لمعظم الليل ووسطه آخذا له من كلكل البعير وهو ما يعتمد عليه إذا برك ، وزاده مبالغة بأن جعله ينوء ويثقل ، لما في الليل من التعب والنصب على كل قلب ساهر ، وبذا تم له ما أراد من تصوير الليل بصورة البعير على أبلغ وجه وأدقه.

المبحث الحادي عشر في انقسامها باعتبار الطرفين والجامع

تنقسم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع الى ستة (١) أقسام :

١ ـ استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي ، نحو : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ)(٢) يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) استعير الموجان وهو حركة الماء للاضطراب والاختلاط الناشئين عن الحيرة والجامع بينهما الحركة الشديدة والاضطراب.

٢ ـ استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي ، نحو : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٣) فالمستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها ، والمستعار له إزالة الضوء عن ظلمة الليل وملقى ظله وهما حسيان ، والجامع بينهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر كترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وإزالته وترتب ظهور الظلمة على كشف الضوء (٤) عن مكان الليل ، وهذا الترتب أمر عقلي.

٣ ـ استعارة محسوس لمحسوس والجامع مختلف بعضه حسي وبعضه عقلي ، كما تقول : رأيت شمسا ، وأنت تريد إنسانا كالشمس في حسن الطلعة ، وهو حسي ، ونباهة الشأن ورفعة القدر ، وهي عقلية.

٤ ـ استعارة معقول لمعقول ، نحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٥).

__________________

(١) لأن المستعار منه والمستعار له إما حسيان أو عقليان أو المستعار منه حسي والمستعار له عقلي أو بالعكس فتصير أربعة ، والجامع في الثلاثة عقلي لا غير لما نقدم في التشبيه وفي القسم الأول ، إما حسي أو عقلي أو مختلف ، فهذه أقسام ستة.

(٢) الضمير يعود للانس والجن.

(٣) سورة يس الآية ٣٧.

(٤) لأن الظلمة هي الأصل والنور طارىء عليها يسترها ، فعند غروب الشمس يسلخ النهار من الليل وكأنه يكشط ويزال كما يكشط عن الشيء الشيء الطارىء عليه الساتر له.

(٥) سورة يس الآية ٥٢.


استعير الرقاد وهو النوم للموت ، والجامع عدم ظهور الفعل ، والجميع عقلي ، ونظيره : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)(١) ، فقد استعير الغيظ للحالة المتوهمة للنار ، لإرادة الانتقام من العصاة.

٥ ـ استعارة محسوس لمعقول ، نحو : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٢) فقد استعير صدع الزجاجة ، وهو كسرها ، وهذا حسي لتبليغ الرسالة بجامع التأثير (٣) ، وهما عقليان.

ونحوه : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)(٤) ، فقد استعير النبذ ، وهو إلقاء الشيء باليد للأمر المتناسي حاله ، والجامع عدم العناية فيهما.

٦ ـ استعارة معقول لمحسوس ، نحو : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ)(٥) فقد استعير الطغيان ، وهو التكبر والعلو لظهور الماء وكثرته ، والجامع الخروج عن حد الاعتدال والاستعلاء المفرط ، فالمستعار منه والجامع عقليان.

المبحث الثاني عشر في تقسيم الاستعارة الى مصرحة ومكنية

تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر المشبه به أو ذكر ما يخصه الى قسمين :

١ ـ مصرحة أو مصرح بها أو تصريحية ، وهي ما صرح فيها بلفظ المشبه به كقول شوقي :

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان

شبهت الدلالة بالقول بجامع إيضاح المراد وإفهام الغرض في كل منهما واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من القول بمعنى الدلالة قائل بمعنى دال على طريق الاستعارة التصريحية ، والقرينة نسبة القول الى الدقات ، ونظيره قول الوأواء الدمشقي :

فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العناب بالبرد

__________________

(١) سورة الملك الآية ٨.

(٢) سورة الحجر الآية ٩٤.

(٣) التأثير المراد هنا نوع مخصوص لا يعود معه المؤثر فيه الى حاله الأولى ، وهو في كسر الزجاجة أقوى وأبين ، فكأنه قبل وضح الأمر وضوحا لا يزول أثره كما لا يلتئم صدع الزجاجة.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٨٧.

(٥) سورة الحاقة الآية ١١.


شبه الدموع باللؤلؤ ، والعيون بالنرجس ، والخدود بالورد ، والأنامل بالعناب ، والأسنان بالبرد ، وقول الحريري :

فزحزحت شفقا غشّى سنا قمر

وتساقطت لؤلؤا من خاتم عطر (١)

فقد شبه الخمار بالشفق لحمرته والوجه بالقمر والكلام باللؤلؤ والفم بالخاتم.

٢ ـ مكنية ، وهي ما حذف فيها المشبه به ورمز اليه بشيء من لوازمه ، نحو (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(٢) ، شبه الذل بطائر بجامع الخضوع واستعير الطائر للذل ، ثم حذف ورمز اليه بشيء من لوازمه ، وهو الجناح ، على طريق الاستعارة بالكناية ، وإثبات الجناح للذل استعارة تخييلية ، وهي قرينة المكنية ، ويجعل الطائر مستعارا للمخاطب (أي للولد في معاملة والديه) والأصل واخفض لهما جناحك ذلا ، ونحوه قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣) ، وقول الكميت :

خفضت لهم مني جناحي

الى كنف عطفاه أهل ومرحب

ونحو (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(٤) قال في «الكشاف» : ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكنوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرموزا اليه بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه ، ونحوه قولك : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ، فقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر ، انتهى.

(تنبيه) علمت أن إثبات اللازم كالجناح للذل أو للمخاطب بلين الجانب للوالدين ، والمأمور أن يذل لهما ، وإثبات النقض للعهد يسمى استعارة تخييلية ، وهي قرينة الاستعارة المكنية ، وسمي ذلك الاثبات استعارة لأجل أن متعلقة وهو الأمر المختص بالمشبه به قد استعير ونقل عما يناسبه ، واستعمل مع ما شبه

__________________

(١) وقبله : سألتها حين زارت نضو برقعها القاني وإيداع سمعي أطيب الخبز ومساقطه الحديث أن يتكلم واحد ويسكت الآخر ، ثم يتكلم الساكت ، وهكذا دواليك.

(٢) سورة الإسراء الآية ٢٤.

(٣) سورة الشعراء الآية ٢١٥.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٧.


بأصله ، وتخيلية لأن متعلقة وهو الأمر المختص بالمشبه به لما نقل عن ملائمة وأثبت للمشبه ، صار يخيل الى السامع أن المشبه من جنس المشبه به.

وهو حقيقة لاستعماله فيما وضع له ، ألا ترى أن الجناح استعمل في حقيقته وإنما النجور في إثباته للذل فهو مجاز عقلي في الاثبات ، كما سيأتي ، لا مجاز لغوي وهكذا يقال في نظائره.

ومن حيث إنها قرينة المكنية ، فهي لازمة لها ، لا تفارقها ، إذ لا استعارة بدون قرينة ، هذا اذا كان لازم المشبه به واحدا ، فإن تعددت اللوازم جعل أقوالها وأبينها لزوما قرينة لها ، وما عداه ترشيحا وتقوية لها ، كما ستعرف ذلك بعد.

المبحث الثالث عشر

في مذهب السكاكي والخطيب القزويني في المكنية

مذهب السكاكي أن المكنية لفظ المشبه المستعمل في المشبه به بادعاء أن المشبه عين المشبه به وإنكار أن يكون غيره بقرينة ذكر اللازم ، فالذل عنده في المثال السابق مراد به الطائر بادعاء أنه عينه بقرينة إضافة الجناح الذي هو من خواص الطائر ولوازمه اليه ، وليس المراد من الذل عنده مجرد الخضوع حتى يكون مستعملا في معناه الحقيقي ، بل الذل المفروض أنه عين الطائر ، وهو غير الموضوع له.

والجناح استعارة تخيلية بمعنى أن لفظ الجناح استعير عنده لأمر تخيلي وهمي لأنه لما استعمل الذل في الخضوع المتحد مع الطائر ادعاء ، أخذ الوهم يخترع له صورة مثل صورة الجناح ، واستعار لفظ الجناح لذلك ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف.

وذهب الخطيب الى أنها التشبيه المضمر في النفس والإثبات تخييل ، فأخرجها من المجاز ، أعني الكلمة المستعملة ، الخ .. إذ التشبيه فعل من أفعال النفس ، فكل من الجناح والذل مستعمل في معناه الحقيقي عنده.

وقال سعد الدين التفتازاني : وتفسير الاستعارة بذلك لا مستند له في كلام السلف ولا هو مبنى على مناسبة لغوية.


المبحث الرابع عشر في تقسيم الاستعارة التصريحية لدى السكاكي

الى تحقيقية وتخييلية ومحتملة لهما

تنقسم الاستعارة المصرحة عند السكاكي الى ثلاثة أقسام :

١ ـ تحقيقية ، وهي ما كان المستعار له فيها محققا حسا أو عقلا بأن كان اللفظ منقولا الى أمر معلوم يمكن الإشارة اليه إشارة حسية ، أو عقلية ، فالأول كقول زهير في معلقته يمدح حصين بن ضمضم :

لدى أشد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظافره لم تقلم

والثاني نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١) ، فقد استعير في الأول الأسد للرجل الشجاع ، وهو محقق حسا ، وفي الثاني الصراط لملمة الإسلام ، وهي محققة عقلا.

٢ ـ تخييلية ، وهي ما كان المستعار له فيها غير محقق لا حسا ولا عقلا بل هو صورة وهمية محصنة لا يشوبها شيء من التحقيق نحو قول الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

فإنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال أخذ الوهم يصور المنية بصورة السبع ويخترع لوازمه لها فاخترع لها مثل صورة الأظفار ، ثم أطلق على هذه الصورة لفظ الأظفار ، فتكون الأظفار عنده تصريحية تخييلية لأن المستعار له الأظفار صورة وهمية شبيهة بصورة الأظفار الحقيقية ، وقرينتها إضافتها الى المنية ، والتخييلية عنده قد تكون بدون استعارة بالكناية كقولك : أظفار المنية الشبيهة بالسبع قتلت فلانا ، فقد صرح بالتشبيه فلا مكنية في المنية مع كون الاستعارة في الاستعارة تخييلية.

٣ ـ محتملة للتحقيقية والتخييلية كقول زهير :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطلة

وعرى أفراس الصبا ورواحله (٢)

الصحو خلاف السكر استعارة للسلو استعارة تصريحية تبعية ، وأقصر باطلة

__________________

(١) سورة الفاتحة الآية ٥.

(٢) أقصر عن الشيء امتنع عنه مع القدرة عليه ، وقصر عنه اذا تركه مع القدرة ، والمراد بالاقصار هنا مطلق الامتناع ، وباطل القلب ميله الى الهوى.


أي أقلع عنه وامتنع والمراد انتهى ميله ، والتعرية الإزالة يريد أنه ترك ما كان يرتكبه زمن الحب من الجهل والغي وأعرض عن معاودة ما كان منصرف اليه من اللهو فبطلت الآلات التي كان يستعملها.

فقد شبه الصبا بجهة من جهات المسير كالحج والتجارة ، قضى منها حاجاته ، فبطلت آلاته تشبيها مضمرا في النفس واستعار الجهة للصبا وحذفها ورمز اليها بشيء من لوازمها وهي الأفراس والرواحل ، فالجهة هي المكنية عند الجمهور ، وإثبات الأفراس والرواحل لها تخييلية ، والأفراس والرواحل مستعملان في حقيقتهما عندهم أيضا ، أما عند السكاكي فيجوز أن تكون الأفراس والرواحل استعارة تحقيقية إن أراد بها دواعي النفس وشهواتها والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات ، أو أريد بها أسباب اتباع الغي من المال والأعوان لتحقق معناها عقلا إن أريد منها الدواعي ، أو حسا إن أريد منها الأسباب ، وعلى هذا فالمراد بالصبا زمان الشباب ، ويجوز أن تكون تخييلية إن جعلت الأفراس والرواحل مستعارة لأمر وهمي تخيل للصبا من الصبوة وهو الميل الى الجهل والفتوة.

المبحث الخامس عشر في انقسامها الى أصلية وتبعية

تنقسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار قسمين :

١ ـ أصلية ، وهي ما يكون اللفظ المستعار فيها اسم جنس ، وهو الذات الصالحة لأن تصدق على كثيرين ولو تأويلا نحو أسد ، وقتل اذا استعير للشجاع والضرب الشديد ، ونحو : حاتم وقس من قولك : رأيت اليوم حاتما ، وسمعت اليوم قسا يخطب ، ومثلهما كل ما شاكلهما من الأعلام التي اشتهرت مسمياتها بوصفية.

وإجراء الاستعارة في مثل هذا أن يقال شبه الرجل الشجاع بالأسد بجامع الشجاعة في كل ، واستعير لفظ الأسد الشجاع على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، وشبه الرجل الكريم بحاتم بجامع الكرم في كل ، واستعير لفظ حاتم للكريم استعارة تصريحية أصلية.

٢ ـ تبعية ، وهي ما يكون المستعار فيها :

(١) فعلا. (٢) اسما مشتقا. (٣) حرفا.

فالأول ، نحو : عضنا الدهر بنابه ، فقد وقع المصائب بالعض بجامع الايلام


في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من العض بمعنى الإيلام عض بمعنى آلم على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.

هذا اذا كان النجوز في الفعل باعتبار حدثه ، فإن كان باعتبار زمانه كان التغاير بين المصدرين باعتبار القيدين نحو : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ)(١) ، أي ينادي فيقال شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي بجامع تحقق وقوعها ، ثم استعير لفظ النداء في الماضي للنداء في المستقبل واشتق منه نادى بمعنى ينادي على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.

والثاني ، نحو : جليل عملك ناطق بفضلك ، شبهت الدلالة بالنطق بجامع إفهام الغرض في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه واشتق من النطق بمعنى الدلالة ناطق بمعنى دال على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ، ونحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٢) فالمرقد مكان الرقاد استعير للقبر بجامع خفاء الأثر في كل ، ثم اشتق من الرقاد بمعنى الموت مرقد بمعنى مكان الموت وهو القبر استعارة تصريحية تبعية.

والثالث ، نحو : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٣) ، فقد شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب العلة الغائية عليه بجامع مطلق ترتب شيء على شيء فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات التي هي معاني الحروف فاستعيرت اللام الموضوعة لكل جزئي من جزئيات العلة الغائية كالمحبة والتبني للام التي تدل على العداوة والحزن استعارة تصريحية تبعية ، والى هذا يشير قول الزمخشري معنى التعليل في اللام وارد على طريق المجاز ، لأنه لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله.

ثم قال : وهذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد ، انتهى.

__________________

(١) سورة الأعراف الاية ٤٤.

(٢) سورة يس الاية ٥٢.

(٣) سورة القصص الاية ٨.


ونحوه قوله عز اسمه : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)(١) ، شبه مطلق استعلاء بمطلق ظرفية بجامع التمكن في كل ، فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات التي هي معاني الحروف فاستعير لفظ (في) الموضوع لجزئي من جزئيات الظرفية لمعنى على الموضوع للاستعلاء على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

ومدار قرينة الاستعارة التبعية في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها الى الفاعل نحو : نطقت الحال بكذا ، أو الى المفعول الأول كقول ابن المعتز :

جمع الحق لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السماحا

فالذي دل على استعارة قتل وأحيا ، إنما إسنادهما الى البخل والسماح ، إذ لو قال : قتل الأعداء وأحيا الأحياء ، لم يكن هناك سبيل للاستعارة فيهما ، أو الى المفعول الثاني ، كقول القطامي :

لم تلق قوما هم شر لإخوتهم

منا عشية يجري بالدم الوادي

نقريهم لهذميات نقد بها

ما كان خاط عليهم كل زراد (٢)

فإسناد القرى الى اللهذميات قرينة على أن نقريهم استعارة ، أو الى المفعولين الأول والثاني ، كقول الحريري :

وأقرى المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشموسا (٣)

فإن تعلق أقوى بكل من المسامع والبيان دليل على أنه استعارة ، أو الى المجرور ، نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ، فذكر العذاب دليل على أن بشر استعارة تبعية تهكمية.

(تنبيهات) أولها كما تكون المصرحة أصلية وتبعية تكون المكنية كذلك (٥).

__________________

(١) سورة طه الآية ٧١.

(٢) نقريهم من قريت الضيف ، واللهذم من الأسنة القاطع واللهذميات منسوبة اليها ، والقد : القطع ، وضمن خاط معنى قد ، فعداه بعلى ، وزرد الدرع وسردها نسجها.

(٣) الحرون من الخيل ما لا يسهل قياده والشموس منها ما يمنع ظهره من الركوب.

(٤) سورة الانشقاق الآية ٢٤.

(٥) لكن لا تجري التبعية بجميع أقسامها في المكنية إذ أنها لا بد فيها من إثبات لازم المشبه به للمشبه ووضع الفعل واسمه ، والحرف يقتضي ألا يثلت لمعناها شيء لوجه ما لا بالإسناد اليه ، ولا بالايقاع عليه ولا الإضافة اليه.


ثانيها ـ إنما سميت الاستعارة في القسم الثاني تبعية لأنها تابعة لاستعارة أخرى إذ هي في المشتقات تابعة لجريانها في المصدر أولا ، كما أن معاني الحروف جزئية لا تتصور الاستعارة فيها إلا بواسطة كلي مستقل بالمفهومية ليتأتي كونها مشبها ومشبها بها فلا بد من إجراء التشبيه أولا في متعلق معاني الحروف ، ثم تتبعها الاستعارة في المعاني الجزئية.

ثالثها ـ قال السكاكي : لو لم يجعلوا في الفعل والحرف استعارة تبعية بل جعلوا في مدخولهما استعارة مكنية بقرينتهما كما فعلوا في : أنشبت المنية أظفارها ، لكان أقرب للضبط.

المبحث السادس عشر في تقسيمها الى مرشحة ومجردة ومطلقة

تنقسم الاستعارة باعتبار اقترانها بما يلائم المستعار منه أو المستعار له أو عدم اقترانها بما يلائم أحدهما الى ثلاثة أقسام ، مرشحة ومجردة ومطلقة :

١ ـ فالمرشحة هي التي تقترن بما يلائم المستعار منه ، كما تقول : رأيت في الميدان أسدا دامي الأنياب طويل البراثن ، وكما قال كثير عزة :

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر

ظواهر جلدي وهو للقب جارح (١)

فقد استعار السهم للنظر يجامع التأثير في كل ثم رشح الاستعارة بذكر الريش الملائم للسهم ، وكما قال ابن هانىء المغربي :

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا

بالنصر من ورق الحديد الأخضر

٢ ـ والمجردة هي التي تقترن بما يلائم المستعار له كما تقول : رأيت أسدا في حومة الوغى يجندل الأبطال بنصله ويشك الفرسان برمحه ، وكما قال كثير يمدح عمر ابن عبد العزيز :

غمر الرداء اذا تبسم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب الملل (٢)

__________________

(١) المعنى : أنها رمته بسهم نظرها الفاتك الذي ريشه الكحل ، فجرحت قلبه ، ولم تضر ظواهر جلده.

(٢) يريد أنه كثير العطاء سخي ، والمعنى أنه اذا ضحك وسر وهب ماله وفرقه وعنى برقاب الأموال أنفسها ، وعبر عنها بالرقاب كقولهم : أعتق رقبة ، أي عبدا.


فقد استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرضه كما يصون الرداء ما يلقى عليه من مكروه والقرينة تتمة البيت ، ثم وصفه بالغمر الذي هو وصف للمعروف لا للرداء على سبيل التجريد.

٣ ـ والمطلقة هي التي لم تقترن بصفة معنوية ولا تفريغ يلائم أحد الطرفين ، والفرق بينهما أن الملائم إن كان من تتمة الكلام الذي فيه الاستعارة فهو الصفة ، كما في قوله : تبسم ضاحكا ، وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد تمام الاستعارة وبني عليها فهو التفريغ ، نحو : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(١) ، بعد قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)(٢).

(تنبيهات) أولها أنه اذا اجتمع الترشيح والتجريد كانت الاستعارة في حكم المطلقة كقول زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

فشاكي السلاح هو حادة تجريد ، لأنه يناسب المشبه وهو الشجاع ، والمقذف إن أريد به في الوقائع والحروب كان تجريدا أيضا ، وإن أريد به المرمى باللحم كناية عن عظم الجثة والضخامة ، لم يكن لا تجريدا ولا ترشيحا لأنه يلائم كلا منهما ، وله لبد وهي الشعر المتراكم بين كتفي الأسد ترشيح ، وكذلك أظفاره لم تقلم لأن الأسد الحقيقي هو الذي ليس من شأنه تقليم الأظفار ، والقرينة كلمة لدى ، أو القرينة حالية ، ولدى تجريد إذ التجريد أو الترشيح إنما يكون بعد تمام الاستعارة بقرينتها ، ولذا لا تسمى قرينة الاستعارة التصريحية تجريدا ولا قرينة المكنية ترشيحا.

(ثانيها) : الترشيح أبلغ (٣) وأقوى من الإطلاق والتجريد ، لاشتماله على تقوية المبالغة وكمالها ، فإن المحور الذي يدور عليه الترشيح إنما هو تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه هو المشبه به نفسه ، وكأن الاستعارة غير موجودة ، ألا ترى أن الناثر أو الشاعر يجدّ في إنكارها ، ويخيل الى السامع أن الأمر على ما يقول حقيقة ، ومن ثم وضع أبو تمام كلامه في علو المنزلة والرقي في خلال الشرف وضعه في علو المكان حين يقول :

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة الآية ١٦.

(٣) الأبلغ في الحقيقة هو الكلام المشتمل على الترشيح لا الترشيح نفسه.


ويصعد حتى يظن الجهول

بأن له حاجة في السما

فلو لا أنه قصد تناسي التشبيه وعقد العزيمة على جحده ولم يأل جهدا في إنكاره فجعله صاعدا في السماء حيث المسافة المكانية ، لما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول بشار :

أتتني الشمس زائرة

ولم تك تبرح الفلكا

وقول المتنبي :

كبرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد

ومن هذا ما سبق من التعجب والنهي عنه ، وإذا جاز البناء على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه (١) في نحو قول العباس بن الأحنف :

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع اليها الصعود

ولن تستطيع اليك النزولا

فلأن يجوز مع جحده وإنكاره في الاستعارة أولى.

(ثالثها) : المطلقة أبلغ من المجردة ، لأن التجريد يذكر بالتشبيه ، فيضعف دعوى الاتحاد.

المبحث السابع عشر في حسن الاستعارة وقبحها

لا تحسن الاستعارة ولا تقع الموقع الملائم إلا إذا حازت الشروط الآتية :

١ ـ رعاية حسن التشبيه (٢) ، إذ هو أساسها الذي تبني عليه ، خلا أنه مما يستملح هنا قوة الشبه بين الطرفين بعكس باب التشبيه ، ومن ثمة تحسن الاستعارة فيما يقوي فيه الشبه بينهما بحيث يصير الفرع كأنه الأصل ، ولا يحسن التشبيه ، ألا ترى أن الرجل يقول إذا فهم مسئلة : حصل في قلبي نور ، ولا يقول : كأن العلم الذي حصل في قلبي نور ، ويقول لمن أوقعه في شبهة : أوقعتني في ظلمة ، ولا يقول : كأن الشبهة التي أوقعتني فيها ظلمة.

__________________

(١) فان قوله هي الشمس تشبيه ، وفيه اعتراف بالمشبه ، ومع ذلك بني الكلام على المشبه به أعني الشمس.

(٢) قال الجرجاني : ملاك الاستعارة قرب التشبيه ومناسبة المستعار للمستعار له وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر.


٢ ـ غرابة وجه الشبه ولطفه وكثرة التفصيل فيه وبعده من الابتذال وعدم خفائه الى الغاية حتى لا يكون نعمية وألغازا ، ومن ثم لا يحسن استعارة الأسد لإنسان أبخر لخفاء وجه الشبه في مجرى العادة في مثل هذا.

٣ ـ ألا يشم منها رائحة التشبيه لفظا ، ومن ثم ضعفت الاستعارة في قوله : قد زر أزراره على القمر (١).

٤ ـ بعدها عن الحقيقة بترشيحها تقوية لدعوى الاتحاد فيها ، ومن أجل هذا قدمت المرشحة على المطلقة والمجردة في اعتبار البلغاء ، فإن خلت الاستعارة مما سبق ذكره انحطت رتبتها واستهجنت كقول أبي نواس :

بح صوت المال مما

منك يشكو ويصيح

يريد أن المال تظلم من إهانته إياه بتمزيقه بالعطايا ، وهذا معنى حسن ، لكن العبارة عنه قبيحة لا تروق في نظر البلغاء ويأباها ذوو الفطر السليمة (٢).

وقوله أيضا وهو أسخف من الأول :

ما لرجل المال أضحت

تشتكي منك الكلالا

فأين هذا من قول مسلم بن الوليد في هذا المعنى :

تظلم المال والأعداء من يده

لا زال للمال والأعداء ظلاما

وقول أبي تمام :

بلوناك أما كعب عرضك في العلا

فعال وأما خد مالك أسفل

مراده أن عرضك مصون ومالك مبتذل ، لكنه قد ساقه مستكرها ، وأخرجه مخرجا مستهجنا ، وكقول بشار :

وجذّت رقاب الوصل أسياف هجرنا

وقدت لرجل البين نعلين من خدي

قال في «العمدة» : فما أهجن رجل البين وأقبح استعارتها ولو كانت الفصاحة بأسرها فيها ، وكذلك رقاب الوصل.

__________________

(١) إذ الضمير في أزراره لمحبوبه ولم يكن هذا من التشبيه لما تقدم من أن المشبه لم يذكر على وجه ينبي عن التشبيه بأن يكون المشبه به خبرا عنه أو حالا أو صفة ، بل فيه رائحة الأشعار فقط.

(٢) إذ أي شيء أبعد استعارة من صوت المال ، فكيف به اذا بح من الشكوى والصياح ، مع أنه ليس له صوت حين يعطى.


أسرار البلاغة في الاستعارة

الاستعارة بجميع ضروبها وتعدد مذاهبها وشعوبها ، أعلى مرتبة من التشبيه ، وأقوى في المبالغة منه ، لما فيها من تناسي التشبيه ، وادعاء الاتحاد بين المشبه والمشبه به ، كأنهما شيء واحد ، يطلق عليهما لفظ واحد ، انظر الى قول المتنبي :

ترنو إليّ بعين الظبي مجهشة

وتمسح الطل فوق الورد بالعنم (١)

تره وقد تمثلت له محبوبته ظبية تنظر اليه وهي حيرى تمسح طلا فوق خدها بأصابعها وهي كالعنم لينا وحمرة ، واختبأ عن عينيه مظهر التشبيه ، وظهر له ذلك بمظهر الحقيقة ، ورأيته وقد سما به الخيال فرأى الطلّ يسقط على الورد ، فهل يؤدي التشبيه مثل هذا؟ وهل تصل فيه المبالغة الى ما تصل اليه الاستعارة؟ فهبه قال : تمسح الدموع التي تشبه الطلّ والخدود التي هي كالورد والأصابع التي تشبه العنم ، أتراه يصل الى مثل ما قال؟ إنك لتحس بأن هذا أدنى من المعنى المجازي وأقل منه مبالغة ، فإن في التشبيه جمعا بين المشبه والمشبه به ، وهذا إقرار بأنهما متقاربان ، وتأمل قول أبي الحسن التهامي :

يا كوكبا ما كان أقصر عمره

وكذاك عمر كواكب الأسحار

يتبين لك فيه صورة النجوم وقد أفلت بعد طلوعها ، وكواكب الأسحار وقد غادرت بعد ظهورها.

وقد استعمل العرب الاستعارة في كلامهم تقريبا للمعنى الى ذهن السامع ، واستثارة لخياله واختلابا للبه ، ليقنع بما يقال له ويلقى في روعه.

تدريب أول

اجعل التشبيهات الآتية استعارة مصرحة أو مكنية مع بيان القرينة :

١ ـ استذكرت كتابا كالصديق في المؤانسة.

٢ ـ اللسان كالسيف في الإيذاء.

٣ ـ انتثرت في السماء نجوم كالدرر.

٤ ـ في البحر سفن كالجبال في العلو.

__________________

(١) العنم : شجر لين الأغصان ، تشبه به الأصابع.


٥ ـ على الأشجار بلابل كالقيان في حسن الصوت.

٦ ـ في الغرفة ثريات كهربائية كالشمس في الإضاءة.

٧ ـ الكتاب صديق.

٨ ـ لفلانة أسنان كالبرد في البريق واللمعان.

٩ ـ علي كالغيث في العطاء.

١٠ ـ هند كالبدر في الحسن والبهاء.

الاجابة

استعارة تصريحية

 القرينة

١ ـ استذكرت صديقا مطبوعا

 استذكرت

٢ ـ احذر سيفا بين فكيك

 بين فكيك

٣ ـ انتثرت درر في السماء

 في السماء

٤ ـ رأيت جبالا تمخر في البحار

 تمخر في البحار

٥ ـ صدحت قيان على الأشجار

 على الأشجار

٦ ـ في الغرفة شموس مغلقة بالزجاج

 في الغرفة

٧ ـ عندي صديق في القمطر

 في القمطر

٨ ـ في فم فلانة برد منضد

 في فم

٩ ـ رأيت غيثا يعطي الدراهم والدنانير

 يعطي الدراهم

١٠ ـ طلع علينا بدر بين أترابه

 بين أترابه

استعارة مكنية

القرينة

١ ـ استذكرت كتابا مؤنسا

 مؤنسا

٢ ـ احذر اللسان الغضب

 الغضب

٣ ـ نثرت نجوم مثقوبات في السماء

 مثقوبات

٤ ـ رأيت سفنا تتوجها الثلوج

 تتوجها الثلوج

٥ ـ صدحت بلابل تعزف بألحان مطربة

 تعزف بألحان

٦ ـ في الغرفة ثريات تشرق وتغرب

 تشرق وتغرب


٧ ـ عندي كتاب حميم

 حميم

٨ ـ لفلان أسنان يقدر قيمتها الجوهري

 يقدر قيمتها الجوهري

٩ ـ رأيت هندا تتلألأ بين أترابها

 تتلألأ

تدريب ثان

اجر الاستعارة فيما يلي وبيّن نوعها وقرينتها :

١ ـ فتى كلما فاضت عيون قبيلة

دما ضحكت عنه الأحاديث والذكر

٢ ـ (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١)

٣ ـ اذا انتضل القوم الأحاديث لم يكن

عيبا ولا ربا على من يقاعد

٤ ـ فسمونا والفجر يضحك

في الشرق الينا مبشرا بالصباح

٥ ـ لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوما على الاحساب نكل

٦ ـ سأبكيك للدنيا وللدين إنني

رأيت يد المعروف بعدك شلت

الاجابة

١ ـ في فاضت العيون وضحكت الأحاديث استعارتان ، إما تصريحيتان أو مكنيتان ، فعلى الأول يقال : شبه نزول الماء متدفقا بفيضان النهر بجامع الكثرة في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من الفيضان بمعنى صب الماء الكثير فاض بمعنى صب على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، ودما تجريد لأنها تناسب العيون ، وشبهت المسرة والابتهاج بالضحك بجامع أريحية النفس في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من الضحك بمعنى السرور ضحك بمعنى سر على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية والقرينة حالية ، وعلى الثاني يقال : شبهت العيون بالأنهار بجامع جريان الماء الكثير من كل واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه وحذف ورمز اليه بشيء من لوازمه ، وهو فاض على طريق الاستعارة المكنية الأصلية ، والقرينة نسبة الفيضان الى العيون وهي الاستعارة التخييلية ودما تجريد أيضا ، وشبهت الأحاديث بناس فرحين بجامع الأريحية والسرور لكل عند حصول ما يسر ، واستعير اللفظ

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٦٠.


الدال على المشبه به للمشبه ، وحذف ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو ضحك على طريق الاستعارة المكنية الأصلية المطلقة.

٢ ـ شبه مطلق ارتباط بين متلبس بالضلالة ومتلبس به بمطلق ارتباط بين ظرف ومظروف بجامع التمكن في كل ، فسرى التشبيه من الكليين (مطلق الارتباط) الى الجزئيات (معاني الحروف) فاستعيرت (في) من الظرفية الحقيقية للظرفية المعنوية على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ، والقرينة على ذلك كلمة الضلال.

٣ ـ شبهت الأحاديث بالسهام بجامع التأثير ومباراة المتحادثين كما يتبارى الرماة في كل منهما ، ثم استعير لفظ السهام للأحاديث وحذف ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو انتضل على سبيل الاستعارة المكنية ، وكلمة عيبا تجريد ، لأنها تناسب الأحاديث.

٤ ـ شبه الفجر بإنسان يبتسم ، فتظهر أسنانه مضيئة لامعة بجامع البريق واللمعان ، واستعار اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، ثم حذفه وأشار اليه بشيء من لوازمه ، وهو يضحك على طريق الاستعارة بالكناية ، وإثبات الضحك للفجر استعارة تخييلية.

٥ ـ في كلمة على استعارة تصريحية تبعية ، فقد شبه مطلق ارتباط بين متلبس ومتلبس به بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعل عليه بجامع التمكن والاستقرار في كل ، ثم استعيرت على من جزئي من جزئيات الأول الجزئي من جزئيات الثاني على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

٦ ـ شبه المعروف بإنسان له يد تعطي ، والجامع البذل والعطاء في كل منهما استعار اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، ثم حذفه ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو اليد على سبيل المكنية الأصلية المرشحة بكلمة شلت وإثبات اليد للمعروف استعارة تخييلية.

تمرين أول

اجر الاستعارة وبيّن نوعها وقرينتها فيما يلي :

١ ـ سقاه الردى سيف اذا سل أو مضت

اليه ثنايا الموت من كل مرقب

٢ ـ عوى الشعراء بعضهم لبعض

على فقد أصابهم انتقام


٣ ـ هم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلا بأجدعا (١)

٤ ـ (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً)(٢)

٥ ـ (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً)(٣)

٦ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ)(٤)

٧ ـ والشمس لا تشرب خمر الندى

في الروض إلا بكؤوس الشقيق

تمرين ثان

١ ـ (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)(٥)

٢ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ)(٦)

٣ ـ من يزرع الشر يحصد في عواقبه

ندامة ولحصد الزرع إبّان

٤ ـ لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا

ولا ينال العلا من قدم للحذرا

٥ ـ وما هي إلا خطرة ثم أقلعت

بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن

٦ ـ قوم اذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا اليه زرافات ووحدانا

٧ ـ قال علي بن أبي طالب : «الدنيا من أمسى فيها على جناح أمن ، أصبح فيها على قوادم خوف».

تمرين ثالث

١ ـ شمس وبدر ولدا كوكبا

أقسمت بالله لقد أنجبنا

٢ ـ جاء النسيم الى الغصون رسولا

ومشى يجر على الرياض ذيولا

٣ ـ وذي رحم قلمت أظفار ضغنه

بحلمي عنه وهو ليس له حلم

٤ ـ اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

__________________

(١) الأجدع : المقطوع الأنف ، دعا عليهم بالذل والصغار لصلبهم العبدي.

(٢) الاضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، أي آية هي الليل وآية هي النهار (سورة الإسراء).

(٣) أنشرنا : أحيينا (سورة الزخرف).

(٤) سورة فصلت الآية ٥٤.

(٥) سورة الذاريات الآية ٤١.

(٦) سورة السجدة الآية ٢١.


٥ ـ أتته الخلافة منقادة

اليه تجرر أذيالها

٦ ـ اذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

٧ ـ وليلة بت أسقي في غيابها

راحا تسل شبابي مريد الهرم

ما زلت أشربها حتى نظرت الى

غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم

المبحث الثامن عشر في المجاز المركب

المجاز المركب هو اللفظ المركب المستعمل قصدا وبالذات في غير المعنى الذي وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ، فخرج بقولنا قصدا ، وبالذات ما اذا تجوز بجزء من أجزاء المركب ، فإنه قد استعمل مجموعة في غير ما وضع له ، وليس ذلك مجازا مركبا.

وهذا المجاز قسمان :

(أ) ما كانت علاقته غير المشابهة وهو المجاز المرسل المركب ، وهو أنواع :

١ ـ المركبات الخبرية المستعملة في المعاني الإنشائية ، إما للتحسر وإظهار الحزن ، نحو :

ذهب الشباب فما له من عودة

وأتى المشيب فأين منه المهرب

وإما للدعاء ، نحو : وفقك الله ـ نجح الله مقاصدنا .. الى غير ذلك من المقاصد التي يستعمل فيها الخبر ويكون غير مراد به الفائدة ولا لازمها ، والعلاقة في مثل هذا اللازمية إذ يلزم من الأخبار بذهاب الشيء المحبوب كالشباب مثلا التحسر عليه ، وهكذا يقال في نظائره والقرينة حالية.

٢ ـ المركبات الإنشائية المستعملة في المعاني الخبرية ، نحو قوله عليه‌السلام : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» بمعنى يتبوأ ، والعلاقة في نحو هذا السببية لأن إنشاء المتكلم هذه الجملة سبب لأخباره بما تتضمنه ، قال العيني في شرح البخاري : فليتبوأ أمر من النبوء وهو اتخاذ المباءة والمنزل ، وظاهره أمر ومعناه خبر.

٣ ـ الجمل الإنشائية ، فعلية كانت أو اسمية المأتى بها ، لما يتولد منها من إنكار ونحوه ، والعلاقة في نحو هذا المجاورة ، نحو : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً)(١).

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٨.


(ب) ما كانت علاقته المشابهة بين الهيئة المستعار منها والهيئة المستعار لها بأن تشبه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين وأمور بالأخرى ، ثم يدعى أن الصورة المشبهة من جنس الصورة المشبهة بها فيطلق على الصورة المشبهة اللفظ الدال بالمطابقة على الصورة المشبه بها مبالغة في التشبيه ، كما كتب الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة الى مروان بن محمد حينما بلغه توقفه في البيعة له .. أما بعد : فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر (١) أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسّلام ، فقد شبهت صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر ، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا يريد فيؤخرها مرة أخرى ، وكما يقال لمن يعمل فيما لا يجدي : أراك تنفخ في غير فحم ، وأراك تخط على الماء ، يراد أنه في عمله كمن يفعل ذلك.

وهذا القسم يسمى استعارة تمثيلية (٢) واستعارة على سبيل التمثيل وتمثيلا على سبيل الاستعارة أو تمثيلا فقط ، ويمتاز عنها التشبيه المركب بأن يقال له : تشبيه تمثيل أو تشبيه تمثيلي.

واذا اشتهرت الاستعارة التمثيلية وكثر استعمالها سميت مثلا ولا يغير مطلقا محافظة على الاستعارة فيخاطب به المفرد والمذكر وفروعهما بطريقة واحدة (٣) كقولهم : أحشفاء وسوء كيلة (٤) ، يضرب مثلا لمن يظلم من جهتين ، وبيان الاستعارة في مثل هذا أن يقال : شبهت هيئة من يظلم من جهتين بهيئة رجل اشترى من آخر تمرا رديئا وطفف له المكيال بجامع الظلم من جهتين ، واستعير التركيب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية ، وهكذا يقال في سائر الأمثال

__________________

(١) مفعول تؤخر محذوف أي وتؤخرها أي تلك الرجل المتقدمة ، وقوله أخرى نعت لمرة أي مرة أخرى ، وإنما لم نجعل أخرى نعتا للرجل لئلا يفيد الكلام أن الرجل المؤخرة غير المقدمة وليس ذلك صورة التردد كذا في ابن يعقوب.

(٢) وكل استعارة وإن كانت تمثيلا أي تشبيها فقد خص اسم التمثيل بهذه الاستعارة لأنها مثار فرسان البلاغة.

(٣) وذلك معنى قولهم الأمثال لا تغير.

(٤) الحشف : الرديء ، والكيلة : هيئة الكيل.


النثرية والنظمية نحو : إن البغاث بأرضنا يستنسر (١) ، ما يوم حليمة بسر (٢).

وقولهم :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

(تنبيه) هذه الاستعارة أبلغ أنواع المجاز مفردا ومركبا ، إذ مبناها تشبيه التمثيل ، وقد عرفت دقة مسلكه من قبل أن وجه الشبه فيه يكون هيئة منتزعة من أشياء متعددة ، فالاستعارة المبنية عليه تكون أدق أنواع الاستعارات إذ من الصعوبة بمكان أن تعمد الى صورتين مركبتين من أجزاء عدة فتحاول الربط بينهما وتحصر جهات اتحادهما وتشبه إحداهما بالأخرى فلا يخفى ما أنت محتاج اليه في المهارة حينئذ ، كما لا ينكر الأثر الذي تراه في مخاطبك اذا أدليت اليه في معرض كلامك بمثل ، فكم تجد لديه من الأريحية ، وكيف يغني إيجاز المثل عن الشرح والإسهاب؟ ..

تدريب

بيّن أنواع المجاز المركب فيما يلي :

١ ـ افعل ما بدا لك ، تقوله تهديدا لمخاطبك.

٢ ـ أنت تصرخ في واد ، تقول ذلك لمن يعمل ما لا فائدة فيه.

٣ ـ لك الحمد والشكر ، تقول ذلك بعد الأكل مثلا.

٤ ـ أهذا الذي أطنبت في مدحه ، تقول ذلك متهكما.

٥ ـ سلام على الدنيا اذا لم يكن بها صديق صدوق يصدق الوعد منصفا.

٦ ـ أخذت من شبابي الأيام وتولى الصبا عليه‌السلام.

الاجابة

١ ـ في هذا المركب مجاز مرسل مركب علاقته المجاورة ، فقد استعمل الأمر في التهديد لا في الطلب.

٢ ـ في هذا المركب استعارة تمثيلية ، فقد شبهت صورة من يعمل ما لا فائدة

__________________

(١) يضرب للضعيف يصير قويا.

(٢) يضرب لكل أمر متعارف مشهور.


فيه بصورة من يصرخ في واد بجامع عدم الفائدة في كل ، واستعير المركب الدال على هيئة المشبه به لهيئة المشبه على طريق الاستعارة التمثيلية.

٣ ـ في هذا المركب مجاز مرسل ، علاقته السببية ، لأنه استعمل الخبر في الإنشاء لإرادة الدعاء.

٤ ـ في هذا المركب مجاز ، علاقته المجاورة ، لأنه استعمل الاستفهام في التهكم.

٥ ـ استعمل هذا المركب في إنشاء التحسر والأسف على فقدان الصديق ، مجازا مرسلا ، علاقته السببية.

٦ ـ هذا المركب كسابقه.

تمرين

بيّن نوع المجاز المركب ، واذكر علاقته فيما يلي :

١ ـ ومن قصد البحر استقل السواقيا ، يقال لمن يطمح الى العظيم ولا يرضى.

٢ ـ تلدغ العقرب وتصيء (١) ، يقال للظالم يشكو كأنه مظلوم.

٣ ـ قد كنت عدّتي التي أسطو بها

ويدي اذا اشتد الزمان وساعدي

٤ ـ ليس التكحل في العينين كالكحل ، يقال لمن يتكلف ما ليس من طبعه.

٥ ـ وليس يصح في الأذهان شيء

اذا احتاج النهار الى دليل

٦ ـ أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع؟

المبحث التاسع عشر في المجاز بالحذف (٢) أو الزيادة

كما توصف الكلمة بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي ، كما تقدم ، كذلك توصف بالمجاز بطريق الاشتراك اللفظي اذا تغير حكم إعرابها الأصلي بواسطة حذف لفظ أو زيادته.

__________________

(١) صأي الفرخ والعقرب صاح وصاء مقلوب منه.

(٢) اطلاق المجاز على هذا النوع من طريق الاشتراك اللفظي فلفظ مجاز وضع وضعين أحدهما الكلمة المستعملة في غير ما وضعت لعلاقة وقرينة ، وثانيهما للكلمة التي تغير حكم إعرابها الأصلي بحذف لفظ أو زيادته ، وهذا النوع من المجاز يمكن رده الى المجاز العقلي أو المجاز المرسل.


فالحذف كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) ، إذ الأصل أهل القرية ، فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل هو الجر فحذف المضاف وأعطى المضاف اليه إعرابه ، ونظيره (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمر ربك.

والحكم بالحذف يكون لأحد أمرين :

١ ـ لأمر يرجع الى غرض (٢) المتكلم ، نحو : سل القرية ، ألا ترى أنك لو قرأته أو سمعته في غير التنزيل لم تقطع بأن ها هنا محذوفا ، إذ من المحتمل أن يكون كلام رجل مرّ على قرية خربت وباد أهلها ، فأراد أن يقول مذكرا نفسه أو صاحبه على سبيل العظة والاعتبار : سل القرية عن أهلها وقل لها ما ذا صنعوا ، كما قال الرقاشي : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا.

٢ ـ لأن الكلام لا يصح بدون المحذوف ، كما اذا حذف أحد جزأي الجملة ، نحو : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) *).

والزيادة كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٣) ، أي ليس مثله شيء ، فإعراب مثله في الأصل النصب ، فلما زيدت الكاف سار جرا.

ونحوه : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ)(٤). وقول لبيد :

الى الحول ثم اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

يريد : ثم السّلام عليكما.

ومما تقدم تعلم أن الحذف والزيادة إذا لم يوجبا تغير الإعراب لا توصف الكلمة من أجلهما بالمجاز ، نحو : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)(٥) ، إذ الأصل : أو كمثل ذوي صيب ، فحذف ذوي لدلالة يجعلون أصابعهم على هذا المحذوف ،

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٨٢.

(٢) للجزم بأن المقصود من الآية سؤال أهل القرية للاستشهاد بهم فيجيبون بما يصدق أو يكذب لا سؤالها هي لأن الشاهد لا يكون جمادا ، ويحتمل أن تكون القرية مجازا عن أهلها من اطلاق اسم المحل على الحال فلا يكون مما نحن فيه.

(٣) سورة الشورى الآية ١١.

(٤) سورة الأنفال الآية ١٢.

(٥) سورة البقرة الآية ١٩.


وحذف لفظ مثل لدلالة قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) عليه ، ونحوه : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٢).

المبحث العشرون في المجاز العقلي أو المجاز الحكمي (٣)

هذا ضرب آخر من الاتساع والنجوز ، غير ما قدمنا لك الكلام عليه ، فإن ما مضى كانت تذكر فيه الكلمة ولا يراد معناها ولكن ما هو ردف للمعنى أو شبيه به ، فالتجوز كان يكون في اللفظ نفسه.

أما ما هنا فإن الكلمة متروكة على ظاهرها ومعناها مقصود في نفسه ، وإنما النجوز في حكم يجري عليها ، كقولهم : نام ليلي ، وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ،) ففي هذا مجاز لكنه ليس في ذوات الألفاظ ، فإن الليل والتجارة مستعملان في حقيقتهما ، بل في أن جعلتهما فاعلين لنام وربح.

ومن هذا تفهم ما قالوه في تعريف هذا المجاز بأنه إسناد الفعل أو ما في معناه الى غير ما هو له في الظاهر من حال المتكلم لملابسة مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد الى ما هو له ، وما في معنى الفعل هو المصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ، ومعنى كونه غير ما هو له أنه ليس من حقه أن يسند اليه لأنه ليس يوصف له ، ومعنى الملابسة العلاقة.

وهذا التعريف يشمل إسناد الفعل المبني للفاعل وما في حكمه كاسم الفاعل الى غير فاعله كالمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب مما له علاقة بالفاعل ، وإسناد الفعل المبني للمفعول وما في حكمه كاسم المفعول الى غير نائب الفاعل مما له علاقة به ، كالفاعل والمصدر ونحوهما ، وإيضاح هذه العلاقات مما يلي :

١ ـ إسناد ما بني للفاعل الى المفعول نحو : عيشة راضية (٤) وماء دافق.

__________________

(١) سورة البقرة الاية ١٧.

(٢) سورة آل عمران الاية ١٥٩.

(٣) البحث عن هذا المجاز من حيث كيفية الدلالة من البيان ومن حيث تحصل به المطابقة لمقتضى الحال من المعاني ، والحق أن ذكره في المعاني كما فعل القزويني في الايضاح كان استطرادا.

(٤) أصل الكلام رضي المرء عيشته فأسند الفعل للمفعول من غير أن يبني له فصار : رضيت العيشة ، ثم أخذ من الفعل المبني للفاعل اسم فاعل وأسند الى ضمير العيشة فآل الأمر إلى أن صار المفعول فاعلا وهكذا يقال في نظائره.


وقول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقد أسند راضية ودافق وطاعم وكاس وهي مبنية للفاعل إلى صمير لعيشة مع أن الراضي صاحبها وكذلك الماء مدفوق والشخص مطعوم مكسو.

٢ ـ إسناد ما بني للمفعول الى الفاعل نحو : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(١) ، وسيل مفعم (٢) ، لأن الوعد آت والسيل مفعم أي ماليء.

٣ ـ إسناد الفعل الى المصدر ، نحو قول أبي فراس :

سيذكرني قومي اذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

فقد أسند الجد الى الجد ، أي الاجتهاد ، وهو ليس بفاعل له بل فاعله الجاد وفاصله جد الجاد جدا ، أي اجتهد اجتهادا ، فحذف الفاعل الأصلي وهو الجاد وأسند الفعل الى الجد.

٤ ـ الإسناد الى الزمان ، نحو : نهاره صائم ، وليله قائم ، وقوله :

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

فقد أسند الصوم الى النهار والقيام الى الليل والإساءة والسرور الى الزمان ، وكل هذه أزمنة للأفعال لا واقعة منها.

٥ ـ الإسناد الى المكان ، نحو : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)(٣) ، فقد أسند الجري الى الأنهار ، وهي أمكنة للمياه وليست هي الجارية بل الجاري ماؤها ، ونحوه بيت ساكن.

٦ ـ الإسناد الى السبب ، نحو :

إني لمن معشر أفنى أوائلهم

قيل الكماة ألا أين المحامونا؟

فقد نسب الإفناء الى قول الشجعان : هل من مدافع ، وليس ذلك القول بفاعل ولا بمؤثر وإنما هو سبب فقط.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٦١.

(٢) أفعم الأناء : ملأه.

(٣) سورة الأنعام الآية ٦.


وقد يجيء (١) هذا المجاز في النسبة الإضافية بأن يضاف الى ملابس ما هو له نحو : جري الأنهار ، ومكر الليل ، وغراب البين ، فنسبة الجري الى الأنهار مجاز علاقته المكانية ، والمكر الى الليل مجاز علاقته الزمانية ، والبين الى الغراب مجاز علاقته السببية على النحو الذي يزعمون.

قال الشاعر :

مشائين ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا ببين غرابها

كما قد يجيء في النسبة الإيقاعية بأن يوقع الفعل على ملابس ما هو له كقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(٢) ، وكما جاء في جميع ما مضى في الإثبات ، فقد جاء أيضا في النفي ، كقوله عز وعلا : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(٣) ، أي خسرت (٤) ، ونحو : ما نام ليلي ، أي سهر ، ونحو : تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، أي بما تكره.

أقسامه ، باعتبار الطرفين طرفا هذا المجاز ، وهما المسند اليه والمسند ، إما :

١ ـ حقيقتان ، نحو : وشيب أيام الفراق مفارقي.

٢ ـ وإما مجازان نحو : أحيا الأرض شباب الزمان ، إذ المراد بإحياء الأرض إحداث النضارة والخضرة فيها مما ينتج عن تهيج القوى المنمية فيها ، كما أن المراد من شباب (٥) الزمان ابتداء حرارته وازدياد قواه.

٣ ـ وإما مختلفان ، نحو : أهلك الناس الدينار والدرهم ، فقد جعلت الفتنة إهلاكا ، ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم.

ونحو قول أبي الطيب :

وتحيي له المال الصوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسم والجدا

__________________

(١) أي فالتعريف المتقدم غير جامع لكل أنواع المجاز إلا أن تراد بالاسناد مطلق النسبة ، سواء كانت كالاسنادية أو غير تامة كالاضافية والايقاعية.

(٢) سورة طه الاية ٩٠.

(٣) سورة البقرة الاية ١٦.

(٤) أي اذا قصد إثبات النفي لا نفي الاثبات.

(٥) أصل الشباب كون الحيوان في زمن قوته.


فقد جعل الزيادة والوفور حياة للمال وتفريقه في العطاء قتلا له ، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم ، مع أن كلا منهما لا يصح منه الفعل.

وقد وقع هذا المجاز في التنزيل نحو : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً)(١) ، فقد نسبت الزيادة الى الآيات لكونها سببا ، ونحو : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) نسب الذبح الى فرعون لأنه الآمر به والسبب فيه ، ونحو : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(٢) ، فقد أسند الفعل الى الظرف لوقوعه فيه.

(قرينته) قرينة هذا المجاز إما لفظية ، كقول أبي النجم العجلي :

ميز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي أبطىء أو أسرعي (٣)

فقد استدللنا على أن إسناد ميز الى جذب الليالي مجاز بقوله بعده :

أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى اذا واراك أفق فارجعي

فإنه يدل على أن ذلك فعل الله ، وأنه هو المفتى ، فيكون إسناده الى جذب الليالي من الاسناد الى الزمان.

وإما غير لفظية ، كاستحالة صدور المسند من المسند اليه ، أو قيامه به عقلا ، نحو : محبتك جاءت بي اليك ، أو عادة نحو : بنى الوزير القصر ، وكصدور الكلام من الموحد ، كما في إسناد الاشادة والافناء الى كر الغداة في قوله الصلتان للعبدي :

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشي

اذا ليلة هرمت يومها

أتى بعد ذلك يوم فتى

(تنبيهات) الأول قال عبد القاهر : هذا الضرب من المجاز ، على حدته ، كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان ، ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول : أتى بي الشوق الى لقائك ، وسار بي الحنين الى رؤيتك ، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان ،

__________________

(١) سورة الأنفال الاية ٢.

(٢) سورة المزمل الاية ١٧.

(٣) ميز : فصل ، وعنه أي عن رأسه ، والقنزح : الشعر المجتمع في نواحي الرأس ، وجذب الليالي : مضيها وتعاقبها ، وابطىء أو أسرعي حال من الليالي على تقدير القول.


وأشباه ذلك ، مما تجده لشهرته يجري مجرى الحقيقة ، فليس هو كذلك ، بل يدق ويلطف حتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها والنادرة تأنق لها.

(الثاني) قال الإمام أيضا : واعلم أنه ليس بواجب في هذا المجاز أن يكون للعمل فاعل في التقدير اذا أنت نقلت الفعل اليه عدت به الى الحقيقة ، مثل أن تقول في ربحت تجارتهم : ربحوا في تجارتهم ، فإن ذلك لا يأتي في كل شيء ، ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك : أقدمني بلدك حق لي على إنسان ، فاعلا سوى الحق ، وكذلك لا تستطيع في قول أبي نواس :

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

وقول ابن البواب :

وصيرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل

أن تزعم أن ليزيد قائلا قد نقل عنه الفعل فجعل للوجه ، ولا لصيرني فاعلا غير الهوى ، فالاعتبار إذا بأن يكون المعنى الذي يرجع اليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته ، معنى ذلك أن القدوم في المثال المتقدم موجود على الحقيقة ، وكذلك الزيادة والصيرورة موجودتان على الحقيقة ، وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه بل لا محالة في الحكم.

(الثالث) هذا المجاز كما يجري في الخبر كما سلف يجري في الإنشاء ، كقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً)(١) ، وقوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً)(٢) ، وقوله عزوجل : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)(٣) ، وقوله عز وعلا : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ)(٤) ، فإن البناء والابقاء فعل العملة وهامان سبب آمر ، وهكذا يقال فيما بعده.

(الرابع) أنكر السكاكي هذا المجاز وقال : الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية يجعل الربيع مثلا في قولك : أنبت الربيع البقل ، استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه ، وجعل نسبة الإثبات اليه

__________________

(١) سورة غافر الآية ٣٦.

(٢) سورة القصص الآية ٣٨.

(٣) سورة طه الآية ١١٧.

(٤) سورة هود الآية ٨٧.


قرينة الاستعارة على ما سبق لك في بيان مذهبه في الاستعارة بالكناية ، وقد رد هذا بأنه يستلزم ألا تصح الإضافة نحو : فما ربحت تجارتهم ، لبطلان إضافة الشيء الى نفسه ، وألا يكون الأمر بالبناء لهامان في قوله : يا هامان ابن لي صرحا ، لأن المراد به حينئذ العملة أنفسهم ، وأن يتوقف جواز التركيب في نحو : أنبت الربيع البقل ، على السمع ، لأن أسماء الله تعالى توقيفية ، وكل هذه اللوازم منتفية فتنتفى ملزوماتها.

تتمة وفيها مهمان

١ ـ المجازات (١) اللغوية المفردة يجب إقرارها حيث وردت ولا يجوز تعديها إلا بإذن وتوقيف من اللغة ، فإذا استعير لفظ الأسد للشجاع لما يربطهما من معنى الشجاعة يجب إقراره ، ولا يجوز تعديته واستعارته للرجل الأبخر لعلاقة المشابهة بينهما ، ولفظ نخلة اذا استعير للرجل الطويل بجامع الطول في كل ، لا يصح أن نعديه ، ونطلقه على الحبل من أجل طوله.

أما المجازات العقلية فيجوز تعديها الى غير محالها التي وردت فيها ، فكما ورد قوله تعالى : (أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها)(٢) ، قيل : تكاثرت أشواقي وأسقمني فقدك وأحيتني مشاهدتك ، الى غير ذلك مما لا يكاد يضبط في الرسائل والمواعظ والخطب كما قال ابن نباتة الخطيب : إنه الموت حسام أزهق النفوس ذبابه (٣) ، كذا في الطراز.

٢ ـ المجاز خلاف الأصل ، فلا يصار اليه إلا لباعث يرجع إما الى اللفظ ، وإما الى المعنى ، وإما اليهما جميعا :

(أ) فمما يرجع الى اللفظ أن يكون المجاز أخف على اللسان من الحقيقة كما نشعر بذلك في مثل لفظ الخنفقيق (الداهية) ، أو يكون صالحا للقافية أو السجع وهي لا تصلح لذلك ، أو يكون مألوف الاستعمال والحقيقة غريبة وحشية.

(ب) ومما يرجع الى المعنى ، قصد التعظيم ، كما تقول : سلام على المجلس ،

__________________

(١) وهي كون مثل هذا استعارة بالكناية.

(٢) سورة يونس الآية ٢٤.

(٣) الذباب : طرف السيف الذي يضرب به.


الكريم عادلا ، الى المجاز ، تعظيما للمخاطب وتشريفا له عن أن يخاطب بلقبه ، أو المبالغة مع الايجاز ، كما تبين لك ذلك فيما سلف.

(ج) ومما يرجع اليهما تحسين اللفظ ودقة المعنى من أجل أن الشيء اذا عرف من بعض الوجوه دون بعض تاقت النفس الى تحصيل ما ليس بمعلوم لها ، وذلك لا يتسنى إلا عند التعبير بالمجاز ، أما عند التعبير بالحقيقة فيحصل العلم به من جميع الوجوه ، لا جرم كان التعبير بالمجاز أقرب الى تحسين الكلام وتجميله.

أسرار البلاغة في المجاز العقلي

المجاز العقلي ضرب من التوسع في أساليب اللغة وفن من فنون الايجاز في القول ألا ترى أن إسناد الفعل الى سبيله وجعله الفاعل المؤثر دليل على ما كان لهذا الأثر من شديد الصلة في صدور الفعل ، وكأنه هو الذي صدر منه.

انظر الى قول ابن الرومي :

أرى الشعر يحيي الناس والمجد بالذي

تبقيه أرواح له عطرات

فما المجد لو لا الشعر إلا معاهد

وما الناس إلا أعظم نخرات

تره قد جعل حياة الناس ومآثرهم رهينة الشعر بما ينشر من فضائلهم ويذكره من جليل إحسانهم وعظيم إنعامهم فيبقى على كر الغداة ومر العشي.

وكذلك تجد ما في نسبة الحادث ، إلى زمانه أو مكانه ، من دلالة على التعميم والشمول ، فإن الفعل اذا أريد بيان شموله وأنه يعمّ كل من يكنه المكان أو يحيط به الزمان نسب الى المكان أو الزمان ، تأمل قوله تعالى على لسان زكريا عليه‌السلام : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) ، تره أراد أن يجعل الشيب قد عمّ رأسه حتى صار كأنه نار ، أضاف الاشتعال الى الرأس لا الى الشعر مع أن المقصود هو بيان ابيضاض الشعر.

وانظر الى طرفة بن العبد تره قد نسب إبداء المجهول الى الأيام وهي لا تظهره بل يظهر فيها ، ويستبين من أمره ما كان خفيا ، في قوله :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

__________________

(١) سورة مريم الآية ٤.


وقد جعل ذلك شيمة الزمان وطبيعة الحدثان ، في كل عصر وأوان ، ولا تجد ذلك المعنى مستبينا اذا أنت قد قلت : سيبدو على صفحات الزمان ما كان أمره خفيا ، وما لم تجده من الشؤون جليا.

تدريب أول

بيّن المجاز العقلي واذكر علاقته فيما يلي :

١ ـ أهلكنا الليل ، والنهار معا

والدهر يغدو مصمما جذعا (١)

٢ ـ ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

٣ ـ ولما رأيت الخيل تترى أثائجا

علمت بأن اليوم أحمس فاجر (٢)

٤ ـ وكل امرىء يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

٥ ـ محا البين ما أبقيت عيون المها مني

فشبت ولم أفض اللباثة من سني

٦ ـ سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر

لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري

الاجابة

١ ـ إسناد الإهلاك الى الليل والنهار مجاز عقلي علاقته الزمانية ، لأن الفاعل هو الله ، وهذان زمنان له.

٢ ـ الأيام لا تظهر مجهولا ، بل يظهر ذلك فيها ، فهو مجاز عقلي ، علاقته الزمانية.

٣ ـ وصف اليوم بالفجور مجاز ، علاقته الزمانية ، لأن الفجور صفة لما يقع فيه.

٤ ـ العز ينبت في المكان ، ولا ينبته المكان ، فهو مجاز عقلي ، علاقته المكانية.

٥ ـ إسناد المحو الى البين مجاز عقلي ، علاقته السببية ، لأن البين لا يمحو شيئا بل هو سبب فيه.

__________________

(١) المصمم من الإبل الصابر على السير أو الماضي فيه ، والجذع الشاب الحدث.

(٢) تترى : تتتابع ، والأثائج : الصائحات ، والأحمس : الصلب الشديد ، والفاجر : المنبعث في المعاصي.


٦ ـ الجيزة لا تسأل ، بل يسأل أهلها ، فوقوع السؤال على الجيرة مجاز عقلي في النسبة الايقاعية والعلاقة المكانية ، ويصح أن يكون في هذا مجاز بالحذف ، أو مجاز مرسل.

تدريب ثان

بيّن المجاز العقلي واذكر علاقته فيما يلي :

١ ـ الدهر يفترس الرجال فلا تكن

ممن تطيشهم المناصب والرتب

٢ ـ إن البلية من تمل كلامه

فانقع فؤادك من حديث الوامق (١)

٣ ـ نعم المعين على المروءة للفتى

مال يصون عن التبذل نفسه

٤ ـ ملكنا فكان العفو منا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطح

٥ ـ (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)(٢)

٦ ـ (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً)(٣)

الاجابة

١ ـ في اسناد يفترس الى ضمير الدهر مجاز عقلي علاقته الزمانية ، وفي اسناد تطيش الى المناصب والرتب مجاز عقلي علاقته السببية.

٢ ـ في اسناد الوامق الى المفعول مجاز علاقته للمفعولية إذ المراد سر نفسك بمحادثة الموموق أي المحبوب.

٣ ـ في اسناد الاعانة والصيانة الى المال مجاز عقلي علاقته السببية.

٤ ـ في اسناد سال الى الأبطح مجاز عقلي علاقته المكانية إذ الدم سال فيه لا منه.

٥ ـ في اسناد الفاعل وهو آمن الى المفعول وهو الحرم مجاز عقلي علاقته المفعولية.

٦ ـ في اسناد المفعول وهو مستور الى الفاعل وهو الحجاب مجاز عقلي علاقته الفاعلة.

__________________

(١) نقع بالشراب استشفى منه وكذا بالخبر.

(٢) سورة القصص الآية ٥٧.

(٣) سورة الإسراء الآية ٤٥.


تمرين أول

بيّن المجاز العقلي واذكر علاقته فيما يلي :

١ ـ لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطي بنائم

٢ ـ الدهر لازم بين فرقتنا

وكذاك فرق بيننا الدهر

٣ ـ وكذاك سر المرء ان لم يطوه

نشرته ألسنة تزيد وتكذب

٤ ـ ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

٥ ـ والهم يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبي ويهرم

٦ ـ يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير الى الأعداء تأويب

تمرين ثان

بيّن المجاز العقلي واذكر علاقته فيما يلي :

١ ـ (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ).

٢ ـ هذا يوم عصيب.

٣ ـ منزل عامر بنعم الله.

٤ ـ ذاك مشرب عذب.

٥ ـ هذا مركب فاره.

٦ ـ (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا).

٧ ـ سار بي الحنين الى لقائك.

٨ ـ هذا منزل ساكن.

٩ ـ قال تعالى : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ).)

١٠ ـ تنام وما ليل المضيم بنائم.


الباب الثالث في الكناية

وفيه أربعة مباحث وخاتمة

المبحث الأول في تعريفها

الكناية لغة أن تتكلم بشيء وتريد غيره ، وقد كنوت بكذا عن كذا ، أو كنيت اذا تركت التصريح به ، أنشد الجوهري :

وإني لأكنو عن قذور بغيرها

وأعرب أحيانا بها وأصارح

وفي الاصطلاح تطلق على معنيين :

١ ـ المعنى المصدري الذي هو فعل المتكلم ، أعني ذكر اللفظ الذي يراد به لازم معناه مع جواز إرادته (١) معه.

٢ ـ اللفظ المستعمل فيما وضع له ، لكن لا ليكون مقصودا بالذات ، بل لينتقل منه الى لازمه المقصود لما بينها من العلاقة واللزوم العرفي ، وعلى هذا التعريف فهي حقيقة لاستعمال اللفظ فيما وضع له ، لكن لا لذاته ، بل لينتقل منه الى لازمه فمعناه مراد لغيره مع استعمال اللفظ فيما وضع له ، واللازم مراد لذاته ، لا مع استعمال اللفظ فيه ، فهو مناط الإثبات والنفي والصدق والكذب (٢).

تفسير هذا أن العرب تلفظ أحيانا بلفظ لا تريد منه معناه الذي يدل عليه بالوضع ، بل تريد منه ما هو لازم له في الوجود بحيث اذا تحقق الأول تحقق الثاني عرفا وعادة ، فنقول : فلان رحب الصدر ، ونقصد أنه حليم من قبل أن الحليم يكون ذا أناة وتؤدة ولا يجد الغضب اليه سبيلا ، لما في صدره من السعة لاحتمال

__________________

(١) أي مع جواز إرادة المعنى الحقيقي مع اللازم كما ستعلم بعد.

(٢) فقولك : فلان طويل النجاد تريد طول القامة يكون الكلام صحيحا وإن لم يكن له نجاد قط بل قد يستحيل المعنى الحقيقي كما سيأتي.


كثير من الحفائظ والأضغان كما يحتمل الصندوق الواسع كثيرا من المتاع والماعون ، وتقول : فلانة تؤوم الضحى ، وتقصد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها من الخدم والحشم ، فهم يقومون بتدبير شؤون المنزل ، وقضاء الحوائج البيتية ، فلا تحتاج الى القيام مبكرة من النوم فأولئك قد كفوها مؤونة التعب والنصب.

(الفرق بينها وبين المجاز) مما سلف تعلم الفرق بين الكناية والمجاز هو أن الأولى لا يمتنع معها إرادة المعنى الأصلي ، فيسوغ في المثالين المتقدمين أن تريد أنه واسع الصدر حقيقة وأنها تنام حقا الى وقت الضحى ، وقد تمتنع إرادة المعنى الأصلي فيها أحيانا لخصوص الموضوع ، نحو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١) كناية عن الاستيلاء والملك ، (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٢) كناية عن قوة التمكن وتمام القدرة ، الى غير ذلك (٣).

أما قرينة المجاز فتمنع من إرادة المعنى الأصلي ، فلا يسوغ إرادة الأسد المفترس في قولك : رأيت أسدا في الميدان يضرب يمينا وشمالا.

المبحث الثاني في أقسامها من حيث المكنى عنه

تنقسم الكناية من حيث المكنى عنه الى ثلاثة أقسام :

١ ـ كناية يطلب بها صفة من الصفات كالجود والكرم ودماثة الأخلاق ، الى غير ذلك ، وهي ضربان :

(أ) قرينة ، وهي ما ينتقل منها إلى المطلوب بها بلا واسطة سواء أكانت واضحة كقولهم كناية عن طويل القامة طويل النجاد (٤) ، وقول الحماسي :

أبت الروادف والثدى لقمصها

مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا

كنى عن كبر الإعجاز ونهود الثدى بارتفاع القميص عن أن يمس بطنا أو ظهرا.

__________________

(١) سورة طه الآية ٥.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٧.

(٣) فهذان ونحوهما كنايات من غير لزوم كذب لأن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وطلب دلالته عليه إنما هو لقصد الانتقال منه الى لازمه المراد.

(٤) النجاد : حمائل السيف ، وقد اشتهر استعمال طويل النجاد في طويل القامة.


وهذا من بديع الكناية ، أم خفية يتوقف الانتقال منها الى اللازم على التأمل وإعمال الرؤية ، كقولهم كناية عن الأبله هو عريض القفا ، إذ يزعمون أن عرض القفا وعظم الرأس اذا أفرطا دلا على الغباوة ، أو ما ترى ، الى قول طرفة :

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحية المتوقد

(ب) بعيدة ، وهي ما ينتقل منها الى المطلوب بها بواسطة كقولهم في الكناية عن المضياف : هو كثير الرماد ، فإنه ينتقل الذهن من كثرة الرماد الى كثرة الطبائخ ، ومنها الى كثرة الرماد ، ومنها الى كثرة الضيفان ، ثم الى المضيافة ، وهي المقصودة ، ونظيره قول الآخر :

وما يك في من عيب فإني

جبان الكلب مهزول الفصيل

فإن الذهن ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يقصد دارا هو مقيم على حراستها والعس دونها ، مع أن ذلك ليس من طبعه ، الى أنه قد دام زجره وتأديبه حتى تغير عن مجرى عادته ، ثم الى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه ، ومن ذا الى كونه ملجأ للقاصي وللداني ، ومن ذا الى أنه مشهور بحسن قرى الأضياف.

وكذا ينتقل من هزال الفصيل الى فقد الأم ، ومن ذا الى قوة الداعي الى نحرها مع كمال عنايتهم بالنوق ، خصوصا المثالي (١) منها ، ومن هذا الى صرفها الى الطبائخ ، ومن ذا الى أنه مضياف.

٢ ـ كناية ، يطلب بها موصوف ، نحو قولك كناية عن الأسد : قتلت ملك الوحوش ، وشرطها الاختصاص بالمكنى عنه ليحصل الانتقال منها اليه ، وهي ضربان :

(أ) ما هي معنى واحد بأن يتفق في صفة اختصاصها بموصوف معين فتذكر تلك الصفة ليتوصل بها الى ذلك الموصوف كمجامع الأضغان كناية عن القلوب في قوله :

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (٢)

__________________

(١) المتالي من أتلت الناقة اذا تلاها ولدها.

(٢) الضاربين منصوب على المدح وكذا الطاعنين ، والأبيض : السيف ، والمخذم : القاطع.


ونحوه قول البحتري في قصيدته التي وصف فيها قتلة للذئب :

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرعب والحقد (١)

ففي الشطر الثاني ثلاث كنايات ، كل منها مستقل بإفادة الغرض ، لا كناية واحدة ، فقوله : بحيث يكون اللب ، الرعب ، الحقد ، ثلاثتها عن كناية القلب ، إذ هو محل العقل والخوف والضغينة.

(ب) ما هي مجموع معان بأن تؤخذ صفة فتضم الى صفة ثانية ، ثم ثالثة ، فتكون جملتها مما يختص بالموصوف ، فمتى ذكرت توصل بها اليه كقولهم كناية عن الإنسان : إنه حي مستوي القامة عريض الأظفار ، فمجموع هذه الأوصاف هو الثلاثة المختص بالإنسان لا كل واحد (٢) منها.

٣ ـ كناية ، يطلب بها نسبة (٣) ، أي ثبوت أمر لأمر ، أو نفيه عنه ، كما يقولون : المجد بين ثوبيه ، والكرم بين برديه (٤) ، فهم لم يصرحوا بثبوت المجد والكرم له ، بل كنوا عن ذلك بكونهما بين برديه وبين ثوبيه ، وكقول زياد الأعجم في مدح عبد الله بن الحشرج وكان أمير نيسابور :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فإنه أراد أن يثبت هذا الصفات خلالا للممدوح لكنه لم يصرح بذلك فيقول :

إنها مجموعة فيه ، أو مقصورة عليه ، أو نحو ذلك ، بل عدل الى ما أنت تراه فجعلها في قبة مضروبة عليه لتمكنه أن يثبتها للممدوح بطريق الكناية ، لأنه اذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبت له ، ومثل هذا وإن كان في حلة أبدع ووشى أغرب قول حسان :

بنى المجد بيتا فاستقرت عماده

علينا فأعيا الناس أن يتحولا

وقول أبي نواس :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن بصير الجود حيث يصير

__________________

(١) ضمير أتبعتها يعود الى الطعنة ، والنصل حديدة السيف.

(٢) ويسمى هذا خاصة مركبة.

(٣) ضابطها أن يصرح بالصفة ويقصد باثباتها لشيء له صلة بالموصوف وارتباط به الكناية عن إثباتها للمراد وهو الموصوف بها بخلاف كناية الصفة فانه لا يصرح فيها بالصفة المرادة.

(٤) هما الأزار والرداء وهما الثوبان.


وقول الآخر : «وحيثما يك أمر صالح تكن».

ففي كل هذا توصل الى إثبات للممدوح بإثباتها في المكان الذي يحل فيه ، ولزومها بلزومه حيثما كان ، وعلى هذا المسلك يحمل قولهم : مثلك لا يبخل.

قال في «الكشاف» : نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم اذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه ، ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، فإنه أبلغ من قولك : أنت لا تخفر ، انتهى.

المبحث الثالث في أقسامها من حيث الوسائط

تنقسم الكناية باعتبار الوسائط الى أقسام أربعة :

١ ـ تعريض (١) وهو خلاف التصريح واصطلاحا ما أشير به الى غير المعنى بدلالة السياق ، كما تقول : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ، فالمعنى الأصلي انحصار الاسلام فيمن سلم الناس من يده ولسانه ، والمعنى الكنائي اللازم للمعنى الأصلي انتفاء الاسلام عن المؤذي مطلقا ، وهو المعنى المقصود من اللفظ ، ويشير بسياقه الى نفي الاسلام عن المؤذي الذي تكلمت عنده.

ومن لطيف ذلك ما كتبه عمر بن مسعدة وزير المأمون الى المأمون يوصيه على بعض أصحابه : أما بعد ، فقد استشفع بي فلان الى أمير المؤمنين ليتطول (٢) في إلحاقه بنظرائه ، فأعلمته بأن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين ، وفي ابتدائه بذلك بعد عن طاعته ، فوقع المأمون في كتابه : قد عرفنا نصيحتك له وتعريضك لنفسك وأجبناك اليهما.

٢ ـ تلويح ، وهو لغة أن تشير الى غيرك من بعد واصطلاحا كناية كثرت فيها الوسائط بين اللازم والملزوم ، نحو : (أولئك قوم يوقدون نارهم في الواد) كناية عن بخلهم ، فقد انتقل من الايقاد في الوادي المنخفض ، الى إخفاء النيران ، ومن هذا الى عدم رغبتهم في اهتداء ضيوفهم اليها ، ومن ذا الى بخلهم ، ونحوه ما تقدم من قولهم : هو جبان الكلب ، ومهزول الفصيل.

__________________

(١) قد يكون التعريض كناية كما في هذا المثال ، وقد يكون مجازا.

(٢) يتطول : أي يتكرم من الطول ، وهو الفضل والزيادة.


٣ ـ رمز وهو لغة أن تشير الى قريب منك خفية بشفة ، أو حاجب ، كما قال :

رمزت إلي مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها

واصطلاحا هو كناية قلت وسائطها مع خفاء اللزوم نحو : هو غليظ الكبد ، كناية عن القسوة ، إذ ذلك تتوقف على معرفة ما كان يعتقده العرب من أن الكبد موضع الاحساس والتأثر فيلزم من رقته اللين ومن علظه القسوة ، ونحوه ما سبق.

٤ ـ إيماء وإشارة ، وهي كناية قلت وسائطها ، مع وضوح الدلالة ، كقول أبي تمام يصف إبله مادحا أبا سعيد (١) :

أبين فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد

وقول البحتري يمدح آل طلحة :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول

ومن لطيف ذلك وعجيبه قول بعضهم في رثاء البرامكة :

سألت الندى والجود مالي أراكما

تبدلتما ذلا بعز مؤبد

وما بال ركن المجد أمسى مهدما

فقالا أصبنا بابن يحيى محمد

فقلت : فهلا متما عند موته

فقد كنتما عبديه في كل مشهد

فقالا : أقمنا كي نعزي بفقده

مسافة يوم ثم نتلوه في غد

المبحث الرابع في حسن الكناية وقبحها

الكناية تكون حسنة إن جمعت بين الفائدة ولطف الإشارة كما تقدم لك من الأمثلة ، وقبيحة اذا خلت مما ذكر ، كقول الشريف الرضي يرثي امرأة :

(إن لم تكن نصلا فغمد نصال) ، فهذا من رديء الكنايات ، إذ هذا لا يفيد ما قصده من المعنى ، بل ربما جرّ الى ما يقبح من تهمتها بالريبة.

ونحوه قول أبي الطيب :

إني على شغفي بما في خمرها

لأعف عما في سراويلاتها

قال ابن الأثير : فهذه كناية عن النزاهة والعفة ، إلا أن الفجور أحسن منها ،

__________________

(١) هو أبو سعيد بن يوسف الثغري.


وما ذاك إلا من سوء تأليفها وقبح تركيبها ، وقد أجاد الشريف فيما زلت فيه قدم أبي الطيب فجاء به على وصف حسن وقالب عجيب حيث قال :

أحن الى ما يضمن الخمر والحلى

وأصدف عما في ضمان المآزر

وقريب من بيت المتنبي قول الآخر :

وما نلت منها محرما غير أنني

اذا هي بالت بلت حيث تبول

خاتمة

اتفقت كلمة البلغاء على :

١ ـ أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح ، لأن الانتقال فيهما من الملزوم الى اللازم فهو كدعوى الشيء ببينة.

٢ ـ وعلى أن الاستعارة أبلغ من التشبيه ، ومن المجاز المرسل ، لما فيهما من دعوى الاتحاد ، وأن أبلغ أنواعها الاستعارة التمثيلية ، ثم المكنية ، لاشتمالها على المجاز العقلي الذي هو قرينتها.

٣ ـ وعلى أن الاستعارة سواء أكانت تمثيلية أم مكنية أم غيرهما ، أبلغ من الكناية ، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة.

وليس معنى الأبلغية في كلا من هذه الأمور يفيد زيادة في المعنى نفسه لا يفيدها خلافه ، بل المراد زيادة التأكيد في الاثبات.

قال الإمام عبد القاهر : فليست فضيلة قولنا رأيت أسدا على قولنا رأيت رجلا لا يتميز عن الأسد في جرأته وشجاعته ، أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني ، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني ، وسر هذه المزية والفخامة أنك اذا قلت : رأيت أسدا كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول ، وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده ، وذلك أنه اذا كان أسدا فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة ، وكالمستحيل والممتنع أن يعرى عنها واذا صرحت بالتشبيه فقلت : رأيت رجلا كالأسد ، كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجع بين أن يكون وألا يكون ، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء.


وليست فضيلة قولنا : جم الرماد على قولنا كثير القرى أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني بل هي أن الأول أفاد تأكيد الإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني ، وذلك أن كل عاقل يعلم أن إثبات الصفة بإثبات دليلها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء اليها فتثبتها هكذا ساذجا عقلا ، وذلك أنك لا تدعي دليل الصفة إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط ، كذا في «دلائل الإعجاز» مع اختصار.

أسرار البلاغة في الكناية

الكناية فن من التعبير توخاه العرب استكثارا للألفاظ التي تؤدي ما يقصد من المعاني ، وبها يتنوفون في الأساليب ، ويزينون ضروب التعبير ، ويكثرون من وجوه الدلالة ، انظر الى امريء القيس تجده كنى عن المرأة ببيضة الخدر في قوله :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

وإلى حميد بن ثور نراه كنى عنها بالسّرحة في قوله :

أبى الله إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه (١) تروق

فيا طيب رياها وبرد خلالها

اذا حان من حامي النهار وديق (٢)

وإلى النبي عليه‌السلام وقد كنى عنها بالقارورة في قوله لأنجشه وهو يحدو بنسائه : «رفقا بالقوارير» ، وبها ينصبون الدليل على كل قضية ويقيمون البرهان على كل مدعي ، انظر الى المتنبي وهو يذكر وقيعة سيف الدولة بأعدائه :

فمسّاهم وبسطهم حرير

وصبّحهم وبسطهم تراب

تجده قد أراد أن يبين أنه قهرهم وأذلهم بعد أن كانوا أعزة ، لكنه تلطف في التعبير ونصب الدليل على صحة دعواه ، فأشار الى عزتهم أولا بافتراشهم بسط الحرير ، ثم الى ذلتهم بعد بافتراشهم بسط التراب.

وتأسل قول أبي تمام يمدح أبا سعيد بن يوسف الثغري ويذكر كرمه :

أبين فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد

__________________

(١) شجر عظيم شائك.

(٢) شدة الحر في الهاجرة.


تره قد أبان كرم أبي سعيد بغاية الوضوح من حيث أبان أن إبله أبت إلا أن تزور الكرماء ، ويكفيها أن تزور من بينهم أبا سعيد.

وليس بالخفي ما للكناية من فضيلة في إلباس المعقول ثوب المحسوس ، أتراك تشاهد لطف التعبير ودقة التصوير اذا تأملت الكناية بحمالة الحطب عن النمامة التي تفسد ذات البين وتهيج الشر في قوله تعالى يصف امرأة أبي لهب : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(١) فإنك وأنت تقرؤها يخيل اليك أنها ممسكة حطبها بيديها ، ومشعلة نارا لتوقد العداوة والبغضاء بين قوم ، وتؤلب بعضهم على بعض.

الى ما فيها من حيلة بترك بعض ألفاظ الى ما هو أجمل في القول وآنس للنفس ، ألا ترى اليهم وهم يكنون عن الموت بقولهم : «فلان قد استوفى أكله» أو بقولهم : «لحق باللطيف الخبير» وعن الصحراء بالمفازة وهي مهلكة.

الى ما فيها من حسن التلطف في إطراح الألفاظ المستهجنة كما جاء في القرآن الكريم من الكنايات التي تتعلق بالنساء كالنهي عن أخذ المهور مع ذكر السبب في قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)(٢) ، وقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٣).

الى أنها قد تكون طريقا من طرق الايجاز والاختصار كقوله تعالى كناية عن كثير من الأفعال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٤) وقولهم كناية عن الجامع لكل شيء (هو سفينة نوح).

وأنك لترى فيها من العجب العجاب ومن غريب الصنعة ومن بديع السحر اذا كانت في باب الصناعات الخسيسة والأشياء الحقيرة بذكر منافعها ، كما قيل لحائك : ما صناعتك؟ قال : زينة الأحياء ، وجهاز الموتى.

وقال ابن باقلاني (بائع فول) :

أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره

وإن نزلت يوما فسوف تعود

ترى الناس أفواجا الى ضوء ناره

فمنهم قيام حوله وقعود

__________________

(١) سورة المسد الآية ٤.

(٢) سورة النساء الآية ٢١.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٧.

(٤) سورة المائدة الآية ٧٩.


نموذج أول

بيّن الكناية وأنواعها باعتبار المكنى عنه وباعتبار الوسائط فيما يلي :

١ ـ وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

٢ ـ قال الحجاج : إن أمير المؤمنين نثر كنانته عودا عودا فوجدني أمرها ضرب عودا وأصابها مكسرا فرماكم بي ، والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم غرائب الإبل.

٣ ـ ولا زال بيت الملك فوقك عاليا

تشيد أطناب له عمود

٤ ـ تقول التي من بيتها خف محملي

عزيز علينا أن نراك تسير

٥ ـ أفاضل الناس أغراض لذا الزمن

يخلو من الهم أخلاهم من القطن

٦ ـ يبيت بمنجاة من اللؤم بيتها

اذا ما بيوت بالملامة حلت

الاجابة

١ ـ في مخضوب البنان كناية عن موصوف ، وهي المرأة ، إذ هذه من صفاتها الخاصة بها ، من نوع الإيماء لأن الذهن ينتقل الى ذلك بلا واسطة.

٢ ـ في هذه العبارة كنايات ثلاث :

(أ) ففي قوله : نثر كنانته الى قوله فرماكم بي كناية عن صفة هي البحث والتفتيش عن الأصلح حتى عثر عليه وهي من نوع التلويج لأن الذهن ينتقل من نثر الكنانة الى البحث والتفتيش عن أصلح سهامها ومن ذا الى العثور على ذلك الأصلح ومن ذا الى اختياره من بينها ثم إرساله اليهم لتدبير شئونهم.

(ب) وفي قوله : لأحزمنكم حزم السلمة كناية عن صفة هي الضغط عليهم والبطش بهم من نوع الإيماء.

(ج) وفي قوله : لأضربنكم الخ كناية عن صفة هي القسوة في معاملتهم والتنكيل بهم ، وهي من نوع الإيماء.

٣ ـ في هذا البيت كناية عن نسبة هي اتصافه بالملك ، لأن الذهن ينتقل من ملازمته بيت الملك وحلوله في ذلك المكان الى كونه ملكا ، وهي من نوع الإيماء.


٤ ـ كنى أبو نواس بقوله من بيتها خف الخ عن موصوف ، وهي امرأته ، لأن الراحلة إنما تخف من بيت صاحبها في العادة ، فهي كناية عن موصوف ، وهي امرأته لأن الراحلة إنما تخف من بيت صاحبها في العادة فهي كناية عن موصوف من نوع الإيماء لعدم الوسائط.

٥ ـ في قوله : أخلاهم من الفطن كناية عن موصوف وهم الجهال ، وهي من نوع الإيماء.

٦ ـ في هذا البيت كناية عن نسبة هي إثبات النزاهة لها ونفي الفجور عنها ذاك أنه نبه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنها ، ومن ذا الى براءتها من كل ما يشينها ، وهي من نوع الايماء.

نموذج ثان

بيّن أنواع الكناية من حيث المكنى عنه ومن حيث الوسائط :

١ ـ قال زياد بن أبيه : وإني لأقسم بالله لآخذنّ الولي بالمولى ، والمقيم بالظاعن ، والمطيع بالعاصي ، حتى يلقي الرجل قاتل أبيه فيقول : «انج سعد فقد هلك سعيد» (١) ، أو تستقيم لي قناتكم (٢).

٢ ـ (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)(٣).

٣ ـ وأقبلت يوم جد البين في حلل

سود تعض بنان النادم الحصر (٤)

٤ ـ أريد بسطة كفّ أستعين بها

على قضاء حقوق للعلا قبلي

٥ ـ لا أمتع العوذ بالفصال ولا

أبتاع إلا قريبة الأجل (٥)

٦ ـ فصبّحهم وبسطهم حرير

ومسّاهم وبسطهم تراب

__________________

(١) مثل أصله أسعد أم سعيد يضرب للفشل أو الظفر بالبغيه.

(٢) القناة الرمح ، والعصا المستوية.

(٣) الدسر جمع دسار وأصله خيط من ليف تشد به ألواح السفينة (سورة القمر).

(٤) الحصر : البخيل.

(٥) العوذ جمع عائذ الحديثة النتاج من الظباء والابل ، والفصال جمع فصيل ولد الناقة.


الاجابة

١ ـ في هذه المقالة كنايات عدة ، فقد كنى بقوله : انج سعد الخ ، عن الفرار والهرب ، وهي نوع من التلويح لكثرة الوسائط فيها إذ ينتقل الذهن من قولهم هذا الى السبب الباعث على ذلك ، وهو الخوف من الفتك بهم ، ومن ذا الى أخذ عدتهم للهرب ، تباعدا عن التنكيل بهم ، الى الهرب وهو المراد ، وكنى باستقامة القناة عن حسن سيرهم واعتدالهم في أمورهم ، وهي كناية عن صفة من نوع الرمز.

٢ ـ كنى الله تعالى بذات الألواح والدسر عن السفينة ، إذ ذاك وصف خاص بها ، فهي كناية عن موصوف من نوع الإيماء ، وكنى بقوله : تجري بأعيننا عن شمول لطفه وعنايته بها ، وهي كناية عن صفة من نوع التلويح لوجود الوسائط إذ ينتقل الذهن من النظر اليها ، الى مراقبتها ، ومن ذا الى الاهتمام بها ، ومنه الى العناية بها.

٣ ـ كنى بعض بنان الندم عن الأسف على فوات المرغوب فيه ، فهو كناية عن صفة من نوع الإيماء.

٤ ـ كنى ببسطة الكف عن الغنى ، فهو كناية عن صفة من نوع الإيماء ، إذ ينتقل الذهن من بسطة الكف ، الى مثلها بالمال ، الى الغنى.

٥ ـ في هذا البيت كنايتان عن صفتين من نوع التلويح ، الأولى كناية عن نحو الفصال ، والثانية كناية عن أنه مضياف ، ذاك أن الذهن ينتقل من عدم امتاعها الى أنه لا يبقى لها فصالها لتأنس بها ويحصل لها الفرح الطبيعي بالنظر اليها ، ومن ذا الى نحرها ، وكذا ينتقل من قرب أجلها الى نحرها ، ومن ذا الى أنه مضياف.

٦ ـ في هذا البيت كنايتان عن صفتين ، وهما العز والذل ، من نوع التلويح إذ كنى بكون بسطهم حريرا عن عزتهم إذ ينتقل الذهن من إحرازهم الرياش والأثاث الفاخر الى غناهم ومن ذا الى كونهم أعزاء ، وكنى بكون بسطهم ترابا عن ذلهم ، إذ ينتقل الذهن من افتراش التراب الى ضياع ما يملكون ، ومن ذا الى كونهم أذلاء.


تمرين أول

بيّن الكناية باعتبار المكنى عنه وباعتبار الوسائط فيما يلي :

١ ـ بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا (١)

٢ ـ أبيني أفي يميني يديك جعلتني

فأفرح أم صيرتني في شمالك (٢)

٣ ـ (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(٣)

٤ ـ (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ)(٤)

٥ ـ روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد فقالت : أشكو اليك قلة الفأر في بيتي فقال : ما أحسن ما روت عن حاجتها ، املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا.

٦ ـ ومن دعا الناس الى ذمه

ذموه بالحق وبالباطل

٧ ـ تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو

ق اليها حيث النحول

تمرين ثان

١ ـ قوم ترى أرحامهم يوم الوغى

مشغوفة بمواطن الكتمان

٢ ـ وإن ذكر المجد ألفيته

تأزر بالمجد ثم ارتدى

٣ ـ ولست بخالع درعي وسيفي

الى أن يخلع الليل النهار

٤ ـ (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(٥)

٥ ـ تعرضت عجوز لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصي ، فقال لها : ألطفت في السؤال ، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا.

٦ ـ اللابس المجد لم تنسج غلائله

إلا يد الصانعين السيف والقلم

٧ ـ ولما سقط في أيديهم

__________________

(١) الصنائع : جمع صنيعة وهي الاحسان ، والمرابع : جمع مربع الموضع يتربعون فيه زمن الربيع ، والمواضي العيوف.

(٢) فان الشيء النفيس يحتفظ به في اليد اليمنى عادة ، والذي لا يؤبه له يوضع في اليسرى.

(٣) ينشأ يربى ، والخصام الجدل (سورة الزخرف).

(٤) سورة البقرة الآية ١٧٤.

(٥) سورة القصص الآية ٣٥.


نموذج عام في البيان

١ ـ جاء في بعض الجرائد أن ظفر الزعيم سعد زغلول في الانتخابات يسيل له لعاب ساسة الغربيين ، فجميع الروابي التي نشهدها في جميع الأقطار لا تبلغ سفح هذا الجبل.

٢ ـ وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

الاجابة

١ ـ في جملة يسيل الخ ، كناية عن صفة هي الشوق اليه من نوع التلويح ، إذ ينتقل الذهن من سيل اللعاب الى الشيء ، الى شهوته وميل النفس اليه ومحبتها له ، وفي الروابي استعارة تصريحية أصلية مجردة فقد شبه الزعماء بالروابي بجامع العظم وجلالة القدر في كل والقرينة حالية ، وفي قوله : تبلغ سفح هذا الجبل ، استعارة تصريحية مرشحة بكلمة سفح والقرينة حالية.

٢ ـ في نقض النأي مجاز عقلي علاقته السببية لأن البعد سبب النقض وخلف العهد ، وفي العهد استعارة بالكناية حيث شبه العهد بالجبل بجامع أن كلا يفيد الربط ، واستعير لفظ المشبه به للمشبه ، ثم حذف لفظ المشبه ورمز اليه بشيء من لوازمه ، وهو النقض ، على سبيل الاستعارة المكنية الأصلية ، وإثبات النقض للعهد استعارة تخييلية وهي قرينة المكنية ، وفي البنان مجاز مرسل علاقته الجزئية لأن التي تخضب هي الكف كلها ، وفي يمين مجاز مرسل علاقته السببية إذ المراد وفاء باليمين وإنفاذ لما حلفت عليه ، وفي مخضوب البنان كناية عن موصوف وهي المرأة من نوع الإيماء والإشارة ، والشطر الثاني كله استعارة تمثيلية ، لأنه جار مجرى المثل.

مزايا دراسة البيان في صوغ مختلف الأساليب

رأيت فيما سلف ألوانا مختلفة من التعبير وضروبا متنوعة من البيان ، يستطيع المتكلم أن يجعلها قبلة أنظاره اذا أراد صياغة المعاني في القوالب التي يراها أليق بغرضه وأبلغ لمقصده ، ويحوك بها ما شاء أن يحوكه من شريف المعاني التي تجيش بخاطره وتعلق بصدره فإذا طرق باب المديح وأراد وصف ممدوحه بالكرم والجود أمكن أن ينحو نحو مسلم بن الوليد حين مدح زيد بن مسلم الحنفي من وائل فقال :


ولو أن في كبد السماء فضيلة

لسما لها زيد الجواد فنالا

يا زيد آل يزيد ذكرك سؤدد

باق وقربك يطرد الإمحالا

نفحات كفك يا ذؤابة وائل

تركت عليك الراغبين عيالا

فيؤدي المعنى على حقيقته دون مبالغة ولا إغراق ، أو حين يمدح جعفر بن يحيى البرمكي فيقول :

تداعت خطرب الدهر عن جابر جعفر

وأمسك أنفاس الرغائب سائله

هو البحر يغشى سرة الأرض سيبه

وتدرك أطارف البلاد سواحله

فلو لم يكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

فهو قد شبهه بالبحر اللجي ، يعم فيضه الآفاق ، وتدرك سواحله أطراف البلاد ، أو نحو أبي نواس وهو يمدح الخطيب :

أنت الخطيب وهذه مصر

فتدفقا فكلاكما بحر

ويحق لي اذا صرت بينكما

ألا يحل بساحتي فقر

فجعله كالبحر المتدفق الذي اذا حل ببلدة عمها الخصب وفارقها الجدب ، أو نحو قول البحتري يمدح يوسف بن محمد :

أدراهم الأولى بداره جلجل

سقاك الحيا روحاته وبواكره

وجاءك يحكي يوسف بن محمد

فروتك رباه وجادك ماطره

إذ لم يشأ إلا أن يجعل الغيث يشبهه في فيضه ، وبالغ في التشبيه ، وافتن في الأسلوب ، وعكس ما ألفه الناس من تشبيه الجواد بالغيث والبحر ، ثم انظر إلى قول الآخر :

إذ ما رأيت رأيت البحر يبسط كفه

فلا تخش إقلالا من الدهر أو عدما

فقد لجأ في وصف ممدوحه بالكرم الى الاستعارة المصرحة وهي كما تعلم أبلغ من التشبيه وأعلى كعبا لما فيها من دعوى الاتحاد بين المشبه والمشبه به ، وقول أبي العتاهية :

للجود باب في الأنام ولم تزل

يمناك مفتاحا لذاك الباب

فقد جعل للجود بابا مفتاحه في يد الممدوح اليمنى على سبيل الاستعارة المكنية وقول المتنبي في مدح كافور :


قواصد كافور توارك غيره

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فصوّر لك ما يلقاه قاصدو ممدوحه من الغنى والثروة ، وأن من لا يبغي سواه ، كما أن من قصد البحر تأبى همته أن ينظر الى الجداول والغدران.

وهذه استعارة تمثيلية لها أثرها من البهجة والجمال الذي تحس به وتتذوقه ، وقول أبي نواس في الفضل بن الربيع :

وكلت بالدهر عينا غير غافلة

من جود كفك تأسو كل ما جرحا

فأضاف الجود الى الكف ، والجود ينسب عادة الى الممدوح من قبيل إضافة ما للكل الى الجزء على سبيل المجاز المرسل ، وقول مسلم :

تظلم المال والأعداء في يده

لا زال للمال والأعداء ظلاما

إذ كنى عن كثرة عطاياه وقتاله للأعداء وإفنائه إياهم بالتظلم من يده.

وللكناية أثرها البعيد في تثبيت المعنى في النفس وحسن تصويرها ، فهي تهش له وترتاح.

فها أنت ذا قد رأيت في وصف الجود ضروبا وألوانا مختلفة من التعبير وفنونا شتى من القول ، وهكذا ينفسح مجال الكلام أمام البليغ ، وتتشعب طرقه في أي معنى من المعاني التي يقصد القول فيها ، ولكن بعضها كما رأيت أبلغ من بعض بالنظر الى مقتضيات الأحوال ، فما يصلح لمقام لا يصلح مثله لآخر ، وهذا هو سر البلاغة ، فقد يكون المقام داعيا الى التشبيه لا الاستعارة ، وقد يكون الأنسب العكس ، فقد يكون المقام يدعو الى الكناية.

فتلك الصور المختلفة والأساليب المتنوعة هي موضوع علم البيان الذي درست مسائله ، فإذا أنت جعلتها رائدك في صوغ المعاني ، هدتك الصراط المستقيم ، وبلغت بك الغاية التي تسعى اليها.

ولكن دراسة العلم وحدها ، والوقوف على شواهد يسيرة من كلام الفصحاء والبلغاء لا يبلغان بك الى المقصد ، كما لو درست قواعد الحساب مثلا وحللت مسائل قليلة لكل قاعدة ، فإن هذا لا يكسبك الملكة التي بها تستطيع أن تحل كثيرا من المسائل ، بل لا بد للملكة من التمرين وممارسة حل كثير من المسائل المختلفة ، حتى تتكون لديك.


فبلاغة القول ورشاقة التعبير ورصانته وإصابة المرمى من نفس السامع تحتاج الى إدمان القراءة في كتب الأدب ، والوقوف على متنوع الأساليب ، من أقوال الكتاب والشعراء والخطباء ، وحفظ ما يمكنك حفظه من منثورهم ومنظومهم.

ولا نرى كاتبا بليغا ولا شاعرا مجيدا إلا جال في مختلف الأساليب الشعرية والنثرية جولة صادقة ، وروى عن عذبها ، وغاص في بحارها ، واستخرج من دررها.

فعليك أيها القارىء من الإكثار من القراءة فيما خلفه لنا العرب من تراث أدبي من النظيم والنثير في مختلف العصور ، فإنك إن فعلت ذلك ظفرت بملكة مواتية وحظ من الأدب عظيم.


علم البديع

البديع لغة : الجديد المخترع لا على مثال سابق ولا احتذاء متقدم ، تقول : بدع الشيء وأبدعه ، فهو مبدع ، وفي التنزيل : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)(١).

واصطلاحا : علم تعرف به الوجوه والمزايا التي تكسب الكلام حسنا وقبولا بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي يورد فيها ووضوح الدلالة على ما عرفت في العلمين السالفين (٢).

(واضعه) أول من دوّن قواعده ووضع أصوله عبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ٢٧٤ ه‍ ، فقد استقصى ما في الشعر من المحسنات وألف كتابا ترجمه باسم «البديع» ذكر فيه سبعة عشر نوعا وقال : «ما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني الى تأليفه مؤلف ومن رأى إضافة شيء من المحاسن اليه فله اختياره».

ثم ألّف معاصره جعفر بن قدامه كتابا سماه «نقد قدامه» ذكر فيه ثلاثة عشر نوعا زيادة على ما أملاه ابن المعتز.

ثم جاءت التآليف تترى ، فألف فيه أبو هلال العسكري وجمع سبعة وثلاثين نوعا ، ثم ابن رشيق القيرواني فجمع مثلها في كتاب «العمدة» ، ثم جاء شرف الدين النيفاشي فبلغ بها السبعين.

ثم ألّفت البديعيات ، فألف زكي الدين بن أبي الأصبع بديعيته ، وأوصل الأنواع الى التسعين ، ثم جاء بعده صفي الدين الحلي فأوصلها الى مائة وأربعين ، ونظم قصيدة ميمية في مديح النبي عليه‌السلام ، وذكر اسم كل نوع في بيت.

__________________

(١) سورة الاحقاف الآية ٩.

(٢) أي فالمستفاد من علم البديع الحسن العرض ، والمستفاد من العلمين السالفين الحسن الذاتي.


ومن بعده جاء عز الدين الموصلي فذكر مثل ما ذكره سالفه ، مع زيادة يسيرة من ابتكاره ، وهكذا ارتقت التآليف صعدا وزيدت الأنواع وكبرت البديعات في هذا العلم كبديعة ابن حجة الحموي وقد شرحها في كتاب سماه «خزانة الأدب» وبديعة عبد الغني النابلسي وقد جاوز بها المائة والستين نوعا.

أقسام المحسنات

تنقسم المحسنات الى قسمين :

١ ـ محسنات معنوية ، وهي التي يكون التحسين بها راجعا الى المعنى أولا وبالذات ، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين (١) اللفظ أيضا كالطباق بين يسرّ ويعلن في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٢) ، وعلامتها أنه لو غير اللفظ بما يرادفه فقيل مثله : يعلم ما يخفون وما يظهرون ، لم يتغير المحسن المذكور.

٢ ـ محسنات لفظية ، وهي التي يكون التحسين بها راجعا الى اللفظ أصالة وإن حسنت المعنى أحيانا تبعا كالجناس في قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)(٣) ، فالساعة الأولى يوم القيامة والساعة الثانية واحدة الساعات الزمنية ، وعلامتها أنه لو غير اللفظ الثاني الى ما يرادفه زال ذلك المحسن ، فلو قيل : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا قليلا لضاع ذلك الحسن.

المحسنات المعنوية

المحسنات المعنوية كثيرة ، لكنا رأينا ألا نذكر منها إلا ما اشتهر أمره ، وأهم الناثر والشاعر علمه :

__________________

(١) كما سيأتي في العكس في قولهم عادات السادات سادات العادات فان في اللفظ شبه الجناس اللفظي لاختلاف المعنى ، ففيه التحسين اللفظي والغرض الأصلي الاخبار بعكس الاضافة مع وجود الصحة.

(٢) سورة البقرة الآية ٧٧.

(٣) سورة الروم الآية ٥٥.


الطباق ـ المطابقة ـ التكافؤ ـ التضاد

هو لغة الجمع بين الشيئين ، واصطلاحا الجمع بين معنيين متقابلين ، سواء أكان ذلك التقابل تقابل التضاد أو الايجاب والسلب أو العدم والملكة أو التضايف ، أو ما شابه ذلك ، وسواء كان ذلك المعنى حقيقيا أو مجازيا (١).

وهي تنقسم أولا إلى :

(أ) مطابقة بلفظين من نوع واحد ، سواء أكانا اسمين ، نحو : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٢) ، أم فعلين نحو : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)(٣) ، وقوله عليه‌السلام للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع وتلقون عند الطمع» ، أم حرفين نحو : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٤) ، وقول القائل :

ركبنا في الهوى خطرا فإما

لنا ما قد ركبنا أو علينا

(ب) مطابقة بلفظين من نوعين نحو : وأحيي الموتى بإذن الله ، وقوله :

قد كان يدعى لابس الصبر حازما

فأصبح يدعى حازما حين يجزع

والتقابل إما ظاهر كما سبق وإما خفي نحو : أشداء على الكفار رحماء بينهم فإن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة ، وقول أبي تمام :

ما الوحش إلا أن هاتا أو إنس

قنى الخط إلا أن تلك ذوابل

لما في هاتان من القرب وتلك من البعد.

ثانيا الى :

(أ) طباق الايجاب كما سلف لك من الأمثلة.

(ب) طباق السلب ، وهو أن يجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي ،

__________________

(١) مثله أو من كان ميتا فأحييناه.

(٢) سورة الكهف الآية ١٨.

(٣) سورة آل عمران الآية ٢٦.

(٤) لأن في اللام معنى المنفعة وفي على معنى المضرة ، لأن اللام تشعر بالملكية المؤذنة بالانتفاع وعلى تشعر بالعلو الدال على التحمل المؤذن بالتضرر (سورة البقرة).


أو أمر ونهي ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) ، وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٢).

ومن الطباق ما سماه بعضهم التدبيج من دبج الأرض زينها ، واصطلاحا أن يذكر في معنى كالمدح وغيره ألوان لقصد الكناية أو التورية.

فتدبيج الكناية كقول أبي تمام يرثي أبا نهشل محمد بن حميد :

تردى ثياب الموت حمرا فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر

فقد كنى عن القتل بلبس الثياب الحمر وعن دخول الجنة بخضر السندس ، إذ هو من شعار أهلها ، وجمع بين الحمرة والخضرة على سبيل الطباق.

وتدبيج التورية كقول الحريري : فمذ ازورّ المحبوب الأصفر واغبر العيش الأخضر ، اسودّ يومي الأبيض وابيضّ فودي الأسود ، حتى رثى لي العدو الأزرق فيا حبذا الموت الأحمر ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر إنسان ذو صفرة ، والبعيد الذهب ، وهو المراد هنا ، فيكون تورية ، وأما بقية العبارة فكناية (٣) ويلحق بالطباق شيئان أحدهما ما يسمى : إيهام التضاد ، وهو الجمع بين معنيين غير متقابلين ، معبرا عنهما بلفظين متقابلين ، كقول دعبل الخزاعي :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

فإن ضحك بمعنى ظهر ، وبكى بمعناه الحقيقي.

وثانيهما : الجمع بين معنيين يتعلق أحدهما بما يقابل الآخر نوع تعلق كالسببية واللزوم ، كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(٤) فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون (٥).

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٢٢.

(٢) سورة المائدة الآية ٤٤.

(٣) اخضرار العيش كناية عن طيبه ونعومته ، والاغبرار عن ضيقه ، والفودان شعر جانبي الرأس مما يلي الأذنين.

(٤) سورة القصص الآية ٧٣.

(٥) وإنما عدل عن الحركة الى ابتغاء الفضل من قبل أن الحركة ضربان : حركة لمصلحة وحركة لمفسدة ، والمراد الأولى لا الثانية.


المقابلة

ومن الطباق نوع يخص باسم المقابلة ، وهي أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر ثم يؤتي بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب.

فمقابلة اثنين باثنين كقوله عليه‌السلام لأم المؤمنين عائشة : «عليك بالرفق يا عائشة فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه».

وقول النابغة الجعدي :

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا

ومقابلة ثلاثة بثلاثة كقوله تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(١).

وقول المتنبي :

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر

ومقابلة أربعة بأربعة ، نحو : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(٢) وتتضح لك مقابلة اتقى باستغنى اذا علمت أن المراد بالاستغناء الزهد فيما عند الله كأنه استغنى عنه ، فلم يتق ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ، فلم يتق.

ومقابلة خمسة بخمسة (٣) كقول أبي الطيب :

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

ومقابلة ستة بستة كقول الآخر (٤) :

على رأس عبد تاج عز يزينه

وفي رجل حر قيد ذل يشينه

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٥٧.

(٢) سورة الليل الآيات ٥ و ٦ و ٧.

(٣) كذا ذكر الواحدي في شرحه لديوان أبي الطيب ، قال في الايضاح : وفيه نظر لأن لي وبي صلتان ليشفع ويغري ، فهما من تمامهما بخلاف اللام وعلى في قوله تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ».

(٤) نسبه بعض الحواشي لعنترة.


مراعاة النظير ـ التناسب ـ الائتلاف

هي أن يجمع في الكلام بين أمرين ، أو أمور متناسبة ، لا بالتضاد ، وبالقيد الأخير يخرج الطباق.

فالجمع بين أمرين كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(١).

وبين ثلاثة كقول البحتري يصف إبلا بالإنضاء والهزال : «كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار»

فقد اختار تشبيهها بالقسى دون العراجين والأطناب (٢) مثلا من أجل أنه أراد تشبيهها بالأسهم والأوتار ، فيحصل بذكرها معها ملاءمة لا تحصل بدونها.

وبين أربعة كقول بعضهم للوزير المهلبي : أنت أيها الوزير إسماعيليّ الوعد ، شعبيّ التوفير ، يوسفي العفو ، محمدي الخلق.

وبين أكثر من أربعة كقول ابن رشيق :

أصح وأقوى ما سمعناه في الندى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا

عن البحر عن جود الأمير تميم

فقد لائم بين الصحة والقوة والسماع والخبر والأحاديث والرواية ، ثم بين السيل والحيا ، أي المطر والبحر ، وكف تميم ، وبذا صار الكلام ملتئم النسج ، محكم التأليف والحوك ، مع ما أدخله في البيت الثاني من حسن الصنعة ، إذ أتى بصحة الترتيب في العنعنة ، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر ، كما يقع في سند الأحاديث ، ألا ترى أن السيول أصلها المطر ، وهو أصله البحر ، وهو أصله كف الممدوح على حسب ما ادعاه مبالغة في المدح.

تشابه الأطراف

من مراعاة النظير ما يسمى : تشابه الأطراف ، وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٣).

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٥.

(٢) العراجين جمع عرجون ، الكياسة والاطناب جمع طنب حبل الخيمة ونحوها.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٠٣.


فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا ، لأن الخبير من له علم بالخفيات ، ومن جملة الخفيات بل الظواهر الأبصار فيدركها.

ويلحق بها ما يسمى إيهام التناسب ، وهو الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظ يكون لهما معنيان متناسبان ، وإن لم يكونا مقصودين هنا ، كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(١) ، فالنجم هنا النبات الذي لا ساق له كالبقول وهو أن لم يكن مناسبا للشمس والقمر يوهم نجم السماء وهو مناسب لهما.

الارصاد ـ التسهيم

الارصاد لغة نصب الرقيب في الطريق والتسهيم جعل البرد ذا خطوط كأنها فيه سهام واصطلاحا أن يجعل قبل آخر الفقرة أو البيت ما يفهمها عند معرفة الروي ، كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢) ، وقول البحتري :

أحلت دمي غير جرم وحرّمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بحرام

فالسامع اذا وقف على قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي ،) بعد الاحاطة بما تقدم علم أنه ليس (إِلَّا الْكَفُورَ) ، والحاذق بمعاني الشعر وتأليفه يعلم بعد أن عرف البيت الأول وصدر الثاني في بيتي البحتري أن ليس عجزه إلا ما قاله.

المشاكلة

هي لغة المماثلة واصطلاحا ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا ، فالأول كقوله عز وعلا : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٣) ، إذ الجزاء على السيئة ليس بسيئة في الحقيقة لكنه سمي سيئة للمشاكلة اللفظية ، وقوله عليه‌السلام : «إن الله لا يملّ حتى تملوا» (٤) ، فقد وضع : لا يمل ، موضع : لا يقطع عنكم ثوابه.

__________________

(١) سورة الرحمن الآيتان ٦ و ٧.

(٢) سورة سبأ الآية ١٧.

(٣) سورة الشورى الآية ٤٠.

(٤) المعنى إن الله لا يقطع عنكم نعمه وفضله حتى تملوا عن مسألته.


وقول أبي الرقعمق ، وقد تظرف ما شاء :

قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

فقد عبر عن خياطة الجبة بالطبخ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام.

والثاني كقوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ)(١) ، وهو مصدر مؤكد لآمنا بالله ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس.

وأصل ذلك أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون إنه تطهير لهم ، فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة الحالية (٢).

المزاوجة

هي لغة مصدر زاوج بين الشيئين قرن بينهما ، واصطلاحا أن يجمع بين الشرط والجزاء في ترتب لازم من اللوازم عليهما معا نحو :

اذا ما بدت فازداد منهما جمالها

نظرت لها فازداد مني غرامها

فقد زاوج بين معنيين هما بدوها وظهورها ونظره لها في الشرط والجزاء في أن رتب عليهما لزوم شيء ، وهو ازدياد الجمال وازدياد الغرام.

ونحوه قول البحتري :

إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى

أصاخ الى الواشي فلج به الهجر

فقد جمع بين الشرط والجزاء في لزوم شيء وهو لجاج الهوى ولجاج الهجر ، ولا يخفى ما في ترتب لجاج الهوى على النهي من المبالغة في الحب لاقتضائه أن ذكرها ولو على وجه العتب يزيد حبها ويثيره كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٣٨.

(٢) فان الصبغ ليس بمذكور في كلام الله ، ولا في كلام النصارى لكن لما كان غمسهم أولادهم في الماء الأصفر يستحق أن يسمى صبغا وإن لم يتكلموا بذلك حين الغمس وكانت الآية نازلة في سياق ذلك الفعل كأن لفظ الصبغ مذكور ، إذ أن المسلمين أمروا أن يقولوا : صبغنا الله تعالى بالايمان صبغة ولم نصبغ صبغتكم.


وما في ترتب لزوم الهجران على وشي الواشي من المبالغة في كون حبه على شفا جرف ، إذ يزيله مطلق الوشاية ، فكيف يكون لو سمع أو رأى عيبا ، كما قال الآخر :

ولا خير في ود ضعيف تزيله

هواتف وهم كلما عرضت جفا

العكس ـ التبديل

هو أن تقدم في الكلام جزءا ، ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت وهو على وجوه ، منها :

١ ـ أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف اليه ذلك الطرف نحو قولهم : عادات السادات سادات العادات (١) ، فالعادات أحد طرفي الكلام ، والسادات مضاف الى ذلك الطرف ، وقد وقع العكس بينهما بأن قدم أولا العادات على السادات ثم السادات على العادات.

ونحوه قول بعضهم لآخر : لم لا تفهم ما يقال؟ فأجاب : لأنك لم تقل ما يفهم.

وقول متصدق : لا سرف في الخير ، ردا على من اتهمه بالتبذير ، وقال له : لا خير في السرف.

وقول المتنبي :

أرى كل ذي ملك اليك مصيره

كأنك بحر والملوك جداول

إذا أمطرت منهم ومنك سحابة

فوابلهم طلّ وطلّك وابل

٢ ـ أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين نحو : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

وقول الحماسي :

رمى الحدثان نسوة آل حرب

بأمر قد سمدن له سمودا (٢)

فرد شعورهن السود بيضا

ورد وجوههن البيض سودا

__________________

(١) أي أن العادة التي تصدر من سيد الناس هي العادة الحسنى التي تستحق أن تسمى سيدة العادات.

(٢) الحدثان نوائب الدهر ومصائبه ، وسمد لها : غفل.


٣ ـ أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين نحو : ما عليك من حسابهم من شيء يوما من حسابك عليهم من شيء ، وقول الحسن البصري : إن من خوّفك حتى تلقى الامن خير ممن آمنك حتى تلقي الخوف ، وقول المتنبي :

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله

ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

الرجوع

هو رجوع المتكلم الى الكلام السابق بنقضه وإبطاله لنكتة كالتحسر والتحزن في قول زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بل وغيّرها الأرواح والديم

فإنه حين وقف على الديار دهش (١) وذهل ، فأخبر بما هو غير حاصل فقال : لم يعفها القدم ثم ثاب اليه رشده فتدارك كلامه وقال : يلي وغيرها الأرواح والديم. ونحو قول الحماسي :

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك وكلا ليس منك قليل

التورية (٢) ـ الايهام ـ التخيير

هي لغة مصدر ورى الخبر اذا ستره وأظهر غيره ، واصطلاحا أن يذكر المتكلم لفظا له معنيان ، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ، ودلالة اللفظ عليه خفية ويريد المعنى البعيد ، ويورى عنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريده ، وهو ليس بمراد ، ومن ثم سميت إيهاما ، كقول لصلاح الصفدي :

وصاحب لما أتاه الغنى

تاه ونفس المرء طماحه

وقيل هل أبصرت منه يدا

تشكرها قلت ولا راحه

فللراحة معنيان : قريب ، وهو الكف ، وهو المتبادر بقرينة ذكر اليد ، وبعيد مراد وهو ضد التعب.

__________________

(١) أي فظن الشيء واقعا وليس هو كذلك ثم عاد الى إبطاله بعد أن أفاق فأخبر بالحقيقة مع التأسف على فوات ما رغب فيه والتحسر على ما رأى.

(٢) الفرق بينهما وبين المجاز والكناية أنه لا يعتبر بين معنى التورية لزوم وانتقال من أحدهما إلى الآخر ولا علاقة بينهما كذلك بخلافهما.


ونحوه قول الآخر :

أيها المعرص عنا

حسبك الله تعالى

وقول الباخرزي صاحب دمية القصر :

يا خالق حملت الورى

لما طغى الماء على جاريه

وعبدك الآن طفى ماؤه

في الصلب فاحمله على جاريه

وهي ثلاثة أضرب :

١ ـ مجردة ، وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المعنى القريب ، نحو قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١) ، للاستواء معنيان : أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود لأن الحق تعالى منزّه عن ذلك ، والثاني : الاستيلاء والملك ، وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور.

وقول أبي بكر ، وقد سئل عن النبي عليه‌السلام حين الهجرة ، فقيل له : من هذا؟ فقال : «هاد يهديني» ، أراد أبو بكر : هاديا يهديني الى الإسلام ، لكنه ورى عنه بهادي الطريق ، وهو الدليل في السفر.

٢ ـ مرشحة ، وهي التي يذكر فيها لازم المورّى به ، وهو المعنى القريب ، وهي قسمان :

(أ) قسم يذكر فيه الترشيح قبلها كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها)(٢) بأيد ، فاليد هنا القدرة ، وهي المعنى البعيد ، وقد قرنت بالبناء الذي يناسب المعنى القريب ، وهو الجارحة ، ونحو قوله :

حملناهم طرا على الدّهم بعد ما

خلعنا عليهم بالطعان ملابسا

فالمعنى القريب للدهم الخيول السود ، وهو ليس بمراد ، والمعنى البعيد القيود من الحديد وهو المراد ، ورشح التورية بذكر حملناهم المناسب للمعنى القريب.

(ب) قسم يذكر بعدها ، كقوله :

__________________

(١) قال الزمخشري : ولا ترى بابا في البيان أدق وألطف من هذا الباب ولا أعون على تعاطي تأويل المشبهات من كلام الله وكلام رسوله وكلام صحابته رضي‌الله‌عنهم أجمعين (سورة طه).

(٢) سورة الذاريات الآية ٤٧.


أقلعت عن رشف الطلا

واللثم في خد الحبب

وقلت هذي راحة

تسوق للقلب التعب (١)

فالمعنى القريب للراحة ضد التعب وليس بمراد ، والآخر بمعنى الخمر ، وهو المراد ، ورشحه بذكر التعب بعده.

٣ ـ مبينة ، وهي ما قرنت بما يلائم المعنى البعيد ، كقول ابن سناء الملك :

أما والله لو لا خوف سخطك

لهان عليّ ما ألقى برهطك

ملكت الخافقين فتهت عجبا

وليس هما سوى قلبي وقرطك

فالمعنى القريب للخافقين : المشرق والمغرب ، وذا ليس بمراد ، والمعنى البعيد المراد القلب ، والقرط ، وقد بينه الشاعر بالنص عليه.

الاستخدام

هو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة ضمير أو إشارة عليه بمعنى آخر ، أو إعادة ضميرين عليه تريد بثانيهما غير ما تريد بأولهما ، فالأول كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،) فالمراد بالشهر الهلال وبضميره الزمان المعلوم.

وقول ابن معتوق الموسوي المتوفى سنة ١٠٢٥ ه‍ :

تالله ما ذكر العقيق وأهله

إلا وأجراه الغرام بمحجري

إذ المراد بالعقيق الوادي الذي بظاهر المدينة ببلاد الحجاز وبالضمير الذي يعود اليه الدم الأحمر الشبيه بالعقيق.

والثاني ، كقوله :

رأى العقيق فأجرى ذاك ناظره

متيم لج في الأشواق خاله

فقد أراد بالعقيق أولا المكان ، ثم أعاد اسم الإشارة اليه بمعنى الدم.

والثالث ، كقول شوقي يخاطب الإله جل وعلا :

العقل أنت عقلّته وسرحته

وأحرت فيك دليله وأرحته

آتيته الحجر الأصم ونحتة

والنجم يعبد فوقه أو تحته (٢)

__________________

(١) الطلا ما طبخ من عصير العنب ، والحبب الفقاقيع التي تعلو في الكأس.

(٢) أحرته أي بالشك وأرحته أي باليقين ، ومفعول يعبد محذوف أي يعبدك.


فالنجم يطلق على ما لا ساق له من النبات وعلى الكواكب وقد أعاد اليه الضمير الأول في فوقه بمعناه الأول ، وفي تحته بمعناه الثاني.

ونحوه قول البحتري :

فسقى الغضا والساكنيه وإن همو

شبوه بين جوانح وقلوب (١)

فقد أراد بضمير الغضا في قوله : والساكنيه المكان ، وفي قوله : شبوه ، أي أوقدوه الشجر.

اللف والنشر

هو ذكر متعدد مفصل أو مجمل ، ثم ذكر ما لكل من آحاده بلا تعيين ، اتكالا على أن السامع يرد الى كل ما يليق به لوضوح الحال (٢).

فالمفصل قسمان :

١ ـ إما مرتب ، كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ،) فقد جمع بين الليل والنهار بواو العطف ، ثم أضيف الى كل ما يليق به ، فأضيف السكون الى الليل ، لأن فيه النوم والراحة ، وابتغاء الرزق الى النهار لما فيه من الكد والعمل.

وقول ابن حيوس :

فهل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

٢ ـ وإما بعكس ترتيب اللقب ، كقول ابن حيوس أيضا :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدا وردفا

فاللحظ للغزال والقد للغصن والردف للحقف وهو الرمل المتراكم.

والمجمل ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٣).

__________________

(١) الغضا : شجر شديد الاشتعال ، يريد الدعاء له ويطلب لأحبابه النازلين به السقيا ، وإن أحرقوا قلبه بنار الجوى.

(٢) أما لقرينة لفظية أو معنوية فالأولى كما تقول رأيت شخصين ضاحكا وعابسة ، فتأنيث عابسة دل على أن الشخص العابس هي المرأة والضاحك هو الرجل والثانية كما تقول : لقيت الصاحب والعدو فأكرمت واهنت.

(٣) سورة البقرة الآية ١١١.


فضمير قالوا لليهود والنصارى على سبيل اللف (١) ، ثم أضيف ما لكل اليه بعد ، إذ التقدير وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.

ونحوه قوله عليه‌السلام : «فإن المرء بين يومين يوم قد مضى أحصى فيه عمله فحتم عليه ، ويوم قد بقي لا يدري لعله لا يصل اليه».

الجمع

هو أن يجمع بين شيئين مختلفين ، أو أكثر ، في حكم واحد ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)(٢).

وقول أبي العتاهية :

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أيّ مفسدة (٣)

وقول ابن الرومي :

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم

في الحادثات اذا دجون نجوم

التفريق

هو أن يعمد المتكلم الى نوعين مندرجين تحت جنس واحد فيوقع بينهما تباينا في المدح أو الذم أو غيرهما كقول الوطواط في المدح :

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء (٤)

وقول صفي الدين الحلي :

فجود كفيه لم تقلع سحائبه

عن العباد وجود السّحب لم يدم (٥)

__________________

(١) لف بين قولي الفريقين ، فلم يبين مقول كل فريق ، ثقة بأن السامع يرد الى كل فريق قوله لما علم من تعادي الفريقين.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٠.

(٣) الجدة الاستغناء ، يقال : وجد في المال وجدا بتثليث الواو وجدة أيضا.

(٤) البدرة : كيس فيه عشرة آلاف درهم.

(٥) أقلعت السحابة : ذهبت.


التقسيم

هو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل اليه على التعيين ، وبقيد التعيين يخرج اللف فإنه لا تعيين فيه ، بل الأمر موكول الى السامع ، وذلك كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)(١).

وقول أبي تمام :

فما إلا الوحي أو حد مرهف

تميل ظباه أخدعي كل مائل

فهذا دواء الداء من كل عالم

وهذا دواء الداء من كل جاهل (٢)

وللتقسيم إطلاقان آخران :

١ ـ ذكر أحوال الشيء مضافا الى كل حال ما يليق بها ، كقول علي كرم الله وجهه : «أحسن الى من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج الى من شئت تكن أسيره».

وقول أبي الطيب :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهمو من طول ما التثموا مرد

ثقال اذا لاقوا خفاف اذا دعوا

كثير اذا شدوا قليل اذا عدّوا

وقوله أيضا :

بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (٣)

٢ ـ استيفاء أقسام الشيء كقوله عليه‌السلام : «هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».

وقول أبي تمام :

إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا

شرا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا

وقول نصيب :

فقال فريق القوم : لا وفريقهم

نعم وفريق وايمن الله ما ندري

__________________

(١) سورة القارعة الآيات ٣ و ٤ و ٥.

(٢) الوحي الاشارة والمرهف السيف والظبا حد السيف والاخدعان عرقان في صفحتي العنق.

(٣) الخوط الغصن الناعم لسنته ، والبان شجر سبط القوام لين ، ورنا نظر.


الجمع مع التفريق

هو أن يجمع بين شيئين في معنى ويفرق بين جهتي الادخال ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً)(١).

وقول رشيد الدين الوطواط :

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرها

فقد شبه وجه الحبيب وقلبه هو بالنار ، ثم فرق بين وجهي المشابهة بأن جعله في الوجه الضوء واللمعان وفي القلب الحرارة والاحتراق.

وقول البحتري :

ولما التقينا والنقا موعد لنا

تعجب رائي البدر منا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

الجمع مع التقسيم

هو جمع أمور متعددة تحت حكم واحد ، ثم تقسيمها أو تقسيمها ثم جمعها ، فالأول كقول المتنبي يمدح سيف الدولة حين غزا خرشنة بأرض الروم ولم يفتحها :

حتى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الروم والصلبان والبيع

للسبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا (٢)

فقد جمع البيت الأول شقاء المقيمين بنواحي تلك البلدة بما يلحقهم من الإهانة ثم فصله في البيت الثاني.

والثاني كقول حسان :

قوم اذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرّها البدع

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ١٢.

(٢) خرشنة بلد بديار بكر ، وأرباض البلد ما حولها (الضواحي) وحتى متعلقة بما قبلها ، وهو قوله :

قاد المقانب أقصى شربها نهل

مع الشكيم وأدنى سيرها سرع

وبعدهما :

الدهر معتذر والسيف منتظر

وأرضهم لك مصطاف ومرتبع


قسم في البيت الأول صفات الممدوحين قسمين ضر الأعداء ، ونفع الأولياء ، ثم جمعها في البيت الثاني بقوله : سجية تلك ، ثم أشار الى شر الأخلاق ما كان مستحدثا مبتدعا لا ما كان غريزة وجبلة.

الجمع مع التفريق والتقسيم

هذا النوع جامع للأنواع الثلاثة المتقدمة ، وقد مثلوا له بقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١) فالجمع في قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) ، لأن النفس متعددة في المعنى إذ هي نكرة في سياق النفي تعمّ ، والتفريق في قوله عزوجل : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، والتقسيم في قوله عز وعلا : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا).

ومن هذا النوع أيضا قول ابن شرف القيرواني :

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى وللخائف الأمن

التجريد

هو لغة : إزالة الشيء عن غيره ، واصطلاحا هو أن ينتزع من أمر ذي صفة أو أكثر ، أمر آخر أو أكثر مثله فيها ، لإفادة المبالغة بادعاء كمال الصفة في ذلك الأمر حتى كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة مبلغا يصح أن ينتزع منه موصوف آخر متصف بتلك الصفة ، فهي فيه كأنها تفيض بمثالاتها لقوتها كما يفيض الماء عن ماء البحر.

وهو أقسام :

١ ـ ما يكون بمن التجريدية كقولهم : لي من فلان صديق حميم ، بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه صديق آخر مثله فيها.

__________________

(١) سورة هود الآيتان ١٠٧ و ١٠٨.


٢ ـ ما يكون بالباء التجريدة الداخلة على المنتزع منه ، نحو : لئن سألت فلانا لتسألن به البحر ، فقد بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا فيها.

٣ ـ ما يكون بدخول باء المعية على المنتزع كقوله :

وشوهاء تعدو بي الى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحل (١)

يريد أنها تعدو بي ومعي من نفسي لكمال استعدادها للحرب.

٤ ـ ما يكون بدخول (في) على المنتزع منه ، نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(٢) ، فإن جهنم هي دار الخلد ، لكنه انتزع منها دارا أخرى وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة.

٥ ـ ما يكون بدون توسط حرف ، نحو قول قتادة بن مسلمة الحنفي :

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة

تحوى الغنائم أو يموت كريم

يعني بالكريم نفسه وقد انتزع من نفسه كريما للمبالغة في كرمه.

٦ ـ ما يكون بطريق الكناية ، نحو قول الأعشى :

يا خير من يركب المطى ولا

يشرب كأسا بكف من بخلا

يريد أنه يشرب الكأس بكف الجواد ، فقد انتزع من المخاطب وهو الممدوح جوادا يشرب هو أي الممدوح بكفه على سبيل الكناية (٣) لأنه اذا نفي عنه الشرب بكف البخيل فقد أثبت له الشرب بكف الكريم ، ومن البين أنه يشرب غالبا بكف نفسه ، فهو حينئذ ذلك الكريم.

٧ ـ ما يكون بمخاطبة الإنسان نفسه فينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سبق لها الكلام ويخاطبه كقول الأعشى :

ودّع هريرة أن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرّجل

__________________

(١) وشوهاء أي فرس قبيحة المنظر لسعة أشداقها ، والمستلئم : اللابس الدرع ، والفنيق : الفحل المكرم.

(٢) سورة فصلت الآية ٢٨.

(٣) حيث أطلق اسم الملزوم الذي هو نفي الشرب بكف البخيل على اللازم ، وهو الشرب بكف الكريم يعني نفسه.


(تنبيهان) الأول ـ قال أبو علي الفارسي في سر تسمية هذا النوع بهذا الاسم أن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله ، فتخرج ذلك المعنى الى ألفاظها مجردا عن الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه ، كقولهم : لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر ، وهو عينه الأسد والبحر إلا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه.

ثم قال : وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره ، كما فعل الأعشى في قوله : «ودع هريرة إن الركب مرتحل»

الثاني ـ لهذا الضرب من الكلام فائدتان :

إحداهما : التمكن من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره لأنه موجه خطابه الى غيره فيكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقول.

ثانيتهما : طلب التوسع في الكلام ، وذا من مزايا اللغة العربية.

المبالغة ـ آراء العلماء فيها ـ أقسامها

هي ادعاء (١) بلوغ وصف في الشدة أو في الضعف حدا مستحيلا أو بعيدا آراء العلماء فيها : للعلماء في المبالغة ثلاثة آراء :

١ ـ الرفض مطلقا ، وحجتهم أن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهاج الصدق من غير إفراط ولا تفريط ، كما قال حسان :

وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه

على المجالس إن كيسا وإن حمقا

فإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال اذا أنشدته صدقا

٢ ـ القبول مطلقا ، وحجة أولئك أن خير الشعر أكذبه ، وأفضل الكلام ما بولغ فيه.

٣ ـ التوسط بين الأمرين ، فتقبل مع الحسن إذا جرت على منهج الاعتدال ، وهذا رأي جمهرة العلماء ، ودليل ذلك وقوعها في التنزيل على ضروب مختلفة ،

__________________

(١) إنما يدعي ذلك خوفا من أن يظن أن ذلك الوصف غير متناه في الشدة أو الضعف ، بل هو متوسط أو دون المتوسط.


وتردّ إذا جاءت على جهة الإغراق والغلو ، ويذم مستعملها ، كما درج على ذلك أبو نواس وابن هانىء الأندلسي والمتنبي وأبو العلاء ، وغيرهم.

(أقسامها) ـ أقسام المبالغة ثلاثة (١) : تبليغ وإغراق وعلو ، لأن المدّعي للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه أولا الثاني الغلو ، والأولى إما أن يكون ممكنا في العادة أولا ، الأول : التبليغ ، والثاني : الإغراق :

١ ـ فالتبليغ (٢) ما يكون المدعي فيه ممكنا عقلا ، وعادة ، كقول امرىء القيس :

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل (٣)

فقد وصف هنا الفرس بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيتين في مضمار واحد ولم يعرق ، وذلك مما لا يمتنع عقلا ولا عادة.

ونظيره قول المتنبي :

وأصرع أيّ الوحش قفيته به

وأنزل عنه مثله حين أركب

فقد مدحه أولا بأنه يلحق كل وحش ولم يستثن شيئا ، ثم عقبه بمدح أعظم ومبالغة أكثر في الشطر الثاني من أجل أنه أفاد به وفرة جريه وشدة صلابته.

٢ ـ والإغراق ما يكون المدعي فيه ممكنا عقلا لا عادة ، وهذا على ضربين :

(أ) وهو أجلبهما الى حسن الاصغاء أن يقترن به ما يقرّ به من نحو لو ولو لا وكاد وكأن ، وإذ ذاك يظهر حسنه ويبهر شكله ، كقول امرىء القيس في وصف محبوبته :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من النمل فوق الإتب منها لأثرا (٤)

فقد وصفها بالرقة ونعومة الجسم ، وقرب الدعوى بلفظ لو حتى جعل السامع يصغي إلى ما يقول.

__________________

(١) انحصارها في هذه الأقسام بالاستقراء وبالعقل.

(٢) التبليغ والإغراق مقبولان في صنعة البديع لعدم ظهور الكذب فيهما الموجب لردها ، وكذا بعض أنواع الغلو.

(٣) عادى عداء والى موالاة بين الصيدين يصرع أحدهما إثر الآخر ، ودراكا متتابعا ، والنضح الرشح.

(٤) المحول ما أتى عليه الحول ، والاتب ما قصر من الثياب وقميص بلا كمين.


ونحوه قول المتنبي :

كفى بجسمي نحولا أنني رجل

لو لا مخاطبتي إياك لم ترني

(ب) أن يجيء مجردا عما ذكر ، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

فقد ادعى أنه يتبع جاره الكرامة حيث سار ، وهذا ليس بجائز في شرعة العادة ، وإن أجازه العقل.

٣ ـ والغلو ما يكون المدعي فيه غير ممكن لا عادة ولا عقلا ، وهذا مسرح الشعراء المفلقين في مدحهم وهجوهم ، وهو على قسمين : مقبول ، ومردود.

فالمقبول أنواع :

١ ـ أن يقترن به ما يقرّ به الى الإمكان كلفظ يكاد في قول ابن حمديس :

ويكاد يخرج سرعة من ظله

لو كان يرغب في فراق رفيق (١)

وأجمل منه قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٢).

٢ ـ أن يتضمن نوعا حسنا من تخييل الصحة ، كقول أبي الطيب :

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (٣)

فقد ادعى تراكم الغبار المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها بحيث صار أرضا يمكن السير عليها ، وهذا وإن كان غير ممكن ، يخيل الى الوهم من ادعاء كثرته وكونه كالجبال صحته ، وقد اجتمع السبب الأول والثاني في قول القاضي الأرّجاني يصف طول الليل :

يخيّل لي أن سمر الشهب في الدجى

وشدت بأهدابي اليهن أجفاني

٣ ـ أن يخرج مخرج الخلاعة والهزل كقوله :

«أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب».

__________________

(١) يصف فرسا بسرعة الجري.

(٢) سورة النور الآية ٣٥.

(٣) السنابك : حوافر الخيل ، والكثير : الغبار ، والعنق : السير السريع ، وضمير عليها يعود للخيل.


فلا شك أن سكره على هذه الصفة محال ، لكن حسّنه الهزل لمجرد سرور المجالس ومضاحكته ، والمردود ما جرى من الاعتبارات المتقدمة كقول أبي نواس يمدح هارون الرشيد :

وأخفت أهل الشرك حتى إنه

لتخافك النّطف التي لم تخلق

وقول أبي الطيب :

كأني دحوت الأرض من خبرتي بها

كأني بنى الاسكندر السد من عزمي

شبه نفسه بالخالق جل وعلا في دحوه الأرض ، ثم فجأة نزل الى الحضيض فشبه نفسه بالاسكندر.

المذهب الكلامي (١)

هو أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة عقلية قاطعة تصح نسبتها الى علم الكلام.

ولم يستشهد على هذا النوع بأعظم من شواهد القرآن ، فمن لطيف ذلك قوله عز وعلا : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢) ، إذ تمام الدليل : لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)(٣) لأن تحليل القياس : القمر آفل وربي ليس بآفل فالقمر ليس بربي.

وقوله عليه‌السلام : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» ، إذ تمام الدليل : لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم.

ويرى أن أبا دلف العجلي قصده شاعر تميمي ، فقال له : ممن أنت؟ فقال : من تميم ، فقال أبو دلف :

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا

ولو سلكت سبل الهداية ضلت

فقال له التميمي : بتلك الهداية جئت اليك ، فأفحمه.

__________________

(١) هذه التسمية تنسب للجاحظ.

(٢) المراد بالفساد خروجهما من النظام الذي هما عليه (سورة الانبياء).

(٣) أي بقياس حملي يفيد أن المجيء اليه ضلال ، لكن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب (سورة الأنعام).


حسن التعليل

هو أن يدعي شاعر أو ثاثر لشيء علة مناسبة غير العلة الحقيقية على جهة الاستظراف وذلك لإيهام تحقيقه وتقريره من قبل أن الشيء معللا آكد في النفس من إثباته مجردا عن التعليل.

وأقسامه أربعة : لأن الوصف إما ثابت قصد بيان علته ، أو غير ثابت أريد إثباته ، والثابت إما ألا يظهر له علة في العادة ، أو يظهر له علة غير المذكورة ، وغير الثابت إما ممكن أو غير ممكن.

١ ـ فالأول ، كقول أبي تمام :

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسيل حرب للمكان العالي

فقد جل علة حرمان الكريم من الغنى هي العلة التي من أجلها حرم المكان العالي السيل ، فكما أن العلو هو السبب في حرمان المكان العالي كذلك علو قدر الكريم هو المانع له من الغنى الذي هو كالسيل في حاجة الخلق اليه.

ومما جاء بديعا نادرا من هذا الضرب قول أبي هلال العسكري :

زعم البنفسج أنه كعذاره

حسنا فسلوا من قفاه لسانه

فخروج ورقة البنفسج الى الخلف مما لا تظهر علته ، لكنه جعلها الافتراء على المحبوب.

٢ ـ والثاني ، كقول المتنبي :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

جرت العادة بأن الملوك إنما يقتلون أعداءهم ليسلموا من أذاهم وضرهم ، لكن أبا الطيب اخترع سببا غريبا وتخيل أن الباعث له على قتل الأعادي لم يكن إلا محبته لإجابة من يطلب الإحسان ، فهو قد فتك بهم لعلمه علم اليقين بأنه اذا غدا للحرب رجت الذئاب والوحوش الضواري أن يتسع عليها رزقها (١) ، وتنال من علوم أعدائه القتلى ، فما أراد أن يخيب لها مطلبا ، ومن لطيف هذا النوع قول ابن المعتز :

__________________

(١) يستفاد من ذلك ضمنا أنه ليس من المسرفين في القتل تشفيا وانتقاما.


قالوا اشتكت عينه فقلت لهم

من كثرة القتل نالها الوصب

حمرتها من دماء من قتلت

والدم في النصل شاهد عجب

٣ ـ والثالث ، كقول مسلم بن الوليد :

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجّى حذارك إنساني من الغرق

فإن استحسان إساءة الواشي ممكن لكنه لما كان مخالفا عليه الناس احتاج الى تعقيبه بذكر سببه وهو حذره من الواشي ، ولأجل ذلك امتنع من البكاء ، فسلم إنسان عينه من الغرق في الدموع.

٤ ـ والرابع ، كمعنى بيت فارسي ، ترجمته :

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

فنية الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ممكنة قصد إثباتها وجعل الدليل على ذلك شدها النطاق.

ومما يلحق بحسن التعليل وليس (١) منه ما بني على الشك كقول أبي تمام :

ربا شفعت ريح الصبا لرياضها

الى المزن حتى جادها وهو هامع

كأن السحاب الغر غيبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهن مدامع

فقد علل على سبيل الشك نزول المطر من السحاب بأنها غيبت حبيبا تحت تلك الربى فهي تبكي عليه.

التفريع

هو أن يثبت حكم لشيء بينه (٢) وبين أمر آخر نسبة وتعلق بعد أن يثبت ذلك الحكم لمنسوب آخر لذلك الأمر ، فلا بد إذا من متعلقين أي شيئين منسوبين لأمر واحد كغلام محمد وأبيه بالنسبة الى محمد ، فمحمد أمر واحد له متعلقان ، أي منسوبان له ، أحدهما غلامه والآخر أبوه ، ولا بد من حكم واحد يثبت لأحد المتعلقين ، وهما الغلام والأب ، بعد إثباته للآخر ، كأن يقال : غلام محمد فرح ففرح أبوه ، فالفرح حكم أثبت لمتعلقي محمد ، وهما غلامه وأبوه ، وإثباته للثاني

__________________

(١) لأن في حسن التعليل ادعاء تحقق العلة والشك ينافيه.

(٢) فخرج نحو قولنا : غلام محمد فرح أيضا لعدم التفريع.


على وجه يشعر بتفريعه عن الأول ، وعليه قول الكميت يمدح آل البيت :

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب

فقد فرع من وصفهم بشفاء أحلامكم لسقام الجهل ووصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

وهو على ضروب ثلاثة :

١ ـ وهو أبلغها أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها ، وذلك هو الغاية القصوى في المدح كقول النابغة الذبياني :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (١)

فقد أثبت لهم شيئا من العيوب بتقدير عد فلول السيف من المعايب ، وهذا محال ، لأن ذلك دليل كمال الشجاعة وفرط الحمية ، فكأنه في المعنى تعليق على المحال ، كما قالوا في الأمثال : حتى يبيض الفار ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، وفي هذا الأسلوب تأكيد من وجهين :

(أ) أنه كدعوى أقيم عليها البرهان ، إذ كأنه استدل على نفي العيب عنهم بتعليق وجوده على وجود ما لا يكون وما لا يتحقق بحال.

(ب) أن الأصل في الاستثناء الاتصال ، فإذا تلفظ المتكلم بغير أو إلا أو نحوهما دار في خلد السامع قبل النطق بما يذكر بعدها أن الآتي مستثنى من المدح السابق ، وأنه يراد به إثبات شيء من الذم وهذا ذم ، فإذا أتت بعدها صفة مدح تأكد المدح لكونه (٢) مدحا على مدح في أبهى قالب وآنق منظر.

ونظيره قول ابن الرومي :

وما تعتريها آفة بشرية

من النوم إلا أنها تتخير

كذلك أنفاس الرياض بسحره

تطيب وأنفاس الرياض تغير

__________________

(١) الفلول جمع فل بفتح الفاء الكسر يصيب السيف في حده ، والقراع المقارعة والمضاربة ، والكتائب جمع كتيبة.

(٢) وللاشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر الى استثناء صفة المدح وتحويل الاستثناء من متصل الى منقطع.


وقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(١).

٢ ـ أن يثبت لشيء صفة مدح وتعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى كقوله عليه‌السلام : «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش».

وقال النابغة الجعدي :

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد فما يبقي من المال باقيا

وهذا الضرب يفيد التأكيد من الوجه الثاني فقط ، ومن ثم كان الضرب الأول أبلغ وأجمل.

٢ ـ أن يؤتى بالاستثناء المفرغ كقوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا)(٢) ، إذ المعنى : وما تعيب منا إلا أسس المناقم ودعائم المفاخر كلها وهو الإيمان بآيات الله.

ويجري الاستدراك في هذا الباب مجرى الاستثناء ، كقول البديع الهمذاني :

هو البدر إلا أنه البحر زاخرا

سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

فإن قوله : إلا وسوى استثناء مثل : بيد أني من قريش ، وقوله : لكنه استدرك يفيد فائدة الاستثناء إذ إلا في باب الاستثناء المنقطع بمعنى لكن.

تأكيد الذم بما يشبه المدح

وهو ضربان :

١ ـ أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيها كما تقول : فلان لا خير فيه إلا أنه يتصدق بما يسرقه (٣).

٢ ـ أن يثبت للشيء صفة ذم وتعقب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له كما تقول : فلان حسود إلا أنه نمام ، وبيان إفادة الضربين للتوكيد على تفاوت فيهما تفهم قياسا على ما عرفت في النوع السالف ، كما أن الاستدراك كالاستثناء.

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٢٤.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٢٦.

(٣) أي انتفت عنه صفات الخير إلا هذه الصفة إن كانت خيرا لكنها ليست خيرا ، فلا خير فيه أصلا.


الاستتباع

هو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر ، كقول المتنبي :

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدنيا بأنك خالد

فقد مدحه ببلوغه الغاية في الشجاعة إذ كثر قتلاه ، بحيث لو ورث أعمارهم لخلد في الدنيا ، على أسلوب استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها من قبل أنه جعل الدنيا مهنأة بخلوده ولا تهنأ إلا بما فيه صلاحها.

وفي البيت وجهان آخران من المدح ، أحدهما أنه نهب الأعمار دون الأموال ، وثانيهما أنه لم يكن ظالما في قتل أي أحد من مقتوليه لأنه لم يقصد بذا إلا صلاح الدنيا وأهلها فهم مسرورون ببقائه.

الادماج

هو لغة الادخال ، فيقال : أدمج الشيء في ثوب ، اذا لفه فيه ، واصطلاحا : أن يجعل المتكلم الكلام الذي سيق لمعنى من مدح أو غيره (١) متضمنا معنى آخر كقول أبي الطيب :

أقلب فيه أجفاني كأني

أعدّ به على الدهر الذنوبا (٢)

فقد ساق الكلام أصالة لبيان طول الليل وأدمج في ذلك على جهة الاستتباع الشكاية من الدهر.

ونحوه قول ابن المعتز في وصف نبات يسمى الخيري :

فقد نقض العاشقون ما صنع الهج

 ـ ر بألوانهم على ورقة

فإن الغرض وصف الخيري بصفة لكنه أدمج الغزل في الوصف.

وفيه وجه ثان من الحسن وهو إيهام الجمع بين متنافين وهما الايجاز والاطناب ، أما الأول فمن جهة الادماج ، وأما الثاني فلأن الغرض الوصف بالصفرة ، واللفظ زائد عليه لفائدة.

__________________

(١) فهو أعم من الاستتباع لاختصاصه بالمدح.

(٢) ضمير فيه لليل أي لتقليب أجفاني في الليل كأني أعد بها على الدهر ذنوبه.


التوجيه ـ الايهام

هو إيراد الكلام محتملا معنيين على السواء (١) ، كهجاء ومديح ، ليبلغ القائل غرضه الذي يريده بما لا يمسك عليه.

كما روى أن محمد بن حزم هنأ الحسن بن سهل بتزويج ابنته بوران للخليفة المأمون مع من هنأه فأثابهم وحرمه ، فكتب اليه : إن أنت تماديت في حرماني قلت فيك شعرا لا يعرف أمدح هو أم ذم.

فاستحضره وسأله ، فأقر ، فقال الحسن : لا أعطيك أو تفعل ، فقال :

بارك الله للحسن

ولبوران في الختن (٢)

يا إمام الهدى ظفر

ت ولكن ببنت من

فلا يدري ببنت من في العظمة وعلو الشأن أم في الدناءة والخسة.

فاستحسن الحسن منه ذلك وقال له : أمن مبتكراتك هذا؟ فقال : لا ، بل نقلته من شعر بشار بن برد ، وكان كثير العبث بهذا النوع.

ومن أحاديثه في ذلك أنه خاط قباء عند خياط يسمى زيدا (٣) ، فقال له الخياط مازحا : لأخيطنه فلا تدري أهو جبة أم قباء.

فقال بشار : إذا أنظم فيك شعرا لا يعلم من سمعه أدعوت لك أم دعوت عليك ، فلما خاطه له كما أخبره قبل ، قال فيه بشار :

خاط لي زيد قباء

ليت عينيه سواء

قل لمن يعرف هذا

أمديح أم هجاء (٤)

قال السكاكي : ومن هذا النوع متشابهات القرآن باعتبار : أي وهو احتمالها وجهين وإن كانت تفارقه باعتبار آخر وهو عدم تساوي الاحتمالين ، لأن أحد المعنيين في المتشابهات قريب والآخر بعيد كما تقدم من عد المتشابه من التورية.

__________________

(١) فان كان أحدهما ظاهرا والثاني خفيا والمراد هو الخفي كان تورية.

(٢) الختن كل من كان قبل المرأة مثل الأب والأخ.

(٣) قال في «خزانة الأدب» : أغلب الناس يسمون الخياط عمرا ، لكن صاحب «التحبير» روى أنه زيد.

(٤) هذان البيتان من مجزوء الرمل.


الهزل الذي يراد به الجد (١)

هو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه فيخرج ذلك المقصد مخرج الهزل والمجون ، كقول أبي نواس :

اذا ما تميمي أتاك مفاخرا

فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضب

أي تباعد عن هذا التفاخر وخبرني كيف تأكل الضب ، ولا مفاخرة مع من يأكله لأن أشرف الناس تعافه ، ونظيره قول ابن نباتة :

سلبت محاسنك الغزال صفاته

حتى تحير كل ظبي فيكا

لك جيده ولحاظه ونفاره

وكذا نظير قرونه لأبيكا

تجاهل العارف

هو سوق المعلوم مساق غيره (٢) لنكتة :

١ ـ كالتوبيخ في قول ليلى بنت طريف ترثي أخاها الوليد حين قتله يزيد ابن مزيد الشيباني في عهد هارون الرشيد :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

٢ ـ وكالمبالغة في المدح في قول البحتري :

ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي (٣)

٣ ـ وكالمبالغة في الذم كقول زهير :

وما أدرى وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أو نساء

٤ ـ وكالتدله في الحب كقول الحسين بن عبد الله الغريبي :

بالله يا ظبيات القاع قلنا لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

٥ ـ وكالتحقير في قوله تعالى حكاية عن الكفار :

__________________

(١) الفرق بينه وبين التهكم أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل ، وهذا بعكسه ، وهزليته باعتبار أصل استعماله وجديته باعتبار ما هو عليه الآن.

(٢) والغرض من ذلك المبالغة في إفادة المعنى المراد من ذم أو مدح أو نحو ذلك.

(٣) المنظر الوجه ، والضاحي الظاهر.


(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١).

٦ ـ وكالتعريض (٢) في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣).

٧ ـ وكالإيناس لأن المقام مقام هيبة ورهبة كقوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(٤).

القول بالموجب

هو نوعان :

١ ـ أحدهما أن تقع صفة في كلام غيرك كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت أنت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم لذلك الغير أو نفيه عنه ، نحو : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(٥) ، فالأعز صفة وقعت في كلا المنافقين كناية عن فريقهم والأذل كناية عن المؤمنين ، وقد أثبتوا لفريقهم حكما هو إخراج المؤمنين من المدينة عند رجوعهم اليها ، فردّ الله تعالى عليهم بإثبات صفة العزة لغيرهم من غير تعرض لثبوت حكم الاخراج أو انتفائه.

٢ ـ الأسلوب الحكيم ، وقد تقدم ، وهو حمل لفظ وقع في كلام غيرك على خلاف مراده مما يحتمله ذلك اللفظ بذكر متعلقه كالبيت الثالث (٦) من قوله :

وإخوان حسبتهمو دروعا

فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهمو سهاما صائبات

فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ولكن من ودادي

__________________

(١) كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل ما (سورة سبأ).

(٢) وفي مجيء هذا اللفظ على الابهام فائدة أخرى ، وهي أنه يبعث المشركين على التأمل في حال أنفسهم وحال النبي والمؤمنين ، حتى اذا أنعموا النظر علموا أنهم على ضلالة ، فبعثهم ذلك على الاسلام.

(٣) سورة سبأ الآية ٢٤.

(٤) سورة طه الآية ١٧.

(٥) سورة المنافقون الآية ٨.

(٦) أما البيتان قبله فليسا منه لكنهما قريبان منه.


الاطراد

هو أن يذكر اسم الممدوح واسم من يمكن أن آبائه على ترتيب الولادة ليزداد إبانة وتوضيحا على ترتيب صحيح ونسق مستقيم من غير تكلف ولا تعسف فيكون كالماء الجاري رقة وانسجاما ، كقوله :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب (١)

وقول دريد بن الصمة :

قتلناك بعبد الله خير لدانة

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب

وقد روي أن عبد الملك بن مروان لما سمعه قال : لو لا القافية لبلغ به آدم.

ومن ذلك قول النبي عليه‌السلام : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

أما ذكر الأمهات والجدات فليس محمودا عند البلغاء لما فيه من إنزال قدر الممدوح ، ولهذا عيب علي أبي نواس قوله بمدح محمدا الأمين :

أصبحت يابن زبيدة ابنة جعفر

أملا لعقد حباله استحكام

تدريب أول

بيّن نوع المحسنات المعنوية فيما يلي :

١ ـ ومولع بفخاخ يمدها وشباك

قالت لي العين ما ذا يصيد؟ قلت : كراكي

٢ ـ لئن ساءني أن نلتني بمساءة

لقد سرني أني قد خطرت ببالكا

٣ ـ وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضيا خديه مكتسب

٤ ـ الدهر يصمت وهو أبلغ ناطق

من موجز ندس ومن ثرثار

٥ ـ ليس به عيب سوى أنه

لا تقع العين على شبهه

٦ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)(٢).

٧ ـ رأى جسدي والدمع والقلب والحشا

فأضنى وأفنى واستمال وتيّما

__________________

(١) ثل العروش كناية عن ذهاب العز وتضعضع الحال.

(٢) سورة الأنعام الآية ٦٠.


٨ ـ آراؤه وعطاياه ونعمته

وعفوه رحمة للناس كلهم

٩ ـ يا قوم كم من عاتق عانس

ممدوحة الأوصاف في الأندية

قتلتها لا أتقي وارثا

يطلب مني قودا أو دية

الاجابة

١ ـ في هذا البيت تورية في لفظ كراكي ، إذ المعنى القريب له (جمع كركي) وهو الطائر المعروف ، وهو ليس بمراد ، والمعنى البعيد ، والمراد من الكركي ، هو النوم.

٢ ـ في هذا البيت طباق بين ساء وسر.

٣ ـ فيه استخدام ذكر لفظ الغزالة بمعنى الحيوان المعروف ، وأعاد اليه الضمير بمعنى الشمس.

٤ ـ فيه طباق بين يصمت وناطق وبين موجز وثرثار.

٥ ـ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم من الضرب الأول.

٦ ـ في الآية تورية لذكر جرحتم إذ لها معنيان قريب من جرحه جرحا شق بعض بدنه وليس ذا بمراد ، وبعيد هو المراد وهو اكتسبتم الذنوب من جرح الرجل اكتسب فهو جارح وهي مجردة لعدم ذكر لازم المعنى القريب.

٧ ـ فيه لف ونشر مرتب إذ ذكر أربعة أشياء ثم أتى بما يقابلها على الترتيب.

٨ ـ فيه جمع إذ جمع بين أشياء وأعطاها حكما واحدا.

٩ ـ في البيتين تورية إذ من يسمع العاتق والعانس والقتل يفهم منها المعنى القريب وهو البكر والموت لكنه أراد منها المعنى البعيد وهو الخمر والمزج بالماء.

تدريب ثان

بيّن نوع المحسن المعنوي فيما يلي :

١ ـ وقد أطفئوا شمس النهار وأوقدوا

نجوم العوالي في سماء عجاج

٢ ـ فوا عجبا كيف اتفقنا فناصح

وفي ومطوي على الغل غادر

٣ ـ كأن الثريا علقت في جبينه

وفي خده الشعري وفي وجهه البدر


٤ ـ أبكيكما دمعا ولو أني على

قدر الجوى أبكي بكيتكما دما

٥ ـ من مبلغ أفناء يعرب كلها

أني بنيت الجار قبل المنزل

٦ ـ إن الليالي للأنام مناهل

تطوي وتنشر دونها الأعمار

٧ ـ فأف لهذا الدهر لا بل لأهله

٨ ـ فهبها كشيء لم يكن أو كنازح

به الدار أو من غيبته المقابر

الاجابة

١ ـ فيه طباق بين أطفئوا وأوقدوا.

٢ ـ فيه مقابلة بين ناصح وفي وبين مطوي على الغل غادر إذ الغل ضد النصح والغدر ضد الوفاء.

٣ ـ فيه مراعاة النظير لجمعه أشياء متناسبة لا على جهة التضاد ، وهي الثريا والشعر والبدر.

٤ ـ فيه أرصاد لأنه جعل قبل العجز من البيت ما يدل عليه إذ عرف الروي.

٥ ـ فيه مشاكلة فقد عبر عن اختيار الجار بالبناء مشاكلة لبناء الدار.

٦ ـ فيه العكس فقد قدم في الكلام جزءا ثم أخر ما قدم في البيت الثاني.

٧ ـ فيه الرجوع فقد نقض ما قاله أولا.

٨ ـ فيه تقسيم باستيفاء أقسام الشيء لأن الغائب لا يخلو من هذه الثلاثة.

تدريب ثالث

١ ـ أن تلقني لا ترى غيري بناظره

تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد

٢ ـ لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

٣ ـ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.

٤ ـ قال الشيرازي في «شرح المفتاح» العثير الغبار ولا تفتح فيه العين.

٥ ـ أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا آ أنت أم أم سالم

٦ ـ أودع رجل بعض القضاة أموالا فادعى ضياعها ، فقال ابن دويدة المغربي يخاطبه :


إن قال قد ضاعت فيصدق إنها

ضاعت ولكن منك يعني لو تعي

أو قال قد وقعت فيصدق إنها

وقعت ولكن منه أحسن موقع

٧ ـ إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

٨ ـ فتى قسم الأيام بين سيوفه

وبين طريفات المكارم والبلد

فسوّد يوما بالعجاج وبالردى

وبيّض يوما بالفضائل والمجد

الاجابة

١ ـ فيه تجريد جاء على طريق الكناية فقد كنى بالأسد عن نفسه.

٢ ـ فيه تجريد فقد جرد من نفسه شخصا ثم خاطبه.

٣ ـ فيه المذهب الكلامي ، إذ التقدير : والإعادة أهون من البدء ، والأهون أدخل في الإمكان من البدء ، فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء وهو المطلوب.

٤ ـ في قوله : ولا تفتح فيه العين تورية ، فالمعنى القريب النهي عن فتح العين وهي الجارحة ، وليس بمراد ، والبعيد النهي عن فتح العين في اللفظ ، لئلا يلزم التحريف.

٥ ـ فيه تجاهل العارف بسوق المعلوم مساق المجهول.

٦ ـ فيه القول بالموجب ، إذ هو قد حمل لفظي ضاعت ، ووقعت الواقعين في كلام القاضي الى معنى آخر مراد يحتمله اللفظ.

٧ ـ فيه المزاوجة فقد زاوج بين احتربت وتذكرت الواقعتين في الشرط والجزاء ورتب على كل منهما أمرا وهو فيضان الدماء وفيضان الدموع.

٨ ـ فيه جمع وتقسيم ، لأنه جمع أيام الممدوح في الحرب والعطاء ، ثم قسم ذلك.

تمرين أول

بيّن نوع المحسن المعنوي فيما يلي :

١ ـ ما مضى فات والمؤمل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

٢ ـ يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

٣ ـ أسكر سكرى من المدام إذا

مرّ بفكري خيال مبسمة


٤ ـ بدائع الحسن فيه مفترقة

وأعين الناس فيه متفقة

سهام ألحاظه مفوقه

فكل من رام لحظة رشقة

٥ ـ أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد

وأنت امرؤ يرجو شبابك وائل

٦ ـ فارقني من أحب واحزني

واحزني من حب من فارقني

٧ ـ قالوا : حبيبك محموم فقلت لهم

أنا الذي كنت في حمائه السبب

عانقته ولهيب النار في كبدي

يوما فأثر فيه ذلك اللهب

٨ ـ أنت بدر حسنا وشمس علوا

وحسام غزا وبحر نوالا

تمرين ثان

١ ـ فثوبي مثل شعري مثل نحري

بياض في بياض في بياض

٢ ـ ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم

تعاب بنسيان الأحبة والوطن

٣ ـ (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(١)

٤ ـ أبادهم فلبيت المال ما جمعوا

والروح للسيف والأجساد للرخم

٥ ـ إن ترد خبر حالهم عن يقين

فالفهم في منازل أو نزال

تلق بيض الوجوه سود مثار الن

قع خضر الأكناف حمر النصال

٦ ـ فيا له من عمل صالح

يرفعه الله الى أسفل

٧ ـ أهدى لمجلسه الكريم وإنما

أهدى له ما حزت من نعمائه

كالبحر يمطره السحاب وما له

فضل عليه لأنه من مائه

٨ ـ فلان لا خير فيه إلا أنه ذو وجهين

تمرين ثالث

١ ـ يا سادة لبعدهم

أصبحت صبا وصبا

لجين دمعي كم جرى

لطيب عيش ذهبا

٢ ـ زيادة المرء في دنيا نقصان

وربحه غير فعل الخير خسران

٣ ـ اذا صدق الجد أفترى العم للفتى

مكارم لا تخفي وإن كذب الخال

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١١٦.


٤ ـ وما طيب الرياض لها ولكن

كساها دفنهم في الترب طيبا

٥ ـ ولا عيب فيهم غير أن ذوي الندى

خساس اذا قيسوا بهم ولئام

٦ ـ بكت فقدك الدنيا قديما بدمعها

فكان بها في سالف الدهر طوفان

٧ ـ الأرض طرس والرياض سطوره

والزهر شكل بينها وحروف

٨ ـ والطل في سلك الغصون كلؤلؤ

رطب يصافحه النسيم فيسقط

والطير يقرأ والغدير صحيفة

والريح تكتب والغمام ينقط

٩ ـ قال الحطيئة :

ندمت على لسان كاد مني

فليت بأنه في جوف علم


المحسنات اللفظية

الجناس ـ التجنيس ـ أقسامه ـ فائدته

هو لغة مصدر جانس الشيء الشيء شاكله واتحد معه في الجنس ، واصطلاحا تشابه الكلمتين في اللفظ (١) مع اختلاف في المعنى ، وينقسم قسمين :

١ ـ تام ، وهو ما اتفق فيه اللفظان في أربعة أشياء :

(أ) هيئة الحروف ، أي حركاتها وسكناتها.

(ب) عددها.

(ج) نوعها.

(د) ترتيبها.

وهو إما مماثل أو مستوف :

(أ) فالمماثل هو ما كان اللفظان فيه من نوع واحد اسمين أو فعلين أو حرفين كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)(٢) ، فالساعة الأولى يوم القيامة والثانية واحدة الساعات.

وقول محمود سامي البارودي :

تحملت خرف المن كل رزيئة

وحمل رزايا الدهر أحلى من المن

فالمن الأول تعداد الصنائع والنعم نحو : أعطيتك كذا وأحسنت اليك بكذا ، والمن الثاني العسل.

(ب) والمستوفى ما كان اللفظان فيه من نوعين كاسم وفعل ، كقول أبي تمام :

ما مات من كرم الزمان فإنه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله

__________________

(١) فيخرج التشابه في المعنى نحو : أسد وسبع ، أو في مجرد العدد نحو : ضرب وعلم ، أو في مجرد الوزن : ضرب وقتل.

(٢) سورة الروم الآية ٥٥.


٢ ـ مركب ، وغير مركب :

(أ) فغير المركب كالأمثلة التي فرطت.

(ب) والمركب ما كان أحد ركنيه لفظا مركبا ، ويسمى جناس التركيب ، وينقسم الى قسمين : مركب من كلمتين تامتين ، ويسمى بالملفوف.

كقول القاضي الفاضل :

عضنا الدهر بنابه

ليت ، راحل بنابه

لا يوالي الدهر إلا

خاملا ليس بنابه

ومركب من كلمة وبعض كلمة ، ويسمى مرفوضا ، كقول الحريري :

والمكر مهما استطعت لا تأته

لتقتني السودد والمكرمة

وقوله أيضا :

فلا تله عن تذكار ذنبك وابكه

بدمع يحاكي المزن حال مصابه

ومثل لعينيك الحمام ووقعه

وروعة ملقاة ومطعم صابه

٣ ـ متشابه ومفروق ، لأنه إن توافقت المركبة من كلمتين مع غير المركبة في الخط لقب بالمشابه كقول بعض البلغاء : يا مغرور أمسك ، وقس يومك بأمسك ، وإن لم تنفقا فيه لقب بالمفروق نحو :

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل في تهذيبها

فمتى عرضت الشعر غير مهذب

عدوه منك وساوسا تهذي بها

وغير التام ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأربعة المتقدمة :

١ ـ فإن اختلفا في هيئة الحروف سمي جناسا محرفا ، والاختلاف قد يكون في الحركة فقط ، كقولهم : لا تنال الغرر (١) إلا بركوب الغرر ، وقد يكون في الحركة والسكون ، كقولهم : البدعة شرك لشرك.

وقول الحريري :

فقلت للائمي أقصر فإني

سأختار المقام على المقام

__________________

(١) الغرر (بالضم) جمع أغر ، وهو الحسن من كل شيء ، (وبالفتح) التعرض للتهلكة.


٢ ـ وإن اختلفا في العدد سمي ناقصا ، ويكون ذلك على وجهين :

(أ) ما كان بزيادة حرف إما في الأول كقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(١) ويسمى مردوفا ، وإما في الوسط كقولهم : جدي جهدي (٢) ، ويسمى مكتنفا ، وإما في الآخر ، ويسمى مطرفا ، كقول أبي تمام :

يمدحون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب (٣)

(ب) ما كان بزيادة أكثر من حروف ، ويسمى مذيلا.

٣ ـ وإن اختلفا في نوع الحروف اشترط ألا يكون الاختلاف بأكثر من حرف ، وذلك على وجهين :

(أ) أن يكون هو وما يقابله في الطرف الآخر متقاربي المخرج ويسمى مضارعا ، والاختلاف إما في الأول كقول الحريري : بيني وبين كنى ليلى دامس وطريق طامس (٤) ، أو في الوسط كقولهم : البرايا أهداف البلايا ، أو في الآخر ، كقول الحريري لهم في السير : جرى السيل والى الخير جرى الخيل.

(ب) أن يكونا غير متقاربي المخرج ويسمى لاحقا ، والاختلاف إما في الأول نحو : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(٥) ، أو في الوسط نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٦).

أو في الآخر ، كقول البحتري :

ألما فات من تلاق تلاف

أم لشاك من الصبابة شاف

٤ ـ وإن اختلفا في ترتيب الحروف سمي جناس القلب ، وهو ضربان :

__________________

(١) سورة القيامة الآية ٢٩.

(٢) الجد الغنى والحظ ، والجهد التعب.

(٣) العواصي جمع عاصية من عصاه ، وعواصم من عصمه حفظه ، وقواض حاكمات بالقتل ، وقواضب قاطعات.

(٤) الكن البيت ، ودامس مظلم ، وطامس بعيد.

(٥) سورة الهمزة الآية ١.

(٦) سورة الضحى الآيتان ١٠ و ١١.


(أ) قلب الكل ، كقولهم : حسامه فتح لأوليائه ، حتف لأعدائه.

(ب) قلب البعض ، كقوله عليه‌السلام : «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ، وقول بعضهم : رحم الله امرأ أمسك ما بين فكيه ، وأطلق ما بين كفيه.

تنبيهات

الأول ـ اذا وقع أحد المتجانسين جناس القلب في أول البيت والآخر في آخره سمي مقلوبا مجنحا (١) ، كقول ابن نباته المصري :

ساق يريني قلبه قسوة

وكل ساق قلبه قاسي

الثاني ـ اذا ولى أحد المتجانسين سمي مزدوجا ومكررا ومرددا كما في الحديث : «المؤمنون هينون لينون» ، وكقولهم : من طلب شيئا وجدّ وجد.

وقول البستي :

أبا العباس لا تحسب لشيني

بأني من حلا الأشعار عار

الثالث ـ من التجنيس نوع يسمى تجنيس الإشارة ، وهو ألا يذكر أحد المتجانسين في الكلام ، ولكن يشار اليه بما يدل عليه ، نحو :

حلقت لحية موسى باسمه

وبهرون إذا ما قلبا

فلا شك أنك اذا ما قلبت هرون من آخره الى أوله يصير (نوره) ، لكنه لم يذكرها بلفظها ، بل أشار اليها بقوله : وبهرون اذا ما قلبا.

الرابع ـ يلحق بالتجنيس شيئان :

(أ) أن يجمع اللفظين الاشتقاق ، كقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(٢) ، وقول أبي تمام : فيا دمع أنجدني على ساكني نجد.

(ب) أن تجمع اللفظين المشابهة وهي ما يشبه (٣) الاشتقاق وليس باشتقاق ، كقوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٤).

__________________

(١) لأن اللفظين بمنزلة جناحين من البيت.

(٢) سورة الروم الآية ٤٣.

(٣) لتوافق اللفظين في جميع الحروف أو جلها ، فيتبادر الى الفكر أنهما يرجعان الى أصل واحد وليساهما كذلك في الحقيقة.

(٤) سورة الرحمن الآية ٥٤.


وقول البحتري :

إذا ما رياح جودك هبّت

صار قول العذول فيها هباء

قال في «أسرار البلاغة» : لا يحسن تجانس اللفظين إلا اذا كان موقع معنيهما من العقل موقعا حميدا ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا ، أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله :

ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت

فيه الظنون أمذهب أم مذهب

واستحسنت تجنيس القائل : حتى نجا من خوفه وما نجا (١). وقول المحدث :

ناظراه فيما جنى ناظراه

أودعاني أمت بما أودعاني

لأمر يرجع الى اللفظ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفا مكررة تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة ، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها ، فبهذه السريرة صار التجنيس ، وخصوصا المستوفى منه ، المتفق في الصورة من حلى الشعر ومذكورا في أقسام البديع ، اه.

وقال ابن رشيق في «العمدة» : التجنيس من أنواع الفراغ وقلة الفائدة ومما لا يشك في تكلفه ، وقد أكثر منه الساقة المتعقبون في نظمهم ونثرهم ، حتى برد ورك ، اه.

وقال ابن حجة الحموي في «خزانة الأدب» : أما الجناس فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب.

رد العجز على الصدر ـ التصدير

هو في النثر جعل أحد اللفظين المكررين (٢) أو المتجانسين (٣) أو ملحقين (٤) بهما اشتقاقا أو شبه اشتقاق في أول الفقرة ، والآخر في آخرها ، فالمكرران نحو :

__________________

(١) نجا الأولى أحدث ، والثانية خلص.

(٢) أي المتفقين في اللفظ والمعنى.

(٣) أي المتفقين في اللفظ دون المعنى.

(٤) أي اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبهه.


(وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(١) ، والمتجانسان نحو : سائل اللثم يرجع ودمه سائل ، والملحقان بهما اشتقاقا (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)(٢) وشبه اشتقاق نحو : قال إني لعملكم من القالبي.

وفي النظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو في حشوه أو في آخره أو في صدر المصراع الثاني (٣) ، فالأول نحو :

تمنت سليمى أن أموت صبابة

وأهون شيء عندنا ما تمنت

والثاني كقول الصمة بن عبد الله القشيري :

أقول لصاحبي والعيس تهوى

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار (٤)

والثالث كقول أبي تمام :

ومن كان بالبيض الكواكب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما (٥)

والرابع كقول ذي الرمة :

وإن لم يكن إلا معرج ساعة

قليلا فإني نافع لي قليلها

والخامس كقول القاضي الأرجاني :

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكما دعاني

والسادس كقول الثعالبي :

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل (٦)

والسابع كقول الحريري :

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٣٧.

(٢) سورة نوح الآية ١٠.

(٣) فالأقسام ستة عشر حاصلة من ضرب أربعة في أربعة.

(٤) العيس : الابل يخالط بياضها شقرة ، والمنيفة والضمار موضعان ، والعرار : وردة صفراء طيبة الرائحة ، ومن زائدة وما بعدها مبتدأ والظرف قبله خبر ، وما مهملة.

(٥) الكواعب الجارية حين يبدو ثديها للنهود ، والقواضب السيوف القواطع.

(٦) البلابل الاولى جمع بلبل ، والثانية جمع بلبال وهو الحزن ، والبلابل الثالثة جملة بلبلة (بالضم) ابريق الخمر.


فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنات المثاني (١)

والثامن كقول القاضي الأرجاني :

أملتهم ثم تأملتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح

والتاسع كقول البحتري :

ضرائب أبدعتها في السماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا

والعاشر كقول أبي العلاء :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذاب يهجر للأفراط في الخصر (٢)

والحادي عشر كقول ابن عيينة المهلبي :

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير

والثاني عشر كقول أبي تمام في مرثية محمد بن نهشل حين استشهد :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر وهي الآن من بعده بتر (٣)

(تنبيه) تركنا المثل الأربعة الباقية الملحقة بالتجانس التي يجمعها الاشتقاق الأكبر لقلة استعمالها.

السجع ـ شروط حسنة ـ حكمه ـ أقسامه

هو في المنثور بإزاء التصريع الآتي بيانه في المنظوم ، وهو لغة من قولهم :

سجعت الناقة إذا مدت حنينها على جهة واحدة ، واصطلاحا أن تتواطأ الفاصلتان في النثر على حرف واحد.

شروط حسنة

لا يحسن السجع كل الحسن إلا اذا استوفى أربعة أشياء :

١ ـ أن تكون المفردات رشيقة أنيقة خفيفة على السمع.

٢ ـ أن تكون الألفاظ خدم المعاني ، إذ هي تابعة لها ، فإذا رأيت السجع

__________________

(١) المثاني القرآن ، ورنات المثاني أي نغمات أوتار المزامير التي ضم طاق منها الى طاق.

(٢) الخصر : البرودة.

(٣) بواتر جمع باتر ، والبتر جمع أبتر أي مقطوع ، وقبل البيت :

ثوى في الثرى من كان يحيا به الورى

ويغمر صرف الدهر نائله الغمر


لا يدين لك إلا بزيادة في اللفظ ، أو نقصان فيه ، فاعلم أنه من المتكلف الممقوت.

٣ ـ أن تكون المعاني الحاصلة عند التركيب مألوفة غير مستنكرة.

٤ ـ أن تدل كل واحدة من السجعتين على معنى يغاير ما دلت عليه الأخرى حتى لا يكون السجع تكرارا بلا فائدة.

ومتى استوفى هذه الشروط كان حلية ظاهرة في الكلام ، ومن ثم لا تجد لبليغ كلاما يخلو منه كما لا تخلو منه سورة ، وإن قصرت ، بل ربما وقع في أوساط الآيات ، كقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(١).

أقسامه

هو على ثلاثة أضرب : مرصع ، ومتواز ، ومطرف :

١ ـ فالمرصع ما اتفقت ألفاظ إحدى الفقرتين أو أكثرها في الوزن والنقفية كقول الحريري ، فهو يطبع الاسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه ، وقول أبي الفتح البستي : ليكن إقدامك توكلا ، وإحجامك تأملا.

٢ ـ والمتوازي ما اتفق فيه الفقرتان في الكلمتين الأخيرنين نحو قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)(٢) ، وقوله عز وعلا : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٣).

٣ ـ والمطرف ما اختلفت فاصلتاه في الوزن واتفقتا في الحرف الأخير نحو : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(٤) ، وقوله : جنابه محط الرحال ، ومخيم الآمال.

وأيضا السجع إما قصير نحو : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٠٠.

(٢) سورة المرسلات الآية ١.

(٣) سورة الغاشية الآية ١٣.

(٤) سورة نوح الآية ١٣.


وإما متوسط نحو : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(١) ، وإما طويل نحو : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢).

تنبيهات

الأول ـ أحسن السجع ما تساوت قرائنه كقوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٣) ، ثم ما طالت قرينته الثانية كقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(٤) ، أو الثالثة ، نحو قوله عز وعلا : (خُذُوهُ ، فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(٥) ، فلا يحسن أن تكون القرينة الثانية أقصر من الأولى كثيرا ، لأن السجع إذا استوفى أمده في الأولى بطولها وجاءت الثانية أقصر منها كثيرا ، يكون كالشيء المبتور ، يؤيد ذلك الذوق السليم.

الثاني ـ الاسجاع مبنية على سكون أواخرها ، لأن المزاوجة بين الفقر في جميع الصور لا تتم إلا بالوقف ، ألا ترى أنك لو وصلت قولهم : ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت ، لم يكن بد من إعطاء أواخر القرائن ما يستلزمه حكم الإعراب فتختلف أواخرها ويفوت السجع.

الثالث ـ يقال للجزء الواحد من السجع سجعة ، وجمعها سجعات ، وفقرة وجمعها فقر وفقرات وفقرات ، وقرينة لمقارنة أختها ، وتجمع على قرائن ، وللحرف الأخير منها حرف الروي أو الفاصلة.

الرابع ـ ربما غيرت الكلمة عن موضوعها في تصريف اللغة طلبا للسجع والمزاوجة بين الكلمة وأخواتها ، ألا ترى قوله عليه‌السلام في تعويذه لابن ابنته :

__________________

(١) سورة القمر الآية ١.

(٢) سورة الأنفال الآيتان ٤٣ و ٤٤.

(٣) سورة الواقعة الآية ٢٨.

(٤) سورة النجم الآية ١.

(٥) سورة الحاقة الآية ٣٠.


«أعيذه من الهامة والسامة ، والعين اللامة» ، وأصلها الملة لأنها من ألم ، فعبر عنها باللامة لموافقة ما قبلها ، وقوله للنساء : انصرفن مأزورات غير مأجورات ، والأصل موزورات أخذا من الوزر ، لكنه قال ذلك لمكان مأجورات.

الخامس ـ يرى بعض العلماء ومنهم الباقلاني وابن الأثير كراهة إطلاق السجع على القرآن الكريم لأنه نوع من الكلام يعتمد الصنعة وقلما يخلو من التكلف والتعسف ، الى أنه مأخوذ من سجع الحمام ، وهو هديره ، وإنما يقال في مثل ذلك فواصل ، أخذا من قوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ)(١).

السادس ـ يرى بعضهم أن السجع غير مختص بالنثر ، بل يكون في النظم ، كقول أبي تمام يمدح أبا العباس نصر بن بسام :

تجلى به رشدي وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي وأورى به زندي (٢)

وقول الخنساء :

حامي الحقيقة محمود الخليفة

مهدي الطريقة نفاع وضرار

جواب قاصية جزار ناصية

عقاد ألوية للخيل جرار

وقول الآخر :

ومكارم أوليتها متورعا

وجرائم ألغيتها متبرعا

ومنه على هذا الرأي التشطير ، وهو أن يجعل في كل من شطري البيت سجعتان على روى مخالف لروى سجعتي الشطر الآخر كقول أبي تمام :

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب في الله مرتقب (٣)

فالشطر الأول محتو على سجعتين مبنيتين على الميم ، والثاني محتو على سجعتين مبنيتين على الباء.

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٣.

(٢) قبله :

سأحمد نصرا ما حييت وإنني

لأعلم أن قد جل نصر عن الحمد

وأثرت صارت ذات ثروة ، والثمد الماء القليل ، وأورى صار ذا ورى أي نار.

(٣) مرتغب أي راغب ، ومرتقب منتظر ثوابه.


الموازنة

هي أن تكون الفاصلتان (١) متساويتين في الوزن دون التقفية كقوله تعالى : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(٢).

فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثر ما فيها مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن خص باسم المماثلة.

فالأول كقول البحتري يمدح الفتح بن خاقان ويذكر مبارزته للأسد :

فأحجم لما لم يجد فيك مطعما

وأقدم لما لم يجد عنك مهربا

والثاني كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٣).

وقول أبي تمام من قصيدة يمدح بها الوزير محمد بن عبد الملك الزيات :

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (٤)

القلب

هو أن يكون الكلام بحيث لو عكس وبديء بحرفه الأخير الى الأول لم يتغير الكلام عما كان عليه.

ويجري ذلك في النثر والنظم ، كقوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٥).

وقول عماد الدين الكاتب للقاضي الفاضل :

«سر فلا كبا بك الفرس»

__________________

(١) أي الكلمتان الأخيرتان من الفقرتين كما في الآية أو المصراعين ، كقوله :

هو الشمس قدرا والملوك كواكب

هو البحر جودا والكرام جداول

(٢) إذ الاولى على الفاء ، والثانية على الثاء ، ولا عبرة بتاء التأنيث ، كما بين في علم القافية ، (سورة الغاشية).(٣) سورة الصافات الآية ١١٨.

(٤) مها الوحش أي كمها الوحش في سعة الأعين وسوادها ، وقنا الخط أي كقنا الخط في الاستقامة.

(٥) سورة المدثر الآية ٣.


وقول القاضي الأرجاني :

مودته تدوم لكل هول

وهل كلّ مودته تدوم (١)

وقد يكون في المصراع الواحد ، نحو : «أرانا الإله هلالا أنارا».

التشريع

هو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى اذا وقفت على كل واحدة منهما ، وإنما يقع ذلك ممن كان ضليعا متمكنا من صناعة النظم ، بارعا مقتدرا ، كقول بعضهم :

اسلم ودمت على الحوادث مارسا

ركنا ثبير أو هضاب حراء

ونل المراد ممكنا منه على

رغم الدهور وفز بطول بقاء

فيمكن أن يذكرا على قافية أخرى ، وضرب آخر بأن يقال :

اسلم ودمت على الحوا

دث مارسا ركنا ثبير

ونل المراد ممكنا

منه على رغم الدهور

لزوم ما لا يلزم ـ الالزام ـ الشديد ـ الاعنات

هو أن يلتزم قبل الروي في الشعر ، أو الفاصلة في النثر شيء (٢) يتم السجع بدونه ، كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ، ثم لا يقصرون ، وقول الشاعر (٣) :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النبل زلت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت

__________________

(١) وقبله :

«أحب المرء ظاهره جميل

لصاحبه وباطنه سليم»

(٢) أي لو جعلت القوافي أو الفواصل أسجاعا لم يحتج الى الاتيان بذلك الشيء وهذا الشيء أحد أمور ثلاثة : حرف وحركة معا كما في الآية والأبيات بعدها ، وحرف فقط : كالقمر ومستمر ، في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، وحركة فقط كقول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد

(٣) هو عبد الله بن الزبير (بفتح الزاي) الأسدي في مدح عمر بن عثمان بن عفان.


تتمة

قال الإمام عبد القاهر : لا يحسن هذا النوع (المحسن اللفظي) إلا إذا كانت الألفاظ تابعة للمعاني ، فإن المعاني اذا أرسلت على سجيتها ، وتركت وما تريد ، طلبت لأنفسها الألفاظ ولم تكتس إلا ما يليق بها ، فإن كان خلاف ذلك ، كان كما قال أبو الطيب :

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها فالحسن عنك مغيّب

وقد يقع في كلام بعض المتأخرين ما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع الى ما له اسم في البديع ، على أنه نسي أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين ويخيل اليه أنه اذا جمع عدة من أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياه وأن يجعل السامع يتخبط خبط عشواء.


السرقات الشعرية وما يتصل بها

إذا توافق الشاعر أن على اللفظ والمعنى ، أو المعنى وحده ، فإن لم يعلم أخذ الثاني من الأول ، جاز أن يكون من قبيل اتفاق القرائح وتوارد الأفكار من غير قصد الى سرقة وأخذ ، ويسمى ذلك مواردة ، ويرشد الى ذلك ابن ميادة لما أنشد ابن الأعرابي قوله لنفسه :

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلل واهتز اهتزاز المهند

قيل له : أين يذهب بك ، هذا للحطيئة ، قال : الآن علمت أني شاعر إذ وافقته على قوله ولم أسمعه إلا الساعة.

ولذا لا ينبغي لأحد أن يحكم على شاعر بالسرقة ما لم يعلم جلية أمره بأن يتيقن أنه كان يحفظ قول من سبقه حينما نظم أو بأن يخبر عن نفسه بأنه أخذ ممن تقدمه فإن لم يعرف ذلك فالواجب أن يقال : قال فلان كذا وقد سبقه اليه فلان فقال كذا ، حتى يتباعد عن دعوى العلم بالغيب ويسلم من انتقاص غيره ويكون صادقا فيما حكم وقال.

واعلم أن اتفاق القائلين إن كان في الغرض ، كالوصف بالشجاعة ، والسخاء ، والذكاء ، أو في وجه الدلالة على الغرض كوصف الرجل حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح ، وقلة الفكر ، ووصف الجواب بالتهلل عند ورود العفاة والارتياح لرؤيتهم ـ لا يعد هذا سرقة ولا استعانة لأن تلك أمور اشتركت فيها العقول وتقررت بحكم العادات واستوى فيها الفصيح والأعجم ، كقولهم في الغزل : إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه ، وفي الممدوح : إن الممدوح يجود ابتداء من غير مسألة ، وفي الرثاء ، إن هذا الرزء أول حادث ، وإن هذا الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة ، الى أشباه ذلك مما يجري هذا المجرى.

أما اذا احتاج المعنى الى كدّ الفكر فذاك هو الذي يدعى فيه الاختصاص


والسبق ، لأنه لا يصل الى مثله كل أحد ، فهو جدير بالتفاضل بين القائلين فيقال : إن أحدهما يفضل الآخر وإن الثاني زاد على الأول ، أو نقص ، كما فعل أبو تمام فابتدع معنى جديدا ، ذاك أنه حين أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها :

ما في وقوفك ساعة من باس

تقضي حقوق الأربع الادراس

حتى انتهى الى قوله :

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

قال الحكيم الكندي : وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمام ، ثم أنشد :

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلا من المشكاة والنبراس

فهذا معنى ابتكره ولم يتقدمه أحد به ، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه عدّ سارقا له.

وهذه السرقات ، وإن تعددت فنونها وكثرت مذاهبها ، لا تخرج عن ثمانية أنواع ، وهي :

١ ـ النسخ ـ الانتحال ، وهو سرقة مذمومة ، وحقيقته أن يأخذ أحد الشاعرين معنى صاحبه ولفظه ، كله أو أكثره ، فهو إذا على قسمين :

(أ) أن يأخذ لفظ الأول ومعناه ، ولا يخالفه إلا يروي القصيدة ، كقول امرىء القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

أخذه طرفة وأجراه على منواله الأول ، فقال :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

(ب) أن يأخذ المعنى وأكثر اللفظ ، كقول الابيرد اليربوعي :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

إذا السنة الثهباء أعوزها القطر

وقول أبي نواس :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور


٢ ـ المسخ أو الاغارة ، وهو أن يأخذ الشاعر بعض اللفظ ، أو يغيّر بعض النظم ، وهو ثلاثة أضرب :

(أ) أن يكون الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بحسن السبك ، أو جودة الاختصار ، أو الايضاح ، أو زيادة المعنى ، وهو مقبول ممدوح كقوله :

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا

مع قول ابن نباتة ، وهو بعده :

خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب

فقد زاد هذا معنى لم يطرقه الأول ، وهو إشارة الى انهزامهم.

(ب) أن يكون الثاني دون الأول في البلاغة ، وهذا خليق بالرد ، كقول أبي تمام :

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

مع قول أبي الطيب ، وقد أخذ عنه ، وقصر عن الغاية التي وصل اليها سابقه :

أعدى الزمان سخاؤه فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا (١)

إذ قوله يكون بلفظ المضارع لم يقع موقعه ، إذ المعنى على المضي لكن الوزن ألجأه الى ذلك.

(ج) أن يكون الثاني مثل الأول ، وحينئذ يكون بعيدا من الذم ، والفضل للسابق ، كقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا (٢)

مع قول أبي الطيب :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا الى أرواحنا سبلا

__________________

(١) المعنى أن الزمان سخا به علي ، وكان بخيلا به ، فلما أعداه سخاؤه أسعدني بضمي اليه وهدايتي له.

(٢) حار تحير في التوصل الى إهلاك النفوس ، ومرتاد المنية الاضافة فيه للبيان أي مرتاد هو المنية ، والمعنى : لو تحيرت المنية لم تجد لها طريقا يوصلها لذلك إلا فراق الاحبة.


٣ ـ السلخ والإلمام ، وهو أخذ المعنى وحده ، وهو أيضا ينقسم الى ثلاثة أقسام :

(أ) أن يكون الثاني ممتازا بحسن سبكه ، وبلاغته ، ورصانته ، كقول البحتري :

تصد حياء أن تراك بأوجه

أتى الذنب عاصيها فليم مطيعها

مع قول أبي الطيب ، وهو أحسن منه سبكا :

وجرم جره سفهاء قوم

وحل بغير جارمه العذاب

وكأنه اقتبسه من قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)(١).

(ب) أن يكون الثاني دون الأول ، كقول بعض الأعراب :

وريحها أطيب من طيبها

والطيب فيه المسك والعنبر

مع قول بشار ، وقد أخذ منه وقصر عنه في المعنى ، حيث يقول :

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل

(ج) أن يتساوى الأول والثاني ، كقول بعضهم يذكر ابنا له قد مات :

الصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

مع قول أبي تمام بعده :

وقد كان يدعي لابس الصبر حازما

فأصبح يدعي حازما حين يجزع

وهذه الأنواع الثلاثة من الأخذ الظاهر ، أما غير الظاهر فهو ذو شعب كثيرة ، أهمها :

٤ ـ التشابه ، وهو أن يتشابه معنى الأول والثاني ، كقول الطرماح ابن حكيم الطائي :

لقد زاد حبا لنفسي أنني

بغيض الى كل امرىء غير طائل

مع قول المتنبي :

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٥٥.


وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

فإن ذم الناقص أبا الطيب كبغض من هو غير طائل الطرماح ، وشهادة ذم الناقص أبا الطيب كزيادة حب الطرماح لنفسه.

وليس بضائر في التشابه اختلاف الغرضين كأن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاء أو افتخارا ، فإن الحاذق من يتحيل في إخفاء مأخذه بتغيير لفظه والعدول عن الوزن والقافية.

٥ ـ النقل ، وهو أن ينقل معنى الأول الى غير محله ، كقول البحتري :

سلبوا فشرقت الدماء عليهم

محمرة فكأنهم لم يسلبوا (١)

نقله المتنبي الى السيف فقال :

يبس النجيع عليه وهو مجرد

عن غمده فكأنما هو مغمد (٢)

٦ ـ أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأول ، كقول جرير :

اذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا

أخذه أبو نواس ، وعمم فيه ، فقال ، يستعطف الرشيد لما سجن الفضل البرمكي :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

٧ ـ القلب ، وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول ، كقول أبي الشيص :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم

قلبه أبو الطيب فقال :

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه (٣)

__________________

(١) يريد أنهم سلبوا ثيابهم فكانت الدماء الملابسة لاشراق الشمس بمنزلة الثياب لهم.

(٢) النجيع الدم الماثل الى السواد ، يريد أن الدم اليابس صار بمنزلة الغمد له.

(٣) الاستفهام فيه للانكار ، وجملة وأحب فيه ملامة حالية ، والانكار راجع للجمع بين محبته ومحبة الملامة فيه.


فأبو الشيص يصرح بحب الملامة من حيث اشتمال اللوم على ذكر المحبوب ، وهذا محبوب له.

والمتنبي صرح بكراهتها لصدورها من أعدائه ، وكل ما يصدر من العدو فهو مبغوض ، فكل منهما نحا منحى غير الآخر.

٨ ـ أن يؤخذ بعض المعنى ، ويضاف اليه زيادة تحسنه ، كقول الأفوه الأودي :

وترى الطير على آثارنا

رأي عين ثقة أن ستمار

مع قول أبي تمام :

لقد ظللت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل (١)

فقد أفاد الأفواه بقوله : رأى عين قربها ، لأنها اذا بعدت تخيلت ولم تر ، وهذا القرب إنما كان لتوقعها الفريسة ، وبقوله : ثقة أن ستمار ، تأكدها مما هي طامحة اليه.

أما أبو تمام فلم يحم حول هذا ، ولكنه زاد عليه قوله : إلا أنها لم تقاتل ، وقوله : في الدماء نواهل ، ثم بإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش ، ومن أجل هذا حسن أن يقول : إلا أنها لم تقاتل ، وهذه الزيادة أكسبت كلامه حسنا وطلاوة ، وإن كان قد ترك بعض ما ألم به الأفوه.

(تنبيه) الأنواع التي ليس الأخذ فيها ظاهرا مقبولة كلها ، بل منها ما يدق فيه الصنع ويخفى فيه مكان الأخذ حتى يخرج بحسن التصرف وجودة السبك من حيز الأخذ والاتباع ، الى أن يكون أشبه بالاختراع والابتداع.

أما ما يتصل بالسرقات الشعرية ، فهو : الاقتباس ، والتضمين ، والعقد ، والحل ، والتلميح :

١ ـ الاقتباس ، أن يضمن المتكلم منثوره شيئا من القرآن ، أو الحديث ،

__________________

(١) إضافة عقبان الى الأعلام من إضافة المشبه به للمشبه أي الأعلام التي هي كالعقبان في تلونها وفخامتها لأن الأعلام بمعنى الرايات فيها ألوان مختلفة كالعقبان ، وقوله بعقبان طير متعلق بظللت أي انها لزمت فوق الأعلام فألقت ظلها عليها ، والنواهل من نهل اذا روى.


تفخيما لشأنه وتزيينا لسبكه على وجه لا يشعر (١) بأنه منه ، كقول ابن نباتة الخطيب :

«فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ، ما لكم لا تشفقون فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما انكم تنطقون».

وقول الحريري : أنا أنبئكم بتأويله ، وأميز صحيح القول من عليله.

وقول الحماسي :

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحب ميعاد السلو المقابر

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة حب (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)

وقول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني :

لآل فريغون في المكرمات

يد أولا واعتذار اخيرا

إذا ما حللت بمغناهم

(رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)(٢)

وقول الحريري : «وكتمان الفقر زهادة وانتظار الفرج بالصبر عبادة».

فقوله : انتظار الفرج بالصبر عبادة ، لفظ الحديث.

وقول الصاحب بن عبّاد :

قال لي إن رقيبي

سيء الخلق فداره

قلت دعني «وجهك

الجنة حفت بالمكاره»

اقتبسه من الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، والاقتباس ضربان :

(أ) ما لا ينقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصلي الى معنى آخر ، كما تقدم من الأمثلة.

(ب) ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي ، كقول ابن الرومي :

__________________

(١) أما اذا قال في أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا ، أو : قال النبي عليه‌السلام كذا ، فلا يسمى اقتباسا.

(٢) سورة الانسان الآية ٢٠.


لئن أخطأت في مدحك ماأخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

فهو مقتبس من قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) ، فمعناه في القرآن واد لا ماء فيه ولا نبات.

نقله ابن الرومي الى رجل لا خير فيه ولا نفع ، ولا بأس بتغيير يسير في اللفظ المقتبس للوزن أو غيره ، كقول بعض المغاربة عند وفاة بعض أصحابه :

قد كان ما خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

(تتمة) الاقتباس على ثلاثة أقسام :

(أ) مستحسن ، وهو ما كان في الخطب والمواعظ.

(ب) مباح ، ما كان في الغزل والرسائل والقصص.

(ج) مردود ، ما كان في الهزل ، كقول القائل :

أوحى الى عشاقه

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)

(وردفه ينطلق من خلفه)

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)

٢ ـ التضمين (٢) ، وهو أن يضمن الشاعر كلامه شعرا من شعر غيره مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا لدى نقاد الشعر وذي اللسن ، كقول الحريري يحكي ما قاله الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع :

على اني سأنشد عند بيعي

(أضاعوني وأي فتى أضاعوا)

المصراع الأخير للعرجي ، وأصله :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر (٣)

أما تضمينه فلا تنبيه عليه لشهرته ، فكقوله :

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٣٧.

(٢) تضمين البيت فما زاد استعانة وتضمين المصراع فما دونه يسمى رفوا وإبداعا.

(٣) الكريهة : الحرب ، والسداد : سد الثغر بالخيل والرجال ، والثغر : الموضع الذي يخشى منه العدو ، والاستفهام أي أضاعوني وأنا أكمل الفتيان في وقت الحاجة لسداد الثغر.


قد قلت لما أطلعت وجناته

حول الشقيق الغض روضة آس

أعذاره الساري العجول ترفقن

ما في وقوفك ساعة من باس (١)

المصراع الأخير مطلع قصيدة مشهورة لأبي تمام :

ما في وقوفك ساعة من بأس

نقضي حقوق الأربع الادراس

وأحسن التضمين أن يزيد المضمن في كلامه نكتة لا توجد في الأصل كالتورية والتشبيه في قوله :

اذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكرت ما بين العذيب وبارق

ويذكرني من قدماها ومدامعي

مجر عوالينا ومجرى السوابق (٢)

المصراعان الأخيران مطلع قصيدة لأبي الطيب :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجحر عوالينا ومجرى السوابق

يريد المتنبي أنهم كانوا نزولا بين هذين الموضعين يجرون الرماح عند مطا الفرسان ويسابقون على الخيل ، أما الآخر فأراد بالعذيب تصغير عذب وعزبه شفة الحبيبة وببارق ثغرها ، أي ثغرها الشبيه بالبرق وبما بينهما ريقها ، وهذه تورية بديعة نادرة في بابها ، وشبه تبختر قدها بتمايل الرماح وتتابع دموعه بجريان الخيل السوابق.

٣ ـ العقد ، هو نظم المنثور لا على جهة الاقتباس (٣) ، ومن شرطه أن يأخذ المنثور بجملة لفظه ، أو بمعظمه ، فيزيد النظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر ، فعقد القرآن كقوله :

أنلني بالذي استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإن الله خلاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)

وعقد الحديث كقوله :

__________________

(١) أطلعت : أبدت ، والشقيق : ورد أحمر.

(٢) اللمى : سمرة الشفتين ، ومجر : رؤوس الرماح.

(٣) فان كان النتر قرآنا أو حديثا وأريد نظمه فلا بد أن يغير فيه تغييرا كثيرا ، أو يشير إلى أنه من القرآن أو الحديث.


إن القلوب لأجناد مجندة

بالاذن من ربها تهوى وتأتلف

فما تعارف منها فهو مؤتلف

وما تناكر فهو مختلف

عقد لقوله عليه‌السلام : «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

٤ ـ الحل ، وهو نثر النظم ، وشرط قبوله أمران :

(أ) أن يكون سبكه جيدا لا ينقص عن سبك أصله.

(ب) أن يكون حسن الموقع مستقرا في محله غير قلق ولا ناب ، كقول بعضهم في وصف السيف : أورثه عشق الرقاب ، نحو : فبكى والدمع مطر ، تزيد به الخدود محولا ، حل قول أبي الطيب :

في الخد إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا (١)

وقول بعض المغاربة : فإنه قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ، لم يزل سوء الظن يقتاده ويصدق توهمه الذي يعتاده (٢) ، حل قول أبي الطيب (٣) :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

٥ ـ التلميح ، هو أن يشير الناثر أو الناظم في قرينة سجع ، أو بيت شعر ، الى قصة معلومة ، أو نكتة مشهورة ، أو بيت حفظ لتواتره ، أو مثل رائع ، أو حكمة مستملحة.

وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود ، كقول بعضهم في مليح اسمه بدر :

يا بدر أهلك جاروا

وعلموك التجري

وقبحوا لك وصلي

وحسنوا لك هجري

فليفعلوا ما أرادوا

فإنهم أهل بدر

__________________

(١) الخليط من يخالطك وأراد به الحبيب ، ومحول الخدود ذهاب نضارتها.

(٢) الفعلات الأفعال وحنظلت نخلاته أي صارت كالحنظل والمراد بها نتائج افكاره.

(٣) قاله يشكو سيف الدولة واسماعه لقول أعدائه.


إشارة الى قوله عليه‌السلام لعمر حينما سأل قتل حاطب (١) بن أبي بلعتة ، وكان ممن شهد بدرا ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وقول الحريري : بتّ بليلة نابغية ، أومأ به الى قول النابغة :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

وقول آخر :

لعمرو من الرمضاء والنار تلتظي

أرقّ وأحفى منك في ساحة الكرب

إشارة الى البيت المشهور :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار (٢)

وقد وقع هذا النوع كثيرا في القرآن الكريم كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٣) ، يشير إلى المثل : أرق من نسج العنكبوت وأضعف من بيتها.

__________________

(١) لأنه أرسل خطابا مع امرأة لأهل مكة سرا يخبرهم بعزم النبي عليه‌السلام وأصحابه على فتحها ، ليكون له يد عندهم ، فعلم النبي ذلك بالوحي.

(٢) عمرو هو قاتل كليب ، وقد طلب منه ماء حين أجهز عليه وطلب إغاثته فامتنع.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤١.


خاتمة

ينبغي للمتكلم أن يتأنق في ثلاثة مواضع : الابتداء ، التخلص ، الانتهاء.

١ ـ فالابتداء هو أن يجعل المتكلم مبدأ كلامه حسن الوصف عذب اللفظ ، صحيح المعنى ، فإذا اشتمل على إشارة الى المقصود سمي براعة استهلال.

قال ابن رشيق في «العمدة» : إن حسن الافتتاح ، داعية الانشراح ، ومطية النجاح ، كما جاء في الخبر الشعر قفل أوله مفتاحه ، فعلى الشاعر أن يجوّد ابتداء شعره ، فإنه أول ما يقرع السمع وبه يستدل على ما عنده ، وليتجنب (ألا وخليلي وقد) فلا يستكثر منها في ابتدائه فإنها من علامات الضعف والتكلان إلا للقدماء وليجعله حلوا سهلا وفخما جزلا ، اه.

ومن جيد الابتداءات قول امرىء القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (١)

فقد وقف واستوقف وبكى واستبكى ، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد ، وقول النابغة الجعدي :

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وقد فضلوا بيت النابغة على البيت الأول ، لأن الشطر الثاني منه كثير الألفاظ قليل المعنى غريب اللفظ.

وقد كان أبو تمام في الموضع الذي لا يجارى في فخم ابتداءاته لما لها من الروعة والجلال ، كقوله يهنيء المعتصم بفتح عمورية ، مع أن المنجمين كانوا قد زعموا أنها لا تفتح في ذلك الوقت :

__________________

(١) السقط : منقطع الرمل حيث يدق ، واللوى رمل معوج ملتو ، والدخول وحومل : موضعان.


السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحدّ بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف

في متونهن جلاء الشك والريب

ومن جيد الابتداءات المشتملة على براعة الاستهلال قول حافظ إبراهيم في تحية عام هجري :

أطل على الأكوان والخلق تنظر

هلال رآه المسلمون فكبّروا

وقول أحمد شوقي في رثاء إسماعيل صبري :

أجل وإن طال الزمان موافي

أخلى يديك من الخليل الوافي

وقوله أيضا في فوز الأتراك على اليونان :

الله أكبر كم في الفتح من عجب

يا خالد الترك جدد خالد العرب

وربما خان الحظ بعض الشعراء المفلقين وأوقعهم نحس الطالع في مهواة سحيقة لا قرار لها إما من غفلة أو غلطة في الطبع أو استغراق في الصنعة وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب ، واعتبر ذلك بما أنشده ذو الرمة حين دخل على هشام بن عبد الملك بن مروان من قوله :

ما بال عينك منها الماء منسكب

كأنه من كلى مقرية سرب (١)

وكان به رمش فهي تدمع أبدا ، فظن أنه عرّض به ، فقال : بل عينك ، وأمر بإخراجه.

وقيل إنه لما بنى المعتصم قصره بميدان بغداد وجمع عظماء دولته وجلس فيه في يوم حفل أنشده إسحاق الموصلي :

يا دار غيّرك البلى ومحاك

يا ليت شعري ما الذي أبلاك

فتطير المعتصم بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.

فعلى الحاذق الفطن أن ينظر في أحوال المخاطبين ويختار للأوقات ما يشاكلها فيقصد ما يحبون ويتجنب ما يكرهون سماعه.

٢ ـ التخلص ـ الخروج ، هو أن ينتقل الشاعر من فن الى آخر باحسن أسلوب مع لطف تخيل وحسن تخلص ، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال لشدة

__________________

(١) الكلى جمع كلية (بضم الكاف) والمقرية المحزوزة ، والسرب الجاري.


الالتئام ، كأنهما أفرغا في قالب واحد ، وذلك يحرك من نشاط السامعين ويعين على إصغائهم ، وأحسنه ما تهيأ للناظم في بيت واحد كقول مسلم بن الوليد يمدح يحيى البرمكي :

أجدك ما تدرين أن رب ليلة

كأن دجاها من قرونك ينشر

سريت بها حتى تجلت بغرّة

كغرة يحيى حين يذكر جعفر (١)

ويليه ما جاء في بيتين كقول المتنبي يمدح المغيث بن علي العجلي :

مرّت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا (٢)

وأكثر الناس ولوعا بهذا النوع أبو الطيب ، ولأجله يسقط سقوطا قبيحا ، كقوله :

ها فانظري أو فظني بي ترى حرقا

من لم يذق طرفا منها فقد وألا

على الأمير يرى ذلي فيشفع لي

إلى التي ترتكتني في الهوى مثلا (٣)

فقد تمنى أن يكون الأمير قوادا له.

والمتأخرون كلهم على الجملة فلما يفوتهم سلوك هذه الطريق ، أما العرب فما كانوا يذهبون هذا المذهب في الخروج من المديح ، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله : دع ذا ، وعد عن ذا ، ثم يأخذون فيما يريدون ، ويسمى هذا اقتضابا ، كقوله :

فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجرا (٤)

أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه ، وكثيرا ما كان البحتري يسلك هذه الطريقة كقوله :

__________________

(١) أجدك (بكسر الجيم وفتحها) لا يتكلم به إلا مضافا ، والمعنى : أيجد منك هذا ، فنصبه على طرح الباء ، فاذا سبق بالواو فقيل : وجدك ، فهو مفتوح الجيم ليس غير.

(٢) الترب واللدة المساوي في السن ، والشادن : الظبي اذا شدت قرنه وقوي ، واستضحكت : ضحكت ، والثري مأسدة مشهورة.

(٣) الحرق جمع حرقة ما يجده الانسان من لذعة حب أو حزن ، ووأل نجا.

(٤) الجسرة الطوية الضخمة من النوق ، والذمول التي تسير ذميلا أي حثيثا ، وصام النهار قام قائم الظهيرة واعتدل.


لو لا الرجاء لمتّ من ألم النوى

لكن قلبي بالرجاء موكل

إن الرعية لم تزل في سيرة

عمرية منذ ساسها المتوكل

ومن الاقتضاب ما هو شبيه بالتخلص كما يقول القائلي بعد حمد الله ، أما بعد فكذا ، وكقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(١) ، أي هذا كما ذكر ، وقول المؤلف : هذا باب ، هذا فصل.

٣ ـ الانتهاء ـ الاختتام ، هو أن يختم المتكلم كلامه بأحسن الخواتم ، إذ هي آخر ما يبقى منه في الأسماع ، وربما حفظت من بين سائر الكلام لقرب العهد بها فوجب أن تكون غاية في الجودة وألا يكون سبيل للزيادة عليها ، ولا لأن يؤتي بعدها بأحسن منها في رشاقتها وحلاوتها وقوتها وجزالتها ، مع تضمنها معنى تاما يؤذن السامع بأنه الغاية والمقصد والنهاية ، فإن دل على ما يشعر بالانتهاء سمي براعة مقطع.

ولقد ختم الله تعالى كل سورة من سور القرآن الكريم بأحسن ختام ، وأتمها بما يطابق مقصدها من أدعية أو وعد أو وعيد أو موعظة أو تحميد الى غير ذلك من الخواتم الرائعة.

وقد أجاد سلوك هذا الطريق المتأخرون ، كأبي نواس وأبي تمام والبحتري ، ولا سيما المتنبي ، فإنه أتى فيه بالعجب العجاب ، فمن ذلك قول أبي نواس في المأمون :

فبقيت للعلم الذي تهدي له

وتقاعست عن يومك الأيام

فانظر كيف تضمنت هذه الخاتمة الدعاء بالبقاء مع المدح والإعظام ، وقول أبي تمام :

فما من ندي إلا إليك محله

ولا رفعة إلا اليك تسير

وقول ثالث :

فلا حطت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا

وقول الأرجاني :

بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحا

فإنك في هذا الزمان فريد

__________________

(١) سورة ص الآية ٥٥.


وقول ابن حجة في بديعيته :

عليك سلام نشره كلما بدا

به يتغالى الطيب والمسك يختم

تدريب أول

بيّن نوع المحسن اللفظي فيما يلي :

١ ـ حدق الآجال آجال

والهوى للمرء قتال

٢ ـ وسميته يحيى ليحيا فلم يكن

إلى رد أمر الله فيه سبيل

٣ ـ قد بلينا في عصرنا بأناس

يظلمون الأنام ظلما عما

يأكلون التراث أكلا لما

ويحبون المال حبا جما

٤ ـ اللهم اعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا

٥ ـ أشكو وأشكر فعله

فأعجب لشاك منه شاكر

٦ ـ قابل بشكرك من قلت عطيته

في الناس أو كثرت واستبق إيناسا

ولا تنم ساخط منهم على أحد

(لا يشكر الله من لا يشكر الناسا)

٧ ـ يسار من سجيتها المنايا

ويمنى من عطيتها اليسار

٨ ـ فحوض عدلك عذب مغدق خصر

وروض فضلك رحب مونق خضر

الاجابة

١ ـ في هذا البيت جناس تام مماثل بين الآجال وآجال ، إذ الأولى جمع إجل (بكسر الهمزة) وهو القطيع من بقر الوحش ، والثاني جمع أجل ، وهو أمد العمر.

٢ ـ فيه جناس تام مستوف بين يحيى ويحيا.

٣ ـ فيه اقتباس من قوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا)(١).

٤ ـ فيه سجع مرصع ، لأن إحدى الفقرتين كالثانية في الوزن والتقفية.

__________________

(١) سورة الفجر الآية ٢٠.


٥ ـ فيه جناس ناقص لاختلافهما في العدد.

٦ ـ فيه اقتباس من الحديث الشريف : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».

٧ ـ فيه رد العجز على الصدر لوجود أحد اللفظين المتفقين لفظا ومعنى في آخر البيت ، والآخر في صدر المصراع الثاني.

٨ ـ فيه سجع مرصع لاتفاق كل لفظ من صدره مع نظيره من العجز وزنا ورويا.

تدريب ثان

١ ـ كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي

حتى تعود لي الحياة وأنت هي

٢ ـ (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(١)

٣ ـ يعشى عن المجد الغبي ولن ترى

في سؤدد أربا لغير أريب

٤ ـ سل سبيلا فيها الى راحة النف

س براح كأنها سلسبيل

٥ ـ في الحديث : «اللهم إني أدرأ بك في نحورهم ، وأعوذ بك من شرورهم».

٦ ـ ليتهم سموه باسم سوى ذا

إنما التسريع دين قويم

٧ ـ وما اشتار العسل ، من اختار الكسل

٨ ـ فلو كانت الأخلاق تحوي وراثة

ولو كانت الآراء لا تتشعب

لأصبح كل الناس قد ضمهم هوى

كما أن كل الناس قد ضمهم أب

ولكنها الأقدار كلّ ميسر

لما هو مخلوق له ومقرب

الاجابة

١ ـ فيه جناس تام ومفروق لتشابه الركنين لفظا لا خطا.

٢ ـ فيه جناس مضارع لاختلافهما في نوع الحرف مع تقارب المخرج.

٣ ـ فيه ما يلحق بالجناس ، لأنه يجمع اللفظين ، وهما أرب وأريب الاشتقاق.

__________________

(١) سورة العاديات الآيتان ٧ و ٨.


٤ ـ فيه رد العجز على الصدر ، لأن أحد اللفظين المتجانسين في آخر المصراع الأول ، والآخر في صدره.

٥ ـ فيه سجع متواز ، لأن الفقرتين اتفقتا في الكلمتين الأخيرتين.

٦ ـ فيه تشريع لأن البيت مبني على قافيتين ، إذ يمكن أن يسقط منه شيء ، فيصير :

ليتهم سموه باسم

إنما التشريع دين

فينقلب من المديد الى الرمل.

٧ ـ فيه لزوم ما لا يلزم لأن قبل الفاصلة حركة وحرفا ليسا لازمين.

٨ ـ فيه اقتباس من الحديث : «اعملوا كل ميسّر لما خلق له».

تمرين أول

١ ـ بقيت لنا تجود مدى الليالي

فإنك ما بقيت لنا بقينا

٢ ـ سل طائرا صدع الفؤاد بسحرة

أتراه غرد صادعا أم صادحا

٣ ـ واستجب في الهوى دعائي إني

لم أك بالدعاء ربّ شقيا

٤ ـ حي عربا بالخيف من حي ليلى

وأقر عيني السّلام هندا وليلى

٥ ـ لا كان إنسان تيمم قاصدا

صيدا لما فاصطاده إنسانها

٦ ـ رماني زمان فلم يرعو

لعالي المنار وغالي المنال

٧ ـ وهن العظم بالبعاد فهب لي

رب باللطف من لدنك وليا

٨ ـ ودارهم ما دمت في دارهم ، وحيهم ما دمت في حيهم

٩ ـ له مبسم كالبرق ضياء ولمعا ، وأعين يخيل لي من سحرهم أنها تسعى

١٠ ـ كنت أطمع في تجريبك ، ومطايا الجهل تجري بك


تمرين ثان

١ ـ دعت النوى بفراقهم فتشتتوا

وقضى الزمان بينهم فتبددوا

وهو ذميم الحالتين فما به

شيء سوى جود بن ارتق يحمد

٢ ـ فلم تضع الأعادي قدر شاني

ولا قالوا فلان قد رشاني

٣ ـ وإن أقر على رق أنامله

أقر بالرق كتاب الأنام له

٤ ـ قال الخطيب ابن نباته ، يذكر أهوال يوم القيامة :

«هنالك يرفع الحجاب ، ويوضع الكتاب ، ويجمع من له الثواب ، وحقّ عليه العقاب ، فيضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب».

٥ ـ قال الشافعي رضي‌الله‌عنه :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهن خير البريه

اتق المشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملن بنيه

٦ ـ قال ابن المعتز :

أترى الجيرة الذين تداعوا

عند سير الحبيب وقت الزوال

علموا أنني مقيم وقلبي

راحل فيهم أمام الجمال

مثل صاع العزيز في أرحل القو

م ولا يعلمون ما في الرحال

٧ ـ قال المتنبي في مطلع قصيدة :

«أتراها لكثرة العشاق تحسب الدمع خلقة في المآقي»


٨ ـ خليلي ما لي لا أرى غير شاعر

فكم منهم الدعوى ومني القصائد

فلا تعجبا إن السيوف كثيرة

ولكن سيف الدولة اليوم واحد

٩ ـ وإني جدير إذ بلغتك بالمنى

وأنت بما أملت فيك جدير

فإن تولني منك الجميل فأهله

وإلا فإني عاذر وشكور

١٠ ـ فهمت كتابك يا سيدي

فهمت ولا عجب إن أهيما


فرائد من البلاغة

لقد رأينا القطع الآتية تشمل على فرائد من البلاغة ، فأحببنا وضعها لتكون نماذج في التطبيق على الفنون الثلاثة :

قال عبد الله فكري المتوفى سنة ١٣٠٧ ه‍ ينصح ابنه :

إذا نام غر في دجى الليل فاسهر

وقم للمعالي والعوالي وشمر

وسارع الى ما رمت ما دمت قادرا

عليه وإن لم تبصر النجح فاصبر

وأكثر من الشورى فإنك إن تصب

تجد مادحا أو تخطىء الرأي تعذر

وقالت عائشة التيمورية المتوفاة سنة ١٣٢٠ ه‍ :

بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسمو على أترابي

وبفكرة وقادة وقريحة

نقادة قد كملت آدابي

ما ضرني أدبي وحسن تعلمي

إلا بكوني زهرة الألباب

وقال صفي الدين الحلي المتوفى سنة ٧٤٠ ه‍ في وصف حديقة :

وأطلق الطير فيها سجع منطقه

ما بين مختلف منه ومتفق

والظل يسرق بين الدوح خطوته

وللمياه دبيب غير مسترق

وقد بدا الورد مفترا مباسمه

والنرجس الغض فيها شاخص الحدق

والسحب تبكي وثغر البرق مبتسم

والطير تسجع من تيه ومن أنق

فالطير في طرب والسحب في حرب

والماء في هرب والغصن في قلق


وقال في الفخر والحماسة :

سل الرماح العوالي عن معالينا

واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا

لقد سعينا فلم تضعف عزائمنا

عما نروم ولا خابت مساعينا

قوم اذا استخصموا كانوا فراعنة

يوما وإن حكموا كانوا موازينا

إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا

أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا

بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

وقال محمد بن الطيب المغربي في وصف الربيع :

ورد الربيع فمرحبا بوروده

وبنور بهجته ونور وروده

وبحسن منظره وطيب نسيمه

وأنيق مبسمه ووشي بروده

والغصن قد كسى الغلائل بعد ما

أخذت يدا كانون في تجريده

والورد في أعلى الغصون كأنه

ملك تحف به سراة جنوده

ومن لامية العجم للطغرائي المتوفى سنة ٥١٥ ه‍ :

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

فإن جنحت اليه فاتخذ نفقا

في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل

أبى الله أن أسمو بغير فضائلي

اذا ما سما بالمال غير مسود

وإن أكرمت قبلي أوائل أسرتي

فإني بحمد الله مبتدأ سؤددي

إذا شرفت نفس الفتى زاد قدره

على كل أسنى منه ذكرا وأمجد


يقول مؤلفه ، عفا الله عنه :

«فرغت من تهذيب هذا الكتاب وتنقيحه ، بعد وضعه وترتيبه ، لتسع خلون من شوال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة وألف هجرية بمدينة الخرطوم ، حاضرة الديار السودانية.

والحمد لله أولا وآخرا.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم».

(تم)



فهرس الكتاب

الموضوع

الصفحة

مقدمة الكتاب................................................................ ٣

نبذة في تاريخ علوم البيان أو علوم النقد أو علوم البلاغة............................ ٥

المقدمة

في حقيقة الفصاحة والبلاغة لغة واصطلاحا...................................... ١٣

الفصاحة................................................................... ١٥

فصاحة الكلام.............................................................. ٢٥

فصاحة المتكلم.............................................................. ٣٤

البلاغة..................................................................... ٣٥

بلاغة الكلام................................................................ ٣٥

بلاغة المتكلم................................................................ ٣٩

تداريب وتمارين.............................................................. ٤٠

علم المعاني.................................................................. ٤١

الباب الاول ـ الخبر..................................................... ٣٤

المبحث الأول في تعريف الخبر................................................. ٤٣

المبحث الثاني في تأليف الجمل................................................. ٤٥

المبحث الثالث في الغرض من إلقاء الخبر........................................ ٤٦


الموضوع

الصفحة

المبحث الرابع في طريق إلقاء الخبر.............................................. ٤٩

المبحث الخامس في الجملة الاسمية والفعلية....................................... ٥٥

نماذج وتمارين................................................................ ٥٨

الباب الثاني ـ الانشاء................................................... ٦١

المبحث الاول في تعريف الانشاء............................................... ٦١

المبحث الثاني في التمني....................................................... ٦٢

المبحث الثالث في الاستفهام.................................................. ٦٣

المبحث الرابع في الأمر........................................................ ٧٥

المبحث الخامس في النهي..................................................... ٧٩

المبحث السادس في النداء..................................................... ٨١

الباب الثالث ـ الذكر.................................................... ٨٥

نماذج وتمارين................................................................ ٨٧

الباب الرابع ـ الحذف................................................... ٨٩

المبحث الاول في مزايا الحذف وشروطه......................................... ٨٩

المبحث الثاني في حذف المسند اليه............................................. ٩٠

المبحث الثالث في حذف المسند............................................... ٩٢

المبحث الرابع في حذف المفعول................................................ ٩٣

الباب الخامس ـ التقديم............................................... ١٠٠

المبحث الأول في مزايا التقديم وأقسامه........................................ ١٠٠

المبحث الثاني في تقديم المسند اليه............................................ ١٠١

المبحث الثالث في تقديم المسند............................................... ١٠٥

المبحث الرابع في تقديم متعلقات الفعل........................................ ١٠٦


الموضوع

الصفحة

الباب السادس ـ التعريف............................................... ١١٢

المبحث الأول في الفرق بين النكرة والمعرفة والداعي الى التعريف................... ١١٢

المبحث الثاني في تعريف المسند اليه بالاضمار.................................. ١١٢

المبحث الثالث في تعريف المسند اليه بالعملية.................................. ١١٤

المبحث الرابع في تعريف المسند اليه باسم الاشارة............................... ١١٥

المبحث الخامس في تعريف المسند اليه بالموصولية................................ ١١٦

المبحث السادس في تعريف المسند اليه باللام................................... ١١٨

المبحث السابع في تعريف المسند اليه بالاضافة................................. ١٢١

المبحث الثامن في تعريف المسند.............................................. ١٢٢

تدريب وتمرين.............................................................. ١٢٣

الباب السابع ـ التنكير................................................. ١٢٦

نماذج وتمارين............................................................... ١٢٨

الباب الثامن ـ التقييد.................................................. ١٣٠

المبحث الاول في فوائد التقييد................................................ ١٣٠

المبحث الثاني في التقييد بالمفاعيل ونحوها....................................... ١٣٠

المبحث الثالث في التقييد بالتوابع............................................. ١٣٠

المبحث الرابع في التقييد بضمير الفصل........................................ ١٣٣

المبحث الخامس في التقييد بالشرط............................................ ١٣٤

الباب التاسع ـ الخروج عن مقتضى الظاهر............................... ١٤٠

تدريب وتمرين.............................................................. ١٤٨


الموضوع

الصفحة

الباب العاشر ـ القصر.................................................. ١٥٠

المبحث الاول في تعريف القصر لغة واصطلاحا................................. ١٥٠

المبحث الثاني في طرقه...................................................... ١٥٠

المبحث الثالث في تقسيمه باعتبار الواقع والحقيقة............................... ١٥٥

المبحث الرابع في تقسيمه باعتبار حال المقصور................................. ١٥٦

المبحث الخامس في تقسيمه باعتبار حال المخاطب.............................. ١٥٦

المبحث السادس في تقسيم مواقع القصر....................................... ١٥٧

تداريب وتمارين............................................................. ١٥٨

الباب الحادي عشر ـ الفصل والوصل................................... ١٦٢

تمهيد في دقة مسلكه وعظيم خطره........................................... ١٦٢

المبحث الاول في وصل المفردات وفصلها...................................... ١٦٣

المبحث الثاني في وصل الجمل................................................ ١٦٣

المبحث الثالث في الجامع.................................................... ١٦٥

المبحث الرابع في محسنات الوصل............................................. ١٦٧

المبحث الخامس في الفصل................................................... ١٦٧

تتمة...................................................................... ١٧٢

تداريب وتمارين............................................................. ١٧٨

الباب الثاني عشر ـ الايجاز والاطناب والمساواة......................... ١٨٢

المبحث الاول في دقة مسلكها واختلاف الأئمة في تعريفها....................... ١٨٢

المبحث الثاني في الايجاز..................................................... ١٨٢

المبحث الثالث في المساواة................................................... ١٩٠


الموضوع

الصفحة

المبحث الرابع في الاطناب................................................... ١٩١

المبحث الخامس الايجاز أفضل أم الاطناب..................................... ١٩١

أسرار البلاغة في الايجاز والاطناب............................................ ٢٠٠

تمارين ونماذج عامة على المعاني................................................ ٢٠٢

علم البيان............................................................ ٢٠٧

الدلالة.................................................................... ٢٠٩

أبواب الفن................................................................ ٢١١

الباب الأول ـ التشبيه.................................................. ٢١٣

المبحث الأول في شرح حقيقته وبيان جليل فائدته............................... ٢١٣

المبحث الثاني في الطرفين.................................................... ٢١٤

المبحث الثالث في تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين الى ملفوف ومفروق............. ٢١٩

المبحث الرابع في تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين الى تشبيه تسوية وتشبيه جمع....... ٢١٩

المبحث الخامس في وجه الشبه................................................ ٢٢٠

المبحث السادس في تقسيم التشبيه باعتبار الوجه الى تمثيل وغيره.................. ٢٢٥

المبحث السابع في تقسيم التشبيه باعتبار الوجه الى مجمل ومفصل................. ٢٢٨

المبحث الثامن في تقسيم التشبيه باعتبار الوجه إلى قريب مبتذل وبعيد غريب....... ٢٢٩

المبحث التاسع في الكلام على أدوات التشبيه.................................. ٢٣٢

المبحث العاشر في تقسيم التشبيه باعتبار الأداة................................. ٢٣٣

المبحث الحادي عشر في الغرض من التشبيه.................................... ٢٣٤

المبحث الثاني عشر في أقسام التشبيه باعتبار الغرض............................ ٢٣٨

تداريب وتمارين............................................................. ٢٤٢


الموضوع

الصفحة

الباب الثاني ـ الحقيقة والمجاز......................................... ٢٤٦

المبحث الأول في أقسام الحقيقة.............................................. ٢٤٦

المبحث الثاني في تعريف الحقيقة.............................................. ٢٤٦

المبحث الثالث في المجاز وأقسامه............................................. ٢٤٨

المبحث الرابع في المجاز المرسل................................................ ٢٤٩

المبحث الخامس في الاستعارة ومنزلها في البلاغة................................. ٢٥٩

المبحث السادس في الاستعارة أمجاز لغوي هي أم مجاز عقلي...................... ٢٦٣

المبحث السابع في قرينة الاستعارة............................................. ٢٦٥

المبحث الثامن في انقسام الاستعارة الى عنادية ووفاقية........................... ٢٦٦

المبحث التاسع في انقسامها باعتبار الجامع الى داخل وخارج...................... ٢٦٧

المبحث العاشر في انقسامها باعتبار الجامع أيضا الى عامية وخاصية................ ٢٦٧

المبحث الحادي عشر في انقسامها باعتبار الطرفين والجامع....................... ٢٦٩

المبحث الثاني عشر في تقسيم الاستعارة الى مصرحة ومكنية...................... ٢٧٠

المبحث الثالث عشر مذهب السكاكي والخطيب القزويني في المكنية.............. ٢٧٢

المبحث الرابع عشر في تقسيم الاستعارة التصريحية لدى السكاكي الى تحقيقية وتخييلية ومحتملة لهما          ٢٧٣

المبحث الخامس عشر في انقسامها الى أصلية وتبعية............................. ٢٧٤

المبحث السادس عشر في تقسيمها الى مرشحة ومجردة ومطلقة.................... ٢٧٧

المبحث السابع عشر في حسن الاستعارة وقبحها............................... ٢٧٩

المبحث الثامن عشر في المجاز المركب.......................................... ٢٨٦

المبحث التاسع عشر في المجاز بالحذف أو الزيادة................................ ٢٨٩

المبحث العشرون في المجاز العقلي أو المجاز الحكمي.............................. ٢٩١

تتمة وفيها مهمان.......................................................... ٢٩٦

تداريب وتمارين............................................................. ٢٩٨


الموضوع

الصفحة

الباب الثالث ـ الكناية................................................. ٣٠١

المبحث الأول في تعريفها.................................................... ٣٠١

المبحث الثاني في أقسامها من حيث المكنى عنه................................. ٣٠٢

المبحث الثالث في أقسامها من حيث الوسائط................................. ٣٠٥

المبحث الرابع في حسن الكناية وقبحها........................................ ٣٠٦

خاتمة..................................................................... ٣٠٧

نماذج وتمارين............................................................... ٣١٠

مزايا دراسة البيان في سوغ مختلف الأساليب................................... ٣١٤

علم البديع........................................................... ٣١٨

أقسام المحسنات ـ المحسنات اللغوية............................................ ٣١٩

المقابلة.................................................................... ٣٢٢

مراعاة النظير ـ التناسب ـ الائتلاف............................................ ٣٢٣

تشابه الأطراف............................................................ ٣٢٣

الارصاد ـ التسهيم.......................................................... ٣٢٤

المشاكلة.................................................................. ٣٢٤

المزاوجة.................................................................... ٣٢٥

العكس ـ التبديل........................................................... ٣٢٦

الرجوع.................................................................... ٣٢٧

التورية ـ الايهام ـ التخيير..................................................... ٣٢٧

الاستخدام................................................................ ٣٢٩

اللف والنشر.............................................................. ٣٣٠


الموضوع

الصفحة

الجمع ـ التفريق............................................................. ٣٣١

التقسيم................................................................... ٣٣٢

الجمع مع التفريق ـ الجمع مع التقسيم.......................................... ٣٣٤

الجمع مع التفريق والتقسيم................................................... ٣٣٤

التجريد................................................................... ٣٣٤

المبالغة ـ آراء العلماء فيها ـ أقسامها............................................ ٣٣٦

المذهب الكلامي........................................................... ٣٣٩

حسن التعليل.............................................................. ٣٤٠

التفريع.................................................................... ٣٤١

تأكيد المدح بما يشبه الذم................................................... ٣٤٢

تأكيد الذم بما يشبه المدح................................................... ٣٤٣

الاستتباع ـ الادماج......................................................... ٣٤٤

التوجيه ـ الايهام............................................................ ٣٤٥

الهزل الذي يراد به الجد...................................................... ٣٤٦

تجاهل العارف............................................................. ٣٤٦

القول بالموجب............................................................. ٣٤٧

الاطراد................................................................... ٣٤٨

تداريب وتمارين............................................................. ٣٤٨

المحسنات اللفظية

الجناس ـ التجنيس ـ أقسامه ـ فائدته............................................ ٣٥٤

رد العجز على الصدر ـ التصدير............................................. ٣٥٨

السجع ـ شروط حسنه ـ حكمه ـ أقسامه....................................... ٣٦٠

الموازنة.................................................................... ٣٦٤

القلب.................................................................... ٣٦٤


الموضوع

الصفحة

التشريع................................................................... ٣٦٥

تتمة...................................................................... ٣٦٦

السرقات الشعرية وما يتصل بها........................................ ٣٦٧

خاتمة..................................................................... ٣٧٨

تداريب وتمارين............................................................. ٣٨٢

فرائد من البلاغة........................................................... ٣٨٧

الفهرس................................................................... ٣٩١

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:
الصفحات: 399