بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ذكر بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملوك ، وكتابه إليهم

يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام

قال ابن هشام (١) : وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه ، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.

حدثني من أثق به عن أبى بكر الهذلى قال : بلغنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية ، فقال : «أيها الناس ، إن الله قد بعثنى رحمة وكافة ، فلا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه‌السلام».

وفى حديث ابن إسحاق : «إن الله بعثنى رحمة وكافة ، فأدوا عنى يرحمكم الله ، ولا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى» ، فقال أصحابه : «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» ، فقال : «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ، فشكا ذلك عيسى إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها» (٢).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دحية بن خليفة الكلبى (٣) إلى قيصر ملك الروم ، وبعث عبد الله بن حذافة السهمى (٤) إلى كسرى ملك فارس ، وبعث عمرو بن أمية

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٢). انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٠٥ ، ٣٠٦) ، فتح البارى لابن حجر(٧ / ٧٣٤).

(٣). انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧٠٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٣٩٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٥٠٧) ، التاريخ الكبير (٣ / ٢٥٤) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٨٢) ، أنساب الأشراف (١ / ٣٧٧) ، الجرح والتعديل (٣ / ٤٣٩) ، العقد الفريد (٢ / ٣٤) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٥٦) ، الأنساب لابن السمعانى (١٠ / ٤٥٢) ، تهذيب الكمال (٨ / ٤٧٣) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٥٠٦) ، خلاصة تهذيب الكمال (١١٢) ، الوافى بالوفيات (٤ / ٥١) ، تاريخ الإسلام (١ / ٤٨).

(٤). انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٢٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٦٤١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٨٩١) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢ / ٤٩) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٢٥٢).


الضمرى (١) إلى النجاشى ملك الحبشة ، وبعث حاطب بن أبى بلتعة (٢) إلى المقوقس صاحب الإسكندرية ، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد (*) ابنى الجلندى ملك عمان ، وبعث سليط بن عمرو (٣) أحد بنى عامر بن لؤيّ إلى ثمامة بن أثال ، وهوذة بن على الحنفيين ملكى اليمامة ؛ وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين ؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي (٤) إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى ملك تخوم الشام (٥).

ويقال : بعثه إلى حبلة بن أيهم الغسانى ، وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى ملك اليمن.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر ، وما كان من

خبر دحية معه (٦)

ذكر الواقدى من حديث ابن عباس ، ومن حديثه خرج فى الصحيحين : أن رسول

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٩١٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٧٨١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٨٦٢) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٧٩) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٦) ، تقريب التهذيب (٢ / ٦٥) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٢٨٠) ، الاستبصار (٧٨) ، الأعلام (٥ / ٧٣) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٣٢٥) ، الرياض المستطابة (٢١٤) ، التحفة اللطيفة (٣ / ٢٩١).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤٧٢) ، الإصابة الترجمة رقم (١٥٤٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٠١١) ، تاريخ خليفة (١٦٦) ، الجرح والتعديل (٣ / ٣٠٣) ، تهذيب التهذيب (٢ / ١٦٨) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٨٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٧).

(*) كذا فى الأصل ، وفى السيرة : «عياذ».

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٠٤٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٤٣٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٢٠٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٣٥) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٢٢٨) ، الثقات (٣ / ١٨١) ، المصباح المضيء (١ / ٢٧٠ ، ٢ / ٧٤).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١١٩٩) «وفيه قال ابن عبد البر : شجاع بن أبى وهب ويقال : ابن وهب». الإصابة الترجمة رقم (٣٨٥٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٣٨٨).

(٥) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٦) راجع : صحيح البخاري (٤ / ١١٩ ، ١٢٢) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (٣٤٣ ، ٣٤٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٧٧ ، ٣٨٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٦ ، ٦٥١) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٧ ، ٧٨) ، المصباح المضيء (٢ / ٧٦ ، ١٢٤).


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث بكتابه مع دحية الكلبى ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ، ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله جل وعز فيما أبلاه من ذلك ، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : التمسوا لنا هاهنا أحدا من قومه نسألهم عنه.

قال ابن عباس : فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش ، قدموا تجارا ، وذلك فى الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش ، قال : فأتانا رسول قيصر ، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس فى مجلس ملكه عليه التاج ، وحوله ، عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم ، أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبى ، قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا ، وليس فى الركب يومئذ رجل من بنى عبد مناف غيرى ، قال قيصر : أدنوه منى ، ثم أمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه ، إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبى ، وإنما جعلتم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله ، قال أبو سفيان : فو الله لو لا الحياء يومئذ من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه ، ولكنى استحييت فصدقته وأنا كاره ، ثم قال لترجمانه : قل له : كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت هو فينا ذو نسب قال : قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ ، قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : قلت : لا ، قال : هل كان من آبائه ملك؟ قلت : لا ، قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت : بل ضعفاؤهم قال : فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت : بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت : لا ، قال : فهل يغدر؟ قلت : لا ، ونحن الآن منه فى مدة ، ونحن لا نخاف غدره ، وفى رواية : ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها.

قال أبو سفيان : ولم تمكنى كلمة أغمزه بها لا أخاف على فيها شيئا غيرها. قال : فهل قاتلتموه؟ ، قلت : نعم ، قال : فكيف حربكم وحربه؟ ، قلت : دول سجال ، ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى ، قال : فما يأمركم به؟ ، قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، فقال لترجمانه : قل له : إنى سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها ، وسألتك : هل قال هذا القول منكم أحد قبله ، فزعمت أن لا ، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتم بقول قيل قبله ،


وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وسألتك هل كان من آبائه ملك ، فقلت : لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك ، قلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتك : أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ، فقلت : ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، وسألتك : هل قاتلتموه ، فقلت : نعم ، وأن حربكم وحربه دول سجال ، ويدال عليكم مرة ، وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك : ما ذا يأمركم به ، فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وهو نبى ، وقد كنت أعلم أنه خارج لكم ولكن لم أظن أنه فيكم ، وإن كان ما أتانى عنه حقا ، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقيه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

قال أبو سفيان : «ثم دعا بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرئ ، فإذا فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإنى أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم لتسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون».

قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته وفرغ الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم ، فلا أدرى ما قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، فلما خرجت أنا وأصحابى وخلصنا ، قلت لهم : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة ، هذا ملك بنى الأصفر يخافه ، قال : فو الله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام (١).

وفى حديث غير هذا ، ذكره أيضا الواقدى عن محمد بن كعب القرظى أن دحية الكلبى لقى قصر بحمص لما بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيصر ماش من قسطنطينة إلى إيلياء فى نذر كان عليه إن ظهرت الروم على فارس أن يمشى حافيا من قسطنطينة ، فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر : إذا رأيته فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٦ / ٤٥) ، سنن أبى داود (٥١٣٦) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٣ / ٤١٤).


قال دحية : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير الله عزوجل ، قالوا : إذ لا يؤخذ كتابك ، ولا يكتب جوابك ، قال : وإن لم يأخذه ، فقال له رجل منهم : أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ، ولا يكلفك فيه السجود. قال دحية : وما هو؟ قال : إن له على كل عقبة منبرا يجلس عليه ، فضع صحيفتك تجاه المنبر ، فإن أحد لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فيأتيه. قال : أما هذا فسأفعل ، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها قيصر ، فألقى الصحيفة ، فدعا بها فإذا عنوانها كتاب العرب ، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية ، فإذا فيه : «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم» ، فغضب أخ لقيصر يقال له : نياق ، فضرب فى صدر الترجمان ضربة شديدة ، ونزع الصحيفة منه ، فقال له قيصر : ما شأنك ، أخذت الصحيفة؟ فقال : تنظر فى كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك؟ وسماك قيصر صاحب الروم ، وما ذكر لك ملكا. فقال له قيصر : إنك والله ما علمت أحمق صغيرا ، مجنون كبيرا ، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه ، فلعمرى لئن كان رسول الله كما يقول ، لنفسه أحق أن يبدأ بها منى ، وإن كان سمانى صاحب الروم لقد صدق ، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ، ولكن الله عزوجل سخرهم لى ، ولو شاء لسلطهم على كما سلط فارس على كسرى فقتلوه. ثم فتح الصحيفة ، فإذا فيها :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى قيصر صاحب الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) الآية إلى قوله : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] فى آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله ويزهده فى ملكه ويرغبه فيما رغبه الله فيه من الآخرة ، ويحذره بطش الله وبأسه» (١).

وفى حديث غير الواقدى أن دحية لما لقى قيصر قال له : يا قيصر ، أرسلنى إليك من هو خير منك ، والذي أرسله خير منه ومنك ، فاسمع بذل ، ثم أجب بنصح ، فإنك إن لم تذلل لم تفهم ، وإن لم تنصح لم تنصف. قال : هات. قال : هل تعلم أن المسيح كان يصلى؟. قال : نعم ، قال : فإنى ادعوك إلى من كان المسيح يصلى له ، وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح فى بطن أمه ، وأدعوك إلى هذا النبيّ الأمى ، الذي بشر به موسى وبشر به عيسى ابن مريم بعده ، وعندك من ذلك أثاره من علم تكفى عن العيان وتشفى عن الخبر فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة ، وإلا ذهبت عنك الآخرة

__________________

(١) انظر الحديث فى : تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٥ / ٢٢٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٠٢٧٨ ، ٣٠٣٣٧) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (١٢١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٠٦).


وشوركت فى الدنيا ، وأعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم.

فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه ، وقبله ، ثم قال : أما والله ، ما تركت كتابا إلا قرأته ، ولا عالما إلا سألته ، فما رأيت إلا خيرا ، فأمهلنى حتى أنظر من كان المسيح يصلى له ، فإنى أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه ، فأرجع عنه ، فيضرنى ذلك ولا ينفعنى ، أقم حتى أنظر.

ويروى أن قيصر لما سأل أبا سفيان بن حرب عما سأله عنه من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبما تقدم ، وأخبره به قال : والذي نفسى بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي ، يا معشر الروم ، هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه ، ونسأله الشام أن لا توطأ علينا أبدا ، فإنه لم يكتب نبى من الأنبياء قط إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله فيجيبه إلى ما دعاه إليه ، ثم يسأله عندها مسألة إلا أعطاه مسألته ما كانت ، فأطيعوني ، فلنجبه ونسأله أن لا توطأ الشام. قالوا : لا نطاوعك فى هذا أبدا ، تكتب إليه تسأله ملكك الذي تحت رجليك ، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا ، فمن أضعف منك.

وفى هذا الحديث عن أبى سفيان أنه قال لقيصر لما سأله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جملة ما أجابه :

أيها الملك ، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب؟. قال : وما هو؟ قلت : إنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فى ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا فى تلك الليلة قبل الصباح. قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر إليه قيصر ، وقال : وما علمك بهذا؟ قال : إنى كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبنى ، فاستعنت عليه عمالى ومن يحضرنى فلم نستطع أن نحركه ، كأنما نزاول جبلا ، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان ، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح ، فننظر من أين أتى ، فرجعت وتركت البابين مفتوحين ، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي فى زاوية المسجد مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة ، فقلت لأصحابى : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبى ، وقد صلى الليلة فى مسجدنا هذا.

فقال قيصر لقومه : يا معشر الروم ، ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة


نبى بشركم به عيسى ابن مريم ، ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا : بلى ، قال : فإن الله قد جعله فى غيركم ، فى أقل منكم عددا ، وأضيق منكم بلدا ، وهى رحمة الله عزوجل يضعها حيث يشاء (١).

وفى الصحيح من الحديث أن هرقل لما تحقق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان يجده فيما عندهم من العلم أذن لعظماء الروم فى دسكرة له بحمص ، وأمر بالأبواب فغلقت ، ثم طلع عليهم ، فقال : يا معشر الروم ، هل لكم فى الفلاح والرشد ، وأن يثبت لكم ملككم ، وأن تتبعوا ما قال عيسى ابن مريم؟ قالوا : وما ذاك أيها الملك؟ قال : تتبعون هذا النبيّ العربى. قال : فحاصوا حيصة حمر الوحش واستجالوا فى الكنيسة وتناخروا ، ورفعوا الصلب ، وابتدروا الأبواب ، فوجدوها مغلقة ، فلما رأى هرقل ما رأى يئس من إسلامهم وخافهم على ملكه ، فقال : ردوهم على ، فردوهم ، فقال : إنما قلت لكم ما قلت لأخبر كيف صلابتكم فى دينكم ، فقد رأيت منكم الذي أحب ، فسجدوا له ورضوا عنه ، فكان ذلك آخر شأنهم(٢).

ويروى أن قيصر لما انتهى مع قومه إلى ما ذكر ، ويئس من إجابتهم كتب مع دحية جواب كتابه الذي جاءه به ، يقول فيه للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى مسلم ، ولكنى مغلوب على أمرى.

وأرسل إليه بهدية ، فلما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه قال : «كذب عدو الله ، ليس بمسلم ، بل هو على نصرانيته» ، وقبل هديته ، وقسمها بين المسلمين.

وقال دحية فى قدومه :

ألا هل أتاها على نأيها

بأنى قدمت على قيصر

فقررته بصلاة المسيح

وكانت من الجوهر الأحمر

وتدبير ربك أمر السما

ء والأرض فأغضى ولم ينكر

وقلت تفز ببشرى المسيح

فقال سأنظر قلت انظر

فكاد يقر بأمر الرسول

فمال إلى البدل الأعور

فشك وجاشت له نفسه

وجاشت نفوس بنى الأصفر

على وضعه بيديه الكتاب

على الرأس والعين والمنخر

فأصبح قيصر فى أمره

بمنزلة الفرس الأشقر

__________________

(١) انظر : التخريج السابق.

(٢) انظر : التخريج السابق.


ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى

بكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان من خبره معه (١)

وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز ، أنو شروان ، ومعنى أبرويز : المظفر ، فيما ذكره المسعودى ، وهو الذي كان غلب الروم ، فأنزل الله فى قصتهم : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [١ ـ ٣ : الروم] ، وأدنى الأرض فيما ذكر الطبرى هى بصرى وفلسطين ، وأذرعات من أرض الشام.

وذكر الواقدى من حديث الشفاء بنت عبد الله ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى ، وبعث معه كتابا مختوما فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ادعوك بداعية الله ، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت ، فعليك إثم المجوس». قال عبد الله بن حذافة ، فانتهيت إلى بابه ، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرئ عليه ، فأخذه ومزقه ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مزق ملكه» (٢).

وذكر أبو رفاعة ، وثيمة بن موسى بن الفرات ، قال : لما قدم عبد الله بن حذافة على كسرى قال : يا معشر الفرس ، إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبى ولا كتاب ، ولا تملك من الأرض إلا ما فى يديك ، وما لا تملك منها أكثر ، وقد ملك الأرض قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة ، فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا ، وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة ، فاختلفوا فى سعى الدنيا واستووا فى عدل الآخرة ، وقد صغر هذا الأمر عندك ، أنا أتيناك به ، وقد والله جاءك من حيث خفت ، وما تصغيرك إياه بالذى يدفعه عنك ، ولا تكذيبك به بالذى يخرجك منه ، وفى وقعة ذى قار على ذلك دليل. فأخذ الكتاب فمزقه ، ثم قال : لى ملك هنى ، لا أخشى أن أغلب عليه ، ولا أشارك فيه ،

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري (٤ / ١١٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٥٤ ، ٦٥٧) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (٣٤٨ ، ٣٥١) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٨٧ ، ٣٩٢) ، المصباح المضيء (٢ / ١٨٠ ، ٢٢٧) ، أعلام النبوة للماوردى (٩٧ ، ٩٨).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٦ / ٣٤٤).


وقد ملك فرعون بنى إسرائيل ، ولستم بخير منهم ، فما يمنعنى أن أملككم وأنا خير منه ، فأما هذا الملك فقد علمنا أنه يصير إلى الكلاب ، وأنتم أولئك تشبع بطونكم وتأبى عيونكم ، فأما وقعة ذى قار فهى بوقعة الشام.

فانصرف عنه عبد الله ، وقال فى ذلك :

أبى الله إلا أن كسرى فريسة

لأول داع بالعراق محمدا

تقاذف فى فحش الجواب مصغرا

لأمر العريب الخائفين له الردا

فقلت له أرود فإنك داخل

من اليوم فى بلوى ومنتهب غدا

فأقبل وأدبر حيث شئت فإننا

لنا الملك فابسط للمسالمة اليدا

وإلا فأمسك قارعا سن نادم

أقر بذل الخرج أو مت موحدا

سفهت بتخريق الكتاب وهذه

بتمزيق ملك الفرس يكفى مبددا

ويروى أن كسرى رأى فى النوم بعد أن أخبر بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزوله يثرب أن سلما وضع فى الأرض إلى السماء ، وحشر الناس حوله ، إذ أقبل رجل عليه عمامة ، وإزار أو رداء ، فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودى : أين فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها؟ فأقبلوا ، فجعلوا فى جوالق ، ثم رفع الجوالق إلى ذلك الرجل ، فأصبح كسرى تعس النفس ، محزونا لتلك الرؤيا ، وذكرها لأساورته ، فجعلوا يهونون عليه الأمر ، فيقول كسرى : هذا أمر تراد به فارس ، فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوه إلى الإسلام.

وذكر الواقدى من حديث أبى هريرة وغيره أن كسرى بينا هو فى بيت كان يخلو فيه إذا رجل قد خرج إليه فى يده عصا ، فقال : يا كسرى ، إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا ، فأسلم تسلم ، واتبعه يبق لك ملكك قال كسرى : أخر هذا عنى أثرا ما ، فدعا حجابه وبوابيه ، فتواعدهم ، وقال : من هذا الذي دخل على؟ قالوا : والله ، ما دخل عليك أحد ، وما ضيعنا لك بابا ، ومكث حتى إذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك ، وقال : إن لا تسلم أكسر العصا. قال : لا تفعل ، أخر ذلك أثرا ما ، ثم جاء العام المقبل ، ففعل مثل ذلك ، وضرب بالعصا على رأسه فكسرها ، وخرج من عنده ، ويقال أن ابنه قتله فى تلك الليلة ، وأعلم الله بذلك رسوله عليه‌السلام بحدثان كونه فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك رسل باذان إليه.

وكان باذان عامل كسرى على اليمن ، فلما بلغه ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاؤه إلى الله ، كتب إلى باذان : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي خالف دين قومه ، فمره فليرجع إلى دين قومه ، فإن أبى فابعث إلى برأسه ، وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه ، فلما ورد كتابه إلى


باذان ، بعث بكتابه مع رجلين من عنده ، فلما قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما ، ثم أرسل إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة ، فقال : «انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربى عزوجل قد قتل كسرى فى هذه الليلة» ، فانطلقا حتى قدما على باذان ، فأخبراه بذلك ، فقال : إن يكن الأمر كما قال فو الله إن الرجل لنبى ، وسيأتى الخبر بذلك إلى يوم كذا ، فأتاه الخبر كذلك ، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقال : إن الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض ، فاجتمعت إليه أساورته ، فقالوا : من تؤمر علينا. فقال لهم : ملك مقبل وملك مدبر ، فاتبعوا هذا الرجل ، وادخلوا فى دينه وأسلموا. ومات باذان ، فبعث رءوسهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفدهم يعرفونه بإسلامهم.

ذكر إسلام النجاشى ، وكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إليه مع عمرو بن أمية الضمرى (١)

قال ابن إسحاق : لما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام ، وجه إلى النجاشى عمرو بن أمية ، فقال له : يا أصحمة ، إن على القول ، وعليك الاستماع ، إنك كأنك فى الرقة علينا منا ، وكأنا فى الثقة بك منك ، لأنا لن نظن بك خيرا قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك ، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفى ذلك وقع الحز وإصابة المفصل ، وإلا فأنت فى هذا النبيّ الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الناس ، فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه ، لخير سالف وأجر ينتظر ، فقال النجاشى : أشهد بالله أنه للنبى الأمى الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر.

وذكر الواقدى أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشى مع عمرو ابن أمية الضمرى هو هذا : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. سلم أنت ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري (٢ / ١٨٤ ، ١٨٥) ، صحيح مسلم (٣ / ٥٤ ، ٥ / ١١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٤١٠ ، ٤١٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ / ٦٥٢ ، ٦٥٤) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ١٧ ، ٧٥) ، الأسماء المبهمة للخطيب البغدادى (٢١ ، ٢٢).


المهيمن ، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى ، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.

وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى ، فإنى رسول الله ، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل ، فقد بلغت ونصحت ، فأقبلوا نصيحتى ، والسلام على من اتبع الهدى».

فكتب إليه النجاشى : بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله ، من النجاشى أصحمة. سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو.أما بعد ، فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين (١).

وذكر الواقدى عن سلمة بن الأكوع أن النجاشى توفى فى رجب سنة تسع ، منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تبوك ، قال سلمة : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، ثم قال : «إن أصحمة النجاشى قد توفى هذه الساعة ، فاخرجوا بنا إلى المصلى حتى نصلى عليه» ، قال سلمة : فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلى ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدمنا وإنا لصفوف خلفه ، وأنا فى الصف الرابع ، فكبر بنا أربعا (٢).

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إلى المقوقس صاحب الإسكندرية

مع حاطب بن أبى بلتعة (٣)

ولما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك ، بعث حاطبا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله رسول الله ، إلى

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٨٣).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٥٣٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٣٩).

(٣) راجع تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٩٥ ، ٣٩٦) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ١٢٥ ـ ١٧٩) ، مروج الذهب للمسعودى (٢ / ٢٨٩).


المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإنى أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم القبط (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤]». وختم الكتاب (١).

فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه ، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال حاطب للمقوقس لما لقيه : «إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فانتقم به ، ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر بك». قال : هات. قال : «إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافى به الله ، فقد ما سواه ، إن هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الناس ، فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له يهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبى أدرك قوما ، فهم من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدركه هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به». فقال المقوقس : «إنى قد نظرت فى أمر هذا النبيّ ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى ، وسأنظر.

وأخذ كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعله فى حق من عاج وختم عليه ، ودفعه إلى جارية له ، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية ، فكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك. أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبيا قد بقى ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم ، وبكسوة ، وأهديت لك بغلة لتركبها. والسلام عليك». ولم يزد على هذا ، ولم يسلم. وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما ، إحداهما مارية أم إبراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأختها سيرين ، وهى التي وهبها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن ، والبغلة هى دلدل ، وكانت بيضاء. وقيل : إنه لم يكن فى العرب يومئذ غيرها ، وإنها بقيت إلى زمان معاوية.

__________________

(١) انظر : التخريج السابق.


وذكر الواقدى بإسناد له : أن المقوقس أرسل إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له يترجم بالعربية ، فقال له : ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها وتصدقنى؟ فإنى أعلم أن صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك ، فقال له حاطب : لا تسألنى عن شيء إلا صدقتك ، فسأله عن : ما ذا يدعو إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أتباعه ، وهل يقاتل قومه؟ فأجابه حاطب عن ذلك كله ، ثم سأله عن صفته ، فوصفه حاطب ولم يستوف ، فقال له : بقيت أشياء لم أرك تذكرها ، فى عينيه حمرة ، قل ما تفارقه ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، ويركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزى بالتمرات والكسرة ، ولا يبالى من لاقى من عم وابن عم.

قال حاطب : فهذه صفته. قال : كنت أعلم أنه بقى نبى ، وكنت أظن أن مخرجه ومنبته بالشام ، وهناك تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج فى العرب فى أرض جهد وبؤس ، والقبط لا يطاوعونى فى اتباعه ، ولا أحب أن تعلم بمحاورتى إياك ، وأنا أضن بملكى أن أفارقه ، وسيظهر على البلاد ، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ما هاهنا ، فارجع إلى صاحبك ، فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين ، وبغلة من مراكبى ، وألف مثقال ذهبا ، وعشرين ثوبا من لين ، وغير ذلك ، وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب. فارحل من عندى ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا.

فرجعت من عنده وقد كان لى مكرما فى الضيافة ، وقلة اللبث ببابه ، ما أقمت عنده إلا خمسة أيام ، وإن الوفود ، وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر. قال حاطب : فذكرت قوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه».

ذكر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء

بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية (١)

ذكر الواقدى بإسناد له عن عكرمة قال : وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته ، فنسخته ، فإذا فيه : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلاء بن الحضرمى ، إلى المنذر بن

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٥) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥٠) ، المصباح المضيء (٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٨) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).


ساوى (١) ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، فكتب يعنى المنذر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما بعد ، يا رسول الله ، فإنى قرأت كتابك على أهل هجر ، فمنهم من أحب الإسلام ، وأعجبه ، ودخل فيه ، ومنهم من كرهه ، وبأرضى مجوس ويهود ، فأحدث إلى فى ذلك أمرك».

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى المنذر ابن ساوى ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد ، فإنى أذكرك الله عزوجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه ، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى ، ومن نصح لهم فقد نصح لى ، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا ، وإنى قد شفعتك فى قومك ، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه ، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم ، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» (٢).

وذكر غير الواقدى أن العلاء بن الحضرمى لما قدم على المنذر بن ساوى قال له : يا منذر ، إنك عظيم العقل فى الدنيا ، فلا تصغرن من الآخرة ، إن هذه المجوسية شردين ، ليس فيها تكرم العرب ، ولا علم أهل الكتاب ، ينكحون ما يستحى من نكاحه ، ويأكلون ما يتكرم عن أكله ، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ، ولست بعديم عقل ولا أرى ، فانظر : هل ينبغى لمن لا يكذب أن تصدقه ، ولمن لا يخون أن تأتمنه ، ولمن لا يخلف أن تثق به ، فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبيّ الأمى الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول : ليت ما أمر به نهى عنه ، أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه ، إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.

فقال المنذر : قد نظرت فى هذا الذي فى يدى فوجدته للدنيا دون الآخرة ، ونظرت فى دينكم فوجدته للآخرة والدنيا ، فما يمنعنى من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت ، ولقد عجبت أمس ممن يقبله ، وعجبت اليوم ممن يدره ، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله ، وسأنظر.

وذكر ابن إسحاق والواقدى وسيف والطبرى وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥١٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٢٣٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥١٠٦).

(٢) انظر التخريج السابق.


برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه أسلم فحسن إسلامه. وزاد الواقدى : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقدم العلاء بن الحضرمى ، فاستخلفه العلاء مكانه على عمله.

وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفى قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البحرين.

وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصح ذلك إن شاء الله.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين ، ملكى

عمان ، مع عمرو بن العاص (١)

ذكر الواقدى بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام.

قال عمرو : فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى ، وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معى كتابا.

قال : وأخرج عمرو الكتاب ، فإذا صحيفة أقل من الشبر ، فيها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوكما بداعية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإنى رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلى تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتى على ملككما» وكتب أبى بن كعب ، وختم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب.

ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها عمدت إلى عبد ، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا ، فقلت : إنى رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليك وإلى أخيك ، فقال : أخى المقدم على بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لى : وما تدعو إليه؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال : يا عمرو ، إنك ابن سيد قومك ، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٥) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥٠) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).


فيه قدوة. قلت : مات ، ولم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وودت أنه كان أسلم وصدق به ، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام. قال : فمتى تبعته؟ قلت : قريبا ، فسألنى أين كان إسلامى؟ قلت : عند النجاشى ، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم ، قال : فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت : أقروه واتبعوه ، قال : والأساقفة والرهبان تبعوه ، قلت : نعم. قال : انظر يا عمرو ما تقول ، إنه ليس من خصلة فى رجل واحد أفضح له من كذب. قلت : ما كذبت ، وما نستحله فى ديننا. ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشى.

قلت : بلى. قال : بأى شيء علمت ذلك؟ قلت : كان النجاشى يخرج له خرجا ، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا ، والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له نياق أخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ، ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل : رجل رغب فى دين واختاره لنفسه ، ما أصنع به ، والله لو لا الضن لملكى لصنعت كما صنعوا. قال : انظر ما تقول يا عمر ، قلت : والله صدقتك. قال عبد : فأخبرنى ما الذي يأمر به وينهى عنه. قلت : يأمر بطاعة الله عزوجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وينهى عن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ، لو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه ، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. فقال : إن هذا لخلق حسن ، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدقات فى الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. فقال : يا عمرو ، تؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه. فقلت : نعم.

فقال : والله ، ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال : فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى ، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه ، فأخذ أعوانه بضبعى ، فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس ، فأبوا أن يدعونى أجلس ، فنظرت إليه ، فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوما ، ففض خاتمه ، فقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته ، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرنى عن قريش ، كيف صنعت؟ فقلت : تبعوه ، إما راغب فى الدين ، وإما مقهور بالسيف. قال : ومن معه؟ قلت : الناس ، قد رغبوا فى الإسلام ، واختاروه على غيره ، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا فى ضلال ، فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة ، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ، ويبيد خضراءك ،


فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال : دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا.

فرجعت إلى أخيه ، قال : يا عمرو ، إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه ، فأبى أن يأذن لى ، فانصرفت إلى أخيه ، فأخبرته أنى لم أصل إليه ، فأوصلنى إليه. فقال : إنى فكرت فيما دعوتنى إليه ، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى وهو لا تبلغ خيله هاهنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت : فأنا خارج غدا ، فلما أيقن بمخرجى خلا به أخوه ، فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فأصبح ، فأرسل إلى ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا ، وصدقا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخليا بينى وبين الصدقة ، وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لى عونا على من خالفنى (١).

وفى حديث غير الواقدى أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام : إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد ، إن الذي تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك ، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك ، وأعلم أنه يميتك الذي أحياك ، ويعيدك الذي أبدأك ، فانظر فى هذا النبيّ الأمى الذي جاءنا بالدنيا والآخرة ، فإن كان يريد به أجرا فامنعه ، أو يميل به هوى فدعه ، ثم انظر فيما يجىء به ، هل يشبه ما يجىء به الناس؟ فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه فى الخبر ، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال ، وخف ما وعد.

قال ابن الجلندى : إنه والله لقد دلنى على هذا النبيّ الأمى أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يضجر ، وأنه يفى بالعهد ، وينجز الموعود ، وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوى فيه أهله ، وأشهد أنه نبى.

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى ، وما

كان من خبره معه (٢)

ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله ، بعث سليط بن عمرو إلى

__________________

(١) انظر التخريج السابق.

(٢) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٥) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ٣٥٤ ، ٣٥٩) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).


هوذة بن على الحنفى صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذي يقول فيه الأعشى ، ميمون ابن قيس من كلمة :

إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتى

أرجى عطاء فاضلا من عطائكا

فلما أتت آطام جو وأهلها

أنيخت وألقت رحلها بقبائكا

وذكر الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى هوذة بن على ، سلام على من اتبع الهدى ، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر ، فأسلم تسلم ، وأجعل لك ما تحت يديك». فلما قدم عليه سليط بكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختوما أنزله وحياه ، واقترأ عليه الكتاب ، فرد ردا دون رد ، وكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومى وخطيبهم ، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك.

وأجاز سليطا بجائزة ، وكساه أثوابا من نسج هجر ، فقدم بذلك كله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، وقرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه ، وقال : «لو سألنى سبابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما فى يده» ، فلما انصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه‌السلام بأن هوذة مات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ ، يقتل بعدى» ، فقال قائل : يا رسول الله ، فمن يقتله؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت وأصحابك» ، فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان ، وظهر المسلمون عليه فقتلوه ، وكان ذلك القاتل من قتله وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه.

وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان كسرى قد توجه ، وقال له : يا هوذة ، إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح فى النار ، وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى ، إن قوما سعدوا برأيك ، فلا تشقين به ، وإنى آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شر منهى عنه ، آمرك بعبادة الله ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فإن فى عبادة الله الجنة ، وفى عبادة الشيطان النار ، فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت ، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع.

فقال هوذة : يا سليط ، سودنى من لو سودك شرفت به ، وقد كان لى رأى اختبر به الأمور فقدته ، فموضعه من قلبى هواء ، فاجعل لى فسحة يرجع إلى رأيى فأجيبك به إن شاء الله (١).

__________________

(١) انظر التخريج السابق.


وقال هوذة فى ذلك :

أتانى سليط بالحوادث جمة

فقلت له ما ذا يقول سليط

فقال التي فيها على غضاضة

وفيها رجاء مطمع وقنوط

فقلت له غاب الذي كنت أجتلى

به الأمر عنى فالصعود هبوط

وقد كان لى والله بالغ أمره

أبا النصر جاش فى الأمور ربيط

فأذهبه خوف النبيّ محمد

فهوذة فيه فى الرجال سقيط

فأجمع أمرى من يمين وشمأل

كأنى ردود للنبال لقيط

وأذهب ذاك الرأى إذ قال قائل

أتاك رسول الله للنبى خبيط

رسول الله راكب ناضح

عليه من أوبار الحجاز غبيط

سكرت ودبت فى المفارق وسنة

لها نفس على الفؤاد غطيط

أحاذر منه سورة هائمية

فوارسها وسط الرجال عبيط

فلا تعجلنى يا سليط فإننا

نبادر أمرا والقضاء محيط

وذكر الواقدى بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال : قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان ، فجلست فى مجلس لحجر ، فقال رجل فى المجلس : إنى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه ، فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال : ائذن له ، فدخل فرحب به وتحدثا ، فقال الأركون : ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع. قال ذو التاج : هى أصح بلاد العرب ، وهى زين بلادهم ، قال الأركون : وما قرب محمد منكم؟ قال ذو التاج : هو بيثرب ، وقد جاءنى كتابه يدعونى إلى الإسلام فلم أجبه. قال الأركون : لم لا تجيبه؟ قال : ضننت بدينى ، وأنا ملك قومى ، وإن تبعته لم أملك. قال : بلى ، والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك فى اتباعه ، وإنه للنبى العربى الذي بشر به عيسى ابن مريم ، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل : محمد رسول الله. قال ذو التاج : قد قرأت فى الإنجيل ما تذكر. ثم قال الأركون : فما لك لا تتبعه؟ قال : الحسد له ، والضن بالخمر وشربها. قال : فما فعل هرقل؟ قال : هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه ، وقد سبر أهل مملكته ، فأبوا أشد الإباء ، فضن بملكه أن يفارقه ، قال ذو التاج : فما أرانى إلا متبعه وداخلا فى دينه ، فأنا فى بيت العرب ، وهو مقرى على ما تحت يدى. قال البطريق : هو فاعل فاتبعه ، فدعا رسولا وكتب معه كتابا ، وسمى هدايا ، فجاءه قومه فقالوا : تتبع محمدا وتترك دينك ، لا تملكن علينا أبدا ، فرفض الكتاب.

قال : فأقام الأركون عنده فى حباء وكرامة ، ثم وصله ووجه راجعا إلى الشام.


قال الرجل : وتبعته حين خرج ، فقلت : أحق ما أخبرت ذا التاج؟ قال : نعم والله ، فاتبعه ، قال : فرجعت إلى أهلى فتكلفت الشخوص إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدمت عليه مسلما ، فأخبرته بكل ما كان ، فحمد الله الذي هدانى.

ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل ، إلا أن فيه أنه كان من طيئ ، ثم من بنى نبهان.

وقد تقدم صدر هذا الكتاب أن عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه ، حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد ، وإن هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة فى أول عام عن ما كان فى موسمهم من خبر ، فأخبره خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رجل من قريش ، فسأله هوذة : من أى قريش هو؟ فقال له عامر : من أوسطهم نسبا ، من بنى عبد المطلب ، قال هوذة : أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال : هو هو ، فقال هوذة : أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا وغير ما هاهنا. ثم ذكر تكرر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر ، فقال له هوذة : هو الذي قلت لك ، ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا ، ولكنا نضن بملكنا.

وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو ، وقد مر به منصرفا عن هوذة إذ بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يسلم وأسلم عامر آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث بن

أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب (١)

ذكر الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث شجاعا إلى الحارث بن أبى شمر ، وهو بغوطة دمشق ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعه من الحديبية :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى الحارث بن أبى شمر ، سلام على

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٥٢) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥ ، ٢٥١) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ٣١٤ ، ٣١٦) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).


من اتبع الهدى وآمن به وصدق ، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبق لك ملكك». فختم الكتاب ، وخرج به شجاع بن وهب.

قال : فانتهيت إلى صاحبه ، فأخذه يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر ، وهو جاء من حمص إلى إيلياء ، حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى قال : فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إنى رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حاجبه : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدعو إليه ، فكنت أحدثه ، فيرق حتى يغلبه البكاء ، ويقول : إنى قرأت فى الإنجيل ، وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه يخرج بالشام ، فأراه قد خرج بأرض القرظ ، فأنا أؤمن به وأصدقه ، وأنا أخاف من الحارث بن أبى شمر أن يقتلنى.

قال شجاع : فكان ، يعنى هذا الحاجب ، يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه ، ويقول : هو يخاف قيصر.

قال : فخرج الحارث يوما فجلس ، فوضع التاج على رأسه ، فأذن لى عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه ، ثم رمى به ، وقال : من ينتزع منى ملكى؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، على بالناس ، فلم يزل جالسا بعرض حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تنعل ، ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى ، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبى قد بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه : أن لا تسر إليه وإله عنه ووافنى بإيلياء ، قال : ورجع الكتاب وأنا مقيم ، فدعانى وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت : غدا ، فأمر بمائة مثقال ، ووصلنى مرى بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله منى السلام ، وأخبره أنى متبع دينه.

قال شجاع : فقدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : باد ملكه ، وأقرأته من مرى السلام ، وأخبرته بما قال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق».

قال الواقدى : ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح ، وكان نازلا بجلق ، ووليهم جبلة ابن الأيهم ، وكان ينزل الجابية ، وكان آخر ملوك غسان ، أدركه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بالجابية فأسلم ، ثم إنه لاحى رجلا من مزينة ، فلطم عينه ، فجاء به المزنى إلى عمر رضي‌الله‌عنه وقال : خذ لى بحقى ، فقال له عمر : الطم عينه ، فأنف جبلة وقال : عينى وعينه سواء؟ قال عمر : نعم ، فقال جبلة : لا أقيم بهذه الدار أبدا ، ولحق بعمورية مرتدا ، فمات هناك على ردته.


هكذا ذكر الواقدى أن توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إلى الحارث بن أبى شمر ، وكذلك قال ابن إسحاق.

وأما ابن هشام (١) فقال : إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم ، وقد قال ذلك غيره ، فالله أعلم.

وذكر بعض من وافق ابن هشام على أن الرسالة كانت إلى جبلة : أن شجاع بن وهب لما قدم عليه قال له : «يا جبلة ، إن قومك نقلوا هذا النبيّ الأمى من داره إلى دارهم يعنى الأنصار فأووه ومنعوه ، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم ، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق ، وقد أقر بهذا النبيّ الأمى من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك ، وإن فضلناك عليه لم يرضك ، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم ، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة ، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع ، والأذان بالناقوس ، والجمع بالشعانين ، والقبلة بالصليب ، وكان ما عند الله خير وأبقى».

فقال له جبلة : «إنى والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبيّ الأمى اجتماعهم على خلق السموات والأرض ، ولقد سرنى اجتماع قومى له ، وأعجبنى قتله أهل الأوثان واليهود واستبقاءه النصارى ، ولقد دعانى قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه ، فانتدب له مالك بن نافلة من سعد العشيرة ، فقتله الله ، ولكنى لست أرى حقا ينفعه ولا باطلا يضره ، والذي يمدنى إليه أقوى من الذي يختلجنى عنه ، وسأنظر».

وأما توجه المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى ، وهو شقيق أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث بن عبد كلال ، فلم أجد عند ابن إسحاق ، ولا فيما وقع إلى عن الواقدى شيئا أنقله عنهما سوى ما ذكر ابن إسحاق (٢) من توجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه إلى الحارث بن عبد كلال ذكرا مقتصرا فيه على القدر مختصرا من الإمتاع بما تحسن إضافته إلى ذلك من الوصف.

وتقدم لابن إسحاق فى كتابه ، وذكره أيضا الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل : ذى رعين ومعافر وهمدان ، وبعث إليه زرعة ذى يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).


وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مسيره إلى تبوك يقول : «إنى بشرت بالكنزين : فارس والروم ، وأمددت بالملوك : ملوك حمير ، يأكلون فيء الله ويجاهدون فى سبيل الله». فلما قدم عليه مالك بن مرة بإسلامهم ، كتب إليهم : «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبيّ ، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل : ذى رعين ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد ، فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من الأرض الروم فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبر ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن الله قد هداكم بهداه. أن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبيّ وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم ، ثم قال : فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة الله وذمة رسوله ، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا ، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.

أما بعد ، فإن محمد النبيّ أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا ، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم ، وأن أجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلى ، فإن أميرهم ابن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد ، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيرا ، ولا تخاونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم ، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، وإنما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل ، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب ، وآمركم به خيرا ، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم وآمركم بهم خيرا ، فإنه منظور إليهم ، والسلام عليكم ورحمة الله» (١).

فهذا ما ذكر ابن إسحاق (٢) من شأن ملوك حمير ، وما كتبوا به ، وكتب إليهم ، وذكر الواقدى أيضا نحوه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٧٥).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢١٢ ـ ٢١٣).


ولا ذكر للمهاجر بن أبى أمية فى شيء من ذلك إلا أن ابن إسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مقدمه من تبوك ، وذلك فى سنة تسع ، وتوجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك إنما كان بعد انصرافه عن الحديبية آخر سنة ست ، فلعل المهاجر والله أعلم كانت وجهه حينئذ إلى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ ترددا واستنظارا ، ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد ، وأمر بهدايته فاستبان له القصد ، فعند ذلك أرسل هو وأصحابه بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلك يجتمع الأمران ، ويصح الخبران ، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالأخبار والعناية بالسير أن ملوك حمير أسلموا وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أنه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه المهاجر بن أبى أمية إلى الحارث بن عبد كلال.

ويقول بعض من ذكر ذلك أن المهاجر لما قدم عليه قال له : يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه فخطيت عنه ، وأنت أعظم الملوك قدرا ، فإذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك ، وإذا أسرك يومك فخف غدك ، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها ، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا ، منهم من أدركه الموت ، ومنهم من أكلته النقم ، وإنى أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك ، وإن أرادك لم يمنعك منه أحد ، وأدعوك إلى النبيّ الأمى الذي ليس شيء أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه ، واعلم أن لك ربا يميت الحى ويحيى الميت ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

فقال الحارث : قد كان هذا النبيّ عرض نفسه على ، فخطيت عنه ، وكان ذخرا لمن صار إليه ، وكان أمره أمرا بسق ، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع ، ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها ، ولا لى فيه هوى أتبعه له ، غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب ، ولم يسنده الباطل ، له بدو سار وعافية نافعة ، وسأنظر.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

فروة بن عمرو الجذاميّ ثم النفاتى ، وما كان من

تبرعه بالإسلام هداية من الله عزوجل له (١)

ذكر الواقدى بإسناد له أن فروة بن عمرو (٢) ، هذا كان عاملا لقيصر على عمان من

__________________

(١) راجع : السيرة (٤ / ٢١٤).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب ترجمة رقم (٢٠٩٧).


أرض البلقاء وفى كتاب ابن إسحاق : معان وما حولها من أرض الشام ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كتب إلى هرقل وإلى الحارث بن أبى شمر ، ولم يكتب إليه ، فأسلم فروة ، وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامه ، وبعث من عنده رسولا يقال له : مسعود بن سعد من قومه بكتاب مختوم فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد رسول الله النبيّ ، إنى مقر بالإسلام مصدق به ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وإنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. والسلام عليك».

ثم بعث مع الرسول بغلة بيضاء يقال لها : فضة ، وحماره يعفور ، وفرسا يقال له : الضرب ، وبعث بأثواب من لين ، وقباء من سندس مخوص بالذهب ، فقدم الرسول فدفع الكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقترأه ، وأمر بلالا أن ينزله ويكرمه ، فلما أراد الخروج كتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جواب كتابه :

«من محمد رسول الله ، إلى فروة بن عمرو ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإنه قدم علينا رسولك بكتابك فبلغ ما أرسلت به ، وخبر عن ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامك ، وإن الله عزوجل قد هداك إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت على الصلاة وآتيت الزكاة ، والسلام عليك».

ولما بلغ قيصر إسلام فروة بن عمرو بعث إليه فحبسه ، ولما طال حبسه أرسلوا إليه : أن ارجع إلى دينك ويعيد إليك ملكك ، فقال : لا أفارق دين محمد أبدا ، أما أنك تعرف أنه رسول الله ، بشرك به عيسى ابن مريم ، ولكنك ضننت بملكك وأحببت بقاءه. فقال قيصر : صدق والإنجيل.

وذكر الواقدى أنه مات فى ذلك الحبس ، فلما مات صلبوه.

قال : فلما اجتمعت الروم لصلبه قال :

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها

على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل (١)

على ناقة لم يضرب الفحل أمها

مشذبة أطرافها بالمناجل (٢)

وذكر ابن شهاب الزهرى أنهم لما قدموه ليقتلوه قال :

__________________

(١) إحدى الرواحل : المراد بها الخشبة التي صلب عليها.

(٢) مشذبة : قد أزيلت أغصانها.


أبلغ سراة المسلمين بأننى

سلم لربى أعظمى ومقامى

ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء ، يرحمه‌الله.

قال ابن إسحاق (١) : وقد كان تكلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكذابان : مسيلمة بن حبيب الحنفى باليمامة فى بنى حنيفة ، والأسود بن كعب العنسى بصنعاء.

وذكر بإسناد له عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول :

«يا أيها الناس ، إنى قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت فى ذراعى سوارين من ذهب ، فكرهتهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين : صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة» (٢).

وعن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا ، كلهم يدعى النبوة» (٣).

قال ابن إسحاق (٤) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة (٥) إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسى وهو بها ، وبعث زياد بن لبيد (٦) أخا بنى بياضة الأنصاري إلى

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٢).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٤ / ١٧٨١ / ٢١) ، سنن الترمذى (٤ / ٢٢٩٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٣ ، ٢ / ٣١٩ ، ٣٣٨ ، ٣٤٤).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٢ / ٤٥٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣١٥) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٣٣٣).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٣).

(٥) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٢٧١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥١٣٤) ، مؤتلف الدارقطنى (ص ١٦٣).

(٦) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٨٧١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٨٠٩) ، مسند أحمد (٤ / ١٦٠) ، الطبقات الكبرى (٣ / ٥٩٨) ، التاريخ الكبير (٣ / ٣٤٤) ، التاريخ الصغير (١ / ٤١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٤٧) ، الجرح والتعديل (٣ / ٥٤٣) ، المعجم الكبير (٥ / ٣٠٤) ، الكامل فى التاريخ (٢ / ٣٠١) ، تهذيب الكمال (٩ / ٥٠٦) ، الكاشف (١ / ٢٦٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٥) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ١٠) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٣٨٢) ، خلاصة تهذيب التهذيب (١٢٥) ، تاريخ الإسلام (١ / ٥٢).


حضرموت وعلى صدقاتها ، وبعث عدى بن حاتم (١) على طيء وصدقاتها ، وعلى بنى أسد ، وبعث مالك بن نويرة اليربوعى (٢) على صدقات بنى حنظلة ، وفرق صدقة بنى سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر (٣) على ناحية منها ، وقيس بن عاصم (٤) على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمى (٥) على البحرين ، وبعث على بن أبى طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليهم بجزيتهم.

وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد. فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون».

فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرأ كتابه : «فما تقولان أنتما؟» قالا : نقول كما قال ، فقال : «أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما». ثم كتب إلى مسيلمة :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٦ / ٢٢) ، التاريخ الكبير (٧ / ٤٣) ، التاريخ الصغير (١ / ١٤٨) ، المعارف (٣١٣) ، الجرح والتعديل (٧ / ٢) ، تاريخ بغداد (١ / ١٨٩) ، تاريخ ابن عساكر (١١ / ٢٣٤) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٣٢٧) ، تهذيب الكمال (٩٢٥) ، تاريخ الإسلام (٣ / ٤٦) ، العبر (١ / ٧٤) ، تذهيب التهذيب (٣ / ٣٦) ، جامع الأصول (٩ / ١١١) ، مرآة الجنان (١ / ١٤٢) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٦٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢٢٣) ، شذرات الذهب (١ / ٧٤) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٦٢) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٤٩١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٦١٠).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٧١٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٦٥٤).

(٣) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٢٨) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٨٨) ، الإصابة ترجمة رقم (٢٧٨٩) ، الاستبصار (٣١٤ ، ٤١٥) ، الأعلام (٣ / ٤١) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٥٧) ، الطبقات الكبرى (٧ / ٣٦ ، ١ / ٢٩٤ ، ٢ / ١٦١) ، الجرح والتعديل (٣ / ٢٧٦٠٠) ، البداية والنهاية (٥ / ٤١).

(٤) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٨) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢٢) ، الجرح والتعديل (٧ / ١٠١) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٢٩) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٣٩٩) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٣٥٧) ، الكاشف (٢ / ٣٠٥) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (٨١٦) ، التاريخ الكبير (٧ / ١٤١) ، الأنساب (٩ / ١٣٥) ، بقى بن مخلد (٣٢١) ، الإصابة ترجمة رقم (٧٢٠٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٣٧٠).

(٥) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٥٦٥٨) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٧٤٥) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٨٨) ، الجرح والتعديل (٦ / ٣٥٦) ، التاريخ الكبير (٦ / ٥٠٦).


«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين»(١).

قال ابن إسحاق : وكان ذلك فى آخر سنة عشر (٢).

وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى : وقد قيل : إن دعوى مسيلمة ومن ادعى من الكذابين النبوة فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كانت بعد انصرافه من حجة التمام ، ووقوعه فى المرض الذي توفاه الله فيه ، فالله تعالى أعلم.

ذكر حجة الوداع (٣)

وتسمى أيضا حجة التمام ، وحجة البلاغ

ولما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، وخرج لخمس ليال بقين من ذى القعدة ، وقد كان أذن فى الناس أنه خارج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعمل مثل عمله.

قال جابر بن عبد الله : فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل من شيء عملناه ، فأهل بالتوحيد : «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» (٤).

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن البيهقي (٩ / ٢١١) ، مسند الإمام أحمد (٣٧٠٨) ، سنن أبى داود (٣ / ٢٧٦١).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٤).

(٣) عرفت باسم : حجة الوداع ؛ وذلك لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمى أيضا حجة الإسلام. انظر : لم يحج بعدها ، إذ بدأ به مرضه الذي توفاه الله فيه ، كما قيل : حجة البلاغ ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى الناس مناسكهم وعلمهم حجهم ، وقيل : حجة الإسلام ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحج بعد أن فرض الحج فى الإسلام غيرها. راجع : طبقات ابن سعد (٢ / ١٧٢ ـ ١٨٩) ، المغازى للواقدى (٣ / ١٠٨٨ ـ ١١١٥) ، الثقات لابن حبان (٢ / ١٢٤ ـ ١٢٩).

(٤) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٢ / ١٧٠ ، ٧ / ٢٠٩) ، صحيح مسلم كتاب الحج ، باب ـ


وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد عليهم شيئا منه ، ولزم صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلبيته.

وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج فى حجة الوداع لم يكن يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة ، إلا من ساق الهدى.

وقال جابر فى حديثه : لسنا ننوى إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] فجعل المقام بينه وبين البيت ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ، فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : «لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» (١). ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه فى بطن الوادى ، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال : «لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت ، لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» (٢). فقام سراقة بن مالك بن جعشم (٣)

__________________

ـ (٣) رقم (١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، باب (١٩) رقم (١٤٧) ، سنن أبى داود (١٨١٢ ، ١٨١٣) ، سنن الترمذى (٨٢٥) ، سنن ابن ماجه (٢٩١٥ ، ٢٩١٨ ، ٣٠٧٤) ، سنن النسائى (٥ / ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦١) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٧ ، ٤٠١ ، ٢ / ٧٧ ، ٤٠١ ، ٣ / ٣٢٠ ، ٦ / ١٠٠ ، ١٨١ ، ٢٣٠ ، ٢٤٣) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ٤٤ ، ٤٥ ، ٧ / ٤٨) ، موطأ مالك (٣٣١) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢١٩) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٣٦٠) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٢٥٤١ ، ٢٥٥٥) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (٣ / ٧٣ ، ٥ / ٥٥ ، ٢٨٢ ، ٦ / ٤٥) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ١٢٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٤٣).

(١) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (٢ / ٤٦) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٢٦).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الحج باب (١٩) رقم (١٤٧).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣١٢٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٩٥٥) ، الثقات (٣ / ١٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٠) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٤) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٥٦) ، تهذيب الكمال (١ / ٤٦٦) ، الكاشف (١ / ٣٤٩) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٣٤٢) ، شذرات الذهب (١ / ٣٥) ، الطبقات (٣٤) ، الطبقات الكبرى (٩ / ٧٨) ، بقى بن مخلد (١٣٠) ، العقد الثمين (٤ / ٥٢٣) ، العبر (١ / ٢٧) ، الأعلام (٣ / ٨٠) ، الأنساب (٧ / ١١٦).


فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه واحدة فى الأخرى ، وقال : «دخلت العمرة فى الحج مرتين بل لأبد الأبد» (١).

وقدم على من اليمن ببدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبى أمرنى بهذا ، قال : فكان على يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محرشا على فاطمة للذى صنعت ، مستفتيا له فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أنى نكرت ذلك عليها ، فقال : «صدقت صدقت ، ما ذا قلت حين فرضت الحج؟» (٢) قال : قلت : اللهم إنى أهل بما أهل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فإن معى الهدى فلا تحل ، فكان جماعة الهدى الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة.

فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت به بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادى ، فخطب الناس.

قال ابن إسحاق (٣) : ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ،

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم فى كتاب الحج باب (١٩) رقم (١٤٧) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك ، باب (٢٣) ، باب (٥٧) ، سنن النسائى فى كتاب الحج باب (٧٦) ، سنن الترمذى (٩٣٢) ، سنن ابن ماجه (٣٠٧٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٣٦ ، ٢٥٣ ، ٢٥٩ ، ٣٤١ ، ٤ / ١٧٥) ، سنن الدارمى (٤٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ٣٥٢ ، ٥ / ٧ ، ١٣ ، ١٨) ، مستدرك الحاكم (١ / ٦١٩ ، ٣ / ٦١٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٢٣٥ ، ٣٧٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٢ / ١٤٤ ، ٧ / ١٤٠ ، ١٥١ ، ١٥٤ ، ١١ / ٨٣ ، ١٢ / ٢٢٨) ، التمهيد لابن عبد البر (٨ / ٣٦٠) ، مصنف ابن أبى شيبة (٤ / ١٠٢) ، إرواء الغليل للألبانى (٤ / ١٥٢) ، المطالب العالية لابن حجر (١١٠٠) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٩٧٥ ، ١١٩٨٣ ، ١٢٤٧٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٣٥) ، الحاوى للفتاوى للسيوطى (٢ / ٥١) ، الكاف الشاف فى تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (٥٩) ، مسند الشافعى (١١٢ ، ١٩٦) ، تاريخ أصبهان لأبى نعيم (٢ / ١٩١) ، سنن الدارقطنى (٢ / ٢٨٣) ، المنتقى لابن الجارود (٤٦٥).

(٢) انظر الحديث فى : المنتقى لابن الجارود (٤٦٩).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٧).


وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب للناس خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

«أيها الناس ، اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ؛ إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربّا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مستعرضا فى بنى ليث ، فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.

أما بعد ، أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك ، فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم.

أيها الناس : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧] ، ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)،[التوبة : ٣٦]. ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي هو بين جمادى وشعبان.

أما بعد ، أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، أمرا بينا ، كتاب الله وسنة نبيه.

أيها الناس ، اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ؛ فلا تظلمن أنفسكم.


اللهم هل بلغت؟» فذكر أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد» (١).

وفى حديث جابر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للناس فى خطبته : «وأنتم تسألون عنى ، فما أنتم قائلون؟» قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس : «اللهم اشهد ، اللهم اشهد» ثلاث مرات ، ثم إذن ، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم ركب حتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع وقد شنق القصواء الزمام حتى أرسلها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة ، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى اصفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها يسبع حصات ، يكبر مع كل حصاة منها ، رمى من بطن الوادى ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبروا شركة فى هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت فى قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت فى قدر فأفاض وصلى بمكة الظهر ، فأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم ، فقال : «انزعوا يا بنى عبد المطلب ، فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» (٢) ، فناولوه دلوا ، فشرب منه.

ويروى أن ربيعة بن أمية بن خلف هو الذي كان يصرخ فى الناس يقول رسول الله

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ١٤٧ / ٨٨٦ ـ ٨٩٢) ، سنن أبى داود (٢ / ١٩٠٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الحج (١٤٧) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك باب (٥٧) ، سنن ابن ماجه (٣٠٧٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٧٦) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ١٥٧) ، سنن الدارمى (٢ / ٤٩) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٢٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٩١) ، المنتقى لابن جارود (٤٦٩).


صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بعرفة ، يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل : «أيها الناس ، إن رسول الله يقول : هل تدرون أى شهر هذا؟» فيقوله لهم ، فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ، ثم يقول : قل : أيها الناس ، إن رسول الله يقول : «هل تدرون أى بلد هذا؟» قال : فيصرخ به ، فيقولون : البلد الحرام ، فيقول : قل لهم : «إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا» ، ثم يقول : «قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله يقول : هل تدرون أى يوم هذا؟» فيقول لهم ، فيقولون : يوم الحج الأكبر ، فيقول : «قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا» (١).

وقال عمرو بن خارجة : وقفت تحت ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لعابها ليقع على رأسى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة ، فسمعته وهو يقول : «أيها الناس ، إن الله قد أدى إلى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا»(٢).

ولما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة قال : «هذا الموقف ، للجبل الذي هو عليه ، «وكل عرفة موقف».

وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : «هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف».

ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال : «هذا المنحر ، وكل منى منحر» (٣).

فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ، وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض عليهم من حجهم : من الموقف ، ورمى الجمار ، وطواف البيت ، وما أحل لهم فى حجهم ، وما حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الوداع ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحج بعدها.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (١ / ٤٧٣ ، ٤٧٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٢٧٠).

(٢) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٤ / ٢١٢١) ، سنن النسائى (٦ / ٣٦٤٤) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ١٨٦ ، ٢٣٨).

(٣) انظر الحديث فى : سنن أبى داود (٢ / ١٩٠٧ ، ١٩٣٥) ، سنن ابن ماجه (٢ / ٣٠١٢) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٢٠ ، ٣٢١ ، ٣٢٦).


ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين

ولما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع أقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفرا ، وضرب على الناس بعثا إلى الشام ، وهو البعث الذي أمر عليه أسامة بن زيد ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون ، وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينا الناس على ذلك ابتدئ صلوات الله عليه بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته فى ليال بقين من صفر أو فى أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

حدث أبو مويهبة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جوف الليل فقال : «يا أبا مويهبة ، إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معى» ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم قال : «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى» ؛ ثم أقبل على فقال : «يا أبا مويهبة ، إنى قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» ، فقلت : بأبى أنت وأمى فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ؛ قال : «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربى والجنة». ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف ، فبدأ به وجعه الذي قبضه الله فيه (١).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البقيع ، فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى ، وأنا أقول : وا رأساه ، فقال : «بل أنا والله يا عائشة ، وا رأساه». قالت : ثم قال : «وما ضرك لو مت قبلى ، فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟» فقلت : والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه ، حتى استعز به وهو فى بيت ميمونة ، فدعا نساءه فاستأذنهن فى أن يمرض فى بيتى ، فأذن له (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٥٥ ، ٥٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٦٢ ، ١٦٣) ، سنن الدارمى (١ / ٧٨).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١٠ / ٥٦٦٦) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨).


وفى غير حديث عائشة أن نساءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن يومئذ تسعا : عائشة بنت أبى بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب ، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، وزينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة القرشيات ، وميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية ، وجويرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية ، وصفية بنت حيى بن أخطب من بنى النضير.

فهؤلاء التسع هن اللاتى توفى عنهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفى منهن قبله عليه‌السلام خديجة بنت خويلد ، وزيرته على الإسلام وأم بنيه وبناته كلهم ما خلا إبراهيم فإنه لسريته مارية القبطية ، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ماتت ، وزينب بنت خزيمة من بنى هلال ابن عامر بن صعصعة : وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم ، فزينب هذه وخديجة توفيتا قبله ، وبهما كمل عدد من بنى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أزواجه ممن اتفق العلماء عليه إحدى عشرة امرأة ، توفى منهن عن تسع كما ذكرنا.

وقد عقد عليه‌السلام على نساء غيرهن ، فلم يبن فى المشهور من أقاويل العلماء بواحدة منهن ، فاستغنينا لذلك عن ذكرهن.

ونرجع الآن إلى حديث عائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتها فأذن له ، قالت : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشى بين رجلين من أهله ، أحدهما الفضل بن عباس ، ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه ، حتى دخل بيتى.

وعن ابن عباس : أن الرجل الآخر هو على بن أبى طالب.

ثم غمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد به وجعه ، فقال : «هريقوا على من سبع قرب من آبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم». فأقعدناه فى مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : «حسبكم حسبكم» (١).

قال الزهرى : حدثني أبو أيوب بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله» ، ففهمها أبو بكر وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : «على رسلك يا أبا بكر» ، ثم قال : «انظروا هذه الأبواب

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨) ، مصنف عبد الرزاق (٥ / ٩٧٥٤).


اللافظة فى المسجد فسدوها إلا باب أبى بكر ، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه» (١).

وفى رواية : «فإنى لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده».

وعن عروة بن الزبير وغيره من العلماء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استبطأ الناس فى بعث أسامة بن زيد وهو فى وجعه ، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.

فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : «أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليق بها» (٢) ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانكمش الناس فى جهازهم ، واستعز برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه ، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض فى رسوله عليه‌السلام.

ومن حديث عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بالأنصار يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد ، وذكر من أمرهم ما ذكر ، فقال يومئذ : «يا معشر المهاجرين ، استوصوا بالأنصار خيرا ، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد ، وإنهم كانوا عيبتى التي آويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» (٣) ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بيته وتتام به وجعه حتى غمر.

وفى الصحيحين من حديث عبيد الله بن عبد الله أنه قال لعائشة رضي‌الله‌عنها : ألا تحديثنى عن مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : بلى ، ثقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت : ففعلنا ، فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت : فاغتسل ثم ذهب

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ١٨) ، صحيح البخاري (١ / ٤٦٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٢٨٨).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ٤٢٥٠) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٧٥٩).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ٣٨٠٠) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٢٢٤).


لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق فقال : «أصلى الناس؟» (١) قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله عكوف فى المسجد ينتظرون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصلاة العشاء الآخرة فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس ، فأتاه الرسول فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تصلى بالناس ، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا : يا عمر صل بالناس ، فقال له عمر : أنت أحق بذلك ، فصلى أبو بكر تلك الأيام.

ومن حديث الأسود عن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس». قالت : فقلت : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ، فقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، قالت : فقلت لحفصة : قولى له : إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٢) ، قالت : فأمروا أبا بكر ، فلما دخل فى الصلاة وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نفسه خفة ، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان فى الأرض ، فلما دخل المسجد وسمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقم مكانك» ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جلس عن يسار أبى بكر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما ، يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقتدى الناس بصلاة أبى بكر.

وعن عبد الله بن زمعة بن الأسود أنه كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفر من المسلمين لما استعز به ودعاه بلال إلى الصلاة ، فقال : «مروا من يصلى بالناس» ، قال : فخرجت فإذا عمر فى الناس ، وكان أبو بكر غائبا ، فقلت : قم يا عمر فصل بالناس ، فقام ، فلما كبر سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأين أبو بكر؟

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١٧٦) ، صحيح مسلم فى كتاب الصلاة (٩٠) ، سنن النسائى (٢ / ١٠١) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ٥٢ ، ٦ / ٢٥١) ، سنن الدارمى (١ / ٢٨٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ١٢٣ ، ٨ / ١٥١) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٣٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٩٠) ، مصنف ابن أبى شيبة (٢ / ٣٣١ ، ٣٣٢ ، ١٤ / ٥٦٠ ، ٥٦١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٣) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ١٩).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨ ، ٢٢٩) ، صحيح مسلم (١ / ٩٤ ، ٣١٣).


يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون» ، فبعث إلى أبى بكر ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة ، فصلى أبو بكر بالناس يريد ما بعد من الصلوات ، فقال لى عمر: ويحك ، ما ذا صنعت فى يا ابن زمعة والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرك بذلك ، ولو لا ذلك ما صليت بالناس. قلت : والله ما أمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ولكنى حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة للناس (١).

وعن أنس بن مالك قال : آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كشف الستارة يوم الاثنين والناس صفوف فى الصلاة ، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاحكا ، فبهتنا ونحن فى الصلاة من فرح بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف ، وظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج للصلاة ، فأشار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده أن أتموا صلاتكم ، ثم دخل فأرخى الستر ، فتوفى من يومه ذلك.

وفى رواية عن أنس أن خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كان وهم يصلون الصبح ، وأنه لما رفع الستر وقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم فرحا به حين رأوه ، قال : وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة.

قال : ثم رجع ، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أفرق من وجعه.

وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى ، حتى بل دمعه الحصا ، قلت : يا ابن عباس ، وما يوم الخميس؟ قال : اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه ، فقال : «ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى» ، فتنازعوا وما ينبغى عند نبى تنازع وقالوا : ما شأنه ، أهجر ، استفهموه ، قال : «دعونى ، فالذى أنا فيه خير ، أوصيكم بثلاث ، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم». قال : وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها.

وفى حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حضر وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده»(٢)،

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٦٤١) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٦٦٠).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ١٥٦ ، ٩ / ١٣٧) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية (٢٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٢٤) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٣٧) ، فتح البارى لابن حجر (١٣ / ٣٣٦).


فقال عمر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت ، منهم من يقول : قوموا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا» (١) ، لما أكثروا اللغو والاختلاف عنده. قال : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

وعن عبد الله بن مسعود قال : نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر ، بأبى هو ونفسى له الفداء ، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وتشدد ودمعت عيناه ، وقال : «مرحبا بكم ، حياكم الله ، رحمكم الله ، آواكم الله ، حفظكم الله ، رفعكم الله ، نفعكم الله ، وقفكم الله ، رزقكم الله ، هداكم الله ، نصركم الله ، سلمكم الله ، قبلكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصى الله عزوجل بكم وأستخلفه عليكم ، وأذكركم الله وأشهدكم أنى لكم منه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه عزوجل قال لى ولكم : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٣٢] ، وقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [٦٠ : الزمر]» ، قلنا : متى أجلك يا رسول الله؟ قال : «دنا الأجل والمنقلب إلى الله عزوجل وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والعيس والحظ المهنى». قلنا : فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال : «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا : ففيم نكفنك يا رسول الله؟ قال : «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى بياض مصر أو حلة يمانية» ، قلنا : فمن يصلى عليك يا رسول الله؟ قال : فبكى وبكينا ، فقال : «مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على شفير قبرى ثم اخرجوا عنى ساعة ، فإن أول من يصلى على خليلى وجليسى

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٢٣٥ ، ٥ / ١٣٨ ، ٦ / ١٢ ، ٧ / ٨٩ ، ٨ / ١٧٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية باب (٥) رقم (٢٢) ، وكتاب الأشربة باب (٢٠) رقم (١٤٠ ، ١٤٢ ، ١٤٣) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٣٦ ، ٣ / ١٥٨ ، ٢١٨ ، ٢٣٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ ، ٢٧٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٣٨٩) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٥١٧ ، ٩ / ٥٢٦ ، ١٠ / ١٢٦ ، ١١ / ٥٧٠) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٢ / ٢٠٦ ، ٧ / ١٨١) ، موطأ مالك (٩٢٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٣٠٧) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٥٤٤٤) ، مصنف ابن أبى شيبة (٧ / ٤١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٩٠ ، ٧ / ١٨٤) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٣٨) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (١٣٧ ، ١٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٢٧) ، ٦ / ١٢١ ، ١٥٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٤).


جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنوده بأجمعهم مع الملائكة عليهم‌السلام ، ثم ادخلوا على أفواجا فصلوا على وسلموا تسليما ، ولا يؤمكم أحد ولا تؤذونى بتزكية ولا نصيحة ولا برنة ، واقرءوا أنفسكم منى السلام ، ومن كان غائبا من أصحابى فأبلغوه عنى السلام ، وأشهدكم أنى قد سلمت على من دخل فى الإسلام وعلى من تابعنى على دينى من اليوم إلى يوم القيامة». قلنا : فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال : «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثير يرونكم من حيث لا ترونهم» (١).

وعن الفضل بن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له وهو موعوك قد عصب رأسه : «خذ بيدى» (٢). قال : فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ، ثم قال : «ناد فى الناس». فصحت فى الناس ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أما بعد ، أيها الناس ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وإنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه ، ولا يقل رجل : إنى أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا وأن الشحناء ليست من طبيعتى ، ولا من شأنى ، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى ، فلقيت الله عزوجل وأنا طيب النفس ، وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مرارا». قال الفضل : ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن لى عندك ثلاثة دراهم ، فقال : «أما إنا لا نكذب قائلا ، ولا نستحلفه على يمين ، فيم كانت لك عندى؟» (٣) فقال : يا رسول الله ، أتذكر يوم مر بك المسكين فأمرتنى فأعطيته ثلاثة دراهم؟ فقال : «أعطه يا فضل» (٤) ، ثم قال : «أيها الناس ، من كان عنده شيء فليرده ولا يقل رجل : فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة» (٥). فقام رجل فقال : يا رسول الله ، عندى ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله ، قال : «ولم غللتها؟» قال : كنت إليها محتاجا ، قال : «خذها منه يا فضل» ، ثم قال : «من

__________________

(١) انظر الحديث فى : إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٣٨٦) ، المطالب العالية لابن حجر (٤٣٩٢ ، ٤٣٩٣) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (٤ / ١٩٨).

(٢) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٦ / ٧٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٢٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٧٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣١).

(٣) انظر الحديث فى : ميزان الاعتدال (٦٨٥٥) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٨ / ٢٨١).

(٤) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٦ / ٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣١).

(٥) انظر الحديث فى : جمع الجوامع للسيوطى (٩٥٧٠) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٠٥١).


خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له» ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إنى لكذوب ، وإنى لفاحش ، وإنى لنئوم. فقال : «اللهم ارزقه الصدق وأذهب عنه النوم إذا أراد». ثم قال رجل فقال : والله يا رسول الله إنى لكذاب وإنى لمنافق وما شيء أو إن شيء إلا قد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال : فضحت نفسك أيها الرجل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ابن الخطاب ، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير».

فقال عمر كلمة ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «عمر معى وأنا مع عمر والحق بعدى مع عمر حيث كان» (١).

وعن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، قالت : فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عنه بيمينه رجاء بركتها.

وعنها قالت : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقالت رضي‌الله‌عنها : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالماء ، ثم يقول : «اللهم أعنى على منكرات الموات أو سكرات الموت» (٢).

وعنها ، وعن عبد الله بن عباس أيضا قالا : لما نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طفق يلقى خميصة على وجهه ، فإذا اغتم كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : «لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣). يحذرهم مثل ما صنعوا.

وعن أسامة بن زيد قال : لما ثقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبطت وهبط الناس معى إلى المدينة يعنى

__________________

(١) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (١٨ / ٢٨١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٢٦).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٦٤ ، ٧٠ ، ٧٧ ، ١٥١) ، سنن ابن ماجه (١٦٢٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ١٠٥) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (١٥٦٤) ، فتح البارى لابن حجر (٨ / ١٤٠ ، ١١ / ٣٦٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٣٦) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٩).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١١٩ ، ٤ / ٢٠٦ ، ٦ / ١٤ ، ٧ / ١٠٩) ، صحيح مسلم فى كتاب المساجد باب (٣) رقم (٢٢) ، سنن النسائى (٢ / ٤٠) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٥ ، ٢٩٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٠٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٨).


الجيش الذي كان تهيأ للخروج معه فى بعثه قال : فدخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أصمت فلا يتكلم ، وجعل يرفع يديه إلى السماء ، ثم يضعهما على ، أعرف أنه يدعو لى.

وذكر ابن إسحاق (١) : من حديث أبى بكر بن عبد الله بن أبى مليكة أن مما تكلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس يوم صلى قاعدا عن يمين أبى بكر أن قال لهم لما فرغ من الصلاة وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : «يا أيها الناس ، سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، إنى والله ما تمسكون على بشيء ، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن».

قال : فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه قال له أبو بكر : يا رسول الله ، إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب ، واليوم يوم بنت خارجة ، أفآتيها؟ قال : «نعم» ، ثم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح (٢).

وعن عبد الله بن عباس قال : خرج يومئذ على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه على الناس من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قال : أصبح بحمد الله بارئا. قال : فأخذ العباس بيده ، ثم قال : يا على ، أنت والله عبد العصا ، بعد ثلاث مرات ، أحلف بالله لقد رأيت الموت فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطلب ، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ، وإن كان فى غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال على : إنى والله لا أفعل ، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده ، فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك اليوم حين دخل المسجد فاضطجع فى حجرى ، فدخل على رجل من آل أبى بكر وفى يده سواك أخضر ، فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت : يا رسول الله ، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال : «نعم» ، قالت : فأخذته فمضغته له حتى لينته ، ثم أعطيته إياه ؛ قالت : فاستن به كأشد ما رأيته استن بسواك قط ، ثم وضعه ؛ ووجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثقل فى حجرى ، فذهبت أنظر فى وجهه ، فإذا بصره قد شخص وهو يقول : «بل الرفيق الأعلى من الجنة» (٣) ؛ قالت : فقلت : خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٧٨).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٠١).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٤) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٨٨ ، ٢٩٣).


وقالت : كان عليه‌السلام كثيرا ما أسمعه يقول : «إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره» ، فلما حضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول : «بل الرفيق الأعلى من الجنة» فقلت : إذا والله لا يختارنا ، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا : «إن نبيا لم يقبض حتى يخير» (١).

قالت : وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أنس بن مالك قال : لما وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة ، وا كرباه لكربك يا أبة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا كرب على أبيك بعد اليوم ، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» (٢).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان آخر ما عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «لا يترك بجزيرة العرب دينان» (٣).

وقالت أم سلمة : كان عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند موته : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (٤) ، حتى جعل يلجلجها فى صدره ، وما يقبض بها لسانه.

وقال أنس بن مالك : شهدته يوم توفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أر يوما كان أقبح منه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٥ ، ٤٨ ، ٧٤ ، ٨٩ ، ١٠٨ ، ١٢٠ ، ١٢٦) ، صحيح مسلم (٤ / ١٨٩٣ / ٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٦٢٩) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٦٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢١٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨١٨ ، ١٨٨٢٠) ، تاريخ أصفهان (٢ / ٢٢١).

(٣) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٢٥) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٥).

(٤) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٦٢٥ ، ٢٦٩٧ ، ٢٦٩٨) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١١٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ٢٣٧) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٤٤) ، شرح السنة للبغوى (٩ / ٣٥٠) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٩٧) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٣ / ٢١٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٦٣) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٣٣٥٦ ، ٣٣٥٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٨) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (٤ / ٢٤٠) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٢ / ٢٣٦) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (٢ / ٤٤) ، مشكل الآثار للطحاوى (٤ / ٢٣٥ ، ٢٣٦) ، تفسير ابن كثير (٨ / ٣١٤) ، علل الحديث لابن أبى حاتم الرازى (٣٠٠).


وقالت عائشة : توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحرى ونحرى ، وفى دولتى (١) ، لم أظلم فيه أحدا ، فمن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض وهو فى حجرى ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت التدم مع النساء ، وأضرب وجهى (٢).

واختلف أهل العلم بهذا الشأن فى اليوم الذي توفى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشهر بعد اتفاقهم على أنه توفى يوم الاثنين فى شهر ربيع الأول.

فذكر الواقدى وجمهور الناس أنه توفى يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة ، وهذا لا يصح ، وقد جرى فيه على العلماء من الغلط ما علينا بيانه ، وذلك أن المسلمين قد أجمعوا على أن وقفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة فى حجة الوداع كانت يوم الجمعة تاسع ذى الحجة من سنة عشر ، فاستهل هلال ذى الحجة على هذا ليلة الخميس ، ثم لا يخلو شهر ذى الحجة والمحرم بعده من سنة إحدى عشرة ثم صفر بعده أن تكون هذه الأشهر الثلاثة كاملة كلها أو ناقصة كلها ، أو اثنان منها كاملين وواحد ناقصا ، أو اثنان منها ناقصين وواحد كاملا ، وأيا ما قدرت من ذلك واعتبرته لم تجد الثانى عشر من ربيع الأول يكون يوم الاثنين أصلا.

وذكر أبو جعفر الطبرى بإسناد يرفعه إلى فقهاء أهل الحجاز ، قالوا : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصف النهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول.

وهذا القول وإن خالف ما ذكره جهور العلماء فإنه أولى بالصواب ، وأمكن أن يكون حقا ، فإنه إن كانت الأشهر الثلاثة كل شهر منها من تسعة وعشرين يوما كان استهلال شهر ربيع الأول على ذلك بالأحد فكان يوم الاثنين ثانيه.

وقد حكى الخوارزمى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى أول يوم من شهر ربيع الأول ، وهذا أيضا أمكن وأكثر إذ اتصال النقص فى ثلاثة أشهر لا يكون إلا قليلا ، والله تعالى أعلم.

ولما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتفعت الرنة عليه وسجته الملائكة دهش الناس كما روى عن غير واحد من الصحابة وطاشت عقولهم ، وأفحموا ، واهتلطوا ، فمنهم من خبل ، ومنهم من أصمت ، ومنهم من أقعد إلى الأرض ، فكان عمر رضي‌الله‌عنه ممن خبل ، فجعل يصيح ويقول : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين

__________________

(١) فى دولتى : أى فى نوبتها.

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٨ / ١٢١ ، ٢٠٠ ، ٢٧٤) ، صحيح البخاري (٣ / ١٣٨٩).


ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل : قد مات ، والله ليرجعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات.

وأما عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فأخرس حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يتكلم.

وأقعد على رضي‌الله‌عنه فلم يستطع حراكا. وأضنى عبد الله بن أنيس.

وبلغ الخبر أبا بكر رضي‌الله‌عنه وهو بالسنح فجاء وعيناه تهملان وزفراته تترد فى صدره وغصصه ترتفع كقطع الحرة وهو فى ذلك رضوان الله عليه جلد العقل والمقالة ، حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكب عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبل جبينه وجعل يبكى ويقول : بأبى أنت وأمى طبت حيا وميتا ، ولنقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة ، فعظمت عن الصفة ، وجللت عن البكاء ، وخصصت حتى صرت مسلاة ، وعممت حتى صرنا فيك سواء ، ولو لا أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس ، لو لا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشون ، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وأدناف يتخالفان لا يبرحان ، اللهم فأبلغه عنا ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك ، فلو لا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة ، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا. ثم خرج إلى الناس وهم فى عظيم غمراتهم وشديد سكراتهم فقام فيهم بخطبة جلها الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع ، وأن الحديث كما حدث ، وأن القول كما قال ، وأن الله هو الحق المبين ... فى كلام طويل ، ثم قال :

أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، وإن الله قد تقدم إليكم فى أمره فلا تدعوه جزعا ، قال الله تبارك وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤]. وإن الله سبحانه قد اختار لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عنده على ما عندكم ، وقبضه إلى ثوابه ، وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه ، فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ، ولا يلفتنكم عن دينكم ، فعاجلوا الشيطان بالخزى تعجزوه ولا تستنظروه فليلحق بكم.


فلما فرغ من خطبته التفت إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : يا عمر ، أنت الذي بلغنى عنك أنك تقول على باب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفس عمر بيده ما مات نبى الله أما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم كذا : كذا وكذا ، وقال يوم كذا : كذا وكذا ، وقال الله تعالى فى كتابه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٠ : الزمر]. فقال عمر : والله لكأنى لم أسمع بها فى كتاب الله تعالى قبل ذلك لما نزل بنا ، أشهد أن الكتاب كما نزل وأن الحديث كما حدث وأن الله تبارك وتعالى حى لا يموت ، صلوات الله على رسوله ، وعند الله نحتسب رسوله.

وفى بعض سياق هذا الخبر أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه لما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيت عائشة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجى فى ناحية البيت عليه برد حبرة ، أقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبى أنت وأمى ، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : يا عمر ، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل يكلم الناس ، فلما سمع الناس كلام أبى بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ، ثم قال :

يا أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، ثم تلا هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] إلى آخر الآية.

قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ وأخذها الناس عن أبى بكر ، فإنما هى فى أفواههم.

وقال عمر رضي‌الله‌عنه : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت (١) حتى وقعت إلى الأرض ، ما تحملنى رجلاى ، وعرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات (٢).

وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فيما كان منه يومئذ :

لعمرى لقد أيقنت أنك ميت

ولكنما أبدى الذي قلته الجزع

وقلت يغيب الوحى عنا لفقده

كما غاب موسى ثم يرجع كما رجع

وكان هواى أن تطول حياته

وليس لحى فى بقا ميت طمع

__________________

(١) عقرت : أى دهشت وتحيرت.

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري فى كتاب فضائل الصحابة (٧ / ٣٦٦٧ ـ ٣٦٦٨).


فلما كشفنا البرد عن حر وجهه

إذا الأمر بالجدع الموعب قد وقع

فلم تك لى عند المصيبة حلية

أرد بها أهل الشماتة والقذع

سوى إذن الله الذي فى كتابه

وما أذن الله العباد به يقع

وقد قلت من بعد المقالة قولة

لها فى حلوق الشامتين به بشع

ألا إنما كان النبيّ محمد

إلى أجل وافى به الموت فانقطع

ندين على العلات منا بدينه

ونعطى الذي أعطى ونمنع ما منع

ووليت محزونا بعين سخينة

أكفكف دمعى والفؤاد قد انصدع

وقلت لعينى كل دمع ذخرته

فجودى به إن الشجى له دفع

وذكر ابن إسحاق (١) بإسناد يرفعه إلى عبد الله بن عباس قال : إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وهو عامد إلى حاجة له ، وفى يده الدرة ما معه غيرى ، وهو يحدث نفسه ويضرب وخشى قدمه بدرته ، إذ التفت إلى فقال : يا ابن عباس ، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التي قلت حين توفى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : قلت : لا أدرى يا أمير المؤمنين ؛ أنت أعلم. قال : فإنه والله ، إن حملنى على ذلك إلا أنى كنت أقرأ هذه الآية : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [١٤٣ : البقرة] ، فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه للذى حملنى على أن قلت ما قلت (٢).

وذكر موسى بن عقبة أن المقام الذي قام به أبو بكر رضي‌الله‌عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد الذي كان من عمر من القول هو أنه خرج سريعا إلى المسجد من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوطأ رقاب الناس حتى جاء المنبر وعمر يكلم الناس ويوعد من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات ، فجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا ، فقام أبو بكر على المنبر فنادى الناس أن اجلسوا وأنصتوا ، فتشهد بشهادة الحق ، ثم قال : إن الله قد نعى نبيكم لنفسه وهو حى بين أظهركم ، ونعى لكم أنفسكم ، فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله ، يقول الله عزوجل : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [١٤٤ : آل عمران].

وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٠ : الزمر]

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه الطبرى فى تاريخه (٢ / ٢٣٨).


وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ٣٥ ، الأنبياء ، ٥٧].

وقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. وقال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦].

ثم قال : إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله صلوات الله عليه وهو على ذلك وتركتم على الطريقة ، فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة ، فمن كان الله ربه فإن الله حى لا يموت فليعبده ، ومن كان يعبد محمدا أو يراه ، إلها فقد هلك إلهه ، فأفيقوا أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم ، فإن دين الله قائم ، وإن كلمته باقية ، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه.

وإن كتاب الله بين أظهرنا هو النور والشفاء وبه هدى الله محمدا ، وفيه حلال الله وحرامه ، لا والله ما نبالى من أجلب علينا من خلق الله ، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يبقين أحد إلا على نفسه.

ثم انصرف وانصرف المهاجرون معه.

بيعة أبى بكر رضي‌الله‌عنه وما كان

من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ،

ومنتهى أمر المهاجرين معهم

قال ابن إسحاق (١) : ولما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انحاز هذا الحى من الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ، واعتزل على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فى بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبى بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير فى بنى عبد الأشهل ، فأتى آت إلى أبى بكر فقال : إن هذا الحى من الأنصار مع سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس من قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر : فقلت لأبى بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨١).


الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. قال : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن عباس قال : أخبرنى عبد الرحمن بن عوف وكنت فى منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر فى آخر حجة حجها عمر قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدنى فى منزله أنتظره ، وكنت أقرئه القرآن ، فقال لى : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك فى فلان يقول : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، والله ما كانت بيعة أبى بكر إلا فلتة فتمت. قال : فغضب عمر فقال : إنى إن شاء الله لقائم العشية فى الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. ثم قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم فى الناس ، وإنى أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعودها ولا يضعوها على موضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا ، فيعى أهل الفقه مقالتك ، ويضعونها موضعها. فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس (١) : فقدمنا المدينة فى عقب ذى الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه تمس ركبتى ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر ، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد : ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ؛ قال : فأنكر على سعيد بن زيد ذلك. قال : وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله ، فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فإنى قائل لكم مقالة قد قدر لى أن أقولها ولا أدرى لعلها بين يدى أجلى ، فمن عقلها ووعاها فليأخذنها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشى أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب على ؛ إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم فى كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم فى كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ؛ ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من الكتاب : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» أو «كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٢).


قال : «لا تطرونى كما أطرى عيسى ابن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله» (١) ؛ ثم إنه قد بلغنى أن فلانا قال : لو والله قد مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول : إن بيعة أبى بكر كانت فلتة فتمت ، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر ، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا ، إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأنصار خالفوا فاجتمعوا بأشرافهم فى سقيفة بنى ساعدة ، وتخلف عنا على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له؟ فقالوا : وجع. فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم.

قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت فى نفسى مقالة قد أعجبتنى ، أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر. فكرهت أن أعصيه ، فتكلم ، وهو كان أعلم منى وأوقر ، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قالها فى بديهته أو مثلها أو أفضل منها حتى سكت.

قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا هذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئا مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى لا يقربنى ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

قال : فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (٢ / ٢٧٨٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٤٧ ، ٥٥) ، مصنف عبد الرزاق (١١ / ٢٠٥٢٤).


أمير يا معشر قريش. قال : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة. فقلت : قتل الله سعد ابن عبادة.

وذكر ابن إسحاق (١) عن الزهرى عن عروة أن أحد الرجلين اللذين لقوا من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة هو عويم بن ساعدة ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل : من الذين قال الله لهم : (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة : ١٠٨]، فقال عليه‌السلام : «نعم المرء منهم عويم بن ساعدة ، وأما الرجل الآخر فهو : معن بن عدى» (٢) ، ويقال : إنه لما بكى الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين توفاه الله وقالوا : والله لوددنا أن متنا قبله ، إنا نخشى أن نفتتن بعده ، قال معن بن عدى : لكنى والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا ، وقتل رحمه‌الله شهيدا اليمامة.

وذكر ابن عقبة أنهم لما توجهوا إلى سقيفة بنى ساعدة وأراد عمر أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبى بكر ويتهدد من هناك من الأنصار ، وقال عمر : خشيت أن يقصر أبو بكر رضي‌الله‌عنه عن بعض الكلام وعن ما أجد فى نفسى من الشدة على من خالفنا زجره أبو بكر رضي‌الله‌عنه فقال : على رسلك فستكفى الكلام إن شاء الله تعالى ، ثم سوف تقول بعدى ما بدا لك ، فتشهد أبو بكر ، وأنصت القوم ، ثم قال :

بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه ، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، ونحن عشيرته وأقاربه ، وذوو رحمه ، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا فى العرب ، ولدتنا العرب كلها ، فليست منها قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش ، هم أصبح الناس وجوها ، وأبسطه ألسنا ، وأفضله قولا ، فالناس لقريش تبع ، فنحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بلمه ، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا فى كتاب الله وشركاؤنا فى الدين وأحب الناس إلينا ، وأنتم الذين آووا ونصروا ، وأنتم أحق الناس أن لا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه ، فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب وأبى عبيدة

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ٣١).


ابن الجراح ووضع يديه عليهما ، وكان قائما بينهما فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر ، ورأيته أهلا لذلك.

فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغى لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار مع رسول الله ، وثانى اثنين ، وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتكى فصليت بالناس ، فأنت أحق بهذا الأمر.

قالت الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم ، ولا أرضى عندنا هديا ، ولكنا نشفق بعد اليوم ، فلو جعلتم اليوم رجلا منكم فإذا مات أخذنا رجلا من الأنصار فجعلناه ، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه ، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم ، وكان ذلك أجدر إن يشفق القرشى إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري ، وأن يشفق الأنصاري إن زاغ أن ينقض عليه القرشى.

فقال عمر : لا ينبغى هذا الأمر ولا يصلح إلا لرجل من قريش ، ولن ترضى العرب إلا به ، ولن تعرف العرب الإمارة ، إلا له ، ولن تصلح إلا عليه ، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.

فقام الحباب بن المنذر من بنى سلمة (١) ، فقال : منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب ، دفت علينا منكم دافة أرادوا أن يخرجونا من أصلنا ويختصونا من هذا الأمر ، وإن شئتم كررناها جزعة.

فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم ، وأوعد بعضهم بعضا ، ثم تراد المسلمون وعصم الله لهم دينهم ، فرجعوا بقول حسن ، وسلموا الأمر لله وعصوا الشيطان ، ووثب عمر فأخذ بيد أبى بكر وقام أسيد بن حضير الأشهلى (٢) وبشير بن سعد أبو النعمان بن

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الأنساب (٣ / ٢٧٨) ، الإصابة ترجمة رقم (١٥٥٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٠٢٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٨٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١) ، الثقات (٣ / ٦) ، الإكمال (٢ / ٤٨٢) ، تهذيب الكمال (١ / ١١٣) ، الطبقات (٧٧) ، تقريب التهذيب (١ / ٧٨) ، بقى بن مخلد (١٣٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (١ / ٩٨) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٢٥٨ ، ١ / ٣٢٨) ، تهذيب التهذيب (١ / ٣٤٧) ، الكاشف (١ / ١٣٣) ، الجرح والتعديل (٢ / ١١٦٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٤٧) ، البداية والنهاية (٧ / ١٠١) ، الأنساب (١ / ٢٧٨).


بشير (١) يستبقان ليبايعا أبا بكر فسبقهما عمر فبايع ثم بايعا معا ، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ، وسعد بن عبادة مضطجع يوعك ، فازدحم الناس على أبى بكر ، فقال رجل من الأنصار : اتقوا سعدا ، لا تطؤه فتقتلوه.

فقال عمر وهو مغضب : قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر فبايعه الناس حتى أمسى ، وشغلوا عن دفن رسول الله حتى آخر الليل من ليلة الثلاثاء مع الصبح.

وقال ابن أبى عزة القرشى الجمحى فى ذلك :

شكرا لمن هو بالثناء خليق

ذهب اللجاج وبويع الصديق

من بعد ما دحضت بسعد نعله

ورجا رجاء دونه العيوق

جاءت به الأنصار عاصب رأسه

فأتاهم الصديق والفاروق

وأبو عبيدة والذين إليهم

نفس المؤمل للبقاء تتوق

كنا نقول لها على والرضى

عمر وأولادهم بتلك عتيق

فدعت قريش باسمه فأجابها

إن المنوه باسمه الموثوق

وذكر وثيمة بن موسى بن الفرات أنه كان لأشراف قريش فيما كان من شأن الأنصار مقامات محمودة ، فمن ذلك أن خالد بن الوليد قام على أثر أبى بكر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان خطيب قريش ، فقال :

أيها الناس ، إنا رمينا فى بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه ، وكنا كأنا منه على أوفاز ، ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله ، وذللنا صعبه ، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به ، حتى والله أمرنا بما كنا ننهى عنه ، ونهينا عن ما كنا نأمر به ، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول ، ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحى لم ينقطع حتى أكمل ، ولم يذهب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعذر ، فلسنا ننتظر بعد النبيّ نبيا ولا بعد الوحى وحيا ، ونحن اليوم أكثر منا بالأمس ، ونحن بالأمس خير منا اليوم ، من دخل فى هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله ، ومن تركه رددناه إليه ، إنه والله ما صاحب هذا الأمر

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٦٩٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٥٩) ، الثقات (٣ / ٣٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٥٣) ، تهذيب التهذيب (١ / ٤٦٤) ، الطبقات (٩٤ ، ١٩٠) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (١ / ١٣٠) ، الوافى بالوفيات (١٠ / ١٦٢) ، العبر (١ / ١٥ ، ١٦) ، البداية والنهاية (٦ / ٣٥٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٧٣) ، تقريب التهذيب (١ / ١٠٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٩٨) ، الجرح والتعديل (٢ / ٣٧٤).


يعنى أبو بكر بالمسئول عنه ولا المختلف فيه ، ولا بالخفى الشخص ، والمغمور القناة.

ثم سكت ، فعجب الناس من كلامه.

وقام حزن بن أبى وهب وهو الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهلا فقال :

وقامت رجال من قريش كثيرة

فلم يك فى القوم القيام كخالد

ترقى فلم تزلق به صدر نعله

وكف فلم يعرض لتلك الأوابد

فجاء بها غراء كالبدر سهلة

تشبهها فى الحسن أم القلائد

أخالد لا تعدم لؤيّ بن غالب

قيامك فيها عند قذف الجلامد

كساك الوليد بن المغيرة مجده

وعلمك الشيخان ضرب القماحد

تقارع فى الإسلام عن صلب دينه

وفى الشرك عن أجلال جد ووالد

وكنت لمخزوم بن يقظة جنة

كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد

إذا ما غنا فى هيجها ألف فارس

عدلت بألف عند تلك الشدائد

ومن يك فى الحرب المصرة واحدا

فما أنت فى الحرب العوان بواحد

إذا ناب أمر فى قريش محلج

تشيب له روس العذارى النواهد

توليت منه ما يخاف وإن تغب

يقولوا جميعا خطنا غير شاهد

قال ابن إسحاق (١) : ولما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظمت به مصيبة المسلمين ، فكانت عائشة فيما بلغنى تقول : لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق ، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبى بكر.

وذكر ابن هشام (٢) عن أبى عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه ، فتراجع الناس وكفوا عن ما هموا به ، فظهر عتاب بن أسيد ، وقد تقدم لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى سهيل بن عمرو لعمر بن الخطاب وقد قال له : انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٩١).

(٢) انظر المصدر السابق.


خطيبا أبدا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه» (١) ، فكان هذا المقام المتقدم هو الذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أنس بن مالك قال : لما بويع أبو بكر فى السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم قبل أبى بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال :

أيها الناس ، إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها فى كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنى كنت أرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد برنا ؛ يقول : يكون آخرنا ، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه ، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثانى اثنين إذ هما فى الغار ، فقوموا فبايعوه.

فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذى هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ، فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن أسأت فقومونى ؛ الصدق أمانة والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء ؛ أطيعونى ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (٢).

وذكر موسى بن عقبة أن رجالا من المهاجرين غضبوا فى بيعة أبى بكر ، منهم على والزبير ، فدخلا بيت فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب فى عصابة من المهاجرين والأنصار فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجى فكلموهما حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال :

والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ، ولا ليلة ، ولا سألتها الله قط سرا ولا علانية ، ولكنى أشفقت من الفتنة ، وما لى فى الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٣١٠) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٣٦٧).

(٢) انظر : البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٠١).


ما لى به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكانى اليوم.

فقبل المهاجرون منه ما قاله واعتذر به ، وقال على والزبير : ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وسنه ، ولقد أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة بالناس وهو حى.

وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قام فى الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم فى بيعتهم ويستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ويعيد ذلك عليهم ، كل ذلك يقولون له : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ذا يؤخرك.

ولم يبدأ أبو بكر رضي‌الله‌عنه بعد أن فرغ أمر البيعة واطمأن الناس بشيء من النظر قبل إنفاذ بعث أسامة ، فقال له : امض لوجهك الذي بعثك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا : أمسك أسامة وبعثه ، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا : أنا أحتبس بعثا بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد اجترأت إذ على أمر عظيم ، والذي نفسى بيده لأن تميل العرب على أحب إلى من أن احتبس جيشا أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. امض يا أسامة فى جيشك للوجه الذي أمرت به ، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية فلسطين ، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفى ما تركت ، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالتخلف لأستشيره وأستعين برأيه فإنه ذو رأى ونصيحة للإسلام وأهله فعلت. ففعل أسامة وأذن لعمر ، فأقام بالمدينة مع أبى بكر رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

ذكر غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفنه ، وما يتصل بذلك من أمره

صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته

ولما فرغ الناس من بيعة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاشتغال به.

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : لما أرادوا غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندرى ، أنجرّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت : فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره ، وكلمهم


مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبيّ وعليه ثيابه. قالت : فقاموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغسلوه وعليه قميصه ، يصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.

ويروى عن غير واحد أن الذين ولوا غسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عمه على بن أبى طالب ، وعمه العباس بن عبد المطلب ، وابناه الفضل ، وقثم ، وحبه أسامة بن زيد ، ومولاه شقران.

وقال أوس بن خولى أحد بنى عوف بن الخزرج وكان ممن شهد بدرا لعلى بن أبى طالب يومذاك أنشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له : ادخل ، فدخل وجلس ، فحضر غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، فأسند على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه ، وكان أسامة وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه ، وعلى يغسله ، قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى يقول : بأبى أنت وأمى ، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء مما يرى من الميت (١).

وكانت عائشة رضي‌الله‌عنها تقول : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نساؤه (٢).

ولما فرغ من غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفن فى ثلاث أثواب.

قال ابن إسحاق (٣) فى حديث يرفعه إلى على بن حسين : ثوبين صحاريين ، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا (٤).

وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عائشة ، قالت : كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ثلاثة

__________________

(١) انظر : الطبقات لابن سعد (٢ / ٢٨٠) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٢٣٨) ، سنن ابن ماجه فى كتاب الجنائز باب ما جاء فى غسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١ / ١٤٦٧).

(٢) انظر : مسند أبى داود الطيالسى (ص ٢١٥ ج ١٥٣٠).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٨).

(٤) انظر : التمهيد لابن عبد البر (٢ / ١٦٣) ، الدلائل للبيهقى (٧ / ٢٤٨) ، صحيح البخاري فى كتاب الجنائز (٣ / ١٢٦٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الجنائز (٢ / ٦٥٠ ، ٦٥١) ، سنن أبى داود فى كتاب الجنائز باب فى الكفن (٣ / ٣١٥١) ، سنن الترمذى فى كتاب الجنائز (٣ / ٩٩٦) ، سنن النسائى (١٨٩٦) ، سنن ابن ماجه (١ / ١٤٦٩) ، موطأ مالك (١ / ٥ / ٢٢٣) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٠ ، ١٣٢ ، ١٦٥ ، ١٩٢ ، ٢٠٤ ، ٢٣١).


أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة (١).

زاد الترمذى قال : فذكروا لعائشة قولهم : فى ثوبين وبرد حبرة. فقالت : قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.

واختلف المسلمون فى موضع دفنه ، فقال قائل : ندفنه فى مسجده ، وقال آخر : بل ندفنه مع أصحابه ، وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ادفنوه فى الموضع الذي قبض فيه ، فإن الله لم يقبض روحه إلا فى مكان طيب ، فعلموا أن قد صدق (٢).

وفى رواية أنه قال لهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض.

فرفع فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي توفى عليه ، فحفر له تحته.

ولما أرادوا أن يحفروا له ، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد ، دعا العباس برجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح ، وللآخر : اذهب إلى أبى طلحة. اللهم خر لرسول الله ، فوجد الذي توجه إلى أبى طلحة أبا طلحة ، فجاء به ، فلحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الثلاثاء ، وضع على سريره فى بيته ، ثم دخل الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون عليه أرسالا الرجال ، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد.

ويروى فى حديث أن عليا رضي‌الله‌عنه قال : لقد سمعنا همهمة ولم نر شخصا ، فسمعنا هاتفا يقول : ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم.

ثم دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وسط الليل ، ليلة الأربعاء (٣).

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : ما علمنا بدفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمعنا صوت

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم (٣ / ٣٩) ، صحيح البخاري (٢ / ٢١١) ، سنن أبى داود (٣ / ١٩٨ / ٣١٥١) ، سنن النسائى (٤٩٠ / ٣٥ ، ٣٦) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٤٦ ـ ٢٤٩).

(٢) انظر : طبقات ابن سعد (٢ / ٢٧٥ ، ٢٩٢ ، ٢٩٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢٥٩ ـ ٢٦١).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٩).


المساحى من جوف الليل من ليلة الأربعاء. وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبى طالب ، والفضل وقثم ابنا عمه العباس ، وشقران مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أوس بن خولى من الأنصار لعلى بن أبى طالب : يا على ، أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : انزل ، فنزل مع القوم.

وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطيفة يلبسها ويفترشها ، فأخذها شقران مولاه ، فدفنها فى القبر : والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا ، فدفنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما انصرف الناس قالت فاطمة رضي‌الله‌عنها لعلى رضي‌الله‌عنه : يا أبا الحسن ، دفنتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ أما كان فى صدوركم لرسول الله رحمة؟ أما كان معلم الخير؟ قال : بلى يا فاطمة ، ولكن أمر الله الذي لا مرد له ، فجعلت تبكى وتندب : وا أبتاه ، أجاب ربا دعاه ، وا أبتاه من جنة الفردوس مأواه ، وا أبتاه ، إلى جبريل ينعاه.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسر إليها فى مرضه أنه مقبوض منه ولا حق بربه ، فبكت مشفقة من فراقه ، فأسر إليها ثانية أنها أول أهله لحاقا به ، فضحكت راضية بالموت مسرورة بوقوعه فى جنب ما تتعجل من لقائه فى حضرة القدس ومحلة الرضوان والكرامة.

ولما دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانصرف المهاجرون والأنصار عن دفنه ، ورجعت فاطمة رضي‌الله‌عنها إلى بيتها اجتمع إليها نساؤها فقال :

اغبر أفاق السماء وكورت

شمس النهار وأظلم العصران

فالأرض من بعد النبيّ كئيبة

أسفا عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها

ولتبكه مضر وكل يمان

وليبكه الطود المعظم جوه

والبيت ذو الأستار والأركان

يا خاتم الرسل المبارك ضنه

صلى عليك منزل الفرقان

ويروى أيضا أن فاطمة رضي‌الله‌عنها أنشدت بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متمثلة بشعر سميتها فاطمة بنت الأجهم :

قد كنت لى جبلا ألوذ بظله

فتركتنى أمشى بأجرد ضاح

قد كنت ذات حمية ما عشت لى

أمشى البرار وكنت أنت جناحى


فاليوم أخضع للذليل وأتقى

منه وأدفع ظالمى بالراح

وإذا دعت قمرية شجنا لها

ليلا على فنن دعوت صباحى

ومما ينسب إلى على أو فاطمة رضي‌الله‌عنهما :

ما ذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدا الزمان غواليا

صبت على مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا

وجلست أم أيمن تبكى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موته ، وهى حاضنته التي كان يأوى إليها بعد موت أمه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيته لم يدفن بعد ، فقيل لها : ما يبكيك يا أم أيمن قد أكرم الله نبيه وأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا ، فقالت : إنما أبكى على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة ، فقد انقطع عنا ورفع ، فعليه أبكى. فعجب الناس من قولها وبكوا لبكائها.

وقال أنس بن مالك خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا أيدينا من التراب ، وإنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

وقال عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما : ولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين ، فيا لهذا اليوم كم خير تسبب فيه إلى أهل الأرض ، وأى مصيبة نزلت فيه بمنية ضاق عنها منفسح الطول والعرض.

وقد حدثنا ابن عباس أيضا أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة» (١). فقالت عائشة : فمن كان له فرط من أمتك؟ قال : «ومن كان له فرط يا موفقة» (٢) قالت : فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال : «فأنا فرط لأمتى ، لن يصابوا بمثلى» (٣).

ولله در شاعره حسان بن ثابت إذ يقول :

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (١٠٦٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٣٤) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ٦٨) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (١٧٣٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٦٥٧٢ ، ٦٦٠٩) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١٢ / ٢٠٨).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (١ / ٣٣٥) ، الشمائل للترمذى (٢١٢).

(٣) انظر الحديث فى : هامش المواهب (٢٠٠).


وهل عدلت يوما رزية هالك

رزية يوم مات فيه محمد

وهذا البيت من قصيدة له يرثى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنذكرها بعد فى مراثيه.

وروى أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليعز المسلمين فى مصائبهم المصيبة بى»(١).

فيا لها والله مصيبة أحرقت الأكباد ، وغمرت بالأسف والحزن الآماد والآباد ، ورزأ ثقيلا آد كاهل الإيمان منه ما آد ، وخطبا جليلا أودى بكل صبر جميل أو كاد :

والصبر يحمد فى المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

ولو لا أن الله سبحانه وتعالى ربط على القلوب من بعده بأمر من عنده لأودت مكانها كمدا ، ولما وجدت إلى البقاء متسلفا ، ولا عن وحى القنا ملتحدا ، ولو رجفت الأرض لفقدان أحد لأصبحت لفقدانه راجفة ، ولو نسفت الجبال لمهلك هالك لغدت رواسيها على حكم الأسف متناسفة ، ولو كسفت النيرات لمصرع حى لأمست دررها منثورة لمصرعه ، ولو تغيرت المشارع المورودة لموت إنسان لأمر لموته على كل وارد عذب مشرعه هيهات هيهات ، ذلك والله الرزء الكبار ، والنازلة التي يعيى بها الاحتمال والاصطبار ، والخطر الذي تقاصر دونه الأخطار ، والخطب الذي تشقى بمضاضة مشاهدته المهاجرون والأنصار ، والمفقود الذي لا عوض منه أبدا وإن تراخت الأيام وتطاولت الأعصار ، ولو غير الأقدار أصابته لبدلت دونه أعلاق المهج ، أو غير المنايا نابتة لتعذر على قاصده وجه السبيل المنتهج ، ولكنها السبيل التي لا يتخطاها سالك ، وما سبقت به مشيئة الدائم الباقى الذي كل شيء إلا وجهه هالك ، فلا مجال للدفاع ، ولا حيلة فى الامتناع ، ولا غناء للأعوان والأتباع ، ولا شيء يضمه حكم الممكن المستطاع غير الانقياد لأمر الله والإهطاع ، ولهفا عليه ، ويا برح شوق القلوب المشربة نور الإيمان به ، وشدة نزاعها إليه ، وبالدموع أجريت عليه ، صلوات الله وبركاته عليه ، لقد وجدت مجرا ، وأوجبت أجرا وحرمت لهيا عن أسبابها وزجرا ، ولقد كان من يقدم المدينة بعد أن استأثر به مولاه الذي شرح له صدرا ، ورفع له ذكرا وقدرا ، إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجا يصم السميع ، وللبكاء فى جنباتها عجيجا أصحل الحلوق ونزف الدموع.

حدث أبو ذؤيب الهذلى فقال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليل ، فاستشعرت حزنا ، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها ، ولا يطلع نورها ، فظللت أقاسى طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بى هاتف وهو يقول :

__________________

(١) انظر الحديث فى : السلسلة الصحيحة للألبانى (١١٠٦) ، موطأ مالك (٢٣٦).


خطب أجل أناخ بالإسلام

بين النخيل ومعقد الآطام

قبض النبيّ محمد فعيوننا

تذرى الدموع عليه بالتسجام

قال أبو ذؤيب : فوثبت من نومى فزعا ، فنظرت إلى السماء ، فلم أر إلا سعد الذابح ، فتفاءلت به ، ذبح يقع فى العرب ، وعلمت أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قبض ، أو هو ميت من علته ، فركبت ناقتى وسرت ، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به ، فعن لى شيهم يعنى القنفذ قد قبض على صل يعنى الحية فهى تلتوى عليه ، والشيهم يقضها حتى أكلها ، فزجرت ذلك وقلت : شيهم شيء مهم ، والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر ، فحثثت ناقتى حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرنى بوفاته ، ونعب غراب سانح ، فنطق بمثل ذلك ، فتعوذت بالله من شر ما عن لى فى طريقى ، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام ، فقلت : مه؟ فقالوا : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت المسجد ، فوجدته خاليا ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدت بابه مرتجا ، وقيل إلى الأنصار ، فجئت إلى السقيفة ، فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما مولى أبى حذيفة وجماعة من قريش ، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ، وفيهم شعراؤهم : حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم ، فآويت إلى قريش وتكلمت الأنصار ، فأطالوا الخطاب ، وأكثروا الصواب ، وتكلم أبو بكر رضي‌الله‌عنه فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب ، والله لقد تكلم لكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه ، ثم تكلم عمر رضي‌الله‌عنه بعده دون كلامه ، ومد يده وبايعوه ، ورجع أبو بكر ورجعت معه.

قال أبو ذؤيب : فشهدت الصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهدت دفنه.

ثم أنشد أبو ذؤيب يبكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لما رأيت الناس فى غسلاتهم

ما بين ملحود له ومضرح

متبادلين لشرجع بأكفهم

نص الرقاب لفقد أبيض أروح

فهناك صرت إلى الهموم ومن بيت

جار الهموم يبيت غير مروح

كسفت لمصرعه النجوم وبدرها

وتزعزعت آطام بطن الأبطح

وتزعزعت أجيال يثرب كلها

ونخيلها لحلول خطب مفدح

ولقد زجرت الطير قبل وفاته

بمصابه وزجرت سعد الأذبح

وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى هشام بن عروة : أن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت ترثى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما توفى :


ألا يا رسول الله كنت رجاءنا

وكنت بنا برا ولم تك جافيا

وكنت رحيما هاديا ومعلما

ليبك عليك اليوم من كان باكيا

لعمرك ما أبكى النبيّ لفقده

ولكن لما أخشى من الهرج آتيا

كأن على قلبى لذكر محمد

وما خفت من بعد النبيّ المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد

على جدث أمسى بيثرب ثاويا

فدا لرسول الله أمى وخالتى

وعمى وآباى ونفسى وماليا

صدقت وبلغت الرسالة صادقا

ومت صليب العود أبلج صافيا

فلو أن رب الناس أبقى نبينا

سعدنا ولكن أمره كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية

وأدخلت جنات من العدن راضيا

أرى حسنا أيتمته وتركته

يبكى ويدعو جده اليوم نائيا

وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم (١) يبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أرقت فات ليلى لا يزول

وليل أخى المصيبة فيه طول

وأسعدنى البكاء وذاك فيما

أصيب المسلمون به قليل

لقد عظمت مصيبتنا وجلت

عشية قيل قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا مما عراها

تكاد بنا جوانبها تميل

فقدنا الوحى والتنزيل فينا

يروح به ويغدو جبرئيل

وذاك أحق ما سالت عليه

نفوس الناس أو كربت تسيل

نبى كان يجلو الشك عنا

بما يوحى إليه وما يقول

ويهدينا فلا نخشى ضلالا

علينا والرسول لنا دليل

أفاطم إن جزعت فذاك عذر

وإن لم تجزعى ذاك السبيل

فقبر أبيك سيد كل قبر

وفيه سيد الناس الرسول

ولما بلغت عمرو بن العاص السهمى وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يومئذ بعمان ، قال يرثيه :

أتانى ورحلى فى عمان مصيبة

فبت بعين طرفها طرف أرمد

غداة نعى الناس النبيّ محمدا

فأعزز علينا بالنبى محمد

فقدنا به وحى السماء ونعمة

تروح علينا بالمراد وتغتدى

وأوحش منه منبر كان زينة

ومسجده وحش فيها خير مسجد

__________________

(١) انظر ترجمته فى : تجريد أسماء الصحابة (٢ / ١٧٣) ، الإصابة ترجمة رقم (١٠٠٢٨).


فلو كنت يوما شاهدا لوفاته

لمست ترابا من ضريحته يدى

بإذن يراه أهله ومكيده

أسود بها ما عشت يومى وفى غد

كما نالها منه المغيرة خدعة

وما أنا دون الطائفى الجفيدد

يريد : المغيرة بن شعبة الثقفى ، وكان يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول : أخذت خاتمى فألقيته فى القبر ، وقلت : إن خاتمى سقط منى ، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكون أحدث الناس عهدا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ينكر ذلك من قول المغيرة ويأباه ، ويقول : أحدث الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قثم بن عباس.

وذكر وثيمة بن موسى أن عبد الله بن أنيس الجهنى (١) كان غائبا ببعض ضواحى المدينة ، فلما انتهى إليه الخبر بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أظلمت عليه الأرض ، ثم قال : والله ، لو أن ميتا رده قتل حى نفسه لقتلت نفسى ، ولكن أفرغ إلى أمر الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم سأل الذي أخبره : هل استخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا بعينه؟ قال : لا والله. قال : الله اكبر ، لو استخلفه هلكنا بمعصية. فهل اجتمع الناس على رجل؟ قال : أمر نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس. قال : هى إعلام الإمامة ، وليس كل من صلى بإمام. ما فعل على؟ قال : هو فى بيته. قال : لا يريدها يا ابن أخى ، لها ثلاثة من قريش : على وأبو بكر وعمر ، من ادعى منازلهم قصر دونهم. ما صنعت الأنصار؟ قال : اعتزلت ، قال : كلا ، طائف من الشيطان ، لم يكن الله ليخذلهم مع ما سبق لهم ، بت عندى الليلة فإنى عليل ولا أرانى إلا لما بى من هذه الصدمة ، ولكن أبلغ عنى قريشا ، فقال :

نفا النوم ما لا تبتغيه الأصابع

وخطب جليل للبلية جامع

غداة نعى الناعى إلينا محمدا

وتلك التي تستك منها المسامع

فلو رد نفسا قتل نفس قتلتها

ولكنه لا يدفع الموت دافع

فآليت لا أبكى على هلك هالك

من الناس ما أؤسى ثبير وفارغ

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٥٦٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٨٢٧) ، الثقات (٣ / ٢٣٤) ، حلية الأولياء (٢ / ٥) ، حسن المحاضرة (١ / ٢١١) ، شذرات الذهب (١ / ٦٠) ، البداية والنهاية (٨ / ٥٧) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٩٨) ، تهذيب التهذيب (٥ / ١٤٩) ، العبر (١ / ٥٩) ، الجرح والتعديل (٥ / ١) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (٣٦٧) ، التاريخ الكبير (٣ / ١٤) ، تهذيب الكمال (٢ / ٦٦٦) ، الطبقات (١١٨) ، الكاشف (٢ / ٧٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٤٠٢) ، الوافى بالوفيات (١٧ / ٧٦) ، الأنساب (٢ / ١٧٨) ، بقى بن مخلد (١١٣).


ولكننى باك عليك ومتبع

مصيبته إنى إلى الله راجع

وقد قبض الله النبيين قبله

وعادا أصيب بالورى والتتابع

فإن مات فالإسلام حى وربنا

لذا الدين مما كاده اليوم مانع

فيا ليت شعرى من يقوم بأمرنا

وهل لقريش يا إمام منازع

ثلاثة رهط من قريش هم هم

أزمة هذا الأمر والله صانع

على أو الصديق أو عمر لها

وليس لها بعد الثلاثة رابع

أولئك خير الحى فهر بن مالك

وأول من تجنى عليه الأصابع

أولئك إن قاموا به سلكوا بنا

محجتنا العظمى وقل التنازع

وكل قريش والذي أنا عبده

على كل حال للثلاثة تابع

فإن قال منا قائل غير هذه

أبينا وقلنا الله راء وسامع

فيا لقريش قلدوا الأمر بعضكم

فإن ضجيع العجز للسن قارع

ولا تبطئوا عنها فواقا فإنها

إذا قطعت لم تسر فيها المطامع

قال : فانتهى الرجل إلى قريش وقد انطلق المهاجرون إلى الأنصار ، وكان من أمرهم الذي كان ، فرجع إلى عبد الله بن أنيس ، فأخبره الخبر ، ففرح بذلك.

ولأبى الهيثم بن التيهان الأنصاري فى نحو هذا المعنى شعر قاله وقد مر به أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه قبل مبايعة الناس إياه ، فشكى إليه وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو الهيثم : وقد والله شمتت اليهودية والنصرانية ، وبلغنى عن الناس أمر ساءنى ، فرجع أبو الهيثم إلى منزله ، فقال :

ألا قد أرى أن المنى لم تخلد

لأن المنايا للنفوس بمرصد

لقد جدعت آذاننا وأنوفنا

غداة فجعنا بالنبى محمد

تكلم أهل الشرك من بعد غلظة

لغيبة هاد كان فينا ومهتدى

ثلاثة أصناف من الناس كلهم

يروح علينا بالشنان ويغتدى

نصارى يقولون الفرى ومنافق

شبيه بذاك الشامت المتهود

وأوعد كذاب اليمامة جهده

فأجلب عودا باللسان وباليد

فإن تك هذا اليوم منهم شماتة

فلا يأمنوا ما يحدث الله فى غد

وما نحن إن لم يجمع الله أمرنا

بخير قريش كلها بعد أحمد

بأمنع من شاء يقفر مطيرة

بقيعة قاع أو ضباب بفدفد

وإنى لأرجو أن يقوم بأمرنا

على أو الصديق والمرء من عدى


أولئك خيار الحى فهر بن مالك

وأنصار هذا الدين من كل معتدى

ولما انتهت إلى همدان وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلمت سفاؤهم بما كرهت ظماؤهم ، فقال عبد الله بن مالك الأرض ، وكان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له هجرة وفضل فى دينه ، فاجتمعت إليه همدان ، فقال :

يا معشر همدان ، إنكم لم تعبدوا محمدا ، إنما عبدتم رب محمد ، وهو الحى الذي لا يموت ، غير أنكم أطعتم رسولكم بطاعة الله فدعاكم فأجبتموه ، وهداكم فاتبعتموه ، واعلموا أنه ولى نعمتكم فى دينكم ودنياكم ، فأما دينكم فاستنقذكم الله به من النار ، وأما دنياكم فاستنقذكم الله به من الرق ، ولم يكن الله ليجمع صحابة رسوله على ضلال ، وقد وعدهم أن يهديهم عند ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فأطيعوا من اختاروا ، وقدموا من قدموا ، فى كلام غير هذا تكلم به على هذا المثال ، ونسجه على هذا المنوال.

وقال فى ذلك :

لعمرى لئن مات النبيّ محمد

لما مات يا ابن القيل رب محمد

وما كان إلا مرسلا برسالة

ليبلغها والحادثات بمرصد

ولما قضى من ذاك ما كان قاضيا

ولم يبق شيء فيه إلحاد ملحد

دعاه إليه ربه فأجابه

فيا خير غورى ويا خير منجد

وما نحن إلا مثل من كان قبلنا

فريقين شتى كافر وموحد

ونحن على ما كان بالأمس بيننا

من الدين نهدى من أراد فيهتدى

ثم قام ابن ذى مران ، وكان من سادات همدان وملوكهم ، فتكلم فيهم ، فأطال نفس الكلام ، وحرض على التمسك بالدين ، وحمل على الطاعة للقائم بالأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال يرثيه ويتفجع للمصيبة فيه :

إن حزنى على الرسول طويل

ذاك منى على الرسول قليل

قلت والموت يا إمام كريه

ليتنى مت يوم مات الرسول

ليتنى لم أكن بقيت فواقا

بعده والفواق منى طويل

بكت الأرض والسماء عليه

وبكاه خليله جبريل

يا لها رحمة أصيب بها النا

س تولت وحان منها الرحيل

جدعت منهم الأنوف فللقل

ب خفوق وللجفون همول

ليس للناس إمام من الأم

ر فتيل وأين منك الفتيل


إنما الأمر للذى خلق الخل

ق وفى خلقه عليه دليل

فى أبيات غير هذه يؤنس فيها المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة ، وكان أميرا عليهم من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عند قومه من حسن الطاعة له والقيام فى الحق معه.

ثم قام ابن ذى المشغار ، وكان ملك أهل ناحيته ، وكان متألها ، فتكلم أيضا فى هذا النحو بكلام حسن ، نظما ونثرا ، فلما فرغ من مقالته أتاه مسروق بن الحارث القوال الأرحبى ، فقال له :

أيها الملك ، إنه لا يعرف عندك فى قريش إلا رجل مثلى من قومك ، أنا القوال ابن القوال ، الفارس ابن الفارس ، ابعثنى إلى خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقوم مقاما شريفا أباهى به فيك الناس.

فسرحه ، فلما قدم مسروق على أبى بكر رضي‌الله‌عنه تهيأت له قريش ، وقالوا : خطيب همدان وفتاها ، فتكلم عندهم بكلام تركنا ذكره وذكر ما أنشد معه من الشعر ، إذ ليس مناسبا لما نحن الآن بسبيله من ذكر مراثى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما سمعت قريش شعره وخطبته ، عجبت منه ، وكان معه عبد الله بن سلمة الهمدانيّ ، فقام فقال : يا معشر قريش ، إنكم لم تصابوا بنبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون سائر العرب ، لأنه لم يكن لأحد دون أحد ، وأيم الله ، لا أدرى أى الرجلين أشد حزنا عليه ، وأعظم مصابا به ، من عاينه فغاب عنه عيانه ، أو من أشرف على رؤيته ، فلم يره؟ غير أنا معترفون للمهاجرين بفضل هجرتهم ، وللأنصار بفضل نصرتهم ، والتابع ناصر ، والمؤمن مهاجر فى كلام غير هذا صدر عن قلب مؤمن ، وجأش به خاطر شديد ، فأثنى عليه أبو بكر خيرا ، وحمدته قريش ، وكان سيدا ، فقال :

إن فقد النبيّ جدعنا اليو

م فدته الأسماع والأبصار

وفدته النفوس ليس من المو

ت فرار وأين أين الفرار

ما أصيبت به الغداة قريش

لا ولا أفردت به الأنصار

دون من وجه الصلاة إلى الل

ه وقد هنئت به الكفار

ورجال منافقون شمات

ويوم واروه كفرهم إسرار

من بكته السماء تسعدها الأر

ض وبكت بعد القفار البحار

وسرافيل قد بكاه وجبري

ل وميكال والملأ الطهار

يا لها كلمة يضيق بها الحل

ق أتانا بنقلها السفار


قيل مات النبيّ فانصدع القل

ب وشابت من هولها الأشعار

فعليه‌السلام ما هبت الري

ح ومدت جنح الدجى أنوار

وقال سواد بن قارب الدوسى (١) ، وهو الذي كان كاهنا فأسلم فحسن إسلامه بإرشاد ربه إياه إلى ذلك حسب ما تقدم صدر كتابنا هذا من خبره يبكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغت أسد السراة وفاته ، وبعد أن قام فيهم مقاما محمودا ، يثبتهم فى الدين ، ويحذرهم سوء عاقبة الارتداد ، وكان قد سادهم وشرف فيهم ، فأجابوه إلى ما أراد ، وقبلوا رأيه ، وقال :

جلت مصيبتك الغداة سواد

وأرى المصيبة بعدها ترداد

أبقى لنا فقد النبيّ محمد

صلى الإله عليه ما يعتاد

حزنا لعمرك فى الفؤاد مخامرا

أو هل لمن فقد النبيّ فؤاد

كنا نحل به جنابا ممرعا

خف الجناب فأجدب الرواد

فبكت عليه أرضنا وسماؤنا

وتصدعت وجدا به الأكباد

قل المتاع به وكان عيانه

حلما تضمن سكريته رقاد

كان العيان هو الطريف وحزنه

باق لعمرك فى النفوس تلاد

إن النبيّ وفاته كحياته

والحق حق والجهاد جهاد

لو قيل تفدون النبيّ محمدا

بذلت له الأموال والأولاد

وتسارعت فيها النفوس لبذلها

هذا له الأغياب والأشهاد

هذا وهذا لا يرد نبينا

لو كان يفديه فداء سواد

وقال عبد الحارث بن أسد بن الريان من أهل نجران يبكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغتهم وفاته ، بعد قيامه فيهم أحمد مقام ، يحرضهم على التمسك بالدين والثبوت على الإسلام ، ويذكرهم نعمة الله عليهم ، بالدخول فيه واللحاق بمن هاجر إليه ، ويقول لهم فيما قال : إنما كان نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم عارية ، فأتى عليه أجله ، وبقى الكتاب الذي كان يحكم به ، ويحكم عليه ، فأمره أمر ونهيه نهى إلى يوم القيامة ، وقد سهل لكم الطريق فاسلكوه ، ولا بد من جولة ، فكونوا فيها ذوى أناة ، وقد اختار القوم لأنفسهم رجلا لا يألوهم خيرا ، فأطيعوا قريشا ما أطاعوا الله ، فإذا عصوه فاعصوهم ، فإنه لا ينبغى لآخرنا أن يملك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣٥٩٦) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٣٣٤) ، الثقات (٣ / ١٧٩) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٤٨) ، الوافى بالوفيات (١٦ / ٣٥) ، التاريخ الكبير (٤ / ٢٠٢) ، الأعلام (٣ / ١٤٤).


إلا بما ملك به أولنا ، وهى النبوة ، فميراثها منها فى كلام غير هذا حسن أبلى به عذرا ، وبالغ لقومه نصحا.

وقال :

لعمرى لئن كان النبيّ محمد

عليه‌السلام الله أودى به القدر

لقد كسفت شمس النهار لفقده

وبكت عليه الأرض وانكسف القمر

وبكته آفاق السماء وما لها

وللأرض شجو غير ذاك ولا عبر

ولو قيل تفدون النبيّ محمدا

لقلنا نعم بالنفس والسمع والبصر

وقل له منا الفداء وهذه

وإن بذلت لا يسترد بها بشر

فإن يك وافاه الحمام فدينه

على كل دين خالف الحق قد ظهر

ونحن بحمد الله هامة مذحج

بنو الحارث الخير الذين هم الغرر

بنجران نعطى من سعى صدقاتنا

موفرة ما فى الخدود لها صعر

ونحن على دين النبيّ نرى الذي

نهانا حراما منه والأمر ما أمر

أحاذر إن لم يدفع الله جولة

مجدعة يبيض من هولها الشعر

يحين فيها الله من خف حلمه

ويسعد فيها ذو الأناة بما صبر

نطيع قريشا ما أطاعوا فإن عصوا

أبينا ولم نشر السلامة بالغرر

وكان لهذا الأمر منهم ثلاثة

على أو الصديق أو ثالث عمر

فلم يخطئوا إذا سددوها لبعضهم

هم ما هم كل لإرعاده مطر

وأمثال هذه المقالات نثرا ونظما لرجال من سادات العرب وأشراف القبائل بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، قاموا بها فى قومهم يحذرونهم من الفتنة ، ويحرضونهم على التمسك بالطاعة لمن قام بالأمر.

وقد ذكر المؤلفون فى الردة كثيرا منها ، وهى بذلك الباب أخص ، وإنما تخيرت هنا منا ما يتعلق نظمه بباب الرثاء ، ويبعث فى حق المصطفى على التفجع والبكاء ، حشدا على الداهية الدهياء ، واستعانة على الحادثة النكراء ، وعظيم المصيبة بوفاة من حق فى حقه بكاء الأرض والسماء ، وقل لفقده أن تسح المدامع عوض الدموع بالدماء :

هو الرزء الذي ابتدأ الرزايا

وقال لأعين الثقلين جودى

وقال حسان بن ثابت الأنصاري (١) يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٩٢).


بطيبة رسم للرسول ومعهد

منير وقد تعفو الرسوم وتهمد(١)

ولا تمتحى الآيات من دار حرمة

بها منبر الهادى الذي كان يصعد

وواضح آثار وباقى معالم

وربع له فيه مصلى ومسجد

بها حجرات كان ينزل وسطها

من الله نور يستضاء ويوفد

معارف لم تطمس على العهد أيها

أتاها البلى فالآى منها تجدد

عرفت بها رسم الرسول وعهده

وقبرا بها واراه فى التراب ملحد

ظللت بها أبكى الرسول فأسعدت

عيون ومثلاها من الجفن تسعد

يذكون ألاء الرسول وما أرى

لها محصيا نفسى فنفسى تبلد (٢)

مفجعة قد شفها فقد أحمد

فظلت لآلاء الرسول تعدد (٣)

وما بلغت من كل أمر عشيره

ولكن لنفسى بعد ما قد توجد (٤)

اطالت وقوفا تذرف العين جهدها

على طلل القبر الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت

بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد

وبورك لحد منك ضمن طيبا

عليه بناء من صفيح منضد (٥)

تهيل عليه الترب أيد واعين

عليه وقد غارت بذلك أسعد

لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة

عشية علوه الثرى لا يوسد

وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم

وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

يبكون من تبكى السموات يومه

ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

وهل عدلت يوما رزية هالك

رزية يوم مات فيه محمد

تقطع فيه منزل الوحى عنهم

وقد كان ذا نور يغور وينجد (٦)

يدل على الرحمن من يقتدى به

وينفذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهدا

معلم صدق أن يطيعوا ويسعدوا

__________________

(١) طيبة : اسم مدينة النبيّ. والرسم : ما بقى من آثار الدار. وتعفو : أى تدرس وتتغير. وتهمد : أى تبلى.

(٢) تسعد : أى تعين.

(٣) شفها : أى أضعفها.

(٤) العشير : أى العشر. وتوجد : من الوجد ، وهو الحزن.

(٥) الصفيح : الحجارة العريضة. والمنضد : الذي جعل بعضه على بعض.

(٦) يغور : أى يبلغ الغور ، وهو المنخفض من الأرض. وينجد : أى يبلغ النجد ، وهو المرتفع من الأرض.


عفو عن الزلات يقبل عذرهم

وإن يحسنوا فالله بالخير أجود

وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله

فمن عنده تيسير ما يتشدد

فبينا هم من نعمة الله وسطهم

دليل به نهج الطريق يقصد

عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى

حريص على أن يستقيموا ويهتدوا

عطوف عليهم لا يثنى جناحه

إلى كتف يحنو عليهم ويمهد (٧)

فبينا هم فى ذلك النور إذ غدا

إلى نورهم سهم من الموت مقصد

فأصبح محمودا إلى الله راجعا

يبكيه جن المرسلات ويحمد

وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها

لغيبة ما كانت من الوحى تعهد

قفارا سوى معمورة اللحد ضافها

فقيد نبكيه بلاط وغرقد

ومسجده فالموحشات لفقده

خلاء له فيها مقام ومقعد

وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت

ديار وعرصات وربع ومولد

فبكى رسول الله يا عين عبرة

ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد

ومالك لا تبكين ذا النعمة التي

على الناس منها سابغ يتغمد

فجودى عليه بالدموع وأعولى

لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يفقد

أعف وأوفى ذمة بعد ذمة

وأقرب منه نائلا لا ينكد

وأبذل منه للطريف وتالدا

إذا ضن معطاء بما كان يتلد (٨)

وأكرم صيتا فى البيوت إذا انتهى

وأكرم جدا أبطحيا يسود (٩)

وأمنع ذروات وأثبت فى العلا

دعائم عز شاهقات تشيد

وأثبت فرعا فى الفروع ومنبتا

وعودا غذاه المزن فالعود أغيد

رباه وليدا فاستتم تمامه

على أكرم الخيرات رب ممجد

تناهت وصاة المسلمين بكفه

فلا العلم محبوس ولا الرأى يفند

أقول ولا يلقى لما قلت عائب

من الناس إلا عازب العقل مبعد (١٠)

وليس هواى نازعا عن ثنائه

لعلى به فى جنة الخلد أخلد

__________________

(٧) الكنف : أى الجانب والناحية.

(٨) الطريف : المال المستحدث. والتالد : المال القديم الموروث. وضن : أى بخل. ويتلد : أى يكتسب قديما.

(٩) الصيت : أى الذكر الحسن. والأبطحى : المنسوب إلى أبطح مكة ، وهو موضع سهل متسع.

(١٠) عازب العقل : بعيد العقل غائبه.


مع المصطفى أرجو بذاك جواره

وفى نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد

وقال حسان بن ثابت (١) يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ما بال عينك لا تنام كأنما

كحلت مآقيها بكحل الأرمد

جزعا على المهدى أصبح ثاويا

يا خير من وطئ الحصى لا تبعد

وجهى يقيك الترب لهفا ليتنى

غيبت قبلك فى بقيع الغرقد

بأبى وأمى من شهدت وفاته

فى يوم الاثنين النبيّ المهتدى

فظللت بعد وفاته متبلدا

متلدا يا ليتنى لم أولد

أأقيم بعدك فى المدينة بينهم

يا ليتنى صبحت سم الأسود

أو حل أمر الله فينا عاجلا

فى روحة من يومنا أو من غد

فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا

محضا ضرائبه كريم المحتد

يا بكر آمنة المبارك ذكرها

ولدته محصنة الأسعد

نورا أضاء على البرية كلها

من يهد للنور المبارك يهتدى

يا رب فاجمعنا معا ونبينا

فى جنة تبنى عيون الحسد

فى جنة الفردوس فاكتبها لنا

يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد

والله أسمع ما بقيت بهالك

إلا بكيت على النبيّ محمد

يا ويح أنصار النبيّ ورهطه

بعد المغيب فى سواء الملحد

ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا

سودا وجوههم كلون الأثمد

ولقد ولدناه وفينا قبره

وفضول نعمته بنا لم تجحد

والله أكرمنا به وهدى به

أنصاره فى كل ساعة مشهد

صلى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على المبارك أحمد

وقال حسان بن ثابت (٢) أيضا يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

نب المساكين أن الخير فارقهم

مع النبيّ تولى عنهم سحرا

من ذا الذي عنده رحلى وراحلتى

ورزق أهلى إذا لم يؤنسوا المطرا

أم من نعاتب لا نخشى جنادعه

إذا اللسان عتا فى القول أو عثرا

كان الضياء وكان النور نتبعه

بعد الإله وكان السمع والبصرا

يا ليتنا يوم واروه بملحده

وغيبوه وألقوا فوقه المدارا

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٩٥).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٩٦).


لم يترك الله منا بعده أحدا

ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا

ذلت رقاب بنى النجار كلهم

وكان أمرا من أمر الله قد قدرا

واقتسم الفيء دون الناس كلهم

وبددوه جهارا بينهم هدرا

وقال حسان بن ثابت أيضا يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

آليت ما فى جميع الناس مجتهدا

منى ألية بر غير إفناد (١)

تالله ما حملت أنثى ولا وضعت

مثل الرسول نبى الأمة الهادى

ولأبرأ الله خلقا من بريته

أو فى بذمة جار أو بميعاد

من ذا الذي كان فينا يستضاء به

مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد

أمسى نساؤك عطلن البيوت فما

يضربن فوق قفا ستر بأوتاد

مثل الرواهب يلبسن المباذل قد

أيقن بالبؤس بعد النعمة الباد(٢)

يا أفضل الناس إنى كنت فى نهر

أصبحت منه كمثل المفرد الصادى (٣)

وقال كعب بن مالك الأنصاري من كلمة يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وباكية حرى تحرق بالبكا

وتلطم منها خدها والمقلدا

على هالك بعد النبيّ محمد

ولو عدلت لم تبك إلا محمدا

فلست بباك بعد فقد محمد

فقيدا وإن كان القريب المسودا

فجعنا بخير الناس حيا وميتا

وأدناه من أهل السموات مقعدا

وأعظمه فقدا على كل مسلم

وأكرمه فى الناس كلهم يدا

متى تنزل الأملاك بالوحى بعده

علينا إذ ما اللبس فينا ترددا

إذا كان منه القول كان موفقا

وإن كان وحيا كان نورا مجددا

جزى الله عنا ربنا خير ما جزى

نبى الهدى الداعى إلى الحق أحمدا

وقال عمرو بن سالم الخزاعى يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لعمرى لئن جادت لك العين بالبكا

لمحقوقة أن تستهل وتدمعا

فيا حفص إن الأمر جل عن البكا

غداة نعى الناعى النبيّ فأسمعا

فلم أر يوما كان أعظم حادثا

ولم أر يوما كان أكثر موجعا

__________________

(١) الألية : اليمين والحلف. والإفناد : العيب والخطأ.

(٢) المباذل : الأثواب التي تستعمل يوميا ، أو الأثواب الخلقة.

(٣) الصادى : العاطش أو الشديد العطش.


ولم أر من يوم أعم مصيبة

ولا ليلة كانت أمر وأفظعا

تعزى بصبر واذكرى الله واعلمى

بأن سوف يجزى كل ساع بما سعى

ولا تزرئى محض الحياء فتفجعى

بدينك والدنيا فتزريهما معا

فإن يك قد مات النبيّ فبعد ما

نعى نفسه بدآ وعودا فأسمعا

إذا ذكرت نفسى فراق محمد

تهيج حزنى والفؤاد تقطعا

فيا لك نفسا لا يزال يزيدها

على الدهر طول الدهر إلا تصدعا

جزى منك رب الناس أفضل ما جزى

نبيا هدانا ثم ولى مودعا

فو الله لا أنساك ما دمت ذاكرا

لشىء وما قلبت كفا وإصبعا

وقد أكثر الشعراء فى تأبينه صلوات الله عليه قديما وحديثا ، وقضوا من التفجيع عليه حقا ، لا ينبغى أن يكون عهده نكيشا ، ولم يمنعهم تقادم الأيام وتطاول الأعوام من تجديد البكاء عليه ، ومزيد الحنين إليه ، وبحق ما يكون ذلك ، فهو الرزء الذي حقه أن ينسى جميع الأرزاء ، والحادث الجلل الذي يقبح معه حسن العزاء ، وطواعية الأسف عليه دائما من أعدل الشهادات بالإخلاص لمن قام بها واستقام بالنية والقول على سواء مذهبها ، جعلنا الله ممن أحبه حقا ، وكتبنا فيمن غدا لشفاعته المشفعة مستحقا.

فمن ذلك ما وقفت عليه لأبى إسحاق إسماعيل بن القاسم الغزى الكوفى ، المعروف بأبى العتاهية من كلمة :

على رسول الله منى السلام

ما كان إلا رحمة للأنام

أحيى به الله قلوبا كما

أحيى موات الأرض صوب الغمام

أكرم به للخلق من مبلغ

هاد وللناس به من إمام

وأصبح الحق به قائما

وأصبح الباطل دحض المقام

وقال إسماعيل بن القاسم أيضا من كلمة أخرى :

ليبك رسول الله من كان باكيا

ولا تنس قبرا بالمدينة ساويا

جزى الله عنا كل خير محمدا

فقد كان مهديا دليلا هاديا

لمن تبتغى الذكرى لما هو أهله

إذا كنت للبر المطهر ناسيا

أتنسى رسول الله أفضل من مشى

وآثاره بالمسجدين كما هيا

وكان أبر الناس بالناس كلهم

وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا

تكدر من بعد النبيّ محمد

عليه سلام الله ما كان صافيا

فكم من منار كان أوضحه لنا

ومن علم أمسى وأصبح عافيا


ركنا إلى الدنيا الدنية بعده

وكشفت الأطماع منا المساويا

وإنا لنرمى كل يوم بعبرة

نراها فما نزداد إلا تعاميا

كأنا خلقنا للبقاء وأينا

وإن مدت الدنيا له ليس فانيا

أبى الموت إلا أن يكون لمن ترى

من الخلق طرا حيث ما كان لاقيا

حسمت المنى يا موت حسما مبرحا

وعلمت يا موت البكاء البواكيا

ومزقتنا يا موت كل ممزق

وعرفتنا يا موت منك الدواهيا

ولأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال الغافقى الأندلسى ، ومكانه من متانة العلم والدين وصدق المقالة وصحة اليقين المكان الذي يلحقه بأقرانه من العلماء المتقنين ، قصائد يرثى بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين يساجل بها شاعره حسان بن ثابت فى قصائده المتقدمة صوتا بصوت ، وكلمة بكلمة ، أخبرنا بها وبسائر كلامه نثره ونظمه غير واحد من أشياخنا رحمهم‌الله عنه فمن ذلك قوله يعارض حسان فى قصيدته الأولى ويمشى فى التفجع والتوجع على طريقته المثلى :

بطيبة آثار تحج وتقصد

ودار بها الله نور مخلد

ومهبط جبريل بوحى وحكمة

يبينها للعالمين محمد

ومظهر آيات كأن رسومها

على ما محى منها البلى يتجدد

وفى مسجد التقوى تأرخ روضة

عليها من الفردوس كل ممدد

يفاوحها طيب الجنان وتربة

تبوءها من جنة الخلد أحمد

ومنبره الأعلى على ذروة التقى

وجذع له فيه حنين مردد

ومولد إبراهيم حيث تمخضت

به أمه مثوى كريم ومولد

وموقعه من نفسه واختياره

له اسم خليل الله فخر مشيد

وإعلانه بالحزن تدمع عينه

له رحمة والنفس ترقى وتصعد

ومبنى على والهدى يألف الهدى

بفاطمة نور بنور يقيد

ومولد سبطيه وريحان قلبه

مكانهما من عاتقيه ممهد

وحيث ارتقت منها إمامة مرتقى

يقوم بها جبالها ثم يسجد

وحيث بنى بالطيبات نسائه

بعصمته الوثقى وجبريل يشهد

ومتلى كتاب الله فى حجراتها

يقمن به فى الليل والناس هجد

وتمت لأصحاب الكساء طهارة

من الله يحييها الكتاب المؤيد

معاهد إيمان تألق نورها

ففى كل أفق جذوة تتوقد


وكانت أمانا ثم عادت مخافة

فزائرها فوق الردى يتوسد

فيا أيها الدار التي حق أهلها

على الناس طرا دائم ليس ينفد

لقد درست منك المغانى وأوحشت

وكان إليها الدين يأوى ويصمد

ذكرتك ذكرى من يهيم فؤاده

بقربك لكنى عن القرب مبعد

ومثلت لى فى بهجة الدين والتقى

وأمر رسول الله يعلو ويمهد

وإذا برقت نورا أسارير وجهه

فزحزح قطع الليل والليل أسود

وألقت إليه الأرض أفلاذها التي

تحل بها عقم الأمور وتعقد

وغزو تبوك ثم حج وداعه

ولم يبق تبين ولم يبق مشهد

ومثلت لى والمسلمون بشكوه

فرائصهم من روعة البيت ترعد

وقد جلل الدنيا ظلام مطبق

يخال به ليل على الناس سرمد

فما راعهم إلا وفاة رسولهم

وكل يرى أن الرسول يخلد

وقد ذهلوا أن التي يقرونها

إذا جاء نصر الله للموت مرصد

وودع جبريل وداع مفارق

ولا عود يستثنى ولا وحى يعهد

وأم أبيها مسبلات دموعها

كما انحل من سلك فريد مبدد

فأودعها سرا بكت من نجيه

وثنى بسر فانثنت تتجلد

وقد أعلنت عند الرسول بكربها

لكرب أبيها وهو بالموت يجهد

فقال لها كفى دموعك واصبرى

فما بعد هذا اليوم كرب يعدد

وبشرها من قرب ملحقها له

ببشرى حديث صادق لا يفند

فيا من رأى حيا يعزى بموته

فيرضى كأن الموت خلد مؤيد

فرارا عن الدنيا إلى قرب ربها

وشجا عليها من حياة تنكد

ولطفا من الله العظيم بصونها

وباب الرزايا المستكنات مرصد

ولو أنها امتدت طويلا حياتها

لشرد عنها النوم ليل مسهد

وغصت على قرب بثكل ابن عمها

وفقد شهيد حزنه ليس يفقد

أقام كتاب الله في كل مارق

يقر به في زعمه وهو يحجد

فقيض أشقى الناس يدنى سعادة

لمن هو بالإيمان أولى وأسعد

وكيف بهها والله بأبي هوانها

لمصرع سبط أول وهو مقصد

وقد جرعته حتفه كف جعدة

بمكرع سم مجه فيه أسود

ولو حدثت عن كربلاء لأبصرت

حسينا فتاها وهو شلو مقدد

وثانى سبطى أحمد جعجعت به

عتاة جفاة وهو فى الأرض أوحد


ولم يرقبوا إلا لآل محمد

ولم يذكروا أن القيامة موعد

وأن عليهم فى الكتاب مودة

لقرباه لا ينحاش عنها موحد

فيا سرع ما ارتدوا وصدوا عن الهدى

ومالوا عن البيت الذي بهم هدوا

فحل عن برد الفرات عطاشهم

وروى منهم ذابل ومهند

فيا أوجها شاهت وناهت عن الهدى

أهذا التحفى منكم والتردد

وترتم رسول الله فى ذبح سبطه

وبؤتم بنار حرها ليس يبرد

فما لكم عند الشفيع شفاعة

ولا لكم فى كوثر الحوض مورد

لعمرى لقد غادرتم كل مؤمن

على مضض برح يقوم ويقعد

ونغصتم المحيى وأرضيتم العدى

فأنتم لغير الله جند وأعبد

فيا كبدى إن أنت لم تتصدعى

فأنت من الصفوان أقسى وأجلد

ويا عبرتى إن لم تفيضى عليهم

فنفسى أسخى بالحياة وأجود

أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد

وأفلاذ من عاداهم تتودد

ويضحى ويظمى أحمد وبناته

وبنت زياد وردها لا يصرد

أفي دينه فى أمنه فى بلاده

تضيق عليهم فسحة تتورد

وما الدين إلا دين جدهم الذي

به أصدروا فى العالمين وأوردوا

ينام النصارى واليهود بأمنهم

ونومهم بالخوف نوم مشرد

وما هى إلا ردة جاهلية

وحقد قديم بالحديث يؤكد

ألهفى على سبطى هدى ونبوة

جرى لها يوم من الشر أنكد

شهيدين متبوعين من كل مؤمن

بكل صلاة برة تتعهد

فهذا أذابت سورة السم كبده

وهذا أبادته قسى تكبد

فما عذر أهل الأرض والقسط قائم

وكلهم فى موقف الفصل شهد

أيفعل هذا بابن بنت نبيكم

وليس لكم فى النصر يوم ولا غد

أبى الله إلا أن فى النفس حسرة

بغصتها أضحى وأمسى وأرقد

إلى أن يقيد الله من كل واتر

على أن كفؤا مقنعا ليس يوجد

وأى دم يوفى دم ابن محمد

حسين وأمسى وهو سبط موحد

فيا خاتم الأسباط إن تحيتى

تؤمك من أرض بعيد وتقصد

مثقلة بالدمع شوقا ولوعة

على زفرة من حرها أتأود

ويا أسوة للمؤمنين كريمة

يلين عليها الحادق المتشدد

فمن ينكر البلوى وأنت بكربلاء

لذى البث والشكوى إمام مقلد


فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها

فإنك فى أهل السماء ممجد

أبوك شفيع الناس وهو الذي له

مقام كريم فى البرية يحمد

ومشرعة الحوض الروى بكفه

تزاد رجال عندها وتطرد

وممن يذود الله عنه عصابة

بقتلك فى طغيانها تتحمد

وذنبهم فى قتلك الذنب كله

فما لهم إلا الجحيم تغمد

وهل كنت إلا مثل عمك جعفر

قتيلا بكفار بذى العرش ألحدوا

وإلا كليث الله جدك حمزة

وحربة وحشى إليه تسدد

وما منهم إلا غريق شهادة

حياتهم موصولة حين تنفد

ومثل أبى حفص وعثمان بعده

ومثل على وهو للحق سيد

دماؤهم مسك ذكى وأجرهم

على الله لا يحصى ولا يتحدد

أقول ببث مستكن وظاهر

مضاضته عن حبكم تتولد

وما سرنى أنى خلى من الهوى

هوى هو فى حم يتلى ويسند

سريرة حب يوم تتلى سرائرى

يقوم بها عنى الصفيح المنضد

سلام على تلك المعاهد إنها

لآل رسول الله طهر ومسجد

فيا رب وفدنى إليها مسلما

ويا طيب مسرى من إليها يوفد

أفض بها دمعى وأنقع غلتى

وأتهم فى ربع الرسول وأنجد

وأدعو إلى الرحمن دعوة تائب

إلى عفوه من طيبه يتزود

وأسموا إلى البيت العتيق بفرضه

فكل به من ذنبه يتجرد

ولست على قبر الرسول بمؤثر

ليحشر من ذاك البقيع محمد

فيا رب حقق نيتى ومنيتى

هنالك والأرواح جند مجند

وقال أيضا يعارض حسان فى كلمته الثانية التي أولها :

ما بال عينك لا تنام كأنما

 .....................

بهذه الكلمة المرسومة بعد :

هل يجمعن صباح يوم أو غد

بينى وبين القبر قبر محمد

حتى أروى ناظرى من عبرتى

ويقر عينى طيب ذاك المشهد

وأقبل الأرض التي حملت به

نورا يجلى كل جنح أسود

وأعظم البلد الذي رأسى به

طود النبوة ثابتا بالأسعد

أشكو إلى جبل تضمن حبه

حبا أضاق تصبرى وتجلدى


وأبلغ القلب المروع أمانه

وأقول للنفس التي ظمئت ردى

وأهش للأفق المبارك جوه

متجددا من نوره المتجدد

وأسح فى أبيات آل محمد

دمعا كنظم اللؤلؤ المتبدد

والله يعلم أن آل رسوله

آل تمكن حبهم فى محتدى

وبكربتى منهم أبوح وأنطوى

وبحسرتى فيهم أروح وأغتدى

قف بالمنازل سائلا عن أهلها

أين الرسالة والرسول المهتدى

أين الصواحب والصحابة حوله

إذ بايعوه بالقلوب وباليد

أين الذين بسبقهم عز الهدى

وعلت على الأديان ملة أحمد

أين الذين لعتبة ولشيبة

وإلى الوليد سموا بكل مهند

أين الذين بيوم أحد صرعوا

ما بين مثنى فى الإله وموحد

أين الذين بمؤتة وجلادها

ماتوا كراما كالليوث الحرد

أين الثمانية الذين بصبرهم

تابت بأوطاس بصائر من هدى

يا مسجد التقوى غدوت بفضلهم

ومكانهم فى الدين أفضل مسجد

وبقيت بعدهم مثابة رحمة

فى غربة المستوحش المتفرد

تبكى على خير البرية كلها

بدموع كل مصدق وموحد

فقد السماء كما فقدت نديهم

ونحيبهم فى مهبط أو مصعد

وتفرد الرحمن بالغيث الذي

كان الرسول بوحيه عبق الند

ولقد أقام الدين من خلفائه

أصهاره كل بأحمد يقتدى

وأتتك بعدهم الملوك فمصلح

يضع الأمانة عند آخر مفسد

يا بيت عائشة المجن ثلاثة

تطموا به نظم الطراز الأوحد

مثوى النبيّ وصاحبيه وفسحة

عيسى ابن مريم حازها بالموعد

بوركت من بيت يضم رسالة

ونبوة وخلافة فى ملحد

منى إليك تحية يهفو بها

قلب بذكرهم وحلهم ند

صلى الإله وأرضه وسماؤه

والعالمون على النبيّ المقتدى

بالأنبياء المهتدى بهداهم

رشدا تبين فى الكتاب المرشد

وقال أبو عبد الله أيضا يعارض حسان فى كلمته الثالثة التي أولها :

نب المساكين أن الخير فارقهم

 ......................

بهذه الكلمة المرسومة :


هون عليك من الأرزاء ما خطرا

بعد الرسول ولا تعدل به خطرا

واذكره فى كل محذور تغص به

تلقى المصاب به قد هون الحذرا

أبعد أحمد يستقرى مضاجعه

فودع البيت والأركان والحجرا

مستقبلا طيبة والله ينقله

إلى رضاه فلما يعد أن صدرا

ثم استعز به شكو يعالجه

يغشى بسورته الأبيات والحجرا

حتى انتهى دوره فى بيت عائشة

فى نومها يتبع الأنفاس والأثرا

فمال فى حجرها طلقا أسرته

غض البشاشة إلا اللمح والنظرا

فأذهل الناس طرا عن حياتهم

موت الرسول ومنهم من نفى الخبرا

فيا له من نظام بات فى قلق

لو لا أبو بكر الصديق لانتثرا

إن كنت معتبرا فانظر تقلله

والأرض تبر ودين الله قد ظهرا

لم يرض منها سوى قبر تضمنه

كان الفراش له فى نومه مدرا

يا قبر أحمد هل من زورة أمم

قبل الحمام تسر السمع والبصرا

وهل إلى طيبة ممشى يقربها

يا طيبة إن تأتى يومه سفرا

فتنشق النفس فى أرجائها أرجا

يشفى السقام وينفى الذنب والضررا

وأستجير ببطن الأرض من كرب

فى ظهرها لم تدع شمسا ولا قمرا

أستجمل الله من أسرار قدرته

عزما يخوض إليه البدو والحضرا

وقوة بالضعيف الهم ناهضة

وحجة تنظم الآصال والبكرا

يا حب أحمد كن لى فى زيارته

أقوى ظهير إلى أن أقضى الوطرا

صلى الإله صلاة غير نافدة

تكاثر الريح والأشجار والمطرا

على البشير النذير المصطفى كرما

من كل بطن وصلب طيب ظهرا

على ابن آمنة الماحى بملته

من كان بالله والإسلام قد كفرا

وأهله الطيبين الأكرمين ومن

آوى وساهم فى البلوى ومن نصرا

وأمهات جميع المؤمنين ومن

هدى هداه ومن صلى ومن نحرا

ونضر الله حسانا وأعظمه

وقد بعثت الجوى والحزن والذكرا

أبا الوليد لقد هيجت لى شجنا

نافحت عنهم بروح القدس مقتدرا

وأنت شاعر آل الله قاطبة

ضريحه وامسحى عن وجهه العفرا

يا رحمة الله أمى غير صاغرة

فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا

فإنه سابق والسابقات لها

عمت فى المدر استثنت ولا الوبرا

أبقى له منبر الإنشاد مكرمة

فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا


ولم يسل لسانا فى مقاولة

وإنما سل عضبا صارما ذكرا

يا مقولا نضر الله الرسول به

لا زلت فى جنة الفردوس مشتهرا

وقال أيضا رحمه‌الله يبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعارض حسان فى كلمته المتقدمة قبل ، رابعة لكلماته ، وهى التي أولها :

آليت ما فى جميع الناس مجتهدا

 ..........................

بهذه الكلمة الموسومة بعد :

قلبى إلى طيبة ذو غلة صادى

إلى البشير النذير الخاتم الهادى

إلى أبى القاسم الماحى بملته

كفران كل كفور جهله بادى

حتى أعفر خدى فى مواطئه

غورا بغور وأنجادا بأنجاد

وأرسل الدمع سحا فى منازله

مستفرغا جهد أفلاذ وأكباد

فى حيث أودع جبريل رسالته

وحيا إليه بتوفيق وإرشاد

وأشرب الماء من أروى منابعه

فطيبه قد سرى فى ذلك الوادى

يا حب أحمد إنى منك فى ثقة

وأنت أحضر أعتادى وأزوادى

سر بى إليه وجاور بى مثابته

حتى أضمن أكفانى وأعوادى

وما تمكنت من قلبى لتبدع بى

ولا لتقطعنى عن ذلك النادى

نور من الله لو أنى سريت به

لما افتقرت إلى هاد ولا حادى

لم يقذف الله فى قلبى محبته

إلا لأحمل فوق الرأس والهاد

متى أقول لوفد الله عن كثب

يا رايحين انظرونى إننى غاد

وقد برئت إلى الرحمن من نشبى

وقد تخليت عن أهلى وأولادى

مستبدلا بجوار الله منقطعا

إلى الرسول انقطاع العاطف الباد

صلى الإله وأهل الأرض يقدمهم

أهل السموات من مثنى وآحاد

على الذي أنقذ الله العباد به

من ظلمة الكفر رشدا بعد إفناد

على ابن آمنة المختار من نفر

ما فوق مجدهم مرمى لمزداد

على النبيّ الذي تمت نبوته

وآدم طينة قدت لأجساد

على الرسول بن عبد الله أكرم من

أورى بنور أضاء الأرض وقاد

وبعده صلوات الله عاطرة

على الصحابة أعداد بأعداد

وأهله الطيبين الأكرمين فهم

فى الأرض أطهر غياب وشهاد

يا رب واحفظ مقامى فى محبتهم

فإنها وإليك المنتهى زادى


فهذا ما تيسر لنا ذكره من مراثى الشعراء فى سيد المرسلين وخاتم الأنبياء. وبقى علينا منها كثير تخطيناه ، إما لتخطى الاختيار له والانتقاء ، وإما لقصد الاختصار والاكتفاء ، وأكثر الشعراء أفحمتهم المصيبة القاصمة للظهور ، الرزية المتجددة على بلى الأزمان وتجدد الدهور ، عن أن يفوهوا فى ذلك ببنت شفة أو يفوا بما يناسب ذلك الكرب العظيم والخطب الجسيم من صفة متصفة ، وأولئك أولى الناس بالمعذرة ، وأحقهم بالتجاوز عن مقصدهم المقصرة ، فمصاب المسلمين به عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم من أن تؤدى حقيقته سعة الكلام ، أو تستقل أساليب القول المتشعبة ومنادح العبارات المتطنبة المهذبة بأيسر جزء من مآثره الكرام ومحاسنه العظام ، أو تفى الألفاظ على اتساعها وتعدد ضروبها وأنواعها بشرح ما يتحمل فيه القلوب المؤمنة من برح الآلام ، والإعراب عن قدر مصيبة فقده على الإسلام ، فجزاه الله عن نهجه لنا السبيل إلى دار السلام أفضل ما أعده من الجزاء لأنبيائه المختصين من عنايته بشرف الاجتباء والاصطفاء دون الأنام ، وأدر عليه وعليهم من سحب الرحمة والبركات والسلام والصلوات ما يزرى بهطال الديم وواكف الغمام.

وهنا انتهى ما يختص من هذا المجموع بمغازى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر أيامه وكافة أمره إلى حين وفاته.

ونشرع الآن فى صلة ذلك بمغازى خلفائه الثلاثة الأول رضى الله عن جميعهم على نحو ما علمنا به فى مغازى من قصد التهذيب ، وبذل الجهد فى حسن الترتيب ، وربنا الكريم جلت قدرته نعم الوكيل بالمعونة على ذلك ، لا حول ولا قوة إلا به ، هو حسبى لا إله إلا هو ، عليه توكلت وإليه أنيب.


ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه (١)

وما حفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيماء إليها

والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنذار بالفتن

الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة

فى الصحيح من الآثار ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سمع صوت عمر فى صلاته بالناس عند ما أمر عليه‌السلام فى مرضه أبا بكر أن يصلى ، فلم يوجد حاضرا ، قال : يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون.

وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدى ، أبى بكر وعمر» (٢).

وقال على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه : استخلف أبو بكر ، فأقام واستقام. وقال صعصعة : استخلف الله أبا بكر ، فأقام المصحف.

وذكر يعقوب بن محمد الزهرى ، عن شيوخه ، قالوا : وذكروا استخلاف أبى بكر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قبل ما وصف لهم صفة من يلى بعده ، حتى كاد يقول : خليفتى أبو بكر.

وحدث جبير بن مطعم (٣) أن امرأة أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تكلمه فى شيء ، فأمرها أن ترجع

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٥ ـ ٧).

(٢) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٣٦٦٢ ، ٣٨٠٥) ، سنن ابن ماجه (٩٧) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥ ، ٣٩٩ ، ٤٠١ ، ٤٠٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ١٢ ، ٨ / ١٥٣) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٧٥) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٥٣ ، ٢٩٥) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (٩ / ١٠٩) ، شرح السنة للبغوى (١٤ / ١٠١ ، ١٠٢) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٦٢٢١) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٢ / ٢٣٠) ، البخاري فى التاريخ الكبرى (٨ / ٢٠٩ ، ٩ / ٥٠) ، كشفا الخفاء للعجلونى (١ / ١٨١) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٣٣٠) ، المعجم الكبير للطبرانى (٩ / ٦٨) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٦٥٦ ، ٣٢٦٤٦ ، ٣٢٦٥٧ ، ٣٣١١٧ ، ٣٣٦٧٩ ، ٣٦٧٤٦ ، ٣٦٨٥٣) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (٢ / ٦٦٦ ، ٧٩٧).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣١٥) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٩٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٩٨) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٣٥) ، جمهرة أنساب العرب (١١٦) ، تهذيب الكمال (١٨٨) ، تهذيب التهذيب (٢ / ٦٣) ، تذهيب التهذيب (١ / ١٠٢) ، ـ


إليه ، فقالت : يا رسول الله ، إن جئت فلم أجدك ، تعنى الموت ، قال : «فأتى أبا بكر».

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونيط عمر بأبى بكر ، ونيط عثمان بعمر» ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله ، وأما ذكر من نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه.

وعن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا نائم ، رأيتنى على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين ، وفى نزعه ، والله يغفر له ، ضعف ، ثم استحالت غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب ، حتى ضرب الناس بعطن».

وفى رواية : «فأروى الظمئة ، وضرب الناس بعطن» (١).

وقد أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بردة المرتدين من بعده ، فحدث أبو سعيد الخدرى ، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا نائم ، رأيت فى يدى سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطارا ، فأولتهما : كذابين يخرجان ، مسيلمة والعنسى» (٢).

وعن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين يدى الساعة كذابون ، منهم صاحب اليمامة ، يعنى مسيلمة ، وصاحب خيبر ، يعنى طليحة ، ومنهم العنسى يعنى الأسود ، ومنهم الدجال ، وهو أعظمهم فتنة» (٣).

__________________

ـ خلاصة تذهيب الكمال (٥٢) ، شذرات الذهب (١ / ٦٤) ، العقد الثمين (٣ / ٤٠٨).

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٧ ، ٩ / ٤٥ ، ٤٩ ، ١٧١) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (١٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (٨ / ١٥٣) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ١٩ ، ١٢ / ٤١٤) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٦٠٣١) ، شرح السنة للبغوى (١٤ / ٨٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٢٢٦) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٢٧٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٣٤٤) ، السنة لابن أبى عاصم (١٤ / ٨٩).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٢١٧ ، ٩ / ٥٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٥٠) ، فتح البارى لابن حجر (١٢ / ٤٢٠).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٤٥ ، ٥ / ٩٥ ، ٩٦ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٦) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٥١) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٨٣٧١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٥١).


وعن عبد الله بن حوالة (١) ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من نجا منهن فقدنجا : من موتى ، ومن قتل خليفة مصطبر بالحق يعطيه ، ومن الدجال» (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعبدة بن مسهر الحارثى فيما يعظه به لما قدم عليه : «وإن أدركتك الردة فلا تتبعن كندة».

ودعا أيضا لجرير بن عبد الله (٣) لما وفد عليه ، فقال : «اللهم اشرح صدره للإسلام ، ولا تجعله من أهل الردة».

ولما أسر المسلمون يوم بدر سهيل بن عمرو العامرى ، سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ينزع ثنيتيه السفلاوين ، وكان أعلم الشفة السفلى ، قال : فإنه خطيب ليقوم عليك خطيبا بمكة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «عسى أن يقوم مقاما يسرك» (٤) ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتهى خبر وفاته إلى مكة ، تكلم بها قوم كلاما قبيحا ، ووعى ذلك عليهم ، فقام سهيل بن عمرو بخطبة أبى بكر ، كأنه كان يسمعها ، فقال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حى لم يمت ، وقد نعى الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إليكم وهو بين أظهركم ، ونعاكم إلى أنفسكم ، فهو الموت حتى لا يبقى أحد ، ألم تعلموا أن الله تعالى قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ). الآية [آل عمران : ١٤٤] ، وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، وقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

فاتقوا الله ، واعتصموا بدينكم ، وتوكلوا على ربكم ، فإن دين الله قائم ، وكلمته تامة ، وإن الله ناصر من نصره ، ومعز دينه ، جمعكم الله على خيركم.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٣٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٦٥٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٩٠٩) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٠٦) ، تهذيب التهذيب (٥ / ١٩٤) ، تقريب التهذيب (١ / ٤١١) ، تهذيب الكمال (٢ / ٦٧٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢ / ٥١) ، الوافى بالوفيات (١٧ / ١٥٦) ، الثقات (٣ / ٣٤٣) ، حلية الأولياء (٢ / ٣).

(٢) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢١١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ٣٣٤).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٦) ، الإصابة الترجمة رقم (١١٣٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٧٣٠٩ ، طبقات خليفة (١١٦ ، ١٣٨) ، تاريخ خليفة (٢١٨) ، الجرح والتعديل (٢ / ٥٠٢) ، تهذيب الكمال (١٩١) ، تهذيب التهذيب (٢ / ٧٣) ، خلاصة تذهيب الكمال (٦١) ، شذرات الذهب (١ / ٥٧ ، ٥٨).

(٤) انظر الحديث فى الشفاء للقاضى عياض (١ / ٦٧٦) ، الجامع الكبير (٢ / ٧٨٦).


وفى كلام أكثر من هذا وعظهم به ، وذكرهم. وقد كان الناس نفروا وهموا ، فنفعهم الله بكلامه ، فلم يرتد بمكة أحد ، فلما بلغ عمر بن الخطاب مقام سهيل ، قال : أشهد أن ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حق ، فهو والله هذا المقام.

ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان من تأييد

الله لخليفة رسوله عليه‌السلام فيها

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نجم النفاق وارتدت العرب ، واشرأبت اليهودية والنصرانية ، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية ، لفقد نبيهم ، حتى جمعهم الله على أبى بكر ، فلقد نزل بأبى ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها ، فو الله ما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبى بعلائه وغنائه ، وكان من رأى ابن الخطاب علم أنه خلق عونا فللإسلام ، كان والله أحوذيا ، نسيج وحده ، قد أعد للأمور أقرانها.

وفى الصحيح من حديث أبى هريرة ، قال : لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستخلف أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه ، وحسابه على الله؟» فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر بن الخطاب : فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق (١).

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١٣ ، ١٠٩ ، ٢ / ١٣١ ، ٤ / ٥٨ ، ٩ / ١٩ ، ١١٥ ، ١٣٨) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (٣٢ ، ٣٣ ، ٣٥) ، سنن النسائى الصغرى (٧ / ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨ / ٨١) ، سنن أبى داود (١٥٥٦ ، ٢٦٤٠) ، سنن الترمذى (٢٦٠٦ ، ٢٦٠٧ ، ٣٣٤١) ، سنن ابن ماجه (٣٩٢٧ ، ٣٩٢٨ ، ٣٩٢٩) ، مسند الإمام أحمد (١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٥ ، ٤٨ ، ٢ / ٣٧٧ ، ٤٢٣ ، ٤٧٥ ، ٥٠٢ ، ٥٢٧ ، ٥٢٨ ، ٣ / ٣٠٠ ، ٣٢٢ ، ٣٣٩ ، ٤ / ٨) ، سنن البيهقي الكبرى (١ / ٧ ، ٥٤ ، ٢ / ٣ ، ٩٢ ، ٤ / ١٠٤ ، ١١٤ ، ٧ / ٣ ، ٤ ، ٨ ، ١٩ ، ١٣٦ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٩٦ ، ٩ / ٤٩ ، ١٨٢) ، مستدرك الحاكم (٢ / ٥٢٢) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٦ / ١٧١) ، شرح السنة للبغوى (١ / ٦٦ ، ٦٩ ، ٥ / ٤٨٨) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٥ ، ٣٧٩ ، ـ


قال عمر بن الخطاب : والله لرجح إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة جميعا فى قتال أهل الردة.

وذكر يعقوب بن محمد الزهرى عن جماعة من شيوخه ، قالوا : فكان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم ، وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم ، أهل الردة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبرأى أبى بكر أجمعوا على قتالهم ، وذلك أن العرب افترقت فى ردتها ، فقالت فرقة : لو كان نبيا ما مات ، وقال بعضهم : انقضت النبوة بموته ، فلا نطيع أحدا بعده ، وفى ذلك يقول قائلهم :

أطعنا رسول الله ما عاش بيننا

فيا لعباد الله ما لأبى بكر

أيورثها بكرا إذا مات بعده

فتلك وبيت الله قاصمة الظهر

وقال بعضهم : نؤمن بالله ، ونشهد أن محمدا رسول الله ، ونصلى ، ولكن لا نعطيكم أموالنا ، فأبى أبو بكر إلا قتالهم على حسب ما تقدم ذكره.

وجادل أبو بكر الصحابة فى جهادهم ، وكان من أشدهم عليه عمر وأبو عبيدة بن الجراح (١) ، وسالم مولى أبى حذيفة (٢) ، وقالوا له : احبس جيش أسامة بن زيد ، فيكون عمارة وأمانة بالمدينة ، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر ، فإن هذا الأمر شديد غوره وتهتكه من غير وجهه ، فلو أن طائفة من العرب ارتدت قلنا : قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد ، وقد اتفقت العرب على الارتداد ، فهم بين مرتد ، ومانع صدقة ، فهو مثل المرتد ،

__________________

ـ ١٦٨٣٦ ، ١٦٨٤٦) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١ / ١٥٥) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (١٧٩٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (١٠ / ٣٣٤) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٤٩٧ ، ١٣ / ١٧٤ ، ٢٥٠ ، ٣٣٩) ، نصب الراية للزيلعى (٣ / ٣٨٠ ، ٤٨٠ ، ٤ / ٣٢٤ ، ٣٣٩) ، الدر المنثور للسيوطى (٥ / ٢٧٤ ، ٦ / ٣٤٣) ، زاد المسير لابن الجوزى (٩ / ١٠٠) ، جمع الجوامع (٤٤١١ ، ٤٤١٤ ، ٤٤١٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٢ / ١٩٨ ، ٣٤٧ ، ٦ / ١٦١ ، ٨ / ٣٨٢) ، التاريخ الكبير للبخارى (٣ / ٣٦٧ ، ٧ / ٣٥) ، مصنف ابن أبى شيبة (١٠ / ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢ / ٣٧٤ ، ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، ٣٨٠).

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣١٠٨) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٢٣٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٠٨٤) ، تهذيب الكمال (١٦٢٣) ، تقريب التهذيب (٢ / ٤٤٨) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ١٥٩) ، المؤتلف والمختلف (٨٤٠) ، التبصرة والتذكرة (٣ / ٢٧).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٨٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٠٥٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٩٢) ، وهو : سالم بن معقل ، مولى أبى حذيفة.


وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك ، قد قدم رجلا وأخر رجلا (١).

وفى كتاب الواقدى من قول عمر لأبى بكر : وإنما شحت العرب على أموالها ، وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا ، فلو تركت للناس صدقة هذه السنة.

وقدم على أبى بكر عيينة بن حصن الفزارى ، والأقرع بن حابس ، فى رجال من أشراف العرب ، فدخلوا على رجال من المهاجرين ، فقالوا : إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام ، وليس فى أنفسهم أن يؤدوا إليكم من أموالهم ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن تجعلوا لنا جعلا نرجع فنكفيكم من وراءنا ؛ فدخل المهاجرون والأنصار على أبى بكر ، فعرضوا عليه الذي عرضوا عليهم ، وقالوا : نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما ، حتى يرجع إليك أسامة وجيشه ، ويشتد أمرك ، فإنا اليوم قليل فى كثير ، ولا طاقة لنا بقتال العرب ، قال أبو بكر : هل ترون غير ذلك؟ قالوا : لا ؛ قال أبو بكر : إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم ، وأن الله لن يجمعكم على ضلالة ، وإنى سأشير عليكم ، فإنما أنا رجل منكم ، تنظرون فيما أشير به عليكم وفيما أشرتم به ، فتجتمعون على أرشد ذلك ، فإن الله يوفقكم ، وأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وأن لا نرشو على الإسلام أحدا ، وأن نتأسى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنجاهد عدوه كما جاهدهم ، والله لو منعونى عقالا لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه ، فائتمروا يرشدكم الله ، فهذا رأيى ؛ وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم ، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة ، هو راضه ثم جاء له ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه أو أفناهم السيف فإلى النار ، قتلناهم على حق منعوه وكفر. فبان للناس وجه أمرهم ، وقالوا لأبى بكر لما سمعوا رأيه : أنت أفضلنا رأيا ، ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز ، وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة.

وكانت أسد وغطفان من أهل الضاحية قد ارتدت ، ولم ترتد عبس ولا بعض أشجع ، وارتدت عامة بنى تميم وطوائف من بنى سليم : عصية وعميرة وخفاف ، وبنو عوف بن امرئ القيس ، وذكوان ، وبنو جارية ، وارتد أهل اليمامة (٢) كلهم ، وأهل البحرين (٣) ،

__________________

(١) انظر : غزوات ابن حبيش (١ / ٢٢).

(٢) راجع قصة ارتداد أهل اليمامة فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٨٠ ، ٢٨١).

(٣) راجع قصة أهل البحرين فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٣ ـ ٨٥).


وبكر بن وائل ، وأهل دبى من أزد عمان (١) ، والنمر بن قاسط ، وكلب ، ومن قاربهم من قضاعة ، وعامة بنى عامر بن صعصعة ، وفيهم علقمة بن علاثة ، وقيل : إنها تربصت مع قادتها وسادتها ينظرون لمن تكون الدبرة ، وقدموا رجلا وأخروا أخرى ، وارتدت فزارة ، وجمعها عيينة بن حصن ، وتمسك بالإسلام من بين المسجدين ، وأسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف ، قام فيهم عثمان بن أبى العاص فى بنى مالك ، وقام فى الأحلاف رجل منهم ، فقال : يا معشر ثقيف ، نشدتكم الله أن تكونوا أول العرب ارتدادا وآخرهم إسلاما ؛ وأقامت طئ كلها على الإسلام ، وهذيل ، وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نصر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس ، قام فيهم الجارود فثبتوا على الإسلام ، وارتدت كندة وحضرموت وعنس.

وقال أبو هريرة : لم يرجع رجل واحد من دوس ولا من أهل السراة كلها. وقال أبو مرزوق التجيبى : لم يرجع رجل واحد من تجيب ولا من همدان ، ولا من الأبناء بصنعاء ، ولقد جاء الأبناء وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشق نساؤهم الجيوب وضربن الخدود ، وفيهم المرزبانة ، فشقت درعها من بين يديها ومن خلفها.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما صدر من الحج سنة عشر ، وقدم المدينة فأقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة ، وبعث المصدقين فى العرب ، فبعث على عجز هوازن عكرمة بن أبى جهل (٢) ، وبعث حامية بن سبيع الأسدي على صدقات قومه ، وعلى بنى كلاب الضحاك بن سفيان (٣) ، وعلى أسد وطئ عدى بن حاتم (٤) ، وعلى بنى يربوع

__________________

(١) راجع قصة أهل عمان فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٥ ـ ٨٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣١٤).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٨٥٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٦٥٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٧٤١) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (١٧٤) ، طبقات خليفة (٢٠ / ٢٩٩) ، تاريخ خليفة (٩٢) ، الجرح والتعديل (٧ / ٦ ، ٧) ، العقد الثمين ، (٦ / ١١٩ ، ١٢٣) ، شذرات الذهب (١ / ٢٧ ، ٢٨) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٣٢٣) ، العبر (١ / ١٨) ، تهذيب الكمال (٩٥٠) ، تهذيب التهذيب (٧ / ٢٥٧) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢٧٠).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٢٥٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٤١٨٦) أسد الغابة الترجمة رقم (٢٥٥٦) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٧٠) ، الوافى بالوفيات (١٦ / ٣٥٢) ، الأعلام (٣ / ٢١٤) ، تهذيب الكمال (١ / ٦١٥) ، تهذيب التهذيب (٤ / ٤٤٤) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢ / ٣) ، المعرفة والتاريخ (٣ / ٣٦٩) ، التحفة اللطيفة (٢ / ٢٥٠) ، الجرح والتعديل (٤ / ٢٠١٨) ، دائرة معارف الأعلميّ (٢٠ / ٢٥٥).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٨٠٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٤٩١) ، أسد ـ


مالك بن نويرة (١) ، وعلى بنى دارم وقبائل بنى حنظلة الأقرع بن حابس (٢) ، وبعث الزبرقان بن بدر (٣) على صدقات قومه ، وقيس بن عاصم المنقرى (٤) على صدقات قومه.

فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا ، فمنهم من رجع ، ومنهم من أدى إلى أبى بكر ، وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بين قومهم مالك بن نويرة ، وقيس بن عاصم ، والأقرع بن حابس التميمى ، وأما بنو كلاب فتربصوا ، ولم يمنعوا منعا بينا ، ولم يعطوا ، كانوا بين ذلك.

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على فزارة نوفل بن معاوية الديلى (٥) ، فلقيه خارجة بن حصن ابن حذيفة بن بدر الفزارى بالشربة ، فقال : أما ترضى أن تغنم نفسك؟ فرجع نوفل بن

__________________

ـ الغابة الترجمة رقم (٣٦١٠) ، الجرح والتعديل (٧ / ٢) ، مروج الذهب (٣ / ١٩٠) ، جمهرة أنساب العرب (٤٠٢) ، تاريخ بغداد (١ / ١٨٩) ، تهذيب الكمال (٩٢٥) ، تذهيب التهذيب (٣ / ٣٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢٢٣) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٦٦) ، شذرات الذهب (١ / ٧٤) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٦٢).

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٣٣١) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٧١٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٦٥٦).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٦٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٣١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٠٨) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٦) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٣٠٧) ، التحفة اللطيفة (١ / ٣٣٧) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (١ / ٥٣١) ، التاريخ الصغير (٥٩) ، الجامع فى الرجال (٢٨١) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ١٢٤).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٧٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٧٨٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٧٢٨) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٨٨) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٥٧) ، الطبقات الكبرى (٧ / ٣٦) ، الثقات (٣ / ١٤٢) ، الأعلام (٣ / ٤١).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢١٦٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٢٠٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٣٧٠) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢٢) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٢٩) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٣٩٩) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٣٥٧) ، الأنساب لابن السمعانى (٧ / ١٤١) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (٨١٦) ، الثقات (٣ / ٣٣٨).

(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٦٧٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٨٥٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٣٢٢) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ١١٥) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٩٢) ، تقريب التهذيب (٢ / ٣٠٩) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣ / ١٠٣) ، الجرح والتعديل (١ / ٤٨٧) ، العقد الثمين (٧ / ٣٥٣) ، الأنساب لابن للسمعانى (٥ / ٤٤٩) ، الأعلام (٨ / ٥٥) ، الطبقات الكبرى (١ / ٨٧).


معاوية هاربا حتى قدم على أبى بكر الصديق بسوطه ، وقد كان جمع فرائض فأخذها منه خارجة ، فردها على أربابها ، وكذا فعلت سليم بعرباض بن سارية (١) ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعثه على صدقاتهم ، فلما بلغتهم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبوا أن يعطوه شيئا ، وأخذوا منه ما كان جمع ، فانصرف من عندهم بسوطه ، وأما أسلم وغفار ومزينة وجهينة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث إليهم كعب بن مالك الأنصاري ، فسلموا إليه صدقاتهم ، لما بلغتهم وفاته ، وتأدت إلى أبى بكر ، فاستعان بها فى قتال أهل الردة ، وكذلك فعل بنو كعب مع أمير صدقاتهم بشر بن سفيان الكعبى ، وأشجع مع مسعود بن رحيلة الأشجعى (٢) ، فقدم بذلك كله على أبى بكر.

وكان عدى بن حاتم قد حبس إبل الصدقة ، يريد أن يبعث بها إلى أبى بكر إذا وجد فرجة ، والزبرقان بن بدر مثل ذلك ، فجعل قومهما يكلمونهما فيأبيان ، وكان أحزم رأيا وأفضل فى الإسلام رغبة ممن كان فرق الصدقة فى قومه ، فقالا لقومهما : لا تعجلوا ، فإنه إن قام بهذا الأمر قائم ألفاكم لم تفرقوا الصدقة ، وإن كان الذي تظنون ، فلعمرى إن أموالكم لبأيديكم ، فلا يغلبنكم عليها أحد ، فسكتوهم حتى أتاهم يقين خبر القوم ، فلما اجتمع الناس على أبى بكر جاءهم أنه قد قطع البعوث ، وسار بعث أسامة بن زيد إلى الشام ، وأبو بكر يخرج إليهم ، فكان عدى بن حاتم يأمر ابنه أن يسرح مع نعم الصدقة ، فإذا كان المساء روحها ، وإنه جاء بها ليلة عشاء ، فضربه ، وقال : ألا عجلت بها؟.

ثم راح بها الليلة الثانية فوق ذلك قليلا ، فجعل يضربه ، وجعلوا يكلمونه فيه ، فلما كان اليوم الثالث قال : يا بنى إذا سرحتها فصح فى أدبارها وأم بها المدينة ، فإن لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل أريد الكلأ ، تعذر علينا ما حولنا ، فلما أن جاء الوقت الذي كان يروح فيه ، لم يأت الغلام ، فجعل أبوه يتوقعه ويقول لأصحابه : العجب لحبس ابنى ، فيقول بعضهم : نخرج يا أبا طريف فنتبعه ، فيقول : لا والله ؛ فلما أصبح تهيأ ليغدو ، فقال قومه : نغدو معك ، فقال : لا يغدو معى منكم أحد ، إنكم إن رأيتموه حلتم بينى

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإستيعاب الترجمة رقم (٢٠٤٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٥١٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٦٣٠) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٣٣١) ، شذرات الذهب (١ / ٨٢) ، حلية الأولياء (٢ / ١٣) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٤١٩) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٧) ، خلاصة تذهيب التهذيب (٢٦٩) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٤٨٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٤٠٨) ، وفيه : مسعود بن «رخيلة بن عائذ الأشجعى» ، الإصابة الترجمة رقم (٧٩٦١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٨٨٣).


وبين ضربه ، وقد عصى أمرى كما ترون ؛ فخرج على بعير له سريعا حتى لحق ابنه ، ثم حدر النعم إلى المدينة ، فلما كان ببطن قناة لقيته خيل لأبى بكر ، عليها ابن مسعود ، ويقال محمد بن مسلمة (١) وهو أثبت عندنا ، فلما نظروا إليه ابتدروه ، وما كان معه ، وقالوا له : أين الفوارس الذين كانوا معك؟ قال : ما معى أحد ، قالوا : بلى ، لقد كان معك فوارس ، فلما رأونا تغيبوا ، فقال ابن مسعود : خلوا عنه فما كذب ولا كذبتم ، جنود الله معه ، ولم يرهم. فقدم على أبى بكر بثلاثمائة بعير ، وكانت أول صدقة قدم بها على أبى بكر.

وذكر بعض من ألف فى الردة : أن الزبرقان بن بدر هو الذي فعل هذا الفعل المنسوب فى هذا الحديث إلى عدى بن حاتم ، فإما أن يكونا فعلاه معا توفيقا من الله لهما ، وإما أن يكون هذا مما يعرض فى النقل من الاختلاف ، والذي ينسب ذلك إلى الزبرقان يقول : إنه قال فى ذلك :

لقد علمت قيس وخندف أننى

وفيت إذا ما فارس الغدر ألجما

أتيت التي قد يعلم الله أنها

إذا ذكرت كانت أعف وأكرما

أنفت لعوف أن يسب أبوهم

إذا اقتسم الناس السوام المقسما

وروحتها من أهل جوفاء صبحت

تدوس بأيديها الحصاد المحرما

حبوت بها قبر النبيّ وقد أبى

فلم يجبه ساع من الناس مقسما

وقال أيضا :

وفيت بأذواد النبيّ ابن هاشم

على موطن ضام الكريم المسودا

فأديتها ألفا ولو شئت ضمها

رعاء يكون الوشيج المقصدا

وذكر ابن إسحاق : أن عدى بن حاتم كانت عنده إبل عظيمة اجتمعت له من صدقات قومه عند ما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ارتد من الناس وارتجعوا صدقاتهم ، وارتدت بنو أسد ، وهم جيرانهم ، اجتمعت طيئ إلى عدى بن حاتم ، فقالوا : إن هذا الرجل قد مات ، وقد انتقض الناس بعده ، وقبض كل قوم ما كان فيهم من صدقاتهم ، فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس ، فقال : ألم تعطوا من أنفسكم العهد والميثاق على الوفاء طائعين غير مكرهين.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٣٧٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٨٢٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٧٦٨) ، تهذيب الكمال (١٢٧١) ، تهذيب التهذيب (٩ / ٤٥٤) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣٥٩) ، شذرات الذهب (١ / ٤٥ ، ٥٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٧١) ، الاستبصار (٢٤١ ، ٢٤٢) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٤٥).


قالوا : بلى ، ولكن قد حدث ما ترى ، وقد ترى ما صنع الناس. قال : والذي نفس عدى بيده ، لا أخيس بها أبدا ، ولو كنت جعلتها لرجل من الزنج ، لوفيت له بها ، فإن أبيتم لأقاتلنكم ، يعنى على ما فى يده وما فى أيديهم ، فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته عدى بن حاتم ، أو يسلمها ، فلا تطمعوا أن يسب حاتما فى قبره عدى ابنه من بعده ، فلا يدعونكم عذر عاذر إلى أن تعذروا ، فإن للشيطان قادة عند موت كل نبى ، يستخف لها أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة ، وإنما هى عجاجة لا ثبات لها ، ولا ثبات فيها ، إن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خليفة من بعده يلى هذا الأمر ، وإن لدين الله أقواما سينهضون ويقومون به بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قاموا بعهده وذو بيته فى السماء ، لئن فعلتم ليقارعنكم على أموالكم ونسائكم بعد قتل عدى وغدركم ، فأى قوم أنتم عند ذلك ، فلما رأوا منه الجد ، كفوا عنه ، وسلموا له.

ويروى أن مما قال له قومه : أمسك فى يدك ، فإنك إن تفعل تسد الحليفين ، يعنون طيئا وأسدا.

فقال : ما كنت لأفعل حتى أدفعها إلى أبى بكر ، فجاء بها حتى دفعها إليه ، فلما كان زمن عمر بن الخطاب ، رأى من عمر رحمه‌الله ، جفوة ، فقال له عدى : ما أراك تعرفنى؟ قال عمر : بلى ، والله ، والله يعرفك من السماء ، أعرفك والله : أسلمت إذ كفروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا ، بلى ، وايم الله أعرفك.

وقدم أيضا الزبرقان بن بدر بصدقات قومه على أبى بكر ، فلم يزل لعدى والزبرقان بذلك شرف وفضل على من سواهما.

وأعطى أبو بكر عديا ثلاثين بعيرا من إبل الصدقة ، وذلك أن عديا لما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نصرانيا فأسلم وأراد الرجوع إلى بلاده أرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعتذر من الزاد ويقول : «والله ، ما أصبح عند آل محمد شقة من الطعام ، ولكن ترجع ويكون خير» ، فلذلك أعطاه أبو بكر تلك الفرائض.

ولما كان من العرب ما كان من التوائهم عن الدين ومنع من منع منهم الصدقة جد بأبى بكر الجد فى قتالهم ، وأراه الله رشده فيهم ، وعزم على الخروج بنفسه إليهم ، وأمر الناس بالجهاز ، وخرج هو فى مائة من المهاجرين ، وقيل : فى مائة من المهاجرين والأنصار ، وخالد بن الوليد يحمل اللواء ، حتى نزل بقعاء ، وهو ذو القصة (١) ، يريد أبو

__________________

(١) ذو القصة : مكان على بريد من المدينة ، وهو الذي أخرج إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنه. انظر : الروض المعطار (٤٧٧) ، معجم ما استعجم (٣ / ١٠٨٦).


بكر أن يتلاحق الناس من خلفه ، ويكون أسرع لخروجهم ، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم ، فانتهى إلى بقعاء عند غروب الشمس ، فصلى بها المغرب ، وأمر بنار عظيمة فأوقدت ، وأقبل خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر وكان ممن ارتد ، فى خيل من قومه إلى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج ، أو يصيب غرة فيغير ، فأغار على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، ومن معه ، وهم غافلون ، فاقتتلوا شيئا من قتال ، وتحيز المسلمون ، ولاذ أبو بكر بشجرة ، وكره أن يعرف ، فأوفى طلحة بن عبيد الله على شرف فصاح بأعلى صوته لا بأس ، هذه الخيل قد جاءتكم ، فتراجع الناس ، وجاءت الأمداد ، وتلاحق المسلمون ، فانكشف خارجة بن حصن وأصحابه ، وتبعه طلحة بن عبيد الله فيمن خف معه ، فلحقوه فى أسفل ثنايا عوسجة ، وهو هارب لا يألو فيدرك أخريات أصحابه ، فحمل طلحة على رجل بالرمح فدق ظهره ، ووقع ميتا ، وهرب من بقى ، ورجع طلحة إلى أبى بكر ، فأخبره أن قد ولوا منهزمين هاربين ، وأقام أبو بكر ببقعاء أياما ينتظر الناس ، وبعث إلى من كان حوله من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة ، والخفوف إليهم ، فتحلب الناس إليهم من هذه النواحى ، حتى شحنت منهم المدينة.

قال سبرة الجهنى (١) : قدمنا معشر جهينة أربعمائة معنا الظهر والخيل ، وساق عمرو ابن مسرة الجهنى مائة بعير عونا للمسلمين ، فوزعها أبو بكر فى الناس ، وجعل عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب يكلمان أبا بكر فى الرجوع إلى المدينة لما رأيا عزمه على المسير بنفسه ، وقد توافى المسلمون وحشدوا ، فلم يبق أحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من المهاجرين والأنصار من أهل بدر إلا خرج ، وقال عمر : ارجع يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تكن للمسلمين فئة وردءا ، فإنك إن تقتل يرتد الناس ويعل الباطل الحق ، وأبو بكر مظهر المسير بنفسه ، وسألهم بمن نبدأ من أهل الردة ، فاختلفوا عليه ، فقال أبو بكر : نصمد لهذا الكذاب على الله وعلى كتابه ، طليحة.

ولما ألحوا على أبى بكر فى الرجوع ، وعزم هو عليه ، أراد أن يستخلف على الناس ،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩١٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٠٩٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٩٣٦) ، مشاهير علماء الأمصار (٣٥) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ١١١) ، تهذيب الكمال (١٠ / ٢٠٣) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٥٠٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٣) ، خلاصة تذهيب التهذيب (١٣٣) ، تاريخ الإسلام (١ / ٢١٢).


فدعا زيد بن الخطاب (١) لذلك ، فقال : يا خليفة رسول الله ، قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم أرزقها ، وأنا أرجو أن أرزقها فى هذا الوجه ، وإن أمير الجيش لا ينبغى أن يباشر القتال بنفسه ، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، فعرض عليه ذلك ، فقال مثل ما قال زيد ، فدعا سالما مولى أبى حذيفة ليستعمله ، فأبى عليه ، فدعا أبو بكر خالد بن الوليد فأمره على الناس ، وقال لهم وقد توافى المسلمون قبله ، وبعث مقدمته أمام الجيش : أيها الناس ، سيروا على اسم الله تعالى وبركته ، فأميركم خالد بن الوليد ، إلى أن ألقاكم ، فإنى خارج فيمن معى إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم. ويروى أنه قال للجيش : سيروا ، فإن لقيتكم بعد غد فالأمر إلى ، وأنا أميركم ، وإلا فخالد بن الوليد عليكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.

وإنما قال ذلك أبو بكر لأن تذهب كلمته فى الناس ، وتهاب العرب خروجه ، ثم خلا بخالد بن الوليد ، فقال : يا خالد ، عليك بتقوى الله ، وإيثاره على من سواه ، والجهاد فى سبيله ، فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فسار خالد ، ورجع أبو بكر ، وعمر ، وعلى ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من المهاجرين والأنصار من أهل بدر رضي‌الله‌عنهم جميعهم ، إلى المدينة.

وصية أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ،

خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه

قال حنظلة بن على الأسلمى : بعث أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، خالد بن الوليد إلى أهل الردة ، وأمره أن يقاتلهم على خمس خصال ، فمن ترك واحدة من الخمس قاتله : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام شهر رمضان. زاد زيد بن أسلم : وحج البيت ، وقال : كن ستا.

وعن نافع بن جبران أن أبا بكر حين بعث خالد بن الوليد عهد إليه ، وكتب معه هذا الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر ، خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٥١) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٩٠٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٣٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٨) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢٩٧) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤١١) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٧٤) ، خلاصة تذهيب الكمال (١ / ٣٥٢) ، الأعلام (٣ / ٥٨) ، العبر (١٤) ، الثقات (٣ / ١٣٦) ، الاستبصار (٢٩٦ ، ٢٩٧) ، صفة الصفوة (١ / ٤٤٧) ، التحفة اللطيفة (١ / ٩٩) ، الرياض المستطاب (٨٩).


خالد بن الوليد ، حين بعثه فيمن بعثه من المهاجرين والأنصار ، ومن معهم من غيرهم لقتال من رجع عن الإسلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عهد إليه وأمره أن يتقى الله ما استطاع فى أمره كله ، علانيته وسره ، وأمره بالجد فى أمر الله والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره ورجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية وأمانى الشيطان.

وعهد إليه وأمره أن لا يقاتل قوما حتى يعذر إليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، ويبين لهم الذي لهم فى الإسلام والذي عليهم فيه ، ويحرص على هداهم ، فمن أجابه إلى ما دعاه إليه من الناس كلهم ، أحمرهم وأسودهم ، قبل منه ، وليعذر إلى من دعاه بالمعروف وبالسيف ، فإنما يقاتل من كفر بالله على الإيمان بالله ، فإذا أجاب المدعو إلى الإيمان ، وصدق إيمانه ، لم يكن عليه سبيل ، وكان الله حسيبه بعد فى عمله ، ومن لم يجبه إلى ما دعا إليه من دعائه الإسلام ، ممن رجع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يقاتل أولئك بمن معه من المهاجرين والأنصار ، حيث كانوا ، وحيث بلغ مراغمه ، ثم يقتل من قدر عليه من أولئك ، ولا يقبل من أحد شيئا دعاه إليه ولا أعطاه إياه الإسلام والدخول فيه والصبر به وعليه وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

وأمره أن يمضى بمن معه من المسلمين حتى يقدم اليمامة فيبدأ ببنى حنيفة ومسيلمتهم الكذاب ، فيدعوهم ويدعوه إلى الإسلام ، وينصح لهم فى الدين ، ويحرص على هداهم ، فإن أجابوا إلى ما دعاهم إليه من دعاية الإسلام قبل منهم ، وكتب بذلك إلى ، وأقام بين أظهرهم حتى يأتيه أمرى ، وإن هم لم يجيبوا ولم يرجعوا عن كفرهم واتباع كذابهم على كذبه على الله عزوجل ، قاتلهم أشد القتال بنفسه وبمن معه ، فإن الله ناصر دينه ومظهره على الدين كله ، كما قضى فى كتابه ولو كره الكافرون ، فإن أظهره الله عليهم إن شاء الله وأمكنه منهم فليقتلهم بالسلاح ، وليحرقهم بالنار ، ولا يستبق منهم أحدا قدر على أن يستبقيه ، وليقسم أموالهم وما أفاء الله عليه وعلى المسلمين إلا خمسه ، فليرسل به إلى أضعه حيث أمر الله به أن يوضع إن شاء الله.

وعهد إليه أن لا يكون فى أصحابه فشل من رأيهم ولا عجلة عن الحق إلى غيره ، ولا يدخل فيهم حشو من الناس حتى يعرفهم ويعرف ممن هم ، وعلام اتبعوه وقاتلوا معه ، فإنى أخشى أن يدخل معكم ناس يتعوذون بكم ليسوا منكم ولا على دينكم ، فيكونون عيونا عليكم ، ويتحفظون من الناس بمكانهم معكم ، وأنا أخشى أن يكون ذلك فى الأعراب وجفاتهم ، فلا يكونن من أولئك فى أصحابك أحد إن شاء الله تعالى ، وارفق بالمسلمين فى سيرهم ومنازلهم ، وتفقدهم ، ولا تعجل بعض الناس عن بعض فى المسير


ولا فى الارتحال من مكان ، واستوص بمن معك من الأنصار خيرا فى حسن صحبتهم ، ولين القول لهم ، فإن فيهم ضيقا ومرارة وزعارة ، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

ويروى أن أبا بكر رحمه‌الله ، كتب مع هذا الكتاب كتابا آخر إلى عامة الناس ، وأمر خالدا أن يقرأه عليهم فى كل مجمع ، وهو : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من بلغه كتابى هذا من عامة أو خاصة ، تاما على إسلامه أو راجعا عنه ، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبد ورسوله ، الهادى غير المضل ، أرسله بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، لينذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، فهدى الله بالحق من أجاب إليه ، وضرب بالحق من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعا وكرها ، ثم أدرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند ذلك أجله الذي قضى الله عليه وعلى المؤمنين ، فتوفاه الله ، وقد كان بين له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذي أنزل عليه ، فقال له : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٤ ، ٣٥] ، وقال للمؤمنين : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤] ، فمن كان إنما يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، صلوات الله عليه ، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له ، فإن الله بالمرصاد ، حى قيوم لا يموت ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حافظ لأمره ، منتقم من عدوه ، وإنى أوصيكم أيها الناس بتقوى الله ، وأحضكم على حظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن تهتدوا بهدى الله ، وتعتصموا بدين الله ، فإن كل من لم يحفظه الله ضائع ، وكل من لم يصدقه الله كاذب ، وكل من لم يسعده الله شقى ، وكل من لم يرزقه الله محروم ، وكل من لم ينصره الله مخذول ، فاهتدوا بهدى الله ربكم وما جاءكم به نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] ، وإنه قد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به ، اغترارا بالله وجهالة بأمر الله ، وطاعة للشيطان ، (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا


حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ، وإنى قد بعثت خالد بن الوليد فى جيش من المهاجرين الأولين من قريش والأنصار وغيرهم ، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله ، فمن دخل فى دين الله وتاب إلى الله ورجع عن معصية الله إلى ما كان يقر به من دين الله وعمل صالحا قبل ذلك منه ، وأعانه عليه ، ومن أبى أن يرجع إلى الإسلام بعد أن يدعوه بداعية الله ويعذر إليه بعاذرة الله ، أن يقاتل من قاتله على ذلك أشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دين الله وأعوانه ، ثم لا يبقى على أحد بعد أن يعذر إليه ، وأن يحرقهم بالنار ، ويسبى الذرارى والنساء ، وأمرته أن لا يقبل من أحد شيئا إلا الرجوع إلى دين الله ، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أمرته أن يقرأ على الناس كتابى إليهم فى كل مجمع وجماعة ، فمن اتبعه فهو خير له ، ومن تركه فهو شر له.

وعن عروة بن الزبير ، قال : جعل أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، يوصى خالد بن الوليد ويقول : يا خالد ، عليك بتقوى الله ، والرفق بمن معك من رعيتك ، فإن معك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهل السابقة من المهاجرين والأنصار ، فشاوروهم فيما نزل بك ، ثم لا تخالفهم ، وقدم أمامك الطلائع ترتاد لك المنازل ، وسر فى أصحابك على تعبئة جيدة ، فإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك ، وبعضهم لا عليك ولا لك ، متربص دائرة السوء ، ينظر لمن تكون الدبرة ، فيميل مع من تكون له الغلبة ، ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة ، فاستعن بالله على قتالهم ، فإنه بلغنى أنهم رجعوا بأسرهم ، وإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة ، فإنك تلقى عدوا كلهم عليك ، لهم بلاد منكرة ، فلا تؤتى إلا من مفازة ، فارفق بجيشك فى تلك المفازة ، فإن فى جيشك قوما أهل ضعف ، أرجو أن تنصر بهم حتى تدخل بلادهم إن شاء الله تعالى.

فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر إذا لقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به ، السهم للسهم ، والرمح للرمح ، والسيف للسيف ، فإن أعطاك الله الظفر عليهم ، فأقل البقيا عليهم إن شاء الله تعالى ، وإياك أن تلقانى غدا بما يضيق صدرى به منك ، اسمع عهدى ووصيتي ، لا تغيرن على دار سمعت فيها أذانا حتى تعلم ما هم عليه ، وإياك وقتل من صلى ، واعلم يا خالد أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك ، واعلم أن رعيتك إنما تعمل بما تراك تعمل ، كف عليك أطرافك ، وتعاهد جيشك ، وانههم عما لا يصلح لهم ، فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ، وبهذا نرجو لكم النصر على أعدائكم ، سر على بركة الله تعالى.


ذكر مسير خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، إلى بزاخة وغيرها

قالوا : وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم ، وقد انضم إليه من طيء ألف رجل ، فنزل بزاخة ، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام ، وهى بطن من طيء ، وكان عدى بن حاتم من الغوث ، وقد همت جديلة أن ترتد ، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل الطائى ، فقال : أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم ، لم يرجع رجل واحد من طيء ، وهذا أبو طريف عدى بن حاتم ، معه ألف رجل من طيء ، فكسرهم ، فلما نزل خالد بزاخة ، قال لعدى : يا أبا طريف ، ألا نسير إلى جديلة؟ فقال : يا أبا سليمان ، لا تفعل ، أقاتل معك بيدين أحب إليك ، أم بيد واحدة؟ فقال خالد : بل بيدين ، قال عدى : فإن جديلة إحدى يدى ، فكف خالد عنهم ، فجاءهم عدى فدعاهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، فحمد الله وسار بهم إلى خالد.

فلما رآهم خالد فزع منهم ، وظن أنهم أتوا للقتال ، فصاح فى أصحابه بالسلاح ، فقيل له : إنما هى جديلة أتت تقاتل معك ، فلما جاءوا حلوا ناحية ، وجاءهم خالد ، فرحب بهم ، وفرح بهم ، واعتذروا إليه من اعتزالهم ، وقالوا : نحن لك حيث أحببت ، فجزاهم خيرا ، فلم يرتد من طيء رجل واحد ، فسار خالد على تعبئته ، وطلب إليه عدى أن يجعل قومه مقدمة أصحابه ، فقال : يا أبا طريف ، إن الأمر قد اقترب ، وأنا أخاف أن أقدم قومك ، فإذا ألحمهم القتال انكشفوا ، فانكشف من معنا ، ولكن دعنى أقدم قوما صبرا ، لهم سوابق ونيات ، وهم من قومك.

قال عدى : الرأى ما رأيت ، فقدم المهاجرين ، والأنصار ، ولم يزل خالد يقدم طليعته منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة ، وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا به عند مواقيت الصلاة بالأذان لها ، فيكون ذلك أمانا لهم ، ودليلا على إسلامهم ، وانتهى خالد والمسلمون إلى عسكر طليحة ، وقد ضربت لطليحة قبة من أدم ، وأصحابه حوله معسكرون ، فانتهى خالد ممسيا ، فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة ، وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقف من عسكر طليحة غير بعيد ، ثم قال : يخرج إلى طليحة ، فقال أصحابه : لا تصغر اسم نبينا ، وهو طلحة. فخرج طليحة فوقف ، فقال له خالد : إن من عهد خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن تعود إلى ما خرجت منه ، فنقبل منك ، ونغمد سيوفنا عنك ، فقال : يا خالد ، أنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، وأنى نبى مرسل يأتينى ذو النون ، كما كان جبريل يأتى محمدا ، وقد كان ادعى هذا فى عهد النبيّ


صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له : ذو النون ، وكان عيينة بن حصن قد قال له : لا أبا لك ، هل أنت مرينا بعض نبوتك ، فقد رأيت ورأينا ما كان يأتى محمدا ، قال : نعم ، فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة مقبلا إليهم قبل أن يسمع بذكر خالد ، وقال : إن بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بنى نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين ، فهيئوا فارسين ، فبعثوهما ، فخرجا يركضان ، فلقيا عينا لخالد بن الوليد ، فقالا : ما وراءك؟ فقال : هذا خالد بن الوليد فى المسلمين ، قد أقبلوا ، فأتوا به إليه ، فزادهم فتنة ، وقال : ألم أقل لكم؟.

فلما أبى طليحة على خالد أن يقر بما دعاه إليه انصرف خالد إلى معسكره ، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل ، وعدى بن حاتم ، وكان لهما صدق نية ودين ، فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين ، فلما كان فى السحر ، نهض خالد فعبأ أصحابه ، ووضع ألويته مواضعها ، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب ، فتقدم به ، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار ، وطلبت طيء لواء يعقد لها ، فعقد خالد لواء ودفعه إلى عدى بن حاتم ، فلما سمع طليحة حركة القوم عبأ أصحابه ، وجعل خالد يسوى الصفوف على رجليه ، وطليحة يسوى أصحابه على راحلته ، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة ، فلما انتهى إليه ، خرج إليه طليحة بأربعين غلاما جلداء من جنوده ، مردا ، فأقامهم فى الميمنة ، فقال : اضربوا حتى تأتوا الميسرة ، فتضعضع الناس ولم يقتل أحد ، ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك ، وانهزم المسلمون ، فقال رجل من هوازن ، حضرهم يومئذ : إن خالدا لما كان ذلك قال : يا معشر الأنصار ، الله الله ، واقتحم وسط القوم ، وكر عليه أصحابه ، فاختلطت الصفوف ، واختلفت السيوف بينهم ، وضرس خالد فى القتال ، فجعل يقحم فرسه ويقولون له : الله الله ، فإنك أمير القوم ، ولا ينبغى لك أن تقدم ، فيقول : والله إنى لأعرف ما تقولون ، ولكنى والله ما رأيتنى أصبر ، وأخاف هزيمة المسلمين.

وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين : أنه نادى مناد من طيء ، يعنى عند ما حمل أولئك الأربعون غلاما على المسلمين : يا خالد ، عليك سلمى وأجأ فقال : بل إلى الله الملجأ ، قال : ثم حمل ، فو الله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين رجل واحد ، وقاتل خالد يومئذ بسيفين ، حتى قطعهما ، وتراد الناس بعد الهزيمة ، واشتد القتال ، وأسر حبال ابن أبى حبال ، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبى بكر ، فقال : اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا ، فضربوا عنقه.


وذكر الواقدى عن ابن عمر ، قال : نظرت إلى راية طليحة يومئذ ، حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا ، فنظرت إلى خالد أتاه فحمل عليه فقتله ، فكانت هزيمتهم ، فنظرت إلى الراية تطؤها الإبل والخيل والرجال حتى تقطعت.

وعنه ، قال : يرحم الله خالد بن الوليد ، لقد كان له غناء وجرأة ، ولقد رأيته يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك ، ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشد القتال ، إن كان مكانه ليتقى حتى يطلع إلينا منبهرا.

ولما تراجع المسلمون ، وضرس القتال ، تزمل طليحة بكساء له ينتظر ، زعم أن ينزل عليه الوحى ، فلما طال ذلك على أصحابه وهدتهم الحرب ، جعل عيينة بن حصن يقاتل ويذمر الناس.

قال ابن إسحاق : قاتل يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا ، حتى إذا لج المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم ، أتى طليحة وهو متلثم فى كسائه ، فقال : لا أبا لك ، هل أتاك جبريل بعد؟ قال : يقول طليحة وهو تحت الكساء : لا والله ما جاء بعد ، فقال عيينة : تبا لك سائر اليوم ، ثم رجع عيينة فقاتل ، وجعل يحض أصحابه وقد ضجوا من وقع السيوف.

فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متسج بكسائه فجبذه جبذة جلس منها ، وقال له : قبح الله هذه من نبوة ، ما قيل لك بعد شيء؟ فقال : طليحة : قد قيل لى : إن لك رحا كرحاه ، وأمرا لن تنساه ، فقال عيينة : أظن قد علم الله أن سيكون لك أمر لن تنساه ، يا فزارة ، هكذا ، وأشار له تحت الشمس ، هذا والله كذاب ، ما بورك له ولا لنا فيما يطالب ، فانصرفت فزارة ، وذهب عيينة وأخوه فى آثارها ، فيدرك عيينة فأسر ، وأفلت أخوه ، ويقال : أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى ، فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم ، فترك قتله.

ولما رأى طليحة أن الناس يقتلون ويؤسرون ، خرج منهزما ، وأسلمه الشيطان ، فأعجزهم هو وأخوه ، فجعل أصحابه يقولون له : ما ذا ترى؟ وقد كان أعد فرسه وهيأ امرأته النوار فوثب على فرسه ، وحمل امرأته وراءه فنجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل ، ولينج بأهله ، ثم هرب حتى قدم الشام ، فأقام عند بنى جفنة الغسانيين.

وفى كتاب يعقوب الزهرى : أن طليحة قال لأصحابه لما رأى انهزامهم : ويلكم ما


يهزمكم؟ فقال له رجل منهم : أنا أخبرك أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله ، وأنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.

وذكر ابن إسحاق أن طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم ، وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل ، فلما أدبر ناداه عكاشة : يا طليحة ، فعطف عليه ، فقتل عكاشة ، ثم أدركه ثابت ، فقتله أيضا طليحة ، ثم لحق بالشام. وقال طليحة يذكر قتله إياهما :

زعمتم بأن القوم لن يقتلوكم

أليسوا وإن لم يسلموا برجال

عدلت لهم صدر الحمالة إنها

معودة قيل الكماة نزال

فيوما تفى بالمشرفية خدها

ويوما تراها فى ظلال عوال

ويوما تراها فى الجلال مصونة

ويوما تراها غير ذات جلال

عشية غادرت ابن أقرم ثاويا

وعكاشة الغنمى عند مجال

فإن يك أذواد أصبن ونسوة

فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال

وقد قيل فى قتلها غير هذا ، وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى ، وكان عالما بردتهم : أن خالد بن الوليد كان لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا طليعة أمامه ، وكانا فارسين ، فلقيهما طليحة وأخاه مسيلمة ابنى خويلد ، طليعة لمن وراءهما من الناس ، وخلفوا عسكرهم من ورائهم ، فلما التقوا ، انفرد طليحة بعكاشة ، ومسلمة بثابت ، فلم يلبث مسلمة أن قتل ثابتا ، وصرخ طليحة بمسلمة : أعنى على الرجل فإنه قاتلى ، فكر معه على عكاشة ، فقاتلاه رحمه‌الله ، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما ، وأقبل خالد معه المسلمون ، فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم قتيلا تطؤه المطى ، فعظم ذلك على المسلمين ، ثم لم يسيروا إلا يسيرا حتى وطئوا عكاشة قتيلا ، فثقل على المطى ، كما وصف واصفهم ، حتى ما تكاد المطى ترفع أخفافها.

وفى كتاب الزهرى : ثم لحقوا أصحاب طليحة ، فقتلوا وأسروا ، وصاح خالد : لا يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء إلا على أثفية رأس رجل ، وتظلف رجل من بنى أسد ، فوثب على عجز راحلة خالد وهو يقول :

لن يخزى الله قوما أنت قائدهم

يا ابن الوليد ولن تشقى بك الدبر

كفاك كف عقاب عند سطوتها

على العدو وكف برة عقر

أنشدك الله أن يكون هلاك مضر اليوم على يديك ، قال : من أنت ويحك؟ قال : أنا


الآباء بن قيس يا خالد ، حكمك فى بنى أسد ، قال : حكمى فيهم أن يقيموا الصلاة ، ثم يؤتوا الزكاة ، ثم يرجعوا إلى بلادهم ، فمن كان له بها مال فليعمده ، وليسلم عليه ، فهو له. فأقروا بذلك ، فنادى خالد : من قام فهو آمن ، فقام الناس كلهم ، فآمن من قام.

وسمعت بذلك بنو عامر ، فأعلنوا بالإسلام ، وأمر خالد بالحظائر أن تبنى ، ثم أوقد فيها النار ، ثم أمر بالأسرى ، فألقيت فيها ، وألقى يومئذ حامية بن سبيع بن الحسحاس الأسدي ، وهو الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعمله على صدقات قومه فارتد عن الإسلام.

وأخذ أم طليحة ، إحدى نساء بنى أسد ، فعرض عليها الإسلام ، فأبت ، وو ثبت فاقتحمت النار وهى تقول :

يا موت عم صباحا

كافحته كفاحا

إذا لم أجد براحا

وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة : أن خالدا جمع الأسارى فى الحظائر ، ثم أضرمها عليهم ، فاحترقوا وهم أحياء ، ولم يحرق أحد من بنى فزارة ، فقلت لبعض أهل العلم : لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ فقال : بلغت عنهم مقالة سيئة ، شتموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبتوا على ردتهم.

وذكر عن غير يعقوب : أن خالدا أمر بالأخدود يحفر ، فقيل له : ما تريد بهذا الأخدود؟ قال : أحرقهم بالنار ، فكلم فى ذلك ، فقال : هذا عهد الصديق أبى بكر إلى ، اقرءوه فى كل مجمع : إن أظفرك الله بهم فاحرقهم بالنار.

وعن عبد الله بن عمر ، قال : شهدت بزاخة فظفرنا الله على طليحة ، فكنا كلما أغرنا على القوم سبينا الذرارى واقتسمنا أموالهم.

ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام

ولما أوقع الله ببنى أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة بعث خالد بن الوليد السرايا ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردته ، وجعلت العرب تسير إلى خالد راغبة فى الإسلام أو خائفة من السيف ، فمنهم من أصابته السرية ، فيقول : جئت راغبا فى الإسلام ، وقد رجعت إلى ما خرجت منه ، ومنهم من يقول : ما رجعنا ولكنا منعنا أموالنا وشححنا


عليها ، فقد سلمناها فليأخذ منها حقه ، ومنهم من لم تظفر به السرايا ، فانتهى إلى خالد مقرا بالإسلام ، ومنهم من مضى إلى أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا.

قال الواقدى : فاختلفوا علينا فى قرة بن هبيرة القشيرى (١) ، فقال قائل : هرب إلى أبى بكر وأسلم عنده ، وقال قائل : أخذته خيل خالد ، فأتت به إليه ، ومنهم من قال : جاء إلى خالد بن الوليد شاردا حين جاءت بنو عامر إلى خالد ، وهو أثبت عندنا.

قال بعضهم : وكانت بنو عامر تربص لمن الدبرة ، وصاحب أمرهم قرة بن هبيرة ، فقام فيهم أبو حرب ربيعة بن خويلد العقيلى ، وهو يومئذ ، فارس عامر ورجلها ، فقال : مهلا يا بنى عامر ، قد قتلتم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى بئر معونة ، وأخفرتم ذمة أبى براء ، وأرداكم عامر بن الطفيل ، وقد أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار ، فكسرهم قوله ، وقد رضوه ، وكان عرض لعمرو بن العاص مقدمه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع قرة بن هبيرة ما نذكره ، وذلك أن عمرا كان عاملا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على عمان ، فجاءه يوما يهودى من يهود عمان ، فقال : أرأيتك إن سألتك عن شيء أأخشى على منك؟ قال : لا ، قال اليهودى : أنشدك الله ، من أرسلك إلينا؟ قال : اللهم ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال اليهودى : الله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو : اللهم نعم ، فقال اليهودى : لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم.

فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه ، وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهودى فيه ما قال ، ثم خرج بخفراء من الأزد وعبد القيس ، يأمن بهم ، فجاءته وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهجر ، ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى ، فسار حتى قدم أرض بنى حنيفة ، فأخذ منهم خفيرا حتى جاء أرض بنى عامر ، فنزل على قرة بن هبيرة القشيرى ، فقال له حين أراد عمرو أن يركب : إن لك عندى نصيحة ، وأنا أحب أن تسمعها ، إن صاحبك قد توفى ، قال عمرو : وصاحبنا هو لا أم لك ، يعنى دونك ، قال له قرة : وإنكم يا معشر قريش كنتم فى حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس ، ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت ، فلما بلغنا ذلك لم نكرهه ، وقلنا ، رجل من مضر يريد يسوق الناس ، وقد توفى ، والناس إليكم سراع ، وإنهم غير معطيكم شيئا ، فالحقوا بحرمكم تأمنون فيه ، وإن كنت غير فاعل ، فعدنى حيث شئت آتك ، فوقع به عمرو وقال : إنى أرد عليك نصيحتك ، وموعدك حفش أمك ، قال قرة : إنى لم أرد هذا ، وندم على مقالته ، ويقال :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢١٣٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٧١٢١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٢٩٦) ، الجرح والتعديل (٧ / ٧٤٠) ، التاريخ الكبير (٧ / ١٨١).


خرج مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له. وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدين ، حتى أتى على ذى القصة ، فلقى عيينة بن حصن خارجا من المدينة ، وذلك حين قدم على أبى بكر يقول : إن جعلت لنا شيئا كفيناك ما وراءنا ، فقال له عمرو بن العاص : ما وراءك يا عيينة؟ من ولى الناس أمورهم؟ قال : أبو بكر. فقال عمرو : الله أكبر ، قال عيينة : يا عمرو ، استوينا نحن وأنتم ، فقال عمرو : كذبت يا ابن الأخابث من مضر ، وسار عيينة فجعل يقول لكل من لقى من الناس : احبسوا عليكم أموالكم. قالوا : فأنت ما تصنع؟ قال : لا يدفع إليه رجل من فزارة عناقا واحدة ، ولحق عند ذلك بطليحة الأسدي ، فكان معه.

وقدم عمرو المدينة ، فأخبر أبا بكر بما كان فى وجهه ، وبمقالة قرة بن هبيرة ، وبمقالة عيينة بن حصن ، وأتى عمرو خالدا حين بعثه أبو بكر إلى أهل الردة ، فجعل يقول : يا أبا سليمان ، لا يفلت منك قرة بن هبيرة ، فلما صنع الله بأهل بزاخة ما صنع ، عمد خالد إلى جبلى طيء فأتته عامر وغطفان يدخلون فى الإسلام ، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم ، وأظهروا له التوبة ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فأمنهم خالد ، وأخذ عليهم العهود والمواثيق ليبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار ، فقالوا : نعم نعم ، ولما اجتمعوا إليه ، قال خالد : أين قرة بن هبيرة القشيرى؟ قال : ها أنا ذا ، قال : قدمه فاضرب عنقه ، وقال : أنت المتكلم لعمرو بن العاص بما تكلمت به وأنت المتربص بالمسلمين الدوائر ، ولم تنصر وقلت إن كانت الدائرة على المسلمين فمالي بيدى ، وجمعت قومك على ذلك ، ورأسك قومك ، ولم تكن بأهل أن ترأس ولا تطاع. قال : يا ابن المغيرة ، إن لى عند عمرو بن العاص شهادة ، فقال خالد : عمرو الذي نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمت به.

ويروى أنه قال له هذا ما قال لك عمرو : سيأتيك فى حفش أمك. فقال له قرة : يا أبا سليمان ، إنى قد أجرته فأحسنت جواره ، وأنا مسلم لم ارتد ، فقال : لو لا ما تذكر لضربت عنقك ، ولكن لا بد أن أبعث بك فى وثاق إلى أبى بكر فيرى فيك رأيه ، فلما فرغ من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن ، وقرة بن هبيرة ، وبعث بهما إلى أبى بكر الصديق.

قال ابن عباس : فقدم بهما المدينة فى وثاق ، فنظرت إلى عيينة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد ، ويضربونه ، ويقولون : أى عدو الله ، أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول : والله ما كنت آمنت بالله.


قالوا : ووقف عليه عبد الله بن مسعود ، فقال : خبت وخسرت ، إنك لموضع فى الباطل قديما ، فقال له عيينة : اقصر أيها الرجل ، فلو لا ما أنا فيه لم تكلمنى بما تكلمنى به ، فانصرف ابن مسعود ، وأتى بقرة بن هبيرة ، فقال : يا خليفة رسول الله ، والله ما كفرت ، وسل عمرو بن العاص ، فإن لى عنده شهادة ، لما أقبل من عمان خرجت فى مائة من قومى خفراء له ، وقبل ذلك ما أكرمت منزله ، ونحرت له ، فسأل أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، عمرا ، فقال : نزلت به ، فلم أر للضيف خيرا منه ، لم يترك ، وخرج معى فى مائة من قومه ؛ ثم ذكر عمرو ما قال له قرة ، فقال قرة : انزع يا عمرو ، فقال عمرو : لو نزعت نزعت ، فلم يعاقبه أبو بكر ، وعفا عنه ، وكتب له أمانا ، وقبل منه.

وكان فيمن ارتد من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر ، فبعث أبو بكر إلى ابنته وامرأته ليأخذهما ، فقالت امرأته : ما لي ولأبى بكر ، إن كان علقمة قد كفر فإنى لم أكفر ، فتركها ، ثم راجع علقمة الإسلام زمن عمر رضي‌الله‌عنه ، فرد عليه زوجته.

وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردة ممن جامعهم وبايعه على الإسلام كل ما ظهر من سلاحهم ، واستحلفهم على ما غيبوا عنه ، فإن حلفوا تركهم ، وإن أبوا شدهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح ، فأخذ منهم سلاحا كثيرا ، فأعطاه أقواما يحتاجون إليه فى قتال عدوهم ، وكتبه عليهم ، فلقوا به العدو ثم ردوه بعد ، فقدم به على أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه.

وحدث يزيد بن شريك الفزارى ، عن أبيه ، قال : قدمت مع أسد وغطفان على أبى بكر وافدا حين فرغ خالد من بزاخة ، وجعلت أسد وغطفان تسلل ، فاجتمعوا عند أبى بكر ، فمنهم من بايع خالدا ، ومنهم من لم يبايعه ، فجاءوا إلى أبى بكر ، فقال أبو بكر : اختاروا بين خصلتين : حرب مجلية أو سلم مخزية ، قال خارجة بن حصن : هذه الحرب المجلية قد عرفتها ، فلما السلم المخزية؟.

قال : تقرون أن قتلانا فى الجنة ، وأن قتلاكم فى النار ، وأن تردوا علينا ما أخذتم منا ، ولا نرد عليكم مما أخذنا منكم شيئا ، وأن تدوا قتلانا دية كل قتيل مائة بعير ، منها أربعون فى بطونها أولادها ، ولا ندى قتلاكم ، ونأخذ منكم الحلقة والكراع ، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم أو يرى منكم إقبالا إلى ما خرجتم منه. فقال خارجة بن حصن : نعم يا خليفة رسول الله ، قال أبو بكر : عليكم


عقد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار ، وتعلموه أولادكم ونساءكم ، ولا تمنعوا فرائض الله فى أموالكم ، قالوا : نعم ، فقال عمر : يا خليفة رسول الله ، كل ما قلت كما قلت إلا أن يدوا من قتلوا منا ، فإنهم قوم قتلوا فى سبيل الله ، واستشهدوا.

وفى رواية : فتتابع الناس على قول عمر ، وقبض أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع ، فلما توفى ، رأى عمر رضي‌الله‌عنه ، أن الإسلام قد ضرب بجرانه ، فدفعه إلى أهله ، أو إلى عصبة من مات منهم.

ولما فرغ خالد من بزاخة وبنى عامر ومن يليهم ، أظهر أن أبا بكر عهد إليه أن يسير إلى أرض بنى تميم وإلى اليمامة ، فقال ثابت بن قيس بن شماس ، وهو على الأنصار ، وخالد على جماعة المسلمين : ما عهد إلينا ذلك ، وما نحن بسائرين ، وليست بنا قوة ، وقد كلّ المسلمون ، وعجف كراعهم. فقال خالد : أما أنا فلست بمستكره أحدا منكم ، فإن شئتم فسيروا ، وإن شئتم فأقيموا ، فسار خالد ومن تبعه من المهاجرين وأبناء العرب ، عامدا لأرض بنى تميم ، واليمامة ، وأقامت الأنصار يوما أو يومين ، ثم تلاومت فيما بينها ، وقالوا : والله ما صنعنا شيئا ، والله لئن أصيب القوم ليتولن : أخذلتموهم وأسلمتموهم ، وإنها لسبة باق عارها آخر الدهر ، ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا ، إنه لخير منعتموه ، فابعثوا إلى خالد يقيم لكم حتى تلحقوه ، فبعثوا إليه مسعود بن سنان ، ويقال : ثعلبة بن غنمة ، فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه ، فاستقبلهم فى كثرة من معه من المسلمين ، لما أطلوا على العسكر حتى نزلوا ، وساروا جميعا حتى انتهى خالد بهم إلى البطاح من أرض بنى تميم ، فلم يجد بها جمعا ، ففرق السرايا فى نواحيها ، وكان فى سرية منها أبو قتادة الأنصاري.

قال : فلقينا رجل ، فقلنا : ممن أنت؟ قال : من بنى حنظلة ، فقلنا : أين من يمنع الصدقة منا الآن؟ قال : هم بمكان كذا وكذا ، فقلت : كم بيننا؟ قال : مائة ، فانطلقنا سراعا حتى أتيناهم حين طلعت الشمس ، ففزعوا حين رأونا ، وأخذوا السلاح ، وقالوا : من أنتم؟ قلنا : نحن عباد الله المسلمون ، قالوا : ونحن عباد الله المسلمون ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، فيهم مالك بن نويرة ، قلنا : فضعوا السلاح واستسلموا ، ففعلوا ، فأخذناهم ، فجئنا بهم خالدا. وذكر من خبرهم ما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.

وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدقا إلى قومه بنى حنظلة ، وكان سيدهم ، فجمع صدقاتهم ، فلما بلغته وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جفل إبل الصدقة ، أى ردها من حيث


جاءت ، فلذلك سمى الجفول ، وجمع قومه ، فقال : إن هذا الرجل قد هلك ، فإن قام قائم من قريش بعد نجتمع عليه جميعا ، إن رضى منكم أن تدخلوا فى أمره ، ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبدا ، ولم تكونوا أعطيتم الناس أموالكم ، فأنتم أولى بها وأحق ، فتسارع إليه جمهور قومه وفرحوا بذلك ، فقام ابن قعنب ، وكان سيد بنى يربوع ، فقال : يا بنى تميم ، بئس ما ظننتم ، أن ترجعوا فى صدقاتكم ولا يرجع الله فى نعمه عليكم ، وأن تجردوا للبلاء ويلبسكم الله العافية ، وأن تستشعروا خوف الكفر ، وأن تسكنوا فى أمن الإسلام ، إنكم أعطيتم قليلا من كثير ، والله مذهب الكثير بالقليل ومسلط على أموالكم غدا من لا يأخذها على الرضى ولا يخيركم فى الصدقة ، وإن منعتموها قتلتم ، فأطيعوا الله واعصوا مالكا.

فقام مالك ، فقال : يا معشر بنى تميم ، إنما رددت عليكم أموالكم إكراما لكم ، وبقيا عليكم ، وإنه لا يزال يقوم قائم منكم يخطئنى فى ردها عليكم ويخطئكم فى أخذها ، فما أغنانى عما يضرنى ولا ينفعكم ، فو الله ما أنا بأحرصكم على المال ، ولا بأجزعكم من الموت ، ولا بأخفاكم شخصا إن أقمت ، ولا بأخفكم رحلة إن هربت ، فترضاه عند ذلك بنو حنظلة ، وأسندوا إليه أمرهم ، وقالوا : حربنا حربك وسلمنا سلمك ، فأخذوا أموالهم ، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم ، وقال فى ذلك مالك :

وقال رجال سدد اليوم مالك

وقال رجال مالك لم يسدد

فقلت دعونى لا أبا لأبيكم

فلم أخط رأيا فى المعاد ولا البد

وقلت خذوا أموالكم غير خائف

ولا ناظر فيما يجىء به غد

فدونكموها إنها صدقاتكم

مصررة أخلافها لم تحرد

سأجعل نفسى دون ما تحذرونه

وأرهنكم يوما بما قلته يدى

فإن قام بالأمر المخوف قائم

أطعنا وقلنا الدين دين محمد

ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك ، وعاهد الله خالد بن الوليد لئن أخذه ليقتلنه ، ثم ليجعلن هامته أثفية للقدر ، فلما أتى به أسيرا فى نفر من قومه ، أخذوا معه كما تقدم.

اختلف فيه الذين أخذوهم ، فقال بعضهم : قد والله أسلموا ، فما لنا عليهم من سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الأنصاري ، وكان معهم فى تلك السرية ، وقالوا : إنا قد أذنا فأذنوا ، ثم أقمنا فأقاموا ، ثم صلينا فصلوا.


وكان من عهد أبى بكر إلى خالد أن : أيما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما ذا نقموا وما ذا يبغون ، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان ، فشنوا عليها الغارة ، فاقتلوا وحرقوا.

وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا ، وأنهم لم يسمعوهم كبروا ولا أذنوا ، وأن قتلهم وسبيهم حلال ، وكان ذلك رأى خالد فيهم.

قال أبو قتادة : فجئته فقلت : أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال : نعم ، قلت : والله ما يحل لك قتلهم ، ولقد اتقونا بالإسلام ، فما عليهم من سبيل ، ولا أتابعك على قتلهم ، فأمر بهم خالد فقتلوا.

قال أبو قتادة : فتسرعت حتى قدمت على أبى بكر ، فأخبرته الخبر ، وعظمت عليه الشأن ، فاشتد فى ذلك عمر ، وقال : ارجم خالدا ، فإنه قد استحل ذلك ، فقال أبو بكر:والله لا أفعل ، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأه.

وذكر يعقوب بن محمد الزهرى والواقدى فى مقتل مالك بن نويرة روايات غير ما تقدم ، استغنى عن إيرادها بما ذكر هنا. وفى بعض ذلك أن خالدا أمر برأسه فجعل أثفية لقدر حسب ما تقدم من نذره ذلك ، وكان من أكثر الناس شعرا ، فكانت القدر على رأسه ، فراحوا وإن شعره ليدخن وما خلصت النار إلى شواة رأسه.

وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة مع ما شهد له به أبو قتادة وغيره ، فاعتذر إليه خالد ، وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله ، فعذره أبو بكر وقبل منه.

ورثا متمم بن نويرة (١) أخاه مالكا بقصائد كثيرة منها قصيدته المشهورة المتخيرة فى مراثى العرب التي يقول فيها (٢) :

وكنا كندمانى جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلما تفرقنا كأنى ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه‌الله ، قال لمتمم بن نويرة : لوددت أنى رثيت أخى زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك ، وكان زيد أصيب يوم اليمامة ، فقال له متمم : يا أبا

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٤١) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٧٣٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٦٦٦).

(٢) انظر الأبيات فى ديوانه ص (١١).


حفص ، والله لو علمت أن أخى صار حيث صار أخوك ما رثيته ، فقال عمر : ما عزانى أحد عن أخى بمثل تعزيته.

قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة (١)

عن رافع بن خديج قال : قدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفود العرب ، فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فى قلوبهم من بنى حنيفة.

وقد تقدم ذكر قدوم مسيلمة فى قومه ، وأنه ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أما أنه ليس بشركم مكانا ، لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه فى رحالهم حافظا لها» (٢).

ويروى من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر له مسيلمة ، قال عند ما قدم فى قومه : لو جعل لى محمد الخلافة من بعده لاتبعته ، فجاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معه ثابت بن قيس بن شماس ، وفى يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ميتخة من نخل فوقف عليه ، ثم قال : «لئن أقبلت ليفعلن الله بك ، ولئن أدبرت ليقطعن الله دابرك ، وما أراك إلا الذي رأيت فيه ما رأيت ، ولئن سألتنى هذه الشظية ، لشظية من الميتخة التي فى يده ، ما أعطيتكها ، وهذا ثابت يجيبك».

قال ابن عباس : فسألت أبا هريرة عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أراك إلا الذي رأيت فيه ما رأيت ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «بينا أنا نائم ، رأيت فى يدى سوارين من ذهب ، فنفختهما فطارا ، فوقع أحدهما باليمامة ، والآخر باليمن ، قيل : ما أولتهما يا رسول الله؟ قال : أولتهما كذابين يخرجان من بعدى» (٣).

ولما انصرف فى قومه إلى اليمامة ، ارتد عدو الله ، وادعى الشركة فى النبوة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال للوفد الذين كانوا معه : «ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له : أما أنه ليس بشركم مكانا ، ما ذاك إلا لما علم أنى أشركت فى الأمر معه» ، وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون.

__________________

(١) راجع : المنتظم (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٨٠ ـ ٢٨١).

(٢) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦٩١) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ٣١٧).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٢١٧ ، ٩ / ٥٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٥٠) ، فتح البارى لابن حجر (١٢ / ٤٢٠).


وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرءا كتابه : «فما تقولان أنتما؟» قالا : نقول كما قال ، فقال : «أما والله لو لا أن الرسل ما تقتل لضربت أعناقكما» ، ثم كتب إلى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين (١)».

قال ابن إسحاق : وكان ذلك فى آخر سنة عشر ، وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حجة الوداع ، ووقوعه فى المرض الذي توفاه الله فيه ، فالله تعالى أعلم.

وجد بعدو الله ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصفقت معه حنيفة على ذلك ، إلا أفدادا من ذوى عقولهم ، ومن أراد الله به الخير منهم ، وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إياه فى الأمر ، وكان من قصة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ القرآن وتعلم السنن.

قال ابن عمر : وكان من أفضل الوفد عندنا ، قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يأتى أبيا يقرئه فقدم اليمامة ، وشهد لمسيلمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه أشركه فى الأمر من بعده ، فكان أعظم أهل اليمامة فتنة من غيره ، لما كان يعرف به.

وقال رافع بن خديج : كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما نرى شيء عجيب ، خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوما وهو معنا جالس مع نفر ، فقال : «أحد هؤلاء النفر فى النار» (٢). قال رافع : فنظرت فى اليوم ، فإذا بأبى هريرة وأبى أروى الدوسى وطفيل بن عمرو الدوسى ، والرجال بن عنفوة ، فجعلت أنظر وأعجب ، وأقول : من هذا الشقى؟ فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجعت بنو حنيفة ، فسألت : ما فعل الرجال؟ قالوا : افتتن ، هو الذي شهد لمسيلمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه أشركه فى الأمر من بعده ، فقلت : ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو حق.

قالوا : وسمع الرجال يقول : كبشان انتطحا ، فأحبهما إلينا كبشنا. وكان ابن عمير اليشكرى من سراة أهل اليمامة وأشرافهم ، وكان مسلما يكتم إسلامه ، وكان صديقا

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٨٤) ، مسند أبى حنيفة (١٨٠).

(٢) انظر الحديث فى : معجم الطبرانى الكبير (٤ / ٣٣٨) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٢٩٠).


للرجال ، فقال شعرا فشا فى اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبى ينشدونه ، فقال :

يا سعاد الفؤاد بنت أثال

طال ليلى بفتنة الرجال

إنها يا سعاد من حديث الده

ر عليكم كفتنة الرجال

فتن القوم بالشهادة والل

ه عزيز ذو قوة ومحال

لا يساوى الذي يقول من الأم

ر قبالا وما احتذى من قبال

إن دينى دين النبيّ وفى القو

م رجال على الهدى أمثالى

أهلك القوم محكم بن طفيل

ورجال ليسوا لنا برجال

بزهم أمرهم مسيلمة اليو

م فلن يرجعوه أخرى الليالى

قلت للنفس إذ تعاظمها الصب

ر وساءت مقالة الأقوال

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

إن تكن ميتتى على فطرة الل

ه حنيفا فإننى لا أبالى

فبلغ ذلك مسيلمة ، ومحكما ، وأشراف أهل اليمامة ، فطلبوه ، ففاتهم ، ولحق بخالد بن الوليد ، فأخبره بحال أهل اليمامة ، ودله على عوراتهم ، وقالوا : إن رجلا من بنى حنيفة كان أسلم ، وأقام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحسن إسلامه ، فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى مسيلمة ليقدم به عليه ، وقال الحنفى : إن أجاب أحدا من الناس أجابنى ، وعسى أن يجيبه الله ، فخرج حتى أتاه ، فقال : إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه ، فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى ، ورفق له ، وجعل يأتيه خاليا ، فيلقى هذا القول إليه ، فلما أكثر عليه قال : انظر فى ذلك ، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه ، فقالوا : لا تفعل ، إن قدمت عليه قتلك ، ألم تسمع كلامه وما قال.

فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث معه رجلين ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفى ، فخرج الرسولان حتى قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع رسوله ، فتشهد أحدهما برسول الله وحده ، ثم كلمه بما بدا له ، فلما قضى كلامه تشهد الآخر ، فذكر رسول الله وذكر مسيلمة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت ، خذوا هذا فاقتلوه» ، فثار المسلمون إليه يلببونه ، وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول : يا رسول الله ، اعف عنه ، بأبى أنت وأمى ، فيجاذبه إياه المسلمون ، فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، وأسلم هو وصاحبه ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجا فقدما على أهليهما باليمامة ، وقد فتن الذي أمسك بحجزة صاحبه ذلك ، فقتل مع مسيلمة ، وثبت الممسك بحجزته ، وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بنى حنيفة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسوله


إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لو لا أن الرجال نهاه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقتله الله ، ويقتل الرجال معه ، ففعل الله ذلك بهما ، وأنجز وعده فيهما.

واستضاف مسيلمة إلى ضلاله فى دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح ، وكانت امرأة من بنى تميم ، أجمع قومها أنها نبية ، فادعت الوحى ، واتخذت مؤذنا وحاجبا ومنبرا ، فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول : الملك فى أقربنا من سجاح ، وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة :

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة ، وأخرجت معها من قومها من تابعها على قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة ، فلما قدمت عليه خلا بها ، وقال لها : تعالى نتدارس النبوة ، أينا أحق؟ فقالت سجاح : قد أنصفت ، وفى الخبر بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره.

وقد قيل إن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطئ خالد العرب ورأت أنه لا أحد أعز لها منه ، وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعى أن يؤذن بنبوة مسيلمة ، فكان يفعل ، فلما قدمت على مسيلمة قالت : اخترتك على من سواك ونوهت باسمك ، حتى إن مؤذنى ليؤذن بنبوتك ، فخلا بها ليتدارسا النبوة.

ولما قتل مسيلمة ، أخذ خالد بن الوليد سجاح ، فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه ، ولحقت بقومها.

وعظمت فتنة بنى حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم ، ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم. جاءه قوم بمولود ، فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له ، وجاءه آخر ، فقال : يا أبا ثمامة ، إنى ذو مال ، وليس لى مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود ، وهو ابن عشر سنين ، ولى مولود ولد أمس ، فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره ، فقال : سأطلب لك الذي طلبت ، فجعل عمر المولود أربعين سنة ، فرجع الرجل إلى منزله مسرورا ، فوجد الأكبر قد تردى فى بئر ، ووجد الصغير ينزع فى الموت ، فلم يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا ، تقول أمهما : فلا والله ما لأبى ثمامة عند إلهه مثل منزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا : وحفرت بنو حنيفة بئرا ، فأعذبوها نتاحا ، فجاءوا إلى مسيلمة ، فطلبوا إليه أن يأتيها ، وأن يبارك فيها ، فأتاها ، فبصق فيها ، فعادت أجاجا.


وكان أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، قد عاهد خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة ، وأكد عليه فى ذلك ، فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم ، فقال لهم : بيعتى إياكم وأمانى لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ، فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن ، فليبلغ شاهدكم غائبكم ، ولا تقدموا على ، اجعلوا وجوهكم إلى خالد.

قال أبو بكر بن أبى الجهم : أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات ، وكانوا على المسلمين بلاء.

وقال شريك الفزارى : كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن ، فرزق الله الإنابة ، فجئت أبا بكر ، فأمرنى بالمسير إلى خالد ، وكتب معى إليه : أما بعد ، فقد جاءنى كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة ، وما فعلت بأسد وغطفان ، وإنك سائر إلى اليمامة ، وذلك عهدى إليك ، فاتق الله وحده لا شريك له ، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين ، كن لهم كالوالد ، وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بنى المغيرة ، فإنى قد عصيت فيك من لم أعصه فى شيء قط ، فانظر بنى حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله ، فإنك لم تلق قوما يشبهون بنى حنيفة كلهم عليك ، ولهم بلاد واسعة ، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك ، واجعل على ميمنتك رجلا وعلى ميسرتك رجلا ، واجعل على خيلك رجلا ، واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من المهاجرين والأنصار ، واعرف لهم فضلهم ، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم ، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها ، فالسهم للسهم ، والرمح للرمح ، والسيف للسيف ، فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل ، فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم ، اجهز على جريحهم ، واطلب مدبرهم ، واحمل أسيرهم على السيف ، وهول فيهم القتل ، واحرقهم بالنار ، وإياك أن تخالف أمرى ، والسلام عليك.

فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه ، وقال : سمع وطاعة.

ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذي صنع الله له فى أمثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم ، وهم أن يرجع إلى الإسلام ، فبات يتلوى على فراشه ، وهو يقول :

أرى الركبان تخبر ما كرهنا

أكل الركب يكذب ما يقول


ألا لا ليس كلهم كذوبا

وقد كذبوا وكذبهم قليل

وقد صدقوا لهم منا ومنهم

لنا إن حاربوا يوم طويل

فقل لابن الوليد وللمنايا

على السراء والضراء دليل

أيقطع بيننا حبلا وصال

فليس إليهما أبدا سبيل

وما فى الحرب أعظم من جريح

وعان خر بينهما قتيل

فلما سمع القوم كلامه ، عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم ، وفرح بذلك منه مسيلمة ، وكان محكم سيد أهل اليمامة ، وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الأنصار ، فقال له خالد فى بعض الطريق : لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به ، فإنه سيد أهل اليمامة ، وطاعة القوم له ، فبعث إليه مع راكب ، ويقال : بل بعث بها إليه حسان بن ثابت من المدينة :

يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم

لله در أبيكم حية الوادى

يا محكم بن طفيل إنكم نفر

كالشاء أسلمها الراعى لآساد

ما فى مسيلمة الكذاب من عوض

من دار قوم وإخوان وأولاد

فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة

تنعى فوارس شاخ شجوها بادى

لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا

تحت العجاجة مثل الأغضف العاد

ويل اليمامة ويلا لا فراق له

إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد

والله لا تنثنى عنكم أعنتها

حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد

ووردت على محكم ، وقيل له : هذا خالد بن الوليد فى المسلمين ، فقال : رضى خالد أمرا ورضينا غيره ، وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من قد أشرك فى الأمر ، فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى ، ثم خطب أهل اليمامة فقال : يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم ، فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم ، فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد بذباب السيف ، فكانوا كالنعام الشارد ، وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع ، وقال : هل حنيفة إلا كمن لقينا.

وكان عمير بن ضابئ اليشكرى فى أصحاب خالد ، وكان من سادات اليمامة ، ولم يكن من أهل حجر ، كان من أهل ملمم ، وهى لبنى يشكر ، فقال له خالد : تقدم إلى قومك ، فاكسرهم ، فأتاهم ، ولم يكونوا علموا بإسلامه ، وكان مجتهدا فارسا سيدا ، فقال : يا معشر أهل اليمامة ، أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار ، تركت القوم يتتابعون


إلى فتح اليمامة ، قد قضوا وطرا من أسد وغطفان وعليا وهوازن ، وأنتم فى أكفهم ، وقولهم : لا قوة إلا بالله ، إنى رأيت أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر ، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت ، وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد ، لستم والقوم سواء ، الإسلام مقبل ، والشرك مدبر ، وصاحبهم نبى ، وصاحبكم كذاب ، ومعهم السرور ، ومعكم الغرور ، فالآن والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا.

فكذبوه واتهموه ، فرجع عنهم ، وقام ثمامة بن أثال الحنفى (١) فى بنى حنيفة ، فقال : اسمعوا منى وأطيعوا أمرى ترشدوا ، إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نبى بعده ، ولا نبى مرسل معه ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ، ٣].

هذا كلام الله عزوجل ، أين هذا من : يا ضفدع نقى كم تنقين ، لا الشرب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل ، وقد استحق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمرا أذكره به ، مر بى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا على دين قومى ، فأردت قتله ، فحال بينى وبينه عمير ، وكان موفقا ، فأهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دمى ، ثم خرجت معتمرا ، فبينا أنا أسير قد أظللت على المدينة أخذتنى رسله فى غير عهد ولا ذمة ، فعفا عن دمى وأسلمت ، فأذن لى فى الخروج إلى بيت الله ، وقلت : يا رسول الله ، إن بنى قشير قتلوا أثالا فى الجاهلية ، فأذن لى أغزهم ، فغزوتهم ، وبعثت إليه بالخمس ، فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو أفقههم فى أنفسهم ، لا تأخذه فى الله لومة لائم ، ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا اسم أبيه ، يقال له : سيف الله ، معه سيوف لله كثيرة ، فانظروا فى أمركم (٢) ، فآذاه القوم جميعا ، أو من آذاه منهم ، فقال ثمامة :

مسيلمة ارجع ولا تمحك

فإنك فى الأمر لم تشرك

كذبت على الله فى وحيه

فكان هواك هوى الأنوك

ومناك قومك أن يمنعوك

وإن يأتهم خالد تترك

فما لك من مصعد فى السماء

ولا لك فى الأرض من مسلك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٨٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٦٣) ، الوافى بالوفيات (١١ / ٢١٩) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٦٩).

(٢) راجع ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب فى قصة ثمامة الترجمة رقم (٢٨٢).


ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح (١)

قالوا : ولما سار خالد بن الوليد من البطاح ، ووقع فى أرض بنى تميم ، قدم أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى ، وبعث معه فرات بن حيان العجلى دليلا ، وقدم عينين له أمامه ، مكنف بن زيد الخيل الطائى ، وأخاه.

وذكر الواقدى : أن خالدا لما نزل العارض ، قدم مائتى فارس ، وقال : من أصبتم من الناس فخذوه ، فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاثة وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما ، فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد ، فسألوهم : ممن أنتم؟ قالوا : من بنى حنيفة ، فظن المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد ، فلما أصبحوا وتلاحق الناس ، جاءوا بهم إلى خالد ، فلما رآهم ظن أيضا ، أنهم رسل من مسيلمة ، فقال : ما تقولون يا بنى حنيفة فى صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لمجاعة : ما تقول أنت؟ فقال : والله ما خرجت إلا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينا دما ، وما كنت أقرب مسيلمة ، ولقد قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلمت ، وما غيرت ولا بدلت ، فقدم القوم ، فضرب أعناقهم على دم واحد ، حتى إذا بقى سارية بن مسيلمة بن عامر قال : يا خالد ، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاستبق هذا ، يعنى مجاعة (٢) ، فإنه لك عون على حربك وسلمك.

وكان مجاعة شريفا ، فلم يقتله ، وأعجب بسارية وكلامه ، فتركه أيضا ، وأمر بهما فأوثقا فى جوامع حديد ، وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه ، ومجاعة يظن أن خالدا يقتله ، فبينما هما يتحدثان ، قال له : يا ابن المغيرة ، إن لى إسلاما ، والله ما كفرت ، ولقد قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت من عنده مسلما ، وما خرجت لقتال ، وأعاد ذكر خروجه فى طلب النميرى ، فقال خالد : إن بين القتل والترك منزلة ، وهى الحبس حتى يقضى الله فى حربنا ما هو قاض ، ودفعه إلى أم متمم امرأته التي تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن إساره ، فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه ، فقال : يا خالد ، إنه من خاف يومك خاف غدك ، ومن

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٧٨ ـ ٧٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٧٦) ، الأغانى (١٥ / ٢٢٩ ـ ٣٠٢).

(٢) هو : مجاعة بن مرارة اليمامى. انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٤٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٧٣٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٩٧١) ، تهذيب الكمال (٣ / ١٣٠٤) ، تقريب التهذيب (٢ / ٢٢٩) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٥١).


رجاك رجاهما ، ولقد خفتك ورجوتك ، ولقد علمت أنى قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبايعته على الإسلام ، ثم رجعت إلى قومى ، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس ، فإن يكن كذاب خرج فينا ، فإن الله يقول : (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨].

وقد عجلت فى قتل أصحابى قبل التأنى بهم ، والخطأ مع العجلة ، فقال خالد : يا مجاعة ، تركت اليوم ما كنت عليه أمس ، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ، وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة ، وقد بلغك مسيرى ، إقرارا له ، ورضى بما جاء به ، فهلا أبليت عذرا ، فتكلمت فيمن تكلم ، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر ، وقد تكلم اليشكرى ، فإن قلت أخاف قومى ، فهلا عمدت إلىّ تريد لقائى ، أو كتبت إلىّ كتابا أو بعثت إلىّ رسولا ، وأنت تعلم أنى قد أوقعت بأهل بزاخة ، وزحفت بالجيوش إليك. فقال مجاعة : إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله فعلت. فقال خالد : قد عفوت عن دمك ، ولكن فى نفسى من تركك حوجا بعد ، فقال مجاعة : أما إذا عفوت عن دمى فلا أبالى.

وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه ، فقال له ذات يوم : أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة ، ما الذي يقرأ عليكم؟ هل تحفظ منه شيئا؟ قال:نعم ، فذكر له شيئا من رجزه ، قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى : يا معشر المسلمين ، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن ، ثم قال : ويحك يا مجاعة ، أراك رجلا سيدا عاقلا ، اسمع إلى كتاب الله عزوجل ، ثم انظر كيف عارضه عدو الله ، فقرأ عليه خالد : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، فقال مجاعة : أما إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب ، أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له فى القرب عنده أحد ، فكان يخرج إلينا فيقول : يا أهل اليمامة ، صاحبكم والله كذاب ، وما أظنكم تتهموننى عليه ، إنكم لترون منزلتى عنده ، وحالى ، هو والله يكذبكم ويأتيكم بالباطل.

قال خالد : فما فعل ذلك البحرانى؟ قال : هرب منه ، كان لا يزال يقول هذا القول حتى بلغه ، فخافه على نفسه ، فهرب ، فلحق بالبحرين ، قال خالد : فما كان فى هذا ناه ولا زاجر ، ثم قال : هات زدنا من كذب الخبيث ، فقال مجاعة : أخرج لكم حنطة وزؤانا ، ورطبا وتمراتا ، فى رجز له ، فقال خالد : وهذا كان عندكم حقا؟ وكنتم تصدقونه؟ قال مجاعة : لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل ، قال خالد : إذا يكفيناهم الله ويعز دينه ، فإياه تقاتلون ودينه تريدون.


وفى كتاب الأموى : ثم مضى خالد حتى نزل منزله من اليمامة ، ببعض أوديتها ، وخرج الناس مع مسيلمة.

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن ينزل عقرباء (١) ، دفع الطلائع أمامه ، فرجعوا إليه ، فخبروه أن مسيلمة ومن معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء ، فشاور أصحابه أن يمضى إلى اليمامة ، أو ينتهى إلى عقرباء ، فأجمعوا له أن ينتهى إلى عقرباء ، فزحف خالد بالمسلمين حتى نزلوا عقرباء ، وضرب عسكره.

وقد قيل : إن خالدا هو الذي سبق إلى عقرباء ، فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب عسكره (٢). ويقال : توافيا إليها جميعا.

قالوا : وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة ، فإذا الرجال على مقدمة مسيلمة ، فلعنوه وشتموه ، فلما فرغ خالد من ضرب عسكره ، وحنيفة تسوى صفوفها ، نهض خالد إلى صفوفه فصفها ، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب ، ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس ، فتقدم بها ، وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعلى ميسرته شجاع بن وهب ، واستعمل على الخيل البراء بن مالك ، ثم عزله واستعمل عليها أسامة بن زيد ، وأمر بسرير فوضع فى فسطاطه ، واضطجع عليه يتحدث مع مجاعة ، ومعه أم متمم وأشراف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتحدث معهم ، وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف ، فلم تزل مسللة وهم يسيرون نهارا طويلا ، فقال خالد : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، فقد كفاكم الله عدوكم ، ما سلوا السيوف من بعيد إلا ليرهبونا ، وإن هذا منهم لجبن وفشل ، فقال مجاعة ونظر إليهم : كلا والله يا أبا سليمان ، ولكنها الهندوانية ، خشوا من تحطمها ، وهى غداة باردة ، فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها.

فلما دنوا من المسلمين نادوا : إنا نعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها ، والله ما سللناها ترهيبا لكم ولا جبنا عنكم ، ولكنها كانت الهندوانية ، وكانت غداة باردة ، فخشينا تحطمها ، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم ، فسترون.

قال : فاقتتلوا قتالا شديدا ، وصبر الفريقان جميعا صبرا طويلا ، حتى كثرت القتلى والجراح فى الفريقين ، وكان أول قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بنى زعوراء ، قتله

__________________

(١) عقرباء : موضع بناحية اليمامة. انظر : الروض المعطار (٤١٩ ـ ٤٢٠) وذكر فيه هذا الخبر.

(٢) قال فى الفتوح (١ / ٣١) : سار خالد بن الوليد بالمسلمين حتى نزل بموضع يقال له : عقرباء من أرض اليمامة ، فضرب عسكره هناك ، وسار مسيلمة فى جميع بنى حنيفة حتى نزل حذاء خالد.


محكم بن الطفيل ، واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلا ، وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين ، والمشركون عسكر المسلمين مرارا ، وإذا أجلى المسلمون عن عسكرهم فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة ، فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد ، ولأنه لا تزال تناوشهم خيل المسلمين ، فإذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه ، وقالوا : اقتلوا عدو الله ، فإنه رأسهم ، وأنهم إن دخلوا عليه أخرجوه ، فإذا أشهروا عليه سيوفهم ليقتلوه ، حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردتهم عنه ، وقالت : إنى له جار ، حتى أجارته منهم ، وكان مجاعة أيضا ، قد أجارها من المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه.

وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه إليها خالد لتحسن إساره : يا أم متمم ، هل لك أن أحلفك ، إن غلب أصحابى كنت لك جارا ، وأنت كذلك؟ فقالت : نعم ، فتحالفا على ذلك.

وقال عكرمة : حملت حنيفة أول مرة كانت لها الحملة ، وخالد على سريره حتى خلص إليه ، فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقا ، حتى ردهم ، وقتل منهم قتلى كثيرة ، ثم كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد ، فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف.

قال الواقدى : وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط ، أراد قتل أم متمم ، ورفع السيف عليها ، فاستجارت بمجاعة ، فألقى عليها رداءه ، وقال : إنى جار لها فنعمت الحرة كانت ، وعيرهم وسبهم (١) ، وقال : تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها ، عليكم بالرجال ، فانصرفوا ، وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول ، وكانت معه راية الأنصار : بئس ما عودتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين.

وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرحال ، فجعل زيد بن الخطاب ينادى ، وكانت عنده راية خالد : أما الرحال فلا رحال ، وأما الرجال فلا رجال ، اللهم إنى اعتذر إليك من فرار أصحابى ، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ، ومحكم بن طفيل ، وجعل يشتد بالراية ، يتقدم بها فى نحر العدو ، ثم ضارب بسيفه حتى قتل ، رحمه‌الله ، فلما قتل وقعت الراية ، فأخذها سالم مولى أبى حذيفة ، فقال المسلمون : يا سالم ، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك ، فقال : بئس حامل القرآن أنا إذا إن أتيتم من قبلى.

قالوا : ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم : الزمها ، فإنما ملاك القوم الراية.

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨١).


فتقدم سالم مولى أبى حذيفة ، فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه ، ومعه راية المهاجرين ، وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك (١) ، ثم لزما رايتيهما ، ولقد كان الناس يتفرقون فى كل وجه ، وإن سالما وثابتا لقائمان برايتيهما ، حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه ، رحمهما‌الله تعالى ، فوجد رأس أبى حذيفة عند رجلى سالم ، ورأس سالم عند رجلى أبى حذيفة ، لقرب مصرع كل واحد منهما من صاحبه ، فلما قتل سالم ، مكثت الراية ساعة لا يرفعها أحد ، فأقبل يزيد بن قيس ، وكان بدريا ، فحملها حتى قتل رحمه‌الله ، ثم حملها الحكم بن سعيد بن العاص ، فقاتل دونها نهارا طويلا ، ثم قتل رحمه‌الله.

قال وحشى (٢) : اقتتلنا قتالا شديدا ، فهزموا المسلمين ثلاث مرات ، وكر المسلمون فى الرابعة ، وتاب الله عليهم ، وثبت أقدامهم ، وصبروا لوقع السيوف ، واختلفت بينهم وبين بنى حنيفة السيوف ، حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها ، حتى سمعت لها أصواتا كالأجراس ، وأنزل الله تعالى ، علينا نصره ، وهزم الله بنى حنيفة ، وقتل الله مسيلمة.

قال : ولقد ضربت بسيفى يومئذ حتى غرى قائمه فى كفى من دمائهم.

وقال ابن عمر : لقد رأيت عمارا على صخرة قد أشرف ، يصيح : يا معشر المسلمين ، أمن الجنة تفرون ، أنا عمار بن ياسر ، هلموا إلىّ ، وأنا أنظر إلى أذنه تذبذب وقد قطعت. وقال سعد القرظ : لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة.

وقال شريك الفزارى : لما التقينا والقوم ، صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط ، ما تزول الأقدام فترى ، واختلفت السيوف بينهم ، وجعل يقبل أهل السوابق والنيات فيتقدمون ، فيقتلون ، حتى فنوا ، وذلقت فينا سيوفهم طويلا ، فانهزمنا ، فلقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات ، وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة ، التي ألجأناهم فيها إلى الحديقة ، يعنى حديقة الموت.

__________________

(١) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة ثابت رقم (٢٥٣) : لما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة ، فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة ، فثبتا وقاتلا حتى قتلا.

(٢) هو وحشى بن حرب الحبشى ، انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٧٦٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٩١٢٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٤٤٩) ، الثقات (٣ / ٤٣٠) ، الاستبصار (٨١) ، الإكمال (٧ / ٩٠) ، العقد الثمين (٧ / ٣٨٥) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٣٥٦) ، تاريخ الثقات (٤٦٤) ، الأنساب لابن السمعانى (١١ / ١١١ ، ١١٢).


وقال رافع بن خديج (١) : شهدنا اليمامة ، فكنا تسعين من النبيت ، فلاقينا عدوا صبرا لوقع السلاح ، وجماعة الناس أربعة آلاف ، وحنيفة مثل ذلك أو نحوه ، فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم ، فجعلت السيوف تختلى هام الرجال وأكفهم ، وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا منه ، فينا وفيهم ، إنى لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه منجل ، فيقيمه على ركبته ، فيعرض له رجل من بنى حنيفة ، فلما اختلفا ضربات ضربه عباد بن بشر على العاتق مستمكنا ، فو الله لرأيت سحره باديا ، ومضى عنه عباد ، ومررت بالحنفى وبه رمق ، فأجهزت عليه ، وأنظر بعد إلى عباد وقد اختلف السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بطنه ، فوقع وما أعلم به مصحا ، وكانوا حنقوا عليه لأنه أكثر القتل فيهم. قال : وحرضت على قتلته ، فناديت أصحابنا من النبيت ، فقمنا عليه ، وقتلنا قتلته ، فرأيتهم حوله مقتلين ، فقلت : بعدا لكم.

وقال ضمرة بن سعيد المازنى ، وذكر ردة بنى حنيفة : لم يلق المسلمون عدوا أشد لهم نكاية منهم ، لقوهم بالموت الناقع ، وبالسيوف قد أصلتوها قبل النبل ، وقبل الرماح ، وقد صبر المسلمون لهم ، فكان المعول يومئذ على أهل السوابق ، ونادى عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف ، قد قطع من الجراح ، وما هو إلا كالنمر الجرف ، فيلقى رجلا من بنى حنيفة كأنه جمل صئول ، فقال : هلم يا أخا الخزرج ، أتحسب قتالنا مثل من لاقيت ، فيعمد له عباد ، ويبدره الحنفى ، ويضربه ضربة بالسيف ، فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا ، وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينأ على ركبتيه ، فناداه : يا ابن الأكارم اجهز علىّ ، فكر عليه عباد ، فضرب عنقه ، ثم قام آخر فى ذلك المقام ، فاختلفا ضربات وتجاولا ، وعباد على ذلك كثير الجراح ، فضربه عباد ضربة أبدى سحره ، وقال : خذها وأنا ابن وقش ، ثم جاوزه يفرى فى بنى حنيفة ضربا فريا ، فكان يقال : قتل عباد يومئذ من بنى حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلا ، وأكثر فيهم الجراح.

قال ضمرة : فحدثنى رجل من بنى حنيفة قديم قال : إن حنيفة لتذكر عباد بن بشر ، فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول : هذا ضرب مجرب القوم ، عباد بن بشر.

وفى بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال : خرجنا من المدينة ونحن أربعة آلاف ، وأصحابنا من الأنصار ما بين خمسمائة إلى أربعمائة ، وعلى الأنصار ثابت بن

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧٢٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٥٣٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٥٨٠) ، تاريخ خليفة (٢٧١) ، طبقات خليفة (٧٩) ، شذرات الذهب (١ / ٨٢) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٤٠٠) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٤١).


قيس ، ويحمل رايتنا أبو لبابة ، فانتهينا إلى اليمامة ، فننتهى إلى قوم هم الذين قال الله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦].

فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها ، لم يلبثوا أن حملوا علينا ، فهزمونا مرارا ، فنعود إلى مصافنا وفيها خلل ، وذلك أن صفوفنا كان مختلطة ، فيها حشو كثير من الأعراب فى خلال صفوفنا ، فينهزم أولئك الناس فيستخفون أهل البصائر والنيات ، حتى كثر ذلك منهم ، ثم إن الله بمنه وفضله رزقنا عليهم الظفر ، وذلك أن ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد : أخلصنا ، فقال : ذلك إليك ، فناد فى أصحابك ، قال : فأخذ الراية ونادى : يا للأنصار ، فتسللت إليه رجلا رجلا ، فنادى خالد للمهاجرين ، فأحدقوا به ، ونادى عدى بن حاتم ، ومكنف بن زيد الخيل الطائى بطيئ ، فثابت إليهما طيئ ، وكانوا أهل بلاء حسن ، وعزلت الأعراب عنا ناحية ، فقاموا من ورائنا غلوة أو أكثر ، وإنما كنا نؤتى من الأعراب.

قال رافع : فانتهينا إلى جمعهم فصبروا وصبرنا صبرا لم ير مثله قط ، لم تزل الأقدام ، فذكرت بيتى قيس بن الحطيم :

إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا

صدود الخدود وازورار المناكب

صدود الخدود والقنا متشاجر

ولا تبرح الأقدام عند التضارب (١)

قال : واجهضهم أهل السوابق والبصائر ، فهم فى نحورهم ما يجد أحد مدخلا إلا أن يقتل رجل منهم ، أو يخرج فيقع ، فيخلف مقامه آخر ، حتى أوجعنا فيهم وبان خلل صفوفهم ، وضجوا من السيف ، ثم اقتحمنا الحديقة ، فضاربوا فيها ، وعلقنا الحديقة ، وأقمنا على بابها رجالا لئلا يهرب منهم أحد ، فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت ، فجدوا فى القتال ، ودكت السيوف بيننا وبينهم ، ما فيها رمى بسهم ولا حجر ولا طعن حتى قتلنا عدو الله مسيلمة ، فقيل لرافع : يا أبا عبد الله ، أى القتلى كان أكثر ، قتلاكم أو قتلاهم؟ قال : قتلاهم أكثر من قتلانا وأخبث ، أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرتين ، فقد قتل من الأنصار يومئذ زيادة على التسعين ، وجرح منهم مائتان ، ولقد لقينا بنى سليم بالجواء ، وأنهم لمجروحون ، فأبلوا بلاء حسنا.

وكان أبو خيثمة النجارى يقول : لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية ،

__________________

(١) انظر الأبيات فى : ديوانه ص (٤١) ، الخزانة للبغدادى (٣ / ١٦٥) ، الأشباه والنظائر للخالديين (٢٧ ، ٢٨).


وكأنى أنظر إلى أبى دجانة (١) يومئذ ما يولى ظهره منهزما ، وما هو إلا فى نحور القوم ، حتى قتل رحمه‌الله ، وكان يختال فى مشيته عند الحرب سجية ، ما يستطيع غير ذلك. قال : وكرت عليه طائفة من بنى حنيفة ، فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله ، فحمل على رجل فصرعه ، وما ينبس بكلمة ، حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم ، والمسلمون مولون ، وقد ابيض ما بينهم وبينه ، فما ترى إلا المهاجرين والأنصار ، لا والله ما أرى أحدا يخالطهم ، فقاموا ناحية ، وتلاحق الناس ، فدفعوا حنيفة دفعة واحدة ، فانتهينا بهم إلى الحديقة ، فأقحمناهم إياها.

قال أبو دجانة : ألقونى على الترسة حتى أشغلهم ، فكانوا قد أغلقوا الحديقة ، فأخذوه فألقوه على الترسة ، حتى وقع فى الحديقة ، وهو يقول : لا ينجيكم منا الفرار ، فضاربهم حتى فتحها ، ودخلنا عليه مقتولا رحمه‌الله.

وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة ، والأول أثبت.

وقال ثابت بن قيس ، يومئذ : يا معشر الأنصار ، الله الله ودينكم ، علمنا هؤلاء أمرا ما كنا نحسنه ، ثم أقبل على المسلمين ، فقال : أف لكم ولم تعملون ، ثم قال : خلوا بيننا وبينهم ، أخلصونا ، فأخلصت الأنصار ، فلم يكن لهم ناهية حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل ، فقتلوه ، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها ، فقاتلوا أشد القتال ، حتى اختلطوا فيها ، فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار ، وشعارهم : أمت أمت ، ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين : يا أصحاب سورة البقرة ، يقول رجل من طيئ : والله ما معى منها آية ، وإنما يريد ثابت : يا أهل القرآن.

وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ : لما زحف المسلمون ، انكشفوا أقبح الانكشاف ، حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم ، والناس أوزاع قد هدأ حسهم. وأشرت حنيفة وأظهروا البغى ، وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض ، ثم صاح بأعلى صوته : أنا عباد بن بشر ، يا للأنصار ، يا للأنصار ، ألا إلى ، ألا إلى ، فأقبلوا إليه جميعا ، وأجابوه : لبيك لبيك ، حتى توافوا عنده ، فقال : فداكم أبى وأمى ، حطموا جفون السيوف ، ثم حطم جفن سيفه ، فألقاه ، وحطمت الأنصار جفون سيوفهم ، ثم قال : حملة صادقة ، اتبعونى ، فخرج أمامهم حتى ساقوا حنيفة منهزمين ، حتى انتهوا بهم

__________________

(١) اسمه : سماك بن خرشة ، انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٩٦٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٨٦٦) ، معجم رجال الحديث (٢١ / ١٥١) ، تنقيح المقال (٣ / ١٥).


إلى الحديقة ، فأغلق عليهم ، فأوفى عباد بن بشر يشرف على الحديقة وهم فيها ، فقال للرماة : ارموا ، فرموا أهل الحديقة بالنبل حتى ألجئوهم أن اجتمعوا فى ناحية منها لا يطلع النبل عليهم ، ثم إن الله فتح الحديقة ، فاقتحم عليهم المسلمون ، فضاربوهم ساعة ، ثم أغلق عباد باب الحديقة لما كلّ أصحابه ، وكره أن تفر حنيفة ، وجعل يقول : اللهم إنى أبرأ إليك مما جاءت به حنيفة.

قال واقد بن عمرو : فحدثنى من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة ، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل ، رحمه‌الله.

وقال أبو سعيد الخدرى : سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة : يا أبا سعيد ، رأيت الليلة كأن السماء فرجت ، ثم أطبقت علىّ ، فهى إن شاء الله الشهادة ، قال : قلت : خيرا والله ، قال أبو سعيد : فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار ويقول : أخلصونا ، فأخلصوا أربعمائة رجل ، لا يخلطهم أحد ، يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر ، حتى انتهوا إلى باب الحديقة.

قال أبو سعيد : فرأيت بوجه عباد ، يعنى بعد قتله ، ضربا كثيرا ، وما عرفته إلا بعلامة كانت فى جسده.

وكان أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، لما انصرف إليه أسامة بن زيد من بعثه إلى الشام ، بعثه فى أربعمائة مددا لخالد بن الوليد ، فأدرك خالدا قبل أن يدخل اليمامة بثلاث ، فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك ، وأمر البراء أن يقاتل راجلا ، فاقتحم عن فرسه ، وكان راجلا لا رجلة به ، فلما انكشف الناس يوم اليمامة ، وانكشف أسامة بأصحاب الخيل ، صاح المسلمون : يا خالد ، ول البراء بن مالك ، فعزل أسامة ، ورد الخيل إلى البراء ، فقال له : اركب فى الخيل ، فقال البراء : وهل لنا من خيل؟ قد عزلتنى وفرقت الناس عنى ، فقال له خالد : ليس حين عتاب ، اركب أيها الرجل فى خيلك ، أما ترى ما لحم من الأمر ، فركب البراء فرسه ، وإن الخيل لأوزاع فى كل ناحية ، وما هى إلا الهزيمة ، فجعل يليح بسيفه وينادى : يا صحابة ، يا للأنصار ، يا للأنصار ، يا خيلاه ، يا خيلاه ، أنا البراء بن مالك ، فثابت إليه الخيل من كل ناحية ، وثابت إليه الأنصار ، فارسها وراجلها.

قال أبو سعيد الخدرى : فقال لنا : احملوا عليهم فداكم أبى وأمى ، حملة صادقة ، تريدون فيها الموت ، ثم أظهر التكبير ، وكبرنا معه ، فما كانت لنا ناهية إلا باب الحديقة ،


وقد غلقت دوننا ، وازدحمنا عليهم ، فلم نزل حتى فتح الله ، وظفرنا ، فله الحمد.

وقال عبد الله بن أبى بكر بن حزم : كان البراء فارسا ، وكان إذا حضرته الحرب أخذته رعدة ، وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا ، ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه نقاعة الحناء ، فلما رأى ما يصنع بالناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان يأخذه ، فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول : طرونى إلى الأرض ، فلما أفاق سرى عنه ، وهو مثل الأسد ، وهو يقول :

أسعدنى ربى على الأنصار

كانوا يدا طرا على الكفار

فى كل يوم ساطع الغبار

فاستبدلوا النجاة بالفرار

قال : وضرب بسيفه قدما ، حتى أفرجوا له ، وخاض غمرتهم ، وثابت إليه الأنصار كأنها النحل تأوى إلى يعسوبها ، وتلاومت الأنصار فيما صنعت.

وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول : شهدت عشرين زحفا ، فلم أر قوما أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بنى حنيفة يوم اليمامة ، أنّا لما فرغنا من طليحة الكذاب ، ولم تكن له شوكة ، قلت كلمة والبلاء موكل بالقول : وما حنيفة ، ما هى إلا كمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا ، لما انتهينا إلى عسكرهم نظرت إلى قوم قد قدموا أمام عسكرهم بشرا كثيرا ، فقلت : هذه مكيدة ، وإذا القوم لم يحفلوا بنا ، فعسكرنا منهم بمنظر العين ، فلما أمسيت حزرت القوم بنفسى ، فإذا القوم نحونا ، فبتنا فى عسكرنا ، وباتوا فى عسكرهم.

فلما طلع الفجر قام القوم إلى التعبئة ، وثرنا معهم فى غدوة باردة ، وصففت صفوفى ، وصفوا صفوفهم ، ثم أقبلوا إلينا يقطعون قطوا ، قد سلوا السيوف ، فكبرت ، ورأيت ذلك منهم فشلا ، فلما دنوا منا نادوا : أن هذا ليس بفشل ، ولكنها الهندوانية وخفنا التحطم عليها ، فما هو إلا أن واجهونا ، حملوا علينا حملة واحدة ، وانهزمت الأعراب ، ولا ذوا بين أضعاف الصفوف ، فانهزم معهم أهل النيات ، وأوجعت حنيفة فى أدباركم بالقتل ، وتقدمت أضرب بسيفى مرة يشتملون علىّ ، ومرة أنفذ منهم ، وكر المسلمون كرة ثانية ، فحملت بنو حنيفة أيضا ، حتى هزموا المسلمين ثلاث مرات. وإنما يهزم بالناس الأعراب.

فناديت فى المسلمين ، فذكرتهم الله ، وناديت فى المهاجرين والأنصار : الله الله ، الكرة على عدوكم ، فنادى أهل السوابق : أخلصونا ، فأخلصوا ، لا يخلطهم رجل ، فأخلص قوم قد ألح السيف عليهم ، وقتل من قتل منهم ، ومن بقى من أهل النيات منقطع من الجراح ،


ولكنا لم نجد المعول إلا عليهم ولا الصبر إلا عندهم ، فصفوا جميعا فى نحر العدو ، وجاءت الأعراب من خلفهم ، وذهبت حنيفة تطلب أن تهزمهم كما كانت تفعل ، فثبتوا على مصافهم لا تزول فترا ، واختلفت السيوف بينهم ، وصبر الفريقان جميعا ، وذهب الأعراب من ورائنا ، فحملنا عليهم حملة ، فما زادت حنيفة على أن رجعت القهقرى ما تولى الأدبار ، حتى وقفوا على باب الحديقة ، واختلفت السيوف بيننا وبينهم حتى نظرت إلى شهب النار ، وحتى صارت القتلى منا ومنهم ركاما ، وقد أغلقت الحديقة ، فدخل من رحمه‌الله فشغلهم عن الباب حتى دخلنا.

فإذا أهل السوابق قد وطئوا أنفسهم على الموت ، فما هو إلا أن عاينتهم حنيفة فى الحديقة ، فناديت أصحابى : عضوا على النواجذ ، لا أسمع شيئا إلا وقع الحديد بعضه على بعض ، فما كان شيء حتى قتل عدو الله ، فما ضرب أحد بعده من بنى حنيفة بسيف ، ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر ، ولقد رأيتنى فى الحديقة وعانقنى رجل منهم وأنا فارس وهو فارس ، فوقعنا عن فرسينا ، ثم تعانقنا بالأرض ، فأجؤه بخنجر فى سيفى ، وجعل يجؤنى بمعول فى سيفه ، فجرحنى سبع جراحات ، وقد جرحته جرحا أثبته ، فاسترخى فى يدى ، وما بى حركة من الجراح ، وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقنى بالأجل ، فالحمد لله على ذلك.

وحدث ضمرة بن سعيد : أنه خلص يومئذ إلى محكم بن طفيل وهو يقول : يا بنى حنيفة قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير رضيات ، وينكحن غير حظيات ، وما كان عندكم من حسب فأخرجوه ، فقد لحم الأمر ، واحتيج إلى ذلك منكم ، وجعل يقول : يا بنى حنيفة ادخلوا الحديقة ، سأمنع دابركم ، وجعل يرتجز :

لبئسما أوردنا مسيلمة

أورثنا من بعده أغيلمة

فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم ، ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر محكما بسهم فقتله ، فقام مكانه المعترض ابن عمه ، فقاتل ساعة حتى قتله الله.

وفى غير حديث ضمرة أن خالد بن الوليد هو الذي قتل محكما.

حدث الحارث بن الفضل ، قال : لما رأى محكم بن طفيل من قتل قومه ما رأى ، جعل يصيح : ادن يا أبا سليمان ، فقد جاءك الموت الناقع ، قد جاءك قوم لا يحسنون الفرار ، فبلغ خالدا كلمته وهو فى مؤخر الناس ، فأقبل يقول : هأنذا أبو سليمان ، وكشف المغفر عن وجهه ، ثم حمل على ناحية محكم يخوف بنى حنيفة ، فاقتحم عليه خالد ، فيضربه


ضربة أرعش منها ، ثم ثنى له بأخرى وهو يقول : خذها وأنا أبو سليمان ، فوقع ميتا ، وكان عبد الرحمن بن أبى بكر قد رماه بسهم قبل ذلك ، ومنهم من يقول : رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد ، ومنهم من يقول : لم يكن من سهم عبد الرحمن شيء.

وقاتلت حنيفة بعد قتل محكم بن طفيل أشد القتال ، وهم يقولون : لا بقاء بعد محكم ، وقال قائل : يا أبا ثمامة ، أين ما كنت وعدتنا؟ قال : أما الدين فلا دين ، ولكن قاتلوا عن أحسابكم ، فاستيقن القوم أنهم كانوا على غير شيء.

وقال وحشى : لما اختلط الناس فى الحديقة ، وأخذت السيوف بعضها بعضا ، نظرت إلى مسيلمة وما أعرفه ، ورجل من الأنصار يريده ، وأنا من ناحية أخرى أريده ، فهززت من حربتى حتى رضيت منها ، ثم دفعتها عليه ، وضربه الأنصاري ، فربك أعلم أينا قتله ، إلا أنى سمعت امرأة فوق الدير تقول : قتله العبد الحبشى.

وقال أبو الحويرث : ما رأيت أحدا يشك أن عبد الله بن زيد الأنصاري (١) ضرب مسيلمة وزرقه وحشى فقاتلاه جميعا (٢).

وذكر عمرو بن يحيى المازنى عن عبد الله بن زيد أنه كان يقول : أنا قتلته. وكان معاوية بن أبى سفيان يقول : أنا قتلته.

وكانت أم عبد الله بن زيد ، وهى أم عمارة ، نسيبة بنت كعب تقول : إن ابنها عبد الله هو الذي قتله. وكانت ممن شهد ذلك اليوم ، وقطعت فيه يدها ، وذلك أن ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عند ما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغ ذلك عمرا ، أقبل من عمان ، فسمع به مسيلمة ، فاعترض له ، فسبقه عمرو ، وكان حبيب ابن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمى فى الساقة ، فأصابهما مسيلمة ، فقال لهما : أتشهدان أنى رسول الله ، فقال الأسلمى : نعم ، فأمر به فحبس فى حديد ، وقال لحبيب : أتشهد أنى رسول الله ، فقال : لا أسمع ، فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله ، قال : نعم ،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٥٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٧٠٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٩٥٨) ، الوافى بالوفيات (١٧ / ٤٧) ، تهذيب التهذيب (٥ / ٢٢٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٤١٧) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٣٧٧).

(٢) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ٨٢) : أنه اشترك فى قتل مسيلمة رجلان : رجل من الأنصار ، ووحشى مولى جبير بن مطعم : وقال : وكان وحشى يقول : وقعت فيه حربتى وضربه الأنصاري والله يعلم أينا قتله. وكان يقول : قتلت خير الناس وشر الناس ، حمزة ومسيلمة ، وكانوا يقولون : قتله العبد الأسود ، فأما الأنصار فلا شك عندهم أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله.


فأمر به فقطع. وكلما قال له : أتشهد أنى رسول الله ، قال : لا أسمع ، فإذا قال له : أتشهد أن محمدا رسول الله ، قال : نعم ، حتى قطعه عضوا عضوا ، حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين ، ثم حرقه بالنار ، وهو كل ذلك لا ينزع عن قوله ، ولا يرجع عن ما بدأ به ، حتى مات فى النار ، رحمه‌الله.

فلما تهيأ بعث خالد بن الوليد إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فاستأذنته فى الخروج ، فقال لها أبو بكر : ما مثلك يحال بينه وبين الخروج ، قد عرفناك وعرفنا جزاءك فى الحرب ، فاخرجى على اسم الله.

قالت فيما حدث به عنها ابن ابنها عباد بن تميم بن زيد : فلما انتهوا إلى اليمامة ، واقتتلوا ، تداعت الأنصار : أخلصونا ، فأخلصوا ، فلما انتهينا إلى الحديقة ازدحمنا على الباب ، وأهل النجدة من عدونا فى الحديقة ، قد انحازوا ، يكونون فئة لمسيلمة ، فاقتحمنا فضاربناهم ساعة ، والله يا بنى ما رأيت أبذل لمهج أنفسهم منهم ، وجعلت أقصد لعدو الله مسيلمة لأن أراه ، وقد عاهدت الله لئن رأيته لا أكذب عنه أو أقتل دونه ، وجعلت الرجال تختلط ، والسيوف بينهم تختلف ، وخرص القوم ، فلا صوت إلا وقع السيوف ، حتى بصرت بعدو الله فأشد عليه ، ويعرض لى منهم رجل ، فضرب يدى فقطعها ، فو الله ما عرجت عليها حتى أنتهي إلى الخبيث وهو صريع ، وأجد ابنى عبد الله قد قتله.

وفى رواية : وابنى يمسح سيفه بثيابه ، فقلت : أقتلته؟ قال : نعم يا أمه ، فسجدت لله شكرا ، وقطع الله دابرهم ، فلما انقطعت الحرب ، ورجعت إلى منزلى ، جاءنى خالد بن الوليد بطبيب من العرب ، فداوانى بالزيت المغلى ، وكان والله أشد علىّ من القطع ، وكان خالد كثير التعاهد لى ، حسن الصحبة لنا ، يعرف لنا حقنا ، ويحفظ فينا وصية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عباد : فقلت : يا جدة ، كثرت الجراح فى المسلمين؟ فقالت : يا بنى ، لقد تحاجز الناس ، وقتل عدو الله ، وإن المسلمين لجرحى كلهم ، لقد رأيت بنى أبى مجرحين ، ما بهم حركة ، ولقد رأيت بنى مالك بن النجار بضعة عشر رجلا ، لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار.

ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، وما يصلى مع خالد بن الوليد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير من الجراح ، وذلك أنا أتينا من قبل العرب ، انهزموا بالمسلمين ، إلا أنى أعلم أن طيئا قد أبلت يومئذ بلاء حسنا ، لقد رأيت عدى بن حاتم يومئذ يصيح بهم : صبرا ، فداكم أبى وأمى لوقع الأسل ، وإن ابنى زيد الخيل يومئذ ليقاتلان قتالا شديدا.


وعن محمد بن يحيى بن حبارة ، قال : جرحت أم عمارة يعنى يوم اليمامة ، أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، وقطعت يدها سوى ذلك ، فرئى أبو بكر يأتيها يسأل عنها ، وهو يومئذ خليفة.

وقاتل كعب بن عجرة (١) يومئذ ، وانهزم الناس الهزيمة الآخرة ، وجاوزوا الرحال منهزمين ، فجعل يصيح : يا للأنصار ، يا للأنصار الله ورسوله ، حتى انتهى إلى محكم بن الطفيل ، فضربه محكم ، فقطع شماله ، فو الله ما عرج عليها كعب ، وأنه ليضرب بيمينه ، وإن شماله لتهراق الدماء ، حتى انتهى إلى الحديقة ، فدخل.

وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلى (٢) يصيح بالأوس : يا للأشهل ، فقال له ثابت ابن هذال : ناد يا للأنصار ، فإنه جماع لنا ولك ، فنادى : يا للأنصار ، يا للأنصار ، حتى اشتملت عليه حنيفة ، فانفرجت ، وتحته منهم اثنان قد قتلهما ، وقتل رحمه‌الله ، فخلفه فى مقامه عمير بن أوس ، فاشتملوا عليه حتى قتل ، رحمه‌الله.

وكان أبو عقيل الأزرقى ، حليف الأنصار ، بدرى من أول من خرج يوم اليمامة ، رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده ، فشطب فى غير مقتل ، فأخرج السهم ، ووهن شقه الأيسر ، وكانت فيه ، وهذا أول النهار وجرروه إلى الرحل ، فلما حمى القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم ، وأبو عقيل واهن من جرحه ، سمع معن بن عدى يصيح : يا للأنصار ، الله الله والكرة على عدوكم ، وأعنق معن بن عدى يقدم القوم ، وذلك حين صاحت الأنصار : أخلصونا ، فأخلصوا رجلا رجلا ، يتميزون.

قال أبو عمرو : ونهض أبو عقيل يريد قومه ، فقلت : ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال ، قال : قد نوه المنادى باسمى ، فقلت : إنما يقول : يا للأنصار ، لا يعنى الجرحى ، قال : فأنا رجل من الأنصار ، وأنا أجيب ولو جبنوا ، قال ابن عمر : فتحزم أبو عقيل ، فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا ، ثم جعل ينادى : يا للأنصار ، كرة كيوم حنين ، فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمين دريئة دون عدوهم ، حتى أقحموا عدوهم الحديقة ، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم ، فنظرت إلى أبى عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٢٢٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٤٣٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٤٧١) ، جمهرة أنساب العرب (٤٤٢) ، تهذيب الكمال (١١٤٦) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٣١٣) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٤٣٥) ، شذرات الذهب (١ / ٥٨).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٩١) ، الإصابة الترجمة رقم (١٣٦٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٨٤٠).


فوقعت إلى الأرض ، وبه أربعة عشر جرحا ، كلها قد خلصت إلى مقتل ، وقتل عدو الله مسيلمة.

قال ابن عمر : فوقفت على أبى عقيل وهو صريع بآخر رمق ، فقلت : يا أبا عقيل ، فقال لبيك بلسان ملتاث ، ثم قال : لمن الدبرة ، فقلت : أبشر ورفعت صوتى ، قد قتل عدو الله ، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله ، ومات ، رحمه‌الله.

قال ابن عمر : فأخبرت أبى بعد أن قدمت بخبره كله ، فقال : رحمه‌الله ، ما زال يسأل الشهادة ويطلبها ، وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقديمى إسلامهم.

وذكر مجاعة بن مرارة يوما ، معن بن عدى ، وكان نازلا به ليالى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة ، فلما قدم فى وفد اليمامة على أبى بكر ، توجه أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، يوما إلى قبور الشهداء زائرا لهم فى نفر من أصحابه يمشون ، قال : فخرجت معهم حتى أتوا قبور الشهداء السبعين يرحمهم‌الله ، فقلت : يا خليفة رسول الله ، لم أر قوما قط ، أصبر لوقع السيوف ، ولا أصدق كرة منهم ، لقد رأيت رجلا منهم يرحمهم‌الله ، وكانت بينى وبينه خلة ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : معن بن عدى؟ قلت : نعم ، وكان عارفا بما كان بينى وبينه ، فقال : رحمه‌الله ، ذكرت رجلا صالحا ، حديثك ، قلت : يا خليفة رسول الله ، فأنظر إليه وأنا موثق فى الحديد فى فسطاط ابن الوليد ، وانهزم المسلمون ، انهزمت بهم الضاحية انهزامة ظننت أنهم لا يجتبرون لها ، وساءنى ذلك ، قال أبو بكر : الله ، لساءك ذلك؟ قلت : الله لساءنى ، قال أبو بكر : الحمد لله على ذلك ، قال : فأنظر إلى معن بن عدى قد كر معلما فى رأسه بعصابة حمراء ، واضعا سيفه على عاتقه ، وإنه ليقطر دما ، ينادى : يا للأنصار ، كرة صادقة ، قال : فكرت الأنصار عليه ، فكانت الوقعة التي ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا عدوهم ، فلقد رأيتنى وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بنى حنيفة ، وإنى لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى ، فبكى أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، حتى بل لحيته.

وعن أبى سعيد الخدرى ، قال : دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر ، واستحر القتال ، فأمر خالد بن الوليد المؤذن ، فأذن على جدار الحديقة بالظهر ، والقوم يضطربون على القتل ، حتى انقطعت الحرب بعد العصر ، فصلى بنا خالد الظهر والعصر ، ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى ، فطفت معهم ، فمررت بأبى عقيل الأنصاري البدرى ، وبه خمسة عشر جرحا ، فاستسقانى ، فسقيته ، فخرج الماء من جراحاته كلها ، ومات رحمه


الله ، ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد فى حشوته ، فاستسقانى ، فسقيته ، فمات ، ومررت بعامر بن ثابت العجلانى وإلى جنبه رجل من بنى حنيفة به جراح ، فسقيت عامرا فشرب وقال الحنفى : اسقنى فدى لك أبى وأمى ، قلت : لا كرامة ، ولكنى أجهز عليك ، قال : قد أحسنت لى مسألة ولا شيء عليك فيها ، أسألك عنها ، قلت : وما هى؟ قال : أبو ثمامة ، ما فعل؟ قلت : قتل والله ، قال : نبى ضيعه قومه ، قال أبو سعيد : فضربت عنقه.

وعن محمود بن لبيد قال : لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل ، كانت لهم فى المسلمين أيضا مقتلة عظيمة (١) ، حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لا نغمد السيوف بيننا وبينهم عين تطرف وكان فيمن بقى من المسلمين جراحات كثيرة ، فلما أمسى مجاعة بن مرارة ، أرسل إلى قومه ليلا : أن ألبسوا السلاح النساء والذرية والعبيد ، ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلى الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمرى ، وبات خالد والمسلمون يدفنون قتلاهم ، فلما فرغوا ، رجعوا إلى منازلهم ، فباتوا يتكمدون بالنار من الجراح.

فلما أصبح خالد ، أمر بمجاعة ، فسيق معه فى الحديد ، فجعل يستبرئ القتلى ، وهو يريد مسيلمة ، فمر برجل وسيم ، فقال : يا مجاعة ، أهو هذا؟ قال : لا ، هذا والله أكرم منه ، هذا محكم بن الطفيل ، ثم قال مجاعة : إن الذي تبتغون رجل ضخم أشعر البطن والظهر ، أبجر ، بجرته مثل القدح ، مطرق إحدى العينين ، ويقال : هو أرجل أصيفر أخينس ، قال : وأمر خالد بالقتلى ، فكشفوا حتى وجد الخبيث ، فوقف عليه خالد ، فحمد الله كثيرا ، وأمر به فألقى فى البئر التي كان يشرب منها (٢).

قالوا : ولما أمسينا ، أخذنا شعل السعف ، ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم جميعا ، بدمائهم وثيابهم ، وما صلينا عليهم ، وتركنا قتلى بنى حنيفة ، فلما صالحوا خالدا طرحوهم فى الآبار.

وكان خالد يرى أنه لم يبق من بنى حنيفة أحد إلا من لا ذكر له ، ولا قتال عنده ، فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا : يا مجاعة ، هذا صاحبكم الذي فعل لكم

__________________

(١) قال ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ٨٣) : قال علماء السير : قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف ، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفا.

(٢) ذكر مثل هذا الخبر ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ٨٢).


الأفاعيل ، ما رأيت عقولا أضعف من عقول أصحابك ، مثل هذا فعل بكم ما فعل ، فقال مجاعة : قد كان ذلك يا خالد ، ولا تظن أن الحرب انقطعت بينك وبين بنى حنيفة ، وإن قتلت صاحبهم ، إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ، وإن جماعة الناس وأهل البيوتات لفى الحصون ، فانظر ، فرفع خالد بن الوليد رأسه وهو يقول : قاتلك الله ، ما تقول؟ قال : أقول والله الحق ، فنظر خالد ، فإذا السلاح ، وإذا الخلق على الحصون ، فرأى أمرا غمه ، ثم تشدد ساعتئذ وأدركته الرجولية ، فقال لأصحابه : يا خيل الله اركبى ، وجعل يدعو بسلاحه ، ويقول : يا صاحب الراية قدمها ، قال : والمسلمون كارهون لقتالهم ، وقد ملوا الحرب ، وقتل من قتل وعامة من بقى جريح.

فقال مجاعة : أيها الرجل ، إنى لك ناصح ، إن السيف قد أفناك وأفنى غيرك ، فتعال أصالحك عن قومى ، وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة ، ومن كان يعرف عنده الغناء ، فقد رق وأحب الموادعة مع عجف الكراع ، فاصطلحا على الصفراء والبيضاء ، والحلقة والكراع ، ونصف السبى ، ثم قال مجاعة : آتى القوم فأعرض عليهم ما صنعت ، قال : فانطلق ، فذهب ثم رجع ، فأخبره أنهم قد أجازوه ، فلما بان لخالد أنه إنما هو السبى ، قال : ويلك ، يا مجاعة خدعتنى فى يوم مرتين ، قال مجاعة : قومى ، فما أصنع ، وما وجدت من ذلك بدا ، قد حضنى النساء ، وأنشده قول امرأة من بنى حنيفة :

مسيلم لم يبق إلا النساء

سبايا لذى الخف والحافر

وطفل ترشحه أمه

حفير متى يدع يستأخر

فأما الرجال فأودى بهم

حوادث من دهرنا العاثر

فليت أباك مضى حيضه

وليتك لم تك فى الغابر

سحبت علينا ذيول البلاء

وجئت بهن سمى قاشر

فمجاعة الخير فانظر لنا

فليس لنا اليوم من ناظر

سواك فإنا على حالة

تروعنا مرة الطائر

فقال : مجاعة : فكنت أجد من هذا بدا (١).

وذكر أن مجاعة لما ذهب إلى قومه ليعرض عليهم الصلح ، انتهى إلى باب الحصن ليلا ، فإذا امرأة تنشد هذا الشعر ، فدنا منها مجاعة ، فقال : هتم الله فاك ، اسكتى ، أنا مجاعة ، ثم دخل الحصن وليس فيه إلا النساء والصبيان ، فأمرهم بلبس السلاح وإطالة الإشراف ، والقيام فى مصاف الرجال ، فقال سلمة بن عمير لأصحابه : يا بنى حنيفة قاتلوا ولا

__________________

(١) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى صلح خالد بن الوليد مع أهل اليمامة (٤ / ٨٢ ـ ٨٣).


تصالحوا خالدا ، فإن الحصن حصين ، والطعام كثير ، والقوم قد أفناهم السيف ، ومن بقى منهم جريح ، ولا تطيعوا مجاعة ، فإنه إنما يريد أن ينفلت من إساره ، فقال مجاعة : يا بنى حنيفة ، أطيعونى واعصوا سلمة ، فإنى أخاف أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن سلمة ، أن تستردف النساء سبيات ، وينكحن غير حظيات ، فأطاعوا مجاعة ، وتم الصلح بينه وبين خالد.

وقال أسيد بن حضير (١) وأبو نائلة لخالد لما صالح : يا خالد ، اتق الله ، ولا تقبل الصلح ، قال خالد : إنه أفناكم السيف ، قال أسيد : وإنه قد أفنى غيرنا أيضا ، قال : فمن بقى منكم جريح ، قال : وكذلك من بقى من القوم جرحى ، لا ندخل فى الصلح أبدا ، اغد بنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد من آخرنا ، احملنا على كتاب أبى بكر : إن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تبق عليهم ، فقد أظفرنا الله بهم وقتلنا رأسهم ، فمن بقى أكل شوكة ، فبينما هم على ذلك إذ جاء كتاب أبى بكر يقطر الدم ، ويقال : إنهم لم يمسوا حتى قدم سلمة بن سلامة بن وقش من عند أبى بكر بكتابين ، فى أحدهما : بسم الله الرحمن ، أما بعد فإذا جاءك كتابى ، فانظر ، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت عليه الموسى (٢).

فكلمت الأنصار فى ذلك ، وقالوا : أمر أبى بكر فوق أمرك ، فلا تستبق منهم أحدا ، فقال خالد : إنى والله ما صالحت القوم إلا لما رأيت من رقتكم ، ولما نهكت الحرب منكم ، وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بيننا وبينهم ، والله لو لم يعطونا شيئا ما قاتلتهم ، وقد أسلموا.

قال أسيد بن حضير : قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم ، فسكت عنه خالد ، فلم يجبه ، قالوا : وقال سلمة بن سلامة بن وقش : لا تخالف كتاب إمامك يا خالد ، فقال خالد : والله ما ابتغيت بذلك إلا الذي هو خير ، رأيت أهل السابقة وأهل الفضل وأهل القرآن قد قتلوا ، ولم يبق معى إلا قوم خشيت أن لا يكون لهم بقاء على السيف لو ألح عليهم ، فقبلت الصلح ، مع أنهم قد أظهروا الإسلام ، واتقوا بالراح.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٥٤) ، الإصابة الترجمة رقم (١٨٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٧٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١) ، تهذيب الكمال (١ / ١١٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٧٨) ، تهذيب التهذيب (١ / ٣٤٧) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٢٥٨) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٢٢٩) ، الجرح والتعديل (٢ / ١١٦٣) ، الرياض المستطابة (٢٩).

(٢) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٣).


وكان خالد قد خطب إلى مجاعة ابنته ، وكانت أجمل أهل اليمامة ، فقال له مجاعة : مهلا ، إنك قاطع ظهرى وظهرك عند صاحبك (١) ، إن القالة عليك كثيرة ، وما أقول هذا رغبة عنك ، فقال له خالد : زوجنى أيها الرجل ، فإنه إن كان أمرى عند صاحبى على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علىّ ، وإن كان على ما أكره ، فليس هذا بأعظم الأمور ، فقال له مجاعة : قد نصحتك ، ولعل هذا الأمر لا يكون عيبة إلا عليك ، ثم زوجه.

فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، غضب ، وقال لعمر بن الخطاب : وأبى خالد أنه لحريص على النساء ، حين يصاهر عدوه ، وينسى مصيبته ، فوقع عمر فى خالد ، وعظم الأمر ما استطاع ، فكتب أبو بكر إلى خالد مع سلمة بن سلامة :

يا خالد بن أم خالد ، إنك لفارغ ، تنكح النساء ، وتعرس بهن ، وببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين ، لم تجف بعد ، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه ، ولقد أمكن الله منهم ، فى كلام غير هذا ذكره وثيمة فى الردة. فلما نظر خالد فى الكتاب قال : هذا عمل عمر (٢).

وكتب إلى أبى بكر جواب كتابه مع أبى برزة الأسلمى : أما بعد ، فلعمرى ما تزوجت النساء حتى تم لى السرور ، وقرت بى الدار ، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو أعملت إليه من المدينة خاطبا لم أبل ، دع أنى استشرت خطبتى إليه من تحت قدمي ، فإن كنت كرهت لى ذلك لدين أو دنيا اعتبتك ، وأما حسن عزائى على قتلى المسلمين ، فو الله لو كان الحزن يبقى حيا أو يرد ميتا لأبقى حزنى الحى ورد الميت ، ولقد أقحمت فى طلب الشهادة حتى يئست من الحياة ، وأيقنت بالموت ، وأما خدعة مجاعة إياى عن رأيى ، فإنى لم أخط رأى يومى ، ولم يكن لى علم بالغيب ، وقد صنع الله للمسلمين خيرا ، أورثهم الأرض ، وجعل لهم عاقبة المتقين.

فلما قدم الكتاب على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، رق بعض الرقة ، وتم عمر على رأيه الأول فى عيب خالد بما صنع ، ووافقه على ذلك رهط من قريش ، فقام أبو برزة الأسلمى فعذر خالدا ، وقال : يا خليفة رسول الله ، ما يؤبن خالد بجبن ولا خيانة ، ولقد

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٣).

(٢) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم كتاب أبى بكر رضي‌الله‌عنه إلى خالد فقال : «... فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه : لعمرى يا ابن أم خالد ، إنك لفارغ حين تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد ، فإذا جاءك كتاب فالحق بمن معك من جموعنا بأهل الشام ، واجعل طريقك على العراق ، فقال : وهو يقرأ الكتاب : هذا عمل الأعيسر ، يعنى عمر بن الخطاب.


أقحم حتى أعذر ، وصبر حتى ظفر ، وما صالح القوم إلا على رضاه ، وما أخطأ رأيه بصلح القوم ، إذ هو لا يرى النساء فى الحصون إلا رجالا ، فقال أبو بكر : صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه إلىّ.

وقد كان خالد لما وقع الصلح ، خاف من عمر أن يحمل أبا بكر ، رضي‌الله‌عنهما ، عليه ، فكتب إلى أبى بكر كتابا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم لأبى بكر خليفة رسول الله من خالد بن الوليد ، أما بعد ، فإنى أقسم بالله أنى لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به ، وحتى عجف الكراع ، وهلك الخف ، ونهك المسلمون بالقتل والجراح ، حتى إنى لأفعل أمورا أرى أنى فيها معزر ، أباشر القتال بنفسى حتى ضعف المسلمون ونهكوا ، حتى إن كنت لا تنكر ، ثم أدخل بسيفى فرقا على المسلمين حتى جاء بالظفر ، فله الحمد.

فسر أبو بكر بذلك ، فدخل عليه عمر وهو يقرأ الكتاب ، فدفعه إليه ، فقرأه ، فقال : إنما راقب خئونتهم وخالف أمرك ، ألا ترى إلى ذكره أنه يباشر القتال بنفسه ، يمن عليك بذلك. فقال أبو بكر : لا تقل يا عمر ، فإنه والى صدق ميمون النقيبة ، ناكى العدو ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقدمه ويقربه ، وقد ولاه ، فقال عمر : ولاه ، وخالف أمره ، وقبل بدخول الجاهلية حتى كان ما كان ، فقال أبو بكر : دع هذا عنك ، فقال عمر : سمعا وطاعة.

ولما فرغ خالد من الصلح ، أمر بالحصون فألزمها الرجال ، وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه ، ولا يعلم أحدا غيبة إلا رفعه إلى خالد ، ثم فتحت الحصون ، فأخرج سلاحا كثيرا ، فجمعه خالد على حدة ، وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم ، فجمعه على حدة ، وجمع كراعهم ، وترك الخف فلم يحركه ولا الرثة ، ثم أخرج السبى ، فقسمه قسمين ، ثم أقرع على القسمين ، فخرج سهمه على أحدهما ، وفيه : مكتوب لله ، ثم جزأ الذي صار له من السبى على خمسة أجزاء ، ثم كتب على كل سهم منها : لله ، وجزأ الكراع ، والحلقة هكذا ، ووزن الذهب والفضة ، فعزل الخمس ، وقسم على الناس أربعة الأخماس ، وأسهم للفرس سهمين ، ولصاحبه سهما ، وعزل الخمس من ذلك كله ، حتى قدم به على أبى بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه.

ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة ، تحول من منزله الذي كان فيه إلى منزل آخر ، ينتظر كتاب أبى بكر يأمره أن ينصرف إليه بالمدينة ، فبينا هو على ذلك ، إذ


أقبل سلمة بن عمير الحنفى ، وكان من شياطينهم ، فقال لمجاعة : استأذن لى على الأمير ، فإن لى إليه حاجة ، فأبى مجاعة عليه ، وقال : ويحك يا سلمة ، ابق على نفسك ، فقد آن لك أن تبصر ما أنت فيه ، والله لكأنى أنظر إلى خالد بن الوليد قد أمر بك فضربت عنقك.

فقال سلمة : ما بينى وبين خالد من عتاب ، قد قتل قومى ، فلهى عنه مجاعة ، يطلب غرة من خالد ، فأقبل مع الناس الذين يدخلون عليه ، فلما رآه خالد التفت إلى مجاعة ، فقال : والله إنى لأعرف فى وجه هذا الشر ، فقام إليه مجاعة وهو يخافه على الذي ظن به ، فإذا هو مشتمل على السيف ، فقال : يا عدو الله ، لعنك الله ، لقد أردت أن تستأصل حنيفة ، والله لو قتلته ما بقى من حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل ، ثم لببه بثوبه ، وجعل يتله حتى أدخله بيتا ، ثم أوثقه فى الحديد ، وأغلق عليه ، فأفلت من الليل ومعه سيف ، فوقع فى حائط من حوائط اليمامة ، وعلم شأنه وما أراد من ضرب خالد بالسيف ، وكان خالد قد أمر به أن تضرب عنقه ، فكلمه فيه مجاعة ، وقال : هبه لى يا أبا سليمان ، فوهبه له ، وقال له : أحسن أدبه ، فذلك حين حذره مجاعة ، فخرج بالسيف واكتنفه أهل اليمامة ، فلما رأى ذلك أمال السيف على حلقه ، فقطع أوداجه ، وسقط فى بئر هناك ، فانقطع ذكره.

وحدث زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة ، رأى فى النوم كأنه أتى بتمر من تمر هجر (١) ، فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقة التمرة ، فلاكها ساعة ثم رمى بها ، فتأولها ، فقال : ليلقين خالد من أهل اليمامة شدة ، وليفتحن الله على يديه إن شاء الله ، فكان أبو بكر يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجىء رسول خالد ، فخرج أبو بكر يوما بالعشى إلى ظهر الحرة ، يريد أن يبلغ صرارا ، ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله ، ونفر من المهاجرين والأنصار ، فلقى أبا خيثمة النجارى قد أرسله خالد ، فلما رآه أبو بكر قال له : ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال : خير يا خليفة رسول الله ، قد فتح الله علينا اليمامة ، قال : فسجد أبو بكر ، قال أبو خيثمة : وهذا كتاب خالد إليك ، فحمد الله أبو بكر وأصحابه ، ثم قال : أخبرنى عن الوقعة ، كيف كانت؟.

فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد ، وكيف صف أصحابه ، وكيف انهزم المسلمون ، ومن قتل منهم ، وجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم ، وجعل أبو خيثمة

__________________

(١) هجر : بفتح أوله وثانيه ، مدينة البحرين ، وهى معرفة لا تدخلها الألف واللام ، سميت بهجر بنت مكنف من العماليق. انظر : الروض المعطار (٥٩٢) ، معجم ما استعجم (٤ / ١٣٤٦).


يقول : يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتينا من قبل الأعراب ، انهزموا بنا وعودونا ما لم نكن نحسن ، حتى أظفرنا الله بعد ، ثم قال أبو بكر : كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة ، ووقع فى نفسى أن خالدا سيلقى منهم شدة ، وليت خالدا لم يصالحهم ، وأنه حملهم على السيف ، فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقى أهل اليمامة ، ولن يزالوا من كذابهم فى بلية إلى يوم القيامة ، إلا أن يعصمهم الله ، ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة مع خالد على أبى بكر رضي‌الله‌عنه.

قال الواقدى : أجمع أصحابنا أن خالد بن الوليد قدم المدينة من اليمامة ، وقدم بوفد اليمامة سبعة عشر رجلا من بنى حنيفة ، فيهم مجاعة بن مرارة ، وإخوته ، وأن أبا بكر حبسهم ، فلم يدخلهم عليه ، فدخلوا على عمر بن الخطاب يكلمونه فى أن يكلم أبا بكر أن يأذن لهم فيدخلهم أو يأذن لهم فى الرجوع إلى بلادهم ، فوجدوه يحلب شاة على رغيف فى صحفة ، ومعه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وابنه زيد بن الخطاب ، فهما ينزوان على ظهره ، قالوا ، أو من قال منهم : فنسبنا ، فانتسبنا ، فقرب تلك الصحفة وما فيها ، وقال : أصيبوا شيئا ، فتحرمنا فأصبنا شيئا ، فسألته : من هذان الغلامان؟ فقال : هذان ابنا زيد بن الخطاب رحمه‌الله ، فوجمنا لأنا قتلنا زيدا ، فلما رأى وجومنا قال : ما لكم قد سكتم؟ هذا أمر قد ذهب ، حاجتكم ، قالوا : فبسطنا ، فقلنا : احتبسنا ولا نقدر على الدخول على أبى بكر ، ولا السراح إلى بلادنا ، فقال عمر : عليكم عهد الله وكفالته أن تناصحوا الإسلام وأهله ، قلنا : نعم ، قال : ارجعوا حتى تأتوا فى هذه الساعة من غد فأوصلكم إلى أبى بكر ، فلما كان ذلك الوقت من الغد ، جاءوه ، فخرج معهم حتى أوصلهم إلى أبى بكر.

وقال زيد بن أسلم عن أبيه : لما دخلوا على أبى بكر الصديق ، قال : ويحكم ، ما هذا الذي استنزل منكم ما استنزل ، وخدعكم ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، قد كان الذي بلغك مما أصابنا.

وذكر وثيمة أن الذي كلم أبا بكر منهم رجل من بنى سحيم ، فقال : يا خليفة رسول الله ، كان رجلا مشئوما أصابته فتنة من حديث النفس ، وأمانى الشيطان ، دعا إليها أقواما مثله فأجابوه فلم يبارك الله له ولا لقومه.

قال أسلم فى حديثه : ثم أقبل يعنى أبا بكر ، على مجاعة ، فقال : يا مجاعة ، أنت خرجت طليعة لمسيلمة حتى أخذك خالد أخذا؟ فقال : يا خليفة رسول الله ، والله ما


فعلت ، خرجت فى طلب رجل من بنى نمير قد أصاب فينا دما ، فهجمت علينا خيل خالد ، ولقد كنت قدمت على رسول الله ، فلما ذكر رسول الله ، قال أبو بكر : قل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رجعت إلى قومى ، فو الله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت عليك مقدمى هذا ، ثم لم آل لخالد فيما استشارنى إلى اليوم ، وقد جئناك لترضى عمن أساء ، وتقبل ممن تاب ، فإن القوم قد رجعوا وتابوا ، فقال أبو بكر : أما أنى قد كتبت إلى خالد كتابا فى أثر كتاب آمره أن لا يستبقى من بنى حنيفة أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة : الذي صنع الله لك ولخالد خير ، يفىء الله بهم إلى الإسلام ، قال أبو بكر : أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا ، يا مجاعة أنى خدعتم بمسيلمة؟ قال : يا خليفة رسول الله ، لا تدخلنى فى القوم ، فإن الله يقول : (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨] ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : فما كان يقول لقومه؟ قال : فكره مجاعة أن يخبره فقال أبو بكر : عزمت عليك لتخبرنى.

وفى غير هذا الحديث أن الرجل السحيمى الذي تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان يقول : يا ضفدع بنت ضفدعين ، لحسن ما تنقنقين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، امكثى فى الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين ، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فاسترجع أبو بكر ، ثم قال : سبحان الله ، ويحكم ، أى كلام هذا ، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر ، فأين ذهب بكم؟ الحمد لله الذي قتله ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، قد أردنا الرجوع إلى بلادنا ، قال : ارجعوا ، وكتب لهم كتابا آمنهم فيه.

وفى كتاب يعقوب الزهرى : أن وفد بنى حنيفة لما قدموا ، نادى أبو بكر أن لا يؤويهم أحد ، ولا يبايعهم ، ولا ينزلهم ، ولا يكلمهم ، فداروا فى المدينة لا يكلمون ولا يبايعون ، فضاقت عليهم ، فقيل لهم : ائتوا عمر ، فجاءوه ، فوجدوه معتقلا عنزا يحلبها على رغيف ، فلما رآهم ، حلب ، فاشتد حلبه حتى دار الرغيف فى القدح من شدة حلبه ، ثم وضعه ، فدعاهم فأكلوا معه ، ومعه صبية صغيرة ، فقالوا : إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا ، وإنا نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، الذي لا إله إلا هو ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، قال : الله ، إن ما تقولون بألسنتكم لحق من قلوبكم ، قالوا : الذي لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا ، قال : الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه. قال : أفيكم قاتل زيد بن الخطاب؟ قلنا : ما تريد بذلك؟ قال : أفيكم قاتل زيد؟ فقام أبو مريم ، فقال : أنا قاتل زيد ،


قال : وكيف قتلته؟ قال : اضطربت أنا وهو بالسيفين حتى انقطعا ، ثم أطعنا بالرمحين حتى انكسرا ، ثم اصطرعنا ، فشحطته بالسكين شحطا ، قال : يا بنية ، هذا قاتل أبيك ، فوضعت يدها على رأسها ، وصاحت : يا أبتاه.

قال : ثم خرج حتى جاء أبا بكر ، فاستأذن لنا عليه ، فدخلنا فقلنا له كما قلنا لعمر ، وناشدنا كما ناشدنا عمر ، فحلفنا له ، فقال : الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه ، قال : أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد؟ قال خالد : وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة ، فكررها أبو بكر ، فقال : هل فيكم من رهط ثمامة ابن أثال أحد؟ قال خالد : وما تصنع بثمامة ، وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إنهم أهل بيت اصطعنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأحب أن أصطنعهم ، فقام مطرف بن النعمان بن سلمة ، فقال : عامر بن سلمة عمى ، وثمامة بن أثال عمى ، فاستعمله أبو بكر على اليمامة.

وقال أبو بكر لخالد : سم لى أهل البلاء ، فقال : يا خليفة رسول الله ، كان البلاء للبراء بن مالك ، والناس له تبع.

ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من الناس ، فبكى أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، لما رأى ذلك ، وقال ما أبعد ما رأى من الظفر ، والله لثابت بن قيس بن شماس (١) أعز على الأنصار من أسماعها وأبصارها.

وكانت اليمامة فى ربيع الأول من سنة اثنتى عشرة (٢) ، واختلف فى عدد من استشهد فيها من المسلمين ، فأكثر ما فى ما وقع فى كتاب أبى بكر إلى خالد : أن ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين.

وقال سالم بن عبد الله بن عمر : قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والأنصار ، وغير ذلك.

وقال زيد بن طلحة : قتل يوم اليمامة من قريش سبعون ، ومن الأنصار ستون ، ومن سائر الناس خمسمائة.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٠٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٦٩).

(٢) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ٨٣) : أنها كانت سنة إحدى عشرة فى قول جماعة منهم أبو معشر ، فأما ابن إسحاق فإنه قال فتح اليمامة واليمن والبحرين ، وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتى عشرة.


وعن أبى سعيد الخدرى قال : قتلت الأنصار فى مواطن أربعة سبعين سبعين ، يوم أحد سبعين ، ويوم بئر معونة سبعين ، ويوم اليمامة سبعين ، ويوم جسر أبى عبيد سبعين.

وقال سعيد بن المسيب : قتلت الأنصار فى مواطن ثلاثة سبعين سبعين ، فذكر ما تقدم إلا بئر معونة.

وذكر عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من المهاجرين والأنصار ، فقال : أحلت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار ، ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم ، خافوا على الإسلام أن يكسر بابه ، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة ، فمنع الله الإسلام بهم ، حتى قتل عدوه وأظهر كلمته ، وقدموا يرحمهم‌الله ، على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله ، ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به.

وفى رواية عنه : جعل منادى المسلمين ، يعنى يوم اليمامة ، ينادى : يا أهل الوجوه ، لو لا ما استدرك خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقى المسلمون وعدوهم فى موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن.

ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة ، ومعه كانت راية الأنصار يومئذ ، وهو خطيبهم وسيد من سادتهم ، أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول له : إنى موصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إنى لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد وعلىّ درع فأخذها ، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة ، وجعل على البرمة رحلا ، وخباؤه فى أقصى العسكر ، إلى جنب خبائه فرس يستن فى طوله ، فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعى فليأخذها ، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره أن علىّ من الدين كذا ولى من الدين كذا ، وسعد ومبارك غلاماى حران ، وإياك أن تقول هذا حلم ، فتضيعه.

فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره ، فبعث خالد إلى الدرع فوجدها كما قال ، وأخبره بوصيته فأجازها ، ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت ، وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس (١).

وقد روى أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا ، رواه الواقدى ، ثم قال بعقبه : فذكرته ، يعنى الحديث ، لعبد الله بن سعد ، فقال : حدثني عبد الواحد بن أبى عون ، قال:

__________________

(١) ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب هذا الخبر فى ترجمة ثابت رقم (٢٥٣).


قال بلال : رأيت فى منامى كأن سالما مولى أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة : إن درعى مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق ، تحت قدرهم ، فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم ، فاذهب بها إلى أهلى ، وإن علىّ شيئا من دين ، فمرهم يقضونه ، قال بلال : فأقبلت إلى تلك الرفقة ، وقدرهم على النار ، فألفيتها وأخذت الدرع ، وجئت أبا بكر فحدثته الحديث ، فقال : نصدق قولك ، ونقضى دينه الذي قلت.

وقتل الله من بنى حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا ، ففى كتاب يعقوب الزهرى أنه قتل منهم أكثر من سبعة آلاف ، وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بنى حنيفة سبعمائة مقاتل ، وكان داؤهم خبيثا ، والطارئ منهم على الإسلام عظيما ، فاستأصل الله تعالى شأفتهم ، ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ذكر ردة بنى سليم

ذكر الواقدى من حديث سفيان بن أبى العوجاء السلمى ، قال : وكان عالما بردة قومه ، مع أنه كان من وعاة العلم ، وممن يوثق به فى الدين ، قال : أهدى ملك من ملوك غسان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لطيمة فيها مسك وعنبر ، وخيل ، فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بنى سليم ، بلغتهم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتشجع بعض بنى سليم على أخذها والردة ، وأبى بعضهم من ذلك ، وقالوا : إن كان محمد قد مات ، فإن الله حى لا يموت ، وكان الذين ارتدوا منهم عصية وبنو عميرة وبنو عوف ، وبعض بنى جارية ، والذين انتهبوا اللطيمة فتمزقوها ، بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد.

فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز (١) فاستعمله على من أسلم من بنى سليم ، وكان قد قام فى ذلك قياما حسنا ، ذكر وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليه‌السلام : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية [آل عمران : ١٤٤] والتي قبلها ، مع آى من كتاب الله ، فاجتمع إليه بشر كثير من بنى سليم ، وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا يغيرون على الناس ، ويقطعون السبيل ، فلما بدى لأبى بكر أن يوجه خالد بن الوليد إلى الضاحية ، كتب إلى معين بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن معه من المسلمين ، ويستعمل

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٤٩٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٤٧٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٤٩٩).


على عمله طريفة بن حاجز ، ففعل ، وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين ، يغير عليهم ويغيرون عليه ، إذ قدم الفجاءة ، وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير ابن خفاف ، على أبى بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر ، إنى مسلم ، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار ، فاحملنى وأعنى ، فإنه لو كان عندى قوة لم أقدم عليك ، ولكنى مضعف من الظهر والسلاح ، فسر أبو بكر بمقدمه ، فحمله على ثلاثين بعيرا ، وأعطاه سلاح ثلاثين رجلا ، فخرج يستعرض المسلم والكافر ، فيأخذ أموالهم ، ويصيب من امتنع مع قوم من أهل الردة قد تبعوه على ذلك ، لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين ، جاءوا يريدون أبا بكر ، فسلبهم وقتلهم ، ومعه رجل من بنى الشريد ، يقال له : نجبة بن أبى المثنى.

فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع ، كتب إلى طريفة بن حاجز : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد ، فإن عدو الله الفجاءة أتانى ، فزعم أنه مسلم ، وسألنى أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام ، فقويته ، وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد استعرض المسلم والمرتد ، يأخذ أموالهم ، ويقتل من امتنع منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره ، فتأتينى به فى وثاق إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله.

فقرأ طريفة كتاب أبى بكر على قومه المسلمين ، فحشدوا ، وساروا معه إلى الفجاءة ، فقدم إليهم نجبة بن أبى المثنى ، فناوش المسلمين ، وقتل نجبة ، وهرب من كان معه إلى الفجاءة ، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة ، فتصادما ، وجعل المسلمون يرمون بالنبل ، ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار الفجاءة وندامته ، فقال : يا طريفة (١) والله ما كفرت ، وإنى لمسلم ، وما أنت بأولى بأبى بكر منى ، أنت أميره وأنا أميره ، قال طريفة : فإن كنت صادقا ، فألق السلاح ، ثم انطلق إلى أبى بكر فأخبره خبرك ، فوضع الفجاءة السلاح ، وأوثقه طريفة فى جامعة ، فقال طريفة : لا تفعل ، فإنك إن أقدمتنى فى وثاق أشعرتنى ، فقال طريفة : هذا كتاب أبى بكر إلى : أن ابعثك إليه فى وثاق ، فقال الفجاءة : سمعا وطاعة ، فبعث به فى جامعة مع عشرة من بنى سليم ، فأرسل به أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، إلى بنى جشم ، فحرقه بالنار.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٠٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٢٦٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٦٠٥).


وقدم على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، قبيصة ، أحد بنى الضربان ، من بنى خفاف ، فذكر أن مسلم ، وأنه قومه لم يرتدوا ، فأمره أبو بكر أن يقاتل بمن معه من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم ، فرجع قبيصة إلى قومه ، فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام ، فخرج يتبع بهم أهل الردة يقتلهم حيث وجدهم ، حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدى ، فوجده غائبا يجمع أهل الردة ، ووجد جارا له مرتدا ، فقتله ، واستاق ماله ومضى حتى نزل منزلا ، فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة ، ثم راحوا ، ويقبل خميصة حتى أتى أهله ، فيخبروه خبر جاره ، فخرج فى طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا الشاة ، فيجد رأسها مملولا ، قد تركه القوم ، فأخذه ، فجعل ينهش منه ، وهو يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته ، وكان رجلا أيدا ، فقال لقبيصة : قتلت جارى؟ قال : إن جارك ارتد عن الإسلام ، قال : فاردد ماله ، فرد قبيصة ماله ، فقال : وفقد الشاة التي ذبحوا ، فقال : أين الشاة التي ذبحت؟ فقال : لا سبيل إليها ، قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك فى طلب قوم كفروا بعد إسلامهم ، فقال : يا قبيصة ، أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلى لأمنعه؟ فقال قبيصة : قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع ، فطعن قبيصة بالرمح ، فوقع فى واسط الرحل ، فدقه وانثنى سنان الرمح ، وخر قبيصة عن بعيره ، فقال لخميصة : إنك قد أشويتنى ، فاكفف ، فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة ، وهو يقول : أكفف بعد قتل جارى ، لا والله أبدا ، فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد فرق أصحابه ، وبثهم قبل أن يلحقه خميصة.

وكتب أبو بكر رحمه‌الله ، إلى خالد بن الوليد : أما بعد ، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة ، فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بنى سليم فتطؤهم وطأة يعرفون بها ما منعوا ، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه منى عليهم ، قدم قادمهم يذكر إسلاما ويريد أن أعينه ، فأعنته بالظهر والسلاح ، ثم جعل يعترض الناس ، فإن أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم ، فى أن تحرقهم بالنار ، وتهول فيهم بالقتل ، حتى يكون نكالا لهم.

قالوا : فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه ، وسمعت بنو سليم بمقبل خالد ، فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم ، وجلهم بنو عصية ، واستجلبوا من بقى من العرب مرتدا ، وكان الذي جمعهم أبو شجرة بن عبد العزى ، فانتهى خالد إلى جمعهم بالجواء مع الصبح ، فصاح خالد فى أصحابه ، وأمرهم بلبس السلاح ، ثم صفهم ، وصفت بنو سليم ، وقد كل المسلمون وعجف كراعهم ، وخفهم ، وجعل خالد يلى القتال بنفسه ، حتى أثخن فيهم القتل ، ثم حمل عليهم حملة واحدة ، فهربوا ، وأسر منهم بشر كثير ، فجعل


يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين ، ويبدو سحره ، ويضرب الآخر من وسطه.

وفى حديث سفيان بن أبى العوجاء : أن خالدا خطر لهم الخطائر ، فحرقهم فيها بالنار ، وأصاب أبو شجرة يومئذ ، فى المسلمين وجرح جراحات كثيرة ، وقال فى ذلك أبياتا ، يقول فى آخرها :

فرويت رمحى من كتيبة خالد

وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا

ولما قدم خالد على أبى بكر ، كان أول ما سأل عنه خبر بنى سليم ، فأخبره خالد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قدم على أبى بكر معاوية بن الحكم ، وأخوه خميصة مسلمين ، فقال أبو بكر لخميصة : أنت قتلت قبيصة ، ورجعت عن الإسلام؟ قال : إنه قتل جارى ، قال : وإن قتل جارك على ردة ، قتلته ، لن تفلت منى حتى أقتلك ، فقال أخوه : يا خليفة رسول الله ، كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا ، وقد تاب اليوم وراجع ، ولكن نديه قال أبو بكر : فأخرج ديته ، فقال : أفعل يا خليفة رسول الله ، قال : فنعم الرجل كان قبيصة ، ونعم السبيل مات عليه.

ثم قال لمعاوية : وعمدتم يا بنى الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتهبتموها ، وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش ، فلعمرى ليرضى أن تدخلوا فى الإسلام مع الناس ، فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد مات ، فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته ، فما كانوا يطلبون ذلك منكم وأنتم أخوالهم. قال معاوية : نحن نضمنها حتى نؤديها إليك ، فحمل أبو بكر ، معاوية اللطيمة التي أصابوها ، ووقت لهم شهرين أو ثلاثة.

قال : فأداها إلى أبى بكر ، ثم إن أبا شجرة أسلم ، ودخل فيما دخل فيه الناس ، فجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم ، فلما كان زمن عمر بن الخطاب ، قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بنى قريظة ، وجاء من حرة شوران ، ثم أتى عمر وهو يقسم بين فقراء العرب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعطنى ، فإنى ذو حاجة ، فقال : من أنت؟ قال : أنا أبو شجرة بن عبد العزى ، فقال له : يا عدو الله ، ألست الذي يقول :

فرويت رمحى من كتيبة خالد

وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا

عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث ، ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه ، حتى سبقه عدوا ، وعمر فى طلبه ، فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته ، فارتحلها ، ثم شد بها فى حرة شوران راجعا إلى أرض بنى سليم ، فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى توفى ،


وإن كان إسلامه لا بأس به ، وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ، ويقول : ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب.

وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك :

ضن علينا أبو حفص بنائله

وكل مختبط يوما له ورق

ما زال يرهقنى حتى خذيت له

وحال من دون بعض البغية الشفق

لما لقيت أبا حفص وشرطته

والشيخ يقرع أحيانا فينحمق

ثم ارعويت إلى وجناء كاشرة

مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق

أقبلت الخيل من شوران صادرة

أنى لأزرى عليها وهى تنطلق

تطير مروا خطاها عن مناسمها

كما ينقر عند الجهبذ الورق

إذا يعارضها خرق تعارضه

ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق

ينوء آخرها منها وأولها

سرح اليدين معا نهاضة فتق

وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه : أن لقاء أبى شجرة عمر كان على غير ما تقدم ، وأن أبا شجرة قدم المدينة ، فأدخل راحلته بعض دورها ، ودخل المسجد متنكرا ، فاضطجع فيه ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه ، قل شيء يظنه إلا كان حقا ، فبينا عمر جالسا فى أصحابه ، وأبو شجرة مضطجع ، قال عمر : إنى لأرى هذا أبا شجرة ، فقام حتى وقف عليه ، فقال : من أنت؟ قال : رجل من بنى سليم ، قال : انتسب ، قال : فلان بن عبد العزى ، قال : ما كنيتك؟ قال : أبو شجرة ، فعلاه بالدرة.

ثم ذكر من تقريره على قوله : فرويت رمحى البيت ، نحوا مما تقدم.

ردة البحرين (١)

حدث يعقوب الزهرى عن إسحاق بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة ، قال : لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال صاحب المدائن : من يكفينى أمر العرب ، فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم ، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم ، فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم ، وبقى ملكهم ، وأخرجوا العجم من أرضهم ، قالوا : نحن بذلك على أكمل الرجال ، قال : من؟ قالوا : مخارق بن النعمان ، ليس فى الناس مثله ، وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم ، وهؤلاء جيرانك بكر بن وائل ، فأرسل

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٣ ـ ٨٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٠١) ، الأغانى (١٥ / ٢٥٥).


منهم ناسا مع مخارق ، فأرسل معه ستمائة من بكر بن وائل ، الأشرف فالأشرف ، وارتد أهل هجر عن الإسلام.

وعن الحسن بن أبى الحسن : أن الجارود قام فى قومه ، فقال : يا قوم ، ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية ، وإنى لم آتكم قط إلا بخير ، وإن الله تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم؟ فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) [آل عمران : ١٤٤].

وفى حديث آخر ، أنه قام فيهم ، فقال : ما شهادتكم أيها الناس على موسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله ، قال : فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا : نشهد أنه رسول الله ، قال : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، عاش كما عاشوا ، ومات كما ماتوا ، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك ، فلم يرتد من عبد القيس أحد.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال حين وفدوا عليه : «عبد القيس خير أهل المشرق ، اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا ، وبارك لهم فى ثمارهم» ، فخرجوا مسرورين بدعوته وأهدوا له من طرائف ثمارهم ، وثبتوا على الإسلام حين الردة.

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعمل أبان بن سعيد بن العاص (١) على البحرين ، وعزل العلاء بن الحضرمى ، فسأل أبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يحالف عبد القيس ، فأذن له ، فحالفهم ، فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار إليه مرتدين ، قال لعبد القيس : أبلغونى مأمنى ، فأشهد أمر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس مثلى يغيب عنهم ، فأحيا بحياتهم ، وأموت بمماتهم ، فقالوا : لا تفعل ، فأنت أعز الناس علينا ، وهذا علينا وعليك فيه مقالة ، يقول قائل : فر من القتال ، فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة ، فقال أبو بكر لأبان : ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا؟ فقال : ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر أبان من عبد القيس خيرا ، فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمى ، فبعثه إلى البحرين ، فى ستة عشر راكبا ، وقال : امض ، فإن أمامك عبد القيس ، فسار حتى بلغهم ، ومر بثمامة بن أثال الحنفى ، فأمده برجال من قومه بنى سحيم ، ولحق به ثمامة ، فخرج

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢) ، نسب قريش (١٧٤ ، ١٧٥) ، طبقات خليفة (٢٩٨) ، الجرح والتعديل (٢ / ٢٩٥) ، تاريخ الإسلام (١ / ٣٧٦ ، ٣٧٨).


العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له جواثى ، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر ، فسار إليهم العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين ، فقاتلهم قتالا شديدا ، حتى كثرت القتلى وأكثرها فى أهل الردة ، والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء ، وبعث مخارق الخطم بن شريح ، أحد بنى قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده ، فأمده بالأساورة ، فنزل الخطم ردم الفلاح ، وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر ، فقالوا له : هذه هجر ، وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده ، وقال عبد الرحمن بن أبى بكرة : أخذ الخطم الجارود ، فشده فى الحديد ، وسار الخطم وأبجر بن العجلى فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمى بجواثى. فقال عبد الله بن حذف أحد بنى عامر بن صعصعة :

ألا أبلغ أبا بكر رسولا

وسكان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى نفر يسير

مقيم فى جواثى محصرينا

كأن دماءهم فى كل شمس

شعاع الشمس يغشين العيونا

توكلنا على الرحمن إنا

وجدنا النصر للمتوكلينا (١)

فمكثوا على ذلك محصورين ، فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا فى عسكر المشركين ، فقالوا : والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم ، فقال عبد الله بن حذف : أنا أعلم لكم علمهم ، فدلونى بحبل ، فدلوه ، فأقبل حتى يدخل على أبجر بن جابر العجلى ، وأم عبد الله امرأة من بنى عدل ، فلما رآه أبجر ، قال : ما جاء بك ، لا أنعم الله بك علينا؟ قال : يا خالى ، الضرر والجوع وشدة الحصار ، وأردت اللحاق بأهلى ، فزودنى. قال أبجر : أفعل ، على أنى أظنك والله على غير ذلك ، بئس ابن الأخت سائر الليلة ، فزوده وأعطاه نعلين ، وأخرجه من العسكر ، وخرج معه حتى برزا ، فقال له : انطلق ، فإنى والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة ، فمض ابن حذف كأنه لا يريد الحصن ، حتى أبعد ، ثم عطف فأخذ بالحبل ، فصعد الحصن ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : ورائى والله أنى تركتهم سكارى لا يعقلون ، قد نزل بهم تجار من تجار الخمر ، فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها ، فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة ، فنزل إليهم المسلمون ، فبيتوهم ، ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاءوا(٢).

وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة فى حديثه : كان العلاء فى ثلاثمائة وستة وعشرين

__________________

(١) انظر الأبيات فى : البداية والنهاية (٦ / ٣٢١).

(٢) راجع ما ذكره ابن كثير فى البداية (٦ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣).


من المهاجرين ، فطرقوهم ، فوجدوهم قد ثملوا ، فقتلوهم ، فلم يفلت منهم أحد ، ووثب الخطم وهو سكران ، فوضع رجله فى ركاب فرسه ، ثم جعل يقول : من يحملنى ، فسمعه عبد الله بن حذف ، فأقبل نحوه وهو يقول : أبا ضبيعة؟ قال : نعم ، قال : أنا أحملك ، فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى قتله ، وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلى فمات منها وقد كان قال حين قطعت : قاتلك الله يا ابن حذف ، ما أشأمك ، وقد قيل إن عفيف بن المنذر ، أحد بنى عمرو بن تميم ، هو الذي سمع كلام الخطم حين رام الركوب ، فلم يستطع ، فقال : ألا رجل من بنى قيس بن ثعلبة يعقلنى الليلة ، فقال له عفيف وقد عرف صوته : أبا ضبيعة ، أعطنى رجلك ، فأعطاه إياها ، يظن أنه يعقله على فرسه ، فأطنها من الفخذ وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إنى أحب أن لا تموت حتى أمصك ، وكان مع عفيف تلك الليلة عدة من بنى أبيه أصيبوا.

وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان ، أبو المسامعة ، وانهزم الباقون ، حتى صاروا فى ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيبانى.

قال إسحاق : وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم ، وما سوى ذلك عند العلاء فى حصن جواثى ، ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا ، وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة ، فضيق عليهم ، فلما رأى ذلك مخارق ومن معه ، قالوا : إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا ، فشاور العلاء أصحابه ، فأشاروا عليه أن يخلى عنهم ، فخرجوا فلحقوا ببلادهم ، وبقى أهل المدينة ، فطلبوا الصلح والأمان ، فصالحهم العلاء على ثلث ما فى أيديهم بالمدينة من أموالهم ، وما كان من شيء خارج منها ، فهو له ، فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة.

وفى غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل ، طفقت بكر تنادى : يا عبد القيس ، إياكم مفروق بن عمرو فى جماعة بكر بن وائل ، فقال عبد الله بن حذف فى ذلك :

لا توعدونا بمفروق وأسرته

إن يأتنا يلق منا سنة الخطم

النخل ظاهرها خيل وباطنها

خيل تكردس بالفرسان كالنعم

وإن ذا الحى من بكر وإن كثروا

لأمة داخلون النار فى أمم

ثم سار العلاء بن الحضرمى إلى الخط حتى نزل على الساحل ، فجاءه نصرانى ، فقال له : ما لي إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين ، قال : وما تسألنى؟ قال : أهل


بيت بدارين ، قال : هم لك ، فخاض به وبالخيل إليهم ، فظفر عليهم عنوة ، وسبى أهلها ، ثم رجع إلى عسكره.

وقال إبراهيم بن أبى حبيبة : حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم ، وجازه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم ، وقد تجرى فيه السفن قبل ، ثم جرت فيه بعد ، فقاتلهم ، فأظفره الله بهم ، وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التي صالحهم عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جوار إلى الله تعالى فى خوض هذا البحر ، فأجاب الله دعائهم ، وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر ، وكان شاهدا معهم (١) :

ألم تر أن الله ذلل بحره

وأنزل بالكفار إحدى الجلائل

دعونا الذي شق البحار فجاءنا

بأعظم من غلق البحار الأوائل

وفى حديث غيره ، قال : لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالح عليه أهل حجر.

ولما ظهر العلاء بن الحضرمى على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين ، أقام عليها أميرا ، وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ، وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم فى الردة ، ثم دخل القوم على أبى بكر ، وحضر الزبير وطلحة رضي‌الله‌عنهم ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ، إنا قوم أهل إسلام ، وليس شيء أحب إلينا من رضاك ، ونحن نحب أن تعطينا أرضا من أرض البحرين وطواحين ، فأبى أبو بكر ، فكلمه فى ذلك طلحة والزبير ، فأذعن ، وقال : اشهدوا أنى قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألونى ، وعرفت لهم قدر إسلامهم ، فجزوه خيرا.

فلما خرجوا من عنده ، قال لهم طلحة : إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبى بكر إلا عمر ، فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا ، ويشهد فيه عمر ، فلا يكون لعمر بعد هذا اليوم كلام ، فعادوا إلى أبى بكر ، فذكروا له ذلك ، فدعا عبد الله بن الأرقم ، فقال : اكتب لهم بهذا الذي أعطيتهم ، ففعل ، وشهد فى الكتاب عشرة من قريش والأنصار ، ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا ، فانطلقوا إليه ، فأقرءوه الكتاب ، فلما قرأه فض الخاتم ثم تفل

__________________

(١) انظر الأبيات فى : البداية والنهاية (٦ / ٣٢٣).


فيه ، ورده عليه ، فأقبل الوفد على طلحة ، فقالوا : هذا عملك أنت ، أمرتنا أن نشهد عمر ، واتهموه فى أمرهم ، فقال طلحة : والله ما أردت إلا الخير ، فرجعوا إلى أبى بكر غضابا ، فخبروه الخبر ، ودخل طلحة والزبير ، فقالا : والله ما ندرى أنت الخليفة أم عمر ، فقال أبو بكر : وما ذاك؟ فأخبروه ، فقال : فما صنع عمر بالكتاب؟.

قالوا : فض الخاتم وتفل فى الكتاب ومحاه ، فقال أبو بكر : لئن كان عمر كره من ذلك شيئا ، فإنى لا أفعله ، فبينما هم كذلك إذ جاء عمر ، فقال له أبو بكر : ما كرهت من هذا الكتاب؟ فقال : كرهت أن تعطى الخاصة دون العامة ، ولكن اجعل أمر الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة ، وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم ، فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطى هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس ، فقال أبو بكر : وفقك الله وجزاك خيرا ، فهذا هو الحق.

وذكر وثيمة بن موسى : أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن المنذر ، فبلغ ذلك كسرى ، فبعث فى وجوههم ، فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور ، فقال لهم : سيروا مع المنذر بن النعمان ، فإنى قد ملكته ، فخذوا البحرين ، فساروا ، وسارت معه الأساورة ، وهم يومئذ ستة آلاف راكب ، ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر وتوجيه من وجه معه ، وقال : غلام موبق ، قتلت أباه ، معه كتيبة النعمان من بكر بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس ، وهو غلام فتى السن لم يختبر ، هذا خطأ من الرأى ، فصرفه إليه ، وانكسر المنذر للذى صنع به ، ثم عاود كسرى رأيه فيه لكلام بلغه عنه ، فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلى ، ثم ذكر حديثا طويلا تتخلله أشعار كثيرة لم أر لذكر شيء منها وجها ، واستغنيت من حديثهم بما تقدم منه.

وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام ، فلحق ببنى جفنة ، وندم على ما مضى منه ، ثم ألقى الله فى قلبه الإسلام ، فأسلم ، فكان بعد إسلامه ، يقول : لست بالغرور ولكنى المغرور ، هذا ما ذكره وثيمة فى شأن الغرور.

وذكر سيف فى فتوحه وحكاه الدارقطنى عنه ، قال : الغرور بن سويد أسر يوم البحرين ، أسره عفيف بن المنذر وأجاره ، فأتى به العلاء بن الحضرمى ، فقال : إنى قد أجرت هذا ، قال : ومن هو؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء؟ قال : إنى لست


بالغرور ولكنى المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم ، وبقى بهجر ، وكان اسمه الغرور وليس بلقب.

ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان (١)

وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مقرين بالإسلام ، فبعث عليهم مصدقا منهم ، يقال له حذيفة بن اليمان الأزدى ، من أهل دبا ، وكتب له فرائض صدقات أموالهم ، ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ، ففعل حذيفة ذلك ، وبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بفرائض فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منعوا الصدقة وارتدوا ، فدعاهم حذيفة إلى التوبة ، فأبوا ، وأسمعوه شتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا قوم ، أسمعونى الذي فى أبى وفى أمى ، ولا تسمعونى الأذى فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبوا إلا ذلك ، وجعلوا يرتجزون :

لقد أتانا خير ردى

أمست قريش كلها نبى

ظلم لعمر الله عبقرى (٢)

فكتب حذيفة إلى أبى بكر الصديق بما كان منهم ، فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا شديدا ، وقال : من هؤلاء ، ويل لهم ، ثم بعث إليهم عكرمة بن أبى جهل ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا ، فلما بلغته وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انحاز إلى تبالة فى أناس من العرب ثبتوا على الإسلام ، فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة ، فجاءه كتاب أبى بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة ، أن سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا ، فسار عكرمة فى نحو ألفين من المسلمين ، ورأس أهل الردة لقيط بن مالك ، فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه ، وبلغ عكرمه أنهم فى جموع كثيرة ، فبعث طليعة ، وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة ، فالتقى الطليعتان فتناوشوا ساعة.

ثم انكشف أصحاب لقيط ، وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة ، فلما أتاه الخبر أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته ، ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة ، وسار

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣١٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥).

(٢) انظر الأبيات فى : الروض المعطار ص (٢٣٢).


على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا فاقتتلوا ساعة ، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر ، فهزمهم وأكثر فيهم القتل ، وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك ، فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم ، وأنهم لا طاقة لهم بهم ، وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا ، منهم من قتل ومنهم من أسره عكرمة أسرا.

فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين ، فناهضهم وناوشهم ، وجاء عكرمة فى أصحابه ، فقاتل معهم ، فأصابوا منهم مائة أو نحوها فى المعركة ، ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا (١) ، فتحصنوا فيها ، وحصرهم المسلمون فى حصنهم شهرا أو نحوه ، وشق عليهم الحصار ، إذ لم يكونوا أخذوا له أهبته ، فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح ، فقال : لا إلا أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية ، قالوا : أما الحرب المجلية فقد عرفناها ، فما السلم المخزية؟.

قال : تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ، وأن ما أخذنا منكم فهو لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا ، وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر ونحكم فيكم بما رأينا ، فأقروا بذلك ، فقال : اخرجوا عن مدينتكم عزلا لا سلاح معكم ، ففعلوا ، فدخل المسلمون حصنهم ، فقال حذيفة : إنى قد حكمت فيكم : أن أقتل أشرافكم ، وأسبى ذراريكم. فقتل من أشرافهم مائة رجل ، وسبى ذراريهم ، وقدم حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة ، وأربعمائة من الذرية والنساء ، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبى بكر ، فلما قدم حذيفة بسبيهم المدينة ، اختلف فيهم المسلمون ، فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم دار رملة بنت الحارث ، وهو يريد أن يقتل من بقى من المقاتلة.

فكان من كلام عمر له : يا خليفة رسول الله ، قوم مؤمنون إنما شحوا على أموالهم ، والقوم يقولون : والله ما رجعنا عن الإسلام ، ولكن شححنا على أموالنا ، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول ، ولم يزالوا موقفين فى دار رملة بنت الحارث ، حتى توفى أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وولى عمر ، فدعاهم ، فقال : قد كان من رأيى يوم قدم بكم على أبى بكر أن يطلقكم ، وقد أفضى إلى الأمر ، فانطلقوا إلى أى البلاد شئتم ، فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم ، فخرجوا حتى نزلوا البصرة ، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب ، وهو غلام يومئذ ، فكان ممن نزل البصرة.

__________________

(١) دبا : مثل عصا ، موضع بظهر الحيرة ، ودبا فيما بين عمان والبحرين. انظر : الروض المعطار (٢٣٢).


وروى عن ابن عباس : أن رأى المهاجرين فيهم إذا استأسرهم أبو بكر ، كان قتلهم ، أو فداءهم بأغلى الفداء ، وكان عمر يرى أن لا قتل عليهم ولا فداء ، لم يزالوا محتبسين حتى ولى عمر ، فأرسلهم بغير فداء.

ويروى عن عمر بن عبد العزيز : أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم فداء ، ثم نظر فى ذلك ، فقال : لا سباء فى الإسلام وهم أحرار ، والأول أكثر.

وعن عروة قال : لما قدم أهل غزو دبا قافلين ، أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير (١).

ذكر ردة صنعاء

وكان الأسود بن كعب العنسى (٢) قد ادعى النبوة فى عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتبع على ذلك ، فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسى ، وكانت من عظماء فارس ، وقسرها على ذلك ، فأبغضته أشد البغض ، وسمعت به بنو الحارث بن كعب ، من أهل نجران ، وهم يومئذ مسلمون ، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم فى بلادهم ، فجاءهم ، فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام.

ويقال : دخلها يوم دخلها فى آلاف من حمير ، يدعى النبوة ، ويشهدون له بها ، فنزل غمدان ، فلم يتبعه من النخع ولا من جعفى أحد ، وتبعه ناس من زبيد ومذحج ، وعبس وبنى الحارث وأود ومسلية وحكم.

وأقام الأسود بنجران يسيرا ، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران ، فسار إليها فى ستمائة راكب من بنى الحارث ، فنزل صنعاء ، فأبت الأبناء أن يصدقوه ، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها ، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجلا من الأزد ، وقيل من خزاعة ، يقال له وبر بن يحنس إلى الأبناء فى أمر الأسود ، فدخل صنعاء مختفيا ، فنزل على داذويه الأبناوى فخبأه عنده ، وتآمرت الأبناء لقتل الأسود ، فتحرك فى قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح ، وفيروز الديلمى ، وداذويه الأبناوى ، وكانت المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض ، فوعدتهم

__________________

(١) ذكر فى الروض المعطار جميع ما فى هذه القصة (٢٣٢ ـ ٢٣٤).

(٢) اسمه : عبهلة بن كعب ، يقال له : ذو الخمار ، لقب بذلك لأنه كان يقول : يأتينى ذو خمار. انظر ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٨ ـ ٢٠).


موعدا أتوا لميقاته ، وقد سقته الخمر حتى سكر ، فسقط نائما كالميت ، فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما ، فوجدوه على فراش عظيم من ريش ، قد غاب فيه ، فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به ، فوضع ركبته على صدر الكذاب ، ثم فتل عنقه فحولها ، حتى حول وجهه من قبل ظهره ، وأمر فيروز قيسا ، فاحتز رأسه ، فرمى به إلى الناس ، ففض الله الذين اتبعوه ، وألقى عليهم الخزى والذلة ، وخطب الناس قيس بن مكشوح ، وأظهر أن الكذاب قتل بكذبه على الله ، وأن محمدا رسول الله.

وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو فى مرضه الذي توفى فيه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الأسود : «قتله الرجل الصالح فيروز الديلمى» (١) ، ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح ، فكان أمير صنعاء ، وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب ، فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام ، إلا أصحاب الأسود.

ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء ، فأجمع أن يفتك بهما ، فأرسل إليهما يدعوهما ، فجاء داذويه فقتله ، وأقبل فيروز يريده ، فأخبره بقتل داذويه ، فهرب منه إلى أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، وارتد قيس بن المكشوح ، وأخرج الأبناء من صنعاء ، فلم يبق بها أحد إلا فى جوار ، فكان الشعبى يقول فيما ذكر عنه : باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى لأهل اليمن أن يسجدوا لهما : سيف بن ذى يزن فى الحبشة ، وقيس بن مكشوح فى الأبناء الذين بصنعاء ، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء.

ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء ، سار يومها ، وكان فى ناحية أرض مراد ، حتى دخلها ، فاستعداه فيروز على قيس فى قتل داذويه ، فبعث إليه من يأتى به ، فذهب الرسول فأخذه ، ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال : من جاءكم مسلما قد أصاب فى الجاهلية أشياء ما ذا عليه؟ فقال له خالد : هدم الإسلام ما قبله ، فأسلم قيس ، ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز فى المسجد ، فقال له : يا فيروز ، هل لك حاجة إلى الأمير؟.

فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس ، فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن أبى جهل ، وهو يومئذ بأرض عمان : أن سر فى بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء ، فخذ

__________________

(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٤٧٢).


قيس بن مكشوح المرادى ، فابعث به إلى فى وثاق ، فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة ، فقتل فيهم وسبى ، وسار كذلك لا يطأ قوما إلا قاتلوه وقاتلهم ، فقتل منهم وسبى ، حتى رجعوا إلى الإسلام ، وبعث بسبيهم إلى أبى بكر بالمدينة ، ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء ، فلقيه قيس وهو لا يدرى بالذى أمر فيه ، فأمر به عكرمة ، فجعل فى جامعة ، وبعث به إلى أبى بكر ، فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه ، فحلف له ما يدرى من أمره شيئا ، ولا يدرى من قتله ، ورغب فى الجهاد فى سبيل الله ، فخرج إلى قومه من مذحج ، فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه ، فخفوا فى ذلك وخرجوا حتى توجهوا إلى من بعث أبو بكر إلى الشام ، فذلك أول نزول مذحج الشام.

ثم إن الأصفر العكى خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل نجران (١) ، وهو يريد قتال بنى الحارث بن كعب ، فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا إلى الإسلام من غير قتال ، فأقام الأصفر فى نجران ، وضبطها ، وغلب عليها ثم أمر أبو بكر المهاجر بن أبى أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر ، فسار المهاجر يؤم صنعاء ، معه سرية من المهاجرين والأنصار ، فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكى ، ثم سار المهاجر إلى صنعاء ومعه بشر كثير ، فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفصين ، فأخذ عليهم الطريق وألجأهم إلى غيضة ، فقتل منهم وأسر ، ثم أقبل بالأسرى ، ومضى حتى دخل صنعاء ، وقد كانت طوائف من زبيد (٢) ارتدت منهم عمرو بن معدى كرب ، فاجتمع إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج ، فلقى بهم بنى زبيد ، فانهزموا وظفر بهم خالد ، فسبى منهم نسوة ، منهن امرأة عمرو بن معدى كرب جلالة ، وكانت أحسن النساء ، وكان عمرو فيما ذكروا ، غائبا عن ذلك القتال ، فلما ظفر خالد ، سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم ، فكف عنهم ، وأسلموا ، وبلغ الخبر عمرا ، فأقبل حتى نزل بجانب عسكر خالد ، ثم خرج ليلا فتلطف حتى لقى جلالة ، فقال لها : يا جلالة ، ما صنع بك خالد؟ فقالت : لم يصنع بى إلا خيرا ، ولم يعرض علىّ من أمره إلا كرما ، قال : هل قربك؟ قالت : لا والله ، وما يحل له ذلك فى دينه ، قال : فو رب الكعبة إن دينا منعه منك لدين صدق.

__________________

(١) نجران : من بلاد اليمن ، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر : الروض المعطار (٥٧٣ ـ ٥٧٦).

(٢) زبيد : مدينة باليمن بقرب الجند ومعاثر ، تسير فى صحراء رمال حتى تنتهى إلى زبيد ، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد. انظر : الروض المعطار (٢٨٤) ، نزهة المشتاق (٢٠).


فلما أصبح عمرو غدا على خالد ، فقال : ما تريد يا خالد بجلالة؟ قال : قد أسلمت ، فإن تسلم أردها إليك ، فأسلم عمرو ، فردها إليه.

وقدم خالد المدينة ، ثم قدم عمرو بن معدى كرب المدينة ، فدخل على خالد داره ، فقال له : إنى والله ما وجدت شيئا أكافئك به فى جلالة إلا سيفى الصمصامة ، ثم خلعه من عنقه فناوله إياه ، وقال عمرو :

وهبت لخالد سيفى ثوابا

على الصمصامة السيف السلام

خليل لم أخنه ولم يخنى

ولكن التواهب فى الكرام

ذكر ردة كندة وحضرموت

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل عليهم زياد بن لبيد الأنصاري البياضى (١) ، وأمره بالمسير معهم ، ففعل ، وأقام معهم فى ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان رجلا مسلما ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولى أبو بكر ، بعث أبا هند مولى بنى بياضة ، بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.

أما بعد ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ، فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك ، ويبايع من عندك ، فمن أبى وطئته بالسيف ، وتستعين بمن أقبل على من أدبر ، فإن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

فلما قدم أبو هند بكتاب أبى بكر رحمه‌الله ، على زياد بن لبيد ، قدم من الليل ، وأخبره باجتماع الناس على أبى بكر ، وأنه لم يكن بين المسلمين اختلاف ، فحمد الله زياد على ذلك ، فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك ، ثم دخل بيته ، فلما جاءت الظهر ، خرج إلى الصلاة وعليه السيف ، فقال بعض الناس : ما شأن أميركم والسيف ، فصلى الظهر بالناس ، ثم قال :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٣٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٨٧١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٠٩) ، التاريخ الكبير (٣ / ٣٤٤) ، أنساب الأشراف (١ / ٢٤٥) ، الجرح والتعديل (٣ / ٥٤٣) ، تهذيب الكمال (٩ / ٥٠٦) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٣٨٢) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ١٠) ، تاريخ الإسلام (١ / ٥٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٥).


أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى ، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة ، وقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأمره فى مرضه أن يصلى بالناس ، فبايعوا أيها الناس ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

فقال الأشعث بن قيس : إذا اجتمع الناس ، فما أنا إلا كأحدهم ، ونكص عن التقدم إلى البيعة ، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى : أنشدك الله يا أشعث ، ووفادتك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسلامك أن تنقضه اليوم ، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه ، فإياك إياك ، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك ، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا ، فأبى الأشعث ، وقال : قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر ، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال : أى والله ، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترجع إلى الكفر.

قال الأشعث : من قال زياد بن لبيد ، فتضاحك ، ثم قال : أما يرضى زياد أن أجيره ، فقال امرؤ القيس : سترى ، ثم قام الأشعث ، فخرج من المسجد إلى منزله ، وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة ، ووقف يتربص ، وقال : نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ، ونكون من آخر الناس ، وبايع زياد بن لبيد لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر ، فصلى بالناس العصر ، ثم انصرف إلى بيته ، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل ، وهو أقوى ما كان نفسا ، وأشده لسانا ، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة ، فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان ، وكان الميسم لله ، أتى الفتى ، فصاح : يا حارثة بن سراقة (١) ، يا أبا معدى كرب ، عقلت البكرة ، فأتى حارثة إلى زياد ، فقال : أطلق للفتى بكرته ، فأبى زياد ، فقال : قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان ، فقال حارثة : أطلقها أيها الرجل طائعا ، خير من أن تطلقها وأنت كاره ، قال زياد : لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين. فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها ، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار ، وجعل حارثة يقول :

أطعنا رسول الله ما كان وسطنا

فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر

أيورثها بكرا إذا مات بعده

فتلك إذا والله قاصمة الظهر

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤٥٩) ، الإصابة الترجمة رقم (١٥٢٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٩٩٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١١٢) ، الجرح والتعديل (١ / ١٤٥) ، شذرات الذهب (١ / ٩) ، تصحيفات المحدثين (٩٧٦).


قالوا : فكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل ، فلما كان يوم من تلك الأيام ، ضاربهم كذلك حتى أمسى ، ولم يكن فيما مضى يوم أشد منه ، كانت بينهم فيه قتلى وجراح. قال أبو هند : برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز ، فبرزت إليه ، فتشاولنا بالرمحين نهارا طويلا ، فلم يظفر واحد منا بصاحبه ، ثم صرنا إلى السيفين ، فما قدر واحد منا على صاحبه ، ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه ، فاقتحم وصار راجلا ، ويدرك فرسى فيضرب عرقوبيه ، فوقعت إلى الأرض ، وأفضى أحدنا إلى صاحبه ، فبدرته ، فأضربه ، فأقطع يده من المنكب ، فوقع السيف من يده ، وولى منهزما ، وألحقه ، فأجهزت عليه ، فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم.

قالوا : فلما أمسوا من ذلك اليوم ، وتفرقوا ، وزياد فى بيته قد بعث العيون ، إذ جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه ، وقال : هل لك فى الظفر؟ فقال : ما هو؟ قال : ملوكهم الأربعة فى محجرهم قد ثملوا من الشراب ، فسار من ساعته فى مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر ، فتقدم العين فاستمع الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا ، فأغار عليهم ، فقتل الملوك الأربعة ، مخرس ومشرح وحمد وأبضعة ، وأختهم العمرة ذبحهم ذبحا ، وكانوا ملوك كندة وأشرافهم.

ويقال : كانت الملوك سبعة : الأشعث بن قيس ، ومخرس ، وحمد ، ووديعة ، وأبضعة ، ومشرح ، ووليعة. فقتل منهم أربعة ، ثم رجع زياد إلى أهله ، فأصبح القوم قد انكسر حدهم وذلوا.

وقالوا : إن العمردة لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضربت بغربال ، فقطع زياد لذلك يدها ، وصلبها ، فهى كانت أول امرأة قتلت فى الردة.

وبعث زياد أبا هند إلى أبى بكر وكتب معه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لأبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة ، أو عامتهم وأبوا أن يسلموها ، وقاتلوا دونها أشد القتال ، وأظهروا الردة عن الإسلام ، فبعثت عيونا فى طلب غرتهم ، فأتانى آت منهم يخبرنى بغرة منهم ، فزحفت إليهم ليلا ، فقتلتهم فى محجرهم ، وكانوا أربعة : مخرس ومشرح وحمد وأبضعة ، وأختهم العمردة ، فأصبحوا وقد ذلوا وانكسروا ، وإنى كتبت إليك والسيف على عاتقى ، وبعثت إليك أبا هند بالكتاب ، وأمرته أن يجد السير ، وأن يخبرك بما رأى وشهد ، وإن الكتاب موجز ، وعنده علم ما كنا فيه ، والسلام.


فيروى أن أبا هند قال : خرجت من عند زياد بعد أن صليت الغداة على راحلتى ، ومعى رجل من بنى قتيرة على راحلة خفير لى ، فبلغ بى صنعاء ، ثم انصرف ، فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة ، فأرخفت (١) راحلتى ، وما مسيت عنها أكثر مما ركبت ، وانتهيت إلى أبى بكر ، فأجده حين خرج إلى الصلاة ، فلما رآنى قال : أبا هند ، ما ورائك؟ قلت : خير ، والذي يسرك. قتل الملوك الأربعة وأختهم العمردة ، قال : قد كنت كتبت إلى زياد أنهى أن يقتل الملوك من كندة ، وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة ، أما لقيته؟ قلت : ما لقيته.

وقدم المغيرة خلافى ، وذلك أنه أخطأ الطريق ، فذلك الذي أبطأ به ، وجعل أبو بكر يسألنى ، فأخبره عن كل ما يسره ، ثم قال : ما فعل الأشعث بن قيس؟ قلت : يا خليفة رسول الله ، هو أول من نقض ، وهو رأس من بقى ، وقد ضوى إليه ناس كثير ، وقد تحصن فى النجير بمن معه ممن هو على رأيه ، والله مخزيهم ، وقد تركت زياد بن لبيد يريد محاصرتهم ، فقال أبو بكر : قد كتبت إلى المهاجر بن أبى أمية أن يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا.

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قتل الأسود العنسى (٢) بعث المهاجر واليا على صنعاء ، فتوفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمهاجر وال عليها ، فانحاز إلى زياد بحضرموت ، كما أمره أبو بكر.

وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام ، لم يرجع منها رجل واحد ، فلما قدم المهاجر على زياد اشتد أمرهما ، وكانا يحاصران أهل النجير ، وكان أهل النجير قد غلقوه ، فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس ، وجثم زياد ومهاجر على النجير ، فحاصروا أهله بالمسلمين ، لا يفارقونه ليلا ولا نهارا ، وقذف الله الرعب فى أفئدتهم ، فلما اشتد به الحصار ، بعثوا إلى زياد بن لبيد : أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن ، فقال : لا أبرح شبرا واحدا حتى نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكما ورأينا ، وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم. فكتب كتابا ، ثم بعث به فى السر مع رجل من بنى قتيرة ليلا ، مسيرة يوم أو بعض يوم ، ثم يأتيه بكتابه الذي كتبه فيقرؤه على الناس :

من أبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك

__________________

(١) أرخف : بالكسر أى تعب. انظر اللسان (١٦١٦).

(٢) انظر خبر قتل الأسود العنسى فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٣٦).


الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد بلغنى ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين ، غرة بالله ، والله مخزيهم إن شاء الله ، فاحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف. فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان بن فلان ، وخمسة آلاف عليهم فلان بن فلان ، وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا ، فإذا جاءك كتابى هذا فإن أظفرك الله بهم فإياك والبقيا فى أهل النجير ، حرق حصنهم بالنار ، واقطع معايشهم ، واقتل المقاتلة ، واسب الذرية ، وابعث بهم إن شاء الله.

وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه ، فكانوا إذا قرئ عليهم هذا الكتاب أيقنوا بالهلكة ، واشتد عليهم الحصار ، وندموا على ما صنعوا ، فبينا هم على ذلك الحصار قد جهدهم ، قال الأشعث : إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث عيالنا ، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به ، وقد ضعفنا عمن معنا ، فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع ، أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية. قالوا : وهل لنا قوة بالقوم؟ فما ترى لنا؟ فأنت سيدنا ، قال : أنزل فآخذ لكم الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد ، بما لا قبل لنا به ، فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث : افعل وخذ لنا أمانا ، فإنه ليس أحد أجرأ على ما قبل زياد منك ، قال : فأنا أنزل.

فأرسل إلى زياد : أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال : نعم ، فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد ، فقال : يا ابن عم ، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه ، وإن لى قرابة ورحما ، وإن أوصلتنى إلى صاحبك قتلنى ، يعنى المهاجر بن أمية (١) ، وأن أبا بكر يكره قتل مثلى ، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة ، فأنا أحدهم ، وأنا أطلب منك الأمان على أهلى ومالى ، فقال زياد : لا أؤمنك أبدا على دمك وأنت كنت رأس الردة والذي نقض علىّ كندة ، فقال : أيها الرجل ، دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت ، قال زياد : وما ذا؟ قال : وأفتح لك النجير ، فأمنه زياد على أهله وماله ، على أن يقدم به على أبى بكر ، فيرى فيه رأيه ، وفتح له النجير.

وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم ، قال لزياد : رده إلى الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه ، فنكون قد استأصلنا شأفة الردة ، فأبى زياد إلا أن يؤمنه ، وقال : أخشى أن يلومنى أبو بكر فى قتله وقد جاءنى كتابه ينهانى عن قتل الملوك الأربعة ، فأخاف مثل ذلك ، مع أن أبا بكر إن أراد قتله فله ذلك ، إنما جعل له الأمان على

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٣١) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٢٧١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥١٣٤) ، مؤتلف الدارقطنى (ص ١٦٣).


نفسه وماله إلى أن يبلغ أبا بكر ، لا أدع من عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به ، وأحول بينه وبين ما هاهنا مما لا يطيق حمله ، حتى يأتى رأى أبى بكر فيه ، فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله وبماله إلى أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، فيحكم فيه بما يرى.

وفتحوا له النجير ، فأخرجوا المقاتلة ، فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة فضرب أعناقهم على دم واحد ، ولام القوم الأشعث ، فقالوا لزياد : غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله ، ولم يأخذ لنا ، وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا ، فنزلنا ونحن آمنون ، فقتلنا. فقال زياد : ما أمنتكم ، فقالوا : صدقت ، خدعنا الأشعث.

قال الواقدى : وقد ذكروا فى فتح النجير وجها آخر عن أبى مغيث ، قال : كنت فيمن حضر أهل النجير ، فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا ، ففعل ، فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث ، فكانوا أحدا وسبعين ، فقال زياد : أقتلك ، لم يكن لك أمان ، فقال الأشعث : تؤمننى على أن أقدم على أبى بكر فيرى فىّ رأيه ، فآمنه على ذلك ، والقول الأول أثبت.

وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن [حزمة] (١) إلى زياد بن لبيد يقول : إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم ، فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم فى أول النهار سبعمائة فى صعيد واحد ، قال نهيك : فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بنى قريظة يوم قتلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى زياد أن يوارى جثثهم ، وتركهم للسباع ، فكان هذا أشد على من بقى من القتل ، وهرب أهل الردة فى كل وجه ، وكان لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل.

ثم بعث زياد بالسبى مع نهيك ، وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة ، وبعث بالأشعث معهم فى وثاق.

قال عبد الرحمن بن الحويرث : رأيته يوم قدم به المدينة فى حديد ، مجموعة يداه إلى عنقه.

ونزل نهيك بالسبى فى دار رملة بنت الحارث ، ومعهم الأشعث بن قيس ، ولما كلمه أبو بكر جعل يقول : يا خليفة رسول الله ، والله ما كفرت بعد إسلامى ، ولكنى شححت على مالى ، فقال أبو بكر : ألست الذي يقول : قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا؟ فرد عليك من هو

__________________

(١) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل ، وفى الاستيعاب الترجمة رقم (٢٦٦٧) : «نهيك بن أوس بن خزمة». وانظر ترجمته فى : الإصابة (٨٨٣٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٣١٠).


خير منك ، فقال : لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر ، فقلت : من ، قال : زياد بن لبيد ، فتضاحكت ، فكيف وجدت زيادا ، أذكرت به أمه؟ قال الأشعث : نعم كل الأذكار ، ثم قال فى آخر قوله : أيها الرجل ، أطلق إسارى ، واستبقنى لحربك ، وزوجنى أختك أم فروة بنت أبى قحافة ، فإنى قد تبت مما صنعت ، ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة ، فأسعفه أبو بكر فزوجه ، فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب ، وثاب الناس إلى فتح العراق ، فخرج الأشعث مع سعد بن أبى وقاص.

قالوا : وقدم على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن يفادوا بينهم ، وقالوا : يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا ، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه وبايعوك راضين ، فقال أبو بكر : بعد ما ذا؟ بعد أن وطئكم السيف؟ فقالوا : يا خليفة رسول الله ، إن الأشعث غدر بنا ، كنا جميعا فى الحصن ، فكان أجزعنا ، وكان أول من نقض ، وأبى أن يدفع الصدقة ، وأمرنا بذلك ، ورأسنا ، فلم يبارك لنا فى رئاسته. فقال : أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا ، فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيبني ما يصيبكم ، فنزل ، فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه ، وقتلنا صبرا بالسيف.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك بن أوس إن ظفرتما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمى.

فقال المتكلم : قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد ، وقد رجوناك يا خليفة رسول الله.

ولما كلمه الوفد فى أن يرد عليهم السبى ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك ، وخطب الناس على المنبر ، فقال : أيها الناس ، ردوا على هؤلاء نساءهم وذراريهم ، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا ، قد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم.

وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء ، وأمره أيضا بإخراج الخمس.

قال الواقدى : سألت معاذ بن محمد فقلت : أرأيت الأربعة الأخماس ، حيث أمر أبو بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة ، ما فعل بها؟ قال : جمع أبو بكر ذلك كله فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا فى الحصن النجير من الرثة والسلاح ، ومما أصابوا من غير ذلك ، فجعلوه مغنما.


وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبى جهل وهو يومئذ بدبا ، فسار إليهم فى سبعمائة فارس ، وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام ، فأمر أبو بكر بأن يسهم لهم فى ذلك ، فأسهم لهم.

ونظرت عجوز من سبى النجير إلى الأشعث بن قيس ، فقالت : قبحت من وافد قوم ورسولهم ، أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء ، وقتلت رجالنا بغدرك ، ولم تواسهم بنفسك ، وأنت شأمتهم ، رأسوك فلم يبارك لهم فى رئاستك ، والله ما رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم ، فقتلوا ، ورجعت أنت عن الإسلام فنجوت ، ما كان أحد قط ، أشأم على قومه منك.

ومما يحفظ من شعر الأشعث ، يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل النجير وهم سبعمائة كما تقدم :

فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم

وما الدهر عندى بعدهم بأمين

فليت جنوب الناس تحت جنوبهم

ولم تمش أنثى بعدهم بجنين

فكنت كذات البو ضغت فأقبلت

إلى بوها أو طربت بحنين

لغمرى وما عمرى على بهين

لقد كنت بالقتلى أحق ضنين

ويروى أن الأشعث إنما قال هذا فى الملوك الأربعة الذين قتلوا ، ومن روى هذا أنشد الشعر هكذا :

لعمرى وما عمرىّ على بهين

لقد كنت بالأملاك حق ضنين

فإن يك هذا الدهر فرق بينهم

فما الدهر عندى بعدهم بأمين

فليت جنوب الناس تحت جنوبهم

ولم يبشرونى بعدهم بجنين

وكنت كذات البو ريعت فأقبلت

على بوها أو طربت بحنين

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر

الصديق رضي‌الله‌عنه ، من ذلك وما قوى عزمه عليه (١)

حدث سهل بن سعد الساعدى رضي‌الله‌عنه ، قال : لما فرغ أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، من أهل الردة ، واستقامت له العرب ، حدث نفسه بغزو الروم ، ولم يطلع عليه أحدا ، فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه ، فقال : يا خليفة رسول الله

__________________

(١) راجع المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧).


أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ قال : نعم ، قد حدثت نفسى بذلك ولم أطلع عليه أحدا ، وما سألتنى إلا لشىء. قال : أجل ، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشى فى ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل ، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت قلة فى أعاليه ، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك ، ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة ، فيها الزروع والعيون والقرى والحصون ، فقلت : يا للمسلمين! شنوا الغار على المشركين ، فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة!.

فشد المسلمون وأنا فيهم ومعى راية ، فتوجهت بها إلى قرية فسألونى الأمان فأمنتهم ، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم ، ففتح لك ، وألقوا إليك السلم ، ووضع لك عريش فجلست عليه ، ثم قال لك قائل : يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته ، ثم قرأ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ١ ، ٤].

ثم انتهيت ، فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنه : نامت عينك ، ثم دمعت عينا أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، فقال : أما الحرشفة التي كنا نمشى عليها حتى صعدنا منها إلى القلة لعالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا ، وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه ، فيه الخصب والمعاش ، وأما قولى للمسلمين : شنوا عليهم الغارة ، فإنى ضامن لكم بالفتح والغنيمة ، فإن ذلك توجيهى للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثى إياهم على الجهاد ، وأما الراية التي كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك ، وأما الحصن الذي فتح لنا فهو ذلك الوجه ، يفتحه الله علىّ ، وأما العريش الذي رأيتنى عليه جالسا ، فإن الله يرفعنى ويضع المشركين ، وأما الذي أمرنى بالعمل وبالطاعة وقرأ علىّ السورة فإنه نعى إلىّ نفسى ، إن هذه السورة حين أنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علم أن نفسه قد نعيت إليه ، ثم سألت عينا أبى بكر ، فقال : لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا : الله أحد ، الله أحد ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، أمر الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا توفانى الله لم يجدنى وانيا ، ولا فى ثواب المجاهدين فيه زاهدا ، ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء ، وبعث إلى الشام البعوث.

وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى ، وكانت له صحبة ، قال : لما أراد أبو بكر أن


يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم ، فدخلوا عليه وأنا فيهم ، فقال : إن الله تبارك وتعالى ، لا تحصى نعمه ، ولا تبلغ جزاءها ، الأعمال ، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم ، قد جمع كلمتكم ، وأصلح ذات بينكم ، وهداكم إلى الإسلام ، ونفى عنكم الشيطان ، فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن تتخذوا إلها غيره ، فالعرب اليوم بنو أم وأب ، وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام ، فمن هلك منهم هلك شهيدا ، وما عند الله خير للأبرار ، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين ، مستوجبا على الله ثواب المجاهدين ، هذا رأيى الذي رأيت ، فليشر على كل امرئ بمبلغ رأيه(١).

فقام عمر رضي‌الله‌عنه ، فقال : الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه ، والله ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقتنا إليه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأى الذي ذكرت غير مرة ، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن ، فقد أصبت ، أصاب الله بك سبيل الرشاد ، سرب إليهم الخيل فى أثر الخيل ، وابعث الرجال بعد الرجال ، والجنود يتبعها الجنود ، فإن الله تعالى ناصر دينه ، ومعز الإسلام وأهله ، ومنجز ما وعده رسوله.

ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه قام ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إنما الروم بنو الأصفر حد حديد ، وركن شديد ، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما ، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدنى أرضهم ، وترجع إليك ، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم ، وغنموا من أدانى أرضهم ، فقووا بذلك على قتالهم ، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن ، وأقاصى ربيعة ومضر ، فتجمعهم إليك جميعا ، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك ، وإن شئت أغزيتهم غيرك.

ثم جلس وسكت ، وسكت الناس ، فقال لهم أبو بكر : ما ذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال:نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين ، شفيق عليهم ، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه ، فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم.

فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (١ وما بعدها).


من المهاجرين والأنصار : صدق عثمان ، ما رأيت من الرأى فامضه ، فإنا سامعون لك ، مطيعون ، لا نخالف أمرك ، ولا نتهم رأيك ، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك.

فذكروا هذا وأشباهه ، وعلى رضي‌الله‌عنه ، فى القوم لا يتكلم ، فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنهما : ما ذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال : أرى أنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى. قال : بشرك الله بخير ، ومن أين علمت هذا؟.

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون» (١).

فقال أبو بكر : سبحانه الله! ما أحسن هذا الحديث ، لقد سررتنى به ، سرك الله فى الدنيا والآخرة.

ثم إنه قام فى الناس فذكر الله بما هو أهله ، وصلى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أيها الناس ، إن الله تعالى ، قد أنعم عليكم بالإسلام ، وأعزكم بالجهاد ، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين ، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام ، فإنى مؤمر عليكم أمراء ، وعاقد لهم عليكم ، فأطيعوا ربكم ، ولا تخالفوا أمراءكم ، ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

فسكت القوم ، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم ، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم ، فقام عمر رحمه‌الله ، فقال : يا معشر المسلمين ، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لابتدرتموه! فقام إليه عمرو بن سعيد فقال : يا ابن الخطاب ، ألنا تضرب أمثال المنافقين؟ فما يمنعك مما عتبت علينا فيه؟. فقال : الاتكال ، على أنه يعلم أنى أجيبه لو يدعونى ، وأغزو لو يغزينى.

فقال عمرو : ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا ، فإنما نغزو لله ، فقال أبو بكر لعمرو: اجلس رحمك الله ، فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه ، إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد ، فقام خالد بن سعيد (٢) فقال : صدق خليفة

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٨٧) ، المستدرك للحاكم (٤ / ٤٤٩) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٤١٧٢ ، ٣٤٥٥٨) ، الدر المنثور للسيوطى (٣ / ١٨).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٦١٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٢١٧٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٣٦٥) ، نسب قريش (١٧٤) ، طبقات ابن خليفة (١١ / ٢٩٨) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (١٧٢) ، تاريخ الإسلام (١ / ٣٧٨) ، العقد الثمين (٤ / ٢٦٧).


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجلس يا أخى ، فجلس أخوه ، فقال خالد : الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، الذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فالله منجز وعده ، ومعز دينه ، ومهلك عدوه.

ثم أقبل على أبى بكر فقال : ونحن أولا غير مخالفين لك ، ولا متخلفين عنك ، وأنت الوالى الناصح الشفيق ، ننفر إذا استنفرتنا ، ونطيعك إذا أمرتنا ، ونجيبك إذا دعوتنا ، ففرح بمقالته أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وقال له : جزاك الله خيرا من أخ وخليل ، فقد أسلمت مرتغبا ، وهاجرت محتسبا ، وهربت بدينك من الكفار لكى يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته ، فأنت أمير الناس ، فتيسر رحمك الله.

ثم إنه نزل ، ورجع خالد بن سعيد فتجهز ، وأمر أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، بلالا فأذن فى الناس : انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم : الروم بالشام ، وأمير الناس خالد بن سعيد ، فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم ، وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر ، فاحتبس عن أبى بكر ببيعته أياما ، وأتى بنى هاشم وقال : أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار ، فإذا رضيتم رضينا ، وإذا سخطتم سخطنا ، حدثونى : أبايعتم هذا الرجل؟ قالوا : نعم ، قال : على بر ورضى من جماعتكم؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى أرضى إذا رضيتم ، وأبايع إذا بايعتم ، أما أنكم والله يا بنى هاشم فينا لطوال الشجر ، طيبو الثمر ، ثم بايع أبا بكر بعد ذلك.

وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال ، واضطغن ذلك عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام ، أتى عمر ، أبا بكر فقال : أتولى خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته ، وقال لبنى هاشم ما بلغك ، وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح؟ ما أرى أن توليه وما آمن خلافه ، وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه ، فدعا يزيد بن أبى سفيان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة ، فقال لهم : إنى باعثكم فى هذا الوجه ، ومؤمركم على هذا الجند ، وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه ، فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة. وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الأمير ، انطلقوا فتجهزوا.

فخرج القوم يتجهزون ، وبلغ ذلك خالد بن سعيد ، فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة ، ثم أقبل نحو أبى بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا ، وقد تيسر الناس ، وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة ، فسلم على أبى بكر وعلى المسلمين ، ثم جلس ، فقال


لأبى بكر : أما إنك كنت وليتنى أمر الناس ، وأنت لى غير متهم ، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا ، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن ، والله ما أنا فى الإمارة براغب ، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص ، وإنى أشهدكم أنى وإخوتي وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت ، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم ، فقال له الناس خيرا ، ودعوا له به ، وقال أبو بكر رحمه‌الله : أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك ، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده ، وإقامة كتابه ، واتباع سنة رسوله (١).

فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه ، فكان أول خلق الله عسكر ، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا ، فخرج أبو بكر ذات يوم ، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة ، فلم يرض كثرتها للروم ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر : ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر ، فأقبل على أصحابه فقال : ما ذا ترون؟ فقالوا : ونحن أيضا ، نرى ما رأى عمر ، فقال أبو بكر : أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه ، فقالوا : نعم ما رأيت ، فافعل.

فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن ، سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى ، كتب على المسلمين الجهاد ، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا ، فقال جل ثناؤه : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الصف : ٩] ، فالجهاد فريضة مفروضة ، وثوابه عند الله عظيم ، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ، وقد سارعوا إلى ذلك ، وعسكروا وخرجوا ، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم ، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم ، وإلى إحدى الحسنيين : إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ، إن الله جل ذكره ، لم يرض من عباده بالقول دون العمل ، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب ، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم ، وزكى أعمالكم ، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين ، والسلام عليكم.

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧ ، ٣٨٨).


وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس : أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا (١) ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم كتاب أبى بكر الصديق ، فإذا فرغت من قراءته قلت : الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما بعد ، فإنى رسول خليفة رسول الله إليكم ، ورسول المسلمين ، ألا وإنى قد تركتهم معسكرين ، ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم ، فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر ، رحمكم الله أيها المسلمون.

قال : فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع منى هذا القول يحسن الرد ويقول: نحن سائرون ، وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذى الكلاع (٢) ، فلما قرأت عليه الكتاب ، وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه ، وأمر بالعسكرة ، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن ، وسارعوا ، فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم قال :

أيها الناس ، إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ ، فعلمكم ما يرشدكم ، ونهاكم عما يفسدكم ، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ورغبكم من الخير فما لم تكونوا فيه ترغبون ، وقد دعاكم إخوتكم الصالحون إلى جهاد المشركين ، واكتساب الأجر العظيم ، فلينفر من أراد النفر معى الساعة.

قال : فنفر بعدد من الناس كثير ، وأقبل بهم إلى أبى بكر رحمه‌الله ، فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله ، وأبو عبيدة يصلى بأهل ذلك العسكر.

فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها ، فرح بهم أبو بكر وقام فقال : عباد الله ، ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها : نصر الله المسلمين وخذل المشركين؟ فأبشروا أيها المسلمون ، قد جاءكم النصر.

قال : وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم

__________________

(١) فى تاريخ فتوح الشام : «.... أتيت أهل اليمن جناحا جناحا ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم ..».

(٢) ذى الكلاع : هو : «أيفع بن يزيد بن النعمان» ، وسمى بذلك لأن حمير تلكعوا ، أى اتحدوا وتحالفوا على يديه وهو الذي خطب الناس وحرضهم على القتال. انظر ترجمته فى : شذرات الذهب (١ / ٢١٤).


عليه ثم جلس ، فقال له : ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال : ما كنا ننتظر إلا قدومكم ، قال : فقد قدمنا ، فابعث الناس الأول فالأول ، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع(١).

قال : فعند ذلك خرج أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، يمشى ، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له ، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤيّ فعقد له ، ثم قال له : أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه ، ثم قال ليزيد : إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل ، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك ، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين ، فقال يزيد : لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه ، ثم إنه خرج معه يمشى ، فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله ، إما أن تركب ، وإما أن تأذن لى فأمشى معك ، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ما أنا براكب ، وما أنت بنازل ، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله ، ثم أوصاه فقال :

يا يزيد ، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته ، والإيثار له ، والخوف منه ، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن ، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل ، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له ، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رءوسهم كأن أوساطها أفاحيص (٢) القطا ، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رءوسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام ، وأستودعك الله.

ثم أخذ بيده فودعه ، ثم قال : إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس ، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين ، فأحسن صحبتهم ، وألن لهم كتفك ، واخفض لهم جناحك ، وشاورهم فى الأمر ، أحسن أحسن الله لك الصحابة ، وعلينا الخلافة.

فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام ، وكان أبو بكر رحمه‌الله ، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة ، ويدعو بعد صلاة العصر ، فيقول : اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا ،

__________________

(١) الخف : الإبل. والكراع : الخيل.

(٢) أفاحيص : جمع أفحوص ، وهو التراب ، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.


ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا ، فهديتنا وكنا ضلالا ، وحببت إلينا الايمان وكنا كفارا ، وكثرتنا وكنا قليلا ، وجمعتنا وكنا أشتاتا ، وقويتنا وكنا ضعفاء ، ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك ، بجهاد من عاداك ، ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك ، لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين ، اللهم افتح لهم فتحا يسيرا ، وانصرهم نصرا عزيزا ، وشجع جبنهم ، وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم ، وأدخل الرعب قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، واقطع دابرهم ، وأبد خضراءهم ، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم ، وكن لنا وليا ، وبنا حفيا ، وأصلح لنا شأننا ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ، إنه بالمؤمنين رءوف رحيم.

وعن أنس قال : لما بعث أبو بكر رحمه‌الله ، يزيد بن أبى سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبى بكر ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إنى قد رأيت فيما يرى النائم كأنك فى جماعة من المسلمين كثيرة ، وكأنك بالشام ونحن معك ، إذ استقبلك النصارى بصلبها ، والبطارقة بكتبها ، وانحطوا عليك من كل شرف وحدب ، وكأنهم السيل ، فاعتصمنا بلا إله إلا الله ، وقلنا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم ، فإذا نحن بآت قد أتى ، فنزل بأعلى شاهقة فى الجبل حتى استوى بالحضيض ، ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هى نار ، ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون ، فصارت نارا تأجج ، ثم إنها خبت فصارت رمادا ، ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم ، فرفع الناس رءوسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه ، فهذا ما رأيت ، ثم انتبهت.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : نامت عينك ، هذه بشرى ، وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه ، وأنت أحد أمرائى ، فإذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير ، ففعل ، فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه ، فقال له : يا شرحبيل ، ألم تسمع وصيتي يزيد بن أبى سفيان؟ قال : بلى ، قال : فإنى أوصيك بمثلها ، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبى سفيان ، أوصيك بالصلاة لوقتها ، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل ، وبعيادة المرضى وحضور الجنائز ، وبذكر الله كثيرا على كل حال ، فقال له أبو


سفيان : إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا ، وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام ، فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى. فقال شرحبيل : الله المستعان ، وما شاء الله أن يكون كان ، ثم ودع أبا بكر وخرج فى جيشه قبل الشام ، وبقى عظم الناس مع أبى عبيدة فى العسكر يصلى بهم ، وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر ، فيسرحه ، وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان ، يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين ، ويريد إن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين ، فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع ، واسمه أيقع ، وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه ، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى ، وجاء حابس بن سعد الطائى فى عدد كثير من طيئ ، وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسى ، وفيهم أبو هريرة ، وجاءت جماعة من قبائل قيس ، فعقد أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، لميسرة بن مسروق العبسى عليهم ، وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة ، فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق.

وعن سهل بن سعد أن أبا بكر ، رحمه‌الله ، لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه ، فأتاه فسلم عليه ، ثم جلس ، فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه ، فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحى أن يستقبله به ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان فى الله ، وإن كنا لا نجاهد فى سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا ، وإنما ننوى به إذا الفخر فى الدنيا ، إنى أطلب إليك أن تعزلنى عن هذا الجند وتولى عليه من أحببت وأنا أخرج معه ، فأشير عليه برأيى وأنصحه جهدى ، وأواسى المسلمين بنفسى. فقال أبو بكر : سبحان الله ، يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغى به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتى المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد؟ معاذ الله أن نكون من أولئك ، ثم قال له :

اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به ، إنك تخرج فى أشراف العرب وبيوتات الناس وصالحاء المسلمين وفرسان الجاهلية ، كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية ، وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة ، أحسن صحبة من صحبك ، وليكونوا عندك فى الحق سواء ، فاستعن بالله ، وكفى به معينا ، وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا. اخرج من غد إن شاء الله ، فخرج من عنده ، فلما ولى قال : يا أبا عبيدة ، فانصرف إليه ، فقال له : إنى أحب أن تعلم كرامتك علىّ ، ومنزلتك منى ، والذي نفسى بيده ، ما على


الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك ، ولا بهذا ، يعنى عمر ، رحمه‌الله ، ولا له عندى فى المنزلة إلا دون ما لك. فقال أبو عبيدة : رحمك ربك يا خليفة رسول الله ، هذا كان ظنى بك.

قال : فانصرف ، فلما كان من الغد خرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم ، حتى أتى أبا عبيدة ، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع ، ثم قال حين أراد أن يفارقه : يا أبا عبيدة ، اعمل صالحا ، وعش مجاهدا ، ولتتوف شهيدا ، وليعطك الله كتابك بيمينك ، ويقر عينك فى دنياك وآخرتك ، فو الله إنى لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الآخرة ، إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير فى جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره.

فقال أبو عبيدة : رحمك الله يا خليفة رسول الله ، فنشهد بفضلك فى إسلامك ، ومناصحتك الله ، ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون ، ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين ، ذو غلظة على الكافرين ، فبورك لك فيما عملت ، وسددت فيما حملت ، إن أكن صالحا فلربى المنة علىّ بصلاحى ، وإن أكن فاسدا فهو ولى إصلاحى ، وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت ، وأن نطيعك إذا أمرت.

ثم إنه تأخر ، وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال : يا خليفة رسول الله ، إنى أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها ، ثم بدا لى أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعى ، فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه ، قال : هات يا معاذ ، فو الله إنك ما علمت لسديد القول ، موفق الرأى ، رشيد الأمر ، فأدنى راحلته ، ومقود فرسه فى يده ، وهو متنكب القوس ومتقلد السيف ، فقال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، برسالته إلى خلقه ، فبلغ ما أحب أن يبلغ ، وكان كما أحب ربه أن يكون ، فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته ، إنه حميد مجيد ، جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزى النبيين ، ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين ، ورضى منهم بك ، فارتد مرتدون ، وأرجف مرجفون ، ورجعت راجعة عن هذا الدين ، فأدهن بعضنا ، وحار جلنا ، وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا ، واجتمع رأى الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين ، ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه ، فلم ترض منهم بشيء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يرده عليهم ، فنهضت بالمسلمين ، وشمرت للمجرمين ، وشددت بالمطيع المقبل على العاصى المدبر ، حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه ،


وزجل عن الباطل من كان مرتكسا فيه ، فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين فى ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذي يضاعف الله لهم فيه الأجر ، ويعظم لهم الفتح والمغنم ، فأمرك مبارك ، ورأيك محمود ورشيد ، ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة فى العمل بطاعة الله فى عافية ، وإن هذا الذي تسمع من دعائى وثنائى ومقالتى لتزداد فى فعل الخير رغبة ، وتحمد الله تعالى على النعمة ، وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم.

ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه ، ودعا له ، ثم تفرقا ، وانصرف أبو بكر رحمه‌الله ، ومضى ذلك الجيش ، وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة : لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره. فقال : ابن عمى أحب إلىّ من هذا فى قرابته ، وهذا أحب إلىّ من ابن عمى فى دينه ، هذا كان أخى فى دينى على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولىّ وناصرى على ابن عمى قبل اليوم ، فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة.

فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه ، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم : عمرا ، وأبانا ، والحكم ، وعلقمة ومواليه ، ثم أقبل إلى أبى بكر ، رحمه‌الله ، عند صلاة الغداة فصلبى معه ، فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته ، فجلسوا إليه ، فحمد الله خالد وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : يا أبا بكر ، إن الله تبارك وتعالى ، قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين ، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل فى السيرة الوالى على الرعية ، وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان ، ومعدلة الوالى أعم نفعا ، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره ، وارحم الأرملة واليتيم ، وأعن الضعيف والمظلوم ، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك فى الحق منه إذا سخطت عليه ، ولا تغضب ما قدرت على ذلك ، فإن الغضب يجر الجور ، ولا تحقد على مسلم وأنت تستطيع ، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا ، وإن اطلع على ذلك منك عاداك ، وإذا عادى الوالى الرعية وعادت الرعية الوالى كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا ، ولن للمحسن واشتد على المريب ، ولا تأخذك فى الله لومة لائم.

ثم قال : هات يدك يا أبا بكر ، فإنى لا أدرى أنلتقى فى الدنيا أم لا ، فإن قضى الله لنا فى الدنيا البقاء ، فنسأل الله عفوه وغفرانه ، وإن كانت هى الفرقة التي ليس بعدها لقاء ، فعرفنا الله وإياك وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى جنات النعيم.


فأخذ أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، بيده فبكى ، وبكى خالد ، وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة ، وطال بكاؤهم ، ثم إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، قال : انتظر نمشى معك ، قال : ما أريد أن تفعل ، قال : لكنى أريد ذلك ، ومن أراده من المسلمين ، فقام ، وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة ، فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ وإخوته ، فلما خرج من المدينة قال أبو بكر : إنك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت ، وأنا موصيك فاسمع وصاتى وعها ، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة فى الإسلام وفضيلة عظيمة ، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك ، وقد خرجت فى هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى ، فثبت العالم ، وعلم الجاهل ، وعاتب السفيه المسرف ، وانصح لعامة المسلمين ، واخصص الوالى على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك ، واعمل لله كأنك تراه ، واعدد نفسك فى الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعثون ثم مسئولون ومحاسبون ، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين ، ولنقمه من الخائفين.

ثم أخذ بيده فودعه ، وأخذ بأيدى إخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا ، ثم ودعهم المسلمون ، ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها ، وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، ثم قيدت معهم خيلهم ، فخرجوا بهيئة حسنة ، فلما أدبروا قال أبو بكر : اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين.

وقد قيل : إن أبا بكر رحمه‌الله ، جعل خالدا ردءا بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه‌الله (١) ، فى بعض أمره وعصاه فى بعض ، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.

وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى ، أخا عدى بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه‌الله ، فى جماعة من قومه من طيئ نحو ستمائة ، فقال له : إنا أتيناك رغبة فى الجهاد وحرصا على الخير ، ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر ، وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها ، فسرحنا فى أثر الناس ، واختر لنا وليا صالحا نكن معه.

__________________

(١) انظر خبر عزل خالد بن سعيد فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧ ، ٣٨٨).


وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام ، فقال أبو بكر : قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا ، وأقدم المهاجرين هجرة ، الحق بأبى عبيدة بن الجراح ، فقد رضيت لك صحبته ، وحمدت لك أدبه ، فنعم الرفيق فى السفر ، ونعم الصاحب فى الحضر.

قال : فقلت لأبى بكر : فقد رضيت لخيرتك التي اخترت لى. فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها ، لم أغب عن يوم منها.

وعن أبى سعيد المقبرى قال : قدم ابن ذى السهم الخثعمى على أبى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف ، فقال لأبى بكر : إنا تركنا الديار والأصول ، والعشائر والأموال ، وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا ، ونحن نريد جهاد المشركين ، فما ذا ترى لنا فى أولادنا ونسائنا؟ أنخلفهم عندك ونمضى؟ فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا؟ أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا؟.

فقال أبو بكر : سبحان الله ، يا معشر المسلمين ، هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم؟ أما إنى أقسم لك يا أخا خثعم ، لو سمعت هذا القول منك والناس مجتمعون عندى قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندى وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم ، ولك بجماعة المسلمين أسوة ، وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله ، فسر فى حفظ الله وكنفه ، فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها ، فأيهم أحببت أن تصحبه ، فسار حتى لقى يزيد بن أبى سفيان فصحبه.

وعن يحيى بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له : إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف ، فارس من فرسان العرب ، لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية فى الجهاد ، وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب ، فأدنه والطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره ، فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك ، وجهده وجده على عدوك ، ودعا أبو بكر قيسا فقال له : إنى قد بعثتك مع أبى عبيدة الأمين ، الذي إذا ظلم كظم ، وإذا أسىء إليه غفر ، وإذا قطع وصل ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، فلا تعصين له أمرا ، ولا تخالفن له رأيا ، فإنه لن يأمرك إلا بخير ، وقد أمرته أن يسمع منك ، فلا تأمره إلا بتقوى الله ، فقد كنا نسمع أنك


شريف بئيس مجرب ، وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء ، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم فى الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره ، فقد جعل الله فيه الأجر العظيم ، والعز للمسلمين. فقال : إن بقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم ، وجهدى على الكافر ما يسرك ويرضيك ، فقال أبو بكر رحمه‌الله : فافعل ذلك ، فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما ، قال : صدق قيس ووفى وبر.

وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال (١) : لما مضت جنود أبى بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم ، وهو بفلسطين ، وقيل له : قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة ، وهم يزعمون أن نبيهم الذي بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد ، وقد جاءوك وهم لا يشكون أن هذا يكون ، وجاءوك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم ، يقولون : لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا. فقال هرقل : ذلك أشد لشوكتهم ، إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم.

قال : فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم ، ومن كان على دينه من العرب ، فقال : يا أهل هذا الدين ، إن الله قد كان إليكم محسنا ، وكان لدينكم هذا معزا ، وله ناصرا على الأمم الخالية ، وعلى كسرى والمجوس ، وعلى الترك الذين لا يعلمون ، وعلى من سواهم من الأمم كلها ، وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذي كان أمره رشدا وفعله هدى ، فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما ، والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم ، وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا ، اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال ، فسيروا إليهم ، فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم ، وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال ، وقد أمرت عليكم أمراء ، فاسمعوا لهم وأطيعوا ، ثم خرج حتى أتى دمشق فقام مثل هذا المقام ، وقال فيها مثل هذا المقال ، ثم خرج حتى أتى حمص ، ففعل مثل ذلك ، ثم أتى أنطاكية ، فأقام بها وبعث إلى الروم ، فحشدهم إليه ، فجاءه منهم ما لا يحصى عدده ، ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم ، وأعظموا دخول العرب عليهم ، وخافوا أن يسلبوا ملكهم.

وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادى القرى (٢) ، ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبيّ

__________________

(١) راجع : ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم فى هذا الخبر (٤ / ١١٧) ، والطبرى فى تاريخه ٣ / ٣٩٢).

(٢) وادى القرى : من أعمال المدينة. انظر : الروض المعطار (٦٠٢) ، المغانم المطابة (٤٢٣) ، رحلة الناصرى (٣١٠) ، صبح الأعشى (٤ / ٢٩٢).


صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم على ذات المنار (١) ، ثم على زبرا (٢) ، ثم ساروا إلى مؤب (٣) بعمان ، فخرج إليهم الروم ، فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم ، فحاصروهم فيها ، وصالح أهل مؤب عليها ، فكانت أول مدائن الشام صالح أهلها ، ثم سار أبو عبيدة حتى إذا دنا من الجابية (٤) أتاه آت فخبره أن هرقل بأنطاكية ، وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لأحد من الأمم قبلكم ، فكتب أبو عبيدة إلى أبى بكر رضي‌الله‌عنهما :

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أبى بكر ، خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد ، فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزا مبينا ، وأن يفتح لهم فتحا يسيرا ، فإنه بلغنى أن هرقل ملك الروم ، نزل قرية من قرى الشام تدعى بأنطاكية ، وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشدهم إليه ، وإنهم نفروا إليه على الصعب والذلول ، وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك ، والسلام عليك ورحمة الله تعالى.

فكتب إليه أبو بكر : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فقد بلغنى كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم ، فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه ، وفتح من الله عليك وعلى المسلمين ، وأما حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع ، فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم ، ما كان قوم ليدعوا سلطانهم ولا ليخرجوا من مملكتهم بغير قتال ، ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم الحياة ، يحتسبون من الله فى قتالهم الأجر العظيم ، ويحبون الجهاد فى سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم ، الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين ، فالقهم بجندك ، ولا تستوحش لمن غاب من المسلمين ، فإن الله تعالى ذكره معك ، وأنا مع ذلك ممدك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفى ولا تريد أن تزداد ، والسلام عليك. وبعث بهذا الكتاب مع دارم العبسى.

__________________

(١) ذات المنار : موضع فى أول بادية الشام مما يلى الحجاز. انظر : الروض المعطار (٥١٧).

(٢) الزبرا : المكان المرتفع من الأرض ، ويقصد : أحد أماكن البلقاء فى الأردن.

(٣) مؤب : من قرى الشام من أرض البلقاء ، ذكرها ابن الحميرى فى الروض المعطار (٥١٧) ، وذكر قصة خروج أبى عبيدة.

(٤) الجابية : بالشام ، وقال البكرى : هى قنسرين ، وبين الجابية ومنبج أربعة فراسخ ، ومن حلب إليها ستة فراسخ. انظر : الروض المعطار (١٥٣).


وكتب يزيد بن أبى سفيان إلى أبى بكر رحمه‌الله : أما بعد ، فإن هرقل ملك الروم لما بلغه مسيرنا إليه ألقى الله الرعب فى قلبه ، فتحمل ونزل أنطاكية ، وخلف أمراء من جنده على جند الشام ، وأمرهم بقتالنا ، وقد تيسروا لنا واستعدوا ، وقد نبأنا مسالمة الشام أن هرقل استنفر أهل مملكته ، وأنهم جاءوا يجرون الشوك والشجر ، فمرنا بأمرك ، وعجل علينا فى ذلك برأيك ، نتبعه ، نسأل الله النصر والصبر والفتح وعافية المسلمين ، والسلام عليك.

وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثماليّ ، فقال له أبو بكر لما قدم عليه : أخبرنى خبر الناس ، قال : المسلمون بخير ، قد دخلوا أدنى أرض الشام ، ورعب أهلها منهم ، وذكر لنا أن الروم قد جمعت لنا جموعا عظاما ، ولم نلق عدونا بعد ، ونحن فى كل يوم نتوكف لقاء العدو أو نتوقعه ، وإن لم تأتنا جيوش من قبل هرقل ، فليست الشام بشيء. فقال له أبو بكر رحمه‌الله : صدقتنى الخبر ، فقال : وما لى لا أصدقك ، ويحل لى الكذب ، ويصلح لمثلى أن يكذب مثلك ، ولو كذبت فى هذا لم أخن إلا أمانتى وأخن ربى وأخن المسلمين. قال أبو بكر : معاذ الله ، لست من أولئك ، وكتب حينئذ معه بهذا الكتاب : أما بعد ، فقد بلغنى كتابك ، تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية (١) ، وإلقاء الله الرعب فى قلبه من جموع المسلمين ، فإن الله تبارك وتعالى ، وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالرعب ، وأيدنا بملائكته الكرام ، وإن ذلك الدين الذي نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم ، فو ربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين ، ولا من يشهد أنه لا إله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهة شتى ، فإذا لقيتهم فانبذ إليهم بمن معك وقاتلهم ، فإن الله لن يخذلك ، وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله ، وأنا مع ما هنالك ممدكم بالرجال فى أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان إن شاء الله ، والسلام.

ولما رد أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، عبد الله بن قرط (٢) بهذا الكتاب إلى يزيد ، قال له :

__________________

(١) أنطاكية : بتخفيف الياء ، مدينة عظيمة على ساحل البحر ، قالوا : وكل شيء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكية ، ويقال : ليس فى أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. انظر : الروض المعطار (٣٨ ـ ٣٩) ، نزهة المشتاق (١٩٥) ، صبح الأعشى (٤ / ١٢٩).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٦٥٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٩٠٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣١٢٦) ، الجرح والتعديل (٥ / ١٠٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٢٩) ، تهذيب الكمال (٢ / ٧٢٤) ، التاريخ الكبير (٥ / ٣٤) ، تهذيب التهذيب (٥ / ٣٦١).


أخبره والمسلمين أن مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن حذيم.

فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد ، وقرأه على المسلمين ، فتباشروا به ، وفرحوا.

ثم إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، دعا هاشم بن عتبة (١) ، فقال له : يا هاشم ، إن من سعادة جدك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين ، وممن يثق الوالى بنصيحته وصحته وعفافه ، وبأسه ، وقد بعث إلى المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار ، فسر إليهم فيمن يتبعك ، فإنى نادب الناس معك ، فاخرج حتى تقدم على أبى عبيدة.

ثم قام أبو بكر فى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن إخوانكم من المسلمين معافون مكلوءون ، مدفوع عنهم ، مصنوع لهم ، قد ألقى الله جل ثناؤه الرعب منهم فى قلوب عدوهم ، فقد استعصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها دونهم ، وقد جاءتنى رسلهم يخبروننى بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من أقصى قرى الشام ، وأنه وجه إليهم جندا من مكانه ذلك ، فرأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم يشد الله بهم ظهورهم ، ويكبت به عدوهم ، ويلقى به الرعب فى قلوبهم ، فانتدبوا رحمكم الله ، مع هاشم بن عتبة بن أبى وقاص ، واحتسبوا فى ذلك الأجر والخير ، فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة ، وإن هلكتم فهى الشهادة والكرامة.

ثم انصرف إلى منزله ، ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه ، فلما تموا ألفا أمره أبو بكر رحمه‌الله ، أن يسير ، فسلم عليه وودعه ، وقال له أبو بكر : يا هاشم ، إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره ، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته ، وإن الله تعالى قد جمع لك تلك الخصال كلها ، وأنت حديث السن مستقبل الخير ، فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر ، واعلم أنك لا تخطو خطوة ولا تنفق ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله إلا كتب الله لك بذلك عملا صالحا ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. فقال : إن يرد الله بى خيرا يجعلنى كذلك ، وأنا أفعل ، ولا قوة إلا بالله ، أما أنا فأرجو إن لم أقتل أن أقتل ثم أقتل ثم أقتل!.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٧٢٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٣٢٨) ، طبقات الخليفة (٨٣١) ، تاريخ بغداد (١ / ١٩٦) ، مرآة الجنان (١ / ١٠١) ، العقد الثمين (٧ / ٣٥٩) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦) ، العبر (١ / ٣٩).


فقال له عمه سعد بن أبى وقاص : يا ابن أخى لا تطعنن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله ، واعلم أنك خارج من الدنيا وشيكا ، وراجع إلى الله قريبا ، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته ، وعمل صالح أسلفته ، فقال : يا عم ، لا تخافن هذه منى ، إنى إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلى وارتحالى وغدوى ورواحى وسعى وإجلابى ، وطعنى برمحى وضربى بسيفى رياء للناس.

ثم خرج من عند أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، فلزم طريق أبى عبيدة حتى قدم عليه ، فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به.

وبلغ سعيد بن عامر بن حذيم (١) أن أبا بكر يريد أن يبعثه ، فلما أبطأ ذلك عليه ، ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه ، فقال : يا أبا بكر ، والله لقد بلغنى أنك كنت أردت أن تبعثنى فى هذا الوجه ، ثم رأيتك قد سكت ، فما أدرى ما بدا لك فىّ ، فإن كنت تريد أن تبعث غيرى فابعثنى معه ، فما أرضانى بذلك ، وإن كنت لا تريد أن تبعث أحدا فإنى راغب فى الجهاد ، فأذن لى يرحمك الله كيما ألحق بالمسلمين ، فقد ذكر لى أن الروم جمعت لهم جمعا عظيما. فقال أبو بكر : رحمك أرحم الراحمين يا سعيد بن عامر ، فإنك ما علمت من المتواضعين المتواصلين المخبتين المتهجدين بالأسحار ، الذاكرين الله كثيرا.

فقال له سعيد : رحمك الله ، نعم الله علىّ أفضل ، وله الطول والمن ، وأنت والله ما علمت صدوع بالحق ، قوام بالقسط ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، تحكم بالعدل ، ولا تستأثر فى القسم ، فقال له : حسبك يا سعيد ، حسبك ، اخرج رحمك الله ، فتجهز ، فإنى مسرح إلى المسلمين جيشا وأؤمرك عليهم ، فأمر بلالا فنادى فى الناس : أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام ، فانتدب معه سبعمائة رجل فى أيام ، فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال : يا خليفة رسول الله ، إن كنت إنما أعتقتنى لله تعالى لأملك نفسى وأصرف فيما ينفعنى فخل سبيلى حتى أجاهد فى سبيل ربى ، فإن الجهاد إلىّ أحب من المقام ، قال أبو بكر : فإن الله يشهد أنى لم أعتقك إلا له ، وأنى لا أريد منك جزاء ولا شكورا ، فهذه الأرض ذات العرض ، فاسلك أى فجاجها أحببت ، فقال : كأنك أيها الصديق عتبت علىّ فى مقالتى ووجدت فى نفسك منها؟ قال : لا ، والله ما وجدت فى نفسى من ذلك ، وإنى لأحب أن لا تدع هواك لهواى ما دعاك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩٩٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٢٨٠) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٠٨٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٢٣) ، الجرح والتعديل (٤ / ٢٠٥). حلية الأولياء (١ / ٣٦٨) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ٣٢٠).


هواك إلى طاعة ربك ، قال : فإن شئت أقمت معك ، قال : أما إذا كان هواك الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام ، وإنما أردتك للأذان ، ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال ، ولا بد من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث ، فاعمل صالحا يا بلال ، وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله به ما حييت ، ويحسن لك به الثواب إذا توفيت. فقال له بلال : جزاك الله من ولى نعمة وأخ فى الإسلام خيرا ، فو الله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع ، وما كنت لأؤذن لأحد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر.

وجاء سعيد على راحلته حتى وقف على أبى بكر والمسلمين ، فقال له : إنا نؤم هذا الوجه ، فجعله الله وجه بركة ، اللهم فإن قضيت لنا التقاء فاجمعنا على طاعتك ، وإن قضيت لنا الفرقة فإلى رحمتك ، والسلام عليكم ، ثم ولى يذهب. فقال أبو بكر : عباد الله ، ادعوا الله كيما يصحب صاحبكم ويسلمه ، ارفعوا أيديكم رحمكم الله ، فرفع القوم أيديهم إلى ربهم وهم أكثر من خمسين رجلا ، فقال على رضي‌الله‌عنه : ما رفع عدتكم من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئا إلا استجاب لهم ، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم ، فبلغه ذلك بعد ما واقع أرض الشام وقاتل العدو ، فقال : رحم الله إخوانى ، ليتهم لم يكونوا دعوا لى ، قد كنت خرجت وإنى على الشهادة لحريص جاهد ، فما هو إلا أن لقيت العدو فعصمنى الله من الهزيمة والفرار ، وذهب من نفسى ما كنت أعرف من حب الشهادة ، فلما خبرت أن إخواني دعوا لى بالسلامة عرفت أنهم استجيب لهم.

وكان أبو بكر أمره أن يلحق بيزيد بن أبى سفيان ، فسار حتى لحق به ، وشهد معه وقعة العربة والداثنة.

وعن حمزة بن مالك الهمذانى أنه قدم فى جمع عظيم من همذان (١) على أبى بكر ، رحمه‌الله ، قال : فقدموا وهم ألفا رجل أو أكثر ، فلما رأى أبو بكر عددهم وعدتهم سره ذلك ، فقال : الحمد لله على صنيعه للمسلمين ، ما يزال الله تعالى ، يرتاج لهم بمدد من أنفسهم يشد به ظهورهم ويقصم به عدوهم ، قال : ثم إن أبا بكر أمرنا فعسكرنا بالمدينة ، وكنت أختلف إلى أبى بكر غدوة وعشية ، وعنده رجال من المهاجرين والأنصار ، فكان يلطفنى ويدنى مجلسى ، ويقول لى : تعلم القرآن ، وأسبغ الوضوء ، وأحسن الركوع والسجود ، وصل الصلاة لوقتها ، وأد الزكاة فى حينها ، وانصح المسلم ، وفارق المشرك ،

__________________

(١) همذان : بالذال المعجمة ، مدينة من عراق العجم من كور الجبل. انظر : الروض المعطار (٥٩٦) ، نزهة المشتاق (٢٠٣) ، اليعقوبى (٢٧٢).


واحضر البأس يوم البأس. فقلت : والله لأجهدن أن لا أدع شيئا مما أمرتنى به إلا عملته ، إنى لأعلم أنك قد اجتهدت لى فى النصيحة ، وأبلغت فى الموعظة ، ثم إنه خرج إلى عسكرنا وأمرنا أن نتيسر ونتجهز ونشترى حوائجنا ، ثم نعجل على أصحابنا ، فتحثحثنا لذلك وعجلنا بالجهاز ، فلما فرغنا وعلم ذلك بعث إلى فقال : يا أخا همذان ، إنك شريف بئيس ذو عشيرة ، فأحضرهم البأس ، ولا تؤذ بهم الناس.

قال : وكان معى رجال من أهل القرى من همذان ، فيهم جهل وجفاء ، وكانوا قد تأذى منهم أهل المدينة ، فشكوا ذلك إلى أبى بكر ، فقال أبو بكر : نشدتك الله امرأ مسلما سمع نشدى لما كف عن هؤلاء القوم ، ومن رأى عليه حقا فليحتمل ذرب ألسنتهم ، أو عجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد ، إن الله تعالى ، مهلك بهؤلاء وأشباههم غدا جموع هرقل والروم ، وإنما هم إخوانكم ، فلو أن أخا أحدكم فى دينه عجل عليه فى شيء ألم يكن أصوب فى الرأى وخيرا فى المعاد أن يحتمل له؟ قال المسلمون : بلى ، قال : فهم إخوانكم فى الدين وأنصاركم على الأعداء ، ولهم عليكم حق ، فاحتملوا لهم ذلك ، ثم نظر إلىّ فقال : ارتحل ، ما تنتظر؟ فارتحلت وقد قلت له قبل أن نرتحل : علىّ أمير دونك؟ قال : نعم ، هناك ثلاثة أمراء قد أمرناهم؟. فأيهم شئت فكن معه ، فلما لحقت بالمسلمين سألتهم : أى الأمراء أفضل وأيهم كان أفضل عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صحبة؟ فقيل : أبو عبيدة بن الجراح ، فقلت فى نفسى : والله لا أعدل بهذا أحدا ، فجئت حتى أتيت أبا عبيدة ثم قصصت عليه قصة مخرجى ومقدمى على أبى بكر ، وما كان من أمرى وأمر أصحابى بالمدينة ، وبمقدمى عليه واختيارى له ، فقال : بارك الله لك فى إسلامك وجهادك وقدومك علينا ، وبارك لنا فيك وفيمن قدمت به علينا من المسلمين.

وقال عمرو بن محصن (١) : لم يكن أبو بكر رحمه‌الله ، يسأم توجيه الجنود إلى الشام ، وإمداد الأمراء الذين بعث إليها بالرجال بعد الرجال ، إرادة إعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الشرك.

وعن أبى سعيد المقبرى قال : لما بلغ أبا بكر رحمه‌الله ، جمع الأعاجم لم يكن شيء أعجب إليه من قدوم المجاهدين عليه من أرض العرب ، فكانوا كلما قدموا عليه سرح الأول فالأول ، فقدم عليه فيمن قدم أبو الأعور السلمى ، فدخل عليه فقال : إنا جئناك من غير قحمة ولا عدم ، فإن شئت أقمنا معك مرابطين ، وإن شئت وجهتنا إلى عدوك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٩٧٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٩٧٠) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٠٢١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٤١٧).


المشركين ، فقال له أبو بكر : لا ، بل تجاهدون الكافرين ، وتواسون المسلمين ، فبعثه ، فسار حتى قدم على أبى عبيدة.

ثم قدم على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، معن بن يزيد بن الأخنس السلمى فى رجال من بنى سليم ، نحو من مائة ، فقال أبو بكر : لو كان هؤلاء أكثر مما هم لأمضيناهم ، فقال له عمر : والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمد بهم إخوانهم ، أى والله ، وأرى أن تمدهم بالرجال الواحد إذا كان ذا جزاء وغناء.

فقال حبيب بن مسلمة الفهرى : عندى نحو من عدتهم رجال من أبناء القبائل ذوو رغبة فى الجهاد ، فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله ، ثم ابعثنا. فقال له : أما الآن فاخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على إخوانهم.

فخرج فعسكر معهم ، ثم جمع أصحابه إليهم ، ثم مضى بهم حتى قدم على يزيد بن أبى سفيان.

قال : واجتمعت رجال من كعب وأسلم وغفار ومزينة نحو من مائتين ، فأتوا أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، فقالوا : ابعث علينا رجلا ، وسرحنا إلى إخواننا ، فبعث عليهم الضحاك بن قيس ، فسار حتى أتى يزيد ، فنزل معه.

وعن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل قال : لما رأى أهل مدائن الشام أن العرب قد جاشت عليهم من كل وجه ، وكثرة جموعهم ، بعثوا الرسل إلى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد ، فكتب إليهم : إنى قد عجبت لكم حين تستمدوننى وحين تكثرون علىّ عدة من جاءكم ، وأنا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم ، ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم أكثر ممن جاءكم منهم أضعافا ، فالقوهم فقاتلوهم ولا تحسبوا أنى كتبت إليكم بهذا وأنا لا أريد أن أمدكم ، لأبعثن إليكم من الجنود ما تضيق به الأرض الفضاء.

وكانت مدائن أهل الشام من الروم قد أرسلوا إلى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم فى النصر ، ومنهم من حمى للعرب ، فكان ظهور العرب أحب إليه ، وذلك من لم يكن فى دينه راسخا منهم ، وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح ، فكتب إلى أبى بكر رضي‌الله‌عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فالحمد لله الذي أعزنا بالإسلام ، وكرمنا بالإيمان ، وهدانا لما اختلف فيه المختلفون من الحق بإذنه ، إنه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ، وإن عيونى من أنباط الشام نبئونى أن أول أمداد ملك الروم قد وقعوا إليه ، وأن أهل مدائن الشام بعثوا رسلهم إليه يستمدونه ، وأنه كتب


إليهم : أن أهل مدينة من مدائنكم أكثر ممن قدم عليكم من عدوكم ، فانهضوا إليهم فقاتلوهم ، فإن مددى من ورائكم ، فهذا ما بلغنا عنهم ، وأنفس المسلمين طيبة بقتالهم ، وقد خبرنا أنهم تيسروا لقتالنا ، فأنزل الله على المسلمين نصره ، وعلى عدوهم رجزه ، إنه بما يعملون عليم ، والسلام.

قال : فجمع أبو بكر رحمه‌الله ، أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة ، ثم دعا بأشراف الأنصار وذوى السابقة منهم ، فقال عمر : لأى شيء دعوت بهؤلاء؟ فقال : لأستشيرهم فى هذا الأمر الذي كتب إلينا فيه أبو عبيدة. قال له : أما المهاجرين والأنصار فأهل الاستنصاح والمشورة ، وأما رجال أهل مكة الذين كنا نقاتلهم لتكون كلمة الله هى العليا ويقاتلوننا ليطفئوا نور الله بأفواههم جاهدين على قتالنا ، إن قلنا ليس مع الله آلهة ، قالوا : مع الله آلهة أخرى ، فلما أعز الله دعوتنا وصدق أحدوثتنا ونصرنا عليهم أردنا أن نقدمهم فى الأمور ونستشيرهم فيها ونستنصحهم وندنيهم دون من هو خير منهم ، ما أنصفنا إذا نصحاؤنا الذين كانوا يقاتلونهم فى الله حين نقدمهم دونهم ، ولا نراهم وضعهم عندنا إذا جهادهم إيانا وجهدهم علينا ، لا والله لا نفعل ذلك أبدا.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : قد كنت أردت إدناءهم وإنزالهم منا بالمنازل التي كانوا بها فى قومهم من الشرف ، فأما الآن حيث ذكرت ما ذكرت ، فو الله ما أرى الرأى فى هذا إلا رأيك ، فبلغ ذلك أشراف قريش أولئك ، فشق عليهم.

وقال الحارث بن هشام : إن عمر كان فى شدته علينا قبل أن هدانا الله للإسلام مصيبا ، فأما الآن حيث هدانا الله فلا نراه فى شدته علينا إلا قاطعا.

ثم خرج هو وسهيل بن عمرو (١) مع عكرمة بن أبى جهل فى رجال من أشراف قريش حتى أتوا أبا بكر رحمه‌الله ، وعنده عمر ، فقال الحارث : يا عمر ، إنك قد كنت فى شدتك علينا قبل الإسلام مصيبا ، فأما الآن وقد هدانا الله لدينه فما نراك إلا قاطعا ، ثم جثا سهيل بن عمرو على ركبتيه وقال : إياك يا عمر نخاطب ، وعليك نعتب ، فأما خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبرئ عندنا من الضغن والحقد والقطيعة ، ألسنا إخوانكم فى الإسلام ، وبنى أبيكم فى النسب ، أفإنكم إن كان الله قدم لكم فى هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون قرابتنا ومستهينون بحقنا ، ثم قال لهم عكرمة : أما إنكم وإن كنتم

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١١٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٥٨٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٣٢٤).


تجدون فى عداوتنا قبل اليوم مقالا فلستم اليوم بأشد على من ترك هذا الدين ، ولا أعدى منا. فقال لهم عمر رضى الله عن جميعهم ، والله ما قلت الذي بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام ، وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم.

قال سهيل : فإن كنتم إنما فضلتمونا بالجهاد فى سبيل الله ، فو الله لنستكثرن منه ، أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.

وقال الحارث بن هشام : وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله ، والله لأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نفقتين فى سبيل الله ، ولأنفقن مكان كل موقف وقفته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، موقفين على أعداء الله. وقال عكرمة : وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : اللهم أبلغ بهم أفضل ما يأملون ، واجزهم بأحسن ما يعملون ، فقد أصبتم فيما صنعتم ، فأرشدكم الله. فلما خرجوا من عنده أقبل سهيل على أصحابه ، وكان شريفا عاقلا ، فقال لهم : لا تجزعوا مما ترون ، فإنهم دعوا ودعينا ، فأجابوا وأبطأنا ، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم ما نفعكم عيش ، وما من أعمال الله عمل أفضل من الجهاد فى سبيل الله ، فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم ، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا ، فلعلنا أن نبلغ فضل المجاهدين ، فخرجوا حينئذ إلى جهاد الروم. قال : فبلغنى أنهم ماتوا مقترنين بين المسلمين وبين الروم ، رضي‌الله‌عنهم.

ثم دعا أبو بكر ، عمرو بن العاص ، فقال : يا عمرو ، هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين ، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك ، فقال : يا خليفة رسول الله ، ألست أنا الوالى على الناس؟ قال : نعم ، أنت الوالى على من أبعثه معك من هاهنا ، قال : لا ، بل وال على من أقدم عليه من المسلمين ، قال : لا ، ولكنك أحد الأمراء ، فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم ، فسكت عنه ، ثم خرج فعسكر ، واجتمع إليه ناس كثير ، وكان معه أشراف قريش أولئك ، فلما حضر خروجه جاء إلى عمر ، فقال : يا أبا حفص ، إنك قد عرفت بصرى بالحرب ، وتيمن نقيبتى فى الغزو ، وقد رأيت منزلتى عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد علمت أن أبا بكر ليس يعصيك ، فأشر عليه أن يولينى أمر هذه الجنود التي بالشام ، فإنى أرجو أن يفتح الله على يدى هذه البلاد ، وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرون به.


فقال له عمر : لا أكذبك ، ما كنت لأكلمه فى ذلك ، لأنه لا يوافقنى أن يبعثك على أبى عبيدة ، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك ، قال : فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه ، فقال له : ويحك يا عمرو ، إنك والله ما تطلب بهذه الرئاسة إلا شرف الدنيا ، فاتق الله ولا تطلب بشيء من سعيك إلا وجه الله ، واخرج فى هذا الجيش ، فإنك إن يكن عليك أمير فى هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد ، فقال : قد رضيت.

فخرج واستتب له المسير ، فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه ، وقال : يا عمرو ، إنك ذو رأى وتجربة للأمور ، وبصر بالحرب ، وقد خرجت فى أشراف قومك ، ورجال من صالحاء المسلمين ، وأنت قادم على إخوانك فلا تألوهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة ، فرب رأى لك محمود فى الحرب ، مبارك فى عواقب الأمور. فقال له عمرو : ما أخلق أن أصدق ظنك ولأفنك رأيك ، ثم ودعه وانصرف عنه ، فقدم الشام ، فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين.

وكتب أبو بكر رحمه‌الله ، إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فقد جاءنى كتابك تذكر فيه تيسر عدوكم لمواقعتكم ، وما كتب به إليهم ملكهم من عدته إياهم أن يمدهم من الجنود بما تضيق به الأرض الفضاء ، ولعمر الله لقد أصبحت الأرض ضيقة عليه برحبها ، وايم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذي هو به عاجلا إن شاء الله تعالى ، فبث خيلك فى القرى والسواد ، وضيق عليهم بقطع الميرة ، ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمرى ، فإن ناهضوك فانهض إليهم ، واستعن بالله عليهم ، فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناكم بمثلهم أو ضعفهم ، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة ، ولأعرفن ما جبنتم عنهم ، فإن الله فاتح لكم ، ومظهركم على عدوكم ، ومعزكم بالنصر ، وملتمس منكم الشكر ، لينظر كيف تعملون ، وعمرو فأوصيك به خيرا ، فقد أوصيته أن لا يضيع لك حقا ، والسلام عليك.

وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبى عبيدة ، وكان عمرو فى مسيره ذلك إلى الشام ، فيما حدث به عمرو بن شعيب ، يستنفر من مر بهم من الأعراب ، قال : فتبعه منهم ناس كثير ، فلما اجتمعوا هم ومن كان قدم بهم معه من المدينة ، كانوا نحوا من ألفين ، فلما قدم بهم على أبى عبيدة سر بهم هو والناس الذين معه ، واستأنس بهم ، وكان عمرو ذا رأى فى الحرب وبصر بالأشياء ، فقال له أبو عبيدة : أبا عبد الله ، رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك ، إنما أنا رجل منكم ، لست وإن كنت الوالى عليكم بقاطع


أمرا دونكم ، فأحضرنى رأيك فى كل يوم بما ترى ، فإنه ليس بى عنكم غنى. فقال له : أفعل ، والله يوفقك لما يصلح المسلمين.

وقال سهل بن سعد : ما زال أبو بكر رحمه‌الله تعالى ، يبعث الأمراء إلى الشام ، أميرا أميرا ، ويبعث القبائل ، قبيلة قبيلة ، حتى ظن أنهم قد اكتفوا ، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلا.

وذكر أبو جعفر الطبرى (١) ، عن محمد بن إسحاق : أن تجهيز أبى بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتى عشرة ، وأنه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين.

وذكر فى تولية أبى بكر خالد بن سعيد بن العاص جند الشام ، وتأخيره عن ذلك قبل نفوذه نحوا مما تقدم.

وذكر أيضا من طريق آخر أن توليته إياه إنما كان على ربع من ذلك الجند.

وقيل : إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، جعله ردءا بتيماء ، وأمره أن لا يبرحها ، وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه ، وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد ، ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. فأقام ، فاجتمعت إليه جموع كثيرة ، وبلغ الروم عظيم ذلك العسكر ، فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم ، فكتب خالد بن سعيد بذلك إلى أبى بكر ، فكتب إليه أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه : أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله (٢).

فصار إليهم خالد ، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم ، فنزله ودخل من كان تجمع له فى الإسلام. وكتب بذلك إلى أبى بكر ، فكتب إليه أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل ، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم ، يدعى باهان ، فهزمه وفل جنده ، وكتب بذلك إلى أبى بكر ، واستمده ، وقد قدم على أبى بكر أوائل مستنفرى اليمن ، ومن بين مكة واليمن ، فساروا فقدموا على خالد بن سعيد ، وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره.

وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالته التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولاه

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩).


إياها من صدقات سعد وعذرة وما كان معها قبل ذهابه إلى عمان ، فخرج إلى عمان من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو على عدة من عمله إذا هو رجع ، فأنجز له ذلك أبو بكر ، ثم كتب إليه أبو بكر عند اهتياجه للشام : إنى كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولاكه مرة وسماه لك أخرى إذ بعثك إلى عمان إنجازا لموعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد وليته ثم وليته ، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك فى حياتك ومعادك منه ، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو : إنى سهم من سهام الإسلام ، وأنت بعد الله الرامى بها ، والجامع لها ، فانظر أسرها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحى (١).

وكتب أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك ، فأجابه بإيثار الجهاد.

وعن أبى أمامة الباهلى (٢) ، قال : كنت ممن سرح أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، مع أبى عبيدة ، وأوصانى به وأوصاه بى ، فكانت أول وقعة بالشام يوم العربة ، ثم يوم الداثنة ، وليسا من الأيام العظام ، خرج ستة قواد من الروم مع كل قائد خمسمائة ، فكانوا ثلاثة آلاف ، فأقبلوا حتى انتهوا إلى العربة ، فبعث يزيد بن أبى سفيان إلى أبى عبيدة يعلمه ، فبعثنى إليه فى خمسمائة ، فلما أتيته بعث معى رجلا فى خمسمائة ، فلما رأيناهم يعنى الروم وقوادهم أولئك ، حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوادهم ، ثم مضوا واتبعناهم ، فجمعوا لنا بالداثنة ، فسرنا إليهم ، فقدمنى يزيد وصاحبى فى عدتنا ، فهزمناهم ، فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدهم ملكهم.

وذكر ابن إسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمر العربات ، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين فى سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ، فكتب عمرو إلى أبى بكر يستمده ، وخرج خالد بن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشام فى يوم مطير يستمطر فيه فتعادى عليه أعلاج الروم فقتلوه ، وقيل أتاهم أذريجا فى أربعة آلاف وهم غازون فاستشهد خالد بن سعيد وعدة من المسلمين.

قال أبو جعفر الطبرى (٣) : قيل إن المقتول فى هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد ، وأن خالدا انحاز حين قتل ابنه.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٩).

(٢) اسمه : صدى بن عجلان. انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٨٨٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٥٤٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٦٩٥).

(٣) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩١).


وذكر سيف أن الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده ، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم ، وبلغه عن الأمراء ، يعنى أمراء المسلمين الذين أمدهم أبو بكر ، وتوجههم إليه ، اقتحم على الروم طلب الحظوة ، وأعرى ظهره ، وبادر الأمراء لقتال الروم ، واستطرد له باهان ، فأرز هو ومن معه إلى دمشق ، واقتحم خالد فى الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل المرج ، مرج الصفر ، ما بين الواقوصة ودمشق ، فانطوت مسالح باهان عليه ، وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر فى الناس ، فقتلوهم. وأتى الخبر خالدا ، فخرج هاربا فى جريدة خيل ، ولم ينته بخالد الهزيمة عن ذى المروة ، وأقام عكرمة فى الناس ردءا لهم ، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوهم ، وأقام من الشام على قريب.

وذكر ابن إسحاق مسير الأمراء ومنازلهم ، وأن يزيد بن أبى سفيان نزل البلقاء ، ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن ، ويقال : بصرى ، ونزل أبو عبيدة الجابية.

وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب إلى أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، منها : أما بعد ، فإن الروم وأهل البلد ، ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا على حرب المسلمين ، ونحن نرجو النصر ، وإنجاز موعود الرب تبارك وتعالى ، وعادته الحسنى ، وأحببت إعلامك ذلك لترينا رأيك.

فقال أبو بكر رحمه‌الله : والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وكان خالد إذ ذاك يلى حرب العراق ، فكتب إليه أبو بكر :

أما بعد ، فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه ، وامض متخفيا فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق ، من اليمامة ، وصحبوك فى الطريق ، وقدموا عليك من الحجاز ، حتى تأتى الشام ، فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين ، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة ، والسلام.

ويروى أنه كان فيما كتب إليه به : «أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك ، فإنهم قد شجوا وأشجوا ، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت ، فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه ، أحد من الناس إشجاءك ، ولم ينزع الشجاء أحد من الناس نزعك ، فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة ، فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل ، وإياك أن تدل بعمل ، فإن الله تعالى ، له المن ، وهو ولى الجزاء» (١).

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥).


ووافى خالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة (١) ، منصرفا من حجة حجها مكتتما بها ، وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض ، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة ، أقام بالفراض عشرا ، ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة ، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم ، وأظهر خالد أنه فى الساقة.

وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طريق الجزيرة ، لم ير طريقا أعجب منه ، فكانت غيبته عن الجند يسيرة ، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه ، وقدما معا ، وخالد وأصحابه محلقون ، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة ، ولم يعلم أبو بكر رحمه‌الله ، بذلك إلا بعد ، فهو الذي يعنيه بما تقدم فى كتاب إليه من معاتبته إياه (٢).

وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحى ، فقال له خالد قبل أن قرأ كتابه : ما وراءك؟ فقال : خير ، تسير إلى الشام. فشق عليه ذلك وقال : هذا عمل عمر ، نفس علىّ أن يفتح الله على العراق.

وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة ، وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم ، وليثا من الليوث.

فلما قرأ كتاب أبى بكر ورأى أنه قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام ، كأن ذلك سخا بنفسه. وقال : أما إذ ولاني ، فإن فى الشام من العراق خلفا ، فقام إليه النسير بن ديسم العجلى ، وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل ، ومن رءوس أصحاب المثنى بن حارثة ، فقال لخالد : أصلحك الله ، والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا ، للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا ، وأوسع سعة ، وأعرض عرضا ، والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق ، فكره المثنى مشورته عليه ، وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها.

__________________

(١) الحيرة : قال الهمدانيّ : سار تبع أبو كرب فى غزوته فلما أتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وخلف معه من ثقل من أصحابه فى نحو اثنى عشر ألفا وقال : تحيروا هذا الموضع ، فسمى الموضع الحيرة ، فما لك أول ملوك الحيرة وأبوهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من الكوفة ، والحيرة على النجف ، والنجف كان على ساحل البحر الملح ، وكان فى سالف الدهر يبلغ الحيرة. انظر : الروض المعطار (٢٠٧).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٤).


فقال خالد : إن بالشام أهل الإسلام ، وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت ، فإنما أنا مغيث وليس لهم مترك ، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التي كنتم عليها ، فإن نفرغ مما أشخصنا إليه عاجلا عجلنا إليكم ، وإن أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا ، وليس خليفة رسول الله بتارك إمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى.

ويروى أن أبا بكر أمر خالدا بالخروج فى شطر الناس ، وأن يخلف على الشطر الثانى المثنى بن حارثة ، وقال له : لا تأخذ مجدا إلا خلفت لهم مجدا ، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق معهم ، ثم أنت على عملك.

وأحصى خالد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستأثرهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ممن لم يكن له صحبة ، ثم نظر فيمن بقى فاختلج من كان قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وافدا أو غير وافد ، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ، ثم قسم الجند نصفين. فقال المثنى : والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبى بكر كله فى استصحاب نصف الصحابة ، وإبقاء النصف أو بعض النصف ، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم ، فأنى تعرينى منهم؟ فلما رأى ذلك خالد بعد ما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى ، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلى وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان ومعبد بن أم معبد الأسلمى وبلال بن الحارث المزنى وعاصم بن عمرو التميمى ، حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته انحدر خالد فمضى لوجهه ، وشيعه المثنى إلى قراقر ، فقال له خالد : انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان (١).

وذكر الطبرى (٢) أن خالدا رحمه‌الله ، لما أراد المسير إلى الشام دعا بالأدلة فارتحل من الحيرة سائرا إلى دومة ، ثم ظعن فى البر إلى قراقر ، ثم قال : كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإنى إن استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين ، فكلهم قال : لا نعرف إلا طريقا لا تحمل الجيوش ، فإياك أن تغرر بالمسلمين ، فعزم عليه ، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد ، فقام فيهم فقال : لا يختلفن هديكم ولا تضعفن تعبئتكم ، واعلموا أن المعونة تأتى على قدر النية ، والأجر على قدر الحسبة ، وأن المسلم لا ينبغى له أن يكترث لشىء يقع فيه مع معونة الله له. فقالوا له : أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك ، فطابقوه ونووا واحتسبوا.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤١١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٠٩).


وذكر غير الطبرى أن خالدا حين أراد المسير إلى الشام قال له محرز بن حريش ، وكان يتجر بالحيرة ، ويسافر إلى الشام : اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن ، ثم أمه حتى تصبح ، فإنك لا تجور. فجرب ذلك فوجده كذلك.

ثم أخذ فى السماوة حتى انتهى إلى قراقر ففوز من قراقر إلى سوى ، وهما منزلان بينهما خمس ليال ، فلم يهتدوا للطريق ، فدل على رافع بن عميرة الطائى ، فقال : خفف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا ، فكره خالد أن يخلف أحدا ، فقال : قد أتانى أمر لا بد من إنفاذه ، وأن نكون جميعا. قال : فو الله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه ، ما يسلكها إلا مغررا ، فكيف أنت بمن معك؟ قال : إنه لا بد من ذلك ، فقد أتتنى عزيمة ، قال : فمن استطاع منكم أن يصر أذن راحلته على ماء فليفعل ، فإنها المهالك إلا ما وقى الله ، ثم قال لخالد : ابغنى عشرين جزورا عظاما سمانا مسان. فأتاه بهن ، فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشا سقاهن حتى أرواهن ، ثم قطع مشافرهن ، ثم كعمهن (١) ، ثم قال لخالد : سر بالخيول والأثقال ، فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف أربعا فافتض ماءهن فسقاه الخيول ، وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع : ويحك ما عندك يا رافع؟ فقال : أدركك الرأى إن شاء الله ، انظروا ، هل تجدون شجرة؟ هو شج على ظهر الطريق ، قالوا : لا ، قال : إنا لله إذا والله هلكت وأهلكت ، لا أبا لكم انظروا ، فنظروا فوجدوها ، فكبروا وكبر وقال : أحفروا فى أصلها ، فاحتفروا ، فوجدوا عينا ، فشربوا وارتووا ، فقال رافع : والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبى وأنا غلام.

وقال راجز من المسلمين :

لله در رافع أنى اهتدى

فوز من قراقر إلى سوى

أرضا إذا ما سارها الجيش بكى

ما سارها من قبله إنس أرى

لكن بأسباب متينات الهدى

نكبها الله بنيات الردى (٢)

وعن عبد الله بن قرط الثماليّ قال : لما خرج خالد من عين التمر (٣) مقبلا إلى الشام كتب إلى المسلمين مع عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدى ، وهو ابن ذى النور : أما بعد ، فإن كتاب خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتانى ، فأمرنى بالمسير إليكم ، وقد شمرت وانكمشت ، وكأن قد أظلت عليكم خيلى ورجالى ، فأبشروا بإنجاز موعود الله ، وحسن ثواب الله ،

__________________

(١) كعمهن : أى شد أفواههن.

(٢) انظر الأبيات فى : تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٦).

(٣) راجع خبر عين التمر فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٠٧) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٧٦).


عصمنا الله وإياكم باليقين ، وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين ، والسلام عليكم.

وكتب معه إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فإنى أسأل الله تعالى لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة فى دار الدنيا من كل سوء ، وقد أتانى كتاب خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأمرنى بالمسير إلى الشام ، وبالقيام على جندها ، والتوالى لأمرها ، والله ما طلبت ذلك قط ، ولا أردته ، إذ وليته ، فأنت على حالتك التي كنت لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع أمرا دونك ، فإنك سيد المسلمين ، لا ننكر فضلك ، ولا نستغنى عن رأيك ، تمم الله ما بنا وبك من إحسان ، ورحمنا وإياك من صلى النار ، والسلام عليك ورحمة الله.

قال : فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل (١) ، قرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية ، ودفع إلى أبى عبيدة كتابه ، فقرأه ، فقال : بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيى الله خالدا.

قال : وشق على المسلمين أن ولى خالد على أبى عبيدة ، ولم أره على أحد أشد منه على بنى سعيد بن العاص ، وإنما كانوا متطوعين حبسوا أنفسهم فى سبيل الله حتى يظهر الله الإسلام. فأما أبو عبيدة فإنا لم نتبين فى وجهه ولا فى شيء من منطقة الكراهة لأمر خالد.

وعن سهل بن سعد أن أبا بكر كتب إلى أبى عبيدة ، رضي‌الله‌عنهما : أما بعد ، فإنى قد وليت خالدا قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره ، فإنى لم أبعثه عليك أن لا تكون عندى خيرا منه ، ولكنى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك ، أراد الله بنا وبك خيرا ، والسلام.

ثم إن خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بنى تغلب والنمر بالبسر فقتلهم ، وهزمهم ، وأصاب من أموالهم طرفا. قال : وإن رجلا منهم ليشرب من شراب له فى جفنة ، وهو يقول :

ألا عللانى قبل جيش أبى بكر

لعل منايانا قريب وما ندرى

فما هو إلا أن فرغ من قوله ، حتى شد عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه ، فإذا رأسه فى الجفنة.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٩٥١) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٨٩٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٩٦٧).


وعن عدى بن حاتم قال (١) : غزونا ، يعنى مع خالد ، على أهل المصيخ ، وإذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان ، حوله بنوه وامرأته ، وبينهم جفنة من خمر ، وهم عليها عكوف يقولون له : ومن يشرب هذه الساعة فى أعجاز الليل؟ فقال : اشربوا شرب وداع ، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا ، هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا :

ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر

وقبل انتقاض القوم بالعسكر الدثر

وقبل منايانا المصيبة بالقدر

لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى

فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل ، فضرب رأسه ، فإذا هو فى جفنته ، فأخذنا بناته وقتلنا بنيه.

وفى كتاب سيف قال (٢) : ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها ، وإغارته على مصيخ بهراء وانتسافها ، اجتمعوا بمرج راهط ، وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلى العراق ، فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم ، فخرج من سوى بعد ما رجع إليها بسبى بهراء فنزل علمين على الطريق ، ثم نزل الكثيب ، حتى سار إلى دمشق ، ثم مرج الصفر ، فلقى عليه غسان ، وعليهم الحارث بن الأيهم ، فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما ، وبعث إلى أبى بكر بالأخماس ، ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصرى ، فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يدى خالد فيمن معه من جنود العراق ، وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة.

وعن غير سيف أن خالدا أغار على غسان فى يوم فصحهم ، فقتل وسبى ، وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم ، فقتل ما شاء وغنم ، ثم إن العدو دخلوا دمشق فتحصنوا ، وأقبل أبو عبيدة ، وكان بالجابية مقيما ، حتى نزل معه بالغوطة ، فحاصر أهل دمشق.

وعن قيس بن أبى حازم قال : كان خرج مع خالد من بجيلة وعظمهم أحمس نحو من مائتى رجل ومن طيئ نحو من مائة وخمسين.

قال : وكان معنا المسيب بن نجيبة ، فى نحو مائتى فارس من بنى ذبيان ، وكان يعنى خالدا ، فى نحو من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، فكان أصحابه الذين دخلوا معه

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٢).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٠ ـ ٤١١).


الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذو نية وبصيرة ، لأنه كان يقحمهم أمورا يعلمون أنه لا يقوى على ذلك إلا كل قوى جلد ، فأقبل بنا حتى مر بأركة ، فأغار عليها ، وأخذ الأموال ، وتحصن منه أهلها ، فلم يبارحهم حتى صالحهم.

قال : ومر بتدمر (١) ، فتحصنوا منه ، فأحاط بهم من كل جانب ، وأخذهم من كل مأخذ ، فلم يقدر عليهم ، فلما لم يطقهم ترحل عنهم ، وقال لهم حين أراد أن يرتحل ، فيما روى عن عبد الله بن قرط : والله لو كنتم فى السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم ، ما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحون علينا ، وإن أنتم لم تصالحوا هذه المرة لأرجعن إليكم لو قد انصرفت من وجهى هذا ثم لا أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.

فلما فصل قال علماؤهم ، واجتمعوا : إنا لا نرى هؤلاء القوم إلا الذين كنا نتحدث أنهم يظهرون علينا ، فافتحوا لهم ، فبعثوا إلى خالد فجاء ، ففتحوا له وصالحوه.

وعن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة : أن خالدا فى طريقه ذلك مر على حوران فهابوه ، فتحرز أكثرهم منه ، وأغار عليهم ، فاستاق الأموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما ، فبعثوا إلى ما حولهم ليمدوهم ، فأمدوهم من مكانين : من بعلبك ، وهى أرض دمشق ، ومن قبل بصرى ، وبصرى مدينة حوران ، وهى من أرض دمشق أيضا.

فلما رأى المددين قد أقبلا خرج فصف بالمسلمين ، ثم تجرد فى مائتى فارس ، فحمل على مدد بعلبك (٢) وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا ، فدخلوا المدينة ، ثم انصرف يوجف فى أصحابه وجيفا ، حتى إذا كان بحذاء بصرى ، وإنهم لأكثر من ألفين ، حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم ، فدخلوا المدينة ، وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب ، فانصرف عنهم خالد وأصحابه ، حتى إذا كان من الغد خرجوا إليه ليقاتلوه ، فعجزوا وأظهر الله عليهم المسلمين ، فصالحوهم.

وقال عمرو بن محصن : حدثني علج من أهل حوران (٣) كان يشجع ، قال : والله

__________________

(١) تدمر : من مدن الشام بالبرية ، أولية يقال إن الجن بنتها لسليمان عليه‌السلام. ومن حلب إليها خمسة أيام وكذلك من دمشق إليها ، وكذا من الرقة إليها ، وكذا من الرحبة إليها. انظر : الروض المعطار (١٣١) ، معجم ما استعجم (١ / ٣٠٧).

(٢) بعلبك : مدينة بالشام بينها وبين دمشق فى جهة الشرق مرحلتان ، وهى حصينة فى سفح جبل وعليها سور حصين بالحجارة. انظر : الروض المعطار (١٠٩) ، نزهة المشتاق (١١٦).

(٣) حوران : جبل بالشام ، وحوران أيضا من أعمال دمشق ، ومدينتها بصرى ، تسير فى صحراء حوران عشرة فراسخ حتى تصل إلى مدينة بصرى. انظر : الروض المعطار (٢٠٦).


لخرجنا إليهم بعد ما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم ، فلخرجنا وإنا لأكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر ، فما هو إلا أن دنونا منهم ، فثاروا فى وجوهنا بالسيوف كأنهم الأسد ، فانهزمنا أقبح الهزيمة ، وقتلونا شر المقتلة ، فما عدنا نخرج إليهم حتى صالحناهم ، ولقد رأيت رجلا منا كنا نعده بألف رجل ، قال : لئن رأيت أميرهم لأقتلنه ، فلما رأى خالدا قيل له : هذا خالد أمير القوم ، فحمل عليه ، وإنا لنرجو لبأسه أن يقتله ، فما هو إلا أن دنا منه ، فضرب خالد فرسه ، فقدمه عليه ، ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه ، ودخلنا مدينتنا ، فما كان لنا هم إلا الصلح حتى صالحناهم.

وعن قيس بن أبى حازم قال : كنت مع خالد حين مر بالشام ، فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران ، وهى مدينتها ، فلما نزلنا واطمأننا خرج إلينا الدرنجار (١) فى خمسة آلاف فارس من الروم ، فأقبل إلينا وما يظن هو وأصحابه إلا أنا فى أكفهم ، فخرج خالد فصفنا ، ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائى ، وعلى ميسرتنا ضرار بن الأزور ، وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى ، وقسم خيله ، فجعل على شطرها المسيب بن نجية ، وعلى الشطر الآخر رجلا كان معه من بكر بن وائل ، ولم يسمه ، وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين وشمال ، ثم ينصبا على القوم ، ففعلا ذلك ، وأمرنا خالد أن نزحف إلى القلب ، فزحفنا إليهم ، والله ما نحن إلا ثمانمائة وخمسون رجلا ، وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة ، استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم ، فكنا ألفا ومائتين ونيفا.

قال : وكنا نظن أن الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء ، لأنه كان لا يملأ صدره منهم شيء ، ولا يبالى بمن لقى منهم لجرأته عليهم ، فلما دنوا منا شدوا علينا شدتين ، فلم نبرح ، ثم إن خالدا نادى بصوت له جهورى شديد عال ، فقال : يا أهل الإسلام ، الشدة ، الشدة ، احملوا رحمكم الله ، عليهم ، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة ، ثم إن خالدا شد عليهم ، فشددنا معه ، فو الله الذي لا إله إلا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا ، فقتلنا منهم فى المعركة مقتلة عظيمة ، ثم اتبعناهم نكردهم (٢) ونصيب الطرف منهم ، ونقطعهم عن أصحابهم ، ثم نقتلهم ، فلم نزل كذلك حتى انتهينا إلى مدينة بصرى ، فأخرج لنا أهلها الأسواق ، واستقبلوا المسلمين

__________________

(١) الدرنجار : أى قائد الروم البيزنطيين.

(٢) نكردهم : أى نطردهم.


بكل ما يحبون ، ثم سألوا الصلح ، فصالحناهم ، فخرج خالد من فوره ذلك ، فأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصحهم ، فقتل وسبى.

وعن أبى الخزرج الغسانى قال : كانت أمى فى ذلك السبى ، فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام فى قلبها فأسلمت ، فطلبها أبى فى السبى فعرفها ، فجاء المسلمين فقال : يا أهل الإسلام ، إنى رجل مسلم ، وهذه امرأتى قد أصبتموها ، فإن رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى فتردوا علىّ أهلى فعلتم. فقال لها المسلمون : ما تقولين فى زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم؟ قالت : إن كان مسلما رجعت إليه ، وإلا فلا حاجة لى فيه ، ولست براجعة إليه.

وقعة أجنادين

ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة (١) كان قد مر بثنية فخرعها ، ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب ، فسميت بذلك تلك الثنية : ثنية العقاب ، ثم نزل ديرا يقال له : دير خالد لنزوله به ، وهو مما يلى باب الشرقى ، يعنى من دمشق.

وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية ، حتى نزل باب الجابية ، ثم شنا الغارات فى الغوطة وغيرها ، فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص ، قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى ، وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين (٢) ، وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم ، فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه ، فالتقيا فتشاورا فى ذلك ، فقال أبو عبيدة : أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى إليه العدو الذي قد صمد صمدة ، فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه ، فقال له خالد : إن جمع الروم هنا بأجنادين ، وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب ، ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم ، وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه ، ونأمره فيوافينا بأجنادين ، ونبعث إلى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين ، ثم نناهض عدونا. فقال له أبو عبيدة : هذا رأى حسن ، فأمضه على بركة الله.

__________________

(١) الغوطة : قيل : هى قصبة دمشق ، وقيل : هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس ، وطول الغوطة مرحلتان عرض فى عرض مرحلة. انظر : الروض المعطار (٤٣١).

(٢) أجنادين : بفتح الهمزة والنون والدال ، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية ، موضع بالشام من بلاد الأردن. انظر : الروض المعطار (١٢).


وكان خالد مبارك الولاية ، ميمون النقيبة ، مجربا ، بصيرا ، بالحرب ، مظفرا. فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين ، كتب نسخة واحدة إلى الأمراء :

أما بعد ، فإنه نزل بأجنادين جمع من جموع الروم ، غير ذى قوة ولا عدة ، والله قاصمهم وقاطع دابرهم ، وجاعل دائرة السوء عليهم ، وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولى إليكم ، فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم ، ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم ، والسلام.

ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم ، وفيوجا (١) وكان المسلمون يرضخون لهم ، ودعا خالد الرسول الذي بعثه منهم إلى شرحبيل ، فقال له : كيف علمك بالطريق؟ قال : أنا أدل الناس بالطريق ، قال : فادفع إليه هذا الكتاب ، وحذره الجيش الذي ذكر لنا أنه يريده ، وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذي شخص إليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين. قال : نعم ، فخرج الرسول إلى شرحبيل ، ورسول آخر إلى عمرو بن العاص ، وآخر إلى يزيد بن أبى سفيان.

وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين ، والمسلمون سراع إليهم ، جراء عليهم ، فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق فى آثارهم ، فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل ، وأحاطوا به ، وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه ، وأهل دمشق فى عدد كثير ، فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا ، وأتى الخبر خالدا وهو أمام الناس فى الفرسان والخيل ، فعطف راجعا ، ورجع الناس معه ، وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوة ، وانتهوا إلى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا ، فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض ، وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق ، ثم انصرف ، ومضى بالناس نحو الجابية ، وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه.

ومضى رسول خالد إلى شرحبيل ، فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذي سار إليه من حمص (٢) مع وردان إلا مسيرة يوم ، وهو لا يشعر ، فدفع إليه الرسول الكتاب ، وأخبره الخبر ، واستحثه بالشخوص ، فقام شرحبيل ، فى الناس ، فقال : أيها الناس ، اشخصوا إلى

__________________

(١) فيوج : جمع فج ، وهو الحارث أو العداء سريع الجرى.

(٢) حمص : مدينة بالشام ، ولا يجوز فيها الصرف كما لا يجوز فى هند لأنه اسم أعجمى ، سميت برجل من العماليق يسمى حمص ، ويقال : رجل من عاملة ، هو أو من نزلها. انظر : الروض المعطار (١٩٨).


أميركم ، فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين ، وقد كتب إلىّ يأمرنى بموافاته هنالك.

ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل ، وبلغ ذلك الجيش الذي جاء فى طلبهم ، فجعل المسير فى آثارهم ، وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين : أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا. فأقبل فى آثار هؤلاء ، رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم ، فيكون قد نكب طائفة من المسلمين ، فأسرع السير فلم يلحقهم ، وجاءوا حتى قدموا على المسلمين ، وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين ، فأمروه عليهم ، واشتد أمرهم.

وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا ، ثم إنهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين ، وجاء عمرو بن العاص فيمن معه ، فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين ، وتزاحف الناس غداة السبت.

فخرج خالد ، فأنزل أبا عبيدة فى الرجال ، وبعث معاذ بن جبل على الميمنة ، وسعيد ابن عامر بن حذيم على الميسرة ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل.

وأقبل خالد يسير فى الناس ، لا يقر فى مكان واحد ، يحرض الناس ، وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه ، وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم : قاتلوا دون أولادكم ونسائكم.

وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول : اتقوا الله عباد الله ، وقاتلوا فى الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأسد ، أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام ، قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم. وقال للناس : إذا حملت فاحملوا.

وقال معاذ بن جبل : يا معشر المسلمين ، اشروا أنفسكم اليوم لله ، فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله.

وكان من رأى خالد مدافعتهم ، وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر ، عند مهب الأرواح ، وتلك الساعة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستحب القتال فيها ، فأعجله الروم ، فحملوا على المسلمين مرتين : من قبل الميمنة على معاذ بن جبل ، ومن قبل الميسرة على


سعيد بن عامر ، فلم يتخلخل أحد منهم ، ورموا المسلمين بالنشاب ، فنادى سعيد بن زيد ، وكان من أشد الناس : يا خالد علام تستهدف هؤلاء الأعلاج؟ وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل ، فقال خالد للمسلمين : احملوا رحمكم الله على اسم الله ، فحمل خالد والناس بأجمعهم ، فما واقفوهم فواقا ، وهزمهم الله ، فقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، وأصابوا عسكرهم وما فيه.

وأصابت أبان بن سعيد بن العاص نشابة ، فنزعها وعصبها بعمامته ، فحمله إخوته ، فقال : لا تنزعوا عمامتى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى ، أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر ، وهو جبل السماق ، فمات منها ، رحمه‌الله.

وأبلى يومئذ بلاء حسنا ، وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه ، وعرف به مكانه ، وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة ، وبنى عليها ، فباتت عنده الليلة التي زحفوا للعدو فى غدها ، فأصيب ، فقالت أم أبان هذه لما مات : ما كان أغنانى عن ليلة أبان.

وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ ، سبعة من المشركين ، وكان شديدا جليدا ، فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها ، فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله ، فإن يبرأ رجع إليهم ، فأذن له ، فرجع إلى أهله بالعمر ، عمر المدائن ، فمات ، يرحمه‌الله ، فدفن هنالك.

وقتل مسلمة بن هشام المخزومى ، ونعيم بن عدى بن صخر العدوى ، وهشام بن العاص السهمى ، أخو عمرو بن العاص ، وهبار بن سفيان ، وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى ، وهو ابن ذى النور ، وكان من فرسان المسلمين ، فقتلوا يومئذ ، رحمهم‌الله.

وقتل المسلمون فى المعركة منهم ثلاثة آلاف ، وأتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم ، فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام.

وكتب خالد إلى أبى بكر : لعبد الله أبى بكر الصديق ، خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلام عليك ، فإنى أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا بأجنادين ، وقد رفعوا صلبهم ، ونشروا كتبهم ، وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم ، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله ، فطاعناهم بالرماح شيئا ، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور ، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين ، فقتلناهم فى كل فج وشعب وحائط ، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه ، والسلام عليك ورحمة الله.


وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحى ، فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذي توفاه الله فيه أعجبه ذلك ، وقال : الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقر عينى بذلك.

قال سهل بن سعد : وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام ، كانت سنة ثلاث عشرة ، فى جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه ، يوم السبت نصف النهار ، قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، بأربع وعشرين ليلة.

وذكر الطبرى (١) عن ابن إسحاق أن الذي كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ، ثم ذكر عنه ، عن عروة بن الزبير ، أنه قال : كان على الروم رجل منهم يقال له : القبقلار ، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية ، وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم.

قال ابن إسحاق : فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق ، فالله أعلم.

وعنه قال : لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا ، فقال له : ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم. فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر ، فأقام فيهم يوما وليلة ، ثم أتاه فقال له : مه ما وراءك؟ قال : بالليل رهبان وبالنهار فرسان ، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ، ولو زنى لرجم ، لإقامة الحق فيهم ، فقال له القبقلار : لئن كنت صدقتنى لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بينى وبينهم ، فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم على.

ثم تزاحف الناس ، فاقتتلوا ، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم : لفوا رأسى بثوب ، قالوا له : لم؟ قال : هذا يوم بئيس ، ما أحب أن أراه ، ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا. قال : فاحتز المسلمون رأسه ، وإنه لملفف.

وعن غير ابن إسحاق قال : ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق ، وأقبل بهم حتى نزلوها ، وقصد إلى ديره الذي كان ينزل به ، فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلى باب الشرقى ، وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم ، وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبى سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها ، وحاصروا أهلها حصارا شديدا.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٧).


وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه إلى خالد ، وأتى يزيد بن أبى سفيان ومعه كان يكون ، فقال له يزيد : هل لقيت أبى؟ قال : نعم ، قال : فهل سألك عنى؟ قال : نعم ، قال : فما قلت له؟ قال : قلت له إن يزيد حازم الرأى ، متواضع فى ولايته ، بئيس البأس ، محبب فى الإخوان ، يبذل ما قدر عليه من فضله. فقال أبو سفيان : كذلك ينبغى لمثله أن يكون ، وطلب إلىّ أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا ، وأن أعلمه حالنا ، فوعدته ذلك.

قال : فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم ، فأحاطوا بمدينة دمشق ، ودنوا من أبوابها ، فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب ، فقال ابن حنبل :

وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا

على خير حال كان جيش يكونها

وأنا على بابى دمشقة نرتمى

وقد حان من بابى دمشقة حينها

وقعة مرج الصفر(١)

قال : فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم ، فنهض خالد بالناس على تعبئته وهيئته ، فقدم الأثقال والنساء ، وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان ، ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش ، فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق ، فصمد المسلمون صمدهم ، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق ، وناس كثير من أهل حمص ، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا ، فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل سعيد بن زيد ، وأبا عبيدة على الرجال.

وذهب خالد فوقف فى أول الصف يريد أن يحرض الناس ، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد ، وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله ، ويقص عليهم ، فحملت طائفة منهم عليه ، فقاتلهم حتى قتل رحمه‌الله ، وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم ، وحمل عليهم خالد

__________________

(١) مرج الصفر : بالشام ، به كانت وقعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين وكان بين الوقعتين عشرون يوما وكان ذلك قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه بأربعة أيام. انظر : الروض المعطار (٥٣٥).


ابن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم ، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم ، فهزمهم الله وقتلهم ، واجتث عسكرهم ، ورجع الناس ، وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة ، وذهب المشركون على وجههم ، فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها ، ومنهم من رجع إلى حمص ، ومنهم من لحق بقيصر.

وعن عمرو بن محصن : أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة فى المعركة ، وقد تلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى.

وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر : كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما. قال : فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة ، قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، بأربعة أيام.

ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق ، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم ، وعجز أهلها عن قتال المسلمين ، ونزل خالد منزله الذي كان ينزل به على باب الشرقى ، ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر ، فكان المسلمون يغيرون ، فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القبض ، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا ، حتى إن الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلمة أو الإبرة فيلقيها فى القبض ، لا يستحل أن يأخذها ، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم ، فوصفهم له بهذه الصفة فى الأمانة ، ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام ، فقال : هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار ، لا والله ما لى بهؤلاء طاقة ، وما لى فى قتالهم خير.

قال : فراود المسلمين على الصلح ، فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم ، ولا يبايعونه على ما يسأل ، وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين ، يريد غزوهم ، فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح.

وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، واستخلافه عمر رضي‌الله‌عنهما ، وما تبع ذلك من صرف خالد بأبى عبيدة ، حسبما يأتى تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى.


ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وما كان

من عهده إلى عمر بن الخطاب ، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء(١)

قد تقدم فى بدء الردة ، وذكر خلافة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده ، من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذى يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونيط عمر بأبى بكر ، ونيط عثمان بعمر ، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه.

وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أنا نائم رأيتنى على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبى قحافة ، فنزع منها ذنوبا ، أو ذنوبين ، وفى نزعه والله يغفر له ضعف ، ثم استحالت غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب ، حتى ضرب الناس بعطن» (٢).

واختلف أهل العلم فى السبب الذي توفى منه أبو بكر ، فذكر الواقدى أنه اغتسل فى يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما. وقال الزبير بن بكار : كان به طرف من السل. وقال غيره : أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قبضه الله إليه ، فما زال ذلك به حتى قضى منه.

وروى عن سلام بن أبى مطيع أنه رضي‌الله‌عنه ، سم. وبعض من ذكر ذلك يقول : أن اليهود سمته فى أرزة ، وقيل فى حريرة ، فمات بعد سنة. وقيل له : لو أرسلت إلى الطبيب ، فقال : قد رآنى ، قالوا : فما قال لك؟ قال : قال : إنى أفعل ما أريد (٣).

__________________

(١) راجع الخبر فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٢٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٩) ، طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ١٤٠).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٧ ، ٩ / ٤٥ ، ٤٩ ، ١٧١) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (١٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (٨ / ١٥٣) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ١٩ ، ١٢ / ٤١٤) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٦٠٣١) ، شرح السنة للبغوى (١٤ / ٨٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٢٢٦) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٢٧٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٣٤٤) ، السنة لابن أبى عاصم (١٤ / ٨٩).

(٣) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ١٢٩).


وكذلك اختلفوا فى حين وفاته ، فقال ابن إسحاق : توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره من أهل السير : إنه مات عشى يوم الاثنين ، وقيل ليلة الثلاثاء وقيل : عشى الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة ، وهذا هو الأكثر فى وفاته (١).

وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس ، فغسلته ، وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر ، ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألصقوا لحده بلحده ، وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورش عليه بالماء.

ولا يختلفون فى أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة ، وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه ، سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي توفاه الله لها (٢).

ويروى أنه رضي‌الله‌عنه ، لما احتضر ، وابنته عائشة حاضرة ، فأنشدت رضي‌الله‌عنها (٣) :

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

رفع إليها رأسه وقال : لا تقولى هذا يا بنية ، أو : ليس هكذا يا بنية ، ولكن قولى : «وجاءت سكرة [الحق بالموت] ذلك ما كنت منه تحيد» (٤) ، هكذا قرأها أبو بكر رضي‌الله‌عنه.

وقالوا : كان آخر ما تكلم به : رب توفنى مسلما ، وألحقنى بالصالحين.

وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، لعائشة رضي‌الله‌عنها ، وهو مريض : فى كم كفن

__________________

(١) راجع المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٣٠) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٢١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٢١).

(٣) انظر الأبيات فى : العقد الفريد (٥ / ١٩) ، وهذا البيت لحاتم الطائى ، راجع ديوانه ص (٥١).

(٤) ما بين المعقوفتين ورد فى بعض الأصول : «الموت بالحق» وهذا هو المشهور فى القراءات السبع ، وقول المصنف هكذا قرأها أبو بكر ، يوضح أن أبا بكر قرأها باختلاف عن المشهور ، وكذلك أيضا قرأ بها سعيد بن جبير وطلحة وعبد الله بن مسعود ، وشعبة ، وأبى عمران. انظر : الطبرى (٢٦ / ١٠٠) ، الفراء (٣ / ٧٨) ، الكشاف (٤ / ٧) ، القرطبى (١٧ / ١٢) ، النحاس (٣ / ٢١٧) ، مجمع البيان (٩ / ١٤٣) ، زاد المسير (٧ / ١٩٤) ، المحتسب (٥ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨).


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت : فى ثلاثة أثواب بيض سحولية. فقال أبو بكر : خذوا هذا الثوب ، لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه ، ثم كفنونى فيه مع ثوبين آخرين. فقالت عائشة : وما هذا؟ فقال أبو بكر : الحى أحوج إلى الجديد من الميت ، وإنما هذا للمهلة.

ولما توفى أبو بكر رحمه‌الله ، ارتجت المدينة بالبكاء ، ودهش القوم كيوم قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، مسرعا باكيا مسترجعا ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر ، وقد سجى بثوب ، فقال : رحمك الله يا أبا بكر ، كنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله عزوجل ، وأعظمهم غناء ، وأحدبهم على الإسلام ، وأيمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب ، وأكثرهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا ، وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه ، وأوثقهم عند الله ، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا ، صدقت رسول الله حين كذبه الناس ، فسماك الله فى كتابه صديقا.

فقال : والذي جاء بالصدق محمد ، وصدق به أبو بكر ، وآسيته حين بخلوا ، وقمت معه حين عنه قعدوا ، وصحبته فى الشدة أكرم الصحبة ، ثانى اثنين ، وصاحبه فى الغار ، والمنزل عليه السكينة ، ورفيقه فى الهجرة ومواطن الكريهة ، ثم خلفته فى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس ، وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبى قط ، قويت حين ضعف أصحابك ، وبدرت حين استكانوا ، ونهضت حين وهنوا ، ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه ، كنت خليفته حقا ، لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين ، فقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ، ومضيت بنور الله إذ وقفوا ، فاتبعوك ، فهدوا ، وكنت أخفضهم صوتا ، وأعلاهم فوقا ، وأقلهم كلاما ، وأصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم قولا ، وكنت أكبرهم رأيا ، وأشجعهم قلبا ، وأحسنهم عملا ، وأعرفهم بالأمور ، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس ، وآخرا حين أقبلوا ، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ، وحفظت ما ضيعوا ، ورعيت ما أهملوا ، وشمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا ، كنت على الكافرين عذابا صبا ، وكنت للمسلمين غيثا وخصبا ، فطرت والله بغنائها ، وفزت بحبابها ، وذهبت بفضائلها ، وأحرزت سوابقها ، لم تفلل حجتك ، ولم


يزغ قلبك ، ولم تضعف بصيرتك ، ولم تجبن نفسك ، ولم تخن ، كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ، ولا تزيله القواصف ، كنت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمن الناس عليه فى صحبتك وذات يدك ، وكما قال : ضعيفا فى بدنك قويا فى أمر الله تعالى متواضعا فى نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا فى الأرض ، كبيرا عند المؤمنين ، لم يكن لأحد فيك مهمز ، ولا لقائل فيك مغمز ، ولا لأحد فيك مطمع ، ولا عندك هوادة لأحد ، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له بحقه ، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندك فى ذلك سواء ، شأنك الحق والصدق والرفق ، وقولك حكم وحتم ، ورأيك علم وعرف ، فأقلعت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفئت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوى الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون ، فسبقت والله سبقا بعيدا ، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالحق فوزا مبينا ، فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك فى السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا لله أمره ، ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلك أبدا ، كنت للدين عزا وكهفا ، وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا ، وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما ، فألحقك الله بميتة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون(١).

وأنصت الناس حتى قضى كلامه ، ثم بكى وبكوا ، وقالوا : صدقت يا ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر الخطبة فى : العقد الفريد (٥ / ١٩ ـ ٢٠).


استخلاف عمر بن الخطاب (١)

وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبى بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر ابن الخطاب رضي‌الله‌عنهما ، بعهد أبى بكر إليه بذلك ، واستخلافه إياه عليه ، نظرا للدين ، ونصيحة لله وللأمة ، وذلك لما استعز بأبى بكر رضي‌الله‌عنه ، وجعه ، وثقل ، أرسل إلى عثمان وعلى ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار ، فقال : قد حضر ما ترون ، ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم ، ويرد على الضعيف حقه ، فإن شئتم اخترتم لأنفسكم ، وإن شئتم جعلتم ذلك إلىّ ، فو الله لا آلوكم ونفسى خيرا. قالوا : قد رضينا من اخترت لنا ، قال : فقد اخترت عمر ، وقال لعثمان : اكتب : هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها ، حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب ، عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله ، وقد استخلفت.

ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية ، فكتب عثمان : وقد استخلفت عمر بن الخطاب ، وأمسك ، حتى أفاق أبو بكر فقال : أكتبت شيئا؟ قال : نعم ، كتبت عمر بن الخطاب ، فقال : رحمك الله ، أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا ، فاكتب : قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدى عليكم ، ورضيته لكم ، فإن عدل فذلك ظنى به ، ورأيى فيه ، وذلك أردت ، وما توفيقى إلا بالله ، وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، والخير أردت ، ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

والتوى عمر رضي‌الله‌عنه ، على أبى بكر رحمه‌الله ، فى قبول عهده ، وقال : لا أطيق القيام بأمر الناس ، فقال أبو بكر لابنه عبد الرحمن : ارفعنى وناولنى السيف ، فقال عمر : أو تعفينى؟ قال : لا ، فعند ذلك قبل.

ذكر هذا كله أبو الحسن المدائنى ، وذكر بإسناد له عن أبى هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له : يا عمر ، إن لله حقا فى الليل لا يقبله فى النهار ، وحقا فى النهار لا يقبله فى الليل ، ولا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، وإنه يا عمر إنما ثقلت

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٣١).


موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا ، وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل ، وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفا ، ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية الشدة مع آية الرخاء ، ليكون المؤمن راغبا راهبا ، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة ، ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى لأخشى أن أكون منهم.

وفى رواية : عوضا من هذا ، فيقول قائل : أنا خير منهم ، فيطمع ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ، لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى مقصر ، أين عملى من أعمالهم ، وفى رواية : عوضا من هذا ، فيقول قائل : من أين أدرك درجتهم ، ليجتهد ، فإن حفظت وصيتي يا عمر ، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ، وهو نازل بك ، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره لك من الموت ، ولست بمعجزه.

وعن أسماء بنت عميس قالت : لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر ، فقال له : يا عمر إنى قد وليتك ما وليتك ، وقد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأيت عمله ، وأثرته أنفسكم على نفسه ، وأهلكم على أهله ، حتى إن كنا لنظل نهدى إليه من فضل ما يأتينا من قبله ، وصحبتنى ورأيتنى وإنما اتبعت أثر من كان قبلى ، والله ما نمت فحملت ، ولا شبهت فتوهمت ، وإنى لعلى السبيل ما زغت ، وإن أول ما أحذرك نفسك ، فإن لكل نفس شهوة ، فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت فى غيرها.

وفى حديث غير هذا : وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة ، احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبوا من رسلها ، وخذ هذا البرد فإنى كنت أتجمل به للوفود ، وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة ، وعلىّ ثمانية آلاف درهم ، ويقال : قال : ستة آلاف أخذتها للرسل ، ولمن كان يغشانا ، فأدها من مالى.

فخرج عمر متأبطا البرد ، وقد حمل السقاء والعلبة ، يقود اللحقة ، يبكى ويقول : يرحم الله أبا بكر ، لقد أتعب من بعده.

ومات أبو بكر رحمه‌الله ، ودفن ليلا ، فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشى كان يسقى لآل أبى بكر على ذلك الناضح ، وقطيفة. فقبض عمر ذلك ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : سبحان الله ، تسلب عيال أبى بكر ناضحا وعبدا أسود كان


ينفعهم ، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم؟ قال : فما ترى؟ قال : ترده عليهم ، قال : لا ورب الكعبة ، لا يكون ذلك وأنا حى ، يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله (١).

وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبى الفغواء الخزاعى قال : أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض ، فأتاه ، فقال : يا عمر ، إنى كنت أرى الرأى فتشير علىّ بخلافه ، فأتهم نفسى لك ، ألا إنى قد عصيتك فى استعمال شرحبيل بن حسنة ، وقلت : أخاف ضعفه ، فقلت لك : قد كان له فى الإسلام نصيب ، وقد أحببت أن أبلوه ، فإن رأيت ما أحب أثبته ، وإن بلغنى عنه ضعف استبدلت به ، فلا عليك أن تقره على عمله ، وكنت تنهانى عن يزيد بن أبى سفيان ، فقلت لك : إن له موضعا فى قريش ، ونشأ بخير ، وكان فيه ، وقد أحببت أن أقيم له شرفه ، فلا عليك أن تقره على عمله ، ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا ، قال : تريد خالدا؟ قال : أريده.

فقال عمر : أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه ، وخفت ضعفه ، وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر ، ولم يبلغنا عنه إلا خير ، ولست عازله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه ، وأما يزيد فقلت لك : غلام حديث السن لا سابقة له ، ابعث مكانه سعد بن أبى وقاص ، فلم يكن فى أمره إلا خير ، ولا أعزله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه. وأما خالد ، فو الله ما أعدك فى أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله ، وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبى عبيدة ضدا ، وقد عرفت فضل أبى عبيدة.

فقال أبو بكر : أما أنى قد رأيت أبا عبيدة فى مرضى هذا آخذا بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه ، ولنعم المتبع ، ورأيتنى آخذا بثوب أبى عبيدة ، ولنعم المتقدم ، ثم سمعت خسفا ورائى ، فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة ، فاستلحقتك وما أبالى إذا لحقت بمن تخلف ، فكأنى أسمع وقع نعليك ، حتى أخذت بثوبى والتفت ، فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون ، فالنجاء ، النجاء يا عمر.

وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبى بكر فى استخلاف عمر ليس إلا ، لما كانوا يعرفون من غلظته ، فيقول أبو بكر : هو والله إن شاء الله خيركم. وقال لبعضهم : إنى أرى ما لا ترون ، ولو قد أفضى إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون ، إنى رمقته ، فإذا أغلظت فى أمر أرانى التسهيل ، وإذا لنت فى أمر تشدد فيه.

__________________

(١) انظر ما ذكره ابن قتيبة فى المعارف ص (١٧١).


وقال له طلحة والزبير : ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته؟ قال : ساندونى ، فأجلسوه ، فقال : أبالله تخوفوننى ، أقول : استعملت عليهم خير أهلك وحلفت ، ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر ، ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها.

ودخل عثمان وعلى فأخبرهما أبو بكر ، فقال عثمان : علمى به أنه يخاف الله فوله ، فما فينا مثله ، وقال على : يا خليفة رسول الله امض لرأيك ، فما نعلم إلا خيرا ، وخرجنا ودخل عمر ، فقال أبو بكر : كرهك كاره ، وأحبك محب. قال : لا حاجة لى بها ، قال : اسكت ، إنى ميت من مرضى هذا ، إنى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى فقت ثلاث فوقات ، فدسعت فى الآخرة طعاما ، فمرضت به مرضتين ، وهذه الثالثة ، فأنا ميت ، وإياك والأثرة على الناس ، وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه.

ولما توفى أبو بكر رحمه‌الله ، كتب عمر رضي‌الله‌عنه ، إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ورحمة الله على أبى بكر ، القائل بالحق ، والآمر بالقسط ، والآخذ بالعرف ، البر الشيم ، السهل القريب ، وأنا أرغب إلى الله فى العصمة برحمته ، والعمل بطاعته ، والحلول فى جنته ، إنه على كل شيء قدير ، والسلام عليك ورحمة الله (١).

وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة ، فقرأه فلم يسمع من أبى عبيدة حين قرأه شيء ينتفع به مقيم ولا ظاعن ، ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب ، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال : رحمة الله على أبى بكر ، ويح غيرك ، ما فعل المسلمون؟ قال :استخلف أبو بكر ، عمر ، فقال معاذ : الحمد لله ، وفقوا وأصابوا ، فقال أبو عبيدة : ما منعنى من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلنى فيخبرنى أن الوالى غير عمر. فقال له الرسول : يا أبا عبيدة ، إن عمر يقول لك : أخبرنى عن حال الناس ، وأخبرنى عن خالد بن الوليد ، أى رجل هو؟ وأخبرنى عن يزيد بن أبى سفيان ، وعمرو بن العاص ، كيف هما فى حالهما ونصيحتهما للمسلمين؟ فقال أبو عبيدة : أما خالد فخير أمير ، أنصحه لأهل الإسلام ، وأحسنه نظرا لهم ، وأشده على عدوهم من الكفار ، ويزيد وعمرو فى نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب ، قال : فأخبرنى عن أخويك : سعيد بن زيد ، ومعاذ بن جبل. قال : قل له هما كما عهدت ، إلا أن تكون السن زادتهما فى الدنيا زهادة ، وفى الآخرة رغبة.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (٩٨).


قال : ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له : سبحان الله ، انتظر نكتب معك. فكتب :بسم الله الرحمن الرحيم من أبى عبيدة بن الحراج ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب ، سلام عليك ، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم ، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك ، الشريف والوضيع ، والعدو والصديق ، والضعيف والشديد ، ولكل حصته من العدل ، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر ، إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر ، وتكشف فيه العورات ، وتنقطع فيه الحجج ، وتزاح فيه العلل ، وتجب فيه القلوب ، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته ، فالناس له داخرون ، ينتظرون قضاءه ، ويخافون عقابه ، ويرجون رحمته.

وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان ويروى : فى هذه الأمة ، رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة ، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التي هو بها من أنفسنا ، والسلام.

فمضى الرسول بهذا الكتاب ، وقال أبو عبيدة لمعاذ : والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبى بكر للناس ، ولا ننعاه إليهم ، فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره. فقال له معاذ : فإنك نعم ما رأيت. فسكتا ، فلم يذكرا للناس شيئا ، ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب كتابهما ، وبعهد أبى عبيدة ، وأمره بعظة الناس. وكان جوابه عن كتابهما : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، سلام عليكما ، فإنى أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإنى أوصيكما بتقوى الله ، فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما ، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة ، وقد بلغنى كتابكما تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى إلىّ مهم ، وما يدريكما؟ وكتبتما تذكران أنى وليت أمر هذه الأمة ، يقعد بين يدى العدو والصديق ، والقوى والضعيف ، ولكل علىّ حصته من العدل ، وتسألانى : كيف بى عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكتبتما تخوفانى بيوم هو آت ، يوم تحبب فيه القلوب ، وتعنوا فيه الوجوه ، وتنقطع فيه الحجج ، وتزيح فيه العلل ، لعزة ملك قهرهم بجبروته ، فالخلق له داخرون ، ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه ، وكأن ذلك قد كان ، هذا الليل والنهار ، يبليان كل جديد ، ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير ، وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة ، وأن هذا ليس بزمان ذلك ، ولا أنتم أولئك ، وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة


والرهبة ، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض ، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم ، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذي تنزلانه من قلوبكما ، فإنكما كتبتما لى نظرا لى ، وقد صدقتما ، ولا غنى بى عن كتابكما ، فتعاهدانى بكتبكما ، والسلام.

وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان ، قال : أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد : أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق لله عليك ، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم ، وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة ، وقد أبلاك الله وأبلى بك ، فغمض بصرك عن الدنيا ، وأله قلبك عنها ، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم (١).

وعن عباس بن سهيل بن سعد قال : قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة ، فدفعه إليه ، وشداد شاك ، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد ، فكانا يقومان إليه حتى تماثل ، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر ، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير ، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة ، فكره أن يخفيه ، وكان فى كتابه إليه : أما بعد ، فإنك فى كنف من المسلمين ، وعدد يكفى حصار دمشق ، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام ، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك ، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم ، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك ، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد ، فإنه لا غنى بك عنه ، والسلام.

فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس ، قال خالد : يرحم الله أبا بكر ، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة ، فعافى الله أبا عبيدة ، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة ، فقال له : رحمك الله ، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة : ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى ، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال ، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه ، بل لعل الوالى أن

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٢٣٥ ـ ١٣٦).


يكون أقربهما إلى الفتنة ، وأوقعهما بالخطيئة ، إلا من عصم الله ، وقليل ما هم.

ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول

الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب ، على نحو ما ذكره من ذلك

أصحاب فتوح الشام

فتح دمشق (١) : قالوا : وتولى أبو عبيدة حصار دمشق ، وولى خالدا القتال على الباب الذي كان عليه ، وهو باب الشرقى ، وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال ، فحاصروا دمشق بعد مهلك أبى بكر رحمه‌الله ، وولايته حولا كاملا ، وأياما.

وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية : أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا ، وليس لنا بهم طاقة ، وقد قاتلناهم مرارا ، فعجزنا عنهم ، فإن كان لك فينا وفى السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا ، فإنا فى ضيق وجهد ، وإلا فقد أعذرنا ، والقوم قد أعطونا الأمان ، ورضوا منا من الجزية باليسير.

فأرسل إليهم : أن تمسكوا بحصنكم ، وقاتلوا عدوكم ، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم ، وأجبروكم على ترك دينكم ، واقتسموكم بينهم ، وأنا مسرح إليكم الجيوش فى أثر رسولى.

فانتظروا مدده وجيشه ، فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار ، ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبى عبيدة يسألونه الصلح. وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد بن الوليد ، وكان أن يكون كتاب الصلح من أبى عبيدة أحب إليهم ، لأنه كان ألينهما وأشدهما منهم استماعا ، وأقربهما منهم قربا ، وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما ، فكانت رسل صاحب دمشق : إنما تأتى أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذي يليه ، فأرسل صاحب دمشق إلى أبى عبيدة فصالحه ، وفتح له باب الجابية ، وألح خالد على باب الشرقى ففتحه عنوة ، فقال لأبى عبيدة : اقتلهم واسبهم ، فإنى قد فتحتها عنوة ، فقال أبو عبيدة : لا ، إنى قد أمنتهم(٢).

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).

(٢) انظر : تاريخ اليعقوبى (١ / ١٤٠).


ودخل المسلمون دمشق ، وتم الصلح ، وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق ، فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت ، وكان عليهم در نجاران عظيمان ، كل درنجار على خمسة آلاف ، فكانوا عشرة آلاف ، فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذي هم فيه ، وبالخبر الذي بلغهم عن دمشق.

وذكر أبو جعفر الطبرى (١) أن شداد بن أوس هو الذي قدم الشام بوفاة أبى بكر ، ومعه محمية بن جزء ويرفأ ، فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم ، فتكتموا الخبر حتى ظفر المسلمون ، فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبى بكر ، وبولايته حرب الشام ، وعزل خالد.

وعن محمد بن إسحاق : أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن ، وقد اجتمعت به رافضة الروم ، والمسلمين على أمرائهم ، فاقتتلوا فهزمت الروم ، ودخل المسلمون فحل ، ولحقت رافضة الروم بدمشق ، فسار المسلمون إلى دمشق ، وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد ، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان ، فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق ، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت ، وقد كان الكتاب قدم على أبى عبيدة بإمارته وعزل خالد ، فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدى خالد ، وكتب الكتاب باسمه ، فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل (٢).

وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ فى أمر دمشق ، فذكر على ما سيأتى أن وقعة اليرموك كانت فى سنة ثلاث عشرة ، وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبى بكر باليرموك فى اليوم الذي هزمت الروم فى آخره ، وأن عمر رحمه‌الله ، أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق. وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق ، خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها ، وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق (٣).

وأما الواقدى فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة ، وكذا قال ابن إسحاق ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥).

(٣) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦).


وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر ، وأن وقعة اليرموك كانت فى سنة خمس عشرة ، وبعدها فى تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية ، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة. وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله.

فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه : لما هزم الله جند اليرموك ، وتهافت أهل الواقوصة ، وفرغ من المقاسم والأنفال ، وبعث بالأخماس ، وسرحت الوفود ، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبى الحميرى كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده ، وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل ، ولا يدرى أيجتمعون أو يفترقون ، فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل ، وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص ، فهو لا يدرى أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن ، فكتب فى ذلك إلى عمر ، وأقام بالصفرين ينتظر جوابه ، وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر ، إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ، فإنه ضم خالد إلى أبى عبيدة ، وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطين ، ثم يتولى حربها (١).

فلما جاء عمر كتاب أبى عبيدة ، كتب إليه : أما بعد ، فابدءوا بدمشق ، وانهدوا لها ، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم ، واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم فى نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص ، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب ، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها ، ودعوها ، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل ، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص ، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين ، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته (٢).

فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش ، وهو قائد الناس ، وكانت الرؤساء تكون من الصحابة ، فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل ، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل ، فأردغت (٣) الأرض ، ثم وحلت ، واغتنم المسلمون ذلك ، فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس. وبعث أبو

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٦).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨).

(٣) أردغت : الرداغ : الوحل الشديد.


عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردءا. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين ، والأمير يزيد.

وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة ، وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامى والمجانيق ، وهم معتصمون بالمدينة ، يرجون الغياث ، وهرقل منهم قريب بحمص ، ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق ، كأنه يريد حمص.

وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق ، فأشجتها الخيول التي مع ذى الكلاع وشغلتها ، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا ، وازداد المسلمون طمعا فيهم ، وكانوا قبل يرون أنها كالغارات ، وأنه إذا جاء البرد قفل الناس ، فسقط النجم والمسلمون مقيمون ، فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق ، واتفق أن ولد للبطريق الذي دخل على أهل دمشق مولود ، فصنع عليه طعاما ، فأكل القوم وشربوا ، وغفلوا عن مواقفهم ، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد ، فإنه كان لا ينام ولا ينيم ، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء ، عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه ، قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا (١) ، فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم ، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وأمثالهما.

وقالوا : إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وائتوا من الباب الذي كان خالد يليه ، فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب ، ثم رموا بالحبال الشرف. فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف ، وكان المكان الذي اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق ، أكثره ماء ، وأشده مدخلا ، وتوافوا لذلك ، فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب ، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه ، وانحدر معهم ، فكبر الذين على رأس السور ، فنهد المسلمون إلى الباب ، ومال إلى الحبال بشر كثير ، فوثبوا فيها ، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم ، وانحدر إلى الباب فقتل البوابين ، وثار أهل المدينة ، وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون من الشأن ، وتشاغل أهل كل

__________________

(١) الأوهاق : جمع وهق ، وهو الحبل فى طرفيه أنشوطة يطرح فى عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ.


ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف ، وفتحوا للمسلمين ، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقى مما يلى باب خالد مقاتل إلا أنيم.

ولما شد خالد على من يليه ، وبلغ منهم الذي أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي كان يليها غير خالد ، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا ، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح ، فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم ، ففتحوا لهم الأبواب ، وقالوا : ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب ، فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم ، ودخل خالد مما يليه عنوة ، فالتقى خالد والقواد فى أوساطها ، هذا استعراضا وانتهابا ، وهذا صالحا وتسكينا ، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح ، فصار كل ذلك صالحا ، وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار ، ودينار على كل رأس ، وعلى جريب من كل حرث أرض ، واقتسموا الأسلاب ، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد ، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا ، وقسموا لذى الكلاع ومن معه ، ولأبى الأعور ومن معه ، وبعثوا بالبشارة إلى عمر.

وقدم على أبى عبيدة كتاب عمر : أن اصرف جند العراق إلى العراق ، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك. فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهرى ، وربعى بن عامر ، وخرج هاشم نحو العراق فى جند العراق ، وكانوا عشرة آلاف إلا من أصيب منهم فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم ، كقيس والأشطر ، وخرج القواد نحو فحل ، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء ، فنزلا على طريقها ، وبقى بدمشق مع يزيد بن أبى سفيان من قواد أهل اليمن عدد ، وبعث يزيد ، دحية بن خليفة الكلبى فى خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر ، وأبا الزهراء القشيرى إلى البثنية وحوران ، فصالحوهما على صلح دمشق ، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه (١).

وكان الذي سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة ، على ما ذكره سيف عن أشياخه ، قالوا : وبعث خالدا على المقدمة ، وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه ، وعلى الخيل ضرار بن الأزور ، وعلى الرجال عياض ، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل ، وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم ، فلما انتهوا إلى أبى الأعور قدموه إلى طبرية ، فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض الأردن ، وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٨).


وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر ، وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر ، ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال.

وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون ، مادتهم متواصلة ، وخصبهم رغد ، ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة ، فقصدوهم ليلا ، والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم ، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة ، فلما هجموا على المسلمين غافصوهم ، ولم يناظروهم ، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل ، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا ، فانهزموا ، وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق ، والذي يليه فيهم نسطورس ، وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهنئه ، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد ، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم ، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل ، فركبوه ، ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه ، فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس ، وقتلوا فى الرداغ ، فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد ، وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون ، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم ، وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا ، واقتسموا ما أفاء الله عليهم ، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص ، وصرفوا بشير بن كعب معهم ، ومضوا بذى الكلاع ومن معه ، وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه (١).

ذكر بيسان (٢)

ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو ، فنزلوا عليها ، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية ، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق ، وما لقى سقلار والروم بفحل وفى الردغة ، ومسير شرحبيل إليهم ، فتحصنوا بكل مكان ، وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما. ثم خرجوا يقاتلونه ، فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم ، وصالح بقية أهلها.

ذكر طبرية (٣)

وبلغ أهل طبرية ، فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل ، ففعل ، وصالحهم

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٣٦ ـ ٣٤١).

(٢) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٤٣).

(٣) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٤٤).


شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق ، على أن يشاطروا المسلمين المنال فى المدائن ، وما أحاط بها مما يصلها ، فيدعوا لهم نصفا ، ويأخذوا نصفا ، وعلى كل رأس دينار كل سنة ، ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير ، أى ذلك حرث ، وأشياء صالحوهم عليها. ونزلت القواد وخيولهم فيها.

وتم صلح الأردن ، وتفرقت الأمداد فى مدائنها وقراها ، وكتب إلى عمر بالفتح.

حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا

قال (١) : خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص ، وبمن تضيف إليهم من اليرموك ، فنزلوا جميعا على ذى الكلاع ، وقد بلغ الخبر هرقل ، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها ، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به ، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية ، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله ، يوم نزل عليه شنس الرومى ، فى مثل خيل توذرا ، إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص ، فنزل فى عسكره على حدة.

فلما كان من الليل فر توذرا ، فأصبحت الأرض منه بلاقع ، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس ، وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق ، فأجمع رأيه ورأى أبى عبيدة أن يتبعه خالد ، فأتبعه من ليلته فى جريدة ، وبلغ يزيد بن أبى سفيان ما فعل توذرا ، فاستقبله ، فاقتتلوا ، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون ، فأخذهم من خلفهم ، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم ، فلم يفلت منهم إلا الشريد ، وقتل يزيد توذرا ، وأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب ، وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد ، ثم انصرف يزيد إلى دمشق ، وانصرف خالد إلى أبى عبيدة ، وبعد خروج خالد فى أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس ، فاقتتلوا بمرج الروم ، فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة ، حتى امتلأ المرج من قتلاهم ، وأنتنت منهم الأرض. وقتل أبو عبيدة شنس ، وهرب من هرب منهم ، فلم يقلهم ، وركب أقفاءهم إلى حمص.

فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق ، وفحل ، ومرج الروم ، وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا ، ثم نعود إلى تتمة ما وقع فى كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٨ ـ ٥٩٩).


قالوا (١) : إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين ، فيكون فيما بينهما ، ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما ، ولكن ينزل أطراف الرساتيق ، ويغير بالخيل عليهم من كل جانب ، ويصالح من صالحه.

فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن ، فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم ، وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح ، فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم ، ووافاهم أهل البلد ، وكثير من نصارى العرب ، فكثر جمعهم ، وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية ، فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم.

وكتب عمرو إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق ، فاجتمعوا من نواحى الأردن وفلسطين ، فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله : لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم ، والله مكذب أملهم ، ومبطل قولهم ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فاكتب إلىّ برأيك فى هذا الحديث ، أرشد الله رأيك وسددك وأدام رشدك ، والسلام.

وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو ، وقد استشار أبو عبيدة أصحابه فى المسير بهم إلى حمص ، وقال : إن الله تعالى ، قد فتح هذه المدينة ، يعنى دمشق ، وهى من أعظم مدائن الشام ، وقد رأيت أن أسير إلى حمص ، لعل الله يفتحها علينا ، وهذا عمرو بن العاص من ورائنا ، فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك.

فقال له خالد بن الوليد ، ويزيد بن أبى سفيان ، ومعاذ بن جبل ورءوس المسلمين : فإنك قد أصبت ووفقت ، فسر بنا إليهم.

فإنهم لكذلك فى هذا الرأى إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذي تقدم ، فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد ، وقال : قد حدث أمر غير ما كنا فيه ، ثم قرءوا الكتاب على من حضرهم ، فقال يزيد : امدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك. فقال أبو عبيدة : ما ذا ترى أنت يا خالد؟ قال : أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذي ببعلبك ، فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين ، وإن هم أقاموا أمددت عمرا ، وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم ، وأقمت أنت بمكانك. فقال له : نعم ما رأيت ، فسير أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة إلى عمرو ، وقال له : لا تخالفه. فخرج

__________________

(١) انظر : فتوح الشام للأزدى (ص ١٠٦).


شرحبيل فى ألفين وثمانمائة ، فقدم على عمرو ، وعمرو فى ألفين وخمسمائة.

وقال أبو عبيدة لخالد : ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد. فقال له خالد : لا ، بل أنا أسير إليهم. فقال : أنت لهم.

فبعثه أبو عبيدة فى خمسة آلاف فارس ، وخرج معه يشيعه ، فسار معه قليلا ، فقال له خالد : ارجع رحمك الله ، إلى عسكرك ، فقال له : يا خالد ، أوصيك بتقوى الله ، وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم فى حصونهم ، ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم ، وإذا لقيتهم فقاتلهم ، فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم ، وإن احتجت إلى مدد فأعلمنى حتى يأتيك من المدد حاجتك ، وإن احتجت أن آتيك بنفسى أتيتك إن شاء الله. ثم أخذ بيده فودعه ، ثم انصرف عنه.

ويجىء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك ، فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان ، فخرجوا إليهم ، وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك ، وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق ، فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذي ببيسان منهم ، وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك ، فأخبر الخبر ، فأغاز على نواحى بعلبك ، فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا ، وأقبل راجعا إلى أبى عبيدة فأخبره ، واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم ، فقدم خالد فى ألف وخمسمائة ، فارس أمامهم ، وأمرهم ، وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم ، وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم ، فأقبل خالد مسرعا فى آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم ، فحمل على أخرياتهم ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأصاب كثيرا من أثقالهم ، وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم ، وجاء خالد فى خيله حتى نزل قريبا من عمرو ، ففرح المسلمون بهم ، وكان عمرو يصلى بأصحابه الذين كانوا معه ، وخالد يصلى بأصحاب الخيل التي أقبل فيها.

وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام(١)

قالوا : فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها ، وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم ، وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بنى

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).


القين ، وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان ، وقبائل من قضاعة ، فدخلوا مع المسلمين ، وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين ، فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ، ويقولون : أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا ، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا ، ولكنهم غلبونا على أمرنا ، فيقول لهم المسلمون : إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة ، وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم ، وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك ، فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر ، وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصى بلاده ، وإلى كل من كان دينه ممن حوله ، وأنهم فى كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه ، فهم ينتظرون ما يكون منه ، وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا (١).

وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شيء أحب إليهم من معاجلتهم ، وكانوا هم ليس شيء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم ، ولأن المسلمين ليسوا فى مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية.

وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم ، وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشون فى الوحل ، فلما رأى ذلك الروم ، وأنه لا يمنعهم منهم شيء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال ، ووطنوا أنفسهم عليه ، وكانوا كل يوم فى زيادة من الأمداد الواصلة إليهم.

فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق ، ففعلوا ، وقطعوا بذلك المادة والميرة.

فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن ، وكتب له كتابا.

وكان صفوان بن المعطل ، ومعن بن يزيد بن الأخنس السليمان قد خرجا فى خيل لهما فأغارا ، فغنما ، فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم ، وإنما كان المسلمون فى نحو من مائة رجل والروم فى خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم ، فطاردوهم وصبروا لهم ، واحتسبوا فى قتالهم ، ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم. وجاء حابس بن سعد الطائى فى نحو من مائة رجل ، فحمل عليهم فزالوا غير بعيد ، ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين ، ثم انصرفوا وقد بغوا ، وهم يعدون هذا ظفرا ، ولم يقتلوا أحدا ، ولم يهزموا جمعا ، فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبى عبيدة : أن

__________________

(١) انظر هذا الخبر وما بعده فى : تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص ١١١ ـ ١٣٠).


اخرج أنت ومن معك من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب ، فلستم لها بأهل ، وارجعوا إلى بلادكم ، بلاد البؤس والشقاء ، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به ، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف.

فرد عليهم أبو عبيدة : أما قولكم : أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، والله ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء ، فصدقتم ، إنها لكذلك ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها ، ولكن أقيموا ، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا ، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا ، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم ، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى.

فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم ، فأرسلوا إليهم ، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه ، ونخبره بذات أنفسنا ، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم.

فأرسل إليهم أبو عبيدة ، معاذ بن جبل ، فأتاهم على فرس له ، فلما دنا منهم نزل عن فرسه ، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده ، فقالوا لبعض غلمانهم : انطلق إليه فأمسك له فرسه ، فجاء الغلام ليفعل ، فقال له معاذ : أنا أمسك فرسى ، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى ، وأقبل يمشى إليهم ، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها ، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما ، فقال له رجل منهم : أعطنى هذه الدابة أمسكها لك ، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم ، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم ، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه ، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم.

فقال لهم معاذ ، والترجمان يفسر لهم ما يقول : إن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله ، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه ، فليس قيامى هذا لكم ، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم ، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها ، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها ، ونهى عن البغى والسرف فيها ، فأنا أجلس هاهنا على الأرض ، وكلمونى أنتم


بحاجتكم من ثم ، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم ، يفهمنى ما تقولون ، ويفهمكم ما أقول ، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له : لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك ، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك ، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك.

فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه ، وقال للترجمان : قل لهم : إن كانت هذه المكرمة التي تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا ، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها ، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التي فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله ، فهذا خطأ من قولكم ، وجور من فعلكم ، ولا يدرك ما عند الله بالخطإ ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا.

وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت ، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله ، ولا أستأثر من مال الله بشيء على إخوانى من أولياء الله ، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى ، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله ، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك ، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا ، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله ، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا ، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة.

فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه ، وقالوا لترجمانهم : قل له : أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له ، قال : معاذ الله أن أقول ذلك ، وليتنى لا أكون شرهم ، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه ، وتكلموا فيما بينهم ، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم : إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم ، فلما أخبرهم قالوا : قل له : أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولما ذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد ، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه ، وإنما يملكهم اليوم النساء ، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة ، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا ، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.


فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ ، سكتوا ، فقال معاذ للترجمان : أقد فرغوا؟ قال : نعم ، قال : فأفهم عنى ، إن أول ما أنا ذاكر : حمدا لله الذي لا إله إلا هو ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن تصلوا صلاتنا ، وتستقبلوا قبلتنا ، وأن تستسنوا بسنة نبينا ، وتكسروا الصليب ، وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ثم أنتم منا ونحن منكم ، وأنتم إخواننا فى ديننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم ، فأدوا الجزية فى كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون ، فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله نحن قابلوه منكم ، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه.

وأما قولكم : ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد ، وأهل فارس وقد هلك ملكهم ، فإنى أخبركم عن ذلك ، ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم ، إنكم جميعا لسواء ، وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم ، ولكن الله تبارك وتعالى ، أنزل فى كتابه على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٢] ، فكنتم أقرب إلينا منهم ، فبدأنا بكم لذلك ، ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا ، فإنهم اليوم ليقاتلونهم ، وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم ، وأما قولكم : إن ملكنا حى ، وإن جنودنا عظيمة ، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم ، فإن الأمر فى ذلك ليس إليكم ، وإن الأمور كلها لله ، وكل شيء فى قبضته وقدرته ، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى ، وأميرنا رجل منا ، إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه ، وإن غير عزلناه ، ولا يحتجب منا ، ولا يتكبر علينا ، ولا يستأثر علينا فى فيئنا الذي أفاء الله عزوجل ، علينا ، وهو فيه كرجل منا. وأما جنودنا ، فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض ، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها ، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة ، ونتوكل على الله ونثق به ، وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها ، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه ، وأهانها قال الله تبارك وتعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩].

وأما قولكم : كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا ، فأنا أخبركم عن ذلك : نحن نؤمن بنبيكم ، ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله ، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، ولا نقول : إنه الله ، ولا أنه


ثانى اثنين ولا ثالث ثلاثة ، ولا أن لله عزوجل ، ولدا ولا صاحبة ، ولا أن مع الله آلهة أخرى ، لا إله إلا هو ، تعالى عما تقولون علوا كبيرا ، وأنتم تقولون فى عيسى قولا عظيما ، ولو أنكم قلتم فى عيسى كما نقول ، وآمنتم بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تجدونه فى كتابكم ، وكما نؤمن نحن بنبيكم ، وأقررتم بما جاء به من عند الله ، ووحدتم الله ، ما قاتلناكم ، بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم.

فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له : ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا ، وقد بقيت خصلة ونحن عارضوها عليكم ، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم ، وإن أبيتم فهو شر لكم : نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن ، وتتحولون عن بقية أرضنا ، وعن مدائننا ، ونكتب عليكم كتابا نسمى فيه خياركم وصالحاءكم ، ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه ، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم.

فقال لهم معاذ : هذا الذي تعطوننا هو كله فى أيدينا ، ولو أعطيتمونا جميع ما فى أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا. فغضبوا ، وقالوا : أنتقرب منكم وتتباعد منا ، اذهب إلى أصحابك ، فو الله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا فى الحبال. فقال معاذ : أما فى الحبال فلا ، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.

ثم انصرف إلى أبى عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم. فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبى عبيدة : إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف ، ولا يريد الصلح ، فلا نرى أعن رأيك ذلك أم لا ، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف ، ويدعوك إلى الصلح ، فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك ، وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك (١).

فقال لهم أبو عبيدة : ابعثوا من شئتم. فبعثوا إليه رجلا منهم ، طويلا أحمر أزرق ، فلما جاء المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم ، ولم يدر أفيهم هو أم لا ، ولم ير هيبة مكان أمير ، فقال : يا معشر العرب ، أين أميركم؟ قالوا له : هو ذا ، فنظر فإذا هو بأبى عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع ، وهو متنكب القوس ، وفى يده أسهم يقلبها ، فقال له : أنت أمير هؤلاء الناس؟ قال : نعم ، قال : فما جلوسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١١٣) وما بعدها.


جالسا على وسادة ، أو كان تحتك بساط ، أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان؟.

فقال أبو عبيدة : إن الله لا يستحى من الحق ، لأصدقنك عما قلت ، ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما ، وما أملك إلا فرسى وسلاحى ، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندى حتى استقرضت أخى هذا يعنى معاذا ، نفقة كانت عنده ، فأقرضنيها ، ولو كان عندى أيضا ، بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابى وإخوانى ، وأجلس على الأرض أخى المسلم الذي لا أدرى لعله عند الله خير منى ، ونحن عباد الله نمشى على الأرض ، ونأكل على الأرض ، ونجلس عليها ، ونضطجع عليها ، وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا ، بل يعظم الله به أجورنا ، ويرفع به درجاتنا. هات حاجتك التي جئت لها.

فقال الرومى : إنه ليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح ، ولا أبغض إليه من البغى والفساد ، وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغى ، وقل ما بغى قوم وأفسدوا فى الأرض إلا عمهم الله بهلاك ، وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه : إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين ، وثوبا ثوبا ، وأعطيناك أنت ألف دينار ، ونعطى الأمير الذي فوقك يعنون عمر بن الخطاب ، ألفى دينار ، وتنصرفون عنا ، وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن ، وخرجتم من مدائننا وأرضنا ، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه.

فقال أبو عبيدة : إن الله تعالى ، بعث فينا رسولا تنبأه ، وأنزل عليه كتابا حكيما ، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين ، فقال لهم : إن الله إله واحد عزيز حكيم ، علىّ مجيد ، وهو خالق كل شيء ، وليس كمثله شيء ، فوحدوا الله الذي لا إله إلا هو ، ولا تتخذوا معه إلها آخر ، فإن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خلقه ، وإذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه ، فمن آمن وصدق فهو أخوكم فى دينكم ، له ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم ، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله فى جنات النعيم ، وقتيل عدوكم فى النار ، فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم ، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين.

قال الرومى : فقد أبيتم إلا هذا. فقال أبو عبيدة : نعم. فقال : أما والله على ذلك إنى


لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة : لا والله ، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا ، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول : اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا ، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه ، فسار فى الناس ، وقال : أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم (١).

وكتب أبو عبيدة إلى عمر : لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح. سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت ، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها ، وقد سارع إليهم أهل البلد ، ومن كان على دينهم من العرب ، وقد أرسلوا إلىّ : أن اخرجوا من بلادنا ، فإنكم لستم لهذه البلاد التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا ، والحقوا ببلادكم ، بلاد الشقاء والبؤس ، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف ، فأرسلت إليهم :

أما قولكم : اخرجوا من بلادنا ، فلستم لما تنبت أهلا ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى ، ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، وهو سبحانه ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء.

وأما ما ذكرتم من بلادنا ، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء ، فقد صدقتم ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع ، والسعر الرخيص ، والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها ، ولكن أقيموا لنا ، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا.

وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله ، راضيا بقضاء الله ، واثقا بنصر الله ، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد ، وحسد كل حاسد ، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا ، وفتح لهم فتحا يسيرا ، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا ، والسلام عليك.

ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام ، وقال له : ائت به أمير المؤمنين ، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين ، فدنا منهم ، وتعرضت خيل المسلمين لهم ، فلم يخرجوا يومئذ ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال ، وتأخر النبطى عن

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١١٤) وما بعدها.


المسير حتى انصرف المسلمون ، فذهب عند ذلك بالكتاب. وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار ، فلما قدم على عمر رحمه‌الله ، وقرأ كتابه ، قال له : ويحك ، هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين ، فإن أبا عبيدة كتب إلىّ يخبرنى أنه كتب إلىّ حين نهض إلى المشركين؟ فقال له : أصلحك الله ، فإنى لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم ، وكانوا زحفوا إليهم ، وتعرضت خيلهم لهم ، فلم يخرج النصارى إليهم ، فانصرف المسلمون إلى عسكرهم ، وهم أطيب شيء أنفسا وأحسن شيء حالا.

قال : فأنت ما حبسك يومئذ ، إلى العشى لم تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار؟ قال : ظننت أنك ستسألنى عما سألتنى عنه الساعة ، فأحببت أن يكون عندى علم ما تسألنى عنه. قال له عمر : ويحك ، ما دينك؟ قال : نصرانى ، قال : ويحك ، أفما يدلك عقلك هذا الذي أرى على أن تسلم ، ويحك أسلم فهو خير لك. قال : فقد أسلمت. فقال عمر : الحمد لله الذي يهدى من يشاء إذا يشاء ، ثم كتب معه إلى أبى عبيدة بن الجراح : سلاح عليك ، فإنى أحمد إليك الله لا إله إلا هو. أما بعد ، فإن كتابك جاءنى بنفير الروم إليك ، ومنزلهم الذي نزلوا به ، ورسالتهم التي أرسلوها ، وبالذى رجعت إليهم فيما سألوك ، وقد سددت بحجتك ، وأوتيت رشدك ، فإن أتاكم كتابى هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان ، وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا ، وأنتم الأعلون ، وإنها دار الله ، وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين ، واعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم ، فقل إذا أنت لقيتهم : اللهم أنت الناصر لدينك ، المعز لأوليائك ، الناصر لهم قديما وحديثا ، اللهم فتول نصرهم ، وأظهر فلجهم ، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ، وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك ، إنك أنت الولى الحميد.

فأقبل الرسول بهذا إلى أبى عبيدة ، وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذي زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه ، سرح إليهم من الغد خالدا فى الخيل ، ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ فى الرجالة ، فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة ، فأقبلت نحوه ، فقال لقيس بن هبيرة ، وكان من أشد الناس بأسا ، وأشده نكاية فى العدو ، ومباشرة لهم بعد خالد : يا قيس ، اخرج إلى هذا الخيل. فخرج إليهم قيس ، فحمل عليهم مرارا ، وحملوا عليه ، فقاتلهم قتالا شديدا ، ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم ، فقال خالد لميسرة بن مسروق : اخرج إليهم ، فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا ، ثم خرجت إليهم من الروم


خيل عظيمة ، هى أعظم من الخيلين جميعا ، عليها بطريق عظيم من بطارقتهم ، فجاء حتى إذا دنا من خالد ، أمر بشطر خيله ، فحملت على خالد وأصحابه ، فلم يتخلخل أحد منهم ، ثم إنه جمعهم جميعا ، فحمل بهم ، فلم يبرح أحد من المسلمين ، فلما رأى ذلك الرومى انصرف.

فقال خالد لأصحابه : إنه لم يبق من جد القوم ولا حدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم ، فاحملوا معى يا أهل الإسلام حملة واحدة واتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله. ثم حمل عليهم خالد بمن معه ، فكشف من يليه منهم ، وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم ، وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه ، فهزمهم ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويقصفون بعضهم على بعض ، حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم ، فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة ، وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم ، واجتمعوا إلى أبى عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله فى عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد : إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم ، فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى ، فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة فى قلوبهم ، فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا. قال أبو عبيدة : فانهضوا على بركة الله غدا بالغداة.

قال عمرو بن مالك القيسى : ولم يكن شيء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب ، انتظارا لمدد ، ولا شيء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ.

وقال عبد الله بن قرط : لما كانت الليلة التي خرجنا فى صبيحتها إلى أهل فحل ، خرج إلينا أبو عبيدة فى الثلث الباقى من الليل ، فلم يزل يعبئ الناس ويحرضهم حتى إذا أصبح صلى بالناس ، فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير ، ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الرجالة سعيد بن زيد ، وعلى الخيل خالد بن الوليد ، ثم زحف أبو عبيدة بالناس ، وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم.

وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره ، يقف على كل راية وكل قبيلة ، ويقول : عباد الله ، استوجبوا من الله النصر بالصبر ، فإن الله مع الصابرين ، عباد الله ، ليبشر من قتل منكم بالشهادة ، ومن بقى بالنصر والغنيمة ، ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف ، والرمى بالنبل ، ومعانقة الأقران ، فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر فى المواطن المكروهة التماس رضوانه.


وتقدم خالد فى الخيل حتى أطل على الروم ، فلما رأوه خرجوا إليه فى الخيل والرجل جميعا ، وقالوا : إن العرب أفرس على الخيل منا ، وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم ، فاخرجوا إليهم فى الخيل والرجال ، وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس ، فكان ذلك أيضا ، مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة ، خرجوا وهم خمسة صفوف ، فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين : رامح وناشب ، وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف ، وجعلوا له مجنبتين.

ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم ، ثم أقبلوا نحو المسلمين ، وهم نحو خمسين ألفا. فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد فى الخيل ، فأخذ لا يجد عليهم مقدما ، وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب ، وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم ، وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون ، حتى انتهوا إلى صفهم ، ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم ، ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة : أن اخرج فى خيلك حتى تأتى ميسرتهم فتحمل عليها ، وقال لميسرة بن مسروق : قف قبالة صفهم فى خيلك ، وضمها إليك كتيبة واحدة ، فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فاحمل على من يليك منهم.

وكان خالد قسم خيله أثلاثا ، فجعل للمرادى قيس بن هبيرة ، ثلثها ، ولميسرة بن مسروق العبسى ثلثها ، وكان هو فى ثلثها ، فخرج خالد فى ثلث الخيل التي معه حتى انتهى إلى ميمنتهم ، فعلاها ، حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم ، كما تشغله وأصحابه ، فلما دنت منه ، قال : الله أكبر ، الله أخرجهم لكم من رجالتهم ، شدوا عليهم ، ثم استعرضهم فشد عليهم ، وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم ، فهزمهم الله ، ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاءوا ، فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم ، وارتفع قيس بن هبيرة إلى ميسرتهم ، فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد ، فحمل عليهم قيس ، فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم ، وقتل منهم بشر كثير ، وقتلى عظيمة ، وكان واثلة بن الأسقع فى خيل قيس بن هبيرة ، فخرج له بطريق من كبارهم ، فبرز واثلة وهو يقول فى حملته :

ليث وليث فى مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومعك

أجول جول صارم فى العرك

أو يكشف الله قناع الشك

مع ظفرى بحاجتى ودركى

ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها ، وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم ، ووقفوا بإزائهم.


قال هاشم بن عتبة رحمه‌الله : والله لقد كنا أشفقنا يومئذ ، على خيلنا أول النهار ، ثم أحسن الله ، فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرها الله على خيلهم ، فدعوت الناس إلىّ وأمرتهم بتقوى الله ، ثم نزلت ، فهززت رايتى ، ثم قلت : والله لا أردها حتى أركزها فى صفهم ، فمن شاء فليتبعنى ، ومن شاء فليتخلف عنى ، قال : فو الذي لا إله غيره ، ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتى تخلف عنى ، حتى انتهيت إلى صفهم ، فنضحونا بالنشاب ، فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق.

ثم ثرت بلوائى وقلت لأصحابى : شدوا عليهم أنا فداؤكم ، فإنها غنيمة الدنيا والآخرة ، فشددت وشدوا معى ، فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوى فأوجزه الرمح ، فخر ميتا ، وضاربناهم بالسيوف ساعة فى صفهم ، وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا ، وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلى ، ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس ، وأمر الخيل التي كانت تليه من خيل خالد ، فحملت عليهم ، فكانت هزيمتهم (١).

وقال عمرو بن مالك القينى عن أبيه : كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة ، قال:فقلت فى نفسى : قد بلغنى أن صاحب العرب هذا ، يعنى أبا عبيدة ، رجل صدق ، فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه. قال : فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره ، فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبى عبيدة ، فألظ به لا يفارقه ، قال : فو الله لرأيته يقص علينا ، ويقول : كونوا عباد الله أولياء الله ، وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم فى الدنيا ، ولا تواكلوا فتخاذلوا ، وليغن كل رجل منكم قرنه ، وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله ، ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم ، ثم نهض يمشى إليهم ، ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة ، وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم ، فقصف بعضهم على بعض (٢).

وعن يحيى بن هانئ المرادى : أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف ، وكسر بضعة عشر رمحا ، وكان يقاتل ويقول :

لا يبعدن كل فتى كرار

ماضى الجنان شاحب صبار

حين تهم الخيل بالإدبار

يقدم إقدام الشجاع الضارى

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١٢٣ ـ ١٢٤).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٤ ـ ١٣٥).


وقال سالم بن ربيعة : حمل ميسرة بن مسروق يومئذ ، ونحن معه فى الخيل ، فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم ، ولم ينته الانتقاض إلى القلب بعد ، فثبتوا لنا ، وقاتلونا قتالا شديدا ، فصرع ميسرة عن فرسه ، وصرعت معه ، وجرح فرسى فعار ، ويعتنق ميسرة رجلا من الروم ، فاعتركا ساعة ، فقتله ميسرة ، ثم شد عليه آخر وقد أعيى ميسرة ، فاعتركا ساعة ، فصرعه الرومى وجلس على صدره ، وأشد عليه ، فأضرب وجه الرومى بالسيف ، فأطرت قحفه ، فوقع ميتا ، ووثب ميسرة وانبرى إلى رجل منهم ، فضربنى ضربة دير بى منها ، ويضربه ميسرة فيصرعه ، وركبنا منهم عدد كثير ، فأحاطوا بنا ، وظننا والله أنه الهلاك ، إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم ، وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا ، وراياتهم قد غشيتنا ، فكبرنا ، واشتدت ظهورنا ، فانقشع الروم عنا ، وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم ، فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم (١).

وعن نوفل بن مساحق ، عن أبيه : أن خالدا قاتل يومئذ ، قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين ، وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره ، ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم ، فيحمل عليهم حتى يخالطهم ، ثم يجالدهم حتى يفرقهم ، ويهزمهم ، ويكثر القتل فيهم.

قال : ولقد سمعت من يزعم أنه قتل فى ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم ، وكان يقاتلهم ويقول (٢) :

أضربهم بصارم مهند

ضرب صليب الدين هاد مهتد

لا واهن الحول ولا مفند

وعن سهل بن سعد قال : كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا ، وكان يقول : يا أهل الإسلام ، إن هذا اليوم لما بعده من الأيام ، غضوا أبصاركم رحمكم الله ، وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم ، ولا تفارقوا راياتكم ، ولا تزولوا عن مصافكم ، وسوقوهم سوقا عنيفا ، ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم ، ولا بما فى عسكرهم ، فإنى أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم غنائمهم ، فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٥ ـ ١٣٦).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٦).


فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم ، وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر ، وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم ، وتحمل عليهم ، ولا تقلع عنهم ، فقتلوا منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف ، وقتلوا فى عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين ، وخرجوا عباديد منهزمين ، وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا فى فحل ، وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء ، فتحصنوا فيها ، وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفى أسير ، فقتلهم المسلمون ، وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه.

وقال عبد الله بن قرط الثماليّ : مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين ، ومعه رجال من المسلمين ، سبعة أو ثمانية ، وإنه لأمامهم نحو العدو ، وإنه ليقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٥ ، ١٦] ، ثم يقول : لكن الجنة والله نعم المصير ، ولمن؟ هى هى والله لمن شرى نفسه اليوم لله ، وقاتل فى سبيل الله ، ثم يقول : إلىّ يا أهل الإسلام ، أنا عمرو بن سعيد بن العاص ، لا تفروا ، فإن الله يراكم ، ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته ، فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه ، وهو الشيطان الرجيم ، وتعصونه وهو الرحمن الرحيم (١).

قال عبد الله بن قرط : وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة ، فرقت بينى وبين أصحابى ، فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول ، فقلت فى نفسى : والله ما أنا بواجد اليوم فى هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الرجل ، فدنوت منه ومعى الرمح ، وقد أحاطت به من الروم جماعة ، فحملت عليهم ، فأصرع أحدهم ، ثم أقبلت إليه ، فوقفت معه ، ثم قلت : يا ابن أبى أحيحة ، أتعرفني؟ فقال لى : نعم يا أخا ثقيف ، فقلت له : لم تبعد ، هم الإخوان والجيران والحلفاء ، ولكنى أخو ثمالة ، عبد الله بن قرط. فقال لى : مرحبا بك أخى فى الإسلام ، وهو أقرب النسب ، أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك ، ولئن شفعت لأشفعن لك. قال : فنظرت إلى وجهه ، فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف ، وإذا الدم قد ملأ عينيه ، وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم ، فقلت له : أبشر بخير ، فإن الله معافيك من هذه الضربة ، ومنزل النصر على الإسلام. قال : أما النصر لأهل الإسلام ، فأنزل الله

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٧ ـ ١٣٨).


فعجل ، وأما أنا ، فجعل الله لى هذه الضربة شهادة وأهدى إلىّ أخرى مثلها ، فو الله ما أحب أنها بعرض أبى قبيس ، وو الله لو لا أن يقتل بعض من حولى لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربى ، يا أخى إن ثواب الشهادة عظيم ، وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها.

قال : فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة ، فمشى إليهم بسيفه ، فضاربهم ساعة وهو أمام الناس ، وثار بينهم الغبار ، فشددنا عليهم ، فصرنا منهم عدة ، وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا ، وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة ، وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله ، فقطعوه بأسيافهم يرحمه‌الله.

وقتل أيضا هناك من قريش من بنى سهم : سعيد بن عمرو ، وسعيد بن الحارث بن قيس ، والحارث بن الحارث ، وغلب المسلمون على الأرض واحتووها ، وصار من بقى من العدو فى الحصن ، وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة ، فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها ، وطلبوها بالنزول إليهم ، على أن يؤمنوهم ، فأبوا ، وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له : المنذر بن عمرو ، فجاء فى جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل ، فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم ، فكان أراد أن يجىء حتى يدخل معهم حصنهم.

وكان طائفة قد جاءوا بعد وقعة فحل بيوم ، فقال خالد : ما أظن هؤلاء ينبغى لنا أن نعطيهم قوم قاتلوا على هذا الفيء وغلبوا عليه. فقال علقمة بن الأرث القيسى : لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاءوا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا فى سبيل الله؟ أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم إخوانهم وأنصارهم؟ فقال خالد : ننظر ، قال أبو عبيدة : ما نرى إلا أن نشركهم.

فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن ، جاء علقمة بن الأرث إلى أبى عبيدة ، فقال : إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن ، أفلا تبعث إليه المسلمين؟فقال : دعه حتى يدنو. فقال : أصلحك الله ، ابعث معى خيلا فأنا أكفيكه. فقال : لا ، لا تقربنه ، لست آذن لك ، دعه حتى يدنو ، فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم ، ولمن شهدها ، ولهم خيل وقوة : اخرجوا بنا حتى نلقى المنذر بن عمرو ، فإنى أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله ، فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها ، فتابعوه ، فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر بن عمرو ، حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم


غازون ، فهزمهم ، وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم فى كل جانب ، وأغار رجالته فى العسكر فاحتووا ما فيه ، ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه ، فطعنه وقتله ، وأخذ فرسه ورجع إلى أبى عبيدة وقد جاءه خبره ، فقال له أبو عبيدة : إنى لأكره أن لا ألومك وقد عصيتنى ، وإنى لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك ، ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين ، فقاسموهم ما كان فى عسكر المنذر ، فلم يصيبوا منها إلا اليسير.

وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما‌الله (١) : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فالحمد لله الذي أنزل على المسلمين نصره ، وعلى الكافرين رجزه ، أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله ، أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام ، فجاءونا من رءوس الجبال وأسياف البحار ، يرون أن لا غالب لهم من الناس ، فبرزوا إلينا ، وبغوا علينا ، وتوكلنا على الله تعالى ، ورفعنا رغبتنا إلى الله ، وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا ، وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار ، أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم‌الله ، منهم : عمرو بن سعيد بن العاص ، وضرب الله وجوه المشركين ، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، حتى اعتصموا بحصنهم ، وانتهب المسلمون عسكرهم ، وغلبوا على بلادهم ، وأنزلهم الله من صياصيهم ، وقذف الرعب فى قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين ، وادع الله لنا بتمام النعمة ، والسلام عليك.

ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفى لهم عن أنفسهم ، وأن يؤدوا الجزية ، ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلى بلاد الأردن ، وإن أحب أن يقيم ويؤدى الجزية أقام ، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا. وخرج منهم من كان أقبل من الروم فى تلك السنة ، وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد ، واتخذ الضياع ، وتزوج بها ، وولد له فيها ، فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم فى الحصن.

وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى ، فاختلف فيهم المسلمون ، لأخذهم ذلك عنوة ، وغلبتهم عليه بغير صلح ، فقالت طائفة : نقتسمهم ، وقالت طائفة : نتركهم ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر :

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٩ ـ ١٤٠).


بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن ، فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها ، على أن يؤدوا الجزية إليهم ، ويكونوا عمار الأرض ، ورأت طائفة أن يقتسموهم ، فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك فى ذلك ، أدام الله لك التوفيق فى جميع الأمور ، والسلام.

فكتب إليه عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فقد بلغنى كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه ، وخذلانه أهل عدوانه ، وكفايته إيانا مئونة من عادانا ، فالحمد لله على إحسانه فيما مضى ، وحسن صنيعه فيما غبر ، الذي عافى جماعة المسلمين ، وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين ، فهنيئا لهم رضا ربهم ، وكرامته إياهم ، ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم ، ولا يفتنا بعدهم ، فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم ، ولربهم كانوا يحفدون ، ولأنفسهم كانوا يمهدون ، وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التي ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون ، فقالت طائفة : نقر أهلها ، على أن يؤدوا الجزية للمسلمين ، ويكونوا للأرض عمارا.

ورأت طائفة أن يقتسموهم ، وإنى نظرت فيما كتبت فيه ، ففرق لى من الرأى فيما سألتنى عنه أنى رأيت أن تقرهم ، وتجعل الجزية عليهم ، وتقسمها بين المسلمين ، ويكونوا للأرض عمارا ، فهم أعلم بها وأقوى عليها ، أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم ، من كان يكون لمن يأتى بعدنا من المسلمين؟ والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه ، ولا ينتفعون بشيء من ذات يده ، وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء ، فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا ، وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا ، فضع عليهم الجزية ، وكف عنهم السباء ، وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها ، والسلام عليك.

فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأى من عمر عمل به ، وكان رأيه ورأى عمر فى ذلك واحدا (١).

وقال علقمة بن الأرث القينى فى يوم فحل :

ونحن قتلنا كل واف سباله

من الروم معروف النجار منطق

نطلق بالبيض الرقاق نساءهم

وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٩ ـ ١٤٢).


نصرعهم فى كل فج وغائط

كأنهم بالقاع معزى المحلق

فكم من قتيل أوهطته سيوفنا

كفاحا وكف قد أطارت وأسوق

فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام (١)

عن محرز بن أسد الباهلى قال : دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين وفرسان العرب الذين معه ، فجمعنا بعد ما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها ، وقد تحصن منا أهل إيلياء ، واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها ، وأهلها لم يزالوا كثيرا ، فقال أبو عبيدة : يا أهل الإسلام ، إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا ، وأظهركم على بطارقة الروم ، وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن ، وجعلكم لهذه الدار دار الملوك ، أربابا ، وجعلها لكم منزلا ، وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية ، فكرهت أن آتيهم وهم فى جوف مدينتهم متحرزون متحصنون ، ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم ، وأنا نازل عليهم قد حبست نفسى لهم عن افتتاح الأرض ، ولم أدر لعل من طاعتى إذا رأونى قد شغلت نفسى بهم أن يرجعوا إليهم ، وأن ينقضوا العهد الذي بينى وبينهم ، فرأيت أن أسير إلى دمشق ، ثم أسير فى أرضها إلى من لم يدخل طاعتى منهم ، ثم أسير إلى حمص ، فإن قدرنا عليها ، وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذي هو به ، فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت فى الطاعة (٢).

فقال المسلمون جميعا : فنعم الرأى رأيك ، فأمضه وسر بنا إذا بدا لك ، فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة ، فقال له : سر رحمك الله ، فى الخيل. فخرج فيها ، وخلف عمرو بن العاص فى أرض الأردن ، وفى طائفة من أرض فلسطين مما يلى أرض العرب ، وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق ، فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين.

ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد ، فخرجوا أيضا ، فاستقبلوه بما يحب ، فلبث يومين أو ثلاثة ، ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع ، فغلب على أرض البقاع ، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها ، فخرج إليه منها رجل ، فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين ، فيهم ملحان بن زياد الطائى ، وقنان بن دارم العبسى ، فحملوا عليهم

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩٠) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٨).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٣ ـ ١٤٤).


حتى أقحموهم الحصن. فلما رأوا ذلك بعثوا فى طلب الصلح ، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة ، وكتب لهم كتابا.

ثم إنه خرج نحو حمص ، فجمع له أهلها جمعا عظيما ، ثم استقبلوه بجوسية (١) ، فرماهم بخالد بن الوليد ، فلما نظر إليهم خالد قال : يا أهل الإسلام ، الشدة ، الشدة. ثم حمل عليهم خالد ، وحمل المسلمون معه ، فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم ، وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص ، فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم ، فهزمهم ، وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل ، فعرض له منهم فوارس ، فحمل عليهم وحده ، فقتل منهم سبعة ، ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلى دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه ، وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد ، فأقبلوا نحوه ، فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم ، ثم ضرب فرسه فحمل عليهم ، فقتل أول فارس ، ثم الثانى ، ثم الثالث ، ثم الرابع ، ثم الخامس ، ثم انهزموا وتبعهم وحده ، فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا ، فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم ، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه ، رحمه‌الله.

وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة ، فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها ، فلم يخرجوا. وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن (٢) ، فزعم النضر بن شفى أن رجلا من آل ذى الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص ، وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقى فلم يرد وجهه شيء ، فإذا هو فى جوف المدينة ، فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك ، حتى خرج من باب الرستن ، فإذا هو فى عسكر المسلمين.

وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا ، فأخذوا يقولون للمسلمين : اذهبوا نحو الملك ، فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد. فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس ، وبث الخيل فى نواحى أرضهم ، فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة ، واشتد عليهم الحصار ، وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح ، فصالحهم المسلمون

__________________

(١) جوسية : بالضم ثم السكون وكسر السين المهملة وياء خفيفة ، قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. انظر : معجم البلدان (٢ / ١٥٨).

(٢) الرستن : بفتح أوله وسكون ثانيه ، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس ، بين حماة وحمص ، فى نصف الطريق. انظر : معجم البلدان (٣ / ٤٣).


وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة ، وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار ، وفرغوا من الصلح ، وفتحوا باب المدينة للمسلمين ، فدخلوها وأمن بعضهم بعضا.

وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي‌الله‌عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فأحمد الله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام ، أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا ، وأكبتهم للمشركين كبتا ، وأيسره على المسلمين فتحا. أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير ، والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد ، فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب فى قلوبهم ، ووهن كيدهم ، وقلم أظفارهم ، فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج ، فقبلنا منهم وكففنا عنهم ، ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان ، وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التي بها ملكهم وجنوده.

نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره ، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه ، والسلام عليك.

فكتب إليه عمر : أما بعد ، فقد بلغنى كتابك تأمرنى فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا فى البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء ، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد ، وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم ، فلا تفعل ، ابعث إلى خيلك فاضممها إليك وأقم حتى يمضى هذا الحول ونرى من رأينا. ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا ، والسلام عليك.

فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رءوس المسلمين ، فقال لهم : إنى قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم ، وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين ، فكتب إلىّ : أن أصرف إلى خيلى ، وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه. فقالوا : لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا. فسرح إلى ميسرة ، وقد كان أشرف على حلب ودنا منها ، فيجامعه كتاب إلى ميسرة : أما بعد ، فإذا لقيت رسولى فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا ، والسلام.


فأقبل ميسرة فى أصحابه حتى انتهى إلى أبى عبيدة بحمص ، فنزل معه ، وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس ، ودعا خالد بن الوليد ، فقال له : اخرج إلى دمشق فانزلها فى ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا ، ويقيم عمرو بن العاص فى مكانه الذي هو فيه ، فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين ، فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها ، فخرج خالد فى ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشى ، من بنى محارب بن فهر ، وكان أبو عبيدة خلفه بها فى خمسمائة رجل ، فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها ، ونزل سويد فى جوفها.

وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلى قال : أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق ، ولقد كانت لأبى أمامة راية ولأبى راية ، وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبى ، إلا أن يكون رجل من حمير ، فإنه حل هو وأبى جميعا فكل واحد منهما قتل فى حملته رجلا ، فكان أبى يقول : أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص ، لا أدرى ما الحميرى ، فإنى حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا فى حملته رجلا ، ولا أخال إلا أنى قتلت قتيلى قبل قتيله (١).

وقال أدهم : إنى لأول مولود بحمص ، وأول مولود فرض له بها ، وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب ، ولقد شهدت صفين وقاتلت (٢).

وقال عبد الله بن قرط : عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة ، وبث عماله فى نواحى أرضها ، واطمأن فى عسكره ، وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية ، وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوى الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان أوطن بالشام فدخلوا قيسارية ، وتحصن أهل فلسطين بإيلياء.

ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم ، فقال لهم : أخبرونى ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم ، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا : بلى ، قال : فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا : نحن أكثر منهم أضعافا ، وما لقيناهم فى موطن إلا ونحن أكثر منهم. قال : ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟ فسكتوا. فقام شيخ منهم ، فقال : أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون ، قال : فأخبرنى ، قال : إنهم إذا حمل عليهم صبروا ، وإذا حملوا لم يكذبوا ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٨ ـ ١٤٩).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٩).


ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال : وما بالكم كما تصفون ، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ : ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له : ومن أين هذا؟ قال : من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وإنا نشرب الخمر ، ونرتكب المحارم ، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال : صدقتنى ، لأخرجن من هذه القرية ، ولأدعن هذه البلدة ، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال : نشدتك الله أيها الملك أن تفعل ، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال : قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين ، وفحل ، ودمشق ، والأردن ، وفلسطين ، وحمص ، وفى غير موطن ، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ : حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر ، لم يلقهم منهم إنسان ، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ (١).

فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء ، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله.

وذكر الطبرى (٢) عن سيف : أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها ، وقال له : إنه بلغنى يعنى عن المسلمين ، أن طعامهم لحوم الإبل ، وشرابهم ألبانها ، وهذا الشتاء ، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد ، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه ، وشرابه ، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها.

وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص ، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها ، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد ، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا ، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر ، حتى انصرم الشتاء ، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون : تمسكوا فإنهم جفاة ، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون ، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم ، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم ، حتى إذا انخمس الشتاء ، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين ، قالوا : كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شيء؟ فتركهم ، وقام فيهم آخر وقال : ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٩ ـ ١٥١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠).


قالوا : البرسام ، فإنما يسكن فى الشتاء ويثور فى الصيف ، قال : إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة ، أجيبونى محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين. فقالوا : شيخ خرف ولا علم له بالحرب. وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص. فيما حكى عن بعض أشياخ من غسان وبلقين (١) : أن زلزل بأهل حمص ، وذلك أن المسلمين ناهدوهم ، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم فى المدينة ، وتصدعت الحيطان ، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك ، ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان ، وفزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ، فقالوا : ألا ترون إلى عذاب الله؟ فأجابوهم : لا يطلب الصلح غيركم ، فأشرفوا ينادون ، الصلح الصلح ، ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم ، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم ، وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم ، فتركوه لهم ، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا ، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص ، وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن ، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.

حديث حمص آخر

قالوا : وغزى هرقل أهل حمص فى البحر ، واستمد أهل الجزيرة ، واستثار أهل حمص ، فأرسلوا إليه : بأنا قد عاهدنا ، فنخاف أن لا ننصر.

واستمد أبو عبيدة خالدا ، فأمده بمن معه جميعا ، لم يخلف أحدا ، فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل ، وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر.

ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص ، فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر ، إلا ما كان من خالد ، فإن المناجزة كانت رأيه ، فخندقوا على حمص ، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه.

وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم ، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم ، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ.

وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج ، فمضى لحجه ، وكتب إلى سعد بن

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٠).


أبى وقاص : إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه ، فبث المسلمين بالجزيرة ، واشغلهم بالخيول عن أهل حمص ، وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو.

فخرج القعقاع ممدا لأبى عبيدة ، وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران ، فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم ، وبادروا المسلمين إليها ، فتحصنوا ، ونزل عليهم المسلمون فيها ، ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر ، فأرسل إليهم خالد : والله لو لا أنى فى سلطان غيرى ما باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم ، فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة ، فساموا تنوخ ذلك ، فأجابوهم ، وراسلوا خالدا : إن ذلك إليك ، فإن شئت فعلنا ، وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم ، وأوثقوا له ، فقال : بل أقيموا ، فإذا خرجنا فانهزموا بهم.

فقال المسلمون لأبى عبيدة : قد أنفش أهل الجزيرة ، وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم ، وهم العرب ، فاخرج بنا وخالد ساكت ، فقال : يا خالد ، ما لك لا تتكلم؟

فقال : قد عرفت الذي كان من رأيى فلم تسمع من كلامى. قال : فتكلم فإنى أسمع منك وأطيعك ، قال : فاخرج بالمسلمين ، فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم ، وبالعدد يقاتلون ، ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر ، فلا تجفلك كثرتهم.

قالوا : فجمع أبو عبيدة الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

أيها الناس ، إن هذا يوم له ما بعده ، أما من حكى منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره ، وأما من مات منكم فإنها الشهادة ، فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك ، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة ، فإنى أشهد وليس أوان الكذب ، أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت ، فخرج بهم وخالد على الميمنة ، وقيس على الميسرة ، وأبو عبيدة فى القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل ، فاجتلدوا بها ، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا فى مائة ، فانهزم أهل قنسرين بالروم ، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه ، فما أفلت منهم مخبر ، وذهبت الميسرة على وجهها ، وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا ، فأصيبوا وتغنموا.


ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم ، وقال لهم : لا تتكلوا ولا تزهدوا فى الدرجات.

فتح قنسرين (١)

وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين ، فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس ، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل ، فالتقوا بالحاضر ، فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد ، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب ، وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه ، فقبل منهم وتركهم.

ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، قال : أمر خالد نفسه ، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال منى ، وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه ، بالأمر ، وقال : إنى لم أعزلهما عن ريبة ، ولكن الناس عظموهما ، فخشيت أن يوكلوا إليهما.

ويروى أنه قال حين ولى : والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما. فلما كان من أمر خالد فى قنسرين ما كان ، رجع عن رأيه.

وسار خالد حتى نزل على قنسرين ، فتحصنوا منه ، فقال : إنكم لو كنتم فى السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا. فنظروا فى أمرهم ، وذكروا ما لقى أهل حمص وقنسرين ، فسألوه الصلح على مثل صلحها ، فأبى إلا على إخراب المدينة ، فأخربها.

واتطأت حمص وقنسرين ، فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية. وأفلت رجل من الروم كان أسيرا فى أيدى المسلمين فلحق بهرقل ، فقال له : أخبرنى عن هؤلاء القوم. فقال : أحدثك كأنك تنظر إليهم ، فرسان بالنهار ، ورهبان بالليل ، ما يأكلون فى ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال : لئن كنت صدقتنى ليرثن ما تحت قدمي هاتين (٢).

وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية ، وظعن فى أرض الروم التفت فقال : السلام عليك يا سورية ، تسليم مودع لم يقض منك وطره ، وهو عائد. فلما توجه

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣).


المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها ، فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين ، وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى سميساط (١) حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف ، فالتفت نحو سورية وقال : عليك السلام يا سورية ، سلاما لا اجتماع بعده ، ولا يعود إليك رومى أبدا إلا خائفا ، حتى يولد المولود المشئوم ، ويا ليته لا يولد ، ما أحلى فعله ، وما أمر عاقبته على الروم. ثم مضى حتى نزل قسطنطينية.

وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف فى كتابه.

جمع الروم للمسلمين

ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل ، إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فى كتبهم.

وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطئوا بعد يوم فحل وتآمروا ، أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية ، فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب ، ويسألونه المدد والنصر. فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية ، فأرسل إلى رومية والقسطنطينية ، وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية ، وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفانى ، فأقبلوا إليه ، وجاء منهم ما لا تحمله الأرض ، وجاءه جرجير صاحب أرمينية فى ثلاثين ألفا ، وآتاه أهل الجزيرة ، ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان فى طاعته ، فدعا باهان ، وكان من عظمائهم وأشرافهم ، فعقد له على مائة ألف ، ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية ، ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف ، ثم أعطى الأمراء مائة ألف ، مائة ألف ، وأعطى باهان مائتى ألف ، وقال لهم : إذا اجتمعتم فأميركم باهان ، ثم قال : يا معشر الروم ، إن العرب قد ظهروا على سورية ، ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم ، وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج ، ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا ، فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم (٢).

__________________

(١) سميساط : بلد من بلد العجم ، منها السميساطى رجل من العجم كان موصوفا بالورع والزهد.

انظر الروض المعطار (٣٢٣).

(٢) انظر هذا الخبر وما بعده فى : تاريخ فتوح الشام (١٥١ ـ ١٥٩).


قال عبد الله بن قرط ، والحديث له : ثم وجههم إلينا ، فقدمت عيوننا من قبلهم ، فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا ، ومن أجلب معهم من غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفى طاعتهم.

فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم ، رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين ، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأى جماعتهم ، فدعا رءوس المسلمين وأهل الصلاح منهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد. فإن الله عزوجل ، قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء ، وصدقكم الوعد ، وأعزكم بالنصر ، وأراكم فى كل موطن ما تسرون به ، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير ، ونفروا إليكم فيما حدثني عيونى نفير الروم الأعظم ، فجاءوكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية ، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر فى كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر ، وقد أحببت أن لا أغركم من أنفسكم ، ولا أطوى عنكم خبر عدوكم ، ثم تشيرون علىّ برأيكم ، وأشير عليكم برأيى ، فإنما أنا كأحدكم.

فقام يزيد بن أبى سفيان ، فقال : نعم ما رأيت رحمك الله ، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا ، وأنا مشير عليكم ، فإن كان صوابا فذاك ما نويت ، وإن يكن الرأى غير ما أشير به ، فإنى لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين ، وندخل النساء والأبناء داخل المدينة ، ثم نجعل المدينة فى ظهورنا ، ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق ، وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن ، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين.

وقام شرحبيل بن حسنة فقال : إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه ، وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه ، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد ، وهو والله عندى من الناصحين لجماعة المسلمين ، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين.

إنى لا أرى أن ندخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذي قد أقبل إلينا ، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا.

فقال له أبو عبيدة : إن الله قد أذلهم لكم ، وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم ، وأما إذ ذكرت ما ذكرت ، وخوفتنا ما خوفت ، فإنى أخرج أهل المدينة منها


وأنزلها عيالنا ، وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها ، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا.

فقال له شرحبيل : إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها.

فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال : ما ذا ترون ، رحمكم الله؟ فقالوا : نرى أن نقيم ، ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا ، وتبعث إلى من بالشام من إخوانك المسلمين فيقدموا عليك.

فقال أبو عبيدة : إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون ، ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين.

فقام إليه ميسرة بن مسروق ، فقال : أصلحك الله ، إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن ، وإنما نحن أصحاب البر والبلد القفر ، فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت ، ثم اضمم إليك قواصيك ، وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك.

فقال كل من حضر ذلك المجلس : الرأى ما رأى ميسرة ، فقال لهم أبو عبيدة : فتهيئوا وتيسروا حتى أرى من رأى ، وكان رأى أبى عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا ، ولكنه كره خلافهم ، ورجا أن يكون فى اجتماع رأيهم الخير والبركة.

ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة ، وكان استعمله على الخراج ، فقال : انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه ، ولا تجبين أحدا ممن بقى حتى أحدث إليك فى ذلك ، ففعل ، فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له : اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم ، وقل لهم : نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح ، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا ، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم ، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ، ثم نلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم ، إلا ألا تطلبوا ذلك.

ثم أخذ الناس فى الرحيل إلى دمشق ، ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم ، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة ، فقالوا : ردكم الله إلينا ، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا ، بل غصبونا وأخذوا مع هذا


ما قدروا عليه من أموالنا. وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله.

قال سفيان بن عوف بن معقل : بعثنى أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق ، فقال : ائت أمير المؤمنين فأبلغه منى السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت ، وبما جاءتنا به العيون ، وبما استقر من كثرة العدو ، وبالذى رأى المسلمون من التنحى عنهم. وكتب إليه معه : أما بعد ، فإن عيونى قدمت علىّ من أرض قنسرين ومن القرية التي فيها ملك الروم ، فحدثونى بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمه كانت قبلنا ، وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم فى الرأى ، فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك ، وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا ، فاسأله عما بدا لك ، فإنه بذلك عليم ، وهو عندنا أمين ، ونستعين الله العزيز الحكيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليك.

قال سفيان : فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه ، فقال : أخبرنى عن الناس ، فأخبرته بصلاحهم ، ودفاع الله عنهم ، ثم أخذ الكتاب فقرأه ، فقال لى : ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت : أصلحك الله ، خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون : نصلى الغداة ثم نرحل إلى دمشق. قال : فكأنه كرهه حتى عرفت الكراهة فى وجهه ، ثم قال : لله أبوك ، ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم فى غير موطن؟ وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت فى أيديهم؟ إنى لأخاف أن يكونوا قد أساءوا الرأى وجاءوا بالعجز وجرءوا عدوهم عليهم. فقلت : أصلحك الله ، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا ، ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة فى أصل جبل ، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا ، ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل ، فهذا عسكر واحد من عساكرهم ، فما ظنك أصلحك الله بما بقى؟.

فقال : لو لا أنى ربما كرهت الشيء من أمرهم يضيعونه ، فأرى الله تعالى ، يخير لهم فى عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرنى : اجتمع رأى جميعهم على التحول؟ قلت : نعم. قال : فالحمد لله ، إنى لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم. فقلت : يا أمير المؤمنين ، اشدد أعضاد المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة ، فإن هذه الوقعة هى الفيصل فيما بيننا وبينهم. فقال لى : أبشر بما يسرك ويسر المسلمين ، واحمل كتابى هذا إلى أبى عبيدة وإلى المسلمين ، وأعلمهم أن سعيد بن عامر بن


حذيم قادم عليهم بالمدد ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبى عبيدة بن الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار ، والتابعين بإحسان ، والمجاهدين فى سبيل الله ، سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنه قد بلغنى توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق ، وترككم بلادا فتحها الله عليكم ، وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين ، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم ، ثم إنى سألت رسولكم عن رأى من جميعكم كان ذلك ، فزعم أن ذلك كان رأيا من أماثلكم وأولى النهى منكم ، فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد فى العاجلة والعاقبة ، فهون ذلك علىّ ما كان داخلنى من الكراهية قبل ذلك لتحولكم ، وقد سألنى رسولكم المدد ، وأنا ممدكم ، لن يقرأ عليكم كتابى حتى يشخص إليكم المدد من قبلى إن شاء الله ، واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر ، ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت ، ولم تغن عنهم فئتهم شيئا ، ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير عددها من أعداء الله ، فأنزل الله عليكم نصره ، وبعدو المسلمين بأسه ورجزه ، والسلام عليكم.

فجاء سفيان بالكتاب إلى أبى عبيدة فقرأه على الناس وسروا به.

وعن عبد الله بن قرط ، فى حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأى المسلمين مع أبى عبيدة من الرحيل عن حمص ، قال : فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبى عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد ، وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعد ما كنا قد افتتحناها ، وأمنا أهلها ، وصالحناهم عليها ، وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر ، وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة ، ومقالة العبسى فى ذلك ، فقال له خالد : أما أنه لم يكن الرأى إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم ، فأما إذا اجتمع رأيكم على أمر واحد ، فو الله إنى لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير (١).

فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين ، وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم ، ففعل ، وقال لهم المسلمون : نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم. ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه ، فقال لهم : ما ذا ترون؟ أشيروا علىّ.

فقال يزيد بن أبى سفيان : أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية ، ثم تبعث إلى عمرو بن

__________________

(١) انظر الخبر فى : تاريخ فتوح الشام (١٦٠ ـ ١٦٩).


العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين ، ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا ، فنقاتلهم ونستعين الله عليهم.

فقال شرحبيل بن حسنة : لكنى أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها فى أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنوا من خليفتنا ومن مددنا ، فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا ، وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا. فقال رجل من المسلمين لأبى عبيدة : هذا أصلحك الله رأى حسن ، فاقبله واعمل به.

فقال معاذ بن جبل : وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا أضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم ، تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم ، فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول ، فما أشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها ، وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم؟ أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة.

فقال أبو عبيدة : صدق والله وبر ، ما ينبغى أن نترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله فى الدفع عنهم ، فإن شئتم نزلنا الجابية وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا ، ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها.

فقال له خالد : كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه فى مكانك الذي أنت فيه. فإنهم لكذلك يجيلون الرأى إذ قدم على أبى عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه : أما بعد ، فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم ، وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها ، وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها ، وقد جرأهم ذلك علىّ وعلى من قبلى من المسلمين ، وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلىّ. فاكتب إلىّ برأيك ، فإن كنت تريد القدوم علىّ أقمت لك حتى تقدم علىّ ، وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمنى برأيك ، أوافك فيه ، فإنى صائر إليك أينما كنت ، وإلا فابعث إلىّ مددا أقوى به على عدوى وعلى ضبط ما قبلى ، فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا ، ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا ، والسلام عليك.


فكتب إليه أبو عبيدة : أما بعد ، فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك ، وجرأتهم عليك للذى بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض ، وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم ، ولا وهن عن عدوهم ، ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم ، ثم يناهضونهم إن شاء الله ، وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم ، فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه ، وإنجاز موعوده ، وإعزاز دينه ، وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه ، حتى يتوقلوا فى شعف الجبال ، ويعجزوا عن منع الحصون ويجنحوا للسلم ، ويلتمسوا الصلح ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢].

ثم أعلم من قبلك من المسلمين أنى قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله ، فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا ، ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطمعوا فيكم ويجترئوا عليكم ، أعزنا الله وإياكم بنصره ، وعمنا بعافيته وعفوه ، والسلام عليك.

وقال لعبد الله بن عمرو : اقرأ على أبيك السلام ، وأخبره أنى فى أثرك ، وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به ، فإنك رجل من الصحابة ، وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين ، بصحبتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تتكل على أبيك ، وكن أنت فى جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر ، وتأمرهم بالصبر ، ويكون أبوك يفعل ذلك فى جانب آخر.

فقال : إنى أرجو أن يبلغك عنى إن شاء الله من ذلك ما تسر به ، ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبى عبيدة ، فقرأه أبوه على الناس ، ثم قال : أما بعد ، فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا (١) من أهل إيلياء (٢) فلم يأتنا به ، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معى إلى أهل إيلياء ، فإنى أريد السير إليهم والنزول بساحتهم ، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقالتهم وأسبى ذراريهم ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

__________________

(١) ثقف رجل : أى صفر به.

(٢) إيلياء : ويقال أيليا بفتح الهمزة ، مدينة بالشام وهى بيت المقدس ، وهى مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب. انظر : الروض المعطار (٦٨) ، نزهة المشتاق (٢١٦).


ثم نادى فى المسلمين : أن ارتحلوا إلى إيلياء ، فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء ، ثم نزل وعسكر ، وقال لأهل الأردن : أخرجوا إلينا الأسواق ، ونادى مناديه : برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا ، فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه ، وخرجوا بعدتهم وسلاحهم ، فقدمهم مع ابنه عبد الله فى خمسمائة من المسلمين ، وأمره أن يعسكر بهم ، ففعل.

وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف ، وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم ، فيرعب قلوبهم ويشغلهم فى أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم.

فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوى قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم : هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس ، فاجتمعوا من كل مكان ، وتراسلوا ، وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره ، فأيقنوا أنه يريدهم ، فكانوا من ذلك فى هول شديد ، وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذي لا إله إلا هو ، وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد : فإنا نثنى على ربنا خيرا ، ونحمده حمدا كثيرا ، كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه ، وأعزنا بطاعته ، وأيدنا بتوحيده ، فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا ، والحمد لله الذي جعلكم شيعا وجعلكم فى دينكم أحزابا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، فمنكم من يزعم أن لله ولدا ، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين ، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة ، فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا ، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، والحمد لله الذي قتل بطارقتكم ، وسلب عزكم ، وطرد من هذه البلاد ملوككم ، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم ، وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله ، فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا فى الأموال والأنفس ، وما الله بظلام للعبيد.

فإذا بلغكم كتابى هذا ، فأسلموا تسلموا ، وإلا فأقبلوا إلىّ حتى أكتب لكم أمانا على دمائكم وأموالكم ، وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلىّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإلا فو الله الذي لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال ، ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبى الذرية ، وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن.


وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج ، نصرانى على دينهم ، وقال له : عجل علىّ ، فإنى إنما أنتظرك ، فلما قدم عليهم قالوا له : ويحك ، ما وراءك؟ قال : لا أدرى إلا أن هذا الرجل بعثنى إليكم بهذا الكتاب ، وقد وجه عسكره نحوكم ، وقال لى : ما يمنعنى من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك ، فقالوا : انتظرنا ساعة من النهار ، فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذي بدمشق ، ومن قبل جند الملك الذي أقبل إلينا ، فننظر ما يأتينا به ، فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم ، وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم ، فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام ، فأقام العلج حتى أمسى ، ثم إن رسول أهل إيلياء الذي بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم فى ثلاثة عساكر ، فى كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل ، وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم من تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم ، فانصرفوا راجعين ، وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين (١) فأخرجوهم منها ، ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها ، ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن ، نحو صاحبهم هذا الذي كتب إليكم ، والروم يسوقونهم سوقا عنيفا ، فتباشروا بذلك وسروا به ، ودعوا العلج الذي بعث به إليهم عمرو بن العاص ، وقالوا : اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك ، وكتبوا معه : أما بعد ، فإنك كتبت إلينا تزكى نفسك وتعيبنا ، وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه ، وقد فهمنا ما دعوتنا إليه ، وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤكم ، فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا فى القديم ، وإن ابتلانا بظهوركم ، فلعمرى لنقرن ، لكم بالصغار ، وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من إخواننا ، ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم.

فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو ، فقال له : ما حبسك؟ فأخبره الخبر ، فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد فى مقدمة أبى عبيدة ، فجاء حتى نزل اليرموك ، وأقبل عمرو حتى نزل معه.

وقعة اليرموك (٢) على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام

قالوا (٣) : ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأى من

__________________

(١) قنسرين : مدينة بالشام ، وهى الجابية ، بينها وبين حلب اثنا عشر ميلا. انظر : الروض المعطار (٤٧٣).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٨ ـ ١٢٣) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٦).

(٣) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٦٩ ـ ١٧١).


المسلمين : أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا؟ فقال يزيد بن أبى سفيان : أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة ، فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد. فقال عمرو : ما أيلة إلا كبعض الشام ، ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد ، فقال قيس بن هبيرة : لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه ، أتدعون هذه العيون المتفجرة ، والأنهار المطردة ، والزروع والأعناب ، والذهب والفضة والحرير ، وترجعون إلى أكل الضباء وليس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم ، فأين تدعون الجنة وتهربون منها؟ وتزهدون فيها وتأتون الحجر. لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه. فقال له خالد بن الوليد : جزاك الله خيرا يا قيس ، فإن رأيك موافق لرأيى.

وفى حديث عن أبى معشر : أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين واستشارهم ، فذكر من مشورة يزيد بن أبى سفيان عليه ، وعمرو ابن العاص نحوا مما تقدم. قال : وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون ، وكان يرحمه‌الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون ، إذ كان لا يهوله من أمر الروم شيء ، ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم ، فقال له أبو عبيدة : ما ذا ترى يا خالد؟ فقال : أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا ، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغنى عنهم شيئا ، ثم غضب ، فقال لأبى عبيدة : أتطيعنى أنت فيما آمرك به؟ قال : نعم. قال : فولنى ما وراء بابك ، وخلنى والقوم ، فإنى والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم ، قال : قد فعلت ، فولاه ذلك ، فكان خالد من أعظم الناس بلاء ، وأحسنه غناء وأعظمه بركة ، وأيمنه نقيبة ، وكانوا أهون عليه من الكلاب.

وعن مالك بن قسامة بن زهير ، عن رجل من الروم يدعى جرجة ، كان قد أسلم فحسن إسلامه ، قال : كنت فى ذلك الجيش الذي بعث قيصر من أنطاكية مع باهان ، فأقبلنا ونحن لا يحصى عددنا إلا الله ، ولا نرى أن لنا غالبا من الناس ، فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من حمص ، ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق. قال : ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى ، حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره ، فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه ، وكان من كان من العرب بالشام ممن


كان على طاعة قيصر ثلاثة أصناف ، فأما صنف فكانوا على دين العرب ، وكانوا معهم ، وأما صنف فكانوا نصارى ، وكانت لهم فى النصرانية نية ، فكانوا معنا ، وأما صنف فكانوا نصارى ليس لهم فى النصرانية تلك النية ، فقالوا : نكره أن نقاتل أهل ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا ، وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم ، ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذي لم يجتمع قط لأحد من قبلهم.

وعن عبد الله بن قرط قال : لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا يمرون بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم وخوفوهم ، فيقولون لهم : أنتم أولى باللائمة منا ، أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا وذهبتم ، وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة ، فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم ، وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل مما يلى المسلمين ، والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم ، فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات ، فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبى بشر بن زيد بن الأطول الأزدية ، وكانت تحت عبد الله بن قرط ، وكان أشبه خلق الله به فى الحرب ، فرسه يشبه فرسه ، وباده يشبه باده ، وكل شيء منه كذلك ، فظنت أنه زوجها ، فقالت له : اسمع بنفسى أنت ، فعلم قيس أنها شبهته بزوجها ، فقال : أظنك شبهتنى بزوجك. فقالت : وا سوأتاه وانصرفت ، فأقبل قيس عليها ، وعلى من كان معها من النساء ، فقال لهن : قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها ، وإذا أراد ذلك منها فلتمتنع عليه ولتحث فى وجهه التراب ، ثم لتقل له : أخرج قاتل عنى ، فلست لك بامرأة حتى تمنعنى ، فلعمرى ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة ، ثم مضى. فقالت المرأة : وا سوأتاه منه ، وإنما ظننت أنه ابن قرط ، فإنه لم يتعش البارحة إلا عشاء خفيفا ، آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده ، فكنت هيأت له غداءه ، فأردت أن ينزل فيتغذى (١).

قال ابن قرط : ولما نزل الروم منزلهم الذي نزلوا فيه ، دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا ، فأمرناهم أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم ، فكانوا يفعلون ذلك ، قال : فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شيء ولا نسألهم ، ولا يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم ، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٧٢ ـ ١٧٤).


شديدة وأصواتا عالية ، فظننا أن القوم يريدون النهوض إلينا ، فتهيأنا وتيسرنا ، ثم دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر ، فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد يأتيهم ، ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم ، واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن ملكهم ، فقام فيهم فقال : إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا ، وقد جاءكم قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم ، وأنتم عدد الحصى والثرى والذر ، والله إن فى هذا الوادى منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل سوى أتباعكم وأعوانكم ، ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على دينكم ، فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم ، فإن عددهم قليل ، وهم أهل الشقاء والبؤس وجلهم حاسر جائع ، وأنتم الملوك ، وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة ، فلا تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم. فقام إليه بطارقتهم فقالوا له : مرنا بأمرك ، ثم انظر ما نصنع. قال : فتيسروا حتى آمركم (١).

وعن أبى بشر ، رجل من تنوخ كان مع باهان ، قال : كنت نصرانيا ، فنصرت النصارى على العرب ، فأقبلت مع الروم ، فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شيء ثناء على العرب فى سيرتهم وفى كل شيء من أمرهم ، وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون فى الأرض ويسيئون السيرة ، ويعصون الأمراء ، حتى ضج منهم الناس ، وشكاهم أهل القرى ، فلا تزال جماعة تجيء معها بالجارية قد افتضت ، وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت ، وآخرون أنهم خربوا وسلبوا ، فلما رأى ذلك باهان ، قام فيهم خطيبا فقال : يا معشر أهل هذا الدين ، إن حجة الله عليكم عظيمة ، إذ بعث إليكم رسولا ، وأنزل عليه كتابا ، وكان رسولكم لا يريد الدنيا ، ويزهدكم فيها ، وأمركم أن لا تظلموا أحدا ، فإن الله لا يحب الظالمين ، وأنتم الآن تظلمون ، فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر نبيكم وما أتاكم به من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم ، يقتل مقاتليكم ، ويسبى ذراريكم ، وأنتم تعملون بالمعاصى ، ولا ترعون منها خشية العقاب ، فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم ، فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس (٢).

فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل الذمة يشكو مظلمة ، فتكلم بلسانهم ، وأنا أفقه كلامهم ، فقال : أيها الملك ، عشت الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث ، إنى امرؤ

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٧٤ ـ ١٧٥).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٧٥ ـ ١٧٧).


من أهل البلد من أهل الذمة وكانت لى غنم أظنها مائة شاة تنقص قليلا ، وكان فيها ابن لى يرعاها ، فمر به عظيم من عظماء أصحابك ، فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها ، وانتهب بقيتها أصحابه ، فجاءته امرأتى تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمى ، وتقول له : أما ما أخذت أنت لنفسك فهو لك ، ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا ، فلما رآها أمر بها فأدخلت بناءه ، وطال مكثها عنده ، فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب البناء فاطلع فيه ، فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهى تبكى ، فصاح الغلام ، فأمر به فقتل ، فأخبرونى ذلك ، فأقبلت إلى ابنى ، فأمر بعض أصحابه فشد علىّ بالسيف ليضربنى ، فاتقيته بيدى فقطعها.

فقال له باهان : فهل تعرفه؟ قال : نعم ، قال : وأين هو؟ قال : هو ذا ، لعظيم حاضر عنده من عظمائهم ، قال : فغضب ذلك العظيم ، وغضب له ناس من أصحابه ، وكان فيهم ذا شارة وشرف ، فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة ، فشدوا على المستعدى فضربوه بأسيافهم حتى مات ، ثم رجعوا ، وباهان ينظر إلى ما صنعوا ، فقال بلسانه : العجب كل العجب ، كيف لا تنهد الجبال ، وتنفجر البحار ، وتتزلزل الأرض ، وترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر ، ولأعمالكم العظام التي تعملونها وأنا أرى وأسمع ، إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص ، ومن الآن يعجل لكم الهلاك ، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك ، فأنتم والله عندى شر من الكلاب ، والحمر ، ولعمرى إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون ، ولقد سخط الله أعمالكم ، وليكلنكم إلى أنفسكم ، فأما أنا فأشهد الله أنى برىء من أعمالكم ، وسترون عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم ، وإلى أى مصير تصيركم. ثم نزل.

قال التنوخى (١) : وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون ، وقد كان بلغنا أن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : إنكم ستظهرون على الروم ، وقد كانوا واقعوا غير مرة ، كل ذلك يكون لهم الظفر علينا ، غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل ، فأقام باهان أياما يراسل من حوله من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق ، فكانوا يفعلون ، ولم يكن ذلك يضر المسلمين ، لأن الأردن فى أيديهم ، فهم مخصبون بخير ، فلما رأى باهان أن ذلك لا يضرهم ، وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها بطريق من بطارقتهم ، يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب ، فعلم المسلمون ما يريد ، فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد ، فبعثه فى ألفى فارس

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٧٨ ـ ١٧٩).


وألفى راجل ، فخرج حتى اعترض العلج ، فلما استقبله نزل خالد فى الرجالة ، وبعث قيس بن هبيرة فى الخيل ، فحمل عليهم قيس ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله ، ومشى خالد فى الرجالة حتى إذا دنا شد برايته ، وشد معه المسلمون ، فضاربوهم بالسيوف حتى تبددوا ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة.

وقال قيس لرجل من بنى نمير ، وقد مر به البطريق يركض : يا أخا بنى نمير ، لا يفوتنك البطريق ، فإنى والله لقد كددت فرسى على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جرى ، فحمل عليه النميرى فركض فى أثره ساعة ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه ، فاضطربا بسيفيهما ، فلم يصنع السيفان شيئا ، واعتنق كل واحد منهما صاحبه ، فوقعا إلى الأرض ، فاعتركا ساعة ، ثم صرعه النميرى ، فوقع على صدر البطريق ، فى ساقيه ، فضمه البطريق إليه ، وكان مثل الأسد ، فلم يستطع النميرى يتحرك ، وجاء قيس حتى وقف عليهما ، فقال : يا أخا بنى نمير ، قتلت الرجل إن شاء الله ، قال : لا والله ، ما أستطيع أن أتحرك ولا أضربه بشيء ، ولقد ضمنى بفخذيه ، وأمسك يدى بيديه ، فنزل إليه قيس فضربه ، فقطع إحدى يديه ، ثم تركه وانطلق ، وقال للنميرى : شأنك به ، وقام النميرى فضربه بسيفه حتى قتله ، ومر به خالد بن الوليد ، فقال : من قتل هذا؟ فقال له قيس : هذا النميرى قتله ، ولم يخبره هو بما صنع.

وفى حديث عبد الله بن قرط : أن معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبى عبيدة حين سار من دمشق إلى اليرموك : ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التي جاءتنا وتسأله المدد؟ قال : بلى ، فكتب إليه :

أما بعد ، فإن الروم نفرت إلينا برا وبحرا ، ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا ، وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل أرمينية والجزيرة وجاءونا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل ، وإنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم ، فكشفت لهم عن الخبر ، وصرحت لهم عن الأمر ، وسألتهم عن الرأى ، فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام ، ثم نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد ، فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين بالمدد بعد المدد ، والرجال بعد الرجال ، وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم أقاموا ، أو دينهم إن هم هربوا ، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به ، إلا أن يمدهم الله بملائكة أو يأتيهم بغياث من عنده ، والسلام عليك (١).

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٨٠).


قال عبد الله بن قرط (١) : وبعثنى بكتابه ، فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبى عبيدة ، فبكى المسلمون بكاء شديدا ، ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عزوجل ، أن ينصرهم ، وأن يعافيهم ويدفع عنهم ، واشتدت شفقتهم عليهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، ابعثنا إلى إخواننا ، وأمر علينا أميرا ترضاه لنا ، أو سر أنت بنا إليهم ، فو الله إن أصيبوا فما فى العيش خير بعدهم ، قال : ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن بن عوف ، ولا أكثر قولا لعمر : سر بنا يا أمير المؤمنين ، فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين ، ورعب قلوب الكافرين. قال : واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يقيم عمر ويبعث المدد ، ويكون ردءا للمسلمين. قال : فقال لى عمر رحمه‌الله : كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرج؟ فقلت : نحو من ثلاث ليال. فقال عمر : هيهات متى يأتى هؤلاء غياثنا.

ثم كتب معى إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك ، تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا ، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم ، وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر ، وقال وهو لا يخلف الميعاد : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف : ٩] ، فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم برىء ، ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته ، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله ، ولا يوحشنك قلة المسلمين فى المشركين ، فإن الله معك ، وليس قليلا من كان الله معه ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله ، وستظهر بالله عليهم ، وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا.

وقد فهمت مقالتك : احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا ، أو دينهم إن هم هربوا ، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله. وايم الله ، لو لا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمرى ، لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا ، لما عند الله خير للأبرار ، ولقد قال الله تعالى فيهم : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣] ، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مواطنه ، فما عجز الذين قاتلوا فى سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت فى جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح دمشق (١٨١ ـ ١٨٤).


استكانوا لمصيبتهم ، ولكن تأسوا بهم وجاهدوا فى سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم ، ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٤٦] ، فأما ثواب الدنيا فالفتح والغنيمة ، وأما ثواب الآخرة ، فالمغفرة والجنة.

واقرأ كتابى هذا على الناس ، ومرهم فليقاتلوا فى سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.

وأما قولك : إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به ، فإلا يكن لهم به قبل ، فإن لله تعالى بهم قبلا ، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا ، ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا ، ولكنا نتوكل على الله ربنا ، ونفوض إليه أمرنا ، ونبرأ إليه من الحول والقوة ، ونسأله النصر والرحمة ، وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال ، فأخلصوا لله نياتكم ، وارفعوا إليه رغبتكم ، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ، والسلام.

قال عبد الله بن قرط : فدفع إلىّ عمر الكتاب وأمرنى أن أعجل السير ، وقال لى : إذا قدمت على المسلمين فسر فى صفهم ، وقف على كل صاحب راية منهم ، وأخبرهم أنك رسولى إليهم ، وقل لهم : إن عمر يقرئكم السلام ويقول : يا أهل الإسلام ، اصدقوا وشدوا على أعدائكم شد الليوث ، وأعضوا هامهم السيوف ، وليكونوا أهون عليكم من الذر ، لا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم.

قال : فركبت راحلتى وأقبلت مسرعا ، أتخوف ألا آتى الناس حتى تكون الوقعة ، فانتهيت إلى أبى عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحى فى ألف رجل مددا من قبل عمر رضي‌الله‌عنه ، فسر بمقدمه المسلمون ، وشجعهم ذلك على عدوهم ، ودفعت إلى أبى عبيدة كتاب عمر ، فقرأه على الناس ، فاشتد سرورهم برأيه لهم ، وبما أمرهم به من الصبر ، وما رجا لهم فى ذلك من الأجر.

وكان أبو عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا واختلفوا فى الاجتماع للمسلمين ، فعند ذلك بعث عمر رحمه‌الله ، سعيد بن


عامر بالمدد ، وقد كان أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وجه سعيدا هذا إلى الشام فى جيش ، فكان مع أبى عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل ، ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح ، فقدم به عليه ، ثم حج بعد ورجع إلى المدينة ، فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر بهذا المدد.

قال حسان بن عطية (١) : لما عقد له عمر على من وجهه معه ، قال له : يا سعيد ، إنى قد وليتك على هذا الجيش ، ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله منه ، فلا تشتم أعراضهم ، ولا تضرب أبشارهم ، ولا تحقر ضعيفهم ، ولا تؤثر قويهم ، وكن للحق تابعا ، ولا تتبع هواك سادرا ، فإنه إن بلغنى عنك ما أحب لم يعدمك منى ما تحب! فقال له سعيد : يا أمير المؤمنين ، إنك قد أوصيتنى ، فاستمعت منك ، فاستمع منى أوصك. قال: هات ، فقد آتاك الله علما يا سعيد ، قال : يا أمير المؤمنين ، خف الله فى الناس ، ولا تخف الناس فى الله ، واحبب لقريب الناس وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، والزم الأمر ذا الحجة يكفك الله ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولك ، ولا تقضين فى أمر واحد بقضاءين فيختلف قولك وفعلك ، ويلتبس الحق بالباطل ، ويشتبه عليك الأمر ، فتزيغ عن الحق ، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته ، ولا يأخذك فى الله لومة لائم.

قال : فأكب عمر طويلا وفى يده عصا له وهو واضع جبهته عليها ، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل ، فقال : لله أبوك يا سعيد ، ومن يستطيع هذا الذي تذكر؟ قال : من طوق ما طوقت ، وحمل ما حملت من هذا الأمر ، وإنما عليك أن تأمر فتطاع ، أو تعصى فتبوأ بالحجة ، ويبوء بالمعصية.

وعن الحارث بن عبد الله الأزدى ، قال (٢) : لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر ، ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة ، يقصون عليهم ويحرضونهم ، خافهم المسلمون ، فما كان شيء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد ، يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم ، فاستشار أبو عبيدة الناس ، فكلهم أشار عليه بالخروج من الشام ، إلا خالد بن الوليد ، فإنه أشار عليه بالمقام ، وقال له : خلنى والناس ودعنى والأمر وولنى ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن الله أمر هذا العدو ، فقال له أبو عبيدة : شأنك بالناس ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٨٦ ـ ١٨٧).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٨٧ ـ ١٩٩).


فخلاه وإياهم ، قال : وكان قيس بن هبيرة على مثل رأى خالد ، ولم يكن فى المسلمين أحد يعدلهما فى الحرب وشدة البأس. قال : فخرج خالد فى الناس وهم أحسن شيء دعة ورعة وهيئة ، وأشدهم فى لقاء عدوهم بصيرة ، وأطيبهم أنفسا ، فصفهم خالد ثلاثة صفوف ، وجعل ميمنة وميسرة ، ثم أتى أبا عبيدة. قال : من كنت تجعل على ميمنتك؟

قال : معاذ بن جبل ، قال : أهل ذلك هو الرضى الثقة ، فولها إياه ، فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف فى الميمنة ، ثم قال : من كنت تول الميسرة؟ قال : غير واحد ، قال : فولها إن رأيت قباث بن أشيم ، فأمره أبو عبيدة فوقف فى الميسرة ، وكان فيها كنانة وقيس ، وكان قباث كنانيا ، وكان شجاعا بئسا. قال خالد : وأنا على الخيل ، وول على الرجالة من شئت ، قال : أوليها إن شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس ، أوليها هاشم بن عتبة ابن أبى وقاص ، قال : أصبت ووفقت ورشدت. قال أبو عبيدة : انزل يا هاشم ، فأنت على الرجالة وأنا معك ، وقال خالد لأبى عبيدة : أرسل إلى أهل كل راية فمرهم أن يطيعونى ، فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس ، فأمره بذلك ، فخرج الضحاك يسير فى الناس ويقول لهم : إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد فيما أمركم به. فقال الناس : سمعنا وأطعنا ، وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما أنهى إليه الضحاك أمر أبى عبيدة ، ثم نظر معاذ إلى الناس فقال : أما إنكم إن أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية ، قال الضحاك : فحدثت خالدا بذلك ، فقال : رحم الله أخى معاذا ، أما والله إن أحبنى إنى لأحبه فى الله ، لقد سبقت له ولأصحابه بسوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم الله به من ذلك. قال الضحاك : فأخبرت معاذا بما رد علىّ خالد ، فقال : إنى لأرجو أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين ، وشدة عليهم مع بصيرته وحسن نيته فى إعزاز دينه أحسن الثواب ، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا ، فقال خالد ، وقد لقيته بذلك : ما شيء على الله بعزيز.

قال : ثم إن خالدا سار فى الصفوف ، يقف على أهل كل راية ، ويقول : يا أهل الإسلام ، إن الصبر عز وإن الفشل عجز ، وإن مع الصبر تنصرون ، والصابرون هم الأعلون ، وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم ويحضهم ، ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس ، ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين ، ودعا قيس بن هبيرة ، وكان يساعده ويوافقه ويشبهه فى جلده وشدته وشجاعته وإقدامه على المشركين ، فقال له خالد : أنت فارس العرب ، ولقل من حضر اليوم يعدلك عندى ، فاخرج معى فى هذه الخيل ، وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسى ، وكان من أشراف العرب وفرسانهم ، وإلى عمرو بن الطفيل


ذى النور بن عمرو الدوسى ، فخرجوا معه ، ثم قسموا الخيل أرباعا ، فبعث كل رجل منهم على ربع ، وخرج خالد فى ربع منها حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذي فيه باهان ، فلما رأتهم الروم فزعوا لمجيئهم ، وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم وإياها ، فكان ذلك قد وقع فى نفوسهم وطمعوا به ، ورجوا أن لا يكون بينهم قتال ، وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم ، وهم يدعون لهم الأرض والمدائن التي كانوا قد غلبوا عليها ، فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم فى الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم ، والقسيسون والرهبان والبطارقة معهم ، فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها ، ثم أخرجوا إلى المسلمين خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة ، فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة ، ويتعرض لخيل المسلمين ، فقال خالد : أما لهذا رجل يخرج إليه ، ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه ، فنفلت إليه عدة من المسلمين ليخرجوا إليه ، وأراد ميسرة بن مسروق ذلك ، فقال له خالد : أنت شيخ كبير وهذا الرومى شاب ولا أحب أن تخرج إليه ، فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقوى على الشاب الحديث السن ، فقف لنا يرحمك الله فى كتيبتك ، فإنك ما علمت حسن البلاء عظيم الغناء ، وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه ، فقال له خالد : يا ابن أخى أنت غلام حدث ، وأخاف أن لا تقوى عليه ، قال الحارث بن عبد الله : وكنت فى خيل خالد التي خرجت معه ، فقلت : أنا أخرج إليه ، فقال : ما شئت ، قال : ، فلما ذهبت لأخرج قال لى : هل بارزت رجلا قط قبله؟ قلت : لا ، قال : فلا تخرج إليه ، فقال قيس بن هبيرة : كأنك يا خالد علىّ تحوم؟ قال : أجل ، وإنى أرجو إن خرجت إليه أن تقتله ، وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا ، قال قيس : بل أنا أخرج إليه ، فخرج وهو يقول :

سائل نساء الحى فى حجلاتها

ألست يوم الحرب من أبطالها

ومقعص (١) الأقران من رجالها

فخرج إليه ، فلما دنا منه ضرب فرسه ، ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه بالسيف على هامته فقطع ما عليها من السلاح ، وفلق هامته ، فإذا الرومى بين يدى فرسه قتيلا ، وكبر المسلمون فقال خالد : ما بعد ما ترون إلا الفتح ، احمل عليهم يا قيس ، ثم أقبل خالد على أصحابه فقال : احملوا عليهم ، فو الله لا يفلحون وأولهم فارسا متعفّرا فى التراب ، قال : فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم ، وهى مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم

__________________

(١) مقعص : القعص هو القتل المعجل ، وضربه فأقعصه : أماته مكانه. انظر : اللسان (٣٦٩٣).


كأنها أعراض الجبال ، فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف ، وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم ، فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف ، وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق فى أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف ، ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور فى المشركين.

قال : وتلاومت بطارقة الروم ، وقال بعضهم لبعض : جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب ، فأقبلت منهم كتائب فى أثر كتائب ، فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل ، كأنها الجراد السود ، وظن المسلمون أنهم يخالطونهم ، والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم ، فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم ، فقال خالد للناس : قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم ، فاثبتوا لهم ساعة ، فإن أقدموا علينا قاتلناهم ، وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم ، فأخذوا يقتربون ثم يرجعون ، والمسلمون فى مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعو الله فى نفسه ويستنصره على عدوه ، فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عزوجل ، الرعب فى قلوبهم منهم ، فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم ، فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم.

فقال لهم باهان : إنى قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم ، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم ، فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التي لم يروا مثلها قط ، وقد رأيت أن أسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم فى شيء يرجعون به إلى أهاليهم ، لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا ، فإن هم فعلوا ذلك كان الذي يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التي لا ندرى أعلينا تكون أم لنا ، فقالوا له : قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا ، فاعمل برأيك.

فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبى عبيدة ، فقال له : إنى رسول باهان عامل ملك الروم على الشام ، وعلى هذه الجنود ، وهو يقول لك : أرسل إلىّ الرجل الذي كان قبلك أميرا فإنه ذكر لى أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب ، وقد سمعنا أن عقول ذوى الأحساب أفضل من عقول غيرهم ، فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون ، فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه ، وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك.


فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذى جاء فيه الرومى ، وقال لخالد : القهم فادعهم إلى الإسلام ، فإن قبلوا فهو حظهم ، وكانوا قوما لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية ، أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

قال : وجاء رسولهم هذا الرومى ، عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم ، فلما قضوها قال ذلك الرومى : هذا الليل قد غشينا ، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء الله ، وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه ، وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم ، فقال عمرو : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، فقال أبو عبيدة : كلا والله ، إنى لأرجو أن يكون الله قد قذف فى قلبه الإيمان وحببه إليه ، وعرفه فضله ، أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين؟ ولبث الرومى بذلك قليلا ثم أقبل على أبى عبيدة ، فقال : أيها الرجل ، أخبرنى متى دخلتم فى هذا الدين؟ ومتى دعوتم الناس إليه؟.

فقال أبو عبيدة : دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة ، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول ، ومنا من أسلم بعد ذلك ، فقال : هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتى من بعده رسول؟ قال : لا ، ولكنه أخبرنا أنه لا نبىّ بعده ، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه ، قال الرومى : وأنا على ذلك من الشاهدين ، إن عيسى ابن مريم قد بشرنا براكب الجمل ، وما أظنه إلا صاحبكم. ثم قال : أخبرنى عن قول صاحبكم فى عيسى ، فقال له أبو عبيدة : قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه ، وهو أصدق القائلين وأبرهم ، قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، وقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) إلى قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧١ ، ١٧٢].

فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال : أشهد أن هذه صفة عيسى ، وأشهد أن نبيكم صادق ، وأنه الذي بشر به عيسى ، وأنكم قوم صدق ، وقال لأبى عبيدة : ادع لى رجلين من أول أصحابك إسلاما ، وهما فيما ترى أفضل من معك ، فدعا أبو عبيدة ، معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، فقال له : هذان من أفضل المسلمين فضلا ، ومن أولهم إسلاما ، فقال لهما الرومى ولأبى عبيدة : أتضمنون لى الجنة إن أنا


أسلمت وجاهدت معكم؟ فقالوا له : نعم ، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة ، قال : فإنى أشهدكم أنى من المسلمين ، فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه ، وصافحوه ودعوا له بخير ، وقالوا له : إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم ، فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا ، فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم ، فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك ، فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك علينا ، وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبيه وأمه. قال : فإنكم نعم ما رأيتم ، فخرج فبات فى أصحابه ، وقال لباهان : غدا يجيئكم رسول القوم الذي سألتم ، وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد ، فأسلم وحسن إسلامه.

ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقية له حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار ، فضربت له فى عسكر الروم ، ثم خرج حتى أتاها ، فأقام فيها ساعة ، وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم ، وأشدائهم ، وبعث باهان إلى خالد وهو فى قبته : أن القنى ، وصف له فى طريقه عشرة صفوف عن يمينه ، وعشرة صفوف عن شماله ، مقنعين فى الحديد ، عليهم الدروع والبيض والسواعد والجواشن والسيوف ، لا يرى منهم إلا الحدق ، وصف من وراء تلك الصفوف خيلا عظيمة ، وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك ، وليكون أسرع له إلى ما يريد أن يعرض عليه ، فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيئاتهم وجماعتهم ، ولكانوا أهون عليه من الكلاب ، فلما دنا من باهان رحب به ، ثم قال بلسانه : هاهنا عندى ، اجلس معى فإنك من ذوى أحساب العرب فيما ذكر لى ، ومن شجعانهم ، ونحن نحب الشجاع ذا الحسب ، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء ، والعاقل ينفعك كلامه ، والوفى يصدق قوله ويوثق بعهده ، وأجلس فيما بينه وبين خالد ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول ، وخالد جالس إلى جنبه.

قال الحارث بن عبد الله الأزدى : قال لى خالد يوم غدا إلى عسكر الروم : اخرج معى ، وكنت صديقا له قل ما أفارقه وكان يستشيرنى فى الأمر إذا نزل به ، فكنت أشير عليه بمبلغ رأيى ، فكان يقول لى : إنك ما علمت لميمون الرأى ولقل ما أشرت علىّ بمشورة إلا وجدت عاقبتها تؤدى إلى سلامة ، فخرجت يومئذ معه ، حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت قبته وبعث إليه باهان ليلقاه قال لى : انطلق معى ، فقلت له : إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعوننى أدنو إليهم معك ، فقال لى : امضه ، فمضيت معه ، فلما


دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله ، لا يرى منهم إلا أعينهم ، وفى أيديهم العمد ، جاءنا الترجمان فقال : أيكما خالد؟ فقال خالد : أنا ، فقال: أقبل أنت وليرجع هذا ، فقام خالد وقال : هذا رجل من أصحابى ولست استغنى عن رأيه ، فرجع إلى باهان فأخبره ، فقال : دعوه فليأت معه ، فأقبلنا نحوه ، فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة ، فقالوا لى : ضع سيفك ، ولم يقولوا لخالد شيئا ، فنظرت ما يقول لى خالد ، فقال لهم : ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا ، وقد بعثتم إلينا فأتيناكم ، فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم ، وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم ، فرجع الترجمان إلى باهان فأخبره ، فقال : دعوهما ، فأقبلنا إليه ، فرحب بخالد وأجلسه معه ، وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما ، وحيث أسمع كلامهما ، فقال باهان لخالد : إنك من ذوى أحساب العرب ، فيما ذكر لى ، ومن شجعانهم ، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء ، والعاقل ينفعك كلامه ، والوفى يصدق قوله يوثق بعهده.

فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد : إن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا : إن حسب المرء دينه ، ومن لم يكن له دين فلا حسب له ، وقال لنا : إن أفضل الشجاعة وخيرها فى العاجلة والعاقبة ما كان منها فى طاعة الله ، وأما ما ذكرت أنى أوتيت عقلا ووفاء ، فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا ، وهو المحمود عندنا ، وقد قال لنا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه ، قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، ثم قال له : وعزتى ما خلقت من خلقى شيئا هو أحب إلىّ منك ، بك أحمد ، وبك أعبد ، وبك أعرف ، وبك تنال طاعتى ، وبك تدخل جنتى ، ثم قال خالد : والوفاء لا يكون إلا من العقل ، فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له ، ومن لا وفاء له لا عقل له. فقال له باهان : أنت أعقل أهل الأرض ، ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال ، ثم قال لخالد : أخبرنى عنك ، وأنت هكذا تحتاج إلى مشورة هذا الرجل؟ فقال له خالد : وأعجب من ذلك أن فى عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغنى عن رأيه ولا عن مشورته ، فقال باهان : ما كنا نظن ذلك عندكم ، ولا نراكم به ، فقال له خالد : ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا ، فقال باهان : صدقت ، ثم قال له : إن أول ما أكلمك به أنى أدعوك إلى خلتى ومصافاتى ، فقال له خالد : كيف لى ولك أن يتم هذا فيما بينى وبينك وقد جمعتنى وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا ، فقال له باهان : فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل ، قال خالد : إن شاء


الله فعل ، قال باهان : فإنى أريد أن ألقى الحشمة فيما بينى وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه ، إن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتنى فأنا أحب أن تهبها لى ، فإنى لم أر قبة من القباب أحسن منها ، فخذ ما بدا لك فيها وسلنى ما أحببت فهو فى يدك ، فقال له خالد : خذها فهى لك ، ولست أريد من متاعك شيئا ، قال : والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها ، فإذا هو قد أخذها ، ثم قال لخالد : إن شئت بدأتك فتكلمت ، وإن شئت أنت فتكلم ، فقال له خالد : ما أبالى أى ذلك كان ، أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل وأطلب ، وما أدعو إليه ، وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر وفحل ومدائنكم وحصونكم ، وأما أنت فلست أدرى ما تريد أن تقول ، فإن شئت فتكلم ، وإن شئت بدأتك فتكلمت ، فقال باهان : الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء ، وملكنا أفضل الملوك ، وأمتنا أفضل الأمم ، فلما بلغ هذا المكان ، قال خالد وقطع على باهان منطقه : والحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم ، وبجميع الأنبياء ، وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا ، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا ، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله ، وأبر ، والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتقر بالذنب وتستغفر منه ، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا ، قل الآن ما بدا لك.

فاصفر وجه باهان وسكت قليلا ، ثم قال : الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر ، ونصرنا على الأمم ، وأعزنا فلا نذل ، ومنعنا من الضيم فلا تباح حرمتنا ، ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين ، ولا باغين على الناس ، وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم ، ونعظم رفدهم ، ونفضل عليهم ، ونفى لهم بالعهد ، وخيرناهم بلادنا ، ينزلون منها حيث شاءوا ، فينزلون آمنين ، ويرحلون آمنين ، وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذي آتينا إلى إخوانهم ، وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال ، تقاتلوننا على حصوننا ، وتريدون أن تغلبونا على بلادنا ، وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا ، فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل ، وأرادت ذلك منا فارس ، فقد بلغكم كيف صنع الله بهم ، وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس ، وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب ، من ذوى المنعة والعز والجنود العظيمة ، فكلهم أظفرنا الله بهم ، وصنع لنا عليهم ، ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا أصغر أخطارا ، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل


وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء ، أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا ، بئس ما طمعتم فيه منا ، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفى كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر ، فعثتم فى بلادنا وأفسدتم كل الفساد ، وقد ركبتم مراكبنا ، وليست كمراكبكم ، ولبستم ثيابنا ، وليست كثيابكم ، وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم ، وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء ، والمتاع الفاخر ، ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا ، وهو فى أيديكم ، فنحن نسلمه لكم ، فاخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا ، فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوى به الضعيف منكم ، ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا ، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها ، ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار ، ونأمر لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار ، على أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودا إلى بلادنا ، ثم سكت.

فقال خالد : الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، فلما فسر ذلك الترجمان ، رفع باهان يديه إلى السماء ، ثم أشار إليه بيده ، وقال لخالد : نعم ما قلت ، قال خالد : وأشهد أن محمدا رسول الله ، فلما فسرها الترجمان قال باهان : الله أعلم ، ما أدرى لعله كما تقول ، ثم قال خالد : أما بعد ، فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على الأعداء والتمكن فى البلاد نحن به عارفون ، وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه ، وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم زيادة فى ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا فى دينكم وهم يقاتلوننا معكم ، وأما ما ذكرتنا به من رعى الإبل والغنم ، فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه ، وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله ، وأما قولك : إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء ، فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه ، وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت ، وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت ، ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم ، أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل ، وجل أرضنا المهامة والقفار ، وكنا أهل الحجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم ، نقطع أرحامنا ، ونقتل خشية الإملاق أولادنا ، ويأكل قوينا ضعيفنا ، وكثيرنا قليلنا ، ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة ، نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التي نختارها على أعيننا ،


وهى لا تضر ولا تنفع ، ونحن عليها مكبون ، فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار ، من مات منا مات مشركا وسار إلى النار ، ومن بقى منا بقى مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه ، إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا ، وأن نخلع الأنداد التي يعبدها المشركون.

وقال لنا : لا تتخذوا من دون ربكم إلها ، ولا وليا ، ولا نصيرا ، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا ، ولا تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا ، واكتفوا به ربا وإلها من كل شيء دونه ، وكونوا أولياءه ، وإليه فارغبوا ، وإياه فادعوا ، وقال لنا : قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى ، وكل من زعم أن لله ولدا ، وأنه ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ويدخلوا فى الإسلام ، فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها ، وهم إخوانكم فى الدين ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون ، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله ، مرزوقا ، وأدخله الله الجنة ، ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا.

ثم قال خالد : وهذا والله الذي لا إله إلا هو هو الذي أمر الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلمناه ، وأمرنا به ، وأمرنا أن ندعو الناس إليه ، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله ، فإن فعلتم فأنتم إخواننا فى الدين ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم ، وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة ، فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله ، فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ، ثم سكت خالد ، فقال باهان : أما أن ندخل فى دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل فى دينكم ، وإما أن نؤدى الجزية ، ثم تنفس الصعداء ، وثقلت عليه وعظمت عنده ، فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس ، وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها ، وأما قولك : فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا ، فلعمرى ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله ، وأما قولك : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، فصدقت والله ، ما كانت هذه الأرض التي نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من


الأمم كانوا قبلنا فيها ، فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها ، وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها ، فابرزوا على اسم الله ، فإنا خارجون إليكم.

قال الحارث : فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام ، وقمت معه ، فمر بقبته فتركها ، وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا ، فرجعنا إلى أبى عبيدة ، فقص عليهم خالد الخبر ، وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم ، وقال للناس : استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون.

وحدث (١) أبو جهضم الأزدى ، عن رجل من الروم كان مع باهان فى عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن إسلامه ، قال : كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال المسلمين ، وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد ، فقال : أشيروا علىّ برأيكم فى أمر هؤلاء القوم فإنى قد هيبتهم فما أراهم يهابون ، وأطمعتهم فليس يطمعون ، وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين ، والقوم ليس يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم ، وأكل بلادكم ، وسبى أولادكم ونسائكم ، وأخذ أموالكم ، فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم ، وامنعوا حريمكم ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم ، فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه ، وقالوا له : إذا شئت فانهض بنا فقال لهم : فكيف ترون ، نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم ، نحن نحو من أربعمائة ألف ، وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر.

فقال بعضهم : أخرج إليهم فى كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية ، وتسرح عيالنا وأثقالنا إلى البحر ، فلا يكون معنا شيء يهمنا ولا يشغلنا ، ويقاتلهم كل يوم منا مائة ألف ، فهم فى كل يوم فى قتل وجراحة وعناء ومشقة وشدة ، ونحن لا نقاتل إلا فى كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا فى كل يوم مائة ألف بقى لهم أكثر من مائتى ألف لم ينهزموا ، فقال آخرون : لا ، ولكنا نرى إذا هم خرجوا إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك ، فلا والله لا يجتمع عشرة على واحد إلا غلبوه ، فقال باهان : هذا ما لا يكون ، وكيف أقدر على عددهم حتى أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابى ، وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلى ، هذا ما لا يكون.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٠٧).


قال : فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم.

وكتب باهان إلى قيصر : أما بعد ، نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز ، فإنك بعثتنى فيما لا يحصيه من العدد إلا الله ، فقدمت على القوم ، فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا ، وأطمعتهم فلم يطمعوا ، وخوفتهم فلم يخافوا ، وسألتهم الصلح فلم يقبلوا ، وجعلت لهم الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا ، وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا ، وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم ، والرعب قد دخل قلوبهم ، إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم ، ولا شكاك فى دينهم ، ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا ، وقد جمعت أهل الرأى من أصحابى ، وأهل النصيحة لملكنا وديننا ، فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا ، فى يوم واحد ، ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

قال : وكان باهان قد رأى رؤيا ، فذكرها لملك الروم فى كتابه هذا ، فقال له : وقد أتانى آت فى منامى ، فقال لى : لا تقاتل هؤلاء القوم ، فإنهم يهلكونك ويهزمونك ، فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان ، أراد أن يحزننى ، فخسأته (١) ، فإن يكن الشيطان فقد خسأته ، وإن لم يكن فقد بين لى الأمر ، فابعث أنت أيها الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك ، وانتظر وقعتنا هذه ، فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذي أعز دينك ومنع سلطانك ، وإن هم ظفروا علينا ، فارض بقضاء الله ، واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك ، فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشيء مما فى يديك ، والحق بمعاقلك ودار مملكتك ، وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك ، وارحم الضعفاء والمساكين ترحم ، وتواضع لله يرفعك ، فإن الله لا يحب المتكبرين ، والسلام.

قال : ثم إن باهان خرج إلى المسلمين فى يوم ذى ضباب ورذاذ ، وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها ، ثم جعل على ميمنته ابن قماطر ، ومعه جرجير فى أهل أرمينية ، وجعل الدرنجار فى ميسرته ، وكان من خيارهم ونساكهم ، فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض ، فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم ، نهضوا إلى راياتهم ، وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ، وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، أمرهم إلى أبى عبيدة بن الجراح ،

__________________

(١) خسأ : طرد وأبعد ودحر. انظر : اللسان (١١٥٥).


ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه ، فقالوا له : إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير ، وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يطلوا (١) بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك ، قال : أصبتم ، ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم ، وأقبلت الروم فى المطر ، فوقفوا ساعة وتصبروا عليه ، فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم ، ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له : ادخل فى عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم ، وما يصنعون ، وكيف سيرتهم ، ثم القنى بها ، فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه ، فمكث فى عسكرهم ليلة حتى أصبح ، فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم فى النهار ، ثم أصبح فأقام عامة يومه ، ثم خرج إليه ، فقال : جئتك من عند قوم يصومون النهار ، ويقومون الليل ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، رهبان بالليل ، وأسد بالنهار ، لو سرق ملكهم فيهم لقطعوه ، ولو زنى لرجموه ، لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى ، فقال : لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.

فلما كان من الغد خرجوا أيضا ، فى يوم ذى ضباب ، وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا ، فقال لهم أبو عبيدة وخالد : ادخلوا فى عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم ، فإن لكم فى هذا أجرا ، والله حاسبه لكم جهادا ، فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك ، فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم ، ثم جاءوا بعد ما مضى من الليل نصفه ، فأتوا أبا عبيدة فقالوا له : إن القوم قد أوقدوا النيران ، وهم يتبعون لكم ويتهيّئون للقائكم ، وهم مصبحوكم بالغداة ، فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن ، فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ، فعبئوا الناس وصفوهم ، فلم يزالوا فى ذلك حتى أصبحوا.

وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى ، قال (٢) : صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة فى عسكره فى الغداة التي لقينا فيها الروم باليرموك ، فقرأ فى أول ركعة بالفجر وليال عشر ، فلما مر بقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ

__________________

(١) يلطوا : لط الشيء يلطه لطا : ألزقه ولزمه. انظر : اللسان (٤٠٣٤).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٢).


لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ٤ ، ١٤] قلت فى نفسى : ظهرنا والله على القوم للذى أجرى الله على لسانه ، وسررت بذلك سرورا شديدا ، وقلت : عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم ، فى الكفر والكثرة والمعاصى ، قال : ثم قرأ فى الركعة الثانية : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، فلما مر بقول الله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) إلى آخر السورة ، قلت فى نفسى : هذه والله أخرى ، إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب ، وليدمدمن الله عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم ، فلما قضى أبو عبيدة صلاته ، أقبل على الناس بوجهه ، وقال:

أيها الناس أبشروا ، فإنى رأيت فى ليلتى هذه فيما يرى النائم كأن رجالا أتونى فحفوا بى وعليهم ثياب بيض ، ثم دعوا إلىّ رجالا منكم أعرفهم ، ثم قالوا لنا : أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم ، فإنكم الأعلون ، وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا ، فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا ، وجئنا حتى دخلنا عسكرهم ، وولوا مدبرين.

فقال له الناس : أصلحك الله ، نامت عينك ، هذه بشرى من الله ، بشرك الله بخير.

وقال أبو مرثد الخولانى : وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا ، إنها لبشرى من الله ، رأيت فى هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا ، فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد ، وهى تنقض من السماء انقضاض العقبان ، فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا.

وكان الناس يقولون : أبشروا معاشر المسلمين ، فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة. قال : فتباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها ، فقال أبو عبيدة : وهذه والله بشرى من الله ، فحدثوا بهذه الرؤيا الناس ، فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن ظنه وينشطه للقاء عدوه.

قال : وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبى عبيدة فى المسلمين ، واستبشروا بهما.

وعن أبى جهضم أيضا (١) : أن رجلا من الروم حدثه فى خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا من عظمائهم أتى باهان فى صبيحة الليلة التي خرج إلى المسلمين باليرموك ، فقال له : إنى رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها ، قال : هاتها ، قال : رأيت كأن رجالا نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره ، فنزعوا سيوفنا من أغمادها وأسنة رماحنا من أطرافها ، ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه ، ثم قالوا لنا : اهربوا وأكثركم هالك ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٤ ـ ٢١٦).


فأخذنا نهرب ، فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا يستطيع أن يبرح من مكانه ، ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه.

فقال له باهان : أما من رأيت يسقط على وجهه ، ومن رأيته يتبلد لا يطيق أن يسعى ولا يتنحى من مكانه فهم الذي يهلكون ، وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى لا نراهم ، فأولئك الذين ينجون ، ثم قال له باهان : أما أنت فو الله لا تسلم منى أبدا ، فوجهك الذي بشر بالشر وقنط من الخير ، ألست الذي كنت أشد الناس علىّ فى أمر الرجل الذي قتل رجلا من أهل الذمة ، فأردت أن أقتله ، فكنت أنت من أشد الناس علىّ فى أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته ، وكان علىّ من الحق أن أقيمه ، فحلت بينى وبينه فى جماعة من السفهاء ، وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم أو أن يضرب بعضكم بعضا ، فأما الآن ، فقد حدثت نفسى بالموت ، وإنما ألقى القوم عن ساعة ، فإن شئتم الآن فتفرقوا ، وإن شئتم فاجتمعوا وأنا أتوب إلى الله من ترك ذلك الحد يومئذ ، فإنه لم يك يسعنى ولا ينبغى لى إلا قتله ، ولو قتلتمونى معه ، ثم أمر به فضربت عنقه. قال : وطلب الرومى الذي كان قتل الذمى فهرب منه فلم يقدر عليه ، وقد تقدمت قصة هذا الرومى المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل من الحديث عن أبى بشر التنوخى ، فأغنى ذلك عن إعادتها.

وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى (١) : أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين فى عشرين صفا تضم نحوا من أربعمائة ألف مقاتل ، وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين ، قد شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم ، فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته قباث بن أشيم ، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل خالد بن الوليد ، وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم ، وفيهم الأزد وهم ثلث الناس ، وحمير ، وهم عظم الناس ، وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان وكندة وحضرموت ، ومعهم جماعة من كنانة ، ولكن عظم الناس أهل اليمن ، ولم يحضرها يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة ، ولم تكن دارهم هنالك ، إنما كانت دارهم عراقية ، فقاتلوا أهل فارس بالعراق ، فلما برز المسلمون إلى عدوهم ، سار أبو عبيدة فيهم ، ثم قال : يا عباد الله ، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق ، يا معشر المسلمين ، اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار ، فلا تبرحوا

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٧).


مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدءوهم بقتال ، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق ، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله.

وخرج معاذ يقص على الناس ، ويقول : يا قراء القرآن ومستحفظى الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق ، إن رحمة الله لا تنال بالتوانى ، وجنته لا تدخل بالأمانى ، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله ، ألم تسمعوا لقول الله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥] إلى رأس الآية ، أنتم إن شاء الله منصورون ، فأطيعوا الله ورسوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٤٦] ، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم ، وأنتم فى قبضته ورحمته ، وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجى من دونه ، ولا متعزز بغير الله ، وجعل يمشى فى الصفوف يحرضهم ويقص عليهم ، ثم انصرف إلى موضعه.

قال سهل بن سعد (١) : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس ، فجعل يعظهم ويحرضهم ويقول : أيها الناس ، غضوا أبصاركم ، واجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، والزموا مراكزكم ومصافكم ، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا فى وجوههم وثوب الأسد فو الذي يرضى الصدق ويثيب عليه ، ويمقت الكذب ويعاقب عليه ، ويجزى الإحسان ، لقد بلغنى أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا ، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم ، فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل.

قال : وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب فى جهاد الروم بالشام ، فقال له : إنى أحب أن تأذن لى فأخرج إلى الشام متطوعا بمالى فأنصر المسلمين ، وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين ، فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا ، فقال له عمر : قد أذنت لك يا أبا سفيان ، تقبل الله جهادك وبارك لك فى رأيك ، وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك ، فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز ، وفى أحسن هيئة ، ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير ، خرجوا متطوعين ، فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين ، ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير فى الناس ، ويقف على أهل كل راية ، وعلى كل جماعة فيحض الناس

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٩).


ويعظهم ويقول : إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل ، نائين عن أمير المؤمنين ، وأمداد المسلمين ، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم ، وقد وترتموهم فى أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم ، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر فى مواطن المكروه ، فتقربوا إلى خالقكم ، وامتنعوا بسيوفكم ، ولتكن هى الحصون التي إليها تلجون ، وبها تمتنعون.

وقاتل أبو سفيان يومئذ ، قتالا شديدا ، وأبلى بلاء حسنا.

قال : وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا ، ومعهم الصلبان ، وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان ، ولهم دوى كدوى الرعد ، وقد تبايع عظمهم على الموت ، ودخل منهم ثلاثون ألفا فى السلاسل ، كل عشرة فى سلسلة لئلا يفروا ، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين ، أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع فى العسكر ، فقال : يا نساء المسلمين ، أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه ، فأخذن العناهر ، وهى عمد البيوت ، ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن : لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم ، وأقبل خالد إلى أبى عبيدة ، فقال : إن هؤلاء قد أقبلوا فى عدد وحد وجد ، وإن لهم لشدة لا يردها شيء ، وليست خيل المسلمين بكثيرة ، ولا والله لأقامت خيلى لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا ، وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين ، والمسلمون ثلاثة صفوف.

قال خالد : فقد رأيت أن أفرق خيلى ، فأكون أنا فى إحدى الخيلين ، ويكون قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى ، ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة ، فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم ، وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهى جامة على ميمنتهم وميسرتهم ، وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها ، وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم ، وصاروا نشرا (١) ، ثم تحمل عليهم وهى بتلك الحال ، فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم ، وقال لأبى عبيدة : قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه فى جماعة حسنة ، فتكون ردءا للمسلمين ، فقبل أبو عبيدة مشورته ، وقال : أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت ، فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف فى مكانه ، وركب هو فسار فى الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر ، ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردءا لهم ، وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال : يا عباد الله المسلمين ،

__________________

(١) صاروا نشرا : أى منتشرين متفرقين متطايرين.


إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم ، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر فى البأساء ، ثم نزل عن فرسه وقال : من أراد أن يأخذ فرسى ويقاتل عليه فليأخذه ، فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ ، وهو غلام حين احتلم ، فقال : يا أبة ، إنى لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين منى راجلا ، وأنت يا أبة راجلا أعظم غناء منك فارسا ، وعظم المسلمين رجالة ، وإذا رأوك صابرا محتسبا صبروا إن شاء الله وحافظوا ، فقال له معاذ : وفقنى الله وإياك يا بنى لما يحب ويرضى ، فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين ، ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين ، فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال : اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء.

قال : وخرج باهان صاحب الروم فجال فى أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم ، ثم بعث إلى صاحب الميسرة : أن احمل عليهم ، وكان على الميسرة الدرنجار ، وكان متنسكا ، فقال البطارقة والروم الذين معه : قد أمركم أميركم أن تحملوا ، وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان ، فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا ، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال ، فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب ، وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر ، وثبت عظم الناس فلم يزولوا ، وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا ، ولم تنكشف زبيد يومئذ ، وهى فى الميمنة ، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث ، والد عمرو بن الحجاج ، فنادى : يا خيفان يا خيفان ، فاجتمعوا إليه ، ثم شدوا على الروم وهم فى نحو خمسمائة رجل شدة ، فلم يتنهنهوا (١) حتى خالطوا الروم ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين ، وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعد ما كانوا زالوا ، ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا فى الصف حيث كانوا ، واستقبل النساء منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم ، وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل ، وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل ، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل ، ذو النور ، وهو يقول : يا معشر الأزد ، لا يؤتين المسلمون من قبلكم ، وقاتل قتالا شديدا ، قتل من أشدائهم تسعة ، ثم قتل هو ، يرحمه‌الله.

وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته : يا معشر الأزد ، إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل ، ألا وإن المقتول شهيد ، والخائب من هرب اليوم ،

__________________

(١) النهنهة : الكف ، تقول : نهنهت فلانا فتنهنه ، أى كففته فكف.


وقاتل حتى قتل رحمه‌الله ، ونادى أبو هريرة : يا مبرور يا مبرور ، فأطافت به الأزد ، قال عبد الله بن سراقة : انتهيت إلى أبى هريرة يومئذ ، وهو يقول : تزينوا للحور العين وارغبوا فى جوار ربكم ، فى جنات النعيم ، فما أنتم فى موطن من مواطن الخير أحب فيه منكم فى هذا الموطن ، ألا وإن للصابرين فضلهم. قال : فأطافت به الأزد ، ثم اضطربوا هم والروم ، فو الذي لا إله إلا هو لرأيت وإنها لتدور بهم الأرض وهم فى مجال واحد كما تدور الرحاء ، وما برحوا يعنى المسلمين ، ولا زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال ، فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن ، وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا.

وكان جل القتال فى الميمنة ، وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى ، ولكن حمة القوم وجدهم وحردهم وحنقهم علينا ، وكنا فى آخر الميمنة ، فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق أحد مثله ، فو الله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا من ورائنا ، فعصمنا الله من أن نزول ، حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم على بعض ، وشدخ منهم فى العسكر نحوا من عشرة آلاف ، ودخل سائرهم بيوت المسلمين فى العسكر مجرحين وغير مجرحين ، ثم خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض ، ثم قال : يا أهل الإسلام ، إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم ، فالشدة ، فو الذي نفسى بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم ، فجعل لا يسمع هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم ، ثم إن خالدا اعترض الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف ، فحمل عليهم ، وما هو إلا فى نحو من ألف فارس ، فو الله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم.

قال : وشددنا على من يلينا من رجالتهم ، فانكشفوا واتبعناهم نقتلهم كيف شئنا ، ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم ، قال : ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه : لفونى بالثياب ، فليت أنى لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم ، فلفوه بالثياب ، وقال : لوددت أن الله عافانى من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يرونى ، ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علىّ ، وهذا يوم سوء ، فما شعر حتى غشيه المسلمون فقتلوه.

وقال ابن قماطر وهو فى ميمنة الروم لجرجير ، صاحب أرمينية : احمل عليهم ، فقال له : أنت تأمرنى أن أحمل عليهم وأنا أمير مثلك؟ فقال له ابن قماطر : أنت أمير وأنا أمير فوقك ، وقد أمرت بطاعتى ، فاختلفا ، ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة ، فانكشف


المسلمون وزالت الميسرة عن مصافها ، وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر ، فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم.

وعن حنظلة بن جويه قال (١) : والله إنى لفى الميسرة إذ مر بنا رجال من الروم على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شيء بنا ، فلا أنسى قول قائل منهم : يا معشر العرب ، الحقوا بوادى القرى ويثرب ، وهو يقول :

فى كل يوم خيلنا تغير

نحن لنا البلقاء والسدير

هيهات يأبى ذلك الأمير

والملك المتوج المحبور

قال : فحملت عليه وحمل علىّ ، فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا ، فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة ، ثم إننا تحاجزنا ، فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل شراك النعل ، فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفى ، فو الله ما أخطأته ، فقطعته فصرع ، فضربته حتى قتلته ، وأقبلت إلى فرسى وقد كان عار ، وإذا فرسى قد حبسوه علىّ ، فأقبلت حتى ركبته ، قال : وقاتل قباث بن أشيم يومئذ ، قتالا شديدا ، وأخذ يقول :

إن تفقدونى تفقدوا خير فارس

لدى الغمرات والرئيس المحاميا

وذا فخر لا يملأ الهول صدره

ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا

وكسر فى الروم يومئذ ثلاثة أرماح ، وقطع سيفين ، ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا : من يعين بسيف أو برمح فى سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت. وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ.

ونزل أبو الأعور السلمى ، فقال : يا معشر قريش ، خذوا بحظكم من الصبر والأجر ، فإن الصبر فى الدنيا عز ومكرمة ، وفى الآخرة رحمة وفضيلة ، فاصبروا وصابروا.

وعن حبيب بن مسلمة قال (٢) : اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد ، فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل الأسد ، جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب فى وجوههم مثل الليث ، فطعن برايته أول رجل من القوم فقتله ، وأخذ والله يقاتل راجلا ، فقاتل الرجل البئيس الشجاع فارسا ، قال : وكان يزيد بن أبى سفيان من أعظم الناس غناء

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٢٧).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٢٨).


وأحسنه بلاء هو وأبوه جميعا ، وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظمهم ، فقال : يا بنى ، إنك تلى من أمر المسلمين طرفا ، ويزيد يومئذ على ربع الناس ، وإنه ليس بهذا الوادى رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال ، فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين ، أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة ، فاتق الله يا بنى ، واكرم فى أمرك ، ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب فى الآخرة ولا فى الصبر فى الحرب ولا أشد نكاية فى المشركين ، ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك. فقال يزيد : أفعل والله يا أبة ، فقاتل فى الجانب الذي كان فيه قتالا شديدا.

قال : وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا ، وقاتل شديدا ، ثم تراجع إليه أصحابه ، قال : فسمعت أم حبيبة بنت العاص تقول : قبح الله رجلا يفر عن حليلته ، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته ، وسمعت نسوة من المسلمين يقلن : قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم تمنعونا ، وأخذن العناهر ، فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين.

وقاتل شرحبيل بن حسنة فى ربعه الذي كان فيه قتالا شديدا ، وكان إلى جنبه سعيد ابن زيد ، وسطا من الناس ، وجعل ينادى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) إلى آخر الآية [التوبة : ١١١] ثم جعل يقول : أين الشارون أنفسهم من الله بابتغاء مرضات الله؟ أين المشاءون إلى جوار الله غدا فى داره ، فاجتمع إليه ناس كثير وبقى القلب لم ينكشف ، وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد ، وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردءا لهم.

فلما رأى قيس بن هبيرة أن خيل المسلمين مما يلى الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهى الشطر من خيل خالد ، فقصف بعضهم على بعض ، وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم ، فقصف بعضهم على بعض ، وزحف إليه المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم ، فجعلت الروم ينقضون صفوفهم وينهزمون ، وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد : أن احمل عليهم ، فحمل عليهم ، وشد المسلمون بأجمعهم ، فضرب الله وجوه الروم ، ومنح المسلمين أكتافهم ، يقتلونهم كيف شاءوا ، لا يمتنعون من أحد من المسلمين ، وانتهى خالد بن الوليد إلى الدرنجار ، وكان كارها لقتال المسلمين ، لما كان يجد من صفتهم فى الكتب ،


وكان يقرأها ، فقال خالد : إن كنت لأحب أن أراه ، فضربه المسلمون حتى قتلوه ، وإنه لملفف رأسه بكساء ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة ، وركب بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم ، فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون ، وهو يوم ذو ضباب ، وهم يرتكسون فيها ، لا يعلم آخرهم ما يلقى أولهم ، حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل ، ما أحصوا إلا بالقصب.

وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد ، فوجد من سقط أكثر من ثمانين ألفا ، فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم ، لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا فى وجه آخر ، وقتل المسلمون منهم فى المعركة بعد ما أدبروا نحوا من خمسين ألفا.

واتبعهم خالد فى الخيل ، فلم يزل يقتلهم فى كل واد وكل شعب وفى كل جبل ، حتى انتهى إلى دمشق ، فخرج إليه أهلها ، وقالوا له : نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم ، فقال لهم خالد : نعم ، ومضى فى اتباعهم يقتلهم فى القرى والأودية والجبال حتى انتهى إلى حمص ، فخرج إليه أهلها ، فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق فى العهد ، فقال لهم : نعم.

وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين ، رحمهم‌الله وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا ، فدفنهم ، فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن محمية ذو الأنف الخثعمى يسأله أن يعقد له على قومه ، فعقد له عليهم ، وكانت خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بنى عمرو يدعى ابن ذى السهم ، فاختصم هو وذو الأنف إلى أبى عبيدة فى الرئاسة قبل الوقعة ، فأخرهم أبو عبيدة إلى أن يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم ، ثم ينظر فى أمرهم ، فلما التقى الناس استشهد هنالك ابن ذى السهم الخثعمى ، فعقد أبو عبيدة للنعمان ذى الأنف على خثعم.

قال : وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي ، فقال لأبى عبيدة : اعقد لى على قومى ، فعقد له ، وكانت قصته مثل قصة الخثعمى ، وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم الأشتر فى الرئاسة إلى أبى عبيدة ، فدعا أبو عبيدة النخع ، فقال : أى هذين أرضى فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم؟ فقالوا : كلاهما شريف وفينا رضى وعندنا ثقة ، فقال أبو عبيدة : كيف أصنع بكما؟ ثم قال للأشتر : أين كنت حين عقدت لهذا الراية؟ قال : كنت عند أمير المدينة ، ثم أقبلت إليكم ، قال : فقدمت على هذا وهو رأس


أصحابك؟ قال : نعم ، قال : فإنه لا ينبغى لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة قومك قبل قدومك عليهم ، قال الأشتر : فإنه رضى شريف وأهل ذلك هو ، وأنا أهل الرئاسة ، فلتعقبنى من رئاسة قومى فأليهم كما وليهم هذا ، فقال أبو عبيدة : تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة ، فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير لكما ، وإن هلك أحدكما وبقى الآخر كان الباقى منكما الرأس على قومه ، وإن تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله ، قال الأشتر : فقد رضيت ، فلما كانت الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول ، فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك.

وفى حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم ، وأنه قتل يوم اليرموك ، قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد فى طلب الروم حين انهزموا ، فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة ، أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر ، فتقدم إليهم الأشتر فى رجال من المسلمين ، وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم ، فوثب إليه الأشتر لما دنا منه ، فاستويا على صخرة مستوية ، فاضطربا بسيفيهما ، فضرب الأشتر كتف الرومى فأطارها ، وضربه الرومى بسيفه فلم يضره شيئا ، واعتنق كل واحد منهما صاحبه ، ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها ، ثم تدحرجا ، والأشتر يقول وهما يتدحرجان : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٢ ، ١٦٣] ، فلم يزل يقول هذا وهو فى ذلك ملازم العلج لا يتركه ، حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل ، فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومى فقتله ، ثم صاح فى الناس : أن جوزوا ، فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس ، ثم انهزموا.

وأقبل أبو عبيدة فى أثر خالد حتى انتهى إلى حمص ، فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين ، ولما انتهت الهزيمة إلى ملك الروم وهو بأنطاكية ، قال : قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم ، فقال له بعض جلسائه : ومن أين علمت ذلك أيها الملك ، قال من حيث أنهم تحبون الموت كما نحبون أنتم الحياة ، ويرغبون فى الآخرة أشد من رغبتكم فى الدنيا ، ولا يزالون ظاهرين ما كانوا هكذا ، وليغيرن كما غيرتم ، ولينقضن كما نقضتم.

وفى حديث عن عبد الله بن قرط (١) : أن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم ، فقال له : ما وراءك؟ قال : خير ، أيها الملك ، هزمهم الله وأهلكهم ، يعنى المسلمين ، قال:

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٣٤).


ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم ، فقال لهم ملكهم : ويحكم ، هذا كاذب ، وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم ، سلوه ما جاء به ، فلعمرى ما هو ببريد ، ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغى له أن يكون إلا مع أميره مقيما ، فما كان بأسرع من أن جاء آخر ، فقال له : ويحك ، ما وراءك؟ فقال : هزم الله العدو وأهلكهم ، قال له هرقل : فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك؟.

وفرح أصحابه وقالوا : صدقك أيها الملك ، فقال لهم : ويحكم ، أتخادعون أنفسكم ، إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤكم على متون خيولهم يركضون ، ولسبقهم البريد والبشرى ، قال : فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية ، يقال له حذيفة بن عمرو ، وكان نصرانيا ، فقال قيصر : ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا ، فلما دنا منه قال له : ما عندك؟ قال : الشر ، قال : وجهك الذي بشرنا بالشر ، ثم نظر إلى أصحابه ، فقال : خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء ، فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم ، فقال له الملك : ما وراءك؟ قال : الشر ، هزمنا. قال : فما فعل أميركم باهان؟ قال : قتل ، قال : فما فعل فلان وفلان ، يسمى له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه ، فقال : قتلوا ، فقال له : لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا.

ثم قال لشرطه : أنزلوه ، فأنزلوه ، فجاءوا به ، فقال له : ألست كنت أشد الناس علىّ فى أمر محمد نبى العرب حين جاءنى كتابه ورسوله ، وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعانى إليه وأدخل فى دينه ، فكنت أنت من أشد الناس علىّ حتى تركت ما أردت من ذلك؟ فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطانى ، وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتنى من الدخول فى دينه؟ اضربوا عنقه ، فقدموه فضربوا عنقه ، ثم نادى فى أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية ، فلما خرج من الشام وأشرف على أرض الروم استقبل الشام ، فقال : السلام عليك يا سورية ، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا ، ثم قال : ويحك أرضا ، ما أنفعك لعدوك ، لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير.

وعن عمرو بن عبد الرحمن (١) : أن هرقل حين خرج من أنطاكية ، أقبل حتى نزل الرها ، ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية ، وأقبل خالد فى طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين ، فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها ، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم ، فطلبوا الصلح والأمان ، فقبل منهم أبو عبيدة فصالحهم ، وكتب لهم أمانا.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٣٧).


وعن الحسن بن عبد الله (١) : أن الأشتر قال لأبى عبيدة : ابعث معى خيلا أتبع آثار القوم ، فإن عندى جزاء وغناء ، فقال له أبو عبيدة : والله إنك لخليق بكل خير ، فبعثه فى ثلاثمائة فارس ، وقال له : لا تتباعد فى الطلب ، وكن منى قريبا ، فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين ، ونحو ذلك.

ثم إن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه فى ألفى فارس ، فمضى فى آثار الروم حتى قطع الدروب ، وبلغ ذلك الأشتر ، فمضى حتى لحقه ، فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا ، وكان ميسرة قد أشفق على من معه ، وخاف على نفسه وعلى أصحابه ، فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر فى ثلاثمائة فارس من النخع ، فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه ، وحمل عليهم من مكانه ذلك ، وحمل ميسرة فهزموهم ، وركبوا رءوسهم ، واتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم ، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض ، فعلوا فوقه ، وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم ، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف ، فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم ، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم ، قال : فو الله ما خرج إليه رجل منهم ، فقال لهم الأشتر : أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج؟ فلم يتكلم أحد.

قال : فنزل الأشتر ، ثم خرج إليه ، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر ، وعلى الرومى مثل ذلك ، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما ، فوقع سيف الرومى على هامة الأشتر ، فقطع المغفر وأسرع السيف فى رأسه ، حتى كاد ينشب فى العظم ، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومى ، فلم تقطع شيئا من الرومى ، إلا أنه ضربه ضربة شديدة أو هنت الرومى وأثقلت عاتقه ، ثم تحاجزا.

فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا ، انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف ، وقد سال الدم على لحيته ووجهه ، فقال : أخزى الله هذا سيفا ، وجاءه أصحابه ، فقال : علىّ بشيء من حناء ، فأتوه به من ساعته ، فوضعه على جرحه ، ثم عصبه بالخرق ، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض ، ثم قال : ما أشد لحيتى ورأسى وأضراسى ، وقال لابن عم له : امسك سيفى هذا وأعطنى سيفك ، فقال : دع لى سيفى ، رحمك الله ، فإنى لا أدرى لعلى احتاج إليه ، فقال : أعطنيه ولك أم النعمان يعنى ابنته ، فأعطاه إياه ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٣٧ ، ٢٣٩).


فذهب ليعود إلى الرومى ، فقال له قومه ، ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج ، فقال : والله لأخرجن إليه فليقتلنى أو لأقتلنه ، فتركوه ، فخرج إليه.

فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق ، فاضطربا بسيفيهما ، فضربه الأشتر على عاتقه ، فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته ، ووقعت ضربة الرومى على عاتق الأشتر ، فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا ، ووقع الرومى ميتا ، وكبر المسلمون ، ثم حملوا على صف رجالة الروم ، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق ، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل ، وباتوا ليلتهم يتحارسون.

فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع ، فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه ، ومضى ميسرة فى أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية ، والمصيصة ، ثم انصرف راجعا ، وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدبروا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم ، قال : فإنه لجالس فى أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم ، إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر ، وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش ، وهزيمتهم إياه ، وما صنع الله لهم ، ولم يذكر مبارزة الرومى وقتله إياه حتى أخبره غيره ، وسأله عن ميسرة وأصحابه ، فأخبروه بالوجه الذي توجه فيه ، وأخبره أنه لم يمنعه من التوجه إلا الشفقة على أصحابه ، وألا يصابوا بعد ما ظفروا ، فقال : قد أحسنت ، وما أحب الآن أنك معهم ، ولوددت أنهم كانوا معكم.

قال : فدعا ناسا من أهل حلب ، فقال : اطلبوا إلىّ إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له جعلا عن أن يتبع آثار هذه الخيل التي بعثتها فى طلب الروم حتى يلحقها ، ثم يأمرها بالانصراف إلىّ ساعة يلقاها ، فجاءوه بثلاثة رجال ، فقالوا : هؤلاء علماء بالطريق جراء عليها أدلاء بها ، وهم يخرجون فى آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك ، فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة :

أما بعد ، فإذا أتاك رسولى هذا فأقبل إلىّ حين تنظر فى كتابى ، ولا تعرجن على شيء ، فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلىّ من جميع أموال المشركين ، والسلام عليك.

فأخذوا كتابه ، ثم خرجوا به ، فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا ، وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم وسلمهم ، فدفعوا إليه كتاب أبى عبيدة ، فلما قرأه قال : جزاه الله من وال على المسلمين خيرا ، ما أشفقه وأنصحه ، ثم أقبل الرسل فبشروا أبا


عبيدة بسلامتهم وانصرافهم ، فحمد الله على ذلك ، وأقام حتى قدم عليه ميسرة ، وكتب أمانا على الناس من أهل قنسرين ، ثم أمر مناديه بالرحيل إلى إيلياء ، وقدم خالدا على مقدمته بين يديه ، وبعث على حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة ، وأرض قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص ، وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك فى خلافة يزيد بن معاوية ، ثم خرج من حمص ومر بدمشق ، فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، ثم خرج حتى مر بالأردن ، فنزلها ، فعسكر بها ، وبعث الرسل إلى أهل إيلياء ، وقال : اخرجوا إلىّ أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم ، ونفى لكم كما وفينا لغيركم ، فتثاقلوا وأبوا ، فكتب إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله العظيم ورسله ، أما بعد ، فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من فى القبور ، فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وكنتم إخواننا فى ديننا ، وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم سرت إليكم بقوم ، هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.

قال : وكتب إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، أما بعد ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، والحمد لله الذي أهلك المشركين ، ونصر المسلمين ، وقديما تولى الله نصرهم ، وأظهر فلجهم ، وأعز دعوتهم ، فتبارك الله رب العالمين.

أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله ، أنا لقينا الروم فى جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها ، فأتوا وهم يرون أن لا غالب لهم من الناس ، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ، ما قوتل المسلمون مثله فى موطن قط ، ورزق الله المؤمنين الصبر ، وأنزل عليهم النصر ، فقتلوهم فى كل قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل ، وغنم المسلمون عسكرهم ، وما كان فيه من أموالهم ، ومتاعهم ، ثم إنى اتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم ، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالا ، وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام ، فإن قبلوا وإلا فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم ، ثم لا


أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله ، والسلام عليك.

فكتب إليه عمر رضي‌الله‌عنه : من عبد الله بن عمر أمير المؤمنين ، إلى أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد أتانى كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين ، وما صنع لأوليائه وأهل طاعته ، فالحمد لله على صنيعه إلينا ، ونستتم من الله ذلك بشكره ، ثم اعلموا أنكم لم تنصروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ، ولكنه بعون الله ونصره ومنه تعالى وفضله ، فلله المن والطول والفضل العظيم ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، والحمد لله رب العالمين.

فهذه الأحاديث التي أوردها أصحاب فتوح الشام فى كتبهم عن وقعة اليرموك ، وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما تقدم مساقا وتاريخا ، حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها ، واختلاف الأخبار من جهة النقل أمر مألوف ، وإعادة أمثال هذه الآثار التي هى كيف ما وقعت من آيات الإسلام شيء غير مملول. ونحن نذكر من ذلك ما يحسن فى هذا المجموع ذكره ، ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان فى رجب سنة خمس عشرة ، وأن الذي لقيهم من الروم هو الصقلار خصى لهرقل ، بعثه فى مائة ألف مقاتل أكثرهم من الروم ، وسائرهم من أهل أرمينية ، ومن المستعربة من غسان وقضاعة ، والمسلمون مع أبى عبيدة أربعة وعشرون ألفا ، فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين ، وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال ، وقد كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام ، فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا المسلمين ، فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم :

القوم لخم وجذام فى الهرب

ونحن والروم بمرج نضطرب

وإن يعودوا بعدها لا نصطحب

ثم إن الله أنزل نصره ، فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع ، فأصيب منهم سبعون ألفا ، وقتل الله الصقلار وباهان ، وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به.

وفيما حكاه الطبرى (١) بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا : أوعب القواد بالناس نحو الشام ، وعكرمة ردء لهم ، وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل ، فخرج حتى نزل بحمص ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣).


فأعد لهم الجنود وعبأ العسكر ، وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله ، فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص فى تسعين ألفا ، وبعث جرجة بن توذورا نحو يزيد بن أبى سفيان فعسكر بإزائه ، وبعث الدراقص ، فاستقبل شرحبيل بن حسنة ، وبعث القيقار بن نسطوس فى ستين ألفا نحو أبى عبيدة ، فهابهم المسلمون ، وجميع فرق المسلمين أحد وعشرون ألفا ، سوى ستة آلاف مع عكرمة ، ففزعوا جميعا بالكتب والرسل إلى عمر بن الخطاب ، يستدعون رأيه ، فراسلهم أن الرأى الاجتماع ، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة ، وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا فى عدد يقرن به لأحد ممن استقبله ، فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه ، وقد كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كاتبوا به عمر ، فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء ، بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين ، فإنكم أعوان الله ، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره ، ولن يؤتى مثلكم من قلة ، وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة عليها ، إذا أتوا من قبل الذنوب ، فاحترسوا من الذنوب ، واجتمعوا باليرموك متساندين ، وليتصل كل رجل منكم بأصحابه.

وبلغ ذلك هرقل ، فكتب إلى بطارقته ، أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن ، واسع المطرد ، ضيق المهرب ، وعلى الناس التذارق ، وعلى المقدمة جرجة ، وعلى مجنبتيه باهان والدراقص ، وعلى الحرب القيقار ، وأبشروا فإن باهان فى الأثر مدد لكم ، ففعلوا ، فنزلوا الواقوصة ، وهى على ضفة اليرموك ، وصار الوادى خندقا لهم ، وهو لهب (١) لا يدرك ، وإنما أراد باهان أن يستبقى الروم ويأنسوا بالمسلمين ، وترجع إليهم أفئدتهم ، وانتقل المسلمون من معسكرهم الذي اجتمعوا به ، فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم ، وليس للروم طريق إلا عليهم. فقال عمرو : أيها الناس ، ألا أبشروا ، حصرت والله الروم ، وقل ما جاء محصور بخير ، فأقاموا بإزائهم ، وعلى طريقهم ومخرجهم ، لا يقدرون من الروم على شيء ، ولا يخلصون إليهم اللهب ، وهو الواقوصة من ورائهم ، والخندق من أمامهم ، ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون منهم ، وقد استمدوا أبا بكر رحمه‌الله ، وأعلموه الشأن فى صفر ، يريد من سنة ثلاث عشرة.

وفى حديث آخر لسيف عن أشياخه (٢) : أنهم لما استمدوه ، قال أبو بكر : خالد لها ، وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه فى السير ، فنفذ خالد لذلك ، وطلع عليهم

__________________

(١) لهب : اللهب بالكسر ، هو الفرجة بين الجبلين.

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤).


ففرح به المسلمون ، وطلع باهان على الروم فتيمنوا به ، ووافق قدوم أحدهما قدوم الآخر ، فولى خالد قتاله ، وقاتل الأمراء من بإزائهم ، فهزم خالد باهان ، وتتابع الروم على الهزيمة ، فاقتحموا خندقهم. وقال راجز من المسلمين فى ذلك :

دعوا هرقلا ودعونا الرحمن

والله قد أخزى جنود باهان

بخالد اللج أبى سليمان

وحرد المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف ، منهم ثمانون ألف مقيد ، ومنهم أربعون ألفا مسلسلون للموت ، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم ، وثمانون ألف فارس ، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد فى تسعة آلاف ، فصاروا ستة وثلاثين ألفا ، وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره ، لا يجمعهم أحد ، حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.

وكان عسكر أبى عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص ، وعسكر شرحبيل ابن حسنة مجاوزا لعسكر يزيد بن أبى سفيان ، فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو ، وشرحبيل مع يزيد ، وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبى عبيدة وشرحبيل ، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم هذه ، فعسكر على حدة ، فصلى بأهل العراق.

ووافق خالد بن الوليد المسلمين وهم متضايقون بمدد الروم ، وعليهم باهان ، ووافق الروم وفيهم نشاط بمددهم ، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى الخندق والواقوصة أحد حدوده ، فلزموا خندقهم عامة شهر ، يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان ، وينعون لهم النصرانية ، حتى استنصروا ، فخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال ، فلما أحس المسلمون خروجهم ، وأرادوا الخروج متساندين ، سار فيهم خالد بن الوليد ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

إن هذا يوم من أيام الله ، لا ينبغى فيه العجز ولا البغى. أخلصوا جهادكم ، وأريدوا بعملكم الله ، فإن هذا يوم له ما بعده ، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند (١) وانتشار ، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى ، وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذى ترون أنه يوافق رأى وإليكم. قالوا : فما الرأى؟ قال : إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر ، ولو علم بالذى كان ويكون ، لقد جمعكم. إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما غشيهم ، وأنفع للمشركين

__________________

(١) على تساند : أى على رايات شتى متعاونين كأن كل واحد منهم يسند على الآخر ويستعين به.


من أمدادهم ، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم ، فالله الله ، قد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان ، لا ينقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود ، ولا يزيده عليه أن دانوا له ، وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله ، تهيئوا فإن هؤلاء قوم قد تهيئوا ، وهذا يوم له ما بعده ، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم ، وإن هزمونا لم نفلح بعدها ، فهلموا فلنتعاور الإمارة ، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد ، حتى يتأمر كلكم ، ودعونى إليكم اليوم.

فأمروه ، وهم يرون أنها كخرجاتهم ، وأن الأمر أطول مما ساروا إليه ، فخرجت الروم فى تعبئة لم ير الراءون مثلها قط ، وخرج خالد فى تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك ، خرج فى نحو ستة وثلاثين كردوسا ، وقال : إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة أكثر فى رأى العين من الكراديس ، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة ، وجعل الميمنة كراديس ، وعليها عمرو بن العاص ، وفيها شرحبيل بن حسنة ، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبى سفيان ، وكان خالد على كردوس ، والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة ، وحبيب ابن مسلمة ، وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب ، كل واحد منهم على كردوس كردوس.

وفى حديث آخر (١) أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر ، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس ، فيقول :الله الله ، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام ، وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين ، اللهم إن هذا يوم من أيامك ، اللهم أنزل نصرك على عبادك.

وعن عبد الرحمن بن غنم ، وكان شهدها ، قال : كان أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون ، يفىء إليهم الناس ، فإذا كانت على الروم قال ، وقالوا : هلك بنو الأصفر ، اللهم اجعله وجههم ، وإذا كانت على المسلمين قال وقالوا : يا بنى الإخوان ، أين أين اللهم اردد لهم الكرة. فإذا كروا قالوا : إيه يا بنى الإخوان ، وإذا حملوا قالوا : اللهم أعنهم وانصرهم.

وفى غير حديث عبد الرحمن (٢) : أن رجلا قال يومئذ لخالد : ما أكثر الروم وأقل

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٧).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٨).


المسلمين فقال خالد : ما أقل الروم وأكثر المسلمين ، إنما تكثر الجنود بالنصر ، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال ، والله لوددت أن الأشقر برىء من توجيه ، وإنهم أضعفوا فى العدد ، وكان فرسه قد حفى فى مسيره ، وجعل خالد يوم اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم ، وكان القارئ يومذاك المقداد.

قالوا : ومن السنة التي سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء ، وهى سورة الأنفال ، ولم يزل الناس بعد على ذلك.

ولما فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون ، أمر عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتى القلب ، فأنشبا القتال ، فنشب ، والتحم الناس ، وتطارد الفرسان ، فإنهم لعلى ذلك إذ قدم البريد من المدينة ، وهو محمية بن زنيم ، فأخذته الخيول وسألوه الخبر ، فلم يخبرهم إلا بسلامه ، وأخبرهم عن أمداد تأتيهم ، وإنما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة ، فأبلغوا خالدا ، فأسر إليه الخبر ، وأخبره بما قال للجند ، فقال له : أحسنت ، فقف ، وأخذ الكتاب فجعله فى كنانته ، وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر أمر الجند ، فوقف الرسول مع خالد ، وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ ، حتى إذا كان بين الصفين نادى : ليخرج إلى خالد ، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه ، فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما ، وقد أمن أحدهما صاحبه ، فقال له جرجة : يا خالد ، اصدقنى ولا تكذبنى ، فإن الحر لا يكذب ، ولا تخادعنى فإن الكريم لا يخادع ، بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته؟ قال : لا ، قال : فبم سميت سيف الله؟ قال : إن الله بعث فينا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعانا ، فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا ، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه ، فكنت فيمن كذبه وباعده ، وقاتله ، ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه ، فقال : أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ، ودعا لي بالنصر ، فسميت سيف الله بذلك ، فأنا من أشد الناس على المشركين ، قال : صدقتنى.

ثم أعاد عليه جرجة : يا خالد ، أخبرنى إلام تدعون؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، قال : فمن لم يجبكم؟ قال : الجزية ، ونمنعهم قال : فإن لم يعطها؟ قال : نؤذنه بحرب ، ثم نقاتله ، قال : فما منزلة الذي يدخل فى دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال : منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا ، وأولنا وآخرنا ، ثم أعاد عليه جرجة : هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد ، مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال : نعم ، وأفضل. قال : وكيف يساويكم وقد


سبقتموه؟ قال : إنا دخلنا فى هذا الأمر وتابعنا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حى بين أظهرنا ، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات ، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع ، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ، فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا ، قال جرجة : صدقتنى بالله ولم تخادعنى ولم تألنى ، قال : بالله لقد صدقتك وما لى إليك ولا إلى أحد منكم حاجة ، وإن الله لولى ما سألت عنه ، قال : صدقتنى ، وقلب الترس ، ومال مع خالد ، وقال : علمنى الإسلام ، فمال به خالد إلى فسطاطه ، فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين ، وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة ، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم ، فركب خالد ومعه جرجة ، والروم خلال المسلمين ، فتنادى المسلمون ، فثابوا ، وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف ، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب ، ثم أصيب جرجة ، ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما ، وصلى مع الناس : الأولى والعصر إيماء ، وتضعضع الروم ، ونهد خالد بالقلب ، حتى كان بين خيلهم ورجلهم ، وكان مقاتلهم واسع المطرد ، ضيق المهب ، فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت وتركوا رحلهم فى مصافهم ، وخرجت خيلهم تشتد بهم فى الصحراء وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح.

ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب ، أفرجوا لها ولم يحرجوها ، فذهبت فتفرقت فى البلاد ، وأقبل خالد والمسلمون على الرحل فقضوهم ، فكأنما هدم بهم حائط ، فاقتحموا فى خندقهم ، فاقتحموه عليهم ، فعمدوا إلى الواقوصة ، فهوى فيها المقترنون وغيرهم ، ومن صبر من المقترنين هوى به من جشأت نفسه ، فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه ، كلما هوى اثنان كان البقية أضعف ، حتى تهافت فى الواقوصة عشرون ومائة ألف : من المقترنين ثمانون ألفا ، ومن المطلقين أربعون ألفا ، سوى من قتل فى المعركة من الخيل والرجل ، وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم ، ثم جلسوا وقالوا : لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور ، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية ، فأصيبوا فى تزملهم.

ولما دخل خالد الخندق ، نزله وأحاطت به خيله ، وقاتل الناس حتى أصبحوا ، قال بعضهم : وأصبح خالد من تلك الليلة وهو فى رواق تذارق.


وقال عكرمة بن أبى جهل يومئذ (١) : قاتلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى كل موطن ، وأفر منكم اليوم ، ثم نادى : من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا ، إلا من برأ ، منهم ضرار بن الأزور ، وأتى خالد بعد ما أصبحوا بعكرمة جريحا ، فوضع رأسه على فخذه ، وبعمرو بن عكرمة ، فوضع رأسه على ساقيه ، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء فى حلوقهما ، ويقول : كلا ، زعم ابن حنتمة أنا لا نستشهد.

وأصيبت يومئذ عين أبى سفيان بن حرب ، وكان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ، فخرج يومئذ ، رجل من الروم ، فقال : من يبارز ، فخرج إليه الأشتر ، فاختلفا ضربتين ، فقال للرومى : خذها وأنا الغلام النخعي ، فقال الرومى : أكثر الله فى قومى مثلك ، أما والله لو لا أنك من قومى لذدت عن الروم ، فأما الآن فلا أعينهم.

وفى حديث عبد الرحمن بن غنم ، وذكر قتال المسلمين تلك الليلة ، قال : حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل ، وقتلوهم حتى الصباح ، أصبحوا فاقتسموا الغنائم ، ودفنوا قتلى المسلمين ، وبلغوا ثلاثة آلاف ، وصلى كل أمير على قتلى أصحابه ، ودفع خالد بن الوليد العهد إلى أبى عبيدة بعد ما فرغ من القسم ، ودفن الشهداء ، وتراجع الطلب ، فولى أبو عبيدة ، رحمه‌الله النفل من الأخماس ، فنفل وأكثر. وكتب بالفتح.

قالوا (٢) : وكان فى الثلاثة آلاف الذين أصيبوا : عكرمة وابنه عمرو ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، وأثبت خالد بن سعيد ، فلا يدرى أين مات بعد ، وقد تقدم ذكر موت خالد فى غير هذه الوقعة ، وهذا مما يقع بين الناقلين من الاختلاف الذي تقدم التنبيه عليه ، فالله تعالى أعلم.

وعن عمرو بن ميمون وغيره ، ذكروا : أن هرقل كان حج بيت المقدس ، قال : فبينا هو يقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه ، فجمع الروم وقال : أرى من الرأى أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم ، فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم فى جبال الروم ، فنخر أخوه وختنه ، وتصدع عنه من كان حوله ، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٠١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٠٢).


بعث أخاه ، وأمر الأمراء ، ووجه إلى كل حيز جندا ، فلما اجتمع المسلمون أمرهم ، يعنى الروم ، بمنزل جامع حصين ، فنزلوا الواقوصة ، وخرج هو فنزل حمص ، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها ، قال لجلسائه : ألم أقل لكم لا تقاتلوهم ، فإنه لا يقوم لهم أحد ، فقالوا : قاتل عن دينك واقض الذي عليك ولا تجبن الناس ، قال : وأى شيء أطلب إلا توقير دينكم.

ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك ، بعثوا إلى الروم : إنا نريد كلام أميركم وملاقاته ، فدعونا نأته ونكلمه ، فأبلغوه ، فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان كالرسل ، والحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور ، وأبو جندل بن سهيل ، ومع أخى هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج ، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها ، وقالوا : لا نستحل الحرير ، فابرز لنا ، فبرز إلى فرش ممهدة ، وبلغ ذلك هرقل ، فقال : ألم أقل لكم ، هذا أول الذل ، أما الشام فلا شام ، ويل للروم من الولد المشئوم ، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح ، فرجع أبو عبيدة وأصحابه ، واتعدوا ، فكان القتال حتى جاء الفتح (١).

قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضي‌الله‌عنه الشام

وكان أبو عبيدة رحمه‌الله ، بعد انقضاء اليرموك ، على ما وقع فى كتب فتوح الشام من ذلك (٢) ، قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم ، فتثاقلوا عليه ، فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية ، أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم ، وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل ، فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه ، أقبل إليهم حتى نزل بهم ، فحاصرهم حصارا شديدا ، وضيق عليهم من كل جانب ، فخرجوا إليه ذات يوم ، فقاتلوهم ساعة ، ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم ، وكان الذي ولى قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان ، كل واحد منهما فى جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق ، فكتب إلى أبى عبيدة :

أما بعد ، فإنى لعمرى ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد فى سبيل الله على نفسى ، وعلى ما يقربنى من مرضاة ربى ، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه منى ، فليعمل لك عليه ما بدا لك ، فإنى قادم عليك وشيكا إن شاء الله ، والسلام عليك.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٠٣).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٤٢ ـ ٢٥٠).


فلما وصل كتابه إلى أبى عبيدة ، قال : أشهد ليفعلنها ، فقال ليزيد بن أبى سفيان : اكفنى دمشق ، فسار إليها يزيد فوليها.

وكان فى المسلمين رجل من بنى نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية ، وكان شجاعا ، وكان الناس يذكرون منه صلاحا ، فقده أصحابه أياما ، فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشيء ، فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك ، وأنه اغتيل ، فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا فى يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلهما قط أنضر ، ولا أعرض عرضا ، ولا أطول طولا ، ولا أحسن منظرا ، ولا أطيب رائحة ، ففرح به أصحابه فرحا شديدا ، وقالوا له : أين كنت؟ قال : وقعت فى جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة ، فيها من كل شيء ، ولم تر عينى مثل ما فيها قط فى مكان ، ولم أظن أن الله خلق مثلها ، فلبثت فيها هذه الأيام التي فقدتمونى ، فى نعيم ليس مثله نعيم ، وفى منظر ليس مثله منظر ، وفى رائحة لم يجد أحد من الناس قط ، أطيب منها ، فبينا أنا كذلك ، أتانى آت فأخذ بيدى فأخرجنى منها إليكم ، وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا ، فبقيتا فى يدى ، فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدوا لشىء قط أطيب منها ، فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها ، ويقولون : إن الخلفاء رفعتهما فى الخزانة.

ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم ، وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه ، قالوا:نحن نصالحك ، قال : فإنى أقبل منكم الصلح ، قالوا : فأرسل إلى خليفتكم عمر ، فيكون هو الذي يعطينا العهد ، ويكتب لنا الأمان ، فقبل ذلك أبو عبيدة ، وهم بالكتاب ، وكان لا يقطع أمرا دون رأى معاذ ، وكان معاذ لا يكاد يفارقه ، لرغبته فى الجهاد ، فأرسل إليه أبو عبيدة ، وكان بعثه إلى الأردن ، فلما قدم عليه أخبره ، فقال له معاذ : تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك ، فلعله أن يستقدم ، ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء وفضلا ، فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة : لئن : أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه ، فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان المغلظة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام ، فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنا أقمنا على إيلياء ، وظنوا أن


لهم فى المطاولة فرجا ورجاء ، فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا ، فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين ، وله كارهين ، وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين ، فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا ، وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا ، فيكون مسيرك ، أصلحك الله ، عناء وفضلا ، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم ، لئن أنت قدمت عليهم فامنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية ، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة ، ففعلوا ، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل ، فإن فى مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين ، آتاك الله رشدك ، ويسر أمرك ، والسلام عليك.

فلما أتى عمر رحمه‌الله ، كتاب أبى عبيدة ، جمع رءوس المسلمين ، فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان : إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم ، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم ، وما قتل من صناديدهم ، وفتح على المسلمين من بلادهم ، فهم فى كل يوم يزدادون هزلا وأزلا وذلا ونقصا وضيقا ورغما ، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف ، ولشأنهم محتقر ، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم ، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر : ما ذا ترون؟ هل عند أحد منكم غير هذا الرأى؟. فقال على بن أبى طالب : نعم ، يا أمير المؤمنين ، عندى غير هذا. فقال : ما هو؟.

قال : إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار ، وهى على المسلمين فتح ولهم عز ، وهم يعطونكها الآن عاجلا فى عافية ، ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم ، ولك يا أمير المؤمنين فى القدوم عليهم الأجر فى كل ظمأ وكل مخمصة وفى قطع كل واد وفى كل فج وشعب وفى كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم ، فإن قدمت عليهم كان فى قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح ، والفتح ، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم ، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم فى حصنهم ، فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة ، ويطول بهم الحصار ، ويقيم المسلمون عليهم ، فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم ، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة ، فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب ، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا.

فقال عمر : قد أحسن عثمان فى مكيدة العدو ، وقد أحسن على النظر لأهل الإسلام.


ثم قال : سيروا على اسم الله ، فإنى معسكر وسائر. ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار ، وأخرج معه العباس بن عبد المطلب.

وعن أبى سعيد المقبرى (١) أن عمر رحمه‌الله ، كان فى مسيره ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة ، فيقبل عليهم بوجهه ، ثم يقول : الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام والإيمان ، وأكرمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهدانا به من الضلالة ، وجمعنا من الفرقة ، وألف بين قلوبنا ، ونصرنا به على الأعداء ، ومكن لنا فى البلاد ، وجعلنا به إخوانا متحابين ، فاحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها ، والشكر عليها ، وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها ، فإن الله عزوجل ، يريد الرغبة إليه ، ويتم نعمته على الشاكرين.

قال : فكان عمر رضي‌الله‌عنه ، لا يدع هذا القول كل غداة ، فى مبتدئه ومرجعه.

وعن أبى سعيد الخدرى أن عمر رحمه‌الله ، مضى فى وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية ، فقام فى الناس فقال : الحمد لله الحميد ، المستحمد الدفاع المجيد ، الغفور الودود ، الذي من أراد أن يهديه من عباده اهتدى ، (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧].

قال : وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم ، وعليه جبة صوف ، فلما قال عمر رضي‌الله‌عنه : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) قال النصرانى : وأنا أشهد ، فقال عمر:(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) ، فنفض النصرانى جبته عن صدره ، ثم قال : معاذ الله ، لا يضل الله أحدا يريد الهدى ، فقال عمر : ما ذا يقول عدوه الله ، هذا النصرانى؟ فأخبروه ، فرفع عمر صوته ، وعاد فى خطبته بمثل مقالته الأولى ، ففعل النصرانى كفعله الأول ، فغضب عمر رضي‌الله‌عنه ، وقال : والله لئن أعادها لأضربن عنقه ، ففهمها العلج فسكت ، إذ عاد عمر فى خطبته وقال : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، ثم قال : أما بعد ، فإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن خيار أمتى الذين يلونكم ، ثم الذين تلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها ، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها ، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، ولا يبالى بشذوذ من شذ ، وذكر بقية الحديث (٢).

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٠ ـ ٢٥١).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٥١) وما بعدها.


قال : ثم خرج عمر رحمه‌الله ، من الجابية إلى إيلياء ، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه ، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين ، وأقبل هو على جمل له ، وعليه رحله ، وعليه صفة من جلد كبش حولى ، فانتهى إلى مخاضة ، فأقبلوا يبتدرونه ، فقال للمسلمين : مكانكم ، ثم نزل عن بعيره ، فأخذ بزمانه وهو من ليف ، ثم دخل الماء بين يدى جمله ، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة ، فإذا معهم برذون يجنبونه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، اركب هذا البرذون ، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك ، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التي نراك فيها ، واستقبلوه بثياب بيض ، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون ، وترك الثياب ، فلما هملج به البرذون ، نزل عنه ، وقال : خذوا هذا عنى ، فإنه شيطان ، وأخاف أن يغير على قلبى ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو لبست هذه الثياب البيض ، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : ويحكم ، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا ، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء ، فنزل بها ، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى ، وقد لبسوا لباس الروم ، وتشبهوا بهم فى هيئتهم ، فقال عمر : احثوا فى وجوههم التراب ، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا ، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج ، فأمر بهم فحرق عليهم.

وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف (١) : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل ، عليهم الديباج والحرير ، فنزل ، وأخذ الحجارة فرماهم بها ، وقال : سرعان ما لفتم عن رأيكم ، إياى تستقبلون فى هذا الزى ، وإنما شبعتم منذ سنتين ، سرعان ما نزت بكم البطنة ، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنها يلامقة ، وإن علينا السلاح ، قال : فنعم إذا.

وفى حديث أبى سعيد الخدرى (٢) ، فقال يزيد بن أبى سفيان : يا أمير المؤمنين ، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة ، والعيش عندنا رفيع ، والسعر رخيص ، وحال المسلمين كما تحب ، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفرة ، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير ، كان أبعد الصوت ، وأزين لك فى هذا الأمر ، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له : يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبى ، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى ، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٧).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٣).


فلم يزل عمر رحمه‌الله ، على الأمر الأول الذي كان عليه فى حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحياة أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، حتى خرج من الدنيا.

قال : فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس ، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء ، أن انزلوا إلى أمير المؤمنين ، واستوثقوا لأنفسكم ، فنزل إليه ابن الجعيد فى ناس من عظمائهم ، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح ، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا ، دخل الناس بعضهم فى بعض ، ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر ، فيصنع له ويسأله أن يزوره فى رحله ، فيفعل ذلك عمر ، إكراما لهم ، غير أبى عبيدة ، فإنه لم يستزره ، فقال له عمر : إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارنى غيرك ، فقال : أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين ، إنى أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك ، فأتاه عمر فى بيته ، فإذا ليس فى بيته إلا لبد فرسه ، وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته ، وإذا كسر يابسة فى كوة بيته ، فجاء بها ، فوضعها على الأرض بين يديه ، وأتى بملح جريش ، وكوز خزف فيه ماء.

فلما نظر عمر إلى ذلك بكى ، ثم التزمه وقال : أنت أخى ، وما من أحد من أصحابى إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه ، غيرك؟ فقال له أبو عبيدة : ألم أخبرك أنك ستعصر فى بيتى عينيك.

قال : ثم إن عمر قام فى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : يا أهل الإسلام ، إن الله قد صدقكم الوعد ، ونصركم على الأعداء ، وأورثكم البلاد ، ومكن لكم فى الأرض ، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر ، وإياكم والعمل بالمعاصى ، فإن العمل بالمعاصى كفر للنعم ، وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم ، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.

ثم نزل ، وحضرت الصلاة ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : يا بلال ، ألا تؤذن لنا رحمك الله ، فقال بلال : يا أمير المؤمنين ، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتنى فى هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته ، ذكروا نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكوا بكاء شديدا ، ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل ، حتى قال لهما عمر : حسبكما رحمكما الله ، فلما قضى عمر صلاته ، قام إليه بلال فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير ، والخبز النقى ، وما يجد ذلك عامة المسلمين.

فقال لهم عمر : ما يقول بلال؟ فقال يزيد بن أبى سفيان : يا أمير المؤمنين ، إن سعر


بلادنا رخيص ، وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز ، فقال عمر : والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر ، ثم قال : انظروا ، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم ، فقالوا : كذا وكذا ، فقال : كم يكون ذلك فى الشهر ، قالوا : جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال ، فضمنوا له ذلك ، ثم قال : يا معشر المسلمين ، هذا لكم سوى أعطياتكم ، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر ، فذلك ما أحب ، وإن هم لم يفعلوا ، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم ، وأولى أمركم غيرهم ، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك.

وعن شهر بن حوشب (١) : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير ، كان فى قدوم عمر الشام ، وأن كعبا أخبره بأمره ، وكيف كان ذلك.

قال : وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم.

قال كعب : وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة ، وبكتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال : يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم ، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث ، وقد أظل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه ، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التي ترى ، وطينت عليهما ، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا ، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبيّ ، فإذا خرج فاتبعه ، وانظر فيهما ، فإن الله يزيدك بذلك خيرا.

فلما مات والدى لم يكن شيء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين ، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ، ثم استخرجت الورقتين ، فإذا فيهما : محمد رسول الله ، خاتم النبيين ، لا نبى بعده ، مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمادون ، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال ، وتذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٩ ـ ٢٦٢).


ويأتزرون على أوساطهم ، وأناجيلهم فى صدورهم ، ويأكلون قربانهم فى بطونهم ، ويؤخرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم ، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى : والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا ، فمكثت بذلك ما شاء الله ، حتى بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة ، منقطعة ، لا أقدر على إتيانه ، وبلغنى أنه خرج فى مكة ، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة ، فقلت : هو هذا ، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين ، وجعلت أحب أتبين وأ تثبت ، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة ، فقلت فى نفسى : إنى لأرجو أن يكون إياه ، وجعلت ألتمس السبيل إليه ، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه.

فقلت فى نفسى : لعله لم يكن الذي كنت أظن ، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه ، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده ، فقلت فى نفسى : لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم ، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأ تثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب ، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد ، وما صنع الله لهم على الأعداء ، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر ، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام ، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى ، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى ، حتى أتى على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧].

قال : فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى ، فما كان شيء أحب إلىّ من الصباح ، فغدوت على عمر ، فأسلمت حين أصبحت.

وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام : يا أمير المؤمنين ، إنه مكتوب فى كتاب الله : إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل ، وكانوا أهلها ، مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء ، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار ، متراحمون متواصلون متباذلون.

فقال له عمر : ثكلتك أمك ، أحق ما تقول؟ قال : أى والذي أنزل التوراة على موسى ، والذي يسمع ما نقول ، إنه لحق.


فقال عمر رضي‌الله‌عنه : فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبرحمته التي وسعت كل شيء.

ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه ، وهو عندنا بالإسناد : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش فى تجارة إلى الشام ، قال : فإنى لفى سوق من أسواقها ، إذا ببطريق قد قبض على عنقى ، فذهبت أنازعه ، فقيل لى : لا تفعل ، فإنه لا نصف لك منه ، فأدخلنى كنيسة ، فإذا تراب عظيم ملقى ، فجاءنى بزنبيل ومجرفة ، فقال : انقل ما هاهنا ، فجعلت أنظر كيف أصنع ، فلما كان فى الهاجرة وافانى وعليه ثوب أرى سائر جسده منه ، فقال : أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا ، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغى ، فقلت : وا ثكل أمك يا عمر ، أبلغت ما أرى ، ثم وثبت إلى المجرفة ، فضربت بها هامته ، فنثرت دماغه ، ثم واريته فى التراب ، وخرجت على وجهى ، لا أدرى أين أسير ، فسرت بقية يومى وليلتى ومن الغد إلى الهاجرة ، فانتهيت إلى دير ، فاستظللت بفنائه ، فخرج إلىّ منه رجل ، فقال لى : يا عبد الله ، ما يقعدك هنا؟ فقلت : أضللت أصحابى ، فقال لى : ما أنت على طريق ، وإنك لتنظر بعينى خائف ، فادخل وأصب من الطعام ، واسترح ، فدخلت فأتانى بطعام وشراب ، وألطفنى ، ثم صعد فى النظر وصوبه ، فقال : قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب منى ، وإنى لأرى صفتك ، الصفة التي تخرجنا من هذا الدير ، وتغلبنا عليه ، فقلت له : يا هذا ، لقد ذهبت فى غير مذهب. فقال لى : ما اسمك؟ فقلت : عمر بن الخطاب ، قال : أنت والله صاحبنا ، فاكتب لى على ديرى هذا وما فيه ، فقلت : يا هذا ، إنك قد صنعت إلىّ صنيعة فلا تكدرها ، فقال : إنما هو كتاب فى رق ، فإن كنت صاحبنا فذاك ، وإلا لم يضرك شيء ، فكتبت له على ديره وما فيه ، فأتانى بثياب ودراهم ، فدفعها إلىّ ، ثم أوكف أتانا ، فقال : أتراها؟ قلت : نعم ، قال : سر عليها ، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك ، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة ، فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلىّ ، قال : فركبتها ، فكان كما قال ، حتى لحقت أصحابى وهم متوجهون إلى الحجاز ، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم ، فلما وافى عمر الشام فى خلافته ، جاءه ذلك الراهب بالكتاب ، وهو صاحب دير العدس ، فلما رآه عرفه ، ثم قال : قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه ، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه ، فلما فرغ منه ، أقبل على الراهب ، فقال : هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فوفى له عمر رضي‌الله‌عنه.


وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله (١) ، قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق ، فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.

وعند سيف فى أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم ، ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضموما إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره.

فمن ذلك (٢) : أن عمر رحمه‌الله ، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مصالحة أهل الأردن ، واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة : أن يسرح معاوية إلى قيسارية.

وكتب عمر إلى معاوية : أما بعد ، فإنى قد وليتك قيسارية ، فسر إليها واستنصر الله عليهم ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا ، نعم المولى ونعم النصير.

فسار معاوية فى جنده حتى نزل على أهل قيسارية ، فهزمهم وحصرهم ، ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه فى مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم ، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم ، فاقتتلوا فى حفيظة واستماتة ، فبلغ قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا ، وكملها فى هزيمتهم مائة ألف ، وبعث بالفتح مع رجلين من بنى الضبيب ، ثم خاف منهما الضعف ، فبعث آخرين بعدهما ، فلحقاهما ، فطوياهما وهما نائمان ، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر ليلا ، فجمع الناس وأباتهم على الفرح ، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول : ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله ، فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين ، حتى افتتح قيسارية.

وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية ، أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين ، وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار ، وكان على الروم بغزة ، فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص ، إلى الأرطبون ومن بإزائه ، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته ، وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة ابن تميم من بنى مالك بن كنانة ، واستخلف أبا الأعور على الأردن ، وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين ، وهم فى حصونهم وخنادقهم ، وعليهم الأرطبون ، وكان أدهى الروم ، وأبعدها غورا وأنكاها فعلا ، وكان وضع بالرملة جندا عظيما ، وبإيلياء جندا

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٨).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٤).


عظيما ، وكتب عمرو بالخبر إلى عمر ، فلما جاءه كتابه قال : قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ، فانظروا عم تنفرج.

وأقام عمرو على أجنادين ، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل ، فولى ذلك بنفسه ، وتوجه فدخل عليه ، كأنه رسول ، فأبلغه ما يريد ، وسمع كلامه حتى عرف ما أراد ، وتأمل حصونه ، فقال أرطبون فى نفسه : والله إن هذا لعمرو ، أو إنه للذى يأخذ عمرو برأيه ، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ، ثم دعا حرسيا فساره ، فقال : اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله ، وفطن له عمرو ، فقال له : قد سمعت منى وسمعت منك ، وقد وقع ما قلت منى موقعا ، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالى لنكانفه ويشهدنا أموره ، فأرجع فآتيك بهم الآن ، فإن رأوا مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير ، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم ، وكنت على رأس أمرك. قال : نعم ، ودعا فلانا فساره ، وقال : اذهب إلى فلان ، يعنى ذلك الحرسى ، فرده إلىّ ، فرجع إليه الرجل ، وقال لعمرو : انطلق فجئ بأصحابك ، فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها ، وعلم الرومى أنه خدعه فقال : هذا أدهى الخلق ، وبلغت عمر فقال : غلبه عمرو (١).

ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه ، فالتقوا بأجنادين ، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك ، حتى كثرت القتلى بينهم ، ثم انهزم أرطبون فى الناس ، فأوى إلى إيلياء ، ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزز فحصر القيقار بغزة ، وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد ، فأتاه كأنه رسول علقمة ، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق ، فإذا مر قتله ، ففطن علقمة ، فقال : إن معى نفرا شركائى فى الرأى ، فأنطلق فآتيك بهم ، فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة ، فخرج من عنده ولم يعد ، كما فعل عمرو بالأرطبون.

ولما أتى أرطبون إيلياء ، أفرج له المسلمون حتى دخلها ، ثم أزالهم إلى أجنادين ، وكتب إلى عمرو : بأنك صديقى ونظيرى ، أنت فى قومك مثلى فى قومى ، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين ، فارجع فلا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة ، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية ، فأرسله إلى أرطبون ، وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول ، حتى يخبره به إذا رجع ، وكتب إلى أرطبون :

جاءنى كتابك ، وأنت نظيرى ، ومثلى فى قومك ، لو أخطأتك خصلة تجاهلت

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٤ ـ ٦٠٦).


فضيلتى ، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد ، وأستعدى عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه ، فأقرئهم كتابى ، ولينظروا فيما بينى وبينك.

فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون ، فدفع إليه الكتاب ، بمشهد من أولئك النفر ، فاقترأه ، فضحكوا وتعجبوا ، وأقبلوا على أرطبون ، فقالوا : من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال : صاحبها رجل اسمه عمر ، ثلاثة أحرف ، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر. وكتب إلى عمر يستمده ، ويقول : إنى أعالج حربا كئودا ، وبلادا ادخرت لك ، فرأيك. فلما جاء عمر الكتاب ، علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم ، فنادى فى الناس ، ثم خرج بهم حتى نزل الجابية.

وعن عدى بن سهل قال (١) : لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين ، استخلف عليا ، وخرج ممدا لهم ، فقال على : أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا ، فقال : إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس ، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض لكم الشر انتقاض الجبل.

قالوا : وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات ، أما الأولى فعلى فرس ، وأما الثانية فعلى بعير ، وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون ، وأما الرابعة فدخلها على حمار ، فاستخلف عليها وخرج ، وفتحت إيلياء وأرضها كلها فى ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدى عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين ، على يدى عمرو ، وقيسارية على يدى معاوية.

وعن سالم بن عبد الله : أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم ، ولم يقدر عليها ولا على الرملة ، قال : فبينا عمر معسكرا بالجابية ، فزع الناس إلى السلاح ، فقال : ما شأنكم؟فقالوا : ألا ترى الخيل والسيوف؟ فنظر ، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف ، فقال عمر : مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم ، وإذا هم أهل إيلياء ، فصالحوه على الجزية ، وفتحوا له إيلياء ، واكتتبوا منه عليها ، وعلى حيزها ، والرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين ، نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة ، وفلسطين تعدل الشام كله ، وهى عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم.

وهو مما ذكره سيف أيضا (٢) أن عمر رضي‌الله‌عنه ، فرق فلسطين على رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة ، وعلقمة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٨).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٠).


ونزل كل واحد منهما فى عمله فى الجنود التي كانت معه ، وكان سالم بن عبد الله فى الجنود التي كانت مع عمرو ، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية ، فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضي‌الله‌عنه ، راكبا ، فقبلا ركبته ، وضم عمر كل واحد منهما واحتضنه.

وعن غير سالم (١) : أن عمر رضي‌الله‌عنه ، لما بعث بأمان أهل إيلياء ، وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه ، فنزل فضرب وجهه بردائه ، ثم قال : قبح الله من علمك هذا ، ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه ، فركب ، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس ، وفى رواية أنه قال للبرذون : لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء ، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده.

وعن أبى مريم مولى سلامة قال : شهدت فتح إيلياء مع عمر رضي‌الله‌عنه ، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء ، ثم مضى حتى يدخل المسجد ، ثم مضى نحو محراب داود ، ونحن معه ، فدخله ، ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه.

وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم (٢) :

تذكرت حرب الروم لما تطاولت

وإذ نحن فى عام كثير نوازله

وإذ نحن فى أرض الحجاز وبيننا

مسيرة شهر بينهن بلابله

وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده

يحاوله قرم هناك يساجله

فلما رأى الفاروق أزمان فتحها

سما بجنود الله كيما يصاوله

فلما أحسوه وخافوا صياله

أتوه وقالوا أنت ممن نواصله

وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها

وعيشا خصيبا ما تعد مآكله

أباح لنا ما بين شرق ومغرب

مواريث أعقاب بنتها قرامله

وكم مثقل لم يضطلع باحتماله

تحمل عبئا حين شالت شوائله

وقال أيضا :

وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها

تريد من الأقوام ما كان ألحدا

سما عمر لما أتته رسائل

كأصيد يحمى صرمة الحى أغيدا

فلما أتاه ما أتاه أجابهم

بجيش ترى منه السنابك سجدا

وأقبلت الشام العريضة بالذى

أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٠).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٢).


فقسط فيما بينهم كل جزية

وكل رفاد كان أهنى وأحمد

قال صاحب فتوح الشام (١) : ثم إن عمر رضي‌الله‌عنه ، خرج من الشام مقبلا إلى المدينة ، فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح ، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى ركعتين عند المنبر ، ثم صعد المنبر ، واجتمع الناس إليه ، فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا أيها الناس ، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه ، وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها ، وأظهر فلجها ، ونصرها على الأعداء ، وشرفها ومكن لها فى الأرض ، وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم ، فأحدثوا لله عزوجل شكرا يزدكم ، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم ، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. ثم نزل.

قال : فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح ، ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين ، ثم توفى رحمه‌الله ، فى طاعون عمواس ، وكان طاعونا عم أهل الشام ، ومات فيه بشر كثير ، وكانت وفاة أبى عبيدة بالأردن ، وبها قبره ، ولما طعن رحمه‌الله ، دعا المسلمين ، فدخلوا عليه ، فقال لهم : إنى موصيكم بوصية ، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم ، وبعد ما تهلكون : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا ، وتصدقوا ، وحجوا واعتمروا ، وتواصلوا وتحابوا ، واصدقوا أمراءكم ، ولا تغشوهم ، ولا تلهكم الدنيا ، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعى هذا الذي ترون ، إن الله قد كتب الموت على بنى آدم ، فهم ميتون ، فأكيسهم أطوعهم لربه ، وأعملهم ليوم معاده.

ثم قال لمعاذ بن جبل : يا معاذ ، صل بالناس ، فصلى معاذ بهم ، ومات أبو عبيدة ، رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه ، فقام معاذ فى الناس فقال : يا أيها الناس ، توبوا إلى الله توبة نصوحا ، فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه ، ومن كان عليه دين فليقضه ، فإن العبد مرتهن بدينه ، ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه ، إذا لقيه ، وليصافحه ، فإنه لا ينبغى لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام ، والذنب فى ذلك عظيم عند الله ، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ، والله ما أزعم أنى رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا ، ولا أبرأ صدرا ، ولا أبعد من الغائلة ، ولا أنصح للعامة ، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه ، فترحموا عليه ، ثم احضروا الصلاة عليه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، والله لا يلى عليكم مثله أبدا.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٦٦ ـ ٢٦٧).


فاجتمع الناس ، وأخرج أبو عبيدة ، فتقدم معاذ فصلى عليه ، حتى إذا أتى به قبره ، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس ، فلما سفوا عليه التراب ، قال معاذ : رحمك الله أبا عبيدة ، فو الله لأثنين عليه بما علمت ، والله لا أقولها باطلا ، وأخاف أن يلحقنى من الله مقت ، كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا ، ومن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين ، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين ، ويبغضون الجفاة المتكبرين.

ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبى عبيدة من معاذ ، ولا أطول حزنا عليه من معاذ.

قال : ثم صلى معاذ بالناس أياما ، واشتد الطاعون ، وكثر الموت فى الناس ، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال : يا أيها الناس ، إن هذا الطاعون هو الرجز الذي عذب الله به بنى إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وأمر الناس بالفرار منه.

فأخبر معاذ بقول عمرو ، فقال : ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به ، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ذكر الوباء ، فقال : ليس كما قال عمرو ، ولكنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر ، ثم صلى ورجع إلى منزله ، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن ، فلما رآه قال : يا أبت ، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، قال : يا بنى ، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين ، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه‌الله ، وصلى عليه معاذ ، ودفنه.

فلما رجع معاذ إلى منزله طعن ، فاشتد به وجعه ، وجعل أصحابه يختلفون إليه فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم : اعملوا وأنتم فى مهلة وحياة وفى بقية من آجالكم ، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا ، وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم ، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم ، وما سوى ذلك فللوارثين ، فلما اشتد به وجعه جعل يقول : رب اخنقنى خنقك ، فأشهد أنك تعلم أنى أحبك.

قال : وأتاه رجل فى مرضه ، فقال له : يا معاذ ، علمنى شيئا ، ينفعنى الله به قبل أن


أفارقك ، فلا أراك ولا ترانى ، ولا أجد منك خلفا ، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك ، فقال له معاذ : كلا ، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير ، ولن يضيع الله أهل هذا الدين ، ثم قال له : خذ عنى ما آمرك به ، كن من الصائمين بالنهار ، ومن المصلين فى جوف الليل ، ومن المستغفرين بالأسحار ، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال ، ولا تشرب الخمر ، ولا تزنى ، ولا تعق والديك ، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف ، ولا تأكل الربا ، ولا تدع الصلاة المكتوبة ، ولا تضيع الزكاة المفروضة ، وصل رحمك ، وكن بالمؤمنين رحيما ، ولا تظلم مسلما ، وحج واعتمر ، وجاهد ، ثم أنا لك زعيم بالجنة.

ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته : ويحك ، انظرى ، هل أصبحنا؟ فنظرت ، فقالت : لا ، ثم تركها ساعة ، ثم قال لها : انظرى ، فنظرت فقالت : نعم ، فقال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ، ثم قال : مرحبا بالموت ، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم ، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، وطول الساعات فى النهار ، ولظمأ الهواجر ، فى الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر.

فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى ، فقال له : يرحمك الله يا معاذ ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا ، فقال معاذ : أجلسونى ، فأجلسوه ، وجلس رجل خلف ظهره ، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل ، ثم قال : بئس ساعة الكذب هذه ، حدثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا ، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا ، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من القبور ، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق ، ويؤمن بالجنة والنار ، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار.

ثم مات معاذ من ساعته يرحمه‌الله ، واستخلف عمرو بن العاص ، فصلى عليه عمرو ، ودخل قبره ، فوضعه فى لحده ، ودخل معه رجال من المسلمين ، فلما خرج عمرو من قبره ، قال : رحمك الله يا معاذ ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم ، وكنت مؤدبا للجاهل ، شديدا على الفاجر ، رحيما بالمؤمنين ، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك ، عمرو بن العاص.


وكان مهلكه ومهلك أبى عبيدة رحمهما‌الله ، سنة ثمان عشرة ، وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه : أما بعد ، فاحتسب امرأ كان لله أمينا ، وكان الله فى نفسه عظيما ، وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا ، أبا عبيدة بن الجراح ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعند الله نحتسبه ، وبالله نثق له ، كتبت إليك وقد فشا الموت ، وهذا الوباء فى الناس ، ولن يخطئ أحد أجله ، ومن لم يمت فسيموت ، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته ، والسلام عليك ورحمة الله.

قال : فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا ، ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه ، فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبى عبيدة ، ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعى فيه معاذ بن جبل يرحمه‌الله ، فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبى عبيدة جزع عليه جزعا شديدا ، وبكى عمر والمسلمون ، وحزنوا عليه حزنا عظيما ، وقال عمر رضي‌الله‌عنه : رحم الله معاذا ، والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما ، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه ، ورأيناها أدت إلى خير وبركة ، ورب علم أفادناه ، وخير دلنا عليه ، جزاه الله جزاء الصالحين.

وفرق عمر عند ذلك كور الشام ، فبعث عبد الله بن قرط الثماليّ على حمص ، وعزل عنها حبيب بن مسلمة ، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصاري ، واستعمل يزيد بن أبى سفيان على الجنود التي كانت بالشام ، ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد أن عمل له على حمص سنة فعزله عنها ، وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها ، وقد كان بدريا عقبيا نقيبا ، ثم رضى بعد ذلك عن عبد الله بن قرط ، فرده على حمص.

ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص ، قام فى الناس خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أما بعد ، ألا إن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر ، ألا وإن الآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، ألا وإن للدنيا بنين ، وإن للآخرة بنين ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة.


ثم قال لشداد بن أوس : قم يا شداد ، فعظ الناس ، وكان شداد مفوها قد أعطى لسانا وحكمة وفضلا وبيانا ، فقام شداد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس ، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه ، ولا من الشر إلا أسبابه ، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره ، فجعله فى الجنة ، وجمع الشر كله بحذافيره ، فجعله فى النار ، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر ، ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة ، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة ، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها ، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار ، ومن أفى على النار كان من أهلها ، ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق ، يوم لا يقضى إلا بالحق.

وقام أبو الدرداء فى أهل دمشق خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أما بعد ، يا أهل دمشق ، فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح ، ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأملون ما لا تدركون ، وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا ، وبنوا مشيدا ، وأملوا بعيدا ، وماتوا قريبا ، فأصبحت أموالهم بورا ، ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا ، ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما ، فمن يشترى منى ما تركوا بدرهمين.

ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها

أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن

عمر ، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا ، حسب ما يوقف عليه

فى الموضعين إن شاء الله تعالى

ذكروا (١) أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مهلك أبى عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما‌الله :

أما بعد ، فقد وليتك أجناد الشام كله ، وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا ، وأن لا يخالفوا لك أمرا ، فاخرج ، فعسكر بالمسلمين ، ثم سر بهم إلى قيسارية ، فانزل عليها ، ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك ، فإنه لا ينفعنى افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٧٦ ـ ٢٨٣).


مقام أهل قيسارية فيها ، وهم عدو لكم ، إلى جانبكم ، وإنه لا يزال قيصر طامعا فى الشام ما بقى فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا ، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام ، والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين ، إن شاء الله تعالى.

فخرج يزيد ، فعسكر بالمسلمين ، وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد :

أما بعد ، فقد وليت يزيد بن أبى سفيان أجناد الشام كله ، وأمرته أن يسير إلى قيسارية ، فلا تعصوا له أمرا ، ولا تخالفوا له رأيا ، والسلام.

وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة : أما بعد ، فإنى قد ضربت على الناس بعثا ، أريد أن أسير بهم إلى قيسارية ، فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا ، وعجلوا إشخاصهم إلى إن شاء الله ، والسلام.

فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها ، فلما اجتمعوا عنده قام يزيد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أما بعد ، فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق ، أتانى يحثنى على المسير إلى قيسارية ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام ، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا نزلت عليهم ، فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم ، وأسبى ذراريهم ، فسيروا رحمكم الله إليهم ، فإنى أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة فى الدنيا والأجر فى الآخرة.

ثم قال للناس : ارتحلوا ، ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر فى المقدمة ، فقد جعلتك عليها ، ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية ، فإنى أسرع شيء فى أثرك لحاقا بك.

فمضى حبيب فى جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية ، وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم ، وكل من كان كره الدخول فى دين الإسلام من النصارى ، ومن كان كره الجزية ، ومن بقى من أهل تلك المواطن التي كانوا يقاتلون المسلمين من الروم ، فكانت بها جموع كثيرة ، وحد وجد شديد ، فلما أقبل حبيب فى المقدمة ودنا من الحصن ، خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال ، فنضحوهم بالنشاب ، وحملت خيلهم على المسلمين ، فانحاز حبيب وخيله ، حتى انتهى إلى يزيد ، فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت ، وعلى الميسرة الضحاك بن قيس ، ورد حبيبا على الخيل ، ومشى يزيد


فى الرجال ، فحمل عليهم ، فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا ، ثم بعث إلى الضحاك : أن احمل على ميمنتهم ، فحمل عليهم ، فهزمهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وبعث إلى عبادة بن الصامت ، أن أحمل على ميسرتهم ، فحمل عليهم ، فثبتوا له ، فقاتلهم طويلا ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم تحاجزوا ، وانصرف عبادة إلى موقفه ، فحرض أصحابه ووعظهم ، ثم قال : يا أهل الإسلام ، إنى كنت أحدث النقباء سنا ، وأبعدهم أجلا ، وقد قضى الله أن أبقانى حتى قاتلت هذا العدو معكم ، وإنى أسأل الله أن يرينى وإياكم أحسن ثواب المجاهدين ، والله الذي نفسى بيده ما حملت قط فى عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة ، وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم ، فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم.

وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال : سبحان الله ، أو قد واقفوهم ، ما أظن المسلمين إلا قد غلوا ، ولو لم يغلوا ما واقفوهم ، ولظفروا بغير مئونة ، والله إنى خائف عليكم خصلتين : أن تكونوا قد غللتم ، أو لم تناصحوا الله فى حملتكم عليهم ، فشدوا عليهم يرحمكم الله معى إذا شددت ، فلا والله لا أرجع إلى موقفى هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم ، ثم حمل عليهم ، وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم ، فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح ، واضطربوا بالسيوف ، واختلفت أعناق الخيل ، فلما رأى ذلك عبادة ترجل ، ثم نادى عمير بن سعد الأنصاري فى المسلمين : يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين ، وصاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزل وترجل ، فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة ، واتقوا عواقب الفرار ، فإنها تقود إلى النار.

وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم ، وقد كانوا أحاطوا به ، فحمل عليهم ، فقصف بعضهم على بعض ، فأزالوهم عن موقفهم ، ثم شدوا عليهم ، وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم ، ثم حمل يزيد بن أبى سفيان بجماعة المسلمين عليهم ، فانهزموا انهزاما شديدا ، ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم ، وأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا ، حتى حجزوهم فى حصنهم ، وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة ، ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة ، وضيقوا عليهم ، وحاصروهم أشد الحصار ، فلما طال عليهم البلاء تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما ، فاستعدوا فى مدينتهم ، وخرجوا على تعبئتهم ، والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنه يخرجون إليهم ،


وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا ، وظنوا أنهم أوهن أمرا ، وأضعف من أن يخرجوا عليهم ، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم ، فجال المسلمون جولة منكرة.

ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى إليهم ، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا ، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم ، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم ، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم ، ونهض بالرجال فى وجوههم ، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا ، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا ، وركب بعضهم بعضا ، فبعض دخل المدينة ، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها ، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف ، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل ، وما صيرهم إليهم من الذل ، قال لمعاوية : أقم عليها حتى يفتحها الله ، وانصرف يزيد عنها.

فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه ، وذلك سنة تسع عشرة ، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة ، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ ، وقد نفى الله المشركين عنها ، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين.

وكتب يزيد إلى عمر : أما بعد ، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به ، وبارك له ولأهل طاعته فيه ، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة ، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل ، وكدهم الأخسر ، ويجعل لنا عليهم الظفر ، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم ، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان ، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم ، وانحجزوا فى مدينتهم ، فأطلنا حصارهم ، وقطعنا موادهم ، وميرتهم ، وضيقنا أشد التضييق عليهم ، فلما جهدوا هزلا وأزلا ، فتحها الله علينا ، والحمد لله رب العالمين.

فكتب إليه عمر ، رحمه‌الله : أما بعد ، فقد أتانى كتابك ، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم ، وإن الله قد كفاكم مئونة عدوكم ، وبسط لكم فى الرزق ، ومكن لكم فى البلاد ، (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، والسلام عليك.

فلما أتى يزيد هذا الكتاب ، قرأه على المسلمين ، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم ،


واصطنع عندهم ، وأقبل يزيد حتى نزل دمشق ، فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضي‌الله‌عنه ، وذلك فى سنة تسع عشرة ، والشام كله مستقيم أمره ، ليس به عدو للمسلمين.

وكان يزيد رحمه‌الله ، شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا ، حسن السيرة ، محببا فى المسلمين ، ولما ثقل رحمه‌الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام ، وكتب إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه : أما بعد ، فإنى كتبت إليك كتابى هذا وإنى أظن أنى فى أول يوم من الآخرة ، وآخر يوم من الدنيا ، فجزاك الله عنا ، وعن جميع المسلمين خيرا ، وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا ، فابعث إلى عملك بالشام من أحببت ، فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبى سفيان.

فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته ، جزع عليه جزعا شديدا ، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام ، ويقال : إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده ، فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد : أحسن الله عزاءك فى يزيد ، ورحمه ، فقال له أبو سفيان : من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال : أخاه معاوية ، قال : وصلتك رحم يا أمير المؤمنين.

فأقام معاوية على الشام أربع سنين ، بقية خلافة عمر ، ثم أقره عليها عثمان اثنتى عشرة سنة ، مدة خلافته ، ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضي‌الله‌عنه ، ما هو معلوم (١).

ذكر فتح مصر(٢)

ذكر ابن عبد الحكم (٣) عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الجابية (٤) خلا به عمرو بن العاص ، فاستأذنه فى المسير إلى مصر ، وكان عمرو قد دخلها فى الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها.

وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش ، وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم ، فبينا عمرو يرعاها فى نوبته إذ مر به شماس من شمامسة

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٧٦ ـ ٢٨٣).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ١٠٤ ـ ١١٢) ، البداية والنهاية (٧ / ١٠٧ ـ ١١٠) ، الكامل (٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٨).

(٣) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ٥٣ ـ ١٩٢).

(٤) كان ذلك سنة ثمانى عشرة من الهجرة.


الروم ، من أهل الإسكندرية ، كان قدم للصلاة فى بيت المقدس وللسياحة فى جبالها ، فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحر ، فسقاه عمرو من قربة له ، فشرب حتى روى ، ونام الشماس مكانه ، وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة ، فخرجت منها حية عظيمة ، فبصر بها عمرو ، فنزع لها بسهم فقتلها ، فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها ، فأخبره أنه رماها فقتلها ، فأقبل الشماس فقبل رأسه ، وقال : قد أحيانى الله بك مرتين ، مرة من شدة العطش ، ومرة من هذه الحية ، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال : قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا ، فقال له الشماس : وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال : رجائى أن أصيب ما اشترى به بعيرا ، فإنى لا أملك إلا بعيرين ، فأملى أن أصيب بعيرا ثالثا ، فقال له الشماس : كم الدية فيكم؟ قال : مائة من الإبل ، قال الشماس لسنا أصحاب إبل ، إنما نحن أصحاب دنانير.

قال : تكون ألف دينار ، فقال له الشماس : إنى رجل غريب فى هذه البلاد ، وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس ، وأسيح فى هذه الجبال شهرا ، جعلت ذلك نذرا على نفسى ، وقد قضيت ذلك ، وأنا أريد الرجوع إلى بلادى ، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى ، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عزوجل ، أحيانى بك مرتين؟ فقال له عمرو : وأين بلادك؟ قال : مصر ، فى مدينة يقال لها : الإسكندرية ، فقال له عمرو : لا أعرفها ، ولم أدخلها قط ، فقال له الشماس : لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها ، فقال عمرو : وتفى لى بما تقول؟ فقال له الشماس : نعم ، لك علىّ العهد والميثاق أن أفي لك ، وأن أردك إلى أصحابك ، فقال عمرو : كم يكون مكثى فى ذلك؟ قال : شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا ، وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر ، ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا ، وأن أبعث معك من يحفظك راجعا ، فقال له عمرو : أنظرنى حتى أشاور أصحابى.

فانطلق عمرو إلى أصحابه ، فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس ، وقال لهم : أقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك ، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به ، فقالوا : نعم ، وبعثوا معه رجلا منهم.

فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر ، حتى انتهى إلى الإسكندرية ، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه ، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها ، وكثرة أهلها ، وما بها من الأموال ، فازداد عجبا.


ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما ، يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم ، وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت فى كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم.

وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله ، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه ، وجلس معه فى ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم ، فرمى بها رجل منهم ، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو ، فعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة ، أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا.

وإن ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية ، وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين ، وأنه ضمن له ألفى دينار ، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ، ففعلوا ودفعوها إلى عمرو ، فانطلق هو وصاحبه ، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا ، وزودهما وأكرمهما ، حتى رجعا إلى أصحابهما ، فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار ، وأمسك لنفسه ألفا.

قال : فكان أول مال اعتقدته وتأثلته.

فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ، ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا.

فلما قدم عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، الجابية خلا به عمرو ، وقال : يا أمير المؤمنين ائذن لى فأسير إلى أرض مصر ، فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم ، وهى أكثر الأرضين أموالا ، وأعجزه عن القتال ، فتخوف عمر وكره ذلك ، فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها فى نفسه ويخبره بحالها ، ويهون عليه فتحها ، حتى ركن لذلك عمر ، فعقد له على أربعة آلاف رجل ، كلهم من عك ، وقال : سيروا وأنا مستخير الله فى مسيرك ، وسيأتيك كتابى سريعا ، فإن لحقك كتابى آمرك فيه بالانصراف فانصرف ، وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابى ثم جاءك فامض لوجهتك ، واستعن بالله فاستنصره.

فمضى عمرو من جوف الليل ، ولم يشعر به أحد من الناس ، واستخار عمر ربه ، فكأنه تخوف على المسلمين فى وجههم ذلك ، فكتب إلى عمرو بن العاص : أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر ، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح ، فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر ، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ، وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش ، فسأل


عنها ، فقيل : إنها من مصر ، فدعا بالكتاب فقرأه ، فإذا فيه : أن انصرف بمن معك من المسلمين ، فقال لمن حوله : ألستم تعلمون أن هذه من مصر؟ قالوا : بلى ، قال : فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع ، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلت أرض مصر ، فسيروا على بركة الله.

ويقال : بل كان عمرو بن العاص بفلسطين ، فتقدم فى أصحابه إلى مصر بغير إذن ، فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه ، فجاءه كتابه وهو دون العريش ، عريش مصر ، فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه ، فإذا فيه :

من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ، أما بعد ، فإنك سرت إلى مصر بمن معك ، وبها جموع الروم ، وإنما معك نفر يسير ، ولعمرى لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم ، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع.

فقال عمرو : الحمد لله ، أية أرض هذه؟ قالوا : من مصر ، فتقدم كما هو.

ويقال : بل كان عمرو فى جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين ، وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية ، فكتب سرا واستأذن إلى مصر ، وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب ، ثم سار بهم ليلا ، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ، ورأوا أنه قد غرر ، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر :

«أما بعد ، فإنك قد غررت بمن معك ، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع ، وإن أدركك كتابى وقد دخلت فامض ، واعلم أنى ممدك».

ويقال : إن عمر كتب إلى عمرو بعد ما فتح الشام : أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر ، فمن خف معك فسر به. وبعث به مع شريك بن عبدة ، فندبهم عمرو ، فأسرعوا إلى الخروج معه ، ثم إن عثمان بن عفان دخل على عمر ، فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو ، فقال عثمان : يا أمير المؤمنين ، إن عمرا له جرأة ، وفيه إقدام وحب للإمارة ، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة ، فيعرض المسلمين للهلكة ، رجاء فرصة لا يدرى أتكون أم لا. فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان ، فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر ، والمضى لوجهه إن كان دخلها.

فسار عمرو فى طريقه قاصدا مصر ، فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز


الجيوش على عمرو ، فأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم ، وأدركه النحر وهو بالعريش ، فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش.

وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله ، فأتاه الرجل يستحمله ، فقال له عمرو : تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر ، فلما بلغوا العريش جاءه ، فأمر له بجملين ، ثم قال : لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم ، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا.

فتقدم عمرو ، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما ، قاتلته الروم قتالا شديدا ، نحوا من شهر ، ثم فتح الله على يديه.

وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له : «أبو ميامين» ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة ، وأن ملكهم قد انقطع ، ويأمرهم بتلقى عمرو ، فيقال : إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.

ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر ، ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس ، فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه ، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف ، حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا ، وأبطأ عليه الفتح ، فكتب إلى عمر يستمده ، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف ، فقاتلهم.

وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال : اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال ، فأخرج معه خمسمائة فارس ، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح.

ويقال : كان على هذا البعث خارجة بن حذافة (١) ، فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم ، فصلوا الصبح ، ثم ركبوا خيلهم ، وغدا عمرو بن العاص على القتال ، فقاتلوهم من وجههم ، وحملت الخيل التي كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا. وكانوا قد خندقوا حول الحصن ، وجعلوا للخندق أبوابا ، فسار عمرو بمن معه حتى نزل على

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢١٣٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٣٢٧) ، الثقات (٣ / ١١١) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (٣٧٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٤٦) ، الكاشف (١ / ٢٦٥) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٧٤) ، تقريب التهذيب (١ / ٢١٠) ، التحفة اللطيفة (١ / ٤٩) ، النجوم الزاهرة (١ / ٢٠) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (١ / ٦٠٠) ، الطبقات (٢٣ / ٢٩١) ، التاريخ الكبير (٣ / ٢٠٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٩٣) ، الإكمال (٦ / ١٨٢) ، تراجم الأخبار (١ / ٣٩٠) ، الكامل (٣ / ٩٢٠) ، مشاهير علماء الأمصار (٣٨٣).


الحصن ، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن ، ففعل ذلك ، وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين.

فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم ، وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم ، فقال بعضهم لبعض : ألا تعجبون من هؤلاء القوم ، يعنون المسلمين ، يقدمون على جموع الروم ، وإنما هم فى قلة من الناس. فجاءهم رجل منهم ، فقال : إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه ، حتى يقتلوا خيرهم. فأنكر عليه اللخمى قوله وأراد حمله إلى عمرو ، فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه ، فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم : كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا : لم نر إلا حسنا. فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك : إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا. فغضب عمرو وأمر به ، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول ، حتى خلصوه ، فلما بلغ عمرا عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطى ، وأرسل فى طلبه ، فوجدوه قد هلك.

وفى حديث غيره : قال عمرو بن العاص : فلما طعن عمر بن الخطاب قلت : هو ما قال القبطى ، فلما حدثت أنه إنما قتله رجل نصرانى (١) قلت : لم يعن هذا ، إنما عنى من قتله المسلمون ، فلما قتل عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عرفت أن ما قال الرجل حق.

قال ابن عبد الحكم : وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا ، ثم ذكر عن نفر سمى منهم قال : وبعضهم يزيد على بعض فى الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم فى القصر الذي يقال له : باب اليون حينا ، وقاتلهم قتالا شديدا ، يصبحهم ويمسيهم ، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ، فأمده عمر بأربعة آلاف رجل ، على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف : الزبير بن العوام (٢) ، والمقداد بن عمرو (٣) ، وعبادة

__________________

(١) هو : أبو لؤلؤة ، غلام المغيرة بن شعبة. راجع مقتل عمر بن الخطاب ، رحمه‌الله ، من هذا الجزء.

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٧٩٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٣١).

(٣) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ١٤٤) ، طبقات خليفة (٦١ ، ٦٧ ، ١٦٨) ، التاريخ الكبير (٨ / ٥٤) ، التاريخ الصغير (٦٠ ، ٦١) ، المعارف (٢٦٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٤٢٦) ، حلية الأولياء (١ / ١٧٢ ، ١٧٦) ، ابن عساكر (١٧ ، ٦٦ ، ١) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ١١١ ، ١١٢) ، معالم الإيمان (١ / ٧١ ، ٧٦) ، دول الإسلام (١ / ٩٢٧ ، العقد الثمين (٧ / ٢٦٨) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٢٨٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٨٢٠١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٠٧٦).


ابن الصامت (١) ، ومسلمة بن مخلد (٢). وقيل : بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة. وقال عمر بن الخطاب : «اعلم أن معك اثنى عشر ألفا ، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة».

وذكر الليث عن يزيد بن أبى حبيب : أن عمر ، رحمه‌الله ، إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام ، وبالمقداد بن عمرو ، وبخارجة بن حذافة.

قال الليث بن سعد : وبلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدة الجيش الذي كان سمى ألفا مكانه ، وإذا احتاج إلى أحدهم وكان فى جيش فجيشه زادهم ألف رجل ، فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذي صنع كسرى.

وقيل : إن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، أشفق على عمرو حين بعثه ، فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا ، فشهد معه الفتح. وكان عمرو قدم من الشام فى عدة قليلة ، وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم ، وجعلوا للخندق أبوابا ، ورموا فى أفنيتها حسك الحديد ، فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم ، فلما انتهى إلى الخندق نادوه : أن قد رأينا ما صنعت ، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا ، فلم يخطئوا برجل واحد. فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير ، فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو ابن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق. وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا فى شيء مما هم فيه ، فقال له عمرو : أخرج وأستشير أصحابى ، فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله. فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج ، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن ،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٥١٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٧٩١).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٠٠٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٤٣) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ١٤٨) ، تاريخ خليفة (١٩٥) ، فتوح البلدان (٢٧٠) ، أنساب الأشراف (١ / ١٤٦) ، المعرفة والتاريخ (٢ / ٤٩٤) ، تاريخ الطبرى (٤ / ٤٣٠) ، أخبار القضاة (٣ / ٢٢٣) ، تاريخ أبى زرعة (١ / ١٨٩) ، مروج الذهب (١٦٢١) ، فتوح مصر (٦٧) ، جمهرة أنساب العرب (٣٦٦) ، وفيات الأعيان (٧ / ٢١٥) ، المراسيل (١٩٧) ، الجرح والتعديل (٨ / ٢٦٥) ، مشاهير علماء الأمصار (٥٦) ، الكامل فى التاريخ (٣ / ١٩١) ، تهذيب الكمال (٣ / ١٣٣٠) ، مختصر التاريخ (٨٢) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٧٧) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٤٢٤) ، العبر (١ / ٦٦) ، الكاشف (٣ / ١٢٨) ، المعين فى طبقات المحدثين (٢٦) ، تقريب التهذيب (٢ / ٢٤٩) ، النجوم الزاهرة (١ / ١٣٢) ، خلاصة تذهيب التهذيب (٣٧٧) ، الولاة والقضاء (١٥) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٤٢).


فقال له : إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، فقال العلج فى نفسه : قتل جماعة أحب إلىّ من قتل واحد ، فأرسل إلى الذي كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم ، فخرج عمرو ولم يعد.

وفى حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما فى ناحية يصلى وفرسه عنده ، فرآه قوم من الروم ، فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة ، فلما دنوا منه سلم من صلاته ، ووثب على فرسه ، ثم حمل عليهم ، فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين ، واتبعهم ، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم ، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة ، فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم ، حتى أتى موضعه الذي كان به ، فاستقبل الصلاة ، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.

ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير : إنى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين ، فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد ، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا ، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف ، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر. ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر ، وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج ، لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا ، فهربوا ، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه ، واقتحمه المسلمون ، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه ، على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم ، فأجابه عمرو إلى ذلك.

وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روى عن الليث.

قال ابن عبد الحكم : وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين ، فالله أعلم.

ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين ، يزيد بعضهم على بعض ، أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا ، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم ، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط ، وخرجوا من باب القصر القبلى ودونهم جماعة يقاتلون العرب ، فلحقوا بالجزيرة ، موضع الصناعة اليوم ، وأمروا بقطع الجسر ، وذلك فى جرى النيل.


وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس ، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس ، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.

قال أصحاب الحديث من التابعين : فأرسل المقوقس إلى عمرو : إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا ، وطال مكثكم فى أرضنا ، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح ، وأحاط بكم هذا النيل ، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا ، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم ، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب ، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.

فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس ، فقال لأصحابه : أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين ، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله ، وقال لهم : إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال : إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا ، وكان لكم ما لنا ، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.

فلما جاءوا إلى المقوقس قال لهم : كيف رأيتم؟ قالوا : رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إليه من الرفعة ، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة ، إنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم ، يغسلون بالماء أطرافهم ، ويخشعون فى صلاتهم.

فقال عند ذلك المقوقس : والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.

فرد إليهم المقوقس رسله : أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.

فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت ، وأمره عمرو أن يكون


مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث.

وكان عبادة أسود طويلا ، يقول ابن غفير : أدرك الإسلام من العرب عشرة ، طول كل رجل منهم عشرة أشبار ، أحدهم عبادة بن الصامت. فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسوداه ، فقال : نحّوا عنى هذا الأسود ، وقدموا غيره يكلمنى. فقالوا جميعا : إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما ، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا ، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه ، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به ، وأمرنا أن لا نخالفه.

قال : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم ، وإنما ينبغى أن يكون دونكم؟.

قالوا : كلا ، إنه وإن كان أسود كما ترى ، فإنه من أفضلنا موضعا ، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا ، وليس ينكر السواد فينا.

فقال له المقوقس : تقدم يا أسود وكلمنى برفق فإنى أهاب سوادك ، وإن اشتد كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة.

فتقدم إليه عبادة فقال : قد سمعت مقالتك ، وإن فيمن خلفت من أصحابى ألف رجل كلهم أشد سوادا منى وأفظع منظرا ، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى ، وأنا قد وليت وأدبر شبابى ، وإنى مع ذلك ، بحمد الله ، ما أهاب مائة رجل من عدوى ولو استقبلونى جميعا ، وكذلك أصحابى ، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه ، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة فى دنيا ، ولا طلبا للاستكثار منها ، إلا أن الله ، عزوجل ، قد أحل لنا ذلك ، وجعل ما غنمنا منه حلالا ، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما ؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره ، وشملة يلتحفها ، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى واقتصر على هذا الذي يتبلغ به ما كان فى الدنيا ؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء ، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة ، وبذلك أمرنا ربنا ، وأمرنا به نبينا ، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ، ويستر عورته ، وتكون همته وشغله فى رضى ربه وجهاده عدوه.

فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره ، وإن قوله لأهيب عندى من منظره ، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ، ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل على عبادة فقال : أيها


الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ، ولعمرى ما بلغتم إلا بما ذكرت ، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها ، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده ، قوم يعرفون بالنجدة والشدة ، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل ، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تطيقونهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم فى ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ، ولأميركم مائة دينار ، ولخليفتكم ألف دينار ، فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم ، قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به.

فقال عبادة بن الصامت : يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك ، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم ، وأنا لا نقوى عليهم ، فلعمرى ما هذا بالذى يخوفنا ، ولا بالذى يكسرنا عما نحن فيه ، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالكم ، وأشد لحرصنا عليكم ؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه ، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنته ، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك ، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين : إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم ، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا ، وإن الله عزوجل قال لنا فى كتابه : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] ، وما منا من رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده ، وليس لأحد منا همّ فيما خلفه ، وقد استودع كل واحد منا ربه فى أهله وولده ، وإنما همنا ما أمامنا ، وأما قولك : إنا فى ضيق وشدة من معاشنا وحالنا ، فنحن فى أوسع السعة ، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ، فانظر الذي تريد فبينه لنا ، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث ، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل ، بذلك أمرنى الأمير ، وبه أمره أمير المؤمنين ، وهو عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل إلينا : إما أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره ، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته ، أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه ، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا ، وكان أخانا فى دين الله ، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم ، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم


صاغرون ، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره ، فانظروا لأنفسكم.

فقال له المقوقس : هذا ما لا يكون أبدا ، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا!.

فقال له عبادة : هو ذلك فاختر ما شئت!.

فقال له المقوقس : أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث؟.

فرفع عبادة يديه فقال : لا ورب هذه السماء ، ورب هذه الأرض ، وربنا ، ورب كل شيء ، ما لكم عندنا خصلة غيرها ، فاختاروا لأنفسكم.

فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه ، فقال : قد فرغ القوم ، فما ذا ترون؟.

فقالوا : أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا ، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه ، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك ، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.

فقال المقوقس لعبادة : قد أتى القوم (١) فما ترى؟ فراجع أصحابك (٢) على أن نعطيكم فى مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا.

فقام عبادة وأصحابه ، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله : أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث ، فو الله ما لكم بهم طاقة ، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.

فقالوا : وأى خصلة نجيبهم إليها؟.

قال : أنا أخبركم ، أما دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به ، وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تصبروا صبرهم ، ولا بد من الثالثة.

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : قد أبى القوم.

(٢) فى ابن عبد الحكم : صاحبك.


قالوا : فنكون لهم عبيدا أبدا؟.

قال : نعم ، أن تكونوا عبيدا منبسطين (١) فى بلادكم ، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم ، خير لكم من أن تموتوا من آخركم ، أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون فى البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.

قالوا : فالموت أهون علينا ، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة ، وبالقصر من القبط والروم جمع كثير.

فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر ، حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم ، فقتل منهم خلق كثير ، وأسر من أسر ، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة ، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى ، والمقوقس يقول لأصحابه : ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم؟ ما تنتظرون ، فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها ، فأطيعونى من قبل أن تندموا.

فلما رأوا منهم ما رأوا ، وقال لهم المقوقس ما قال ، أذعنوا بالجزية ، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.

فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص : أنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التي أرسلت إلىّ بها فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط ، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم ، وقد عرفوا نصحى لهم وحبى صلاحهم فرجعوا إلى قولى ، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت ، أنا فى نفر من أصحابى ، وأنت فى نفر من أصحابك ، فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا ، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.

فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك ، فقالوا : لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا ، وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه.

فقال عمرو : قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده ، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلىّ فيها أجبتم إليها وقبلت منهم ، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.

فاجتمعوا على عهد بينهم ، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : مسلطين.


وأسفلها من القبط دينارين دينارين ، على كل نفس ، شريفهم ووضيعهم ، ومن بلغ الحلم منهم ، وليس على الشيخ الفانى ، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ، ولا على النساء شيء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا ، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم ، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم فى شيء منها ، فشرط هذا كله على القبط خاصة.

وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران. رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة ، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس ، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة.

وعن يحيى بن ميمون الحضرمى قال : لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط ، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبى ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين ، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف.

وفى الحديث المتقدم الطويل : أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا ، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه ، مما أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج ، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل ، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.

وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه ، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه ، ويرد عليه ما فعل ويقول فى كتابه :

إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا ، وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف ، معهم العدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء فى حال القبط ، ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة ، فناهضهم القتال ولا يكن لك رأى غير ذلك.

وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.


فقال المقوقس لما أتاه كتابه : والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا ، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ، ولا ولده ، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا ، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة ، وليس لهم رغبة فى الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ، وكيف صبرنا معهم ، واعلموا معشر الروم أنى والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه ، وأنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى ، وتتمنون أن لو كنتم أطعمتونى ، وذلك أنى قد عانيت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه ، ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة؟.

ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له : إن الملك قد كره ما فعلت وعجزنى ، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك ، أمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه ، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى ، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسى ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم ، وأما الروم فأنا منهم برىء ، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال.

قال عمرو : وما هن؟.

قال : لا تنقض بالقبط ، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم ، فقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية : إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا ، فإنهم أهل لذلك ؛ لأنى نصحتهم فاستغشونى ، ونظرت لهم فاتهمونى. وأما الثالثة : أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنس بالإسكندرية.

فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب ، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ، ففعلوا.

ويقال : إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية ، وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه ، فسأله المقوقس الصلح عنهم ، كما


صالحه على القبط ، على أن يستنظر رأى الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير ، ويقر من أراد الإقامة ، فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار ، وتسخط أشد التسخط ، وبعث الجيوش ، فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب ، فخرج إليه المقوقس فقال : أسألك ثلاثا ، وذكر نحو ما تقدم ، وزاد أن عمرا قال فى الثالثة التي هى أن يدفن فى أبى يحنس : هذه أهونهن علينا.

ثم رجع إلى الحديث الأول ، قال : فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق ، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم ، وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت ، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم ، فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح ، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية ، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط (١) ، فلقى فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله ، ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك ، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولى الروم أكتافهم.

ويقال : بل أرسل عمرو بن العاص ، شريك بن سمى فى آثارهم ، فأدركهم عند الكوم الذي يقال له كوم شريك ، فقاتلهم شريك فهزمهم.

ويقال : بل لقيهم فألجئوه إلى الكوم فاعتصم به ، وأحاطت به الروم ، فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفى (٢) ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له : أشقر صدف ، وكان لا يجارى ، فانحط عليهم من الكوم ، وطلبته الروم فلم تدركه ، حتى أتى عمرا فأخبره ، فأقبل عمرو نحوه. وسمعت به الروم فانصرفت ، وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التي بمصر ، وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك ، فسمى المكان به.

قال : ثم التقوا بسلطيس (٣) فاقتتلوا بها قتالا شديدا ، فهزمهم الله ، ثم التقوا بالكريون (٤) فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما.

__________________

(١) ترنوط : قرية كانت بين مصر والإسكندرية ، أشار ياقوت إلى أنها قرية كبيرة جامعة على النيل ، فيها أسواق ومعاصر للسكر وبساتين ، وأكثر فواكه الإسكندرية منها. انظر : معجم البلدان (٢ / ٢٧).

(٢) هو : أبو ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى.

(٣) سلطيس : قرية من قرى مصر القديمة ، كان أهلها أعانوا على عمرو بن العاص فسباهم. انظر : معجم البلدان (٣ / ٢٣٦).

(٤) كريون : موضع قرب الإسكندرية. انظر : معجم البلدان (٤ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).


وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة ، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو ، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة ، فقال : يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح. فقال وردان : الروح أمامك وليس هو خلفك. فتقدم عبد الله ، وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه ، فأنشأ يقول :

أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبرى

عليك قليلا تحمدى أو تلامى

فرجع الرسول فأخبره بما قال. فقال عمرو : هو ابنى حقا.

وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف ، فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية : أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين.

قال : ثم فتح الله على المسلمين ، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة ، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها ، وكانت عليهم حصون لا ترام ، حصن دون حصن ، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة ، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادة الروم.

ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس ، فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه ، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا ، ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية ، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية ، فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول : لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم ، وانقطع ملكها ، وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها ، وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم ، وقال : ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مئونته. وكان موته فى سنة تسع عشرة ، وقيل : سنة عشرين ، فكسر الله بموته شوكة الروم.

ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية ، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به ، فجعل المهريون يتغضبون ويقولون : لا ندفنه أبدا إلا برأسه. فقال عمرو بن العاص : تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالى بغضبكم ، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم


وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم ، فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا ، فقتل رجل من بطارقة الروم ، فاحتزوا رأسه ، فرموا به إلى الروم ، فرمت الروم برأس المهرى إليهم ، فقال : دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.

وكان عمرو بن العاص يقول : ثلاث قبائل فى مصر : أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفضلها فارسا.

وقاتل عمر بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا ، فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومى ، وألقاه عن فرسه ، وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه. وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير ، ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين ، وغضب عمرو بن العاص فقال : وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن : ما بال الرجل المسبّه (١) الذي يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم؟ فغضب مسلمة ولم يراجعه ، ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب فى الحصن ، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد ، أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم.

فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجئوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم : إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم : إن فى أيدى أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادى بكم أصحابنا ولا نقتلكم ، فأبوا عليهم.

فلما رأى الرومى ذلك منهم قال لهم : هل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم : أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل ، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا ، وأمكنتمونا من أنفسكم ، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه ، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته ، وقالوا لعمرو وأصحابه وهم فى الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال : يا هذا تخطئ مرتين ، تشذ من

__________________

(١) السبه : محركه ، ذهاب العقل من الهرم. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٢٨٤). لسان العرب لابن منظور (٣ / ١٩٣٢).


أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك ، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل ، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك؟ مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله! قال عمرو : دونك فربما فرجها الله بك ، فبرز مسلمة والرومى فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله ، فكبر مسلمة وأصحابه ، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ، ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم ، حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم ، فلما خرجوا استحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب ، وسأله أن يستغفر له ، ففعل مسلمة وقال عمرو : والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات ، مرتين فى الجاهلية وهذه الثالثة ، وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إنى لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت.

قال ابن لهيعة : وأخبرنى بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل : هل بقى بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها؟ فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل ، فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين. فقال : أخبرك أيها الأمير أنه كان لى صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلىّ ، وأنه أتانى فسألنى أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم ، وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية ، فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف ، فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب ، وإذا هم فى خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز ، ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم ، وقلنا : كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟ فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام ، فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا ، فقلت لصاحبى : والله إنه ليريدنا! فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا هاربين ، فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبى فطعنه بالرمح فصرعه ، ثم تركه صريعا وأقبل فى أثري وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه ، ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل ، فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته ، فظننت أنه يقرأ ، ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبى فأخذه ورجع إلى صاحبى وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به ، وكانت ثيابه ديباجا كلها ، فلم يأخذها ولم ينزعها عنه.

فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومى : صف لى ذلك الرجل وشبهه ببعض من


عندى. فأشار إلى رجل مخفف كوسج (١) فقال : هو يشبه هذا. قال عبد العزيز : نخبرك أنه يمان (٢).

وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا ، فقال عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، لما بلغه ذلك : ما أبطئوا بفتحها إلا لما أحدثوا.

وقال أسلم مولى عمر : لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص :

أما بعد ، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر ، أنكم تقاتلونها منذ سنين ، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم ، وإن الله ، تبارك وتعالى ، لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر ، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف ، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم ، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ، ورغبهم فى الصبر والنية ، وقدم أولئك النفر الأربعة فى صدور الناس ، ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد ، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة ، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة ، وليضج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم.

فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم ، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس ، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر ، ففعلوا ، ففتح الله عليهم.

ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له : أشر علىّ فى قتال هؤلاء. فقال له مسلمة : أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتعقد له على الناس ، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه. قال عمرو : ومن ذلك؟ قال : عبادة بن الصامت. فدعا عمرو عبادة ، فأتاه وهو راكب على فرسه ، فلما دنا منه أراد النزول ، فقال له عمرو : عزمت عليك أن لا تنزل ، ناولنى سنام رمحك ، فناوله إياه ، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال ، فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم ، ففتح الله على يديه الإسكندرية فى يومه ذلك.

ويروى أن عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح ، فاستلقى على ظهره ثم جلس

__________________

(١) الكوسج : أى الناقص الأسنان ، والبطيء من البراذين. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (١ / ٢٠٤).

(٢) فى ابن عبد الحكم : «... قال عبد العزيز عند ذلك : إنه ليصف صفة رجل يمانى».


فقال : إنى فكرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله ، يريد الأنصار ، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ، ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك.

وقال جنادة بن أبى أمية (١) : دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها ، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم ، فبعثنى أحجز بينهم ، فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه ، فقال : أقتل أحد من الناس؟ قلت : لا. قال : الحمد لله الذي لم يقتل أحد منهم عاصيا.

قالوا : وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين.

ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم فى البحر والبر ، خلف عمرو ابن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل ، ومضى فى طلب من هرب فى البر من الروم ، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب.

وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها ، وأقام بها ، وكتب إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد ، فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها.

قال ابن لهيعة : وهذا هو فتح الإسكندرية الثانى ، وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له : ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب ، فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب ، فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان ، وكان مدخله الأول من الباب الذي من ناحية كنيسة الذهب.

وقد روى ابن لهيعة ، أيضا ، عن يزيد بن أبى حبيب أن فتحها الأول كان سنة إحدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين.

وجاءت الروم عليهم منويل الخصى ، بعثه هرقل فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٢٠٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٧٨٩) ، طبقات ابن سعد (٧ / ٤٣٩) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (٢٩٠٥) ، تاريخ البخاري (٢ / ١٣٢) ، تاريخ خليفة (١٨٠) ، مقدمة مسند بقى بن مخلد (١١٢) ، التاريخ الكبير (٢ / ٢٣٢) ، التاريخ الصغير (٧٢) ، الجرح والتعديل (٢ / ٥١٥) ، فتوح البلدان (٢٧٨) ، تاريخ الثقات للعجلى (٩٩) ، الثقات لابن حبان (٤ / ١٠٣) ، مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد (٢٠٨).


فأجابهم من بها من الروم ، فخرج إليهم عمرو بن العاص فى البر والبحر ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فهزمهم الله وقتل منويل ، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث.

ويقال : أن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذي ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك فى زمان عمر ، وهذا الذي ذكر يزيد بن أبى حبيب فى خلافة عثمان ، رضي‌الله‌عنهما ، وسيأتى ذكره فى موضعه مستوفى إن شاء الله.

وقيل : إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا.

وبعث عمرو بن العاص ، معاوية بن حديج (١) وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح ، فقال له معاوية : ألا تكتب معى؟ فقال له عمرو : ما أصنع بالكتاب ، ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته؟.

فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية ، فخر عمر ساجدا وقال : الحمد لله.

ويروى عن معاوية بن حديج أنه قال : قدمت المدينة فى الظهيرة فأنخت راحلتى بباب المسجد ، ثم دخلت المسجد ، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتنى شاحبا علىّ ثياب السفر ، فأتتنى فقالت : من أنت؟ فقلت : أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص. فانصرفت عنى ، ثم أقبلت تشتد ، فقالت : قم فأجب أمير المؤمنين. فتبعتها ، فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال : ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين ، فتح الله الإسكندرية ، فخرج معى إلى المسجد فقال للمؤذن : أذن فى الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ثم قال لى : قم فأخبر أصحابك. فقمت فأخبرتهم ، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال : يا جارية ، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت ، فقال : كل ، فأكلت على حياء ، ثم قال : كل فإن المسافر يحب الطعام ، فلو كنت آكلا لأكلت معك. فأصبت على حياء ، ثم قال : يا جارية ، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق ، فقال : كل ، فأكلت على حياء ، ثم قال : ما ذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال : قلت : أمير المؤمنين قائل (٢). قال : بئس ما قلت ، أو بئس ما ظننت. لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية ، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسى ، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٨٠).

(٢) القائل : هو النائم فى وسط النهار. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٤٢).


ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه : أما بعد ، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها ، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام ، وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية ، وأربعمائة ملهى للملوك.

وعن أبى قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.

وعن غيره (١) أنه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس ، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.

قال : وترحل من الإسكندرية فى الليلة التي دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التي خافوا دخوله سبعون ألف يهودى ، وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال ، فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن ، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألف بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل ، وبقى من بقى ممن يؤدى الخراج ، فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.

واختلف الناس على عمرو فى قسمهم ، وكان أكثرهم يريدون القسم ، فقال عمرو : لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب إليه فى ذلك ، فكتب إليه عمر ، رضي‌الله‌عنه : لا تقسمها ، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.

فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج ، فكانت مصر صالحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل ، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه على دينارين ، غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع ، إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم ؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة لغير عهد ولا عقد ، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة.

ويقال : إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.

قال سفيان بن وهب الخولانى (٢) : لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال:اقسمها يا عمرو. فقال : لا أقسمها. فقال الزبير : والله لتقسمنها كما قسم رسول الله

__________________

(١) هو : حسين بن شفى بن عبيد.

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣٣٤٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢١٢٩).


صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر. فقال عمرو : والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه فأجابه : أقرها حتى يغدو (١) منها حبل الحبلة.

وفى حديث آخر : أن الزبير صولح على شيء أرضى به.

وحدث أبو قنان (٢) ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول ، يعنى بمصر : لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد ، إن شئت قتلت ، وإن شئت حبست ، وإن شئت بعت.

ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد ، وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شيء نظيرا للإسلام وأهله.

وقال زيد بن أسلم (٣) : كان لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده ، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد.

ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط : إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. فذكر لعمرو أن قبطيا (٤) من أهل الصعيد يقال له : بطرس عنده كنز ، فأرسل إليه فسأله ، فأنكر ، فحبسه عمرو ، وسأل : هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا:سمعناه يسأل عن راهب بالطور ، فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب : أن ابعث إلىّ بما عندك ، وختم بخاتمه ، فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص ، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها : يا بنى ، إن أردتم ما لكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة. فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء ، وقلع البلاط الذي تحتها ، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة ، فضرب عمرو رأس القبطى عند باب المسجد ، فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا.

وروى يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطى كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك ، فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير.

وقال ابن شهاب : كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة. فجعل عمر بن

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : يغزو.

(٢) هو : أيوب بن أبى العالية.

(٣) انظر ترجمته فى : الجرح والتعديل (٣ / ٢٥٠٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٢٨٨٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٨٢١).

(٤) فى ابن عبد الحكم : نبطيا.


الخطاب جميعها ذمة ، وحملهم على ذلك ، فجرى ذلك فيهم إلى اليوم.

وفى كتاب سيف عمن سمى من أشياخه (١) فى فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم ، وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة ، يعنى رجوعه من الشام ، فانتهى عمرو إلى باب مصر ، وأتبعه الزبير فاجتمعا ، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق (٢) مصر ومعه الأسقف فى أهل النيات ، بعثهم المقوقس لمنع بلادهم.

فلما نزل بهم عمرو قاتلوه ، فأرسل إليهم عمرو : لا تعجلونا لنعذر إليكم ، وتروا رأيكم بعد ، فكفوا أصحابهم ، فأرسل إليهم عمرو : إنى بارز فليبرز لى أبو مريم وأبو مريام ، فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا. فقال لهما عمرو : أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا : إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به ، وأمرنا به محمد ، وأدى إلينا كل الذي أمر به ، ثم مضى ، صلوات الله عليه ، وقد قضى الذي عليه وتركنا على الواضحة ، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس ، فنحن ندعوكم إلى الإسلام ، فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا ، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية ، وبذلنا له المنعة ، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم ، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم ، وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة ، ومما عهد إلينا أميرنا : استوصوا بالقبطيين خيرا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بالقبطيين خيرا ؛ لأن لهم رحما وذمة ، يعنى بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام منهم ، فقالا : قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء ، وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة.

قالا : كانت ابنة ملكنا ، وكان من أهل منف والملك فيهم ، فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا ، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه‌السلام. مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك.

فقال عمرو : إن مثلى لا يخدع ولكننى أؤجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما ، وإلا ناجرناكم.

قالا : زدنا ، فزادهم يوما ، فقالا : زدنا ، فزادهم يوما ، فرجعوا إلى المقوقس ، فهم ، يعنى بالإنابة إلى الجزية ، فأبى أرطبون أن يجيبهما ، وأمر بمناهدتهم ، فقالا لأهل مصر : أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم ، لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام ، فلا تصابون فيها بشيء

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ١٠٧ ، ١٠٨).

(٢) الجاثليق : رئيس النصارى فى ديار الإسلام.


إلا رجونا أن يكون له أمان ، فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب ، وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم. وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح ، فنزل عليها ، وبعث عوف ابن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها ، فقال كل واحد منهما لأهل مدينته : إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان. فقالوا : نعم ، فراسلوها ، وتربصوا بهم أهل عين شمس ، وسبى المسلمون من بين ذلك.

وقال عوف بن مالك (١) : ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا : إن الإسكندر قال : إنى أبنى مدينة إلى الله فقيرة ، وعن الناس غنية ، فبقيت بهجتها.

وقال أبرهة لأهل الفرما : ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا : إن الفرما قال : إنى أبنى مدينة عن الله غنية ، وإلى الناس فقيرة ، فذهبت بهجتها.

قال الكلبى : كان الإسكندر والفرما أخوين ، ثم حدث بمثل ذلك ، قال : فنسبتا إليهما ، فالفرما يتهدم كل يوم فيها شيء ، وأخلقت مرآتها ، وبقيت جدة الإسكندرية.

قالوا : ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس ، وكان الملك بين القبط والنوب ، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم : ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم ، صالح القوم واعتقد منهم ، ولا تعرضنا لهم ، وذلك فى اليوم الرابع ، فأبى ، وناهدوهم فقاتلوهم ، وارتقى الزبير سورها ، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو ، وخرجوا إليه مصالحين ، فقبل منهم ، ونزل الزبير عليهم عنوة ، حتى خرج على عمرو من الباب معهم ، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه ، فصاروا ذمة :

وكان صلحهم :

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ، وملتهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وصلبهم ، وبحرهم ، وبرهم ، لا يدخل عليهم فى شيء من ذلك ، ولا ينتقض ، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح ، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليهم ما جنى لصوصهم ، فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم ، وذمتنا من أبى بريئة.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٦١١٦) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤١٣٠) ، المعارف (٣١٥) ، الجرح والتعديل (٧ / ١٣ ، ١٤) ، العبر (١ / ٨١) ، تهذيب التهذيب (٨ / ١٦٨) ، شذرات الذهب (١ / ٧٩).


وإن نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ، أو يخرج من سلطاننا ، عليهم ما عليهم أثلاثا فى كل ثلث ، يريد من السنة ، جباية ثلث ما عليهم ، لهم على ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.

وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا ، وكذا وكذا فرسا معونة ، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.

شهد الزبير ، وعبد الله ومحمد ابنا عمرو ، وكتب وردان ، وحضر فدخل فى ذلك أهل مصر كلهم ، وقبلوا الصلح (١).

فمصر عمرو الفسطاط ، ونزله المسلمون ، وظهر أبو مريم وأبو مريام ، فكلموا عمرا فى السبايا التي أصيبت بعد المعركة ، فقال عمرو : أولهم عهد وعقد؟ ألم نخالفكما ويغر علينا من يومكما؟ فطردهما ، فرجعا وهما يقولان : كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففى ذمة. فقال لهما عمرو : يغيرون علينا وهم فى ذمة؟ قالا : نعم. وقسم عمرو ذلك السبى على الناس ، وتوزعوه ووقع فى بلاد العرب ، وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس ، وقدم الوفود ، فسألهم عمر ، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه ، فقال عمر : ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له ، ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبى من أهل القرى فى الأيام الخمسة فله الأمان ، وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص ، فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا.

وعن عمرو بن شعيب (٢) قال : لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس ، واقتتلت خيلاهما ، جعل المسلمون يجولون بعد البعد ، فزمرهم عمرو ، فقال رجل من أهل اليمن : إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فأسكته عمرو ، ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو : أين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فحضر من شهدها منهم ، فقال : تقدموا فبكم ينصر المسلمون.

فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة ، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة ، ففتح الله على المسلمين ، وظفروا أحسن الظفر ، وافتتحت مصر ، وقام فيها ملك الإسلام على رجل ، وجعل يفيض على الأمم والملوك.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١١١).


وعن محمد بن إسحاق (١) عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان : أن زياد ابن جزء الزبيدى حدثه وكان فى جند عمرو بن العاص ، قال : افتتحنا الإسكندرية فى خلافة عمر ، فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية ، حتى انتهينا إلى بلهيب وقد بلغت سبايانا مكة والمدينة واليمن ، فلما انتهينا إلى بلهيب (٢) أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص : إنى قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم يا معشر العرب ، لفارس والروم ، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علىّ ما أصبتم من سبايا أرضى فعلت ، فبعث إليه عمرو : إن ورائى أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه ، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنى حتى أكتب إليه بالذى عرضت علىّ ، فإن قبل ذلك منك قبلت ، وإن أمرنى بغير ذلك مضيت لأمره. قال : فقال : نعم. فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال : وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به ، ثم وقفنا ببلهيب وفى أيدينا بقايا من سبيهم ، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه ، وقرأه علينا عمرو وفيه :

«أما بعد : فإنه جاء فى كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه ، ولعمرى لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلىّ من فيء يقسم ، ثم كأنه لم يكن ، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية ، على أن تخيروا من فى أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه ، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته ، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنّا لا نقدر على ردهم ، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفى له به».

قال : فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين ، فقال : قد فعلت ، فجمعنا ما فى أيدينا من السبايا ، واجتمعت النصارى ، فجعلنا نأتى بالرجل ممن فى أيدينا ، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية ، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهى أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية ، ثم نجوزه إلينا ، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم ، ووضعنا عليه الجزية ، وجزعنا من ذلك جزعا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠٥ ، ١٠٦).

(٢) بلهيب : قرية من قرى الريف ، يقال لها : الريش. انظر : الطبرى (٤ / ١٠٥) ، معجم البلدان (١ / ٤٩٢).


شديدا ، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم ، فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.

وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن ، قال القاسم : وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد ، قال ابن جزء الزبيدى : فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية ، وأبوه وأمه وإخوته فى النصارى ، فاختار الإسلام ، فحزناه إلينا ، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه ، حتى شققوا ثيابه ، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى.

ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها ، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب.

قال القاسم : وإنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بنى أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة ، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا ، ونضع ما شئنا ، وقد تقدم بعض ما وقع فى هذا المعنى من الاختلاف.

وكذلك اختلفوا فى وقت فتح مصر ، فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين ، وكذلك قال أبو معشر والواقدى.

وقد روى عن أبى معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين ، ولعل ذلك فتحها الأخير ، إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين.

وأما سيف (١) فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا فى سنة ست عشرة. قال : ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر ، رحمه‌الله ، مسالح مصر على السواحل وغيرها.

وقال سعيد بن عفير وغيره (٢) : لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حول الفسطاط ، فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها ، حتى أتاهم رجل فذكرها لهم ، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى ، فلما سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا ، فهموا بالانصراف ، فقالوا : لا تعجلوا ، سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم. فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها ، فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم.

قال : ويقال : بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى ، وهو صاحب الأشقر ، ينفض المجابة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١١١ ، ١١٢).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٦٩).


على فرسه ، ولا علم له بما خلفها من الفيوم ، فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره.

وقيل غير ذلك فى وجه الانتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة فى ذكره ، والله تعالى أعلم(١).

وعن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها همّ بسكناها ، وقال : مساكن قد كفينا بناءها ، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى ذلك ، فسأل عمر الرسول : هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال : نعم ، إذا جرى النيل. فكتب إلى عمرو :

إنى لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بينى وبينهم لا فى شتاء ولا فى صيف.

فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط. وإن ناسا من المسلمين حين افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها ، فكتب عمرو بذلك إلى عمر ، فكتب إليه عمر يقول : ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم ، فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا. فبنى الحصن الذي خلف الجسرين.

وبنى عمرو بن العاص المسجد ، وكان ما حوله حدائق وأعنابا ، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم ، ووضعوا أيديهم ، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة ، وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتخذ فيه منبرا. فكتب إليه عمر بن الخطاب :

«أما بعد. فإنه بلغنى أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين ، أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك ، فعزمت عليك لما كسرته».

ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه : إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع.

فكتب إليه عمر : أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين.

وذكر الطبرى (٢) أن القبط حضروا باب عمرو ، فبلغه أنهم يقولون : ما أرثّ العرب

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ٩١).

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ١١٠).


وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك ، فأمر بجزر فنحرت ، فبطحت فى الماء والملح ، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم ، وجلس وأذن لأهل مصر ، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين ، فأكلوا أكلا عربيا ، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح ، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة ، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد ، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم ، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ، ففعلوا ، وأذن لأهل مصر ، فرأوا غير ما رأوا بالأمس ، وقام عليهم القوم بألوان مصر ، فأكلوا أكل أهل مصر ، ونحوا نحوهم ، فافترقوا وقد ارتابوا.

وبعث إليهم : أن يتسلحوا غدا للعرض ، وغدا على العرض ، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم ، ثم قال : إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم ، فخشيت أن تهلكوا ، فأحببت أن أريكم حالهم ، كيف كانت فى أرضهم ، ثم حالهم فى أرضكم ، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم ، وذلك عيشهم ، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى ، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرقوا وهم يقولون : لقد رمتكم العرب برجلهم.

وبلغ عمر ، رحمه‌الله ، ذلك ، فقال لجلسائه ، يعنى عمرا : والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره ، إن عمرا لعض ، ثم أمّره عليها وأقام بها.

وذكر ابن عبد الحكم أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص ، ويظهروا مناطقهم ، ويجزوا نواصيهم ، ويركبوا على الأكف عرضا ، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ، ولا يضربوا على النساء ، ولا على الولدان ، ولا يدعوهم يتشبهون (١) بالمسلمين فى لبوسهم (٢).

قال : ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم ، وأرزاق عيالهم جارية ، فلا يزرعون ، يعنى الأجناد ، ولا يزارعون.

فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال : إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو : ما أقدر على ذلك ، فزرع شريك بغير إذنه ، فكتب

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٥١).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٦٢).


عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمره أن يبعث إليه شريكا ، فأقرأ عمرو شريكا الكتاب ، فقال له شريك : قتلتنى يا عمرو قال : ما أنا قتلتك قال : أنت صنعت هذا بنفسك قال : فإذا كان هذا من رأيك فأذن لى فى الخروج إليه من غير كتاب ، ولك علىّ عهد الله أن أجعل يدى فى يده ، فأذن له ، فلما وقف على عمر قال : تؤمننى يا أمير المؤمنين؟ قال : ومن أى الأجناد أنت؟ قال : من جند مصر ، قال : فلعلك شريك بن سمى الغطيفى؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ، قال : لأجعلنك نكالا لمن خلفك ، قال : أو تقبل منى ما قبل الله من العباد؟ قال : وتفعل؟ قال : نعم ، فكتب إلى عمرو بن العاص : إن شريك ابن سمى جاءنى تائبا فقبلت منه.

وعن الليث بن سعد (١) قال : سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار ، فعجب عمرو من ذلك وقال : أكتب فى ذلك إلى أمير المؤمنين ، فأجابه عمر عن كتابه إليه فى ذلك : سله لم أعطاك به ما أعطاك ، وهى لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها. فسأله عمرو ، فقال : إنا لنجد صفتها فى الكتب أن فيها غراس الجنة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأجابه : إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين ، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له : عامر ، فقيل : عمرت.

قالوا (٢) : ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين ، فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس ، يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة أشهر ، وربعا فى السواحل ، والنصف الثانى مقيمون معه.

وقيل : كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها ، ويكثفون رابطتها ، ولا يأمنون الروم عليها.

وكتب عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه ، وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعد أن استعمله على مصر :

قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية ، وقد نقضت مرتين ، فألزم الإسكندرية رابطتها ، وأجر عليهم أرزاقهم ، وأعقب بينهم فى كل ستة أشهر.

وكان عمرو بن العاص يقول : ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة ، وقال : نيل مصر سيد

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٥٧).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٩٢).


الأنهار ، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها ، وفجر له الأرض عيونا ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.

ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم ، فقالوا له : أيها الأمير ، إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. فقال : وما ذاك؟ قالوا : إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها فى هذا النهر. فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون فى الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء ، فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إليه عمر ، رضي‌الله‌عنه :

قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل.

فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها :

من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر : أما بعد ، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.

فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم ، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها ؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ، عزوجل ، ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.

ذكر فتح أنطابلس

قال ابن عبد الحكم (١) : كان البربر بفلسطين ، يعنى فى زمان داود عليه‌السلام ، فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية ، وهما كورتان من كور مصر الغربية ، مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل ، فتفرقوا هنالك ، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواتة فسكنت أرض أنطابلس وهى برقة ، وتفرقت فى هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ، ونزلت هوارة مدينة لبدة ،

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٧٠ ، ١٧١).


ونزلت نفوسة مدينة صبرة ، وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك ، وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم ، وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام.

فسار عمرو بن العاص فى الخيل حتى قدم برقة ، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية ، على أن يبيعوا من أبنائهم فى جزيتهم ، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابى خراج ، وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها.

ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة. قال الطبرى : فافتتحها بصلح ، وصار ما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقال أبو العالية الحضرمى : سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول : لأهل أنطابلس عهد يوفى لهم به.

فتح أطرابلس

قال ابن عبد الحكم (١) : ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس فى سنة اثنتين وعشرين ، فنزل القبة التي على الشرف من شرقيها ، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء ، فخرج رجل من بنى مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا فى سبعة نفر ، فمضوا غربى المدينة حتى أمنعوا عن العسكر ، ثم رجعوا فأصابهم الحر ، فأخذوا على ضفة البحر ، وكان البحر لاصقا بسور المدينة ، ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور ، وكانت سفن الروم شارعة فى مرساها إلى بيوتهم ، فنظر المدلجى وأصحابه ، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة ، ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذي حسر عنه البحر ، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا ، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم ، وأبصر عمرو وأصحابه السلمة فى جوف المدينة ، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم ، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم ، وغنم عمرو ما كان فى المدينة.

وكان من بصبرة متحصنين ، وهى المدينة العظمى وسوقها السوق القديم ، فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس ، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا.

فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته ، وأمرهم بسرعة السير ، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم ، فدخلوها فلم ينج منهم أحد ، واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو.

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٧١ ـ ١٧٣).


قال : ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب ، فكتب إلى عمر بن الخطاب : إن الله ، عزوجل ، قد فتح علينا أطرابلس ، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام ، فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل.

فكتب إليه عمر : لا ، إنها ليست بإفريقية ، ولكنها المفرقة ، غادرة مغدور بها ، لا يغزوها أحد ما بقيت.

قال : وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس ، يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه ، وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث ، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه.

قال : وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون ، يعنى من أطراف إفريقية.

ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة

عثمان رضي‌الله‌عنه(١)

قال عبد الرحمن بن عبد الحكم : وفى سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو ابن العاص عن مصر ، وولى عبد الله بن سعد (٢). وقد كانت الإسكندرية انتقضت ، وجاءت الروم عليهم منويل الخصى فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية ، فأجابهم من بها من الروم ، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث ، فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم ، فإن له معرفة فى الحرب وهيبة فى العدو ، ففعل.

فخرج إليهم عمرو فى البر والبحر ، وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط. فأما الروم فلم يطعه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو : ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها. قال عمرو : لا ، ولكن دعهم حتى يسيروا إلىّ ، فإنهم يصيبون من مروا به فيجزى الله بعضهم ببعض ، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى ، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها ، ويأكلون أطعمتها ،

__________________

(١) الخبر منقول عن ابن عبد الحكم فى فتوح مصر وأخبارها (ص ١٧٤ ـ ١٩١).

(٢) هو : عبد الله بن سعد العامرى. انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٢١٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٨٤) ، البداية والنهاية (٥ / ٣٥٠) ، الإصابة ترجمة رقم (٤٧٢٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٩٧٦).


وينتهبون ما مروا به ، فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس (١) ، فلقوهم فى البر والبحر ، فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب فى الماء رميا شديدا ، حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو فى لبته وهو فى البر ، فعقر فنزل عنه ، ثم خرجوا من البحر ، فاجتمعوا هم والذين فى البر فنصحوا المسلمين بالنشاب ، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا ، وحملوا حملة ولى المسلمون منها ، وانهزم شريك بن سمى فى خيله.

وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف ، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب ، فدعا إلى البراز ، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له : حومل ويكنى أبا مذحج ، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف ، وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة ، وجعل عمرو يصيح : أبا مذحج فيجيبه : لبيك ، والناس على شاطئ النيل فى البر على تعبئتهم وصفوفهم ، فتجاولا ساعة بالسيفين ، ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا ، ويخترط حومل خنجرا كان فى منطقته أو فى ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته ، فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه ، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام ، رحمة الله عليه ، فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودى نعشه حتى دفنه بالمقطم.

قال : ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم ، وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ، ففتح الله عليهم وقتل منويل الخصى.

قال الهيثم بن زياد : وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن فى مدينتهم ، فكلم فى ذلك فأمر برفع السيف عنهم ، وبنى فى ذلك الموضع مسجد ، وهو الذي يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة ، سمى بذلك لرفع عمرو السيف هنالك.

وكان عمرو حلف : لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان ، فلما أظفره الله هدم سورها كله.

وجمع عمرو ما أصاب منهم ، فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض ، فقالوا : قد كنا على صلحنا ، ومرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم فى يديك ، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة.

وقال بعضهم لعمرو : ما حل لك ما صنعت بنا ، وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا فى ذمتك ولم ننقض ، فأما من نقض فأبعده الله. فندم عمرو وقال : يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.

__________________

(١) نقيوس : قرية كانت بين الفسطاط والإسكندرية. انظر : معجم البلدان (٥ / ٣٠٣).


وكان سبب نقض الإسكندرية ، فيما ذكر ابن عبد الحكم ، أن صاحب أخناء قدم على عمرو بن العاص فقال : أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها ، فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك ، إنما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم ، فغضب صاحب أخناء ، فخرج إلى الروم فقدم بهم ، فهزمهم الله ، ، وأسر ذلك النبطى ، فأتى به إلى عمرو ، فقال له الناس : اقتله ، فقال : لا ، بل انطلق فجئنا بجيش آخر.

وقيل : إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان ، وقال له : ايتنا بمثل هؤلاء ، فرضى بأداء الجزية.

فقيل له : لو أتيت ملك الروم؟ فقال : لو أتيته لقتلنى وقال : قتلت أصحابى.

وذكر ابن عبد الحكم ، أيضا ، أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل فى سنة خمس وثلاثين فقالوا : تترك الإسكندرية فى أيدى العرب وهى مدينتنا الكبرى؟ فقال : ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب؟ قالوا : فاخرج على أن نموت ، فتبايعوا على ذلك ، وخرج فى ألف مركب يريد الإسكندرية ، فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم ، إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية ، فسألوه عن أمره فأخبرهم ، فقالوا : شأمت النصرانية وأفنيت رجالها ، فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم ، ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه ، فقال : ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم؟ قالوا : كأنه غرق معهم ، ثم قتلوه وخلوا من كان معه فى المركب.

ذكر غزو إفريقية وفتحها(١)

قال ابن عبد الحكم (٢) : ولما عزل عثمان ، عمرو بن العاص عن مصر وأمّر عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، كان يبعث المسلمين فى جرائد الخيل كما كانوا يفعلون فى إمرة عمرو بن العاص ، فيصيبون من أطراف إفريقية ويغنمون ، فكتب عبد الله بن سعد فى ذلك إلى عثمان ، وأخبره بقربها من حوز المسلمين ، واستأذنه فى غزوها ، فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه ، فلما اجتمع الناس أمّر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله بن سعد ، فيكون إليه الأمر ، فخرج عبد الله إليها ، وكان

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٣).


عليها ملك يقال له : جرجير ، كان هرقل استخلفه فخلعه ، وكان سلطانه ما بين أطرابلس إلى طنجة ، ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة ، فلقى عبد الله جرجير ، فقاتله فقتله الله ، وولى قتله عبد الله بن الزبير ، فيما يزعمون ، وهرب جيش جرجير ، فبعث عبد الله السرايا وفرقها ، فأصابوا غنائم كثيرة ، فلما رأى ذلك رؤساء أهل إفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم ، فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر ، ولم يول على إفريقية أحدا ، ولا اتخذ بها قيروانا.

ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء ، فقال : من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكى وأزوجه ابنتى؟ فبلغ ذلك عبد الله فقال : أنا أصدق من العلج ، وأوفى بالعهد! من يقتل جرجيرا فله ابنته ، فقتله عبد الله بن الزبير ، فدفع إليه عبد الله ابنته.

وذكر ابن عبد الحكم (١) ، عن أبيه وابن عفير : أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار فى سهمه ، فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له ، فجعل يرتجز :

يا ابنة جرجير تمشى عقبتك

إن عليك بالحجاز ربّتك

لتحملنّ من قباء قربتك

فقالت : ما تقول؟ وسبته فأخبرت بذلك ، فألقت بنفسها عن البعير الذي كانت عليه ، فاندقت عنقها فماتت. فالله أعلم أى ذلك كان.

وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار : للفرس ألفا دينار ، ولفارسه ألف دينار ، وللراجل ألف ، وقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام ، فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار.

وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذي وقع له القسم عشرين ألفا.

وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عقبة بن نافع ، ويقال : بل عبد الله ابن الزبير ، وهو أصح.

وسار ، زعموا ، عبد الله بن الزبير على راحلته من إفريقية إلى المدينة عشرين ليلة ، ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو ، وبما كان فى تلك الغزوة ، فأعجب عثمان فقال له : هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا؟ قال : نعم ، فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٤ ، ١٨٥).


قال : اقصص عليهم ما أخبرتنى به ، فتلكأ عبد الله بدأ ، ثم تكلم بكلام أعجبهم.

ويروى عن ابن شهاب (١) أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أنا أهيب لك منى لهم ، فأمر عثمان فجمع الناس ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وكان أكره شيء إليه الخطب ، وأحب الأشياء إليه ما كفى ، ثم قال : أيها الناس ، إن الله قد فتح عليكم إفريقية ، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله ، ثم جلس على المنبر.

وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر ، وكان أول من قام إلى جانبه ، فقال : الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة ، وجعلنا متحابين بعد البغضة ، والحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه ، ولا يزول ملكه ، له الحمد كما حمد نفسه ، وكما هو أهله. ابتعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختاره بعلمه ، وائتمنه على وحيه ، فاختار له من الناس أعوانا قذف فى قلوبهم تصديقه ، فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه ، وجاهدوا فى الله حق جهاده ، فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح ، وبقى منهم من بقى ، لا يأخذهم فى الله لومة لائم.

أيها الناس ، رحمكم الله ، إنا خرجنا للوجه الذي قد علمتم ، فكنا مع خير وال ولى فحمد ، وقسم فعدل ، لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا ، كان يسير بنا البردين يخفض بنا فى الظهائر ، ويتخذ الليل حملا ، يعجل الترحل من المنزل الفقير ، ويطيل اللباث فى المنزل المخصب الرحب ، فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم ، حتى انتهى إلى إفريقية ، فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح ، فأقام أياما يجم كراعه ، ويصلح سلاحه ، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه ، وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد ، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم ، فلما يئس منهم قام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر الصلاة عليه ، ثم ذكر فضل الجهاد ، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب ، ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك ، وصبر الفريقان جميعا ، وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة ، واستشهد الله رجلا من المسلمين فبتنا وباتوا ، للمسلمين بالقرآن دوى كدوى النحل ، وبات المشركون فى ملاهيهم وخمورهم.

فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس ، وزحف بعضنا إلى بعض ، فأفرغ

__________________

(١) هو : محمد بن مسلم بن عبد الله الزهرى.


الله علينا الصبر ، ثم أنزل علينا النصر ، ففتحناها من آخر النهار ، فأصبنا غنائم كثيرة ، فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار ، وتركت المسلمين قد قرت أعينهم ، وقد أغناهم النفل ، ووسعهم الحق ، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين ، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين. فأحمد الله على آلائه ، وما أحل بأعدائه من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين (١).

ثم صمت ، ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال : يا بنى ، إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما ، والله ما زلت تنطق بلسان أبى بكر الصديق حتى صمت.

ويروى عن الزبير لما أمر عثمان ، رحمه‌الله ، ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح إفريقية أنه قال : وجدت فى نفسى على عثمان وقلت : يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذي يحق عليه والذي يجمل به! فقام فتكلم فأبلغ وأصاب ، فما فرغ حتى ملأهم عجبا.

وفى كتاب سيف (٢) : أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى إفريقية قال له : إن فتح الله عليك إفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس ، فلما انتهى إلى إفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها ، فقاتلهم فقتله الله ، قتله عبد الله بن سعد ، وفتح الله إفريقية سهلها وجبلها ، واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم ، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس ، فعزل منه لنفسه خمسه ، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان ، وضرب فسطاطا فى موضع القيروان.

ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس ، فقال عثمان : أنا نفلته ، وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال. ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم.

قال : وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس ، وعبد الله بن نافع ابن الحصين الفهريين ، وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال ، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب إفريقية ، وبعد ذلك يسيران إلى الأندلس ، فلما كان الاستيلاء على صاحب إفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس ، وأتياها من قبل البحر.

__________________

(١) انظر : تاريخ دمشق لابن عساكر (٤٢٠ ، ٤٢١).

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٥٤ ، ٢٥٥).


وكان عثمان ، رحمه‌الله قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس : «أما بعد : فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس ، وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها فى الأجر ، والسلام».

وقال كعب : يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها ، يعرفون بنورهم يوم القيامة.

ذكر صلح النوبة(١)

قال ابن عبد الحكم (٢) : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبى سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين ، فقاتلته النوبة قتالا شديدا ، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج ، وأبى شمر بن أبرهة ، وحيويل بن ناشرة ، فيومئذ سموا رماة الحدق ، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وفى ذلك اليوم يقول بعض من حضره :

لم تر عينى مثل يوم دمقله

والخيل تغدو بالدروع مثقله

قال : وكان الذي صولح عليه النوبة ، فيما ذكر بعض المشايخ المصريين ، ثلاثمائة رأس وستين رأسا فى كل سنة. ويقال : بل على أربعمائة فى كل سنة ، منها لفيء المسلمين ثلاثمائة وستون ، ولوالى البلد أربعون ، منها ، فيما زعم بعض المشايخ ، سبعة عشر مرضعا. ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم.

قال : وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط فى بعض الدواوين ، يعنى على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق ، فإذا هو يحفظ منه :

إنا عاهدناكم وعاقدناكم أو توفونا فى كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا ، وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين ، وكذلك ندخل بلادكم ، على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة ، وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة ، وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة.

وقال يزيد بن أبى حبيب : وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق ، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض.

قال ابن لهيعة : وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم.

__________________

(١) انظر : مراصد الاطلاع (٢ / ٥٣٤) ، تهذيب التهذيب لابن حجر (١٠ / ٢٠٣).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٨ ، ١٨٩).


وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس : لا يشترى رقيق النوبة ولا يباعون. فقال الليث : لا علم لمالك بهذا ، نحن أعلم به منه ، إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط ، وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا فى كل سنة ، وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا ، فبذلك نشتريهم ، إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط.

قال ابن عبد الحكم : ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله فى النوبة ، وكلهم كان يشتريهم.

قال : واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة فى انصرافه من بلاد النوبة على شاطئ النيل ، فسأل عنهم ، فأخبر بشأنهم ، فهان عليه أمرهم ، فنفذ وتركهم ، ولم يكن لهم عقد ولا صلح ، وأول من صالحهم عبيد الله بن أبى الحبحاب.

ذكر البحر والغزو فيه

ذكر الطبرى (١) عن سيف عن أشياخه قالوا : ألح معاوية على عمر بن الخطاب فى غزو البحر وقرب الروم من حمص ، وقال : إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم ، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه ، فكتب إلى عمرو بن العاص : صف لى البحر وراكبه ، فإن نفسى تنازعنى إليه ، وإنى أشتهى خلافها ، فكتب إليه عمرو بن العاص : إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ، إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ، هم فيه كدود على عود ، إن مال غرق وإن نحا فرق.

فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية : لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا.

وفى رواية أنه كتب إليه :

إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شيء فى الأرض ، يستأذن الله فى كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها ، فكيف أحمل الجنود فى هذا البحر الكافر المستصعب؟ والله لمسلم واحد أحب إلىّ مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لى ، وقد تقدمت إليك.

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٥٨ ـ ٢٦١).


فلما ولى عثمان بن عفان لم يزل به معاوية ، حتى عزم على ذلك ، وقال له : لا تنتخب الناس ، ولا تقرع بينهم ، خيرهم ، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.

ففعل ذلك معاوية ، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسى حليف بنى فزارة ، فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية فى البر والبحر ، ولم يغرق معه أحد فى البحر ولا نكب ، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية فى جنده ، ولا يبتليه بمصاب أحد منهم ، ففعل الله ذلك له ، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده ، خرج فى قارب طليعة ، فانتهى إلى البر من أرض الروم ، وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان ، فتصدق عليهم ، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها ، فقالت للرجال : هل لكم فى عبد الله بن قيس؟ قالوا : وأين هو؟ قالت : فى المرفأ ، قالوا : أى عدوة الله ، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم ، وقالت : أنتم أعجز منى! أو يخفى عبد الله على أحد؟ فبادروا فهجموا عليه ، فقاتلوه وقاتلهم ، فأصيب وحده ، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه ، فجاءوا حتى أرفوا ، والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودى ، فخرج فقاتلهم ، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم ، فقالت جارية عبد الله : واعبد الله ، ما هكذا كان يقول حين تقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : «الغمرات ثم ينجلين» ؛ فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول ، وأصيب فى المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة : بأى شيء عرفته؟ فقالت : بصدقته ، أعطى كما يعطى الملوك ، ولم يقبض قبض التجار.

غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس

وغزا معاوية بن أبى سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدى.

قال : وهو أول من غزا الروم ، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، حتى لقوا معاوية فكان على الناس.

قال ابن عفير : ومع معاوية امرأته فاختة بنت قرظة ، وكان معه ، أيضا ، فى غزاته أبو الدرداء ، وشداد بن أوس ، وأبو ذر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فى عدة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك ، فقبرها يستسقى به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة.

وأم حرام (١) هذه هى خالة أنس بن مالك ، رضى الله ، وحديثها مشهور فى نوم النبيّ

__________________

(١) انظر ترجمتها فى : الإصابة ترجمة رقم (١١٩٧١) ، الثقات (٣ / ٤٦٢) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٣١٦) ، تقريب التهذيب (١٢ / ٦٢٠) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٦٢).


صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيتها ثم استيقظ وهو يضحك ، فسألته : ما يضحكه؟ فقال : «ناس من أمتى عرضوا علىّ غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» ، فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم! فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك ، فسألته فقال : «ناس من أمتى عرضوا علىّ» (١) ، مثل مقالته الأولى. فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال : «أنت من الأولين» (٢) ، فكانت هذه الغزوة هى التي عرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا. وخرجت أم حرام فيها ، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.

قال ابن عمير : وذلك العام بالشام عام قبرس الأول.

وقيل : إن معاوية توجه إليها من حصن عكا فى مائتى مركب ، قال : وظفر معاوية فى هذه الغزاة ، وأخذ من الأموال والحلى ما لا يحصى.

وقال جبير بن نفير (٣) : لما سبيناهم ، يعنى أهل قبرس ، نظرت إلى أبى الدرداء يبكى ، فقلت : ما يبكيك فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ، وأذل الكفر وأهله؟ فضرب بيده على منكبى ، وقال : ثكلتك أمك يا جبير ، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينا هى أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك ، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ، فسلط عليهم السباء ، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله ، عزوجل ، بهم حاجة.

وذكر الطبرى (٤) أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار ، يؤدونها إلى المسلمين فى كل سنة ، ويؤدون إلى الروم مثلها ، ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك ، على أن لا يغزوهم المسلمون ، ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (١٦٤٥) ، سنن ابن ماجه (٢٧٧٦) ، التمهيد لابن عبد البر (١ / ٢٢٥) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٢ / ٣٠٥) ، موطأ مالك (٤٦٤) ، فتح البارى لابن حجر (١١ / ٧١ ، ١٢ / ٣٩١) ، الأذكار النووية (١٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ١٩ ، ٢٢ ، ٤٠ ، ٤٤ ، ٨ / ٧٨ ، ٩ / ٤٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الإمارة (١٦٠ ، ١٦١) ، سنن النسائى فى كتاب الجهاد ، باب (٣٧) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد ، باب (١٠) ، سنن ابن ماجه (٢٧٧٦) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٣٦١ ـ ٤٢٣) ، فتح البارى لابن حجر (١١ / ٧١) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨٤) ، موطأ مالك (٤٦٥) ، التمهيد لابن عبد البر (١ / ٢٢٥ ، ٢٤١).

(٣) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٢ ، ٢٦٣).

(٤) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٢).


الخروج إلى أرض المسلمين ، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ، وعلى أن يطرق إمام المسلمين عليهم منهم.

وذكر الواقدى (١) ، أيضا ، مصالحة معاوية أهل قبرس فى ولاية عثمان ، رحمه‌الله ، وأن فى العهد الذي بيننا وبينهم ألا يتزوجوا فى عدونا من الروم إلا بإذننا.

قال : وفى هذه السنة ، يعنى سنة ثمان وعشرين ، غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.

غزوة ذات الصوارى(٢)

ذكر الواقدى (٣) أن أهل الشام خرجوا ، وعليهم معاوية بن أبى سفيان ، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية ، فخرجوا فى جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام ، فخرجوا فى خمسمائة مركب ، فالتقوا هم وعبد الله بن سعد ، فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك.

قال مالك بن أوس بن الحدثان (٤) : كنت معهم ، فالتقينا فى البحر ، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط ، وكانت الريح علينا ، فأرسينا ساعة ، وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا ، فقلنا : الأمن بيننا وبينكم. قالوا : ذلك لكم منا ولنا منكم. قلنا : إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل ، وإن شئتم فالبحر ، فنخروا نخرة واحدة ، وقالوا : الماء فدنونا منهم ، فربطنا السفن بعضها ببعض ، حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا ، فقاتلنا أشد القتال ، ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر ، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج ، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.

وقال بعض من حضر ذلك اليوم ، أيضا : رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال ، وإن الدم للغالب على الماء.

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٣).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ٢٨٨) ، المنتظم لابن الجوزى (٥ / ١٢).

(٣) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٩٠).

(٤) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٦١١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٥٦٥) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٥٦) ، المعارف (٤٢٧) ، الجرح والتعديل (٤ / ٢٠٣) ، تاريخ ابن عساكر (٨٤١٦) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢ / ٧٩) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ١٠) ، شذرات الذهب (١ / ٩٩).


ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير ، وقتل من الكفار ما لا يحصى ، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله ، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام ، وانهزم القسطنطين مدبرا ، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا.

وعن حنش الصنعانى (١) قال (٢) : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد ، فلما بلغوا ذات الصوارى (٣) لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة ، فيها القسطنطين بن هرقل ، فقال : أشيروا علىّ ، قالوا : انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس ، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله ، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم ، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض ، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن ، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر ، وو ثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها ، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا ، ثم إن الله نصر المؤمنين ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد ، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم ، ثم أقبل راجعا.

وذكر ابن عبد الحكم (٤) أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال : ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة.

قال : وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال : أشيروا علىّ ، فما كلمه رجل من المسلمين ، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة : إنه لم يبق شيء فأشيروا علىّ ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا : أيها الأمير ، إن الله تعالى يقول : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] ، فقال عبد الله : اركبوا باسم الله ، فركبوا ، وإنما فى كل مركب نصف شحنته ، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر ، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة ، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار. فقال : ما فعلوا؟.

__________________

(١) هو : حنش بن عبد الله الصنعانى.

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٩٢).

(٣) الصوارى : جمع صار ، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٣٥٢).

(٤) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (١٩٠ ، ١٩١).


قالوا : اقتتلوا بالنبل والنشاب ، قال : غلبت الروم. ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟ قالوا : قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة ، قال : غلبت الروم : ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟قالوا : نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف. قال : غلبت الروم.

قال يزيد بن أبى حبيب : وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال ، فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو ، فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم ، فقام علقمة بن يزيد العطيفى وكان فى المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها ، فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال ، وكانت معه يومئذ ، وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم : من رأيت أشد الناس قتالا؟ قالت علقمة صاحب السلسلة. وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال : إن علقمة قد خطبها وله علىّ فيها رأى فإن يتركها أفعل. فكلم عبد الله علقمة فتركها ، فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها ، فتزوجها بعده علقمة ، ثم هلك عنها ، فتزوجها كريب بن أبرهة.

وقال محمد بن الربيع : إنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة المراكب التي اجتمعت فيها : ابن هرقل فى ألف مركب ، والمسلمون فى مائتى مركب ونيف فكثرت الصوارى فى البحر فسميت ذات الصوارى.

وفى بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضى أن ذات الصوارى موضع يسمى هكذا ، فالله تعالى أعلم.

ذكر فتح العراق

وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى

عنه وعن غيره

ذكروا عن على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، قالا : حض الله المسلمين على عهد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس ، ووعدهم ، فتقدم إليهم فى ذلك من قبل غزوهم ، ليحثهم وليدربهم ، فبدأ بالردة فقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ


يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤] ، فسمى من ثبت على دينه بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشاكرين. ثم عاد فى وصف من ناهض منهم أهل الردة ، والمنافقون حشر فى المؤمنين ، وإنما يكلم الله عزوجل ، المؤمنين بما يعنى به المنافقين ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة :٥٤] ، فسماهم أحباء وأثابهم ، حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، يجاهدون ، يعنى جهادا بعد جهادهم أهل الردة ، يقاتلون من بعدهم أهل فارس ، ولا يخافون تخويف من يخوفهم ، هذا فضل الله يخص به من يشاء ، (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) عالم بهذا ، فهم الشاكرون ، وهم الفاضلون ، وهم المقربون ، وهم أحباء الله.

وعن على وابن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، فى قوله عزوجل : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ) الآيتين إلى قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الفتح : ٢٠ ، ٢١] ، «مغانم» فتوحا من لدن خيبر ، تلونها وتضمون ما فيها «فعجل لكم هذه» أى عجل لكم من ذلك خيبر «وكف أيدى الناس عنكم» أيدى قريش بالصلح يوم الحديبية «ولتكون آية للمؤمنين» شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها «وأخرى لم تقدروا عليها» أى على علم وقتها ، أفيئها عليكم : فارس والروم «قد أحاط الله بها» قضى الله بها أنها لكم ، منها : الأيام ، والقوادس ، والواقوصة ، والمدائن الحمر بالشام ، ومصر ، والضواحى ، فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان.

ذكر سيف قال : كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيرى بن كسرى ، وذلك أن أبا بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، حيث فرغ من أهل الردة ، وأقامت جنود المسلمين فى بلدان من ارتد ، كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة : أن ائذن للمسلمين فى القفل إلا من أحب المقام معك ، ولا تكرهن أحدا على القيام ، ولا تستعن فى شيء من حربك بمتكاره ، وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة ، فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله ، فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له ، لا يدخل ذلك فى شيء من موات كل بلد أسلم عليه أهله.

ففعل خالد ، فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببنى حنيفة ، ولما أذن خالد فى القفل قفل الناس ، أهل المدينة ومن حولها ، وسائر من كان معه من أهل القبائل ، وبقى


خالد فى ألفين من القبائل التي حول المدينة ، من مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وضمرة ، وأناس من غوث طيئ ، ونبذ من عبد القيس.

ولما قفل من قفل ، وجه المثنى بن حارثة الشيبانى ، ومذعور بن عدى العجلى ، وحرملة ابن مريطة ، وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين ، والمثنى ومذعور ممن وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا على أبى بكر ، رحمه‌الله ، فقال له حرملة وسلمى : إنا معاشر بنى تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس ، وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق ، وغبقوا المياه ، واتخذوا المسالح فى القصور المشيدة وتحصنوا بها ، فأذن لنا فى حربهم ، فأذن لهما فولاهما على من تابعهما ، واستعملهما على ما غلبا عليه ، وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس ، وكانا من المهاجرين ومن صالحى الصحابة ، فنزلا أطد (١) ونعمان والجعرانة فى أربعة آلاف من تميم والرباب ، وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء (٢) فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء ، وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى (٣).

وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبى بكر استأذناه فى غزو أهل فارس وقالا : إنا وإخواننا من بنى تميم قد دربنا بقتالهم ، وأخذنا النصف من أحد وثنى كل موسم ، فأذن لهما ، وولاهما على من تابعهما ، واستعملهما على ما غلبا عليه ، فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس ، وكانا أول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى ، وقدم المثنى ومذعور فى أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة ، فنزل أحدهما بخفان (٤) ، ونزل الآخر بالمهارق ، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا ، فنفياه وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين (٥) واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة ، وفى ذلك يقول مذعور بن عدى :

غلبنا على خفان بندا وشيحة

إلى النخلات السحق فوق المهارق

وإنا لنرجو أن تجول خيولنا

بشاطى الفرات بالسيوف البوارق

وقال المثنى فى ذلك :

__________________

(١) أطد : أرض قرب الكوفة من جهة البر. انظر : معجم البلدان (١ / ٢١٦).

(٢) انظر : معجم البلدان (٥ / ٣٧٢ ، ٣٧٣).

(٣) الخبر عن سيف بن عمر فى معجم البلدان (٥ / ٣٧٢ ، ٣٧٣).

(٤) خفان : موضع قرب الكوفة. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣٧٩).

(٥) موضع بين الكوفة والقادسية. انظر : معجم البلدان (٣ / ٢٩٨ ، ٢٩٩).


ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر

بأنا سنلقاه على الحدثان

فنحن سللنا شيحة يوم بارق

إلى شرّ دار تنتوى ومكان

ويروى أن أبا بكر ، رحمه‌الله ، لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر :

ومتى تسلف فى قبيل خطة

تلق المنال مضاعفا أو موعبا

وإذا عقدت بحبل قوم مرة

ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا

حيان لا خطما بحبل هضيمة

أنفا الزمام فلم يقرأ مركبا

وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار : أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد ، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره ، فقال عمر : من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه ، فقال له قيس بن عاصم : أما إنه غير خامل الذكر ، ولا مجهول النسب ، ولا قليل العدد ، ولا ذليل العمارة ، ذلك المثنى بن حارثة الشيبانى (١).

ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له : يا خليفة رسول الله ، ابعثنى فى قومى ، فإن فيهم إسلاما ، أقاتل بهم أهل فارس ، وأكفك أهل ناحيتى من العدو. ففعل ذلك أبو بكر ، فقدم المثنى العراق ، فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا مجرّما ، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد ، ويقول : إنك إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ وأذل الله المشركين ، مع أنى أخبرك يا خليفة رسول الله ، أن الأعاجم تخافنا وتتقينا. فقال له عمر : يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة ، يكون قريبا من أهل الشام ، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه. قال : فهذا الذي هاج أبا بكر ، رحمه‌الله ، على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق (٢).

وفى حديث آخر : أنه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة ، وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا.

__________________

(١) انظر : الفتوح لابن أعثم الكوفى (١ / ٨٩) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص ١٤٥٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٦).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص ٥٣ ، ٥٤) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص ١٤٥٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٦ ، ١٠٧).


أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد

رضي‌الله‌عنه (١)

وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة ؛ لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه.

وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة ، وفضلوا الأنصار بالهجرة ، فروى الشعبى وهشام بن عروة قالا : لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر : إنى قد وليتك حرب العراق ، فاحشد من ثبت على الإسلام ، وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق ، من تميم وقيس وأسد وبكر بن وائل وعبد القيس ، ثم سر نحو فارس ، واستنصر الله عزوجل ، وادخل العراق من أسفل العراق ، فابدأ بفرج الهند ، وهو يومئذ الأبلة (٢) ، وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند فى البحر ، ويساجل العرب فى البر.

وقال له : تألف أهل فارس ، ومن كان فى مملكتهم من الأمم ، وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس. نسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان. وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا.

وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج (٣) : أن سر حتى تأتى المصيخ فاحشد من بينك وبينها على إسلامه ، وقاتل أهل الردة فابدأ بهم ، ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا.

فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة ، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمى ، واستمده عياض قبل تحركه ، فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميرى ، وقيل لأبى بكر : أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس؟ فقال : لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع ، وسيحشر من بينه وبين أهل العراق.

وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به ، وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه ، ثم حشد من بينه وبين العراق ، فحشد ثمانية آلاف من مصر

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٤٣ ـ ٣٥٠) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦١ ، ٢٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٢ ، ٣٤٣) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٧٨).

(٢) الأبلة : بلدة على شاطئ دجلة فى زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. انظر : معجم البلدان (١ / ٧٧).

(٣) النباح : موضع بين البصرة ومكة. انظر : معجم البلدان : (٥ / ٢٥٥ ، ٢٥٦).


وربيعة إلى ألفين كانا معه ، فقدم فى عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة ، فلقى هرمز فى ثمانية عشر ألفا.

وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق : أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة ، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه. وقال : فإذا اجتمعتما بالحيرة ، وفضضتما مسالح فارس ، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم ، فليكن أحد كما ردءا لصاحبه وللمسلمين بالحيرة ، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن.

وكتب إليهما : استعينوا بالله واتقوه ، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا ، يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة ، ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم ، ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة ، فما أهون العباد على الله إذا عصوه.

قال : ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة ، فأتى بنفر ، فسأل عن أسمائهم ، فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم : ظفر بن عمرو السعدى ورافع بن عميرة الطائى ، ومالك بن عباد الأسدي.

وجدد خالد التعبئة ، فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التي دخل بها اليمامة ، ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم ، وذلك أن أعلامهم الذين دخل بهم اليمامة قفلوا. فوضع رجالا مكانهم ، وتوخى الصحابة ، ثم توخى منهم الكماة ، فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو (١) ، وعلى ربيعة فرات بن حيان (٢) ، وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميرى أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، وجعل على القبائل دون ذلك ، على نصف خندق ، فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثى ، وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزنى ، وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس ، سعد بن عمارة التغلبى ، وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذى اللحية العامرى ، وضم جديلة إليهم ، وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلى اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس ، واللهازم عجل ، وتيم اللات ، وقيس بن ثعلبة ، وعنزة ، وعلى الدعائم وهم : شيبان بن ثعلبة ، وذهل بن ثعلبة ، وضبيعة

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٣١٥).

(٢) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٣) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٠٧) ، الكاشف (٢ / ٣٧٩) ، الجرح والتعديل (٧ / ٤٤٩ ، ٤٥٠) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٢٥٩) ، الطبقات (٦٥ ، ١٣٢) ، الإصابة ترجمة رقم (٦٩٨٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٢١٣).


ابن ربيعة ، ويشكر بن ربيعة ، يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيبانى ، وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهنى ، وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوى ، وابن زيد الخيل بن مهلهل ، وهؤلاء تحت أيدى أولئك الثلاثة.

واستعمل على المقدمات : المثنى بن حارثة ، وعلى المجنبات : عدى بن حاتم وعاصم ابن عمرو أخا القعقاع ، وعلى الساقة : بسر بن أبى رهم الجهنى صاحب جبانة بسر ، واستخلف على اليمامة وهوافى قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزى ، وكل من أمر له صحبة وقدمة. وخرج قاصدا الهرمز والأبلة.

وقال المغيرة بن عتبة قاضى الكوفة : فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق ، ولم يحملهم على طريقة واحدة ، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر ، وسرح عديا وعاصما ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر ، أحدهما قبل صاحبه بيوم ، وخرج خالد ودليله رافع ، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم.

وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة ، وكان صاحبه يحارب العرب فى البر والهند فى البحر.

وعن الشعبى قال : كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه ، وهرمز صاحب الثغر يومئذ : أما بعد ، أسلم تسلم ، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية ، وإلا فلا تلومن إلا نفسك ، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.

ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى ، وإلى أردشير بن شيرى ، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم فى سرعان أصحابه ليتلقى خالدا ، وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد ، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير ، فاعج يبادر خالدا إليه ، فنزله فعبأ به ، وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أردشير وشيرى آل أردشير الأكبر ، يقال لهما : قباذ وأنوشجان ، فاقترنوا فى السلاسل ، فقال من لم ير ذلك لمن رآه : قيدتم أنفسكم لعدوكم ، فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم : أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة ، وبلغ ذلك هرمز ، فبادره إليها فنزلها وهو حسير.

وكان من أسوإ أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب ، فكل العرب عليه مغيظ ، وقد كانوا يضربونه مثلا فى الخبث والمكر حتى قالوا : «أخبث من هرمز ، وأمكر من هرمز». وتعبأ هو وأصحابه والماء فى أيديهم.


وقدم خالد فنزل على غير ماء ، فقالوا له فى ذلك ، فأمر مناديه فنادى : ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ، ثم جالدوهم على الماء ، فلعمرى ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف ، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم ، فاقتتلوا ، وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها ، وما ارتفع النهار وفى الغائط مقترن.

وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد ، ثم خرج فنادى رجل : أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده. فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز ، فبرز خالد يمشى إليه ، فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد ، وحملت حامية هرمز وغدرت ، فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله.

وحمل القعقاع بن عمرو ، واستلحم حماة هرمز ، فأتاهم وخالد يماصعهم ، فانهزم أهل فارس ، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل ، وجمع خالد الرثاث والسلاسل ، فكان وقر بعير ، ألف رطل ، فسميت ذات السلاسل.

قال : وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فى عشائرهم ، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ، وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة ، فكان هرمز ممن تم شرفه ، فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف ، فنفلها أبو بكر ، رحمه‌الله ، خالدا ، وكانت مفصلة بالجوهر.

وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة : فلما تراجع الطلب من ذلك اليوم ، نادى منادى خالد بالرحيل ، وسار بالناس ، واتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم ، وقد أفلت قباذ وأنوشجان ، وبعث خالد بالفتح وما بقى من الأخماس وبالفيل ، وقرئ الفتح على الناس ، فلما قرئ فيه : «خرجت من اليمامة فى ألفين ، وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف ، فقدمت فى عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة : المثنى ومذعور وحرملة وسلمى» تمثل أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه :

تمنانا ليلقانا بقوم

تخال بياض لامهم السرابا

فقد لاقيتنا فأريت يوما

عماسا يمنع الشيخ الشرابا

تبدل علقما منا بحلو

ينسيك الغنيمة والإيابا

إذا خرجت سوالفهن زورا

كأن على حواركهن غابا

عليها كل متصل بمجد

من الجهتين يلتهب التهابا


ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به فى المدينة ليراه الناس ، جعلت ضعيفات النساء يقلن : أمن خلق الله ما نرى؟ ورأينه مصنوعا ، فرده أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع زر.

وعن زياد بن حنظلة قال : إنى لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين ، إذ أرسل إلىّ أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل ، فقال لى : ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت ، وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم ، وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل؟.

قال زياد : فأقبلت على نفسى أحدثها فقلت : الخليفة وفراسته ، وذكرت قوله : «ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا» ، فما راعنى إلا وأبو بكر يقول : أين أنت يا زياد؟ أما إن خالدا سيتغير له ويتنكر ، ثم يراجع ويعرف الحق. فاستنكره القعقاع بعد ذلك ، ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك :

منعتك من قرنى قباذ وليتنى

تركتك فاستذكت عليك المعاتب

عطفت عليك المهر حتى تفرجت

وملت من الطعن الدراك الرواجب

أجالدهم والخيل تنحط فى القنا

وأنت وحيد قد حوتك الكتائب

وكائن هزمنا من كتيبة قاهر

وكم عجمتنا فى الحروب العجائب

ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة فى آثار القوم ، فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذي فيه المرأة ، فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها فى قصرها ، ومضى المثنى ، وأسلمت فتزوجها المثنى ، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين فى شيء من فتوحهم لتقدم أبى بكر فيهم ، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم ، وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة.

وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم ، والراجل على الثلث من ذلك.

حديث الثّنى والمذار (١)

وكانت وقعة المذار فى صفر سنة اثنتى عشرة ، ويومئذ قال الناس : صفر الأصفار ، فيه يقتل كل جبار ، على مجمع الأنهار.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥١ ، ٣٥٢) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٣) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٨ ، ١٠٩).


ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه ، أمده بقارن بن قربانس ، فخرج من المدائن ممدّا لهرمز ؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة ؛ وانتهى إليه الفلال فتذامروا ، وقال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل : إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا ؛ فاجتمعوا على العدو مرة واحدة ، فهذا مدد الملك وهذا قارن ، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منّا. ففعلوا وعسكروا بالمذار ، واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان ، فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر ؛ فعند ذلك قسم خالد الفيء على من أفاء الله عليه ، ونفل من الخمس ما شاء الله ، وبعث مع الوليد ابن عقبة ببقيته ، وبالفتح إلى أبى بكر ، وبالخبر عن القوم ، وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثنى ، وهو النهر ، وخرج خالدا سائرا إليهم حتى ينزل المذار ، فالتقوا وخالد على تعبئته ، فاقتتلوا على حنق وحفيظة ، وخرج قارن يدعو للبراز ، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش ، فابتدراه ، فسبقه إليه معقل فقتله ، وقتل عاصم أنوشجان ، وقتل عدى قباذ. وكان شرف قارن قد انتهى ؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه فى الأعاجم.

وقتلت فارس مقتلة عظيمة ؛ فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وأقام خالد بالمذار ، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفيء ونفل من الأخماس ما نفل فى أهل البلاء ، وبعث ببقيتها إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه.

وعن الشعبى قال : دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف ، وإلى عاصم وعدى سلب أنوشجان وقباذ ، وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف.

وعن أبى عثمان قال : قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق ، ولو لا المياه لأتى على آخرهم ، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة.

قال الشعبى : لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها.

وأقام خالد بالثنى يسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم ، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا ، وكل ذلك أخذ عنوة ، ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا ، وصاروا ذمة ، وصارت أرضهم خراجا ؛ وكذلك جرى ما لم يقسم ، فإذا اقتسم فلا ، ومن ذلك السبى كان حبيب أبو الحسن البصرى ، وكان نصرانيا.

وقال عزيز بن مكنف : لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أردشير


إلا أن يدعو قوما بعد ما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة ما لم تقتسم ، وبذلك جرت السنة.

وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزنى ، وأمره بنزول الحفير ، وأمره ببث عماله ، ووضع يديه فى الجباية ، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك من أبيات :

فلم أر مثل يوم السيب حتى

رأيت الثنى تخضبه الدماء

وألوت خيلنا لما التقينا

بقارن والأمور لها انتهاء

حديث الولجة (١) وهى مما يلى كسكر من البر

وكانت فى صفر سنة اثنتى عشرة.

قالوا : لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار ، أرسل الأنذرزعر ، وكان فارسيا من مولدى السواد وتنائهم ؛ ولم يكن ممن ولد فى المدائن ولا نشأ بها ، وأرسل بهمن جاذويه فى أثره ، وكان رافد فارس فى يوم من أيام شهرهم ، وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما ؛ فكان لأهل فارس فى كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك ؛ فكان بهمن أحدهم ، فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر (٢) ، ثم جازها إلى الوالجة (٣) ، وخرج بهمن جاذويه فى أثره ، فأخذ غير طريقه فسلك أوسط السواد ، وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة ؛ فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه ، وأجمع السير إلى خالد.

ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة ، نادى بالرحيل ، وخلف سويد بن مقرن ، وأمره بلزوم الحفير ، وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة ، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة ، وترك

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٣ ، ٣٥٤) ، الكامل لابن الأثير (٢٦٣ ، ٢٦٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٥) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٩).

(٢) كسكر : أى عامل الزرع ، وهو بلد بالعراق بين الكوفة والبصرة. انظر : معجم البلدان (٤ / ٤٦١).

(٣) الولجة والوالج : موضع يلى كسكر من البر. انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٣ / ٣٥٣) ، معجم البلدان (٥ / ٣٨٣).


الاغترار ، وخرج سائرا فى الجنود نحو الولجة ، حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه ، فاقتتلوا قتالا شديدا ؛ هو أعظم من قتال الثنى ، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ ، واستبطأ خالد كمينه ؛ وكان قد وضع لهم كمينا فى ناحيتين ، عليهم بسر بن أبى رهم وسعيد بن مرة العجلى ، فخرج الكمين من وجهين ، فانهزمت صفوف العاجم وولوا ؛ وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم ، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه ؛ ومضى الأنذرزعر فى هزيمته ، فمات عطشا. وقام خالد فى الناس خطيبا يرغبهم فى بلاد العجم ، ويزهدهم فى بلاد العرب ، وقال : ألا ترون إلى الطعام كالتراب ، والله لو لم يلزمنا الجهاد فى الله ، والدعاء إليه ، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ، ونولى الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه.

وسار خالد فى الفلاحين سيرته فلم يقتلهم ، وسبى ذرارى المقاتلة ومن أعانهم ، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا.

وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله ، فلما فرغ اتكأ عليه ، ودعا بغذائه.

وقال خالد يذكر ذلك اليوم :

نهكناهم بها حتى استجاروا

ولو لا الله لم يرزوا قبالا

فولوا الله نعمته وقولوا

ألا بالله نحتضر القتالا

وقال القعقاع فى ذلك وأثنى على المسلمين :

ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم

على ولجات البر أحمى وأنجبا

وأقتل للرواس فى كل مجمع

إذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا

فنحن حبسنا بالزمازم بعد ما

أقاموا لنا فى عرصة الدار ترقبا

قتلناهم ما بين قلع مطلق

إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا

حديث ألّيس ، وهى على صلب الفرات (١)

ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٥ ـ ٣٥٨) ، الروض المعطار (ص ٢٩ ، ٣٠) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٥) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٩ ، ١١٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (ص ٣٤٦ ، ٣٤٧).


أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم ؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم ؛ فاجتمعوا إلى أليس ، وعليهم عبد الأسود العجلى ، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بنى عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدى.

وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه : أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له : كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس ، وانطلق بهمهن إلى أردشير ليحدث به عهدا ، ويستأمره فيما يريد أن يشير به ، فوجده مريضا ؛ فعرج عليه ، وأخلى جابان بذلك الوجه ، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها ، واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب ، وعبد الأسود فى نصارى بنى عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة ، وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود ؛ وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم ، فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان ، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم.

ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان : أنعاجلهم أو نغدى الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ، ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان : إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا ، ولكن ظنى أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم ، فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة ، وتداعوا إليها ، وتوافوا عليها.

فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال ، فلما وضعت توجه إليهم ، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره ، ثم برز أمام الصف فنادى : أين أبجر؟ أين مالك بن قيس؟

رجل من خدرة ، فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا ، فبرز له ، فقال له خالد : يا ابن الخبيثة ، ما جرأك علىّ من بينهم ، وليس فيك وفاء!.

وقال :

أنا ابن ذات الحسب الممذوق

إنك فى ضيق أشد الضيق

وضربه فقتله ، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه ، فقال لهم جابان : ألم أقل لكم يا قوم؟ لا والله ما دخلتنى من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم ، فقالوا : تجلدا ، حيث لم يقدروا على الأكل : ندعها حتى نفرغ منهم ؛ ثم نعود إليها. فقال جابان :


وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون ، فالآن فأطيعونى وسموها ؛ فإن كانت لنا فأهون هالك ، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا ، وأبلينا عذرا. فقالوا : لا ، إلا اقتدارا عليهم.

وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر ، وخالد على تعبئته فى الأيام التي قبلها ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن ، فصابروا المسلمين للذى كان فى علم الله أن يصيرهم إليه ، وحرب المسلمون عليهم ، وقال خالد : اللهم لك علىّ إن منحتنا أكتافهم أن لا استبقى منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجرى نهرهم بدمائهم! ثم إن الله ، عزوجل ، كشفهم للمسلمين ، ومنحهم أكتافهم ، فأمر خالد مناديه ، فنادى فى الناس : الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع ، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا ، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم فى النهر ، ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد ؛ حتى انتهوا إلى النهرين ، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس. فضرب أعناقهم ، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون.

ولما رجع المسلمون من طلبهم ، ودخلوا عسكرهم ، وقف خالد على الطعام الذي كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه ، فقال للمسلمين : قد نفلتكموه فهو لكم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى على طعام مصنوع نفله ، فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل ، وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول : ما هذه الرقاع البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم ، ويقول لهم مازحا : هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون : نعم ، فيقول : هو هذا ؛ فسمى الرقاق.

وعن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك فى بطونهم غير متأثليه.

وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بنى عجل ، وكان دليلا صارما ، فقدم على أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بالخبر ، وبفتح أليس ، وبقدر الفيء ، وبعدة السبى ، وبما حصل من الأخماس ، وبأهل البلاء من الناس ، فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره ، قال : ما اسمك؟ قال : جندل. فقال أبو بكر : ويها جندل :

نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الكرّ والإقداما

وأمر له بجارية من السبى فولدت له.


وكان خالد وجنده هم جند المسلمين ، وكتيبة الإسلام ، بهم فض الله أهل فارس ورعبهم ، وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا فى وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام.

وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا ، وفى ذلك يقول الأسود بن قطبة :

قتلنا منهم سبعين ألفا

بقية خربهم غبّ الإسار

سوى من ليس يحصى من قتيل

ومن قد غال جولان الغبار

وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة : لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع فى يدى تسعة أسياف ، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس ، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.

حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير

قتال (١)

ولما فرغ خالد من وقعة أليس ، نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها ، وقد جلا أهلها ، وتفرقوا فى السواد ، فأمر خالد بهدمها وهدم كل شيء كان فى حيزها وكانت مصرا كالحيرة ؛ وكان فرات بادقلى ينتهى إليها ، وكان أليس من مسالحها ، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله.

وبلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة ، سوى الأنفال التي نفلها أهل البلاء.

ولما بلغ ذلك أبا بكر قال : يا معشر قريش ، عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ، أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد.

حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل

به من حديث الحيرة (٢)

ذكر أن الآزادبه كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم ، وكانوا لا يمد

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٨ ، ٣٥٩) ، الروض المعطار (ص ٣١).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٩ ـ ٣٧٣) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٨) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١١١ ، ١١٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٧ ، ٣٤٨).


بعضهم بعضا إلا بإذن الملك ، فلما أخرب خالد أمغيشيا علم أنه غير متروك ، فتهيأ لحرب خالد ، وقدم ابنه ، ثم خرج فى أثره ، فعسكر خارجا من الحيرة ، وأمر ابنه بسد الفرات.

ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل فى السفن مع الأثقال والأنفال ، لم يفجأ خالدا إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك ، فقال الملاحون : إن أهل فارس فجروا النهار ، فسلك الماء على غير طريقه ، فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار ، فتعجل خالد فى خيل نحو الآزادبه ، فلقى على فم العتيق خيلا من خيلهم ، فجأهم وهم آمنون غارته تلك الساعة ، فأنامهم بالمقر ، ثم سار من فوره ، وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلى ، فاقتتلوا ، فأنامهم خالد ، وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله.

ثم قصد خالد للحيرة ، واستلحق أصحابه ، وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف ، فقدم خالد الخورنق ، وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال ، وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه ، وكان عسكره بين الغربين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر فى موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض ، وأهل الحيرة متحصنون ، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره ، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم ، فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض ، وفيه إياس بن قبيصة الطائى ، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغربين وفيه عدى بن عدى المقتول ، وكان ضرار بن مقرن المزنى ، عاشر عشرة إخوة له ، محاصرا قصر بنى مازن وفيه ابن أكال ، وكان المثنى محاصرا قصر بنى بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح ، فدعوهم جميعا ، وأجلوهم يوما ، فأبى أهل الحيرة ولجوا ، فناوشهم المسلمون.

وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء ، فإن قبلوا قبلوا منهم ، وإن أبوا أجلوهم يوما ، وقال : لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.

فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور ، وكان على قتال القصر الأبيض ، فأصبحوا وهم مشرفون ، فدعاهم إلى إحدى ثلاث : الإسلام ، أو الجزاء ، أو المنابذة ، فاختاروا المنابذة ، فقال ضرار : ارشقوهم ، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل ، فأعروا رءوس الحيطان ، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم ، وصبح أمير كل قوم أصحابه


بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديران ، وأكثروا القتل ، فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصور ، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور : يا معشر العرب ، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.

وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة ، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين ، فقالوا له : يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء ، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد ، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله ، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين ، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال : ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى : ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية ، فقال : صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث : إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم ، أو الجزية ، أو المنابذة والمناجزة ، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال : بل نعطيكم الجزية ، فقال خالد : تبا لكم ، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة ، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان : أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا ، وتتابعوا على ذلك ، وأهدوا له الهدايا ، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق ، فقبلها أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، من الجزاء ، وكتب إلى خالد : أن احسب لهم هديتهم من الجزاء ، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.

وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره : أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح ، فقال له خالد : كم أتت عليك؟ قال : مئو سنين ، قال : فما أعجب ما رأيت؟ قال : رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة ، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا ، فتبسم خالد ، قال :

هل لك من شيخك إلا عقله

خرفت والله يا عمرو

ثم أقبل على أهل الحيرة وقال : ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو ، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ، ويستدل به على صحة ما حدثه به ، فقال : وحقك أيها الأمير ، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال : فمن أين جئت؟ قال : أقرب أم أباعد؟ قال : ما شئت ، قال :


من بطن أمى ، قال : فأين تريد؟ قال : ما أمامى ، قال : وما هو؟ قال : الآخرة. قال : فمن أين أقصى أثرك؟ قال : صلب أبى ، قال : ففيم أنت؟ قال : فى ثيابى ، فقال خالد : إنه ليعقل! قال : أى والله وأفيد ، فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به.

وقال خالد : قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها ، القوم أعلم بما فيهم! فقال عمرو : والنملة أعلم بما فى بيتها من الجمل بما فى بيت النملة!.

قالوا : وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا فى حقوه ، فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته ، وقال : ما هذا يا عمرو؟ قال : هذا وأمنة الله سمّ ساعة ، قال : ولم تحتقبه؟ قال : خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت ، وقد أتيت على أجلى ، والموت أحب إلىّ من مكروه أدخله على قومى. فقال خالد : إنه لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها ، وقال : بسم الله خير الأسماء ، ورب الأرض والسماء ، الذي ليس يضر مع اسمه داء ، فأهووا إليه ليمنعوه ، فبادرهم وابتلع السم ، فقال عمرو : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن.

وأقبل على أهل الحيرة ، وقال : لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له ، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب ، وأنها ستفتح على المسلمين. فسأله رجل يقال له : شويل ، كرامة بنت عبد المسيح ، فقال له : «هى لك إذا فتحت عنوة» ، يعنى الحيرة ، فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به ، فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل ، فثقل ذلك عليهم ، فقالت : هونوا عليكم وأسلمونى ، فإنى سأفتدى ، ففعلوا ، وكتب خالد بينه وبينهم كتابا :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابنى عدى ، وعمرو بن عبد المسيح ، وإياس بن قبيصة ، وحيرى بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به ، وعاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل فى كل سنة جزاء عن أيديهم فى الدنيا ، رهبانهم وقسيسيهم ، وجماعتهم ، إلا من كان غير ذى يد ، حبيسا عن الدنيا ، تاركا لها ، وسائحا تاركا للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة. وكتب فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة».

فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه ، فلما نقض أهل السواد بعد موت أبى


بكر وكفروا فيمن كفر ، وغلب عليهم أهل فارس ، ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية ، أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب ، فلم يجبهم إليه ، ودعا بشرط آخر ، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر ، وأعانوا ، واستخفوا وأضاعوا الكتاب ، فلما افتتحها سعد ، أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين ، فلم يجيبوا به ، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون ، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخزرة ، وهو رسم كان عليهم لكسرى فى كل سنة أربعة دراهم على كل رأس.

وفيما حكاه ابن الكلبى من حديث الحيرة أن الذي خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبيصة الطائى ، مع من خرج إليه من أشرافهم ، وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له : ويحك تعقل قال : نعم ، وأفيد. قال خالد : وأنا أسألك ، قال عبد المسيح : وأنا أجيبك. قال : أسلم أنت أم حرب؟ قال : بل سلم. قال : فما هذه الحصون التي أرى؟ قال : بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتى الحليم فينهاه. ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم.

قال : فكانت أول جزية حملت إلى المدينة ، من العراق ، ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان ، وكتب لهم كتابا.

وعن ابن إسحاق أن أول شيء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد ، يقال لها : بانقيا ، وباروسما ، وألّيس ، نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا ، فقبل منهم خالد الجزية ، وكتب لهم كتابا.

قال : ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة ، والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها ، وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا.

وبين الرواة خلاف كثير فى أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء ، فرأيت اختصار ذلك أولى.

وعن الشعبى فى حديث كرامة بنت عبد المسيح لما اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر ، قالت لهم : لا تخطروه ، ولكن اصبروا ، ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين


سنة؟ إنما هذا رجل أحمق رآنى فى شبيبتى فظن أن الشباب يدوم. فدفعوها إلى خالد ، فدفعها خالد إليه ، فقالت : ما أربك إلى عجوز كما قد ترى؟ فأدنى قال : لا ، إلا على حكمى ، قالت : فلك حكمك مرسلا ، فقال : لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه ، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها ، فتسامع الناس بذلك ، فعنفوه ، فقال : ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف ، وخاصمهم إلى خالد ، وقال : كانت نيتى غاية العدد ، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف ، فقال خالد : أردت أمرا وأراد الله غيره ، ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك ، كاذبا كنت أو صادقا.

ومما يروى من شعر ابن بقيلة :

أبعد المنذرين أرى سواما

تروح بالخورنق والسدير

وبعد فوارس النعمان أرعى

قلوصا بين مرة والحفير

فصرنا بعد ملك أبى قبيس

كجرب المعز فى اليوم المطير

تقسمنا القبائل من معد

علانية كأيسار الجزور

وكنا لا يرام لنا حريم

فنحن كضرة الضرع الفجور

نودى الخرج بعد خراج كسرى

وخرج من قريظة والنضير

كذاك الدهر دولته سجال

فيوم فى مساءة أو سرور

وقال القعقاع بن عمرو فى أيام الحيرة (١) :

سقى الله قتلى بالفرات مقيمة

وأخرى بأثباج النجاف الكوانف

فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا

وبالثنى قرنى قارن بالجوارف

ويوم أحطنا بالقصور تتابعت

على الحيرة الروحاء إحدى المصارف

حططناهم منها وقد كاد عرشهم

يميل به فعل الجبان المخالف

مننا عليهم بالقبول وقد رأوا

عيون المنايا حول تلك المحارف

صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا

إلى الريف من أرض العريب النفانف

وقال أخوه عاصم بن عمرو فى ذلك :

صبحنا الحيرة الروحاء خيلا

ورجلا فوق أثباج الركاب

حصرنا فى نواحيها قصورا

مشرفة كأضراس الكلاب

فبادوا بالعريب ولم يحاموا

فقلنا دونكم فعل العراب

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٦٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٨).


فقالوا بل نؤدى الخرج حتى

تزل الراسيات من الضراب

صدفنا عنهم لما اتقونا

وأبنا حيث أبنا بالنهاب

وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه ، لجباية الخراج وحماية البلاد ، وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح ، فنزلوا على السيب فى عرض سلطانه ، وهناك كانت الثغور فى زمانه ، فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة ، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر ، وليس لأحدهم ذمة إلا الذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه ، وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون ، وجنى الخراج إلى خالد فى خمسين ليلة ، وكان الذين ضمنوه رءوس الرساتيق رهنا فى يديه ، فأعطى ذلك كله المسلمين ، فقووا به على أمرهم.

وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة :

ألا أبلغا عنا الخليفة أننا

غلبنا على نصف السواد الأكاسرا

غلبنا على ماء الفرات وأرضه

عشية حزنا بالسيوف الأكابرا

فدرت علينا جزية القوم بعد ما

ضربناهم ضربا يقط البواترا

ولما غلب خالد على أحد جانبى السواد ، دعا برجلين ، أحدهما حيرى والآخر نبطى ، وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس ، أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة. وهذا أحدهما:

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي حل نظامكم ، ووهن كيدكم ، وفرق كلمتكم ، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم ، فادخلوا فى أمرنا ندعكم وأرضكم ، ونجزكم إلى غيركم ، وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون ، على أيدى قوم يحبون الموت كحبكم الحياة».

والكتاب الآخر :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي فض حرمتكم ، وفرق كلمتكم ، وفل حدكم ، وكسر شوكتكم ، فأسلموا تسلموا ، وإلا فاعتقدوا منى الذمة ، وأدوا الجزية ، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة».

ودعا خالد الرجل الحيرى فقال له : ما اسمك؟ قال : مرة. قال : خذ الكتاب ، لأحد الكتابين ، فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم ، أو يسلموا ، وينيبوا. وقال للنبطى : ما اسمك؟ قال : هزقيل. قال : خذ الكتاب ، اللهم ازهق نفوسهم.


وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين فى الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين ، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهرسير ، ومعه الآزادبه ، فى أشباه له.

ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى ، فولى الفرخزاد بن البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه ، وأقام خالد فى عمله سنة ومنزله الحيرة ، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام ، وأهل فارس يخلعون ويملكون ، ليس إلا للدفع عن بهرسير ، وكان شيرى بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى ابن قباذ ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه ، وقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور ، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه.

وعن الشعبى قال : أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة ، يعالج عمل عياض الذي سمى له ، فقال خالد للمسلمين : لو لا ما عهد إلى الخليفة ما كان دون فتح فارس شيء ، وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه ، وقال : فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس ، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن ، حسب ما تقدم من كتاب أبى بكر إليهما بذلك قبل هذا.

فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى؟ ، لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم ، وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر ، ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه ، وفعل فى سواد الأبلة مثل ذلك ، وأقر أمر المسالح على ثغورهم ، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد فى عمل عياض ليقضى ما بينه وبينه ولإغاثته ، فسار حتى نزل بكربلاء ، وأقام عليها أياما ، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب ، فقال له : اصبر فإنى إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فتسكنها العرب ، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم ، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة ، وبذلك أمرنا الخليفة ، ورأيه يعدل نجدة الأمة.

وقال رجل من أشجع فى مثل ما شكاه ابن وثيمة النضرى من أمر الذباب :

لقد حبست بكربلاء مطيتى

وبالعين حتى عاد غثّا سمينها


إذا رحلت من منزل رجعت له

لعمر أبيها إننى لا أهينها

ويمنعها من ماء كل شريعة

رفاق من الذبان زرق عيونها

حديث الأنبار (١) وهى ذات العيون (٢)

وخرج خالد فى تعبيته التي خرج فيها من الحيرة ، على مقدمته الأقرع بن حابس. فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم ، فلم يستطيعوا العرجة ، ولم يجدوا بدا من الإقدام ، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات ، واحتقبوا المنتوجات ؛ لأنها لم تطق السير ، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار ، وقد تحصن أهلها ، وخندقوا عليها ، فأشرفوا من حصنهم ، وعلى الجنود التي قبلهم شيرزاد صاحب ساباط (٣) ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده ، فتصايح عرب الأنبار وقالوا : صبح الأنبار شر ، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد ، وقد سأل عن ما يقولون ، فأخبر به : أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم ، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه ، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة ، فأطاف بالخندق ، وأنشب القتال ، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به ، وتقدم إلى رماته ، فأوصاهم وقال : إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب ، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها ، فرموا رشقا واحدا ، ففقئت ألف عين يومئذ ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون ، وتصايح القوم : عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد ، فرد رسله ، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه ، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم ، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق ، وأرز القوم إلى حصنهم ، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد ، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل ، ليس معهم من المتاع والمال شيء ، فخرج شيرزاد ، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه ، فقال له شيرزاد : إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول ، وأصلهم من العرب ، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم ، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند ، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين ، فعرفت أن المسألة أسلم ، وأن قرة العين لهم ، وأن العيون لا تقر منهم بشيء.

__________________

(١) الأنبار : مدينة بالقرب من بلخ. انظر : معجم البلدان (١ / ٢٥٧ ، ٢٥٨).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٣٧٣ ـ ٣٧٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٩) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١١٢ ، ١١٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٨١).

(٣) سابط : هى سابط كسرى ، موضع بالمدائن. انظر : معجم البلدان (٣ / ١٦٦ ، ١٦٧).


ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون ، وأمن أهل الأنبار وظهروا ، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها ، فسألهم : ما أنتم؟ فقالوا : قوم من العرب ، نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوائلهم نزلوا أيام بختنصر حين أباح العرب ، فلم نزل عنها. فقال : ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا : تعلمنا الخط من إياد ، وأنشدوا قول الشاعر :

قوم إياد لو أنهم أمم

أو لو أقاموا فتهزل النعم

قوم لهم باحة العراق إذا

ساروا جميعا والخط والقلم

(١) فصالح خالد من حولهم ، وبدأ بأهل البوازيج ، فبعث إليه أهل كلواذة (٢) ليعقد لهم ، وكاتبهم عيبته من وراء دجلة.

ثم إن الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا.

حديث عين التمر (٣)

ولما فرغ خالد من الأنبار ، واستحكمت له ، استخلف عليها الزبرقان بن بدر ، وقصد لعين التمر ، وبها يومئذ مهران بن سوسن فى جمع عظيم من العجم ، وعقة بن أبى عقة فى جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران : إن العرب أعلم بقتال العرب ، فدعنا وخالدا. قال : صدقت ، لعمرى لأنتم أعلم بقتال العرب ، وإنكم لمثلنا فى قتال العجم. فخدعه واتقى به ، وقال : دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم.

فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران : ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال : دعونى فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر له ، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم ، وفل حدكم ، ما اتقيته بهم ، فإن كانت لهم على خالد فهى لكم ، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء ، فاعترفوا له بفضل الرأى ، فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق ، وبينه وبين مهران روحة أو غدوة ، فقدم عليه خالد وهو فى تعبئة جنده ، فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه : اكفونا ما

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٣ / ٣٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩).

(٢) كلواذة : موضع بين الكوفة وواسط. انظر معجم البلدان (٤ / ٤٧٧).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٣٧٦ ، ٣٧٧) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١١٢) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٩ ، ٢٧٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩ ، ٣٥٠).


عندكم فإنى حامل ، ووكل بنفسه حوامى ، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه ، فاحتضنه فأخذه أسيرا ، وانهزم صفه من غير قتال ، فاتبعهم المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر.

ولما جاء الخبر مهران هرب فى جنده ، وتركوا الحصن. فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به ، وأقبل خالد فى الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق ، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب ، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان. فأبى إلا حكمه ، فسكنوا إليه.

فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى ، وأمر بعنقه فضربت عنقه ليؤيس الأسرى من الحياة ، فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه ، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين ، وسبى كل من حوى حصنهم ، وغنم ما فيه ، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل ، عليهم باب مغلق ، فكسره عنهم ، وقال : ما أنتم؟ قالوا : رهن ، فقسمهم فى أهل البلاء ، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف ، وحمران مولى عثمان ، ونصير أبو موسى بن نصير ، وسيرين والد محمد بن سيرين ، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك يعير عقة :

ألا أبلغا الوركاء أن عميدها

رهينة جيش من جيوش الزعافر

فبهلا لمن غرت كفالة عتقه

بنى عامر أخرى الليالى الغوابر

أتيح له ضرغامة لا يفله

قراع الكماة والليوث المساعر

أتيحت له نار تسيح وتلتوى

وترمى بأمثال النجوم العناهر

حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد

والخنافس ومصيخ والبشر والفراض (١)

قالوا : ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بما بعثه به إليه من الأخماس ، وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به ، فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة ، وهم محاصروه ، وقد أخذوا عليه الطريق ، فقال له الوليد : الرأى فى بعض الحالات

__________________

(١) انظر : المغازى للواقدى (١ / ٤٠٢) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٦٢ ، ٦٣) ، معجم البلدان (٢ / ٤٨٧) ، الطبرى (٣ / ٣٧٨ ـ ٣٨٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢).


خير من جند كثيف ، ابعث إلى خالد واستمده ، ففعل ، فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا ، فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه : إياك أريد.

لبث قليلا تأتك الجلائب

يحملن آسادا عليها القاشب

كتائب يتبعها كتائب

ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمى ، وخرج فى تعبئته التي دخل فيها العين يريد عياضا ، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم ، وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبى ، وابن الأيهم التنوخى ، وابن الحدرجان ، فأشجوا عياضا وأشجوا به ، فلما بلغهم دنو خالد وهم على رئيسين : أكيدر بن عبد الملك ، والجودى بن ربيعة ، اختلفوا ، فقال أكيدر : أنا أعلم الناس بخالد ، لا أحد أيمن طائرا منه ، ولا أحد فى حرب ، ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه ، فأطيعونى وصالحوا القوم ، فأبوا عليه ، فقال : لن أمالئكم على حرب خالد ، فشأنكم.

فخرج لطيته ، وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معارضا له ، فأخذه وقال : إنما تلقيت الأمير خالدا ، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه ، وأخذ ما كان معه من شيء ، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة ، وعليهم الجودى بن ربيعة ، فجعل خالد دموة بين عسكره وعسكر عياض ، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن ، فلما اطمأن خالد خرج الجودى فنهض بوديعة فزحفا لخالد ، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض ، فاقتتلوا فهزم الله الجودى ووديعة على يدى خالد ، وهزم عياض من يليه ، وركبهم المسلمون ، فأما خالد فإنه أخذ الجودى أخذا ، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة ، وأرز بقية الناس إلى الحصن ، فلم يحملهم ، فلما امتلأ الحصن ، أغلق من فى الحصن الحصن دون أصحابهم ، فبقوا حوله ، وقال عاصم ابن عمرو : يا بنى تميم ، حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم ، فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها ، ففعلوا ، وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم ، وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ، ودعا بالجودى فضرب عنقه ، وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب ، فإن عاصما والأقرع وبنى تميم قالوا : قد أمناهم ، فأطلقهم لهم خالد ، وقال : ما لى ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام؟ فقال له عاصم : لا تحسدهم العافية ، ولا تحرزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بباب الحصن ، فلم يزل عنه حتى اقتلعه ، واقتحموا عليهم ، فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد ،


فاشترى خالد ابنة الجودى ، وكانت موصوفة بالجمال ، ثم إن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار ، وثبت بدومة قليلا ، ثم ارتحل منها إلى الحيرة ، فلما كان قريبا منها حيث يصحبها أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون ، وجعل بعضهم يقول لبعض : مروا بنا فهذا فرج الشر.

قالوا : وقد كان خالد عند ما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة ، فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار ، واتعدا حصيدا والخنافس ، فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة ، فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكى السعدى وأمره بحصيد ، وبعث عروة بن الجعد البارقى وأمره بالخنافس ، وقال لهما : إن رأيتما مقدما فأقدما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف ، وانتظر روزبه وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة ، وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا.

فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبى بكر ، وأن يتعلق عليه بشيء ، فعجل القعقاع وابن عمرو ، وأبا ليلى بن فدكى إلى روزبه وزرمهر ، فسبقاه إلى عين التمر ، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبى ، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى فى عسكر غضبا لعقة ، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع ابن حابس ، واستخلف على الحيرة عياض بن غنم ، وأخذ خالد طريق القعقاع وأبى ليلى حتى قدم عليهما بالعين ، فبعث القعقاع إلى حصيد ، وأمره على الناس ، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس ، وأمره على الناس ، وقال : زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم ، وإلا فواقعاهم ، فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام.

فلما رآهما القعقاع لا يتحركان سار نحو حصيد ، وعلى من به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر ، فأمده بنفسه ، واستخلف على عسكره المهبوذان ، فالتقوا حينئذ فاقتتلوا ، فقتل الله العجم مقتلة عظيمة ، وقتل القعقاع زرمهر وقتل ، أيضا ، روزبه ، قتله عصمة بن عبد الله ، أحد بنى الحارث بن طريف ، من بنى ضبة ، وكان عصمة من البررة ، وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة ، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة ، فكان المسلمون خيرة بررة ، وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة ، وأرز فلّال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.


وقال القعقاع فى ذلك اليوم :

ألم ينه عنا غى فارس أننا

منعناهم من ريفهم بالصوارم

وأنا أناس قد تعود خيلنا

لقاء العادى بالحتوف القواصم

وروزا قتلنا حيث أرهف حده

وكل رئيس زاريا بالعظائم

تركنا حصيدا لا أنيس بجوه

وقد شقيت أربابه بالأعاجم

وإنى لراج أن تلاقى جموعهم

غديّا بإحدى المنكرات الصوادم

ألا أبلغا أسماء أن خليلها

قضى وطرا من روزمهر الأعاجم

وسار أبو ليلى ابن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان ، فلما أحس بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ (١) وبه الهذيل بن عمران ، فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد (٢) وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبى ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ ، وهو بين حوران والقلت ، وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل ، فلما كان فى تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه بالمصيخ ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليهم ، وهم نائمون ، أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه ، فقتلوهم ، وامتلأ الفضاء قتلى ، فما شبهوا إلا غنما مصرعة ، وأفلت الهذيل فى أناس قليل ، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر بن قاسط محضهم النصح ، وأجاد الرأى ، فلم ينتفعوا بتحذيره ، وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة :

ألا فاسقيانى قبل خيل أبى بكر

لعل منايانا قريب ولا ندرى

ألا فاسقيانى بالزجاج وكررا

علينا كميت اللون صافية تجرى

أظن خيول المسلمين وخالدا

ستطرقكم عند الصباح إلى البشر

فهل لكم فى السير قبل قتالهم

وقبل خروج المعصرات من الخدر

أرينى سلاحى يا أميمة إننى

أخاف بيات القوم مطلع الفجر (٣)

وكان حرقوص معرسا بامرأة من بنى هلال تدعى أم تغلب ، فقتلت تلك الليلة ، وقد تقدم من حديث عدى بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب ، قال : أغرنا على المصيخ ، وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر ، وإذا حوله بنوه وامرأته ، وبينهم جفنة من

__________________

(١) المصيخ : موضع بين حوران والقلت. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣٩١).

(٢) حصيد : واد بين الكوفة والشام. انظر : معجم البلدان (٢ / ٢٢٦).

(٣) انظر الأبيات فى : الطبرى (٣ / ٤١٦ ، ٤١٧) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٨٠) ، معجم البلدان لياقوت (١ / ٤٢٧ ، ٥ / ١٤٤).


خمر ، وهم عليها عكوف ، فقال : اشربوا شرب وداع ، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها ، خالد بالعين وجنوده بحصيد ، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا.

ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر

بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر

وقبل منايانا المصيبة بالقدر

لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى

فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل ، فضرب رأسه ، فإذا هو فى جفنته ، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.

وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبى رهم من النمر ، وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة ، وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد ابن العاص إلى الشام ، فاستأذن جرير فى القدوم على أبى بكر ليكلمه فى قومه بجيلة ، وكانوا أوزاعا فى العرب ، ليجمعهم ويتخلصهم ، فأذن له ، فقدم على أبى بكر فذكر له عدة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتاه عليها بشهود ، وسأله إنجازها ، فغضب أبو بكر وقال : ترى شغلنا وما نحن فيه ، من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين : فارس والروم ثم أنت تكلفنى التشاغل بما لا يغنى عنى عما هو أرضى لله ولرسوله ، دعنى وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله فى هذين الوجهين. فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة ، فشهد معه ما كان بعدها من الأيام ، وأصاب يوم المصيخ ، كما ذكرنا ، عبد العزى بن أبى رهم ، وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بإسلامهم ، وسمى عبد العزى عبد الله ، وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة:

وأقول إذ طرق الصباح بغارة

سبحانك اللهم رب محمد

سبحان ربى لا إله غيره

رب العباد ورب من يتودد

فوداه أبو بكر لما بلغه هذا ، وودى لبيدا ، وقال : أما إن ذلك ليس على إذ نازلا أهل حرب. وأوصى بأولادهما.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة ، فيقول أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه : كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب فى ديارهم.

وقد كان ربيعة بن بجير التغلبى نزل الثنى والبشر غضبا لعقة ، وواعد لذلك روزبه وزرمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ ، فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به ، تقدم إلى القعقاع وإلى أبى ليلى ، بأن يرتحلا أمامه ، وواعدهما ليلة ليفترقوا


فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه ، كما فعل بأهل المصيخ ، ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران (١) ، ثم الرنق ، ثم الحماة (٢) ، ثم الزميل (٣) ، وهو البشر (٤) والثنى معه ، وهما شرقى الرصافة ، فبدأ بالثنى ، واجتمع هو وأصحابه ، فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه ، ومن ناشب لذلك من الشبان لذلك من الشبان ، فجرد خالد فيهم السيوف بياتا ، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر ، واستبقى الشيوخ ، وبعث بخمس الله ، عزوجل ، إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع النعمان بن عوف الشيبانى ، وقسم النهب والسبايا ، فاشترى على بن أبى طالب ، رضى الله ، من ذلك السبى ابنة ربيعة التغلبى ، فاتخذها ، فولدت له عمر ورقية.

وقال أبو مقرز فى ذلك :

لعمر بنى بجير حيث صاروا

ومن آذاهم يوم الثنى

لقد لاقت سراتهم فضاحا

وفينا بالنساء على المطى

وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل ، إلى عتاب بن فلان ، وهو بالبشر فى عسكر ضخم ، فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه ، سبقت إليهم الخبر عن ربيعة ، وكانت على خالد يمين : ليبغتن تغلب فى دارها ، فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها ، وأصابوا منهم ما شاءوا ، وقسم خالد فى الناس فيئهم ، وبعث الأخماس إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع الصباح بن فلان المزنى ، ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب (٥) وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد ، فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا ، ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض ، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة ، فأفطر فيها فى رمضان فى تلك السفرة التي اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام ، ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه.

__________________

(١) حوران : كانت كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ومزارع وحرار. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣١٧).

(٢) من المدن المشهورة بالشام ، كانت مدينة عظيمة وكبيرة. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣١٧ ، ٣١٨).

(٣) الزميل : موضع شرقى الرصافة. انظر معجم البلدان (٣ / ١٥١).

(٤) البشر : اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية. انظر : معجم البلدان (١ / ٤٢٦ ـ ٤٢٨).

(٥) الرضاب : موضع الرصافة قبل بناء هاشم إياه. انظر : معجم البلدان (٣ / ٥٠).


قالوا : ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت ، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس ، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر ، فأمدوهم بأجمعهم ، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة ، ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا : إما أن تعبروا إلينا ، وإما أن نعبر إليكم قال خالد : اعبروا إلينا ، قالوا : فتنحوا حتى نعبر ، قال خالد : لا نفعل ، ولكن اعبروا أسفل منا. فقال الروم وفارس بعضهم لبعض : احتسبوا ملككم ، هذا رجل يقاتل عن دين ، وله عقل وعلم ، وو الله لينصرن ولتخذلن ، ثم لم ينتفعوا بذلك ، فعبروا أسفل من خالد ، فلما تتاموا قالت الروم : امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح ، من أينا يجىء ففعلوا ، ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا ، ثم هزمهم الله تعالى.

وقال خالد للمسلمين : ألحوا عليهم ، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه ، فإذا جمعوهم قتلوهم ، فقتل يوم الفراض فى المعركة وفى الطلب مائة ألف ، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ، ثم أذن فى القفل إلى الحيرة ، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم.

وأظهر خالد أنه فى الساقة ، وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذى القعدة مكتتما بحجه ، ومعه عدة من أصحابه ، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت ، فقضى حجه ، ثم أتى الحيرة ، فوافاه بها كتاب أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل ، إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة.

وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى فى بيانه ، وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق ، ومشاطرته إياه فى الناس ، كل ذلك بأمر أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، حسب ما تقدم ذكره.

حديث المثنى بعد خالد (١)

ولما انفصل خالد ، رحمه‌الله ، إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر ، ورجع من تشييعه إلى الحيرة ، فأقام بها فى سلطانه ، ووضع فى المسلحة التي كان فيها على السيب أخاه ، وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء ، ووضع مذعور ابن عدى فى بعض تلك الأماكن.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤١١ ـ ٤١٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٨٧ ـ ٩١).


واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة ، بعد خروجه إلى الشام بقليل ، وذلك سنة ثلاث عشرة ، على شهربراز بن أردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى ، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه فى عشرة آلاف ، ومعه فيل ، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله ، فخرج المثنى من الحيرة نحوه ، وضم إليه أصحاب المسالح ، وجعل على مجنبتيه أخويه : المعنّى ومسعودا ، وأقام له ببابل ، وأقبل هرمز جاذويه ، وقد كتب شهر براز إلى المثنى بن حارثة : «من شهربراز إلى المثنى : إنى قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس ، إنما رعاة الدجاج والخنازير ، ولست أقاتلك إلا بهم».

فكتب إليه المثنى : «من المثنى إلى شهربراز ، إنما أنت أحد رجلين. إما صادق ، فذلك شر لك وخير لنا ، وإما كاذب ، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس الملوك ، وأما الذي يدلنا عليه الرأى ، فإنكم إنما اضطررتم إليهم ، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير».

فجزع أهل فارس من كتابه ، وقالوا : إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه ، وكان يسكن ميسان (١) ، وأن بعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له : جرأت عدونا بالذى كتبت إليهم ، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. ثم التقوا ببابل ، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا ، على الطريق الأول ، قتالا شديدا.

ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل ، وكان يفرق بين الصفوف والكراديس ، فأصابوا مقتله ، فقتلوه وهزموا أهل فارس ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ، حتى جازوا بهم مسالحهم ، فأقاموا فيها ، وتتبع الطلب الفالة ، حتى انتهوا إلى المدائن ، ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه ، واختلف أهل فارس ، وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد فى يد المثنى وأيدى المسلمين.

ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى ، فلم ينفذ لها أمر ، وخلعت ، وملك سابور بن شهربراز ، وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان ، فقاتلا جميعا ، وملكت آزرميدخت ، وتشاغلوا بذلك ، وأبطأ خبر أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، على المسلمين ، فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية ، ووضع مكانه فى المسالح سعيد بن مرة العجلى ، وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين ،

__________________

(١) ميسان : كورة واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط. انظر : معجم البلدان (٥ / ٢٤٢).


ولكى يستأذنه فى الاستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو ، وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم ، إذ كان أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، قد منع من الاستعانة بهم رأسا ، وقال لأمرائه : لا تستعينوا فى حربكم بأحد ممن ارتد ، فإنى لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد ، وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا.

وقال عروة بن الزبير : أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح ، من ذكر أن أبا بكر ، رضي‌الله‌عنه ، استعان فى حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب ، وذكر من قول أبى بكر فى ذلك ما بدأنا به.

قال : ومن زعم أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، حين أذن لمن ارتد فى الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب ، وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه ، رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم ، فمن قبلهم ابتدأت الفتنة ، وعلق عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عند الذي بدا منهم يتمثل بقول الأول :

وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه

فخدشه أنيابه وأظافره

فقدم المثنى بن حارثة المدينة ، وأبو بكر مريض مرضه الذي توفاه الله تعالى ، منه ، وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام ، وقد تقدم ذكر وفاة أبى بكر واستخلافه عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، فى أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام ، وتوفى أبو بكر وأحد شقى السواد فى سلطانه ، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة ، والمسالح بالسيب ، والغارات تنتهى بهم إلى شاطئ دجلة ، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.

فهذا حديث العراق فى خلافة أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، من مبتدئه إلى منتهاه.

ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب

رضي‌الله‌عنه ، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه ، وذكر

أبى عبيد بن مسعود ، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين

رواة الآثار (١)

ذكر سيف عن شيوخه قالوا : أول ما عمل به عمر ، رحمه‌الله ، أن ندب الناس مع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٤٤ ـ ٤٥٤) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٩٧ ـ ٣٠١) ، كنز الدرر للدوادارى (٣ / ١٩٣ ، ١٩٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٦ ، ٢٧).


المثنى بن حارثة الشيبانى إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح ، من الليلة التي مات فيها أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، ثم أصبح فبايع الناس ، وعاد فندب الناس إلى فارس ، وتتابع الناس على البيعة ففزعوا فى ثلاث ، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد ، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم ، وأثقلها عليهم ، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم.

قالوا : فلما كان فى اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق ، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ، وسعد بن عبيد القارى ، حليف الأنصار ، وتتابع الناس.

قال القاسم بن محمد : وتكلم المثنى بن حارثة ، فقال : يا أيها الناس ، لا يعظمن عليكم هذا الوجه ، فإنا قد تبجحنا ريف فارس ، وغلبناهم على خير شقى السواد ، وشاطرناهم ونلنا منهم ، واجترأ من قبلنا عليهم ، ولها إن شاء الله ما بعدها.

وقام عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الناس ، وقال : إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك ، أين المهاجرين عن موعود الله ، عزوجل ، سيروا فى الأرض التي وعدكم الله فى كتاب بأن يورثكموها ، فإنه قال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، والله مظهر دينه ، ومعز ناصره ، ومولى أهله مواريث الأمم. أين عابد الله الصالحون!.

فلما اجتمع ذلك البعث ، وكان أولهم ، كما تقدم أبو عبيد ، ثم ثنى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس ، قيل لعمر ، رحمه‌الله : أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار. فقال : لا والله لا أفعل ، إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء ، فأولوا الرئاسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء ، لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.

ثم دعا أبا عبيد ، ودعا سليطا وسعدا ، فقال لهما : أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى ما لكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش ، وقال له : اسمع من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشركهم فى الأمر ، ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين ، فإنها الحرب ، لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف ، ثم قال له : إنه لم يمنعنى أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب ، وفى التسرع إليها إلا عن بيان ضياع ، والله لو لا ذلك لأمرته ، ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.

ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل ، أمر عليهم أبا عبيد ، فقيل له : استعمل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا ها الله ذا يا أصحاب النبيّ ، لا


أندبكم فتبطئون ، وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم ، فإن نكلتم فضلوكم.

وعجل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، المثنى ، وقال : النجاء حتى يقدم عليك أصحابك. فخرج المثنى ، وقدم الحيرة فى عشر ، ولحقه أبو عبيد بعد شهر.

وفى كتاب المدائنى أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه ، يستمده ويحرضه على أرض فارس ، فذكر بإسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض : أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، قال حين ولى : والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر إياهما ، فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة : أنا بأرض فارس ، وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما فى أيديهم ، ومعى رجال من قومى لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد ، فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم ، قالوا : ولم تكن لعمر ، رحمه‌الله ، همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس ، فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وحثهم على الجهاد ، ورغبهم فيه ، وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين فى سبيله ، وقال : أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل ، وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام ، وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر ، وأنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الفتح : ٢٨] ، وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [التوبة : ٣٣] ، فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس ، فإن لكم بها إخوانا ليسوا مثلكم فى السابقة ، وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] ، ولا تركنوا إلى الدنيا ، واستعينوا بالله واصبروا.

فتثاقل الناس حين ذكر فارس. فقال عمر : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ، فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفى ، فقال : أنا أول من انتدب ، ثم قام سليط بن قيس بن عمرو فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا ثان ، ثم قام رهط من الأنصار ، فسمى منهم نفرا. قال : ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أمر علينا رجلا ، فقال : أؤمر عليكم أول من انتدب ، فاستعمل عليهم أبا عبيد ، وقال : لم يمنعنى من استعمال سليط بن قيس ، وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه ، فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه ، وكان فيمن


انتدب سعد بن عبيد القارى ، ففر يوم الجسر ، فكان بعد ذلك يقول : إن الله اعتد علىّ بغرة فى أرض فارس ، فعسى أن يعيد لى فيها كرة.

وفى حديث غير المدائنى : فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق ، ويقول : إن الله اعتد علىّ فيها بغرة ، وذكر نحو ما تقدم.

واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبى عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه فى ذلك.

فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت ، كلما اختلف الناس بالمدائن ، عدلا بينهم حتى يصطلحوا ، فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل آزرميدخت ، كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد.

قال : فقدم أبو عبيد والعدل بوران ، وصاحب الحرب رستم.

وذكر من طريق آخر : أن بوران هى التي استحثت رستم فى السير ، وكان على فرج خراسان ، لما قتل الفرخزاد ، فأقبل رستم فى الناس حتى نزل المدائن ، لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه ، واقتتلوا بالمدائن ، فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد ، وحصر آزرميدخت ثم افتتح المدائن ، فقتل سياوخش ، وفقأ عين آزرميدخت ، ونصب بوران ، فدعته إلى القيام بأمر فارس ، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم ، على أن تملكه عشر حجج ، ثم يكون الملك فى آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا ، وإلا ففى نسائهم. فقال رستم : أما أنا فسامع مطيع ، غير طالب عوضا ولا ثوابا ، فإن شرفتمونى وصنعتم إلىّ شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم ، إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم. فقالت بوران : اغد علىّ ، فغدا عليها ، ودعت مرازبة فارس ، فكتبت له : بأنك على حرب فارس ، ليس عليك إلا الله عن رضا منا وتسليم لحكمك ، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك فى منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم ، وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا ، ودانت له فارس بعد قدوم أبى عبيد.

فهذا ما ذكره سيف فى شأن مملكة فارس إذ ذاك.

قال : وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين ، ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله ، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل ، وبعث نرسى إلى كسكر ، وبعث المصادمة إلى المثنى ، وبلغ المثنى ذلك ، فضم إليه مسالحه وحذر ، وعجل جابان فنزل


النمارق ، وتوالوا على الخروج ، فخرج نرسى ، فنزل زندورد ، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله ، وخرج المثنى بن حارثة فى جماعة حتى ينزل خفان ، لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه ، فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد.

وأما المدائنى فلم يعرض لما عرض له سيف فى شأن مملكة فارس ، بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ ، فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل : وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه ، فشاور أهل بيته ومرازبته ، فقالوا له : وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب ، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسى ابن خال أبرويز ، وكل واحد فى خمسة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين ، ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل فى أصحابه ، ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك ، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب ، فخرجوا والمثنى بالحيرة ، فبلغه مسيرهم ، فخرج لينزل على البلاد ، فلقى على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله.

ومضى المثنى فنزل من وراء أليس ، ونزل العجم متفرقين ، فنزل نرسى كسكر ، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين ، ونزل رستم بابل ، ونزل جالينوس بارسمى ، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس ، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف ، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمانمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فيهم من ثقيف أربعمائة معهم أبو محجن ، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما.

أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة ، فخرج مع أبى عبيد ، وانضم إلى أبى عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد ، ومائتان من طيئ ، ومائة من بنى ذبيان بن بغيض ، ومائة من بنى عبس ، معهم خمسة وعشرون فرسا ، وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل ، وثلاثمائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب ، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذي كان فيه ، ووضع عيونا على المسلحة التي بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد ، فقال له : إن أذنت لى سرت إليهم ، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد ، وقال لابنه جبر : لا تخالفه ، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا ، فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير ، ورجع إلى أبى عبيد ، ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية ، وكتب أبو عبيد إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بخبر أليس ، فسر المسلمون ونشطوا ، وخرج قوم من المدينة إلى أبى عبيد ، وتقدم أبو عبيد فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية ، وجابان فى ألفين معه ازاذبه ، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون.


وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه ، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير ، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وطهرهم ، وجعل المثنى على الخيل ، فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا ، فهزم الله أهل فارس ، وأسر جابان ، أسره مطر بن فضة أحد بنى تيم الله ، وأسر مردان شاه ، أسره أكتل بن شماخ العكلى ، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه ، وذلك أنه سأله : ما اسمك؟ ، فيما ذكره المدائنى ، فقال له : مردان شاه. قال : وما مردان شاه؟ قال : ملك الرجال. قال : لا جرم والله لأقتلنك ، فقتله. وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لا يعرفه ، وكان جابان شيخا كبيرا ، فقال لمطر : إنكم معشر العرب أهل وفاء ، فهل لك أن تؤمننى وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك وكذا وكذا ، قال : نعم ، قال : فأدخلنى على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه ، فأدخله على أبى عبيد ، فتم له على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد ، فعرفه ناس فقالوا لأبى عبيد : هذا الملك جابان ، وهو الذي لقينا بهذا الجمع ، فقال أبو عبيد : فما تأمروننى ، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا ، معاذ الله من ذلك.

وفى رواية : إنى أخاف الله إن قتلته ، وقد أمنه رجل من المسلمين فى الذمة والتود والتناصر كالجسد ، ما لزم بعضهم لزم كلهم. فقالوا : إنه الملك ، قال : وإن كان لا أعذر به ، فتركه ، وقال له : اذهب حيث شئت.

وهرب أصحاب جابان حين أسر إلى كسكر ونرسى بأسفلها. وكانت كسكر قطيعة له ، وكان النرسيان له ، يحميه لا يأكله بشر ، إلا ملك فارس ، أو من أكرموه فيه بشيء ، ولا يغرسه غيرهم ، فكان ذلك مذكورا من فعلهم فى الناس ، وأن ثمرهم هذا حمى ، فقال رستم وبوران لنرسى : أشخص إلىّ قطيعتك فأحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا ، فلما انهزم الناس يوم النمارق ، ووجهت الفالة نحو نرسى ، ونرسى فى عسكره ، نادى أبو عبيد بالرحيل ، وقال للمجردة : اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى ، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق درونى (١).

ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر ، والمثنى فى تعبئته التي قاتل فيها جابان ، وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان ، فبعثوا إليه الجالينوس ، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابى ، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة ، وعالجهم أبو عبيد ، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية ،

__________________

(١) بارق : ماء بالعراق من أعمال الكوفة. انظر : معجم البلدان (١ / ٣١٩).


فاقتتلوا فى صحار ملس هناك قتالا شديدا ، ثم إن الله ، عزوجل ، هزم فارس ، وهرب نرسى ، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه ، وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم ، وجمع الغنائم ، فرأى من الأطعمة شيئا عظيما ، فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاءوا ، لا يؤثرون فيه ، وأخذت خزائن نرسى ، فلم يكونوا بشيء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان ؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم ، فاقتسمه المسلمون ، فجعلوا يطعمونه الفلاحين.

قال المدائنى : وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه ، فلحق بالمدائن ، وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسى وجالينوس ، فرجعوا إلى المدائن ، ودخل أبو عبيد باروسما ، فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم ، وهيئوا له طعاما فأتوه به ، فقال : لا آكل إلا ما يأكل مثله المسلمون. فقالوا : كل ، فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به ، فأكل ، فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه ، فإذا الذي أكلوا مثل طعامه.

وفى بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذي صنعوا له ، وأتوا به قال لهم : هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا : لا ، قال : فردوه فلا حاجة لنا فيه ، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه ، أو لم يهريقوها فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم!.

قال المدائنى : وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد ، وعاصم بن عمرو الأسدي إلى نهر جوير ، وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابى ، فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى ، وأما أهل الزوابى ونهر جوبر فصالحوا على صلح باروسما ، فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد ، وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة.

وذكر سيف ، أيضا ، أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر ، رحمه‌الله ، وكتبوا إليه : إن الله ، عزوجل ، أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها الناس ، فأحببنا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله.

وقال فى ذلك عاصم بن عمرو :

ضربنا حماة النرسيان بكسكر

غداة لقيناهم ببيض بواتر


وفزنا على الأيام والحرب لاقح

بجرد حسان أو برود غرائر

وظلت فلال النرسيان وتمره

مباحا لمن بين الدبا والأصافر

أبحنا حمى قوم وكان حماهم

حراما على من رامه بالعساكر

وقال ، أيضا ، يذكر ملتقى القوم بالنمارق :

لعمرى وما عمرى علىّ بهين

لقد صبحت بالخزى أهل النمارق

نجوسهم ما بين أليس غدوة

وبين قديس فى طريق البرارق

بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم

يجوسونهم ما بين درتا وبارق

وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف فى أسماء الأعاجم والأماكن ، وفى التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا فى الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث.

ومما ذكروا أن عمرا ، رضي‌الله‌عنه ، تقدم به إلى أبى عبيد حين بعثه فى هذا الوجه وأوصاه بجنده ، أن قال له : إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية ، وتقدم على قوم جرءوا على الشر فعلموه ، وتناسوا الخير فجهلوه ، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك ، ولا يفشون لك سر ؛ فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه ، وإذا ضيعه كان بمضيعة.

حديث وقعة الجسر (١)

ويقال لها : وقعة القس ، قس الناطف ، ويقال لها : المروحة.

وقد جمعت الذي أوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من أحاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم ، رحمه‌الله ، فى كتابه عن سيف بن عمر وغيره ، يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلىّ ، أيضا ، عن أبى الحسن المدائنى فى فتوح العراق ، وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا ، وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا ، إلا أن يعرض فيها ما يتناقض ، فإما أن أسقط ، حينئذ ، أحد النقيضين بعد الاجتهاد فيه وفى الذي أوثر إثباته منهما ، وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك ، وأنسبه إلى من وقع ذكره فى حديثه ، وكثيرا ما مضى عملى فى هذا الكتاب على هذا النحو ، وعليه يستمر ، إن

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٥٤ ـ ٤٥٩) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٧ ـ ٢٩) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٢ ـ ١٨٤).


شاء الله ، قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه.

وأفتتح بما افتتح به المدائنى هذه القصة للذى ذكرته من حسن اتصال حديثه.

قال : ولما فتح أبو عبيد ما فتح ، وهزم تلك الجنود ، ونزل الحيرة ، ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين ، شمتهم ، وأقصاهم ، ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد له على اثنى عشر ألفا ، وقال له : قدم هؤلاء الذين انهزموا ، فإن انهزموا فاضرب أعناقهم ، ودفع إليه درفش كايبان ، راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها ، وكانت من جلود النمور ، عرضها ثمانية أذرع فى طول اثنى عشر ذراعا ، وأعطاه سلاحا كثيرا ، وحمل معه من أداة القتال وآله الحرب أوقارا من الإبل ، ودفع إليه الفيل الأبيض ، فخرج فى عدة لم ير مثلها.

وفى كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك ، وأنه الذي رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الاختلاف فى ملك فارس إلى من كان حينئذ. قال : فقال رستم : أى العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا : بهمن جاذويه ، وهو ذو الحاجب ، فوجهه ومعه الفيلة ، ورد جالينوس معه. وذكر بعض ما تقدم.

وبلغ المسلمون مسيرهم ، فقال المثنى لأبى عبيد : إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولا مثل هذه العدة ، ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب ، فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم ، فإن عبروا إليك قاتلتهم ، واستعنت الله ، قال : إنى لأرى هذا وهنا ، ثم أخذ برأى المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر ، وأقبل بهمن فنزل قس الناطف ، بينه وبين أبى عبيد الفرات ، وأرسل إلى أبى عبيد : إما أن تعبر إلينا ، وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد : نعبر إليكم. فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن لا تعبر إليهم ، فحلف ليعبرن إليهم ، ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصاري : يا أبا عبيد أذكرك الله أن لا تركت للمسلمين مجالا ، فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر ، فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل أدنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا ، ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة ، وأرجو أن يظهرنا الله عليهم. قال : جبنت والله يا سليط. قال : والله إنى لأشد منك بأسا ، وأشجع منك قلبا ، ثم تقدم فعبر ، فقال المثنى لأبى عبيد : والله ما جبن ، ولكن أشار بالرأى ، وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك ، لئن عبرت إليهم فى ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو. وقال : والله لأعبرن إليهم ، وكان رسول بهمن قد قال : إن أهل فارس قد عيروهم ، يعنى المسلمين ، بالجبن


عن العبور إليهم ، فازداد أبو عبيد محكا ، فقال المثنى للناس : اجعلوا جبنها بى ولا تعبروا فقالوا : كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط فى الأنصار وعبر الناس فقال المثنى : إنى لأرى ما تصنعون ولو لا أن خذلانكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم ، ثم عبر ، فالتقى الناس فى موضع ضيق المطرد.

قال : وكانت دومة امرأة أبى عبيد رأت وهى بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب ، فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتى ذكرهم ، فقصتها على أبى عبيد ، فقال : هذه الشهادة إن شاء الله.

فلما التقوا قال أبو عبيد : إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو ، يعنى أخاه ، فإن قتل فأميركم جبر بن أبى عبيد ، يعنى ولده ، فإن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة ابن عمرو بن عمير ، فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير ، فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب ، وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه ، حتى عدّ كل من شرب الإناء ، ثم قال : فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة ، وسير على ميمنته سليط بن قيس ، وعلى ميسرته المثنى.

وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين ، معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد ، فكانت بين الناس مشاولة ، يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا من النهار ، ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل ، وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح ، ولم يقدروا من المسلمين على شيء فانصرفوا عنهم ، ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها ، ثم انصرفوا ، وحملوا عليهم الثالثة فصبروا ، فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون من المسلمين جاءوا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق ، فقصدت فرقة لأبى عبيد فى القلب ، وفرقة لسليط فى الميمنة ، وفرقة للمثنى فى الميسرة ، ثم صاروا كراديس ، فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم ، وعضلت الأرض بأهلها.

وأقبلت الفيلة عليها النخل ، والخيول عليها التجافيف ، والفرسان عليهم الشعر ، فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله ، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم ، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم ، لا تقوى لهم الخيل إلا على نفار ، وخزقهم الفرس بالنشاب ، وعض المسلمين الألم ، وجعلوا لا يصلون إليهم ، فنادى سليط بن قيس : يا أبا عبيد أرأيى أم رأيك أما


والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين ، ثم قال : يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معى ، فحمل فى جماعة أكثرهم من الأنصار ، فقتل وقتلوا ، وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم ، فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا ، وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ، فنادى أبو عبيد : احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها ؛ وواثب هو الفيل الأبيض ، فتعلق ببطانه فقطعه ، ووقع الذين عليه ، وفعل القوم مثل ذلك ؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه ، وقال أبو عبيد : ما لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا : بلى ، مشفرها إن قطع ، فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه ، وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه ، وقيل : بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه.

فلما بصر الناس بأبى عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم ، وأخذ اللواء الذي كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبى عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه ، ثم تجر ثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبى عبيد ، وخبطه الفيل ، وقام عليه ، وتتابع أمراء أبى عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء ، فيقاتل حتى يموت ، وصبر الناس حتى قتلوا ، وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة ، فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائى فجماعة من المسلمين ، فنادى زر : يا معشر المسلمين ، أنا زر ، إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه معه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم ، وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه ، فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم ، فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة ، وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك ، ونظر إليهم المثنى بن حارثة ، فقال لناس من بكر بن وائل : أى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم ، فإن أمسكتم عنهم هلكوا ، وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر ، فحمل على المشركين فى سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة ، كان يعدها للطلب والغارة فى بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى إخوانهم من المسلمين.

ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو فى عشرين فرسا ، إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه : أرى فى المسلمين بقية ، فاحملوا على من بيننا وبين


أصحابنا ، فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين ، وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر الذنوب ، فأبلى أحسن بلاء ، كان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه ، وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه ، فقال المثنى : إن البأس ليس له بمستنكر ، ومضى الناس نحو الجسر ، وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبى وعاصم بن عمرو الأسدي وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى : أيها الناس ، أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب ، ولا تفرقوا أنفسكم. فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفى أو غيره فقطعه وقال : قاتلوا عن دينكم ، فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا ، وأسرع المشركون فيمن صبروا ، وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التي قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس ، وقال المثنى للرجل الذي قطع الجسر : ما حملك على ما صنعت؟ قال : أردت أن يصبر الناس ، ويقال إن سليط بن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر.

وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا ، واستحر القتل يومئذ ببنى عوف بن عقدة رهط أبى عبيد فابيد منهم : أبو عبيد وأمراؤه الذين أمر ، وغيرهم. ويقال : قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا ممن هاجر ، وقتل من المشركين ألفان.

وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف ، قال : خبط الفيل أبا عبيد ، وقد أسرعت السيوف فى أهل فارس ، وأصيب منهم ستة آلاف فى المعركة ، ولم يبق إلا الهزيمة ، فلما خبط أبو عبيد ، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة ، ثم تموا عليها ، وركبهم أهل فارس.

وقال عثمان النهدى : هلك يومئذ ، يعنى من المسلمين ، أربعة آلاف بين قتيل وغريق ، وهرب ألفان ، وبقى ثلاثة آلاف.

ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه ، واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم ، وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم ، فعبره المشركون.

قالوا (١) : وخرج جابان ، ومردانشاه فى ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا المسلمين إلى الطريق ، وبلغ ذلك المثنى ، فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو ، وخرج يريدهما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).


فى جريدة خيل ، فاعترضاه يظنانه هاربا ، فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما ، وقال : أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه.

وخرج أهل أليس على أصحابها ، فأخذوهم فجاءوا بهم إلى المثنى ، فضرب أعناقهم ، وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره.

وقيل : بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه فى المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته ، وقد تقدم فى ذكر ملتقى أبى عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل بن شماخ العكلى أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه ، وأسر مطر بن فضة جابان فخدعه وافتدى منه ، وأحد الأمرين هو الصحيح فى قتل مردانشاه ، فالله أعلم.

وانهزم المشركون ، ومضى المثنى إلى أليس ، وتفرق بنو تميم إلى بواديهم ، ومضى أهل المدينة وأسد غطفان فنزلوا الثعلبية. وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء فى يوم الجسر ما تقدم ذكره ، فقال له المثنى : يا عروة ، أما والله لو أن معى مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى فى مدائنه وما كنت أكره أن ألقى مثل هذا الجمع الذي فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرنى الله بهم ، فهل لك فى المقام معى لا أوثر عليك نفسى ولا أحدا من قومى؟ قال : لا ، إنى كنت مع هذا الرجل ، يعنى أبا عبيد ، وقد أصيب ، فأرجع إلى عمر فيرى رأيه.

فلما نزل الناس التعلبية سألوا عروة أن يأتى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بكتابهم ، فكتبوا إليه : إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد ، وسليط بن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف ، ومنهم من تنكر ، وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بنى شيبان فحماهم فى فوارس ، جزاهم الله عن الإسلام خيرا ، فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا إنّا قد هلكنا ، وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك.

فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله : منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال : ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر ، لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون ، يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار ، وإنما انحازوا إلىّ ، وأنا لهم فئة ، وسيفتح الله عليهم تلك البلاد إن شاء الله ، يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة.


وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة : أما بعد ، فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا ، وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا ، فطوبى لمن قتل فى سبيل الله محتسبا نفسه صابرا ، وقد بلغنى عنك ما كنت أحب أن تكون عليه ، فالزم مكانك الذي أنت به ، وادع من حولك من العرب ، ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل ، أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين ، وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول.

فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر ، ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم ، وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد.

ويقال : إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال : ما لى لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم؟ فقال له الحذاء : ومن قتل؟ قال :

قتل أبو عبيد بن مسعود ، وسليط بن قيس ، فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال ، فقال له عمر : ما تقول ويلك! قال : يا أمير المؤمنين إنّا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن : يا أبا عبيداه ، ويا سليطاه ، وسمعنا قائلا يقول :

إن بالجسر فتية سعداء

صبرا صادقين يوم اللقاء

كم تقى مجاهد كان فيهم

خاشع القلب مستجاب الدعاء

يجأر الليل كله بعويل

ونجيب وزفرة وبكاء

قال : فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى ، وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة ، ويقال : أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال : ما عندك يا ابن زيد؟ قال : أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ، ثم صعد إليه فأخبره ، فقالت عائشة : ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفى فزعا.

ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة ، اشتد ذلك على عمر ، رحمه‌الله ، فرق للناس ورحمهم ، وقال : اللهم إن كل مسلم فى حل منى ، أنا فئة كل مسلم ، من لقى العدو ففزع بشيء من أمره فأنا له فئة ؛ يرحم الله أبا عبيد ، لو كان انحاز إلىّ لكنت له فئة.

وكان معاذ القارئ ممن شهدها وفر يومئذ ، وكان يصلى بالناس فى شهر رمضان على


عهد عمر ، فكان بعد إذا قرأ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الأنفال : ١٦] ، خنقته العبرة وبكى ، فكان عمر يقول : أنا لكم فئة.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد رأى فى النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا ، فرجعوا فلم يجدوا طريقا ، فرفعوا إلى السماء ، فقال عمر : هذه شهادة ، فليت شعرى ما فعل عدوهم؟ فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى فأخبره ، فبكى وقال : ما وجهت أحدا وجها أكره إلىّ من الوجه الذي توجه إليه أبو عبيد.

وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثى أبا عبيد ومن أصيب معه ، وهو ابن عم أبى عبيد وأخو بنى حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه :

أنى تهدت نحونا أم يوسف

ومن دون مسراها فياف مجاهل

إلى فتية بالطف نيلت سراتهم

وغرى أفراس بها ورواحل

وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم

إلى جانب الأبيات حزم ونابل

وأضحى أبو جبر خلا ببيوته

بما كان تعدوه الضعاف الأرامل

ألا قد علت قلب الهموم الشواغل

وراجعت النفس الأمور القواتل

سيعلم أهل الغىّ كيف عزيمتى

ويعلم ودادى الذين أواكل

غناى وأخذى بالذى أنا أهله

إذا نزلت بى المعضلات العضائل

فما رمت حتى خرقوا برماحهم

ثيابى وجادت بالدماء الأباجل

وما رمت حتى كنت آخر راجع

وصرع حولى الصالحون الأماثل

وقد غادرونى فى مكر جيادهم

كأنى غادتنى من الراح شامل

وأمسى على سيفى نزيف ومهرتى

لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل

فما لمت نفسى فيهم غير أنها

إلى أجل لم يأتها وهو عاجل

مررت على الأنصار وسط رحالهم

فقلت لهم هل منكم اليوم قافل

ألا لعن الله الذين يسرهم

رداى وما يدرون ما الله فاعل

وقال أبو محجن أيضا :

يا عين جودى على جبر ووالده

إذا تحطمت الرايات والحلق

يوم بيوم أتى جبر وإخوته

والنفس نفسان منها الهول والشفق


يا خل سل المنايا ما تركن لنا

عزا ننوء به ما هدهد الورق

وقال حسان بن ثابت يرثى سليط بن قيس ومن أصيب من قومه :

لقد عظمت فينا الرزية أننا

جلاد على ريب الحوادث والدهر

لدى الجسر يوم الجسر لهفى عليهم

غداة إذا ما قد لقينا على الجسر

يقول رجال ما لحسان باكيا

وحق لى التبكاء بالنحب والغزر

أبعد أبى قيس سليط تلومنى

سفاها أبى الأيتام فى العسر واليسر

فقل للألى أمسوا أسروا شماتة

به كنتم يوم النزال على بدر

وقالت امرأة من ثقيف :

أضحت منازل آل عمرو قفرة

بعد الجزيل ونائل مبذول

وكأنما كانوا لموقف ساعة

قردا زفته الريح كل سبيل

حديث البويب ووقعة مهران (١)

ولما بلغ عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أمر الجسر ، وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة على بن أبى طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس ، وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص ، فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام ، وقالوا : شاور الناس ، فكتب إلى على وطلحة فقدما عليه ، فجمع الناس فقال : إنى نزلت منزلى هذا وأنا أريد العراق فصرفنى عن ذلك قوم من ذوى الرأى منكم ، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت ، فأشيروا علىّ ، فقال على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم ، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل السابقة والقدم فى الإسلام ، فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد ، وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت ، فقال لهم عمر : أين تريدون؟ فقالوا : سلفنا بالشام. قال : أو غير ذلك ، أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها ، أخوار فارس. فقال مخنف بن سليم الغامدى : مرنا بأحب الوجهين إليك. قال : العراق. قال :

__________________

(١) انظر : فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣١٠ ـ ٣١٢) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٦) ، الطبرى (٣ / ٤٦٠ ـ ٤٧٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٩ ، ٣٠).


فامضوا على بركة الله ، فأمر عمر على الأزد رجلا منهم ، وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثى فشخصوا إلى أرض الكوفة ، فقدموا على المثنى بن حارثة ، فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب.

وفيما ذكره سيف (١) أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر : ذلك وجه قد كفيتموه ، العراق العراق اذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها ، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش ، لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس ، فقال غالب الليثى وعرفطة البارقى ، كل واحد منهما لقومه : يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد ، فقال كل فريق لصاحبهم : إنا قد أطعناك وأجبنا أمير المؤمنين إلى ما أراد ، فدعا لهم عمر بخير ، وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم ، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقى وعامتهم من بارق ، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا فى قومه وهذا فى قومه حتى قدما على المثنى ، وكان عرفجة هذا حليفا فى بجيلة لأمر عرض له فى قومه أخرجه عنهم ، ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.

وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون ، فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط ، فقالوا : يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام ، فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم ، فكلموه ، أيضا ، فلم يأمرهم بشيء ، فقيل له : ما يمنعك؟ قال : إنى لمتردد فيهم منقبض عنهم ، لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله ، وما قدم أحد المدينة أكره إلىّ منهم ، فأمضى نصفهم إلى الشام ، عليهم معاوية بن حديج ، ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط.

وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع ، فقال عمر : سيروا إلى أرض فارس ، قالوا : لا ، ولكنا نسير إلى الشام ، فقال يزيد بن كعب النخعي : أنا أخرج فيمن أطاعنى ، فخرج فى ثلاثمائة أهل بيت من النخع ، وقال هند الجملى : أنا أخرج فيمن أطاعنى ، فخرج فى خمسمائة أهل بيت من مراد ، فكان عمر يقول بعد ذلك: سيد أهل الكوفة سمى المرأة هند الجملى.

ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان ، فقالوا لعمر : خر لنا. قال : أرض العراق.

قالوا : بل الشام ، قال : بل العراق ، فصرفوا ركابهم إلى العراق.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٦٣).


وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله ، وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقى ، حليف لهم ، فقال عمر : اخرجوا إلى العراق ، وأمر عليهم عرفجة ، فقال جرير لبجيلة : أخبروا عمر أنه ولى عليكم رجلا ليس منكم ، وكانت بجيلة قد غضبت على عرفجة فى أمر عرض بينهم وبينه ، فكلموا عمر فى ذلك واستعفوه منه ، فقال : لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما ، وأعظمكم بلاء وإحسانا ، فلما أعلموه أنه ليس منهم ، قال لعرفجة : إن هؤلاء استعفونى منك ، وزعموا أنك لست منهم ، فما عندك؟ قال : صدقوا ، لست منهم وما يسرنى أننى منهم ، أنا امرؤ من الأزد من بارق فى كثف لا يحصى عدده ، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر : نعم الحى الأزد ، يأخذون نصيبهم من الخير والشر.

وقال عرفجة : إنه كان من شأنى أن الشر تفاقم فينا ، ودارنا واحدة ، وأصبنا الدماء ، ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم ، فكنت فى هؤلاء أسودهم وأقودهم ، فحفظوا علىّ لأمر دار بينى وبين دهاقنتهم ، فحسدونى وكفرونى ، فقال : لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك.

وقيل : إن عمر قال : اثبت على منزلتك ودافعهم ، قال : لست فاعلا ، ولا سائرا ، فأمر عليهم جرير بن عبد الله ، وقيل : إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها ، فجمعها إليه عمر ، وقال له جرير : يا أمير المؤمنين إن قومى متفرقون فى العرب ، فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس ، وكانوا متفرقين فى هوزان وغطفان وتميم وفى أزد شنوءة والطائف وجرش ، فكتب عمر إلى القبائل التي فيها بجيلة : أى نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه ، وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به ، فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم ، فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل ، وخرج العتيل والفتيان من بنى الحارث وخرج على وذبيان من الأزد بالسراة ، ولما أعطى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، جريرا حاجته فى استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم ، أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة ، ولما تتاموا قال لجرير : اخرج حتى تلحق بالمثنى ، فكره ذلك جرير ومال إلى الشام ، فقال له عمر : قد علمتم ما لقى إخوانكم بأرض فارس ، فاخرجوا فإنى أرجو أن يورثكم الله أرضهم وديارهم ، ولك الربع من كل شيء بعد الخمس ، وقيل : بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه فى غزاتهم هذه ، له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل ، استصلحهم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بذلك ، إذ كان هواهم


الشام ، فأبى هو عليهم إلا العراق ، وقال لهم : اتخذونا طريقا ، فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف ، وقيل : ألفان ، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى ، فقال عمر : لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابنى نزار ، يعنى تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم ، ثم تتابعت الأمداد.

وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ، ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادى من تميم وبكر ، وجاءت طيئ عليها عدى بن حاتم ، وجاءت أسد ، وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسى ، وجاءت الرباب وعلى تيم وعدى هلال بن علفة ، وعلى ضبة المنذر بن حسان ، وجاءت حنظلة وعمرو ، وطوائف من سعد ، وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة ، وبعث عمر أيضا ، عصمة بن عبد الله الضبى فيمن تبعه من بنى ضبة ، وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم فى الجهاد ويستنفرهم إليه ، فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى.

وذكر المدائنى أن يزدجرد وجه مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدانى أرض العرب ، ويقتل كل عربى قدر عليه.

وفيما ذكره الطبرى عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا إنفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما فى ذلك بوران ابنة كسرى ، وذلك عند ما علما بتوافى أمداد العرب إلى المثنى ، فخرج مهران فى الخيول وجاء يريد الحيرة ، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ ، ما بين القادسية وخفان ، فاستبطن فرات بادقلى ، وأرسل إلى جرير ومن معه : أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا ، فعجلوا اللحاق بنا ، وموعدكم البويب.

وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك ، وقال : خذوا على الجوف ، فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد ، فطلع على النهرين ثم على الخورنق ، وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف ، وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف ، فانتهوا إلى المثنى وهو البويب ، ومهران من وراء الفرات بإزائه ، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلى موضع الكوفة اليوم ، وعليهم المثنى ، وهم بإزاء مهران وعسكره ، فقال المثنى لرجل من أهل السواد : ما يقال لهذه الرقعة التي فيها مهران وعسكره؟ فقال : بسوسا ، فقال : أكدى مهران وهلك ، ونزل منزلا هو البسوس ، وأقام بمكانه حتى كاتبه


مهران : إما أن تعبروا إلينا ، وإما أن نعبر إليكم ، فقال المثنى : اعبروا فعبر مهران ، فنزل على شاطئ الفرات معهم فى الملطاط ، فقال المثنى لذلك السوادى : ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ فقال : شوميا ، وذلك فى رمضان ، فنادى المثنى فى الناس :انهدوا لعدوكم ، فتناهدوا ، ومهران فى ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة ، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب ، فأقبلوا إلى المسلمين فى ثلاثة صفوف ، مع كل صف فيل ، ورجلهم أما فيلهم ، وجاءوا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين : إن الذي تسمعون فشل ، فالزموا الصمت وائتمروا همسا ، والمسلمون أربعة آلاف ، ألفان وثمانمائة من اليمن ، وألف ومائتان من سائر الناس ، ويقال : كانوا ستة آلاف ، وألف ومائتان من تميم وقيس وبكر ، وسائرهم من اليمن.

وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ ، فقال له المثنى : إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لى ، وقال جرير : بل استعملنى ، فقيل : صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى ، فكان هو الأمير ، وقيل : صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك ، ومن قال هذا زعم أن المثنى قال لجرير عند ما نهدوا للعدو : خلنى وتعبئة الناس ، ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة فى القلب ، وصير اليمن ميمنة ، وميسرة ، وقال المثنى : يا معشر المسلمين ، إنى قد قاتلت العرب والعجم ، فمائة من العرب كانوا أشد علىّ من ألف من العجم ، ويقال : إنه قال لهم : قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىّ من ألف من العرب ، ولمائة من العرب اليوم أشد علىّ من ألف من العجم ، إن الله قد أذهب مصدوقتهم ، ووهن كيدهم ، فلا يهولنكم سوادهم ، إن للعجم قسيّا لجا ، وسهاما طوالا هى أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها ، وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها ، فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت ، فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين ، ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى.

وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته ، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال ، ومر على الرايات يحض القبائل ، فقال له شرحبيل بن السمط : ما أنصفتنا يا مثنى ، جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة ، قال : إذا أنصفكم ، الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله ، وما عهدى بمعد يدرى بالناس من البأس ، ثم صير تميما مع الأزد فى الميمنة ، وصير ربيعة مع كندة فى الميسرة ، وصفوا صفوفهم ، وقال : الزموا الصمت فإنى مكبر ثلاث تكبيرات ، فإذا


كبرت الثالثة فاحملوا ، فنظر إلى سعد بن عبيد الأنصاري قد نصل من الصف ، فقال : من أنت؟ قال : سعد بن عبيد ، فررت يوم الجسر من الزحف ، فأردت أن أجعل توبتى من فرتى أن أشرى نفسى لله. فقال له : إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك.

وقال جرير : يا معشر بجيلة ، إن لكم فى هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم ، فاصبروا التماس إحدى الحسنيين : الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة ، ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة ، بحسب امرئ من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق.

ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم ، ولكلهم يقول : إنى لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم ، والله ، ما يسرنى اليوم لنفسى شيء إلا وهو يسرنى لعامتكم ، فيجيبونه بمثل ذلك ، وأنصفهم المثنى فى القول والفعل ، وخالط الناس فى المكروه والمحبوب ، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ، ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع ، فقال : يا أخا بنى العنبر ، إنك لمن قوم صدق فى اللقاء ، أما والله يا بنى تميم إنكم لميامين فى الحرب ، صبر عند البأس ، إنى لأرجو أن يعز الله بكم دينه.

وقال للأزد : اللهم صبحهم برضوانك ، وادفع عنهم عين الحاسد ، أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه ، وإنى لأرجو أن يأتى العرب اليوم منكم ما تقر به أعينهم ، ونظر إلى فوارس من قيس فى القلب فقال : نعم فتيان الصباح أنتم ، اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر ، يوما كبعض أيامكم ، ونظر إلى ناس من طيئ فى القلب ، فقال : جزاكم الله خيرا ، فنعم الحى أنتم فى اللقاء وعند العطاء ، فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة وفيها بكر وكندة فصبروا لهم ، ثم شدت عليهم الثانية فانكشفت بكر وكندة ، فقال المثنى : إن الخيل تنكشف ثم تكر ، يا معشر طيئ الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم ، واعترض الكتيبة التي كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم ، فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة ، وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه ، وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول : اللهم عليك تمام النصر ، هذا منك ، فلك الحمد ، فقال له مخنف بن سليم الغامدى : الحمد لله الذي عافاك ، فقد كنت أشفقت عليك. قال : كم من كربة قد فرجها الله ، هل منعم عليه يكافئ ربه بنعمة من نعمه!!.


وكانت هزيمة المشركون ، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم ، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا ، فلا يسمع إلا هرير الرجال ، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى ، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك ، وقالوا حين رأوا نزول العجم بالعرب : نقاتل مع قومنا ، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال ، فقال : يا أنس ، إنك امرؤ عربى ، وإن لم تكن على ديننا ، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى ، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك ، فأجاباه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته ، ثم خالطوهم ، واجتمع القلبان ، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل ، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم ، لا المسلمون ولا المشركون ، وقد كان المثنى قال لهم : إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف ، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم ، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون ، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين ، والمجنبات قد هز بعضها بعضا ، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر ، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم : إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم ، انصروا الله ينصركم ، حتى هزم القوم.

وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم ، فجعل بتقدم بها ، فقال له رجل : لو تأخرت قليلا ، فقال :

أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا

أو يصنع الله لنا فيفتحا

وقاتل حتى قتل ، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول : اللهم إليك أسعى لترضى ، وإياك أرجو فاغفر ذنبى ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم ، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب ، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه ، فأتى به ابنه ، وهو غلام مراهق ، فقال : دونك رأس قاتل أبيك ، فعض الفتى بأنفه ، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل ، فقال : يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو ، فاتبعه عمه جندب وهو يقول : يا عجل ، قتلت ابن أخى ، فلحقه وقد قتل رجلا ، فرده ، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة ، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة ، فقاتل حتى قتل ، ودارت بينهم رحى الحرب ، وأخذت جرير الرماح فنادى : وا قوماه ، أنا جرير ، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص ، وشدت جماعة على مسعود بن


حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا ، فطعن رجلا فقتله ، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه ، فوقف عليه أخوه المثنى فقال : هكذا مصارع خياركم ، وقيل : إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك ، منهم خالد بن هلال ، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن ، وقال : والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب ، أقدموا وصبروا ، ولم يجزعوا ولم يتكلموا ، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب ، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال : يا معشر كعب بن وائل ، ارفعوا رايتكم رفعكم الله ، لا يهولنكم مصرعى ، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدي وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة.

وقال ربعى بن عامر ، وشهدها يومئذ مع أبيه : احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة ، فالله أعلم.

وقال يومئذ لعروة رجل من قومه ، ورآه يقدم : أهلكت قومك يا عروة ، فقال :

يا قوم لا تعنفونى قومى

لا تكثروا عدلى ولا من لومى

لا تعدونى النصر بعد اليوم

وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول :

إن تسألوا عنى فإنى مهران

أنا لمن أنكرنى ابن باذان

فعجب من أن يتكلم بالعربية ، فقيل له : إنه ولد باليمن ، ويقال : إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن ، وكان أبوه عاملا لكسرى.

وأبصر جرير بن عبد الله ، مهران يقاتل ، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه ، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه ، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه ، وقيل فى قتله غير هذا ، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى ، فجعل الناس يحيدون عن مهران ، فقال زيد : ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟ قيل : كرهوه ، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين ، فأطن مهران يده ، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله ، فابتدر المسلمون


سلبه ، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف ، نفله إياه الأمير ، فكان زيد يقول : من يشترى سيفا وهذا أثره ، ويخرج يده الجذماء فيريها ، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذي قتل مهران ، فالله أعلم.

وهزم المشركون فأتوا الفرات ، واتبعهم المسلمون ، فانتهوا إلى الجسر ، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر ، فحالوا بين الباقين وبينه ، فأخذوا يمينا وشمالا ، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا ، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض ، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا ، فعبر من بقى منهم الجسر ، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط ، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر.

ويقال : إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور ، ثم ندم على ذلك وقال : لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم ، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس ، فإنما كانت زلة ، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع.

ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء ، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها.

حدث أبو روق قال : والله إن كنا لنأتى البويب ، يعنى بعد ذلك بزمان ، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال : وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف.

واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم ، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس ، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا ، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى : أخبرنى عنك ، فقال قرط بن جماح العبدرى : قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت : مهران ، ورجوت أن يكون إياه ، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا.

وقال ربعى وهو يحدث المثنى : لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت : تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة ، فأجابونى فولى الله كفالتى.


وقال ابن ذى السهمين محدثا : قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف ، فما ذكره إلا لفضل فيه ، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم ، وازحفوا فما لقول الله من خلف ، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت.

وقال عرفجة محدثا : حزنا كتيبة منهم إلى الفرات ، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر ، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى : لو أخذت رايتك ، فقلت علىّ إقدامها ، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح.

وقد كان المثنى قال يومئذ : من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال : يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء ، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه ، نفلا من أمير المؤمنين ، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون ، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة.

ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال : أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

وكان هذا المستنثل ، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصاري ، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو ، فقيل للمثنى : ألا ترى إلى هذا الرجل الذي يريد أن يستنثل ، فركض إليه ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تريد أن تصنع؟ قال : فررت يوم أبى عبيد ، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل ، قال : إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك ، ولكن أدلك على ما هو خير لك ، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو ، فأطاعه وثبت مكانه ، فكان يومئذ أول منتدب.

فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم ، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس ، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل ، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب ، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم ، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل ، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وألقى الله الرعب فى قلوب


أهل فارس ، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى ، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير : إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت ، وليس دون القوم شيء ، فأذن لنا فى الإقدام ، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهلها منهم ، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى.

قالوا : وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا ، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس ، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة ، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد ، فقال عمرو : هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش ، وبشروهن بالفتح.

ولما أهلك الله ، عزوجل ، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة ، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا ، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف ، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه ، ومن نقض أغاروا عليه ، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم.

وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة.

وتنازع ، أيضا ، المثنى وجرير الإمارة ، وكان المثنى أحب إلى نزار ، وجرير أحب إلى اليمانية ، فكتب إلى عمر ، رحمه‌الله ، فى ذلك ، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره.

وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس ، ويقال شراف ، وهو وجع من جراحات به ، وارتحل معه عامة النزارية ، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال ، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم ، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل ، فبنو شيبان تقول : كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى ، وبجيلة تقول : كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد ، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب ، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل ، فالله تعالى أعلم.


وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة :

هاجت عليك ديار الحرب أحزانا

واستبدلت بعد عبد القيس همذانا

وقد أرانا بها والشمل مجتمع

أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا

كأن الأمير المثنى يوم راجفة

مهران أشجع من ليث بخفانا

أزمان سار المثنى بالخيول لهم

فقتل الزحف من رجلى وركبانا

سما لمهران والجيش الذي معه

حتى أبادهم مثنى ووحدانا

إذ لا أمير أراه بالعراق لنا

مثل المثنى الذي من آل شيبانا

حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد (١)

ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس ، قرية من قرى الأنبار ، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة ، وغزاة أليس الآخرة ، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية ، وأرسل جريرا إلى ميسان ، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى ، وبالكلح الضبى ، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين ، ألزّ به رجلان : أحدهما أنبارى والآخر حيرى ، يدله كل واحد منهما على سوق ، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس ، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى : أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا : بينهما أيام ، فقال : أيهما أعجل؟ قالوا : سوق الخنافس يتوافى إليها الناس ، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى ، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم ، فأغار على الخنافس يوم سوقها ، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء ، فانتسف السوق وما فيها ، وسلب الخفراء ، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه ، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد ، وأتوا بالأدلاء على بغداد ، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم.

وقال المثنى فى غارته على خنافس :

صبحنا فى الخنافس جمع بكر

وحيا من قضاعة غير ميل

بفتيان الوغى من كل حى

تبارى فى الحوادث كل جيل

نسفنا سوقهم والخيل زور

من التطواف والشد البجيل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٢ ـ ٤٧٦) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١ / ٢٥ ـ ٢٧) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٦ ، ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٧ ـ ١٨٩).


وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه (١) أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار ، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة ، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد ، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد ، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى ، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى ، واللفظ فى الحديثين متقارب ، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر ، قالوا : ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق ، وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها ، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها ما لا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم ، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم ، فقال لهم : فكيف لى بها؟ قالوا : إن أردتها فخذ طريق البر ، حتى تنتهى إلى الأنبار ، ثم تأخذ رءوس الدهاقين ، فيبعثون معك الأدلاء ، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى.

قال : فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة ، حتى دخل الأنبار ، فنزل بصاحبها فتحصن منه ، فأرسل إليه : ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه : إنى أخاف ، فأرسل إليه : انزل فإنك آمن على دمك وقريتك ، وترجع سالما إلى حصنك ، فتوثق عليه ثم نزل ، فأطعمه المثنى ، وخوفه واستكتمه ، وقال : إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد ، حتى أغير منها إلى المدائن ، قال : أنا أجئ معك ، قال المثنى : لا أريد أن تجيء معى ، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق ، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف ، وبعث معهم دليلا ، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى : كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال : أربعة فراسخ أو خمسة ، وقد بقى عليك ليل ، فقال لأصحابه : من ينتدب للحرس ، فانتدب له قوم ، فقال لهم : اذكروا حرسكم ، ثم نزل وقال للناس : أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضئوا وتهيئوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه ، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم ، فوضع فيهم السيف ، فقتل وأخذ الأموال ، وقال لأصحابه : لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته ، وهرب الناس ، وتركوا أمتعتهم وأموالهم ، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شيء.

ثم كر راجعا ، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار ، فقال للمسلمين : احمدوا الله الذي سلمكم وغنمكم ، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب ، وعلقوا عليها ، وأصيبوا من

__________________

(١) انظر : تاريخ بغداد (١ / ٢٥ ـ ٢٧).


أزوادكم ، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا ، فقال : تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ، قبح الله من يتناجون به ، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا ، تحسبونهم الآن فى طلبكم ، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير ، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا ، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل ، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا ، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء ، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر ، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن ، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز ، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذي أريد من ذلك ، إن خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات ، ونسرع فى غير ذلك الأوبة ، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار ، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة ، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم ، ورجع المثنى إلى عسكره.

حديث السرايا من الأنبار (١)

قالوا : لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار ، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث ، ثم خرج فى أثرهم ، فقدم الرجلان الكباث ، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه ، وكانوا كلهم من بنى تغلب ، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم ، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم ، فأدركوا أخرياتهم ، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب ، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا ، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار ، فسرح فرات بن حيان ، وكان خلفه فى عسكره ، وسرح معه عتبة بن النهاس ، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى.

فلما دنوا من صفين ، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا ، وفارق المثنى فراتا وعتبة ، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد ، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها ، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران ، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء ، فأخذوا العير ، وكان ظهرا فاضلا ، وقال

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٥ ، ٤٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٨ ، ١٨٩).


لهم : دلونى ، فقال له أحدهم : أمنونى على أهلى ومالى ، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم ، فآمنه المثنى وسار معه يومه ، حتى إذا كان العشى هجم عليهم ، فإذا النعم صادرة عن الماء ، والقوم جلوس بأفنية البيوت ، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة ، وسبوا الذرية ، وانتسفوا الأموال ، وإذا هم بنو ذى الرويحلة ، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفيء ، فأعتقوا سبيهم ، وكانت ربيعة لا تسبى ، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم.

وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة ، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن ، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب ، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء ، فأصابوا ما شاءوا من النعم ، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم ، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار ، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما ، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين ، فأغاروا عليهم ونقبوهم ، فرموا بطائفة فى الماء ، فناشدوهم وجعلوا ينادون : الغرق الغرق ، فلم يقلعوا عنهم ، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم : تغريق بتحريق ، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض ، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم.

فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا ، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها ، وكانت لعمر ، رحمه‌الله ، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم ، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة ، وأبلغ الذي قال عتيبة والفرات ، يوم بنى تغلب والماء ، فبعث إليهما فسألهما ، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل ، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية ، فاستحلفهما ، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل ، وإعزاز الإسلام ، فصدقهم وردهما إلى المثنى.

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه (١)

قالوا : قال أهل فارس لرستم والفيزران ، وهما عميدا أهل فارس : أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس ، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى ، وأن تعرضاها للهلكة ، ما تنتظرون ، والله ما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٧ ـ ٤٧٩) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٨ ، ٣٠٩).


تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك ، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن ، والله ما جرأ علينا هذا غيركم ، ولو لا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.

قالوا : فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى : اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ، ففعلت ، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب ، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها ، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى ، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم ، وقلن ، أو من قال منهن : لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى ، وأمه من أهل داريا ، فأرسلوا إليها فأخذوها به ، فدلتهم عليه ، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض ، فقتل الذكور ، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل ، فأرسلوا إليه ، فجاءوا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه ، واجتمعوا عليه ، واطمأنت فارس واستوثقوا ، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته ، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى ، أو موضع ثغر ، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم ، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد ، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له ، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار ، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد ، فكتب إليهم عمر :

أما بعد ، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم ، وتفرقوا فى المياه التي تليهم على حدود أرضكم وأرضهم ، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات ، ولا فارسا إلا أجلبتموه ، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه ، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم ، لتلقوا جدهم بجدكم.

فنزل المثنى بذى قار ، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى ، وغضى جبال البصرة ، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى ، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون ، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.

وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون ، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته ، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم ؛


لأن عمر ، رحمه‌الله ، كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين.

تأمير عمر ، رضي‌الله‌عنه ، سعد بن أبى وقاص

على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية (١)

ذكر المدائنى بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق ، فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام ، فقال عمر : اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سلفهم ، ونزار كلهم سلف نفسه ، ومضر لا تحن إلا سلفها ، ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة ، فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير ابن عبد الله فى الإمارة ، فاستشار الناس ، فقال المغيرة بن شعبة : يا أمير المؤمنين ، تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا ، فقال : أشيروا علىّ برجل ، فقال عبد الرحمن ابن عوف : قد وجدته ، قال : من هو؟ قال : سعد بن أبى وقاص ، قال : هو لها ، فكتب عمر إلى المثنى : لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتب إلى جرير والمثنى : إنى موجه سعدا إليكما ، فاسمعا له وأطيعا.

وذكر الطبرى وغيره فى هذا الموضع من تحرك عمر ، رضي‌الله‌عنه ، للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه ، بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا ، وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص ، وخلف بالمدينة على بن أبى طالب واليا عليها ، وإشارة أولى الرأى عليه بالرجوع إلى المدينة ، والاستخلاف على ذلك الوجه ، واستنفار العرب له ، ما قد فرغنا من ذكره فى صدر وقعة البويب من خبر الجسر ، حيث ذكره المدائنى ، ولعل ذلك الموضع أولى به ، فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغى ، وإن يكن موضعه هذا ، فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع من الاختلاف بين المؤلفين فى هذا الشأن بحسب ما تأذى إليهم من جهة النقل ، والأمر فى ذلك قريب ، والاختلاف فى المنقولات غير مستنكر ، والله تعالى أعلم.

وقد كان أبو بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، استعمل سعد بن أبى وقاص على

__________________

(١) انظر : فتوح البلدان (ص ٣٠٣ ـ ٣٢٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٩ ـ ٣٣٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٣٧ ـ ٤٧) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣١٣ ـ ٣٢١).


صدقات هوازن بنجد ، فأقره عمر عليها ، فلما أتاه اجتماع فارس ، وقيام يزدجرد فى قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب ، خلافا لما ذكره المدائنى وآخرون معه ، من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه ، كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم ، وأن يستخرجوا كل ذى سلاح وفرس ممن له رأى ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره ، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل ، وذلك فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأى ، ويستعجلهم فى توجيههم إليه ، وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبى وقاص ، فجاءه كتاب سعد :

إنى قد انتخبت لك ألف فارس مرد ، كلهم له نجدة ورأى ، يحوط حريم قومه ، ويمنع زمارهم ، إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم ، فشأنك بهم.

فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس فى رجل يوجهه إلى العراق ، فقالوا : قد وجدته ، قال : من؟ قالوا : الأسد عاديا ، سعد بن مالك ، فانتهى إلى رأيهم ، وأرسل إليه ، فقدم عليه ، فأمّره على حرب العراق وأوصاه ، فقال : يا سعد ، سعد بنى وهيب ، عليك بتقوى الله ، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، ولا يغرنك أن يقال : صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله عزوجل ليس بينه وبين أحد سبب إلا طاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعاقبة ، ويدركون ما عنده بالطاعة ، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [القصص : ٨٤] ، و: (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذ بعثه الله حتى قبض إليه ، فالزم ما رأيته عليه ، وإنى موجهك إلى أرض فارس ، فسر على بركة الله ، فقد استعملتك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب ، فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه ، وأعلمهم ما أعد الله لأهله ، فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم ، واجعل كل قبيلة على منزلها ، ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة ، فاجعله مع من أحب ، وانزل فيدا حتى يأتيك أمرى.

وفى رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه :

إنى قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي ، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق ، فعود نفسك ومن معك الخير ، واستفتح به ، واعلم أن لكل عادة


عتادا ، وعتاد الخير الصبر ، فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله ، واعلم أن خشية الله تجتمع لك فى أمرين : فى طاعته واجتناب معصيته ، وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا ، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة ، وللقلوب حقائق ينشئها الله عزوجل إنشاء ، منها السر والعلانية ، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء ، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قبله على لسانه ، وبمحبة الناس إليه ، فلا تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم ، وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه ، وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم ، فاعتبر منزلتك عند الله عزوجل بمنزلتك عند الناس ، ممن يسرع معك فى أمرك.

وذكر المدائنى أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه :

أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده ، فادع الناس إلى الله ، فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده ، وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت ، وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا ، واجعلهم رفقاء إخوانا ، وألن لهم جناحك ، وحطهم بنفسك كنفسك ، واعلم أن المسلمين فى جوار الله ، وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة ، ولا يطلبنك الله بخفرته فى أحد منهم ، واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم ، وعد مريضهم ، وانصف مظلومهم ، وخذ لضعيفهم من قويهم ، واصلح بينهم ، وألزمهم القرآن وخوفهم بالله ، وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها ، فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الذحول ، واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه ، فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم ، واحذر من الله ما حذركم من نفسه ، فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.

ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين ، فخرج سعد بن أبى وقاص من المدينة قاصدا للعراق فى أربعة آلاف ، ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة ، وألف من سائر الناس.

قالوا : وشيعهم عمر ، رحمه‌الله ، من صرار إلى الأعواص ، ثم قام فى الناس خطيبا ، فقال:إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال ، وصرف لكم القول ليحيى بذلك القلوب ، فإن القلوب ميتة فى صدورها حتى يحييها الله تعالى ، من علم شيئا فلينتفع به ، وإن للعدل


أمارات وتباشير ، فأما الأمارات : فالحياء والسخاء والهين واللين ، وأما التباشير : فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر بابا ، ويسر لكل باب مفتاحا ، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد ، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات ، والاستعداد له بتقديم الأعمال ، والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق ، ولا يصانع فى ذلك أحدا ، ويكتفى بما يكفيه من الكفاف ، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ، إنى بينكم وبين الله ، وليس بينى وبين الله أحد ، وإن الله عزوجل قد ألزمنى دفع الدعاء عنه ، فأنهوا شكاتكم إلينا ، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع.

فسار سعد فى عام غيداق خصيب ، حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا ، وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه ، ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود ، فأتاها وأقام بها ، وأتاه من حولها من بنى تميم من حنظلة ، وأتته سعد والرباب وعمرو ، فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان بن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدي وربعى الرياحى وهلال بن علقمة التميمى والمنذر بن حسان الضبى ، فقالت رؤساء حنظلة : يا بنى تميم ، قد نزل بكم الناس ، وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية ، وقد لزمكم قراهم ، فشاطروهم الرسل ، ففعلوا ، فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم ، ومن كان له أكثر ، فعلى حساب ذلك ، فقروهم شتوة بزرود.

وكان عمر أمد سعدا بعد خروجه ، فيما ذكر سيف ، عن أشياخه ، بألفى يمانى وألفى نجدى مرد من غطفان وسائر الناس ، فنزلوا معه زرود فى أول الشتاء ، وتفرقوا فيما حولها ، وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر ، وانتخب من بنى تميم والرباب أربعة آلاف ، منهم ألف من الرباب ، وانتخب من بنى أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة ، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبى وقاص وبين المثنى بن حارثة ، والمثنى بذى قار ، ويقال : بأليس ، وقال بعضهم : بشراف ، وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصى ، ويقال : غضى.

وكان المثنى فى ثمانية آلاف من ربيعة ، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل ، وألفان من سائر ربيعة ، منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام ، وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقى يوم الجسر ، وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة ، وألفان من قضاعة وطيئ ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك ، على طيئ عدى بن حاتم ، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة ، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله ، فبينا الناس كذلك ، سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى ، والمثنى أن يقدم عليه سعد ، انتقضت بالمثنى جراحاته


التي كان أصيب بها يوم الجسر ، فمات رحمه‌الله ، ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية ، وكتب إلى سعد :

كتبت إليك وأنا لا أرانى إلا لما بى ، فإن أهلك أو أسلم فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الجنة مأوى المتقين ، وأن النار مثوى الكافرين ، ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك ، فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله ، وقد أرانى الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك ، على حد أرضهم ، فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم ، وإن كانت الأخرى ، ولا أراها الله المسلمين ، كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم ، وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم.

وكان مع بشير بن الخصاصية عند ما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق ، ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر ، رحمه‌الله ، فيهم فرات بن حيان العجلى وعتيبة ابن النهاس ، فردهم مع سعد.

فمن أجل ذلك اختلف الناس فى عدد أهل القادسية ، فمن قال : هم أربعة آلاف ، فلمخرجهم مع سعد من المدينة ، ومن قال : ثمانية آلاف ، فلاجتماعهم بزرود ، ومن قال : تسعة آلاف ، فللحاق القيسيين ، ومن قال : اثنا عشر ألفا ، فلدفوف بنى أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف ، وقدم عليه بعد ذاك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره.

قالوا : فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا.

وكتب سعد إلى عمر ، رحمه‌الله ، بموت المثنى ، فكتب إليه : أن سر حتى تنزل بشراف ، واحذر على من معك من المسلمين ، وعليك بالإصلاح ما استطعت.

فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم ، وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها ، فأتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن ، وقدم عليه المعنى بن حارثة ، أخو المثنى ، وقدمت معه زوج المثنى ، سلمى بنت خصفة من بنى تميم اللات بوصيته إلى سعد ، وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود ، فلم يفرغوا لذلك ، وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك ، كما نذكره بعد ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائنى ، فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه ، فترحم عليه سعد عند ما انتهى ذلك إليه ، وأمّر أخاه المعنى على عمله ، وأوصى بأهل بيته خيرا ، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها ،


وبنى مسجدا بشراف ، فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم :

فنفرنا إليهم باحتساب

لم نعرج ولم نذق تغميضا

وقريناهم ربيعا من الرسل

حقينا مثملا وغريضا

وحملنا رجالهم من زرود

إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا

وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه ، فقال : لأرمين فارس وأبناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين ، فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح ، وحضهم عمر ، رحمه‌الله ، فقال : إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا ، فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم ، وما التوفيق إلا بالله ، الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم ، وأوفوا بالعهد لمن عاهدتم ، وإياكم والغدر والغلول ، فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ومن غدر أدال الله منه عدوه ، ووهن كيده ، فافهموا ما توعظون به ، واعقلوا على الله أمره ، ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية.

وعن سيف (١) : أن عمر ، رحمه‌الله ، قال : والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ، فلم يدع رئيسا ، ولا ذا رأى ، ولا ذا شرف ، ولا ذا سلطة ، ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به ، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.

وكتب عمر ، رضي‌الله‌عنه ، إلى عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق ، وكانوا ستة آلاف ، ومن اشتهى أن يلحق بهم ، وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة ، وكتب إلى سعد بمثل رأى المثنى الذي أشار به على سعد :

أما بعد ، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ، وتوكل على الله ، واستعن به على أمرك كله ، واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير ، وعدتهم فاضلة ، وبأسهم شديد ، وعلى بلد وإن كان سهلا كئود لبحوره وفيوضه ودآدئه ، فإذا لقيتم القوم أو أحدا منهم فابدءوهم الضرب والشد ، وإياكم والمناظرة لجموعهم ، ولا يخدعنكم ، فإنهم خدعة مكرة ، أمركم غير أمرهم ، إلا أن تجادوهم ، فإذا انتهيت إلى القادسية ، والقادسية باب فارس فى الجاهلية ، وهى أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون ، وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة ، فتكون مسالحك على

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٨٧).


أنقابها ، ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب ، وأدنى مدرة من أرض العجم ، ثم الزم مكانك فلا تبرحه ، فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتى على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم ، رجوت أن تنصروا عليهم ، ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا ، وليست معهم قلوبهم ، وأن تكن الأخرى كان الحجر فى أدباركم ، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم ، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ، حتى يأتيكم الله بالفتح ، ويرد لكم الكرة ، وليكن منزلك الذي تنزله رحيبا خصيبا ، وإذا نزلت منزلا فلا تستأخر عنه ، فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك ، وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا ، وصف لى منزلك الذي تنزله ، وكم بينك وبين أول عدوك وآخره ، وكيف مأتاهم ، وسم لى المنزل ، فإنه ألقى فى روعى أنكم ستفتحون فارس ، وأنكم الأعلون.

وفى رواية أنه كتب إليه باليوم الذي يرتحل فيه من شراف ، وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات ، وعذيب والقوادس ، وأن يشرف بالناس ويغرب بهم. فارتحل سعد عن شراف يريد أن ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر ، فانتهى إلى المغيثة ، فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة ، وقدم بين يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا ، فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب ، وكتب إلى سعد فأقبل فى أثره ، فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية ، وهى أحساء ، فقال فى ذلك النعمان بن مقرن المزنى ، وتروى لغيره :

نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن

لنا همة إلا اختيار المنازل

لنحوى أرضا أو نناهب غارة

يضج لها ما بين بصرى وبابل

ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس ، وهى يومئذ أسفل منها بميل ، وكتب سعد إلى عمر : إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا ، فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين ، أما أحدهما فعلى الظهر ، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ، وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم ، وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا ، ولم يبلغنى من الذي أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك ، ومتى يبلغنى ذلك أكتب به إليك إن شاء الله ، ونحن متوكلون على الله راجعون له.


ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم ، وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم ، عظم ذلك عليهم ، ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا ، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار ، وأرسلوا إليه : إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب ، وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء ، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ، فليس هنالك أنيس إلا فى الحصون ، وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحمله الحصون من الأطعمة ، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ ، وأعانوهم عليه.

ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد ، خشعت نفسه واتقى الحرب برستم فأرسل إليه ، فدخل عليه ، فقال : إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه ، وإنما يعد للأمور على قدرها ، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وأنت لها ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير.

فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه ، فقال له الملك : قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك ، فصف لى العرب وفعلهم ، وصف لى العجم وما يلقون منهم ، فقال رستم : صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت ، فقال : ليس كذلك ، إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب ، فافهم عنى ، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة الطير تبيت فى أوكارها ، فإذا أصبحت الطير تجلت ، فأبصرت العقاب ترقبها ، فخافتها فلم تنهض ، وطمعت العقاب ، فلم ترم ، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها ، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت ، وأشد شيء يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا ، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم ، فاعمل على قدر ذلك ، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به.

فسجد له رستم ، وقال : الملك أفضل رأيا ، وأيمن أمرا ، وأسعد جدا ، وإن أذن لى تكلمت.

قال : قل ، قال : هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها ، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب ، فقال له رستم : أيها الملك ، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى ، ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ، فإن الرأى فيها والمكيدة


أنفع من بعض الظفر ، فألح يزدجرد وترك الرأى ، وكان ضيقا لجوجا ، وقال لرستم : امض حتى يأتيك أمرى ، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه فى المسير ، فأعاد عليه رستم كلامه ، وقال : أيها الملك ، إن هزيمتى لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها ، ولقد اضطرنى تضييع الرأى إلى إعظام نفسى وتزكيتها ، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به ، فأنشدك الله فى أهلك ونفسك وملكك ، دعنى أقم بعسكرى وأسرج الجالينوس ، فإن تكن لنا فذاك ، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره ، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم ، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون ، موفورون ، فأبى إلا أن يسير.

ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها ، بعث على مقدمته الجالينوس فى أربعين ألفا ، وخرج هو فى ستين ألفا ، وساقته فى عشرين ألفا ، وعليها الفيرزان ، وعلى ميمنته الهرمزان ، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازى ، وقال رستم : ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم فى داره حتى نشغلهم فى أهلهم وبلادهم ، إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به.

وقال سيف عن أشياخه (١) : خرج رستم فى عشرين ومائة ألف كلهم متبوع ، فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتى ألف ، ثم إن رستم رأى رؤيا فكرهها ، وأحس لها الشر ، وكره لها الخروج ولقاء القوم ، واختلف عليه رأيه واضطرب ، وسأل الملك أن يمضى الجالينوس ، ويقيم حتى ينظر ما يصنعون ، وقال : إن غناء الجالينوس كغنائى ، وإن كان اسمى أشد عليهم من اسمه ، فإن ظفر فهو الذي نريد ، وإن تكن الأخرى وجهنا مثله ، ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما ، فإنى لا أزال مرجوا فى أهل فارس ما لم أهزم ، ولا أزال مهيبا فى صدور العرب ، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم ، وإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم ، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم.

قالوا : ولما أبى الملك إلا مسير رستم ، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس بلاده : من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس ، الذي كان يعد لكل عظيمة ، فيفض الله به الجموع ، ويفتح به الحصون ، ومن قبله من عظماء أهل فارس والمرازبة والأساورة ، فرموا حصونكم ، وأعدوا واستعدوا ، فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم ، وقارعوكم على

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٠٥).


أرضكم وأبنائكم ، وانتزعوا ما فى أيديكم ، وكان من رأيى مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك.

ويقال : إن رستم عند ما أمر يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول ، وزاد فيه : أن السمكة قد كدرت الماء ، وأن النعائم قد حبست ، وحسنت الزهرة ، واعتدل الميزان ، وذهب بهرام ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ، ويستولون على ما قبلنا ، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال : لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسى ، وأنا سائر إليهم.

وكان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى ، وكان من أهل فرات بادقلى ، فأرسل إليه وقال : ما ترى فى مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه ، وكان رستم يعلم نحوا من عمله ، فثقل عليه مسيره لأجل ذلك ، وخف على الملك لما غره منه ، وقال الملك للغلام : إنى أحب أن تخبرنى بشيء أراه أطمئن به إلى قولك ، فقال الغلام لزرنا الهندى : أخبره ، فقال : سلنى ، فسأله ، فقال : أيها الملك ، يقبل طائر فيقع على إيوانك ، فيقع منه شيء فى فيه هاهنا ، وخط دائرة ، فقال الغلام : صدق ، والطائر غراب ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان.

وبلغ جابان أن الملك طلبه ، فأقبل حتى دخل عليه ، فسأله عما قال غلامه ، فحسب ، فقال : صدق ولم يصب ، إنما الطائر عقعق ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان ، وكذب زرنا ، يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا ، ودور دائرة أخرى ، فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق ، فسقط منه درهم فى الخط الأول ، فنزا فسقط فى الخط الآخر ، ونافر الهندى جابان حيث خطأه ، فأتيا ببقرة نتوج ، فقال الهندى : سخلتها غراء سوداء ، فقال جابان : كذبت ، بل سوداء صبغاء ، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها ، فإذا ذنبها أبيض ، وهو بين عينيها ، فقال جابان : من هاهنا أتى ، وشجعاه على إخراج رستم ، فأمضاه.

ولما فصل رستم من ساباط ، لقيه جابان على القنطرة ، فشكا إليه ، وقال : ألا ترى ما أرى؟ فقال رستم : أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ، ولا بد من الانقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة ، فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف ، وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى ، وأمر الجالينوس عند ما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد ، فخرج هو والآزاذمرد ، مرزبان الحيرة ، فى سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها


رجلا ، فاختطفاه ، ونفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون فى أخرياتهم ، فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم ، وهو بكوثى ، فقال له رستم : ما جاء بكم؟ وما ذا تطلبون؟ قال : جئنا نطلب موعود الله عزوجل ، قال : وما موعود الله عزوجل؟ قال : أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أنتم أبيتم أن تسلموا ، قال رستم : فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال : فى موعود الله عزوجل من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة ، وأنجز لمن بقى منا ما قلت لك ، فنحن من ذلك على اليقين ، فقال له رستم : قد وضعنا إذا فى أيديكم ، فقال : ويحك يا رستم ، إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها ، فلا يغرنك ما ترى حولك ، فإنك لست تحاول الإنس ، إنما تحاول القضاء والقدر ، فاستشاط ، فأمر به فضربت عنقه ، رحمه‌الله.

وارتحل رستم من كوثى وكأنه يقاد بزمام ، حتى إذا كان ببرس أفسد أصحابه وغصبوا الناس أموالهم ووقعوا على نسائهم ، فضج العلوج إلى رستم ، وشكوا إليه ما يلقون من أصحابه ، فجمع المرازبة والرؤساء فقام فيهم ، فقال : يا معشر أهل فارس ، والله لقد صدق العربى ، والله ما أسلمتنا إلا أعمالنا ، والله للعرب فى هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم ، إن الله عزوجل إنما كان ينصركم على العدو ، ويمكن لكم فى البلاد بالعدل وحسن السيرة ، فأما إذ تحولتم عن ذلك ، فأظهرتم البغى ، وسارعتم فى الفساد ، فلا أرى الله عزوجل إلا مغيرا ما بكم ، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم ، فإنه لم يفعل هذا قوم إلا نزع عنهم النصر ، وسلط عليهم العدو.

ثم بعث الرجال ، فلقطوا بعض الذين شكوا ، فضربت أعناقهم ، ثم نادى فى الناس بالرحيل ، فسار حتى نزل بجبال دير الأعور ، ودعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جنب الدير ، فأوعدهم وهم بهم ، وقال : يا أعداء الله ، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا ، وكنتم عيونا لهم علينا ، وأعنتموهم بالأموال فاتقوا بابن بقيلة ، وقالوا له : كن أنت الذي تكلمه ، فتقدم إليه ابن بقيلة ، فقال له : لا تجمع علينا أمرين : العجز عن نصرنا واللائمة لنا فى الدفع عن أنفسنا وبلادنا ، أما قولك : أنا فرحنا بمجيئهم ، وبأى ذلك من أمرهم نفرح؟ إنهم يزعمون أنا عبيد لهم ، وما هم على ديننا ، وأنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار ، وأما قولك : أنا كنا لهم عيونا فما احتاجوا إلى العيون ، لقد ترك أصحابك لهم البلاد حتى كانت خيولهم تذهب حيث شاءت ، وأما إعانتهم بالأموال ، فإنا صانعناهم بها إذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى ونخرب ، وتقتل مقاتلتنا وقد عجز عنهم من لقيهم منكم ، فكنا نحن أعجز منهم ، ولعمرى لأنتم أحب إلينا منهم ، فامنعونا نكن لكم ، فإنا نحن بمنزلة علج


السواد ، عبيد من غلبنا ، فقال لهم رستم : صدقكم الرجل. قال الرفيل : ورأى رستم بالدير أن ملكا هبط من السماء حتى دخل عسكر فارس ، فأخذ سلاحهم فختم عليها ، ثم رفعها ، فأصبح كئيبا ، وقد أيقن أن ملكهم قد ذهب ، ثم ارتحل حتى نزل النجف فعادت عليه الرؤيا ، فرأى ذلك الملك ومعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ، ثم دفعه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدفعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمر ، فأصبح رستم وقد ازداد جزعا ، فلما رأى الرفيل ذلك رغبه فى الإسلام فأسلم ، وما كان داعيته إليه إلا ذلك.

وكان رستم قد أرسل إلى قابوس بن المنذر ، وقال بعضهم : ابن النعمان بن المنذر : اكفنا ما كانت آباؤك تكفينا من العرب ، وعقد له على أربعة آلاف وقدمه إلى العذيب ، فلما قدم سعد بن أبى وقاص بين يديه زهرة بن الجوية يرتاد له منزلا ، قدم زهرة أمامه بكر بن عبد الله الكنانى ، وقال بعضهم : عبد الله بن بكير ، فانتهى إلى العذيب ، ووافاه زهرة هنالك ، فطرقوا قابوس بياتا فى حصن العذيب فقتلوه وتفرق أصحابه منهزمين ، حتى وصلوا إلى رستم ، هكذا ذكر المدائنى.

وفى كتاب سيف (١) : أن الآزاذمرد بن الأزاذبه هو الذي بعث قابوس إلى القادسية ، وقال له : ادع العرب ، فأنت على من أجابك ، وكن كما كان آباؤك ، فلما نزل القادسية كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعدا ، فلما انتهى خبره إلى المعنى بن حارثة أسرى من ذى قار حتى بيته فأنامه ومن معه ، ثم رجع ، فخرج إلى سعد ابن أبى وقاص بزوجة المثنى ووصيته ، وهذا الوجه الذي خرج إليه هو الذي شغله عن تعجيل القدوم على سعد بوصية أخيه ، حسب ما ذكرناه قبل.

وعن كريب بن أبى كرب العكلى ، وكان فى المقدمات أيام القادسية ، قال : قدمنا سعد من شراف ، فنزلنا فى عذيب الهجانات ثم ارتحل ، فلما نزل علينا ، وذلك فى وجه الصبح ، خرج زهرة بن الجوية فى المقدمات ، فلما رفع لنا العذيب ، وكانت من مسالحهم ، استبنى على بروجه ناسا ، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه ، وكنا فى سرعان الخيل ، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ، ونحن نرى أن فيها خيلا ، ثم أقدمنا على العذيب ، فلما دنونا منه ، خرج منه رجل يركض نحو القادسية ، فانتهينا إليه ، فدخلنا فإذا ليس فيه أحد ، وإذا ذلك الرجل هو الذي تراءى لنا على البروج وبين الشرف مكيدة ، ثم انطلق بخبرنا ، فطلبناه فأعجزنا ، وسمع بذلك زهرة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٨٩).


فلحق فجد له فيه ، وكان أهل القادسية يعجبون من شجاعة ذلك الرجل ، وعلمه بالحرب ، ولم تر عين قط أثبت منه ولا أربط جأشا لو لا بعد غايته لم يلحق به زهرة ، ووجد المسلمون رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها ، انتفع المسلمون بها.

ولما أمسى زهرة بن الجوية بعث سرية فى جوف الليل ، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثى ، وكانوا ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس وفيهم الشماخ القيسى الشاعر ، وأمرهم بالغارة على الحيرة ، فساروا حتى جازوا السيلحين ، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة ، فسمعوا جلبة ، فأحجموا عن الإقدام ، وأقاموا كمينا حتى يتبينوا ، فما زالوا كذلك حتى جازت بهم خيول ، تقدم تلك الغوغاء ، فتركوها فنفذت لطريق الصين ، وإذا هم لم يشعروا بهم ، وإنما ينتظرون ذلك العين الذي قتله زهرة ، وإذا أخت الآزاذمرد ، مرزبان الحيرة ، تزف إلى صاحب الصين ، وكان من أشراف العجم ، وتلك الخيل تبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا ، فلما انقطعت الخيل عن الزواف ، والمسلمون كمين فى النخل وحاذت بهم الأثقال ، حمل بكير على شيراز بن الأزاذبه أخى الآزاذمرد ، وهو بين أخته وبين الخيل ، فقصم بكير صلبه ، وطارت الخيل على وجوهها ، وأخذوا الأثقال وابنة الآزاذبه فى ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة امرأة من التوابع ، ومعهم ما لا يدرى قيمته ، ثم عاج واستاق ذلك كله ، فصبح سعدا بعذيب الهجانات بما أفاء الله ، عزوجل ، على المسلمين ، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد : أقسم بالله لقد كبروا تكبيرة عرفت فيها العز ، فقسم ذلك سعد على المسلمين ، ونفل من الخمس ، وأعطى المجاهدين بقيته ، فوقع منهم موقعا ، ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم ، وانضم إليها حاطة كل حريم ، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثى ، ونزل سعد القادسية ، وكتب سعد إلى عمر ، رحمه‌الله ، يعلمه بقتل الآزاذبه على يدى بكير بن عبد الله ، وقال فيما كتب به إليه : وأنا مقيم بالقادسية على أمرك ، ومنزلنا خصيب الجناب ، ونحن ننتصف فيه من عدوان نزل بنا فى الخصب ننال من ذلك أفضل الذي نريد ، وهو يوم كتبت لك مباح لنا لا يدفعوننا عنه إلا بالاعتصام بمعاقلهم ، ولن يزال عندك منا كتاب بما يحدث إن شاء الله.

فأقام سعد شهرا ، ثم كتب بمثلها إلى عمر ، رحمهما‌الله : نحن وعدونا على ما كتبت إليك ، لم يوجهوا إلينا أحدا ، ولا أسندوا حربا إلى أحد علمناه ، ومتى يبلغنا ذلك نكتب به ، فاستنصروا الله لنا ، فإنا بمنحاة دنيا عريضة ، دونها بأس شديد ، وقد تقدم الله إلينا فى الدعاء إليهم ، فقال تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الفتح : ١٦].

فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإن أبا بكر ، رحمه‌الله ، كان رشيدا موفقا ، محفوظا معانا


أكرمه الله وأعانه حتى قبضه إليه راضيا مرضيا عنه ، وقد ابتلينا بالذى ولينا مما لا طاقة لنا بحفظه والقيام عليه إلا بتحنن القوى ذى العزة والعظمة ، وقد علمت أن فارس ستقبل إليك بمرازبتها وبأسها وعددها ، فإياك والمناظرة لجموعهم ، والقادسية على ما وصفت لى منزل جامع ، والجد الجد على الذي أنت عليه ، واكتب إلىّ بجمعهم الذي زحفوا إليك به ، ومن رأسهم الذي يسندون إليه أمرهم ، وكم بين أدنى عدوك منك وبين ملكهم ، واجعلنى من أمرهم على الجلية ، فإنك بحمد الله على أمر وليه وناصره ، والله ناصر من نصره ، وقد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له ، والله متم أمره ، ومن يرد الله به صلاحا يلهمه رشده فيما أعطاه ، ويبصره الشكر لنعمته ، والعمل بطاعته ، والعرفان لأداء حقوقه ، ومن يكن بتلك المنزلة يعنه الله على حسن نيته ، ويعطه أفضل رغبته ، وإنما يستوجب كرامة الله بتمام نعمته من عصم له دينه ، وإنما يصلح الله النية لمن رغب فيما عنده وأذعن لطاعة ربه ، وإن منازل عباد الله عنده على نياتهم ، فأكثر ذكر الله ، وكن منه على الذي رغبك إليه وفيه ، فإن فى ذلك رواحا للمستريح ونجاحا تجد فيه غدا نفع ما قدمت ، فإنك ممن أرغب له فى الخير ويعنينى أمره للمكان الذي أنت فيه من عدو الإسلام ، نسأل الله لنا ولك إيمانا صادقا ، وعملا زاكيا.

فكتب إليه سعد وقد علم بأن رستم هو الذي تعين لحرب العرب وقود جيوش فارس ، وأنه قد زحف إلى المسلمين ودنا منهم ، إذ كان سعد وجه عيونا إلى الحيرة فرجعوا إليه بالخبر. فكتب به فيما أجاب به عمر ، رضي‌الله‌عنهما :

أتانى كتابك بما ذكرت من أبى بكر ، رحمة الله عليه ، ولم يكن أحد يذكر من أبى بكر شيئا إلا وقد كان أفضل من ذلك ، فبوأه الله غرف الجنة ، وعرف بيننا وبينه ، وإنك عامل من عمال الله ، فاستعن بالله وشمر ، وليس شيء أهم عندى ولا أنا أكثر ذكرا لما نحب أن نكون عليه من الذي أمرتنا به ، والله ولى العون على ذلك ، وقد قدم علينا عظيم من عظمائهم يقال له رستم بالخيل والفيول والعدد والعدة والقوة ، فيما يرى الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبيننا وبينه خمسة عشر ميلا ، وبينه وبين ابن كسرى بأبيض المدائن نيف على ثلاثين فرسخا ، ولنا من عدونا النصف إن شاء الله ، ولن يزال منا عندك كتاب يخبرنا إن شاء الله ، فاستنصروا الله لنا بالدعاء والتضرع خفية وجهرا ، فإن الله يعطى من سعة ويأخذ بقدرة ويفعل ما يشاء.

وكان عمر ، رحمه‌الله ، قد أمر بموالاة الكتب إليه بكل شيء ، فكان سعد يكتب إليه فى كل يوم.


وكتب إليه عمر : أتانى كتابك تذكر مكان عدوك ونزولك حيث نزلت ، ومسافة ما بينك وبين ابن كسرى ، وأنه من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، فأرسل إلى ابن كسرى من يدعوه إلى الإيمان أو إعطاء الجزية أو الحرب ، فإن أسلم فله ما لكم وعليه ما عليكم ، وإن اختار إعطاء الجزية ولم يسلم فله ما كسب وعليه ما اكتسب وقد حقن دمه وأحرز أرضه ، ولا سبيل عليه إلا فى حق عليه ، فإن أبى الإسلام وإعطاء الجزية فلا يعظم عندك حربه ولا يكربنك ما يأتيك عنهم ، ولا ما يأتوك به ، فاستعن بالله واستنصره وتوكل عليه ، وإذا لقيت عدوك فقدم أهل البأس والنجدة فى غير إهانة لهم ولا تغرير بهم ، وعليكم بالصبر فإنه ينزل النصر ، فإذا ظهرت فأكثر القتل فى دبر المشركين ، واقتل المقاتلة ، واستبق النساء والصبيان ، ثم لا تتركن أحدا من العدو وراءك ، وإن أعطوك الصلح فلا تصالح إلا على الجلاء ، إلا أن تترك فيها من لا كيد له ولا نكاية ، وأحط بأمرى ، وخذ بعهدى.

وفى رواية أنه قال له ، فيما كتب به إليه : وابعث إليهم رجالا من أهل المنظر والرأى والجلد يدعونهم ، فإن الله عزوجل جاعل دعاءهم توهينا لهم ، وفلجا عليهم.

ولما انتهى إلى سعد أمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بالتوجه إلى يزدجرد ، جمع نفرا لهم نجار ، ولهم آراء ، ونفرا لهم منظر وعليهم مهابة.

فأما الذين لهم نجار ولهم آراء واجتهاد : فالنعمان بن مقرن ، وبسر بن أبى رهم ، وجبلة بن جوية الكنانى ، وحنظلة بن الربيع الأسدي ، وفرات بن حيان العجلى ، وعدى ابن سهيل ، والمغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب.

وأما الذين لهم منظر لأجسامهم ، وعليهم مهابة ، ولهم آراء : فعطارد بن حاجب ، والأشعث بن قيس ، والحارث بن حسان ، وعاصم بن عمرو ، وعمرو بن معدى كرب ، وغيرهم ممن سماه سيف فى كتابه.

وخالفه المدائنى فى بعضهم ، فلم يذكرهم ، وذكر معهم ممن لم يذكره سيف : طليحة ابن خويلد ، وزهرة بن جوية ، ولبيد بن عطارد ، وشرحبيل بن السمط.

قال المدائنى : فأتوا الحيرة ، فأرسل إليهم رستم : أين تريدون؟ قالوا : نريد ابن كسرى.

فأرسل معهم أساورة فجوزوهم إلى المدائن ، فوقفوا ببابه.

وقال سيف : إنهم طووا رستم ، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد ، فوقفوا على خيول


عراب معهم جنائب ، وكلها صهال ، فاستأذنوا فحبسوا ، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم ، ويقول لهم ، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم ، وعليهم المقطعات والبرود ، وفى أيديهم سياط رقاق ، وفى أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا عليه.

قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبى فى القادسية ثم حسن إسلامه : لما كان هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم ، فلم أر عشرة قط يعدلون فى الهيئة بألف غيرهم ، وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا. وجعل أهل فارس يسوؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم ، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس ، وكان سيئ الأدب ، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه : سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان بن مقرن ، وكان على الوفد : ما تسمى رداءك؟ قال : البرد. قال : فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شيء متطير به عندهم ، وتغيرت ألوان فارس ، وشق ذلك عليهم. ثم قال : سلهم عن أحذيتهم ، فسأله. فقال : النعال ، فتطير ، أيضا ، لمثل ذلك ، ثم سأله عن الذي فى يده ، فقال : سوط ، والسوط بالفارسية الحريق ، فقال : أحرقوا فارس أحرقهم الله ، وكان تطيره على أهل فارس ، ثم قال لترجمانه : سلهم ما جاء بكم ، وما دعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم ، وتشاغلنا عنكم ، اجترأتم علينا؟ فقال لهم النعمان بن مقرن : إن شئتم أجبت عنكم ، ومن شاء آثرته. قالوا : بل تكلم ، وقالوا للملك : كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان. فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ، ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين : فرقة تقاربه ، وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه فى دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ، ويبدأ بهم ففعل ، فدخلوا معه جميعا على وجهين : مكره عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق ، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوهم إلى ديننا ، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء ، فإن أبيتم فالمناجزة ، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه ، وعلى أن تحكموا بأحكامه ، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ، فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم.

قال : فتكلم يزدجرد ، فقال : إنى لا أعلم فى الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا


ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم لا نغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم ، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم.

فقام المغيرة بن زرارة النباش الأسدي ، فقال : أيها الملك ، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، وتفخم الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك ، فجاوبنى لأكون الذي أبلغك ، ويشهدون على ذلك ، أنك قد وصفتنا ، فأما ما ذكرت من سوء الحال ، فما كان أحد أسوأ حالا منا ، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ، فنرى ذلك طعاما. وأما المنازل فإنما هى ظهر الأرض ، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ، ويغير بعضنا على بعض ، فإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية كراهية أن تأكل من طعامنا ، فكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ، وبعث الله إلينا رجلا معروفا ، نعرف نسبه ، ونعرف وجهه ومولده ، فأرضه خير أرضنا ، وحسبه خير أحسابنا ، وبيته أعظم بيوتنا ، وقبيلته خير قبائلنا ، وهو بنفسه كان خيرنا فى الحال التي كان فيها أصدقنا وأجملنا ، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد ، أول من ترب له كان الخليفة من بعده ، فقال وقلنا ، وصدق وكذبنا ، وزاد ونقصنا ، فلم يقل شيئا إلا كان ، فقذف الله فى قلوبنا اتباعه والتصديق له ، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ، فما قال لنا فهو قول الله ، وما أمرنا به فهو أمر الله ، فقال لنا : إن ربكم يقول : إنى أنا الله وحدى لا شريك لى ، فكنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهى ، وأنا خلقت كل شيء وإلىّ مصير كل شيء ، وأن رحمتى أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابى ، ولأحلكم دارى ، دار السلام ، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الله ، وقال : من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ، ثم أمنعوهم مما تمنعون منه أنفسكم ، ومن أبى فقاتلوه ، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته الجنة ، ومن بقى منكم أعقبته النصر على من ناوأه ، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف ، أو تسلم فتنجو بنفسك. فقال : أتستقبلني بمثل هذا؟ فقال : ما استقبلت إلا من كلمنى ، ولو كلمنى غيرك لم أستقبلك به. فقال : لو لا أن


الرسل لا تقتل لقتلتكم ، لا شيء لكم عندى ، وقال : ائتونى بوقر من تراب ، واحملوه على أشرف هؤلاء ، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن ، ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه أنى مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده فى خندق القادسية ، ومنكل به وبكم من بعده ، ثم أورده بلادكم ، حتى أشغلكم فى أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.

ثم قال : من شد فكم؟ فسكت القوم ، فقال : عاصم بن عمرو : أراد لنأخذ التراب ، أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء فحملنيه ، قال : أكذلك؟ قالوا : نعم ، فحمله على عنقه ، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها ، فقال له أصحابه : حملت ترابا؟ قال : نعم ، الفأل ، قد أمكنكم الله من أرضهم ، فلم يزل معه حتى قدم به على سعد فأخبره الخبر. فقال سعد : أبشروا ، فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم ، وجعل المسلمون يزدادون فى كل يوم قوة ، ويزداد عدوهم فى كل يوم وهنا ، واشتد على جلساء الملك ما صنع ، وما صنع المسلمون من قبول التراب ، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم ، وكيف رآهم ، فقال الملك : ما كنت أرى أن فى العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علىّ ، والله ما أنتم بأعقل منهم ، ولا أحسن جوابا ، وأخبره بكلام متكلمهم ، وقال : لقد صدقنى القوم ، لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه ، على أنى وجدت أفضلهم أحمقهم ، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابا يحمله على رأسه فخرج به ، ولو شاء اتقى بغيره ، وأنا لا أعلم.

قال : أيها الملك ، أخذ التراب أعقلهم ، وما أخذه إلا تطيرا ، وأبصرها دون أصحابه وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان ، فبعث فى أثر الوفد ، وقال لبعثه : إن أدركتموهم تلافينا أرضنا ، وإن أعجزوكم سلبكم الله أرضكم ، فرجع إليه من كان وجه أثرهم من الحيرة فأعلمه بفواتهم ، فقال : ذهب القوم بأرضكم غير ذى شك ، ما كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا ، فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظا ، وأغار بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد إلى أن جاءوا صيادين قد اصطادوا سمكا ، وسار سواد بن مالك التميمى إلى النجاد والفراض إلى جنبها ، فاستتاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور ، فأوقروها سمكا ، واستاقوها ، فصبحوا بها العسكر ، فقسم سعد السمك بين الناس ، وقسم الدواب ، ونفل الخمس إلا ما رد منه على المجاهدين ، وأسهم على السبى ، وهذا يوم الحيتان ، وكان الآزاذمرد الآزاذبه قد خرج فى الطلب ، فعطف عليه سواد وفوارس معه ، فقاتلهم على قنظرة السيلحين ، حتى عرفوا أن قد نجت الغنيمة ، ثم اتبعوها حتى أبلغوها المسلمين ، وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم ، وأما الحنطة والشعير والتمر ،


فكانوا قد اكتسبوا منه ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا ، فكانت السرايا إنما تسرى للحوم ، ويسمون أيامها بها ، كيوم الأباقر ويوم الحيتان. وخرج ، أيضا ، مالك بن ربيعة بن خالد ، من تيم الرباب ، ومعه المسافر بن النعمان التميمى فى سرية أخرى ، فأغاروا على الفيوم فأصابوا إبلا لبنى تغلب والنمر فشلوها ومن فيها ، فغدوا بها على سعد ، فنحرت الإبل فى الناس ، وأخصبوا.

ولما كتب سعد إلى عمر ، رحمه‌الله ، يخبره بأمر ابن كسرى ، وإعداده للمصادمة ، وأن من كان صالح المسلمين من أهل السواد قد صاروا إلبا عليهم لأهل فارس ، قال : وأمر الله بعد ماض ، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا ، فنسأل الله خير القضاء ، وخير القدر فى عافية. كتب إليه عند ذلك عمر ، رحمه‌الله :

قد جاءنى كتابك وفهمته ، فأقم مكانك حتى ينغض الله لك عدوك ، واعلم أن لها ما بعدها ، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن ، فإنه خرابها إن شاء الله.

وجعل عمر يدعو لسعد خاصة ، وللمسلمين عامة ، ويدعون له معهم.

وفيما ذكر سيف عن رجاله (١) قالوا : كان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه عنها إلى أن لقى سعدا أربعة أشهر ، لا يقدم ولا يقاتل ، رجاء أن يضجروا بمكانهم ، وأن يجهدوا فينصرفوا ، وكان يكره القتال مخافة أن يلقى ما لقى من قبله ، ويحب المطاولة له لو لا أن الملك جعل يستعجله وينهضه ويقدمه حتى أقحمه.

وكتب عمر ، رضي‌الله‌عنه ، إلى سعد :

إنه قد ألقى فى روعى أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموهم ، فاطرحوا الشك ، وآثروا عليه اليقين ، فمن لاحن منكم أحدا من العجم بأمان بإشارة أو بلسان ولا يدرى الأعجمى ما كلمتموه به ، وكان عندهم أمانا ، فأجروا ذلك مجرى الأمان ، وآثروا اليقين والنية على الشك ، وإياكم والمحك ، وعليكم بالوفاء ، فإن الخطأ مع الوفاء له بقية ، والخطأ بالغدر هلكة ، وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم ، وإياكم أن تكونوا شينا على المسلمين ، وسببا لتوهينهم.

وكتب إليه سعد يستمده ، فكتب إليه عمر :

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٠٩).


أتستمدني وأنت فى عشرة آلاف ، ومعك مالك بن عوف وحنظلة بن ربيعة وطليحة ابن خويلد وعمرو بن معدى كرب فى أمثالهم من فرسان العرب ، ومن معك من أهل الحسبة والرغبة فى الجهاد ، فتوكل على الله واستعنه وناهض عدوك ، ولا تهيب الناس ، واستفتحوا بحسن النية والحسبة والزهد فى الدنيا والإنصاف ، والصبر الصبر ، والصدق الصدق ، فإن النصر ينزل مع الصبر ، والأجر على قدر الحسبة ، واحذر على المسلمين ، وتحرز من البيات ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، واندب الناس إلى القتال ، ونفل أهل البلاء ، ومن قتل قتيلا فنفله سلبه ، ونكل على المعصية. واجعل الناس أسباعا ، واستعمل على كل سبع رجلا ، وقال بعضهم : أعشارا ، وقد كتبت إلى المغيرة بن شعبة أن يشخص إليك فى طائفة ممن قبله بالبصرة ، وكتبت إلى أبى عبيدة أن يمدك بجمع من الشام ، فإذا قدموا عليك فناهض عدوك ، وإن رأيت فرصة قبل ذلك فاغتنمها ، ولا تؤخر ذلك إن شاء الله ، ولا تستوحشن لقلة من معك ، ولا تهن لكثرة عدوك ، فكثيرا ما ينصر القليل ويخذل الكثير ، وقبلك طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معدى كرب ، وحنظلة بن ربيعة ، وأوس بن معدان ، وابن زيد الخيل ، فلا تؤمرن أحدا منهم على أكثر من مائة ، وشاور عمرا وطليحة فى الحرب ، ولا تولهما جمعا.

فانتهى سعد ، رحمه‌الله ، إلى كل ما أمره به عمر ، رضي‌الله‌عنه ، من تهيئة الناس أسباعا أو أعشارا ، وقدم عليهم المغيرة فى ثمانمائة ، ويقال فى ألف وخمسمائة ، والمسلمون فى ضيق ، فقال المغيرة ، رحمه‌الله : من آسى إخوانه بطعامه وزاد هو بناقته وجمله ، فنحروا لهم وأخرجوا أطعماتهم فأصابوا منها ووقوا ، وأشار المغيرة على سعد أن يوجه السرايا فيصيبوا الطعام والعلف ، فقبل سعد مشورته ، وبث السرايا ، فأصابوا من الأطعمة ما كانوا يكتفون به زمانا.

وقد روى عن الشعبى أن عمر ، رحمه‌الله ، كتب إلى سعد مرتحله من زرود : أن ابعث إلى فرج الهند رجلا ترضاه يكون بحياله ، ردءا لك من شيء إن أتاك من تلك التخوم ، فبعث إليه المغيرة بن شعبة فى خمسمائة ، فكان بحيال الأبلة من أرض العرب ، فأتى غضبا ، ونزل على جرير ، وهو يومئذ هنالك ، فلما ننزل سعد بشراف كتب إلى عمر بمنزله ومنزل الناس ، فكتب إليه عمر :

إذا جاءك كتابى هذا فعشر الناس وعرف عليهم ، وأمر على أجنادهم ، وعبئهم ، ومر رؤساء المسلمين أن يشهدوا ، وقدرهم وهم شهود ، ثم وجههم إلى أصحابهم ، وواعدهم القادسية ، واضمم إليك المغيرة فى خيله ، واكتب إلىّ بالذى يستقر عليه أمرهم.


فبعث سعد إلى المغيرة ، فانضم إليه وإلى رؤساء القبائل ، فأتوه ، فقدر الناس ، وعبأهم بشراف ، فأمر أمراء الأجناد ، وع رف العرفاء ، على كل عشرة رجلا ، كما كانت العرافات أزمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء ، وأمر على الرايات رجالا من أهل النباهة ، وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل فى الإسلام ، وولى الحرب رجالا ، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وركبانها وطلائعها ، فلم يخرج من شراف إلا عن تعبئة ، ولا فصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه.

قالوا فيما ذكر سيف عن رجاله : وبعث عمر ، رحمه‌الله ، الأطبة ، وبعث على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلى ، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء ، وجعل داعيهم ورائدهم سلمان الفارسى. فكان أمراء التعبئة يلون الأمير والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار ، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات ، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤساء القبائل ، فلما فرغ سعد من تعبئته وأعد لكل شيء من أمره جماعات ورؤساء كتب بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، ولا خفاء بما بين مقتضى هذا الحديث وبين ما قبله من الاختلاف بالتأخر أو التقدم ، والله تعالى أعلم.

وبعث سعد فى مقامه بالقادسية إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أتى ميسان ، فطلب بقرا وغنما فلم يقدر عليها ، وتحصنوا منه فى الأفدان ، وأوغلوا فى الآجام ، فضرب حتى أصاب رجلا على طف أجمة ، فسأله واستدله على البقر والغنم ، فحلف له ، وقال : ما أعلم ، وإذا هو راعى ما فى تلك الأجمة ، فصاح منها ثور : كذب والله وها نحن أولاء ، فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر ، فقسم ذلك سعد على الناس ، فأخصبوا أياما ، وهذا اليوم هو يوم الأباقر.

وذكر المدائنى أن حنظلة بن الربيع الأسيدى هو صاحب هذه الغارة ، وأنه أتى أسفل الفرات فلم يصب مغنما ولم يلق كيدا ، فرجع ، فلقوا رجلا ، فقالوا له : هل تعلم مكان أحد من عدونا بحضرتك؟ قال : لا ، قد رغبتموهم فخلوا عن مساكنهم ، قالوا : فتعلم مكان طعام ، أو شاء ، أو بقر؟ قال : لا ، وسمعوا خوار ثور من غيضة ، فدخلوها ، فأصابوا بقرا وغنما.

قال : وقال الحجاج لرجل من بنى أسد : أشهدت القادسية؟ قال : نعم ، قرمنا إلى اللحم فخرجت فى رجال من المسلمين نلتمس اللحم ، فأخفقنا ، فلما انصرفنا إذا بصوت عن أيماننا : ادخلوا الغيضة فإن فيها غنيمة وأجرا ، فدخلنا غيضة قريبا منا فإذا عشرة من


الأعاجم ، وإذا طعام وبقر وغنم ، فقاتلونا عما فى أيديهم ، فاستشهد منا رجلان ، وقتلنا منهم ثمانية ، وأسرنا رجلين فقتلناهما صبرا ، وحملنا الطعام ، واستقنا الشاء والبقر ، فقسم سعد ذلك بين المسلمين ، ونفل كل رجل منا قتل رجلا سلبه. فقال الحجاج : هذه بشرى من الله لأوليائه ، لا يكون ذلك حتى يكون الجمع برّا تقيا. فكيف كانوا؟ قال : لا تسأل عن صدق قول ، ووفاء بالعهد ، وأداء للأمانة ، وصبر عند البأس ، والله أعلم ما يسرون ، فأما الظاهر فإنا لم نر قوما قط أزهد فى دنيا ولا أشد لها بغضا ، ما اعتد على رجل منهم فى يوم بواحدة من ثلاث : لا بجبن ، ولا بغدر ، ولا بغلول ، أشداء على الكفار ، رحماء بينهم ، قال الحجاج : هذه صفة الأبرار.

وكتب عمر إلى سعد ، رضي‌الله‌عنهما : أخبرنى عن الناس وبلائهم ، أتفاضلت القبائل فيه ، أو أخرجوا على السواء؟ فكتب إليه : إن القبائل لم تزل إلى أن كتبت إليك متساوية فى كل غارة ، ومناهبة فى جميع ما أعدوا ، وقسم ما ناهبوا ، ولم يفترقوا إلا فى ثلاث ، لما نزلنا بلاد القوم وعسكرنا بالقادسية ، قرمت العرب إلى طعامهم ، وعاموا إلى شرابهم ، فانتدب لهم من مضر عاصم بن عمرو ، وسواد بن مالك ، ومالك بن ربيعة ، والمساور بن النعمان ، وغالب بن عبد الله ، وعبيد الله بن وهب ، وعبيد الله بن عمير الأشجعى ، وعمرو بن الهذيل الأسدي ، وعمرو بن ربيعة ، والحارث بن ذى البردين ، فألحموا الناس وألبنوهم حتى تفرغوا لحربهم ، وانتدب من ربيعة : عبد الله بن عامر بن حجية ، وأبجر بن جابر ، وخالد بن المعمر ، وعائذ بن أبى مرضية ، ويزيد بن مسهر ، وسمى آخرين ، فأنكحوا الناس وأخدموهم بنات فارس ، وبنيهم ، فرغبوا فى حربهم. وانتدب من أهل اليمن : خولى بن عمرو ، والحارث بن الحارث ، وعمرو بن خوثعة ، والقاسم بن عقيل ، وخميصة بن النعمان ، وسمى غيرهم ، فحملوا الناس على خيول وبغال وحمير ، ودعوا الخيل العراب.

وأقام سعد بالمسلمين فى منزله من القادسية ، ورستم بالحيرة ، وكف رستم عن القتال ، وطمع أن يضجر المسلمون بمكانهم ، وكف سعد عنهم والمسلمون ، وصبروا رجاء أن يصالحوا عن بلادهم ويعطوا الجزية ويسلموا.

وكان عمرا ، رحمه‌الله ، قد عرف أن القوم سيطاولونهم فلذلك ما عهد إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولوهم أبدا حتى ينقضوهم ، فحينئذ نزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر ، وأبى الله إلا أن يتم نوره ، وإذا أراد الله أمرا أصابه ، فأقاموا واطمأنوا ، فكانوا يغيرون على السواد ، فانتسفوا ما يليهم فحووه ، وأعدوا للمطاولة ، أو يفتح عليهم.


وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون ، فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم ، وعلم أنهم غير منتهين ، وأنه إن أقام لم يتركوه ، وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية ، وإخرابهم البلاد بالغارات ، ورستم كاف عنهم ، مقيم بإزائهم ، أمر رستم بالشخوص لمناجزتهم ، ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق ، ثم يطاولهم مع المنازلة ، ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون ، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم سعود.

وعن سيف (١) عن رجاله ، قالوا : وجعلت السرايا تطوف ، ورستم بالنجف ، والجالينوس بين النجف والسيلحين ، وذو الحاجب بين رستم والجالينوس ، وقال الناس لسعد : قد ضاق بنا المكان فأقدم ، فزجر من كلمه بذلك ، وقال : إذا كفيتم الرأى فلا تكلفوا ، فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى ، فاسكتوا ما سكتنا عنكم.

وعن أبى عثمان النهدى (٢) أن سعدا ، رحمه‌الله ، لما نزل رستم النجف بعث الطلائع ، وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس ، فأخرج طليحة فى خمسة ، وعمرو بن معدى كرب فى خمسة ، وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم لا يشعرون بفصولهم من النجف ، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها ، فقال بعضهم : ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر ، وقال بعضهم : ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم. فقال عمر لأصحابه : صدقتم ، وقال طليحة لأصحابه : كذبتم ، ما بعثتم لتخبروا عن السرح ، أو ما بعثتم إلا للخبر ، قالوا : فما تريد؟ قال : أريد أن أخالط عسكر القوم أو أهلك ، قالوا : أنت رجل فى نفسك غرر ، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن ، فارجع معنا ، فأبى. وأتى سعد الخبر برحيل فارس ، فبعث قيس بن هبيرة ، وأمره على مائة ، وعليهم أن لقيهم ، فانتهى إليهم وقد افترقوا ، وفارقهم طليحة ، فرجع بهم قيس فأخبروا سعدا بقرب القوم ، ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم ، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم.

فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم فى ناحية العسكر ، فإذا فرس لم ير فى خيل القوم مثله ، وفسطاط أبيض لم ير مثله ، فانتضى سيفه ، فقطع مقود الفرس ، ثم ضمه إلى مقود فرسه ، وحرك فرسه فخرج يعدو به ، ونذر به القوم ، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول ، فخرجوا فى طلبه ، فلحقه وقد أصبح فارس من الجند ، فلما غشية وبوّأ له الرمح

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥١٠).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥١٢ ـ ٥١٤).


ليطعنه عدل طليحة فرسه ، فبدر الفارسى بين يديه ، فكر عليه طليحة فقسم ظهره بالرمح ، ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك ، ولحق به آخر وقد رأى مصرع صاحبيه ، وهما ابنا عمه ، فازداد حنقا ففعل معه طليحة كما فعل معهما ، ثم كر عليه ودعاه إلى الإسار ، فعرف الفارسى ، أنه قاتله ، فاستأسر ، وأمره طليحة أن يركض بين يديه ، ففعل ، ولحق الناس ، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث ، وقد شارف طليحة عسكر المسلمين ، فأحجموا ونكصوا.

وأقبل طليحة حتى غشى العسكر ، وهم على تعبئة ، فأفزع الناس ، وجوزوه إلى سعد ، فلما انتهى إليه قال : ويحك ما وراءك قال : دخلت عساكرهم وجستها ، وقد أخذت أفضلهم توسما ، وما أدرى أصبت أو أخطأت وها هو ذا فاستخبره. فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسى ، فقال الفارسى : أتؤمنني على دمى إن صدقتك؟ قال : نعم ، والصدق فى الحرب أحب إلينا من الكذب ، قال : أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلى ، باشرت الحرب وغشيتها ، وسمعت بالأبطال ولقيتها مذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى ، فلم أر ولم أسمع بمثل هذا ، أن رجلا قطع عسكرين لا يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ذلك ، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند وهتك أطناب بيته ، وطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس ، يعدل بألف فارس ، فقتله ، ثم أدركه الثانى ، وهو نظيره فقتله ، ثم أدركته ولا أظننى خلفت بعدى من يعدلنى ، وأنا الثائر بالقتيلين ، وهما ابنا عمى ، فرأيت الموت فاستأسرت ثم أخبره عن أهل فارس ، أن الجند عشرون ومائة ألف ، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم. وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما ، وعاد إلى طليحة فقال : لا والله ما تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح والمواساة ، لا حاجة لى فى صحبة فارس ، فكان من أهل البلاء يومئذ.

وعن موسى بن طريف (١) أن سعدا بعث طليحة وعمرو بن معدى كرب ، فأمر طليحة بعسكر رستم ، وأمر عمرا بعسكر الجالينوس ، فخرج فى عدة ، وخرج طليحة وحده ، فبعث قيس بن هبيرة فى آثارهما ، وقال : إن لقيت قتالا فأنت عليهم ، فخرج حتى تلقى عمرا ، فسأله عن طليحة ، فقال : لا علم لى به ، فلما انتهيا إلى النجف قال له قيس : ما تريد؟ قال : أن أغير على أدنى عسكرهم ، قال : فى هؤلاء قال : نعم ، قال : لا أدعك والله وذاك أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال : وما أنت وذاك قال : إنى أمرت

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥١١).


عليك ، ولو لم أكن أميرا لم أدعك. فقال عمرو بعد أن شهد لقيس نفر باستعمال سعد إياه عليه وعلى طليحة : والله يا قيس ، إن زمانا تكون علىّ فيه أميرا لزمان سوء ؛ لأن أرجع عن دينكم هذا إلى دينى الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلىّ أن تؤمر علىّ ثانية ، ولئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقنه ، قال : ذلك إليك بعد مرتك هذه ، فرده ، فرجع إلى سعد بالخبر وبأعلاج وأفراس ، وشكا كل واحد منهما لصاحبه ، أما قيس فشكا عصيان عمرو ، وأما عمرو فشكا طاعة قيس ، فقال سعد : يا عمرو ، الخير وسلامة مائة أحب إلىّ من مصاب مائة تقتل ألفا ، أتعمد إلى حلبة فارس فتصادمهم بمائة؟ إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى. فقال له عمرو : إن الأمر لكما.

قلت : وخرج طليحة حتى أتى النجف فدخل عسكر رستم فى ليلة مقمرة ، فتوسم فيه ، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ، ثم خرج حتى مر بعسكر ذى الحاجب ، فهتك على آخر بيته وحل فرسه ، ثم خرج حتى أتى الخرار واتبعه هؤلاء ، فكان أولهم لحاقا به الجالينوس ثم الحاجبى ثم النخعي ، فأصاب الأولين وأسر الآخر ، وأتى به سعدا فأخبره ، وأسلم فسماه سعد مسلما ، ولزم طليحة فكان معه فى تلك المغازى كلها.

وعن موسى بن طريف ، أيضا ، قال : قال سعد لقيس بن هبيرة : أخرج يا عاقل ، فإنه ليس وراءك من الدنيا شيء تحنو عليه حتى تأتينى بخبر القوم ، فخرج ، وسرح معه عمرو ابن معدى كرب وطليحة ، فلما جاز القنطرة لم يسر إلا يسيرا حتى انتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم ، وإذا رستم قد ارتحل من النجف فنزل منزل ذى الحاجب ، وارتحل الجالينوس فنزل ذو الحاجب منزله ، ونزل الجالينوس بطيزناباذ (١) ، وقدم تلك الخيل ، فقال قيس : قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين. فأنشب القتال ، وطاردهم ساعة ، ثم حمل عليهم ، فكانت هزيمتهم ، وأصاب منهم اثنى عشر رجلا ، وأسر ثلاثة ، وأصاب أسلاب ، فأتوا سعدا بالغنيمة وأخبروه الخبر ، فقال : هذه بشرى إن شاء الله ، إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم ، فلهم أمثالها ، ودعا عمرا وطليحة ، فقال : كيف رأيتما قيسا؟ فقال طليحة : رأيناه أكيس منا ، وقال عمرو : الأمير أعلم بالرجال منا ، فقال سعد : إن الله أحيا بالإسلام قلوبا كانت ميتة ، وأمات به قلوبا كانت حية ، وإنى أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام ، فتموت قلوبكما وأنتما حيان ، الزموا السمع والطاعة والاعتراف بالحقوق ، فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام.

__________________

(١) طيزناباذ : موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق ، بينها وبين القادسية ميل. انظر : معجم البلدان (٤ / ٥٤ ، ٥٥).


قالوا : ولما انتهى رستم إلى العتيق ، وقف عليه بحيال عسكر سعد ، ونزل الناس ، فما زالوا يتلاحقون وينزلهم فينزلون ، حتى اعتموا من كثرتهم.

وقال المدائنى : مكثوا ليلتهم كلها يتحدرون ، ومن غد إلى قريب من نصف النهار بعده تجب منها القلوب.

وقال قيس بن أبى حازم ، وكان شهد القادسية : كان مع رستم ثمانية عشر فيلا ، ومع الجالينوس خمسة عشر فيلا.

وقال غيره : كان فى جملتها فيل سابور الأبيض ، وكانت الفيلة تألفه ، وكان أعظمها وأقدمها.

وقال الرفيل : كانت ثلاثة وثلاثون ، فى القلب ثمانية عشر ، وفى المجنبتين خمسة عشر.

قال : ولما نزل رستم العتيق وبات به ، أصبح غاديا على التصفح والتحرز ، فساير العتيق نحو خفان ، حتى أتى على مقطع عسكر المسلمين ، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة ، فتأمل القوم ، حتى أتى على تل يشرف عليهم ، فلما وقف على القنطرة أرسل زهرة بن جوية ، وكان هناك مسلحة لسعد ، فخرج إليه حتى واقفه ، فأراده على أن يصالحهم ، ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه ، وجعل يقول إنكم جيراننا وقد كانت طائفة منكم فى سلطاننا ، فكنا نحسن جواركم ، ونكف الأذى عنكم ، ونوليهم المرافق الكثيرة ، ونحفظهم فى أهل باديتهم ، فنرعيهم مراعينا ، ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم التجارة فى شيء من أرضنا ، فقد كان لهم فى ذلك معاش ، يعرض له بالصلح ولا يصرح ، فقال له زهرة : صدقت ، قد كان ما تذكر ، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا ، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة ، كما ذكرت ، يدين لكم من قدم عليكم منا ، ويضرع إليكم يطلب ما فى أيديكم ، ثم بعث الله ، عزوجل ، إلينا رسولا ، فدعانا إلى دينه فأجبناه ، فقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى ، فأنا منتقم بهم منه ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق ، لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به أحد إلا عز.

قال رستم : وما هو؟ قال : أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به ، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى.


قال : ما أحسن هذا وأى شيء أيضا؟.

قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى.

قال : حسن ، وأى شيء أيضا؟.

قال : والناس بنو آدم وحواء ، إخوة لأب وأم.

فقال : ما أحسن هذا ثم قال له رستم : أرأيت لو أنى رضيت هذا الأمر وأجبتكم إليه ومعى قومى كيف يكون أمركم أترجعون؟.

قال : إى والله ، ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة.

قال : صدقتنى والله ، أما أن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة ، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم : تعدوا طورهم ، وعادوا أشرافهم.

فقال له زهرة : نحن خير الناس للناس ، ولا نستطيع أن نكون كما تقولون ، نطيع الله فى السفلة ، ولا يضرنا من عصى الله فينا.

فانصرف عنه ، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا منه ، وأنفوا ، فقال : أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أجزعنا وأجبننا.

وعن سيف (١) عن رجاله ، قالوا : أرسل سعد إلى المغيرة وبسر بن أبى رهم وعرفجة ابن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعى بن عامر وقرفة بن أبى زاهر التيمى الوائلى ومذعور ابن عدى العجلى والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة ، وهما من بنى عجل ، أيضا ، وكان سعيد من دهاة العرب ، فقال لهم سعد : إنى مرسلكم إلى هؤلاء ، فما عندكم؟.

قالوا : نتبع ما تأمرنا به ، وننتهى إليه ، فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغى وأنفعه للناس ، فكلمناهم به.

قال سعد : هذا فعل الحزمة ، اذهبوا فتهيئوا.

فقال ربعى بن عامر : إن الأعاجم لهم آراء وأدب ، ومتى نأتهم جميعا يرون أنا قد احتفلنا لهم فلا تزدهم على رجل ، فمالئوه جميعا على ذلك ، فقال : فسرحنى ، فسرحه ، فخرج ربعى بن عامر ليدخل على رستم عسكره ، فاحتبسه الذي على القنطرة ، وأرسل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥١٨).


إلى رستم بمجيئه ، فاستشار عظماء أهل فارس ، فقال : ما ترون؟ أنباهي أم نتهاون؟ فاجتمع ملؤهم على المباهاة ، فأظهروا الزبرج ، وبسطوا البسط والنمارق ، ولم يتركوا شيئا ، ووضعوا لرستم سرير الذهب ، وألبس زينته ، من الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعى يسير على فرس له زباء قصيرة ، معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق ، ورمحه معلوب بقد ، معه حجفة من جلود البقر ، على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف ، ومعه فرسه ونبله.

فلما انتهى إلى أدنى البسط ، قيل له : انزل ، فحمل فرسه عليها ، فلما استوت على البسط نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ، ثم أدخل الحبل فيهما ، فلم يستطيعوا أن ينهوه ، وإنما أروه التهاون ، وعرف ما أرادوا ، فأراد استحراجهم ، وعليه درع له كأنه أضاة ، ويلمقة عباءة بعيره ، قد جابها وتدرعها ، وشدها على وسطه بسلب ، ولأسه أربع ضفائر ، قد قمن قياما ، كأنهن قرون الوعول ، وكان أكثر العرب شعرة. فقالوا له : ضع سلاحك ، فقال : إنى لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم ، أنتم دعوتمونى ، فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستما ، فقال : ائذنوا له ، هل هو إلا رجل فأقبل يتوكأ على رمحه ، وزجه نصل يقارب الخطو ، ويزج النمارق والبسط ، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة.

فلما دنا من رستم تعلق به الحرس ، وجلس على الأرض ، وركز رمحه فى البساط ، فقالوا : ما حملك على هذا؟ قال : إنا لا نستحب القعود على زينتكم. فقال له رستم : ما جاء بكم؟ فقال : الله ابتعثنا ، وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبله قبلنا ذلك منه ، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ، ومن أبى قاتلناه أبدا ، حتى نفضى إلى موعود الله. قال : وما موعود الله؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن بقى. قال رستم : قد سمعنا مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال : نعم ، كم أحب إليك؟ أيوم أم يومان؟ قال : لا ، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال : إن مما سن لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمل به أئمتنا ، ألا نمكن الأعداء من بداتنا ، ولا نؤجلهم عند الالتقاء أكثر من ثلاث ، فنحن مترددون عنكم ثلاثا ، فانظر فى أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل ، اختر الإسلام وندعك وأرضك ، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك ، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه ، وإن كنت إليه محتاجا منعناك ، أو المنابذة فى اليوم الرابع ، ولسنا نبدؤك فيما


بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا ، أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى. قال : أسيدهم أنت؟ قال : لا ، ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض ، يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس ، فقال : ما ترون؟ هل سمعتم كلاما قط أوضح نصرا ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب ، أما ترى إلى ثيابه فقال : ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة ، إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ، ليسوا مثلكم فى اللباس ، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه ، فقال لهم : هل لكم أن ترونى فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار. ثم رمى ترسا ورموا حجفته ، فخرق ترسهم وسلمت حجفته. فقال : يا أهل فارس ، إنكم عظمتم الطعام والشراب ، وأنا صغرناهما ، ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل.

فلما كان الغد بعثوا : أن ابعث إلينا ذلك الرجل ، فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن ، فأقبل فى نحو ذلك الزى ، حتى إذا كان على أدنى البساط ، قيل له : أنزل ، قال : ذلك لو جئتكم فى حاجتى ، فقولوا لملككم : أله حاجة أم لى؟ فإن قال لى فقد كذب ، ورجعت عنه ، وتركتكم ، وإن قال له ، لم آته إلا على ما أحب. فقال : دعوه ، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره ، فقال له : انزل ، قال : لا أفعل ، فلما أبى سأله : ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال : إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا فى الشدة والرخاء ، فهذه نوبتى. قال : ما جاء بكم؟ قال : الله عزوجل منّ علينا بدينه ، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث ، فأيها أجابوا إليه قبلناه : الإسلام وننصرف عنكم ، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك ، أو المنابذة. فقال : أو الموادعة إلى يوم. فقال : نعم ، ثلاثا من أمس.

فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده ، وأقبل على أصحابه فقال : وليكم ألا ترون ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا ، وحقر ما نعظم ، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به ، فهو فى يمن الطائر ، ذهب بأرضنا وما فيها إليهم ، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا ، فهو فى يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا ، فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم.

فلما كان من الغد أرسل : ابعثوا إلينا رجلا ، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة. قالوا : فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستما فى إجازته ، فأذن فى ذلك ، فأقبل المغيرة والقوم فى زيهم فى الأمس ، لم يغيروا شيئا من شارتهم ، تقوية


لتهاونهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها غلوة ، وجاء المغيرة وله أربع ضفائر يمشى ، حتى جلس معه على سريره وشارته ، فوثبوا إليه فنتروه وأنزلوه ومغثوه ، فقال : إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنا معشر العرب سواء ، لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض ، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ، ولم آتكم ولكنكم دعوتمونى ، زاد المدائنى : وليس ينبغى لكم إذا أرسلتم إلىّ أن تمنعونى من الجلوس حيث أردت ، وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه ، اليوم علمت أنكم مغلوبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ، ولا على هذه العقول.

فقالت السفلة : صدق والله العربى ، وقالت الدهاقين : والله لقد رمى بكلام لا يزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه ، قاتل الله أولينا ، ما كان أحمقهم حين يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع به ، فقال له : يا عربى ، إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك ، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغى من ذلك ، والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق ، وليس ما صنعوا بضائرك ولا ناقصك عندنا ، فاجلس حيث شئت ، فأجلسه معه ، ثم قال : ما هذه المغازل التي معك؟ ، يعنى السهام ، قال : ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم راماهم ، ثم قال له رستم : تكلم أو أتكلم؟ فقال المغيرة : أنت الذي بعثت إلينا ، فتكلم ، فأقام الترجمان بينهما ، وتكلم رستم ، فحمد قومه ، وعظم الملك والمملكة ، وقال : لم نزل متمكنين فى البلاد ، ظاهرين على الأعداء ، أشرافا فى الأمم ، ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا ، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو الشهرين ، لأجل الذنوب ، فإذا انتقم الله منا فرضى رد إلينا عزنا ، ثم إنه لم تكن فى الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم ، كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة ، لا نراكم شيئا ولا نعدكم ، وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد فى بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين ، وتنصرفون عنا ، فإنى لست أشتهى أن أقتلكم ، ولا آسركم.

فتكلم المغيرة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله سبحانه خالق كل شيء ورازقه ، يرفع من يشاء ويضع من يشاء ، فمن صنع شيئا فإن الله ، تبارك اسمه وتعالى ،


هو يصنعه والذي صنعه. وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين فى البلاد وعظم السلطان فى الدنيا ، فنحن نعرفه ولا ننكره ، والله صنعه لكم ، ووضعه فيكم ، وهو له دونكم ، وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال ، وضيق المعيشة ، واختلاف القلوب ، فنحن نعرفه ، والله ابتلانا بذلك ، وصيرنا إليه ، والدنيا دول ، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ، ويصيروا إليها ، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر ، لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ، كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ، إن الله تعالى بعث فينا رسولا ، فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون ، وأظهر الله دعوته ، وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده ، حتى دخلوا فى الإسلام طوعا وكرها ، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا ، فمن أباه قاتلناه.

وذكر نحو ما تقدم من الكلام فى الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام ، وقال له:فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإلا السيف إن أبيت.

فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا ، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين.

فانصرف المغيرة ، وخلص رستم بأشراف فارس ، فقال : أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا؟ ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم ، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا ، وسلكوا طريقا واحدا ، ولزموا أمرا واحدا ، هؤلاء والله الرجال ، صادقين أو كاذبين ، والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا ، ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم ، وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا ، فقال : والله إنى لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ، وإن هذا منكم رياء ، فازدادوا لجاجا.

وفى بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون ، قال : هو الذي نتمنى ، أن المقتول منا صائر فى الجنة ، والهارب فى النار ، وللباقى الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له ، وقد أصبنا فى بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار ، فأكلنا منها وأطعمنا أهلينا ، فقالوا : لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد.

قال رستم : أما لنقرننكم فى الجبال.

قال المغيرة : أما وبنا حياة فلا.


قال رستم : ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب ، فليس بيننا وبينكم صلح ، ولنفقأن عينك غدا.

فقال المغيرة : وأنت ستقتل غدا إن شاء الله ، وإن ما قلت لى ليسرنى ، لو لا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرنى أن تذهبا جميعا.

ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم : ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى ، وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا ، ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه ، ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه ، وقد رأيت ليلتى هذه كأن القوس التي فى السماء خرت ، وكأن الحيتان خرجن من البحر ، وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم ، فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم؟ قالوا : لا.

قال : فأنا رجل منكم ، وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة ، فقال شاهين الأزدى : لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم. فكتب إليه أمره بقتالهم ، وقال : إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بينى وبينك ، على كل ربوة رجلا ، فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضى الخبر إلىّ.

وحدث سيف (١) عن رجاله ، قالوا : أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعا ، وحبس الثلاثة ، فخرجوا حتى أتوه ، فقالوا له : إن أميرنا يقول لك : إن الحرب تحفظ الولاة ، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك ، وهى العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله ، عزوجل ، إليه ، ونرجع إلى أرضنا ، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض ، إلا أن داركم لكم ، وأمركم فيكم ، وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا ، وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم ، ولا يكونن هلاك قومك على يديك ، فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.

فقال رستم : إنى قد كلمت منكم نفرا ، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم ، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام ، وسأضرب لكم مثلكم. إنكم كنتم أهل جهد فى المعيشة ، وقشف فى الهيئة ، لا تمتنعون ولا تنتصفون ، فلم نسئ جواركم ، ولم ندع مواساتكم ، تقتحمون المرة بعد المرة ، فنميركم ثم نردكم ، وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم ، فلما تطعمتم طعامنا ، وشربتم شرابنا ، وأظلكم ظلنا ، وصفتم ذلك لقومكم ، ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم ، وإنما مثلكم فى ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٢٥ ـ ٥٢٨).


كرم ، فرأى فيه ثعلبا ، فقال : وما ثعلب فانطلق الثعلب ، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم ، فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها ، وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد ، فارجعوا عنا عامكم هذا ، وامتاروا حاجتكم ، ولكم العود كلما احتجتم ، فإنى لا أشتهى أن أقتلكم ، وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا ، ثم كان مصيرهم القتل والمهرب ، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى ، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم ، وخرج مما كان أصاب ، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب ، وفى الجرة ثقب ، فدخل الأول فأقام فيها ، وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه فى الرجوع ، فيأبى ، فانتهى سمن الذي فى الجرة ، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله ، فضاق عليه الجحر ، ولم يطق الخروج ، فشكى القلق إلى أصحابه ، وسألهم المخرج ، فقالوا : ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل ، فكف وجوع نفسه ، وبقى فى الجرة ، حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله ، فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا.

وقال لهم ، أيضا ، فيما قال : لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ، ما خلاكم يا معشر العرب ، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ، ومثلكم فى هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار ، وقال : من يوصلنى إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهاه أحد إلا عصاه ، فإذا دخله غرق ونشب ، وقال : من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها.

قالوا : فتكلم القوم ، فقالوا : أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى ، وانتشار أمرنا ، فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ، ويبقى الباقى منا فى بؤس ، فبينا نحن فى أسواء ذلك ، فبعث الله ، عزوجل ، فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن ، رحمة رحم بها من أراد رحمته ، ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته ، فبدأ بنا قبيلة قبيلة ، فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به ، ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه ، ثم الذين يلونهم ، حتى طابقناه على ذلك كلنا ، فنصبنا له جميعا ، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا ، فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ، ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة ، وكان مما أتى به من عند ربنا ، عزوجل ، جهاد الأدنى فالأدنى ، فصرنا فى ذلك فيما بيننا ، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه ، حتى اجتمعت العرب على هذا ، وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق


الخلائق بالتفهم معه ، ثم أتيناكم بأمر ربنا ، نجاهد فى سبيله ، وننفذ لأمره ، ونستنجز موعوده ، وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه ، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا ، وخلفنا فيكم كتاب الله ، عزوجل ، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء ، فإن فعلتم وإلا فإن الله ، عزوجل ، قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا ، فو الله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ، ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم ، وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة ، وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال ، فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل ، ولكنا سنضرب لكم مثلا ، وإن مثلكم مثل رجل غرس أرضا ، واختار لها الشجر والحب ، وأجرى لها الأنهار ، وزينها بالقصور ، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ، ويقومون على جناتها ، فخلفه الفلاحون فى القصور بما لا يحب ، وفى الجنان بمثل ذلك ، فأطال نظرتهم ، فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم ، استعتبهم فكابروه ، فدعا إليهم غيرهم ، فأخرجهم منها ، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس ، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا ، والله لو لم يكن ما نقول لكم حقا ، ولم تكن إلا الدنيا ، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم ، ورأينا من زبرجكم من صبر ، ولقارعناكم أو نغلبكم عليه.

فقال رستم : أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقالوا : بل اعبروا إلينا ، فخرجوا من عنده عشيا ، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، وأرسل إليهم : شأنكم والعبور ، فأرادوا القنطرة ، فأرسل إليهم : لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم ، تكلفوا معبرا غير القناطر ، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.

وذكر المدائنى أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة ، فوقف بحيال زهرة بن جوية ، وكان عليها ، وقال : ليخرجن إلىّ الموكل بهذا الموضع ، فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب ، معه رمح معلوب ، وسيف رث الجفن ، فقال له الفارسى : إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك ، وأرى سيفك رث الجفن ، قال : إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة ، وقرب إليه الفارسى بالصلح ولم يصرح ، ومناه ، وقال : نحسن جواركم ونرفقكم فى معايشكم. فقال زهرة : إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة ، إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا ، فإن أبيتموه فدنياكم التي تعرضون علينا لنا إن شاء الله ، فقال له الفارسى : فخلوا لنا الطريق فنعبر إليكم فنناجزكم ، قال : لا ، قال : ولم وأنتم تمنون لقاءنا قال : نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه ، فرجع إلى رستم فأخبره ، فأعظم ذلك ، فانصرف الجالينوس ، فجلس رستم يفكر فيما أخبره ، وغلبته عيناه فنام


فانتبه ويده فى كتف جارية قاعدة بين يدى فراشه ، فقال : ما لك؟ قالت : مالت يدك فرفعتها ، فقال : أشفقت أن سقطت من فراش ديباج على بساط ديباج؟ فكيف بها غدا إذا انعفرت فى التراب ووطئتها الخيل؟ قالت : وما يضطرك إلى ذلك؟ وقد أعطوك ما لك فيه نصف ونجاة : إما أن تدخل فى دينهم فتكون مثلهم ، وإما أن تفتدى منهم بشيء تعطيهم ويبقى لك أمرك ، وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض؟ فقال : إن فى عنقى حبلا أقاد به إلى مصرعى ، لا أقدر على الامتناع.

وبات العاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا ، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.

قالوا : ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها ، ثم صعد بها إلى السماء ، فاستيقظ مهموما حزينا ، فدعا خاصته وقصها عليهم ، وقال : إن الله ، عزوجل ، ليعظنا ، لو أن فارس تركونى أتعظ ، أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم فى فعل ولا منطق؟.

يوم أرماث

ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق ، ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم ، وجلس رستم على سريره ، وضربت عليه طيارة ، وعبأ فى القلب ثمانية عشر فيلا ، عليها الصناديق والرجال ، وفى المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال ، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته ، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.

وأخذ المسلمون ، أيضا ، مصافهم ، وكانت التعبئة التي تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وكان من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحد التسعة الذين قاموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة فى العرافة ، وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندى ، وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة ، ووفى الله عزوجل ، فعرف ذلك له ، وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدى ، وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمى ، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلى ، وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدي ، وعلى الركبان عبد الله بن ذى السهمين الخثعمى ، فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم ،


وبين شرحبيل بن السمط ، ووكل صاحب الطلائع بالطرد ، وخلط بين الناس فى القلب والمجنبات ، ونادى مناديه : ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد فى أمر الله تعالى يا أيها الناس ، فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد.

وذكر المدائنى أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجل المغيرة بن شعبة ، فالله تعالى أعلم.

وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس ، كان به عرق النسا ودماميل ، وإنما هو على وجهه وفى صدره وسادة ، وهو مكب عليها ، مشرف على الناس من القصر ، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة ، وهو أسفل منه ، وكان الصف إلى جانب القصر ، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا.

وقيل : بل استخلفه على الناس لأجل شكواه ، فاختلف عليه الناس ، فقال سعد : احملونى ، فأشرفوا به على الناس ، فارتقوا به ، فأكب مطلعا عليهم ، والصف فى أصل حائط قديس ، حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس ، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس ، فهم بهم سعد وشتمهم ، وقال : أما والله لو لا أن عدوكم بحضرتكم لجعلكم نكالا لغيركم فحبسهم فى القصر وقيدهم ، منهم أبو محجن الثقفى.

وقال جرير يومئذ : أما أنى بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن أسمع وأطيع لمن ولى الأمر وإن كان عبدا حبشيا.

وقال سعد : والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدى.

وذكر المدائنى أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا ، فقال له : أمير المسلمين وجع ، وهو فى قصر العذيب مع العيال ، ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه ، فانتخب رستم خمسمائة فارس ، فوجههم ، إليه ، فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادى ، وأخذوا فى خفض من الأرض ، وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا ، فأخبرهم ، فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدى فى خمسمائة من تحت الليل ، فسار إلى العذيب ، وقال لأصحابه : إنه ليطيب نفسى أن عبد الله بن سبرة عند سعد ، فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس ، فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادى السباع ، فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفى ، أحد بنى حرملة بن سعد بن مالك بن


ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، فى سرعان الناس ، معه عشرة فوارس وغلام له روى يقال له يزيد ، كان أصابه يوم اليرموك ، واتبعهم حنظلة فى أصحابه ، فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل أسوارين.

وقال مرة الهمدانيّ ، وكان مع حنظلة : لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا ، فقال حنظلة : صوت ابن الكندية ورب الكعبة ، بعض هنات أبى قيس ، فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه : يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد ، وقد انكسر رمحه ، وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله ، ولا دابة إلا عقرها ، وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح ، فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا ، فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته ، فقتل منهم ثلاثون ، ويقال مائة ، وأفلت الآخرون أكثرهم جريح ، فرجعوا إلى رستم ، فطلب الحيرى ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه ، وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس.

وفيما حكاه سيف عن رجاله (١) : أن سعدا ، رحمه‌الله ، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه. وقال : إن الله وهو الحق ، وقوله الحق ، لا شريك له فى الملك ، وليس لقوله خلف ، قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم ، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج ، وأنتم تطعمون منها وتأكلون ، وتقتلون أهلها ، وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم ، بما نال منه أصحاب الأيام منكم ، وقد جاءكم منهم هذا الجمع ، وأنتم وجوه العرب ، وأعيانهم ، وخيار كل قبيلة ، وعز من وراءكم ، فإن تزهدوا فى الدنيا وترغبوا فى الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة ، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله ، وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم.

وكتب سعد إلى أهل الرايات : إنى قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة ، وليس يمنعنى أن أكون مكانه إلا وجعى الذي كان يعودنى ، وما بى من جبون ، وإنى مكب على وجهى وشخصى لكم باد ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فإنه إنما يأمركم بأمرى ، ويعمل برأيى. فقرئ على الناس فزادهم خيرا ، فانتهوا إلى رأيه ، وقبلوا منه ، وتحاثوا على السمع والطاعة ، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٣١ ، ٥٣٢).


قالوا : وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأى الناس ، والذين انتهت إليهم نجدتهم ، وأصناف الفضل منهم إلى الناس ، فقال : انطلقوا فقوموا فى الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس ، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به ، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم ، فسيروا فيهم ، وحرضوهم على القتال. فساروا فيهم.

فقال قيس بن هبيرة : أيها الناس ، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم ، واذكروا آلاء الله ، وارغبوا إليه فى عادته ، فإن الجنة والغنيمة أمامكم ، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء ، والأرض القفر ، والظراب الخشن ، والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.

وقال غالب بن عبد الله الليثى : أيها الناس ، احمدوا الله على ما أبلاكم ، وسلوه يزدكم ، وادعوه يجبكم ، يا معشر معد ، ما علتكم اليوم وأنتم فى حصونكم ، يعنى الخيل ، ومن لا يعصيكم معكم ، يعنى السيوف؟ فاذكروا حديث الناس فى غد ، فإنه بكم غدا يبدأ ، وبمن بعدكم يثنى.

وقال ابن الهذيل الأسدي : يا معشر معد ، اجعلوا حصونكم السيوف ، وكروا عليهم كأسود الجم ، وتربدوا إليهم تربد النمور ، وادرعوا العجاج ، وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار ، فإذا كلت السيوف فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.

وقال بسر بن أبى رهم : احمدوا الله ، وصدقوا قولكم بفعل ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، انصروا الله ينصركم ، ولا يكونن شيء بأهون عليكم من الدنيا ، فإنها تأتى من تهاون بها ، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم.

وقال عاصم بن عمرو : يا معشر العرب ، إنكم أعيان العرب ، وقد صمدتم لأعيان العجم ، إنما تخاطرون بالجنة ، ويخاطرون بالدنيا ، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا.

وقال ربيع السعدى : يا معشر العرب ، قاتلوا للدين والدنيا ، (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، فإن عظم الشيطان عليكم الأمر ، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.

وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام ، وتواثق الناس ، وتعاهدوا ، واهتاجوا لكل ما ينبغى لهم.


وفعل أهل فارس ، فيما بينهم ، مثل ذلك ، وتعاهدوا وتواصوا ، واقترنوا بالسلاسل ، وكان المقترنون ثلاثين ألفا.

وقال سعد للناس : الزموا مواقفكم ، لا تحركوا شيئا حتى نصلى الظهر ، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا ، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم ، وإنما أعطيتموه تأييدا ، فإذا سمعتم الثانية فكبروا ، ولتستتموا عدتكم ، فإذا كبرت الثالثة فكبروا ، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا ، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم ، وقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

ويروى أنه لما نادى منادى سعد بالظهر ، نادى رستم : أكل عمر كبدى أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا.

وقيل : إن رستم قال نحوا من هذا عند ما نزل بين الحصن والعتيق ، وقد أذن مؤذن سعد الغداة ، وراى الناس يتخشخشون ، فنادى فى أهل فارس : أن اركبوا ، فقيل له : ولم؟

قال : أما ترون إلى عدوكم قد نودى فيهم فتخشخشوا لكم؟ فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم ، وانصرف إليه : فأخبره أن ذلك تخشخشهم للصلاة. فقال رستم بالفارسية ما تفسيره : أتانى صوت عند الغداة ، وإنما هو عمر الذي يعلم الكلاب العقل ، فلما سمع الأذان بالصلاة قال : أكل عمر كبدى.

قالوا : ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر ، رحمه‌الله ، ألزمه إياه ، وكان من القراء ، بقراءة سورة الجهاد ، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها ، فقرأها على الكتيبة التي تليه ، وقرئت فى كل كتيبة ، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها.

قال مصعب بن سعد : وكانت قراءتها سنة ، يقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند الزحف ، ويستقرئها ، فعمل الناس بذلك.

قالوا : ولما فرغ القراء ، كبر سعد فكبر الذين يلونه ، وكبر بعض الناس بتكبير بعض ، فتخشخش الناس ، ثم ثنى فاستتم الناس ، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال ، وخرج أمثالهم من فارس ، فاعتوروا الطعن والضرب ، وخرج غالب بن عبد الله الليثى وهو يقول :

قد علمت واردة المسالح

ذات البنان واللبان الواضح


أنى سمام البطل المشايح

وفارج الأمر المهم الفادح

فخرج إليه هرمز ، وكان من ملوك الباب ، وكان متوجا ، فأسره غالب أسرا ، فجاء به فأدخل إلى سعد ، وانصرف غالب للمطاردة.

وذكر المدائنى أن رستم أمر هرمز فتقدم فى كتيبة ، فشد عليه غالب وزهرة بن جوية ، فسبق إليه غالب فى خيل فقتله.

قالوا : وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول :

قد علمت صفراء بيضاء اللبب

مثل اللجين يتغشاه الذهب

أنى أمر إمرار السبب

مثلى على مثلك يعديه الكثب

فطارد رجلا من أهل فارس ، فهرب منه واتبعه ، حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل ، فترك الفارس البغل ، واعتصم بأصحابه فحموه ، واستاق عاصم البغل والرحل ، حتى آوى إلى الصف ، وإذا الفارس خباز الملك ، وإذا الذي كان معه لطف الملك : الأخبصة والعسل المعقد ، فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم ، وبعث إليهم ليأكلوه وهم فى موقفهم.

وجال عمرو بن معدى كرب بين الصفين يحرض الناس ، ويقول : إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى من فرسه فإنما هو تيس.

قال قيس بن أبى حازم : فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم ، فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها ، فالتفت إليه ثم حمل عليه ، فاعتنقه ، ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه ، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه ، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ، ثم ألقاه. وقال : هكذا فافعلوا بهم. فقلنا : من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع؟.

وقال بعضهم : وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه. ثم كتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء.

وذكر المدائنى أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين ، وقرب له فرس فنزا عليه ، ولم يمسه بيده ، وقال : اليوم ندق العرب دقا. فقال له رجل : قل إن شاء الله. قال : إن شاء وإن لم يشأ ، وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وهم حديثو عهد بالشرك ، فنازلوهم فلم تحك سيوفهم فى جنبهم ، فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم ،


حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله ، ونادى : يا آل جعفى ، السلاح تنفد فيهم فشأنكم بهم ، ونحو هذا قول عمرو بن معدى كرب فى ذلك اليوم ، وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة ، فوقعت فى كتفه ، وعليه درع حصينة ، فلم تنفد ، وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه فقتله ، وقال :

أنا أبو ثور وسيفى ذو النون

أضربهم ضرب غلام مجنون

يا زيد إنهم يموتون

ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون ، ولكنه الشعر تحسن فيه هذه المآخذ ، ويملح بهذه المقاصد.

ومثله قول الآخر :

القوم أمثالكم لهم شعر

فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا

ويفوق هذا كله قول الله سبحانه ، ولكتابه المثل الأعلى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ١٠٤]. وقد بعدنا عما كنا بسبيله ، فلنعد إليه.

قالوا : لما كتبت الكتائب بعد الطراد ، وتزاحف الناس ، صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين ، فوجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا ، وصفوا على سائر الناس سبعة عشر ، ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب ، وابذعرّت الخيل ، وكادت بجيلة تؤكل ، فرت خيلها نفارا ، فأرسل سعد إلى بنى أسد : يا بنى أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس ، فخرج طليحة بن خويلد ، وحمال بن مالك الأسدي وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو فى كتائبهم فباشروا الفيلة ، حتى عزلها ركبانها ، وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا.

وقال موسى بن طريف : قام طليحة فى قومه حين استصرخهم سعد ، فقال : يا عشيرتاه ، إن المنوه باسمه ، الموثوق به ، أنتم ، وإن هذا ، يعنى سعدا ، لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لاستغاثتهم ، ابدءوهم الشدة ، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة ، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم ، شدوا ولا تصدوا ، وكروا ولا تفروا ، لله در ربيعة أى فرى يفرون وأى قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله ، شدوا عليهم باسم الله. فقام المعرور بن سويد وشقيق ، فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم


ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم ، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه ، فما ألبثه طليحة أن قتله.

قالوا : وقام الأشعث بن قيس ، فقال : يا معشر كندة ، لله در بنى أسد أى فرى يفرون وأى هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم ، وأنتم تنظرون من يكفيكم البأس ، أشهد ما أحسنتم أسوة إخوانكم من العرب ، وأنهم ليقتلون ويقتلون ، وأنتم جثاة على الركب ، فوثب إليه منهم عشرة ، فقالوا : عثر جدك إنك لتؤيسنا يا هذا ، نحن أحسن الناس موقفا! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا أسوتهم؟ فها نحن معك ، فنهد ونهدوا ، فأزالوا الذين بإزائهم.

ولما رأى أهل فارس ما تلقى من كتيبة بنى أسد رموهم بحدهم ؛ وبدر المسلمون الشدة عليهم ، وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد ، فاجتمعت حلبة فارس ، فيهم ذو الحاجب والجالينوس ، على بنى أسد ومعهم تلك الفيلة ، وقد ثبتوا لهم ، وكبر سعد التكبيرة الرابعة ، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بنى أسد ، وحملت الفيول فى الميمنة والميسرة على الخيول ، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد ، وألح فرسانهم على الرجل ، وجد المقاتلة مع الفيلة ، فقال بعض الأسديين : والله لأموتن أو لأطعنن عينى بعض هذه الفيلة ، فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه ، وعلى كل فيل قوم يقاتلون ، فطعن فى عين ذلك الفيل بسيفه ، وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه ، وأدبر الفيل فخبط من حوله ، واشتد القتال عند فيل منها ، فقال حبيش الأسدي لبشر بن أبى العوجاء الطائى : أرى القتال قد اشتد عند هذا الفيل ، فتبايعنى على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه. قال : نعم ، فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله ، ودنوا من الفيل ، فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائى ساقه فبرك الفيل ، وانطوت الفرس على بنى أسد ، فقتل حبيش.

وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ، فقال : يا معشر بنى تميم ، ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ، قالوا : بلى والله ، ثم نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة ، فقال : يا معشر الرماة ، ذبوا ركبان الفيلة عنا ، ويا معشر أهل الثقافة ، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها ، وخرج يحميهم والرحى دائرة على بنى أسد ، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد ، وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة ، فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها ، فما بقى لهم يومئذ فيل إلا أعرى ، وقتل أصحابها ، وتقاتل الناس ونفس عن بنى أسد ، وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم ، فاقتتلوا حتى غربت


الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء ، وأصيب من بنى أسد تلك العشية خمسمائة ، وكانوا ردءا للناس ، وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم ، فهذا يوم القادسية الأول ، وهو يوم أرماث.

وقال عاصم بن عمرو التميمى فى ذلك :

ألم يأتيك والأنباء تسرى

بما لاقيت فى يوم النزال

ولما أن تزايل مقرفوهم

عصينا القوم بالأسل الطوال

وعريت الفيول من التوابى

وعطلت الخيول من الرجال

ولو لا ذبنا عمن يلينا

للج الجمع فى فعل الضلال

حمينا يوم أرماث حمانا

وبعض القوم أولى بالحمال

وقال عمرو بن ساس الأسدي :

فلا وأبيك لا ينفك فينا

من السادات حظ ما بقينا

ألسنا المانحين لدى قديس

جموع الفرس مرداة طحونا

ولسنا مثل من لا طرق فيه

ولكن غثنا يلفى سمينا

ونحن إذا يريح الليل أمرا

يهم الناس عصمة من يلينا

ومرقصة منعناها إذا ما

رأت دون المحافظة التقينا

نذكرها إذا ولهت بنيها

ونحميها إذا نحمى بنينا

إذا افترش النواحى بالنواحى

وكان القوم فى الأبدان جونا

إذا ثار الغبار كأن فيه

إذا اصطفت عجاجته طحينا

وقد علمت بنو أسد بأنا

نضارب بالسيوف إذا غشينا

ونحن فوارس الهيجا إذا ما

رأيت الخيل مسندة عرينا

وذكر المدائنى خبر هذا اليوم ، وقد أورد كثيرا مما أورده ، فى تضاعيف الأخبار المتقدمة وفى بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس ، خلافا لما تقدم ذكره : أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة ، فقال : إنكم قد أصبحتم فى دار قد أذل الله لكم أهلها ، فأنتم تطئونهم منذ سنين ، وقد أتوكم فى جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم ، ولستم وهم سواء فى دنيا تقاتلون عنها ، وقد خلفوا مثلها ، فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم ، فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافى لا خير فيها ، وأنتم غرر قومكم ، إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم ، وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم ،


والأرض من وراءكم قفر بسابس ، ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ ، فاتقوا الله واصبروا ، وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله ، فإنه قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة ، فالزموا السمع والطاعة ، ولا تهنوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم ، فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم ، وهم وقوف يهابون العبور والإقدام ، فأرسل سعد إلى الناس : لا تعبروا حتى آذن لكم ، وقد أخذ الناس العدة للقتال ، فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد ، وحض رؤساء القبائل عشائرهم ، فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد ، قال جرير بن عبد الله : أيها الناس ، ما تنتظرون ، أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم ، وعبر النهر فى بجيلة ، فقال قيس بن مكشوح : يا معشر مذحج ، قد تقدمكم إخوانكم فسابقوهم ، فو الله لا يسبق أحد اليوم إلا أعطاه الله غدا على قدر سبقه فى الدنيا ، وعبر قيس ، وعبر بعده عمرو بن معدى كرب ، وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، ما تنتظرون وقد مضى إخوانكم ، وعبروا ، واتبع الناس بعضهم بعضا. فقال سعد : اللهم إنهم عبروا ولم يستأمرونى فاقض لهم بالنصر ، فصف المسلمون ، على ميمنتهم شرحبيل بن السمط ، وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة ، والمسلمون عشرة آلاف ، ويقال ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية ، عامة جثهم براذع الرحال ، قد عرضوا فيها الجريد يتسترون بها ، وعلى رءوسهم أنساع الرجال ، يطوى الرجل نسعة رحله على رأسه ، والمشركون ستون ألفا ، وقيل أكثر.

وظاهر رستم بين درعين ، وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وقد تقدم خبرهم ، وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس ، فتقدم وقد اعتصب بعصابة ديباج ، معه ترس مذهب ، فتلقاه طليحة ، واختلفا ضربتين ، فوقعت ضربة الجالينوس فى جحفة طليحة ، ووقع سيف طليحة فى رأس الجالينوس ، فهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه ، فولوا منهزمين إلى رستم ، فعظموا أمر العرب ليعذرهم ، وأخذ طليحة البيضة فنفلها ، فكانت قيمتها أربعمائة مثقال ، وأقبل قيس بن مكشوح ، يومئذ ، فوقف على المغيرة فقال : ما رأيت كاليوم عديدا ولا حديدا ، فقال المغيرة : إن هذا زبد من زبد الشيطان ، والله جاعل بعضه على بعض ، وحض المغيرة الناس وقال : إن الكلام عند القتال فشل ، فالزموا الصمت ، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه ، فإذا حركت رايتى فاحملوا ، فقال له رجل : ما تنتظر؟ قال : اجلس ، فقال رجل من بنى


مجاشع : الله أكبر ، إنى لأرى الأرض من خلل صفهم ، فكبروا واحملوا ، فقال له المغيرة : اجلس ، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال : احمل يا قيس فإنى حامل ، ونكبنى خيلك ، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك ، فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى ، فيكون أشد عليهم من عدوهم ، وهز المغيرة رايته ، وحمل ، واتبعه قيس ، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين ، فقال طليحة : يا بنى أسد ، ما تستحيون ، الناس يقاتلون وأنتم وقوف ، فحمل فقالت امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة : يا بنى ، والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ، ولقد أسلمتم طائعين ، وهاجرتم راغبين ، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ، فقاتلوا عن دينكم وأمكم ، فو الله إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، فاشهدوا أشد القتال ، فحملوا ، فقالت : اللهم احفظ فىّ بنى.

وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع ، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها : كما أنكم بنو امرأة واحدة ، وزاد هاهنا : ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره ، فأقبلوا يشتدون ، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهى تقول : اللهم ادفع عن بنى ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ، فما كلم رجل منهم كلما.

قال الشعبى : فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء ، فيأتون أمهم فيلقونه فى حجرها ، فترده عليهم ، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم.

وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية ، فقالت لهم من أول الليل : يا بنى ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ، ثم قالت لهم : وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها (١) ، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة ، فخرج بنوها قابلين لنصحها ، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم ، وأنشأ أولهم يقول :

__________________

(١) الحميس : أى التنور.


يا إخوتى إن العجوز الناصحه

قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه

مقالة ذات بيان واضحه

فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وإنما تلقون عند الصالحة

من آل ساسان كلابا نابحه

قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه

وأنتم بين حياة صالحه

أو موتة تورث غنما رابحه

وتقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، ثم حمل الثانى وهو يقول :

إن العجوز ذات حزم وجلد

والنظر الأوفق والرأى السدد

قد أمرتنا بالسداد والرشد

نصيحة منها وبرا بالولد

فباكروا الحرب حماة فى العدد

إما لفوز بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم عز الأبد

فى جنة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى استشهد ، رحمه‌الله ، ثم حمل الثالث وهو يقول :

والله لا نعصى العجوز حرفا

قد أمرتنا حدبا وعطفا

نصحا وبرا صادقا ولطفا

فبادروا الحرب الضروس زحفا

حتى تلفوا آل كسرى لفّا

وتكشفوهم عن حمالكم كشفا

فقاتل حتى استشهد ، رحمه‌الله ، وحمل الرابع وهو يقول :

لست لخنساء ولا لاخزم

ولا لعمر وذى السناء الأقدم

إن لم أرد فى الجيش جيش العجم

ماض على الهول خضم خضرم

إما لفوز عاجل ومغنم

أو لوفاة فى السبيل الأكرم

فقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه وعلى إخوته ، فبلغ الخبر أمهم ، فقالت : الحمد لله الذي شرفنى بقتلهم ، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته ، فكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يعطى الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة ، لكل واحد مائتى درهم ، حتى قبض ، رحمه‌الله.

فهذا ما ذكره الزبير بن بكار ، والذي قبله ذكره المدائنى ، رحمهما‌الله ، ولعل الخبرين صحيحان ، والله أعلم أى ذلك كان. ثم ذكر المدائنى ، بعد ، من حسن بلاء بنى أسد وانطواء الفرس عليهم فى مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل فى موضعه.

وذكر ، أيضا ، أن الأشعث بن قيس قال عند ما اشتد قتالهم : لله در بنى أسد ، أى فرى يفرون ، وأنتم تنظرون ، يا معشر كندة.


وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، قد صبر إخوانكم من بنى أسد ، وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها ، فحمل زهرة فى بنى تميم ، وجرير فى بجيلة ، فكشفوا المشركين عن بنى أسد ، وقد استشهد منهم خمسون رجلا ، وتحاجزوا قريبا من العصر ، فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس.

والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدى ذو الحاجب فاختلفا طعنتين ، فصارا جميعا إلى الأرض ، فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه ، فحامت عنه الأساورة ، حتى ركب ، وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو ، أحد بنى يربوع ، وذريح ، أحد بنى تيم اللات ، حتى ركب ، فقال ذريح :

لما رأيت الخيل شك نحورها

رماح ونشاب صبرت جناحا

على الموت حتى أنزل الله نصره

وود جناح لو قضى فأراحا

كأن سيوف الهند حول لبانه

بوارق غيث من تهامة لاحا

قال : وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة ، وتحاجزوا حين أمسوا ، فرجع المسلمون إلى عسكرهم ، ورجع رستم إلى عسكره. هذا ما ذكره المدائنى.

ويقال : إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا ، وإنما قدم من الشام بعد انقضائه ، فشهد سائر الأيام وأبلى فيها ، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله.

وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة ، امرأة المثنى بن حارثة ، كما تقدم ، فنزل بها القادسية ، فلما كان يوم أرماث ، وجال الناس ، جعل سعد يتململ ويجول فوق القصر ، وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه ، فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت : وا مثنياه ولا مثنى للخيل اليوم ، وهى عند رجل قد أضجر ما يرى من أصحابه ومن نفسه ، فلطم وجهها ، وقال : أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! ، يعنى أسدا ، وعاصما ، فقالت : أغيرة وجبنا؟ قال : والله لا يعذرنى أحد اليوم إذا أنت لم تعذرينى وأنت ترين ما بى ، فالناس أحق ألا يعذرونى!.

فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ، وكان غير جبان ولا ملوم ، رضي‌الله‌عنه.

وكانت القادسية فى شوال سنة خمس عشرة ، وابتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه ، وقيل كانت فى المحرم سنة أربع عشرة ، والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.


ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية ، وهو يوم أغواث

قالوا (١) : ولما أصبح الناس من الغد ، يعنون الغد من يوم أرماث ، أصبحوا على تعبئة ، وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث. فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضى الله فيهم قضاءه ، وأما الشهداء فليدفنوهم هنالك على مشرق ، واد بين العذيب وبين عين شمس فى عدوتيه جميعا ، وفى ذلك يقول سعد ، رحمه‌الله :

جزى الله أقواما بجنب مشرق

غداة دعا الرحمن من كان داعيا

جنانا من الفردوس والمنزل الذي

يحل به ذو الخير ما كان باقيا

وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال ، فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصى الخيل من نحو الشأم ، وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق ، ولم يذكر له عمر خالدا ، فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه ، وقد قيل إن عمر أمر بحبسه ، فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف ، ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز ، وسائرهم من ربيعة ومضر ، وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقاص (٢) ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، أى التميمى ، فجعله أمامه ، وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادى (٣) ، ولم يكن شهد الأيام ، وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم ، وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن عدى العجلى ، فطوى القعقاع وتعجل ، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث ، وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا ، وهم ألف ، فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح فى آثارهم عشرة ، وتقدم هو فى عشرة ، فأتى الناس فسلم عليهم ، وبشرهم بالجنود ، وقال : يا أيها الناس ، إنى قد جئتكم فى قوم ، والله لو كانوا بمكانكم ، ثم أحسوكم لحسدوكم حظوتها ، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم ، فاصنعوا كما أصنع ، فتقدم ثم نادى : من يبارز؟ فسكن الناس إليه ، وقالوا لقول أبى بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه : لا يهزم جيش

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٩٣٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٣٢٨) ، العبر (١ / ٣٩) ، طبقات خليفة (٨٣١) ، مروج الذهب (٣ / ١٣٠) ، تاريخ بغداد (١ / ١٩٦) ، مرآة الجنان (١ / ١٠١) ، العقد الثمين (٧ / ٣٥٩) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٣٢٩) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٥٢٥) ، المحبر (٢٦١) ، معجم الشعراء (١٩٨) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٦٤) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).


فيهم مثل القعقاع ، فخرج إليه ذو الحاجب ، فقال له القعقاع : من أنت؟ فقال : أنا بهمن جاذويه ، فنادى : يا لثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر. فاجتلدا ، فقتله القعقاع ، وجعلت خيله ترد قطعا ، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس ، وكأن لم تكن بالناس مصيبة ، كأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبى وبلحاق القطع ، وانكسرت الأعاجم لذلك.

وكان أول القتال قبل أن يقدم القعقاع المطاردة ، فلما قدم قال : أيها الناس اصنعوا كما أصنع ، فنادى : من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله ، وآخر فقتله ، وخرج الناس من كل ناحية ، وبدأ الضرب والطعان ، ونادى القعقاع ، أيضا : من يبارز؟ فخرج إليه رجلان ، أحدهما البيزران والآخر البندوان ، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ، أحد بنى تيم اللات ، فبارز القعقاع البيزران ، فضربه فأذرى رأسه ، وبارز ابن ظبيان البندوان ، فضربه فأذرى رأسه ، وحمل بنو عم القعقاع ، يومئذ ، عشرة عشرة من الرجال ، على إبل قد ألبسوها ، فهى مجللة مبرقعة ، وأطافت بهم خيولهم ، وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التي أرسلت عليهم الفرس بالأمس ، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم ، وركبتهم خيول المسلمين. فاستنوا بهم ، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.

ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيل ، كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس ، واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد ، ولم ير أهل فارس فى هذا اليوم شيئا يعجبهم ، وأكثر المسلمون فيهم القتل.

وقالوا : قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين جملة ، كلما حمل حملة قتل فيها ، وآزر القعقاع ، يومئذ ، ثلاثة من بنى يربوع ، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون ، وقدم ذلك اليوم رسول لعمر ، رضي‌الله‌عنه ، بأربعة أفراس ، وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء ، إن كان لقى حربا ، فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسى (١) ، وكلهم من بنى أسد ، وعاصم بن عمرو التميمى (٢) ، فأعطاهم الأسياف ، ودعا القعقاع بن عمرو

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٠٩) ، تاريخ خليفة (١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٦٤١) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥) ، دول الإسلام (١ / ١٧) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٤١) ، العبر (١ / ٢٦) ، شذرات الذهب (١ / ٣٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٧٤).


التميمى واليربوعيين وهم : نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب ، وعمرو ابن شبيب بن زنباع ، أحد بنى زيد ، فحملهم على الأفراس ، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها ، وأصاب ثلاثة من بنى أسد ثلاثة أرباع السيوف ، فقال الرفيل فى قطعة يذكر السيوف :

لقد علم الأقوام أنى أحقهم

إذا حصلوا بالمرهفات البواتر

وقال القعقاع فى شأن الخيل :

ولم تعرف الخيل العرب سواءنا

عشية أغواث بجنب القوادس

وذكر المدائنى حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم ، وقال : إن الناس لما أصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت الشمس إلى قريب من نصف النهار ، وأخذوا عدة الحرب ، وصافهم المسلمون ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل المغيرة بن شعبة ، وعلى الرجالة سلمة بن حديم ، فقال سعد بن عبيد الأنصاري : يا أيها الناس ، إن الدنيا دار زوال وفتنة ، وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء ، فلا يكونن شيء أحب إليكم من فراقها ، فإن ما عند الله خير للأبرار ، وتقدم أمام الناس ، فبرز له شهريار السجستانى ، فقتل كل واحد منهما صاحبه ، ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس ، وتحاجزوا ، وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم ، فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة ، فبرز له زهرة بن جوية فقتله ، وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به ، وندر سيفه من يده ، فقاتلهم راجلا يحثو فى وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين ، فكشفوهم عنه ، وقد ذهبوا بسيفه ، فقال :

فإن تأخذوا سيفى فإنى محرب

خروج من الغماء محتضر النصر

وإنى لحام من وراء عشيرتى

أطاعن فيهم بالمثقفة السمر

وقد روى غير المدائنى هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلى فى هذا اليوم.

وقال عمرو بن معدى كرب لقومه : يا بنى زبيد ، إنى مخالط الجمع ، فانظرونى قدر نحر جزور وتعسيرها ، ثم اطلبونى ، فإنكم تجدونى وسيفى فى يدى أقاتل به قدما لا أزول ، وفى رواية : فإن تأخرتم عنى فقد فقدتم أبا ثور ، وأين لكم مثل أبى ثور ، وحمل حتى خالطهم ، فستره الغبار ، فقال بعض الزبيديين : أيا بنى زبيد ، علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين ، والله ما أرى أن تدركوه حيا ، وإن فقدتموه فقد المسلمون


فارسهم ، فحملوا وحمل الناس حملة واحدة فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار ، وأخر عمرا عنه المشركون ، وذلك بعد ما طعنوه ، وإن سيفه لفى يده يضاربهم به.

فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس أسوار فاحتبسه ، وإن الفارسى ليضرب فرسه فما يتحرك ، فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو ، وقال : أنا أبو ثور كدتم تفقدوننى ، وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا ، إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه فى وسطه وقاتل.

وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار : أعرنى ترسك ، قال : ما بى عنه غنى ، ولكن أى أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله ، فأشار له إلى ترس مذهب ، فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه ، فأتى به صاحبه ، فقال : دونك.

وصار الناس إلى السيوف ، فقاتلوا حتى اعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى وجرحى كثير فى الفريقين ، وقتل يومئذ رجل من طيئ يكنى أبا كعب رجلا من المشركين ، وأخذ قلنسوته فلبسها ، وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل ، فنظر إليه رجل من بجيلة يقال له مضرس ، وهو يقاتل ، فظن أنه من الفرس فطعنه ، فقال : بسم الله ، قتلتنى ، فقال مضرس : إنا لله وعانقه ، فقال : غفر الله لك يا أخى ، فبكى مضرس واحتمل أبو كعب ، فقال سعد : الشهادة لا تقاد ، ولا كل ميتة مظنون غيرها ، ولكن من أحب أخذ الدية ، فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكى حتى تبل دموعه لحيته ، ويقول أبو كعب : غفر الله لك يا أخى.

وقال أبو كعب :

لعمرى لقد ثارت رماح مضرس

بعلج هوى فى الصف من آل فارس

ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة ، وصفح وليه عن الدية.

ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيئ ، أيضا ، يقال له : بجير بن عميرة ، وكان أحمر شبيها بالعجم ، فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها ، فبصر به رجل من كندة يدعى فروة ، فحمل عليه فطعنه ، فأصاب مقتله ، فنادى بجير : بسم الله ، فاعتنقه فروة ، فأتيا سعدا فقال لهما : إن الشهادة لا ثواب لها فى الدنيا ، ولكن كفوا العجلات.


وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادى : من يبارز ، فبرز له علباء بن جحش العجلى ، فبعجه علباء ، فأصاب سحره ، وبعج الفارسى علباء فخرق أمعاءه ، وخرا جميعا ، فأما الفارسى فمات من ساعته ، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه ، فلم يستطع القيام ، فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين فقال له : يا هذا أعنى على بطنى ، فأدخله له ، فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين ، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس. فقال :

أرجو بها من ربنا الثوابا

قد كنت ممن يحسن الضرابا

قالوا (١) : وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف الليل ، فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة ، وليلة أغواث تدعى ليلة السواد ، والنصف الأول يدعى السواد ، ثم لم يزل المسلمون يرون فى يوم أغواث الظفر على فارس ، وقتلوا فيه عامة أعلامهم ، وجالت فيه خيل القلب ، وثبت رجلهم ، فلو لا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا ، فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما بات القوم عليه ليلة أرماث ، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن تفايئوا.

فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام ، وقال لبعض من عنده : إن تم الناس على الانتماء فلا توقظونى ، فإنهم أقوياء على عدوهم ، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظونى ، فإنهم على التساوى ، فإن سمعتم ينتمون فأيقظنى ، فإنما انتماؤهم من السوء.

قالوا (٢) : ولما اشتد القتال بالسواد ، وكان أبو محجن قد حبس وقيد ، فهو فى القصر ، صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله ، فزبره سعد ورده فنزل ، وأتى سلمى بنت خصفة ، فقال لها : يا بنت خصفة ، هل لك إلى خير؟ قالت : وما ذاك؟ قال : تخلين عنى وتعيرننى البلقاء ، فالله علىّ إن سلمنى الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلى فى قيدى ، وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه. فقالت : وما أنا وذاك فرجع يرسف فى قيوده ويقول :

كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا

وأترك مشدودا علىّ وثاقيا

إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت

مصاريع من دونى تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة

فقد تركونى واحدا لا أخا ليا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٦ ، ٥٤٧).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٨ ـ ٥٥٠).


ولله عهد لا أخيس بعهده

لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا (١)

فقالت سلمى : إنى استخرت الله ورضيت بعهدك ، فأطلقته ، وقالت : أما الفرس فلا أعيرها ، ورجعت إلى بيتها ، فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذي يلى الخندق فركبها ، قيل بسرجها ، وقيل : عريا ، ثم ذبب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة ، فكبر وحمل على ميمنة القوم ، يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس ، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا ويعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار ، فقال بعضهم : أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أو هاشم نفسه.

وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر : والله لو لا محبس أبى محجن الثقفى لقلت : إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس : إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر ، وقال آخرون : والله لو لا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا : ملك بيننا ، ولا يذكر الناس أبا محجن ولا يأبهون له ، لمبيته فى محبسه ، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع المسلمون ، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج ، فوضع عن نفسه وعن دابته ، وأعاد رجله فى قيده ، وقال :

لقد علمت ثقيف غير فخر

بأنا نحن أكثرهم سيوفا

وأكثرهم دروعا سابغات

وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنا وفدهم فى كل يوم

فإن عيوا فسل بهم عروفا

وليلة قادس لم يشعروا بى

ولم أشعر بمخرجى الزحوفا

فإن أحبس فذلكم بلائى

وإن ترك أذيقهم الحتوفا

فقالت له سلمى : فى أى شيء حبسك هذا الرجل؟ قال : أما والله ما حبسنى لحرام أكلته ولا شربته ، ولكنى كنت صاحب شراب فى الجاهلية ، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر فى لسانى ، وينبعث على شفتى ، فيساء لذلك ثنائى ، فعلى ذلك حبسنى. قلت :

إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة

تروى عظامى بعد موتى عروقها

ولا تدفننى بالفلاة فإننى

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الأغانى للأصفهانى (٢١ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، مروج الذهب للمسعودى (١ / ٥٢٨ ـ ٥٣٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٣٠).


ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث ، وليلة السواد ، حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبى محجن ، فدعا به فأطلقته ، وقال : اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله ، قال : لا جرم ، والله لا أجيب لسانى إلى صفة قبيح أبدا.

حديث يوم عماس ، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية

قالوا (١) : وأصبح المسلمون من اليوم الثالث ، وهم على مواقفهم ، وأصبحت الأعاجم كذلك ، وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل فى عرض ما بين الصفين ، وقد قتل من المسلمين ألفان بين رثيث وميت ، ومن المشركين عشرة آلاف. وقال سعد : من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث ، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم ، وجعلهم المسلمون وراء ظهورهم ، وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور ، يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث إلى النساء ، وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر فى اليومين : يوم أرماث ويوم أغواث ، بعدوتى مشرق ، وكان فى الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب ، ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها ، فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها ، فمر حاجب بن يزيد ، وكان على الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم ، ورجل من الجرحى من طيئ يدعى يقول وهو مستظل بظلها :

ألا يا اسلمى يا نخلة بين قادس

وبين العذيب لا يجاورك النخل

وآخر من بنى ضبة أو من بنى ثور يدعى غيلان ، وهو يقول :

ألا يا اسلمى يا نخلة فوق جرعة

يجاورك الجمان والرمث والرغل

قالوا (٢) : وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس ، ثم قال : إذا طلعت لكم الشمس ، فأقبلوا مائة مائة ، وكلما توارت عنكم مائة فليتبعها مائة ، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا ، ففعلوا ، ولا يشعر بذلك أحد ، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين ، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل ، طلعت نواصيها ، فكبر وكبر الناس ، وقالوا : جاء المدد.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٠).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥١ ، ٥٥٢).


وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها ، فجاءوا من قبل خفان ، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب ، فاختلف الطعن والضرب ، ومدد المسلمين متتابع ، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم ، وقد طوى فى سبعمائة ، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع فى يومه ، فعبأ أصحابه سبعين سبعين ، فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم فى سبعين معه ، فيهم قيس بن هبيرة المرادى ، وهو ابن المكشوح ، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب ، كبر وكبر المسلمون ، وقد أخذوا مصافهم ، وقال هاشم : أول القتال المطاردة ثم المراماة ، فأخذ قوسه ، فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه رأسها ، فخل أذنيها ، فضحك وقال : وا سوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه ، أين ترون سهمى كان بالغا؟ فقيل : العتيق. فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها ، ثم ضربها حتى وقفت على العتيق ، ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه ، وقيل : إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا ، فالله أعلم.

وما زالت مقانبه تطلع وقد بات المشركون فى علاج توابيتهم حتى أعادوها على الفيلة ، فأصبحوا على موافقهم ، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها ، ومع الرجالة فرسان يحمونهم ، إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل وأتباعه ، لينفروا بهم خيلهم ، فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس ؛ لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش ، وإذا طافوا به كان آنس ، فكان الفيل كذلك حتى عدل النهار.

ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم ، قام فيمن يليه فقال : يا معشر العرب ، إن الله ، عزوجل ، قد من عليكم بالإسلام ، وأكرمكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، دعوتكم واحدة وأمركم واحد ، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد ، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب ، فانصروا الله ينصركم ، وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس ، فإن إخوتكم من أهل الشام قد أنجز الله تعالى لهم فتح الشام ، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.

وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى : من يبارز؟ فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له : شبر بن علقمة ، وكان قصيرا دميما ، فقال : يا معشر المسلمين ، قد أنصفكم الرجل ، فلم يجبه أحد ، ولم يخرج إليه أحد ، فقال: أما والله لو لا أن تزدرونى لخرجت إليه ، فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وجحفته ، ثم تقدم ، فلما رآه الفارسى هدر ، ثم نزل إليه فاحتمله ، فألقاه ثم جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ، ومقود فرسه مشدود بمنطقته ، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة


فجذبه المقود فقلبه عنه ، فقام إليه وهو يسحب فافترسه ، فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به ، فقال : صيحوا ما بدا لكم ، فو الله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه ، فذبحه وسلبه ، ثم أتى سعدا بالسلب فنفله إياه ، فباعه باثنى عشر ألفا.

قالوا (١) : ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس ، وعادت لفعلها يوم أرماث ، سأل : هل لها مقاتل؟ فقيل له : نعم ، المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها ، فأرسل إلى القعقاع وأخيه عاصم : أن اكفيانى الفيل الأبيض ، وكان بإزائهما ، فأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا فى خيل ورجل ، وقالا : اكتنفوه لتحيروه ، وفعل الآخران مثل ذلك ، فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا ، فحمل القعقاع وعاصم والفيل البيض متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معا فى عينيه ، وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره ، فنفخه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه ، وقتلوا كل من كان عليه ، وقال حمال لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب : إما أن تضرب المشفر وأطعن فى عينه ، أو تطعن فى عينه وأضرب مشفره ، فاختار صاحبه الضرب ، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه ، لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه فى عينه ، فأقعى ، ثم استوى فنفخه الآخر ، فأبان مشفره ، وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه.

ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير ، ثم ولى الأجرب الذي عور فوثب فى العتيق ، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم ، فعبرت العتيق فى أثره فبيتت المدائن فى توابيتها وهلك من فيها.

وقيل : إنه بقى منها الفيل الأبيض ، لم يبق فى المعركة غيره ، وإن الناس رشقوا مشافر الفيلة ، فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن ، وكانت تفعل بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال ، وخلصوا بأهل فارس ، فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم فى ذلك على السواء.

فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا ، العرب والعجم فيه على السواء ، ولا يكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن ، إذ كان قد أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادى ما يطرأ فى العسكر من حينه ، فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده فيتقوون بهم ، وأصبحت عنده للذى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٥ ، ٥٥٦).


لقى بالأمس الأمداد على البرد ، فلو لا الذي صنع الله للمسلمين فى الذي ألهم إليه القعقاع فى اليومين ، وما أتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين.

وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبى وقاص فتشاح الناس على الأذان ، حتى كادوا يجتلدون بالسيوف ، فأقرع بينهم سعد.

قالوا (١) : ولما أمسى الناس من يومهم ذلك ، وأطعنوا إلى الليل ، واشتد القتال فصبر الفريقان ، فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء وهؤلاء ، فسميت ليلة الهرير ، ولم يكن بعدها قتال بليل فى القادسية.

وجدد المشركون فى تلك الليلة تعبئة ، وأخذوا فى أمر لم يكونوا عليه فى الأيام الثلاثة ، وبقى المسلمون على تعبئتهم ، فخرج مسعود بن مالك الأسدي ، وقيس بن هبيرة المرادى ، وهو ابن المكشوح ، وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم للقتال ، فإذا هم فيه أمة لا يشهدون ولا يريدون إلا الزحف ، فقال قيس بن مكشوح لمن يليه ، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة : إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة ، والرأى رأى الأمير ، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال ، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم ، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم ، فتيسروا للحملة.

وقال دريد بن كعب النخعي ، وكان معه لواء النخع : إن المسلمين قد تهيئوا للمزاحفة ، فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد ، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه ، فنافسوهم فى الشهادة ، وطيبوا بالموت أنفسا ، فإنه لا نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة ، وإلا فالآخرة ما أردتم.

وقال الأشعث بن قيس : يا معشر العرب ، إنه لا ينبغى أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم ، تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فإنه أمانى الكرام ، ومنايا الشهداء ، وترجل.

وقال حنظلة بن الربيع (٢) وأمراء الأعشار : ترجلوا أيها الناس ، وافعلوا كما نفعل ، ولا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٧).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٨٦٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٢٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٤٢) ، الطبقات (١ / ٤٣ ، ١٢٩) ، تهذيب الكمال (١ / ٣٤٣) ، الإكمال (١ / ٧٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٢١٦) ، الجرح والتعديل (٣ / ١٠٥٩) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٦٠ ، ٦٣).


تجزعوا مما لا بد منه ، فالصبر أنجى من الجزع. وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.

وقال أنس بن الجليس : شهدت ليلة الهرير ، فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون ليلتهم حتى الصباح ، أفرغ عليهم الصبر إفراغا.

وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط ، وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم ، فبعث سعد فى تلك الليلة نجادا ، وهو غلام ، إلى الصف ، إذ لم يجد رسولا ، فقال : انظر ما ذا ترى من حالهم ، فرجع إليه فقال : ما رأيت يا بنى؟ فقال : رأيتهم يلعبون ، فقال : أو يجدون. فأقبل سعد على الدعاء ، حتى إذا كان فى وجه الصبح ، انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم الأعلون ، وأن الغلبة لهم.

قال بعضهم : أول شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح فى نصف الليل الباقى صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول :

نحن قتلنا معشرا وزائدا

أربعة وخمسة وواحدا

تحسب فوق البلد الأساودا

حتى إذا ماتوا دعوت واحدا

الله ربى واحترزت جاهدا

فاستدل سعد بهذا ، وبما سمع معه من غير القعقاع من الانتماء ، واتسع له الرجاء ، فسمع عمرو بن معدى كرب يقول : أنا ابن أسلة ، وطليحة يقول : أنا ابن ليلى ، وسعد بن عمارة يقول : أنا ابن أروى ، ثم سمع الانتساب من كل ناحية : خذها وأنا الغلام الجرمى من النخع ، خذها وأنا الغلام المالكى من بنى أسد ، خذها وأنا الغلام الأسعدى من عجل ، فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين ، فصلى المسلمون الغداة وفضوا من شأنهم.

خبر اليوم الرابع من أيام القادسية

وهذا أهو آخر أيامها ، ويسمى من بينها : يوم القادسية ، وفيه قتل الله رستم ، وأتم الفتح للمسلمين.

قالوا (١) : وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى ، لم يغمضوا ليلتهم كلها ، فسار القعقاع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٣).


فى الناس ، فقال : إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم ، فاصبروا واحملوا ، فإن النصر مع الصبر. فاجتمع إليه هلال بن علفة ، ومالك بن ربيعة ، والكلح الضبى ، وضرار بن الخطاب ، وابن الهذيل ، وغالب ، وطليحة ، وعاصم بن عمرو بن ذى البردين ، وأمثالهم ممن اختصر ذكره ، ومعهم عشائرهم. ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح.

ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم ، فقالوا : لا يكونن هؤلاء أجد فى أمر الله تعالى ، منكم ، ولا أسخى نفسا عن الدنيا ، تنافسوها. فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم.

وقام فى ربيعة عتيبة بن النهاس ، وفرات بن حيان ، والمعنى بن حارثة ، وسعيد بن مرة ، فى أمثالهم ، فقالوا : أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى ، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم.

واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة ، وقد ركد عليهم النقع ، واشتد الحر ، وسقفتهم الشمس ، فهبت ريح عاصف ، فقلعت طيارة رستم عن سريره ، فهوت فى العتيق ، فانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير فعثروا به ، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ بمال فهى واقفة ، فاستظل فى ظل بغل منها وحمله ، وضرب هلال بن علفة العدل الذي على البغل الذي رستم تحته ، فقطع حباله ، فوقع عليه أحد العدلين ، ولا يراه هلال ولا يشعر به ، فأزال من ظهره فقارا ، ويضربه ضربة فنفحت مسكا ، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه ، فاقتحمه عليه هلال ، فتناوله وقد عام ، فأخرجه ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله ، ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال ، وصعد السرير ، ثم نادى : قتلت رستما ورب الكعبة ، إلىّ إلىّ ، فأطافوا به ما يحسون السرير وما يرونه ، وكبروا وتنادوا ، وانبت قلب المشركون عندها وانهزموا ، وقام الجالينوس على الردم ، ونادى أهل فارس إلى العبور ، وانسفى الغبار ، فأما المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا فى العتيق ، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر ، وهم ثلاثون ألفا.

وأخذ ضرار بن الخطاب «درفش كابيان» ، راية كسرى ، فعوض عنها ثلاثين ألفا ، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتى ألف ، وقتلوا فى المعركة من الليل ، يعنى ليلة الهرير ، عشرة آلاف سوى من قتلوا فى تلك الثلاثة الأيام.


وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا ، فقتلوا يوم القادسية مائة ألف سوى من قتلوا فى الأيام قبله.

قالوا : فلما انكشف أهل فارس ، فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد ، وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم ، فنادى زهرة فى المقدمات وساروا ، وأمر سعد القعقاع بمن سفل ، وشرحبيل بمن علا ، وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء ليلة الهرير ويوم القادسية ، ألفين وخمسمائة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، من وراء العتيق بحيال مشرق ، ودفن شهداء الأيام الثلاثة قبل ذلك على مشرق ، ويقال : كانوا ألفين وخمسمائة ، وجمعت الأسلاب والأموال ، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده ، وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له ، فقال : أين صاحبك؟ يعنى رستما. قال: رميت به تحت بغل ، فقال : اذهب فجئ به ، فذهب فجاء به. فقال له سعد : جرده إلا ما شئت ، فخذ سلبه ، فلم يدع عليه شيئا ، ويقال : إنه باع الذي سلبه بسبعين ألفا ، وكان قد تخفف حين وقع فى الماء ، ولم توجد قلنسوته ، وكانت قيمتها مائة ألف.

وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد ، فرأوا رستما ببابه مطروحا ، فقالوا : أيها الأمير ، رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره ، وكأن الضرب قد شوهه ، فضحك سعد ، وخرج زهرة فى آثار أهل فارس ، فانتهى إلى الردم وقد تبعوه ليمنعوهم به من الطلب ، فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثى ، وهو الذي يقال له فارس أطلال ، وهو اسم فرس له كان يعرف بها : يا بكير ، أقدم ، وكان يقاتل على الإناث ، فضرب فرسه ، وقال : ثبى أطلال ، فتجمعت وقالت : وثبا وسورة البقرة ثم وثبت ووثب زهرة ، وكان على حصان ، وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس ، فلحق زهرة بالقوم والجالينوس فى آخرهم يحميهم ، فشاوله زهرة ، فاختلفا ضربتين ، فقتله زهرة ، وأخذ سلبه ، وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ، ورجع زهرة فى أصحابه حين أمسوا ، فباتوا بالقادسية ، ولما رجع القعقاع وشرحبيل إلى سعد ، قال لشرحبيل : اغد فى طلب القعقاع ، وقال للقعقاع : اغد فى طلب شرحبيل فعلا هذا ، وسفل هذا ، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية.

قال الشعبى : خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل فى طلب من ارتفع وسفل ، فقتلوهم فى كل قرية وأجمة وشاطئ نهر ، ورجعوا ، فوافوا صلاة الظهر ، وهنأ الناس أميرهم ، وأثنى على كل حى خيرا ، وذكره منهم.


وقال فى ذلك هلال بن علفة :

جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم

برستم والجمعان فى أشغل الشغل

فضضت به رض الصفوف فقوضت

صفوفهم والحرب جاحمة تغلى

وقال الشماخ فى قصيدة يرثى بكير بن عبد الله ، فارس أطلال ، ويذكر ما كان من فرسه فى وثبتها المذكورة قبل :

وغيب عن خيل بموقان أسلمت

بكير بنى الشدّاخ فارس أطلال

غداة اقتحام القوم من بعد نطقها

وحلفتها عرض العتيق بإدلال

ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه ، جاء به إلى سعد ، فعرفه الأسارى الذين كانوا عند سعد ، وقالوا : هذا سلب الجالينوس ، وكان سيدا من ساداتهم ، وعظيما من عظمائهم ، فقال سعد لزهرة : هل أعانك عليه أحد؟ قال : نعم. قال : من؟ قال : الله عزوجل. فنفله إياه.

وقيل : إنما جاء بالسلب وقد لبسه ، فانتزعه منه سعد ، وقال : ألا انتظرت إذنى ، وكتب فيه إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر : أن يمضى لزهرة ذلك السلب ، وعاتب سعدا فى كتابه ، وقال له : تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقى عليك ما بقى من حربك ، تكسر قرنه وتفسد قلبه.

ويروى أن سعدا استكثر له السلب ، فكتب فيه إلى عمر ، فكتب إليه : إنى قد نفلت من قتل رجلا سلبه ، فدفعه إليه سعد ، فباعه بسبعين ألفا.

وقال زهرة فى قتل الجالينوس :

تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى

بعينيه أمرا ذا إياس منكرا

لحقنا به نرمى الكرانيف سادرا

ويعجب إذ خلى الجموح وشمرا

فوليته لما التقينا مصمما

أراه محيا الموت أحمر أصفرا

وقال سيف (١) عن رجاله : ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة ، استحيوا من الفرار ، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين ، لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٩ ، ٥٧٠).


وقال سعيد بن المرزبان (١) : أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم ، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به ، وحتى إنه ليأمر أحد الرجلين منهم بقتل صاحبه.

وقال بعض من شهدها : أبصر سلمان بن ربيعة الباهلى أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها وجلسوا تحتها ، وقالوا : لا نبرح حتى نموت ، فحمل عليهم فقتلهم وسلبهم ، وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية ، وأحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت ، وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة ، ذو النور ، مال على آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين ، فطحنهم بخيله.

وقال الشعبى : كان يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور.

وقال بعض بنى معرض : ما رأينا مثل أهل القادسية ، هزمناهم فاتبعناهم وهم على خيولهم كأنها فى طين ، ونحن على أرجلنا كأنا ظباء ، ولقد أدركنا رجلا يعدو به فرسه فصحنا به ، فلم يتحرك ، فأخذناه أسيرا.

قال أبو وائل ، وشهدها : لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر ، ولقد نزع منا النصر.

وقال الأسود النخعي (٢) : شهدت القادسية ، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار ، وأتى رجل سعدا فقال : تجعل لى ثلث ما أجيئك به؟ قال : نعم. فأتاه بأساورة قد أسرهم ، فقال له سعد : كيف أخذت هؤلاء وحدك؟ قال : صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد ، فجعل سعد يتعجب.

وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم ، إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس ويرى قتالهم ، وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر ، ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذوا برمته. فو الله ما كربه هول تلك الأيام ، ولا أغلقه. ودخل إليه فى اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال : أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا : لم يمنعك من الخروج الوجع ، قال : ما أخاف ذلك على نفسى ، أو ما ترى ما بى ، وسأخرج ، وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكبا على صدره ، فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٩).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٧٦).


وقد تبوأ فيه حمام ، فطرن فنفر الفرس فشب ، فانفجر ما كان من قروحه وخرج ، فوقف وحض المسلمون وقال : لا تكون هذه الأعاجم أصبر على المقارعة منكم ، واعلموا أن القوم ملوا إن كنتم مللتم ، فنشط الناس.

وفى حديث غير هذا أن جريرا البجلى قال فى ذلك اليوم :

أنا جرير كنيتى أبو عمرو

قد نصر الله وسعد فى القصر

وقال رجل من المسلمين ، أيضا :

نقاتل حتى أنزل الله نصره

وسعد بباب القادسية معصم

فأبنا وقد أمت نساء كثيرة

ونسوة سعد ليس فيهم أيم

فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح فى فخذيه ، فعذره الناس ، وقال سعد يجيب جريرا من أبيات :

وما أرجو بجيلة غير أنى

أؤمل أجرهم يوم الحساب

وفى حديث يروى عن قيس بن أبى حازم (١) ، وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما انهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه ، ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة على من هناك من الفرس ، وقدم عليه بالدير عياض بن غنم فى ألف رجل من الشام مددا لهم ، فأسهم لهم سعد مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية ، ثم إن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند ، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى ، وخلوا ما سوى ذلك ، وأتبعهم سعد الطلب ، فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم فى أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة ، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله وعلى الميسرة زهرة بن جوية ، وتخلف سعد لما به من الوجع.

فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة ، فلما وضعوا على دلجة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها ، حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال : أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمنعوا ، فخرج بهم على مخاضة بقطربل ، فكان أول من خاضها هاشم ، وأتبعه خيله ، ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا ، فزعموا أنه لم يتهد لتلك المخاضة بعد ، ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط ، فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو ، فتردد الناس

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧١٦٨).


وجبنوا عنه ، فكان أول من دخله بجيشه هاشم ، فلما جاز ألاح للناس بسيفه ، فعرف الناس أن ليس به شيء يخافونه ، فأجاز بهم خالد بن عرفطة ، ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس ، فكانت وقعة جلولاء بها ، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل مما أصابوا بالقادسية ، وأصيبت ابنة لكسرى ، يقال لها :

منجانة ، ويقال : ابنة ابنه ، وقال شاعر من المسلمين :

يا رب مهر حسن مطهم

يحمل أثقال الغلام المسلم

ينجو إلى الرحمن من جهنم

يوم جلولاء ويوم رستم

ويوم زحف الكوفة المقدم

ويوم لا فى حتفة مهزم

وخر دين الكافرين للفم

وفى كتاب المدائنى عن أبى وائل قال : هزمناهم ، يعنى يوم القادسية ، حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه ، فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا عليها ، فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع ، فجعلنا نغاديهم فنقاتلهم ، فقال المسلمون : هؤلاء فى البيوت ونحن فى الصحراء ، اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم فى الجانب الشرقى حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء الوقيعة ، وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذرارى ، فجال المسلمون جولة فناداهم سعد : يا معشر المسلمين ، أين أين أما رأيتم ما خلفكم؟ أتأتون عمر منهزمين فعطفوا ، وهزم الله المشركين ، وسميت جلولاء الوقيعة فتح الفتوح ، وسيأتى ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى.

قال الشعبى : بلغ الفيء بالقادسية ستمائة ألف ألف ، وكان خمسها عشرين ومائة ألف ألف ، وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب ، وليغزوا عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى داره وقراره ، فعل مقتدر مغرور ، وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم ، وأن يختلفوا ليكون أجد لهم فى الامتناع والمخاطرة لدنياهم ، فاجتمعت معهم من الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم ما لا يحصى ، وكان سبب ذلك ما قضى الله عزوجل ، للمسلمين ، فساقه إليهم ، وكان يزدجرد قد استبقى النصف من الأموال وأقره فى بيت المال على حاله ، فأفاءه الله على المسلمين يوم المدائن.

وذكر المدائنى أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية إبريق ذهب عليه ياقوت ،


فقال له بعض الفرس : آخذه منك بعشرة آلاف ، فأبى وأتى به سعدا ، فباعه بمائة ألف.

وقال مخنف بن سليم : إنى لفى طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على فرس والآخر على بغل ، ثم ذكر حديثا انتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق بصاحب البغل فأخذه ، قال : وأنا أريد أن آتى به سعدا وما من رأى أن أنظر إليه ، فجاء مولى لى وأنا أصلى فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال لى : أتدري ما معك؟ قلت : لا ، قال : بعض كنوز كسرى ، فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب وزمام ذهب ، وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة ، فأتيت بها سعدا ، فقال : أبشر لأفضل منه من ثواب الله ، وولاني مغانم القادسية ، ومعى غيرى ، فجاء رجل بسفط آخر فألقاه فى المغانم ، وقال : أما والله لو لا خوف الله ما أديته ، فإذا الذي جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل ، فقلت : من أنت؟ قال : والله ما أخبرك لتحمدنى أنت ولا أحد من الناس ، وأصاب الناس رثة ومتاعا كبيرا.

وقال طلحة بن مصرف : أمروا مما جدوا من الطيب للنساء ببعضه ، فأصاب كل امرأة مع الناس ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر ، ومثلها من مسك ، وأشرك صبيان الذين استشهدوا فى ذلك ، فأما الكافور فلم يعبئوا به شيئا ، وبعضهم استبدل منه بالملح كيلا بكيل ، وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه ، وصير الله ، عزوجل ، العدة والأداة إلى المسلمين ، فلم يبق أحد إلا أردى ، وركب ، وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب.

وذكر سيف عن رجاله قالوا : وقسم سعد الفيء بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا أو يزيدون ، وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين ، فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان ، وقيل وخمسمائة ، ثم لحق فى الأيام الثلاثة بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفيء على تلك العدة التي هى أقل من أربعين ألفا. قالوا : وأعطى الناس المتاع بالقيمة فى سهم الرجل.

قال إبراهيم بن يزيد : كانوا ليقومون الشيء الثمين بالشىء اليسير.

وقال الشعبى : لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين ، ولا يقسم لأكثر منهما ، قالوا : فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعة وعشرين ألفا ، للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر ذلك ، وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف ، وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف ونيف ، وسهم الرجل الفارس ذى الفرس الواحد خمسة عشر ألفا ونيف ، وكان القاسم


بين الناس والمميز للخيل والذي يلى الأقباض سلمان بن ربيعة الباهلى.

قال المدائنى : فجاء عمرو بن معدى كرب بفرسين يقودهما ، فقال سلمان لأحد الفرسين : هذا هجين ، فقال عمرو : الهجين يعرف الهجين ، فأغلظ له سعد عند ذلك وهدده. فقال عمرو :

إذا قتلنا ولا يبكى لنا أحد

قالت قريش ألا تلك المقادير

نعطى السوية من طعن له نهل

ولا سوية إذ تعطى الدنانير

ونح فى الصف قد تدمى حواجبنا

نعطى السوية مما أخلص الكير

قالوا (١) : وكتب سعد بالفتح إلى عمر ، رحمه‌الله ، وبعدة من أصيب من المسلمين جملة ، وسمى له منهم من كان عمر يعرفه ، وكان كتابه إليه :

أما بعد ، فإن الله ، عزوجل ، نصرنا على أهل فارس ، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم ، بعد قتال طويل وزلزال شديد ، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك ، بل سلبهموه ونفله عنهم إلى المسلمين ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفى الفجاج ، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ ، وفلان وفلان ، ورجال من المسلمين لا تعلمهم ، الله بهم عالم ، كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون بالقرآن دوى النحل ، وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود ، ولم يفضل من مضى منهم على من بقى إلا بفضل الشهادة ، إذ لم تكتب لهم.

ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام فى الناس فقرأه عليهم ، وكان رضي‌الله‌عنه ، لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ، ثم يرجع إلى بيته ، فلما لقيه البشير سأله من أين جاء ، فأخبره ، فقال : يا عبد الله ، حدثني ، قال : هزم الله العدو ، وعمر ، رضي‌الله‌عنه ، يخب معه ويستخبره ، والآخر يسير على ناقته وهو لا يعرفه حتى دخل المدينة ، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين ، فقال الرجل : فهلا أخبرتنى ، رحمك الله ، أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له : لا عليك يا أخى.

وقال عمر للناس عند ما قرئ عليهم الفتح : إنى حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوى فى الكفاف ، إنى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٨٣).


والله ما أنا بملك فأستعبدكم ، ولكنى عبد الله عرض علىّ الأمانة ، فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا وترووا فى بيوتكم سعدت ، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتى شقيت ، ففرحت قليلا وحزنت طويلا ، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.

وكتب سعد ، أيضا ، إلى عمر فى ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله عنهم ، عمن أسلم بعد ما فتح الله تعالى ، عليهم ممن كان له عهد ومعونة ، وعمن أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح ، وعمن جاء بعد ما فتح الله عليهم وأخبره أنه ممسك عن القسم حتى تأتيه رأيه.

قالوا : وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين واختاروا عهودهم على عهد فارس ، وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام ، وكانوا حشوة فيمن أسلم منهم ، فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك الذين لم يكونوا أسلموا : إخواننا الذين سبقونا دخلوا فى هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا ، والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل فى هذا الأمر منهم ، فأسلموا ، فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، قالوا : وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق ورجعوا ممدين لأهل القادسية ، فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح ، وقدمت أمداد فيها وهمدان ومن أبناء الناس ، فهذا الصنف الثانى ممن كتب فيهم سعد.

وأقام المسلمون فى انتظار أمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يقومون أقباضهم ، ويحزرون جندهم ويرمون أمورهم ويجددون حربهم ، حتى جاءهم جواب عمر :

أما بعد ، فالغنيمة لمن شهد الوقعة ، والمواساة لمن أغاث فى ثلاث بعد الوقعة ، فأشركوهم ومن أعانكم فى حربكم من أهل عهدكم ، ثم أسلم بعد الحرب فى ثلاث ، ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق فى ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الأصناف الثلاثة فيما أفاء الله عليكم.

وكانوا كتبوا إليه ، أيضا ، يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها ، فأجابهم عن ذلك :

أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة فى ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم ، وأقسموا لهم ولمن لحق فى ثلاث أو أسلم فى ثلاث ، فإن الله لن يزيدكم بذلك إلا فضلا ، وليست فى الفيوء أسوة بعد الخمس إلا لهؤلاء الطبقات.


وكتبوا إلى عمر ، أيضا ، أن أقواما من أهل السواد ادعوا عهودا ، ولم يقم على عهد الأيام لنا ولم يف به أحد علمناه إلا أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة ، وادعى سائر أهل السواد أن فارس أكرهوهم وحشروهم ، فلم يخالفوا إلينا ، ولم يذهبوا فى الأرض.

وكتبوا إليه ، أيضا ، فى كتاب آخر : أن أهل السواد جلوا ، فجاءنا من تمسك بعهده ولم يجلب علينا ، فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا ، وزعموا أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن ، فأحدث إلينا فيمن أقام وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل ، أو استسلم ، فإنا بأرض رغيبة ، والأرض خلاء من أهلها ، وعددنا قليل ، وقد كثر أهل صلحنا ، وإن أعمر لها وأوهن لعدونا تألفهم.

فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قام فى الناس فقال : إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه ، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر بحظه ، وذلك أن الله عزوجل يقول : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقد ظهر الأيام والقوادس بما يليهم ، وجلا أهله ، وأتاهم من أقام على عهدهم ، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر ، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا ، وفيمن أقام ولم يدع شيئا ، ولم يجل ، وفيمن استسلم.

فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف ، وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم ، ومن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم ، وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين ، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة ، وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم ، ولم يعطوهم إلا القتال ، وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء ، وكذلك الفلاح.

فكتب عند ذلك عمر ، رضي‌الله‌عنه ، جوابا عما كتبوا إليه فى ذلك.

أما بعد ، فإن الله عزوجل أنزل فى كل شيء رخصة فى بعض الحالات إلا فى أمرين : العدل فى السيرة ، والذكر. فأما الذكر فلا رخصة فيه فى حالة ، ولم يرض منه إلا بالكثير ، وأما العدل فلا رخصة فيه فى قريب ولا بعيد ، ولا فى شدة ولا رخاء ، والعدل وإن رئى لنا ، فهو أقوى وأطفأ للجور ، وأقمع للباطل من الجور ، وإن رئى شديدا فهو أنكس للكفر ، فمن تم على عهده من أهل السواد ولم يعن عليكم بشيء فله الذمة وعليهم الجزية ، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم أو يذهب فى الأرض فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا ، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم ، وأبلغوهم


مأمنهم ، ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة ، والفلاحون إذا فعلوا ذلك ، وكل من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة. وإن كذبوا نبذ إليهم ، وأما من أعان وجلا فذلك أمر جعله الله إليكم ، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم فى أرضكم ، ولهم الذمة وعليهم الجزية ، فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم منهم.

فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا ، ولهم الذمة وعليهم الجزية ، وتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل ، وأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم ، وعقدوا لهم ، وأنزلوا من أقام منزلة ذى العهد ، وكذلك الفلاحون ، ولم يدخل فى الصلح ما كان لآل كسرى ، ولا ما كان لمن خرج معهم ، ولم يجب إلى الإسلام ولا إلى الجزية. فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافى فى الأول ، وسائر السواد لهم ذمة ، وأخذوهم بخراج كسرى ، وكان على رءوس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال ، وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من قاتل معهم وماله ، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه ، وما كان للسكك ، فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم ؛ لأنه كان متفرقا فى كل السواد ، فكان يليه لأهل الفيء من وثقوا به وتراضوا عليه.

قالوا : وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع الخمس مما أفاء الله يوم البويب ، فكتب سعد إلى عمر بذلك ، فاجابه : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، إنى إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله على المثنى حين أمددته بهم فى وجههم ذلك إلى البويب نفلا ، فقد أخذوه أيام البويب ، ثم لم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب ، فعنفهم بما ادعوا مما ليس لهم ولا لى وقل لهم : والله ولو لا أنى قاسم مسئول لبلغت منكم.

فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة ، فجمعهم له ، فقرأ عليهم سعد الكتاب ، فقال جرير : صدق والله عمر وأسأنا ، وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة يقال لها : أم كرز ، فإنها قالت : كذبت والله يا جرير ، وجعل جرير يقول لها : حلا يا أم كرز ، فتعود له بالتكذيب ، فلا يزيد على أن يقول : حلا يا أم كرز.

وخالف المدائنى ما ذكره سيف فى قصة جرير وقومه ، وقال : إن سعدا لما جمع الغنائم


وعزل الخمس ، وأراد قسمة الباقى ، قال له جرير : إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع ، وقال بعضهم : الثلث بعد الخمس من كل شيء ، فبعث سعد بالخمس إلى عمر ، وكتب إليه بقول جرير ، فقال عمر : صدق جرير ، قد جعلت له ولقومه ما قال من السواد ، فخيروهم ، فإن شاءوا أعطوا وكان قتالهم للجعالة ، وإن شاءوا فلهم سهم المسلمين وقتالهم ، فخيرهم سعد فاختاروا سهام المسلمين. فالله أعلم أى ذلك كان.

وذكر المدائنى ، أيضا ، أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدي الذي طعن الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه ، فقال له عمر : من أنت؟ وما هذه؟ يعنى الضربة التي فى وجهه ، قال : أصابنى قدر من قدر الله ، فأخبر القوم عمر خبره ، فعانقه عمر وقال : أبشر فهى نور لك يوم القيامة ، فهل لك من حاجة؟ قال : تكتب إلى سعد يعطينى محتلما وفرسى ، فكتب إلى سعد : أعطه محتلمين ، ففعل ذلك سعد.

قال الشعبى : وأمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل فارس لتقسم فى أهل البلاء ، فأصاب كل عشر خمسون فرسا ، فأصاب النخع عشرون ، وقيل : خمسة وعشرون ، وأصاب سائرها ، سائر مذحج.

قالوا : وكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى سعد : أنبئنى أى فارس كان يوم القادسية أفرس ، وأى راجل كان أرجل ، وأى راكب كان أثبت. فكتب إليه : إنى لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو حمل فى يوم ثلاثين حملة ، فقتل فى كل حملة كميا ، ولم أر راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلى إنه جاء فى اليوم بخمسة فوارس ، يختل الفارس منهم حتى يردفه ، ثم يغلبه على عنانه حتى يأتى به سلما ، ولم أر راكبا مثل الحارث بن قرم البهزى ، إنه جاء ببعيره يرفعه ، ثم ركب الكراديس ففرق بينها ، فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه ، ثم قتله ، ثم يثب على بعيره من قيام.

وكتب عمر إلى سعد ، أيضا : أنبئنى من وجدت أصبر ليلة الهرير؟ فكتب إليه : إن الحس سكن عنى ، حتى إذا كان فى وجه الصبح سمعت انتماء فى مضر وانتماء فى ربيعة ثم انتسابا فى اليمن ، فوجدت المنتمين من تميم وأسد وقيس والمنتمين من بكر وحلفاؤها والمنتسبين فى أهل اليمن من مذحج وكندة.

وفى كتاب المدائنى أن عمر كتب إلى سعد يسأله : أى الناس كان أصبر بالقادسية؟ فكتب إليه سعد : إن الحرب ركدت ليلة ، فلم أسمع إلا هماهم الرجال ، وهريرهم ، ووقع الحديد ، فلما كان قبيل الفجر سمعت الانتماء من كل : أنا ابن معدى كرب ، أنا


الجذاميّ ، أنا المالكى من أسد ، أنا الأشعرى ، ثم صار الانتماء قصره فى جذيمة ، فلما انجلت الحرب رأيت جماعة قتلى فى ربضة ، فقلت : من هؤلاء؟ قالوا : من جذيمة النخع ، أصيبوا من آخر الليل وهم ينتمون ، فنفلهم عمر خمسة وعشرين فرسا ، يعنى بنى جذيمة.

وحكى المدائنى عن الشعبى قال : كان السبى بالقادسية وجلولاء مائة ألف رأس ، وقد قيل : أقل من هذا ، وقول الشعبى أكثر وأشهر.

ويروى أنه لما كان العطاء فضل من أهل البلاء بالقادسية بخمسمائة خمسمائة فى أعطياتهم خمسة وعشرون رجلا ، منهم زهرة بن الجوية وعصمة الضبى والكلح الضبى ، وأما أهل البلاء قبلهم ففرض لهم العطاء على ثلاثة آلاف ، فضلوا على أهل القادسية.

وذكر سيف بن عمر عن رجاله ، قالوا : كانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس فى القادسية يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها ، وكانت فى كل بلدة مصيخة إليها ، تنظر ما يكون من أمرها ، حتى أن كان الرجل ليريد الأمر فيقول : لا أنظر فيه حتى أرى ما يكون من أمر القادسية ، فلما كانت وقعتها سارت بها الجن إلى ناس من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم ، قالوا : فبرزت امرأة ليلا على جبل بصنعاء ، لا يدرى من هى ، وهى تقول :

حييت عنا عكرم ابنة خالد

وما خير زاد بالقليل المصرد

وحيتك عنى الشمس عند طلوعها

وحياك عنى كل ناج مفرد

وحيتك عنى عصبة حنفية

حسان الوجوه آمنوا بمحمد

أقاموا لكسرى يضربون جنوده

بكل رقيق الشفرتين مهند

وسمع أهل اليمامة مجتازا يغنى بهذه الأبيات :

وجدنا الأكثرين بنى تميم

غداة الروع أصبرهم رجالا

هم ساروا بأرعن مكفهر

إلى لجب يوازنهم رعالا

بحور للأكاسر من رجال

كأسد الغاب تحسبهم جبالا

هم تركوا بقادس عز فخر

وبالنجفين أياما طوالا

مقطعة أكفهم وسوق

بمردى حيث قابلت الجبالا

وسمع أهل البحرين راكبا يقول :

ألا حييا أفناء بكر بن وائل

فقد تركوا جمع الأعاجم واجما

هم صدقوا يوم القوادس فارسا

بأسيافهم ضربا يبل القوائما


أناخوا لهم فى عرصة الدار وانتموا

إلى باذخ يعلو الذرى والجماجما

وسمع سامع بعمان قائلا :

ألا إن عبد القيس كانوا بأسرهم

غداة قديس كالأسود الشداقم

وإذا هم من تغلب ابنة وائل

كتائب تردى بالقنا والقوائم

هم فرقوا جمع الأعاجم وابتنوا

قرارهم بالمقربات السواهم

فقولا لعبد الله أهلا ومرحبا

وتغلب إذ فضوا هوادى الأعاجم

وأشقوا رءوس العجم بالبيض وانتموا

لأكرم أنساب العريب الأكارم

وذكر الرواة أنهم سمعوا نحو هذا بالمدينة ومكة ونجران ، وأنشدوا ما سمع فى كل موضع منها ، تركت ذكر ذلك اختصارا.

ومما قيل أيضا فى فتح القادسية من الشعر الذي لم يزل العلماء قديما يروونه ، قول بشر بن ربيعة الخثعمى :

تذكر هداك الله وقع سيوفنا

بباب قديس والمكر ضرير

عشية ود القوم لو أن بعضهم

يعار جناحى طائر فيطير

إذا ما فرغنا من قراع كتيبة

برزنا لأخرى كالجبال تسير

ترى القوم منها واجمين كأنهم

جمال بأحمال لهن زفير

وعند أبى حفص عطاء لراحل

وعند المعنى فضة وحرير

وقال القعقاع بن عمرو يذكر شدة ذلك اليوم وما لقيت الفيول فيه وتأثيره فيها :

حضض قومى مضر حى بن يعمر

فلله قومى حين هزوا العواليا

وما خام عنها يوم سادت جموعنا

لأهل قديس يمنعون المواليا

فإن كنت قاتلت العدو بنية

فإنى لألقى فى الحروب الدواهيا

فيولا أراها كالليوث مغيرة

أسمل أعيانا لها ومآقيا

وقال حمال الأسدي فى مثل ذلك :

ألا هل أتاها يوم أعماس أننى

أمارس آسادا لها وفيولا

أمارس فيلا مثل كعبة أبهر

ترى دونه رجراجة وخيولا

طعنت برمحى عينه فرددته

يرشح بولا خشية وجفولا

وقال الشماخ بن ضرار :

ويوم بجو القادسية إذ سموا

فعجت بقصاب من الهند نافح


أجالدهم والحى حولى كأنهم

رجال تلاقوا بينهم بالسوافح

وإنى لمن قوم على أن ذممتهم

إذا أولموا لم يولموا بالأنافح

وأنك من قوم تحن نساؤهم

إلى الجانب الأقصى حنين المنائح

وقال أيضا :

فليت أبا حفص رآنا ووقعنا

بباب قديس بعد ما عدل الصف

حملنا على الآساد آساد فارس

كحملة هرماس يحربه الصرف

وقال عاصم بن عمرو :

شاب المفارق والأعراض فالتمعت

من وقعة بقديس جرها العجم

جاب الكتائب والأوزاع وانشمرت

من صكة ديانها الحكم

بينا بجيلة قد كدت سراتهم

سالت عليهم بأيدى الناصر العصم

سرنا إليهم كأنا عارض برد

تزجى تواليه الأرواح والديم

كان العتيق لهم مثوى ومعركة

فيها الفرائض والأوصال واللمم

وقال أبو بجيد ، نافع بن الأسود يمدح قوموه ، ويذكرهم أثرهم فى الجاهلية والإسلام :

وقال القضاة من معد وغيرها

تميمك أكفاء الملوك الأعاظم

هم أهل عز ثابت وأرومة

وهم من معد فى الذرى والغلاصم

وهم يضمنون المال للجار ما ثوى

وهم يطعمون الدهر ضربة لازم

سديف الذرى من كل كوماء بازل

مقيما لمن يعفوهم غير جارم

فكيف تناحيها الأعاجم بعد ما

علوا لجسيم المجد أهل المواسم

وبذل الندى للسائلين إذا اعتفوا

وكب المتالى فى السنين الأوازم

ومدهم الأيدى إلى غاية العلى

إذا أقصرت عنها أكف الألائم

وإرسالهم فى النائبات تلادهم

لفك العناة أو لكشف المغارم

وقودهم الخيل العتاق إلى العدى

ضوارى تردى فى لجاج المخارم

مجنبة تشكو النسور من الوجى

يعاندن أعناق المطى الرواسم

لتنفض وترا أو لتحوى مغنما

كذلك قدماهم حماة المغانم

وكائن أصابوا من غنيمة قاهر

حدائق من نخل بقران ناعم

وكان لهذا الحى منهم غنيمة

كما أحرزوا المرباع عند المقاسم

كذلك كان الله شرف قومنا

بها فى الزمان الأول المتقادم

وحين أتى الإسلام كانوا أئمة

وقادوا معدّا كلها بالخزائم


إلى هجرة كانت سناء ورفعة

لباقيهم فيهم وخير مراغم

إذا الريف لم ينزل عريف بصحبه

وإذ هو تكفيه ملوك الأعاجم

فجاءت تميم فى الكتائب نصرة

يسيرون صفا كالليوث الضراغم

على كل جرداء السراة وملهب

بعيد مدى التقريب عبل القوائم

عليهم من الماذى زعف مضاعف

له حبك من شكة المتلازم

فقيل لكم مجد الحياة فجاهدوا

فأنتم حماة الناس عند العظائم

فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا

وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم

فما برحوا يعصونهم بسيوفهم

على الهام منهم والأنوف الرواغم

لدن غدوة حتى تولوا تسوقهم

رجال تميم ذحلها غير نائم

من الراكبين الخيل شعثا إلى الوغى

بصم القنا والمرهفات القواصم

فتلك مساعى الأكرمين ذوى الندى

تميمك لا مسعاة أهل الألائم

ذكر فتح المدائن (١) وما نشأ بينه وبين

القادسية من الأمور

والمدائن على مسافة بعض يوم من بغداد ، ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبى دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينها ، ولذلك سميت المدائن. فالمدينة الغربية منها تسمى بهرسير ، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة ، وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه ، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التي كانت الملوك تنزلها وفيها الإيوان ، إيوان كسرى العجيب الشأن ، الشاهد بضخامة ملك بنى ساسان ، ويقال : إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذي بناه ، وهو من أكابر ملوكهم ، وقد بنى ببلاد فارس وخراسان مدنا كثيرة ذكرها أبو بكر بن ثابت الخطيب فى صدر كتابه فى تاريخ بغداد (٢).

قال : وكان الإسكندر أجل ملوك الأرض ، وقيل : إنه ذو القرنين الذي ذكره الله فى كتابه ، فقال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً)

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٦١٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٥٢ ـ ٣٦١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٦١ ، ٦٤ ـ ٦٩) ، الروض المعطار للحميرى (ص ٥٢٦ ـ ٥٢٩) ، معجم البلدان لياقوت (٥ / ٧٥).

(٢) انظر : تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١ / ١٢٨).


[الكهف : ٨٤ ، ٨٥] ، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وله فى كل إقليم أثر ، فبنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا على ما يقال سمرقند ، ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو وهراة ، وبناحية الجبل جيّ ومدينة أصبهان ، وبنى مدنا أخرى كثيرة فى نواحى الأرض وأطرافها ، وجال الدنيا كلها ووطئها ، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها ، وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق ، وهى المدينة التي تسمى الرومية فى جانب دجلة الشرقى ، وأقام بالإسكندرية راغبا عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه.

وذكر بعض أهل العلم أنها لم تزل مستقرة منذ نزلها حتى مات بها ، وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته ، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك.

وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر فى الممالك واختيار المنازل ، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها.

ويذكر عن الحكماء أنهم كانوا يقولون : إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبين فى بدنه قوة ، وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبين فى عقله زيادة وفى فطنته ذكاء وحدة ، وذلك الذي أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرد بجميل الأوصاف ، وقل ما اجتمع اثنان متشاكلان ، وكان أحدهما بغداديا إلا كان هو المقدم فى لطف الفطنة ، وحسن الحيلة ، وحلاوة القول ، وسهولة البذل ، ووجد ألينهما جانبا ، وأجملهما معاشرة.

وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم ، ولم تزل دار مملكة الأكاسرة ، ومحل كبار الأساورة ، ولهم بها آثار عظيمة ، وأبنية قديمة ، منها الإيوان الذي لم ير فى معناه أحسن منه صنعة ، ولا أعجب عملا ، وقد أحسن فى وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى فى قصيدة له على روى السين يقال إنه ليس للعرب سينية مثلها ، ووصف أيضا معه القصر الأبيض ، وما كان مصورا فيه من الصور العجيبة والتماثيل البديعة والصنائع الغريبة فأبدع فى وصف ذلك وأحسن ما شاء ، فقال :

حضرت رحلى الهموم فوجه

ت إلى أبيض المدائن عنس

أتسلى عن الحظوظ وآسى

لمحل من آل ساسان درس

أذكرتنيهم الخطوب التوالى

ولقد تذكر الخطوب وتنس


وهم خافضون فى ظل عال

مشرف يحسر العيون ويخس

حلل لم تكن كأطلال سعدى

فى قفار من البسابس ملس

ومساع لو لا المحاباة منى

لم تطقها مسعاة عنس وعبس

لو تراه علمت أن الليالى

جعلت فيه مأتما بعد عرس

وهو ينبيك عن عجائب قوم

لا يشاب البيان فيهم بلبس

وإذا ما رأيت صورة أنطاكي

ة ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنو شر

وان يزجى الصفوف تحت الدرفس

فى اخضرار من اللباس على أص

فر يختال فى صبيغة ورس

وعراك الرجال بين يديه

فى خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوى بعامل رمح

ومليح من السنان بترس

تصف العين أنهم جد أحيا

ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلى فيهم ارتيابى حتى

تتقراهم يداى بلمس

حلم مطبق على الشك عينى

أم أمان غيرن ظنى وحدس

وكأن الإيوان من عجب الصن

عة جوب فى جنب أرعن جلس

يتظنى من الكآبة إذا يب

دو لعينى مصبح أو ممس

مزعجا بالفراق عن أنس إلف

عز أو مرهقا بتطليق عرس

عكست حظه الليالى وبات ال

مشترى فيه وهو كوكب نحس

فهو يبدى تجلدا وعليه

كلكل من كلاكل الدهر مرس

لم يعبه أن بز من بسط الديب

اج واستل من ستور الدمقس

مشمخر تعلو له شرفات

رفعت فى رءوس رضوى وقدس

لابسات من البياض فما تب

صر منها إلا جلائل برس

لست تدرى أصنع إنس لجن

صنعوه أم صنع جن لإنس

غير أنى أراه يشهد أن لم

يك بانيه فى الملوك بنكس

ولا أعلم أحدا من الشعراء وصف القصر الأبيض وهذا الإيوان بأبدع من هذا الوصف ولا أشجى ولا أوقع.

ويروى أن أبا جعفر المنصور ، رحمه‌الله ، لما أفضت إليه الخلافة هم بنقض هذا الإيوان ، واستشار فى ذلك جلساءه وذوى الرأى عنده من رجاله ، فكلهم وافقه على رأيه وأشار عليه بما يطابق هواه إلا خالد بن برمك ، فإنه قال له : لا تفعل يا أمير المؤمنين


فإنه آية الإسلام ، وإذا رآه من يأتى فى مستقبل الزمان علم أن أصحاب مملكته لم يغلبوا عليه إلا بأمر من عند الله وبتأييد أمد به المسلمين الذين قهروهم ، وبقاؤه فخر لكم وذكر ، ومع هذا فالمؤونة فى هدمه أكثر من العائد عليه ، فاستغشه المنصور فى ذلك ، وقال له : يا خالد ، أبيت إلا ميلا مع العجمية ، ثم أمر بنقض الإيوان ، فبلغت النفقة فى نقض الشيء اليسير منه مبلغا عظيما ، فكتب إليه بذلك فعزم على تركه ، وقال لخالد بن برمك : قد صرنا إلى رأيك ، فقال له خالد : إن رأيى الآن أن تبلغوا به الماء ، فقال له المنصور : وكيف ذلك؟ قال : لأنى آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والهدم أسهل من البناء. ففكر المنصور فى قوله فعلم أنه قد صدق ، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وكان بعد يقول : لقد حبب إلىّ هذا البناء أن لا أبنى إلا بناء جليلا يصعب هدمه.

وقد بشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالاستيلاء على مملكة فارس ووعدهم بافتتاح المدائن ، فضرب يوم الخندق بمعول أخذه صخرة عظيمة اعتاصت عليهم فى الخندق ، فكسر ثلثها بضربة ، وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إنى لأبصر قصورها الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فكسر ثلثها الثانى وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض» ، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إنى لأرى أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعة» فصدق الله وعده وأنجز لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بشرهم به واستأصل بهم مملكة فارس ، وفتح عليهم المدائن فى زمان عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سيف بن عمر عمن سماه من رجاله (١) وربما زدت فى تضاعيفه من حديث غيره ، قالوا : عهد عمر ، رضي‌الله‌عنه ، إلى سعد حين أمره بالمسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق ، ويجعل معهم كثفا من الجند ففعل ، وعهد إليه أن يشركهم فى كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم قالوا : وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين فى مكاتبة عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى العمل بما ينبغى ، فقدم سعد زهرة بن جوية نحو اللسان ، وهو لسان البحر الذي أدلعه فى الريف ، وعليه الكوفة اليوم ، وكانت عليه قبل اليوم الحيرة ، وكان النخيرجان معسكرا به فأرفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه ، ولحق بأصحابه. ثم أمر سعد عبد الله بن المعتم أن يتبع زهرة وأمر شرحبيل بن السمط أن يتبع عبد الله ثم أتبعهم هاشم بن عتبة وولاه خلافته التي كان

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٦١٨).


عليها قبل خالد بن عرفطة ، وجعل خالدا على الساقة ، ثم ارتحل سعد يتبعهم بعد فراغه من أمر القادسية كله ، وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله ، عزوجل ، إليهم ما كان فى عسكر فارس من سلاح وكراع ومال ، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة ، والكوفة كلها حصباء ورملة حمراء مختلطين ، ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل ، فارتحل زهرة عند ذلك نحو المدائن.

فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى فى جمع فناوشهم زهرة فهزمهم ، وهربوا إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم ، وكان زهرة قد طعن بصبهرى يوم برس فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل ، وأقبل عند ذلك بسطام دهقان برس فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور ، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل. وقدموا على أنفسهم الفيرزان ، فكتب بذلك زهرة إلى سعد فأتاه الخبر وقد نزل بالكوفة على من بها مع هاشم بن عتبة ، فقدمهم ثم أتبعهم حتى نزل برس فقدم منها زهرة وأتبعه الآخرين ، ثم أتبعهم حتى نزلوا على الفيرزان ببابل فاقتتلوا فهزموا المشركين فى أسرع من لفت الرداء فانطلقوا على وجهين ، ولم تكن لهم همة إلا الافتراق ، فخرج الهرمزان نحو الأهواز ، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند ، وبها كنوز كسرى ، فأخذها وأكل الماهين ، وصمد النخيرجان ومهران الرازى للمدائن ، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر ، ثم قطعا الجسر وخلفا شهريار دهقانا من دهاقين الباب فى جمع بكوثى ، فقدم سعد ، زهرة بن جوية ثم أتبعه الجنود ، فساروا إليه.

فلما التقى بأطراف كوثى جيش شهريار وأوائل خيل المسلمين ، خرج شهريار فنادى : ألا رجل ، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلىّ حتى أنكلكم به ، فقال زهرة وكايده : لقد أردت أن أبارزك ، فأما إذ سمعت قولك ، فإنى لا أخرج إليك إلا عبدا ، فإن أقمت له قتلك وإن فررت منه فإنما فررت من عبد ، ثم أمر أبا نباتة نائلا الأعوجى وكان من شجعان بنى تميم ، فخرج إليه ، مع كل واحد منهما الرمح ، وكلاهما وثيق الخلق ، إلا أن شهريار مثل الجمل ، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه ، وألقى نائل الرمح ليعتنقه ، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا ، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما ، فوقع شهريار على نائل كأنه بيت ، فضعضعه بفخذه ، وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه ليذبحه ، فوقعت إبهامه فى فم نائل ، فمضغها فحطم عظمها وأحس منه فتورا ، فثاوره فجلد به الأرض ، ثم قعد على صدره ، وأخذ خنجره فكشف درعه عن بطنه ، فطعن فى بطنه وجنبه حتى مات ، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه ، وانكشف أصحابه ، فذهبوا فى البلاد ، وأقام زهرة بكوثى


حتى قدم عليه سعد ، فغنم سعد نائلا ذلك السلب كله ، وقال له : عزمت عليك يا نائل إلا لبست سواريه وقباءه ودرعه وركبت دابته ، فانطلق فتدرع سلبه ثم أتاه فى سلاحه على دابته ، فقال له سعد : اخلع سواريك إلا أن ترى حربا فالبسهما ، وكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق.

قالوا : فأقام سعد بكوثى أياما وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم ، عليه‌السلام ، بكوثى ، والبيت الذي كان فيه محبوسا فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم وعلى أنبياء الله ، صلوات الله على جميعهم ، وقرأ : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠] ، ثم إن سعدا قدم زهرة إلى بهرسير فمضى من كوثى فى المقدمات وتبعته المجنبات ، وخرج هاشم ، وخرج سعد فى أثره ، وقد فل زهرة كتيبة كسرى التي كانت تدعى بوران حول المظلم ، مظلم ساباط ، وكان رجالها يحلفون كل يوم بالله لا يزول ملك فارس ما عشنا.

ولما انتهى هاشم إلى مظلم ساباط وقف لسعد حتى لحق به ، فلما نزل قاله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] ، ووافق ذلك رجوع المقرط ، أسد كان كسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم ، فبادر المقرط الناس حتى انتهى إليهم سعد ، فنزل إليه هاشم فقتله ، فقبل سعد رأسه ، وقبل هاشم قدميه.

وقال المدائنى : فنظر هاشم إلى الناس وقد أحجموا ووقفوا فقال : ما لهم؟ فقيل له : أسد قد منعهم ، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع موصله كأنما اجتلم به غصنا ، ووقعت الضربة فى خاصرته ، وقال بعضهم : على هامته ، فقتله.

قالوا : وقدم سعد هاشما إلى بهرسير ثم ارتحل سعد فنزل على البأس بها وجعل المسلمون المتقدمون إليها كلما قدمت عليهم خيل وقفوا ثم كبروا حتى نجز آخر من كان مع سعد ، ولما نزل سعد على بهرسير بث الخيول ، فأغار على ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات ، فأصابوا مائة ألف فلاح ، فقال شيرزاذ ، دهقان ساباط ، وكان قد تلقى زهرة فى طريقه بالصلح وتأدية الجزية ، فقال لسعد عند ما أتى بالفلاحين فخندق لهم : إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا ، إنما هؤلاء علوج لأهل فارس فدعهم إلىّ حتى يفرق لك الرأى فيهم ، فكتب عليه بأسمائهم ، ودفعهم إليه ، فقال لهم شيرزاذ : انصرفوا إلى قراكم.

وكتب سعد إلى عمر رحمهما‌الله : إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا بين القادسية وبهرسير ، فلم يأتنا أحد لقتال ، فبثثت الخيول فجمعت الفلاحين من القرى والآجام ،


فرأيك. فأجابه عمر : إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم ، ومن لم يأتكم ولم يهرب فهو أمانهم ، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.

فلما جاء سعدا الكتاب خلى عنهم. وراسله الدهاقين ، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزاء ولهم الذمة والمنعة ، فرضوا بالجزية والمنعة ، ولم يبق فى غربى دجلة إلى أرض العرب سوادى إلا أمن واغتبط بملك الإسلام واستقبلوا الخراج.

وأقام سعد بالناس على بهرسير يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ، ويقاتلونهم بكل عدة.

قال بعضهم : وكان سعد عند ما نزلها وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب استصنع شيرزاذ المجانيق فنصب على أهلها عشرين منجنيقا فشغلهم بها ، وكان الأعاجم والعرب مطيفين بهم ، وربما خرجوا يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة فى جماعتهم وعدتهم لقتال المسلمين ، فلا يقومون لهم ، فكان آخر ما خرجوا فى رجالة وناشبة ، وتجردوا للحرب ، وتتابعوا على الصبر ، فقاتلهم المسلمون فكذبوا وتوالوا ، وكانت على زهرة بن الجوية يومئذ درع مفصومة ، فقيل له : لو أمرت بهذا الفصم فسرد فقال : ولم؟ فقالوا : إنا نخاف عليك منه ، فقال : إنى لكريم على الله ، أن ترك سهم فارس الجند كلهم ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت فىّ ، فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشابة ، فثبتت فيه من ذلك الفصم ، فقال بعضهم : انزعوها عنه ، فقال : دعونى ، فإن نفسى معى ما دامت فىّ ، لعلى أن أصيب فيهم بطعنة أو بضربة أو خطوة ، فمضى نحو العدو ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل اصطخر ، فقتله ، وأحيط به فقتل وانكشفوا.

وسيأتى بعد من أخبار زهرة بن الجوية وآثاره فى الوقائع التي لا شك فى كونها بعد هذه ما يوهن خبر قتله المذكور آنفا ، والأولى بحسب هذا إن شاء الله أن يكون غير زهرة هو صاحب هذه القصة ؛ إذ قد ذكر المدائنى أن هاشم بن عتبة قال لزهير بن سليم الأزدى ، قال : ويقال لغيره ، ورأى فى درعه فصما ، إنى لا آمن أن تصيبك نشابة فى هذا الموضع ، فلو سردته قال : لئن تركت نشابة الفارسى جسدى كله إلا هذا الموضع إنى إذا لسعيد ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، فالله أعلم.

وقال أنيس بن الحليس (١) : بينا نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم ، أشرف علينا رسول فقال : إن الملك يقول لكم : هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٧).


دجلة وجبلها ، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟ فبدر الناس أبو مفرز الأسود بن قطبة ، وقد أنطقه الله ، عزوجل ، بما لا يدرى ما هو ولا نحن ، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئا هو ولا نحن ، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن ، فقلنا : يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما أدرى ما هو ، وإلا أنى علتنى سكينة ، وأرجو أن أكون أنطقت بالذى هو خير ، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد ، فجاءنا فقال : يا أبا مفرز ما قلت له؟ فو الله إنهم لهراب ، فحدثه بمثل حديثه إيانا ، فنادى فى الناس ، ثم نهد بهم ، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه ، فقال : ما بقى أحد فيها فما يمنعكم ، فتسورها الرجال ، وافتتحناها ، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا ، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها ، فسألناهم وذلك الرجل : لأى شيء هربوا؟ فقال : بعث إليكم الملك يعرض عليكم الصلح ، فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذون بأترج كوثى ، فقال الملك : وا ويلة ألا أرى الملائكة تكلم على ألسنتهم ، ترد علينا وتجيبنا عن العرب ، وو الله لئن لم يكن كذلك ، ما هو إلا شيء ألقى علىّ فى هذا الرجل لننتهى ، فأرزوا إلى المدينة القصوى.

قالوا : ولما دخل سعد والمسلمون بهرسير أمر بها فثلمت وتحول العسكر إليها ولاح لهم وذلك فى جوف الليل القصر الأبيض ، فقال ضرار بن الخطاب : الله أكبر ، أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله ، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا.

وقال القعقاع بن عمرو :

ألم يأتيك والأخبار تنمى

وتصعد فى الملمعة الفياف

توافينا ومنزلنا جميعا

أمام الخيل بالسمر الثقاف

قسمنا أرضهم قسمين حتى

نزلنا مثل منزلهم كفاف

دعاء ما دعونا آل كسرى

وقد هم المرازب بانصراف

وما أن طبهم جبن ولكن

رميناهم بداعية ذعاف

فتحنا بهرسير بقول حق

أتانا ليس من سجع القوافى

وقد طارت قلوب القوم منا

وملوا الضرب بالبيض الخفاف

ولما نزل سعد بهرسير ، وهى المدينة الدنيا من المدائن ، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى منها ، فلم يقدر على شيء ، ووجدهم قد ضموا السفن ، فأقاموا أياما يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين ، ودجلة قد طما ماؤها يتدفق جانباها ،


فيروى أنه بينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر هو الذي يحملكم فى البحر ، فندب سعد الناس إلى العبور ، فأتاه قوم من العجم ممن قد اعتقد منه ذمة فقالوا : ندلك على موضع أقل غمرا من هذا ، فدلوه على ديلمايا (١).

وقيل (٢) : إن سعدا رأى رؤيا كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها ، وقد أقبلت من المد بأمر عظيم ، فعزم على تأويل رؤياه على العبور ، وفى سنة جود صيبها متتابع ، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه ، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا ، فيناوشونكم فى سفنهم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، فقد كفاكموهم أهل الأيام ، وأعطوا ثغورهم ، وأفنوا ذادتهم ، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا : ألا إنى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل ، فقال : من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى يتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس ، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات ، واستعمل عليهم عاصما ، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة فقال : من ينتدب معى لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ، ليكون أسلس لعوم الخيل ، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم وقد شدوا على خيولهم حزمها وألبابها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم ، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت خيلا مثلها ، فاقتحموا إليهم دجلة ، فلقوا عاصما فى السرعان ، وقد دنا من الفراض ، فقال : الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون ، فالتقوا ، فاطعنوا فى الماء ، وتوخى المسلمون عيونهم ، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيلهم حتى ما يملكون منها شيئا ، فلحقوا بهم فى البر فقتلوا عامتهم ، ونجا باقيهم عورانا. ونزلت بالمسلمين خيولهم حتى انتقضت على الفراض ، وتلاحق باقى الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين.

ويروى أن أولئك الستين خرجوا يومئذ من دجلة منقطعين زمرا ، الزمرة الأولى تسعة فيهم عاصم ، والثانية ثمانية عشر ، والثالثة ثلاثة وثلاثون ، ويومئذ سميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال ، لما رأى منهم فى الماء والفراض.

__________________

(١) ديلمايا : موضع بالعراق على دجلة. انظر الخبر والتعريف فى : الروض المعطار (ص ٢٤٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٩ ، ١٠).


ولما رأى سعد عاصما على الفراض وقد منعها ، أذن للناس فى الاقتحام ، وقال : قولوا نستعين بالله ، ونتوكل على الله ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة ، واعترضوا دجلة وإنها لمسودة تزخر ، لها حدب يقذف بالزبد ، فكان أول من اقتحم سعد بن أبى وقاص ، ثم اقتحم الناس ، وقد قرنوا أنثى بكل حصان يتحدثون على ظهورها كما يتحدثون على الأرض ، وطبقوا دجلة خيلا ودواب ورجالا حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد ، وسلمان الفارسى يساير سعدا يحدثه ، والماء يطفو بهم ، والخيل تعوم ، فإذا أعيا فرس استوى قائما يستريح كأنه على الأرض ، فقال قيس بن أبى حازم : إنى لأسير فى دجلة فى أكثر مائها إذ نظرت إلى فارس وفرسه كأنه واقف ما يبلغ الماء حزامه.

وقال بعضهم : لم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك ، فقال سعد : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٤].

وفى رواية أنه قال لسلمان وهو يسايره فى الماء : والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن الله دينه ، وليهزمن عدوه ، إن لم يكن فى الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات ، فقال سلمان : يا أبا إسحاق ، الإسلام جديد ، ذلل الله لكم البحر كما فرقه وذلّله لبنى إسرائيل ، والذي نفس سلمان بيده ، لتخرجن منه أفواجا كما دخلتموه أفواجا ، فخرجوا منه كما قال سلمان ، لم يفقدوا شيئا ، ولم يغرق فيه أحد.

قال أبو عثمان النهدى (١) : إلا رجلا من بارق يدعى غرقدة ، زل عن ظهر فرس له شقراء ، كأنى أنظر إليها عريا تنفض عرفها ، والغريق طاف ، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه ، فجره حتى عبر ، فقال البارقى : وكان من أشد الناس : أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكانت للقعقاع فيهم خئولة.

وقال بعض رجال سيف بن عمر (٢) : إنه لم يذهب للمسلمين يومئذ فى الماء شيء إلا قدح كانت علاقته رثة ، فانقطعت ، فذهب به الماء ، فقال الرجل : الذي كان يعاوم صاحب القدح (٣) معيرا له : أصابه القدر فطاح ، فقال : إنى لأرجو والله أن لا يسلبنى الله قدحى من بين أهل العسكر ، وإذا رجل من المسلمين ممن تقدم ليحمى الفراض قد سفل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٢).

(٣) هو : مالك بن عامر ، حليف لقريش من عنزة.


حتى طلعت عليه أوائل الناس ، وقد ضربت الرياح والأمواج القدح حتى وقع إلى شاطئ ، فتناوله برمحه ، فجاء به إلى العسكر فعرّفه ، فعرفه صاحبه فأخذه ، وقال لصاحبه الذي كان يعاومه : ألم أقل لك؟ فيروى أن عمر ، رحمه‌الله ، بلغه ما كان قال له صاحبه أولا ، فأنكره وأرسل إليه : أنت القائل أصابه القدر فطاح؟ تفجع مسلما!.

وقال الأسود بن قطبة أبو مفزر يرتجز يومئذ :

يا دجل إن الله قد أشجاك

هذى جنود الله فى قراك

فلتشكرى الذي بنا حباك

ولا تروعى مسلما أتاك

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك :

ألا هل أتاها أن دجلة ذللت

على ساعة فيها القلوب تقلب

ترانا عليها حين عبّ عبابها

تبارى إذا جاشت بموج تصوب

نفينا بها كسرى عن الدار فانتوى

لأبعد ما ينوى الركيك الموقب

قال : وفجأ المسلمون أهل فارس من هذا العبور بأمر لم يكن فى حسبانهم ، فأجهضوكم وأعجلوهم عن حمل أموالهم ، وخرجوا هرابا ، وقد كان يزدجرد خرج قبلهم إلى حلوان فنزلها بعد أن قدم إليها عياله حين أخذت بهرسير وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حر متاعهم وخفيفه ، وبالنساء والذرارى وما قدروا عليه من بيت المال ، وتركوا فى الخوائن من الثياب والمتاع والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته ، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم وكل الأطعمة والأشربة ، فدخل المسلمون المدائن واستولوا على ذلك كله فكان أول من دخلها كتيبة الأهوال ، ثم تبعتها الخرساء ، كتيبة سعد ، فأخذوا فى سككها لا يلقون أحدا ولا يحسونه إلا ما كان فى القصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمة ، ويرجع إليها أهل المدائن على مثل عهدهم ، ليس فى ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم. ونزل سعد القصر الأبيض وسرح زهرة فى آثار القوم إلى النهروان فانتهى إليها ، وسرح مقدار ذلك فى طلبهم من كل وجه.

وقال حبيب بن صبهان (١) : لما عبر المسلمون دجلة ، جعل أهل فارس وهم ينظرون إليهم يعبرون يقول بعضهم لبعض بالفارسية ما تفسيره بالعربية : إنكم والله ما تقاتلون الإنس وإنما تقاتلون الجن.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٤).


قالوا : وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على ماء الفراض يمنعون المسلمين من العبور ، حتى ناداهم مناد : علام تقتلون أنفسكم؟ فو الله ما فى المدائن من أحد ، فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم ، ولما دخلها سعد فرأى خلوتها وانتهى إلى إيوان كسرى أقبل يقرأ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان : ٢٥ ، ٢٨] ، وصلى فيه صلاة الفتح ، ولا تصلى جماعة ، فصلى ثمانى ركعات لا يفصل بينهن ، واتخذ الإيوان مسجدا ، وفيه تماثيل الجص رجال وخيل ، فلم يمتنع هو ولا المسلمون ، يعنى من الصلاة فيه ، لأجلها ، وتركوها على حالها ، وأتم سعد الصلاة يوم دخلها لأنه أراد المقام بها. وبالمدائن كانت أول جمعة جمعت بالعراق فى صفر سنة ست عشرة. ووكل سعد بالإقباض من يجمعها (١) ، وأمره بجمع ما فى القصر والإيوان ومنازل كسرى وسائر الدور ، وإحصاء ما يأتيه به الطلب ، وقد كان أهل المدائن تأهبوا عند المدائن للغارة ، ثم طاروا فى كل وجه ، فما أفلت أحد منهم بشيء ولا بخيط ، ألح عليهم الطلب فتنفذوا ما فى أيديهم ، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض ، فضموها إلى ما قد جمع.

وقال حبيب بن صبهان : دخلنا المدائن ، فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص ، فما حسبناها إلا طعاما ، فإذا هى آنية الذهب والفضة وقسمت بعد بين الناس.

قال : ولقد رأيت الرجل يطوف ويقول : من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير فما حسبناه إلا ملحا ، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته فى الخبز.

وعن الرفيل بن ميسور (٢) قال : خرج زهرة ، يعنى ابن الجوية ، فى المقدمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه ، فازدحموا فوقع بغل فى الماء وعجلوا عنه ثم كلبوا عليه ، فقال زهرة : أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنا ، ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك بعد ما أرادوا تركه إلا لشىء ، فترجل حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه فاحتملوا البغل بما عليه حتى أدوه إلى الأقباض ما يدرون ما عليه ، وإذا الذي عليه حلية كسرى ، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر ، وكان يجلس فيها للمباهاة.

__________________

(١) هو : عمرو بن عمرو بن مقرن.

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٧).


وقال الكلج الضبى : كنت فيمن خرج للطلب ، فإذا أنا ببغالين قد ذبا الخيل عنهما بالنشاب ، فما بقى معهما غير نشابتين ، فالتظظت بهما ، فاجتمعا ، وقال أحدهما لصاحبه : ارمه وأحميك ، أو أرميه وتحمينى ، فحمى كل واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إنى حملت عليهما فقتلتهما ، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما ، حتى بلغتهما صاحب الأقباض ، فإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان فى الخزائن والدور ، فقال : على رسلك حتى ننظر ما معك فحططت عنهما ، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسخا ، وكان لا تحمله إلا أسطوانتان ، وفيهما الجوهر ، وعلى الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.

قالوا (١) : وخرج القعقاع يومئذ فى الطلب ، فلحق بفارسى يحمى الناس ، فاقتتلا فقتله القعقاع ، وإذا معه جنبية عليها عيبتان وغلافان فى أحدهما خمسة أسياف وفى الآخر ستة ، وفى العيبتين أدراع ، درع كسرى ومغافره وساقاه وساعداه ، ودرع هرقل ، ودرع النعمان ، ودرع داهر ، ودرع سياوخش ، ودرع بهرام شوبين ، وكانوا استلبوا ما لم يرثوا منها ، مما استلبوا أيام غواتهم خاقان وهرقل وداهر ، وأما النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى. وفى أحد الغلافين سيف كسرى وهرمز وكسوتى قباذ وفيروز ، وفى الآخر سيوف سائر من نسبت إليه دروع من تلك الدروع ، فجاء القعقاع بذلك كله إلى سعد ، فقال له : اختر أحد هذه الأسياف ، فاختار سيف هرقل ، وأعطاه إياه معه درع بهرام ، ونفل سعد سائر ذلك فى الخرساء ، كتيبته ، إلا سيف كسرى والنعمان ، فإنه بعث بهما إلى عمر فى الأخماس مع حلى كسرى وتاجه وثيابه ، ليرى ذلك المسلمون ، ولتسمع به العرب ، لمعرفتهم بها.

وقال عصمة الضبى (٢) : خرجت فيمن خرج يطلب ، فأخذت طريقا مسلوكا فإذا عليه حمّار ، فلما رآنى حث حماره فلحق آخر قدامه ، فمالا ، وحثا حماريهما ، فانتهينا إلى جدول قد كسر جسره ، فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا ، ورمانى أحدهما فألظظت به حتى قتلته ، وأفلت الآخر ، فرجعت إلى الحمارين ، فأتيت بهما صاحب الأقباض ، فنظر فيما على أحدهما ، فإذا سفطان فى أحدهما فرس من ذهب مسروج بسرج من فضة على ثغره ولببه الزمرد والياقوت منظومين على الفضة ، ولجام كذلك ، وفارس من فضة مكلل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٨ ، ١٩).


بالجوهر ، وإذا فى الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب ، وبطان من ذهب وزمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر ، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.

وعن أبى عبيدة العنبرى (١) قال : لما هبط المسلمون بالمدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال هو والذين معه ، لما نظروا إلى ما فيه : ما رأينا مثل هذا قط ، ثم قالوا له : هل أخذت منه شيئا؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدونى ، ولا غيركم ليقرظونى ، ولكنى أحمد لله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أتى إلى أصحابه ، فسأل عنه ، فإذا هو عامر بن عبد قيس.

ويروى أن سعدا ، رحمه‌الله ، قال حين رأى ما رأى من ورع الناس وكونهم لم يتعلق على أحد منهم بغلول فيما جمعوا من الغنائم : والله إن هذا الجيش لأهل أمانة ، ولو لا ما سبق لأهل بدر ما فضلتهم عليهم ، ولقد نالت الدنيا من رجال من أهل بدر حين أصابوها.

وقال جابر بن عبد الله : والله الذي لا إله إلا هو ، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة.

قال بعضهم : ولقد كانوا يخافون قيس بن مكشوح ، وعمرو بن معدى كرب ، وطليحة بن خويلد ، وأشباههم على الغلول ، فما تعلق على أحد منه بشيء يكرهونه ولا أرادوا الدنيا.

ولما قدم على عمر ، رحمه‌الله ، بسيف كسرى ومنطقته وزبرجه ، قال : إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة. فقال على ، رضي‌الله‌عنه : إنك عففت فعفت الرعية.

قالوا : ولما اجتمعت الغنائم ، وتراجع الطلب قسم سعد بين الناس فيئهم بعد ما خمسه ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا ، وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل ، وكانت الجنائب فى المدائن كثيرة ، ويقال : كانوا بين أهل الأيام وأهل القادسية الذين لم يشهدوا الأيام ، وبين من لحق بهم فى ثلاث من غير أهل الأيام بالقادسية ، وبين أهل الروادف ستين ألفا ، وقسم سعد دور المدائن بين الناس ، وأوطنوها ، وكان الذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنى ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٩).


وقال الشعبى (١) : بعث سعد إلى العيالات فأنزلهم الدور لما قسمها وفيها المرافق ، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد.

قالوا : وجمع سعد الخمس ، وأدخل فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر ، من ثياب كسرى وحلية وسيفه ونحو ذلك ، ونفل من الأخماس فى أهل البلاء ، ولم يجهدها ، وفضل بعد القسم بين الناس ، وإخراج الخمس ، القطف فلم يعتدل ، فقال للمسلمين : هل لكم فى أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه ، ونبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى ، فإنا لا نراه يتفق : وهو بيننا قليل ، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ فقالوا : نعم ، فبعث به على ذلك الوجه ، والقطف هو بهار كسرى ثقل عليهم أن يذهبوا به ، فتركوه بالمدائن ، فأصابه المسلمون ، وكان بساطا واحدا ستين ذراعا فى ستين ذراعا فيه طرز كالسور وفصوص كالأنهار ، وفى خلال ذلك كالدير ، فى حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات فى الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكان إذا أرادوا الشراب شربوا عليه ، فكأنهم فى رياض ، وكانت العرب تسميه القطف ، فبعث به سعد مع الأخماس إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، مع بشير بن الخصاصية ، فلما قدم عليه نفل من الخمس أناسا ، وقال : إن الأخماس ينفل منها من شهدها ومن غلب من أهل البلاء فيما بين الخمسين ، ولا أرى القوم جهدوا الخمس ، ثم قسم الخمس فى مواضعه ، ثم قال : أشيروا علىّ فى هذا القطف. فأجمع ملؤهم على أن قالوا : قد جعلوا ذلك لك ، فراء رأيك ، إلا ما كان من على ، رضي‌الله‌عنه ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، الأمر كما قالوا : ولم يبق إلا التروية ، إنك إن تقبله اليوم على هذا لم تعدم فى غد من يستحق به ما ليس له ، قال : صدقتنى ونصحتنى.

وفى رواية أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، استشارهم فيه ، فمن بين مشير بقبضه ، وآخر مفوض إليه ، وآخر مرفق ، فقام على ، رضي‌الله‌عنه ، حين رأى عمر تأنى حتى انتهى إليه ، فقال : لم تجعل علمك جهلا ، ويقينك شكّا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فامضيت ، أو لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت. قال : صدقتنى ، فقطعه فقسمه بين الناس ، فأصاب عليا قطعة منه ، فباعها بعشرين ألفا ، وما هى بأجود تلك القطع.

وذكر المدائنى أن عمر حين قال له على : إن بلته لم تعدم بعدك من يستحق مأثما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢١).


بك ، صرفه إلى سعد ، وكتب إليه : أن بعه واقسم ثمنه على من أفاءه الله عليهم.

قال رجال سيف (١) : ولما أتى عمر بحلى كسرى وزيه فى المباهاة ، وفى غير ذلك ، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زى ، قال : علىّ بمحلم ، وكان أجسم عربى يومئذ بأرض المدينة ، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب ، وصب عليه أوشحته وقلائده وثيابه ، وأجلس للناس ، فنظر إليه عمر ، ونظر إليه الناس ، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها ، ثم قام عن ذلك ، فألبس زيه الذي كان يلبسه ، فنظروا إلى مثل ذلك فى غير نوع ، حتى أتى على الأزياء كلها ، ثم ألبسه سلاحه ، وقلده سيفه ، فنظروا إليه فى ذلك ، ثم وضعه ثم قال : والله إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة ، ونفل سيف كسرى محلما ، هكذا وقع ذكر محلم فى هذا الحديث ، ولا أعرف ولا أعلم فى ذلك الصدر من اسمه محلم إلا محلم بن جثامة ، ويقال : إنه توفى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقصته فى الدم الذي أصابه ، والعفو عند وجوب القود ، ودعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مثل بين يديه ، قصة مشهورة.

وقد قيل : إنه عاش بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالله أعلم.

وكذلك قيل : إن الذي ألبسه عمر سوارى كسرى هو سراقة بن مالك المدلجى.

وروى سفيان بن عيينة عن أبى موسى ، عن الحسن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسراقة بن مالك (٢) : «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» (٣) قال : فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه إياهما ، وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين ، وقال له : ارفع يديك فقل : الحمد لله ، الله أكبر ، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول : أنا رب الناس ، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج ، ورفع بها عمر صوته.

وذكر أبو الحسن المدائنى فى فتوح العراق خبر المدائن ، فخالف فيه كثيرا مما تتقدم وزاد ونقص ، وسأذكر من ذلك ما يحسن ذكره على سبيل الاختصار والتوخى لحذف ما يكون ذكره تكرارا إلا ما يعتاض فضله من الحديث للحاجة إليه.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٢٢ ، ٢٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣١٢٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٩٥٥) ، الثقات (٣ / ١٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٠) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٤) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٥٦) ، تهذيب الكمال (١ / ٤٦٦) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٣٤٢) ، شذرات الذهب (١ / ٣٥) ، العبر (١ / ٢٧) ، العقد الثمين (٤ / ٥٢٣).

(٣) انظر الحديث فى : إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨) ، الشفاء للقاضى عياض (١ / ٦٧٤).


فمن ذلك أن يزدجرد لما غلب سعد على مدينة نهرسير واعتقد أهل غربى دجلة منه الذمة نقل خزائنه وأمواله ودواوينه إلى حلوان ، وأقام فى الإيوان فى مقاتلته ، وسعد والمسلمون فى دير المنازل ، فبينما هم به ودجلة قد طماها ماؤها يتدفق جانباها ، إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن غلقت أبوابها ، وغيبت السفن ، وقطعت الجسور ، فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر يحملكم فى البحر؟ فندب سعد الناس إلى العبور ، ثم ساق الحديث فى ركوبهم دجلة على ظهور خيلهم نحوا مما تقدم ، ثم قال : ونظر ضرار بن الخطاب والمسلمون فرأوا بناء أبيض ، فقال ضرار : الله أكبر ، أبيض المدائن ورب الكعبة ، وهرب أهل المسالح حين عبر المسلمون ، واعروها وقالوا : هؤلاء من السماء ، وخرج أهل الرومية ومن كان فيها من الأساورة معهم الفيلة فقاتلهم المسلمون ، فكانت الفيلة تهم فى وجوه الخيل ، والمسلمون قليل ليست لهم رجالة تقاتل عن خيلهم ، فكانت الخيل تنفر ، فأتى رجل سعدا فقال : تؤمننى على نفسى وأهلى ومالى وأدلك على ما ترد به الفيلة؟ قال : نعم. قال : الخنازير. قال : وأنى لى بها؟ قال : أنا أجيئك بها ، فجاءه بخنازير فضربت فجعلت تقيع فى وجوه الفيلة ، فولت وانهزم المشركون. فوقف رجل يحميهم واعترض الطريق فلما دنا منه المسلمون ضرب فرسه ليقدم عليهم ، فاعتاص وضربه ليهرب ، فاعتاص فطعنه رجل من المسلمين فقتله ، ودخل الآخرون الرومية ، ومضى الأساورة إلى يزدجرد بالإيوان ، فهرب هو وأساورته ومقاتلته ، وسمعوا صوتا من ورائهم علام تقتلون أنفسكم وقد ذهبت مدة ملككم.

ومضى سعد إلى المدينة العتيقة ، فمر المسلمون بمجلس لكسرى كان يسمى بهشت إيوان ، فوقفوا ينظرون إليه وقد تقدم سعد فانطوى عليه ، فظن أنهم اقتطعوا ، فسأل عنهم ، فأخبر ، فقال لبعض من معه من العجم : ما هذا المجلس؟ قالوا : بهشت إيوان. قال : وما تفسيره؟ قالوا : الجنة. فأرسل سعد قوما فأحرقوه ، وخرج أهل المدائن إلى سعد فتلقوه بجامات الذهب والفضة مملوءة دنانير ودراهم يسألونه الأمان على أن يعطوا الجزية ، فقبل ذلك منهم ، ونزل القصر الأبيض ، وأمر أهل المدائن فعقدوا الجسر ، فعبر المسلمون جميعا وأثقالهم وإبلهم ، وتحول سعد فعسكر فى مكانين على الناقوس وعلى نهر أبغش ، بين العسكرين ميل ، وكان أكثر العسكرين أهلا الذين على نهر أبغش ، واتخذ سعد مسجدا على الناقوس فهو إلى اليوم يسمى مسجد العسكر ، وصلى فيه على بن أبى طالب حين قدم المدائن وهو يريد صفين.

ولم يأخذ سعد من المدينة ومن أهلها إلا ما كان للملك وأهل بيته ولمن هرب ،


وأصابوا فى خزائنهم ما عجزوا عن حمله من المتاع وصنوف الأطعمة ما لا يوصف كثرة ، فأمر سعد بجمع ذلك ، فجمع وولاه النعمان بن مقرن ثم تلا :

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [إبراهيم : ٤٤ ، ٤٥].

وكتب سعد إلى عمر بفتح المدائن وبهرب ابن كسرى ، فكتب إليه عمر :

أوصيك بتقوى الله الذي بتقواه سعد من سعد وبترك تقواه شقى من شقى ، وقد عرفت بلاء الله عندنا أيها الرهط أنه استنقذنا من الشرك وأهله ، وأخرجنا من عبادة أوثانهم ، وهدانا من ضلالتهم ، وعرفت مخرجنا من عندهم ، كيف خرجنا ، وأن الرهط على بعير عليه أنفسهم وزادهم يتعاور اللحاف الواحد العدة منا من بلغ مأمنه منا بلغ مجهودا ، ومن أقام فى أرضه أقام مفتونا فى دينه معذبا فى بدنه ، أشد أهله عليه أقربهم منه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بالله لتأخذن كنوز كسرى وقيصر ، يعجب من ذلك من سمعه ، فأبقاك الله حتى وليت ذلك بنفسك ، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه ، حتى تلقى الخماص الذين ذهبوا فى شمالهم ، لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، لم تفتنهم الدنيا ، ولم يغتروا بها ، فاقتدوا بهديهم ، ولا تضللن أنفسكم ، وكونوا الأمة الممدوحة المباركة التي قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [الأنبياء : ٧٣].

قال : وحصر سعد الرومية تسعة أشهر حتى أكل السنانير والكلاب بعضهم ، فأتى سعدا رجل مستأمن ، فسأله الأمان لنفسه وأهله ، على أن يدله على عورة المدينة ، فأمنه فدله على مجرى الماء إلى المدينة ، وكان يأتيهم الماء فى قناة من دجلة ، فغورها المسلمون فارتحل أهل الرومية حين انقطع الماء عنهم من ليلتهم ، وحملوا ما خف من أموالهم ، وخرجوا على حامية معهم أثقالهم ، فأخذوا طريق خراسان ، فأتت امرأة منهم سعدا فسألته الأمان فأمنها ، فقالت لم يبق فى المدينة أحد من المقاتلة ولا عيالاتهم ، بقى قوم ضعفاء ، فدخلها سعد ، فأصابوا متاعا كثيرا وسلاحا وسبيا قليلا ، فبعث بخمس ما أصاب من الرومية ، وما صالح عليه أهل المدائن إلى عمر مع بشير بن الخصاصية.

وذكر من حديث البساط الذي مر ذكره نحوا مما تقدم.

وذكر ، أيضا ، عن حرملة بن صدقة بإسناده إليه قال : غزوت خراسان فرأيت رجلا


من العجم يشبه الروم فسألنى عن مسكنى ، فقلت : المدائن ، قال : أيها؟ قلت : الرومية. قال : فأين منزلك منها؟ فوصفته له ، قال : هذه دارى ، إنى أحدث أصحابى عنها وعن حالى ، وما كنت فيه فيكذبوننى ، ولقد دفنت حين حصرنا العرب فى الدكان التي على باب الدار عشرة آلاف درهم وآنية ذهب وفضة كثيرة ، فأغضيت على ما قال ، واستأذنت أميرى فى القفل ، فأذن لى ، فقدمت فاحتفرت ذلك الموضع فأصبت ما قال على ما قال ، فأحرزته ورجعت إلى مركزى.

قال المدائنى : واقتسم المسلمون الرومية أرباعا فنزلوها ، ونسبت الأرباع إلى قبائل ، ومعهم فيها غيرهم ، غير أنه قيل : ربع عبد القيس وربع بجيلة وأسد وربع خزاعة وربع بقى على ما كان يسمى فى الجاهلية ، طسوج هندوان.

وكان كسرى أنزله قوما من الزط فهو يسمى بذلك الاسم إلى اليوم ، واتخذ آل صوحان مسجدا بالرومية ، واختطت القبائل فيما حول الإيوان ، ونزلوا المدينة العتيقة ، ولم ينزلوا إلا ما كان للملك ولأهل بيته ولمن هرب مما لم يصالح عليه ، فاختط حول الإيوان والرومية تميم وسليم وعبس وبكر ومزينة وجهينة وهمدان وثقيف والأنصار ومراد ، ونزل بنو أسد الفارقين ، ونزل المسلمون الإيوانات وبيوت النيران والمرابط والسكك ودور الضرب والدواوين ، وصار بستان الملك الذي كان يدخله إذا فرغ من الزمزمة مقابر للمسلمين ، ونزل حذيفة مربط يزدجرد ، ونزل سعد القصر الأبيض والمسجد الذي يجتمعون فيه مسجد العسكر على الناقوس ، فلم يزل المسلمون بالمدائن وما حولها حتى تحولوا إلى الكوفة ، فتركوا خططهم على حالها تعرف بهم ، وأقام قوم اتخذوا الضياع بالسواد ، فلم يتحولوا ، وكان مقامهم بعد الحرب سنتين.

وذكر أيضا أن سعد بن أبى وقاص كان حين سار إلى المدائن خلف قوما بأرض الكوفة ، فقسم لهم مع من شهد المدائن حين فتحها ، فقام إليه رجل من هذيل فقال له : عمدت إلى فيئنا فأعطيته من لم يشهد ، وركب إلى عمر فشكا سعدا ، فأرسل عمر ، عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، فقال : إن وجدتماه بالكوفة فلا تبيتن بها ، وإن وجدتماه خارجا عن الكوفة فلا تدعاه يدخلها وخذا الخاتم من يده ، فلقياه بفيين فأخذ أحدهما الخاتم من يده ، فنظر إلى الآخر ، فقال : أمر بذلك ، فقال سعد :

خذينى فجرينى ضباع وأبشرى

بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره

قال : دعونى أدخل الكوفة ، قالا : لا ، فقطعا به الفرات من دير الأعور ، فلما قدم على


عمر قال : أين الهذلى؟ فقام ، فقال : ما يقول هذا؟ قال سعد : صدق ، قال : ارجع فخذه منهم ثم أقسمه.

وذكر عن عبد الله بن سليم وغيره ، قالوا : اجتمع الأساورة بحلوان عند يزدجرد ، فذكروا العرب ورثاثة سلاحهم وسوء عدتهم وظهورهم عليهم ، فتلاوموا وقالوا : أسلمنا ملكنا وما كنا فيه إلى عصابة لم تكن فى الأرض أمة أصغر أمرا عندنا منهم ، فقال بعضهم : لا تعجبوا من هذا ، فإنها دولة جاءت قوما ، ومدة انقضت عنكم ، وهذا أمر أراده الله ، والله لا يغلب. فقال رجل منهم : ارفعوا لى كرة ، فرفعوها فرماها بنشابات فلم يخطئها ، قال : هذا ما ترون من رمى ، ولقد رأيتنى مرة فى بستان أرمى الزنانير بجلاهق فما أخطأت بواحدة ، فقدم العرب فهربت واتبعنى رجل فرميته بخمس نشابات فما أصبته ، ودعا رجل بقوسه فرمى بنشابة فى حائط لبن فغيبها إلى قريب من الريش ، ثم اعترض ساقا من شجرة بسيف فاجتمه ، ثم قال : ترون رمى وضربى؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى رميت رجلا ، يعنى من المسلمين ، ليس عليه سلاح ولا ثوب يقيه ، فأصبت بطنه فما خدشه ، ولقد ضربت رجلا حاسرا أصلع بسيفى هذا ، فخرج من رأسه شبه الدقيق ، وحدث بعض العجم قال : كنت فيمن انهزم عن العرب ، فإنى لأسير فى عشرة من الأساورة إذ انتهينا إلى نهر ورجل من العرب يسقى فرسه ، فلما رآنا شد حزام فرسه وألجمه وركبه وحمل علينا فولينا ، وانفردت من أصحابى دهشا وطمع فىّ فاتبعنى حتى صرت فى مؤخر النهر وفرسى أقوى من فرسه ، فزجرت فرسى ، فطغى بى النهر ، ووقف ينظر إلىّ لا يقدر على العبور ، فالتفت إليه ، فقال : أولى لك ، فلم أدر ما قال لى حتى سألت بعد وعلمت ، فما خرج رعب تلك الكلمة من قلبى.

وذكر بإسناد له إلى عبد الله بن معقل بن مقرن المزنى قال : اصطفى عمر من مال العجم أصنافا ، مال من هرب ومن قتل ، وكل مال لكسرى أو لأحد من أهل بيته ، وكل مسيل ماء ، وكل دير يريد ، فكان خراج ما اصطفى سبعة آلاف ألف حتى كان يوم دير الجماجم أحرق الديوان ، فأخذ كل قوم ما يليهم.

قال المدائنى : وكان المغنم بالمدائن والرومية قريبا من مغنم القادسية.

ومما قيل فى ذلك من الشعر قول أبى بجيد ، نافع بن الأسود التميمى يفخر بقومه :

بنو تميم عتاد الحرب قد علموا

والناهضون إذا فرسانها ركبوا

والحاملون إذا ما أزمة أزمت

ثقل العشائر إن جمعوا وإن ندبوا


والفاصلون إذا ما خطة جهلت

عند الجموع وفيهم تفصل الخطب

والمانعون من الأعداء دارهم

عند الهياج إذا ما اهتزت الطنب

والواردون على كسرى مدائنه

قسرا ومن دونها بحر له لجب

نحوى نهابهم والخيل مشعلة

وسط الديار ومنها حولهم عصب

شعث عليها ليوث ما يهجهجها

عند الصياح بها عجم ولا عرب

شمس بأيديهم سمر مثقفة

وكل عضب له فى متنه شطب

إذا جلوها على الأعداء فى فزع

لاحت كأن فوق أيديهم بها شهب

وقال أيضا :

ونحن صبحنا يوم دجلة أهلها

سيوفا وأرماحا وجيشا عرمرما

نراوح بالبيض الرقاق رءوسهم

إذ الرمى أغرى بيننا فتضرما

أذقناهم يوم المدائن بأسنا

صراحا وأسعطنا الألائم علقما

سقيناهم لما تولوا إلى الردى

كئوسا ملأناهن صابا وشبرما

أبيتم علينا السلم ثم رجعتمو

إلى السلم لما أصبح السلم محرما

ويوم يطير القلب من نعراته

ربطنا له جأشا وهجنا به دما

دعونا إليه من تميم معاشرا

يجيبون داعيهم وإن كان مجرما

يحلون فى اليوم الشديد قيامه

عن الشمس والآفاق أغبر مظلما

ألا أيها ذا السائل عن عشيرتى

ستخبر عنهم إن سألت لتعلما

فمهما عقدنا جاز فى الناس حكمنا

وننقضه منهم وإن كان محكما

وقال أيضا :

أىّ يوم لنا كيوم قديس

قد تركنا به القنا مرفوضا

كم سبينا من تاج ملك وأسوا

ر ترى فى نطاقه تفضيضا

وقربنا خير الجيوش شتاء

وربيعا مجملا وغريضا

ونفرنا فى مثلهم عن تراض

لم نعرض ولم نذق تغميضا

ثم سرنا من فورنا نحو كسرى

ففضضنا جموعه تفضيضا

وأملنا على المدائن خيلا

بحرها مثل برهن أريضا

وانتثلنا خزائن المرء كسرى

يوم ولى وحاص منا جريضا

وقال النابغة الجعدى من كلمة يذكر أيامهم تلك مع كسرى وغيره :

فمضت كتائبنا إليه عنوة

حتى حللنا حيث ينخرق الصبا


نرمى مدينته ونحطم جمعه

ونصك رأس عموده حتى انشطا

ولقيصر أخرى رمينا رمية

قطعت قرينته كما انقطع السدا

والخيل تخفق بين دجلة عنوة

بالسفح من أقر إلى وادى القرى

لا قيصر أبدا ولا كسرى بها

قضى الحديث وكان شيئا فانقضى

حديث (١) وقعة جلولاء (٢)

ذكر سيف (٣) عن قيس بن أبى حازم قال : أقمنا بالمدائن حين هبطنا واقتسمنا ما فيها ، فأتانا الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء ، وخندق عليه ، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت ، فكتب سعد بذلك إلى عمر ، فأجابه : أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء فى اثنى عشر ألفا ، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو.

وروى من سماه سيف من رجاله : أن عمر كتب ، أيضا ، إلى سعد : لئن هزم الله الجندين : جند مهران وجند الأنطاق ، فقدم القعقاع حتى يكون على حد سوادكم ، بين السواد والجبل.

قالوا : وكان من حديث جلولاء أن الأعاجم لما انتهوا إليها بعد الهرب من المدائن ، وتفرقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس تذامروا وقالوا : إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا ، وهذا مكان يفرق بيننا ، فهلموا فلنجتمع به للعرب ولنقاتلهم ، فإن كان لنا فهو الذي نريد ، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا ما علينا ، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق ، واجتمعوا فيه على مهران ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها ، ورماهم بالرجال ، وخلف فيهم الأموال ، فأقاموا فى خندقهم ، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلا طرقهم. ففصل هاشم بالناس من المدائن فى اثنى عشر ألفا ، فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ، فسار إلى جلولاء أربعا ، حتى قدم عليهم ، فحاصرهم وأحاط بهم ، فطاولهم أهل فارس ، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا ، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفا ، كل ذلك يعطيهم الله الظفر على المشركين ، وغلبوهم على حسك الخشب ، فاتخذوا حسك الحديد.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٤ ـ ٣٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٦٩ ـ ٧١) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٠٢ ، ١٠٣).

(٢) أشار صاحب الروض المعطار إلى أن جلولاء بالعراق فى أول الجبل ، وهى مدينة صغيرة عامرة بها نخل وزرع ، ومنها إلى خانقين سبعة وعشرون ميلا (ص ١٦٧).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤ ، ٢٥).


وعن بعض الرواة أن هاشما لما نزل على مهران بجلولاء جعل يقوم فى الناس ، ويقول : إن هذا منزل له ما بعده ، وجعل سعد يمده بالفرسان حتى إذا كانوا أخيرا قال بعضهم لبعض : أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم ، واعملوا لله فإنكم ردء المسلمين ، فالتقوا فاقتتلوا ، وبعث الله عليهم ريحا أظلت عليهم البلاد ، ولم يستطيعوا إلا المحاجزة ، فتهافتت فرسانهم فى الخندق ، فلم يجدوا بدا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم ، تصعد منه خيلهم ، فأفسدوا حصنهم ، وبلغ ذلك المسلمين ، فنظروا إليه ، فقالوا : ننهد إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه ، فلما نهدوا الثانية خرج القوم ، فرموا حول الخندق مما يلى المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيول ، وتركوا للمجال وجها ، فخرجوا منه على المسلمين ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أكمش وأعجل ، وانتهى القعقاع فى الوجه الذي زحف منه إلى باب خندقهم ، فأخذ به ، وأمر مناديا فنادى : يا معشر المسلمين ، هذا أميركم قد دخل خندق القوم فأقبلوا إليه ، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما فعل القعقاع ذلك ليقوى المسلمين ، فحملوا حملة لم يقم لها شيء ، حتى انتهوا إلى باب الخندق ، ولا يشكون أن هاشما به ، فإذا هو بالقعقاع قد أخذ به ، وأخذ المشركون فى الهزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم ، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فعقرت دوابهم ، وعادوا رجالة ، واتبعهم المسلمون ، فلم يفلت منهم إلا من لا يعد ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف ، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه ، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم ، فهى جلولاء الوقيعة.

وقال بعضهم : كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الرى ، كانوا بها حماة أهل فارس ، ففنى أهل الرى يوم جلولاء.

وفى حديث عن محفز بن ثعلبة ، وكان شهدها : أن أهل فارس لما رأوا أمداد المسلمين بادروا بقتالهم فى عددهم ، ثم وصف من شدة قتالهم. قال : حتى أنفذوا النبل ، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطبرزينات وكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهيرة ، ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء ، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة من كتائب المشركين وجاءت أخرى فوقفت مكانها ، فأقبل القعقاع على الناس ، فقال : أهالتكم هذه؟ قالوا : نعم ، نحن مكلون وهم مريحون ، والكال يخاف العجز إلا أن يعقب ، فقال : إنا حاملون حملة عليهم ومجادوهم وغير كافين عنهم ولا مقلعين عنهم حتى يحكم الله بيننا ، فاحملوا حملة رجل واحد حتى تخالطوهم ، ولا يكذبن أحد منكم. فحمل


فانفرجوا فما نهنه أحد عن باب الخندق ، وألبسهم الليل رواقه ، فأخذوا يمنة ويسرة ، ونادى منادى القعقاع : أين تحاجزون وأميركم فى الخندق فحمل المسلمون ، فأدخل الخندق ، فأتى فسطاطا فيه مرافق وثياب ، وإذا ترس على إنسان فأنبشه ، فإذا امرأة كالغزال فى حسن الشمس ، فأخذها وثيابها ، فاديت الثياب ، وطلبت الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أم ولد.

قالوا (١) : وأمر هاشم القعقاع بالطلب ، فطلبهم حتى بلغ خانقين ، وأدرك بها مهران فقتله ، وأدرك الفيرزان فنزل ، فتوقل فى الظراب وخلى فرسه ، وأصاب القعقاع سبايا ، فبعث بهن إلى هاشم ، فكن مما اقتسم ، واتخذن ، فولدن فى المسلمين ، فذلك السبى ينسب إلى جلولاء ، ومنه كانت أم الشعبى ، ويقال من القادسية.

ويروى أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قال وقد بلغه ما أصيب من هؤلاء السبايا : اللهم إنى أعوذ بك من أبناء الجلوليات.

قالوا : ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبل ، فنزل القعقاع بحلوان فى جند فلم يزل إلى أن تحول سعد بالناس من المدائن إلى الكوفة ، فلحق به.

قالوا : وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان ، واستأذنوه فى اتباعهم ، فأبى ، وقال : لوددت أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ، حسبنا من الريف السواد ، إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.

وساق المدائنى خبر جلولاء مساقا بينه وبين ما تقدم بعض اختلاف وأسنده عن جماعة سمى منهم ، قال : وبعضهم يزيد على بعض ، فسقت حديثهم : أن يزدجرد هرب إلى حلوان ، فلما فتح سعد الرومية كتب إلى عمر يستأذنه فى البعثة إلى ابن كسرى ، فكتب إليه : «الحمد لله الذي أذل ابن كسرى وشرده ، فأقم بمكانك واحذر على من معك من المسلمين» فأقام سعد بالمدائن سنتين لم يوجه أحدا ، وكتب ابن كسرى إلى الجبال فجمع المقاتلة فوجههم إلى جلولاء ، وأمر الأساورة والجنود فنزلوها ، فاجتمع بها جمع عظيم عليهم خرزادين خرمهر ، فكتب سعد إلى عمر بجمعهم ، فكتب إليه : أقم بمكانك ووجه إليهم جيشا ، فإن الله ناصرك ومتم وعده الذي وعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعقد سعد لهاشم بن عتبة وندب الناس ، فانتدب معه أربعة آلاف فيهم طليحة بن خويلد ، وعمرو ابن معدى كرب وفرسان المسلمين ، فسار.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٨).


فلما كان بمهروذ أتاه دهقانها فصالحه على أن يفرش له جريبا دراهم ، فقبل منه ومضى إلى جلولاء ، فقدم على قوم قد أعدوا عدة عظيمة ، وتحرزوا بالخنادق ، فقاتلوهم قتالا شديدا عن العيال والذرارى ، وكتب هاشم إلى سعد يستمده ، وأتى المشركون أهل أذربيجان مددا فعاجلوهم القتال ، وكثروهم ، فجال المسلمون وانكشفوا ، فناداهم هاشم : يا معشر المسلمين أين؟ أما رأيتم ما خلفتم؟ أتأتون عمر منهزمين؟ فعطف الناس ، وعلى الميمنة حجر بن عدى ، وعلى الميسرة عمرو بن معدى كرب ، وعلى الخيل زهرة بن جوية ، وعلى الرجال طليحة بن خويلد ، فاشتد القتال بينهم حتى مضى وقت الظهر فصلى المسلمون يومئون إيماء ، وألح المشركون عليهم ، وطلعت كتيبة للمشركين حامية فجازت الخندق ، ثم طلعت أخرى ، فقال طليحة وعمرو بن معدى كرب : يا معشر الفرسان ، الأرض واقرنوا خيولكم ، ففعلوا وجثوا وأشرعوا الرماح فرجعت الخيل عنهم ، ورموهم بالنشاب ، فتترسوا ، فمكثوا بذلك مليا ، وأشفق المسلمون فحضهم طليحة وزهرة وعمرو ، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا تكبيرا للمسلمين وراءهم ، فإذا قيس بن مكشوح قد جاءهم فى ألف وأربعمائة فارس وستمائة راجل ، فانهزم المشركون قبل أن يصل إليهم ، وهاجت ريح شديدة أظلمت لها الأرض ، فتهافت المشركون فى الخندق ، واتبعهم المسلمون فانتهوا إلى خنادقهم وقد انجلت عنهم الظلمة فركبوا أكتافهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وحووا عسكرهم ، فأصابوا شيئا لم يصيبوا مثله من الأموال والسلاح والمتاع والسبايا والدواب ، فجمع ذلك كله إلى هاشم ، فجاء رجل من آل خارجة بن الصلت بتمثال ناقة من ذهب موشحة بالدر وألقاها فى المغنم ، وجاء مجفر بن ثعلبة بجارية ، وجاء كل رجل بما صار فى يديه ، فحمل هاشم ذلك كله إلى سعد ، فكتب سعد إلى عمر بالفتح وبما أصاب من السبايا واستأذنه فى اتباع العجم والمسير إلى الجبال ، فكتب إليه عمر ، رحمه‌الله : أقم مكانك عامك هذا حتى ننظر ، واحذر على المسلمين ، واترك أهل الجبال ما تركوك ، فوددت أن بيننا وبين الجبال سدا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ، حسبنا من الريف السواد ، فأقم ولا تطلب ما سوى ذلك عامك هذا إلا أن ينزل عدو بقربك ، واقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم.

وكانت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف ، فبلغت السهام ثلاثة آلاف ، للفرس سهمان وللراجل سهم ، وقال قوم : كانت الغنائم ستة وثلاثين ألف ألف ، وكانت السهام ستة آلاف وثمانية من الدواب ، للفرس سهمان وللراجل سهم ، فحمل سعد الخمس مع زياد ابن أبى سفيان.


وفى كتاب سيف (١) عمن سمى من رجاله قالوا : ونفل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ، ومن أعظمه ممن كان ثابتا بالمدائن ، وبعث بالأخماس مع قضاعى بن عمرو الدؤلى من الذهب والورق والآنية والثياب ، وبعث بالسبى مع أبى مفزر الأسود بن قطبة. قال بعضهم : وبعث بالحساب مع زياد بن أبى سفيان ، وكان الذي يكتبه للناس ويدونهم ، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء به ووصف له ، فقال له عمر : هل تستطيع أن تقوم فى الناس بمثل الذي كلمتنى به؟ فقال : والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك ، فكيف لا أقوى على هذا فى غيرك؟ فقام فى الناس بما أصابوا وبما صنعوا ، وبما يستأذنون فيه من الانسياح فى البلاد ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : هذا الخطيب المصقع ، فقال زياد : إن جندنا أطلقوا بأفعالهم لسانى.

وعن أبى سلمة قال (٢) : لما قدم على عمر ، رحمه‌الله ، بالأخماس من جلولاء ، قال عمر : والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه فى صحن المسجد ، فلما أصبح جاء فى الناس وكشف عنه جلابيبه ، وهى الأنطاع ، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى ، فقال له عبد الرحمن : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا إلا موطن شكر. فقال عمر : والله ما ذاك يبكينى ، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى باسهم بينهم. ثم دعا الحسن فيما ذكر المدائنى فحثا له ، ثم دعا الحسين فحثا له ، ثم قال : ما ترى؟ أنحثى لهم حثيا أم نكيل بالصاع. قال : بل احث لهم ، ففعل ، ثم دون الدواوين وفرض وقسم.

وذكر المدائنى ، أيضا ، أن سعدا كتب إلى عمر ، رحمه‌الله ، مع زياد يستأذنه فى اتباع المشركين ويصغر أمرهم عنده ، فكتب إليه عمر : جاءنى كتابك تستأذننى فى اتباع المشركين ، وسيأتى فيهم أمرى ، وذلك من حق إمامك عليك ، وإنما حق المسلم على المسلم بحق الله ، وإن أعظم أهل الإسلام حقا عليهم إمامهم ، وذلك أنه لا تجد أحدا من الناس صلاح أهل الأرض فى صلاحه إلا نبى أو خليفة ، فالأمر إليك فى اتباعهم تغرير بالمسلمين ، وانظر ما أجلب الناس به عليك فى العساكر من مال أو كراع أو سلاح أو متاع ، فاقسمه بين من حضر ، واترك الأرضين والأنهار فتكون فى أعطية المسلمين ، فإنك إن قسمتها بين من حضرك لم يكن لمن بعدهم شيء ولا توطن ولدا من والده ، ولا تمسن أنثى من السبى حتى يطيب رحمها ، ولا تتخذن مشركا أمينا على المسلمين ، فإنهم

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣٠).


يأخذون الرشوة فى دينهم ولا رشوة فى دين الله ، وادع الناس فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال فهو رجل من المسلمين وله سهم فى الإسلام ، ومن أسلم بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين وماله لأهل الإسلام ، والأسير إذا أسلم فى أيدى المسلمين فقد أمن على دمه ، وهو فيء للمسلمين ، وأقر الفلاحين على حالهم إلا من حاربك أو هرب أو ترك أرضه وخلاها ، فهى لكم فإن رجع فقبلتم منه الجزية فهو ذمة.

وذكر سيف (١) عن رجاله قالوا : كان صلح عمر الذي صالح عليه أهل الذمة ، أنهم إن غشوا المسلمين لعدوهم برئت منهم الذمة ، وإن سبوا مسلما أن ينهكوا عقوبة ، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا ، وعلى عمر منعهم ، وبرئ عمر إلى كل ذى عهد من معرة الجيش.

قال بعضهم : فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث ، والدلالة مع الجزى عن أيديهم على قدر طاقتهم ، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة ، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين.

قال المدائنى : وشهد عبد الله بن عمر جلولاء ، واشترى من المغنم متاعا بأربعين ألفا ، فلما قدم المدينة أتاه عمر فى منزله ، فقال لامرأته : يا صفية احتفظى بما جاء به عبد الله ولا يصلن منه إلى شيء ، ثم قال لعبد الله : يا عبد الله اشتريت من غنائم المسلمين؟ فقالوا : ابن عمر وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأن يرخصوا عليك بمائة أحب إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم ، لك فيما اشتريت ربحا لدرهم درهم ، فدعا عمر التجار فعرضه عليهم وقال : اشتروا فإنه للمسلمين ، فتزايدوا حتى بلغ مائة ألف ، فباعه ، وأعطى عبد الله ثمانين ألفا ، وبعث بالباقى إلى سعد ، وكتب إليه : اقسمه فيمن شهد سنة تسع عشرة.

وعن رجال سيف (٢) قالوا : ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم ، وصار السواد ذمة لهم إلى ما أصفاهم الله به من مال الكاسرة ، ومن لج معهم.

وقال القعقاع بن عمرو يذكر نزوله بجلولاء :

من مبلغ عنى القبائل مالكا

وقد أحسنت عند الهياج القبائل

فلله جاهدنا وفى الفرس بغية

ونحن على الثغر المخوف نساجل

وأنتم عتاد إن ألمت ملمة

وجلت علينا فى الثغور الجلائل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٢).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣٣).


وهل تذكرونا إن نزلنا وأنتم

منازل كسرى والأمور حوائل

فصرنا لكم ردءا بحلوان بعد ما

نزلنا جميعا والجموع نوازل

فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما

أرنت على كسرى الإما والحلائل

وقال أبو بجيد فى ذلك :

ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت

كتائبنا تردى بأسد عوابس

فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم

فتبا لأجساد المجوس النجائس

وأفلتهن الفيرزان بجرعة

ومهران أردت يوم حز القوانس

أقاموا بدار للمنية موعد

وللترب تحثوها خجوج الروامس(١)

حديث يوم تكريت (٢)

وكان سعد ، رحمه‌الله ، لما كتب إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بأمر جلولاء ، وأجابه بما ذكر قبل ، كتب إليه أيضا باجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقباله بهم إلى تكريت حتى نزل بها ، وخندق عليه ليحمى أرضه ، فأمر عمر سعدا أن يسرح عبد الله بن المعتم إلى الأنطاق ، وعين لمقدمته وميمنته وميسرته وساقته رجالا سماهم له ، ففصل على ذلك عبد الله من المدائن فى خمسة آلاف ، فسار إلى تكريت حتى ينزل على الأنطاق ، ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر ، وقد خندقوا ، فحصرهم أربعين يوما وتزاحفوا أربعة وعشرين زحفا ، فى كلها هزم المشركون ولا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم.

فلما رأت الروم ذلك تركوا أمراءهم ، ونقلوا متاعهم إلى السفن ، وقد كان عبد الله ابن المعتم وكل بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم رجالا من تغلب وإياد والنمر ، فكانوا لا يخفون عليه شيئا ، فأقبلت إليه العيون منهم بما فعلت الروم وسألوه للعرب السلم وأخبروه أنهم قد استجابوا ، فأرسل إليهم : إن كنتم صادقين فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأقروا بما جاء به من عند الله ، ثم اعملوا بما نأمركم ، فردوا إليه رسلهم بالإسلام ، فأرسل إليهم : إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها ، فخذوا بالأبواب التي تلى دجلة ، وكبروا وقاتلوا واقتلوا من قدرتم عليه.

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٤ / ٣٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧١).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٣٥ ـ ٣٧) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧١ ، ٧٢).


فانطلقوا حتى واطئوهم على ذلك ، ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر ، وقد أخذوا بالأبواب ، فحسب القوم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم ، فابتدروا الأبواب التي أمامهم ، فأخذتهم سيوف المسلمين مستقبلتهم ، وسيوف الربعيين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم ، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر.

قال سيف (١) : وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد عهد إلى سعد ، إن هزم أهل تكريت أن يأمر عبد الله بن المعتم بتسريح ربعى بن الأفكل العنزى إلى الحصنين ، وربعى هو الذي كان عمر رسم أن يكون على مقدمة عبد الله فى هذا الوجه ، فسرحه عبد الله إلى الحصنين ، وقال له : اسبق الخبر ، وسر ما دون القيل ، وأحى الليل ، وسرح معه تغلب وإياد والنمر ، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل ، أحد بنى سعد بن جشم وذو القرط وأبو وداعة ابن أبى كرب وابن ذى السنينة قتيل الكلاب وابن الحجير الأيادي وبشر بن أبى حوط متساندين ، فساروا يسبقون إلى الحصنين خبر الهزيمة ليغزوا أهلها.

فلما كانوا قريبا منها ، قدموا عتبة بن الوعل فادعى الظفر والنفل والقفل ، ثم الرجال المسلمون آنفا واحدا بعد آخر ، كلما وصل واحد منهم ذكر مثل ما ذكر عتبة ، فوقفوا بالأبواب وقد أخذوا بها ، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعى بن الأفكل ، حتى اقتحمت الحصنين على أهلهما ، فكانت إياها ، فنادوا بالإجابة إلى الصلح ، فأقام من استجاب ، وهرب من لم يستجب ، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتم ، فدعا من لج وهرب ، ووفى لمن أقام ، فتراجع الهارب واغتبط مع المقيم ، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة ، واقتسم المسلمون بتكريت ما أفاء الله عليهم على أن لكل سهم ألف درهم للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف ، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان (٢) ، وبالفتح مع الحارث بن حسان (٣) ، وولى حرب الموصل ربعى بن الأفكل ، والخراج عرفجة بن هرثمة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٦).

(٢) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٣) ، الإكمال (٢ / ٣٢٥) ، الطبقات الكبرى (٦ / ٤٠) ، تهذيب الكمال (٢ / ١٠٩٢) ، الجرح والتعديل (٧ / ٤٤٩ ، ٤٥٠) ، الإصابة ترجمة رقم (٦٩٨٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٢٠٥).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٤٠٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٨٦٩) ، الثقات (٣ / ٧٥) ، تقريب التهذيب (١ / ١٤٠) ، الجرح والتعديل (٣ / ٣٢٥) ، تهذيب التهذيب (٢ / ١٣٩).


ذكر يوم ماسبذان (١) ويوم قرقيسيا (٢)

ذكروا (٣) أنه لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن ، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان جمع جمعا ، فخرج بهم إلى السهل ، وأن أهل الجزيرة بعثوا جندا إلى هيت ، فكتب سعد بذلك إلى عمر ، فكتب إليه أن يبعث ضرار بن الخطاب فى جند إلى ابن الهرمزان ، ويبعث عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف فى جند إلى هيت ، ورسم لكلا الجندين صاحب مقدمتيه ومجنبتين وساقة وسماهم ، فخرج ضرار فى الجند ، وقدم صاحب مقدمته حتى انتهى إلى سهل ماسبذان ، فالتقوا بمكان يدعى بهندف ، فاقتتلوا به ، فأسرع المسلمون فى المشركين ، وأخذ ضرار آذين بن الهرمزان سلما ، فأسره فانهزم عنه جيشه ، فقدمه فضرب عنقه ، ثم خرج فى الطلب حتى انتهى إلى السيروان ، فأخذ ماسبذان عنوة ، فتطاير أهلها فى الجبال ، فدعاهم فاستجابوا له ، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه ، فنزل الكوفة واستخلف على ماسبذان ، وكانت إحدى فروج الكوفة.

وخرج عمر بن مالك فى جنده سائرا نحو هيت (٤) ، وقدم الحارث بن يزيد العامرى ، وهو المعين لمقدمته ، حتى نزل بهيت وقد خندقوا عليهم ، فلما رأى عمر بن مالك امتناع القوم بخندقهم استطال أمرهم ، فترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم ، وخرج فى نصف الناس يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا فى عرة ، فأخذها عنوة ، فأجاب أهلها إلى الجزاء ، وكتب إلى الحارث فى أهل هيت : إن هم استجابوا فخل عنهم وإلا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه مما يليك حتى أرى من رأيى ، فسمحوا بالاستجابة ، وانضم الجند إلى عمر بن مالك والأعاجم إلى أهل بلدهم.

وقال ضرار بن الخطاب يذكر ملتقاهم بهندف :

ولما لقينا فى بهندف جمعهم

تنادوا وقالوا يا صبر وايال فارس

فقلنا جميعا نحن أصبر منكم

وأكرم فى يوم الوغى والتمارس

__________________

(١) ماسبذان : أحد فروج الشام بالقرب من هيت. انظر : الروض المعطار (ص ٥١٩).

(٢) قرقيسيا : كورة من كور ديار ربيعة ، كانت فى الجانب الشرقى من الفرات. انظر : الروض المعطار (ص ٤٥٥).

(٣) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٣٧ ، ٣٨) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦٦ ، ٣٦٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧٢ ، ٧٣).

(٤) هيت : مدينة بين الرحبة وبغداد ، وهى على شاطئ الفرات. انظر : الروض المعطار (ص ٥٩٧).


ضربناهم بالبيض حتى إذا انثنت

أقمنا لها ميلا بضرب القوانس

فولوا سراعا نحو دار أبيهم

وقد خومروا يوم الوغا بالوساوس

فما برحت خيلى تقص طريقهم

وتقتلهم بين اشتباك الخنادس

ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة

وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة

وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة (١)

ذكروا (٢) أنه جاء عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فتح جلولاء ، وما ذكر بعدها ، ونزول المسلمين حيث ذكر قبل نزولهم منها ، ولما قدمت الوفود بذلك عليه ، أنكرهم حين رآهم ، وقال : والله ما هيئتكم بالهيئة التي بدوتم بها ، ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما بدوا ، فما غيركم؟ قالوا : وخومة البلاد ، فنظر فى حوائجهم ، وعجل سراحهم ، وكتب إلى سعد : أنبئنى ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟.

فكتب إليه : إن العرب خددهم وغير ألوانهم وخومة المدائن ودجلة ، فكتب إليه عمر:إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان ، فابعث سلمان رائدا وحذيفة ، وكانا رائدى الجيش ، فليرتادا منزلا بريا بحريا ، ليس بينى وبينكم فيه بحر ولا جسر ، ولم يكن بقى من أمر الجيش شيء إلا وقد أسنده عمر إلى رجل ، فبعث سعد حذيفة وسلمان.

فخرج سلمان حتى أتى الأنبار ، فسار فى غربى الفرات لا يرى شيئا ، حتى أتى الكوفة ، وخرج حذيفة فى شرقى الفرات لا يرضى شيئا ، حتى أتى الكوفة ، فأتيا عليها وفيها ديارات ثلاث : دير حرقة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وأخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا ، وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماوات وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب الريح وما أذرت ، والنجوم وما هوت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا فى هذه الكوفة ، واجعله منزل ثبات ، فرجعا إلى سعد بالخبر.

وذكر المدائنى أن الناس اجتووا المدائن بعد أن رجعوا من جلولاء ، فشكوا ذلك إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٤٠) / فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣٣٨ ـ ٣٥٤ ، ٤٢٥ ـ ٤٥٨) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٦٧ ـ ٣٧١).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٤٠).


عمر ، فقال عمر : هل تصبر بها الإبل؟ قالوا : لا ؛ لأن بها بعوضا ، قال : فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر بها الإبل ، اخرجوا فارتادوا منزلا.

قال أبو وائل : فخرجنا فأردنا أن ننزل الحيرة ، فقال رجل من أهلها : يا معشر المعذبين ، ألا أدلكم على ما ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن الثلجة وطعنت فى البرية وخالطت الريف؟ قلنا : بلى ، فدلنا على الكوفة ، فاختط الناس ونزلوا الكوفة ، فكتب إلى عمر بذلك.

وذكر سيف (١) عمن سماه من رجاله قالوا : مصر المسلمون المدائن وأوطنوها ، حتى إذا فرغوا من جلولاء وتكريت وأخذوا الحصنين ، كتب عمر إلى سعد أن ابعث عتبة بن غزوان (٢) إلى فرج الهند فليرتد منزلا يمصره ، وابعث معه سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابعث بعده عرفجة بن هرثمة ، واجعل مكانه الحارث بن حسان ، وابعث عاصم بن عمرو ، وحذيفة بن محصن ، ومجزأة بن ثور ، والحصين بن القعقاع ، فخرج عتبة فى سبعمائة من المدائن واتبعه عرفجة فى سبعمائة ، ثم عاصم ثم حذيفة ثم مجزأة ثم الحصين ، كل واحد منهم فى سبعمائة ، ثم سعد بن سلمى فى سبعمائة ، فساروا حتى أتوا على البصرة اليوم فنزلوها وثبتوا بها ، والبصرة كل أرض حجارتها جص.

قالوا (٣) : ولما نزل أهل الكوفة الكوفة ، واستقرت بأهل البصرة الدار ، عرف القوم أنفسهم ، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا ، ثم إن أهل المصرين استأذنوا فى بنيان القصب ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : العسكرة أجد لحربكم وأذكى لكم ، وما أحب أن أخالفكم ، وما القصب؟ قالوا : العكرش إذا روى قصب فصار قصبا ، قال : فشأنكم ، فابنوا بالقصب ، ثم وقع الحريق فى المصرين ، وكانت الكوفة أشدهما حريقا ، فاحترق ثمانون عرشا ، ولم يبق فيها قصبة ، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه فى البنيان باللبن ، ويخبرونه عن الحريق وما بلغ منهم ، وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلا أمروه فيه ، فقال : ابنوا ، ولا يزدن أحد على ثلاثة أبيات ، ولا تطاولوا فى البنيان ، والزموا السنة تلزمكم الدولة ، فرجع القوم بذلك إلى الكوفة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٤٣).

(٢) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ٦٩) ، التاريخ الكبير (٦ / ٥٢٠ ، ٥٢١) ، المعارف (٢٧٥) ، الجرح والتعديل (٦ / ٣٧٣) ، تاريخ بغداد (١ / ١٥٥ ـ ١٥٧) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٠٠) ، شذرات الذهب (١ / ٢٧) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٤٢٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٥٥٦).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٤٣).


وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك ، وعهد عمر إلى الوفد ، وتقدم إلى الناس ألا يرفعوا بنيانا فوق القدر ، قالوا : وما القدر؟ قال : ما لا يقربكم من السرف ، ولا يخرجكم من القصد.

فأول شيء خط بالكوفة ، وبنى حين عزموا على البناء المسجد ، فاختط ثم قام رجل شديد النزع ، فرمى عن يمينه ومن بين يديه ومن خلفه وعن شماله ، وأمر من شاء أن يا بنى وراء مواقع تلك السهام ، وبنوا لسعد دارا بحياله ، بينهما الطريق ، وجعل فيها بيوت الأموال ، وهى قصر الكوفة اليوم ، وبنى سعد فى الذي خطوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم ، وجعل فيه بيت المال ، وسكن ناحيته ، ثم إن بيت المال نقب عليه منه ، فأخذ منه المال.

وكتب سعد بذلك إلى عمر ، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن ، فكتب إليه عمر : أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جانب الدار ، واجعل الدار قبالته ، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل ، وفيهم حصن لمالهم ، فنقل المسجد وأراع بنيانه ، فقال له دهقان من أهل همذان ، يقال له روزبه بن بزرجمهر : أنا أبنيه لك ، وأبنى لك قصرا وأصلهما ، ويكون بنيانا واحدا ، فخط قصر الكوفة على ما خط عليه ، ثم أنشأه من بعض آجر قصر كان للأكاسرة فى ضواحى الحيرة على مساحته اليوم ، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال ، وكان بنيانه على أساطين من رخام ، كانت لكنائس لكسرى بغير مجنبات ، فلم يزل على ذلك حتى بنى زمن معاوية بنيانه اليوم على يدى زياد.

ولما أراد زياد بناءه دعا بنائين من بنائى الجاهلية ، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يزيد من طوله فى السماء ، وقال : أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته ، فقال له بناء قد كان بنى لكسرى : لا يجىء هذا إلا بأساطين من جبال الأهواز ، تنقر ثم تثقب ، وتحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد ، فترفعه ثلاثين ذراعا فى السماء ثم تسقفه ، ثم تجعل له مجنبات ومواخر ، فيكون أثبت له ، فقال : هذه الصفة التي كانت نفسى تنازعنى إليها ولم تعبرها.

قال عطاء مولى إسحاق بن طلحة : كنت أجلس فى المسجد الأعظم من قبل أن يبنيه زياد ، وليست له مجنبات ولا مواخر ، فأرى منه دير هند وباب الجسر.

وذكر الطبرى (١) عن المدائنى أن عمر بن الخطاب وجه عتبة بن غزوان إلى البصرة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٠).


سنة أربع عشرة ، وذكر عن الشعبى قال : قتل مهران فى صفر سنة أربع عشرة ، فقال عمر لعتبة : قد فتح الله على إخوانكم الحيرة وما حولها ، وقتل عظيم من عظمائها ، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس ، فأنا أريد أن أوجهك إلى أرض الهند ، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند ، لتمنع أهل ذلك الحيز من إمداد إخوانهم على إخوانكم وتقاتلهم ، لعل الله أن يفتح عليكم ، فسر على بركة الله ، واتق الله ما استطعت ، واحكم بالعدل ، وصل الصلاة لوقتها ، وأكثر ذكر الله.

فأقبل عتبة فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادى ، فقدم البصرة فى خمسمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا.

وذكر من طريق آخر (١) أنه رقمها فى ثلاثمائة ، فلمّا رأى منبت القصب ، وسمع نقيق الضفادع قال : إن أمير المؤمنين أمرنى أن أنزل أقصى البر من أرض العرب ، وأدنى أرض الريف من أرض العجم ، فهذا حيث وجب علينا طاعة إمامنا ، فنزل الخريبة.

وفى حديث الشعبى (٢) : وليس بها ، يعنى بالبصرة ، يومئذ إلا سبع دساكر ، فكتب إلى عمر ، ووصف له منزله ، فكتب إليه عمر : أجمع الناس موضعا واحدا ولا تفرقهم ، وأقام عتبة أشهرا لا يغزو ولا يلقى أحدا.

وفى حديث آخر (٣) : أن عتبة أقبل بمن كان معه حتى إذا كانوا بالمربد وجدوا هذا الكذان ، قالوا : هذه البصرة ، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير ، فإذا حلفاء وقصب نابتة ، فقالوا : هاهنا أمرتم ، فنزلوا دون صاحب الفرات ، فأتى فقيل له : إن هاهنا قوما معهم راية ، وهم يريدونك ، فأقبل فى أربعة آلاف أسوار ، فقال : ما هم إلا ما أرى ، اجعلوا فى أعناقهم الحبال ، وأتونى بهم ، فجعل عتبة يوجل ويقول : إنى شهدت القتال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعنى فكان لا يقاتل حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر ، حتى إذا زالت الشمس ، قال عتبة لأصحابه : احملوا ، فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين ، إلا صاحب الفرات ، أخذوه أسيرا ، فقال عتبة : ابغوا لنا منزلا هو أنزه من هذا ، وكان يوم عكاك ، فرفعوا له منبرا ، فقام يخطب ، فقال : إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة الإناء ، ألا وأنكم منتقلون منها إلى دار القرار ، فانتقلوا بخير ما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٤).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩١).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩١ ، ٥٩٢).


بحضرتكم ، ولقد ذكر لى : أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا ، ولتملأنه ، أفعجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وله كظيظ من الرخام ، ولقد رأيتنى وإنى لسابع سبعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر ، حتى تقرحت أشداقنا ، والتقطت بردة فشققتها بينى وبين سعد ، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار ، وستجربون الأمراء بعدنا.

وفى بعض ما ذكره الطبرى (١) من الأحاديث عن مقدم عتبة البصرة ، وأنه نزل الخريبة ، قال : وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها ، وكان مرفأ السفن من الصين وما دونها ، فسار عتبة ، فنزل دار الإجانة ، فأقام نحوا من شهر ، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة ، وجعل قطبة بن قتادة السدوسى ، وقسامة بن زهير المازنى فى عشرة فوارس ، وقال لهما : كونا فى ظهورنا ، فتردا المنهزم ، وتمنعا من أرادنا من ورائنا ، ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها ، حتى منحهم الله أكتافهم ، وولوا منهزمين ، حتى دخلوا المدينة ، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياما وألقى الله فى قلوبهم الرعب فخرجوا عن المدينة ، وحملوا ما خف لهم ، وعبروا إلى الفرات ، وخلوا المدينة ، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا وعينا ، فاقتسموا العين ، فأصاب كل رجل منهم درهمان ، وولى نافع بن الحارث أقباض الأبلة ، فأخرج خمسه ثم قسم الباقى بين من أفاء الله عليه ، وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.

وقال داود بن أبى هند : أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم ، فأخذ كل رجل درهمين ، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين فى ألفين من العطاء.

وقال الشعبى (٢) : شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون ، فيهم أبو بكرة ، نفيع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، والمغيرة بن شعبة ، ومجاشع بن مسعود ، وأبو مريم البلوى.

وفى حديث يروى عن عمرة ابنة قيس (٣) : أنه لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة ، وكانوا حيالها ، قالوا للعدو : نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال : اعبروا إلينا ، فأخذوا خشب العشر فأوثقوه ، وعبروا ، فقال المشركون : لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٤).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٥).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٧).


فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة ، ثم كبروا الثانية ، فقامت دوابهم على أرجلها ، ثم كبروا الثالثة ، فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض ، وجعلنا ننظر إلى رءوس تندر ، ما نرى من يضربها ، وفتح الله على أيديهم المدينة.

وقال سلمة بن المحبق (١) : شهدت فتح الأبلة ، فوقع فى سهمى قدر نحاس ، فلما نظرت إذا هى ذهب فيها ثمانون ألف مثقال ، وكتب فى ذلك إلى عمر ، فكتب : أن تصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها يوم أخذها وهى عنده نحاس ، فإن حلف سلمت إليه ، وإلا قسمت بين المسلمين. قال : فحلفت فسلمت لى.

قال المثنى بن موسى بن سلمة : فأصول أموالنا اليوم منها.

وقال عباية بن عبد عمرو (٢) : شهدت فتح الأبلة مع عتبة ، فبعث نافعا إلى عمر ، وجمع لنا أهل دست ميسان ، فقال عتبة : أرى أن نسير إليهم ، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان ، فقاتلناه ، فانهزم أصحابه وأخذ أسيرا ، فأخذ قباؤه ومنطقته فبعث بها عتبة مع أنس بن حجية اليشكرى.

قال أبو المليح الهذلى : فسأله عمر : كيف المسلمون؟ قال : انثالت عليهم الدنيا ، فهم يهيلون الذهب والفضة ، فرغب الناس فى البصرة فأتوها.

وعن على بن زيد قال : لما فرغ عتبة من الأبلة جمع له مرزبان دست ميسان ، فسار إليه عتبة من الأبلة فقتله ، ثم سرح مجاشع بن مسعود إلى الفرات وبها مدينة ، ووفد عتبة إلى عمر ، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات ، فإذا قدم فهو الأمير ، فظفر مجاشع بأهل الفرات ، ورجع إلى البصرة ، وجمع الميلكان ، عظيم من عظماء الأعاجم ، للمسلمين ، فخرج إليه المغيرة ، فلقيه بالمرغاب (٣) ، فظفر به ، فكتب إلى عمر بالفتح ، فقال عمر لعتبة : من استعملت على البصرة؟ فقال : مجاشع بن مسعود ، قال : تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث؟ قال : لا ، فأخبره بما كان من أمر المغيرة ، وأمره أن يرجع إلى عمله ، فمات عتبة فى الطريق ، واستعمل عمر المغيرة.

وفى رواية أن أهل ميسان هم الذين جمعوا ، فلقيهم المغيرة ، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات ، وبعد أن شخص عتبة إلى عمر أثر ما قتل مرزبان دست ميسان.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٦).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٥).

(٣) المرغاب : موضع نهر بالبصرة. انظر : معجم البلدان (٥ / ١٠٧).


وذكر الطبرى بسنده عن قتادة قال : جمع أهل ميسان للمسلمين ، فسار إليهم المغيرة ، وخلف الأثقال ، فلقيهم دون دجلة ، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة : لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم ، فاعتقدت لواء من خمارها ، واتخذ النساء من خمرهن رايات ، وخرجن يردن المسلمين ، فانتهين إليهم ، والمشركون يقاتلونهم ، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة ، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا ، واتبعهم المسلمون ، فقتلوا منهم عدة.

أردة بنت الحارث بن كلدة : هذه كانت تحت شبل بن معبد البجلى ، وكانت أختها صفية عند عتبة بن غزوان ، فلما ولى عتبة البصرة ، انحدر معه أصهاره ، أبو بكرة ونافع وشبل ، وانحدر معهم زياد ، فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسما يقسم بينهم ، فكان زياد قاسمهم ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، له ذؤابة ، فأجروا عليه كل يوم درهمين.

قال الطبرى : وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى ، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.

والأخبار فى شأن هذين المصرين يوهم ظاهرها الاختلاف المتباين فى وقت عمارة المسلمين لهما ، فأكثرها على أن ذلك كان بعد المدائن ، وبعد جلولاء ، وقد ذكرنا ما ذكر الطبرى فى بعض ما أورده ، أن عمر وجه الناس مع عتبة إلى البصرة فى سنة أربع عشرة ، وهذا يقتضى أنه قبل القادسية ، فضلا عن المدائن ، وكذلك ذكر المدائنى من حديث حميد بن هلال ، أن خالد بن عمير العدوى حدثه قال : لما كان أيام القادسية ، كتب إلينا أهل الكوفة يستمدوننا ، فأمدهم أهل البصرة بألف وخمسمائة راكب ، كنت فيهم ، فقدمنا على سعد بالقادسية وهو مريض ، وذكر بقية الحديث.

ولعل نزول المسلمين بهذين الموضعين كان متقدما على تمصيرهما وبنيانهما بزمان ، ومع ذلك فلا يرتفع الخلاف فى ذلك بين الأخبار كل الارتفاع ، والله تعالى أعلم.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد أمر سعدا بعد ما وجهه إلى العراق أن يجعل الناس أعشارا ، فلما كان بعد ذلك رجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا ، فكتب سعد إلى عمر فى تعديلهم ، فكتب إليه : أن عدلهم ، فأرسل سعد إلى قوم من نساب العرب وعقلائهم وذوى الرأى منهم ، كسعيد بن نمران ، ومشعلة بن نعيم ، فعدلوهم أسابعا ، فلم يزالوا كذلك عامة إمارة معاوية حتى ولى زياد فربعهم.


ذكر الجزيرة ، وذكر السبب الذي دعا عمر إلى الأمر بقصدها (١)

وذلك أن هرقل أغزى حمص فى البحر بعد أن غلب عليها المسلمون ، واستمد أهل الجزيرة على أبى عبيدة ومن فيها من المسلمين ، فأجابوه ، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا ، سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم ، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ ، فضم أبو عبيدة مسالحه ، وعسكروا بفناء مدينة حمص ، وخندقوا عليها ، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه ، وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد اتخذ فى كل مصر على قدرها خيولا من فضول أموال المسلمين ، عدة لما يعرض ، فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس يشتيها فى قبلة قصر الكوفة وميسرته ، بمكان يسمى لأجل ذلك الآرى ، ويربعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة ، مما يلى العاقول ، فسمته الأعاجم : آخر الشاهجان ، يعنون معلف الأمراء.

وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلى فى نفر من أهل الكوفة ، يصنع سوابقها ، ويجريها فى كل يوم ، وبالبصرة نحو منها ، وقيمه عليها جزء بن معاوية ، وفى كل مصر من الأمصار على قدره ، فلما وقع إلى عمر كتاب أبى عبيدة يستصرخه ، كتب إلى سعد بن أبى وقاص : أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو ، وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابى إلى حمص ، فإن أبا عبيدة قد أحيط به ، وتقدم إليهم فى الجد والحث.

وكتب إليه أيضا : أن سرح سهيل بن عدى إلى الجزيرة فى الجند ، وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص ، وإن أهل قرقيسيا لهم سلف ، وسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ، ثم لينفضا حران والرها ، وسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ ، وسرح عياض بن غنم ، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض ، فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص ، وحديثهم مذكور فى أمر حمص من فتح الشام ، وإنما أعيد منه هنا هذا القدر تطريقا لحديث الجزيرة وتمهيدا له.

وخرج عياض بن غنم ، وأمراء الجزيرة ، فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها ، فتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمّر عليها ، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص أن الجنود قد خرجت من الكوفة ، ولم يدروا ، الجزيرة يريدون أم حمص؟

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٥٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٩).


تفرقوا إلى بلدانهم خوفا عليها ، وخلوا الروم ، فأتى سهيل بن عدى حتى انتهى إلى الرقة ، وقد حصر فيها أهلها الذين ارفضوا عن حمص ، فنزل عليهم ، وأقام محاصرهم حتى صالحوه ، وذلك أن قالوا فيما بينهم : إنكم بين أهل العراق وأهل الشام ، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء؟ فبعثوا إلى عياض ، وهو فى منزل واسط بالجزيرة ، فقبل منهم وعقد لهم عن أمرة سهيل بن عدى.

وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل ، عبر إلى بلد ثم أتى نصيبين ، فلقوا بالصلح ، وصنعوا كما صنع أهل الرقة ، وخافوا مثل الذي خافوا ، فعقد لهم عبد الله عن أمر عياض ، وأجروا ما أخذوه عنوة من الرقة ونصيبين ، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة ، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ، ضم عياض سهيلا وعبد الله إليه ، فسار بالناس إلى حران ، فأخذ ما دونها ، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية ، فقبل منهم ، وأجرى من أجاب بعد غلبته مجرى أهل الذمة ، ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها ، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية ، فقبل ذلك عياض منهم ، وأجرى من دونهم مجراهم ، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا وأيسره فتحا.

وقال سهيل بن عدى فى ذلك :

وصادمنا الفرات غداة سرنا

إلى أهل الجزيرة بالعوالى

ولم نثن الأعنة حين سرنا

بجرد الخيل والأسل النهال

فأجهضنا الأولى قادوا لحمص

وقد منوا أمانى الضلال

أخذنا الرقة البيضاء لما

رأينا الشهر لوح بالهلال

وأزعجت الجزيرة بعد خفض

وقد كانت تخوف بالزوال

وصار الخرج صافية إلينا

بأكناف الجزيرة عن تغال

وقال فى ذلك عبد الله بن عتبان :

ألا من مبلغ عنى بجيرا

فما بينى وبينك من بعاد

فإن تقبل تلاق العدل فينا

وتنسى ما عهدت من الجهاد

وإن تدبر فما لك من نصيب

نصيبى فيلحق بالعباد

وقد ألقت نصيبين إلينا

سواد البطن بالخرج السداد

لقد لقيت نصيبين الدواهى

بدهم الخيل والجرد الوراد

ونفست الجياد عن أهل حمص

جنود الروم أصحاب الفساد


وعاين عامر منهم عديدا

ودهما مثل سائمة الجراد

وخرج الوليد بن عقبة (١) حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة ، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا أياد بن نزار ، فإنهم ارتحلوا بكليتهم ، فاقتحموا أرض الروم ، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إلى ملك الروم : إنه بلغنى أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك ، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ، ثم لنخرجنهم إليك. فأخرجهم ملك الروم ، فتم منهم على الخروج أربعة آلاف ، وخنس بقيتهم ، فتفرقوا مما يلى الشام والجزيرة من بلاد الروم ، فكل أيادى فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف ، وأبى الوليد أن يقبل من بنى تغلب إلا الإسلام ، وكتب فيهم إلى عمر ، فأجابه : إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام ، فدعهم على أن لا ينصروا وليدا ، وأقبل منهم إذا أسلموا ، فقبل منهم على أن لا ينصروا وليدا ، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام ، وأبى بعضهم إلا الجزاء ، ورضى منهم بما رضى به من العباد وتنوخ.

وفى حديث عن أبى سيف التغلبى (٢) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عاهد وفد بنى تغلب على أن لا ينصروا وليدا ، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفدهم ، ولم يكن على غيرهم ، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم : لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا ، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم ، فإنهم يغضبون من ذلك الجزاء على أن لا ينصروا وليدا إذا أسلم آباؤهم ، فخرج وفدهم فى ذلك إلى عمر ، رحمه‌الله.

ولما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديانيهم ، فأمرهم عمر بأداء الجزية ، قالوا له :أبلغنا مأمننا ، فو الله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم ، وو الله لتفضحنا من بين العرب ، فقال لهم : أنتم فضحتم أنفسكم ، وخالفتم أمتكم ، والله لتؤدنها وأنتم صغرة قمأة ، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ، ثم لأسبينكم. قالوا : فخذ منا شيئا ولا تسميه جزاء ، فقال : أما نحن فنسميه الجزاء ، وسموه أنتم ما شئتم. فقال له على بن أبى طالب وأصغى إليه عمر : يا أمير المؤمنين ، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال : بلى،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٦ / ٢٤) ، الجرح والتعديل (٩ / ٨) ، تاريخ ابن عساكر (١٧ / ٤٣٤) ، تذهيب التهذيب (٤ / ١٣٨) ، البداية والنهاية (٨ / ٢١٤) ، العقد الثمين (٧ / ٣٩٨) ، تهذيب التهذيب (١١ / ١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٤٧٥) ، الإصابة ترجمة رقم (٩١٦٧).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٥٦).


قال : فرضى به منهم جزاء ورضى القوم بذلك ، فبنو تغلب تسمى جزيتهم صدقة ، وأما تنوخ فلم تبال أى ذلك كان ، فهم يسمونها الجزية ، وكان فى بنى تغلب عز وامتناع ، فلا يزالون ينازعون الوليد فيهم بهم ويقول :

إذا ما عصبت الرأس منى بمشوذ

فغيك منى تغلب ابنة وائل

وبلغت عمر ، رحمه‌الله ، فخاف أن يخرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم ، فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملى.

ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير (١)

ذكر سيف عن شيوخه ، قالوا (٢) : لما انهزم الهرمزان بالقادسية ، جعل وجهه إلى أمته ، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم ، فكان يغير على ميسان ودست ميسان من وجهين ، من مناذر ونهرتير ، فاستمد عتبة بن غزوان سعدا ، فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود ، وأمرهما أن يكونا بين أهل ميسان ودست ميسان وبين نهرتير ، ووجه عتبة ، سلمى بن القين وحرملة بن مريطة الحنظليين ، فنزلا على حدود أرض ميسان ودست ميسان ، بينهم وبين مناذر ، ودعوا بنى العم بن مالك ، فخرج إليهم غالب الوائلى وكليب بن وائل الكلبى ، فتركا نعيما ونعيما ، وأتيا سلمى وحرملة ، وقالا : أنتما من العشيرة ، وليس لكما منزل ، فإذا كان يوم كذا فانهدوا للهرمزان ، فإن أحدنا يثور بمناذر ، والآخر بنهرتير ، فنقتل المقاتلة ، ثم يكون وجهنا إليكم ، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله.

فلما (٣) كانت ليلة الموعد ، خرج سلمى وحرملة صبيحتها فى تعبئة ، وأنهضا نعيما ، ونعيم وسلمى على أهل البصرة ، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة ، فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهرتير فاقتتلوا ، فبينا هم فى ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب ، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهرتير ، فكسر الله فى ذرعه وذرع جنده ، وهزمه وإياهم ، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا وأصابوا ما شاءوا ، واتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل ، وأخذوا ما دونه ، وعسكروا بحيال سوق الأهواز ، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز ، وأقام بها ، وصار دجيل بينه وبين المسلمين ، ورأى الهرمزان ما لا طاقة له به ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٢ ـ ٧٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٢ ، ٨٣).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٢ ، ٧٣).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٧٤).


فطلب الصلح وكتبوا إلى عتبة يستأمرونه فيه ، وكاتبه الهرمزان ، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجان قذق ، ما خلا نهرتير ومناذر ، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز ، فإنا لا نرد عليهم ما تنقذنا.

وجعل عتبة على مناذر سلمى بن القين مسلحة وأمرها إلى غالب ، وحرملة على نهرتير ، وأمرها إلى كليب ، فكانا على مسالح البصرة ، وهاجرت طوائف بنى العم ، فنزلوا البصرة ، وجعلوا يتبايعون على ذلك ، وكتب عتبة بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، ووفد وفدا منهم سلمى وحرملة ، وأمرهما أن يستخلفهما على عمليهما وغالب وكليب ، ووفد يومئذ من البصرة وفودا ، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم ، فكلهم قال : أما العامة فأنت صاحبها ، فلم يبق إلا خواص أنفسنا ، فطلبوا لأنفسهم ، إلا ما كان من الأحنف بن قيس ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، إنه لكما ذكروا ، ولقد يغرب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة ، وإنما ينظر الوالى فيما غاب عنه بأعين أهل الخير ، ويسمع بآذانهم ، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر ، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا فى مثل حدقة البعير الغاسقة ، من العيون العذاب ، والجنان الخصاب ، فتأتيهم ثمارهم غضة ، لم تخضد ، وإنا معاشر أهل البصرة نزلنا بسبخة هشاشة زعقة نشاشة ، طرف لها فى الفلاة ، وطرف لها فى البحر الأجاج ، يجر إليها ما جر فى مثل مرئ النعامة ، دارنا مفعمة ، ووظيفتنا ضيقة ، وعددنا كثير ، وأشرافنا قليل ، وأهل البلاء فينا كثير ، ودرهمنا كبير ، وفقيرنا صغير ، وقد وسع الله علينا ، وزادنا فى أرضنا ، فوسع علينا يا أمير المؤمنين ، وزدنا وظيفة ، تطوف علينا ، ونعيش بها.

فنظر عمر إلى منازلهم التي كانوا بها ، إلى أن صاروا إلى الحجر ، فنفلهموها ، وأقطعهم إياها ، وكان ذلك مما كان لآل كسرى ، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر ، فاقتسموه ، وكان سائر ما كان آل كسرى فى أرض البصرة على حال ما كان فى أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا ، ويقتسمونه بينهم ، لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى ، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالى. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين ، نصفها مقسوم ، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع ، وكان أصحاب الألفين ممن شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف ، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا ، فألحق عمر أعدادهم بأهل البصرة ، حتى ساواهم بهم ، ألحق جميع من شهد الأهواز ، ثم قال : هذا الغلام سيد أهل البصرة ، يعنى الأحنف ، وكتب إلى عتبة أن يسمع منه ، ورد سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهرتير ، فكانوا عدة فيها لما يعرض.


حديث فتح الأهواز ومدينة سرق

واتصل ما بين أهل البصرة وبين أهل ذمتهم ، على ما ذكر ، إلى أن وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب فى حدود الأرضين اختلاف ، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم ، فوجدا غالبا وكليبا محقين ، والهرمزان مبطلا ، فحالا بينه وبينهما ، فكفر الهرمزان ، ومنع ما قبله ، واستعان بالأكراد ، فكثف جنده ، وكتبوا ببغيه وكفره إلى عتبة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأمدهم عمر بحرقوص بن زهير السعدى ، وكانت له صحبة ، وأمره على القتال ، وعلى ما غلب عليه. فنهدوا معه ، ونهد الهرمزان بمن معه حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز عبر الهرمزان فوق الجسر ، بعد أن خيرهم ، فقالوا له : اعبر ، فاقتتلوا هنالك ، فهزم الله الهرمزان ، ووجه نحو رامهرمز ، وافتتح حرقوص سوق الأهواز ، فأقام بها ، ونزل الجبل ، واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر ، ووضع الجزية ، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر ، فحمد الله ، ودعا له بالثبات والزيادة.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد عهد إلى حرقوص : إن فتح الله عليهم أن يبعث جزء بن معاوية فى أثر الهرمزان ، وهو متوجه إلى رامهرمز ، فما زال يقاتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر ، وأعجزهم بها الهرمزان ، فمال منها جزء إلى دورق ، ومدينة سرق فيها قوم لا يطيقون منعها ، فأخذها صافية ، ودعا من هرب إلى الجزاء والمنعة ، فأجابوه ، وكتب بذلك كله إلى عمر وإلى عتبة ، فكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه ، والمقام حتى يأتيهما أمره ، ففعلا ، واستأذنه جزء فى عمران ما دثر ، فأذن له ، فشق الأنهار ، وعمر الموات.

ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز بالمسلمين ، طلب الصلح وراسل فيه حرقوصا وجزءا ، فكتب فيه حرقوص إلى عمر ، فكتب إليه وإلى عتبة ، يأمر بقبول صلح الهرمزان على ما لم يفتتحوا من البلاد ، على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور والبنيان ومهرجان نقذق ، فقبل ذلك الهرمزان ، وأجابهم إليه ، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم عمر ، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه ، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه.

وكتب عمر إلى عتبة أن يوفد عليه عشرة من صالحاء جند البصرة ، فوفد إليه منهم عشرة ، فيهم الأحنف بن قيس ، فلما قدموا عليه ، قال للأحنف : إنك عندى مصدق ، وقد رأيتك رجلا ، فأخبرنى : أظلمت الذمة ، ألمظلمة نفروا ، أم لغير ذلك؟ فقال : بل لغير مظلمة ، والناس على ما تحب ، قال : فنعم إذا انصرفوا إلى رحالكم.


وكتب عمر إلى عتبة : أن اصرف الناس عن الظلم ، واتقوا الله ، واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى ، فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه ، وقد تقدم إليكم فيما أخذ عليكم ، فأوفوا بعهد الله ، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.

وبلغ عمر ، رحمه‌الله ، أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه ، والجبل كئود يشق على من رامه ، فكتب إليه : بلغنى أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلا على مشقة ، فأسهل ولا تشقن به على مسلم ولا معاهد ، وقم فى أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا ، ولا تدركنك فترة ولا عجلة ، فتكدر دنياك وتذهب آخرتك.

ذكر غزو المسلمين أرض فارس (١)

قالوا (٢) : وكان المسلمون بالبصرة وأرضها يومئذ سوادها ، والأهواز على ما هم عليه ، ما غلبوا عليه منها ففى أيديهم ، وما صلحوا عليه ففى أيدى أهله يؤدون الخراج ، ولا يدخل عليهم ، ولهم الذمة والمنعة ، وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر ، رحمه‌الله : حسبنا أهل البصرة سوادهم والأهواز ، وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا ، كما قال لأهل الكوفة : وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم.

وكان العلاء بن الحضرمى على البحرين ، رده إليها عمر بعد أن عزله عنها بقدامة بن مظعون ، وكان العلاء يناوئ سعد بن أبى وقاص لصدع صدعه القضاء بينهما ، فطار العلاء على سعد فى الردة بالفضل ، فلما ظفر سعد بالقادسية ، وأزاح الأكاسرة ، واستعلى بأعظم مما كان جاء به العلاء ، أسر العلاء أن يصنع شيئا فى الأعاجم ، ورجاء أن يدال كما قد كان أديل ، ولم يقدر العلاء ، ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة وفضل المعصية وعواقبها ، فندب أهل البحرين إلى أهل فارس ، فتسرعوا إلى ذلك ، ففرقهم أجنادا ، على أحدها الجارود بن المعلى ، وعلى الآخر السوار بن همام ، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى ، وهو مع ذلك على جماعة الناس ، فحملهم فى البحر إلى فارس بغير إذن عمر ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٧٦ ـ ٢٧٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٩).


وكان عمر ، رحمه‌الله ، لا يأذن لأحد فى ركوبه غازيا ، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبى بكر ، إذ لم يغزيا فيه أحدا.

فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس ، فخرجوا فى اصطخر ، وبإزائهم أهل فارس ، قد اجتمعوا على الهربذ ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم ، فقام خليد فى الناس ، فقال : إن الله إذا قضى لأحد أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه ، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم لحربهم ، وإنما جئتم لمحاربتهم ، والسفن والأرض لمن غلب ، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

فأجابوه ، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا فى موضع يدعى طاوس ، وجعل السوار يحض ويذكر قومه عبد القيس حتى قتل ، وقتل الجارود ، ويومئذ ولى عبد الله بن المسور والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد بن المنذر يقول للمسلمين : انزلوا ، فنزلوا فقاتلوا القوم فقتل أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها ، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ، ولم يجدوا إلى الرجوع فى البحر سبيلا ، فوجدوا شهرك قد أخذ عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا.

ولما بلغ عمر ، رحمه‌الله ، ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش فى البحر ، يعنى قبل أن يبلغه ما عرض لهم ، ألقى فى روعه نحو من الذي كان ، فاشتد غضبه على العلاء وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه ، وأبغض الوجوه عليه ، بتأمر سعد عليه ، وقال : الحق بسعد بن أبى وقاص فيمن قبلك ، فخرج نحوه بمن معه.

وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان : أن العلاء بن الحضرمى حمل جندا من المسلمين ، فأقطعهم أهل فارس ، وعصانى ، وأظنه لم يرد الله بذلك ، فخشيت عليهم ألا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا ، فاندب الناس إليهم ، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا ، فندب عتبة الناس ، وأخبرهم بكتاب عمر ، فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن ومجزأة بن ثور والأحنف بن قيس وصعصعة بن معاوية وآخرون من رءوس المسلمين وفرسانهم ، فخرجوا فى اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل ، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم ، أحد بنى مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة ، وهم ردء الغازى والمقيم ، فسار أبو سبرة بالناس ، وساحل لا يلقاه أحد ، ولا يعرض له حتى التقى بخليد وأصحابه بحيث أخذ عليهم الطريق.

وكان أهل اصطخر حيث أخذوا عليهم الطريق وأنشبوهم ، استصرخوا عليهم أهل


فارس كلهم ، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة ، فالتقوا هم وأبو سبرة ، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم ، وعلى المشركين شهرك ، وهو الذي كان أخذ عليهم الطريق غب وقعة القوم بطاوس ، فاقتتلوا ، ففتح الله على المسلمين ، وقتل المشركون وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا ، وهى الغزاة التي شرفت بها نابتة البصرة ، فكانوا أفضل المصرين نابتة ، ثم انكفأوا بما أصابوا ، وقد عهد إليهم عتبة وكاتبهم بالحث وقلة العرجة ، فانضموا إليه بالبصرة ، فرجع أهلها إلى منازلهم منها ، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم ، والذين تنقذوا من عبد القيس فى موضع سوق البحرين.

ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس ، استأذن عمر فى الحج ، فأذن له ، فلما قضى حجه استعفاه ، فأبى أن يعفيه ، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله ، فدعا الله ثم انصرف ، فمات فى بطن نخلة ، فدفن بها ، ومر به عمر زائرا لقبره ، فقال : أنا قتلتك ، لو لا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم ، وأثنى عليه بالفضل. ومات عتبة وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبى رهم وعماله على حالهم ، ومسالحه على نهرتير ومناذر وسوق الأهواز وسرق. وأمّر عمر أبا سبرة على البصرة بقية السنة التي مات فيها عتبة ، ثم عزله ، واستخلف عبد الرحمن بن سهل ، ثم استعمل المغيرة بن شعبة ، فعمل عليها بقية تلك السنة التي ولاه فيها والسنة التي تليها ، لم ينتقض عليه أحد فى عمله ، وكان مرزوق السلامة.

ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان (١)

ذكر سيف (٢) عن أصحابه قالوا : لم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج عنهم ، فكتب إليهم وهو بمرو ، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم ، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن غلبتكم العرب على السواد وما والاه ، وعلى الأهواز ، ثم لم يرضوا بذلك حتى يوردوكم فى بلادكم وعقر داركم ، فخرجوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز ، وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة ، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب ، فكتبوا إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة ، فكتب عمر إلى سعد : أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل ، وابعث سويد بن مقرن ، وعبد

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ١٨٧ ، ١٨٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٥ ـ ٨٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٨٣ ، ٨٤).


الله بن ذى السهمين ، وجرير بن عبد الله الحميرى ، وجرير بن عبد الله البجلى ، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتيقنوا أمره.

وكتب إلى أبى موسى ، وهو على البصرة : أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا ، وأمر عليهم سهيل بن عدى ، وابعث معه البراء بن مالك ، وعاصم بن عمرو ، ومجزأة بن ثور ، وكعب بن سور ، وعرفجة بن هرثمة ، وحذيفة بن محصن ، وعبد الرحمن بن سهل ، والحصين بن معبد ، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم ، وكل من أتاه فمدد له.

وخرج النعمان بن مقرن فى أهل الكوفة ، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان ، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل ، وانتهى إلى نهرتير فجازها ، وجاز مناذر ، ثم شق الأهواز ، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة ، ثم سار نحو الهرمزان ، وهو برامهرمز ، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره ، ورجا أن يقتطعه ، وقد طمع فى نصر أهل فارس ، وقد أقبلوا نحوه ، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر ، فالتقى النعمان والهرمزان بأزبك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم إن الله هزم الهرمزان ، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر ، وسار النعمان بن أزبك حتى نزل برامهرمز ، ثم صعد لإيذج ، فصالحه عليها تيرويه ، فقبل منه وتركها ، ورجع إلى رامهرمز ، فأقام بها.

وجاء سهل فى أهل البصرة حتى نزلوا سوق الأهواز ، فأتاهم بها خبر الوقعة التي أوقعها النعمان بالهرمزان حتى لحق بتستر ، فمالوا نحوه من سوق الأهواز ، فكان وجههم منها إلى تستر ، ومال النعمان إليها من رامهرمز ، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء ، فنزلوا جميعا على تستر ، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال وأهل الأهواز فى الخنادق ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، واستمده أبو سبرة فأمده بأبى موسى ، فساجلوهم ، وعلى أهل الكوفة النعمان ، وعلى أهل البصرة أبو موسى ، وعلى الفريقين أبو سبرة ، فحاصروهم أشهرا ، وأكثروا فيهم القتل.

وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مبارزة مائة ، سوى من قتل فى غير المبارزة ، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك ، وقتل كعب بن سور وأبو تميمة كل واحد منهما مثل ذلك ، وهؤلاء فى عدة من أهل البصرة ، وفعل مثل ذلك من الكوفيين رجال ، منهم حبيب بن قرة ، وربعى بن عامر ، وعارم بن عبد الأسد ، وكان من الرؤساء ، فى ذلك ، ما ازدادوا به إلى ما كان منهم ، وزاحفهم المشركون فى أيام


تستر ثمانين زحفا تكون عليهم مرة ولهم أخرى ، حتى إذا كان فى آخر زحف منها واشتد القتال ، قال المسلمون : يا براء ، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا ، فقال البراء بن مالك : اللهم اهزمهم لنا واستشهدنى ، فهزمهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ، فأرزوا إلى مدينتهم ، فأحاط المسلمون بها.

فبينا هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم ، وطالت حربهم ، خرج رجل إلى النعمان فاستأمنه على أن يدله على مدخل يوصل منه إلى المدينة ، ويكون منه فتحها ، فأمنه النعمان ، فقال : انهدوا من قبل مخرج الماء ، ورمى رجل آخر غير ذلك الرجل فى ناحية أبى موسى بسهم يستأمنهم فيه على أن يدلهم على ذلك ، فأمنوه فى نشابة ، فرمى إليهم بأخرى ، ودلهم على مخرج الماء ، فندب الأميران أصحابهما ، فانتدب لأبى موسى كعب ابن سور ومجزأة بن ثور وبشر كثير.

وانتدب للنعمان أيضا بشر كثير ، منهم : سويد بن المثعبة ، وعبد الله بن بشر الهلالى ، فنهدوا ، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج ، وقد تسرب سويد وعبد الله ، فاتبعهم الفريقان ، حتى إذا اجتمعوا فيها ، والناس على رجل من خارج ، كبروا فيها ، وكبر المسلمون من خارج ، وفتحت الأبواب ، فاجتلدوا فيها ، فأناموا كل مقاتل ، وأرز الهرمزان إلى القلعة فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء ، فلما عاينوه وأقبلوا قبله ، قال لهم : ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ، وإن معى فى جعبتى مائة نشابة ، وو الله لا تصلون إلىّ ، ما دامت معى نشابة ، وما يقع لى سهم إلا فى رجل ، وما خير أسارى إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح ، قالوا : فتريد ما ذا؟ قال : أن أضع يدى فى أيديكم على حكم عمر يصنع بى ما شاء ، قالوا : فذلك لك.

فرمى بقوسه ، وأمكنهم من نفسه ، فشدوه وثاقا ، واقتسموا ما أفاء الله عليهم ، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف ، والراجل ألفا. وجاء الرجل الذي خرج بنفسه إلى النعمان ، والآخر الذي رمى بالسهم فى ناحية أبى موسى ، فقالا للمسلمين : من لنا بالأمان الذي طلبنا علينا وعلى من مال علينا؟ قالوا : ومن مال معكم؟ قالوا : من أغلق عليه بابه مدخلكم ، فأجازوا ذلك لهم ، وقتل ليلتئذ من المسلمين ناس كثير ، منهم مجزأة بن ثور ، والبراء بن مالك ، قتلهما الهرمزان.

وخرج أبو سبرة من تستر فى أثر الفل ، وقد قصد السوس ، وأخرج معه النعمان وأبا موسى الهرمزان ، حتى نزلوا على السوس ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فكتب إلى أبى موسى


برده على البصرة ، فانصرف عليها ، وأمر عمر على جند البصرة المقترب ، وهو الأسود بن ربيعة ، وكتب إلى زر بن عبد الله بن كليب الفقيمى أن يسير إلى جندى سابور ، فسار حتى نزل عليها ، وكان الأسود وزر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين إليه ، الوافدين عليه ، فقال له الأسود لما وفد عليه : جئت لأقترب إلى الله بصحبتك ، فسماه المقترب ، وقال له زر : يا رسول الله ، فنى بطنى ، وكثر إخوتنا ، فادع الله لنا ، فقال : «اللهم أوف لزر عمارته» ، فتحول إليهم العدد.

ووفد أبو سبرة وفدا ، فيهم أنس بن مالك ، والأحنف بن قيس ، وأرسل الهرمزان معهم ، فقدموا مع أبى موسى البصرة ، ثم خرجوا نحو المدينة ، حتى إذا دخلوها هيئوا الهرمزان فى هيئته ، فألبسوه كسوته من الديباج ، ووضعوا على رأسه تاجا مكللا بالياقوت ، كيما يراه عمر والمسلمون فى هيئته ، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر فى منزله فلم يجدوه ، فسألوا عنه ، فقيل لهم : جلس فى المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة ، فانطلقوا يطلبونه فى المسجد فلم يروه.

فلما انصرفوا مروا بغلمان يلعبون ، فقالوا لهم : ما تلددكم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم فى ميمنة المسجد ، متوسد برنسه ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، قد جلس لوفد الكوفة فى برنس ، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه ، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام ، فانطلقوا ومعهم النظارة ، حتى إذا رأوه جلسوا دونه ، وليس فى المسجد نائم ولا يقظان غيره ، والدرة فى يده ، فقال الهرمزان : أين عمر؟ قالوا : هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه ، فقال لهم الهرمزان : أين حرسه وحجابه؟ فقالوا : ليس له حارس ولا حاجب ، ولا كاتب ولا ديوان ، فقال : ينبغى له أن يكون نبيا ، قالوا : بل يعمل عمل الأنبياء ، وكثر الناس ، فاستيقظ عمر ، رحمه‌الله ، بالجلبة ، فاستوى جالسا ، ثم نظر إلى الهرمزان ، فقال : الهرمزان؟ قالوا : نعم ، فتأمله وتأمل ما عليه ، وقال : أعوذ بالله من النار ، وأستعين بالله ، ثم قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه ، يا معشر المسلمين ، تمسكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدى نبيكم ، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة.

فقال الوفد : هذا ملك الأهواز فكلمه ، فقال : لا ، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء ، فرمى عنه بكل شيء كان عليه إلا شيئا يستره ، وألبسوه ثوبا صفيقا ، فقال عمر : هى يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال : يا عمر ، إنا وإياكم فى الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم ، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم ، فلما كان معكم غلبتمونا ، فقال عمر : إنما غلبتمونا فى الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ، ثم قال عمر : ما


عذرك وما حجتك فى انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال : أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك ، قال : لا تخف ذلك. واستسقى ماء ، فأتى به فى قدح غليظ ، فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا ، فأتى به فى إناء يرضاه ، فجعلت يده ترعد ، وقال : إنى أخاف أن أقتل وأنا أشرب ، فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه.

فقال عمر : أعيدوا عليه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش ، فقال : لا حاجة لى فى الماء ، إنما أردت أن أستأمن به ، فقال عمر : إنى قاتلك ، فقال : قد أمنتنى ، قال : كذبت ، قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين ، قد أمنته ، قال : ويحك يا أنس ، أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء ابن مالك ، والله لتأتين بمخرج وإلا عاقبتك. قال : قلت له : لا بأس عليك حتى تخبرنى ، وقلت له : لا بأس عليك حتى تشربه ، وقال له من حوله مثل ذلك ، فأقبل الهرمزان ، وقال : خدعتنى ، والله لا أنخدع إلا أن تسلم ، فأسلم ففرض له على ألفين وأنزله المدينة.

ويروى أن المغيرة بن شعبة كان الترجمان يومئذ بين عمر وبين الهرمزان إلى أن جاء المترجم ، وكان المغيرة يفقه من الفارسية شيئا ، فقال له عمر : ما أراك بها حاذقا ، ما أحسنها أحد منكم إلا خب ، ولا خب إلا دق ، إياكم وإياها ، فإنها تنقص الإعراب.

ذكر فتح السوس

والأخبار التي نذكرها بعد ذلك شديدة الخلاف لبعض ما تقدم ، وكذلك قال أبو جعفر الطبرى (١) : إن أهل السير اختلفوا فى أمرها. قال : فأما المدائنى فإنه قال : لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان ، دعا بخاصته وبالموبذ ، فقال : إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه ، فما ترون؟ قال الموبذ : نرى أن نخرج فننزل اصطخر ، فإنها بيت المملكة ، وتضم إليك خزائنك ، وتوجه الجنود ، فأخذ برأيه ، وسار إلى أصبهان ودعا سياه ، فوجه ثلاثمائة فيهم سبعون من عظمائهم ، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب ، فمضى سياه واتبعه يزدجرد ، حتى نزلوا اصطخر وأبو موسى محاصر سوس ، فوجه سياه إلى السوس ، والهرمزان إلى تستر ، فنزل سياه منزلا تحول عنه حين سار أبو موسى إلى تستر.

فنزل سياه بينها وبين رامهرمز ، ودعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان ، وقد عظم أمر المسلمين عنده ، فقال : قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٨٩).


الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة ، وتروث دوابهم فى إيوانات اصطخر ومصانع الملوك ، ويشدون خيولهم بشجرها ، وقد غلبوا على ما رأيتم ، وليس يلقون جندا إلا فلوه ، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه ، فانظروا لأنفسكم. قالوا : رأينا رأيك ، قال : فليكفنى كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه ، فإنى أرى أن ندخل فى دينهم.

فوجهوا شيرويه فى عشرة من الأساورة إلى أبى موسى ، فقدم عليه ، فقال : إنا قد رغبنا فى دينكم ، فنسلم على أن نقاتل العجم معكم ، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم ، وننزل حيث شئنا ، ونكون فيمن شئنا منكم ، وتلحقونا بأشرف العطاء ، ويعقد لنا بذلك الأمير الذي هو فوقك ، فقال أبو موسى : بل لكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، فقال: لا نرضى.

وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بأمرهم ، فأجابه : أعطهم ما سألوك ، فكتب لهم أبو موسى ، فأسلموا ، وشهدوا معه حصار تستر ، فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدا ولا نكاية ، فقال لسياه : يا أعور ، ما أنت وأصحابك كما كنا نرى ، قال : لسنا مثلكم فى هذا الدين ، ولا بصائرنا كبصائركم ، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر. فكتب أبو موسى إلى عمر فى ذلك ، فكتب إليه : أن ألحقهم على قدر البلاء فى أفضل العطاء وأكثر شيء أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم فى ألفين ألفين ، ولستة منهم فى ألفين وخمسمائة ، لسياه وخسرو وابنه مقلاص وشهريار وشهرويه وأفريذون ، وإياهم عنى الشاعر بقوله :

ولما رأى الفاروق حسن بلائهم

وكان بما يأتى من الأمر أبصرا

فسن لهم ألفين فرضا وقد رأى

ثلاثمائين فرض عك وحميرا

قال : فحاصروا حصنا بفارس ، فمشى سياه فى آخر الليل فى زى العجم حتى رمى بنفسه إلى جانب الحصن ، ونضح ثيابه بالدم ، وأصبح أهل الحصن ، فرأوا رجلا فى زيهم صريعا ، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به ، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه ، وثار فقاتلهم حتى دخلوا عن باب الحصن وهربوا ، ففتح الحصن وحده ودخله المسلمون ، وقوم يقولون : فعل هذا الفعل سياه بتستر ، وحاصروا حصنا آخر ، فمشى خسرو إلى الحصن ، فأشرف عليه رجل منهم فكلمه ، فرماه خسرو بنشابة فقتله.


أما سيف (١) ، فإنه ذكر بإسناد له قال : لما نزل أبو سبرة فى الناس على السوس ، وأحاط المسلمون بها ، وعليهم شهريار أخو الهرمزان ، ناوشهم مرات ، كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين ، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون ، فقالوا : يا معشر العرب ، إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا ، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال ، أو قوم فيهم الدجال ، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها ، وإن لم يكن معكم فلا تعنوا بحصارنا ، وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة ، وعمل مكانه على جندها الذين بالسوس المقترب ، والنعمان على أهل الكوفة ، فحاصر السوس مع أبى سبرة.

فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند لاجتماع الأعاجم بها ، فتهيأ للمسير ، ثم استقبل فى تعبئته ، فناوش أهل السوس قبل مضيه ، فعاد الرهبان والقسيسون ، وأشرفوا على المسلمين ، وغاظوهم ، وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان فى خيله ، فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله ، وقال : انفتح ، فتقطعت السلاسل ، وتكسرت الأغلاق ، وفتحت الأبواب ، ودخل المسلمون ، فألقى المشركون بأيديهم ، ونادوا : الصلح الصلح ، فأجابهم المسلمون إلى ذلك ، بعد ما دخلوها عنوة ، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح ، ثم افترقوا.

فتح جندى سابور

قالوا (٢) : ولما فرغ أبو سبرة من السوس خرج فى جنده حتى ينزل على جندى سابور ، وزر بن عبد الله محاصرهم ، فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحنهم القتال ، فلم يفجأ المسلمين يوما إلا وأبوابها تفتح ، ثم خرج السرح ، وخرجت الأسواق ، وانبث أهلها ، فأرسل إليهم المسلمون : أن ما لكم؟ قالوا : رميتم لنا بالأمان فقبلناه ، وأقررنا لكم الجزاء ، على أن تمنعونا ، فقال المسلمون : ما فعلنا ، فقال أهل جندى سابور : ما كذبنا ، فسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها ، هو الذي كتب لهم أمانا ، فرمى به إليهم من عسكر المسلمين ، فقالوا : إنما هو عبد ، فقال المشركون : إنا لا نعرف حركم من عبدكم ، وقد جاءنا أمان ، فنحن عليه قد قبلناه ، ولم نبدل ، فإن شئتم فاغدروا ، فأمسكوا عنهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأجابهم : إن الله عظيم الوفاء ، فلا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٩١ ، ٩٢).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٩٣ ، ٩٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٨٧).


تكونون أوفياء حتى توفوا ، ما دمتم فى شك أجيزوهم ، وفوا لهم ، ففعلوا وانصرفوا عنهم.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك :

لعمرى لقد كانت قرابة مكنف

قرابة صدق ليس فيها تقاطع

أجارهم من بعد ذل وقلة

وخوف شديد والبلاء بلاقع

فجاز جواز العبد بعد اختلافنا

ورد أمورا كان فيها تنازع

إلى الركن والوالى المصيب حكومة

فقال بحق ليس فيه تخادع

فلله جندى ساهبور لقد نجت

غداة منتها بالبلاء اللوامع

حديث وقعة نهاوند (١)

والاختلاف فيها بين أهل الأخبار كثير ، ولكن الذي ذكره أبو الحسن المدائنى من حديثها أحسن ما وقفت عليه من الأحاديث منساقا ، وأطوله اقتصاصا ، فلذلك آثرت الابتداء به ، وربما أدرجات فى تضاعيفه من حديث غيره ما يحسن إدراجه فيه ، ثم أذكر بعد انقضائه ما اختار ذكره من الأخبار التي أوردها سواه عن هذه الوقعة إن شاء الله.

ذكر المدائنى (٢) عن رجال من أهل العلم ، يزيد بعضهم على بعض : أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، شاور الهرمزان ، فقال له : أما إذا فتنى بنفسك فأشر علىّ ، أبفارس أبدأ أم بالجبال : أذربيجان وأصبهان؟ قال : فارس الرأس والجبال جناحان ، فاقطع الجناحين فلا يتحرك الرأس ، قال عمر : بل أقطع الرأس فلا يقوم جسد ولا جناح. فكتب عمر إلى عثمان بن أبى العاص وهو بتوج : أن سر إلى اصطخر ، وقدم عليه أبو موسى ، فأمره أن يرجع إلى البصرة ، ويسير إلى ابن كسرى مع عثمان بن أبى العاص ، وقال : كل واحد منكم أمير على جنده ، فقدم أبو موسى البصرة ، فسار إلى يزدجرد باصطخر ، وسار إليه عثمان من توج.

فلما ألحوا على يزدجرد كتب إلى أهل الرى وأهل الجبال : أصبهان وهمدان وقومس ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٢٢) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣٧١ ـ ٣٧٦) ، معجم البلدان لياقوت (٥ / ٣١٣ ، ٣١٤) ، العبر للذهبى (١ / ٢٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٠٥) ، مرآة الجنان لليافعى (١ / ٧٧).

(٢) انظر الرواية فى : الطبرى (٤ / ٥٣٤ ـ ٥٣٦) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١٣٣ ـ ١٣٨).


أن العرب قد ألحوا علىّ فاشغلوهم عنى ، وردوهم إلى بلادهم ، فكتب بعضهم إلى بعض : أن صاحب العرب الذي جاء بدينهم وأظهر أمرهم هلك ، وملك بعده رجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك ، وإن صاحبهم هذا عمر وطال سلطانه ، وأغزى جنوده بلادكم ، فليس بمنته حتى تخرجوه من بلادكم وتغزوه فى بلاده ، فأجمعوا على ذلك وتمالوا عليه وتعاقدوا ، وأنفذوا أن يجتمعوا بنهاوند ، وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فكتبوا به إلى عمر ، فخرج يمشى حتى قام على المنبر ، فقال : أين المسلمون؟ أين المهاجرون والأنصار؟ فاجتمع الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن عظماء أهل الرى وأهل أصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند وأهل قومس وأهل حلوان ، أمم مختلفة ألوانها وألسنتها وأديانها ومللها ، وقد تعاهدوا أن يخرجوا إخوانكم من بلادهم وأن يغزوكم فى بلادكم ، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا ، فتفشغ بكم الأمور.

فقام طلحة ، وكان من خطباء قريش وذوى رأيهم ومن علية أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد حنكتك الأمور ، وجربتك الدهور ، وعجمتك البلايا ، وأحكمتك التجارب ، فأنت ولى ما وليت ، لا ينبثر فى يديك ، ولا يحل عليك ، فمرنا نطع ، واحملنا نركب ، وقدنا ننقد ، فإنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وقد أخبرت وخبرت وجربت ، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار.

قال : تكلموا ، فقال عثمان : اكتب إلى أهل الشام أن يسيروا من شامهم ، وإلى أهل اليمن فليسيروا من يمنهم ، وسر نفسك فى أهل الحرمين إلى أهل المصرين ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فيتعال فى عينك ما قد كثر عندك ، وتكون أعز منهم ، إنك لن تستبقى من نفسك باقية بعد العرب ، ولن تمتنع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، وهذا يوم له ما بعده ، فاحضرهم برأيك ، واشهدهم بمقدرتك.

قال : تكلموا ، فقال على بن أبى طالب : يا أمير المؤمنين ، إن كتبت إلى أهل الشام فساروا من شامهم أغارت الروم على بلادهم ، وإن سار أهل اليمن من يمنهم خلفتهم الحبش فى عيالاتهم ، وإن سرت بأهل الحرمين انتقضت الأرض عليك من أقطارها ، حتى يكون ما تخلفه من العورات فى العيالات أهم إليك مما بين يديك ، وأما ما ذكرت من مسيرهم فالله لمسيرهم أكره ، وهو أقدر على تغيير ما كره ، وأما كثرتهم فإنا لم نكن نلق عدونا بالكثرة ، ولكنا كنا نلقاهم بالصبر ، إنك إن نظر إليك الأعاجم قالوا : هذا أمير العرب ، فكان أشد لحربهم وكلبهم ، ولكن اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاث فرق ، فلتقم فرقة فى ديارهم ، وفرقة فى أهل عهدهم ، وتسير فرقة إلى إخوانهم بالكوفة.


قال : هذا رأى ، وقد كنت أحب أن أتابع عليه ، لعمرى لئن سرت بأهل الحرمين ونظر إلىّ الأعاجم لتنقضن الأرض وليمدنهم من لم يمدهم ، وليقولن : أمير العرب إن قطعناه قطعنا أصل العرب ، فأشيروا علىّ برجل أوليه واجعلوه عراقيا ، قالوا : أنت أفضل رأيا وأعلم بأهل العراق ، وهم عمالك وقد وفدوا عليك وعرفتهم ، قال : لأولينها رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، النعمان بن مقرن. وكان النعمان بكسكر قد كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، إنما مثلى ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون له كل يوم وتعطر ، وإنى أذكرك الله إلا بعثتنى فى جيش إلى ثغر غازيا ، ولا تبعثنى جابيا.

فندب عمر أهل المدينة ، فانتدب منهم جمع ، فوجههم إلى الكوفة ، وكتب إلى عمار بن ياسر أن يستنفر ثلث أهل الكوفة ، وأن يسيروا إلى العجم بنهاوند ، فقد وليت عليهم النعمان بن مقرن المزنى ، وكتب إلى أهل الكوفة بذلك ، وكتب إلى أبى موسى أن يستنفر ثلث أهل البصرة إلى نهاوند ، وكتب إلى النعمان : إنى وجهت جيشا من أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلى نهاوند ، فأنت على الناس ومعك فى الجيش طليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب ، فأحضرهما الناس وشاورهما فى الحرب ، فإن حدث بك حدث ، فأمير الناس حذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبد الله ، فإن قتل فالمغيرة بن شعبة ، فإن قتل فالأشعث بن قيس ، وذكر الأشعث فى هذا غريب ، فإن المعروف من عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أنه لم يستعمل أحدا ممن ارتد ، ولكن هذا وقع فى هذا الحديث ، والله أعلم.

وبعث عمر بالكتاب مع السائب بن الأقرع بن عوف ، وقال له : إن سلم الله ذلك الجند فقد وليتك مغانمهم ومقاسمهم ، فلا ترفعن إلىّ باطلا ولا تمنعن أحدا حقه ، وإن هلك ذلك الجند فاذهب فلا أرينك أبدا ، فقدم السائب الكوفة فيمن نفر من أهل المدينة ، وبعث بكتاب أهل البصرة مع عمرو بن معدى كرب فاستنفرهم أبو موسى فنفر ثلثهم ، وخرجوا إلى الكوفة عليهم مجاشع بن مسعود ، وعلى أهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، ثم ساروا جميعا مع من قدم من أهل المدينة إلى نهاوند ، وسار النعمان بن مقرن فتوافوا بنهاوند ، والأعاجم بها ستون ألفا عليهم ذو الفروة ، وهو ذو الحاجب ، وهم بمكان يقال له : الاستفيذهان بقرية يقال لها : فيديسجان ، دون مدينة نهاوند بفرسخين ، وقد خندق الأعاجم وهالوا فى الخندق ترابا قد نخلوه ، فبعث النعمان طليحة بن خويلد وبكير بن الشداخ ، فارس أطلال ، ليعلما علم القوم.

فأما بكير فانصرف ، فقيل له : ما ردك؟ قال : أرض العجم ، ولم يكن لى بها علم


فخفت أن يأخذ علىّ مضيق أو بعض جبالها ، ومضى طليحة فأبطأ حتى ساء ظن الناس به ، فعلم علمهم ثم رجع فلم يمر بجماعة إلا كبروا ، فأنكر ذلك منهم ، وقال : ما لكم تكبرون إذا رأيتمونى؟ قالوا : ظننا أنك فعلت كفعلتك. قال : لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم ، وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وأقام النعمان أياما حتى استجم الناس أنفسهم وظهرهم ، فلما كان يوم الأربعاء من بعض تلك الأيام دنا من عسكر المشركين ، وقال : إن أمير المؤمنين كتب إلىّ أن لا أقاتلهم حتى أدعوهم ، فمن رجل يأتيهم بكتابه؟ ومعه فى عسكره ممن قدم من المدينة عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمر أو الزبير وابنه عبد الله ، فتواكل الناس ، فقام المغيرة بن شعبة يتذيل فى مشيته ، وكان آدم طويلا ذا ضفيرتين أعور ، فأخذ الكتاب فأتاهم ، فقال : القوا إلىّ شيئا ، فألقوا له ترسا فجلس عليه ، فقال الترجمان : ما أقدمكم؟ فذكر ما كانوا فيه من ضيق المعيشة ، وقال : كنا أهل جهد وجفاء بين شوك وحجر ، ومدر وحية وعقرب ، يغير بعضنا على بعض ، فأتينا بلادكم فأصبنا مطعما طيبا وشرابا عذبا ولبوسا لينا وطلا باردا ، فلسنا براجعين إلى ما كنا فيه حتى نصيب حاجتنا أو نموت.

فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق ، فقالوا : إنكم معشر العرب أرجاس أنجاس ، وإنما غركم مناخر نبذ جوى الأهواز ، وعوران المدائن الذين لقوكم ، وإنه ليس ممن ترى إلا فارسى محض أسوار ، ولو لا فساد الأرض لقتلناكم ، فما حاجتكم التي تريدون أن تصيبوها؟ فقرأ عليهم المغيرة كتاب عمر : إنا ندعوكم إلى ما دعاكم الله إليه ورسوله ، أن تدخلوا فى السلم كافة ، فإن فعلتم فأنتم إخواننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، فإن أبيتم الإسلام فالجزية ، فإن أبيتم الجزية استنصرنا الله عليكم.

قالوا : الآن حين نقرنكم فى الجبال ، فرجع المغيرة ، فقال للنعمان : حبست الناس حتى طمحت أبصارهم ، أما والله إن لو كنت صاحبها؟ قال : ربما كنت ، فلم يخزك الله ولم تخب. ونهض المسلمون للحرب ، فأقبل ذو الحاجب على برذون أمام العجم ، فقالوا : انزلوا بالطائر الصالح الذي نصرتم به على الأمم ، وتهزمون به العرب ، فبرز له رجل من المسلمين فقتله ذو الحاجب ، وتهايجوا واقتتلوا حتى كثرت بينهم القتلى والجرحى ، ثم تحاجزوا ، وغدا المشركون غداة الخميس من غد يجرون الحديد ويسحبون الدروع ، وغدا المسلمون على راياتهم فتقدم رجل من العجم قد أعلم بعصابة فيها جواهر أمام أصحابه ، فحمل عليه أوفى بن سبرة القشيرى فقتله وسلبه ، فنفله النعمان سلبه ، وحمل المشركون


فتلقاهم المسلمون فاقتتلوا حتى صبغت الدماء ثنن الخيل وتحاجزوا عند السماء ، فبات المسلمون يوقدون النيران ، ويعصبون بالخرق ، لهم أنين من الجراح ، ودوى بالقرآن كدوى النحل ، وبات المشركون فى المعازف والخمور وبهم من الجراح مثل ما بالمسلمين.

وأصبحوا يوم الجمعة ، فأقبل النعمان معلما ببياض ، على برذون قصير ، عليه قباء أبيض مصقول وقلنسوة بيضاء مصقولة ، فوقف على الرايات فحضهم ، وقال : يا معشر المسلمين ، إن هؤلاء قد أخطروا لكم أخطارا وأخطرتم لهم أخطارا ، أخطروا لكم دنيا ، وأخطرتم لهم الإسلام ، فالله الله فى الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم أصبحتم بابا بين المسلمين والمشركين ، فإن كسر الباب دخل على الإسلام ليشغل كل امرئ منكم قربه ولا يخلفه على صاحبه ، فإنه لوم وخذلان ووهن وفشل ، إنى هاز الراية فإذا هززتها فليأخذ الرجال همايينها فى أحقيتها وشسوعها فى نعالها ، وليتعهد أصحاب الخيل أعنتها وحزمها ، فإذا هززتها الثانية فليعرف كل امرئ منكم مصوب رمحه وموضع سلاحه ووجه مقاتله ، فإذا هززتها الثالثة وكبرت فكبروا واستنصروا الله واذكروه ، فإذا حملت فاحملوا.

فقال رجل من أهل العراق : قد سمعنا مقالتك أيها الأمير ، فنحن واقفون عند قولك ، منتهون إلى رأيك ، فأى النهار أحب إليك؟ أوله أم آخره؟ قال : آخره حين تهب الرياح ، وتحل الصلاة وينزل النصر لمواقيت الصلاة ، فأمهل الناس حتى إذا زالت الشمس ، هز الراية فقضى الناس حوائجهم وشدت الرجال مناطقها ، ونزع أصحاب الخيل المخالى عن خيلهم وقرطوها أعنتها وشدوا حزمها وتأهبوا للحرب ، ثم أمهل حتى إذا كان فى آخر الوقت هزها فصلى الناس ركعتين وجال أصحاب الخيل فى متونها وصوبوا رماحهم فوضعوها بين آذان خيولهم ، وأقبلت الأعاجم على براذينهم عليهم الرايات المدبجة ، والمناطق المذهبة ، ووقف ذو الحاجب على بغلة ، فلقد رأى الأعاجم وهم فى عدتهم وإن لأقدامهم فى ركبهم لزلزلة ، وإن الأسوار ليأخذ النشابة فما يسدد الفوق للوتر وما يتمالك أن يضعها على قوسه.

فقال النعمان : يا معشر المسلمين ، إنى هاز الراية وحامل فاحملوا ، ولا يلوى أحد على أحد ، وإن قيل قتل النعمان ، فلا يلوين علىّ أحد ، وأنا داع بدعوة فعزمت على كل رجل منكم إلا أمن ، ثم قال : اللهم اعط النعمان اليوم الشهادة فى نصر المسلمين ، وافتح عليهم ، ثم نثل درعه ، وهز الراية وكبر ، فكبر الأدنى فالأدنى ممن حوله حتى غشيهم التكبير من السماء ، وصوب رايته كأنها جناح طائر ، وحمل وحمل الناس ، فكان أول


صريع رحمه‌الله ، ومر به معقل بن يسار فذكر عزمته : ألا يلوى أحد علىّ ، فجعل علما عنده ، ومر أخوه سويد بن مقرن أو نعيم ، فألقى عليه ثوبا لكى لا يعرف ، ونصب الراية وهى تقطر دما ، قد قتل بها قبل أن يصرع ، وسقط ذو الحاجب عن بغلته فانشق بطنه ، وانهزم المشركون ، فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا.

فقال بعض من حضر ذلك اليوم : إنى لفى الثقل فثارت بيننا وبين القوم عجاجة قسطلانية ، فجعلت أسمع وقع السيوف على الهام ، ثم كشفت ، فإذا المسلمون يتبعونهم كالذباب يتبع الغنم ، فاتبعتهم طائفة من المسلمين حتى دخلوا مدينتهم ، ثم رجعوا ، وحوى المسلمون عسكرهم ، ورجع معقل بن يسار إلى النعمان بعد انهزام المشركين ومعه أدواة فيها ماء فغسل التراب عن وجهه ، فقال : من أنت؟ قال : معقل بن يسار ، قال : ما فعل الناس؟ قال : فتح الله عليهم ، قال : الحمد لله ، اكتبوا بذلك إلى عمر. وفاضت نفسه ، فاجتمع الناس وفيهم ابن الزبير وابن عمر ، فأرسلوا إلى أم ولده ، فقالوا : أعهد إليك عهدا؟ فقالت : هاهنا سفط فيه كتاب ، فأخذوه فإذا كتاب عمر إلى النعمان : إن حدث بك حدث فالأمير حذيفة ، فإن قتل ففلان ، فإن قتل ففلان.

فتولى أمر الناس حذيفة ، فأمر بالغنائم فجمعت ، ثم سار إلى مدينة نهاوند وقد حملت الغنائم إلى عسكرهم ، وحصر أهل المدينة وقاتلوهم ، فبيناهم يطاردونهم إذ لحق سماك بن عبيد عظيما من عظمائهم يقال له : دينار ، فسأله الأمان ، فأمنه وأدخله على حذيفة ، فصالحه عن البلد على ثمانمائة ألف وشيء من العسل والسمن ، وقال : إن لكم لوفاء بالعهد ، وأخاف عليكم خمسة أشياء : الخب والبخل والغدر والخيلاء والفجور ، وأخاف أن يأتيكم الخب من قبل النبط ، والخيلاء من قبل الروم ، والبخل من قبل فارس ، والفجور والغدر من قبل أهل الأهواز ، وأتى السائب بن الأقرع دهقان وقد جمعت الغنائم ، فقال له : أتؤمنني على دمى ودماء قرابتى وأدلك على كنز النخيرجان؟ ثم تجلبوا عليه فى الحرب فيقسم وتجرى عليه السهام ، ولم يحرزوه بجزية أقاموا عليها ، وإنما هو دفين دفنوه وفروا عنه ، فتأخذه لصاحبكم ، يعنى عمر رضي‌الله‌عنه ، تخصه به.

قال : أنت آمن إن كنت صادقا ، قال : فانهض معى ، فنهض معه فانتهى به إلى قلعة ، فرفع صخرة ودخل غارا فاستخرج سفطين ، فإذا قلائد منظومة بالدرر والياقوت وقرطة وخواتم وتيجان مكللة بالجوهر ، فأمنه ثم أتى به حذيفة فأخبره ، فقال : اكتمه ، فكتمه حتى قسم الغنائم بين الناس وعزل الخمس ، ثم خرج السائب مسرعا فقدم على عمر ، فقال له عمر : ما وراءك؟ فو الله ما نمت هذه الليلة إلا تغررا ، وما أتت علىّ ليلة بعد الليلة


التي أصبح فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميتا أعظم من هذه الليلة ، قال : أبشر بفتح الله وحسن قضائه لك فى جنودك ، ثم اقتص الخبر حتى انتهى إلى قتل النعمان ، فقال : إنا لله ، يرحم الله النعمان ، ثم مه ، قال : ثم والله ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه ، قال : لا أم لك ولا أب ، قتل الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ابن أم عمر ، وأكب طويلا وبكى ، ثم قال : أصيبوا بمضيعة؟ قال : لا ، ولكن أكرمهم الله بالشهادة ، وساقها إليهم ، فقال : ويحك ، أغلبتم على أجساد إخوانكم أم دفنتموهم؟ قال : دفناهم ، قال : فأعطيت الناس حقوقهم؟ قال : نعم.

قال : فنهض عمر فأخذ السائب بثوبه وقال : حاجة ، قال : ما حاجتك إذ أعطيت الناس حقوقهم؟ قال : حاجة لك وإليك ، فجلس ، فجر السائب الغرارة فأخرج السفطين ففتحهما ونظر إلى ما فيهما كأنه النيران يشب بعضها بعضا ، فقال عمر : ما هذا؟ فأخبره ، فدعا عليا وعبد الله بن أرقم وغيرهما ، فختموا على السفطين وقال له : اختم معهم ، فختمه ، وقال لعبد الله بن أرقم : ارفعه ، ورجع السائب ، فرأى عمر ليالى كالحيات يردن نهشه ، فسرح رجلا ، وكتب إلى السائب : إن صادفك رسولى فى الطريق فلا تصلن إلى أهلك حتى تأتينى ، وإن وصلت إلى أهلك فعزمة منى إليك إذا قرأت كتابى أن تشد على راحلتك وتقبل إلىّ ، وكتب إلى عمار : لا تضعن كتابى حتى ترحل إلىّ السائب ، وأمر الرسول أن يعجله ، فقدم الرسول ، فقال له السائب : أبلغه عنى شيء أم به علىّ سخطة؟ قال : ما رأيت ذلك ولا أعلمه ، بلغه عنك خير ولا شر.

وركب فقدم على عمر ، فقال له : يا ابن أم مليكة ، يا ابن الحميرية ، ما لى ولك أم ما لك ولى ، ثكلتك أمك ، ما الذي جئتنى به؟ فلقد بت مما جئتنى به مروعا أظن الحيات تنهشنى ، أخبرنى عن السفطين ، فقال : والله لئن أعدت عليك الحديث فزدت حرفا أو نقصت حرفا لأكذبن ، قال : إنك لما انصرفت فأخذت مضجعى لمنامى أتتنى الملائكة ، فأوقدوا علىّ سفطيك جمرا ودفعوهما فى نحرى وأنا أنكص وأعاهدهم أن أردهما فأقسمهما على من أفاءهما الله عليه ، فكاد ابن الخطاب يحترق ، ثم لم أزل مروعا أظن الحيات تنهشنى ، فاردد هذين السفطين فبعهما بعطاء الذرية والمقاتلة أو بنصف ذلك ، وأقسم ثمنها على من أفاءهما الله عليه.

وقال بعضهم : قال له : بعهما واجعل ثمنهما فى أعطية المسلمين بالبصرة والكوفة ، فإن خرج كفافا فذاك ، وإن فضل فاجعله فى بيت مال المسلمين.


فقدم السائب بهما فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء الذرية والمقاتلة. وقال بعضهم : اشتراهما بأعطية أهل المصرين ، فباع أحدهما من أهل الحيرة بما أخذهما به ، واستفضل الآخر. وقال بعضهم : استفضل مائة ألف دينار ، فكان أول مال اعتقده.

قال : وكان النخيرجان تحصن فى قلعة من قلاع نهاوند ومعه مائة امرأة من نساء الأساورة ومعه حلية كثيرة من كنز كسرى ، فصالحه حذيفة على ما كان معه ، وافتتح حذيفة رساتيق مما يلى أصبهان.

وكان أهل نهاوند قد حفروا خندقا وهالوا فيه ترابا متحولا ، فلما انهزموا جعلوا يسقطون فى ذلك الخندق ويغرقون فى ذلك التراب.

وكان يقال لفتح نهاوند : فتح الفتوح.

وذكر المدائنى أيضا ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه ، قال : قدمت البصرة فرأيت بها شيخا أصم ، فقلت : ما أصابك؟ قال : أنا من أهل نهاوند ، فنزل المسلمون ، يعنى عند ما نزلوا عليها ، فكبروا تكبيرة ذهب سمعى منها.

وذكر الطبرى (١) فيما ذكره من الأخبار المختلفة فى هذه الوقعة ، عن سيف ، عن أبى بكر الهذلى نحوا من هذا الحديث ، وزاد فيه أشياء وخالفه فى أماكن منه ، منها أن النعمان بن مقرن عند ما أمّره عمر ، رضي‌الله‌عنه ، على هذه الحرب فى هذا الوجه كان يومئذ بالبصرة ومعه قواد من قواد أهل الكوفة قد أمدّ بهم عمر ، رحمه‌الله ، أهل البصرة عند انتقاض الهرمزان ، فافتتحوا رامهرمز وايذج ، وأعانوهم على تستر وجندى سابور والسوس ، فكتب إليه عمر : إنى قد وليتك حربهم ، يعنى الأعاجم الذين اجتمعوا بنهاوند ، فسر من وجهك هذا حتى تأتى ماه ، فإنى قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها ، فإذا اجتمع إليك جندك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم ، واستنصر الله ، وأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله ، وإن حدث بك حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن.

وفى حديثه : أنه لما استحث أهل الكوفة كان أسرعهم إلى ذلك الوجه الروادف ليبلو فى الدين وليدركوا حظا ، وأن حذيفة بن اليمان خرج بأهل الكوفة أميرا عليهم بأمر عمر حتى ينتهى إلى النعمان ، وخرج معه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان بالطرز ، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النسيسر ، وكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى سلمى بن القين

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٦).


وحرملة بن مريطة ، وزر بن كليب والمقترب بن ربيعة ، والقواد الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم ، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم ، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمرى ، وبعث مجاشع بن مسعود إلى الأهواز ، وقال له : أفصل منها على ماه ، ففعلوا ما أمرهم به ، وقطعوا بذلك على أهل نهاوند أمداد فارس.

وفيه (١) أن النعمان لما أتاه طليحة بخبر نهاوند وأعلمه أنه ليس بينه وبينها أحد ولا شيء يكرهه ، وقد توافى إليه أمداد المدينة ، نادى عند ذلك بالرحيل ، وبعث إلى مجاشع أن يسوق الناس ، وسار النعمان على تعبئته ، وعلى مقدمته أخوه نعيم ، وعلى مجنبتيه أخوه سويد وحذيفة بن اليمان ، وعلى المجردة القعقاع ، وعلى الساقة مجاشع ، فانتهوا إلى الأسبيذهان والفرس به وقوف على تعبئتهم وأميرهم الفيرزان ، وقد توافى إليه نهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس.

فلما رآهم النعمان كبر ثلاثا وكبر الناس معه ، فزلزلت الأعاجم ، وأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال ، وبضرب الفسطاط ، فضرب وهو واقف ، وابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم ، فسبق إليه عدة منهم سابقوا أكفاءهم فسبقوهم ، وهم أربعة عشر رجلا : حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة بن الربيع الكاتب ، وابن الهدير ، وربعى بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميرى ، وجرير البجلى ، والأشعث بن قيس ، والأقرع بن عبد الله الحميرى ، وسعيد بن قيس الهمدانيّ ، ووائل بن حجر ، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء.

وأنشب النعمان القتال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس ، والحرب بينهم فى ذلك سجال ، ثم انحجزوا فى خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون ، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار ، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج ، فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم ، وأحبوا المناجزة ، فتجمع أهل الرأى من المسلمين ، وأتوا النعمان فى ذلك فوافقوه وتروى فى الذي رووا فيه ، فقال : على رسلكم ، لا تبرحوا ، ثم بعث إلى من بقى ممن لم يأته من أهل النجدات والرأى فى الحرب ، فتوافوا إليه ، فتكلم النعمان ، فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن ، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا ، ولا يقدر المسلمون على انغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم ، وهم

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٨).


يرون ما المسلمون فيه من التضايق ، فما الرأى الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المناجزة؟.

فقال بعض المسلمين : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم ، فدعهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم.

فردوا جميعا عليه رأيه ، وقالوا : إنا لعلى يقين من إنجاز ربنا موعده ، فما لنا وللمطاولة حتى لا نجد منها بدا؟.

وتكلم (١) عمرو بن معدى كرب ، يومئذ ، فلم يوافقهم قوله الذي قال ، وردوه عليه.

وقال طليحة : أما أنا فأرى أن نبعث خيلا مؤدية ، فيحدقوا بهم ، ثم يراموهم ليحمشوهم وينشبوا القتال ، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم أرزت إلينا خيلنا تلك استطرادا ، فإنا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم ، وإنا إذا فعلنا ورأوا ذلك منا طمعوا فى هزيمتنا ولم يشكوا فيها ، فخرجوا فجادونا وجاددناهم ، حتى يقضى الله فينا وفيهم ما أحب.

فأمر (٢) النعمان القعقاع ، صاحب المجردة ، بذلك ففعل ، وأنشب القتال ، فأنغضهم فلما خرجوا نكص ، ثم نكص ، ثم نكص ، فاغتنمتها الأعاجم ، ففعلوا كما ظن طليحة وخرجوا ، فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب ، وجعلوا يركبون القعقاع حتى أرزا إلى الناس ، وانقطع القوم من حصنهم بعض الانقطاع ، والنعمان والمسلمون على تعبئتهم فى يوم الجمعة وفى صدر النهار ، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمى ، وأقبل المشركون عليهم يثفنونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات ، وشكا الناس ذلك بعضهم إلى بعض ، ثم قالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما لقى الناس؟ فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس فى قتالهم ، فقال النعمان : رويدا رويدا ، تروا أمركم ، فقال المغيرة : لو أن هذا الأمر إلىّ علمت ما أصنع ، فقال النعمان : رويدا ترى أمرك ، فقد كنت تلى الأمر فتحسن ، ولا يخذلنا الله وإياك ، ونحن نرجو فى المكث مثل الذي ترجو فى الحث.

وجعل النعمان ينتظر بالكتائب أحب الساعات كانت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القتال أن يلقى فيها العدو ، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الأرواح. فلما كان قريبا من

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٠ ، ١٣١).


تلك الساعة تحشحش النعمان وسار فى الناس على برذون أحوى قريب من الأرض ، فجعل يقف على كل راية فيحمد الله عزوجل ويثنى عليه ويقول : قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور ، وقد أنجز لكم هوادى ما وعدكم وصدوره ، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه ، والله منجز وعده ، ومتبع آخر ذلك أوله ، واذكروا ما مضى إذ أنتم أذلة ، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه ، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة ، والذي لهم فى ظفركم وعزكم ، والذي عليهم فى هزيمتكم وذلكم ، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم ، وما أخطرتم وما أخطروا لكم ، فأما ما أخطروا لكم فهذه الزينة وما ترون من هذا السواد ، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم ، ولا سواء ما أخطرتم وأخطروا ، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم ، وأتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء ، فإنكم بين خيرين تنتظرون إحدى الحسنيين ، من بين شهيد حى مرزوق ، أو فتح قريب وظفر يسير ، فكفى كل رجل ما يليه ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فإذا قضيت أمرى فاستعدوا ، فإنى مكبر ثلاثا ، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليجمع عليه رداءه ، وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإنى حامل إن شاء الله ، فاحملوا معا ، اللهم أعز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.

وفى رواية (١) إنه قال : اللهم إنى أسألك أن تقر عينى بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ، ثم اقبضنى بعد ذلك على الشهادة ، أمنوا يرحمكم الله ، فأمنا وبكينا.

فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف رجع إلى موقفه ، فكبر الأولى والثانية والثالثة ، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة ينحى بعضهم بعضا عن سننه ، وحمل النعمان وحمل الناس ، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب ، فالتقوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشد منها قتالا ، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما ، يزلق الناس والدواب ، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين فى الزلق فى الدماء ، منهم النعمان أميرهم ، زلق فرسه فى الدماء فصرعه ، فأصيب عند ذلك ، رحمه‌الله ، وتناول الراية منه قبل أن تقع أخوه نعيم بن مقرن ، وسجى النعمان بثوب ، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه ، وكان اللواء مع حذيفة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٢).


وقال المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم ؛ لئلا يهن الناس ، فاقتتلوا حتى إذا أظلم الليل عليهم انكشف المشركون وذهبوا ، والمسلمون ملظون بهم ، فعمى على المشركين قصدهم ، فتركوه وأخذوا نحو اللهب وهو الخندق الذي كانوا أنزلوا دونه ، فوقعوا فيه ، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون ، سوى من قتل منهم فى المعركة ، وهم أعداد الذين هووا ، ولم يفلت إلا الشريد ، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فى المعركة ، فهرب نحو همدان فى ذلك الشريد ، فتبعهم نعيم بن مقرن ، وقدم القعقاع فأدركه حين انتهى إلى ثنية همدان ، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقورة عسلا ، فحبسه على أجله ، فقتله على الثنية بعد ما امتنع ، لم يزل يتوقل فى الجبل لما غشيه إذ لم يجد مساغا ، وتوقل القعقاع فى أثره حتى أخذه ، واستاق العسل وما خالطه من سائر الأحمال ، فأقبل به ، وسميت تلك الثنية بذلك : ثنية العسل. وقال القعقاع فى ذلك :

قولا لأصرام بأكناف الجبل

بأن لله جنودا من عسل

تقتل أحيانا بأسياف الأجل

ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همدان فدخلوها والخيل فى آثارهم ، فنزلوا عليها وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم على أن يضمن لهم همدان ودستى ، وأن لا يؤتى المسلمون منهم ، فقبل المسلمون ذلك وأجابوا إليه ، وآمنوهم فأقبل كل من كان هرب ، ولما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همدان قد أخذت ، ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو اقتدوا بخسروشنوم ، فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا ، فأجمعوا على إتيانه ، فخدعهم دينار ، وكان ملكا إلا أنه كان دون أولئك الملوك ، وأتى إلى المسلمين فى الديباج والحلى ، فأعطاهم حاجتهم واحتمل لهم ما أرادوا ، فعاقدوه عليهم ، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول فى أمره ، فقيل لأجل ذلك : ماه دينار ، فنسبت إليه ، وذهب حذيفة بها ، وكان النعمان بن مقرن قد عاهد بهراذان على مثل ذلك ، فقيل : ماه بهراذان ، فنسبت إليه لأجل ذلك ، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فحاصرها فافتتحها ، فنسبت إلى النسير.

وفى غير هذا الحديث (١) أن أهل نهاوند خرجوا ذات يوم على المسلمين فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم ، وتبع سماك بن عبيد العنسى رجلا منهم معه نفر ثمانية على أفراس لهم ، فبارزهم فلم يبرز له أحد منهم إلا قتله حتى أتى عليهم ، ثم حمل الفارسى الذي كانوا معه فأسره سماك وأخذ سلاحه ، ووكل به رجلا ، فقال : اذهبوا بى إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٥ ، ١٣٦).


أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض وأؤدى إليه الجزية ، واسألنى أنت عن أسارك ما شئت ، وقد مننت علىّ إذ لم تقتلنى ، وإنما أنا عبدك الآن ، وإن أدخلتنى على الملك فأصلحت ما بينى وبينه وجدت لى شكرا ، وكنت لى أخا ، فخلى سبيله وآمنه ، وقال : من أنت؟ قال : أنا دينار ، والبيت يومئذ فى آل قارن ، فأتى به حذيفة فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ، وصالحه على الخراج ، فنسبت إليه ماه ، فكان بعد يواصل سماكا ويهدى له ، ويوافى الكوفة ، فقدمها فى إمارة معاوية مرة ، فقال للناس : يا معشر أهل الكوفة ، إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس ، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان ، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع : بخل وخب وغدر وضيق ، ولم تكن فيكم واحدة منهن ، فرمقتكم ، فإذا ذلك فى مولديكم ، فعلمت من أين أتى ذلك ، وإذ الخب من قبل النبط ، والبخل من قبل فارس ، والغدر من قبل خراسان ، والضيق من قبل الأهواز.

وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة وغيره ، ولأهل المسالح جميعا من فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة ؛ لأنهم كانوا ردءا للمسلمين ، وكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف ، وسهم الراجل ألفين ، ونفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء ، ودفع ما بقى منها إلى السائب ، فخرج بها إلى عمر ، وتململ عمر ، رضي‌الله‌عنه ، تلك الليلة التي كان قدر لملاقاتهم ، وجعل يخرج ويلتمس الخبر ، فبينا رجل من المسلمين قد خرج فى بعض حوائجه ، فرجع إلى المدينة ليلا ، لحق به راكب فى الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة ، فقال له الرجل : يا عبد الله ، من أين أقبلت؟ فقال : من نهاوند ، فقال : الخبر؟ قال : فتح الله على النعمان واستشهد ، واقتسم المسلمون فيء نهاوند ، فأصاب الفارس منه ستة آلاف ، وطواه الراكب حتى انغمس فى المدينة ، فلما أصبح الرجل تحدث بحديثه ، ونمى الخبر حتى بلغ عمر ، رحمه‌الله ، وهو فيما هو فيه ، فأرسل إليه ، فسأله فأخبره ، فقال : صدق وصدقت ، هذا غيثم بريد الجن ، وقد رأى بريد الإنس ، فقدم بعد ذلك عليه بالفتح طريف بن سهم ، أخو ربيعة بن مالك ، وقدم السائب على أثره بالأخماس.

وذكر من حديث السفطين قريبا مما تقدم فى الحديث الآخر ، إلا أنه ذكر فيه أنه صرف معه السفطين من فوره وقال له : النجاء النجاء ، عودك على بدئك حتى تأتى حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليه ، وأنه أصاب الفارس منهما لما باعهما حذيفة وقسم ثمنهما أربعة آلاف.


وفى بعض ما ذكره الطبرى (١) عن سيف عن شيوخه أن انبعاث الأعاجم للاجتماع بنهاوند كان بدؤه فى زمان سعد بن أبى وقاص بالكوفة ، وإليه بلغ الخبر فأعلم به عمر ، ثم انبرى لسعد قوم تشكوا منه ظالمين له إلى عمر ، أحدهم الجراح بن سنان الأسدي ، فاستقدمه عمر مع محمد بن مسلمة ، بعد أن وجه محمدا لسؤال أهل الكوفة عنه ، والطواف به على مساجدها ، فكلهم يقول إذا سئل : لا نعلم إلا خيرا ، ولا نشتهى به بدلا ، إلا الجراح وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون ، يتعمدون ترك الثناء ، ولا يسوغ لهم قول الشر ، حتى انتهوا إلى بنى عبس ، فقال محمد : أنشد الله رجلا علم حقا إلا قاله. فقال أسامة بن قتادة : اللهم إذ نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية ، ولا يعدل فى الرعية ، ولا يغزو فى السرية. فقال سعد : اللهم إن كان قالها كاذبا رياء وسمعة فأعم بصره ، وأكثر عياله ، وعرضه لمضلات الفتن. فعمى ، واجتمع عنده عشر بنات ، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها ، فإذا غير عليه يقول : دعوة سعد الرجل المبارك.

ثم أقبل سعد يدعو على أولئك النفر الذين انبروا له وخرجوا إلى عمر متشكين به ، فقال : اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فأجهد بلاءهم ، ففعل الله ذلك بهم ، فقطع جراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن على ليغتاله بساباط ، وشدخ قبيصة بالحجارة ، وقتل أربد بالوجء وبنعال السيوف. وقال سعد : والله إنى لأول رجل هراق دما فى المشركين ، ولقد جمع لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه ، وما جمعهما لأحد قبلى ، ولقد رأيتنى خمس الإسلام ، وبنو أسد تزعم أنى لا أحسن أصلى وأن الصيد يلهينى. وخرج محمد بن مسلمة به وبهم حتى قدموا على عمر ، فقال : يا سعد ، ويحك! كيف تصلى؟ فقال : أطيل الأوليين ، وأحذف الأخريين ، فقال : هكذا الظن بك ، ثم قال : لو لا الاحتياط لكان سبيلهم بيننا ، ثم قال : من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال : عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، فأقره عمر واستعمله.

قال (٢) : فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها فى زمان سعد ، وأما الوقعة ففى زمان عبد الله.

وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد ، فتوافوا إلى نهاوند مائة وخمسين ألف مقاتل ، واجتمعوا على الفيرزان ، وإليه كانوا توافوا ، ثم قالوا : إن محمدا الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضا ، يريدون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٢).


غرض فارس ، إلا فى غارة تعرض لهم فيها ، وإلا فيما يلى بلادهم من السواد ، ثم ملك عمر فطال ملكه وغرض ، حتى تناولكم وانتقضكم السواد والأهواز وأوطأها ، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس فى عقر دارهم ، وهو آتيكم إن لم تأتوه ، وقد أخذ بيت مملكتكم فاقتحم بلاد ملككم ، وليس بمنته حتى تخرجوا من فى بلادكم من جنوده وتقلعوا هذين المصرين ، ثم تشغلوه فى بلاده وقراره ، فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا ، وكتبوا بينهم به كتابا.

وبلغ الخبر سعدا ، فكتب به إلى عمر ، ثم لقيه بالخبر مشافهة لما شخص إليه ، وقال:إن أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح إليهم ومبادرتهم الشدة ، وكان عمر منعهم من الانسياح فى الجبل ، ثم كتب إليه عبد الله بن عبد الله بمن اجتمع منهم ، وقال : إن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة ، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك عليهم ، وبعث بكتابه مع قريب بن ظفر العبدى.

فلما قرأ عمر الكتاب قال للرسول : ما اسمك؟ قال : قريب ، قال : ابن من؟ قال : ابن ظفر ، فتفاءل إلى ذلك ، وقال : ظفر قريب إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ونودى فى الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وحينئذ وافاه سعد ، فتفاءل أيضا إلى سعد بن مالك ، وقام عمر على المنبر خطيبا ، فأخبر الناس الخبر ، واستشارهم ، وقال : هذا يوم له ما بعده من الأيام ، ألا وإنى قد هممت بأمر وإنى عارضه عليكم ، فاسمعوه ثم أجيبونى وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، ولا تكثروا ولا تطلبوا ، فتفشغ بكم الأمور ، ويلتوى عليكم الرأى ، أفمن الرأى أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا واسطا بين المصرين ، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب؟.

فقام عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف فى رجال من أهل الرأى من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لا نرى ذلك ، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأمرك ، وبإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم ومن قد فض جموعهم وقتل ملوكهم وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذا ، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك ، فأذن لهم ، واندب إليهم ، وادع لهم ، فقام على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، فقال : أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأى ، وفهموا ما كتب به إليك ، وإن هذا الأمر لم يبن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا لقلة هو دينه الذي أظهر ، وجنده الذي أعز وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ ، ونحن على موعود من الله سبحانه ، والله منجز وعده ، وناصر جنده ، ومكانك منهم مكان


النظام من الخرز يجمعه ويمسكه ، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ، ثم لم تجتمع بحذافيره أبدا ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيز بالإسلام ، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة ، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم ، ومن لم يحفل بمن هو أجمع من هؤلاء وأحد وأجد فليأتهم الثلثان وليقم الثلث ، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم.

فسر عمر ، رحمه‌الله ، بحسن رأيهم ، وأعجبه ذلك منهم. وقام سعد فقال : خفض عليك يا أمير المؤمنين ، فإنهم إنما جمعوا لنقمة نازلة بهم.

وبالوقوف على ما أثبتناه من الأخبار عن هذه الوقعة يعرف ما اتفقت عليه وما اختلفت فيه ، وقد حذفنا منها ما قدرنا الاستغناء عن إيراده مما لعل فى بعضه زيادة فى الخلاف.

وذكر المدائنى أن وقعة نهاوند كانت فى سنة إحدى وعشرين ، وذكر الطبرى (١) أنها كانت فى أول سنة تسع عشرة لست سنين من إمارة عمر ، رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا عن سيف (٢) عن شيوخه ما كتب به النعمان بن مقرن من الأمان لأهل ماه بهراذان ، وحذيفة لأهل ماه دينار ، وكلا الكتابين موافق للآخر لفظا ومعنى ، وكتاب النعمان :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى نعمان بن مقرن أهل ماه بهراذان ، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم ، لا يغيرون على ملتهم ، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم ، ولهم المنعة ما أدوا الجزية فى كل سنة إلى من وليهم ، على كل حالم فى ماله ونفسه على قدر طاقته ، وما أرشدوا ابن السبيل ، وأصلحوا الطرق ، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة ، ووفوا ونصحوا ، فإن غشوا وبدلوا ، فذمتنا منهم بريئة. شهد عبد الله بن ذى السهمين ، والقعقاع بن عمرو ، وجرير بن عبد الله ، وكتب فى المحرم سنة تسع عشرة.

قالوا : وألحق عمر ، رضي‌الله‌عنه ، من شهد نهاوند من الروادف فأبلى بلاء حسنا فاضلا فى ألفين ، ألحقهم بأهل القادسية.

وقال القعقاع بن عمرو فى ذلك :

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١١٤).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٦ ، ١٣٧).


جذعت على الماهات آناف فارس

لكل فتى من صلب فارس حادر

هتكت بيوت الفرس لما لقيتهم

وما كل من يلقى الحروب بثائر

حبست ركاب الفيرزان وجمعه

على قتر من حرها غير فاتر

هدمت به الماهات والدرب بغتة

إلى غاية أخرى الليالى الغوابر

وقال أبو بجيد فى ذلك :

لو أن قومى فى الحروب أذلة

لأخنث عليهم فارس فى الملاحم

ولكن قومى أحرزتهم سيوفهم

فآبوا وقد عادوا حواة المكارم

أبينا فلم نعط الظلامة فارسا

ولكن قبلنا عفو سلم المسالم

ونحن حبسنا فى نهاوند خيلنا

لشر ليال أنتجت للأعاجم

نتجن لهم فينا وعضل سخلها

غداة نهاوند لإحدى العظائم

ملأنا شعابا فى نهاوند منهم

رجالا وخيلا أضرمت فى الضرائم

وأركضهن الفيرزان على الصفا

فلم ينجه منا انفساح المخارم

ذكر الانسياح فى بلاد فارس ، وعمل المسلمين به بإذن عمر

رضي‌الله‌عنه ، فيه بعد منعه إياهم ، وما تبع ذلك من الفتوح

فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم (١)

ولم يزل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، ينهى المسلمين عن الانسياح فى بلاد فارس ، ويأمرهم بالاقتصار على ما فى أيديهم ، والجد فى قتال من قاتلهم ، نظرا للإسلام واحتياطا على أهله وإشفاقا ، ولا يزال أهل فارس يجهدون بعد كل نيل منهم وهزيمة تأتى على جموعهم فى انبعاث جموع أخر ، رجاء الاستدراك لما قد أذن الله فى إقامته ، والإبقاء من أمرهم لما سبقت المشيئة بزواله واستيلاء الإسلام عليه وعلى سواه ، تتميما لنوره ، وإنجازا لموعود رسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وكان بعض أهل الذمة الذين قهرهم الإسلام على الصلح وأقرهم على الجزية ينتقضون عند تحرك أهل فارس ، فسأل عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، وفد أهل البصرة عن ذلك ، وهل يفضى المسلمون إلى أهل الذمة بأذى أو بأمور لها ينتقضون؟ فقالوا : لا نعلم إلا وفاء وحسن ملكة ، قال : كيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٩٤ ـ ١٣٨) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٤٧٦).


به ما يقولون ، إلا ما كان من الأحنف بن قيس ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد ، وأمرتنا بالاقتصار على ما كان فى أيدينا ، وأن ملك فارس حى بين أظهرهم ، وأنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم ، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه ، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم ، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم ، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعن أمته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس.

فقال : صدقتنى والله وشرحت لى الأمر عن حقه ، وأذن عمر عند ذلك فى الانسياح ، وانتهى إلى رأى الأحنف ، وعرف فضله وصدقه ، ورأى أن يزدجرد يبعث عليه فى كل عام حربا إن لم يأذن للناس فى الانسياح فى أرض العجم ، ورأى أن يزدجرد على ما كان فى يدى كسرى ، فوجه عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الأمراء من أهل البصرة ومن أهل الكوفة ، وأمر على كلا المصرين أمراء ، أمرهم بأمره ، وأذن لهم فى الانسياح ، فانساحوا وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدى حليف بنى عبد الأشهل ، فقدم سهيل البصرة بالألوية ، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس ، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع ابن مسعود السلمى ، ولواء اصطخر إلى عثمان بن أبى العاص ، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكنانى ، ولواء كرمان مع سهيل بن عدى ، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو ، ولواء مكران إلى الحكم بن عمرو التغلبى ، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور ، وذلك فى سنة سبع عشرة فى بعض ما ذكره الطبرى عن سيف عن شيوخه. قالوا : فلم يستتب مسيرهم حتى دخلت سنة ثمان عشرة.

وذكر الطبرى أيضا ، عن سيف أن إذن عمر فى الانسياح إنما كان بعد فتح نهاوند ، وهذا لا يكون إلا فى سنة تسع عشرة أو بعدها ، على ما ذكرنا من الاختلاف فى فتح نهاوند.

وذكر أيضا أنه قدمت الألوية من عند عمر ، رحمه‌الله ، إلى نفر بالكوفة ، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن ، وأمره بالمسير نحو همدان ، وكان أهلها كفروا بعد الصلح الذي تقدم ذكره بعد هزيمة فارس بنهاوند ، وقال له : إن فتح الله عليك فما وراءك لك ، فى وجهك كذلك إلى خراسان ، وبعث عقبة بن فرقد وبكير بن عبد الله ، وعقد لهما على أذربيجان وفرقها بينهما ، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان على ميمنتها ، والآخر أن يأخذ إليها من الموصل على ميسرتها ، فتيامن هذا عن صاحبه ، وتياسر هذا ، وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان بلواء ، وأمره أن يسير إلى أصبهان ، وكان شجاعا بطلا ،


من أشراف الصحابة ، ومن وجوه الأنصار ، وأمده بأبى موسى من البصرة ، وأمّر مكانه على البصرة عمر بن سراقة ، وكان عبد الله خليفة سعد على الكوفة عند ما توجه إلى عمر ، فأقره عمر مستعملا عليها ، ثم صرفه عنها بزياد بن حنظلة ، وكتب إليه عند ما أراد توجيهه إلى أصبهان أن سر من الكوفة حتى تنزل المدائن ، فاندبهم ولا تنتخبهم ، ثم اكتب إلىّ بذلك ، فلما أتى عمر انبعاث عبد الله ، بعث حينئذ زياد بن حنظلة على الكوفة ، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم ، أمّر عمار بن ياسر على الكوفة ، وقرأ قول الله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)[القصص : ٥].

ويروى أن زيادا ألح على عمر فى الاستعفاء بعد أن عمل قليلا فأعفاه وولى عمارا ، وكان زياد من المهاجرين.

ولما بعث عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عمارا على الكوفة بعث عبد الله بن مسعود ليعلم الناس ، وكتب إلى أهل الكوفة : إنى بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وجعلت عبد الله ابن مسعود معلما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى رواية : ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى.

وسنذكر إن شاء الله الجهات والكور التي عقد عليها عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الألوية لمن ذكر قبل من أمرائه جهة جهة وبلدا بلدا ، غير متقلدين فى ذلك تاريخا ولا متبرئين فيه من عهدة الخطأ فى تقديم مؤخر أو تأخير مقدم ، لكثرة ما بين أهل الأخبار فى ذلك من الاختلاف الذي لا يتحصل معه حقيقة سوى المقصود من صنع الله لأوليائه فى إظهار كلمة الإسلام ونصره إياهم على كل من ناوأهم من الأمم تتميما لأمره وإنجازا لموعوده وتصديقا فى كل زمان ومكان لقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠].

ذكر الخبر عن أصبهان (١)

فأما أصبهان ، فإن عبد الله بن عبد الله بن عتبان خرج إليها بأمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وعلى مقدمته عبد الله بن ورقاء الرياحى ، وعلى مجنبتيه عبد الله بن بديل بن ورقاء

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٣٩ ـ ١٤١) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٨ ، ٩).


الأسدي ، وليس الخزاعى ، وعصمة بن عبد الله ، وسار عبد الله فى الناس نحو جيّ وقد اجتمع أهل أصبهان عليهم الاستندار ، وعلى مقدمته شهربراز جاذويه ، شيخ كبير فى جمع عظيم ، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق أصبهان ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ودعا الشيخ إلى البراز ، فبرز له عبد الله بن ورقاء ، فقتله وانهزم أهل أصبهان ، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ ، فما زال ذلك اسمه بعد.

ودعى عبد الله من يليه فسارع الاستندار إلى الصلح ، فصالحه عبد الله ، ثم سار من رستاق الشيخ نحو جيّ فانتهى إليها ، وبها يومئذ ملك أصبهان الفاذوسفان فى جمعه ، فحاصرهم عبد الله ، وخرجوا إليه ، فلما التقوا ، قال له ملكهم : لا تقتل أصحابى ولا أقتل أصحابك ، ولكن ابرز إلىّ ، فإن قتلتك رجع أصحابك ، وإن قتلتنى سالمك أصحابى ، وإن كان أصحابى لا تقع لهم نشابة إلا فى رجل ، فبرز له عبد الله ، وقال : إما أن تحمل علىّ ، وإما أن أحمل عليك ، فقال : أحمل عليك ، فوقف له عبد الله ، فحمل عليه الفاذوسفان ، فطعنه ، فأصاب قربوس السرج فكسره ، وقطع اللبد والحزام ، وزال اللبد والسرج ، فوقع عبد الله قائما ، ثم استوى على الفرس عريا ، وقال له : اثبت ، فحاجزه وقال : ما أحب أن أقاتلك ، فإنى قد رأيتك رجلا كاملا ، ولكن ارجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام وأدى الجزية وقام على ماله ، وعلى أن تجرى مجراهم من أخذتم ماله عنوة ويتراجعون ، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه.

فقال له عبد الله : لكم ذلك ، فرجع القوم إلى جيّ ، إلا ثلاثين رجلا من أصبهان خالفوا قومهم ، فخرجوا فلحقوا بكرمان ، ودخل عبد الله وأبو موسى حيا ، مدينة أصبهان ، وإنما وصل إليه أبو موسى من ناحية الأهواز بعد الصلح ، واغتبط من أقام ، وندم من شخص.

وكتب عبد الله بالفتح إلى عمر ، فأمره أن يلحق بسهيل بن عدى فيجتمع معه على قتال من بكرمان ، وأن يستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ، ففعل عبد الله ما أمره به ، وخرج فى جريدة خيل فلحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان ، وسيأتى ذكر فتحها بعد إن شاء الله.

والكتاب الذي كتبه عبد الله لأهل أصبهان :

بسم الله الرحمن الرحيم ، كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وما حواليها ،


إنكم آمنون ما أديتم الجزية ، وعليكم من الجزية على قدر طاقتكم كل سنة تؤدونها إلى الذي يلى بلادكم عن كل حالم ، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة ، وحملان الراجل إلى مرحلة ، ولا تسلطوا على مسلم ، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم ، ولكم الأمان ما فعلتم ، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم ، ومن سب مسلما بلغ منه ، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس ، وعبد الله بن ورقاء ، وعصمة بن عبد الله.

ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم (١)

وقد كان حذيفة اتبع فالة نهاوند نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو ، فبلغا همذان فصالحهم خسروشنوم على همذان ودستبى ، فرجعوا عنه ، ثم إن أهل همذان كفروا بعد ونقضوا ذلك الصلح ، فكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى نعيم بن مقرن : أن سر حتى تأتى همذان ، وابعث على مقدمتك سويد بن مقرن ، وعلى مجنبتيك ربعى بن عامر ومهلهل بن زيد ، هذا طائى ، وذاك تميمى ، فخرج نعيم فى تعبئته فسار حتى نزل مدينة همذان وقد تحصنوا ، فحاصرهم وأخذ ما بينها وبين جرميذان ، واستولى على بلاد همذان كلها.

فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح ، على أن يجريهم ومن استجاب له مجرى واحدا ، ففعل ، وقبل منهم الجزاء على المنعة ، وفرق دستبى بين النفر من أهل الكوفة ، بين عصمة بن عبد الله الضبى ، ومهلهل بن زيد الطائى ، وسماك بن عبيد العبسى ، وسماك ابن مخرمة الأسدي ، وسماك بن خرشة الأنصاري ، فكان هؤلاء أول من ولى مسالح دستبى وقاتل الديلم.

فبينا نعيم فى مدينة همذان فى توطئتها فى اثنى عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الرى وأهل أذربيجان ، ثم خرج موثا فى الديلم حتى ينزل بواج الروذ ، وأقبل أبو الفرخان فى أهل الرى ، حتى انضم إليه ، وأقبل أخو رستم فى أهل أذربيجان حتى انضم إليه ، وتحصن أمراء مسلح دستبى وبعثوا إلى نعيم بالخبر ، فاستخلف يزيد بن قيس ، وخرج إليهم فى الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا ، وقتل القوم مقتلة عظيمة لم تكن دون وقعة نهاوند ، ولا قصرت ملحمتهم عن الملاحم الكبار ، وقد

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٤٦ ـ ١٤٩) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٧ ، ٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٠ ـ ١٢٢).


كانوا كتبوا إلى عمر ، رحمه‌الله ، باجتماعهم ، ففزع عمر واهتم لحربهم ، وتوقع ما يأتيه عنهم ، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة ، فقال : أبشير؟ فقال : بل عروة ، فلما ثنى عليه : أبشير؟ فهم عنه ما أراد ، فقال : بشير ، فقال عمر : رسول نعيم؟ قال : رسول نعيم ، قال : الخبر؟ قال : البشرى بالفتح والنصر ، وأخبره الخبر ، فحمد الله ، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس ، فحمد الله تعالى ، ثم قدم عليه بالأخماس سماك بن مخرمة ، وسماك بن عبيد ، وسماك بن خرشة فى نفر من أهل الكوفة ، فنسبهم ، فانتسبوا له ، فقال : بارك الله فيكم ، اللهم أسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام ، ثم كتب إلى نعيم :

أما بعد ، فاستخلف على همذان وآمد بكير بن عبد الله بن سماك بن خرشة ، وسر حتى تقدم الرى فتلقى جمعهم ، ثم أقم بها ، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.

فأقر نعيم يزيد بن قيس على همذان ، وسار بالناس من واج الروذ إلى الرى.

وقال نعيم يذكر قتالهم فى واج الروذ من أبيات :

صدمناهم فى واجروذ بجمعنا

غداة رميناهم بإحدى القواصم

فما صبروا فى حومة الموت ساعة

لجد الرماح والسيوف الصوارم

أصبنا بها موثا ومن لف جمعه

وفيها نهاب قسمها غير عاتم

تبعناهم حتى أووا فى شعابهم

نقتلهم قتل الكلاب الحوائم

كأنهم عند انثياب جموعهم

جدار تشظى لبنه للهوادم

وقال سماك بن مخرمة الأسدي بعد تلك الأيام (١) :

برزت لأهل القادسية معلما

وما كل من يلقى الكريهة يعلم

وقومى بنو عمرو بن نصر كأنهم

أسود بتوج حين شبوا وأسلموا

ويوم بأكناف النخيلة قبلها

لججت فلم أبرح أدمى وأكلم

وأقعص منهم فارسا بعد فارس

وما كل من يغشى الكريهة يسلم

فنجانى الله الأجل وجرأتى

وسيف لأطراف المآرب مخذم

وحولى بنو ذودان لا يبرحوننى

إذا سرحت صاحوا بهم ثم صمموا

وأيقنت يوم الديلميين أنه

متى ينصرف قومى عن الناس يهزم

محافظة إنى امرؤ ذو حفيظة

إذا لم أجد مستأخرا أتقدم

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٤ / ١٤٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢١).


فتح الرى (١)

وخرج نعيم بن مقرن إلى الرى فلقيه أبو الفرخان مسالما ، ومخلفا بالرى يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام ، وكان سياوخش قد استمد أهل دنباوند وطبرستان وقرمس وجرجان ، وقال : قد علمتم أن هؤلاء إن حلوا بالرى ، إنه لا مقام لكم ، فاحتشدوا له ، فناهد بهم المسلمين ، فالتقوا بسفح جبل الرى الذي إلى جانب مدينتها فاقتتلوا به.

وقد كان أبو الفرخان قال لنعيم : إن القوم كثير وأنتم فى قلة ، فابعث معى خيلا أدخل مدينتهم من مدخل لا يشعرون به ، وناهدهم أنت ، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم من الليل خيلا عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو ، فأدخلهم المدينة ، ولا يشعر القوم ، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم ، فاقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم ، فانهزموا ، فقتلوا مقتلة عدوا فيها بالقصب ، وأفاء الله على المسلمين بالرى نحوا من فيء المدائن ، وصالح أبو الفرخان نعيما على أهل الرى ، فلم يزل بعد شرف الرى فى آله ، وسقط آل بهرام ، وأخرب نعيم مدينة الرى ، وهى التي يقال لها العتيقة ، وأمر أبا الفرخان فبنى مدينة الرى الحدثاء ، وكتب لهم نعيم كتابا أعطاهم فيه الأمان لهم ولمن كان معهم من غيرهم ، على أن على كل حالم من الجزية طاقته فى كل سنة ، وعلى أن ينصحوا ولا يغلوا ولا يسلوا ، ويدلوا المسلم ويقروه يوما وليلة ، ويفخموه ، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة ، ومن ضربه قتل ، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعته.

وراسل عند ذلك نعيما مردانشاه مصمعان نهاوند فى الصلح على شيء يفتدى به من غير أن يسأله النصر والمعونة ، ففعل ذلك نعيم ، وكتب له به ولأهل موضعه كتابا على أن يتقى من ولى الفرج بمائتى ألف درهم فى كل سنة.

وقال أبو بجيد فى يوم الرى :

ألا هل أتاها أن بالرى معشرا

شفوا سقما لما استجاشوا وقتلوا

لها موطنان عاينوا الهلك فيهما

بأيد طوال لم يخنهن مفصل

وخيل تعادى لا هوادة عندها

وزاد وكمت تمتطى ومحجل

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٠ ، ١٥١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢١ ، ١٢٢) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥).


ودهم وشقر تنشر البلق بينها

إذا ناهبت قوما تولوا وأوهلوا

قتلناهم بالسفح مثنى وموحدا

وصار لنا فيها مداد ومأكل

قتلنا سيا وخشا ومن مال ميله

ولم ينج منهم بالسفوح مؤمل

جزى الله خيرا معشر عصبوهم

وأعطاهم خير العطاء الذي ولوا

وقال أيضا :

وبالرى إن سألت بنا أم جعفر

فمنا صدور الخيل والخيل تنفر

إذا حذر الأقرام منهن قارح

تفخمه فى الموت أغيد أزهر

أخو الهيج والروعات إن زفرت به

أناخ إليها صابرا حين يزفر

فتسفر عنها الحرب بعد انصبابها

وفينا البقايا والفعال المسهر

قتلنا بنى بهرام لما تتابعوا

على أمر غاويهم وغاب المسور

وبالسفح موتى لا تطير نسورها

لها فى سواء السفح مثوى ومغبر

ولو لا اتقاء القوم بالسلم أقفرت

بلادهم أو يهربون فيعذروا

خلفناهم بالرى والرى منزل

له جانب صعب هناك معور

ذكر فتح قومس وجرجان

فأما قومس ، فإن عمر ، رحمه‌الله ، كان كتب إلى نعيم بن مقرن حين أعلمه بفتح الرى : أن قدم سويد بن مقرن إلى قومس ، ففصل إليها سويد من الرى فى تعبئته ، فلم يقم له أحد ، فأخذها سلما ، وعسكر بها ، وكاتب الذين لجئوا إلى طبرستان منهم ، والذين أخذوا المفاوز يدعوهم إلى الصلح والجزاء ، وكتب لهم بذلك كتابا (١).

وأما جرجان ، فإن سويدا سار إليها فكاتبه ملكها ، وبدأه بالصلح على أن يؤدى له الجزاء ويكفيه حرب جرجان ، فإن غلب أعانه ، فقبل سويد ذلك منه ، ثم تلقاه قبل أن يدخل جرجان ، فدخلها معه ، وعسكر سويد بها حتى جبى إليه خراجها ، وسمى فروجها ، فسدها بترك دهستان ، ورفع الجزاء عمن أقام بمنعها ، وأخذ الخراج من سائر أهلها ، وكتب سويد بذلك كتابا لملكها رزبان صول وأهل دهستان وسائر أهل جرجان (٢).

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥١ ، ١٥٢) ، الروض المعطار (ص ٤٨٥).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٢ ، ١٥٢) ، تاريخ جرجان (ص ٤٤).


ذكر فتح طبرستان

وراسل الأصبهبذ سويدا فى الصلح على أن يتوادعا ، ويجعل له شيئا على غير نصرة ولا معونة على أحد ، فقبل ذلك منه ، وكتب له :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهبذ خراسان على طبرستان وجبل جيلان ، إنك آمن بأمان الله على أن تكف نصرتك وأهل حواشى أرضك ، ولا تؤوى لنا بغية وتتقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك ، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك ، ولا أن يتطوف أرضك ، ولا يدخل عليك إلا بإذنك ، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة ، وكذلك سبيلكم ، ولا تسألون لنا إلى عدو ولا تغلون ، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم (١).

فتح أذربيجان

ولما (٢) افتتح نعيم همذان ثانية ، وسار إلى الرى كتب إلى عمر : أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري ، وليس بأبى دجانة ، ممدا لبكير بن عبد الله بأذربيجان ، وكان عمر قد فرق أذربيجان بين بكير وبين عتبة بن فرقد ، وأمر كل واحد منهما بطريق غير طريق صاحبه ، فسار بكير حين بعث إليها حتى إذا طلع بحيال جرميذان ، طلع عليه اسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واجروذ ، فكان أول قتال لقيه بكير بأذربيجان ، فاقتتلوا ، فهزم الله جند اسفندياذ وأخذه بكير أسيرا ، فقال له : الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال بكير : بل الصلح ، قال : فأمسكنى عندك ، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم وأراضى لم يقيموا لك ، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان فى حصن تحصن إلى يوم ما ، فأمسكه عنده ، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن ، وقدم سماك على بكير واسفندياذ فى إساره ، وقد افتتح ما يليه ، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.

وتشوفت نفس بكير إلى المضى قدما ، فقال لسماك : إن شئت كنت معى ، وإن شئت أتيت عتبة ، فإنى لا أرانى إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا. فاستأذن عمر ، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب ، وأمره أن يستخلف على عمله ، فاستخلف

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٥٣).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٣ ـ ١٥٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٢) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١١٩ ، ١٢٠).


عتبة على ما افتتح منه ، ودفع إليه اسفندياذ ، فأمر عتبة سماكا على ما استخلفه عليه بكير ، وجمع عمر ، رحمه‌الله ، أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد ، وكان بهرام بن الفرخزاد قد أخذ بطريق عتبة ، وأقام له فى عسكره حتى لحق عتبة فاقتتلوا ، فهزمهم عتبة ، وهرب بهرام ، فلما بلغ الخبر اسفندياذ وهو بعد فى إسار بكير قال : الآن تم الصلح ، وطفئت الحرب ، فصالح بكير ، وأجاب إلى ذلك جميعهم ، وعادت أذربيجان سلما ، وكتب عتبة بينه وبين أهلها كتابا إذ جمع له عمل بكير إلى عمله :

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أعطى عتبة بن فرقد ، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ، أهل أذربيجان ، سهلها وجبلها ، وحواشيها وشعاريها ، وأهل ملكها كلهم من الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم ، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ليس ذلك على صبى ولا على امرأة ولا زمن ليس فى يده من الدنيا شيء ، ولا متعبد متخل ليس فى يديه من الدنيا شيء ، لهم ذلك ولمن سكن معهم ، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته ، ومن حشر منهم فى سنة رفع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك ، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه.

حديث فتح الباب (١)

وبعث عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، سراقة بن عمرو إلى الباب بعد أن رد أبا موسى مكانه إلى البصرة ، وكان سراقة يدعى ذا النور ، وجعل عمر على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة ، وكان أيضا يدعى ذا النور ، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفارى ، وسمى للأخرى بكير بن عبد الله الليثى ، وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه ، وكتب إليه : أن يلحق به ، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة ، فقدم سراقة عبد الرحمن ، وخرج فى الأثر ، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب ، قدم عليه بكير فى أدنى الباب ، فاستدفأ ببكير ، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر ، رحمه‌الله ، وكان ملك الباب يومئذ شهربراز ، رجل من آل شهربراز الملك الذي أفسد بنى إسرائيل وأعرى منهم الشام.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٥ ـ ١٦٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ١٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٢ ، ١٢٣).


فلما أطل عليه عبد الرحمن بن ربيعة بالباب كاتبه شهربراز واستأمنه على أن يأتيه ، فأمنه عبد الرحمن على ذلك ، فأتاه فقال : إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ، لا ينسبون إلى أحساب ، وليس ينبغى لذى العقل والحسب أن يعين أمثال هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب والأصول ، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان ، ولست من الفتح فى شيء ولا من الأرض ، وإنكم قد غلبتم على بلادى وأمتى ، فأنا اليوم منكم يدى مع أيديكم ، وصبرى معكم ، فمرحبا بكم ، وبارك الله لنا ولكم ، وجزيتنا إليكم ، ولكم النصر والقيام بما تحبون ، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم.

فقال عبد الرحمن : فوقى رجل قد أظلك فسر إليه ، فجوزه ، فسار إلى سراقة ، فلقيه بمثل ذلك ، فقال له سراقة : قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه ، ولا بد من الجزاء على من يقيم ولا ينهض ، فقبل ذلك شهربراز ، وصارت سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين ، وفيمن يستنفر من أهل الجزية ، فتوضع عنه جزية تلك السنة التي استنفر فيها.

وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بذلك ، فأجازه وحسنه ، وليس فى تلك البلاد التي فى ساحة الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز ، وإنما بها سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار ، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم ، وجلوا عن قرار أرضهم ، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم.

واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابا بالأمان لشهربراز وسكان أرمينية والأرمن ، على أنفسهم وأموالهم وملتهم ، لا يضارون ولا ينتقضون ، وعلى أهل أرمينية والأبواب ، الطراء منهم والتناء ومن حولهم ، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة ، وينفروا لكل أمر رآه الوالى صلاحا ، ناب أو لم ينب ، على أن توضع على من أجاب إلى ذلك الجزاء ، ومن استغنى منهم فقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزول يوما كاملا ، فإن حشروا وضع ذلك عنهم ، وإن تركوا أخذوا به.

ثم إن سراقة بن عمرو وجه بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة ، وكان عمر أمد به سراقة ، وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بإرمينية ، فوجه بكيرا إلى موقان ، وحبيبا إلى تفليس ، وحذيفة إلى من بجبال اللان ، وسلمان إلى وجه آخر.


وكتب سراقة بالفتح وبالذى وجه فيه هؤلاء إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه سريعا بغير مئونة ، وكان فرجا عظيما به جند عظيم ، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم ، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.

فلما استوثقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة ، رحمه‌الله ، واستخلف عبد الرحمن بن ربعة ، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة ، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكيرا فإنه فض موقان ، ثم تراجع أهلها على الجزية ، فقبل منهم وكتب لهم بها وبأمانهم عليها.

ولما بلغ عمر ، رحمه‌الله ، موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن أقره عمر وأمره بغزو الترك ، فخرج بالناس حتى قطع الباب ، فقال له شهربراز : ما تريد أن تصنع؟ قال : أريد بلنجر ، فقال شهربراز : إنا لنرضى منهم أن يدعونا من وراء الباب ، فقال عبد الرحمن : لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم فى ديارهم ، وبالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الردم ، قال : وما هم؟ قال : أقوام صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخلوا فى هذا الأمر بنية ، وكانوا أصحاب حياء وتكرم فى الجاهلية ، فازداد حياؤهم وتكرمهم ولا يزال هذا الأمر دائما لهم ، والنصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم ، وحتى ينقلوا عن حالهم.

فغزا عبد الرحمن بلنجر غزاة فى زمان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، لم تئم فيها امرأة ولم ييتم صبى ، وبلغت خيله فى غزاته البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر ، ثم غزا فسلم ، ثم غزا غزوات فى زمان عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، ثم أصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة فى إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم ، فلم يصلحهم ذلك وزادهم فسادا ، أن سادهم من طلب الدنيا ، وعضلوا بعثمان ، رضي‌الله‌عنه ورحمه ، حتى جعل يتمثل :

وكنت وعمرا كالمسمن كلبه

فخدشه أنيابه وأظافره

وقال سلمان بن ربيعة (١) : لما دخل عبد الرحمن بن ربيعة عليهم ، يعنى على الترك ، حال الله بينهم وبين الخروج عليه ، وقالوا : ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت ، فتحصنوا منه ، فرجع بالغنم والظفر ، وذلك فى إمارة عمر ، ثم لما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٥٨ ، ١٥٩).


غزاهم غزوات فى زمان عثمان ظفر بهم كما كان يظفر ، حتى إذا تبدل أهل الكوفة ، وذكر بعض ما تقدم من استعمال من ارتد ، وغزاهم بعد ذلك تذمرت الترك وقالوا : انظروا ، وكانوا يقولون إنهم لا يموتون. قال : فاختفوا لهم فى الغياض ، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله ، وهرب عنه أصحابه ، فخرجوا عليه عند ذلك ، فاقتتلوا فاشتد قتالهم ، ونادى مناد من الجو : صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة فقاتل حتى قتل عبد الرحمن وانكشف المسلمون ، وأخذ سلمان بن ربيعة الراية ، فقاتل بها ، ونادى مناد من الجو : صبرا آل سلمان ، فقال سلمان : أو ترى جزعا؟ ثم خرج بالناس وخرج سلمان الفارسى وأبو هريرة الدوسى على جيلان ، فقطعوها إلى جرجان ، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن ، فما زالوا بعد يستسقون به.

وجعل عثمان ، رحمه‌الله ، يغزيها مع حبيب بن مسلمة.

وحدث مطر بن ثلج التيمى قال : دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده ، فأقبل رجل عليه شحوب حتى جلس إلى شهربراز ، فتساءلا ، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن : أيها الأمير ، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ إنى بعثته منذ سنتين نحو السند لينظر لى ما حاله ومن دونه ، وزودته مالا عظيما ، وكتبت له إلى من يلينى ، وأهديت له ، وسألته أن يكتب إلى من وراءه ، وزودته لكل ملك هدية ، ففعل ذلك بكل ملك بينى وبينه ، حين انتهى إليه ، حتى انتهى إلى الملك الذي السد فى ظهر أرضه ، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد ، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه. فذكر أنه أحسن إلى البازيار وقال : فتكشر لى البازيار.

فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود ، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما ، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده ، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه ، ثم ذهبت لأنصرف ، فقال لى البازيار : على رسلك ، أكافئك ، إنه لا يلى ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا ، فيرمى به فى هذا اللهب ، فشرح بضعة لحم معه ، فألقاها فى ذلك الهوى ، وانقضت عليها العقاب ، وقال : إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء ، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء ، فخرجت علينا العقبان باللحم فى مخالبها ، وإذا فيها ياقوتة ، فأعطانيها ، وهى هذه. فتناولها منه شهربراز وهى حمراء فناولها عبد الرحمن ، فنظر إليها ثم ردها إليه ، فقال شهربراز : لهذه خير من هذه البلد ، يعنى الباب ، وايم الله لأنتم أحب إلىّ ملكة من آل كسرى ، ولو كنت فى سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها منى ، وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر.


فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال : ما حال الردم وما شبهه؟ فقال : هذا الثوب الذي على هذا الرجل ، وأشار إلى مطر بن ثلج ، وكان عليه قباء برود يمنية أرضة حمراء ووشيه أسود أو وشيه أحمر وأرضه سوداء ، فقال مطر : صدق والله الرجل ، لقد نفذ ورأى ، قال عبد الرحمن : أجل ، ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) إلى آخر الآية [الكهف : ٩٦] ، وقال عبد الرحمن لشهربراز : كم كانت هديتك؟ قال : قيمة مائة ألف فى بلادى هذه ، وثلاثة آلاف ألف وأكثر فى تلك البلدان.

ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان

ودخول الأحنف إليها غازيا (١)

ذكروا أن يزدجرد لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الرى ، وقد جعل له محمل يطيق ظهر بعيره ، وكان إذا سار نام ولم يعرس بالقوم ، فانتهى به إلى مخاضة وهو نائم فى محمله ، فأنبهوه ليعلم ، ولئلا يفزع إن هو استيقظ إذا خاض البعير به ، فعنفهم على إنباهه وقال : بئس ما صنعتم ، والله لو تركتمونى لعلمت ما مدة هذه الأمة ، إنى رأيت أنى ومحمدا ، يعنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تناجينا عند الله تعالى فقال له : أملككم مائة سنة ، فقال : زدنى ، فقال : عشرا ومائة ، فقال : زدنى ، فقال : عشرين ومائة سنة ، فقال : زدنى ، فقال : لك. وأنبهتمونى ، ولو تركتمونى لعلمت.

فلما انتهى إلى الرى ، وثب عليه آبان جاذويه ، وكان على الرى ، حينئذ ، فأخذه ، فقال له يزدجرد : يا آبان جاذويه ، تغدر بى! فقال : لا ولكن قد تركت ملكك وصار فى يدى غيرك ، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شيء ، وما أردته من غير ذلك ، وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم ، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه ، ثم ختم عليها ورد الخاتم ، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء فى كتابه.

ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع خرج يزدجرد من الرى إلى أصبهان وكره جوار آبان ولم يأمنه ، ثم عزم على كرمان ، فأتاها ومعه النار ، فأراد أن يضعها فى كرمان ، ثم عزم على خراسان ، فأتى مرو فنزلها وقد نقل النار ، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا ، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان ، فاطمأن فى نفسه وأمن أن يؤتى ، وكاتب من مرو من بقى من الأعاجم حيث لم يفتتحه المسلمون ، فدانوا له ، حتى إذا ثار

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٦٦ ـ ١٧٣) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢).


أهل فارس والفيرزان فنكثوا ، وثار أهل الجبال والفيزران فنكثوا ، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الانسياح ، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا فى الأرض ، فخرج الأحنف إلى خراسان ، فأخذ على مهرجان نقذف ، ثم خرج على أصبهان ، وأهل الكوفة محاصرو جيّ ، فدخل خراسان من الطبسين ، فافتتح هراة عنوة ، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدى ، ثم سار نحو مرو الشاهجان ، وأرسل إلى نيسابور ، وليس دونها قتال ، مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وإلى سرخس الحارث بن حسان.

فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مروالروذ حتى نزولها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد إلى خاقان وملك الصغد وصاحب الصين يستمدهم ويستعين بهم ، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان ، واستخلف عليها حارثة ابن النعمان الباهلى بعد ما لحقت به أمداد الكوفة ، على أربعة أمراء : علقمة بن النضر النضرى ، وربعى بن عامر التميمى ، وعبد الله بن أبى عقيل الثقفى ، وابن أم غزال الهمدانيّ ، وبلغ يزدجرد خروج الأحنف سائرا نحوه فخرج إلى بلخ ، ونزل الأحنف مروالروذ ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ، واتبعهم الأحنف ، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فهزمه الله بهم ، وتوجه فى أهل فارس إلى النهر فعبروا ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتح الله عليهم ، وتتابع أهل خراسان ممن شذ وتحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ، وعاد الأحنف إلى مروالروذ فنزلها ، واستخلف على طخارستان ربعى بن عامر ، وهو الذي يقول له النجاشى ونسبه إلى أمه ، وكان من أشراف العرب :

ألا رب من تدعو فتى ليس بالفتى

ألا إن ربعى بن كأس هو الفتى

طويل قعود القوم فى قعر بيته

إذا شبعوا من ثقل جفنته سقى

وكتب الأحنف بفتح خراسان إلى عمر ، رحمه‌الله ، فقال : لوددت أنى لم أكن بعثت إليها جندا ، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار ، فقال على ، رضي‌الله‌عنه : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : لأن أهلها سينقضون ثلاث مرات ، فيجتاحون فى الثالثة ، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلىّ من أن يكون بالمسلمين.

وكتب عمر إلى الأحنف : أما بعد ، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه ، وقد عرفتم بأى شيء دخلتم خراسان ، فدوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر ، وإياكم وإياكم أن تغيروا فتنقضوا.


ولما بلغ رسول يزدجرد إلى خاقان لم يستتب له إنجاده حتى عبر إليه النهر مهزوما ، وقد استتب له ذلك ، والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك ، فأقبل فى الترك ، وحشر أهل فرغانة والصغد ، ثم خرج بهم ، وخرج يزدجرد راجعا إلى خراسان حتى عبر النهر إلى بلخ ، وعبر معه خاقان ، فأرز أهل فارس إلى الأحنف بمروالروذ ، وجاء المشركون حتى نزلوا بها عليه ، وكان حين بلغه عبورهم قاصدين له ، خرج ليلا فى عسكره يتسمع فى ليلة مظلمة هل يسمع برأى ينتفع به؟ فمر برجلين ينقبان علفا ، إما تبنا وإما شعيرا ، وأحدهما يقول لصاحبه : لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا ، والجبل فى ظهورنا لئلا يأتونا من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عزوجل. فرجع الأحنف واجتزأ بها.

فلما أصبح جمع الناس وقال : إنكم قليل وإن عدوكم كثير ، فلا يهولنكم ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل ، فاجعلوه فى ظهوركم ، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم ، وقاتلوهم من وجه واحد ، ففعلوا ، وقد أعدوا ما يصلحهم ، والأحنف فى عشرة آلاف من أهل البصرة ، وأهل الكوفة نحو منهم ، وأقبلت الترك ومن اجتلبت حتى نزلوا بهم ، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله.

وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل حتى علم علمهم ، ثم خرج ليلة طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان فوقف ، فلما كان فى وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه وضرب طبله ، ثم وقف من العسكر موقفا مثله ، فحمل عليه الأحنف ، فاختلفا طعنتين ، فطعنه الأحنف فقتله ، وهو يرتجز :

إن على كل رئيس حقا

أن يخضب الصعدة أو تندقا

إن لها شيخا بها ملقا

سيف أبى حفص الذي تبقى

ثم وقف موقف التركى وأخذ طوقه ، ثم خرج آخر من الترك ، ففعل فعل صاحبه ، ثم وقف دونه ، فحمل عليه الأحنف ، فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :

إن الرئيس يرتبى ويطلع

ويمنع الخلاء إذا ما أرتعوا

ثم وقف موقف التركى الثانى ، وأخذ طوقه ، ثم خرج ثالث من الترك ، ففعل فعل صاحبه ، ووقف دون الثانى منهما ، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين ، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :


جرى الشموس ناجزا بناجز

محتفلا فى جريه مشارز

ثم انصرف الأحنف إلى عسكره ، ولا يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء ، كلهم يضرب بطلبه ثم يخرجوا بعد خروج الثالث ، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث ، فأتوا على فرسانهم مقتلين ، فتشاءم خاقان وتطير ، وقال : قد طال مقامنا ، وقد أصيب هؤلاء بمكان لم يصب بمثله قط أحد منا ، فما لنا فى قتال هؤلاء القوم من خير ، فانصرفوا بنا ، فكان وجههم راجعين ، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا ، فأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ ، فقال المسلمون للأحنف : ما ترى فى اتباعهم؟ فقال : أقيموا بمكانكم ودعوهم.

وكان يزدجرد لما نزل بمروالروذ خرج إلى مرو الشاهجان فتحصن منه حارثة بن النعمان ومن معه ، فحاصرهم واستخرج خزائنه من مواضعها ، وخاقان ببلخ مقيم له ، فلما جمع يزدجرد ما كان فى يديه مما وضع بمرو ، فأعجل عنه وأراد أن يستقل منها ، إذا أمر عظيم من خزائن أهل فارس ، فقال له أهل فارس : أى شيء تريد أن تصنع؟ فقال : أريد اللحاق بخاقان ، فأكون معه أو بالصين ، فقالوا له : مهلا ، فإن هذا رأى سوء ، إنك إنما تأتى قوما فى مملكتهم وتدع أرضك وقومك ، ولكن ارجع إلى هؤلاء القوم ، يعنون المسلمين ، فنصالحهم ، فإنهم أوفياء وأهل دين ، وهم يلون بلادنا ، وإن عدوا يلينا فى بلادنا أحب إلينا ملكه من عدو يلينا فى بلاده لا دين لهم ولا ندرى ما وفاؤهم ، فأبى عليهم وأبوا عليه ، فقالوا : فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها ، فأبى ، فقالوا : إنا لا ندعك.

فاعتزلوه وتركوه فى حاشيته ، فاقتتلوا ، فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر ، فاعترضهم المسلمون والمشركون يثفنونه ، فقاتلوه ، وأصابوا فى آخر القوم ، وأعجلوه عن الأثقال ، ومضى مزايلا حتى يقطع النهر إلى فرغانة والترك ، فلم يزل مقيما بقية زمان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يكاتبهم ويكاتبونه ، أو من شاء الله منهم ، إلى أن كان زمن عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، فكفر أهل خراسان ، فأقبل حتى نزل مرو ، فكان من أمره إلى حين مقتله ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله.

وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه ، ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال ، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا فى زمان الأكاسرة ، فكانوا كأنهم فى ملكهم ، إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم ، فاغتبطوا ، وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.


ولما سمع خاقان وهو والترك ببلخ ما لقى يزدجرد ، وأن الأحنف خرج مع المسلمين من مروالروذ نحوه ، ترك بلخ وعبر النهر ، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ ، ونزل أهل الكوفة فى كورها الأربع ، ثم رجع إلى مروالروذ فنزل بها ، وكتب بالفتح الذي صنع الله فى خاقان ويزدجرد إلى عمر ، رحمه‌الله ، وبعث إليه بالأخماس ، ووفد الوفود.

ولما عبر خاقان النهر ، وعبرت معه حاشية آل كسرى ، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد ، لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعثه إلى ملك الصين ، وأهدى إليه معه ، ومعه جواب كتاب يزدجرد من ملك الصين ، فسألوه عما وراءه ، فقال : لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون ، وأراهم هديته ، وأجاب يزدجرد بهذا الكتاب بعد أن كان قال لى : قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم ، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم ، فإنى أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم ، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم ، فقلت : اسألنى عما أحببت ، فقال : أيوفون بالعهد؟ قلت : نعم ، قال : وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت : يدعوننا إلى واحدة من ثلاث : إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم ، أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة.

قال : فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت : أطوع قوم لمرشدهم ، قال : فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته ، فقال : أيحرمون ما حلل لهم ، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت : لا ، قال : فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم ، ثم قال : أخبرنى عن لباسهم ، فأخبرته ، وعن مطاياهم ، فقلت : الخيل العراب ، ووصفتها ، فقال : نعمت الحصون هذه ، ووصفت له الإبل ، بركها وانبعاثها بحملها ، فقال : هذه صفة دواب طوال الأعناق.

وكتب معه إلى يزدجرد : إنه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علىّ ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو خلى سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف ، فسالمهم وأرض منهم بالسلامة ، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك.

فأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة على عهد من خاقان ، ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، من قبل الأحنف ، جمع الناس وخطبهم ، وأمر بكتاب الفتح فقرئ عليهم ، وقال فى خطبته : إن الله تبارك وتعالى


ذكر رسوله وما بعثه به من الهدى ، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة ، فقال عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٣] ، فالحمد لله الذي أنجز وعده ، ونصر جنده ، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم ، لينظر كيف تعملون ، ألا وإن المصرين اليوم من مسالحها كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد وقد وغلوا فى البلاد ، والله بالغ أمره ، ومنجز وعده ، ومتبع آخر ذلك وأوله ، فقوموا فى أمره على رجل يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ، ولا تغيروا فيستبدل الله بكم قوما غيركم ، فإنى لا أخاف على هذه الأمة أن يؤتوا إلا من قبلكم.

وسيأتى بعد إن شاء الله ما كان من انتقاض خراسان وغيرها فى خلافة عثمان ، رضي‌الله‌عنه.

ونذكر الآن بقية فتوح أهل البصرة الذين عقد لهم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عند الإذن لهم فى الانسياح على ما تقدم.

فتح توج

قالوا (١) : وخرج أهل البصرة الذين وجهوا أمراء على فارس ، ومعهم سارية بن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك ، وأهل فارس مجتمعون بتوج ، فلم يصمدوا بجمعهم ، ولكن قصد كل أمير منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها ، وبلغ ذلك أهل فارس ، فتفرقوا إلى بلدانهم ليمنعوها كما تفرق المسلمون فى القصد إليها ، فكانت تلك هزيمة أهل فارس ، تشتت أمورهم وتفرقت جموعهم ، فتطيروا من ذلك كأنما ينظرون إلى ما صاروا إليه ، فقصد مجاشع بن مسعود فيمن معه من المسلمين لسابور وأردشير خره ، فالتقوا بتوج مع أهل فارس ، فاقتتلوا ما شاء الله عزوجل ، ثم إن الله عزوجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة ، وبلغوا منهم ما شاءوا ، وغنمهم ما فى عسكرهم فحووه.

وهذه توج الآخرة ، لم يكن لها بعدها شوكة ، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء بن الحضرمى أيام طاوس ، والوقعتان متساجلتان.

ثم دعوا بعد هزيمتهم هذه الآخرة إلى الجزية والذمة ، فتراجعوا وأقروا وخمس مجاشع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٧٤ ، ١٧٥).


الغنائم ، وبعث بخمسها ، ووفد وفدا ، وقد كانت البشرى والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم ، لسنة جرت بذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدث عاصم بن كليب ، عن أبيه قال : خرجنا مع مجاشع غازين توج ، فحاصرناها وقاتلناهم ما شاء الله ، فلما افتتحناها حوينا نهبا كثيرا ، وقتلنا قتلى عظيمة ، فكان علىّ قميص قد تخرق ، فأخذت إبرة وسلكا ، فجعلت أخيط قميصى بها ، ثم إنى نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته ، فأتيت به الماء ، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه ، فلبسته ، فلما جمعت الرثة ، قام مجاشع خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس لا تغلوا ، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة ، ردوا ولو المخيط ، فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته فى الأخماس.

وفى ذلك يقول مجاشع (١) :

ونحن ولينا مرة بعد مرة

بتوج أبناء الملوك الأكابر

لقينا جنود الماهيان بسحرة

على ساعة تلوى بأيدى الخطائر

فما فتئت خيلى تكر عليهم

ويلحق منها لاحق غير جائر

لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم

وقد عولجوا بالمرهفات البواتر

وكان كذاك الدأب فى كل كورة

أجابت لإحدى المنكرات الكبائر

حديث اصطخر

قالوا (٢) : وقصد عثمان بن أبى العاص لاصطخر ، فالتقى هو وأهلها بجور فاقتتلوا ما شاء الله ، ثم فتح الله على المسلمين جور واصطخر ، فقتلوا ما شاء الله ، وتفرق من تفرق ، ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة ، فراسلوه وراسلهم ، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى ، فتراجعوا وباحوا بالجزاء ، وجمع عثمان حين هزمهم ما أفاء الله عليهم فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر ، رحمه‌الله ، وقسم الباقى فى الناس ، وعف الجند عن النهاب ، وأدوا الأمانة ، واستدقوا الدنيا ، فجمعهم عثمان ثم قام فيهم ، وقال : إن هذا الأمر لا يزال مقبلا وأهله معافون مما يكرهون ما لم يغلوا ، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم.

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الروض المعطار (ص ١٤٣).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٧٥ ـ ١٧٧) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢٠ ، ٢١) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٢٢ ، ١٢٣).


وعن الحسن قال : قال عثمان بن أبى العاص يوم اصطخر : إن الله عزوجل إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم ، فاحفظوها ، فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، فإذا فقدتموها جدد لكم فى كل يوم فقدان شيء من أموركم.

ثم إن شهرك خلع فى آخر إمارة عمر أو أول إمارة عثمان ، رحمهما‌الله ، ونشط فارس ودعاهم إلى النقض ، فوجه إليه عثمان بن أبى العاص ثانية ، وبعث معه جنودا أمد بهم عليهم عبيد الله بن معمر ، وشبل بن معبد ، فالتقوا بفارس ، فقال شهرك لابنه وهو فى المعركة ، وبينهم وبين قرية لهم تدعى ري شهر ثلاثة فراسخ ، وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخا : يا بنى ، أين ترى أن يكون غداؤنا هنا أو بريشهر؟ فقال : يا أبت ، إن تركونا فلا يكون غداؤنا هنا ولا بريشهر ، ولا يكون إلا فى المنزل ، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل فيه شهرك وابنه وقتل من المشركين مقتلة عظيمة ، وولى قتل شهرك الحكم بن أبى العاص أخو عثمان بن أبى العاص.

وذكر الطبرى عن أبى معشر : أن اصطخر الآخرة كانت سنة ثمان وعشرين ، وذلك فى وسط إمارة عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا بسنده إلى عبيد الله بن سليمان قال : كان عثمان بن أبى العاص أرسل إلى البحرين ، فأرسل أخاه الحكم فى ألفين إلى توج ، وكان كسرى قد فر عن المدائن ، ولحق بجور من أرض فارس.

قال الحكم : فقصد إلى شهرك ، وكان كسرى أرسله ، فهبطوا من عقبة ، عليهم الحديد ، فخشيت أن تغشى أبصار الناس ، فأمرت مناديا فنادى : أن من كانت له عمامة فليلقها على عينه ، ومن لم يكن له عمامة فليغمض بصره ، وناديت : أن حطوا عن دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا ، ثم ناديت : أن اركبوا ، وصففنا لهم ، وركبوا ، فجعلت الجارود العبدى على الميمنة ، وأبا صفرة ، يعنى أبا المهلب ، على الميسرة ، فحملوا على المسلمين فهزموهم حتى ما أسمع لهم صوتا ، فقال لى الجارود : أيها الأمير ، الجند! فقلت : إنك سترى أمرك ، فما لبثنا أن رجعت خيلهم ، ليس عليهم فرسانهم ، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم ، فنثرت الرءوس بين يدى ، وأتيت برأس ضخم ، وكان معى بعض ملوكهم فارق كسرى ولحق بى ، فقال : هذا رأس الازدهاق ، يعنون شهرك ، فحوصروا فى مدينة سابور ، فصالحهم الحكم ، وكان ملكهم آذربيجان ، فاستعان به الحكم على قتال أهل اصطخر.


وقال يزيد بن الحكم بن أبى العاص يذكر اصطخر الآخرة :

أنا ابن عظيم القريتين كليهما

نمتنى إلى العليا الفروع الفوارع

لنا مجد بطحاوى ثقيف وغالب

إذا عد بطحاواهما والد سائع

لنا الحسب العود الذي لا تناله

عيون العدى والحاسدات الدواسع

أبى سلب الجبار بيضة ملكه

فخر وأطراف الرماح شوارع

بمعترك ضنك به قصد القنى

وهام وأيد تختليها القواطع

بأيدى سراة كلهم باع نفسه

فأوفوا بما باعوا وأوفى المبايع

هم المؤمنون الواردو الموت فى الوغى

كما ترد الماء العطاش النوائع

نجاهد فى نصر لخير شريعة

إذا ذكرت يوم الحساب الشرائع

سمونا لزحف المشركين بوقعة

بها رد مال الجزية المتتابع

تركنا من القتلى نثارا تعودها

نسور تراماها الضباع الجوامع

جثى من عظام المشركين كأنها

تلوح من الرأى البعيد صوامع

تركنا سباع الأرض والطير منهم

شباعا وما فيها إلى الحول جائع

حديث فسا ودارابجرد (١)

قالوا (٢) : وقصد سارية بن زنيم لفسا ودارابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم ، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله ، ثم إنهم استمدوا ، فتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس ، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير ، فرأى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النهار ، فنادى من الغد ، الصلاة جامعة ، حتى إذا كان فى الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم ، وكان أريهم والمسلمين بصحراء ، وإن أقاموا فيها أحيط بهم وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ، ثم قام فقال : أيها الناس ، إنى رأيت هذين الجمعين ، وأخبر بحالهما ، ثم قال : يا سارية ، الجبل الجبل ، ثم أقبل عليهم ، فقال : إن لله عزوجل جنودا ، ولعل بعضها أن يبلغهم ، ولما كان تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل ، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد ، فهزمهم الله لهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، وباستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٧٨ ، ١٧٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٣٠ ـ ١٣٢) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢١ ، ٢٢).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٧٨ ، ١٧٩).


وعن رجل من بنى مازن قال : كان عمر ، رحمه‌الله ، قد بعث سارية بن زنيم الدؤلى إلى فسا ودارابجرد فحاصرهم ، ثم إنهم تداعوا فأصحروا له ، وكثروه وأتوه من كل جانب ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وهو يخطب فى يوم جمعة : يا سارية بن زنيم ، الجبل الجبل.

وفى غير هذا الحديث : ثم عاد عمر فى خطبته فعجب الناس لندائه سارية على بعده ، فقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه فى ذلك الوقت موافقين للمشركين ، وقد ضايقهم المشركون من كل جانب ، وإلى جانب المسلمين جبل ، إن لجئوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد ، فسمعوا صوتا يقول : يا سارية بن زنيم ، الجبل الجبل ، كما قال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وفى ذلك الوقت بعينه ، فلجئوا إلى الجبل ، فنجوا وهزموا عدوهم وأصابوا مغانم كثيرة.

قال المازنى فى حديثه : إن سارية أصاب فى المغانم سفطا فيه جوهر ، فاستوهبه المسلمون لعمر ، فوهبوه له ، فبعث به وبالفتح رجلا ، وقال له : استقرض ما تبلغ به وما تخلفه فى أهلك على جائزتك ، وكان الرسل والوفد يجازون ، فقدم الرجل البصرة ففعل ، ثم خرج فقدم على عمر ، رحمه‌الله ، فوجده يطعم الناس ، ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره ، فقصده ، فأقبل عليه بها ، فقال : اجلس ، فجلس حتى إذا أكل انصرف عمر ، وقام الرجل فاتبعه ، فظن عمر أنه رجل لم يشبع ، فقال حين انتهى إلى باب داره : ادخل ، فلما جلس فى البيت أتى بغذائه ، خبز وزيت وملح وجريش ، فوضع له ، ثم قال للرجل : ادن فكل ، فأكلا.

حتى إذا فرغ قال له الرجل : رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين ، فقال : مرحبا وأهلا ، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته ، ثم سأله عن المسلمين ، ثم سأله عن سارية ، فأخبره ، ثم أخبره بقصة الدرج ، فنظر إليه ثم صاح به وقال : لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم ، وطرده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى قد أنضبت إبلى واستقرضت على جائزتى ، فأعطنى ما أتبلغ به ، فما زال عنه حتى أبدله بعيرا ببعيره من إبل الصدقة ، وأخذ بعيره فأدخله فى إبل الصدقة ، ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما حتى قدم البصرة ، فنفذ لما أمره به عمر ، رحمه‌الله ، وقد كان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح ، وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال : نعم سمعنا : يا سارية ، الجبل الجبل. وقد كدنا نهلك ، فلجأنا إليه ففتح الله علينا.


حديث فتح كرمان

قالوا (١) : وقصد سهيل بن عدى إلى كرمان ، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، وعلى مقدمته سهيل بن عدى النسير بن عمرو العجلى ، وقد حشد له أهل كرمان ، واستعانوا بالقفس ، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم ، ففضهم الله تعالى ، فأخذوا عليهم بالطريق ، وقتل النسير مرزبانها ، ودخل سهيل من قبل طريق القرى إلى جيرفت ، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير ، فأصابوا ما شاءوا من بعير أو شاة ، فقدموا الإبل والغنم فتحاصوها وأخروا البخت لعظم البخت على العرب ، وكرهوا أن يزيدوا. وكتبوا إلى عمر ، فأجابهم : إن البعير العربى إنما قوم ببعير اللحم ، وذلك مثله ، فإذا رأيتم أن للبخت فضلا فزيدوا.

وذكر المدائنى أن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى فى خلافة عمر بن الخطاب ، ثم أتى الطبسين من كرمان ، ثم قدم على عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى افتتحت الطبسين فاقطعنيهما ، فأراد أن يفعل ، فقيل لعمر : إنهما رستاقان عظيمان ، فلم يقطعه إياهما ، وهما بابا خراسان.

فتح سجستان

قالوا (٢) : وقصد عاصم بن عمرو لسجستان ، ولحقه عبد الله بن عمير ، فالتقوا هم وأهل سجستان فى أدنى أرضهم ، فهزموهم ثم اتبعوهم ، حتى حصروهم بزرنج ومخر المسلمون أرض سجستان ما شاء الله ، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين ، فأعطاهم ذلك المسلمون ، وكان فيما اشترطوا من صلحهم أن فدافدها حمى ، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج ، فكانت سجستان أعظم من خراسان شأنا ، وأبعد فروجا ، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة ، وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ.

فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين ، وأكثرها عددا وجندا حتى كان زمن معاوية ، فهرب الشاه من أخيه ، رتبيل ، إلى بلد فيها يدعى آمل ، ودانوا لسلم بن زياد وهو يومئذ على سجستان ، ففرح بذلك وعقد لهم ، وأنزلهم تلك البلاد ، وكتب إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨٠).

(٢) انظر الخبر فى : (٤ / ١٨٠ ، ١٨١) ، الروض المعطار (ص ٣٠٥).


معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه ، فقال معاوية : إن ابن أخى ليفرح بأمر إنه ليحزننى وينبغى له أن يحزنه ، قالوا : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق ، وهؤلاء قوم غدر نكر ، فيضطرب الجبل غدا ، فأهون ما يجىء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها.

وتم لهم على عهد ابن زياد ، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه ، وخلت آمل ، وخافه أخوه فاعتصم منه بمكانه الذي هو به ، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع فى زرنج فغزاها ، فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة.

قالوا : وسار رتبيل والذين جاءوا معه فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم ، وقد كانت البلاد مذللة إلى أن مات معاوية ، رحمه‌الله.

فتح مكران

قالوا (١) : وقصد الحكم بن عمرو التغلبى لمكران ، حتى انتهى إليها ، ولحق به شهاب بن مخارق بن شهاب ، فانضم إليه ، وأمده سهيل بن عدى ، وعبد الله بن عتبان بأنفسهما ، فانتهوا إلى دوين النهر ، وقد انفض أهل كرمان إليه حتى نزلوا على شاطئه ، فعسكروا ، وعبر إليهم راسل ملكهم ، ملك السند ، فازدلف بهم يستقبل المسلمين ، فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام ، فهزم الله راسلا وسلبه ، وأباح المسلمين عسكره ، وقتلوا فى المعركة من المشركين مقتلة عظيمة ، واتبعوهم يقتلونهم أياما ، حتى انتهوا إلى النهر.

ثم رجعوا فأقاموا بمكران ، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح ، وبعث بالأخماس مع صحار العبدى ، واستأمره فى الفيلة ، فقدم صحار على عمر ، رحمه‌الله ، فسأله عن مكران ، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجىء منه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أرض سهلها جبل ، وماؤها وشل ، وتمرها دقل ، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل ، والكثير بها قليل ، والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها ، فقال عمر ، رحمه‌الله : أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال : بل مخبر ، فقال : لا والله ، لا يغزوها لى جيش ما أطعت ، وكتب إلى الحكم وإلى سهيل : أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما ، واقتصر على ما دون النهر ، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٨١ ، ١٨٢) ، الروض المعطار (ص ٥٤٣ ، ٥٤٤).


حديث بيروذ

قالوا (١) : ولما فصلت الجنود إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، قد عهد إلى أبى موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهى إلى حد ذمة البصرة ، كى لا يؤتى المسلمون من خلفهم ، وخشى أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف أو يخلف فى أعقابهم ، فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا ، فخرج أبو موسى حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذي تجمع بها ، وذلك فى رمضان ، فنزل على جمع لهم منعة ، فالتقوا بين نهرى تيرى ومناذر ، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد ليكيدوا المسلمين ، أو ليصيبوا منهم عورة ، ولم يشكوا فى واحدة من اثنتين.

فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقل فقال لأبى موسى : أقسم على كل صائم إلا رجع فأفطر ، فرجع أخوه فيمن رجع لإبراء القسم ، وذلك الذي أراد المهاجر أن يرجع أخوه لئلا يمنعه من الاستقتال ، وتقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، وفرق الله عزوجل المشركين حتى تحصنوا فى قلة وذلة ، وأقبل الربيع بن زياد ، أخو المهاجر ، فاشتد حزنه عليه ، ورق له أبو موسى للذى رآه دخله من مصاب أخيه ، فخلفه عليهم ، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان ، فلقى بها جنود أهل الكوفة محاصرين جيّ ، ثم انصرف إلى البصرة وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهرتيرى ، فهزمهم وجمع السبى والأموال ، فتنقى أبو موسى ستين غلاما من أبناء الدهاقين وعزلهم ، وبعث بالفتح إلى عمر ، رحمه‌الله ، ووفد وفدا ، فجاءه رجل من عنزة يقال له : ضبة بن محصن ، فقال : اكتبنى فى الوفد ، فقال : قد كتبنا من هو أحق منك ، فانطلق مغاضبا مراغما ، وكتب أبو موسى إلى عمر بقصة الرجل.

فلما قدم الكتاب بالفتح والوفد على عمر قدم العنزى فأتى عمر فسلم عليه ، فقال : من أنت؟ فأخبره ، فقال : لا مرحبا ولا أهلا ، فقال : أما المرحب فمن الله ، وأما الأهل فلا أهل ، فاختلف إليه ثلاثا ، يقول هذا ويرد عليه هذا ، حتى إذا كان اليوم الرابع فدخل عليه ، فقال له : ما نقمت على أميرك؟ فقال : تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه ، وله جارية تدعى عقيلة ، تغذى جفنة وتعشى جفنة ، وليس منا رجل يقدر على ذلك ، وله قفيزان ، وله خانان ، وفوض إلى زياد ، وكان زياد هو ابن أبى سفيان ، يلى أمور البصرة ، وأجاز الحطيئة بألف.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨٣ ـ ١٨٥).


فكتب عمر ، رحمه‌الله ، كل ما قال ، وبعث إلى أبى موسى ، فلما قدم حجبه أياما ، ثم دعا به ، ودعا ضبة بن محصن ، ودفع إليه الكتاب ، فقال : اقرأ ما كتبت ، فقرأ : أخذ ستين غلاما لنفسه ، فقال أبو موسى : دللت عليهم ، وكان لهم فداء ففديتهم ، فأخذته فقسمته بين المسلمين ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، وقرأ : له قفيزان ، فقال أبو موسى : قفيز لأهلى أقوتهم به ، وقفيز فى أيديهم للمسلمين ، يأخذون به أرزاقهم ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر ، وعلم أن ضبة قد صدقه.

قال : وزياد يلى أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلى ، قال أبو موسى : وجدت له نبلا ورأيا ، فأسندت إليه عملى. قال : وأجاز الحطيئة بألف. قال : سددت فمه بمالى أن يشتمنى ، فقال : قد فعلت ما فعلت ، فرده عمر ، رحمه‌الله ، وقال : إذا قدمت فأرسل إلىّ زيادا وعقيلة ، ففعل ، فقدمت عقيلة قبل زياد ، وقدم زياد فأقام بالباب ، فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان ، فقال : ما هذه الثياب؟ فأخبره ، فقال : كم أثمانها؟

فأخبره بشيء يسير ، وصدقه ، فقال له : كم عطاؤك؟ قال : ألفان ، قال : ما صنعت بأول عطاء خرج لك؟ فقال : اشتريت به والدتى فأعتقتها ، واشتريت فى الثانى ربيبى عبيدا فأعتقته ، فقال : وفقت ، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن ، فوجده فقيها ، فرده ، وأمر أمراء البصرة أن يستعينوا برأيه ، وحبس عقيلة بالمدينة.

وقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : ألا إن ضبة بن محصن غضب على أبى موسى فى الحق أن أصابه ، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا ، فصدق عليه وكذب ، فأفسد كذبه صدقه ، فإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى النار.

وكان الحطيئة قد لقيه فى غزاة بيروذ ، وكان أبو موسى ابتدأها فحاصرهم حتى فلهم ثم جازاهم ووكل بهم الربيع ، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم.

ومن مدح الحطيئة فى أبى موسى :

وغارة كشعاع الشمس مشعلة

تهوى بكل صبيح الوجه بسام

قب البطون من التعداء قد علمت

أن كل عام عليها عام الجام

مستحقبات رواياها جحافلها

يسمو بها أشعرى طرفه سامى

لا يزجر الطير إن مرت به سنحا

ولا ياض له قسم بأزلام

جمعت من عامر فيها ومن أسد

ومن تميم وذبيان ومن حام


وما رضيت لهم حتى رفدتهم

من وائل رهط بسطام بإصرام

فى متلف طائعا لله محتسبا

يرجو ثواب كريم العفو رحام

غزوة سلمة بن قيس الأشجعى الأكراد

ذكر الطبرى (١) من طريقين ، كلاهما ينمى إلى سليمان بن بريدة ، واللفظ فى الحديثين متقارب ، وربما كان فى أحدهما زيادة على الآخر ، وأحدهما عن سيف بن عمر ، وفيه : أن سليمان بن بريدة قال : لقيت رسول سلمة بن قيس الأشجعى ، فقال : كان عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، إذا اجتمع له جيش من العرب ، بعث عليهم رجلا من أهل العلم والفقه ، فاجتمع إليه جيش ، فبعث سلمة بن قيس ، فقال : سر باسم الله ، قاتل فى سبيل الله من كفر بالله ، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال : ادعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا واختاروا دارهم فعليهم فى أموالهم الزكاة ، وليس لهم فى فيء المسلمين نصيب ، وإن اختاروا أن يكونوا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم ، وإن أبوا فسلوهم الخراج ، فإن أعطوكموه فقاتلوا عدوكم من ورائهم ، وفرغوهم لخراجهم ، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فإن الله ناصركم عليهم ، وإن تحصنوا منكم فى حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تعطوهم على حكم الله ورسوله ، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم ، وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله ، وأعطوهم ذمم أنفسكم ، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا.

قال : فلقينا عدونا من المشركين من الأكراد ، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين من الإسلام ، فأبوا ، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا ، فقاتلناهم ، فنصرنا عليهم ، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة ، فوجد فيها سلمة حقى جوهر ، فجعلهما فى سقط ، ثم قال : إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا ، فإن طابت أنفسكم به لأمير المؤمنين بعثت به إليه ، فإن له بردا ومؤونة ، فقالوا : نعم ، قد طابت أنفسنا ، فبعثنى سلمة ، يعنى بالخبر والسفط ، إلى أمير المؤمنين.

قال : فدفعت إليه ضحى والناس يتغدون وهو متكئ على عصا كهيئة الراعى فى غنمه يطوف فى تلك القصاع يقول : يا يرفاء ، زد هؤلاء لحما ، زد هؤلاء خبزا ، زد هؤلاء

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٨٦ ـ ١٩٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٣٢ ، ١٣٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢٥).


مرقة ، فلما دفعت إليه قال : اجلس ، فجلست فى أدانى الناس ، فإذا طعام فيه خشونة وغلظ ، طعامى الذي معى أطيب منه ، فلما فرغ الناس قال : يا يرفاء ، ارتفع قصاعك ، ثم أدبر واتبعته ، فدخل داره ثم دخل حجرته ، فاستأذنت وسلمت ، فأذن لى ، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا ، فنبذ إلىّ إحداهما ، فجلست عليها ، فقال : يا أم كلثوم ، غداءنا ، فجاءوا إليه بقصعة فيها خبز وزيت فى عرضها ملح لم يدق ، فقال لى : كل ، فأكلت قليلا ، وأكل حتى فرغ ، ما رأيت رجلا أحسن أكلا منه ، ما يتليس طعامه بيده ولا فمه ، ثم قال : اسقونا ، فجاءوا بغس ، فقال : اشرب ، فشربت قليلا ، شرابى الذي معى أطيب منه ، فأخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ، وقال : إنك لضعيف الأكل والشرب ، ثم قال : الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا ، وسقانا فأروانا.

قال : قلت : قد أكل أمير المؤمنين فشبع ، وشرب فروى ، حاجتى يا أمير المؤمنين ، قال : وما حاجتك؟ قلت : أنا رسول سلمة بن قيس ، فقال : مرحبا بسلمة وبرسوله ، وكأنما خرجت من صلبه ، قال : حدثني عن المهاجرين ، كيف هم؟ قلت : كما تحب من السلامة والظفر على العدو ، قال : كيف أسعارهم؟ قلت : أرخص أسعار ، قال : كيف اللحم فيهم؟ فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها ، قلت : البقرة بكذا ، والشاة بكذا ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين ، فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا ، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا ، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم ، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية ، وجمعنا الرثة ، وخرج له عن الحديث كله حتى انتهى إلى السقط وأخرجه إليه.

قال : فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر ، وثب وجعل يديه فى خاصرتيه ، وقال : لا أشبع الله إذا بطن عمر! وظن النساء أنى قد اغتلته ، فكشفن الستر ، فقال : يا يرفاء ، جأ عنقه ، فوجأ عنقى وأنا أصيح ، فقال : النجاء ، وأظنك ستبطئ ، أما والذي لا إله غيره لئن تفرق الناس إلى مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك فاقرة ، قلت : يا أمير المؤمنين ، ابدع بى فاحملنى ، قال : يا برفاء ، اعطه راحلتين من الصدقة ، فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه ، قلت : نعم ، وارتحلت حتى أتيت سلمة ، فقلت : ما بارك الله لى فيما اختصصتنى به ، اقسم هذا فى الناس قبل أن أفضح والله وتفضح. قال : فقسمه فيهم قبل التفرق إلى مشاتيهم ، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم ، وهو خير من عشرين ألفا.


وقد تقدم قبل فى فتح فسا ودرابجرد خبر لرسول سارية بن زنيم شبيه بهذا الخبر ، فالله تعالى أعلم.

وذكر الطبرى غزوة سلمة بن قيس هذه فى سنة ثلاث وعشرين ، وهى السنة التي قتل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى آخرها ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه

إلى حين مقتله

لم يزل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قائما على أمر الله ، مجتهدا فيه ، مجاهدا لأعدائه متعرفا منه سبحانه ، من المعونة والتأييد وجميل الكفاية والعناية والصنع ما وطأ له البلاد ودوخ الممالك ، وألقى إليه مقاليد الأمم من الفرس والروم والترك والأكراد وغيرهم من الأمم والأجيال الذين تقدم ذكرهم ، وأنجز الله فى مدة خلافته معظم ما وعد به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفتوح ، وجمع إليه أكثر ما زواه له من الأرض ، وتغلغلت جنوده فى الآفاق عند ما أذن لها فى الانسياح ، حتى أمرهم آخر إمارته بالإقصار ، والكف احتياطا على المسلمين ونظرا للإسلام ، وأقبل عند ما أذن لهم فى ذلك على الدعاء ، وتتبع آثار العمال بالعيون والنصحاء فى السر والعلانية ، وتفقد الناس فى الشرق والغرب ، إلى أن أتته منيته المحتومة ، بالشهادة المقدرة له فى مصلاه ، على ما يأتى الذكر له إن شاء الله تعالى.

وقد ورد فى غير موضع من الآثار ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاستشهاده مخبرا وداعيا ، وهو الداعى المجاب ، والصادق المصدوق ، صلوات الله وبركاته عليه.

وروى عن عوف بن مالك الأشجعى أنه رأى فى المنام على عهد أبى بكر ، رحمه‌الله تعالى ، كأن الناس جمعوا ، فإذا فيهم رجل قد علاهم ، فهو فوقهم بثلاثة أذرع ، قال : فقلت : من هذا؟ قالوا : عمر ، قلت : ولم؟ قالوا : لأن فيه ثلاث خصال : لا يخاف فى الله لومة لائم ، وإنه خليفة مستخلف ، وشهيد مستشهد ، قال : فأتى أبا بكر فقصها عليه ، فأرسل أبو بكر إلى عمر ليبشره ، قال : فجاء ، فقال لى أبو بكر : اقصص رؤياك ، فلما بلغت : خليفة مستخلف ، زبرنى عمر وانتهرنى ، وقال : اسكت ، تقول هذا وأبو بكر حى.

قال : فلما كان بعد وولى عمر ، مررت بالشام وهو على المنبر ، فدعانى فقال : اقصص


رؤياك ، فقصصتها ، فلما قلت : إنه لا يخاف فى الله لومة لائم ، قال : إنى لأرجو أن يجعلنى الله منهم ، فلما قلت : خليفة مستخلف ، قال : قد استخلفنى ، فأسأله أن يعيننى على ما ولاني ، فلما ذكرت : شهيد مستشهد ، قال : أنّى لى الشهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو؟ ثم قال : بلى ، يأتى الله بها أنّى شاء ، يأتى الله بها أنّى شاء.

وكان عمر ، رحمه‌الله ، ملازما للحج فى سنى خلافته كلها ، وكان من سيرته أن يأخذ عماله بموافاته كل سنة فى موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية ، ويحجر عليهم الظلم ، ويتعرف أحوالهم فى قرب ، وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم فيه. فلما كانت السنة التي قتل منسلخها ، رضي‌الله‌عنه ، خرج إلى الحج على عادته ، وأذن لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجن معه ، فلما وقف عمر ، رحمه‌الله ، يرمى الجمرة أتاه حجر فوقع على صلعته فأدماه ، وثم رجل من بنى لهب ، قبيلة من الأزد ، تعرف فيها العيافة والزجر ، وإياها عنى القائل :

تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم

وقد رد علم العالمين إلى لهب

فقال اللهبى عند ما أدمى عمر ، رحمه‌الله : أشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدها.

ويروى عن عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، وحجت مع عمر تلك الحجة : أنه لما ارتحل من الحصبة أقبل رجل متلثم ، قالت : فقال وأنا أسمع : أين كان منزل أمير المؤمنين؟ فقال قائل : هذا كان منزله ، فأناخ فى منزل عمر ، ثم رفع عقيرته يتغنى :

عليك السلام من أمير وباركت

يد الله فى ذلك الأديم الممزق

فمن يسع أو يركب جناحى نعامة

ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

بوائق فى أكمامها لم تفتق

قالت عائشة : فقلت لبعض أهلى : اعلموا لى من هذا الرجل ، فذهبوا ، فلم يجدوا فى مناخه أحدا ، قالت عائشة : فو الله إنى لأحسبه من الجن ، فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد.

وقال سعيد بن المسيب : لما صدر عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، من منى أناخ بالأبطح ، ثم كوم كومة بطحاء ، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ، ثم مد يديه إلى السماء ، فقال : اللهم كبرت سنى ، وضعفت قوتى ، وانتشرت رعيتى ، فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط ، ثم قدم المدينة ، فخطب الناس فقال : أيها الناس ، قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.


قال سعيد : فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل ، رحمه‌الله.

وروى عن عمر ، رحمه‌الله ، أنه لما انصرف من حجته هذه التي لم يحج بعدها وانتهى إلى ضجنان ، وقف فقال : الحمد لله ولا إله إلا الله ، يعطى من يشاء ما يشاء ، لقد كنت بهذا الوادى أرعى إبلا للخطاب ، وكان فظا غليظا يتعبنى إذا عملت ، ويضربنى إذا قصرت ، وقد أصبحت وأمسيت وليس بينى وبين الله أحد أخشاه ، ثم تمثل :

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويودى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه

والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجرى الرياح له

والإنس والجن فيما بينها برد

أين الملوك التي كانت نوافلها

من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب

لا بد من ورده يوما كما وردوا

ثم إن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بعد أن قدم المدينة من حجه خرج يوما يطوف بالسوق ، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وكان نصرانيا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعدنى على المغيرة ، فإن علىّ خراجا كثيرا ، قال : وكم خراجك؟ قال : درهمان فى كل يوم ، قال : وأيش صناعتك؟ قال : نجار ، نقاش ، حداد ، قال : فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال ، قال : وبلغنى أنك تقول : لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح لفعلت ، قال : نعم ، قال : فاعمل لى رحا ، قال : لئن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب ، ثم انصرف عنه ، فقال عمر : لقد توعدنى العلج آنفا ، ثم انصرف عمر إلى منزله.

فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اعهد ، فإنك ميت فى ثلاثة أيام ، قال : وما يدريك؟ قال : أجده فى كتاب الله ، التوراة ، فقال عمر : آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال : اللهم لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك ، بأنه قد فنى أجلك ، وعمر لا يحس وجعا ولا ألما ، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال : يا أمير المؤمنين ، ذهب يوم وبقى يومان ، ثم جاء من بعد الغد فقال : ذهب يومان وبقى يوم وليلة ، وهى لك إلى صبحها ، فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة ، وكان يوكل بالصفوف رجالا ، فإذا استوت أخبروه فكبر ، ودخل أبو لؤلؤة فى الناس فى يده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه ، فضرب به عمر ست ضربات ، إحداهن تحت سرته ، هى التي قتلته ، فلما وجد عمر حر السلاح سقط ، وقال : دونكم الكلب فإنه قتلنى ، وماج الناس وأسرعوا إليه ، فجرح منهم ثلاثة عشر رجلا ، حتى جاء رجل منهم فاحتضنه من خلفه ،


وقيل : ألقى عليه برنسا ، فقيل : إنه لما أخذ قتل نفسه. وقال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عند ما سقط : أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، هو ذا ، قال : تقدم فصل بالناس. قال : فصلى عبد الرحمن بن عوف ، وحمل عمر إلى منزله ، فدعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال : إنى أريد أن أعهد إليك ، قال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، أتشير علىّ بذلك؟ قال : اللهم لا ، قال : والله لا أدخل فيه أبدا ، قال : فهبنى صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، ادع لى عليا وعثمان والزبير وسعدا ، قال : وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا ، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم ، أنشدك الله يا على إن وليت من أمر الناس شيئا أن تحمل بنى هاشم على رقاب الناس ، وأنشدك يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بنى أبى معيط على رقاب الناس ، وأنشدك يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس ، قوموا فتشاوروا ، ثم اقضوا أمركم ، وليصل بالناس صهيب ، وأمرهم أن يحضر معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له فى الأمر شيء.

ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ، فقال : قم على بابهم لا تدع أحدا يدخل إليهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان ، أن يحسن إلى محسنهم ، وأن يتجاوز عن مسيئهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بالعرب ، فإنها مادة الإسلام ، أن تؤخذ صدقات أغنيائهم فتوضع فى فقرائهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ، اللهم هل بلغت ، تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الراحة ، يا عبد الله بن عمر ، اخرج فانظر من قتلنى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، قال : الحمد لله الذي لم يجعل منيتى بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ، يحاجنى بلا إله إلا الله ، يا عبد الله ، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر ، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحرب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، يا عبد الله ، ائذن للناس ، فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ، ويقول لهم : أعن ملأ منكم كان هذا؟

فيقولون : معاذ الله ، ودخل فى الناس كعب ، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول :

وأوعدنى كعب ثلاثا أعدها

ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بى حذار الموت إنى لميت

ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب

فقيل له : لو دعوت الطبيب ، فدعى له طبيب من بنى الحارث بن كعب ، فسقاه نبيذا فخرج مشكلا ، فقال : اسقوه لبنا ، فخرج اللبن أبيض ، فقال له الطبيب : لا أرى أن تمسى ، فما كنت فاعلا فافعل. وفى رواية أنه قيل له عند ذلك : يا أمير المؤمنين ، اعهد ،


قال : قد فرغت ، وقال لعبد الله ابنه : يا عبد الله ، اذهب إلى عائشة ، فاسألها أن تأذن لى أن أدفع مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر. وفى رواية أنه قال له : اذهب إلى عائشة فقل لها : إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإنى لست اليوم بأمير المؤمنين ، فذهب إليها عبد الله فوجدها تبكى ، فذكر لها ذلك ، فقالت : نعم ، قد كنت أردته لنفسى ولأوثرنه اليوم على نفسى ، فرجع إليه عبد الله وهو متطلع إليه ، فقال : ما قالت لك؟ قال : أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان علىّ أمر أهم من هذا ، فإذا أنا مت فاغسلنى ، ثم احملنى ، وأعد عليها الاستئذان ، فإذا أذنت وإلا فاصرفنى إلى مقابر المسلمين.

فلما توفى ، رحمه‌الله ورضى عنه ، خرجوا به ، فصلى عليه صهيب ، ودفن فى بيت عائشة ، رضي‌الله‌عنه وعنها.

ويروى أنه لما احتضر قال ورأسه فى حجر ابنه عبد الله ، رضي‌الله‌عنهما :

ظلوم لنفسى غير أنى مسلم

أصلى الصلاة كلها وأصوم

وكان مقتله لأربع بقين من ذى الحجة من سنة ثلاث وعشرين ، وقيل : لثلاث بقين منه ، وقيل : إن وفاته كانت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.

ونزل فى قبره عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص ، وقيل : صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد.

واختلف فى مبلغ سنه يوم توفى ، وأشهر ما فى ذلك أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة ، وأنه استوفى عدة خلافته سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي توفى لها ، وسن أبى بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنهما.

ويروى عن عامر الشعبى أنه لما طعن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، دخل عليه عبد الله بن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أبشر بالجنة ، فقال : ما تقول؟ قال : اللهم نعم ، أسلمت حين كفر الناس ، وقاتلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خذله الناس ، ومات نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنك راض ، ولم يختلف فى خلافتك رجلان ، ثم قتلت شهيدا ، فقال عمر : والله إن من تغرونه لمغرور ، والله لو أن لى ما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.

وعن ابن عباس أيضا قال : لما وضع عمر فى أكفانه ، اكتنفه الناس يصلون عليه


ويدعون ، فإذا أنا برجل قد زحمنى من خلفى ، فنظرت ، فإذا على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، فقام فدعا له وترحم عليه ، ثم قال : والله ما أصبح أحد أحب إلىّ من أن ألقى الله بمثل صحيفته منك ، وإنى لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك ؛ لأنى كثيرا ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خرجت أنا وأبو بكر وعمر» ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وفعلت أنا وأبو بكر وعمر» (١) ، فإنى أرجوا أن يجعلك الله مع صاحبيك.

وذكر عبد الله بن مسعود يوما عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فهملت عيناه وهو قائم حتى بل الحصى ، ثم قال : إن عمر كان حائطا كثيفا يدخله المسلمون ولا يخرجون منه ، فلما مات عمر انثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون ، وما من أهل بيت من المسلمين لم تدخل عليهم مصيبة من موت عمر إلا أهل بيت سوء ، فإذا ذكر الصالحون فحىّ هلا بعمر.

وروى أنس ، عن أبى طلحة أنه قال : والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم لموت عمر ، رضي‌الله‌عنه ، نقص فى دينهم وفى دنياهم.

وعن أبى وائل قال : خرج حذيفة إلى المدائن وهم يذكرون الدجال ، فأخبرنا مسروق أنه سأله عن ذلك ، فقال : نجب تجيء من هاهنا تنعى عمر.

وعن حذيفة أيضا قال : كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا ، فلما قتل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كان كالرجل المدبر ، لا يزداد إلا بعدا.

وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل ، امرأة عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ترثيه :

وفجعنى فيروز لا در دره

بأبيض تال للكتاب منيب

رءوف على الأدنى غليظ على العدا

أخى ثقة فى النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله

سريع إلى الخيرات غير قطوب

ومما ينسب إلى الشماخ بن ضرار ، وإلى أخيه مزرد بن ضرار أنه قال فى عرم بن الخطاب ، ويروى عن عائشة أن الجن بكت به على عمر ، رحمه‌الله ، قبل أن يقتل بثلاث ، وقد تقدم ذكر بعض هذا الشعر :

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت

له الأرض تهتز العضاة بأسوق

جزى الله خيرا من إمام وباركت

يد الله فى ذاك الأديم الممزق

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ١٤).


وما كنت أخشى أن تكون وفاته

بكفى سبنتى أزرق العين مطرق

وقبل هذا البيت بيتان قد تقدما قبل ، فلذلك حذفناهما الآن هنا اختصارا.


ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو

عثمان بن عفان أمير المؤمنين ، رضي‌الله‌عنه

ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر ، رضي‌الله‌عنه

ولما مضى عمر ، رحمه‌الله ، لسبيله ، تفاوض أهل الشورى فيما بينهم ثلاثا بعد وفاته ، وانصرف أمر جميعهم إلى عبد الرحمن بن عوف ، رضي‌الله‌عنه ، فبائع لعثمان ، رحمه‌الله ، فبايعه بقية أهل الشورى ، وكافة الصحابة ، رضى الله عن جميعهم ، وذلك يوم السبت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.

وذكر سيف (١) بإسناد له ، أنه لما بايع أهل الشورى عثمان ، رحمه‌الله ، خرج وهو أشدهم كآبة ، فأتى منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : إنكم فى دار قلعة ، وفى بقية أعمار ، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه ، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم ، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] ، اعتبروا بمن مضى ، ثم جدوا ولا تغفلوا ، فإنه لا يغفل عنكم ، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها ومتعوا بها طويلا ، ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها ، واطلبوا الآخرة ، فإن الله ضرب لها مثلها ، والذي هو خير ، فقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف : ٤٤ ، ٤٥].

وذكر سيف (٢) أن أول كتاب كتبه عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، إلى عماله :

أما بعد ، فإن الله عزوجل أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ، ولم يتقدم إليهم فى أن يكونوا جباة ، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ، ولم يخلقوا جباة ، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة ، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء ، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور الناس وفيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم ، وتأخذوهم بما عليهم ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٣).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٤ ، ٢٤٥).


ثم تثنوا بالذمة ، فتعطوهم الذي لهم ، وتأخذوهم بالذى عليهم ، ثم العدو الذي تنتابون ، فاستفتحوا عليهم بالوفاء.

قال (١) : وأول كتاب كتبه إلى أمراء الجنود فى الفروج :

أما بعد ، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم ، وقد وضع لكم عمر ، رحمه‌الله ، ما لم يغب عنا ، بل كان عن ملأ منا ، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم ويستبدل بكم غيركم ، فانظروا كيف تكونون؟ فإنى أنظر فيما ألزمنى الله النظر فيه والقيام عليه.

وكتب ، رحمه‌الله ، إلى عمال الخراج :

أما بعد ، فإن الله تعالى خلق الخلق بالحق ، ولا يقبل إلا الحق ، خذوا الحق وأعطوا الحق به ، والأمانة الأمانة ، قوموا عليها ، ولا تكونوا أول من سلبها ، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم ، والوفاء الوفاء ، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد ، فإن الله ورسوله خصم لمن ظلمهم.

وكان كتابه إلى العامة :

أما بعد ، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والإتباع ، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم ، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم : تكامل النعم ، وبلوغ أولادكم من السبايا ، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكفر فى العجمة ، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا».

وزاد عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، الناس فى أعطياتهم مائة مائة ، وهو أول خليفة زاد الناس فى العطاء ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفيء فى رمضان درهما فى كل يوم ، وفرض لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم درهمين درهمين ، فقيل له : لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه ، فقال : أشبع الناس فى بيوتهم ، فأقر عثمان الذي صنع عمر ، وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذي يبيت فى المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس فى رمضان.

وكان فى مدة خلافته ، رحمه‌الله ، فتوح عظام فى البر والبحر ، وهو أول من أغزى فيه ، وقد تقدم ذكر كثير من ذلك كإفريقية وغزوة ذات الصوارى فى البحر على يدى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٥).


عبد الله بن سعد ، وغزوة قبرس على يدى معاوية بن أبى سفيان ، وغير ذلك مما سلف فى هذا الكتاب.

ونذكر الآن من ذلك ما تيسر ذكره إن شاء الله تعالى مما لم نذكر قبل ، وأكثر من ذلك مما كان قد افتتح على عهد عمر ، رحمه‌الله ، وانتقض بعد وفاته ، فوجه إليه عثمان ، رحمه‌الله ، فاستردده ، حتى استوثق الأمر ، وانتظمت الفتوح.

ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها

ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب (١)

ويقال : إنها كانت فى السنة التي بويع فيها عثمان ، وقيل : فى سنة خمس وعشرين بعدها ، وقيل : فى سنة ست ، ذكر ذلك كله الطبرى.

وحكى (٢) أيضا عن أبى مخنف ، عن قرة بن لقيط الأزدى ثم العامرى : أن مغازى أهل الكوفة كانت الرى وأذربيجان ، وكان بالبحرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ، ستة آلاف بأذربيجان ، وأربعة آلاف بالرى ، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل ، وكان يغزو هذين المصرين منهم عشرة آلاف كل سنة ، فكان الرجل تصيبه فى كل أربع سنين غزوة ، فغزا الوليد بن عقبة فى أزمانه على الكوفة فى سلطانه عثمان أذربيجان وأرمينية ، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلى ، فبعثه أمامه مقدمة له ، وخرج الوليد فى جماعة الناس يريد أن يمعن فى أرض أرمينية ، فمضى حتى دخل أذربيجان ، فبعث عبد الله بن شبل بن عوف الأحمسى فى أربعة آلاف ، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ، فأصاب من أموالهم وغنم ، وسبى سبيا يسيرا ، وتحرز القوم منه ، فأقبل بذلك إلى الوليد.

ثم إن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم ، وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ثم حبسوها بعد وفاته ، فلما وطئهم الوليد بالجيش ، انقادوا وطلبوا إليه أن يتم لهم على ذلك صلح ففعل ، وقبض منهم المال ، وبث الغارات فيمن حولهم من أعداء الإسلام ، فبعث سلمان ابن ربيعة إلى أرمينية فى اثني عشر ألفا ، فسار فى أرضها ، فقتل وسبى ، وغنم وانصرف

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٤٦ ، ٢٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٤٩ ، ١٥٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٤٣ ، ٤٤).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٦).


مملوء اليدين إلى الوليد ، فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته. فلما دخل الموصل راجعا أتاه كتاب من عثمان ، رحمه‌الله :

أما بعد ، فإن معاوية بن أبى سفيان كتب إلىّ يخبرنى أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع كثيرة عظيمة ، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة ، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وسخاءه وإسلامه فى ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولى ، والسلام.

فقام الوليد فى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله قد أبلى المسلمين فى هذا الوجه بلاء حسنا ، فرد عليهم بلادهم التي كفرت ، وفتح بلادا لم تكن افتتحت ، وردهم سالمين غانمين مأجورين ، والحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلىّ أمير المؤمنين أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى ثمانية آلاف ، تمدون إخوانكم من أهل الشام ، فإنهم قد جاشت عليهم الروم ، وفى ذلك الأجر العظيم ، والفضل المبين ، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة ، فانتدب الناس ، فلم يمض ثلاثة أيام حتى خرج فى ثمانية آلاف من أهل الكوفة ، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم ، فشنوا عليهم الغارات ، وأصابوا ما شاءوا من سبى ، وملأوا أيديهم من المغانم ، وافتتحوا بها حصونا كثيرة.

وكان على أهل الشام حبيب بن مسلمة ، وسلمان على أهل الكوفة ، وزعم الواقدى أن سعيد بن العاص هو الذي أمد حبيبا بسلمان ، وأن سبب ذلك أن عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، أمر معاوية بإغزاء حبيب فى أهل الشام وأرمينية ، فوجهه إليها معاوية ، فبلغ حبيبا أن الموريان الرومى قد توجه نحوه فى ثمانين ألفا من الروم والترك ، فأعلم بذلك معاوية فكتب معاوية إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى سعيد بإمداد حبيب ، فأمده بسلمان فى ستة آلاف ، وكان حبيب صاحب كيد ، فأجمع على أن يبيت الموريان ، فسمعته امرأته ، أم عبد الله بنت يزيد الكلبية ، يذكر ذلك ، فقالت له : فأين موعدك؟ قال : سرادق الموريان أو الجنة ، ثم بيتهم ، فقتل من اشرأب له ، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت ، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق ، ثم مات عنها حبيب ، فخلف عليها الضحاك ابن قيس الفهرى ، فهى أم ولد.


ذكر انتقاض فارس ، ومسير عبد الله بن عامر إليها

وفتحه إياها (١)

ولما ولى عثمان ، رحمه‌الله ، أقر أبا موسى الأشعرى على البصرة ثلاث سنين ، وعزله فى الرابعة ، وأمر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد ، وعلى سجستان عبيد الله بن عمير الليثى من بنى ثعلبة ، فأثخن فيها إلى كابل ، وأثخن عمير فى خراسان حتى بلغ فرغانة ، فلم يدع دونها كورة إلا أصلحها ، وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمى ، فأثخن فيها حتى بلغ النهر ، وبعث على كرمان عبيد الله بن عنبس ، وبعث إلى فارس والأهواز نفرا ، وأبو موسى فى كل ذلك على البصرة.

فلما كان فى السنة الثالثة كفر أهل ايذج والأكراد ، فنادى أبو موسى فى الناس ، وحضهم ، وذكر من فضل الجهاد فى الرجلة ، حتى حمل نفر على دوابهم ، وأجمعوا على ألا يخرجوا إلا رجالة ، ثم نشأ بينه وبين أهل البصرة فى هذا الاستنفار ما نفرهم عنه ، وطلبوا إلى عثمان أن يديلهم عنه ، فدعا عثمان عند ذلك عبد الله بن عامر ، فأمره على البصرة وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس ، واستعمل مكانه عمير بن عثمان بن سعد ، واستعمل على خراسان أمين بن أحمر اليشكرى ، وعلى سجستان عمران بن الفضل البرجمى ، وعلى كرمان عاصم بن عمرو ، فمات بها.

فجاشت فارس فانتفضت بعبيد الله بن معمر ، واجتمعوا له باصطخر ، فالتقوا على بابها ، فقتل عبيد الله ، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر ، فاستنفر أهل البصرة إليهم ، وخرج فى الناس وعلى مقدمته عثمان بن أبى العاص ، فالتقى هو وأهل فارس باصطخر ، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها فى ذل ، وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان ، فكتب إليه يأمره أن يولى على كور فارس نفرا سماهم له ، وفرق خراسان بين ستة نفر ، منهم الأحنف بن قيس على المروين.

ذكر انتقاض خراسان ، وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها

وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها

ذكر الطبرى أن أدانى أهل خراسان وأقاصيهم اعترضوا زمان عثمان ، رضي‌الله‌عنه ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦).


لسنتين خلتا من إمارته ، فبدأ بنو كنارى وهم أخوال كسرى ، فأنثروا وألجئوا عبد الرحمن ابن سمرة وعماله إلى مروالروذ ، وثنى أهل مرو الشاهجان ، وثلث بنيزل فاستولى على بلخ ، وأرز من بها إلى مروالروذ وعليها ابن سمرة ، فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان ، فأرسل إلى ابن عامر أن يسير فى جند البصرة ، فخرج ابن عامر فى الجنود حتى يدخل خراسان على الطبسين من قبل يزدجرد ، وبث الجنود فى كورها وأمرهم أن يطئوا فيهم ، ووطأ هو فى أهل هراة بعد ما وهنهم الجزاء ، وصالحوه ، ثم ثنى بنيسابور ففعلت فعل هراة ، ولقيت الكور من الجنود مثل ذلك ، فذلوا لهم ، واكتتب منهم أهل مرو الشاهجان وسائر خراسان ، وسار ابن عامر إلى نيزل فقتل تركه قتل الكلاب ، ولحق هو بترك بلاد الشام ، وسيأتى بعد هذه المجملات مفصلة بعد.

وذكر الطبرى (١) بإسناد له قال : غزا سعيد بن العاص ، وهو على الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن الزبير ، وخرج عبد الله ابن عامر من البصرة يريد خراسان ، فسبق سعيدا ونزل ابرشهر ، وبلغ ذلك سعيدا ، فنزل قرمس ، وهى صلح ، صالحهم حذيفة بعد نهاوند ، فأتى جرجان ، فصالحوه على مائتى ألف ، ثم أتى طميسة ، وهى كلها من طبرستان متاخمة لجرجان ، وهى مدينة على ساحل البحر ، فقاتله أهلها حتى صلى يومئذ صلاة الخوف ، وهم يقتتلون ، بعد أن سأل حذيفة فأخبره كيف صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضرب يومئذ سعيد رجلا من المشركين على حيل عاتقه ، فخرج السيف من مرفقه ، وحاصرهم ، فطلبوا الأمان ، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ، ففتحوا الحصن ، فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا ، وحوى ما كان فى الحصن.

وذكر الطبرى (٢) من طريق آخر أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان ، ثم امتنعوا وكفروا ، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد ، ومنعوا ذلك الطريق ، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلا على وجل وخوف من أهل جرجان ، وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان ، فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولى خراسان.

وعن بشر بن حنظلة العمى أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان ، فكانوا يجبون

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٦٩ ، ٢٧٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٧١).


أحيانا مائة ألف ، ويقولون : صلحنا ، وأحيانا مائتى ألف ، وأحيانا ثلاثمائة ألف ، وكانوا ربما أعطوا ذلك ، وربما منعوه ، ثم امتنعوا وكثروا ، فلم يعطوا خراجا حتى أتاهم يزيد بن المهلب ، فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد ابن العاص.

ذكر مقتل يزدجرد (١)

قال الطبرى (٢) : اختلف فى سبب قتله ، كيف كان؟ فذكر عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان فى جماعة ليسير إلى مرو ، فسأل مرزبانها مالا فمنعه ، فخافوا على أنفسهم ، فأرسلوا إلى الترك يستنصرون بهم عليه ، فأتوه فبيتوه ، وقتلوا أصحابه ، وقيل : بل أهل مرو هم الذين بيتوه لما خافوه ، ولم يستجيشوا عليه الترك ، فقتلوا أصحابه ، وخرج هاربا على رجليه ، معه منطقته وسيفه وتاجه ، حتى أتى إلى منزل نقار على شط المرغاب ، فلما غفل يزدجرد ، وقيل : لما نام ، قتله النقار وأخذ متاعه ، وألقى جسده فى المرغاب ، فأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره ، حتى خفى عليهم عند منزل النقار ، فأخذوه لهم بقتله ، وأخرج متاعه ، فقتلوا النقار وأهل بيته ، وأخذ متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب فجعلوه فى تابوت خشب ، فزعم بعضهم أنه حمل إلى اصطخر فدفن بها فى أول سنة إحدى وثلاثين.

وكان يزدجرد قد وطئ امرأة بمرو ، فولدت منه بعد مقتله غلاما ذاهب الشق ، فسمى المخدج ، وعاش حتى ولد له أولاد بخراسان ، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له : إنهما من ولد المخدج ، فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك ، فولدت له يزيد بن الوليد بن عبد الملك الناقص.

وذكر عن المدائنى أن يزدجرد أتى خراسان ، ومعه خرزادمهر أخو رستم ، فقال لمرزبان مرو واسمه ماهويه : إنى قد أسلمت إليك الملك ، ثم أقام بمرو وهم بعزل ماهويه ، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بمكانه وعاهدهم على المؤازرة عليه وخلى لهم الطريق ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٩٣ ـ ٣٠٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٥٨ ، ١٥٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٥٩ ـ ٦١).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩٣ ، ٢٩٤).


فأقبلوا إلى مرو وخرج إليهم يزدجرد فى أصحابه ، فقاتلهم ومعه ماهويه فى أساورة مرو ، فأثخن فى الترك حتى خشى ماهويه أن ينهزموا ، فتحول إليهم فى أساورة مرو ، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا ، وعقر عند المساء فرس يزدجرد ، فمضى ماشيا هاربا حتى انتهى إلى بيت فيه رحى على شط المرغاب ، فمكث فيه ليلتين ، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه إلى أن دخل صاحب الرحى بيته فى اليوم الثانى ، فرأى يزدجرد ، فقال : ما أنت؟ إنسى أم جنى؟ قال : إنسى ، فهل عندك طعام؟ قال : نعم ، فأتاه به ، فقال : إنى مزموم ، فأتنى بما أزمزم به.

فذهب الطحان إلى بعض الأساورة ، فطلب منه ما يزمزم به ، قال : وما تصنع به؟ فقال : عندى رجل لم أر مثله قط ، وقد طلب هذا منى ، فجاء الأسوار بالطحان إلى ماهويه ، فأخبره فقال : هذا يزدجرد ، اذهبوا فجيئونى برأسه ، فقال له الموبذ : ليس ذلك إليك ، قد علمت أن الدين والملك مقترنان ، لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر ، ومتى فعلت انتهكت الحرمة العظيمة ، وتكلم الناس فأعظموا ذلك ، فشتمهم ماهويه وقال للأساورة : من تكلم فاقتلوه ، وأمر عدة فذهبوا مع الطحان ليقتلوا يزدجرد ، فانطلقوا ، فلما رأوه كرهوا قتله ، وتدافعوا ذلك ، وقالوا للطحان : ادخل فاقتله ، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه ، ثم اجتزه فدفعه إليهم ، وألقى جسده فى المرغاب ، فخرج قوم من أهل مرو فقتلوا الطحان وهدموا أرحاءه.

وذكر الطبرى (١) حديثين مختلفين مطولين ، وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الاضطرابات تقلب فيها ، وأنواعا من الدوائر دارت عليه ، حتى كانت منيته آخرها ، وفيه أن رجال ماهويه الذين وجههم لطلب يزدجرد وأمرهم بقتله لما انتهوا إلى الطحان ، فسألوه عنه ، فأنكره ، فضربوه ليدل عليه فلم يفعل ، فلما أرادوا الانصراف قال أحدهم : إنى أجد ريح المسك ، ونظر إلى طرف ثوب من ديباج فى الماء ، فاجتذبه ، فإذا هو يزدجرد ، فسأله ألا يقتله ولا يدل عليه ، وجعل له سواره وخاتمه ومنطقته ، فأبى عليه إلا أن يعطيه دراهم ويخلى عنه ، ولم يكن ذلك عند يزدجرد ، فقال : قد كنت أخبر أنى سأحتاج إلى أربعة دراهم ، وقال للرجل : ويحك ، خاتمى لك ، وثمنه لا يحصى ، فأبى وأنذر أصحابه ، فأتوه ، فطلب إليهم يزدجرد ألا يقتلوه ، وقال : ويحكم ، إنا نجد فى كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق فى الدنيا ، مع ما هو قادم عليه ، فلا تقتلونى وائتوا بى إلى الدهقان ، أو سرحونى إلى العرب ، فإنهم يستحيون مثلى من

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩٨) ، الأخبار الطوال (ص ١٣٩ ، ١٤٠).


الملوك ، فأخذوا ما كان عليه من الحلى ، فجعلوه فى جراب وختموا عليه ، ثم خنقوه بوتر ، وطرحوه فى نهر مرو.

وفى آخر الحديث (١) : أنه لما بلغ مقتله رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو ، جمع من كان قبله من النصارى ، وقال لهم : إن ملك الفرس قد قتل ، وهو ابن شهريار بن كسرى ، ولهذا الملك عنصر فى النصرانية ، وإنما شهريار ولد شيرين التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها فى غير وجه ، مع ما نال النصارى فى مملكة جده كسرى من الشرف ، وقبل ذلك فى مملكة ملوك من أسلافه ، حتى بنى لهم بعضهم البيع ، وسدد لهم بعضهم ، يعنى للنصارى ، ملتهم فينبغى لنا أن نحزن لقتل هذا الملك ونظهر من كرامته بقدر ما كان من إحسان سلفه وجدته إلى النصارى ، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا ، وأحمل جثته فى كرامة حتى أواريها.

فقال له النصارى : أمرنا لأمرك تبع ، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون ، فأمر المطران ببناء ناووس فى جرف بستان المطارنة بمرو ، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها وجعلها فى تابوت وحملها هو وأولئك النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي بنى له وواروه فيه ، وردموا بابه ، فكان ملك يزدجرد عشرين سنة ، منها أربع سنين فى دعة وست عشرة فى تعب من محاربة العرب إياه.

وكان آخر ملك من آل أردشير بن بابك ، وصفا الملك بعده للعرب ، فسبحان ذى العظمة والملكوت ، الملك الحق الدائم الذي لا يموت ، لا إله إلا هو ، كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون.

ذكر فتح أبرشهر ، وطوس ، وبيورد ، ونسا ، وسرخس ، وصلح مرو

ذكر الطبرى (٢) أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمى ، فقال : أصلح الله الأمير إن الأرض بين يديك ، ولم تفتح من ذلك إلا القليل ، فسر فإن الله ناصرك ، قال : أو لم نأمرك بالمسير؟ وكره أن يظهر له أنه قبل رأيه.

وذكر فى بعض ما ذكره عن المدائنى أن ابن عامر لما فتح فارس رجع إلى البصرة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٠٠).

(٢) انظر : تاريخ الملوك والرسل للطبرى (٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠٣).


واستعمل على اصطخر شريك بن الأعور الحارثى ، فدخل على ابن عامر رجل من بنى تميم يقال له : الأحنف ، وقيل غيره ، فقال له : إن عدوك منك هارب ، ولك هائب ، والبلاد واسعة ، فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه.

فتجهز ابن عامر وأمر الناس بالتجهيز للمسير ، واستخلف على البصرة زيادا ، وسار إلى كرمان ، ثم أخذ إلى خراسان.

قال : وأشياخ كرمان يذكرون أنه نزل العسكر بالسيرجان ، وسار إلى خراسان ، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود ، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر ، وهى ثمانون فرسخا ، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر ، وهى مدينة نيسابور ، وعلى مقدمته الأحنف ابن قيس ، فأخذ إلى قهستان ، وخرج إلى أبرشهر فلقيته الهياطلة فقاتلهم الأحنف فهزمهم ، ثم أتى ابن عامر نيسابور ، وافتتح ابن عامر مدينة أبرشهر ، قيل : صالحا ، وقيل : عنوة ، وفتح ما حولها : طوس وبيورد ونسا وحمران وسرخس.

ويقال : إنه بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها ، وأصاب جاريتين من آل كسرى.

ويروى أن أهل أبرشهر لما فتحها ابن عامر صالحا فى قول من قال ذلك ، أعطوه جاريتين من آل كسرى.

وعن أشياخ من أهل خراسان : أن ابن عامر سرح الأسود بن كلثوم ، من عدى الرباب ، إلى بيهق ، وهى من أبرشهر ، بينهما ستة عشر فرسخا ، ففتحها ، وقتل الأسود ، وكان فاضلا فى دينه ومن أصحاب عامر بن عبد قيس ، وكان عامر يقول بعد ما خرج من البصرة : ما آسى من العراق على شيء إلا على ظماء الهواجر وتجاوب المؤمنين ، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.

ويروى أن ابن عامر لما غلب على من بنيسابور أرسل إله أهل مرو يطلبون الصلح ، فبعث إليهم حاتم بن النعمان ، فصالح مرزبان مرو على ألفى ألف ومائتى ألف.

وقال مقاتل بن حيان : على ستة آلاف ألف ومائتى ألف.

قال الطبرى (١) : وفى سنة اثنتين وثلاثين كانت غزوة معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينية ، ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٠٤ ، ٣٠٥).


وقيل : فاختة. واستعمل سعيد بن العاص ، سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر ، وأمد الجيش الذي كان به مقيما مع حذيفة بأهل الشام ، عليهم حبيب بن مسلمة.

وكان عثمان ، رحمه‌الله ، قد أمر سعيدا بإغزاء سلمان ، فيما ذكره سيف عن بعض رجاله ، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة ، الذي يقال له : ذو النور ، وهو على الباب : أن الرعية قد أبطر كثيرا منها البطنة ، فقصر ولا تقتحم بالمسلمين ، فإنى خاش أن يبتلوا ، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته ، فغزا فى السنة التاسعة من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصرها ونصب عليها المجانيق والعرادات ، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه ، وأسرعوا فى الناس.

ثم إن الترك اتعدوا يوما ، فخرج أهل بلنجر ، وتوافى إليهم الترك فاقتتلوا فأصيب عبد الرحمن ، ذو النور ، فانهزم المسلمون وتفرقوا.

وقد تقدم ذكر مقتله قبل ، وأن المشركين احتازوه إليهم فجعلوه فى سفط ، فكانوا يستسقون به بعد ويستنصرون به.

وذكر سيف من بعض طرقه (١) : أنه لما تتابعت الغزوات على الخزر تذامروا وتعايروا وقالوا : كنا أمة لا يقوم لها أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها ، فقال بعضهم : إنهم لا يموتون ، ولو كانوا يموتون لما افتتحوا علينا. ثم كمنوا فى الغياض ليجربوا ، فرموا بعض من مر بهم فى ذلك الكمين من جند المسلمين فقتلوهم ، فعند ذلك تداعوا إلى الحرب وتواعدوا يوما ، فاقتتلوا فقتل عبد الرحمن وتفرق الناس فرقتين ، فرقة نحو الباب فحماهم سلمان الفارسى حتى أخرجهم ، وفرقة نحو الخزر ، فطلعوا على جيلان وجرجان ، فيهم سلمان الفارسى وأبو هريرة.

وقال بعضهم : غزا أهل الكوفة ثمان سنين من إمارة عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، لم تئم فيهن امرأة ، ولم ييتم فيهن صبى من قتل حتى كان ، يعنى فى السنة التاسعة ، فكان ما ذكر من قتل عبد الرحمن بن ربيعة ومن أصيب معه.

ذكر فتح مروالروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

ذكر الطبرى (٢) بإسناده عن ابن سيرين قال : بعث ابن عامر ، الأحنف بن قيس إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٠٥ ، ٣٠٦).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣١٠ ـ ٣١٣).


مروالروذ ، فحصر أهلها ، فخرجوا إليهم فقاتلوهم ، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصونهم ، فأشرفوا عليهم ، فقالوا : يا معشر العرب ، ما كنتم عندنا كما نرى ، لو علمنا أنكم كما نرى لكاتب لنا ولكم حال غير هذه ، فأمهلونا ننظر فى يومنا ، وارجعوا إلى عسكركم ، فرجع الأحنف.

فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له ، فخرج من المدينة رجل من العجم معه كتاب ، فقال : إنى رسول فأمنونى ، فأمنوه ، فإذا هو ابن أخى مرزبان مرو ومعه كتابه إلى الأحنف ، وإذا فيه : إلى أمير الجيش ، إنا نحمد الله الذي بيده الدول ، يغير ما شاء من الملك ، ويرفع من شاء بعد الذلة ، ويضع من شاء بعد الرفعة ، إنى دعانى إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدى ، وما كان رأى من صاحبكم من الكرامة والمنزلة ، فمرحبا بكم فأبشروا ، وأنا أدعوكم إلى الصلح على أن أؤدى إليكم خراجنا ستين ألف درهم ، وأن تقروا بيدى ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبى حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبيل من الأرض والقرى بما فيها من الرجال ، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتى شيئا من الخراج ، ولا تخرجوا المرزبة من أهل بيتى إلى غيرهم ، فإن جعلت ذلك لى خرجت إليك ، وقد بعثت إليك ابن أخى ماهك ليستوثق منك بما سألت.

فكتب إليه الأحنف :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مروالروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم ، سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى ، أما بعد ، فإن ابن أخيك ماهك قدم علىّ ، فنصح لك جهده ، وأبلغ عنك ، وقد عرضت ذلك على من معى من المسلمين ، وأنا وهم فيما عليك سواء ، وقد أجبناك إلى ما سألت ، وعرضت علىّ أن تؤدى عن كورتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلىّ وإلى الوالى بعدى من أمراء المسلمين ، إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك ، وإن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك ، جار لك بذلك منى كتاب يكون لك بعدى ، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوى الأرحام ، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم ، ولك بذلك ذمتى وذمة أبى وذمة المسلمين وذمم آبائهم.


وعن مقاتل بن حيان : أن ابن عامر صالح أهل مرو ، وبعث الأحنف فى أربعة آلاف إلى طخارستان ، فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مروالروذ ، وجمع له أهل طخارستان ، وأهل الجوزجان ، والطالقان ، والفارياب ، وكانوا ثلاثة زحوف ، ثلاثين ألفا ، وأتى الأحنف خبرهم ، فاستشار الناس فاختلفوا ، فمن قائل : نرجع إلى مرو ، وقائل : نرجع إلى أبرشهر ، وقائل : نقيم ونستمد ، وقائل : نلقاهم فنناجزهم.

قال : فلما أمسى الأحنف خرج يمشى فى العسكر ، ويسمع حديث الناس ، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن ، وهم يتحدثون ويذكرون العدو ، فقال بعضهم:الرأى للأمير إذا أصبح أن يسير حتى يلقى القوم حيث لقيناهم ، فإنه أرعب لهم ، فنناجزهم ، فقال صاحب الخزيرة أو العجين : إن فعل ذلك فقد أخطأ ، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فى بلاده ، فيلقى جميعا كثيرا بعدد قليل ، فإن جالوا جولة اصطلموا؟ ولكن الرأى له أن ينزل بين المرغاب والجبل ، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أصحابه ، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال ، فضرب عسكره ، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه ، فقال : إنى أكره أن أستنصر بالمشركين ، فأقيموا على ما أعطيناكم ، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم ، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.

قال : فوافوا المسلمين صلاة العصر ، فعاجلهم المشركون ، فناهضوهم وقاتلوهم فصبر الفريقان حتى أمسوا ، والأحنف يتمثل :

أحق من لم يكره المنية

حزور ليست له ذرية

وفى غير حديث مقاتل أن الأحنف لقيهم فى المسلمين ليلا فقاتلوهم حتى ذهب عامة الليل ، ثم هزمهم الله ، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن ، وهى على أثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف ، وكان مرزبان مروالروذ قد تربص بحمل ما كان صالح عليه ، لينظر ما يكون من أمرهم ، فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إلى المرزبان ، وأمرهما أن لا يكلماه حتى يقبضاه ففعلا ، فعلم أنهما لم يصنعا ذلك به إلا وقد ظفروا ، فحمل ما كان عليه.

وبعث الأحنف إلى الجوزجان الأقرع بن حابس فى جريدة خيل إلى بقية كانت بقيت من الزحوف التي هزمهم الأحنف ، فقاتلهم الأقرع بخيله ، فجال المسلمون جولة ، فقتل بعض فرسانهم ، ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم ، وأولئك القتلى من فرسان


المسلمين عنى أبو كثير النهشلى إذ قال :

سقى مزن السحاب إذا استهلت

مصارع فتية بالجوزجان

إلى القصرين من رستاق خوط

أقادهم هناك الأقرعان

وهى طويلة.

ذكر جرى الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ (١)

قال المدائنى بإسناده عن إياس بن المهلب : سار الأحنف من مروالروز إلى بلخ ، فحاصرهم ، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف ، فرضى بذلك منهم ، واستعمل ابن عمه أسيد بن المتشمس على أخذها منهم ، ومضى إلى خوارزم ، فأقام حتى هجم عليه الشتاء ، فقال لأصحابه : ما ترون؟ فقال له حصين : قد قال عمرو بن معدى كرب :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

فأمر الأحنف بالرحيل ، ثم انصرف إلى بلخ ، وقد قبض ابن عمه ما صالحهم عليه ، ووافق مهرجانهم وهو يجيبهم ، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع ودواب ، فقال أسيد : هذا لم نصالحكم عليه ، قالوا : لا ، ولكن هذا شيء نصنعه فى هذا اليوم لمن ولينا ، نستعطفه به ، قال : ما أدرى ما هذا؟ وإنى لأكره أن أرده ، ولعله من حقى ، ولكنى أقبضه وأعزله حتى أنظر ، وقدم الأحنف ، فأخبره ، فسألهم عنه ، فقالوا مثل ما قالوا له ، فقال الأحنف : آتى به الأمير ، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه ، فقال : اقبضه يا أبجر ، فهو لك ، قال : لا حاجة لى فيه ، فقال ابن عامر : ضمه إليك يا مسمار ، قال : فضمه القرشى ، وكان مضما.

وذكر المدائنى بإسناد آخر : أن ابن عامر حين صالح أهل مرو ، وصالح الأحنف أهل بلخ بعث خليد بن عبد الله الحنفى إلى هراة وإلى باذغيس ، فافتتحهما ، ثم كفر العدو بعد ذلك فكان مع قارن.

وقال : ولما رجع الأحنف قال الناس لابن عامر : ما فتح على أحد ما فتح عليك ، فارس ، وكرمان ، وسجستان ، وعامة خراسان ، فقال : لا جرم ، لأجعلن شكرى لله على ذلك أن أخرج معتمرا من موقفى ، فأحرم بعمرة من نيسابور ، فلما قدم على عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، لامه على إحرامه من خراسان ، وقال له : ليتك تضبط الميقات الذي يحرم

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣١٣ ، ٣١٦).


منه الناس. قال : استخلف ابن عامر على خراسان حين خرج منها سنة اثنتين وثلاثين قيس بن الهيثم ، فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان ، فأقبل فى أربعين ألفا ، فقال قيس لعبد الله بن حازم : ما ترى؟ قال : أرى أن تخلى البلاد فإنى أميرها ، ومعى عهد من ابن عامر ، إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها ، وأخرج كتابا قد افتعله ، فكره قيس مشاغبته ، فخلاه والبلاد ، وأقبل إلى ابن عامر ، فلامه ابن عامر ، وقال : تركت البلاد حربا وأقبلت؟ قال : جاءنى بعهد منك.

قال : وسار ابن خازم إلى قارن فى أربعة آلاف ، وأمر الناس فحملوا الودك ، فلما قرب من عسكره أمر الناس أن يدرج كل واحد منهم على زج رمحه ما كان من خرقة أو قطن أو صوف ، ثم يوسعوه ودكا من سمن أو زيت أو دهن أو إهالة. وقدم مقدمته ستمائة ، ثم أتبعهم ، وأمر الناس فأشعلوا النيران فى أطراف الرماح ، وجعل بعضهم يقتبس من بعض ، وانتهت مقدمته إلى عسكر قارن نصف الليل ، ولهم حرس ، فناوشوهم ، وهاج المشركون على دهش ، وكانوا آمنين على أنفسهم من البيات ، ودنا ابن خازم منهم ، فرأوا النيران يمنة ويسرة ، وتتقدم وتتأخر ، وتنخفض وترتفع ، ولا يرون أحدا فهالهم ذلك ، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين ، ومقدمته تقاتلهم ، فقتل قارن وانهزم العدو ، فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا ، وأصابوا سبيا كثيرا ، وأخذ ابن خازم عسكر قارن بما كان فيه ، وكتب بالفتح إلى ابن عامر ، فرضى وأقره على خراسان ، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل.

وقد روى أنه لما جمع قارن هذا الجمع للمسلمين ، ضاق المسلمون بأمرهم ، واستشار قيس ، عبد الله بن خازم فى ذلك ، فقال له : إنك لا تطيق كثرة من أتانا ، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من جمعوا لنا ، ونقيم نحن فى هذه الحصون نطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم ، فخرج قيس ، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا ، وقال : قد ولاني ابن عامر على خراسان ، فسار إلى قارن وظفر به ، وكتب بالفتح إلى ابن عامر ، فأقره على خراسان ، فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان ، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة ، فكانوا كذلك حتى كانت الفتنة ، فالله أعلم أى ذلك كان.

فتح عمورية وانتقاضها

وعن سعيد بن عبد العزيز : أن عثمان رضي‌الله‌عنه ائتمّ بأبى بكر وعمر رضى الله


عنهما فى أثرة المجاهدين وتقويتهم بالأموال ، ولقد زاد عثمان أهل العطاء مائة مائة ، وتابع إغزاءهم أرض الروم ، حتى ذلت عمورية وما دونها من مدائن ضاحية الروم على أداء الجزية ، وعلى إنزال جماعة من المسلمين مدينة عمورية يقاتلون من خلفها ، فلم يزل المسلمون بها حتى بلغ أهل عمورية قتل عثمان رضي‌الله‌عنه قبل أن يبلغ ذلك من كان بها من المسلمين ، فقتلوهم على فرشهم ، وانتقض ذلك الصلح.

وتمت الفتوح بعثمان رضي‌الله‌عنه ورحمه فلم تفتح بعده بلدة إلا صالحا ، كان كفر أهلها ، أو أرض مما افتتح ، عيال على ما افتتح عمر ، لا يقوى عليها الجنود إلا بالفىء الذي أفاء الله عزوجل على عمر رضي‌الله‌عنه.

مقتل عثمان رضي‌الله‌عنه

وقتل عثمان رضي‌الله‌عنه بالمدينة فى الثامن عشر لذى الحجة سنة خمس وثلاثين ، وقيل فى وسط أيام التشريق ، وقيل يوم التروية ، وقيل غير ذلك ، ولا خلاف بينهم فى أنه قتل فى ذى الحجة ، وإنما الخلاف فى أى يوم منه قتل ، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأياما ، وسنه يوم قتل مختلف فيها أيضا على ما قيل فى ذلك أنه كان ابن تسعين سنة ، وقيل : ابن ثمان وثمانين سنة ، وقيل : ابن ست وثمانين سنة ، وقيل : ابن اثنتين وثمانين ، وقيل ، ابن ثمانين.

وقتل رحمه‌الله ورضى عنه ظلما وتعديا ، بمقدمات فتن نشأت على عهده ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنذر بها ، وأخبر ان الحق مع عثمان رحمه‌الله ورضى عنه فيها.

وروى مرة البهزى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنها ستكون فتن كأنها صياصى بقمر» ، فمر علينا رجل متقنع فقال : هذا وأصحابه على الحق ، فذهبت فنظرت إليه ، فإذا هو عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

وحديث عائشة رضي‌الله‌عنها أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له : «إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتى على خلعه فلا تخلعه» ، قال : فلم أدر ما هو حتى رأيت عثمان قد أعطى كل شيء سأله إلا الخلع ، فعلمت أنه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي سمع منه.

وفى حديث آخر عنها : أنها رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسار عثمان ، ولون عثمان يتغير ،


فلما حصر قيل له ، ألا تقاتل؟ قال : لا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى عهدا فأنا صابر نفسى عليه.

وضايق الناس عثمان رضي‌الله‌عنه وانبسطوا عليه ، وآذوه ، وهو صابر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راض بقضاء الله فيه ، آمر بكف الأسلحة والأيدى ، كل من انبعث لنصره ، واق للمؤمنين بنفسه.

حدث عبد الله بن ربيعة أنهم كانوا معه فى الدار ، فلما سمع أنهم يريدون قتله قال : ما أعلم أنه يحل دم المؤمن إلا الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، أو قتل نفس بغير حق ، وأيم الله ، ما زنيت فى جاهلية ولا إسلام ، وما ازددت للإسلام إلا حبا ، ولا قتلت نفسا بغير حق ، فعلام تقتلوننى؟ ثم عزم علينا أن نكف أيدينا وأسلحتنا ، وقال : إن أعظمكم غناء أكفكم ليده وسلاحه.

وقال أبو هريرة لأهل الدار وهو معهم فيها : أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تكون بعدى فتن وأمور» ، قلنا : فأين الملتجأ منها يا رسول الله؟ قال : «إلى الأمين وحزبه» ، وأشار إلى عثمان. فقام الناس فقالوا : قد أمكنتنا البصائر ، فإذن لنا فى الجهاد ، فقال عثمان : أعزم على من كانت لى عليه طاعة أن لا يقاتل.

ومما ينسب إلى كعب بن مالك يذكر هذه الحال من عثمان بعد قتله رضي‌الله‌عنه وقال مصعب : هى لحسان ، وقال ابن أبى شبة : هى للوليد بن عقبة :

فكف يديه ثم أغلق بابه

وأيقن أن الله ليس بغافل

وقال لأهل الدار لا تقتلونهم

عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل

فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال

عداوة والبغضاء بعد التواصل

وكيف رأيت الخير أدبر بعده

عن الناس إدبار السحاب الحوامل

وقال ابن عمر لبعض من وقع عنده فى عثمان : أما والله ما تعلم عثمان قتل نفسا بغير حق ، ولا جاء من الكبائر شيئا ، ولكن هو هذا المال إن أعطاكموه رضيتم ، وإن أعطاه ذوى قرابته سخطتم ، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم ، ولا يتركون أميرا إلا قتلوه ، وفاضت عيناه من الدمع ، وقال : اللهم إنا لا نريد ذلك.

وحسب عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، من الفضل العظيم ، والحظ الجسيم ، إلى ما له فى الإسلام من الآثار الكرام والنفقات التي بيضت وجه النبيّ عليه‌السلام قوله صلوات الله عليه : أنت وليي فى الدنيا والآخرة.


ويروى أنه لما قتل سقطت من دمه قطرات على المصحف فصادفت قول الله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] ، ويقال : إن الذي تولى قتله من الذين دخلوا عليه رجل من أهل مصر يقال له جبلة بن الأيهم ، وكذلك كان جمهور الداخلين عليه من أهل مصر. فيروى عن يزيد بن أبى حبيب ، وهو من جملة المصريين أنه قال : بلغنى أن عامة النفر الذين ساروا إلى عثمان بن عفان جنوا.

وعن أبى قلابة قال : كنت فى فندق بالشام ، فسمعت مناديا ينادى : يا ويلة ، النار النار ، فقمت فإذا أنا برجل مقطوع اليدين من المنكبين ، مقطوع الرجلين من الحقوين ، أعمى ، منكب لوجهه ينادى : يا ويلة ، النار النار ، فقلت : ما لك؟ قال : كنت فيمن دخل على عثمان يوم الدار ، وكنت فى سرعان الناس ، أو من أول الناس وصل إليه ، فلما دنوت منه صاحت امرأته فلطمتها ، فنظر إلى عثمان فتغرغرت عيناه بالدموع ، وقال : ما لك سلب الله يدك ورجليك وأعمى بصرك وأدخلك جهنم ، قال : فأخذتنى رعدة شديدة ، ولا والله ما أحدثت شيئا غير هذا.

فخرجت وركبت راحلتى ، حتى إذا صرت بموضعى هذا ليلا أتانى آت ، وإله ما أدرى إنسى هو أم جنى ، ففعل بى الذي ترى ، وقد استجاب الله دعوته فى يدى ورجلى وبصرى ، فو الله إن بقى إلا النار. قال أبو قلابة : فهممت أن أطأ برجلى ، ثم قلت : بعدا وسحقا.

وكان مع عثمان رحمه‌الله ورضى عنه فى الدار جماعة من الصحابة وأناء الصحابة ، يدرءون عنه ، وقاتلوا عنه يوم الدار حتى أخرج منهم يومئذ أربعة من شباب قريش محمولين مضرجين بالدم ، وهم الحسن بن على ، وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن حاطب ، ومروان بن الحكم ، ولما أخبر على بقتله قال للذين أخبروه : تبا لكم آخر الدهر ، وسمع يومئذ ضجة ، فسأل عنها ، فقيل : عائشة تلعن قتلة عثمان ، والناس يؤمنون ، فقال على : اللهم العن قتلة عثمان ، اللهم العن قتلة عثمان.

وقال سعيد بن زيد : لو أن أحدا انقض لما فعل بعثمان لكان حقيقا أن ينقض.

وقال ابن العباس : لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط.

وقال عبد الله بن سلام : لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا ينغلق عنهم إلى يوم القيامة.


وفى ذلك يقول بعضهم :

لعمر أبيك ولا تكذبين

لقد ذهب الخير إلا قليلا

لقد سفه الناس فى دينهم

وخلى ابن عفان شرا طويلا

وذكرت عائشة رضي‌الله‌عنها قتله وقتلته فقالت : اقتحم عليه النفر الثلاثة حرمة البلد الحرام والشهر الحرام وحرمة الخلافة ، ولقد قتلوه وإنه لمن أوصلهم للرحم وأتقاهم لربه.

وقال أيمن بن خريم :

ضحوا بعثمان فى الشهر الحرام ضحى

فأى ذبح حرام ويلهم ذبحوا

وأى سنة كفر من أولهم

وباب شر على سلطانهم فتحوا

ما ذا أرادوا أضل الله سعيهم

بسفك ذاك الدام الذاكى الذي سفحوا

وقال على بن حاتم : سمعت يوم قتل عثمان صوتا يقول :

أبشر يا ابن عفان بروح وريحان

أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان

أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان

قال : فالتفت فلم أر أحدا.

والأخبار والأشعار فى هذه المعنى كثيرة ، أعجلتنا عن الإكثار منها محاولة الخاتمة ، فنسأل الله أن يجعلها جميلة ، ويتقبلها قربة إليه وإلى رسوله ووسيلة.


الخاتمة

وقد انتهى والحمد لله ما عملنا عليه فى هذا الكتاب ، من قصد الاستيفاء لمغازى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازى الثلاثة الخلفاء ، ولم يقع فى خلافة رابعهم فى تقلدها المحتوم بأيام محتوم أمدها ، أبى الحسن على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه وعنهم ، من أمثال هذه الفتوح ما نثبته معها ، ونجرى فى إيراده على الطريقة التي سلكنا مهيعها ، لاستقباله بخلافته ، رضي‌الله‌عنه ، من مكابدة الفتن المارجة ، ومحاربة الفئة الباغية ، والفرقة الخارجة ، ما أشتهر عند أهل الإسلام ، وأغنى العلم به عن الإعلام ، ولو كان لاغتنمنا به زيادة الإمتاع ، وإفادة القلوب والأسماع ، لأن هؤلاء الخلفاء الأربعة ، رضي‌الله‌عنهم ، هم بعد نبيهم ، صلوات الله عليه ، خير الأمة ، والراشدون من الأئمة ، وأولى من صرف إلى تقييد أخبارهم وتخليد آثارهم عنان الهمة ، وأحق من اعتلق من حبهم ، والإيواء إلى شعبهم ، والثناء عليهم ، والانضواء إلى حزبهم بأوثق أسباب العصمة وأمتن ذرائع الحرمة والرحمة ، وكل صحابة المصطفى أهل منا لذلك ، والموفق من سلك فى حبهم هذه المسالك.

وما فضل أصحاب النبيّ وقومه

لمن رام إحصاء له بمحسب

ولكنه أجر وزخر أعده

وأجعله أمنى وحصنى ومهربى

سأقطع عمرى بالصلاة عليهم

وأدأب فى حبى لهم كل مدأب

إليك رسول الله منها وسيلة

تناجيك عن قلب بحبك مشرب

يزورك عن شحط الديار مسلما

ويلقاك بالإخلاص لم يتنكب

تم كتاب الاكتفاء من مغازى سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازى الثلاثة الخلفاء ، رضي‌الله‌عنهم ، وحشرنا معهم ، وربنا المحمود لا إله غيره ، ولا مرجو إلا بركته وخيره. برسم الفقير إلى الله تعالى جمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن السابق الحنفى الحموى ، لطف الله تعالى به ، على يد الفقير لعفو ربه القدير محمد بن خليل بن إبراهيم الحنفى ، عامله الله بلطفه الخفى ، وفرغ من كتابته فى اليوم المبارك نهار الأربعاء السادس من صفر سنة ستين وثمانمائة ، أحسن الله عقبتها ، آمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.



فهرس محتويات الجزء الثانى

ذكر بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملوك ، وكتابه إليهم يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام

٣

ذكر حجة الوداع وتسمى أيضا حجة التمام ، وحجة البلاغ

٣٠

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر ، وما كان من خبر دحية معه

٤

ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين

٣٦

ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان من خبره معه

١٠

بيعة أبى بكر رضي‌الله‌عنه وما كان من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ومنتهى أمر المهاجرين معهم

٥٠

ذكر إسلام النجاشى ، وكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه مع عمرو بن أمية الضمرى

١٢

ذكر غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفنه ، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته

٥٨

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبى بلتعة

١٣

ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه وما حفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيماء إليها والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنذار بالفتن الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة

٨٥

ذكر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية

١٥

ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه‌السلام فيها

٨٨

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين ، ملكى عمان ، مع عمرو بن العاص

١٧

وصية أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه

٩٧

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى ، وما كان من خبره معه

١٩

ذكر مسير خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، إلى بزاخة وغيرها

١٠١

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب

٢٢

ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام

١٠٥

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فروة بن عمرو الجذاميّ ثم النفاتى ، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله عزوجل له

٢٦


قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة

١١٢

فتح قنسرين

٢٥٠

ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح

١١٩

جمع الروم للمسلمين

٢٥١

ذكر ردة بنى سليم

١٤٤

وقعة اليرموك على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام

٢٥٩

ردة البحرين

١٤٨

قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضي‌الله‌عنه الشام

٣٠١

ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان

١٥٤

ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر ، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا ، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى

٣١٨

ذكر ردة صنعاء

١٥٦

ذكر فتح مصر

٣٢٢

ذكر ردة كندة وحضرموت

١٥٩

ذكر فتح أنطابلس

٣٥٤

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، من ذلك وما قوى عزمه عليه

١٦٦

فتح أطرابلس

٣٥٥

وقعة أجنادين

٢٠١

ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضي‌الله‌عنه

٣٥٦

وقعة مرج الصفر

٢٠٦

ذكر غزو إفريقية وفتحها

٣٥٨

ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب ، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء

٢٠٨

ذكر صلح النوبة

٣٦٢

استخلاف عمر بن الخطاب

٢١٢

ذكر البحر والغزو فيه

٣٦٣

ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب ، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام

٢١٨

غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس

٣٦٤

ذكر بيسان

٢٢٣

غزوة ذات الصوارى

٣٦٦

ذكر طبرية

٢٢٣

ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره

٣٦٨

حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا

٢٢٤

أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه

٣٧٢

وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام

٢٢٦

حديث الثّنى والمذار

٣٧٦

فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام

٢٤٣

حديث الولجة وهى مما يلى كسكر من

حديث حمص آخر

٢٤٨


البر

٣٧٨

ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية ، وهو يوم أغواث

٤٧٨

حديث ألّيس ، وهى على صلب الفرات

٣٧٩

حديث يوم عماس ، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية

٤٨٤

حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال

٣٨٢

خبر اليوم الرابع من أيام القادسية

٤٨٨

حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل به من حديث الحيرة

٣٨٢

ذكر فتح المدائن وما نشأ بينه وبين القادسية من الأمور

٥٠٤

حديث الأنبار وهى ذات العيون

٣٩٠

حديث وقعة جلولاء

٥٢٥

حديث عين التمر

٣٩١

حديث يوم تكريت

٥٣١

حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض

٣٩٢

ذكر يوم ماسبذان ويوم قرقيسيا

٥٣٣

حديث المثنى بعد خالد

٣٩٨

ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة

٥٣٤

ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه ، وذكر أبى عبيد بن مسعود ، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار

٤٠٠

ذكر الجزيرة ، وذكر السبب الذي دعا عمر إلى الأمر بقصدها

٥٤١

حديث وقعة الجسر

٤٠٧

ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير

٥٤٤

حديث البويب ووقعة مهران

٤١٥

حديث فتح الأهواز ومدينة سرق

٥٤٦

حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد

٤٢٦

ذكر غزو المسلمين أرض فارس

٥٤٧

حديث السرايا من الأنبار

٤٢٨

ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان

٥٤٩

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه

٤٢٩

ذكر فتح السوس

٥٥٣

تأمير عمر ، رضي‌الله‌عنه ، سعد بن أبى وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية

٤٣١

فتح جندى سابور

٥٥٥

يوم أرماث

٤٦٥

حديث وقعة نهاوند

٥٥٦

ذكر الانسياح فى بلاد فارس ، وعمل المسلمين به بإذن عمر رضي‌الله‌عنه ، فيه بعد منعه إياهم ، وما تبع ذلك من الفتوح فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم

٥٧٢

ذكر الخبر عن أصبهان

٥٧٤


ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم

٥٧٦

ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب

٦١٠

فتح الرى

٥٧٨

ذكر انتقاض فارس ، ومسير عبد الله بن عامر إليها وفتحه إياها

٦١٢

ذكر فتح قومس وجرجان

٥٧٩

ذكر انتقاض خراسان ، وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها

٦١٢

ذكر فتح طبرستان

٥٨٠

ذكر مقتل يزدجرد

٦١٤

فتح أذربيجان

٥٨٠

ذكر فتح أبرشهر ، وطوس ، وبيورد ، ونسا ، وسرخس ، وصلح مرو

٦١٦

حديث فتح الباب

٥٨١

ذكر فتح مروالروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

٦١٨

ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان ودخول الأحنف إليها غازيا

٥٨٥

ذكر جرى الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ

٦٢١

فتح توج

٥٩٠

فتح عمورية وانتقاضها

٦٢٢

حديث اصطخر

٥٩١

مقتل عثمان رضي‌الله‌عنه

٦٢٣

حديث فسا ودارابجرد

٥٩٣

الخاتمة

٦٢٧

حديث فتح كرمان

٥٩٥

الفهرس

٦٢٨

فتح سجستان

٥٩٥

فتح مكران

٥٩٦

حديث بيروذ

٥٩٧

غزوة سلمة بين قيس الأشجعى الأكراد

٥٩٩

ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه إلى حين مقتله

٦٠١

ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو عثمان بن عفان أمير المؤمنين ، رضي‌الله‌عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر ، رضي‌الله‌عنه

٦٠٨

الإكتفا - ٢

المؤلف:
الصفحات: 632