بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

لم تكن الثورة الإسلاميّة بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه حدثا سياسيّا تتحدّد آثاره التغييريّة بحدود الأوضاع السياسيّة إقليميّة أو عالميّة ، بل كانت وبفعل التغييرات الجذريّة التي أعقبتها في القيم والبنى الحضاريّة التي شيّد عليها صرح الحياة الإنسانيّة في عصرها الجديد حدثا حضاريّا إنسانيّا شاملا حمل إلى الإنسان المعاصر رسالة الحياة الحرّة الكريمة التي بشّر بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدى التأريخ وفتح أمام تطلّعات الإنسان الحاضر افقا باسما بالنور والحياة ، والخير والعطاء.

وكان من اولى نتائج هذا التحوّل الحضاري الثورة الثقافيّة الشاملة التي شهدها مهد الثورة الإسلاميّة إيران والتي دفعت بالمسلم الإيراني إلى اقتحام ميادين الثقافة والعلوم بشتّى فروعها ، وجعلت من إيران ، ومن قم المقدّسة بوجه خاصّ عاصمة للفكر الإسلامي وقلبا نابضا بثقافة القرآن وعلوم الإسلام.

ولقد كانت تعاليم الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه ووصاياه وكذا


توجيهات قائد الثورة الإسلاميّة ووليّ أمر المسلمين آية الله الخامنئي المصدر الأوّل الذي تستلهم الثورة الثقافيّة منه دستورها ومنهجها ، ولقد كانت الثقافة الإسلاميّة بالذات على رأس اهتمامات الإمام الراحل رضوان الله عليه وقد أولاها سماحة آية الله الخامنئي حفظه الله تعالى رعايته الخاصّة ، فكان من نتائج ذاك التوجيه وهذه الرعاية ظهور آفاق جديدة من التطوّر في مناهج الدراسات الإسلاميّة بل ومضامينها ، وانبثاق مشاريع وطروح تغييريّة تتّجه إلى تنمية وتطوير العلوم الإسلاميّة ومناهجها بما يناسب مرحلة الثورة الإسلاميّة وحاجات الإنسان الحاضر وتطلّعاته.

وبما أنّ العلوم الإسلاميّة حصيلة الجهود التي بذلها عباقرة الفكر الإسلاميّ في مجال فهم القرآن الكريم والسنّة الشريفة فقد كان من أهمّ ما تتطلّبه عمليّة التطوير العلمي في الدراسات الإسلاميّة تسليط الأضواء على حصائل آراء العباقرة والنوابغ الأوّلين الذين تصدّروا حركة البناء العلمي لصرح الثقافة الإسلاميّة ، والقيام بمحاولة جادّة وجديدة لعرض آرائهم وأفكارهم على طاولة البحث العلمي والنقد الموضوعي ، ودعوة أصحاب الرأي والفكر المعاصرين إلى دراسة جديدة وشاملة لتراث السلف الصالح من بناة الصرح الشامخ للعلوم والدراسات الإسلاميّة وروّاد الفكر الإسلاميّ وعباقرته.

وبما أنّ الإمام المجدّد الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس الله نفسه يعتبر الرائد الأوّل للتجديد العلمي في العصر الأخير في مجالي الفقه والاصول ـ وهما من أهمّ فروع الدراسات الإسلاميّة ـ فقد اضطلعت الأمانة العامّة لمؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري ـ بتوجيه من سماحة قائد الثورة الإسلاميّة آية الله الخامنئي ورعايته ـ بمشروع إحياء الذكرى المئويّة


الثانية لميلاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره وليتمّ من خلال هذا المشروع عرض مدرسة الشيخ الأنصاري الفكريّة في شتّى أبعادها وعلى الخصوص إبداعات هذه المدرسة وإنتاجاتها المتميّزة التي جعلت منها المدرسة الامّ لما تلتها من مدارس فكريّة كمدرسة الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي والمحقّق الأصفهاني وغيرهم من زعماء المدارس الفكريّة الحديثة على صعيد الفقه الإسلامي واصوله.

وتمهيدا لهذا المشروع فقد ارتأت الأمانة العامّة أن تقوم لجنة مختصّة من فضلاء الحوزة العلميّة بقم المقدّسة بمهمّة إحياء تراث الشيخ الأنصاري وتحقيق تركته العلميّة وإخراجها بالاسلوب العلمي اللائق وعرضها لروّاد الفكر الإسلاميّ والمكتبة الإسلاميّة بالطريقة التي تسهّل للباحثين الاطّلاع على فكر الشيخ الأنصاري ونتاجه العلمي العظيم.

والأمانة العامّة لمؤتمر الشيخ الأنصاري إذ تشكر الله سبحانه وتعالى على هذا التوفيق تبتهل إليه في أن يديم ظلّ قائد الثورة الإسلاميّة ويحفظه للإسلام ناصرا وللمسلمين رائدا وقائدا وأن يتقبّل من العاملين في لجنة التحقيق جهدهم العظيم في سبيل إحياء تراث الشيخ الأعظم الأنصاري وأن يمنّ عليهم بأضعاف من الأجر والثواب.

أمين عام مؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري

الشيخ محسن العراقي



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وأهل بيته الطاهرين ، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

من الواضح لدى من له أدنى إلمام بعلم الاصول وبالكتب الاصولية المؤلّفة على يد المحقّقين من علماء الاصول من الإماميّة في القرنين الأخيرين ، أنّ للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره دورا تأسيسيا في بعض أبحاث علم الاصول ، وتطويريا في أغلبها ، وبخاصّة في بحوث القطع ، والظن ، والاصول الجارية في مرحلة الشك ، كالبراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، ومباحث تعارض الأدلّة وعلاجه.

وكان بودّنا أن نقوم بدراسة موضوعية ، تقارن اصول الشيخ الأعظم قدس‌سره بأبحاث من تقدّم عليه أو عاصره ومقدار تأثّره بهم ، وتحقيق ميادين ريادته ، سواء في نفس الموضوعات الاصولية أو في اسلوب طرحها ومنهجية البحث عنها ، ولكن لم نوفّق لذلك فاكتفينا في هذه المقدمة ببيان كيفية تحقيق الكتاب ، تاركين تلك الدراسة إلى فرصة اخرى ، إن شاء الله تعالى.


مراحل تحقيق الكتاب :

تمّ تحقيق الكتاب ـ كسائر الكتب الاخرى ـ ضمن مراحل ، وقبل بيانها نشير إلى النسخ التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب.

النسخ المعتمدة في التحقيق :

طبع كتاب «فرائد الاصول» في حياة المؤلف قدس‌سره ـ لذلك لم نبحث كثيرا عن مخطوطاته وإن استفدنا من بعضها ـ وتعدّدت طبعاته حتى بلغت أكثر من عشرين طبعة ، قام بدراستها سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ غلام رضا فيّاضي ، فانتخبنا من تلك النسخ المطبوعة عشر نسخ أولا ، ثم استغنينا عن خمس منها إلاّ في بعض الموارد.

وفيما يلي تعريف بالنسخ الرئيسية ـ المخطوطة والمطبوعة ـ التي استندنا إليها :

١ ـ صورة فوتوغرافية عن مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم ٦٣٣٠٠ / ١٦٢ :

وتتكون من ١٥٤ ورقة ، كتبت في حياة المؤلف ، وهي واضحة ، مصحّحة ، خالية من بعض إضافات النسخ الاخرى ، ابتدأت من أول مبحث القطع إلى آخر الظن ، ورد في بدايتها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم ...» وفي نهايتها : «... والحمد لله أوّلا وآخرا وصلى الله على محمد وآله باطنا وظاهرا. تمت في ثامن والعشرين من شهر شعبان


المعظّم سنة ١٢٦٣».

ورمزنا لها ب «م».

٢ ـ صورة فوتوغرافية عن مخطوطة مكتبة المسجد الأعظم في قم برقم ٣٢٣٠ :

ضمّت الكتاب كلّه من أوّل القطع الى آخر التراجيح في ٥٢٦ صفحة ، وهي ناقصة الأوّل بمقدار نصف صفحة ، جيّدة الخط ، قد تفرّدت بقسم من العبارات ، واحتوت على بعض الأخطاء الواضحة ، تأريخ تدوين موضوع الظنّ فيها سنة ١٢٦٦ ه‍ ق ، ابتدأت بقوله : «... كان كذلك فهو حرام ، هذا بخلاف القطع ...».

ورمزنا لها ب «ظ».

٣ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة في حياة المؤلف قدس‌سره عثرنا عليها في بعض مكتبات دزفول الخاصة :

وهي أوّل نسخة مطبوعة ، اشتملت على ٣٢٠ صفحة بالقطع الوزيري ، احتوت على القطع والظن فقط ، مع مقدمة للتعريف بالكتاب والمؤلف بقلم عبد الحسين التستري ، ورد في آخرها : «قد اتفق الفراغ من تسويد هذه النسخة الموسومة بحجّية المظنة من تصنيفات العالم الفاضل العارف الكامل الشيخ مرتضى منّ الله على المسلمين بطول بقائه ، ونوّر ساحة الإسلام بشعشعة شمس جماله في ثالث عشر شهر ربيع الثاني من شهور سنة ثمان وستين ومائتين من بعد ألف من الهجرة ... قوبلت النسخة مع ما صحّحه المصنّف بنظره الشريف من أوّلها إلى آخرها ، ولا نسخة أصحّ منها بظاهرها ، ولله الحمد على كلّ حال ، فإنّه العليّ المتعال».

ورمزنا لها ب «ل».


٤ ـ نسخة مطبوعة في تبريز سنة ١٣٠٢ ه‍ ق :

من أصحّ النسخ ـ مع النسخة التالية على ما يقال ـ حصلنا عليها من بعض الأفاضل ، طبعت بالقطع الوزيري ، جاء في نهايتها : «... قوبل مع النسختين الصحيحتين قبالا كاملا إلاّ [ما] زاغ البصر [عنه] ، وأنا العبد هاشم بن الحسين في سنة ١٣٠٢».

ورمزنا لها ب «ه».

٥ ـ نسخة مطبوعة في تبريز سنة ١٣١٤ ه‍ ق :

طبعت بالقطع الرحلي ، ورد في آخرها : «قد تمت النسخة الشريفة التي لم يطبع إلى الآن مثلها في المطبعة المخصوصة ... وأنا العبد محمد علي التبريزي ، في شهر ربيع الأوّل من شهور ١٣١٤». وقدّم لنا هذه النسخة بعض الأفاضل أيضا.

ورمزنا لها ب «ت».

٦ ـ نسخة رحمة الله :

معروفة متداولة بين الأساتذة والطلاب منذ سنين ، طبعت سنة ١٣٢٦ ه‍ ق بالقطع الرحلي.

ورمزنا لها ب «ر».

٧ ـ نسخة مطبوعة في طهران بالقطع الرحلي ، وعليها تصحيحات بعض العلماء الأجلاّء في أصفهان. حصّلنا هذه النسخة من مكتبة بعض السادة الأجلاّء.

ورمزنا لها ب «ص».

أمّا النسخ الثانوية التي استفدنا منها ، فقد أشرنا إليها في الكتاب بعنوان «بعض النسخ» أو بذكر رموزها الخاصة ، وهي كما يأتي :


١ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم ٢٠٥٩ / ٨ / ٨ / ١٥ في مكتبة السيد المرعشي.

كاملة ، لم يذكر اسم مستنسخها ولا تأريخ التدوين والطبع.

ورمزنا لها ب «آ».

٢ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم ٣٥٤٢ / ٩٤ / ٨ / ٢٢ في مكتبة السيد المرعشي :

لم يذكر اسم مستنسخها ولا تاريخ التدوين والطبع ، ويبدو أنّها طبعت أيام ناصر الدين شاه القاجاري.

ورمزنا لها ب «ع».

٣ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم ٣٦٨٠٤ / ١٢٨ / ٧ / ٨ في مكتبة السيد المرعشي :

طبعت في طهران بالقطع الوزيري ، تأريخ تدوينها سنة ١٣١٥ ه‍ ق ، يبدو من بعض حواشيها أنّ النسخة المصحّحة بيد المؤلف كانت عند مصحّحي هذه النسخة.

ورمزنا لها ب «خ».

٤ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم ٦٦٦٨٨ / ٢١٤ / ٣ / ٦ في مكتبة السيد المرعشي :

طبعت في طهران بالقطع الوزيري ، دوّنت سنة ١٣١٥ ه‍ ق ، يبدو من مقدمة المصححين أنّها قوبلت بعدة نسخ مصححة.

ورمزنا لها ب «ن».

٥ ـ صورة فوتوغرافية عن نسخة مطبوعة تحمل الرقم ٥٦٥٢٨ / ١٨٥ / ٧ / ٣٣ في مكتبة السيد المرعشي :


طبعت في طهران بالقطع الوزيري ، تأريخ تدوينها سنة ١٣٢٣ ه‍ ق ، قوبلت ببعض النسخ المصححة كما جاء في مقدمتها.

ورمزنا لها ب «ف».

٦ ـ نسخة مطبوعة في قم بالقطع الوزيري سنة ١٣٧٦ ه‍ ق ، وفي مقدمتها ترجمة لحياة الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

ورمزنا لها ب «د».

مراحل التحقيق :

شكّلت عدة لجان ذات كفاءة عالية لإنجاز مراحل تحقيق الكتاب وفقا للبيان الآتي :

أ ـ مقابلة النسخ :

سجّلت اللجنة المختصة بذلك موارد الاختلاف بدقة فائقة ، وتكوّنت من :

ـ حجة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.

ـ حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

ـ حجة الإسلام الشيخ محمد تقي راشدي.

ـ حجة الإسلام السيد هادي عظيمي.

ـ الشيخ صادق الحسون (تبريزيان).

ب ـ استخراج مصادر النصوص :

اسند هذا الأمر إلى :

ـ حجة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.

ـ حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.


ـ حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

استخرج الأوّلان مصادر القطع والظن والبراءة والاشتغال ، ودقّقها الأخير الذي تولّى استخراج مصادر الاستصحاب والتعادل والتراجيح ودقّقها حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.

ج ـ تقويم النص :

عملية التقويم من أهمّ مراحل تحقيق الكتاب ، لأنّها تتصدى لانتقاء النصّ الصحيح من بين نسخ عديدة اشتملت على اختلافات تغيّر المعنى أحيانا ، وخاصّة بالنسبة إلى كتاب مثل «فرائد الاصول» الذي أجرى عليه المؤلف نفسه وآخرون عدّة تصحيحات اختلط بعضها ببعض وبتعليقات توضيحية أحيانا ، فتعقد الأمر وصارت مهمة هذه اللجنة صعبة جدا.

وقد قيّض لها الله تعالى شخصين فاضلين يطمأن إليهما ، مارسا تدريس هذا الكتاب قبل القيام بتحقيقه ، وهما :

ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ علي رضا إسلاميان الذي تصدّى لتقويم نصوص القطع والظن والبراءة والاشتغال.

ـ حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي الذي تصدّى لتقويم نصوص الاستصحاب والتعادل والتراجيح ، إضافة إلى قيامه بكتابة العناوين الجانبية.

د ـ المراجعة العامة للكتاب :

انبرى لذلك حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جواد الحسيني الجلالي ، وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

ه ـ تنظيم الفهارس :

قام بهذا الأمر حجة الإسلام السيد هادي عظيمي.


و ـ نضد الحروف :

تمّ ذلك على يد الأخ محمّد خازن بنحو دقيق ، روعيت فيه الجوانب الفنيّة والجماليّة.

وكنت إلى جانب كل هؤلاء الإخوة الأفاضل اقدّم ما تيسّر لي من خدمات متواضعة في سبيل تحقيق هذا التراث الثمين ، إضافة إلى مراجعتي للكتاب عدّة مرّات وفي عدّة مراحل.

وهكذا تظافرت جهود هذه المجموعة من الفضلاء وذوي الخبرة لإخراج الكتاب بنحو علمي دقيق ، وبصياغة حديثة أنيقة لتوفير فرص قيّمة للاستفادة منه ، راجين من العلماء والفضلاء وبخاصة الذين مارسوا تدريسه أن يتحفونا بآرائهم وإرشاداتهم رفدا للمسيرة العلمية المزهرة ووفاء للعلماء المتقدمين علينا.

ختاما نرجو الله العلي القدير أن يوفّق كلّ من شاركنا في تحقيق هذا الكتاب الجليل لمزيد من الخدمات لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، إنّه قريب مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مسئول لجنة التحقيق

محمّد علي الأنصاري








بسم الله الرحمن الرحيم

المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ

اعلم (١) : أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ ، فإمّا أن يحصل له (٢) الشكّ فيه ، أو القطع ، أو الظنّ.

فإن حصل له (٣) الشكّ ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى ب «الاصول العمليّة» ، وهي منحصرة في أربعة ؛ لأنّ الشكّ :

الاصول العمليّة الأربعة ومجاريها

إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.

وعلى الثاني : فإمّا أن يمكن الاحتياط أم لا.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به.

فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني (٤) مجرى التخيير ، والثالث

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ص) و (ل) ، وفي غيرها : «فاعلم».

(٢) العبارة في (ه) هكذا : «فيحصل له إمّا الشكّ ...».

(٣) لم ترد «له» في (ل) و (م).

(٤) في نسخة بدل (ص) : «والثاني مجرى أصالة البراءة ، والثالث مجرى قاعدة الاحتياط ، والرابع مجرى قاعدة التخيير».


مجرى أصالة البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.

تقرير آخر لمجاري الاصول العمليّة

وبعبارة اخرى : الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا (١) ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني : إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا ، فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني : إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، والثاني مجرى قاعدة التخيير (٢).

وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة ، وقد وقع الخلاف فيها ، وتمام الكلام في كلّ واحد موكول إلى محلّه.

مقاصد الكتاب

فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة :

الأوّل : في القطع.

والثاني : في الظنّ.

والثالث : في الشكّ (٣).

__________________

(١) لم ترد عبارة «وعلى الثاني ـ إلى ـ السابقة أو لا» في (ه).

(٢) عبارة «وبعبارة اخرى ـ إلى ـ قاعدة التخيير» من (ر) ونسخة بدل (ص).

ووردت في (ه) أيضا مع اختلاف يسير ، ولم ترد فيها : «وبعبارة اخرى».

(٣) كذا في (ل) و (م) ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) ، و (ه) : «والثالث في الاصول العملية المذكورة التي هي المرجع عند الشكّ».


المقصد الأوّل

في القطع



المقصد الأوّل في القطع (١)

وجوب متابعة القطع

فنقول : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا ؛ لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا (٢).

إطلاق الحجّة على القطع والمراد منه

ومن هنا يعلم : أنّ إطلاق «الحجّة» عليه ليس كإطلاق «الحجّة» على الأمارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن : الوسط الذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، ويصير واسطة للقطع بثبوته له ، كالتغيّر لإثبات حدوث العالم ، فقولنا : الظنّ حجّة ، أو البيّنة حجّة ، أو فتوى المفتي حجّة ، يراد به كون هذه الامور أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها ، فيقال : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يجب الاجتناب عنه. وكذلك قولنا : هذا الفعل ممّا أفتى المفتي بتحريمه ، أو قامت البيّنة على كونه محرّما ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام.

وهذا بخلاف القطع ؛ لأنّه إذا قطع بوجوب شيء ، فيقال : هذا

__________________

(١) كذا في (ل) و (م) ، وفي غيرهما : «أمّا الكلام في المقصد الأوّل».

(٢) في (ص) : «ونفيا».


واجب ، وكلّ واجب يحرم ضدّه أو يجب مقدّمته.

وكذلك العلم بالموضوعات ، فإذا قطع بخمرية شيء ، فيقال : هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، ولا يقال : إنّ هذا معلوم الخمريّة ، وكلّ معلوم الخمريّة حكمه كذا ؛ لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر ، لا لما علم أنّه خمر.

والحاصل : أنّ كون القطع حجّة غير معقول ؛ لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب ، فلا يطلق على نفس القطع.

انقسام القطع إلى طريقي وموضوعي

هذا كلّه بالنسبة إلى حكم متعلّق القطع وهو الأمر المقطوع به ، وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر ، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه ، فيقال : إنّ الشيء المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا ، وحينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم (١) وإن لم يطلق عليه الحجّة ؛ إذ المراد ب «الحجّة» في باب الأدلّة : ما كان وسطا لثبوت أحكام (٢) متعلّقه شرعا ، لا لحكم آخر (٣) ، كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا ، لا على نفس الخمر ، وكترتّب وجوب الإطاعة عقلا (٤) على معلوم الوجوب ، لا الواجب الواقعي (٥).

وبالجملة : فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «لمتعلّقه».

(٢) في نسخة بدل (ص) : «حكم».

(٣) لم ترد عبارة «وإن لم يطلق ـ إلى ـ لا لحكم آخر» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) لم ترد «عقلا» في (ر) و (ص).

(٥) لم ترد عبارة «وكترتّب ـ إلى ـ الواقعي» في (ظ) ، (ل) و (م).


موضوع الحكم.

خواص القسمين

ثمّ ما كان منه طريقا لا يفرّق فيه بين خصوصيّاته ، من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ؛ إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلّقه ، فيترتّب عليه أحكام متعلّقه ، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ؛ لأنّه مستلزم للتناقض.

١ ـ عدم جواز النهي عن العمل في الطريقي وجوازه في الموضوعي

فإذا قطع بكون (١) مائع بولا ـ من أيّ سبب كان ـ فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه ؛ لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصل له صغرى وكبرى ، أعني قوله : «هذا بول ، وكلّ بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه» فحكم الشارع بأنّه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له ، إلاّ إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول ، بل من أحكام ما علم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما ، فيخرج العلم عن (٢) كونه طريقا (٣) ، ويكون مأخوذا (٤) في الموضوع ، وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره ـ مطلقا أو على وجه خاصّ ـ دليل ذلك الحكم الثابت الذي اخذ العلم في موضوعه.

القطع الموضوعي تابع في اعتباره مطلقا او على وجه خاص لدليل الحكم

فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف ، كما في حكم العقل بحسن إتيان

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «كون».

(٢) كذا في (ت) ، وفي (ل) و (م) : «فخرج عن».

(٣) لم ترد عبارة «فيخرج العلم عن كونه طريقا» في (ر) ، (ص) و (ه).

(٤) في (ص) و (ه) : «فيكون العلم مأخوذا» ، وفي (ر) : «فيكون مأخوذا».


أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر مطلقاً

ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا ؛ فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة أو المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده. وكما في حكم الشارع (١) بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته بقول مطلق (٢) ، بناء على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيّتين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم ـ لا في نفس الأمر ـ كما هو قول بعض (٣).

أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر على وجه خاص

وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين (٤) : من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير (٥) الحاصل من الكتاب والسنّة ـ كما سيجيء ـ ، وما ذهب إليه بعض : من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى (٦).

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «الشرع».

(٢) لم ترد «بقول مطلق» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٣) كالمحدّث البحراني في الحدائق ٥ : ٢٤٩.

(٤) كالأمين الأسترابادي والسيّد المحدّث الجزائري وغيرهما ، وسيجيء كلامهم في الصفحة : ٥٢ ـ ٥٥.

(٥) في (ر) : «غير».

(٦) ذهب إليه ابن حمزة في الوسيلة : ٢١٨ ، ونسبه في المسالك والرياض إلى الحلّي أيضا ، ولكن لم نعثر عليه في السرائر ، بل ذهب فيه إلى الجواز في جميع الأشياء ، انظر المسالك (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٨٩ ، والرياض (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٣٩٠ ، والسرائر ٢ : ١٧٩.


أمثلة للقطع الموضوعي بالنسبة إلى حكم غير القاطع

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم (١) غير القاطع كثيرة (٢) ، كحكم الشارع على المقلّد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا علم به من الطرق الاجتهاديّة المعهودة ، لا من مثل الرمل والجفر ؛ فإنّ القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه ، إلاّ أنّه لا يجوز للغير تقليده في ذلك ، وكذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق أو غير الإماميّ من الطرق الاجتهاديّة المتعارفة ، فإنّه لا يجوز للغير العمل بها (٣) ، وكحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحسّ لا من الحدس ، إلى غير ذلك.

٢ ـ قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القطع الموضوعي والطريقي

ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع : قيام الأمارات الشرعيّة وبعض (٤) الاصول العمليّة مقامه في العمل ، بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ؛ فإنّه تابع لدليل الحكم (٥).

فإن ظهر منه أو من دليل خارج (٦) اعتباره على وجه الطريقية للموضوع ـ كالامثلة المتقدّمة (٧) ـ قامت الأمارات وبعض (٨) الاصول مقامه.

__________________

(١) لم ترد «حكم» في (ت).

(٢) لم ترد عبارة «مثل ما ذهب ـ إلى ـ كثيرة» في (ظ) و (م).

(٣) كذا في النسخ ، والأنسب : «به» ؛ لرجوع الضمير إلى «العلم» لا «الطرق».

(٤) لم ترد «بعض» في (ر) ، (ل) و (م).

(٥) في «ص» : «ذلك الحكم».

(٦) لم ترد «أو من دليل خارج» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) لم ترد «كالأمثلة المتقدّمة» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٨) لم ترد «بعض» في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م).


عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي

وإن ظهر من دليل الحكم (١) اعتبار القطع (٢) في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاوليين من الرباعيّة (٣) ؛ فإنّ غيره ـ كالظنّ بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد ـ لا يقوم مقامه إلاّ بدليل خاصّ خارجيّ غير أدلّة حجّية مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.

ومن هذا الباب : عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة أو اليد ـ على قول ـ وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ؛ لأنّ العلم بالمشهود به مأخوذ (٤) في مقام العمل على وجه الطريقيّة ، بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلاّ أن يثبت من الخارج : أنّ كلّ ما يجوز العمل به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة ؛ كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (٥).

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لو نذر أحد أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فإنّه لا يجب التصدّق عند الشكّ في الحياة لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فإنّه يكفي في الوجوب الاستصحاب.

__________________

(١) في (ر) : «وإن ظهر منه».

(٢) في (ر) و (ص) : «صفة القطع».

(٣) لم ترد «من الرباعيّة» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) لم ترد «مأخوذ» في (ر) و (ه).

(٥) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢.


انقسام الظن كالقطع إلى طريقي وموضوعي

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا ـ من (١) كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقيّة واخرى على وجه الموضوعيّة ـ جار في الظنّ أيضا ؛ فإنّه (٢) وإن فارق العلم في كيفيّة الطريقيّة ـ حيث إنّ العلم طريق بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع ، بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه ، كما أشرنا إليه سابقا ـ إلاّ أنّه (٣) أيضا : قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه يقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة ، وقد يؤخذ موضوعا لحكم (٤).

فلا بدّ من ملاحظة دليل ذلك ، ثمّ الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ، لكن الغالب فيه الأوّل.

__________________

(١) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «في».

(٢) لم ترد «فإنّه» في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ص) ، (ظ) ، و (ه) بدل «إلاّ أنّه» : «لكن الظنّ».

(٤) وردت عبارة : «قد يؤخذ طريقا مجعولا ـ إلى ـ موضوعا لحكم» في (ت) ، (ر) ، (ه) ومصحّحة (ص) هكذا :

«قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه (*) ، سواء كان موضوعا على وجه الطريقية لحكم متعلّقه أو لحكم آخر يقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة ، فيقال : إنّه حجّة.

وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه أو لحكم آخر ، ولا يطلق عليه الحجّة» ، وفي بعضها زيادة يسيرة.

__________________

(*) في طبعة جماعة المدرّسين ـ هنا ـ زيادة : «وقد يؤخذ موضوعا للحكم» ، لكنّها لم ترد في ما بأيدينا من النسخ.



وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

الكلام في التجرّي وأنّه حرام أم لا؟

أنّه قد عرفت (١) : أنّ القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة ، فإذا قطع بكون شيء خمرا ، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء.

هل القطع حجّة مطلقا أو في خصوص صورة مصادفته للواقع؟

لكنّ الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله ، فيعاقب على مخالفته ، أو أنّه حجّة عليه إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه في مقابل من شربها جاهلا ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.

الاستدلال على حرمة التجرّي بالإجماع

ظاهر كلماتهم في بعض المقامات : الاتّفاق على الأوّل ؛ كما يظهر من دعوى جماعة (٢) الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت ؛ فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى

__________________

(١) في الصفحة ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) منهم : العلاّمة في المنتهى ٤ : ١٠٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٣ : ١٠٩ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٦١.


فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق.

نعم ، حكي عن النهاية (١) وشيخنا البهائي (٢) التوقّف في العصيان ، بل في التذكرة : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه (٣) فالوجه عدم العصيان (٤) ، انتهى (٥). واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح (٦).

وكذا لا خلاف بينهم ـ ظاهرا ـ في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه (٧).

تأييد الحرمة ببناء العقلاء

ويؤيّده : بناء العقلاء على الاستحقاق ، وحكم العقل بقبح التجرّي.

الاستدلال على الحرمة بالدليل العقلي

وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك (٨) : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين ، بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون

__________________

(١) و (٢) حكى السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول عن الزبدة : التوقّف ، وعن النهاية قولين في موضعين ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٠٨ ، والزبدة : ٤١ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ١١ و ٩٤.

(٣) في (ظ) ، (ل) والمصدر : بطلانه.

(٤) التذكرة ٢ : ٣٩١.

(٥) لم ترد عبارة «بل في التذكرة ـ إلى : ـ انتهى» في (م) ، وكتب عليها في (ص) : أنّها زائدة ، إلاّ أنّه اضيف فيهما تصحيحا بعد قوله : «في المفاتيح» ما يلي : «تبعا للعلاّمة في التذكرة».

(٦) مفاتيح الاصول : ٣٠٨.

(٧) في (ر) زيادة : «فتأمّل».

(٨) المقرّر هو المحقّق السبزواري في الذخيرة.


مائع (١) آخر خمرا ، فشرباهما ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر : فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّه أحدهما ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو العكس.

لا سبيل إلى الثاني والرابع ، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل (٢).

ويمكن الخدشة في الكلّ :

المناقشة في الإجماع

أمّا الإجماع ، فالمحصّل منه غير حاصل ، والمسألة عقليّة ، خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية (٣) وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره (٤) ، والمنقول منه ليس حجّة في المقام.

المناقشة في بناء العقلاء

وأمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ؛ فإنّ المذمّة على المنكشف ، لا الكاشف.

ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجرّي ؛ فإنّه لكشف ما تجرّى به عن خبث الفاعل (٥) ، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.

والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل ـ الغير المنهيّ عنه واقعا ـ مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ

__________________

(١) في (ت) ونسخة بدل (ه) زيادة : «معيّن».

(٢) انظر ذخيرة المعاد : ٢٠٩ و ٢١٠.

(٣) راجع الصفحة السابقة.

(٤) انظر الصفحة ٤٩ ـ ٥٠.

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «لكونه جريئا عازما على العصيان والتمرّد».


هذا الفعل ـ المنهي عنه باعتقاده ظاهرا (١) ـ ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده وكونه في مقام الطغيان والمعصية (٢) ؛ فإنّ هذا غير منكر في المقام (٣) ، لكن لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ؛ لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل.

المناقشة في الدليل العقلي

وأمّا ما ذكر من الدليل العقلي ، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ؛ لأنّه عصى اختيارا ، دون من لم يصادف.

و (٤) قولك : إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار ، ممنوع ؛ فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلاّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ؛ كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ : من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها (٥).

فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة ، واتّفق كثرة

__________________

(١) لم ترد عبارة : «المنهيّ عنه باعتقاده ظاهرا» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد كلمة «ظاهرا» في (ر) و (ص).

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «وعازما عليه».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «كما سيجيء».

(٤) «الواو» من (ه) و (ت).

(٥) انظر الوسائل ١١ : ١٦ ، الباب ٥ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١ ، والبحار ١٠٠ : ٧ ، ضمن الحديث ١ ، وكنز العمّال ١٥ : ٧٨٠ ، الحديث ٤٣٠٧٨.


العامل بإحداهما وقلّة العامل بما سنّه الآخر ، فإنّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وقد اشتهر : «أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا» (١). والأخبار في أمثال ذلك في طرف (٢) الثواب والعقاب بحدّ التواتر.

فالظاهر : أنّ العقل إنّما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية.

وربما يؤيّد ذلك : أنّا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذمّ (٣) بين من صادف قطعه (٤) الواقع وبين من لم يصادف.

إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في المبغوضات العقلائيّة ؛ من حيث إنّ زيادة العقاب (٥) من المولى وتأكّد الذمّ (٦) من العقلاء بالنسبة إلى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفّي ، المستحيل في حقّ الحكيم تعالى ، فتأمّل.

تفصيل صاحب الفصول في التجرّي :

هذا ، وقد يظهر من بعض المعاصرين (٧) : التفصيل في صورة القطع

__________________

(١) لم نجده بعينه ، ويدلّ عليه ما في كنز العمّال ٦ : ٧ ، الحديث ١٤٥٩٧.

(٢) في (ص) : «طرفي».

(٣) كذا في (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «العقاب» بدل «الذمّ».

(٤) كذا في (ت) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «فعله» بدل «قطعه».

(٥) كذا في (ل) ، (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «الذمّ» بدل «العقاب».

(٦) كذا في (ر) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «تأكّده».

(٧) هو صاحب الفصول ، كما سيأتي.


بتحريم شيء غير محرّم واقعا ، فرجّح استحقاق العقاب بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو في بعض الموارد ؛ نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ؛ فإنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبار.

فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع ، وإن كان معذورا لو فعل.

وأظهر من ذلك : ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ أو وصيّ ، فتجرّى ولم يقتله.

ألا ترى : أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له ، فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله ، أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه على هذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل. وكذا لو نصب له طريقا غير القطع إلى معرفة عدوّه ، فأدّى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل.

وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إن لم يصادف الواقع ؛ ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ؛ لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فإنّ المظنون فيه عدمها.

ومن هنا يظهر : أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمكروهات ، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة


ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي (١). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

المناقشة في تفصيل صاحب الفصول :

أقول : يرد عليه :

أوّلا : منع ما ذكره من عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ؛ لأنّ التجرّي على المولى قبيح ذاتا ـ سواء كان لنفس الفعل أو لكشفه عن كونه جريئا (٢) ـ كالظلم ، بل هو قسم من الظلم ، فيمتنع عروض الصفة المحسّنة له ، وفي مقابله الانقياد لله سبحانه وتعالى ، فإنّه يمتنع أن يعرض له جهة مقبّحة.

وثانيا (٣) : لو سلّم أنّه لا امتناع في أن يعرض له جهة محسّنة ، لكنّه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة ، وليس ممّا لا يعرض له في نفسه حسن ولا قبح إلاّ بعد ملاحظة (٤) ما يتحقّق في ضمنه.

وبعبارة اخرى : لو سلّمنا عدم كونه علّة تامّة للقبح كالظلم ، فلا شكّ في كونه مقتضيا له كالكذب ، وليس من قبيل الأفعال التي لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها ولا قبحها ، وحينئذ فيتوقّف ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه ، كالكذب المتضمّن لإنجاء نبيّ.

ومن المعلوم أنّ ترك قتل المؤمن بوصف أنّه مؤمن في المثال الذي ذكره ـ كفعله ـ ليس من الامور التي تتّصف بحسن أو قبح ؛ للجهل

__________________

(١) الفصول : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٢) لم ترد عبارة «سواء ـ إلى ـ جريئا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ر) و (ص) زيادة : «أنّه».

(٤) كذا في (ت) ، (م) و (ه) ، وفي غيرها : «بملاحظة».


بكونه قتل مؤمن ؛ ولذا اعترف في كلامه بأنّه لو قتله كان معذورا ، فإذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقّق التجرّي في ضمنه ممّا يتّصف بحسن أو قبح ، لم يؤثّر في اقتضاء ما يقتضي القبح ، كما لا يؤثّر في اقتضاء ما يقتضي الحسن لو فرض أمره بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره ؛ فإنّه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن.

ودعوى : أنّ الفعل الذي يتحقّق به التجرّي وإن لم يتّصف في نفسه بحسن ولا قبح ـ لكونه مجهول العنوان ـ لكنّه لا يمتنع أن يؤثّر في قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه ، إلاّ أن نقول بعدم مدخليّة الامور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذمّ ، وهو محلّ نظر ، بل منع. وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق (١) في قبح التجرّي.

مدفوعة ـ مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي ، كما لا يخفى على المتأمّل ـ : بأنّ العقل مستقلّ بقبح التجرّي في المثال المذكور ، ومجرّد تحقّق ترك قتل المؤمن في ضمنه ـ مع الاعتراف بأنّ ترك القتل لا يتّصف بحسن ولا قبح ـ لا يرفع قبحه ؛ ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضمّ إليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك.

ثمّ إنّه ذكر هذا القائل في بعض كلماته : أنّ التجرّي إذا صادف المعصية الواقعيّة تداخل عقابهما (٢).

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) الفصول : ٨٧.


ولم يعلم معنى محصّل لهذا الكلام ؛ إذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب لا وجه للتداخل إن اريد به وحدة العقاب ؛ فإنّه ترجيح بلا مرجّح (١) ، وإن اريد به عقاب زائد على عقاب محض التجرّي ، فهذا ليس تداخلا ؛ لأنّ كلّ فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما.

عدم الإشكال في القبح الفاعلي

والتحقيق : أنّه لا فرق في قبح التجرّي بين موارده ، وأنّ المتجرّي لا إشكال في استحقاقه الذمّ من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته بذلك (٢). وأمّا استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّى في ضمنه ، ففيه إشكال ، كما اعترف به الشهيد قدس‌سره فيما يأتي (٣) من كلامه (٤).

الإشكال في القبح الفعلي

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة العبارة التالية : «وسيجيء في الرواية أنّ على الراضي إثما ، وعلى الداخل إثمين» ، انظر الصفحة ٤٧.

(٢) لم ترد «بذلك» في (ت) ، (ر) و (ص) ، وفي (ر) و (ص) زيادة : «وجرأته».

(٣) في الصفحة ٤٩ ـ ٥٠.

(٤) وردت ـ هنا ـ زيادة في (ت) ، (ه) وهامش (ص) ـ مع اختلاف يسير ـ ، وكتب بعدها في (ص) : «منه قدس‌سره» ، والزيادة هكذا : «بل يظهر منه قدس‌سره : أنّ الكلام في تأثير نيّة المعصية إذا تلبّس بما يراه معصية ، لا في تأثير الفعل المتلبّس به إذا صدر عن قصد المعصية ، فتأمّل. نعم ، يظهر من بعض الروايات حرمة الفعل المتجرّى به ؛ لمجرّد الاعتقاد ، مثل موثّقة سماعة : في رجلين قاما إلى الفجر ، فقال أحدهما : هو ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئا ، قال عليه‌السلام : فليأكل الذي لم يبن له ، وحرّم على الذي زعم أنّه طلع الفجر ؛ إنّ الله تعالى قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).


دلالة الأخبار الكثيرة على العفو عن التجرّي بمجرّد القصد إلى المعصية

نعم ، لو كان (١) التجرّي على المعصية بالقصد (٢) إلى المعصية فالمصرّح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه (٣) ، وإن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا (٤) ، مثل :

قوله صلوات الله عليه : «نيّة الكافر شرّ من عمله» (٥).

وقوله : «إنّما يحشر الناس على نيّاتهم» (٦).

دلالة بعض الأخبار على العقاب في القصد

وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار ، وخلود أهل الجنّة في الجنّة ؛ بعزم كلّ من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا (٧).

وما ورد من أنّه : «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟! قال : لأنّه أراد قتل صاحبه» (٨).

__________________

(١) في (ت) ، (ص) و (ه) بدل «نعم لو كان» : «وأمّا».

(٢) في (ص) و (ه) بدل «بالقصد» : «بسبب القصد».

(٣) انظر الوسائل ١ : ٣٦ ـ ٤٠ ، الباب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٦ ، ٧ ، ٨ ، ١٠ ، ٢٠ و ٢١.

(٤) لم ترد «أيضا» في (ظ) و (م).

(٥) الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٣.

(٦) الوسائل ١ : ٣٤ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٥ ، إلاّ أنّ فيه : «إنّ الله يحشر ...».

(٧) الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٤.

(٨) الوسائل ١١ : ١١٣ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١ ، إلاّ فيه بعد قوله «بسيفهما» : «على غير سنّة».


وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتّب الحرام ، كغارس الخمر (١) والماشي لسعاية مؤمن (٢).

وفحوى ما دلّ على أنّ الرضا بفعل كفعله (٣) ، مثل ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّ (٤) «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان : إثم الرضا ، وإثم الدخول (٥)» (٦).

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٧) : من أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين بكثير ؛ لرضاهم (٨) بفعلهم (٩).

ويؤيّده : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠) ، وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٦٥ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ و ٥.

(٢) انظر الوسائل ١٩ : ٩ ، الباب ٢ من أبواب القصاص في النفس ، الحديث ٣ و ٥.

(٣) في (ظ) ، (ل) ، (م) ونسخة بدل (ه) : «كالفعل».

(٤) في (ل) و (م) : «مثل قوله عليه‌السلام : الراضي ...».

(٥) لم ترد عبارة «وعلى الداخل ـ إلى ـ الدخول» في (م).

(٦) نهج البلاغة : الحكمة ١٥٤ ، مع اختلاف ، والوسائل ١١ : ٤١١ ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١٢.

(٧) آل عمران : ١٨٣.

(٨) في (ت) ، (ر) و (ظ) : «رضاهم» ، وفي (ه) : «برضاهم».

(٩) الكافي ٢ : ٤٠٩ ، الحديث ١ ، والوسائل ١١ : ٥٠٩ ، الباب ٣٩ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٦.

(١٠) النور : ١٩.


تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) ، وما ورد من أنّ : «من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعل» (٢) ، وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(٣).

الجمع بين أخبار العفو والعقاب

ويمكن حمل الأخبار الأول على من ارتدع عن قصده بنفسه ، وحمل الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

أو يحمل الأول على من اكتفى بمجرّد القصد ، والثانية على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات ؛ كما يشهد له حرمة الإعانة على المحرّم ، حيث عمّمه بعض الأساطين (٤) لإعانة نفسه على الحرام ؛ ولعلّه لتنقيح المناط ، لا بالدلالة اللفظية.

أقسام التجرّي

ثمّ اعلم : أنّ (٥) التجرّي على أقسام ، يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلّتها (٦).

أحدها : مجرّد القصد إلى المعصية.

ثانيها : القصد مع الاشتغال بمقدّماته.

وثالثها : القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

(٢) لم نعثر عليه بلفظه ، ويدلّ عليه ما تقدّم آنفا ، وما في الوسائل ١١ : ٤١٠ ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديثان ٤ و ٥.

(٣) القصص : ٨٣.

(٤) هو كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط) : الورقة ١٦.

(٥) كذا في (ت) و (ه) ، وفي (ظ) ، (ل) ، (م) ونسخة بدل (ص) : «وقد علم ممّا ذكرنا أنّ» ، وفي (ص) و (ر) : «ثمّ إنّ».

(٦) لم ترد عبارة «يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلّتها» في (ظ) و (م).


ورابعها : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقّق المعصية به.

وخامسها : التلبّس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام.

وسادسها (١) : التلبّس برجاء (٢) أن لا يكون معصية ، وخوف أن يكون معصية.

ويشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الأخيرة : عدم كون الجهل عذرا عقليّا أو شرعيّا ـ كما في الشبهة المحصورة الوجوبيّة أو التحريميّة ـ ؛ وإلاّ لم يتحقّق احتمال المعصية وإن تحقّق احتمال المخالفة للحكم الواقعي ، كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها.

ثمّ إنّ الأقسام الستّة كلّها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمّة من حيث خبث ذاته وجرأته (٣) وسوء سريرته ، وإنّما الكلام في تحقّق العصيان بالفعل المتحقّق في ضمنه التجرّي. وعليك بالتأمّل في كلّ من الأقسام.

ما أفاده الشهيد حول بعض الأقسام المذكورة

قال الشهيد قدس‌سره في القواعد :

لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها ، وهو (٤) ما (٥) ثبت في الأخبار العفو عنه (٦).

ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية ، فظهر خلافها ، ففي

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «والثاني ، والثالث ، والرابع ، والخامس ، والسادس».

(٢) في (ه) ومصحّحة (ت) بدل «التلبّس برجاء» : «التلبّس به رجاء».

(٣) لم ترد «وجرأته» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) كذا في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) ، (م) والمصدر ، وفي (ت) و (ه) : «وهي».

(٥) كذا في (ظ) والمصدر ، وفي غيرهما : «ممّا».

(٦) الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الأحاديث ٦ ، ٨ ، ١٠ ، ٢٠ و ٢١.


تأثير هذه النيّة نظر :

من أنّها لمّا لم تصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة ، وهو (١) غير مؤاخذ بها.

ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي. وقد ذكر بعض الأصحاب (٢) : أنّه لو شرب المباح تشبّها بشرب المسكر فعل حراما ، ولعلّه ليس لمجرّد النيّة ، بل بانضمام فعل الجوارح.

ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : ما لو وجد امرأة في منزل غيره ، فظنّها أجنبيّة فأصابها ، فبان أنّها زوجته أو أمته.

ومنها : ما لو وطئ زوجته بظنّ أنّها حائض ، فبانت طاهرة.

ومنها : ما (٣) لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه.

ومنها : ما (٤) لو ذبح شاة بظنّها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه.

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة.

وقد قال بعض العامّة : نحكم بفسق المتعاطي ذلك ؛ لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ـ ما لم يتب ـ عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة. وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب (٥) ، انتهى.

__________________

(١) كذا في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) ، (م) والمصدر ، وفي (ت) و (ه) : «وهي».

(٢) هو أبو الصلاح الحلبي في كتابه (الكافي في الفقه) : ٢٧٩.

(٣) لم ترد «ما» في (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) والمصدر.

(٤) لم ترد «ما» في (ر) ، (ظ) ، (م) والمصدر.

(٥) القواعد والفوائد ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.


الثاني

عدم حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة عند الأخباريّين

أنّك قد عرفت (١) : أنّه لا فرق فيما يكون العلم فيه كاشفا محضا بين أسباب العلم ، وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين (٢) عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة القطعيّة (٣) الغير الضروريّة ؛ لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها ، فلا يمكن الركون إلى شيء منها.

مناقشة الأخباريّين

فإن أرادوا عدم جواز الركون بعد حصول القطع ، فلا يعقل ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف ؛ ولو أمكن الحكم بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة طابق النعل بالنعل.

وإن أرادوا عدم جواز الخوض في المطالب العقليّة لتحصيل المطالب الشرعيّة ؛ لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلو سلّم ذلك واغمض عن المعارضة بكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة ، فله وجه ، وحينئذ : فلو خاض فيها وحصل القطع بما

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١.

(٢) كالأمين الأسترابادي ، والمحدّث الجزائري ، والمحدّث البحراني ، كما سيأتي.

(٣) لم ترد «القطعيّة» في (ظ) ، (ل) و (م).


لا يوافق الحكم الواقعي لم يعذر في ذلك ؛ لتقصيره في مقدّمات التحصيل. إلاّ أنّ الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد ممّا يقع في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة.

وقد عثرت ـ بعد ما ذكرت هذا ـ على كلام يحكى عن المحدّث الأسترابادي في فوائده المدنيّة ، قال ـ في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام ـ (١) :

كلام المحدّث الأسترابادي في المسألة

الدليل التاسع مبنيّ على مقدّمة دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق الله تعالى ، وهي :

أنّ العلوم النظرية قسمان :

قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ؛ والسبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ؛ لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس.

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعية وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظرية الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ؛ ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وبين

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ل) و (م) زيادة : «قال».


علماء الإسلام في اصول الفقه والمسائل الفقهيّة وعلم الكلام ، وغير ذلك.

والسبب في ذلك : أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة ، لا من جهة المادّة (١) ، وليست في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.

ثمّ استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره ، وقال بعد ذلك :

فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ؛ والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في اصول الدين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنيّة أو القطعيّة.

ومن الموضحات لما ذكرناه ـ من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر ـ : أنّ المشّائيين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل (٢) وإنّما انعدمت صفة من صفاته ، وهو الاتصال.

ثمّ قال :

إذا عرفت ما مهّدناه من (٣) الدقيقة الشريفة ، فنقول :

__________________

(١) في (ر) والمصدر ونسخة بدل (ص) زيادة ما يلي : «إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام».

(٢) في (ص) والمصدر زيادة : «وفي أنّ الشخص الأوّل باق».

(٣) في (ن) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «المقدّمة».


إن تمسّكنا بكلامهم عليهم‌السلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم عنه (١) ، انتهى كلامه.

والمستفاد من كلامه : عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مبادئه قريبة من الإحساس.

وقد استحسن ما ذكره ـ إذا لم يتوافق عليه العقول (٢) ـ غير واحد ممّن تأخّر عنه ، منهم السيّد المحدّث الجزائري قدس‌سره في أوائل شرح التهذيب على ما حكي عنه. قال بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله :

كلام المحدث الجزائري في المسألة

وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه. فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟

قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده ، وهو الحاكم فيها. وأمّا النظريات : فإن وافقه النقل وحكم بحكمه قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي (٣) فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم ، الالتفات إلى ما حكم به العقل.

قال :

وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة ، ثمّ ذكر جملة من المسائل

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٢٩ ـ ١٣١.

(٢) كذا في (ص) ، (ل) و (م) ، ولم ترد عبارة «إذا لم يتوافق عليه العقول» في (ه) ، وشطب عليها في (ت) ، ووردت في (ر) قبل قوله : «وقد استحسن» ، وفي نسخة بدل (ص) بدل «العقول» : «النقل».

(٣) كذا في (ت) ، (ر) ، (ظ) ونسخة بدل (ص) ، وفي (ص) ، (ه) و (م) : «تعارضا».


المتفرّعة (١).

مناقشة ما أفاده المحدث الجزائري

أقول : لا يحضرني شرح التهذيب حتّى الاحظ ما فرّع على ذلك ، فليت شعري! إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء ، كيف يجوز حصول القطع أو الظنّ من الدليل النقلي على خلافه؟ وكذا لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي ، كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع؟

كلام المحدث البحراني في المسألة

وممّن وافقهما على ذلك في الجملة : المحدّث البحراني في مقدّمات الحدائق ، حيث نقل كلاما للسيّد المتقدّم في هذا المقام واستحسنه ، إلاّ أنّه صرّح بحجّية العقل الفطري الصحيح ، وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له. ثمّ قال :

لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها ، ولا سبيل إليها إلاّ السماع عن المعصوم عليه‌السلام ؛ لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها. ثمّ قال :

نعم ، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقّف (٢) على التوقيف ، فنقول :

إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة ـ مثل : الواحد نصف الاثنين ـ فلا ريب في صحّة العمل به ، وإلاّ :

فإن لم يعارضه دليل عقليّ ولا نقليّ فكذلك.

وإن عارضه دليل عقليّ آخر : فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان

__________________

(١) شرح التهذيب (مخطوط) : ٤٧.

(٢) في (ص) والمصدر : «يتوقّف» ، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ والدرر النجفية لصاحب الحدائق ، انظر الدرر النجفية : ١٤٧ ـ ١٤٨.


الترجيح له (١) ، وإلاّ فإشكال.

وإن عارضه دليل نقليّ : فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي ـ إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليّات ـ وإلاّ فالترجيح للنقلي ، وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره ، وخلافا للأكثر.

هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أمّا لو اريد به المعنى الأخصّ ، وهو الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجّة من حجج الملك العلاّم ـ وإن شذّ وجوده في الأنام ـ ففي ترجيح النقليّ عليه إشكال (٢) ، انتهى.

مناقشة ما أفاده المحدث البحراني

ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظريّة مقدّما على ما هو في البداهة من قبيل «الواحد نصف الاثنين» ؛ مع أنّ ضروريّات الدين والمذهب لم يزد في البداهة على ذلك؟! (٣)

والعجب ممّا ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ، كيف يتصوّر الترجيح في القطعيّين ، وأيّ دليل على الترجيح المذكور؟!

وأعجب من ذلك : الاستشكال في تعارض العقليّين من دون

__________________

(١) كذا في (ل) ، (م) و (ه) ، وفي (ر) و (ص) بدل «له» : «للمتأيّد بالدليل النقلي» ، وفي (ت) هكذا : «له ، للتأييد النقلي» ، وفي نسخة بدل (ه) زيادة : «للتأيّد بالدليل النقلي».

(٢) الحدائق ١ : ١٢٦ ـ ١٣٣.

(٣) لم ترد عبارة «ولا أدري ـ إلى ـ على ذلك» في (ه) و (ت) ، وكتب عليها في (ص) : «زائد».


ترجيح ؛ مع أنّه لا إشكال في تساقطهما (١) ، و (٢) في تقديم العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام على الدليل النقلي (٣) ؛ مع أنّ العلم بوجود (٤) الصانع جلّ ذكره إمّا أن يحصل من هذا العقل الفطري ، أو ممّا دونه من العقليّات البديهية ، بل النظريات المنتهية إلى البداهة.

نظرية المصنف في المسألة

والذي يقتضيه النظر ـ وفاقا لأكثر أهل النظر ـ أنّه :

كلّما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي ، وإن وجد ما ظاهره المعارضة فلا بدّ من تأويله إن لم يمكن طرحه.

وكلّما حصل القطع من دليل نقلي ـ مثل القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا ـ فلا يجوز أن يحصل القطع على خلافه من دليل عقلي ، مثل استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر ، ولو حصل منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة ، لكن هذا لا يتأتّى في العقل (٥) البديهي من قبيل : «الواحد نصف الاثنين» ، ولا في (٦) الفطري (٧)

__________________

(١) لم ترد عبارة «في تعارض ـ إلى ـ تساقطهما و» في (ظ) و (م).

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «كذا الاستشكال».

(٣) وردت في (ت) ، (ر) و (ه) بدل عبارة «في تقديم العقلي ـ إلى ـ النقلي» عبارة : «في تقديم النقلي على العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام».

(٤) في (ل) بدل «بوجود» : «بصفات».

(٥) في (ت) و (ص) : «العقلي».

(٦) لم ترد عبارة «البديهي ـ إلى ـ ولا في» في (ه).

(٧) ورد في (ت) بدل عبارة «العقل البديهي ـ إلى ـ الفطري» عبارة : «العقلي البديهي أو العقل الفطري».


الخالي عن شوائب الأوهام ، فلا بدّ في مواردهما (١) من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ؛ لأنّ الأدلّة القطعيّة النظريّة في النقليّات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل (٢) البديهي أو الفطري.

فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء في ذلك (٣) إلى ما يستفاد من الأخبار ـ مثل قولهم عليهم‌السلام : «حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا» (٤) ، وقولهم عليهم‌السلام : «لو أنّ رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وحجّ دهره ، وتصدّق بجميع ماله ، ولم يعرف ولاية وليّ الله ؛ فيكون أعماله بدلالته فيواليه ، ما كان له على الله ثواب» (٥) ، وقولهم عليهم‌السلام : «من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا ...» (٦) ، إلى غير ذلك ـ : من أنّ الواجب علينا هو امتثال أحكام الله تعالى التي بلّغها حججه عليهم‌السلام ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه (٧)» (٨) ؛ فإنّ معنى سكوته عنه

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «مواردها» وفي (ه) : «موارده».

(٢) في (ص) : «العقلي».

(٣) لم ترد «في ذلك» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) الوسائل ١٨ : ٤٧ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥ ، وفيه : «شرّ» بدل «حرام».

(٥) الوسائل ١ : ٩١ ، الباب ٢٩ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٢.

(٦) الوسائل ١٨ : ٥١ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(٧) لم ترد «عنه» في (ت) ، (ل) و (ه).

(٨) لم نعثر عليه بعينه ، نعم جاء في نهج البلاغة هكذا : «وسكت عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها» ، نهج البلاغة ، الحكمة : ١٠٥.


عدم أمر أوليائه بتبليغه ، وحينئذ فالحكم المستكشف (١) بغير واسطة الحجّة ملغى (٢) في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع ؛ كما يشهد به تصريح الإمام عليه‌السلام بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوبا ومرضيّا عند الله.

ووجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقلي (٣) الفطري السليم (٤) : ما ورد من النقل المتواتر على حجّية العقل ، وأنّه حجّة باطنة (٥) ، وأنّه ممّا (٦) يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان (٧) ، ونحوها ممّا يستفاد منه كون العقل السليم أيضا حجّة من الحجج ، فالحكم المستكشف به حكم بلّغه الرسول الباطني ، الذي هو شرع من داخل ، كما أنّ الشرع عقل من خارج (٨).

وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء : ما ذكره السيّد الصدر رحمه‌الله في شرح الوافية ـ في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به العقل ـ ما لفظه :

__________________

(١) كذا في (م) ، وفي غيرها : «المنكشف».

(٢) في (ت) ، (ظ) و (م) : «يلغى».

(٣) في (ر) و (ه) : «العقل».

(٤) ورد في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة «النقلي على العقلي الفطري السليم» عبارة : «العقل الفطري السليم على الدليل النقلي».

(٥) كذا في (ر) ومصحّحة (م) ، وفي غيرهما : «باطنيّة».

(٦) في (ل) : «ما».

(٧) انظر الكافي ١ : ١٦ و ١١ ، الحديث ١٢ و ٣ من كتاب العقل والجهل.

(٨) الكافي ١ : ١٦ ، الحديث ١٢ ، والبحار ١ : ١٣٧ ، الحديث ٤.


كلام السيد الصدر في المسألة

إنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو تركه (١) أو لا يجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق كان (٢) ، انتهى موضع الحاجة.

قلت :

أوّلا : نمنع مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله سبحانه ؛ كيف! والعقل بعد ما عرف أنّ الله تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلاني ، وعلم بوجوب إطاعة الله ، لم يحتج ذلك إلى توسّط مبلّغ.

تفسير الأخبار الدالّة على مدخليّة تبليغ الحجّة

ودعوى : استفادة ذلك من الأخبار ، ممنوعة ؛ فإنّ المقصود من أمثال الخبر المذكور عدم جواز الاستبداد في الأحكام (٣) الشرعيّة بالعقول الناقصة الظنيّة ـ على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات ـ من غير مراجعة حجج الله ، بل في مقابلهم عليهم‌السلام (٤) ؛ وإلاّ فإدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما (٥) في غاية الندرة ، بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي

__________________

(١) لم ترد «أو تركه» في (ل) ، (م) والمصدر.

(٢) شرح الوافية (مخطوط) : ٢١٥.

(٣) كذا في (ت) ، (م) و (ه) ، وفي غيرها : «بالأحكام».

(٤) لم ترد عبارة «من غير مراجعة حجج الله ، بل في مقابلهم عليهم‌السلام» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) ورد في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة «القطعي ـ إلى ـ بينهما» العبارة التالية : «البديهي لحكم شرعيّ نظري».


الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض (١). وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٢).

وأمّا نفي الثواب على التصدّق مع عدم كون العمل (٣) بدلالة وليّ الله ، فلو ابقي على ظاهره دلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّة من حجج الملك العلاّم ، فلا بدّ من حمله على التصدّقات الغير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ـ كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ؛ لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام وبغضهم لأعدائه ـ ، أو على أنّ المراد حبط ثواب التصدّق ؛ من أجل عدم المعرفة لوليّ الله ، أو على غير ذلك.

وثانيا : سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة ، لكنّا إذا علمنا إجمالا بأنّ حكم الواقعة الفلانية لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة ـ مضافا إلى ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة حجّة الوداع (٤) : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد

__________________

(١) لم ترد عبارة «مع أنّ ظاهرها ـ إلى ـ المعارض» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) كمال الدين : ٣٢٤ ، الحديث ٩ ، وعنه في البحار ٢ : ٣٠٣ ، الحديث ٤١ ، وفيه : «بالعقول الناقصة».

(٣) في غير (م) : «العمل به».

(٤) لم ترد عبارة «في خطبة حجّة الوداع» في (ظ) و (م).


نهيتكم عنه» (١) ـ ثمّ أدركنا ذلك الحكم إمّا بالعقل المستقلّ وإمّا بواسطة مقدّمة عقليّة ، نجزم من ذلك بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجّة صلوات الله عليه ، فيكون الإطاعة بواسطة الحجّة.

إلاّ أن يدّعى : أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين تدلّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة فهو غير واجب الإطاعة ، وحينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه‌السلام.

لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار (٢) ، ومع تسليم ظهورها فهو أيضا من باب تعارض النقل الظنّي مع العقل القطعي ؛ ولذلك لا فائدة مهمّة في هذه المسألة ؛ إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضا الله جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا ، فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمؤوّل أو مطروح.

عدم جواز الركون إلى العقل فيما يتعلّق بمناطات الأحكام

نعم ، الإنصاف أنّ الركون إلى العقل فيما يتعلّق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام ، موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) ، و «أنّه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

(٢) راجع الصفحة ٦٠.

(٣) تقدّم الحديث في الصفحة السابقة.


الناس» (١).

وأوضح من ذلك كلّه : رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام : «قال : قلت : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها من الدية؟ قال : عشر من الإبل. قال : قلت : قطع إصبعين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟! كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطان! قال عليه‌السلام : مهلا يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت (٢) إلى النصف ، يا أبان ، إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين» (٣).

وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على ردّ الرواية الظنّية ـ التي سمعها في العراق ـ بمجرّد استقلال عقله بخلافه ، أو على تعجّبه ممّا حكم به الإمام عليه‌السلام ؛ من جهة مخالفته لمقتضى القياس (٤) ، إلاّ أنّ مرجع الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ، فهو توبيخ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع.

__________________

(١) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثية ، نعم ورد في الوسائل ما يقرب منه ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٢) كذا في المصادر الحديثية ، وفي النسخ : «بلغ الثلث رجع».

(٣) الوسائل ١٩ : ٢٦٨ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث الأوّل.

(٤) في (ظ) و (م) بدل «لمقتضى القياس» : «للقياس».


وقد أشرنا هنا وفي أوّل المسألة (١) إلى : عدم جواز الخوض لاستكشاف الأحكام الدينيّة ، في المطالب العقليّة ، والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللّم ؛ لأنّ انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأ لطرح الأمارات النقليّة الظنّية ؛ لعدم حصول الظنّ له منها بالحكم.

ترك الخوض في المطالب العقليّة فيما يتعلّق باصول الدين

وأوجب من ذلك : ترك الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لإدراك ما يتعلّق باصول الدين ؛ فإنّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد ، وقد اشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ، وعند نهي بعض أصحابهم صلوات الله عليهم عن المجادلة في المسائل الكلاميّة (٢).

لكنّ (٣) الظاهر من بعض تلك الأخبار : أنّ الوجه في النهي عن الأخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة ، فيصير مفحما عند المخالفين ، ويوجب ذلك وهن المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف (٤).

__________________

(١) انظر الصفحة ٥١.

(٢) انظر التوحيد ؛ للشيخ الصدوق : ٣٦٥ ، الباب ٦٠ (باب القضاء والقدر والفتنة) ، الحديث ٣ ، والصفحة : ٤٥٤ ، الباب ٦٧ (باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عزّ وجلّ) ، وانظر البحار ٥ : ١١٠ ، الحديث ٣٥ ، و ٣ : ٢٥٧ ، باب النهي عن التفكّر في ذات الله والخوض في مسائل التوحيد.

(٣) في (ت) و (ه) : «ولكنّ».

(٤) انظر البحار ٢ : ١٢٥ ، الحديث ٢.


الثالث

المشهور عدم اعتبار قطع القطّاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين : أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به.

ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره ـ بعد الحكم بأنّ كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه ـ قال :

كلام كاشف الغطاء في المسألة

وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو (١) في ظنّه ، فيلغو اعتبارهما في حقّه (٢) ، انتهى.

مناقشة ما أفاده كاشف الغطاء

أقول : أمّا عدم اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ؛ فلأنّ أدلّة اعتبار الظنّ ـ في مقام يعتبر فيه ـ مختصّة بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظنّ منها لمتعارف الناس لو وجدت تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصل من غيرها يساوي الشكّ في الحكم.

وأمّا قطع من خرج قطعه عن العادة : فإن اريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها ـ كقبول شهادته

__________________

(١) في (ت) والمصدر : «وفي».

(٢) كشف الغطاء : ٦٤.


وفتواه ونحو ذلك ـ فهو حقّ ؛ لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشكّ إرادة غير هذا القسم.

وإن اريد (١) عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع :

فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه ؛ وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب عند عدم العلم ، والقاطع بأنّه صلّى ثلاثا بالبناء على أنّه صلّى أربعا ، ونحو ذلك.

وإن اريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله (٢) إلى الشكّ ، أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ، ولو بأن يقال له : إنّ الله سبحانه لا يريد منك الواقع ـ لو فرض عدم تفطّنه لقطعه بأنّ الله يريد الواقع منه ومن كلّ أحد ـ فهو حقّ ، لكنّه يدخل في باب الإرشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع ، بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة ، وأمّا في ما عدا ذلك ممّا يتعلّق بحقوق الله سبحانه ، فلا دليل على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره.

ولو بني على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ـ

__________________

(١) في (ر) زيادة : «به».

(٢) في (ت) و (ه) : «بتنزيله» ، وفي (ل) : «وتنزّله».


لم يفرّق أيضا بين القطّاع وغيره.

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو أيضا حقّ في الجملة ؛ لأنّ المكلّف إن كان تكليفه حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد ، فالمأتيّ به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره. وإن كان للاعتقاد مدخل فيه ـ كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة ـ فإنّ قضيّة هذا كفاية القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع ، فيجب عليه الإعادة وإن لم تجب على غيره.

توجيه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع

ثمّ إنّ بعض المعاصرين (١) وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع ـ بعد تقييده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجيّة قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ـ : بأنّه يشترط في حجّية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.

مناقشة التوجيه المذكور

وأنت خبير بأنّه يكفي في فساد ذلك عدم تصوّر القطع بشيء وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له.

والعجب أنّ المعاصر مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة أو المراسلة (٢). وفساده يظهر ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا.

__________________

(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٤٣.

(٢) كذا في (م) ، وفي غيرها : «والمراسلة».



الرابع

الكلام في اعتبار العلم الإجمالي ، وفيه مقامان

أنّ المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ، أم لا؟

والكلام فيه يقع :

تارة في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ، وأنّ الحكم المعلوم بالإجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجّز على المكلّف ، أم هو كالمجهول رأسا؟

واخرى في أنّه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي أو الإجمالي المعتبر ، فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجمالية ولو مع تيسّر العلم التفصيلي ، أم لا يكتفى به إلاّ مع تعذّر العلم التفصيلي ، فلا يجوز إكرام شخصين أحدهما زيد مع التمكّن من معرفة زيد بالتفصيل ، ولا فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر؟

والكلام (١) من الجهة الاولى يقع من جهتين ؛ لأنّ اعتبار العلم الإجمالي له مرتبتان :

الاولى : حرمة المخالفة القطعيّة.

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «فيه».


والثانية : وجوب الموافقة القطعيّة.

والمتكفّل للتكلّم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، فالمقصود في المقام الأوّل التكلّم في المرتبة الاولى.


[المقام الثاني] : (١)

هل يكفي العلم الإجمالي في الامتثال

ولنقدّم الكلام في المقام الثاني (٢) ، وهو كفاية العلم الإجمالي في الامتثال ، فنقول :

الامتثال الإجمالي في العبادات

مقتضى القاعدة : جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم (٣) الإجمالي بإتيان المكلّف به ؛ أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح ، وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة ، فالظاهر أيضا تحقّق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

ودعوى : أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّبا معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه ، ممنوعة ؛ إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضا.

فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيلي.

لكن الظاهر ـ كما هو المحكيّ عن بعض (٤) ـ : ثبوت الاتّفاق على

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) وسيأتي البحث في المقام الأوّل في الصفحة ٧٧.

(٣) في (ه) : «على العلم».

(٤) هو صاحب الحدائق ، كما سيشير إليه المصنّف ١ في مبحث الاشتغال ٢ : ٤٠٩ ـ ٤١٠ ، انظر الحدائق ٥ : ٤٠١.


لو توقّف الاحتياط على تكرار العبادة

عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة ، بل ظاهر المحكيّ عن الحلّي (١) ـ في مسألة الصلاة في الثوبين ـ : عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، وإن كان ما ذكره من التعميم (٢) ممنوعا ، وحينئذ (٣) فلا يجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم بالماء المطلق ، أو بجهة القبلة ، أو في ثوب طاهر ، أن يتوضّأ وضوءين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق ، أو يصلّي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة ، أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكنّ الظاهر من صاحب المدارك قدس‌سره : التأمّل ـ بل ترجيح الجواز ـ في المسألة الأخيرة (٤) ، ولعلّه متأمّل في الكلّ ؛ إذ لا خصوصيّة للمسألة الأخيرة.

لو لم يتوقّف الاحتياط على التكرار

وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار ـ كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا ـ فالظاهر عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيلي ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك ، بل ظاهر كلام السيّد الرضيّ رحمه‌الله ـ في مسألة الجاهل بوجوب القصر ـ وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى (٥) رحمه‌الله له : ثبوت الإجماع

__________________

(١) انظر السرائر ١ : ١٨٥.

(٢) «من التعميم» من (ر) و (ص).

(٣) لم ترد عبارة «وإن كان ـ إلى ـ حينئذ» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) المدارك ٢ : ٣٥٦.

(٥) لم نقف عليه ، وحكاه الشهيدان في الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ٢٠٩ ، وروض الجنان : ٣٩٨ عن السيّد المرتضى ، نعم يوجد نظير هذا في أجوبة المسائل الرسيّة الثانية للسيّد المرتضى ، انظر رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.


على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها.

هذا كلّه في تقديم العلم التفصيلي على الإجمالي.

هل يقدّم الظنّ التفصيلي المعتبر على العلم الإجمالي؟

وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظنّ التفصيلي المعتبر ، فيقدّم على العلم الإجمالي ، أم لا؟

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بدليل الانسداد

التحقيق أن يقال : إنّ الظنّ المذكور إن كان ممّا لم يثبت اعتباره إلاّ من جهة دليل الانسداد ـ المعروف بين المتأخّرين لإثبات حجّية الظنّ المطلق ـ فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار.

والعجب ممّن (١) يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ، ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ، ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه.

ولإبطال هذه الشبهة ، وإثبات صحّة عبادة المحتاط محلّ آخر (٢).

وأمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظنّ بتعيين المكلّف به أو عدم الجواز ، وجهان :

من أنّ العمل بالظنّ المطلق لم يثبت إلاّ جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ، أمّا تقديمه على الاحتياط فلم يدلّ عليه دليل. ومن أنّ الظاهر أنّ تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكميّة مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعي ـ ولو كان هو الظنّ المطلق ـ خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء ، مع أنّ جواز العمل بالظنّ إجماعيّ ، فيكفي

__________________

(١) هو المحقّق القمي ، انظر القوانين ١ : ٤٤٠ ، و ٢ : ١٤٤.

(٢) الكلام في ذلك موكول إلى الفقه ، انظر كتاب الطهارة للمؤلف ٢ : ٣٥.


في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه واعتبار الاعتقاد التفصيلي في الامتثال.

والحاصل : أنّ الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ولو كان ظنّا ، وبين تحصيل العلم بتحقّق الإطاعة ولو إجمالا ، فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي يكون الثاني مقدّما على الأوّل في مقام الإطاعة ؛ بحكم العقل والعقلاء ، لكن بعد العلم بجواز الأوّل والشكّ في جواز الثاني في الشرعيّات ـ من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك وإطلاقهم اعتبار نيّة الوجه (١) ـ فالأحوط ترك ذلك وإن لم يكن واجبا ؛ لأنّ نيّة الوجه لو قلنا باعتباره (٢) فلا نسلّمه إلاّ مع العلم بالوجه أو الظنّ الخاصّ ، لا الظنّ المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلاّ بعدم وجوب الاحتياط ، لا بعدم جوازه ، فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط؟

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص

وأمّا لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص ، فالظاهر أنّ تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار مبنيّ على اعتبار قصد الوجه ، وحيث قد رجّحنا في مقامه (٣) عدم اعتبار نيّة الوجه ؛ فالأقوى جواز ترك تحصيل الظنّ والأخذ بالاحتياط. ومن هنا يترجّح القول بصحّة عبادة المقلّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، إلاّ أنّه خلاف

__________________

(١) كالسيّد ابن زهرة في الغنية : ٥٣ ، والحلّي في السرائر ١ : ٩٨ ، والمحقّق في الشرائع ١ : ٢٠ و ٧٨ ، والعلاّمة في نهاية الإحكام ١ : ٢٩ و ٤٤٧ ، والتذكرة ١ : ١٤٠ ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ١ : ٢٠١ وغيرهم.

(٢) كذا في النسخ.

(٣) راجع كتاب الصلاة ١ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ، وكتاب الطهارة ٢ : ٣٩ ـ ٤٥.


الاحتياط ؛ من جهة وجود القول بالمنع من جماعة (١).

وإن توقّف الاحتياط على التكرار فالظاهر ـ أيضا ـ جواز التكرار ، بل أولويّته على الأخذ بالظنّ الخاصّ ؛ لما تقدّم (٢) : من أنّ تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظنّي به ولو كان تفصيلا. وأدلّة الظنون الخاصّة إنّما دلّت على كفايتها عن الواقع ، لا تعيّن (٣) العمل بها في مقام الامتثال.

إلاّ أنّ شبهة اعتبار نيّة الوجه ـ كما هو قول جماعة ، بل المشهور بين المتأخّرين (٤) ـ جعل (٥) الاحتياط في خلاف ذلك ، مضافا إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة.

مع إمكان أن يقال : إنّه إذا شكّ ـ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به ، لا حصوله بأيّ وجه اتّفق ـ في أنّ الداعي هو التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، أو التعبّد بخصوصه متميّزا عن غيره ، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، وهذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتّى يدفع بإطلاقه ، كما لا يخفى.

وحينئذ : فلا ينبغي ، بل لا يجوز ترك الاحتياط ـ في جميع موارد

__________________

(١) منهم : الشهيد الأوّل في الألفيّة والنفليّة : ٣٩ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٣٢ ، وروض الجنان : ٢٤٨.

(٢) في الصفحة السابقة.

(٣) كذا في (ر) و (م) ، وفي غيرهما : «تعيين».

(٤) تقدّمت الإشارة إليهم في الصفحة السابقة ، الهامش (١).

(٥) الأنسب : «جعلت» ؛ لأنّ الضمير يعود إلى «شبهة».


إرادة التكرار ـ بتحصيل الواقع أوّلا بظنّه المعتبر ، من التقليد أو الاجتهاد بإعمال الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وإتيان الواجب مع نيّة الوجه ، ثمّ الإتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.

وتوهّم : أنّ هذا قد يخالف الاحتياط ؛ من جهة احتمال كون الواجب ما أتى به بقصد القربة ، فيكون قد أخلّ فيه بنيّة الوجوب.

مدفوع : بأنّ هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لا بدّ منه ؛ إذ لو أتى به بنيّة الوجوب كان فاسدا قطعا ؛ لعدم وجوبه ظاهرا على المكلّف بعد فرض الإتيان بما وجب عليه في ظنّه المعتبر.

وإن شئت قلت : إنّ نيّة الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط إجماعا حتّى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ؛ لأنّ لازم قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعيّة الاحتياط وكونه لغوا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك عدا السيّد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغنية في ردّ الاستدلال على كون الأمر للوجوب : ب : أنّه أحوط (١) ، وسيأتي ذكره (٢) عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد (٣).

__________________

(١) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٦٣.

(٢) انظر الصفحة ٤١٦ ـ ٤١٨.

(٣) لم ترد عبارة «عدا السيّد ـ إلى ـ الانسداد» في (ل) ، ولم نعثر على كلام للسيّد في الموضع الذي أشار إليه المصنّف ، ويؤيّده ما قاله في أوثق الوسائل : «لا يذهب عليك : أنّه لم يتعرّض المصنّف ; عند الكلام على الاحتياط في مقدّمات دليل الانسداد ، للكلام على عدم مشروعيّة الاحتياط ولا لكلام السيّد ، مع إطنابه الكلام ثمّة في وجوب الاحتياط ومنعه» أوثق الوسائل : ٤٤.


[المقام الأوّل](١)

هل تحرم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟

أمّا (٢) المقام الأوّل وهو كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف ، واعتباره كالتفصيلي ، فقد عرفت (٣) : أنّ الكلام في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعيّة وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة راجع إلى مسألة البراءة والاحتياط ، والمقصود هنا بيان اعتباره في الجملة الذي أقلّ مرتبته (٤) حرمة المخالفة (٥) القطعيّة ، فنقول :

صور العلم الإجمالي

إنّ للعلم الإجمالي صورا كثيرة ؛ لأنّ الإجمال الطارئ :

إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلا ، كما لو شككنا أنّ حكم الوجوب في يوم الجمعة يتعلّق (٦) بالظهر أو الجمعة ، وحكم الحرمة يتعلّق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك.

وإمّا من جهة نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ، كما لو شكّ في أنّ هذا الموضوع المعلوم الكلّي أو الجزئي يتعلّق به الوجوب أو الحرمة.

وإمّا من جهة الحكم والمتعلّق جميعا ، مثل أن نعلم أنّ حكما من

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (م) : «وأمّا».

(٣) راجع الصفحة ٧٠.

(٤) كذا في (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرهما : «مراتبه».

(٥) في (ظ) و (م) : «مخالفته».

(٦) في (ت) ، (ل) و (ه) : «متعلّق».


الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين.

ثمّ (١) الاشتباه في كلّ من الثلاثة :

إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع ، كما في مثال الظهر والجمعة.

وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب ، كما في المثال الثاني.

والاشتباه في هذا القسم : إمّا في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة ، وإمّا في المكلّف.

وطرفا الشبهة في المكلّف : إمّا أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد كما في الخنثى ، وإمّا أن يكونا احتمالين في مخاطبين ، كما في واجدي المني في الثوب المشترك.

العلم الإجمالي الطريقي والموضوعي

ولا بدّ قبل التعرّض لبيان حكم الأقسام من التعرّض لأمرين : الأوّل (٢) : أنّك قد عرفت في أوّل مسألة اعتبار العلم (٣) : أنّ اعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقيّة ، وقد يكون من باب الموضوعية بجعل الشارع.

والكلام هنا في الأوّل ؛ إذ اعتبار العلم الإجمالي وعدمه في الثاني تابع لدلالة ما دلّ على جعله موضوعا ، فإن دلّ على كون العلم التفصيلي داخلا في الموضوع ـ كما لو فرضنا أنّ الشارع لم يحكم بوجوب

__________________

(١) في (ص) : «ثمّ إنّ».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أحدهما».

(٣) راجع الصفحة ٣٠.


الاجتناب إلاّ عمّا علم تفصيلا نجاسته ـ فلا إشكال في عدم اعتبار العلم الإجمالي بالنجاسة.

إذا تولّد من العلم الإجمالي علم تفصيلي بالحكم الشرعي

الثاني : أنّه إذا تولد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد ، وجب اتّباعه وحرمت مخالفته ؛ لما تقدّم : من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ، فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث ، أو بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ، أو بين ترك ركن وفعل مبطل ، أو بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه ـ بناء على اعتبار وجود شرائط الإمام في علم المأموم ـ ، إلى غير ذلك.

عدم الفرق بين هذا العلم التفصيلي وغيره من العلوم التفصيليّة

وبالجملة : فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي وبين غيره من العلوم التفصيليّة.

إلاّ أنّه قد وقع (١) في الشرع موارد توهم خلاف ذلك :

الموارد التي توهم خلاف ذلك

منها : ما حكم به بعض (٢) فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل : من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ؛ فإنّ إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعي المعلوم وجوده بين القولين ، بل ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله القائل

__________________

(١) في (ت) ومصحّحة (ه) : «ورد».

(٢) لم نقف على من حكم بذلك ، نعم حكاه الشيخ في العدّة ٢ : ٦٣٦ ، والمحقّق في المعارج : ١٣٣ ، وتبعهما صاحبا المعالم والقوانين في المعالم : ١٧٩ ، والقوانين ١ : ٣٨٣ ، وقال المحقّق النراقي : إنّه الظاهر في بادئ النظر ، انظر مناهج الأحكام : ٢٠٤.


بالتخيير (١) : هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي في الواقعة.

ومنها : حكم بعض (٢) بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا ؛ فإنّه قد يؤدّي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة ، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية ؛ فإنّا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية ؛ لكون بعض ثمنها ميتة ، فنعلم تفصيلا بحرمة وطئها ، مع أنّ القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراج هذه الصورة.

ومنها : حكم بعض (٣) بصحّة ائتمام أحد واجدي المني في الثوب المشترك بينهما بالآخر ، مع أنّ المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من جهة حدثه أو حدث إمامه.

ومنها : حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان ، بحيث يعلم صدق أحدهما وكذب الآخر ؛ فإنّ لازم ذلك جواز شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما ، مع أنّه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٦٣٧.

(٢) هو العلاّمة المجلسي في أربعينه (الصفحة ٥٨٢) ، على ما في القوانين ٢ : ٢٧ ، وسيجيء في مبحث الاشتغال (٢ : ٢٢٥) نسبة ذلك إلى صاحب المدارك ، انظر المدارك ١ : ١٠٨.

(٣) وهو العلاّمة في التذكرة ١ : ٢٢٤ ، ونهاية الإحكام ١ : ١٠١ ، والتحرير ١ : ١٢ ، والسيّد العاملي في المدارك ١ : ٢٧٠.


ومنها : حكمهم فيما (١) لو كان لأحد درهم ولآخر (٢) درهمان ، فتلف أحد الدراهم من عند الودعي : أنّ (٣) لصاحب الاثنين واحدا ونصفا وللآخر نصفا (٤) ؛ فإنّه قد يتّفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيلية ، كما لو أخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث ، فإنّه يعلم تفصيلا بعدم انتقاله من مالكه الواقعي إليه.

ومنها : ما لو أقرّ بعين لشخص ثمّ أقرّ بها لآخر (٥) ، فإنّه يغرم للثاني قيمة العين بعد دفعها إلى الأوّل ؛ فإنّه قد يؤدّي ذلك إلى اجتماع العين والقيمة عند واحد ويبيعهما (٦) بثمن واحد ، فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه ؛ لكون بعض مثمنه مال المقرّ في الواقع.

ومنها : الحكم بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه أو مثمنه على وجه يقضى فيه بالتحالف ، كما لو اختلفا في كون المبيع بالثمن المعيّن عبدا أو جارية ؛ فإنّ ردّ الثمن إلى المشتري بعد التحالف مخالف للعلم التفصيلي بصيرورته ملك البائع ثمنا للعبد أو الجارية. وكذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرة دنانير أو مائة درهم ؛ فإنّ الحكم بردّ

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «فيما» : «بأنّه».

(٢) في (ظ) و (م) : «للآخر».

(٣) في (ت) و (ر) : بأنّ.

(٤) كما في الشرائع ٢ : ١٢١ ، ونهاية الإحكام : ٣١٤ ، وقواعد الأحكام ١ : ١٨٦ ، والدروس ٣ : ٣٣٣.

(٥) كذا في (م) ، وفي غيرها : «للآخر».

(٦) في (ظ) و (م) : «بيعهما».


الجارية مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري.

ومنها : حكم بعضهم (١) بأنّه (٢) لو قال أحدهما : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني إيّاها : أنّهما (٣) يتحالفان وتردّ الجارية إلى صاحبها ، مع أنّا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى الآخر.

إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبّع.

الجواب عن الموارد المذكورة

فلا بدّ في هذه الموارد من التزام أحد امور على سبيل منع الخلوّ :

الأوّل (٤) : كون العلم التفصيلي في كلّ من أطراف الشبهة موضوعا للحكم ، بأن يقال : إنّ الواجب الاجتناب عمّا علم كونه بالخصوص بولا ، فالمشتبهان طاهران في الواقع. وكذا المانع للصلاة الحدث المعلوم صدوره تفصيلا من مكلّف خاصّ ، فالمأموم والإمام متطهّران في الواقع.

الثاني : أنّ الحكم الظاهري في حقّ كلّ أحد نافذ واقعا في حقّ الآخر ، بأن يقال : إنّ من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه ، فللآخر أن يرتّب عليها آثار الصحّة الواقعيّة ، فيجوز له الائتمام به (٥). وكذا من حلّ له أخذ الدار ممّن وصل إليه نصفه ، إذا لم يعلم

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ل) بدل «حكم بعضهم» : «الحكم». انظر التذكرة ١ : ٥٧٦ ، وجامع المقاصد ٤ : ٤٥٣ ، ومفتاح الكرامة ٤ : ٧٦٦.

(٢) في (ت) و (ه) بدل «بأنّه» : «فيما».

(٣) في (ت) ومصحّحة (ه) : «بأنّهما».

(٤) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أحدها».

(٥) لم ترد «به» في غير (ت) ، (ر) و (ه).


كذبه في الدعوى ـ بأن استند إلى بيّنة ، أو إقرار ، أو اعتقاد من القرائن ـ فإنّه يملك هذا النصف في الواقع ، وكذلك إذا اشترى النصف الآخر ، فيثبت ملكه للنصفين في الواقع. وكذا الأخذ ممّن وصل إليه نصف الدرهم في مسألة الصلح ، و (١) مسألتي التحالف.

الثالث : أن يلتزم :

بتقييد الأحكام المذكورة بما إذا لم يفض إلى العلم التفصيلي بالمخالفة ، والمنع ممّا يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلا ، كمسألة اختلاف الامّة على قولين.

وحمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصّا شرعيا قهريّا عمّا يدّعيه من الثمن ، أو انفساخ البيع بالتحالف من أصله ، أو من حينه.

وكون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهريّة.

وعليك بالتأمّل في دفع الإشكال عن كلّ مورد بأحد الامور المذكورة ؛ فإنّ اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي وحرمة مخالفته ممّا لا يقبل التخصيص بإجماع أو نحوه.

أقسام مخالفة العلم الإجمالي

إذا عرفت هذا ، فلنعد إلى حكم مخالفة العلم الإجمالي ، فنقول :

مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال يتصوّر على وجهين :

الأوّل (٢) : مخالفته من حيث الالتزام ، كالالتزام بإباحة وطء المرأة المردّدة بين من حرم وطؤها بالحلف ومن وجب وطؤها به مع اتّحاد

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «كذا في».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أحدهما».


زماني الوجوب والحرمة ، وكالالتزام بإباحة موضوع كليّ مردّد أمره بين الوجوب والتحريم مع عدم كون أحدهما المعيّن تعبّديا يعتبر فيه قصد الامتثال ؛ فإنّ المخالفة في المثالين ليست (١) من حيث العمل ؛ لأنّه لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب والترك الموافق للحرمة ، فلا قطع بالمخالفة إلاّ من حيث الالتزام بإباحة الفعل.

الثاني : مخالفته من حيث العمل ، كترك الأمرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما ، وارتكاب فعلين يعلم بحرمة أحدهما ، فإنّ المخالفة هنا من حيث العمل.

وبعد ذلك ، نقول (٢) :

جواز المخالفة الالتزاميّة للعلم الإجمالي

أمّا المخالفة الغير العمليّة ، فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعيّة والحكمية معا ، سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد كالمثالين المتقدّمين ، أو بين حكمين لموضوعين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول.

أمّا في الشبهة الموضوعيّة ؛ فلأنّ الأصل في الشبهة الموضوعيّة إنّما يخرج مجراه عن موضوع التكليفين ، فيقال : الأصل عدم تعلّق الحلف بوطء هذه وعدم تعلّق الحلف بترك وطئها ، فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ، فيحكم (٣) بالإباحة ؛ لأجل الخروج عن موضوع الوجوب والحرمة ، لا لأجل طرحهما. وكذا الكلام في

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «ليس».

(٢) في غير (ت) و (ه) : «فنقول».

(٣) في (ت) ، (ص) ، (ل) و (ه) : «فنحكم».


الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردّد.

وأمّا الشبهة الحكميّة ؛ فلأنّ الاصول الجارية فيها وإن لم تخرج مجراها عن موضوع الحكم الواقعي ، بل كانت منافية لنفس الحكم (١) ـ كأصالة الإباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة ؛ فإنّ الاصول في هذه منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، لا مخرجة عن موضوعه ـ إلاّ أنّ الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتّب عليه أثر إلاّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية (٢) ، والمفروض أنّه لا يلزم من إعمال الاصول مخالفة عمليّة له ليتحقّق المعصية.

ووجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت ؛ لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعيّة إنّما يجب مقدّمة للعمل ، وليست كالاصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات.

ولو فرض ثبوت الدليل ـ عقلا أو نقلا ـ على وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي ، لم ينفع ؛ لأنّ (٣) الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فهي ـ كالاصول في الشبهة الموضوعيّة ـ مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني وجوب الأخذ (٤) بحكم الله.

__________________

(١) في (ظ) و (م) زيادة : «الواقعي».

(٢) في (ظ) و (ه) ونسخة بدل (ص) : «وجوب الموافقة وحرمة المخالفة».

(٣) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة «... الواقعي لم ينفع لأنّ» عبارة : «... الواقعي إلاّ أنّ» ، نعم وردت العبارة في نسخة بدل (م) كما في المتن.

(٤) في نسخة بدل (ص) بدل «الأخذ» : «الالتزام».


هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّه لو ثبت هذا التكليف ـ أعني وجوب الأخذ بحكم الله والالتزام به (١) مع قطع النظر عن العمل ـ لم تجر الاصول ؛ لكونها موجبة للمخالفة العمليّة للخطاب التفصيلي أعني وجوب الالتزام بحكم الله ، وهو (٢) غير جائز حتّى في الشبهة الموضوعيّة ـ كما سيجيء (٣) ـ فيخرج عن المخالفة الغير العمليّة.

فالحقّ : منع فرض قيام الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع (٤).

فالتحقيق (٥) : أنّ طرح (٦) الحكم الواقعي ولو كان معلوما تفصيلا ليس محرّما إلاّ من حيث كونها معصية دلّ العقل على قبحها واستحقاق العقاب بها (٧) ، فإذا فرض العلم تفصيلا بوجوب شيء (٨) فلم يلتزم به المكلّف إلاّ أنّه (٩) فعله لا لداعي الوجوب ، لم يكن عليه شيء. نعم ، لو

__________________

(١) «به» من (ص) و (ل).

(٢) كذا ، والمناسب : «هي».

(٣) انظر الصفحة ٩٣.

(٤) لم ترد «فالحقّ ـ إلى ـ الشارع» في غير (ت) و (ه) ، نعم وردت بدلها في (ر) و (ص) عبارة «فالحقّ مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به».

(٥) لم ترد «فالتحقيق» في (ر) و (ص).

(٦) في (ر) ونسخة بدل (ص) : «ترك».

(٧) في نسخة بدل (ص) : «عليها».

(٨) كذا في (م) ، وفي غيرها : «الشيء».

(٩) في (ر) ، (ص) و (ل) بدل «إلاّ أنّه» : «لكنّه».


اخذ في ذلك الفعل نيّة (١) القربة ، فالإتيان به لا للوجوب مخالفة عمليّة ومعصية ؛ لترك المأمور به ؛ ولذا قيّدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة (٢) بغير ما علم كون أحدهما المعيّن تعبّديّا (٣).

فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي ، فإذا علم إجمالا بحكم مردّد بين الحكمين ، وفرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين علم بكون أحدهما حكم الشارع ، والمفروض أيضا عدم مخالفتهما (٤) في العمل ، فلا معصية ولا قبح ، بل وكذلك لو فرضنا عدم جريان الأصل ؛ لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيلي (٥).

المخالفة الالتزاميّة ليست مخالفة

فملخّص الكلام : أنّ المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ، ومخالفة الأحكام الفرعيّة إنّما هي في العمل ، ولا عبرة بالالتزام وعدمه.

دليل الجواز بوجه أخصر

ويمكن أن يقرّر دليل الجواز بوجه أخصر ، وهو : أنّه لو وجب الالتزام :

فإن كان بأحدهما المعيّن واقعا فهو تكليف من غير بيان ، ولا يلتزمه أحد (٦).

__________________

(١) في (ت) ، (ظ) و (م) : «لو اخذ في ذلك ، الفعل بنيّة».

(٢) راجع الصفحة ٨٤.

(٣) لم ترد عبارة «ولذا قيّدنا ـ إلى ـ تعبّديا» في (م).

(٤) في (ت) و (ه) : «مخالفته».

(٥) في (ت) زيادة العبارة التالية : «مع قطع النظر عن وجوب تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله».

(٦) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة «واقعا فهو ـ إلى ـ أحد» عبارة : «فلا يلتزمه أحد ؛ لأنّه تكليف من غير بيان».


وإن كان بأحدهما المخيّر فيه (١) فهذا لا يمكن أن يثبت بذلك الخطاب الواقعي المجمل ، فلا بدّ له من خطاب آخر عقلي أو نقلي (٢) ، وهو ـ مع أنّه لا دليل عليه ـ غير معقول ؛ لأنّ الغرض من هذا الخطاب المفروض كونه توصّليا ، حصول مضمونه ـ أعني إيقاع الفعل أو الترك تخييرا ـ وهو حاصل من دون الخطاب التخييري ، فيكون الخطاب طلبا للحاصل ، وهو محال.

إلاّ أن يقال : إنّ المدّعي للخطاب التخييري إنّما يدّعي ثبوته بأن يقصد منه التعبّد بأحد الحكمين ، لا مجرّد حصول مضمون أحد الخطابين الذي هو حاصل ، فينحصر دفعه حينئذ بعدم (٣) الدليل ، فافهم (٤).

وأمّا دليل (٥) وجوب الالتزام بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يثبت إلاّ الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ، لا الالتزام بأحدهما تخييرا عند الشكّ (٦) ، فافهم (٧).

__________________

(١) في (ل) : «بأحدهما على وجه التخيير» ، ولم ترد في (م) : «فيه».

(٢) لم ترد عبارة «عقلي أو نقلي» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٣) في (ت) : «في عدم».

(٤) لم ترد «فافهم» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٥) لم ترد «دليل» في (ت) و (ه).

(٦) وردت في (ت) و (ه) بدل عبارة «تخييرا عند الشكّ» : «المخيّر».

(٧) وردت في (ل) و (م) بدل عبارة «المجمل ، فلا بدّ له من خطاب آخر ـ إلى ـ فافهم» العبارة التالية : «المعيّن المردّد بين الأمر والنهي ، فلا بدّ له من خطاب آخر عقليّ أو نقلي ، والمفروض عدم ثبوته.

مع أنّ ذلك الخطاب حيث فرض كونه توصّليا ، فالغرض منه ـ وهو واحد


ولكن الظاهر من جماعة من الأصحاب (١) ـ في مسألة الإجماع المركّب ـ : إطلاق القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم علم عدم كونه حكم الإمام عليه‌السلام في الواقع ؛ وعليه بنوا عدم جواز الفصل فيما علم كون الفصل فيه طرحا لقول الإمام عليه‌السلام.

نعم ، صرّح غير واحد من المعاصرين (٢) ـ في تلك المسألة ـ فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، بجواز العمل بكليهما ، وقاسه بعضهم (٣) على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات.

لكن القياس في غير محلّه ؛ لما تقدّم : من أنّ الاصول في الموضوعات حاكمة على أدلّة التكليف ؛ فإنّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء ـ بحكم الأصل ـ على عدم تعلّق الحلف بترك وطئها ، فهي

__________________

من الفعل والترك ـ حاصل بدونه ، فهو محال ؛ لأنّه طلب للحاصل ، إلاّ أن يلتزم بأنّ الخطاب التخييري المدّعى ثبوته ليس الغرض منه ما هو حاصل بدونه ، بل المقصود منه صدور واحد من الفعل أو الترك مع الالتزام بالحكم ، لا على وجه عدم المبالاة والتقييد بالمعلوم إجمالا من الشارع ، فافهم».

وبين النسختين اختلاف يسير ، وما أثبتناه مطابق لنسخة (م).

(١) كالمحقّق في المعارج : ١٣١ ، وصاحب المعالم في المعالم : ١٧٨ ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٣٧٨ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٥٦ ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : ٢٠٢.

(٢) منهم صاحب الفصول في الفصول : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، والفاضل النراقي في المناهج : ٢٠٤.

(٣) هو صاحب الفصول ، نفس المصدر.


خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطء من حلف على ترك وطئها وكذا الحكم بعدم وجوب وطئها لأجل البناء على عدم الحلف على وطئها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطء من حلف على وطئها. وهذا بخلاف الشبهة الحكميّة ؛ فإنّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال ، وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتّى لا ينافيه جعل (١) الشارع.

لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد ؛ إذ اللازم من منافاة الاصول لنفس الحكم الواقعي ، حتّى مع العلم التفصيلي ومعارضتها له ، هو كون العمل بالاصول موجبا لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام ، فإذا فرض جواز ذلك ـ لأنّ العقل والنقل (٢) لم يدلاّ (٣) إلاّ على حرمة المخالفة العمليّة ـ فليس الطرح من حيث الالتزام مانعا عن إجراء الاصول المتنافية في الواقع.

ولا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الإمام عليه‌السلام في مسألة الإجماع ، على طرحه من حيث العمل ؛ إذ هو المسلّم المعروف من طرح قول الحجّة ، فراجع كلماتهم فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل ؛ فإنّ ظاهر الشيخ رحمه‌الله (٤) الحكم بالتخيير الواقعي ، وظاهر المنقول عن بعض طرحهما والرجوع إلى

__________________

(١) في (ر) ، (ظ) و (م) : «بجعل».

(٢) لم ترد «والنقل» في (ر) ، وشطب عليها في (ص).

(٣) كذا في (ه) ومصحّحة (ت) ، وفي غيرهما : «لم يدلّ».

(٤) انظر العدّة ٢ : ٦٣٧.


الأصل (١) ، ولا ريب أنّ في كليهما طرحا للحكم الواقعي ؛ لأنّ التخيير الواقعي كالأصل حكم ثالث.

نعم ، ظاهرهم في مسألة «دوران الأمر بين الوجوب والتحريم» : الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة ، وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير (٢) ، وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة (٣). والإنصاف : أنّه لا يخلو عن قوّة ؛ لأنّ المخالفة العمليّة التي لا تلزم في المقام هي المخالفة دفعة و (٤) في واقعة (٥) ، وأمّا المخالفة تدريجا و (٦) في واقعتين فهي لازمة البتة ، والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعمد (٧) ، كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها من غير تعبّد (٨) بحكم ظاهري عند كلّ واقعة ، وحينئذ فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك ؛ إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع يقينا عن قصد.

وتعدّد الواقعة إنّما يجدي مع الإذن من الشارع عند كلّ واقعة ،

__________________

(١) نقله الشيخ في العدّة ٢ : ٦٣٦.

(٢) كصاحب الفصول في الفصول : ٣٥٦.

(٣) كالعلاّمة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٦٠.

(٤) لم ترد «الواو» في (ر).

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «عن قصد وعلم» ، وفي نسخة بدل (ت) : «عن قصد وعمد» ، ولم ترد «وفي واقعة» في (ظ).

(٦) لم ترد «الواو» في (ت) و (ر).

(٧) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ل) بدل «عمد» : «علم».

(٨) كذا في (ت) ، (ه) ومحتمل (ص) ، وفي غيرها : «تقييد».


كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرّا يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلى الآخر ، وأمّا مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحقّ عقلا العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض ، أمّا لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتّفقت.

ويمكن استفادة الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض.

لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدّد فيها الواقعة حتّى تحصل المخالفة العمليّة تدريجا ، فالمانع في الحقيقة هي المخالفة العملية القطعية ولو تدريجا مع عدم التعبّد بدليل ظاهريّ ، فتأمّل جدّا (١).

هذا كلّه في المخالفة القطعيّة للحكم المعلوم إجمالا من حيث الالتزام ، بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا اقتضت الاصول ذلك (٢).

__________________

(١) وردت بدل عبارة «والعقل كما يحكم ـ إلى ـ ظاهري» في (ل) و (م) العبارة التالية :

«والعقل يقبّح المخالفة التدريجيّة إذا كان عن قصد إليها ومن غير تقييد بحكم ظاهريّ عند كلّ واقعة ؛ لأنّ ارتكاب ما هو مبغوض للمولى من قصد قبيح ـ ولو كان في واقعتين ـ إذا لم يكن له عند كلّ واقعة ما هو بدل ظاهرا للمعلوم إجمالا في الواقعتين ، وحينئذ : فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك ، وبقبح عقابه لو اتّفق مخالفة ما التزم للحكم الواقعي ؛ لأنّ هذا الالتزام غاية الإمكان في الانقياد لذلك التكليف المجهول ، فافهم».

وبين النسختين اختلاف يسير غير مخلّ.

(٢) لم ترد عبارة «هذا كلّه ـ إلى ـ ذلك» في (م).


المخالفة العمليّة للعلم الإجمالي

وأمّا المخالفة العمليّة :

فإن كانت لخطاب تفصيليّ ، فالظاهر عدم جوازها ، سواء كانت في الشبهة الموضوعيّة ، كارتكاب الإناءين المشتبهين المخالف لقول الشارع :

لو كانت المخالفة لخطاب تفصيلي

«اجتنب عن النجس» ، و (١) كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم ؛ لأنّ ذلك معصية لذلك الخطاب ؛ لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإناءين ، ووجوب صلاة الظهر والعصر ـ مثلا ـ قصرا أو إتماما (٢) ، وكذا لو قال : أكرم زيدا ، واشتبه بين شخصين ؛ فإنّ ترك إكرامهما معصية.

فإن قلت : إذا أجرينا أصالة الطهارة في كلّ من الإناءين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع ، فليس في ارتكابهما ـ بناء على طهارة كلّ منهما ـ مخالفة لقول الشارع : «اجتنب عن النجس».

قلت : أصالة الطهارة في كلّ منهما بالخصوص إنّما يوجب جواز ارتكابه من حيث هو ، وأمّا الإناء النجس الموجود بينهما فلا أصل يدلّ على طهارته ؛ لأنّه نجس يقينا ، فلا بدّ إمّا من اجتنابهما ؛ تحصيلا للموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يجتنب أحدهما ؛ فرارا عن المخالفة القطعيّة ، على الاختلاف المذكور في محلّه (٣).

__________________

(١) في (خ) ، (ع) ، (ف) و (ن) زيادة : «أو في الشبهة الحكميّة».

(٢) لم ترد عبارة «ووجوب صلاة الظهر ـ إلى ـ إتماما» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد عبارة «مثلا قصرا أو إتماما» في (ر).

(٣) انظر مبحث الاشتغال ٢ : ٢١٠.


هذا ، مع أنّ حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع التكليف الثابت بالأدلّة الاجتهاديّة لا معنى له إلاّ رفع حكم ذلك الموضوع ، فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله : «اجتنب عن النجس» ، فافهم (١).

لو كانت المخالفة لخطاب مردّد ، ففيها وجوه

وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين ـ كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة ، أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال شهر (٢) رمضان أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ففي المخالفة القطعيّة حينئذ وجوه :

أحدها : الجواز مطلقا ؛ لأنّ المردّد بين الخمر والأجنبيّة لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعيّة حتّى يحرم ارتكابه ، وكذا المردّد بين الدعاء والصلاة ؛ فإنّ الإطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيليّة ومخالفتها.

الثاني : عدم الجواز مطلقا ؛ لأنّ مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقّة للذمّ عليها ، ولا يعذر فيها إلاّ الجاهل بها.

الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاولى دون الثانية (٣) ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة فوق حدّ الإحصاء ، بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يظهر من كلماتهم في مسائل الإجماع المركّب.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ل) بدل «فافهم» : «فتأمّل».

(٢) «شهر» من (ت) و (ه).

(٣) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «الأوّل دون الثاني».


وكأنّ الوجه ما تقدّم : من أنّ الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلّة التكليف ، بخلاف الاصول في الشبهات الحكميّة ؛ فإنّها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا.

وقد عرفت ضعف ذلك ، وأنّ مرجع الإخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتّب (١) على ذلك ، فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة منافيا لنفس الدليل الواقعي ، إلاّ أنّه حاكم عليه لا معارض له ، فافهم.

الرابع : الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع ـ كوجوب أحد الشيئين ـ وبين اختلافه ، كوجوب الشيء وحرمة آخر.

والوجه في ذلك : أنّ الخطابات في الواجبات الشرعيّة بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكلّ ، فترك البعض معصية عرفا ، كما لو قال المولى : افعل كذا وكذا وكذا ، فإنّه بمنزلة افعلها جميعا ، فلا فرق في العصيان بين ترك واحد منها معيّنا أو واحد غير معيّن عنده.

نعم ، في وجوب الموافقة القطعيّة بالإتيان بكلّ واحد من المحتملين كلام آخر مبنيّ على : أنّ مجرّد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البراءة اليقينية (٢) عنه ، أو يكتفى بأحدهما ؛ حذرا عن المخالفة القطعيّة التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء ويعدّ (٣) معصية عندهم وإن لم يلتزموا الامتثال اليقيني لخطاب مجمل.

__________________

(١) في (م) و (ه) : «المرتّب».

(٢) في (ظ) و (م) : «اليقينيّة العلميّة».

(٣) كذا في النسخ.


الأقوى عدم الجواز مطلقا

والأقوى من هذه الوجوه : هو الوجه الثاني ، ثمّ الأوّل ، ثمّ الثالث.

هذا كلّه في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به.

الاشتباه من حيث شخص المكلّف

وأمّا الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك الحكم ، فقد عرفت أنّه :

يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع واقعيّ مردّد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلّقة بالجنب المردّد بين واجدي المني.

وقد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردّد بين الذكر والانثى.

أمّا الكلام في الأوّل ، فمحصّله :

لو تردّد التكليف بين شخصين

أنّ مجرّد تردّد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا ؛ إذ العبرة في الإطاعة والمعصية بتعلّق الخطاب بالمكلّف الخاصّ ، فالجنب (١) المردّد بين شخصين غير مكلّف بالغسل وإن ورد من الشارع : أنّه يجب الغسل على كلّ جنب ؛ فإنّ كلا منهما شاكّ في توجّه هذا الخطاب إليه ، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرّد هذا الخطاب الغير المتوجّه (٢) إليه.

لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه خطاب إليه

نعم ، لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه خطاب (٣) إليه دخل في اشتباه متعلّق التكليف الذي تقدّم حكمه بأقسامه.

__________________

(١) في (ت) و (ر) : «والجنب».

(٢) في (ر) و (م) : «الموجّه».

(٣) في (ص) : «الخطاب».


ولا بأس بالإشارة إلى بعض فروع المسألة ؛ ليتّضح انطباقها على ما تقدّم في العلم الإجمالي بالتكليف.

بعض فروع المسألة

فمنها : حمل أحدهما الآخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره ، بناء على تحريم إدخال الجنب أو إدخال النجاسة الغير المتعدّية :

فإن قلنا : إنّ الدخول والإدخال متحقّقان بحركة واحدة ، دخل في المخالفة (١) المعلومة تفصيلا وإن تردّد بين كونه من جهة الدخول أو الإدخال.

وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن :

فإن جعلنا الدخول والإدخال راجعين إلى عنوان محرّم واحد ـ وهو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير ـ كان من المخالفة المعلومة للخطاب التفصيلي ، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس.

وإن جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلا ، دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدّمة.

وكذا من جهة دخول المحمول واستئجاره الحامل ـ مع قطع النظر عن حرمة الدخول والإدخال عليه أو فرض عدمها (٢) ـ ؛ حيث إنّه علم (٣) إجمالا بصدور أحد المحرّمين : إمّا دخول المسجد جنبا (٤) ، أو استئجار جنب للدخول في المسجد.

__________________

(١) كذا في (م) ، وفي غيرها زيادة : «القطعيّة».

(٢) لم ترد عبارة «مع قطع النظر ـ إلى ـ عدمها» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ت) و (ه) : «يعلم».

(٤) لم ترد «جنبا» في (ظ) ، (ل) و (م).


إلاّ أن يقال بأنّ الاستئجار تابع لحكم الأجير ، فإذا لم يكن (١) في تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول في المسجد ، صحّ استئجار الغير له.

ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين :

فإن قلنا بأنّ عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعيّة ، كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإناءين ، والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الإناءين.

وإن قلنا : إنّه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ الاقتداء في صلاة فضلا عن صلاتين ؛ لأنّهما طاهران بالنسبة إلى حكم الاقتداء.

والأقوى : هو الأوّل ؛ لأنّ الحدث مانع واقعي لا علمي.

نعم ، لا إشكال في استئجارهما لكنس المسجد فضلا عن استئجار أحدهما ؛ لأنّ صحّة الاستئجار تابعة لإباحة الدخول لهما لا للطهارة الواقعيّة ، والمفروض إباحته لهما.

وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك ، مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي ، وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث إنّه مانع ظاهريّ للشخص المتّصف به.

أحكام الخنثى

وأمّا الكلام في الخنثى :

فيقع تارة في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكوريّة والانوثيّة أو

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «هو».


مجهولهما ، وحكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكلّ من الفريقين ، وتارة في معاملة الغير معها. وحكم الكلّ يرجع إلى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به (١).

معاملتها مع الغير

أمّا معاملتها مع الغير ، فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها مطلقا ؛ للعلم الإجمالي بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين ، فتجتنب عنهما مقدّمة.

وقد يتوهّم : أنّ ذلك من باب الخطاب الإجمالي ؛ لأنّ الذكور مخاطبون بالغضّ عن الإناث وبالعكس ، والخنثى شاكّ في دخوله في أحد الخطابين.

والتحقيق : هو الأوّل ؛ لأنّه علم تفصيلا بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب ، كما تقدّم في الدخول والإدخال في المسجد لواجدي المني.

مع أنّه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو تحريم نظر كلّ إنسان إلى كلّ بالغ لا يماثله في الذكورية والانوثيّة عدا من يحرم نكاحه.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الكفّ عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقّة عظيمة ، فلا يجب الاحتياط فيه ، بل العسر فيه أولى من الشبهة الغير المحصورة.

أو يقال : إنّ رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعيّة ، لا في وجوب الموافقة القطعية ، فافهم.

__________________

(١) في (ت) ، (ه) ونسخة بدل (ص) : «اشتباه متعلّق التكليف».


حكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكل من الفريقين

وهكذا حكم لباس الخنثى ؛ حيث إنّه يعلم إجمالا بحرمة واحد من مختصّات الرجال كالمنطقة والعمامة أو مختصّات النساء عليه ، فيجتنب عنهما.

وأمّا حكم ستارته في الصلاة : فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه.

وأمّا حكم الجهر والإخفات :

فإن قلنا بكون الإخفات في العشاءين والصبح رخصة للمرأة جهر الخنثى بهما (١).

وإن قلنا : إنّه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها.

وقد يقال بالتخيير مطلقا (٢) ؛ من جهة ما ورد : من أنّ الجاهل في (٣) الجهر (٤) والإخفات معذور (٥).

وفيه ـ مضافا إلى أنّ النصّ إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى لزوم الإعادة لو خالف الواقع ، وأين هذا من تخيير الجاهل من أوّل الأمر بينهما؟ بل الجاهل لو جهر أو أخفت متردّدا بطلت صلاته ؛ إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم ـ : أنّ الظاهر من الجهل في الأخبار غير هذا الجهل.

__________________

(١) في (ر) و (م) : «بها».

(٢) انظر الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٩٠ ، والفصول : ٣٦٣.

(٣) في (ه) زيادة : «القصر والإتمام و».

(٤) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) بدل «الجهر» : «القصر».

(٥) انظر الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ١.


وأمّا تخيير قاضي الفريضة المنسيّة من (١) الخمس في ثلاثيّة ورباعيّة وثنائيّة ؛ فإنّما هو بعد ورود النصّ بالاكتفاء (٢) بالثلاث (٣) ، المستلزم لإلغاء الجهر والإخفات بالنسبة إليه ، فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا.

معاملة الغير معها

وأمّا معاملة الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كلّ من الرجل والمرأة إليها ؛ لكونها شبهة في الموضوع ، والأصل الإباحة (٤).

وفيه : أنّ عموم وجوب الغضّ على المؤمنات إلاّ عن نسائهنّ أو الرجال المذكورين في الآية (٥) ، يدلّ على وجوب الغضّ عن الخنثى ؛ ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها ، كتحريم نظرها إليهما (٦) ، بل ادّعى سبطه الاتّفاق على ذلك (٧) ، فتأمّل جدّا (٨).

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا إنّما هو في غير النكاح. وأمّا التناكح ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ، فلا يجوز له تزويج امرأة ؛ لأصالة عدم ذكوريّته ـ بمعنى عدم ترتّب أثر الذكوريّة من جهة النكاح ووجوب

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «عن».

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «في الاكتفاء».

(٣) انظر الوسائل ٥ : ٣٦٤ ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات.

(٤) انظر الفصول : ٣٦٣.

(٥) النور : ٣١.

(٦) جامع المقاصد ١٢ : ٤٢.

(٧) هو المحقّق الداماد في رسالة ضوابط الرضاع (كلمات المحقّقين) : ٤٥.

(٨) لم ترد عبارة «ولذا ـ إلى ـ فتأمّل جدّا» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد : «فتأمّل جدّا» في (ت).


حفظ الفرج إلاّ عن الزوجة وملك اليمين (١) ـ ولا التزوّج (٢) برجل ؛ لأصالة عدم كونه امرأة ، كما صرّح به الشهيد (٣) ، لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة (٤) ، فافهم (٥).

هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.

__________________

(١) لم ترد عبارة «بمعنى ـ إلى ـ اليمين» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ص) و (م) : «التزويج».

(٣) الدروس ٢ : ٣٨٠.

(٤) المبسوط ٤ : ١١٧.

(٥) لم ترد عبارة «كما صرّح ـ إلى ـ فافهم» في (ظ) ، (ل) و (م).


المقصد الثّاني

في الظّنّ



المقصد الثاني

في الظنّ

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : في إمكان التعبّد به عقلا ، والثاني : في وقوعه عقلا أو شرعا.

أمّا الأوّل (١)

ففي إمكان التعبّد بالظنّ وعدمه

فاعلم : أنّ المعروف هو إمكانه ، ويظهر من الدليل المحكيّ (٢) عن ابن قبة (٣) ـ في استحالة العمل بخبر الواحد ـ : عموم المنع لمطلق الظنّ ؛ فإنّه استدلّ على مذهبه بوجهين :

أدلّة ابن قبة على الامتناع

الأوّل : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا.

والثاني : أنّ العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ؛

__________________

(١) سيأتي الكلام في المقام الثاني في الصفحة ١٢٥.

(٢) حكاه المحقّق في المعارج : ١٤١.

(٣) هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ، من متكلّمي الإماميّة ، وكان معتزليّا ، ثمّ تبصّر ، انظر رجال النجاشي : ٣٧٥.


إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراما وبالعكس.

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الأمارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنّ.

استدلال المشهور على الإمكان

واستدلّ المشهور على الإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال (١).

وفي هذا التقرير نظر ؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل (٢) بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه (٣) بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

الأولى في وجه الاستدلال

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

المناقشة في أدلّة ابن قبة

والجواب عن دليله الأوّل : أنّ الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع.

مع أنّ عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى ـ بعد تسليمه (٤) ـ إنّما (٥) هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا و (٦) فروعا على

__________________

(١) انظر العدّة ١ : ١٠٣.

(٢) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «العقول».

(٣) في (ت) و (ه) : «علمها».

(٤) في (ر) و (ص) : «بعد تسليم صحّة الملازمة».

(٥) وردت في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة : «مع أنّ ـ إلى ـ إنّما» : «مع أنّ الإجماع على عدم الجواز إنّما».

(٦) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أو».


العمل بخبر الواحد (١) ، لا مثل (٢) ما نحن فيه ممّا ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها (٣) من جهة العوارض و (٤) إخفاء الظالمين للحقّ.

وأمّا دليله الثاني ، فقد اجيب عنه (٥) :

تارة : بالنقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ؛ لأنّه قد يكون جهلا مركّبا.

واخرى : بالحلّ ، بأنّه إن اريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه ، وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلّم امتناعه.

الأولى في الجواب عن دليله الثاني

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد (٦) بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع ، فلا يعقل المنع عن العمل به ، فضلا عن امتناعه ؛ إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع إمّا أن يكون للمكلّف حكم في تلك الواقعة ، وإمّا أن لا يكون له فيها حكم ، كالبهائم والمجانين.

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «عن الله سبحانه» ، وفي (ه) زيادة : «عن الله».

(٢) في (ت) و (ه) بدل «مثل» : «في».

(٣) في (ص) و (ل) زيادة : «في الجملة».

(٤) لم ترد «العوارض و» في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت في نسخة بدل (ت).

(٥) انظر الفصول : ٢٧١.

(٦) في (ظ) و (م) : «امتناع العمل».


فعلى الأوّل ، فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الاصول أو الأمارات الظنيّة التي منها خبر (١) الواحد.

وعلى الثاني ، يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب الواقعي ، وقد فرّ المستدلّ منهما.

فإن التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم ؛ لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.

قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر أنّه يدّعي الانفتاح ؛ لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاح باب العلم.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ؛ لأنّ المفروض انسداد باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ، حتّى أنّه لو تمكّن من الظنّ الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير (٢).

وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركّبا ؛ فإنّ باب هذا الاحتمال منسدّ على القاطع.

وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقول :

التعبّد بالخبر على وجهين : الطريقيّة والسببيّة

إنّ التعبّد بالخبر حينئذ يتصوّر على وجهين :

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «الخبر».

(٢) لم ترد «حتّى أنّه ـ إلى ـ بفتوى الغير» في (ظ) ، (ل) و (م).


أحدهما (١) : أن يجب العمل به لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنيّا عنه ، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع ، كما قد يتّفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلّق الغرض بإصابة الواقع ؛ فإنّ الأمر بالعمل بالظنّ الخبري او غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنيّا عن الواقع.

الثاني : أن يجب العمل به لأجل أنّه يحدث فيه ـ بسبب قيام تلك الأمارة ـ مصلحة راجحة على المصلحة الواقعيّة التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة ـ بسبب إخبار العادل بوجوبها ـ مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا.

عدم الامتناع بناء على الطريقيّة

أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأوّل ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم ـ لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيّين ، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع.

إلاّ أن يقال : إنّ هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ؛ إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلا مركّبا ، كما تقدّم سابقا (٢).

__________________

(١) في (ظ) ونسخة بدل (ص) : «الأوّل».

(٢) في الصفحة السابقة.


فالأولى : الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع.

عدم الامتناع بناء على السببيّة

وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلا ، كما لا يخفى.

قال في النهاية في هذا المقام ـ تبعا للشيخ قدس‌سره في العدّة ـ : إنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (١) ، انتهى موضع الحاجة.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يوجب التصويب ؛ لأنّ المفروض على هذا أنّ في صلاة الجمعة التي اخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعيّة ، فالمفسدة الواقعيّة سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم إخبار العادل بوجوبها ، وبعد الإخبار يضمحلّ المفسدة ؛ لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه ؛ لأنّ الشرط في إيجاب المفسدة له خلوّها عن معارضة المصلحة الراجحة ، فيكون إطلاق الحرام الواقعيّ حينئذ بمعنى أنّه حرام لو لا الإخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس إلاّ المحبوبيّة والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليها.

ولو فرض صحّته فلا يوجب ثبوت حكم شرعيّ مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة.

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٠ ، والعدّة ١ : ١٠٣.


والتصويب وإن لم ينحصر في هذا المعنى ، إلاّ أنّ الظاهر بطلانه أيضا ؛ كما اعترف به العلاّمة في النهاية في مسألة التصويب (١) ، وأجاب به صاحب المعالم ـ في تعريف الفقه (٢) ـ عن قول العلاّمة : بأنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم.

قلت : لو سلّم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر (٣) عمّا سيجيء من عدم كون ذلك تصويبا (٤) ، كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غير مستحيل ، وإن لم يكن واقعا لإجماع أو غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه.

إلاّ أن يقال : إنّ كلامه قدس‌سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله : من تحليل الحرام الواقعي (٥).

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٣٩.

(٢) المعالم : ٢٧.

(٣) لم ترد «النظر» في (ت) ، (ر) و (ل).

(٤) انظر الصفحة ١٢١.

(٥) لم ترد «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ الواقعي» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ولم ترد «من تحليل الحرام الواقعي» في (ر) و (ص).


[التعبّد بالأمارات غير العلميّة](١)

التعبّد بالأمارات غير العلميّة على وجهين :

وحيث انجرّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول في توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محلّ الكلام : إنّ ذلك يتصوّر على وجهين :

١ ـ مسلك الطريقيّة

الأوّل : أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ، فلا يلاحظ في التعبّد بها إلاّ الإيصال إلى الواقع ، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غير ملاحظ في ذلك إلاّ كون قول الأعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا ، والأمر بالعمل (٢) في هذا القسم ليس إلاّ للإرشاد.

٢ ـ مسلك السببيّة

الثاني : أن يكون ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل (٣) وإن خالف الواقع ، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.

وجوه الطريقيّة

أمّا القسم الأوّل ، فالوجه فيه لا يخلو من امور :

أحدها : كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارة (٤) للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) لم ترد «بالعمل» في (ظ) و (م).

(٣) في (ص) و (ه) زيادة : «بها».

(٤) كذا في (ظ) ، (م) و (ه) ، وفي غيرها : «الأمارات».


الثاني : كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.

الثالث : كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ؛ لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركّبا.

والوجه الأوّل والثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع. والثاني لا يصحّ إلاّ مع تعذّر باب العلم ؛ لأنّ تفويت الواقع على المكلّف ـ ولو في النادر ـ من دون تداركه بشيء ، قبيح.

وجوه السببيّة

وأمّا القسم الثاني ، فهو على وجوه :

يكون الحكم مطلقا تابعا الأمارة

أحدها : أن يكون الحكم ـ مطلقا (١) ـ تابعا لتلك الأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل ـ مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها ـ حكم ، فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل ـ مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين ـ لا حكم له أو محكوم بما يعلم الله أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من التخطئة (٢) ، وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار (٣).

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) بدل «مطلقا» : «من أصله» ، وشطب في (ص) على «من أصله».

(٢) في (ه) : «المخطئة».

(٣) انظر الفصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، وراجع الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة ٥٨ ، الحديث ١٩ ، والصفحة ٥٩ ، الحديث ٢ ، والصفحة ١٩٩ ، الحديث الأوّل ، والبحار ١ : ١٧٨ ، الحديث ٥٨.


يكون الحكم الفعلي تابعا الأمارة

الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى : أنّ لله في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ؛ لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع ، فالحكم الواقعيّ فعليّ في حقّ غير الظانّ بخلافه ، وشأنيّ في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لو لا الظنّ على خلافه.

وهذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ؛ لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ للحكم (١) ، فلا يقال للكذب النافع : إنّه قبيح واقعا.

الفرق بين هذين الوجهين

والفرق بينه وبين الوجه الأوّل ـ بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي (٢) للظانّ بخلافه ـ : أنّ العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ، ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم كان ظنّه مانعا عن المانع ، وهو الظنّ بالخلاف.

الثالث : المصلحة السلوكيّة

الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلاّ أنّ العمل (٣)

__________________

(١) في (ص) ، (ل) و (ه) : «الحكم» ، وفي (ظ) و (م) : «لحكم».

(٢) في (ظ) و (م) : «حكم واقعي».

(٣) في (ص) والنسخة الموجودة عند المحقّق الهمداني قدس‌سره ـ على ما هو ظاهر تعليقته على الرسائل ـ : «الأمر بالعمل» ، انظر حاشية الهمداني : ٣٣.

وللمحقّق النائيني قدس‌سره هنا تنبيه ينفعنا في المقام ، فقد جاء في فوائد الاصول : «تنبيه : نقل شيخنا الاستاذ (مدّ ظلّه) : أنّ العبارة التي صدرت من الشيخ


على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنّه هو الواقع وترتيب (١) الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه واقعا ، يشتمل على مصلحة ، فأوجبه الشارع.

ومعنى إيجاب العمل على الأمارة : وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ؛ إذ قد لا تتضمّن الأمارة إلزاما على المكلّف ، فإذا تضمّنت استحباب شيء أو وجوبه تخييرا أو إباحته (٢) ، وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب أو الإباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما ، كما لو قطع بهما (٣).

وتلك المصلحة لا بدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التمكّن من العلم (٤) ؛ وإلاّ كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة (٥).

فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في

__________________

في الوجه الثالث كانت هكذا : ...» ثمّ قال ـ بعد نقل العبارة كما أوردناه في المتن ـ : «ولم يكن في أصل العبارة لفظ" الأمر" وإنّما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب» ، فوائد الاصول ٣ : ٩٨.

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «ترتّب».

(٢) العبارة في (ظ) هكذا : «استحباب شيء أو وجود تخيير أو إباحة».

(٣) لم ترد «ومعنى ـ إلى ـ كما لو قطع بهما» في (ه) ، وفي (ت) أنّها «غلط» ، وكتب في (ص) عليها : «زيادة».

(٤) لم ترد «لو كان ـ إلى ـ من العلم» في (ت) و (ه).

(٥) راجع الصفحة ١٠٩.


العمل (١) بالأمارة (٢) وترتيب (٣) أحكام الواقع على مؤدّاها ، وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها (٤) على المكلّف؟

مثلا : إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر ، فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص خالية عن المصلحة الملزمة ، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي ، فهنا وجوب واحد ـ واقعا وظاهرا ـ متعلّق (٥) بصلاة الجمعة. وإن لم تكن في فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ؛ لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم.

فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعيّ بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني ، وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعي لا غير وانحصار الحكم في المثال بوجوب (٦) صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل.

الفرق بين الوجهين الأخيرين

قلت : أمّا رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل ؛ لأنّ

__________________

(١) في (ص) و (ه) : «في الأمر بالعمل».

(٢) في (ت) و (ه) : «على الأمارة».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «ترتّب».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «هو الحكم الواقعي».

(٥) في (ظ) و (م) : «يتعلّق» ، وفي (ر) و (ه) : «متعلّقا».

(٦) في نسخة بدل (ص) : «في وجوب».


مرجع جعل مدلول الأمارة في حقّه ـ الذي هو مرجع الوجه الثاني ـ إلى أنّ صلاة الجمعة واجبة (١) عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فإذا صلاّها فقد فعل الواجب الواقعي ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما إذا صار المسافر بعد فعل (٢) صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أوّل الوقت لصحّة القصر واقعا.

معنى وجوب العمل على طبق الأمارة

ومعنى وجوب العمل (٣) على طبق الأمارة (٤) : وجوب ترتيب (٥) أحكام الواقع (٦) على (٧) مؤدّاها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع ـ كما يوهمه ظاهر عبارتي العدّة والنهاية المتقدّمتين (٨) ـ فإذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ، فإن كان في أوّل الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها ، فإذا فعلها جاز له فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع هي

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه) : «هي واجبة» ، وفي (ص) : «هي الواجبة».

(٢) لم ترد «فعل» في (ر) ، (ظ) و (م).

(٣) في (ه) : «ومعنى الأمر بالعمل».

(٤) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «على أنّ مضمونها هو الحكم الواقعي».

(٥) في (ص) بدل «وجوب ترتيب» : «الرخصة في ترتيب».

(٦) في (ت) و (ه) : «أحكام الواجب الواقعي».

(٧) لم ترد «الواقع على» في (م).

(٨) لم ترد «من دون ـ إلى ـ المتقدّمتين» في (ظ) ، (ل) و (م).


الظهر ؛ لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصته في تركها. وإن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.

ثمّ إن استمرّ هذا الحكم الظاهريّ ـ أعني الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها ـ وجب كون الحكم الظاهريّ بكون ما فعله في أوّل الوقت هو الواقع ـ المستلزم لفوت (١) الواقع على المكلّف (٢) ـ مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ؛ لئلاّ يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلّف مع التمكّن من إتيانه بتحصيل العلم به.

وإن لم يستمرّ ، بل علم بوجوب الظهر في المستقبل ، بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ، ووجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أوّل الأمر ؛ لأنّ المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الأمري ، وإنّما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة ، فإذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، وجب حينئذ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ـ أعني وجوب الإتيان بالظهر ـ ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلاّ ما فات منها ؛ فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهريّ المتحقّق في زمان الفوت.

فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أنّ حكم الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة ـ اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ه) : «لفوات».

(٢) لم ترد «بكون ـ إلى ـ المكلّف» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ووردت بدلها عبارة : «بجواز تركها إلى آخر وقتها ـ وكان الحكم الظاهريّ المستمرّ ـ» ، مع اختلاف يسير بينها.


الأخير ـ لا بدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

ثمّ إن قلنا : إنّ القضاء فرع صدق الفوت المتوقّف على فوات الواجب من حيث إنّ فيه مصلحة ، لم يجب فيما نحن فيه ؛ لأنّ الواجب وإن ترك إلاّ أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وإن قلنا : إنّه متفرّع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ؛ لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا.

إلاّ أن يقال : إنّ غاية ما يلزم في المقام ، هي المصلحة في معذوريّة هذا الجاهل مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم (١).

ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، واضح.

وأمّا على القول باقتضائه له ، فقد يشكل (٢) الفرق بينه وبين القول بالتصويب ، وظاهر شيخنا في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء ، قال قدس‌سره (٣) : من فروع مسألة التصويب والتخطئة ، لزوم الإعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه (٤). وإن كان تمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر.

__________________

(١) لم ترد «فافهم» في (ت) و (ه).

(٢) في (ت) و (ه) بدل «باقتضائه له فقد يشكل» : «بالاقتضاء فيشكل».

(٣) لم ترد عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ قدس‌سره» في (ظ) ، (ل) و (م) ، ووردت بدلها : «ولأجل ما ذكرنا ذكر في تمهيد القواعد» ، نعم وردت عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ قدس‌سره» في هامش (ل) تصحيحا.

(٤) تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


فعلم من ذلك : أنّ ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة تتدارك مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ، ممنوع ؛ لأنّ فعل الجمعة قد لا يستلزم إلاّ ترك الظهر في بعض أجزاء وقته.

فالعمل على الأمارة معناه : الإذن في الدخول فيها على قصد الوجوب ، والدخول في التطوّع بعد فعلها.

نعم ، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة تتدارك مفسدة فعل التطوّع في وقت الفريضة لو شمل دليله الفريضة الواقعيّة المأذون في تركها ظاهرا ؛ وإلاّ كان جواز التطوّع في تلك الحال حكما واقعيّا لا ظاهريّا.

وأمّا قولك : إنّه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب ، فممنوع أيضا ؛ إذ قد يترتّب على وجوبه واقعا حكم شرعيّ وإن تدارك مفسدة تركه مصلحة فعل آخر ، كوجوب (١) قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا (٢).

وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعيّ حال الأمر بالعمل بالأمارة (٣) القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّ الأمر بالعمل (٤) في الموضوعات لا يوجب جعل

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «لوجوب».

(٢) وردت عبارة «فعلم من ذلك ـ إلى ـ بوجوبه واقعا» في (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) ونسخة بدل (ص) مع اختلافات يسيرة ، ولم ترد في (ت) ، (ص) و (ه).

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ت) و (ص) : «على الأمارة».

(٤) في (ص) زيادة : «بها» ، وفي (ر) زيادة : «بالأمارة».


نفس الموضوع ، وإنّما يوجب جعل أحكامه ، فيترتّب عليه الحكم ما دامت الأمارة قائمة عليه ، فإذا فقدت الأمارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ، ترتّب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أوّل الأمر ، فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم.

وحاصل الكلام في الفرق : ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة ، وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.

وأمّا قولك (١) : إنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى التصويب الباطل ؛ نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في فوتها المفسدة ، ففيه :

منع كون هذا تصويبا ؛ كيف والمصوّبة يمنعون حكم الله في الواقع ، فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه والتعبّد بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة.

إشكال الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

وأمّا ما ذكر (٢) : من أنّ الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل (٣) على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، وإلاّ ثبت انتفاء الحكم في الواقع ، وبعبارة اخرى : إذا

__________________

(١) في (ص) بدل «قولك» : «توهّم».

(٢) في (ت) : «وأمّا ما ذكره».

(٣) كذا في (ص) وفي غيرها : «الفعل».


فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فإن لم يحرم ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة ، وإن حرم ، فإن بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعيّ ، ففيه :

جواب الإشكال

أنّ المراد بالحكم الواقعيّ الذي يلزم بقاؤه ، هو الحكم المتعيّن (١) المتعلّق بالعباد (٢) الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو (٣) الظنّ وامر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه ، إلاّ أنّه يكفي في كونه حكمه (٤) الواقعي : أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصّرا ، والرخصة في تركه عقلا كما في الجاهل القاصر ، أو شرعا كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.

حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة

وممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ؛ فإنّها من هذا (٥) القسم الثالث.

والحاصل : أنّ المراد بالحكم الواقعي ، هي (٦) : مدلولات الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، و (٧) لها آثار عقليّة وشرعيّة تترتّب عليها عند العلم بها أو قيام أمارة

__________________

(١) في (ت) و (ل) زيادة : «المنزل» ، وفي نسخة بدل (ص) و (م) بدل «المتعيّن» : «المنزل».

(٢) لم ترد «المتعلّق بالعباد» في (ت) و (ل) ، نعم وردت في نسخة بدل (ل).

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) بدل «أو» : «و».

(٤) في (ر) و (ه) ومصحّحة (ت) : «الحكم».

(٥) لم ترد «هذا» في (ر) و (ص).

(٦) في (ت) ، (ر) و (ظ) : «هو».

(٧) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) و (م).


حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه ليست أحكاما فعليّة بمجرّد وجودها الواقعي.

وتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ ما ذكره ابن قبة ـ من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغير العلميّة ـ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما يقبح (١) إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه ، كما تقدّم تفصيل ذلك.

القول بوجوب التعبّد بالأمارة والمناقشة فيه

ثمّ إنّه ربما ينسب إلى بعض (٢) : إيجاب التعبّد بخبر الواحد أو مطلق الأمارة على الله تعالى ، بمعنى قبح تركه منه ، في مقابل قول ابن قبة.

فإن أراد (٣) به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم وبقاء التكليف ، فحسن.

وإن أراد (٤) وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوع ؛ إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقليّ وهو الظنّ ، إلاّ أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصيّة (٥).

وإن أراد حكم صورة الانفتاح :

__________________

(١) في (ص) و (ظ) : «يصحّ» ، وفي غيرهما ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.

(٢) حكي هذا المذهب عن ابن سريج وغيره ، انظر العدّة ١ : ٩٨ ، والمعتمد للبصري ٢ : ١٠٦ ، والإحكام للآمدي ٢ : ٦٥.

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «اريد».

(٤) في (ظ) و (م) : «اريد».

(٥) لم ترد «إلاّ أن ـ إلى ـ خصوصيّة» في (ظ) ، (ل) و (م).


فإن أراد وجوب التعبّد العينيّ فهو غلط ؛ لجواز تحصيل العلم معه قطعا.

وإن أراد وجوب التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لا يدركه العقل ؛ إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة.

اللهمّ إلاّ أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع أو أصحّ في نظر الشارع من غيره في مقام البدليّة عن الواقع ، وإلاّ فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظنّ كصورة الانسداد (١).

__________________

(١) لم ترد في (ظ) و (م) : «وإلاّ فيكفي ـ إلى ـ الانسداد» ، ولم ترد في (ل) : «عن الواقع ـ إلى ـ الانسداد» ، وفي (ه) زيادة : «أو في الجملة».


[المقام الثاني](١)

في وقوع التعبّد بالظنّ

ثمّ إذا تبيّن عدم استحالة تعبّد الشارع بغير العلم ، وعدم القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلام في المقام الثاني (٢) في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعيّة مطلقا ، أو في الجملة.

وقبل الخوض في ذلك ، لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا أو في الجملة ، فنقول :

أصالة حرمة العمل بالظنّ للأدلّة الأربعة

التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل ، محرّم بالأدلّة الأربعة.

ويكفي من الكتاب : قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣).

دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع ، فهو افتراء.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) تقدّم الكلام في المقام الأول في الصفحة ١٠٥.

(٣) يونس : ٥٩.


ومن السنّة : قوله عليه‌السلام في عداد القضاة من أهل النار : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» (١).

ومن الإجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله : من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلا عن العلماء (٢).

ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلا (٣) مع التقصير.

نعم ، قد يتوهّم متوهّم : أنّ الاحتياط من هذا القبيل.

وهو غلط واضح ؛ إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه ، وشتّان ما بينهما ؛ لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن الثاني.

والحاصل : أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به ، وأمّا العمل به من دون تعبّد بمقتضاه :

فإن كان لرجاء إدراك الواقع ، فهو حسن ما لم يعارضه احتياط آخر ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه ، كما لو ظنّ الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة ؛ فإنّ الإتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به.

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع :

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٢) انظر الرسائل الاصوليّة : ١٢.

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ت) ، وفي غيرها : «عن جهل».


فإن لزم منه طرح أصل دلّ الدليل على وجوب الأخذ به حتّى يعلم خلافه ، كان محرّما أيضا ؛ لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر من مثال كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم.

وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل ، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، فإنّ الالتزام بطرف الوجوب لا على أنّه حكم الله المعيّن جائز. لكن في تسمية هذا عملا بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط.

وبالجملة : فالعمل بالظنّ إذا لم يصادف الاحتياط محرّم إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا ، وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول والأدلّة المعلوم وجوب العمل بها (١).

تقرير هذا الأصل بوجوه أخر والمناقشة فيها

هذا ، وقد يقرّر الأصل هنا بوجوه أخر :

منها : أنّ الأصل عدم الحجّية ، وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به.

وفيه : أنّ الأصل وإن كان ذلك ، إلاّ أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء ؛ فإنّ حرمة العمل (٢) يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ،

__________________

(١) لم ترد في (ه) : «المعلوم وجوب العمل بها» ، وشطب عليها في (ت) ، ووردت بدلها فيهما : «الموجودة في مورده» ، وفي هامش (ص) : «الموجودة في مورده ، خ».

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «بالظنّ» ، وشطب عليها في (ت).


من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ليحتاج في ذلك إلى الأصل ، ثمّ إثبات الحرمة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة على عدم ذلك الحادث ، وأمّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشكّ فيه ، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الأصل.

وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ؛ فإنّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ ، فافهم.

الوجه الثاتي والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأصل هي إباحة العمل بالظنّ ؛ لأنّها الأصل في الأشياء ، حكاه بعض عن السيّد المحقّق الكاظمي (١).

وفيه ـ على تقدير صدق النسبة ـ :

أوّلا : أنّ إباحة التعبّد بالظنّ غير معقول ؛ إذ لا معنى لجواز التعبّد وتركه لا إلى بدل ، غاية الأمر التخيير بين التعبّد بالظنّ والتعبّد بالأصل أو الدليل الموجود هناك (٢) في مقابله (٣) الذي يتعيّن الرجوع إليه لو لا الظنّ ، فغاية الأمر وجوب التعبّد به أو بالظنّ تخييرا ، فلا معنى للإباحة التي هي الأصل في الأشياء.

__________________

(١) حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٢ ، وانظر الوافي للمحقّق الكاظمي (مخطوط) : الورقة ٢٩.

(٢) لم ترد «هناك» في (ل) ، وردت بدلها في (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «هنالك».

(٣) لم ترد «في مقابله» في (ظ) و (م) ، وكتب عليها في (ت) : «زائد».


وثانيا : أنّ أصالة الإباحة إنّما هي فيما لا يستقلّ العقل بقبحه ، وقد عرفت استقلال العقل بقبح التعبّد بالظنّ من دون العلم بوروده من الشارع.

الوجه الثالث والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخيير أو ترجيح جانب التحريم ؛ بناء على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : منع الدوران ؛ لأنّ عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم ؛ لما عرفت (١) : من إطباق الأدلّة الأربعة على عدم جواز التعبّد بما لم يعلم (٢) وجوب التعبّد (٣) به من الشارع ؛ ألا ترى : أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها ، كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها.

الوجه الرابع والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة المعلومة إجمالا ، وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، فيرجع إلى الشكّ في المكلّف به وتردّده بين التخيير والتعيين ، فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ؛ تحصيلا لليقين بالبراءة ، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.

وفيه :

أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقليّة للعمل

__________________

(١) راجع الصفحة ١٢٥.

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «لا يعلم».

(٣) لم ترد عبارة : «بما لم يعلم وجوب التعبّد» في (ه).


بها وامتثالها ، فالحاكم بوجوبه هو العقل ، ولا معنى لتردّد العقل في موضوع حكمه ، وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد أو خصوص العلم ، بل إمّا أن يستقلّ بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإمّا أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد. ولا يتصوّر الإجمال في موضوع الحكم العقلي ؛ لأنّ التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ، وهو لا يتصوّر من نفس الحاكم ، وسيجيء الإشارة إلى هذا في ردّ من زعم أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة ، مع عدّه دليل الانسداد دليلا عقليّا وحكما يستقلّ به العقل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ العمل بالظنّ في مورد مخالفته للاصول والقواعد ـ الذي هو محلّ الكلام ـ مخالفة قطعيّة لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الاصول حتّى يعلم خلافها ، فلا حاجة في ردّه إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتماليّة للتكليف المتيقّن.

مثلا : إذا فرضنا أنّ الاستصحاب يقتضي الوجوب ، والظنّ حاصل بالحرمة ، فحينئذ يكون العمل بالظنّ مخالفة قطعيّة لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين ، فلا يحتاج إلى تكلّف أنّ التكليف بالواجبات والمحرّمات يقينيّ ، ولا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها ، أو وجوب تحصيل الاعتقاد القطعيّ وأنّ في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفة احتماليّة للتكليف المتيقّن ، فلا يجوز ، فهذا أشبه شيء بالأكل من القفا.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وحاصله :


أنّ التعبّد بالظنّ مع الشكّ في رضا الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّد بالشكّ ، وهو باطل عقلا ونقلا ، وأمّا مجرّد العمل على طبقه ، فهو محرّم إذا خالف أصلا من الاصول اللفظيّة أو العمليّة الدالّة على وجوب الأخذ بمضمونها حتّى يعلم الواقع (١).

للحرمة في العمل بالظنّ جهتان

فالعمل بالظنّ قد تجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما إذا عمل به ملتزما أنّه حكم الله وكان العمل (٢) مخالفا لمقتضى الاصول.

وقد تتحقّق فيه جهة واحدة ، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم بكونه حكم الله ، أو التزم ولم يخالف مقتضى الاصول.

وقد لا يكون فيه عقاب أصلا ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا ، وحينئذ قد يستحقّ عليه (٣) الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط.

هذا ، ولكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملا به ، فصحّ أن يقال : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به حرام مطلقا ، وافق الاصول أو خالفها ، غاية الأمر أنّه إذا خالف الاصول يستحقّ العقاب من جهتين : من جهة الالتزام (٤) والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه.

__________________

(١) كذا في (ص) و (ظ) وظاهر (ل) ، وفي غيرها : «الرافع».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) زيادة : «به».

(٣) في (ت) و (ه) : «عمله».

(٤) في (ظ) : «الافتراء».


وقد اشير في الكتاب والسنّة إلى الجهتين :

الإشارة إلى هاتين الجهتين في الكتاب والسنّة

فممّا اشير فيه إلى الاولى قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) بالتقريب المتقدّم ، وقوله عليه‌السلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» (٢).

وممّا اشير فيه إلى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣) ، وقوله عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (٤) ، ونفس أدلّة الاصول.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الحرمة من جهتين مبنيّ على ما هو التحقيق : من أنّ اعتبار الاصول ـ لفظيّة كانت أو عمليّة ـ غير مقيّد بصورة عدم الظنّ على خلافها ، وأمّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظنّ على خلافها ، فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره.

أمّا مع عدم تيسّر العلم في المسألة ؛ فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظنّ وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظنّ ، وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ؛ لأنّه المفروض ، فغاية الأمر التخيير بينهما ، أو تقديم الظنّ ؛ لكونه أقرب إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٣) يونس : ٣٦.

(٤) المستدرك ١٧ : ٢٤٨ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.


وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة ؛ فعدم (١) جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظنّ ووجوب تحصيل اليقين ، مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ، أمّا إذا ادّعي أنّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظنّ ، وأنّ الضرر الموهوم لا يجب دفعه ، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن.

الاستدلال على أصالة الحرمة بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ

ثمّ إنّه ربما يستدلّ على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ (٢) ، وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام (٣) بما لا ثمرة مهمّة في ذكره بعد ما عرفت.

لأنّه إن اريد الاستدلال بها على حرمة التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظنّ ، فقد عرفت (٤) أنّه من ضروريّات العقل ، فضلا عن تطابق الأدلّة الثلاثة النقليّة عليه.

وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظنّ وإن لم يكن عن استناد إليه :

فإن اريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلّة الواقعية.

وإن اريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكّن من العلم ، فيكفي فيه ـ أيضا ـ أدلّة الاصول ؛ بناء على ما هو التحقيق : من أنّ

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «فلأنّ عدم».

(٢) يونس : ٣٦ ، والإسراء : ٣٦.

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٤٥٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٥.

(٤) راجع الصفحة ١٢٥ ـ ١٢٦.


مجاريها صور عدم العلم الشامل للظنّ.

وإن اريد حرمة العمل المطابق للظنّ من دون استناد إليه وتديّن به ، وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه ولا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجه لحرمته أيضا.

والظاهر : أنّ مضمون الآيات هو التعبّد بالظنّ والتديّن به ، وقد عرفت أنّه ضروريّ التحريم ، فلا مهمّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها.

موضوع هذه الرسالة هي الظنون المعتبرة الخارجة عن الأصل المتقدّم

إنّما المهمّ ـ الموضوع له هذه الرسالة (١) ـ بيان ما خرج أو قيل بخروجه من هذا الأصل ، من الامور الغير العلميّة الّتي اقيم الدليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظنّ مطلقا أو في الجملة ، وهي امور :

__________________

(١) في (ه) بدل «هذه الرسالة» : «هذا المقصد».


[الأمارات المستعملة في استنباط الأحكام]

[من ألفاظ الكتاب والسنّة](١)

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة.

وهي على قسمين :

القسم الأوّل : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق ، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ، وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللسان (٢) في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر ، ونحو ذلك ، وبالجملة : الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم بحيث لو أراد المتكلّم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة ، عدّ ذلك منه قبيحا.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (م) بدل «أهل اللسان» : «العقلاء» ، وفي (ت) و (ه) : «عقلاء أهل اللسان».


و (١) القسم الثاني : ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ ، وتمييز (٢) مجازاتها من حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، كتشخيص أنّ لفظ «الصعيد» موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص؟ وتعيين أنّ وقوع الأمر عقيب توهّم الحظر هل يوجب ظهوره في الإباحة المطلقة؟ وأنّ الشهرة في المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة عن الظهور العرضي المسبّب من الشهرة ، نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض أفراده؟

وبالجملة : فالمطلوب في هذا القسم أنّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو غير ظاهر؟ وفي القسم الأوّل أنّ الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مراد أو لا؟

والشكّ في الأوّل مسبّب عن الأوضاع اللغوية والعرفية ، وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه.

فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد (٣).

__________________

(١) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) و (م).

(٢) كذا في (ت) ، (ظ) و (ه) ، وفي غيرها : «تشخيص».

(٣) لم ترد «فالقسمان ـ إلى ـ المراد» في (ت) و (ه) ، وكتب عليها في (ص) : «زائد».


أمّا القسم الأوّل :

ما يستعمل لتشخيص مراد المتكلم

فاعتباره في الجملة ممّا (١) لا إشكال فيه ولا خلاف ؛ لأنّ المفروض كون تلك الامور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم ، ومن المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم.

وإنّما الخلاف والإشكال وقع في موضعين :

الخلاف في موضعين :

أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب.

والثاني : أنّ العمل بالظواهر مطلقا في حقّ غير المخاطب بها قام الدليل عليه بالخصوص ـ بحيث لا يحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة ـ أم لا؟

والخلاف الأوّل ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلا.

والخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.

فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى. وأمّا الكبرى ـ أعني كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم ، ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة ـ فممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.

__________________

(١) لم ترد «ممّا» في (ت) ، (ر) و (ل).



[١ ـ حجّية ظواهر الكتاب](١)

أمّا الكلام في الخلاف الأوّل ، فتفصيله :

عدم حجّية ظواهر الكتاب عند جماعة من الأخباريين

أنّه ذهب جماعة من الأخباريّين (٢) إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم.

وأقوى ما يتمسّك لهم على ذلك وجهان :

الدليل الاول : الاستدلال على ذلك بالأخبار

أحدهما : الأخبار المتواترة المدّعى ظهورها في المنع عن ذلك :

مثل النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (٣).

وفي رواية اخرى : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ ...» (٤).

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) انظر الفوائد المدنيّة : ١٧ و ١٢٨ ، وشرح الوافية (مخطوط) : ١٣٧ ـ ١٥٠ ، والحدائق : ٢٧ ـ ٣٥ ، والدرر النجفيّة : ١٦٩ ـ ١٧٤ ، والفوائد الطوسيّة : ١٨٦.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٠٤ ، الحديث ١٥٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.


وفي نبويّ ثالث : «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب» (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ سقط (٢) أبعد من السماء» (٣).

وفي النبويّ العامّي : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (٤).

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّ وجلّ قال في الحديث القدسيّ : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني» (٥).

وعن تفسير العياشي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر» (٦).

وعن مجمع البيان : أنّه قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة القائمين

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(٢) في (م) بدل «سقط» : «لقد» ، وفي الوسائل : «خرّ».

(٣) الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٦.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩ ، وفيه : «فأصاب الحقّ».

(٥) الوسائل ١٨ : ٢٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٨ ، الحديث ٦ ، والوسائل ١٨ : ٣٩ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.


مقامه : أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح (١).

وقوله عليه‌السلام : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ؛ إنّ الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه» (٢).

وفي مرسلة شبيب (٣) بن أنس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال لأبي حنيفة : «أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة ، لقد ادّعيت علما! ويلك ، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ، ويلك ، ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفا» (٤).

وفي رواية زيد الشحّام ، قال : «دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه‌السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، قال : نعم ...» ـ إلى أن قال له ـ : «يا قتادة ،

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣ ، والوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٨.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٢ ، الحديث ٨ ، وقريب منه في الوسائل ١٨ : ١٥٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٣.

(٣) كذا في (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) و (ه) والمصدر ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «شعيب».

(٤) الوسائل ١٨ : ٣٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.


إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ، إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

إلى غير ذلك ممّا ادّعى في الوسائل ـ في كتاب القضاء ـ تجاوزها عن حدّ التواتر (٢).

وحاصل هذا الوجه يرجع إلى : أنّ منع الشارع عن ذلك يكشف عن أنّ مقصود المتكلّم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة.

الجواب عن الاستدلال بالأخبار

والجواب عن الاستدلال بها :

أنّها لا تدلّ على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار ؛ إذ من المعلوم أنّ هذا لا يسمّى تفسيرا ؛ فإنّ أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنّه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ـ عربيّا أو فارسيّا أو غيرهما ـ فعمل به وامتثله ، لم يعدّ هذا تفسيرا ؛ إذ التفسير كشف القناع.

ثمّ لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا ، لكن الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار العقليّ الظنّي الراجع إلى الاستحسان ، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغويّة والعرفيّة.

لمراد من التفسير بالرأي

وحينئذ : فالمراد بالتفسير بالرأي : إمّا حمل اللفظ على خلاف

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٨٠.


ظاهره أو أحد احتماليه ؛ لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر.

ويرشد إليه : المرويّ عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال في حديث طويل : «وإنّما هلك الناس في المتشابه ؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء عليهم‌السلام فيعرّفونهم» (١).

وإمّا الحمل على ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفيّة واللغويّة ، من دون تأمّل في الأدلّة العقليّة ومن دون تتبّع في القرائن النقليّة ، مثل الآيات الأخر الدالّة على خلاف هذا المعنى ، والأخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها.

وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني وإن كان الأوّل أقرب عرفا : أنّ المنهيّ في تلك الأخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله تعالى عن أهل البيت عليهم‌السلام ، بل يخطّئونهم به ، ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نصّ الإمام عليه‌السلام على ظاهر القرآن ، كما أنّ المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس.

ويرشدك إلى هذا : ما تقدّم (٢) في ردّ الإمام عليه‌السلام على أبي حنيفة حيث إنّه يعمل بكتاب الله ، ومن المعلوم أنّه إنّما كان يعمل بظواهره ، لا أنّه كان يؤوّله بالرأي ؛ إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنّة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢ ، وليس فيه : «فيعرّفونهم».

(٢) راجع الصفحة ١٤١.


ويرشد إلى هذا : قول أبي عبد الله عليه‌السلام في ذمّ المخالفين : «إنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يظنّون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح (١) الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا» (٢).

وبالجملة : فالإنصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبّع في سائر الأدلّة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ؛ كيف ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه ، دلّت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام.

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام (٣) له وجهان ، وكلام عامّ وكلام خاصّ ، مثل القرآن» (٤).

وفي رواية ابن مسلم : «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (٥).

الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بظاهر القرآن

هذا كلّه ، مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ممّا يدلّ على

__________________

(١) كذا في المصدر وفي النسخ زيادة : «به».

(٢) الوسائل ١٨ : ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢.

(٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ زيادة : «يكون».

(٤) الوسائل ١٨ : ١٥٣ ، الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.


جواز التمسّك بظاهر القرآن ، مثل خبر الثقلين ـ المشهور بين الفريقين (١) ـ وغيرها ممّا دلّ على الأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه (٢) ، وعرض الأخبار المتعارضة بل ومطلق الأخبار عليه (٣) ، وردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود (٤) ، والأخبار الدالّة ـ قولا و (٥) فعلا و (٦) تقريرا ـ على جواز التمسّك بالكتاب.

مثل قوله عليه‌السلام لمّا قال زرارة : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال عليه‌السلام : «لمكان الباء» (٧) ، فعرّفه عليه‌السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب.

وقول الصادق عليه‌السلام في مقام نهي الدوانيقيّ عن قبول خبر النّمام : «إنّه فاسق ؛ وقال الله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) الآية» (٨).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٩ ، الباب ٥ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ ، ومسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، وانظر كتاب حديث الثقلين للسيّد علي الحسيني الميلاني.

(٢) مثل ما في الوسائل ١١ : ١٣٠ ، الباب ٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١ ، ١١ ، ١٨ و ١٩.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ٢.

(٥) في (م) : «أو».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) : «أو».

(٧) الوسائل ١ : ٢٩١ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٨) الوسائل ٨ : ٦١٩ ، الباب ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٠ ، والآية من سورة الحجرات : ٦.


وقوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : «إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» (١).

وقوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ، اعتذارا بأنّه لم يكن شيئا أتاه برجله : «أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)» (٢).

وقوله عليه‌السلام في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثا : «إنّه زوج ؛ قال الله عزّ وجلّ : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)» (٣) ، وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع : «إنّه تعالى قال : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما)» (٤).

وتقريره عليه‌السلام التمسّك بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ،) وأنّه نسخ بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)(٥).

وقوله عليه‌السلام في رواية عبد الأعلى ـ في حكم من عثر ، فوقع ظفره ، فجعل على إصبعه مرارة ـ : «إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الباب ٦ من أحكام الوديعة ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة التوبة : ٦١.

(٢) الوسائل ٢ : ٩٥٧ ، الباب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة الإسراء : ٣٦.

(٣) الوسائل ١٥ : ٣٧٠ ، الباب ١٢ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة البقرة : ٢٣٠.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٩ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث ٤ ، والآية من سورة البقرة : ٢٣٠.

(٥) الوسائل ١٤ : ٤١٠ ، الباب الأوّل من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، الحديث ٣ ، والآيتان من سورتي المائدة : ٥ ، والبقرة : ٢٢١.


(ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ثمّ قال : امسح عليه» (١) ، فأحال عليه‌السلام معرفة حكم المسح على إصبعه المغطّى بالمرارة إلى الكتاب ، موميا إلى أنّ هذا لا يحتاج إلى السؤال ؛ لوجوده في ظاهر القرآن.

ولا يخفى : أنّ استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة ممّا لا يظهر إلاّ للمتأمّل المدقّق ؛ نظرا إلى أنّ الآية الشريفة إنّما تدلّ على نفي وجوب الحرج ، أعني المسح على نفس الإصبع ، فيدور الأمر في بادئ النظر بين سقوط المسح رأسا ، وبين بقائه مع سقوط قيد «مباشرة الماسح للممسوح» ، فهو بظاهره لا يدلّ على ما حكم به الإمام عليه‌السلام ، لكن يعلم عند المتأمّل : أنّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح ؛ فهو الساقط دون أصل المسح ، فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح ، فيمسح على الإصبع المغطّى.

فإذا أحال الإمام عليه‌السلام استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب ، فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الآية المذكورة ، أو غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن ، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن ذلك : ما ورد من أنّ المصلّي أربعا في السفر إن قرئت عليه آية القصر وجب عليه الإعادة ، وإلاّ فلا (٢) ، وفي بعض الروايات : «إن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥. والآية من سورة الحج : ٧٨.

(٢) مستدرك الوسائل ٦ : ٥٣٩ ، الباب ١٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث الأوّل.


قرئت عليه وفسّرت له» (١).

والظاهر ـ ولو بحكم أصالة الإطلاق في باقي الروايات ـ : أنّ المراد من تفسيرها له بيان أنّ المراد من قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا)(٢) بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيّا على التخفيف ، فلا ينافي تعيّن القصر على المسافر وعدم صحّة الإتمام منه ، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة.

وقد ذكر زرارة ومحمّد بن مسلم للإمام عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)(٣) ، ولم يقل : افعلوا ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه من قبيل قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)» (٤).

وهذا ـ أيضا ـ يدلّ على تقرير الإمام عليه‌السلام لهما في التعرّض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدخل والتصرّف في ظواهره.

ومن ذلك : استشهاد الإمام عليه‌السلام بآيات كثيرة ، مثل الاستشهاد لحلّية بعض النسوان بقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٥) ، وفي

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

(٢) النساء : ١٠١ ، وفي النسخ وردت الآية هكذا : «لا جناح عليكم أن تقصروا».

(٣) في النسخ بدل «فليس عليكم جناح» : «لا جناح».

(٤) الوسائل ٥ : ٥٣٨ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٢ ، والآية من سورة البقرة : ١٥٨.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٧٧ ، الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١١ ، والآية من سورة النساء : ٢٤.


عدم جواز طلاق العبد بقوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(١).

ومن ذلك : الاستشهاد لحلّيّة بعض الحيوانات بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) الآية (٢) ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

الدليل الثاني على عدم حجّية ظواهر الكتاب والجواب عنه

الثاني من وجهي المنع :

أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور.

وفيه :

أوّلا : النقض بظواهر السنّة ؛ فإنّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في أكثرها.

وثانيا : أنّ هذا لا يوجب السقوط ، وإنّما يوجب الفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر.

فإن قلت : العلم الإجماليّ بوجود مخالفات الظواهر لا يرتفع أثره ـ وهو وجوب التوقّف ـ بالفحص ؛ ولذا لو تردّد اللفظ بين معنيين ، أو علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهره (٣) ـ كما في العامّين من وجه وشبههما ـ وجب التوقّف فيه ولو بعد الفحص.

قلت : هذه شبهة ربما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٤١ ، الباب ٤٣ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٢ ، والآية من سورة النحل : ٧٥.

(٢) الوسائل ١٦ : ٣٢٤ ، الباب ٤ من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال ، الحديث ٦ ، والآية من سورة الأنعام : ١٤٥.

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي (ر) : «لظاهر الآخر».


عن المخصّص في العمومات بثبوت العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات ؛ فإنّ العلم الإجماليّ إمّا أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيليّ بوجود عدّة مخصّصات ، وإمّا أن لا يبقى ، فإن بقي فلا يرتفع بالفحص ، وإلاّ فلا مقتضي للفحص.

وتندفع هذه الشبهة : بأنّ المعلوم إجمالا هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص ، وأمّا وجود مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم ، فحينئذ لا يجوز (١) العمل قبل الفحص ؛ لاحتمال وجود مخصّص يظهر بالفحص (٢) ، ولا يمكن (٣) نفيه بالأصل ؛ لأجل العلم الإجماليّ ، وأمّا بعد الفحص فاحتمال وجود المخصّص في الواقع ينفى بالأصل السالم عن العلم الإجماليّ.

والحاصل : أنّ المنصف لا يجد فرقا بين ظواهر (٤) الكتاب والسنّة ، لا (٥) قبل الفحص ولا (٦) بعده.

ثمّ إنّك قد عرفت (٧) : أنّ العمدة في منع الأخباريّين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن ، إلاّ أنّه يظهر من

__________________

(١) في (ص) ، (ر) و (ل) : «فلا يجوز».

(٢) كذا في (ت) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي (ص) ، (ر) ، (ظ) و (م) بدل «بالفحص» : «بعد الفحص».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «ولا يمكنه».

(٤) في (ت) ، (ل) و (ه) : «ظاهر».

(٥) لم ترد «لا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٦) لم ترد «لا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) راجع الصفحة ١٣٩.


كلام السيّد الصدر ـ شارح الوافية ـ في آخر كلامه : أنّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل ، والعمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ؛ حيث قال ـ بعد إثبات أنّ في القرآن محكمات وظواهر ، وأنّه ممّا لا يصحّ إنكاره ، وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر ، وأنّ الحقّ مع الأخباريّين ـ ما خلاصته :

أنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين :

الاولى : أنّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الإفهام ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنّيّة ؛ إذ مدار الإفهام على إلقاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون ، وإن كان احتمال التجوّز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية : أنّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيرا ما اريد الخصوص من غير قرينة ، وربما اخاطب أحدا واريد غيره ، ونحو ذلك ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ؛ لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ، بل أعمّ من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ، ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطّعات.

ثمّ قال (١) :

قال سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ...) الآية (٢) ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات

__________________

(١) لم ترد «قال» في غير (ص).

(٢) آل عمران : ٧.


ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعلوا الأصل عدم العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

إذا تمهّدت (١) المقدّمتان ، فنقول : مقتضى الاولى العمل بالظواهر ، ومقتضى الثانية عدم العمل ؛ لأنّ ما صار متشابها لا يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقى ظهوره مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب بدليل جواز العمل ؛ لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ، ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ.

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا.

إلى أن قال :

لا يقال : إنّ ما ذكرتم ـ لو تمّ ـ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ؛ لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ (٢) المخصّص ، والمطلق (٣) المقيّد.

لأنّا نقول : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكن منعنا من ذلك في القرآن ؛ للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومنعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير.

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «تمهّد».

(٢) في غير (ل) و (م) زيادة «و» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.

(٣) في غير (ل) و (م) زيادة «و» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.


وأيضا : ذمّ الله تعالى على اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه عليهم‌السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن.

إلى أن قال :

وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا عاملين بأخبار الآحاد (١) من غير فحص عن مخصّص أو معارض ناسخ أو مقيّد ، ولو لا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقّفين (٢) ، انتهى.

المناقشة فيها أفاده السيّد الصدر

أقول : وفيه مواقع للنظر ، سيّما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الإجماع العمليّ ، ولولاه لتوقّف في العمل بها أيضا ؛ إذ لا يخفى أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بظواهر الأخبار لم يكن لدليل شرعيّ خاصّ وصل إليهم من أئمّتهم ، وإنّما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الإفادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع أم غيره ، وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للإفادة والاستفادة ، على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم.

نعم ، الأصل الأوّلي هي حرمة العمل بالظنّ ، على ما عرفت مفصّلا ، لكنّ الخارج منه ليس خصوص ظواهر الأخبار حتّى يبقى الباقي ، بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشئ عن كلام كلّ متكلّم القى إلى غيره للإفهام.

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «واحد».

(٢) شرح الوافية (مخطوط) : ١٤٠ ـ ١٤٦.


ثمّ إنّ ما ذكره ـ من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات واحتمال كونها من المتشابهات ـ ممنوع :

أوّلا : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفا ، بل يصحّ سلبه عنه ، فالنهي الوارد عن اتّباع المتشابه لا يمنع ؛ كما اعترف به في المقدّمة الاولى ، من أنّ مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.

وثانيا : بأنّ احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الأصل الذي اعترف به.

ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من أصالة حجّية الظواهر ؛ لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل إلاّ أن يعلم كونه (١) ممّا نهى الشارع عنه.

وبالجملة : فالحقّ ما اعترف به قدس‌سره ، من أنّا لو خلّينا وأنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب ، ولا بدّ للمانع من إثبات المنع.

ثمّ إنّك قد عرفت ممّا ذكرنا : أنّ خلاف الأخباريّين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا ، من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لإفادة المطالب (٢) واستفادتها (٣) ، وإنّما يكون خلافهم في أنّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة تفسير أهل الذكر ، أو أنّها ليست بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيّد المتقدّم (٤).

__________________

(١) في (ظ) : «كونها».

(٢) في (ص) و (ل) : «المطلب».

(٣) في (ص) : «استفادته».

(٤) أي السيّد الصدر المتقدّم كلامه في الصفحة ١٥١.


وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

توهّم عدم الثمرة في الخلاف في حجّية ظواهر الكتاب

أنّه ربما يتوهّم (١) بعض (٢) : أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ؛ إذ ليست آية متعلّقة بالفروع أو الاصول (٣) إلاّ و (٤) ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الإجماع على أكثرها. مع أنّ جلّ آيات الاصول والفروع ـ بل كلّها ـ ممّا تعلّق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها إلاّ بعد أخذ تفصيلها من الأخبار (٥) ، انتهى.

الجواب عن التوهّم المذكور

أقول : ولعلّه قصّر نظره على (٦) الآيات الواردة في العبادات ؛ فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره ، وإلاّ فالإطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة ، كثيرة جدّا ، مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٧) ، و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٨) ،

__________________

(١) في (م) و (ه) : «توهّم».

(٢) وهو الفاضل النراقي.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ه) : «والاصول».

(٤) «و» من (م) و (ه).

(٥) مناهج الأحكام : ١٥٦.

(٦) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «إلى».

(٧) المائدة : ١.

(٨) البقرة : ٢٧٥.


و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(١) ، و (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(٢) ، و (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)(٣) ، و (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)(٤) ، و (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٥) ، و (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٦) ، و (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)(٧) ، و (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(٨) ، و (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(٩) ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(١٠) ، وغير ذلك ممّا لا يحصى.

بل وفي العبادات أيضا كثيرة ، مثل قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ)(١١) ، وآيتي (١٢) التيمّم والوضوء والغسل (١٣).

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٨٣.

(٣) النساء : ٥.

(٤) الأنعام : ١٥٢ ، والإسراء : ٣٤.

(٥) النساء : ٢٤.

(٦) الحجرات : ٦.

(٧) التوبة : ١٢٢.

(٨) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

(٩) النحل : ٧٥.

(١٠) التوبة : ٩١.

(١١) التوبة : ٢٨.

(١٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «آيات».

(١٣) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.


وهذه العمومات وإن ورد فيها أخبار في الجملة ، إلاّ أنّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ ، فلاحظ وتتبّع.

الثاني :

لو اختلفت القراءة في الكتاب

أنّه إذا اختلفت (١) القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى ، كما في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢) ، حيث قرئ بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال ، وبالتخفيف (٣) من الطهارة الظاهرة في النّقاء من الحيض ، فلا يخلو : إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها كما هو المشهور (٤) ، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادّة ، وإمّا أن لا نقول كما هو مذهب جماعة (٥).

فعلى الأوّل : فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ، لا بدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لا بدّ من الحكم بالتوقّف والرجوع إلى غيرهما (٦).

__________________

(١) كذا في (خ) ، (د) ، (ف) و (ن) ، وفي نسخنا : «اختلف».

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «والتخفيف».

(٤) انظر القوانين ١ : ٤٠٦ ، ومفاتيح الاصول : ٣٢٢ ، ومناهج الأحكام : ١٥٠ ، وشرح الوافية (مخطوط) : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٥) ذكرهم في القوانين ومفاتيح الاصول ، وذهب إليه الفاضل النراقي في المناهج أيضا.

(٦) في هامش (م) زيادة العبارة التالية : «قال البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) : إنّ القراءتين آيتان يعمل بهما ، ثمّ فرّع على ذلك ما لا يخلو تفرّعه عن بحث».


وعلى الثاني : فإن ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة ـ كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكلّ قراءة ـ كان الحكم كما تقدّم ، وإلاّ فلا بدّ من التوقّف في محلّ التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجّح ، أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا (١) ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ؛ إذ لم يثبت تواتر التخفيف ، أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(٢) من حيث الزمان خرج منه أيّام الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصّص أو العمل بالعموم الزمانيّ.

الثالث :

وقوع التحريف في القرآن لا يمنع من التمسّك بالظواهر

أنّ وقوع التحريف في القرآن ـ على القول به ـ لا يمنع من التمسّك بالظواهر ؛ لعدم العلم الإجماليّ باختلال الظواهر بذلك. مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة. مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه ؛ لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي امرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب ، فافهم.

الرابع :

توهّم ودفع

قد يتوهّم (٣) : أنّ وجوب العمل بظواهر الكتاب بالإجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظواهره (٤) ؛ لأنّ من تلك الظواهر ظاهر الآيات

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «كما هو الظاهر».

(٢) البقرة : ٢٢٣.

(٣) ذكره المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٠٩.

(٤) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «بظاهره».


الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا حتّى ظواهر الكتاب.

وفيه : أنّ فرض وجود الدليل على حجّية الظواهر موجب لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر.

مع أنّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجّية أنفسها ، إلاّ أن يقال : إنّها لا تشمل أنفسها ، فتأمّل.

وبإزاء هذا التوهّم توهّم : أنّ خروج ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ؛ لأنّ وجود القاطع على حجّيتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم.

وفيه ما لا يخفى.


[حجّية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه](١)

تفصيل صاحب القوانين بين من قصد إفهامه وغيره

وأمّا التفصيل الآخر :

فهو الذي يظهر من صاحب القوانين ـ في آخر مسألة حجّية الكتاب (٢) ، وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد (٣) ـ وهو : الفرق بين من قصد إفهامه بالكلام ، فالظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ـ سواء كان مخاطبا كما في الخطابات الشفاهيّة ، أم لا كما في الناظر في الكتب المصنّفة لرجوع كلّ من ينظر إليها ـ وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب ، كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمّة عليهم‌السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين ، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين ، فالظهور اللفظيّ ليس حجّة حينئذ لنا ، إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيته عند انسداد باب العلم.

توجيه هذا التفصيل :

ويمكن توجيه هذا التفصيل : بأنّ الظهور اللفظيّ ليس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعيّ ، وهو كون اللفظ بنفسه ـ لو خلّي وطبعه ـ مفيدا للظنّ بالمراد ، فإذا (٤) كان مقصود المتكلّم من الكلام إفهام من يقصد

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) القوانين ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣.

(٣) القوانين ٢ : ١٠٣.

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «فإن».


إفهامه ، فيجب عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع معه الملقى إليه في خلاف المراد (١) ، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود كان إمّا لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه (٢) ، وإمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ، ومعلوم أنّ احتمال الغفلة من المتكلّم أو (٣) السامع احتمال مرجوح في نفسه ، مع انعقاد الإجماع من العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع امور العقلاء ، أقوالهم وأفعالهم.

وأمّا إذا لم يكن الشخص مقصودا بالإفهام ، فوقوعه في خلاف المقصود لا ينحصر سببه في الغفلة ؛ فإنّا إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفا عن ظاهرها ، واحتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اختفت (٤) علينا ، فلا يكون هذا الاحتمال لأجل غفلة من المتكلّم أو منّا ؛ إذ لا يجب على المتكلّم إلاّ نصب القرينة لمن يقصد إفهامه.

مع أنّ عدم تحقّق الغفلة من المتكلّم في محلّ الكلام مفروض ؛ لكونه معصوما ، وليس اختفاء القرينة علينا مسبّبا عن غفلتنا عنها ، بل لدواعي الاختفاء الخارجة عن مدخليّة المتكلّم ومن القي إليه الكلام.

__________________

(١) كذا في (م) ، وفي (ر) ، (ص) و (ل) : «على وجه لا يقع المخاطب معه في خلاف المراد» ، وفي (ه) : «على وجه لا يقع المخاطب الملقى إليه معه في خلاف المراد» ، وفي (ت) و (ظ) : «على وجه لا يقع الملقى إليه في خلاف المراد».

(٢) لم ترد «الملقى إليه» في (ظ) ، (ل) و (م) ، وكتب عليها في (ت) : «زائد».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «و».

(٤) في (ر) ، (ص) و (ل) : «اخفيت».


فليس هنا شيء يوجب بنفسه الظنّ بالمراد حتّى لو فرضنا الفحص ، فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ، ليس هنا ما يوجب مرجوحيّته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ؛ إذ لا يحكم العادة ـ ولو ظنّا ـ بأنّها لو كانت لظفرنا بها ؛ إذ كثير (١) من الامور قد اختفت علينا ، بل لا يبعد دعوى العلم بأنّ ما اختفى علينا من الأخبار والقرائن أكثر ممّا ظفرنا بها.

مع أنّا لو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتّصلة ، لكنّ القرائن الحاليّة وما اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقليّة أو النقليّة الكليّة أو الجزئيّة المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام ، ليست ممّا يحصل الظنّ بانتفائها بعد البحث والفحص.

ولو فرض حصول الظنّ من الخارج بإرادة الظاهر من الكلام لم يكن ذلك ظنّا مستندا إلى الكلام ، كما نبّهنا عليه في أوّل المبحث (٢).

وبالجملة : فظواهر الألفاظ حجّة ـ بمعنى عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها ـ إذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلّم في كيفيّة الإفادة أو المخاطب في كيفيّة الاستفادة ؛ لأنّ احتمال الغفلة ممّا هو مرجوح في نفسه ومتّفق على عدم الاعتناء به في جميع الامور ، دون ما إذا (٣) كان الاحتمال مسبّبا عن اختفاء امور لم تجر العادة القطعيّة أو الظنّية بأنّها لو كانت لوصلت إلينا.

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «كثيرا».

(٢) راجع الصفحة ١٦١.

(٣) لم ترد «إذا» في (ت) ، (ر) و (ل).


ومن هنا ظهر : أنّ ما ذكرنا سابقا (١) ـ من اتّفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوى ، والأقارير ، والشهادات ، والوصايا ، والمكاتبات ـ لا ينفع في ردّ هذا التفصيل ، إلاّ أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد ، ودون إثباتها خرط القتاد.

ودعوى : أنّ الغالب اتّصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته.

مردودة : بأنّ من المشاهد المحسوس تطرّق التقييد والتخصيص إلى أكثر العمومات والإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام ، وليس إلاّ لكون الاعتماد في ذلك كلّه على القرائن المنفصلة ، سواء كانت منفصلة عند الاعتماد كالقرائن العقليّة والنقليّة الخارجيّة ، أم كانت مقاليّة متّصلة لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك ؛ لعروض التقطيع للأخبار ، أو (٢) حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى ، أو غير ذلك ، فجميع ذلك ممّا لا يحصل الظنّ بأنّها لو كانت لوصلت إلينا.

مع إمكان أن يقال : إنّه لو حصل الظنّ لم يكن على اعتباره دليل خاصّ. نعم ، الظنّ الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب أو المتكلّم ممّا أطبق عليه العقلاء في جميع أقوالهم وأفعالهم.

هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل.

المناقشة في التفصيل المذكور

ولكنّ الإنصاف : أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللفظيّ وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد ؛ فإنّ جميع

__________________

(١) راجع الصفحة ١٦١.

(٢) في (ه) : «و».


ما دلّ من إجماع العلماء وأهل اللسان على حجّية الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه جار في من لم يقصد ؛ لأنّ أهل اللسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب ، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها ، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه ، فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخص إلى شخص بيد ثالث ، فلا يتأمّل في استخراج مرادات المتكلّم من الخطاب الموجّه (١) إلى المكتوب إليه ، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منه (٢) ، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطّلاع على مراد المولى ، وهذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفيّة.

هذا حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم ، وأمّا العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب ، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئيّة ، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيّن إلى شخص معيّن ، ثمّ مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه ؛ فإنّ العلماء لا يتأمّلون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المفقود (٣). وكذا في الأقارير.

أم كان في الأحكام الكلّيّة ، كالأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) : «المتوجّه».

(٢) في غير (ت) و (ه) : «منهم».

(٣) كذا في (ص) ، (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ر) ، وفي غيرها : «المقصود».


مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبيهم (١) لا غير ؛ فإنّه لم (٢) يتأمّل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجّية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه.

ودعوى : كون ذلك منهم للبناء على كون الأخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام من قبيل تأليف المصنّفين ، واضحة الفساد.

مع أنّها لو صحّت لجرت في الكتاب العزيز ؛ فإنّه أولى بأن يكون من هذا القبيل ، فترتفع ثمرة التفصيل المذكور ؛ لأنّ المفصّل معترف (٣) بأنّ ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلّفين حجّة بالخصوص ، لا لدخوله في مطلق الظنّ ، وإنّما كلامه في اعتبار ظهور الكلام الموجّه إلى مخاطب خاصّ بالنسبة إلى غيره.

والحاصل : أنّ القطع حاصل لكلّ متتبّع في طريقة فقهاء المسلمين ، بأنّهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجّية الظنّ المطلق الثابتة بدليل الانسداد ، بل يعمل بها من يدّعي الانفتاح وينكر العمل بأخبار الآحاد ؛ مدّعيا كون معظم الفقه معلوما بالإجماع والأخبار المتواترة.

ويدلّ على ذلك أيضا : سيرة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فإنّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم من الأئمّة الماضين عليهم‌السلام (٤) ،

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «مخاطبهم».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ل) : «لا».

(٣) في (ر) ، (ص) وظاهر (ل) : «اعترف».

(٤) لم ترد عبارة «من الأئمّة الماضين عليهم‌السلام» في (ر) ، (م) ، (ص) و (ظ) ، ولم ترد «الماضين» في (ت).


كما (١) يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها (٢) من أئمّتهم عليهم‌السلام ، لا يفرّقون بينهما إلاّ بالفحص وعدمه ، كما سيأتي (٣).

والحاصل : أنّ الفرق في حجّية أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعيّة من العلماء وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام.

هذا كلّه ، مع أنّ التوجيه المذكور لذلك التفصيل ـ لابتنائه على الفرق بين أصالة عدم الغفلة والخطأ في فهم المراد ، وبين مطلق أصالة عدم القرينة ـ يوجب عدم كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين ؛ لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في حقّهم مطلقا.

فما ذكره ـ من ابتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين ـ غير سديد ؛ لأنّ الظنّ المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة الناشئ عن ظنّ عدم الغفلة والخطأ ، فلا يجري في حقّ الغائبين وإن قلنا بشمول الخطاب لهم ، وإن كان هو الحاصل من أصالة عدم القرينة فهو جار في الغائبين وإن لم يشملهم الخطاب.

وممّا يمكن أن يستدلّ به أيضا ـ زيادة على ما مرّ من اشتراك أدلّة حجّية الظواهر ، من إجماعي العلماء وأهل اللسان ـ : ما ورد في الأخبار المتواترة معنى ، من الأمر بالرجوع إلى الكتاب وعرض الأخبار

__________________

(١) في (ص) زيادة : «كانوا».

(٢) في (ظ) و (م) : «سمعوها».

(٣) انظر الصفحة ٣٤٧.


عليه (١) ؛ فإنّ هذه الظواهر المتواترة حجّة للمشافهين بها ، فيشترك غير المشافهين ويتمّ (٢) المطلوب ، كما لا يخفى.

كلام صاحب القوانين فيها يرتبط بالتفصيل المتقدّم

وممّا ذكرنا تعرف النظر فيما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ بعد ما ذكر من عدم حجّية ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص ـ بقوله :

فإن قلت : إنّ أخبار الثقلين تدلّ على كون ظاهر الكتاب حجّة لغير المشافهين بالخصوص.

فأجاب عنه : بأنّ رواية الثقلين ظاهرة في ذلك ؛ لاحتمال كون المراد التمسّك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمّة عليهم‌السلام كما يقوله الأخباريّون ، وحجّية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرة ؛ إذ لا فرق بين ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين بها (٣).

المتاقشة في كلام صاحب القوانين

توضيح النظر : أنّ العمدة في حجّية ظواهر الكتاب غير خبر الثقلين من الأخبار المتواترة الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب (٤) ، وهذه الأخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر الكتاب بعد ورود تفسيرها من الأئمّة صلوات الله عليهم ، وليست ظاهرة في ذلك حتّى يكون التمسّك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرة.

__________________

(١) انظر الوسائل ٤ : ٨٢٨ ، الباب ٣ من أبواب قراءة القرآن ، و ١٨ : ٧٥ ـ ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١ ، ١٠ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٨ ، ٢٩ ، ٣٥ و ٣٧ ، والكافي ١ : ٥٩ ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة.

(٢) في (ت) و (ر) : «فيتمّ».

(٣) القوانين ٢ : ١٠٤.

(٤) تقدّمت الإشارة إلى كثير منها في الصفحة ١٤٥ ـ ١٤٩.


بل يمكن أن يقال : إنّ خبر الثقلين ليس له ظهور (١) إلاّ في وجوب إطاعتهما وحرمة مخالفتهما ، وليس في مقام اعتبار الظنّ الحاصل بهما في تشخيص الإطاعة والمعصية ، فافهم.

احتمال التفصيل المتقدّم في كلام صاحب المعالم

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه‌الله في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل المتقدّم (٢) ، لا بأس بالإشارة إليه ، قال ـ في الدليل الرابع من أدلّة حجّية خبر الواحد ، بعد ذكر انسداد باب العلم في غير الضروريّ من الأحكام ؛ لفقد الإجماع والسنّة المتواترة ، ووضوح كون أصل البراءة لا يفيد غير الظنّ ، وكون الكتاب ظنّي الدلالة ـ ما لفظه :

لا يقال : إنّ الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون ؛ وذلك بضميمة مقدّمة خارجيّة ، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر.

سلّمنا ، ولكن ذلك ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.

لأنّا نقول : أحكام الكتاب ـ كلّها ـ من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكلّ ، وحينئذ : فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ؛ وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع

__________________

(١) وردت العبارة في (ص) ، (ل) ونسخة بدل (ه) هكذا : «وأمّا خبر الثقلين فيمكن منع ظهوره».

(٢) المتقدّم في الصفحة ١٦٠.


ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينفى القطع بالحكم.

ويستوي حينئذ : الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ؛ لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا ، وقد تبيّن خلافه. ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة ـ الدالّين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر الكتاب ـ بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية المفيدة للظنّ (١)(٢) ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

ولا يخفى : أنّ في كلامه قدس‌سره ـ على إجماله واشتباه المراد منه ؛ كما يظهر من المحشّين ـ مواقع للنظر والتأمّل.

* * *

عدم الفرق في حجّية الظواهر بين ما يفيد الظنّ بالمراد وغيره

ثمّ إنّك قد عرفت : أنّ مناط الحجّية والاعتبار في دلالة الألفاظ هو الظهور العرفيّ ، وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المقاميّة المكتنفة بالكلام ، فلا فرق بين إفادته الظنّ بالمراد وعدمها ، ولا بين وجود الظنّ الغير المعتبر على خلافه وعدمه ؛ لأنّ ما ذكرنا من الحجّة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة.

وما ربما يظهر من العلماء : من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه ، مع اعترافهم بعدم حجّية الشهرة ، فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو

__________________

(١) في المصدر وهامش (ص) زيادة : «الراجح بأنّ التكليف بخلاف ذلك الظاهر».

(٢) المعالم : ١٩٣ ـ ١٩٤.


إطلاق ، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور ؛ بناء على أنّ ما دلّ من الدليل على حجّية الخبر (١) من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور ؛ ولذا لا يتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والسنّة المتواترة إذا عارضها الشهرة.

فالتأمّل في الخبر المخالف للمشهور إنّما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر ، لا عمومه أو إطلاقه ، فلا يتأمّلون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص.

نظريّة المحقّق الكلباسي والمناقشة فيها

نعم ، ربما يجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين (٢) ، عدم الدليل على حجّية الظواهر إذا لم تفد الظنّ ، أو إذا حصل الظنّ الغير المعتبر على خلافها.

لكنّ الإنصاف : أنّه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كلّ زمان ؛ ولذا عدّ بعض الأخباريّين (٣) ـ كالاصوليّين (٤) ـ استصحاب حكم العامّ والمطلق حتّى يثبت المخصّص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها ، وهذا وإن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلاّ بالتوجيه ، إلاّ أنّ الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعيّة.

تفصيل صاحب هداية المسترشدين والمناقشة فيه

وربما فصّل بعض من المعاصرين (٥) تفصيلا يرجع حاصله إلى ؛ أنّ

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) زيادة : «الواحد».

(٢) قيل : هو المحقّق الكلباسي ، وسيأتي من المصنّف في الصفحة ٥٩١ أنّه حكاه له بعض معاصريه عن شيخه.

(٣) هو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٣٤.

(٤) انظر تمهيد القواعد : ٢٧١ ، والقواعد والفوائد ١ : ١٣٣.

(٥) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٤٠.


الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقيّ ، فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف أو كان هنا أمر منفصل يصلح لكونه صارفا ، فيعمل على أصالة الحقيقة.

وهذا تفصيل حسن متين ، لكنّه تفصيل في العمل بأصالة الحقيقة عند الشكّ في الصارف ، لا في حجّية الظهور اللفظيّ ، بل مرجعه (١) إلى تعيين الظهور العرفيّ وتمييزه عن موارد الإجمال ؛ فإنّ اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف ؛ ولذا توقّف جماعة في المجاز المشهور ، والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء ، والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر والإيجاب (٢) ، إلى غير ذلك ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقّف أحد في عامّ بمجرّد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه مخصّصا له ، بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العامّ ؛ ولذا لو قال المولى : أكرم العلماء ، ثمّ ورد قول آخر من المولى : إنّه لا تكرم زيدا ، واشترك زيد بين عالم وجاهل ، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفعون الإجمال بواسطة العموم ، فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي.

تفصيل السيّد المجاهد في المسألة

وبإزاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف ، وهو : أنّ احتمال

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «ومرجعه».

(٢) انظر المعالم : ٥٣ ، ٩٠ ، ١٣٧ و ١٢١ ، والقوانين ١ : ٨٨ ، ٨٩ ، ١٣٦ ، ٢٨٣ و ٣٠٠.


إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ ، وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العامّ ولا يوجب الظنّ بالواقع. قال : فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبّدا. ثمّ قال :

ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ؛ فإنّ أكثر المحقّقين توقّفوا في ما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح (١) ، انتهى.

المناقشة في هذا التفصيل

ووجه ضعفه يظهر ممّا ذكر ؛ فإنّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل إجمال (٢) خطاب آخر ـ لكونه معارضا ـ ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد ما تقدّم (٣) : من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبيّن في الخطاب الآخر.

وأمّا قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح ، فعلم فساده ممّا ذكرنا في التفصيل المتقدّم : من أنّ الكلام المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلّم في إرادة خلاف الحقيقة لا يعدّ من الظواهر ، بل من المجملات ، وكذلك المتعقّب بلفظ يصلح للصارفيّة ، كالعامّ المتعقّب بالضمير ، وشبهه ممّا تقدّم.

__________________

(١) هذا التفصيل للسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) : «احتمال».

(٣) في الصفحة السابقة.


وأمّا القسم الثاني (١) :

ما يستعمل لتشخيص الظواهر

وهو الظنّ الذي يعمل لتشخيص الظواهر ، كتشخيص أنّ اللفظ المفرد الفلانيّ كلفظ «الصعيد» أو صيغة «افعل» ، أو أنّ المركّب الفلانيّ كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلانيّ ، وأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر ـ بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر ـ في مجرّد رفع الحظر دون الإلزام.

هل قول اللغويين حجّة في الأوضاع اللغويّة ، أم لا؟

والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى الظنّ بالوضع اللغويّ أو الانفهام العرفيّ ، والأوفق بالقواعد عدم حجّية الظنّ هنا ؛ لأنّ الثابت المتيقّن هي حجّية الظواهر ، وأمّا حجّية الظنّ في أنّ هذا ظاهر فلا دليل عليه ، عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئيّ من جزئيّات (٢) هذه المسألة ، وهي حجّية قول اللغويّين في الأوضاع.

فإنّ المشهور كونه من الظنون الخاصّة التي ثبتت (٣) حجّيّتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة وإن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها ؛ فإنّ الظاهر أنّ حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصّة ـ كأصالة الحقيقة المتقدّم ذكرها (٤) وغيرها ـ انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات.

__________________

(١) تقدّم الكلام في القسم الأوّل في الصفحة ١٣٧.

(٢) «جزئيّات» من (ت) و (ه).

(٣) كذا في (م) ، وفي غيرها : «ثبت».

(٤) تقدّم ذكرها في الصفحة ١٦٤.


والمراد بالظنّ المطلق ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعيّة ، وبالظنّ الخاصّ ما ثبت اعتباره ، لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ بعد تعذّر العلم.

الاستدلال على الحجيّة بإجماع العلماء والعقلاء

وكيف كان : فاستدلّوا على اعتبار قول اللغويّين : باتّفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ، ولم ينكر ذلك أحد على أحد ، وقد حكي عن السيّد رحمه‌الله في بعض كلماته : دعوى الإجماع على ذلك (١) ، بل ظاهر كلامه (٢) المحكيّ اتّفاق المسلمين.

قال الفاضل السبزواريّ ـ فيما حكي عنه في هذا المقام (٣) ـ ما هذا لفظه :

دعوى الإجماع في كلام المحقّق السبزواري

صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم في ما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان (٤) ، انتهى.

المناقشة في الإجماع

وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك ، لا مطلقا ؛ ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال ، بل

__________________

(١) لم نعثر عليه في كلمات السيد المرتضى ، ولا على الحاكي ، نعم حكاه السيد المجاهد عن السيد الاستاذ ، انظر مفاتيح الاصول : ٦١.

(٢) لم ترد «كلامه» في (م).

(٣) حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٢.

(٤) رسالة في الغناء (مخطوطة) للفاضل السبزواري ، لا توجد لدينا.


وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظاهر اتّفاقهم على اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها.

هذا ، مع أنّه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرّد قول اللغويّ ـ كما اعترف به المستدلّ في بعض كلماته ـ فلا ينفع في تشخيص الظواهر.

مختار المصنّف في المسألة

فالإنصاف : أنّ الرجوع إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط الشهادة :

إمّا في مقامات يحصل العلم بالمستعمل فيه من مجرّد ذكر لغويّ واحد أو أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ، كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهيّة من إرسال جماعة (١) لها إرسال المسلّمات.

وإمّا في مقامات يتسامح فيها ؛ لعدم التكليف الشرعيّ بتحصيل العلم بالمعنى اللغويّ ، كما إذا اريد تفسير خطبة أو رواية لا تتعلّق بتكليف شرعيّ.

وإمّا في مقام انسدّ فيه طريق العلم ولا بدّ من العمل ، فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعيّ المستند بقول أهل اللغة.

ولا يتوهّم : أنّ طرح قول اللغويّ الغير المفيد للعلم في ألفاظ الكتاب والسنّة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام.

لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موادّ اللغات إلاّ ما شذّ وندر ـ كلفظ «الصعيد» ونحوه (٢) ـ معلوم من العرف واللغة ، كما لا يخفى. والمتّبع في الهيئات هي القواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعيّ واتّفاق أهل

__________________

(١) في (ل) ونسخة بدل (ص) زيادة : «بل فقيه واحد».

(٢) لم ترد «كلفظ الصعيد ونحوه» في (ظ) و (م).


العربية ، أو التبادر بضميمة أصالة عدم القرينة ، فإنّه قد يثبت به الوضع الأصليّ الموجود في الحقائق ، كما في صيغة «افعل» أو الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة ؛ ومن هنا يتمسّكون (١) ـ في إثبات مفهوم الوصف ـ بفهم أبي عبيدة في حديث : «ليّ الواجد» (٢) ، ونحوه غيره من موارد الاستشهاد بفهم أهل اللسان (٣). وقد يثبت به الوضع بالمعنى الأعمّ الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقاميّة ، كما يدّعى أنّ الأمر عقيب الحظر بنفسه ـ مجرّدا عن القرينة ـ يتبادر منه مجرّد رفع الحظر دون الإيجاب والإلزام. واحتمال كونه لأجل قرينة خاصّة ، يدفع بالأصل ، فيثبت به كونه لأجل القرينة العامّة ، وهى الوقوع في مقام رفع الحظر ؛ فيثبت بذلك ظهور ثانويّ لصيغة «افعل» بواسطة القرينة الكلّية.

وبالجملة : فالحاجة إلى قول اللغويّ الذي لا يحصل العلم بقوله ـ لقلّة مواردها ـ لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة.

نعم ، سيجيء (٤) : أنّ كلّ من عمل بالظنّ في مطلق الأحكام الشرعيّة الفرعيّة يلزمه العمل بالظنّ بالحكم الناشئ من الظنّ بقول اللغويّ ، لكنّه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل

__________________

(١) انظر القوانين : ١٧٨ ، والفصول : ١٥٢.

(٢) نصّ الحديث : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليّ الواجد بالدّين يحلّ عرضه وعقوبته ، ما لم يكن دينه فيما يكره الله عزّ وجلّ» الوسائل ١٣ : ٩٠ ، الباب ٨ من أبواب الدين والقرض ، الحديث ٤.

(٣) لم ترد في (م) : «أو الوصفيّة ـ إلى ـ أهل اللسان».

(٤) انظر الصفحة ٥٣٨.


العبرة عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام ؛ فإنّه يوجب الرجوع إلى الظنّ بالحكم الحاصل من الظنّ باللغة وإن فرض انفتاح باب العلم فيما عدا هذا المورد من اللغات ، وسيتّضح هذا زيادة على هذا إن شاء الله تعالى.

هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ مورد الحاجة إلى قول اللغويّين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها ، وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغويّ ، كما في مثل ألفاظ «الوطن» ، و «المفازة» ، و «التمر» ، و «الفاكهة» ، و «الكنز» ، و «المعدن» ، و «الغوص» ، وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى ، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذورا ، ولعلّ هذا المقدار (١) مع الاتّفاقات المستفيضة كاف في المطلب ، فتأمّل (٢).

__________________

(١) لم ترد «المقدار» في (ت) و (ه).

(٢) لم ترد «هذا ولكن الإنصاف ـ إلى ـ فتأمّل» في (ظ) ، (ل) و (م).



[الإجماع المنقول](١)

هل الإجماع المنقول حجّة ، أم لا؟

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل :

الإجماع المنقول بخبر الواحد ، عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص (٢) ؛ نظرا إلى أنّه من أفراده ، فيشمله أدلّته.

والمقصود من ذكره هنا ـ مقدّما على بيان الحال في الأخبار ـ هو التعرّض للملازمة بين حجّية الخبر وحجّيته ، فنقول :

إنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص : أنّ الدليل عليه هو الدليل على حجّية خبر العادل ، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند ؛ لأنّ مدّعي الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة. ويدخل الإجماع ما يدخل الخبر من الأقسام ، ويلحقه ما يلحقه من الأحكام.

الكلام في الملازمة بين حجّية الخبر الواحد وحجّية الإجماع المنقول

والذي يقوى في النظر : هو عدم الملازمة بين حجّية الخبر وحجّية

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ١٨٠ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٥٨ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٨٤.


الإجماع المنقول ، وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين :

عدم حجّية الإخبار عن حدس

الأمر الأوّل : أنّ الأدلّة الخاصّة التي أقاموها على حجّية خبر العادل لا تدلّ إلاّ على حجّية الإخبار عن حسّ ؛ لأنّ العمدة من تلك الأدلّة هو الاتّفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ومعلوم عدم شموله (١) إلاّ للرواية المصطلحة.

وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات.

دعوى وحدة المناط في العمل بالروايات والإجماع المنقول

اللهمّ إلاّ أن يدّعى : أنّ المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام عليه‌السلام ؛ ولذا يجوز النقل بالمعنى ، فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام عليه‌السلام ولو بلفظ آخر ، والمفروض أنّ حكاية الإجماع ـ أيضا ـ حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه‌السلام بهذه العبارة التي هي معقد الإجماع أو بعبارة اخرى ، وجب العمل به.

ردّ الدعوى المذكورة

لكن هذا المناط لو ثبت دلّ على حجّية الشهرة ، بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها ، كما عمل بفتاوى عليّ بن بابويه قدس‌سره ؛ لتنزيل فتواه منزلة روايته ، بل على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، وسيجيء توضيح الحال (٢) إن شاء الله تعالى.

الاستدلال بآية النبأ على حجّية الإجماع المنقول

وأمّا الآيات : فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هي آية النبأ (٣) ،

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «شمولها».

(٢) انظر الصفحة ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

(٣) الحجرات : ٦.


وهي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق ، والظاهر منها ـ بقرينة التفصيل بين العادل حين الإخبار والفاسق ، وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا ؛ لأنّ الفاسق لا رادع له عن الكذب ـ هو : عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطائه في حدسه ؛ لأنّ الفسق والعدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطين (١) لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه ، وكذا احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلح لتعليل الفرق به.

فعلمنا من ذلك : أنّ المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمّد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق ؛ لأنّ هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين الإخبار.

ومنه تبيّن : عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسيّة إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.

فإن قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول (٢) الخبر ؛ لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمّد الكذب ، فيجب التبيّن في خبر العادل أيضا ؛ لاحتمال خطائه وسهوه ، وهو خلاف الآية المفصّلة بين العادل والفاسق ، غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من وجهين وفي العادل من جهة واحدة.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «لا تصلح مناطا».

(٢) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ل) : «قبوليّة» ، وفي (م) : «مقبوليّة».


قلت : إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، ينفى احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ؛ وهذا أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد.

نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره ؛ لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه ؛ ولذا يعتبرون في الراوي والشاهد (١) الضبط ، وإن كان ربما يتوهّم الجاهل ثبوت ذلك من الإجماع ، إلاّ أنّ المنصف يشهد : أنّ (٢) اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجيّ مخصّص لعموم آية النبأ ونحوها ممّا دلّ على وجوب قبول قول العادل ، بل لما ذكرنا : من أنّ المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمّده الكذب ، لا تصويبه وعدم تخطئته أو غفلته (٣).

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّه لم يستدلّ أحد من العلماء على حجّية فتوى الفقيه على العامّي بآية النبأ ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال (٤).

والظاهر : أنّ ما ذكرنا ـ من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد ـ هو الوجه فيما

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «الشاهد والراوي».

(٢) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «بأنّ».

(٣) لم ترد «أو غفلته» في (م).

(٤) منهم المحقّق في المعارج : ١٩٨ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٤١١ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٢٥ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٩٤.


ذهب إليه المعظم (١) ، بل أطبقوا عليه كما في الرياض (٢) : من عدم (٣) اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحسّ ، وإن علّله في الرياض بما لا يخلو عن نظر : من أنّ الشهادة من الشهود وهو الحضور ، فالحسّ مأخوذ في مفهومها.

عدم عموميّة آية «النبأ» لكلّ خبر

والحاصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الإخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجّة إلاّ على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعيّة ، وأنّ الآية ليست عامّة لكلّ خبر ودعوى (٤) خرج ما خرج.

فإن قلت : فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمّده للكذب فيه ، تقبل شهادته فيه ؛ لأنّ احتمال تعمّده للكذب منتف بالفرض ، واحتمال غفلته وخطائه منفيّ بالأصل المجمع عليه ، مع أنّ شهادته مردودة إجماعا.

قلت : ليس المراد ممّا ذكرنا عدم قابليّة العدالة والفسق لإناطة (٥) الحكم بهما وجودا وعدما تعبّدا ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما ، بل

__________________

(١) كالمحقّق في الشرائع ٤ : ١٣٢ ، والشهيد في الدروس ٢ : ١٣٤ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٣١٠.

(٢) الرياض (الطبعة الحجرية) ٢ : ٤٤٦.

(٣) في (م) بدل عبارة «والظاهر أنّ ـ إلى ـ من عدم اعتبار» العبارة التالية : «ولعلّ لما ذكرنا ـ من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل ، على وجوب تصويبه في الاعتقاد ـ ذهب المعظم ، بل أطبقوا كما في الرياض على عدم اعتبار ...».

(٤) في (ر) : «بدعوى».

(٥) في (ظ) و (ل) بدل «لإناطة» : «لاشتراط».


المراد أنّ الآية المذكورة لا تدلّ إلاّ على مانعيّة الفسق من حيث قيام احتمال تعمّد الكذب معه ، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة ، فلا يدلّ على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصّة بالأخبار الحسيّة ، فالآية (١) لا تدلّ أيضا على اشتراط العدالة ومانعيّة الفسق في صورة العلم بعدم تعمّد (٢) الكذب ، بل لا بدّ له من دليل آخر ، فتأمّل (٣).

الإجماع في مصطلح الخاصّة والعامّة

الأمر الثاني : الإجماع في مصطلح الخاصّة والعامّة أنّ الإجماع في مصطلح الخاصّة ، بل العامّة ـ الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم ـ هو (٤) : اتّفاق جميع العلماء في عصر ؛ كما ينادي بذلك تعريفات كثير من (٥) الفريقين (٦).

قال في التهذيب : الإجماع هو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧).

وقال صاحب غاية البادئ (٨) ـ شارح المبادئ ، الذي هو أحد علمائنا

__________________

(١) في (ظ) و (ل) بدل «فالآية» : «و».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ص) : «تعمّده».

(٣) لم ترد في (ظ) ، (ل) و (م) : «فتأمّل».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «عبارة عن».

(٥) في (م) : «كثير من تعريفات».

(٦) انظر المستصفى للغزالي ١ : ١٧٣ ، والإحكام للآمدي ١ : ٢٥٤ ، وشرح مختصر الاصول ١ : ١٢٢ ، وستأتي الإشارة إلى كلمات الخاصّة.

(٧) تهذيب الوصول للعلاّمة الحلّي : ٦٥.

(٨) هو الشيخ محمّد بن علي بن محمّد الجرجاني الغروي ، تلميذ العلاّمة الحلّي.

انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٦ : ١٠.


المعاصرين للعلاّمة قدس‌سره ـ : الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام هو : اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه يشتمل على قول المعصوم (١) ، انتهى.

وقال في المعالم : الإجماع في الاصطلاح : اتّفاق خاصّ ، وهو اتّفاق من يعتبر قوله من الامّة (٢) ، انتهى.

وكذا غيرها من العبارات المصرّحة بذلك (٣) في تعريف الإجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره (٤).

وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة

ثمّ إنّه لمّا كان وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة اشتماله على قول الإمام عليه‌السلام ، كانت الحجّية دائرة مدار وجوده عليه‌السلام في كلّ جماعة هو أحدهم ؛ ولذا قال السيّد المرتضى :

إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم ، فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان قول الإمام في أقوالها ، فإجماعها حجّة ، وأنّ خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما ـ قطعا أو تجويزا ـ يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وأنّ الإجماع بعد الخلاف

__________________

(١) غاية البادئ في شرح المبادئ (مخطوط) : الورقة ٧٣ ، وفيه : «اتّفاق جمع من أمّة محمّد».

(٢) المعالم : ١٧٢.

(٣) انظر المعارج : ١٢٥ ، والوافية : ١٥١.

(٤) انظر إيضاح الفوائد ٣ : ٣١٨ ، وحاشية الشرائع للمحقّق الثاني (مخطوط) : ٩٩ ، والجواهر ٢ : ١٠.


كالمبتدإ في الحجّية (١) ، انتهى.

وقال المحقّق في المعتبر ـ بعد إناطة حجّية الإجماع بدخول قول الإمام عليه‌السلام ـ : إنّه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة (٢) ، انتهى.

وقال العلاّمة رحمه‌الله ـ بعد قوله : إنّ الإجماع عندنا حجّة لاشتماله على قول المعصوم ـ : وكلّ جماعة قلّت أو كثرت كان قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوالها فإجماعها حجّة لأجله ، لا لأجل الإجماع (٣) ، انتهى.

هذا ، ولكن لا يلزم من كونه حجّة تسميته إجماعا في الاصطلاح ، كما أنّه ليس كلّ خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح.

وأمّا ما اشتهر بينهم : من أنّه لا يقدح خروج معلوم النسب واحدا أو أكثر ، فالمراد أنّه لا يقدح في حجّية اتّفاق الباقي ، لا في تسميته إجماعا ، كما علم من فرض المحقّق قدس‌سره الإمام عليه‌السلام في اثنين.

نعم ، ظاهر كلمات جماعة (٤) يوهم تسميته إجماعا (٥) ؛ حيث تراهم يدّعون الإجماع في مسألة ثمّ يعتذرون عن وجود المخالف بأنّه معلوم النسب.

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٦٣٠ ، ٦٣٢ و ٦٣٥.

(٢) المعتبر ١ : ٣١.

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٤١.

(٤) مثل : الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٨٩ ، وصاحب الرياض في الرياض ٢ : ٣٤٦.

(٥) في (ر) زيادة : «اصطلاحا» ، وفي (ص) زيادة : «في الاصطلاح».


لكنّ التأمّل الصادق يشهد بأنّ الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجّية ، لا في التسمية.

المسامحة في إطلاق الإجماع

نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على اتّفاق الجماعة التي علم دخول الإمام عليه‌السلام فيها ؛ لوجود مناط الحجّية فيه ، وكون وجود المخالف غير مؤثّر شيئا. وقد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن (١) ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الإماميّة ، كما يعرف من أدنى تتبّع لموارد الاستدلال.

بل إطلاق لفظ «الإجماع» بقول مطلق على إجماع الإماميّة فقط ـ مع أنّهم بعض الامّة لا كلّهم ـ ليس إلاّ لأجل المسامحة ؛ من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجّية.

وعلى أيّ تقدير : فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام عليه‌السلام في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمّن ، فيكون الإخبار عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه‌السلام ، وهذا هو الذي يدلّ عليه كلام المفيد (٢) والمرتضى (٣) وابن زهرة (٤) والمحقّق (٥) والعلاّمة (٦)

__________________

(١) لم ترد «أن» في (ه) ، وشطب عليها في (ت).

(٢) أوائل المقالات (مصنّفات الشيخ المفيد) ٤ : ١٢١.

(٣) الذريعة ٢ : ٦٠٥.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٧.

(٥) المعتبر ١ : ٣١ ، والمعارج : ١٣٢.

(٦) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٤١ ، وتهذيب الوصول : ٦٥ و ٧٠.


والشهيدين (١) ومن تأخّر عنهم (٢).

وأمّا اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه‌الله (٣) ، أو التقرير كما عن بعض المتأخّرين (٤) ، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، فهذا ليس إجماعا اصطلاحيّا ، إلاّ أن ينضمّ قول الإمام عليه‌السلام ـ المكشوف عنه باتّفاق هؤلاء ـ إلى أقوالهم (٥) فيسمّى المجموع إجماعا ؛ بناء على ما تقدّم (٦) :

من المسامحة في تسمية اتّفاق جماعة مشتمل على قول الإمام عليه‌السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر. فالدليل في الحقيقة هو اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام ، والمدلول الحكم الصادر عنه عليه‌السلام ، نظير كلام الإمام عليه‌السلام ومعناه.

فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع ـ مع توقّفه على ملاحظة انضمام مذهب الإمام عليه‌السلام الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه ، وتسمية المجموع دليلا ـ : هو التحفّظ على ما جرت عليه (٧) سيرة أهل الفنّ ، من

__________________

(١) الذكرى ١ : ٤٩ ، والقواعد والفوائد ١ : ٢١٧ ، وتمهيد القواعد : ٢٥١.

(٢) منهم : صاحب المعالم في المعالم : ١٧٣ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٥١.

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١ و ٦٣٧.

(٤) هو المحقّق التستري في كشف القناع : ١٦٤.

(٥) في (م) : «قولهم».

(٦) راجع الصفحة السابقة.

(٧) لم ترد «عليه» في غير (ت) و (ه).


إرجاع كلّ دليل إلى أحد الأدلّة المعروفة بين الفريقين ، أعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة.

مسامحة اخرى في إطلاق الإجماع

وحاصل المسامحتين : إطلاق الإجماع على اتّفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطأهم وعدم وصولهم إلى حكم الإمام عليه‌السلام.

والاطّلاع على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصّة وأكثر العامّة على حجّية الإجماع ، يوجب القطع بخروج هذا الإطلاق عن المصطلح وبنائه على المسامحة ؛ لتنزيل وجود من خرج عن هذا الاتّفاق منزلة عدمه ، كما قد عرفت من السيّد والفاضلين قدّست أسرارهم (١) : من أنّ كلّ جماعة ـ قلّت أو كثرت ـ علم دخول قول الإمام عليه‌السلام فيهم ، فإجماعها حجّة.

ويكفيك في هذا : ما سيجيء (٢) من المحقّق الثاني في تعليق الشرائع : من دعوى الإجماع على أنّ خروج الواحد من علماء العصر قادح في انعقاد الإجماع. مضافا إلى ما عرفت (٣) : من إطباق الفريقين على تعريف الإجماع باتّفاق الكلّ.

لا ضير في المسامحتين

ثمّ إنّ المسامحة من الجهة الاولى أو الثانية في إطلاق لفظ «الإجماع» على هذا من دون قرينة لا ضير فيها ؛ لأنّ العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدلّ (٤).

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) انظر الصفحة ١٩٦.

(٣) راجع الصفحة ١٨٤.

(٤) لم ترد «للمستدلّ» في (ه).


نعم ، لو كان نقل الإجماع المصطلح حجّة عند الكلّ (١) كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا ، أمّا لو لم يكن نقل الإجماع حجّة ، أو كان نقل مطلق الدليل القطعيّ حجّة ، لم يلزم تدليس أصلا.

كلام صاحب المعالم رحمه‌الله والمناقشة فيه

ويظهر من ذلك : ما في كلام صاحب المعالم رحمه‌الله ، حيث إنّه بعد ما (٢) ذكر أنّ حجّية الإجماع إنّما هي لاشتماله على قول المعصوم ، واستنهض بكلام المحقّق الذي تقدّم (٣) ، واستجوده ، قال :

والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهيّة ، حتّى جعلوه عبارة عن اتّفاق جماعة من الأصحاب ، فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جليّة ، ولا دليل لهم على الحجّية يعتدّ به (٤) ، انتهى.

وقد عرفت (٥) : أنّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ؛ بعد ما كان مناط حجّية الإجماع الاصطلاحيّ موجودا في اتّفاق جماعة من الأصحاب. وعدم تعبيرهم عن هذا الاتّفاق بغير لفظ «الإجماع» ؛ لما عرفت (٦) من التحفّظ على عناوين الأدلّة المعروفة بين الفريقين.

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «أو الأكثر».

(٢) لم ترد «ما» في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في (ظ) : «أن».

(٣) أي كلام المحقّق في المعتبر المتقدّم في الصفحة ١٨٦.

(٤) المعالم : ١٧٤.

(٥) راجع الصفحة السابقة.

(٦) راجع الصفحة ١٨٨.


إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

أنحاء حكاية الإجماع

إنّ الحاكي للاتّفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق ، أو مضافا إلى المسلمين ، أو الشيعة ، أو أهل الحقّ ، أو غير ذلك ممّا يمكن أن يراد به دخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين.

وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه‌السلام ، كقوله : أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو فقهاؤنا أو فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ؛ فإنّ ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه‌السلام ، وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغويّ ، لكنّه مرجوح.

فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام عليه‌السلام فلا إشكال في عدم حجّية نقله ؛ لأنّه لم ينقل حجّة ، وإن فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام من جهة هذا الاتّفاق ، إلاّ أنّه إنّما نقل سبب العلم ، ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام عليه‌السلام حتّى يدخل في نقل الحجّة وحكاية السنّة بخبر الواحد.

نعم ، لو فرض أنّ السبب المنقول ممّا يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام أو وجود دليل ظنّيّ معتبر حتّى بالنسبة إلينا ، أمكن إثبات ذلك السبب المحسوس بخبر العادل ، والانتقال منه إلى لازمه ، لكن سيجيء بيان الإشكال في تحقّق ذلك (١).

وفي حكم الإجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه‌السلام : الإجماع المطلق المذكور في مقابل الخلاف ، كما يقال : خرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجس إجماعا ، وإنّما اختلفوا في خرء الطير ، أو يقال : إنّ محلّ

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٠٢ و ٢١٧.


الخلاف هو كذا ، وأمّا كذا فحكمه كذا إجماعا ؛ فإنّ معناه في مثل هذا كونه قولا واحدا.

وأضعف ممّا ذكر : نقل عدم الخلاف ، وأنّه ظاهر الأصحاب ، أو قضيّة المذهب ، وشبه ذلك.

مستند العلم بقول الإمام عليه‌السلام أحد امور

وإن أطلق الإجماع أو أضافه على وجه يظهر منه إرادة المعنى المصطلح المتقدّم (١) ـ ولو مسامحة ؛ لتنزيل وجود المخالف منزلة العدم ؛ لعدم قدحه في الحجّية ـ فظاهر الحكاية كونها حكاية للسنّة ، أعني حكم الإمام عليه‌السلام ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ الإجماع الاصطلاحيّ متضمّن لقول الإمام عليه‌السلام فيدخل في الخبر والحديث ، إلاّ أنّ مستند علم الحاكي بقول الإمام عليه‌السلام أحد امور :

١ ـ الحسّ

أحدها : الحسّ ، كما إذا سمع الحكم من الإمام عليه‌السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم فيحصل له العلم بقول الإمام عليه‌السلام.

وهذا في غاية القلّة ، بل نعلم جزما أنّه لم يتّفق لأحد من هؤلاء الحاكين للإجماع ، كالشيخين والسيّدين وغيرهما ؛ ولذا صرّح الشيخ في العدّة ـ في مقام الردّ على السيّد حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف ـ : بأنّه لو لا قاعدة اللطف لم يمكن التوصّل إلى معرفة موافقة الإمام للمجمعين (٣).

٢ ـ قاعدة اللطف

الثاني : قاعدة اللطف ، على ما ذكره الشيخ في العدّة (٤) وحكي

__________________

(١) في الصفحة ١٨٤.

(٢) راجع الصفحة ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١.

(٤) العدّة ٢ : ٦٣١ و ٦٣٧.


القول به عن غيره من المتقدّمين (١).

عدم صحّة الاستناد إلى اللطف

ولا يخفى أنّ الاستناد إليه غير صحيح على ما ذكر في محلّه (٢) ، فإذا علم استناد الحاكي إليه فلا وجه للاعتماد على حكايته ، والمفروض أنّ إجماعات الشيخ كلّها مستندة إلى هذه القاعدة ؛ لما عرفت من كلامه المتقدّم من العدّة ، وستعرف منها ومن غيرها من كتبه (٣).

عدم صحّة دعوى مشاركة الشيخ للسيّد في طريقة استكشاف قول الإمام عليه السلام

فدعوى مشاركته للسيّد قدس‌سره في استكشاف قول الإمام عليه‌السلام من تتبّع أقوال الامّة واختصاصه بطريق آخر مبنيّ على قاعدة «وجوب (٤) اللطف» ، غير ثابتة وإن ادّعاها بعض (٥) ؛ فإنّه قدس‌سره قال في العدّة ـ في حكم ما إذا اختلفت الإماميّة على قولين يكون أحد القولين قول الإمام عليه‌السلام على وجه لا يعرف بنفسه ، والباقون كلّهم على خلافه ـ :

كلام الشيخ في العدّة ردّا على طريقة السيّد المرتضي

إنّه متى اتّفق ذلك ، فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه‌السلام دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك ؛ لأنّ الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن عليه دليل وجب عليه الظهور ، أو إظهار من يبيّن الحقّ في تلك المسألة ـ إلى أن قال ـ :

__________________

(١) حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول عن جماعة ، منهم الحلبي في ظاهر الكافي ، انظر مفاتيح الاصول : ٤٩٦ ، والكافي : ٥٠٧ ـ ٥١٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ٣٥٣ ، والفصول : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٣) انظر الصفحة الآتية.

(٤) كذا في (ص) ، (ظ) و (م) ، وفي غيرها : «وجوب قاعدة».

(٥) هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٥٠.


وذكر المرتضى عليّ بن الحسين الموسويّ أخيرا : أنّه يجوز أن يكون الحقّ عند الإمام عليه‌السلام والأقوال الأخر كلّها باطلة ، ولا يجب عليه الظهور ؛ لأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما (١) معه من الأحكام يكون (٢) قد فاتنا من قبل أنفسنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الذي كان عنده.

قال : وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن لا يصحّ الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا ؛ لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه‌السلام فيها إلاّ بالاعتبار الذي بيّنّاه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لا يجب ظهوره ، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع (٣) ، انتهى كلامه.

وذكر في موضع آخر من العدّة : أنّ هذه الطريقة ـ يعني طريقة السيّد المتقدّمة ـ غير مرضيّة عندي ؛ لأنّها تؤدّي إلى أن لا يستدلّ بإجماع الطائفة أصلا ؛ لجواز أن يكون قول الإمام عليه‌السلام مخالفا لها ومع ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده (٤) ، انتهى.

وأصرح من ذلك في انحصار طريق الإجماع عند الشيخ فيما ذكره من قاعدة اللطف : ما حكي عن بعض (٥) أنّه حكاه عن كتاب التمهيد للشيخ :

__________________

(١) في غير (ل) و (م) زيادة : «يكون».

(٢) لم ترد «يكون» في (ر) ، (ص) و (ه).

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١.

(٤) العدّة ٢ : ٦٣٧.

(٥) حكاه المحقّق التستري عن الشيخ الحمصي في التعليق العراقي ، راجع كشف القناع : ١١٨.


أنّ سيّدنا المرتضى قدس‌سره كان يذكر كثيرا : أنّه لا يمتنع أن يكون هنا امور كثيرة غير واصلة إلينا علمها مودع عند الإمام عليه‌السلام وإن كتمها الناقلون ، ولا يلزم مع ذلك سقوط التكليف عن الخلق ... إلى أن قال :

وقد اعترضنا على هذا في كتاب العدّة في اصول الفقه ، وقلنا : هذا الجواب صحيح لو لا ما نستدلّ في أكثر الأحكام على صحّته بإجماع الفرقة ، فمتى جوّزنا أن يكون قول الإمام عليه‌السلام خلافا لقولهم ولا يجب ظهوره ، جاز لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن يكون قول الإمام عليه‌السلام خارجا عن قول من تظاهر بالإمامة ومع هذا لا يجب عليه الظهور ؛ لأنّهم أتوا من قبل أنفسهم ، فلا يمكننا الاحتجاج بإجماعهم أصلا (١) ، انتهى.

فإنّ صريح هذا الكلام أنّ القادح في طريقة السيّد منحصر في استلزامها رفع التمسّك بالإجماع ، ولا قادح فيها سوى ذلك ؛ ولذا صرّح في كتاب الغيبة بأنّها قويّة تقتضيها الاصول (٢) ، فلو كان لمعرفة الإجماع وجواز الاستدلال به طريق آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحقّ عليه ، لم يبق ما يقدح في طريقة السيّد ؛ لاعتراف الشيخ بصحّتها لو لا كونها مانعة عن الاستدلال بالإجماع.

__________________

(١) تمهيد الاصول (مخطوط) ، لا يوجد لدينا ، وهو شرح على «جمل العلم والعمل» للسيّد المرتضى ، يوجد منه نسخة في الخزانة الرضويّة ، كما في الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٤ : ٤٣٣ ، وانظر العدّة ٢ : ٦٣١.

(٢) كتاب الغيبة : ٩٧.


ظهور الاستناد إلى قاعدة اللطف من كلام جماعة

ثمّ إنّ الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقّق الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني.

كلام فخر الدين في الإبضاح

قال في الإيضاح في مسألة ما يدخل في المبيع : إنّ من عادة المجتهد أنّه إذا تغيّر اجتهاده إلى التردّد أو الحكم بخلاف ما اختاره أوّلا ، لم يبطل ذكر الحكم الأوّل ، بل يذكر ما أدّاه إليه اجتهاده ثانيا في موضع آخر ؛ لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه ، وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كلّ واحد منهما ، وأنّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للأوّل ، بل معارض لدليله مساو له (١) ، انتهى.

وقد أكثر في الإيضاح من عدم الاعتبار بالخلاف ؛ لانقراض عصر المخالف (٢) ، وظاهره الانطباق على هذه الطريقة ، كما لا يخفى.

وقال في الذكرى : ظاهر العلماء المنع عن العمل بقول الميّت ؛ محتجّين بأنّه لا قول للميّت ؛ ولهذا ينعقد الإجماع على خلافه ميّتا (٣).

واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع على أنّه لا قول للميّت : بالإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع ؛ اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قوله غير منظور إليه ، ولا يعتدّ به (٤) ، انتهى.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٥٠٢.

(٢) انظر ايضاح الفوائد ٣ : ٣١٨.

(٣) الذكرى ١ : ٤٤.

(٤) حاشية الشرائع (مخطوط) : ٩٩.


كلام المحقّق الداماد قدس سره

وحكي عن بعض : أنّه حكى عن المحقّق الداماد ، أنّه قدس‌سره قال في بعض كلام له في تفسير «النعمة الباطنة» (١) : إنّ من فوائد الإمام عجّل الله فرجه أن يكون مستندا لحجّية إجماع أهل الحلّ والعقد من العلماء على حكم من الأحكام ـ إجماعا بسيطا في أحكامهم الإجماعيّة ، وحجّية إجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافيّة ـ فإنّه عجّل الله فرجه لا ينفرد بقول ، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهيّة أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره ، ويطابق قوله قوله وإن لم يكن ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه (٢) ، انتهى.

وكأنّه لأجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد في الذكرى (٣) إلى توجيه الإجماعات التي ادّعاها جماعة في المسائل الخلافيّة مع وجود المخالف فيها : بإرادة غير المعنى الاصطلاحيّ من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم (٤) ، ولو جامع الإجماع وجود الخلاف ـ ولو من معلوم النسب ـ لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة ، مع بعدها أو أكثرها.

٣ ـ الحدس

الثالث من طرق انكشاف قول الإمام عليه‌السلام لمدّعي الإجماع : الحدس ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطّأناه في

__________________

(١) الواردة في قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) لقمان : ٢٠.

(٢) الحاكي عن البعض هو المحقّق التستري في كشف القناع : ١٤٥.

(٣) الذكرى ١ : ٥١.

(٤) المعالم : ١٧٤.


استكشافه ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل (١) الحدس الضروريّ من مبادئ محسوسة بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحسّ ، فيكون بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار لحصل (٢) لنا العلم كما حصل له.

ثانيهما : أن يحصل الحدس له من إخبار جماعة اتّفق له العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادة للمطابقة لقول الإمام عليه‌السلام بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة أيضا.

الثاني : أن يحصل ذلك من مقدّمات نظريّة واجتهادات كثيرة الخطأ ، بل علمنا بخطإ بعضها في موارد كثيرة من نقلة الإجماع ؛ علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد ، واستظهرنا ذلك منهم في موارد أخر ، وسيجيء جملة منها (٣).

لا يصلح للاستناد إلاّ الحدس

إذا عرفت أنّ مستند خبر المخبر بالإجماع المتضمّن للإخبار من الإمام عليه‌السلام لا يخلو من الامور الثلاثة المتقدّمة ، وهي : السماع عن الإمام عليه‌السلام مع عدم معرفته بعينه ، واستكشاف قوله من قاعدة «اللطف» ، وحصول العلم من «الحدس» ، وظهر لك أنّ الأوّل هنا غير متحقّق عادة لأحد من علمائنا المدّعين للإجماع ، وأنّ الثاني ليس طريقا للعلم ، فلا يسمع دعوى من استند إليه ؛ فلم يبق ممّا يصلح أن يكون المستند

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «له».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «يحصل».

(٣) انظر الصفحة ٢٠٤ ـ ٢٠٨.


في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها : إلاّ «الحدس» (١).

وعرفت أنّ الحدس قد يستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة عادة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام ، نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ، ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة ، أو إلى مبادئ محسوسة موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الإمام عليه‌السلام من دون ملازمة عاديّة ، وقد يستند إلى اجتهادات وأنظار.

وحيث لا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس ، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني ، ولم يكن هناك ما يعلم به كون الإخبار مستندا إلى القسم الأوّل من الحدس ؛ وجب التوقّف في العمل بنقل الإجماع ، كسائر الأخبار المعلوم استنادها إلى الحدس المردّد بين الوجوه المذكورة.

فإن قلت : ظاهر لفظ «الإجماع» اتّفاق الكلّ ، فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتّفاق الكلّ ، ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتّفاق الكلّ كالضروريّ ؛ فحدس المخبر مستند إلى مباد محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه‌السلام عادة ؛ فإمّا أن يجعل الحجّة نفس ما استفاده من الاتّفاق نظير الإخبار بالعدالة ، وإمّا أن يجعل الحجّة إخباره بنفس الاتّفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، ويكون نفس المخبر به حينئذ محسوسا ، نظير إخبار الشخص بامور تستلزم العدالة

__________________

(١) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «فلا يسمع دعوى من استند إليه ، تعيّن كون المستند في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها هو الحدس».


أو (١) الشجاعة عادة.

وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلّة (٢) في شرحه على الوافية ؛ فإنّه قدس‌سره لمّا اعترض على نفسه : بأنّ المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواسّ ، والمخبر بالإجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ، ومجرّد الشكّ في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه ، أجاب عن ذلك :

بأنّ المخبر هنا ـ أيضا ـ يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللطف وغيره.

ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الإجماع على مقالة المعصوم عليه‌السلام ، فالإخبار إنّما هو بها ، ولا يرجع إلى سمع.

فأجاب عن ذلك :

أوّلا : بأنّ مدار الحجّية وإن كان ذلك ، لكن استلزام اتّفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه‌السلام معلوم لكلّ أحد لا يحتاج فيه إلى النقل ، وإنّما الغرض من النقل ثبوت الاتّفاق ، فبعد اعتبار خبر الناقل ـ لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتّفاق إلى الحسّ ـ كان الاتّفاق معلوما ، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم ؛ للملازمة المعلومة.

وثانيا : أنّ الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم عليه‌السلام لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ؛ باعتبار أنّ الاتّفاق من آثارها ، ولا كلام في اعتبار مثل ذلك ، كما في الإخبار بالإيمان والفسق

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «أو» : «و».

(٢) هو السيّد المحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي.


والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات ، وإنّما لا يرجع إلى الأخبار في العقليّات المحضة ، فإنّه لا يعوّل عليها وإن جاء بها ألف من الثقات حتّى يدرك مثل ما أدركوا.

ثمّ اورد على ذلك : بأنّه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد ؛ لأنّه وإن لم يرجع إلى الحسّ في نفس الأحكام إلاّ أنّه رجع في لوازمها وآثارها إليه ، وهي أدلّتها السمعيّة ، فيكون رواية ، فلم لا يقبل إذا جاء به الثقة.

وأجاب : بأنّه إنّما يكفي الرجوع إلى الحسّ في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة ، وبالجملة إذا أفادت اليقين ، كما في آثار الملكات وآثار مقالة الرئيس وهي مقالة رعيّته ، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم.

ثمّ قال : على أنّ التحقيق في الجواب عن السؤال الأوّل هو الوجه الأوّل ، وعليه فلا أثر لهذا السؤال (١) ، انتهى.

قلت : إنّ الظاهر من الإجماع اتّفاق أهل عصر واحد ، لا جميع الأعصار كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم ، ومن المعلوم أنّ إجماع أهل عصر واحد ـ مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة ومخالفتهم ـ لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروريّ بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام ؛ ولذا قد يتخلّف ؛ لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو أكثرهم. نعم يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه في المقام ، كما قرّر في محلّه (٢).

__________________

(١) الوافي في شرح الوافية (مخطوط) : الورقة ١٥٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ٣٥٣ ، والفصول : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.


مع أنّ علماء العصر إذا كثروا ـ كما في الأعصار السابقة ـ يتعذّر أو يتعسّر الاطّلاع عليهم حسّا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ، إلاّ إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة برأيهم في المسألة فيدّعى الإجماع ، إلاّ أنّ مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة لموافقة المعصوم عليه‌السلام.

فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه‌السلام مستحيل التحقّق للناقل ، والممكن المتحقّق له غير مستلزم عادة.

محامل دعوى إجماع الكلّ

وكيف كان : فإذا ادّعى الناقل الإجماع خصوصا إذا كان ظاهره اتّفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلاّ من شذّ ـ كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين والشهيدين ـ انحصر محمله في وجوه :

١- أن يراد اتّفاق المعروفين

أحدها : أن يراد به اتّفاق المعروفين بالفتوى ، دون كل قابل للفتوى من أهل عصره أو مطلقا.

٢- أن يستفاد إجماع الكلّ من اتّفاق المعروفين

الثاني : أن يريد إجماع الكلّ ، ويستفيد ذلك من اتّفاق المعروفين من أهل عصره.

وهذه الاستفادة ليست ضروريّة وإن كانت قد تحصل ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصره ـ فضلا عن المعروفين منهم ـ لا يستلزم عادة اتّفاق غيرهم ومن قبلهم ، خصوصا بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد لا يسع هذه الرسالة لذكر معشارها. ولو فرض حصوله للمخبر كان من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة. نعم هي (١) أمارة ظنّية على ذلك ؛ لأنّ الغالب في الاتّفاقيّات عند أهل عصر كونه من الاتّفاقيّات

__________________

(١) في (ه) : «هو».


عند من تقدّمهم. وقد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر ، لكنّ الكلام في كون الاتّفاق مستندا إلى الحسّ أو إلى حدس لازم عادة للحسّ.

والحق بذلك : ما إذا علم اتّفاق الكلّ من اتّفاق جماعة لحسن ظنّه بهم ، كما ذكره (١) في أوائل المعتبر ، حيث قال : «ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الإجماع ؛ لوجوده في كتب الثلاثة قدّست أسرارهم ، وهو جهل إن لم يكن تجاهلا» (٢).

فإنّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا مع أنّا نعلم أنّه لا يدّعي الإجماع إلاّ عن علم ، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظنّ بهم وأنّ جزمه في غير محلّه (٣) ، فافهم.

٣ -أن يستفاد إجماع الكلُ من اتّفاقهم على أمرٍ من الاُمور

الثالث : أن يستفيد اتّفاق الكلّ على الفتوى من اتّفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل ، أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ، أو اتّفاقهم على مسألة اصوليّة ـ نقليّة أو عقليّة ـ يستلزم القول بها الحكم (٤) في المسألة المفروضة ، وغير ذلك من الامور المتّفق عليها التي يلزم باعتقاد المدّعي من القول بها ـ مع فرض عدم المعارض ـ القول بالحكم المعيّن في المسألة.

ومن المعلوم : أنّ نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك

__________________

(١) في (ه) : كما ذكر.

(٢) المعتبر ١ : ٦٢.

(٣) لم ترد عبارة «وأنّ جزمه في غير محلّه» في (م).

(٤) في (ظ) و (م) : «لحكم».


لم تنشأ (١) إلاّ من مقدّمتين أثبتهما المدّعي باجتهاده :

إحداهما : كون ذلك الأمر المتّفق عليه مقتضيا ودليلا للحكم لو لا المانع.

والثانية : انتفاء المانع والمعارض. ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر (٢) ، ورجوع المدّعي عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها ، ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعي ، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي بل في زمانه بل في ما قبله ، كلّ ذلك مبنيّ على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه.

ذكر موارد تدلّ على الوجه الأخير

ولا بأس بذكر بعض موارد (٣) صرّح المدّعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك.

فمن ذلك : ما وجّه المحقّق به دعوى المرتضى (٤) والمفيد (٥) ـ أنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات ـ قال :

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «لا تنشأ».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «العصرين».

(٣) في (ت) ، (ر) و (ه) : «الموارد».

(٤) الخلاف أو مسائل الخلاف من مصنّفات السيّد المرتضى ، وهي مفقودة.

(٥) مسائل الخلاف من مصنّفات الشيخ المفيد ، وهي مفقودة أيضا.


كلام المحقّق في المسائل المصرية

وأمّا قول السائل : كيف أضاف المفيد والسيّد ذلك إلى مذهبنا ولا نصّ فيه؟ فالجواب : أمّا علم الهدى ، فإنّه ذكر في الخلاف : أنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ؛ لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات ، ثمّ قال :

وأمّا المفيد ، فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف : أنّ ذلك مرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام (١) ، انتهى.

فظهر من ذلك : أنّ نسبة السيّد قدس‌سره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل.

ومن ذلك : ما عن الشيخ في الخلاف ، حيث إنّه ذكر فيما إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل ، بعد القتل : بأنّه (٢) يسقط القود وتكون الدية من بيت المال. قال :

كلام الشيخ الطوسي في الخلاف

دليلنا إجماع الفرقة ؛ فإنّهم رووا : أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين (٣) ، انتهى.

فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.

وقال بعد ذلك ، فيما إذا تعدّدت الشهود في من أعتقه المريض وعيّن كلّ غير ما عيّنه الآخر ولم يف الثّلث بالجميع : إنّه يخرج السابق (٤) بالقرعة ، قال :

__________________

(١) المسائل المصرية (الرسائل التسع) : ٢١٥ و ٢١٦ ، وأمّا مسائل الخلاف فهي من مصنّفات الشيخ المفيد المفقودة.

(٢) الأنسب : «أنّه» ، كما في نسخة (د).

(٣) الخلاف ٦ : ٢٩٠ ، المسألة ٣٦.

(٤) لم ترد «السابق» في (ه) ، وكتب عليه في (ص) : «زائد».


دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّ كلّ أمر مجهول فيه القرعة (١) ، انتهى.

كلام المفيد في الفصول المختارة

ومن الثاني (٢) : ما عن المفيد في فصوله ، حيث إنّه سئل عن الدليل على أنّ المطلّقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال :

الدلالة على ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجماع المسلمين ، ثمّ استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(٣) ، ثمّ بيّن وجه الدلالة ، ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ» (٤) ، وقال : «ما وافق الكتاب فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه» (٥) ، وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون مرّتين أبدا وأنّ الواحدة لا تكون ثلاثا ، فأوجب السنّة إبطال طلاق الثلاث.

وأمّا إجماع الامّة ، فهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق بالكتاب والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله (٦) ، انتهى.

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢٩٠ ، المسألة ٣٧.

(٢) في (ص) : «ومن الأوّل» ، وفي غيرها ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.

(٣) البقرة : ٢٢٩.

(٤) لم نقف عليه بلفظه ، وورد ما يقرب منه في كنز العمّال ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، الحديث ١١٠١ و ١١٠٩.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٥٦ ، الباب ٢٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤ ، مع تفاوت يسير.

(٦) الفصول المختارة (مصنّفات الشيخ المفيد) ٢ : ١٧٥ ـ ١٧٧.


وحكي عن الحلّي في السرائر الاستدلال بمثل هذا (١).

ومن ذلك : الإجماع الذي ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت ـ في رسالته المسمّاة بخلاصة الاستدلال ـ حيث قال :

كلام الحلّى في خلاصة الاستدلال

أطبقت عليه الإماميّة خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت على العمل به ، ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيين ؛ فإنّ ابني بابويه ، والأشعريين كسعد بن عبد الله ـ صاحب كتاب الرحمة ـ وسعد ابن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ـ صاحب كتاب نوادر الحكمة (٢) ـ ، والقميّين أجمع كعليّ بن إبراهيم بن هاشم ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بأخبار المضايقة ؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، وحفظتهم (٣) الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخرّيت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع أخبار المضايقة في كتبه ، مفت بها ، والمخالف إذا علم باسمه ونسبه لم يضرّ خلافه (٤) ، انتهى.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٦٨٢ ـ ٦٨٤.

(٢) كذا في النسخ ، ويبدو أنّ الصحيح «نوادر المصنّف» كما في غاية المراد ١ : ١٠٢ ، والسرائر ٣ : ٦٠١ ، أو «نوادر المصنّفين» كما في الوسائل ٢٠ : ٤٧ ، وأمّا كتاب نوادر الحكمة فإنّه من تأليفات محمّد بن أحمد بن يحيى ، كما ستأتي الإشارة إليه في الصفحة ٣٢٤ ، وانظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢٤ : ٣٤٦ و ٣٤٩.

(٣) رجل حفظة كهمزة ، أي كثير الحفظ ، تاج العروس ٥ : ٢٥١.

(٤) رسالة خلاصة الاستدلال من مؤلّفات الحلّي قدس‌سره ، وهي مفقودة ، وحكاه عنه الشهيد قدس‌سره في غاية المراد ١ : ١٠٢.


المناقشة في كلام الحلي قدس‌سره

ولا يخفى : أنّ إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيّ على الحدس والاجتهاد من وجوه :

أحدها : دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به. وهذا وإن كان غالبيّا إلاّ أنّه لا يوجب القطع ؛ لمشاهدة التخلّف كثيرا.

الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند اولئك على الوجوب ؛ إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكّد الاستحباب.

الثالث : كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند اولئك ؛ لأنّ وثوق الحلّي بالرواة لا يدلّ على وثوق اولئك.

مع أنّ الحلّي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقات ، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر واحد ، لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع ، خصوصا لمن يخطّئ العمل بأخبار الآحاد.

وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : إنّ مثل هذا الإجماع إخبار عن قول الإمام عليه‌السلام ، فيدخل في الخبر الواحد؟ مع أنّه في الحقيقة اعتماد على اجتهادات الحلّي مع وضوح فساد بعضها ؛ فإنّ كثيرا ممّن ذكر أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا (١) ، وأنّ المفتي إذا علم استناده إلى مدرك لا يصلح للركون (٢) إليه ـ من جهة الدلالة أو المعارضة ـ لا يؤثّر فتواه في الكشف عن قول الإمام عليه‌السلام.

وأوضح حالا في عدم جواز الاعتماد : ما ادّعاه الحلّي من الإجماع

__________________

(١) كالشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ٣٥٨ ، و ٤٣٤ ، الحديث ١٠٣١ و ١٢٦٤ ، والشيخ الطوسي في التهذيب ٢ : ١٧١ و ٢٧٣ ، الحديث ٦٨٠ و ١٠٨٦.

(٢) في (ظ) و (ه) : «الركون».


على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزة على الزوج (١) ، وردّه المحقّق بأنّ أحدا من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك (٢).

فإنّ الظاهر أنّ الحلّي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة بإطلاقها على وجوب فطرة (٣) الزوجة على الزوج (٤) ؛ متخيّلا أنّ الحكم معلّق على الزوجة من حيث هي زوجة ، ولم يتفطّن لكون الحكم من حيث العيلولة ، أو وجوب الانفاق.

فكيف يجوز الاعتماد في مثله على الإخبار بالاتّفاق الكاشف عن قول الإمام عليه‌السلام ، ويقال : إنّها سنّة محكيّة؟

وما أبعد ما بين ما استند إليه الحلّي في هذا المقام وبين ما ذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة ، حيث قال :

كلام المحقّق في المسائل العزية

إنّ الاتّفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام ، لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد ؛ لأنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد ؛ لأنّ الإجماع مأخوذ من قولهم : «أجمع على كذا» إذا عزم عليه ، فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلاّ من علم منه القصد إليه. كما أنّا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا قائلين به (٥) ، انتهى كلامه.

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٦٦.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٠١ ـ ٦٠٢.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «نفقة».

(٤) انظر الوسائل ٦ : ٢٢٨ ، الباب ٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٣ و ٤.

(٥) المسائل العزيّة (الرسائل التسع) : ١٤٤ ـ ١٤٥.


كلام الشهيد في الذكري

وهو في غاية المتانة. لكنّك عرفت (١) ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ «الإجماع» ، وقد حكى في المعالم عن الشهيد : أنّه أوّل كثيرا من الاجماعات ـ لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ـ بإرادة الشهرة ، أو بعدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع ، أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الإجماع ، أو بإرادة الإجماع على الرواية وتدوينها في كتب الحديث (٢) ، انتهى.

كلام المحدّث المجلسي في البحار

وعن المحدّث المجلسيّ قدس‌سره في كتاب الصلاة من البحار بعد ذكر معنى الإجماع ووجه حجّيّته عند الأصحاب :

إنّهم لمّا رجعوا إلى الفقه كأنّهم نسوا ما ذكروه في الاصول ـ ثمّ أخذ في الطعن على إجماعاتهم إلى أن قال : ـ فيغلب على الظنّ أنّ مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الاصول (٣) ، انتهى.

المناقشة في ما أفادة الشهيد والمجلسي

والتحقيق : أنّه لا حاجة إلى ارتكاب التأويل في لفظ «الإجماع» بما ذكره الشهيد ، ولا إلى ما ذكره المحدّث المذكور (٤) قدس‌سرهما ، من تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ، بل الحقّ : أنّ دعواهم للاجماع في الفروع مبنيّ على استكشاف الآراء ورأي الإمام عليه‌السلام إمّا من حسن الظنّ بجماعة من السلف ، أو من امور تستلزم ـ باجتهادهم ـ إفتاء العلماء بذلك وصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام أيضا.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) انظر المعالم : ١٧٤ ، والذكرى ١ : ٥١.

(٣) البحار ٨٩ : ٢٢٢.

(٤) لم ترد في (م) : «المذكور».


وليس في هذا مخالفة لظاهر لفظ «الإجماع» حتّى يحتاج إلى القرينة ، ولا تدليس ؛ لأنّ دعوى الإجماع ليست (١) لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلا يستريح إليه في المسألة.

نعم ، قد يوجب التدليس من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء ، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم ، لكنّه يندفع بأدنى تتبّع في الفقه ، ليظهر أنّ مبنى ذلك على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثورا.

والحاصل : أنّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة يحصل له القطع من تراكم أمارات كثيرة ، باستناد دعوى الناقلين للاجماع ـ خصوصا إذا أرادوا به اتّفاق علماء جميع الأعصار كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين ـ إلى الحدس الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه (٢) ، مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده.

وعلى هذا ينزّل الإجماعات المتخالفة من العلماء مع اتّحاد العصر أو تقارب العصرين ، وعدم المبالاة كثيرا بإجماع الغير والخروج عنه للدليل ، وكذا دعوى الإجماع مع وجود المخالف ؛ فإنّ ما ذكرنا في مبنى الإجماع من أصحّ المحامل لهذه الامور المنافية لبناء دعوى الإجماع على تتبّع الفتاوى في خصوص المسألة.

وذكر المحقّق السبزواري في الذخيرة ، بعد بيان تعسّر العلم بالاجماع :

__________________

(١) في غير (ت) : «ليس».

(٢) في (ه) : «اللازم».


كلام المحقّق السبزواري في الذخيرة

أنّ مرادهم بالإجماعات المنقولة في كثير من المسائل بل في أكثرها ، لا يكون محمولا على معناه الظاهر ، بل إمّا يرجع إلى اجتهاد من الناقل مؤدّ ـ بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها ـ إلى أنّ المعصوم عليه‌السلام موافق في هذا الحكم ، أو مرادهم الشهرة ، أو اتّفاق أصحاب الكتب المشهورة ، أو غير ذلك من المعاني المحتملة.

ثمّ قال بعد كلام له : والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين ، أنّهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فإذا رأوا اتّفاقهم على حكم قالوا : إنّه إجماعيّ ، ثمّ إذا اطّلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلّفه الحكم المذكور ، رجعوا عن الدعوى المذكورة ، ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها (١) ، انتهى.

حاصل الكلام في المسألة

وحاصل الكلام من أوّل ما ذكرنا إلى هنا : أنّ الناقل للإجماع إن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى من ادّعى اتّفاقهم حتّى الإمام الذي هو داخل في المجمعين ، فلا إشكال في حجّيّته وفي إلحاقه بالخبر الواحد ؛ إذ لا يشترط في حجّيّته معرفة الإمام عليه‌السلام تفصيلا حين السماع منه.

لكن هذا الفرض ممّا يعلم بعدم وقوعه ، وأنّ المدّعي للإجماع لا يدّعيه على هذا الوجه.

وبعد هذا ، فإن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى جميع المجمعين ، والمفروض أنّ الظاهر من كلامه هو (٢) اتّفاق الكلّ المستلزم عادة لموافقة

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) لم ترد : «هو» في (ظ) ، (ل) و (م).


قول الإمام عليه‌السلام ، فالظاهر حجّيّة خبره للمنقول إليه ، سواء جعلنا المناط في حجّيته تعلّق خبره بنفس الكاشف ، الذي هو من الامور المحسوسة المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو قول الإمام عليه‌السلام ، أو جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف وهو قول الإمام عليه‌السلام ؛ لما عرفت (١) : من أنّ الخبر الحدسيّ المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول. وقد تقدّم الوجهان في كلام السيّد الكاظمي في شرح الوافية (٢).

لكنّك قد عرفت سابقا (٣) : القطع بانتفاء هذا الاحتمال ، خصوصا إذا أراد الناقل اتّفاق علماء جميع الأعصار.

نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ، أمكن دعوى اتّفاقهم عن حسّ ، لكن هذا غير مستلزم عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام. نعم ، يكشف عن موافقته بناء على طريقة الشيخ المتقدّمة (٤) التي لم تثبت عندنا وعند الأكثر (٥).

ثمّ إذا علم عدم استناد دعوى اتّفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار ـ الذي يكشف عادة عن موافقة الإمام عليه‌السلام ـ إلاّ إلى الحدس الناشئ عن أحد الامور المتقدّمة التي مرجعها إلى حسن الظنّ أو الملازمات

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) راجع الصفحة ٢٠٠.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٢.

(٤) في الصفحة ١٩٢.

(٥) في (ت) ، (ر) و (ص) : «الأكثرين».


الاجتهاديّة ، فلا عبرة بنقله ؛ لأنّ الإخبار بقول الإمام عليه‌السلام حدسيّ غير مستند إلى حسّ ملزوم له عادة ليكون نظير الإخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسيّة ، والإخبار بالاتّفاق أيضا حدسيّ.

فائدة نقل الإجماع

نعم ، يبقى هنا شيء ، وهو : أنّ هذا المقدار من النسبة المحتمل استناد الناقل فيها إلى الحسّ يكون خبره حجّة فيها ؛ لأنّ ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلاّ إذا قام هناك صارف ، والمعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحسّ في نسبة الفتوى إلى جميع من ادّعى إجماعهم ، وأمّا استناد نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبّع ، فأمر محتمل لا يمنعه عادة ولا عقل.

وما تقدّم من المحقّق السبزواري (١) ـ من ابتناء دعوى الإجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف ـ فليس عليه شاهد ، بل الشاهد على خلافه. وعلى تقديره ، فهو ظنّ لا يقدح في العمل بظاهر النسبة ؛ فإنّ نسبة الأمر الحسّيّ إلى شخص ظاهر في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص.

وحينئذ : فنقل الإجماع غالبا ـ إلاّ ما شذّ ـ حجّة بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى.

ولا يقدح في ذلك : أنّا نجد الخلاف في كثير من موارد دعوى الإجماع ؛ إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف ، فتتبّع كتب من عداه ونسب الفتوى إليهم ، بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفا ،

__________________

(١) راجع الصفحة ٢١٢.


فلا حاجة إلى حمل كلامه على من عدا المخالف.

وهذا المضمون المخبر به عن حسّ وإن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّه قد يستلزمه (١) بانضمام أمارات أخر يحصّلها المتتبّع ، أو بانضمام أقوال المتأخّرين دعوى الإجماع.

لو حصل من نقل الإجماع وما انضمّ إليه القطع بالحكم

مثلا : إذا ادّعى الشيخ قدس‌سره الإجماع على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ، فلا أقلّ من احتمال أن يكون دعواه مستندة إلى وجدان الحكم في الكتب المعدّة للفتوى ـ وإن كان بإيراد الروايات التي يفتي المؤلّف بمضمونها ـ فيكون خبره المتضمّن لإفتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجّة في المسألة ، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّا إذا ضممنا إليها فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى ، وضمّ إلى ذلك أمارات أخر ، فربما حصل من المجموع القطع بالحكم ؛ لاستحالة تخلّف هذه جميعها عن قول الإمام عليه‌السلام.

وبعض هذا المجموع ـ وهو اتّفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم ـ وإن لم يثبت لنا بالوجدان ، إلاّ أنّ المخبر قد أخبر به عن حسّ ، فيكون حجّة كالمحسوس لنا.

وكما أنّ مجموع ما يستلزم عادة لصدور (٢) الحكم عن الإمام عليه‌السلام ـ إذا أخبر به العادل عن حسّ ـ قبل منه وعمل بمقتضاه ، فكذا إذا أخبر العادل ببعضه عن حسّ.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «يستلزم».

(٢) في (ت) و (ه) : «صدور».


وتوضيحه بالمثال الخارجيّ أن نقول : إنّ خبر مائة عادل أو ألف مخبر بشيء مع شدّة احتياطهم في مقام الإخبار يستلزم عادة ثبوت المخبر به في الخارج ، فإذا أخبرنا عادل بأنّه قد أخبر ألف عادل بموت زيد وحضور دفنه ، فيكون خبره بإخبار الجماعة بموت زيد حجّة ، فيثبت به لازمه العاديّ وهو موت زيد ، وكذلك إذا أخبر العادل بإخبار بعض هؤلاء ، وحصّلنا إخبار الباقي بالسماع منهم.

نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالا بلفظ «الإجماع» على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان ، ممّا لا يكون بنفسها أو بضميمة أمارات أخر مستلزمة عادة للقطع بقول الإمام عليه‌السلام ـ وإن كانت قد تفيده ـ لم يكن معنى لحجيّة خبر الواحد في نقلها تعبّدا ؛ لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ترتيب لوازمه الثابتة له ولو بضميمة امور أخر ، فلو أخبر العادل بإخبار عشرين بموت زيد ، وفرضنا أنّ إخبارهم قد يوجب العلم وقد لا يوجب ، لم يكن خبره حجّة بالنسبة إلى موت زيد ؛ إذ لا يلزم من إخبار عشرين بموت زيد موته.

وبالجملة : فمعنى حجّيّة خبر العادل وجوب ترتيب ما يدلّ عليه المخبر به ـ مطابقة ، أو تضمّنا ، أو التزاما عقليّا أو عاديّا أو شرعيّا ـ دون ما يقارنه أحيانا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا يختصّ بنقل الإجماع ، بل يجري في لفظ (١) «الاتّفاق» وشبهه ، و (٢) يجري في نقل الشهرة ، ونقل الفتاوى عن

__________________

(١) في (ص) بدل «لفظ» : «نقل».

(٢) في (ر) و (ه) بدل «و» : «بل».


أربابها تفصيلا.

لو حصل من نقل الإجماع القطع بوجود دليل ظنيّ معتبر

ثمّ إنّه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصّله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطع بصدور الحكم الواقعيّ عن الإمام عليه‌السلام ، لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظنّيّ معتبر بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تامّا من جهة الدلالة وفقد المعارض ، كان هذا المقدار ـ أيضا ـ كافيا في إثبات المسألة الفقهيّة ، بل قد يكون نفس الفتاوى ـ التي نقلها الناقل للإجماع إجمالا ـ مستلزما لوجود دليل معتبر ، فيستقلّ الإجماع المنقول بالحجّية بعد إثبات حجيّة خبر العادل في المحسوسات.

إلاّ إذا منعنا ـ كما تقدّم سابقا (١) ـ عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى عادة لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تامّا ، وإن كان قد يحصل العلم بذلك من ذلك ، إلاّ أنّ ذلك شيء قد يتّفق ، ولا يوجب ثبوت الملازمة العاديّة التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه.

ألا ترى : أنّ إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به ، لكن لا ملازمة عاديّة بينهما ، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الإخبار.

وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادة لتحقّق (٢) المخبر به ، لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه ، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم ؛ وإلاّ لم يتخلّف.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩١.

(٢) في (ت) و (ه) : «تحقّق».


ثمّ إنّه قد نبّه على ما ذكرنا ـ من فائدة نقل الإجماع ـ بعض المحقّقين في كلام طويل له ، وما ذكرنا وإن كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكنّ الأولى نقل عبارته بعينها ، فلعلّ الناظر يحصّل منها غير ما حصّلنا ، فإنّا قد مررنا على العبارة مرورا ، ولا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه.

كلام المحقّق التستري في فائدة نقل الإجماع

قال قدس‌سره في كشف القناع وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ، ما هذا لفظه : وليعلم أنّ المحقّق في ذلك ، هو : أنّ الإجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح أو بسائر الألفاظ على كثرتها ، إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه أو ما في حكمه في المجمعين ، فهو إنّما يكون حجّة على غير الناقل باعتبار نقله السبب الكاشف عن قول المعصوم أو عن الدليل القاطع أو مطلق الدليل المعتدّ به وحصول الانكشاف للمنقول إليه والتمسّك به بعد البناء على قبوله ، لا باعتبار ما انكشف منه لناقله بحسب ادّعائه.

فهنا مقامان :

الأوّل : حجيّته بالاعتبار الأوّل ، وهي مبتنية من جهتي الثبوت والإثبات على مقدّمات :

الاولى : دلالة اللفظ على السبب ، وهذه لا بدّ من اعتبارها ، وهي متحقّقة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم ما لم يصرف عنها صارف.

وقد يشتبه الحال إذا كان النقل بلفظ «الإجماع» في مقام الاستدلال.


لكن من المعلوم أنّ مبناه ومبنى غيره ليس على الكشف الذي يدّعيه جهّال الصوفيّة ، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة ، مع أنّه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته واقعا كاف في الحجّيّة ، فإذا انتفى الأمران تعيّن سائر الأسباب المقرّرة ، وأظهرها غالبا عند الإطلاق حصول الاطّلاع ـ بطريق القطع أو الظنّ المعتدّ به ـ على اتّفاق الكلّ في نفس الحكم ؛ ولذا صرّح جماعة منهم باتّحاد معنى الإجماع عند الفريقين ، وجعلوه مقابلا للشهرة ، وربما بالغوا في أمرها بأنّها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك ، وربما قالوا : إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعيّة.

وإذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة والمسألة والنّقلة ، واختلف الحال في ذلك ، فيؤخذ بما هو المتيقّن أو الظاهر.

وكيف كان : فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقّق الاتّفاق المعتبر كان معتبرا ، وإلاّ فلا.

الثانية : حجّيّة نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه ؛ وذلك لأنّه ليس إلاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها لمقلّديهم وغيرهم ، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه من سائر ما تضمّنه الأخبار ، كالأسئلة التي تعرف (١) منها (٢) أجوبته ، والأقوال والأفعال التي يعرف منها تقريره ، ونحوها ممّا تعلّق بها ، وما نقل عن سائر الرواة المذكورين في الأسانيد وغيرها ، وكنقل الشهرة واتّفاق سائر

__________________

(١) في (ظ) والمصدر : «يعرف».

(٢) في (ظ) و (م) : «بها».


اولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى أو جماعة منهم ، وغير ذلك.

وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفرق على قبول أخبار الآحاد في كلّ ذلك ممّا كان النقل فيه على وجه الإجمال أو التفصيل ، وما تعلّق بالشرعيّات أو غيرها ، حتّى أنّهم كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه والاستناد إليه ؛ لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم ، فيلزم قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ؛ لاشتراك الجميع في كونها نقل قول غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل ، كما هو المفروض.

وليس شيء من ذلك من الاصول حتّى يتوهّم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد ، مع أنّ هذا الوهم فاسد من أصله ، كما قرّر في محلّه.

ولا من الامور المتجدّدة التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام والصحابة. ولا ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ، مع أنّ هذا لا يمنع من التعويل على نقل العارف به ؛ لما ذكر.

ويدلّ عليه مع ذلك : ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة العدل بقول مطلق. وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ولا طريق إليه غيره غالبا ؛ إذ من المعلوم شدّة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتّى لا محيص عنها ، كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذّ من الأخبار والأقوال ، والموافق للعامّة أو أكثرهم والمخالف لهم ، والثقة والأوثق والأورع والأفقه ، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة ، وقواعد العربيّة التي عليها يبتني استنباط


المطالب الشرعيّة ، وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.

ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك ـ غالبا ـ سوى النقل الغير الموجب للعلم ، والرجوع إلى الكتب المصحّحة ظاهرا ، وسائر الأمارات الظنّية ، فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر.

فيكون خبر الواحد الثقة حجّة معتمدا عليها فيما نحن فيه ، ولا سيّما إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام والأجلاّء الكرام كما هو الغالب ، بل هو أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ؛ ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ، كما لا يخفى.

الثالثة : حصول استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب.

ووجهه : أنّ السبب المنقول بعد حجّيّته ، كالمحصّل في ما يستكشف منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلّة الظنّية باعتبار ظنّية أصله ؛ ولذا كانت النتيجة في الشكل الأوّل تابعة ـ في الضروريّة والنظريّة والعلميّة والظنيّة وغيرها ـ لأخسّ مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.

فينبغي حينئذ : أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه ، وتورّعه في النقل ، وبضاعته في العلم ، ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال ، واستقصائه لما تشتّت منها ، ووصوله إلى وقائعها ؛ فإنّ أحوال العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا. وكذلك حال الكتب المنقول فيها الإجماع ، فربّ كتاب لغير متتبّع موضوع على مزيد التتبّع والتدقيق ، وربّ كتاب لمتتبّع موضوع على المسامحة وقلّة التحقيق.

ومثله الحال في آحاد المسائل ؛ فإنّها تختلف أيضا في ذلك.


وكذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها ، وحال ما يدلّ عليه من جهة متعلّقه وزمان نقله ؛ لاختلاف الحكم بذلك ، كما هو ظاهر.

ويراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو الاحتجاج ؛ فإنّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان الأوّل الأولى (١) بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى.

وإذا (٢) وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة ما ذكر ، اخذ بما هو المتيقّن أو الظاهر.

ثمّ ليلحظ مع ذلك : ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم واليقين ؛ إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون المعلوم على التفصيل. مع أنّه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟

ويلحظ أيضا : سائر ما له تعلّق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد عليه (٣) من تلك الأسباب ـ كما هو مقتضى الاجتهاد ـ سواء كان من الامور المعلومة أو المظنونة ، ومن الأقوال المتقدّمة على النقل أو المتأخّرة أو المقارنة.

وربما يستغني المتتبّع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع ؛

__________________

(١) كذا في المصدر ، والأنسب : «كان الأوّل أولى».

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «فإذا».

(٣) «عليه» من المصدر.


لاستظهاره عدم مزيّة (١) عليه في التتبّع والنظر ، وربما كان الأمر بالعكس وأنّه إن تفرّد بشيء كان نادرا لا يعتدّ به.

فعليه أن يستفرغ وسعه ويتبع نظره وتتبّعه ، سواء تأخّر عن الناقل أم عاصره ، وسواء أدّى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة ، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة وغيرها ممّا تعلّق بالمسألة ، فليس الإجماع إلاّ كأحدها.

فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنّة وصول الناقل إلى ما لم يصل هو إليه من جهة السبب ، أو احتمال ذلك ، فيعتمد عليه في هذا خاصّة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه ، ويصلح كلامه مؤيّدا فيما عداه مع الموافقة ؛ لكشفه عن توافق النسخ وتقويته للنظر.

فإذا لوحظ جميع ما ذكر ، وعرف الموافق والمخالف إن وجد ، فليفرض المظنون منه كالمعلوم ؛ لثبوت حجّيته بالدليل العلميّ ولو بوسائط.

ثمّ لينظر : فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجّة ظنّيّة ، حيث كان متوقّفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب أو كان المنكشف غير الدليل القاطع ، وإلاّ فلا.

وإذا تعدّد ناقل الإجماع أو النقل ، فإن توافق الجميع لوحظ كلّ (٢) ما علم على ما فصّل واخذ بالحاصل ، وإن تخالف لوحظ جميع ما ذكر واخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل ، وزمانه ،

__________________

(١) في (ظ) و (ه) : «عدم مزيّته».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (م) زيادة «مع» ، وشطب عليها في (ص).


ووجود المعاضد وعدمه ، وقلّته وكثرته ، ثمّ ليعمل بما هو المحصّل ، ويحكم على تقدير حجّيته بأنّه دليل واحد وإن توافق النقل وتعدّد الناقل.

وليس ما ذكرناه مختصّا بنقل الإجماع المتضمّن لنقل الأقوال إجمالا ، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا ، وكذا في نقل سائر الأشياء التي يبتني عليها معرفة الأحكام. والحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع ، كما هو ظاهر.

وقد اتّضح بما بيّناه : وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب : من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستدلال غالبا ، وردّه بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف ونحوهما ، فإنّه المتّجه على ما قلنا ، ولا سيّما فيما شاع فيه النزاع والجدال ، أو عرفت (١) فيه الأقوال ، أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الإجماع ؛ لقلّة المتعرّض (٢) لها إلاّ على بعض الوجوه التي لا يعتدّ بها ، أو كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ؛ لمعاصرته ، أو قصور باعه ، أو غيرهما ممّا يأتي بيانه ، فالاحتياج إليه مختصّ بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء ونادر من النقلة الأفاضل (٣) ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

الفائدة المذكورة لنقل الإجماع بحكم المعدومة

لكنّك خبير : بأنّ هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة ؛ لأنّ القدر الثابت من الاتّفاق بإخبار الناقل ـ المستند إلى حسّه ـ ليس ممّا

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «إذ عرفت».

(٢) في (ظ) : «التعرّض».

(٣) كشف القناع : ٤٠٠ ـ ٤٠٥.


يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام ، وإن كان هذا الاتّفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العلم بصدور مضمونه ، لكن ليس علّة تامّة لذلك ، بل هو نظير إخبار عدد معيّن في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب. وليس أيضا ممّا يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتّى بالنسبة إلينا ؛ لأنّ استناد كلّ بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا ، ليس أمرا مخالفا للعادة.

ألا ترى : أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر ، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها ، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به ؛ لقصور سنده ، أو لكونه من الآحاد عنده ، أو لقصور دلالته ، أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليه (١) بضرب من الترجيح ، فإذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطهارة فلا يضرّه اتّفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الامور المختلفة المذكورة.

وبالجملة : الإنصاف (٢) ـ بعد التأمّل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع كما هو متعارف محصّلي عصرنا ـ أنّ اتّفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام ، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى.

استلزام الإجماع قول الإمام عليه‌السلام أو الدليل المعتبر إذا انضمّ إلى أمارات أخر

فلم يبق في المقام إلاّ أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «عليها».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «فالإنصاف».


باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه ـ الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا (١) ـ القطع في مرحلة الظاهر باللازم ، وهو قول الإمام عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه‌السلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل ، لكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديّا لقول الإمام عليه‌السلام أو وجود الدليل المعتبر ، وإلاّ فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلّة حجّية خبر الواحد ، كما عرفت سابقا (٢).

ومن ذلك ظهر : أنّ ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة حجّية الإجماع المنقول ، ولا قولا بحجّيته في الجملة من حيث إنّه إجماع منقول ، وإنّما يرجع محصّله إلى : أنّ الحاكي للإجماع (٣) يصدّق فيما يخبره عن حسّ ، فإن فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما ـ بنفسه أو بضميمة أمارات أخر ـ لصدور الحكم الواقعي أو مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايته حجّة ؛ لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ، وإلاّ فلا ، وهذا يقول به كلّ من يقول بحجّية الخبر (٤) في الجملة ، وقد اعترف بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء.

__________________

(١) لم ترد في (م) : «تعبّدا».

(٢) راجع الصفحة ١٨٠.

(٣) في (م) زيادة : «إنّما».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «الواحد».


حكم المتواتر المنقول

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول ، وأنّ نقل التواتر في خبر لا يثبت حجّيته ولو قلنا بحجّية خبر الواحد ؛ لأنّ التواتر صفة في الخبر تحصل بإخبار جماعة تفيد العلم للسامع ، ويختلف عدده باختلاف خصوصيّات المقامات ، وليس كلّ تواتر ثبت لشخص ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة تحقّق المخبر به ، فإذا أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع ، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا ؛ لأنّ المفروض أنّ تحقّق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابت بخبر العادل.

نعم ، لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقّق المخبر به ، بأن يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة ـ كأن أخبر مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد وحضور جنازته ـ كان اللازم من قبول خبره الحكم بتحقّق الملزوم وهو إخبار الجماعة ، فيثبت اللازم وهو تحقّق موت زيد.

إلاّ أنّ لازم من يعتمد على الإجماع المنقول ـ وإن كان إخبار الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة للمخبر به ـ هو القول بحجّية التواتر المنقول.

معنى قبول نقل التواتر

لكن ليعلم : أنّ معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت زيد مثلا ، يتصوّر على وجهين :

الأوّل : الحكم بثبوت الخبر المدّعى تواتره أعني موت زيد ، نظير حجّية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدّعى عليها الإجماع ، وهذا هو الذي ذكرنا : أنّه يشترط (١) في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ل) بدل «أنّه يشترط» : «أنّ الشرط».


به مستلزما عادة لوقوع متعلّقه.

الثاني : الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتّب (١) على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشرعيّة ، كما إذا نذر أن يحفظ أو يكتب كلّ خبر متواتر. ثمّ أحكام التواتر ، منها ما ثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص ، ومنها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا الشخص.

ولا ينبغي الاشكال في أنّ مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على الوجه الأوّل ، وأوّل وجهي الثاني ، كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.

الكلام في تواتر القراءات

ومن هنا يعلم : أنّ الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا إشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمه‌الله بتواتر القراءات الثلاث (٢) ، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه (٣) ، لكن بالشرط المتقدّم ، وهو كون ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادة لتحقّق القرآنيّة.

وكذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ؛ فإنّه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند الشهيد بإخباره (٤).

__________________

(١) في (ر) ، (ل) و (ه) : «ليرتّب».

(٢) الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٨٧.

(٣) في (ت) و (ل) زيادة : «يعقوب وخلف».

(٤) في (ظ) و (م) : «بإخبار».


وإن كان الحكم معلّقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو مجتهده ، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات.

وإلى أحد الأوّلين نظر (١) حكم المحقّق والشهيد الثانيين (٢) بجواز القراءة بتلك القراءات ؛ مستندا إلى أنّ الشهيد (٣) والعلاّمة (٤) قدس‌سرهما قد ادّعيا تواترها وأنّ هذا لا يقصر عن نقل الإجماع.

وإلى الثالث نظر صاحب المدارك (٥) وشيخه المقدّس الأردبيلي (٦) قدس‌سرهما ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد : بأنّ هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة.

ولا يخلو نظرهما عن نظر ، فتدبّر.

والحمد لله ، وصلّى الله على محمّد وآله ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ت) : ينظر.

(٢) انظر جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦ ، وروض الجنان : ٢٦٢ ، والمقاصد العليّة : ١٣٧.

(٣) الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٨٧.

(٤) لم نعثر عليه في كتب العلاّمة ، بل وجدنا خلافه ، انظر نهاية الإحكام ١ : ٥٦٥ ، ولم ينسبه المحقّق والشهيد الثانيان في الكتب المذكورة إلاّ إلى الشهيد ، ويبدو أنّ المصنّف اعتمد في ذلك على ما نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٣٢٦.

(٥) المدارك ٣ : ٣٣٨.

(٦) مجمع الفائدة ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.



[الشهرة الفتوائية](١)

هل الشهرة الفتوائيّة حجّة ، أم لا

ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتها بالخصوص :

الشهرة في الفتوى ، الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف (٢) أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم.

ثمّ إنّ المقصود هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ، بل المقصود إبطال توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلاّ فالقول بحجّيّتها من حيث إفادة المظنّة بناء على دليل الانسداد غير بعيد.

منشأ توهّم الحجّية

ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران :

أحدهما : الاستدلال بمفهوم الموافقة : ما يظهر من بعض (٣) : من أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد تدلّ على حجّيّتها بمفهوم الموافقة ؛ لأنّه ربما يحصل منها الظنّ الأقوى من

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بخلاف».

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٤٨٠ و ٤٩٩ ـ ٥٠١.


الحاصل من خبر العادل.

المناقشة في هذا الاستدلال

وهذا خيال ضعيف تخيّله بعض في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك (١) ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.

وجه الضعف : أنّ الأولويّة الظنّية أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيتها؟! مع أنّ الأولويّة ممنوعة رأسا ؛ للظنّ بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ.

وأضعف من ذلك : تسمية هذه الأولويّة في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة ؛ مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدالّ على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢).

٢ ـ دلالة مرفوعة زرارة ، ومقبولة ابن حنظلة

الأمر (٣) الثاني : دلالة مرفوعة زرارة ، ومقبولة ابن حنظلة على ذلك :

ففي الاولى : «قال زرارة : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو (٤) الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشّاذّ النادر ، قلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ قال : خذ بما يقوله أعدلهما ... الخبر» (٥).

__________________

(١) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٣٢٧.

(٢) الإسراء : ٢٣.

(٣) لم ترد في (ت) ، (ر) و (ه) : «الأمر».

(٤) كذا في (ص) والمصدر ، وفي غيرهما : «و».

(٥) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الحديث ٢.


بناء على أنّ المراد بالموصول مطلق المشهور رواية كان أو فتوى ، أو أنّ إناطة الحكم بالاشتهار تدلّ على اعتبار الشهرة في نفسها وإن لم تكن في الرواية.

وفي المقبولة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ، قال عليه‌السلام :

«ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك ـ الذي حكما به ـ المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... إلى آخر الرواية» (١).

بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ؛ بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» فيكون في التعليل بقوله : «فإنّ المجمع عليه ... الخ» دلالة على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجب العمل به ، وإن كان مورد التعليل الشهرة في الرواية.

وممّا يؤيّد إرادة الشهرة من الإجماع : أنّ المراد لو كان الإجماع الحقيقيّ لم يكن ريب في بطلان خلافه ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام جعل مقابله ممّا فيه الريب.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.


الجواب عن الاستدلال بالمرفوعة

ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن :

أمّا الاولى : فيرد عليها ـ مضافا إلى ضعفها ، حتّى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدّث البحراني (١) ـ : أنّ المراد بالموصول هو (٢) خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم (٣) المشهور ؛ ألا ترى أنّك لو سألت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك ، فقلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان أو خانا أو سوقا ، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين فقلت : ما كان أكبر.

والحاصل : أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرواية ممّا لا يظنّ بأدنى التفات (٤).

مع أنّ الشهرة الفتوائيّة ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة ، فقوله : «يا سيّدي ، إنّهما معا (٥) مشهوران مأثوران» أوضح شاهد على أنّ المراد بالشهرة الشهرة في الرواية الحاصلة بأن يكون الرواية (٦) ممّا

__________________

(١) الحدائق ١ : ٩٩.

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «هي».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «حكم».

(٤) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «ملتفت».

(٥) لم ترد «معا» في (ر) ، (ص) ، (ل) و (م).

(٦) كذا في (ص) ، وفي (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أنّ المراد بالشهرة في الرواية الحاصلة بأن يكون الرواية» ، إلاّ أنّ في (ر) بدلى «بالشهرة» : «الشهرة» ، وفي (ت) و (ه) : «أنّ المراد بالشهرة في الرواية الظهور بأن يكون الرواية».


اتّفق الكلّ على روايته أو تدوينه ، وهذا ممّا يمكن اتّصاف الروايتين المتعارضتين به.

الجواب عن الاستدلال بالمقبولة

ومن هنا يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة ، وأنّه لا تنافي بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتّى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر ؛ فإنّ إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليّين ، وإلاّ فالمشهور هو الواضح المعروف ، ومنه : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر.

فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ، ويترك ما لا يعرفه إلاّ الشاذّ ولا يعرفه (١) الباقي ، فالشاذّ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشاركون (٢) الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة ؛ ولهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل المشكل الذي يردّ علمه إلى أهله ؛ وإلاّ فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث.

وممّا يضحك الثّكلى في هذا المقام ، توجيه قوله : «هما معا مشهوران» بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق بين القدماء والمتأخّرين ، فتدبّر.

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «ولا يعرفها».

(٢) في (ر) و (ص) : «لا يشارك».



[حجية خبر الواحد](١)

ومن جملة الظنون الخارجة (٢) بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم :

خبر الواحد ـ في الجملة ـ عند المشهور ، بل كاد أن يكون إجماعا.

إثبات الحكم الشرعي بالأخبار يتوقّف على مقدّمات

اعلم : أنّ إثبات الحكم الشرعيّ بالأخبار المرويّة عن الحجج عليهم‌السلام (٣) موقوف على مقدّمات ثلاث :

الاولى : كون الكلام صادرا عن الحجّة.

الثانية : كون صدوره لبيان حكم الله ، لا على وجه آخر ، من تقيّة أو (٤) غيرها.

الثالثة : ثبوت دلالته (٥) على الحكم المدّعى ، وهذا يتوقّف :

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) كذا في (ت) و (ر) ، وفي غيرهما : «الخارج».

(٣) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «الحاكية لقولهم».

(٤) في غير (م) : «و».

(٥) في غير (ت) : «دلالتها».


أوّلا : على تعيين أوضاع ألفاظ الرواية.

وثانيا : على تعيين المراد منها ، وأنّ المراد مقتضى وضعها أو غيره.

فهذه امور أربعة :

قد (١) أشرنا (٢) إلى كون الجهة الثانية من المقدّمة الثالثة من الظنون الخاصّة ، وهو المعبّر عنه بالظهور اللفظيّ ، وإلى أنّ الجهة الاولى منها ممّا لم يثبت كون الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصّة ، وإن لم نستبعد الحجّية أخيرا (٣).

وأمّا المقدّمة الثانية : فهي أيضا ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ، وهي حجّة ؛ لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء : من حمل كلام المتكلّم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة أو خوف ؛ ولذا لا يسمع دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته.

و (٤) أمّا المقدّمة الاولى : فهي التي عقد لها مسألة حجّيّة أخبار الآحاد ، فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة ـ أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟

__________________

(١) في (ت) ، (ص) و (ل) : «وقد» ، لكن شطب على «و» في (ص).

(٢) راجع الصفحة ١٣٧.

(٣) راجع الصفحة ١٧٧ ، ولم ترد في (ظ) ، (ل) و (م) : «وإن لم نستبعد الحجّيّة أخيرا».

(٤) لم ترد «و» في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه).


ومن هنا يتّضح دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلّة ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى : أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل (١).

ثمّ اعلم : أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ، بل لا يبعد كونه ضروريّ المذهب.

الخلاف في الأخبار المدوّنة في مقامين

وإنّما الخلاف في مقامين :

١ ـ هل هي مقطوعة الصدور ، أم لا؟

أحدهما : كونها مقطوعة الصدور أو غير مقطوعة؟ فقد ذهب شرذمة من متأخّري الأخباريّين (٢) ـ فيما نسب إليهم ـ إلى كونها قطعيّة الصدور.

وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه ، إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ؛ وإلاّ فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه. وقد كتبنا في سالف الزمان في ردّ هذا القول رسالة (٣) تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه ، وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر.

٢ ـ هل هي معتبرة بالخصوص ، أم لا؟

الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرة بالخصوص أم لا؟

__________________

(١) هذه الدعوى من صاحب الفصول في الفصول : ١٢.

(٢) منهم : صاحب الوسائل في الوسائل ١٨ : ٥٢ و ٧٥ ، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار : ١٧.

(٣) الظاهر أنّ هذه الرسالة مفقودة.


فالمحكيّ عن السيّد (١) والقاضي (٢) وابن زهرة (٣) والطبرسي (٤) وابن إدريس قدّس الله أسرارهم : المنع (٥) ، وربما نسب إلى المفيد (٦) قدس‌سره ؛ حيث حكى عنه في المعارج (٧) أنّه قال : «إنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ، وربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل» (٨) ، وربما ينسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه (٩) ، وكذا إلى المحقّق ، بل إلى ابن بابويه (١٠) ، بل في الوافية : أنّه لم يجد القول بالحجّيّة صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة (١١) ، وهو عجيب.

ما هو المعتبر منها؟

وأمّا القائلون بالاعتبار ، فهم مختلفون من جهة : أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب المعتبرة (١٢) ـ كما يحكى عن بعض

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٥٢٨ ، رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩.

(٢) حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم : ١٨٩.

(٣) الغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٧٥.

(٤) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٥) السرائر ١ : ٥١.

(٦) في (ظ) و (م) : «ينسب».

(٧) المعارج : ١٨٧.

(٨) التذكرة بأصول الفقه (مصنّفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٤.

(٩) انظر الصفحة ٣١٩ ، وما بعدها.

(١٠) نسبه إليهم الفاضل التوني في الوافية : ١٥٨.

(١١) الوافية : ١٥٨.

(١٢) لم ترد «المعتبرة» في (ر) و (ظ) ، وشطب عليها في (ل) ، ووردت بدلها في (ر) و (ظ) : «الأربعة» ، وفي (ت) ونسخة بدل (ص) و (ه) زيادة : «الأربعة».


الأخباريّين (١) أيضا ، وتبعهم بعض المعاصرين من الاصوليّين (٢) بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ـ ، أو أنّ المعتبر بعضها ، وأنّ المناط في الاعتبار عمل الأصحاب كما يظهر من كلام المحقّق (٣) ، أو عدالة الراوي ، أو وثاقته ، أو مجرّد الظنّ بصدور الرواية من غير اعتبار صفة في الراوي ، أو غير ذلك من التفصيلات (٤)(٥).

والمقصود هنا : بيان إثبات حجّيّته بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلّي.

ولنذكر ـ أوّلا ـ ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع ، ثمّ نعقّبه بذكر أدلّة الجواز ، فنقول :

__________________

(١) منهم : المحدّث العاملي في الوسائل ١٨ : ٥٢ و ٧٥ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ١ : ٢٥ ، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار : ١٧.

(٢) وهو المحقّق النراقي في المناهج : ١٦٥.

(٣) المعتبر ١ : ٢٩.

(٤) انظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : ٣٥٧ ـ ٣٧١.

(٥) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «في الأخبار» ، وشطب عليها في (م) ، وفي (ص) كتب فوقها : نسخة.


أمّا حجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة :

أدلّة المانعين من الحجيّة :

أمّا الكتاب :

١ - الاستدلال بالآيات

فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم (١) ، والتعليل المذكور في آية النبأ (٢) على ما ذكره أمين الإسلام : من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد (٣).

وأمّا السنّة :

٢ - الاستدلال بالأخبار

فهي أخبار كثيرة تدلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور إلاّ إذا احتفّ بقرينة معتبرة من كتاب أو سنّة معلومة :

مثل : ما رواه في البحار عن بصائر الدرجات ، عن محمّد بن عيسى ، قال :

«أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام وجوابه عليه‌السلام بخطّه ، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه ـ وقرأته ـ : ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا» (٤). ومثله عن مستطرفات السرائر (٥).

__________________

(١) الإسراء : ٣٦ ، يونس : ٣٦ ، الأنعام : ١١٦.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٤) بصائر الدرجات : ٥٢٤ ، الحديث ٢٦ ، والبحار ٢ : ٢٤١ ، الحديث ٣٣.

(٥) السرائر ٣ : ٥٨٤.


والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلاّ إذا وجد له شاهد من كتاب الله أو من السنّة المعلومة ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر (١) المجرّد عن القرينة :

مثل : ما ورد في غير واحد من الأخبار : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«ما جاءكم عنّي لا يوافق القرآن فلم أقله» (٢).

وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : «لا يصدّق علينا إلاّ ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

وقوله عليه‌السلام : «إذا جاءكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثم ردّوه إلينا حتّى نبيّن لكم» (٤).

ورواية ابن أبي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث ، يرويه من نثق به ومن لا نثق به؟ قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخذوا به ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» (٥).

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «الواحد».

(٢) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥ ، وفيه بدل «لا يوافق القرآن» : «يخالف كتاب الله».

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ ، وفيه بدل «لا يصدّق» : «لا تصدّق».

(٤) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨. وفيه : «حتّى يستبين».

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١.


وقوله عليه‌السلام لمحمّد بن مسلم : «ما جاءك من رواية ـ من برّ أو فاجر ـ يوافق كتاب الله فخذ به ، وما جاءك من رواية ـ من برّ أو فاجر ـ يخالف كتاب الله فلا تأخذ به» (١).

وقوله عليه‌السلام : «ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو باطل» (٢).

وقول أبي جعفر عليه‌السلام : «ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح من ذلك ما شرح لنا» (٣).

وقول الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (٤).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ؛ فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٥).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧. وفيه : «ما أتاكم».

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(٤) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٥) البحار ٢ : ٢٥٠ ، الحديث ٦٢.


والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترة جدّا.

وجه الاستدلال بالأخبار :

وجه الاستدلال بها :

أنّ من الواضحات : أنّ الأخبار الواردة عنهم صلوات الله عليهم في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة في غاية الكثرة ، والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار ـ الناهية عن الأخذ بمخالف (١) الكتاب والسنّة ـ ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي بحيث يتعذّر أو يتعسّر الجمع ؛ إذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ما يباين الكتاب والسنّة كليّة ؛ إذ لا يصدّقهم أحد في ذلك ، فما كان يصدر عن الكذّابين (٢) من الكذب لم يكن إلاّ نظير ما كان يرد من الأئمّة صلوات الله عليهم في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ، فليس المقصود من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب والسنّة إلاّ عرض ما كان منها غير معلوم الصدور عنهم ، وأنّه إن وجد له قرينة وشاهد معتمد فهو ، وإلاّ فليتوقّف فيه ؛ لعدم إفادته العلم بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة.

ثمّ إنّ عدم ذكر الإجماع ودليل العقل من جملة قرائن الخبر في هذه الروايات ـ كما فعله الشيخ في العدّة (٣) ـ لأنّ مرجعهما إلى الكتاب والسنّة ، كما يظهر بالتأمّل.

ويشير إلى ما ذكرنا ـ من أنّ المقصود من عرض الخبر على

__________________

(١) في غير (م) : «بمخالفة».

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «عليهم».

(٣) العدّة ١ : ١٤٣ و ١٤٥.


الكتاب والسنّة هو في غير معلوم الصدور ـ : تعليل العرض في بعض الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الإماميّة.

وأمّا الإجماع :

٣ - الاستدلال بالإجماع

فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس‌سره في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة (١).

وقد اعترف بذلك الشيخ على ما يأتي في كلامه (٢) ، إلاّ أنّه أوّل معقد الإجماع بإرادة الأخبار التي يرويها المخالفون.

وهو ظاهر المحكيّ عن الطبرسيّ في مجمع البيان ، قال : لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات واروش الجنايات (٣) ، انتهى (٤).

والجواب :

الجواب عن الاستدلال بالآيات

أمّا عن الآيات ، فبأنّها ـ بعد تسليم دلالتها ـ عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة.

الجواب عن الاستدلال بالأخبار

وأمّا عن الأخبار :

فعن الرواية الاولى ، فبأنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ ، و ٣ : ٣٠٩.

(٢) انظر الصفحة ٣١٣.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٥٧ ، ذيل آية ٧٩ من سورة الأنبياء.

(٤) لم ترد «انتهى» في (ت) ، (ر) و (ه).


وأمّا أخبار العرض على الكتاب ، فهي وإن كانت متواترة بالمعنى إلاّ أنّها بين طائفتين :

إحداهما : ما دلّ على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب.

والثانية : ما دلّ على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب.

٣ - ما دلّ على طرح ما يخالف الكتاب

أمّا الطائفة الاولى ، فلا تدلّ على المنع عن الخبر الذي لا يوجد مضمونه (١) في الكتاب والسنّة.

فإن قلت : ما من واقعة إلاّ ويمكن استفادة حكمها من عمومات الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنّة القطعيّة ، مثل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ...) الخ (٣) ، و (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً)(٤) ، و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٥) ، ونحو ذلك ، فالأخبار المخصّصة لها ـ كلّها ـ ولكثير (٦) من عمومات السنّة القطعيّة مخالفة للكتاب والسنّة (٧).

قلت :

مخالفة ظاهر العموم لا يعدّ مخالفة

أوّلا : إنّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم ـ خصوصا مثل هذه

__________________

(١) لم ترد «مضمونه» في (ظ) و (م).

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) البقرة : ١٧٣.

(٤) الأنفال : ٦٩.

(٥) البقرة : ١٨٥.

(٦) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «كثير».

(٧) لم ترد «والسنّة» في (ظ) ، (ل) و (م).


العمومات ـ ، مخالفة ؛ وإلاّ لعدّت الأخبار الصادرة يقينا عن الأئمّة عليهم‌السلام المخالفة لعمومات الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفة للكتاب والسنّة ، غاية الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتخرج عن عموم أخبار العرض ، مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص.

وكيف يرتكب التخصيص في قوله عليه‌السلام : «كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (١) ، وقوله : «ما أتاكم من حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل» (٢) ، وقوله عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ؛ فإنّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة» (٣) ، وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما خالف كتاب الله فليس من حديثي (٤) ، أو لم أقله» (٥) ، مع أنّ أكثر عمومات الكتاب قد خصّص بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وممّا يدلّ على أنّ المخالفة لتلك العمومات لا تعدّ مخالفة : ما دلّ من الأخبار على بيان حكم ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة ؛ إذ بناء على تلك العمومات لا يوجد واقعة لا يوجد حكمها فيهما.

فمن تلك الأخبار : ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما (٦)

__________________

(١) تقدّم الحديثان في الصفحة ٢٤٤.

(٢) تقدّم الحديثان في الصفحة ٢٤٤.

(٣) البحار ٢ : ٢٥٠ ، ضمن الحديث ٦٢.

(٤) البحار ٢ : ٢٢٧ ، الحديث ٥.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٦) كما في معاني الأخبار ١ : ١٥٦.


مرسلا (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :

«ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم و (٢) لا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنّة منّي فلا عذر لكم في ترك سنّتي (٣) ، وما لم يكن فيه سنّة منّي ، فما قال أصحابي فقولوا به ؛ فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم ، بأيّها اخذ اهتدي ، وبأيّ أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم ، واختلاف أصحابي رحمة لكم ، قيل : يا رسول الله ، ومن أصحابك؟ قال : أهل بيتي ... الخبر» (٤).

فإنّه صريح في أنّه قد يرد من الأئمّة عليهم‌السلام ما لا يوجد في الكتاب والسنّة.

ومنها : ما ورد في تعارض الروايتين : من ردّ ما لا يوجد في الكتاب والسنّة إلى الأئمّة عليهم‌السلام.

مثل : ما رواه في العيون عن ابن الوليد ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن عبد الله المسمعي ، عن الميثميّ ، وفيها :

«فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله» ـ إلى أن قال : ـ «وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه (٥) على سنن

__________________

(١) في غير (م) : «مرسلة».

(٢) لم ترد «و» في (ظ) والبصائر.

(٣) كذا في المصدر ، وفي جميع النسخ إلاّ (ظ) بدل «سنّتي» : «شيء» ، وفي (ص) زيادة : «منه».

(٤) بصائر الدرجات ١ : ١١ ، الحديث ٢ ، والاحتجاج ٢ : ١٠٥.

(٥) كذا في المصدر ، وفي جميع النسخ : «فاعرضوهما».


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ إلى أن قال : ـ «وما لم تجدوه (١) في شيء من هذه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ... الخبر» (٢).

والحاصل : أنّ القرائن الدالّة على أنّ المراد بمخالفة الكتاب ليس مجرّد مخالفة عمومه أو إطلاقه كثيرة ، تظهر لمن له أدنى تتبّع.

ومن هنا يظهر : ضعف التأمّل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد لتلك الأخبار ، بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدّة (٣). أو لما ذكره المحقّق : من أنّ الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد الإجماع على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة ، ومع الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به (٤).

وثانيا : إنّا نتكلّم في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات بل العبادات التي لم ترد فيها إلاّ آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب ؛ إذ لو سلّمنا أنّ تخصيص العموم يعدّ مخالفة ، أمّا تقييد المطلق فلا يعدّ في العرف مخالفة ، بل هو مفسّر ، خصوصا على المختار : من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد (٥).

فإن قلت : فعلى أيّ شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي جميع النسخ : «وما لم تجدوا».

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ ، ضمن الحديث ٤٥ ، والوسائل ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ضمن الحديث ٢١.

(٣) العدّة ١ : ١٤٥.

(٤) المعارج : ٩٦.

(٥) انظر مطارح الأنظار : ٢١٦.


بطرح مخالف الكتاب؟ فإنّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كليّة حمل على فرد نادر بل معدوم ، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمام الذي عرفته في الأخبار.

قلت : هذه الأخبار على قسمين :

منها : ما يدلّ على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم‌السلام ، وأنّ المخالف لهما باطل ، وأنّه ليس بحديثهم.

ومنها : ما يدلّ على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم‌السلام إذا خالف الكتاب والسنّة.

أمّا الطائفة الاولى ـ فالأقرب حملها على الأخبار الواردة في اصول الدين ، مثل مسائل الغلوّ والجبر والتفويض التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ، وهذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع ؛ لأنّها اخذت عن الاصول بعد تهذيبها من تلك الأخبار.

وأمّا الثانية ـ فيمكن حملها على ما ذكر في الاولى. ويمكن حملها على صورة تعارض الخبرين ؛ كما يشهد به مورد بعضها. ويمكن حملها على خبر غير الثقة ؛ لما سيجيء من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة.

هذا كلّه في الطائفة الدالّة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة.

٤ ـ ما دلّ على طرح ما لا يوافق الكتاب

وأمّا الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق (١) الكتاب أو لم يوجد عليه شاهد من الكتاب والسنّة :

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «لم يوافق».


فالجواب عنها ـ بعد ما عرفت (١) من القطع بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم‌السلام ، كما دلّ عليه روايتا الاحتجاج والعيون المتقدّمتان (٢) المعتضدتان بغيرهما من الأخبار (٣) ـ :

أنّها محمولة على ما تقدّم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة.

وأنّ ما دلّ منها على بطلان ما لم يوافق وكونه زخرفا محمول على الأخبار الواردة في اصول الدين ، مع احتمال كون ذلك من أخبارهم الموافقة للكتاب والسنّة على (٤) الباطن الذي يعلمونه منهما (٥) ؛ ولهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها.

وما دلّ على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهد من كتاب الله ، على خبر غير الثقة أو صورة التعارض ؛ كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة.

ثمّ إنّ الأخبار المذكورة ـ على فرض تسليم دلالتها ـ وإن كانت كثيرة ، إلاّ أنّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ؛ فإنّها موجبة للقطع بحجّيّة خبر الثقة ، فلا بدّ من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار.

الجواب عن الاستدلال بالإجماع

وأمّا الجواب عن الإجماع الذي ادّعاه السيّد والطبرسي قدس‌سرهما :

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٨.

(٢) في الصفحة ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٣) انظر الوسائل ١٨ : ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٤) في (ظ) و (م) : «وعلى».

(٥) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ل) : «منها».


فبأنّه لم يتحقّق لنا هذا الإجماع ، والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد ، مع معارضته بما سيجيء (١) : من دعوى الشيخ ـ المعتضدة بدعوى جماعة اخرى ـ الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخّرين (٢).

وأمّا نسبة بعض العامّة ـ كالحاجبيّ والعضديّ (٣) ـ عدم الحجّيّة إلى الرافضة ، فمستندة إلى ما رأوا من السيّد : من دعوى الإجماع بل ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة.

__________________

(١) انظر الصفحة ٣١١ و ٣٣٣.

(٢) لم ترد في (ظ) : «بين القدماء والمتأخّرين» ، وشطب عليها في (م).

(٣) انظر شرح مختصر الاصول ١ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، المتن للحاجبي ، والشرح للعضدي.


أدلّة القائلين بالحجيّة

وأمّا المجوّزون فقد استدلّوا على حجّيّته بالأدلّة الأربعة :

الاستدلال بالكتاب

أمّا الكتاب ، فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها :

منها : قوله تعالى في سورة الحجرات :

الآية الاولى : آية «النبأ»

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

الاستدلال بها من طريقين

والمحكيّ في وجه الاستدلال بها وجهان :

١ - من طريق مفهوم الشرط

أحدهما : من طريق مفهوم الشرط أنّه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه ـ عملا بمفهوم الشرط ـ وإذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل ؛ لأنّه يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن.

٢ - من طريق مفهوم الوصف

الثاني : من طريق مفهوم الوصف أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان ، ذاتيّ وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ وهو كونه خبر فاسق ، ومقتضى التثبّت هو الثاني ؛ للمناسبة والاقتران ؛ فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّيّة ؛ وإلاّ لوجب الاستناد إليه ؛ إذ التعليل بالذاتيّ الصالح للعلّيّة أولى من التعليل بالعرضيّ ؛ لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضيّ ، وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فإمّا أن يجب القبول ، وهو المطلوب ، أو الردّ ، فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق ، وهو محال.

أقول : الظاهر أنّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ـ وهي أنّه إذا لم يجب

__________________

(١) الحجرات : ٦.


التثبّت وجب القبول ؛ لأنّ الردّ مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ مبنيّ على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسيّ ، فيكون هنا امور ثلاثة ، الفحص عن الصدق والكذب ، والردّ من دون تبيّن ، والقبول كذلك.

لكنّك خبير : بأنّ الأمر بالتبيّن هنا مسوق لبيان الوجوب الشرطيّ ، وأنّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل ، فالعمل بخبر العادل غير مشروط بالتبيّن ، فيتمّ المطلوب من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة ، وهي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق.

والدليل على كون الأمر بالتبيّن للوجوب الشرطيّ لا النفسيّ ـ مضافا إلى أنّه المتبادر عرفا في أمثال المقام ، وإلى أنّ الإجماع قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسيّ للتبيّن في خبر الفاسق ، وإنّما أوجبه من أوجبه عند إرادة العمل به ، لا مطلقا ـ هو :

أنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا ...) الخ (١) لا يصلح (٢) أن يكون تعليلا للوجوب النفسيّ ؛ لأنّ حاصله يرجع إلى أنّه : لئلاّ تصيبوا قوما بجهالة بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد تبيّن الخلاف ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يصلح إلاّ علّة لحرمة العمل بدون التبيّن ، فهذا هو المعلول ، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن.

مع أنّ في الأولويّة (٣) المذكورة في كلام الجماعة بناء على كون

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) في (م) : «لا يصحّ».

(٣) في (ص) : «الأسوئيّة».


وجوب التبيّن نفسيّا ، ما لا يخفى ؛ لأنّ الآية على هذا ساكتة عن حكم العمل بخبر الواحد ـ قبل التبيّن أو بعده (١) ـ فيجوز اشتراك الفاسق والعادل في عدم جواز العمل قبل التبيّن ، كما أنّهما يشتركان قطعا في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ؛ لأنّ العمل ـ حينئذ ـ بمقتضى التبيّن لا باعتبار الخبر.

فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض لخبره والتفتيش عنه دون العادل ، لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا ، بل مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ، فتأمّل.

ما أورد على الاستدلال بالآية بما لا يمكن دفعه :

وكيف كان : فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيّف وعشرين ، إلاّ أنّ كثيرا منها قابلة للدفع ، فلنذكر أوّلا ما لا يمكن الذبّ عنه ، ثمّ نتبعه بذكر بعض ما اورد من الإيرادات القابلة للدفع.

أمّا ما لا يمكن الذبّ عنه فإيرادان :

١ ـ عدم اعتبار مفهوم الوصف

أحدهما : عدم اعتبار مفهوم الوصف أنّ الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار (٢) مفهوم الوصف ـ أعني الفسق ـ ، ففيه : أنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقّق كما فيما نحن فيه ؛ فإنّه أشبه بمفهوم اللقب.

ولعلّ هذا مراد من أجاب عن الآية ـ كالسيّدين (٣) وأمين الإسلام (٤)

__________________

(١) في (ظ) بدل «بعده» : «مع تعذّره».

(٢) لم ترد «اعتبار» في (ظ).

(٣) الذريعة ٢ : ٥٣٥ ، والغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٥.

(٤) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.


والمحقّق (١) والعلاّمة (٢) وغيرهم (٣) ـ : بأنّ هذا الاستدلال مبنيّ على دليل الخطاب ، ولا نقول به.

عدم اعتبار مفهوم الشرط في الآية لأنّه سالبة بانتفاء الموضوع

وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم (٤) والمحكيّ عن جماعة (٥) ، ففيه :

أنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن ، فالجملة الشرطيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، كما في قول القائل : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، و «إن ركب زيد فخذ ركابه» ، و «إن قدم من السفر فاستقبله» ، و «إن تزوّجت فلا تضيّع حقّ زوجتك» ، و «إذا قرأت الدرس فاحفظه» ، قال الله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(٦) ، و (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(٧) ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما يقال تارة : إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل ما لو جاء العادل بنبإ ، فلا يجب تبيّنه ، فيثبت المطلوب. واخرى : إنّ جعل مدلول الآية هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق

__________________

(١) معارج الاصول : ١٤٥.

(٢) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٤.

(٣) كالشيخ الطوسي في العدّة ١ : ١١١.

(٤) معالم الاصول : ١٩١.

(٥) حكاه السيد المجاهد عن جماعة ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٥٤.

(٦) الأعراف : ٢٠٤.

(٧) النساء : ٨٦.


لأجل عدمه ، يوجب حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو خلاف الظاهر.

وجه الفساد : أنّ الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجيء الفاسق به ، كان المفهوم ـ بحسب الدلالة العرفيّة أو العقليّة ـ انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه ، ففرض مجيء العادل بنبإ عند عدم الشرط ـ وهو مجيء الفاسق بالنبإ ـ لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ؛ لأنّه لم يكن مثبتا في المنطوق حتّى ينتفي في المفهوم ، فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع ، وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع.

٢ ـ تعارض المفهوم والتحليل

الثاني : تعارض المفهوم والتعليل ما أورده في محكيّ (١) العدّة (٢) والذريعة (٣) والغنية (٤) ومجمع البيان (٥) والمعارج (٦) وغيرها (٧) : من أنّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : إنّ مقتضى

__________________

(١) حكى عنهم في مفاتيح الاصول : ٣٥٥.

(٢) العدّة ١ : ١١٣.

(٣) الذريعة ٢ : ٥٣٦.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٥.

(٥) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٦) معارج الاصول : ١٤٦.

(٧) انظر شرح زبدة الاصول للمولى صالح المازندراني (مخطوط) : ١٦٦.


عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل.

لا يقال : إنّ النسبة بينهما وإن كان عموما من وجه ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن يجب تقديم عموم المفهوم وإدخال مادّة الاجتماع فيه ؛ إذ لو خرج عنه وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم لكان (١) لغوا ؛ لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل.

لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا ـ من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ـ مسلّم ، إلاّ أنّا ندّعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز (٢) العمل بخبر العادل الغير العلميّ وظهور الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم (٣) والحكم بخلوّ الجملة الشرطيّة عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل. وإليه أشار في محكيّ العدّة بقوله : لا يمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليل دليل (٤).

وليس في ذلك منافاة لما هو الحقّ وعليه الأكثر : من جواز

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «كان».

(٢) في (ت) و (ه) : «عدم وجوب» ، والأنسب ما أثبتناه.

(٣) لم ترد في (ظ) : «فطرح المفهوم».

(٤) العدّة ١ : ١١٣.


تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ؛ لاختصاص ذلك ـ أوّلا ـ بالمخصّص المنفصل ، ولو سلّم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلّة والمعلول ؛ فإنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص.

فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ ، كما في قول القائل : «لا تأكل الرمّان ؛ لأنّه حامض» ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدم التقييد في الرمّان لغلبة (١) الحموضة فيه.

وقد توجب عموم المعلول وإن كان بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّا ، كما في قول القائل : «لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان» ، أو «إذا وصفت لك امرأة دواء فلا تشربه ؛ لأنّك لا تأمن ضرره» ، فيدلّ على أنّ الحكم عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره من أيّ واصف كان ، ويكون تخصيص النسوان بالذكر من بين الجهّال لنكتة خاصّة أو عامّة لاحظها المتكلّم.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد ، كما نبّه عليه في المعارج (٢).

وهذا الإيراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّن العلميّ كما هو مقتضى اشتقاقه.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعمّ الظهور العرفيّ الحاصل من الاطمئنان الذي هو مقابل الجهالة ، وهذا وإن كان يدفع الإيراد المذكور عن المفهوم ؛ من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب

__________________

(١) في (ظ) ، (ص) ، (ل) و (م) : «لعلّة».

(٢) معارج الاصول : ١٤٦.


التبيّن إلى : أنّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمئنان المذكور بخلاف الفاسق ؛ فلهذا وجب فيه تحصيل هذا (١) الاطمئنان من الخارج ، لكنّك خبير بأنّ الاستدلال بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد للاطمئنان غير محتاج إليه ؛ إذ المنطوق على هذا التقرير (٢) يدلّ على حجّية كلّ ما يفيد الاطمئنان كما لا يخفى ، فيثبت اعتبار مرتبة خاصّة من مطلق الظنّ (٣).

ما اجيب به عن إيراد تعارض المفهوم والتعليل

ثمّ إنّ المحكي عن بعض (٤) : منع دلالة التعليل على عدم جواز الإقدام على ما هو مخالف للواقع ؛ بأنّ المراد بالجهالة السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله ، لا مقابل العلم ؛ بدليل قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٥) ؛ ولو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى.

المناقشة في هذا الجواب

وفيه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ «الجهالة» ـ : أنّ الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعا ؛ إذ العاقل بل جماعة من العقلاء لا يقدمون على الامور من دون وثوق بخبر المخبر بها ؛ فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم لعلّة : هي كونه في معرض المخالفة للواقع.

__________________

(١) لم ترد «هذا» في (ر) و (ص).

(٢) في (ظ) و (م) : «التقدير».

(٣) لم ترد «فيثبت ـ إلى ـ مطلق الظنّ» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) حكاه ابن التلمساني عن القاضي ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٥٦.

(٥) الحجرات : ٦.


وأمّا جواز الاعتماد على الفتوى والشهادة ، فلا يجوز القياس به (١) ؛ لما تقدّم في توجيه كلام ابن قبة : من أنّ الاقدام على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن ؛ لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى الواقع منه كما في الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع ، فراجع (٢).

الأولى في التخلّص عن هذا الإيراد

فالأولى لمن يريد التفصّي عن هذا الإيراد : التشبّث بما ذكرنا ، من أنّ المراد ب «التبيّن» تحصيل الاطمئنان ، وب «الجهالة» : الشكّ أو الظنّ الابتدائيّ الزائل بعد الدقّة والتأمّل ، فتأمّل.

وفيها (٣) إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل منهما الاطمئنان ؛ لأنّ (٤) الاطمئنان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرّزا عن الكذب.

الإيرادات القابلة للدفع

ومنه يظهر الجواب عمّا ربما يقال : من أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون اطمئنان بمضمونه ـ عادلا كان المخبر أو فاسقا ـ ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق.

١ - تعارض مفهوم الآية مع الآيات الناهية عن العمل بغير العلم

وأمّا ما اورد على الآية بما (٥) هو قابل للذبّ عنه فكثير :

منها : معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ،

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «بهما» ، وفي (ر) ، (ص) و (ل) : «بها».

(٢) راجع الصفحة ١٠٨ ـ ١١٠.

(٣) في (ت) ، (ظ) و (ل) : «ففيها».

(٤) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «إلاّ أنّ».

(٥) في (ت) ، (ظ) و (م) بدل «بما» : «ممّا».


والنسبة عموم من وجه ، فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّيّة.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ المراد ب «النبأ» في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلك الآيات ، فيتعيّن تخصيصها ؛ بناء على ما تقرّر : من أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ في العموم.

وأمّا منع ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم ؛ فلما عرفت : من منع ظهور الجملة الشرطيّة المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه ، في إفادة الانتفاء عند الانتفاء ، فراجع (١).

وربما يتوهّم : أنّ للآيات الناهية جهة خصوص ، إمّا من جهة اختصاصها بصورة التمكّن من العلم ، وإمّا من جهة اختصاصها بغير البيّنة العادلة وأمثالها ممّا خرج عن تلك الآيات قطعا.

ويندفع الأوّل ـ بعد منع الاختصاص ـ : بأنّه يكفي المستدلّ كون الخبر حجّة بالخصوص عند الانسداد.

والثاني (٢) : بأنّ خروج ما خرج من أدلّة حرمة العمل بالظنّ لا يوجب جهة عموم في المفهوم ؛ لأنّ المفهوم ـ أيضا ـ دليل خاصّ ، مثل الخاصّ الذي خصّص أدلّة حرمة العمل بالظنّ ، فلا يجوز تخصيص العامّ بأحدهما أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ بعد ذلك التخصيص وبين الخاصّ الأخير (٣).

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٥٩.

(٢) لم ترد «الأوّل بعد ـ إلى ـ والثاني» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٣) في (م) : «الآخر».


فإذا ورد : أكرم العلماء ، ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام جماعة من فسّاقهم ، ثمّ ورد دليل ثالث على عدم وجوب إكرام مطلق الفسّاق منهم ، فلا مجال لتوهّم تخصيص العامّ بالخاصّ الأوّل أوّلا ، ثمّ جعل النسبة بينه وبين الخاصّ الثاني عموما من وجه ، وهذا أمر واضح نبّهنا عليه في باب التعارض (١).

٢ - شمول الآية لخبر السيّد المرتضى

ومنها : أنّ مفهوم الآية لو دلّ على حجّيّة خبر العادل لدلّ على حجّيّة الإجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدّست أسرارهم : من عدم حجّيّة خبر العادل ؛ لأنّهم عدول أخبروا بحكم الإمام عليه‌السلام بعدم حجّيّة الخبر.

الجواب عن هذا الإيراد

وفساد هذا الإيراد أوضح من أن يبيّن ؛ إذ بعد الغضّ عمّا ذكرنا سابقا (٢) في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ، وبعد الغضّ عن أنّ إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ قدس‌سره ، نقول : إنّه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية.

أمّا أوّلا : فلأنّ دخوله يستلزم خروجه ـ لأنّه خبر عادل (٣) ـ فيستحيل دخوله.

ودعوى : أنّه لا يعمّ نفسه ، مدفوعة : بأنّه وإن لم يعمّ (٤) نفسه ـ لقصور دلالة اللفظ عليه ـ إلاّ أنّه يعلم أنّ الحكم ثابت لهذا الفرد (٥) ؛

__________________

(١) انظر مبحث انقلاب النسبة في مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ١٠٢.

(٢) راجع الصفحة ١٨٠.

(٣) في (ص) ، (ل) و (ه) : «العادل».

(٤) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «لا يعمّ».

(٥) في (ص) زيادة : «أيضا».


للعلم بعدم خصوصيّة مخرجة له عن الحكم ؛ ولذا لو سألنا السيّد عن أنّه إذا ثبت إجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتّكال عليه؟ فيقول : لا.

وأمّا ثانيا : فلو (١) سلّمنا جواز دخوله ، لكن نقول : إنّه وقع الإجماع على خروجه من النافين لحجّيّة الخبر ومن المثبتين ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلدوران الأمر بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس ، ولا ريب أنّ العكس متعيّن ، لا لمجرّد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد ؛ بل لأنّ المقصود من الكلام حينئذ (٢) ينحصر (٣) في بيان عدم حجّيّة خبر العادل ، ولا ريب أنّ التعبير عن هذا المقصود بما يدلّ على عموم حجّيّة خبر العادل قبيح في الغاية وفضيح إلى النهاية ؛ كما يعلم من قول القائل : «صدّق زيدا في جميع ما يخبرك» ، فأخبرك زيد بألف من الأخبار ، ثمّ أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله : «صدّق ... الخ» خصوص هذا الخبر.

وقد أجاب بعض من لا تحصيل له (٤) : بأنّ الإجماع المنقول مظنون الاعتبار وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار.

٣ - عدم شمول الآية للأخبار مع الواسط

ومنها : أنّ الآية لا تشمل الأخبار مع الواسطة ؛ لانصراف النبأ إلى الخبر بلا واسطة ، فلا يعمّ الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛

__________________

(١) في (ت) : «فلأنّا لو».

(٢) لم ترد «حينئذ» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٣) في (ظ) و (م) : «منحصر».

(٤) لم نقف عليه.


لاشتمالها على وسائط.

الجواب عن هذا الإيراد

وضعف هذا الإيراد على ظاهره واضح ؛ لأنّ كلّ واسطة من الوسائط إنّما يخبر خبرا بلا واسطة ؛ فإنّ الشيخ قدس‌سره إذا قال : حدّثني المفيد ، قال : حدّثني الصدوق ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني الصفّار ، قال : كتب إليّ العسكريّ عليه‌السلام بكذا (١) ، فإنّ هناك (٢) أخبارا متعدّدة بتعدّد الوسائط ، فخبر الشيخ قوله : حدّثني المفيد الخ ، وهذا خبر بلا واسطة يجب تصديقه ، فإذا حكم بصدقه وثبت (٣) شرعا أنّ المفيد حدّث الشيخ بقوله : حدّثني الصدوق ، فهذا الإخبار ـ أعني قول المفيد الثابت بخبر الشيخ : حدّثني الصدوق ـ أيضا خبر عادل وهو المفيد ، فنحكم بصدقه وأنّ الصدوق حدّثه ، فيكون كما لو سمعنا من الصدوق إخباره بقوله : حدّثني أبي ، والصدوق عادل ، فيصدّق في خبره ، فيكون كما لو سمعنا أباه يحدّث بقوله : حدّثني الصفّار ، فنصدّقه ؛ لأنّه عادل ، فيثبت خبر الصفّار : أنّه كتب إليه العسكري عليه‌السلام ، وإذا كان الصفّار عادلا وجب تصديقه والحكم بأنّ العسكريّ عليه‌السلام كتب إليه ذلك القول ، كما لو شاهدنا الإمام عليه‌السلام يكتبه إليه ، فيكون المكتوب حجّة ، فيثبت بخبر كلّ لاحق إخبار سابقه ؛ ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ؛ لأنّ كلّ واسطة مخبر بخبر مستقل.

__________________

(١) لم ترد «بكذا» في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه).

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «بمقتضى الآية».

(٣) كذا في (ر) ، (ظ) و (م) ، ولم ترد «و» في (ص) و (ه) ، وفي (ت) و (ص) : «يثبت».


إشكال تقدّم الحكم على الموضوع

هذا ، ولكن قد يشكل الأمر (١) : بأنّ ما يحكيه الشيخ عن المفيد صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق ، فكيف يصير موضوعا لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع الخبريّة إلاّ به (٢)؟

__________________

(١) اضطربت النسخ في تقرير الاشكال وفي بيان جوابه الحلّي ، كما سيوافيك. وما اخترناه مطابق لنسخة (ه) ، (ت) ، ومصحّحة (ص) ، مع اختلاف يسير بينها.

(٢) في (ه) بدل «لم يثبت موضوع الخبريّة إلاّ به» : «أثبت موضوع المخبر به» ، ولم ترد عبارة «ما يحكيه ـ إلى ـ الخبرية إلاّ به» في (ظ) ، (ص) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها ما يلي :

«بأنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب تصديق كلّ مخبر ، ومعنى وجوب تصديقه ليس إلاّ ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على صدقه عليه ، فإذا قال المخبر : إنّ زيدا عدل ، فمعنى وجوب تصديقه : وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد ، من جواز الاقتداء به وقبول شهادته ، وإذا قال المخبر : أخبرني عمرو أنّ زيدا عادل فمعنى تصديق المخبر ـ على ما عرفت ـ وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على إخبار عمرو بعدالة زيد ، ومن الآثار الشرعيّة المترتّبة على إخبار عمرو بعدالة زيد ـ إذا كان عادلا ـ وإن كان هو وجوب تصديقه في عدالة زيد ، إلاّ أنّ هذا الحكم الشرعيّ لإخبار عمرو إنّما حدث بهذه الآية ، وليس من الآثار الشرعيّة الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية حتّى يحكم بمقتضى الآية بترتيبه على إخبار عمرو به.

والحاصل : أنّ الآية تدلّ على ترتيب الآثار الشرعيّة الثابتة للمخبر به الواقعي على إخبار العادل ، ومن المعلوم أنّ المراد من الآثار غير هذا الأثر الشرعي الثابت بنفس الآية ، فاللازم على هذا دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به على الخبر إلاّ الأثر الشرعي الثابت بهذه الآية للمخبر به إذا كان خبرا.


ولكن يضعّف هذا الإشكال :

أوّلا : بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالإجماع كالإقرار بالإقرار ، وإخبار العادل بعدالة مخبر ، فإنّ الآية تشمل الإخبار بالعدالة بغير إشكال (١).

وثانيا : بأنّ (٢) عدم قابليّة اللفظ العامّ لأن يدخل فيه الموضوع

__________________

وبعبارة اخرى : الآية لا تدلّ على وجوب قبول الخبر الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له إلاّ بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ؛ لأنّ الحكم لا يشمل الفرد الذي يصير موضوعا له بواسطة ثبوته لفرد آخر.

ومن هنا يتّجه أن يقال : إنّ أدلّة قبول الشهادة لا تشمل الشهادة على الشهادة ؛ لأن الأصل لا يدخل في موضوع الشاهد إلاّ بعد قبول شهادة الفرع». وهذه العبارة بزيادة : «ويشكل» في أوّلها موجودة في (ر) أيضا.

(١) في (ت) ومصحّحة (ص) زيادة : «وعدم قبول الشهادة على الشهادة ـ لو سلم ـ ليس من هذه الجهة».

(٢) لم ترد عبارة «وإخبار العادل ـ إلى ـ وثانيا بأنّ» في (ر) ، (ظ) ، (ص) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في غير (ر) ما يلي : «وكرفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة باليقين الاستصحابي بطهارته. وثانيا بالحل : وهو أنّه لا مانع من ترتب أفراد العام في الوجود الخارجي ، وكون وجود بعضها موقوفا على ثبوت الحكم لبعضها الآخر. وهذا لا ينافي كون أفراد العام متساوية الأقدام في شمول الحكم لها في نظر المتكلّم ، لا في الوجود الخارجي حتّى لا يكون لبعضها تقدّم على بعض في الوجود. وأمّا ثالثا : فلأنّ».

ووردت بدلها في (ر) : «ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة ليست من هذه


الذي لا يتحقّق ولا يوجد إلاّ بعد ثبوت حكم هذا العامّ لفرد آخر ، لا يوجب التوقّف في الحكم إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العامّ وأنّ المتكلّم لم يلاحظ موضوعا دون آخر (١) ؛ لأنّ هذا الخروج مستند إلى قصور العبارة وعدم قابليّتها لشموله ، لا للفرق بينه وبين غيره في نظر المتكلّم حتّى يتأمّل في شمول حكم العامّ له.

بل لا قصور في العبارة بعد ما فهم منها أنّ هذا المحمول وصف

__________________

الجهة. وثانيا بالحلّ : وهو أن الممتنع هو توقّف فرديّة بعض أفراد العام على إثبات الحكم لبعضها الآخر ، كما في قول القائل : «كلّ خبري صادق أو كاذب» ، أمّا توقّف العلم ببعض الأفراد وانكشاف فرديّته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا مانع منه. وأمّا ثالثا : فلأنّ».

وورد هذا الجواب الحلّي في مصحّحة (ص) أيضا.

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة ما يلي :

«فإنّ موضوع اليقين بطهارة الثوب الناقض لليقين بنجاسته إنّما يحدث بحكم الشارع باستصحاب طهارة الماء ، فيثبت الحكم لذلك الموضوع ، الموجود بعد تحقّق الحكم وإن لم يكن كلام المتكلّم قابلا لإرادة ذلك الموضوع الغير الثابت إلاّ بعد الحكم العام. فوجوب تصديق قول المخبر : «أخبرني عمرو بعدالة زيد» وإن لم يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم العامّ ـ وإلاّ لزم تأخير الموضوع وجودا عن الحكم ـ إلاّ أنّه معلوم أنّ هذا الخروج ... الخ».

وفي (ر) وردت الزيادة هكذا : «فإخبار عمرو بعدالة زيد فيما لو قال المخبر : «أخبرني عمرو بأنّ زيدا عادل» وإن لم يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم العالم ـ وإلاّ لزم تأخير الموضوع وجودا عن الحكم ـ إلاّ أنّه معلوم أنّ هذا الخروج ...».


لازم لطبيعة الموضوع ولا ينفكّ عن مصاديقها ، فهو مثل ما لو أخبر زيد بعض عبيد المولى بأنّه قال : لا تعمل بأخبار زيد ، فإنّه لا يجوز له العمل به ولو اتّكالا على دليل عامّ يدلّ على الجواز ؛ لأنّ عدم شموله له ليس إلاّ لقصور اللفظ وعدم قابليّته للشمول ، لا للتفاوت بينه وبين غيره من أخبار زيد في نظر المولى (١). وقد تقدّم في الإيراد الثاني من هذه الإيرادات ما يوضح لك (٢) ، فراجع (٣).

ومنها : عدم إمكان العمل بمفهوم الآية في الأحكام الشرعيّة

أنّ العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة غير ممكن ؛ لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، فيجب تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات الخارجيّة ؛ فإنّها هي التي لا يجب التفحّص فيها عن المعارض ، ويجعل المراد من القبول فيها هو القبول في الجملة ، فلا ينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه ، فلا يقال : إنّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقا يستلزم قبوله في الأحكام بالإجماع المركّب والأولويّة (٤).

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ وجوب التفحّص عن المعارض غير وجوب التبيّن في الخبر ، فإنّ الأوّل يؤكّد حجّيّة خبر العادل ولا ينافيها ؛ لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به كما أوجب العمل بهذا ، والتبيّن المنافي للحجّيّة هو التوقّف عن العمل

__________________

(١) لم ترد عبارة «بل لا قصور ـ إلى ـ في نظر المولى» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ه) بدل «لك» : «ذلك».

(٣) راجع الصفحة ٢٦٥.

(٤) في (ظ) زيادة : «القطعيّة».


والتماس دليل آخر ، فيكون ذلك الدليل هو المتّبع ولو كان أصلا من الاصول. فإذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر ، وإذا وجده أخذ بالأرجح منهما. وإذا يئس عن التبيّن توقّف عن العمل ورجع إلى ما يقتضيه الاصول العمليّة.

فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل بمجرّد المجيء ، إلاّ أنّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون الأوّل ، ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأوّل ويؤخذ بالأرجح في الثاني.

فتتبّع الأدلّة في الأوّل لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم (١) الذي تضمّنه خبر الفاسق ، وفي الثاني لطلب المانع عمّا اقتضاه الدليل الموجود.

٥ - عدم العمل بمفهوم الآية في مورده

ومنها : أنّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة التي منها مورد الآية وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، ومن المعلوم أنّه لا يكفي فيه خبر العادل الواحد (٢) ، بل لا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلا بدّ من طرح المفهوم ؛ لعدم جواز إخراج المورد.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم ـ بالنسبة إلى الموضوعات ـ بما إذا تعدّد المخبر العادل ، فكلّ واحد من خبري (٣) العدلين في البيّنة لا يجب التبيّن فيه.

__________________

(١) في (ظ) : «المقتضي للحكم الشرعيّ».

(٢) كذا في نسخة بدل (ص) ، ولم ترد «الواحد» في غيرها.

(٣) في (ت) و (ل) : «خبر العدلين».


وأمّا لزوم إخراج المورد فممنوع ؛ لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها.

وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبيّن إذا كان المخبر به فاسقا وبعدمه (١) إذا كان المخبر به عادلا ، لا يلزم منه إلاّ تقييد لحكمه (٢) في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء.

٦ - مفهوم الآية لا يستلزم العمل والجواب عنه

ومنها : ما عن غاية البادئ (٣) : من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لا يستلزم العمل ؛ لجواز وجوب التوقّف (٤).

وكأنّ هذا الايراد مبنيّ على ما تقدّم (٥) فساده : من إرادة وجوب التبيّن نفسيّا ، وقد عرفت ضعفه ، وأنّ المراد وجوب التبيّن لأجل العمل عند إرادته ، وليس التوقّف حينئذ واسطة.

٧ - كون المسألة اصوليّة وجوابه

ومنها : أنّ المسألة اصوليّة ، فلا يكتفى فيها بالظنّ.

وفيه : أنّ الظهور اللفظيّ لا بأس بالتمسّك به في اصول الفقه ، والاصول التي لا يتمسّك فيها (٦) بالظنّ مطلقا هو اصول الدين لا اصول

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «لعدمه».

(٢) في (ت) و (ل) : «الحكم» ، وفي (ص) : «للحكم».

(٣) في النسخ : «غاية المبادي» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) حكاه عنه في مفاتيح الاصول : ٣٥٦ ، ولكنّه لا يوجد فيه ، انظر غاية البادئ (مخطوط) : الورقة ٨٩.

(٥) راجع الصفحة ٢٥٥.

(٦) كذا في (ظ) و (ت) ، وفي غيرهما : «لها».


الفقه ، والظنّ الذي لا يتمسّك به في الاصول مطلقا هو مطلق الظنّ ، لا الظنّ الخاصّ.

انحصار مفهوم الآية في المعصوم عليهم‌السلام ومن دونه

ومنها : أنّ المراد بالفاسق مطلق الخارج عن طاعة الله ولو بالصغائر ، فكلّ من كان كذلك أو احتمل في حقّه ذلك وجب التبيّن في خبره ، وغيره ممّن يفيد قوله العلم ؛ لانحصاره في المعصوم أو من هو دونه ، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارة إلى أنّ مطلق خبر المخبر غير المعصوم لا عبرة به ؛ لاحتمال فسقه ؛ لأنّ المراد الفاسق الواقعيّ لا المعلوم.

فهذا وجه آخر لإفادة الآية حرمة اتّباع غير العلم ، لا يحتاج معه إلى التمسّك في ذلك بتعليل الآية ، كما تقدّم (١) في الإيراد الثاني من الإيرادين الأوّلين.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة الله من إطلاق الفاسق خلاف الظاهر عرفا ، فالمراد به : إمّا الكافر ، كما هو الشائع إطلاقه في الكتاب ، حيث إنّه يطلق غالبا في مقابل المؤمن. وإمّا الخارج عن طاعة الله بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية ، فالمرتكب للصغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السابق.

مضافا إلى قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(٢).

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٥٩.

(٢) النساء : ٣١.


مع أنّه يمكن فرض الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة ، كما إذا علم منه التوبة من الذنب السابق ، وبه يندفع الإيراد المذكور ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة (١).

وأمّا احتمال فسقه بهذا الخبر ـ لكذبه فيه ـ فهو غير قادح ؛ لأنّ ظاهر قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ)(٢) تحقّق الفسق قبل النبأ لا به ، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا النبأ واحتمال فسقه به.

هذه جملة ممّا أوردوه على ظاهر الآية ، وقد عرفت (٣) أنّ الوارد منها إيرادان ، والعمدة الايراد الأوّل الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين (٤).

الاستدلال بمنطوق الآية على حجيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه

ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّيّة خبر العادل ، كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه ؛ بناء على أنّ المراد ب «التبيّن» : ما يعمّ تحصيل الظنّ ، فإذا حصل من الخارج ظنّ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.

ومن التبيّن الظنّيّ : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر أو على مضمونه أو على (٥) روايته ، ومن هنا تمسّك بعض (٦) بمنطوق الآية على

__________________

(١) كالحلّي في السرائر ٢ : ١١٨ ، وانظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : ٥٥٤.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) راجع الصفحة ٢٥٦.

(٤) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٥) لم ترد «على» في (ت) ، (ر) و (ظ).

(٦) انظر الفوائد الحائريّة : ٤٨٩ ، ومفاتيح الاصول : ٤٧٥.


حجّيّة الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، وفي حكم الشهرة أمارة اخرى غير معتبرة.

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ ـ وهو تحصيل الظنّ بصدق مخبره ـ دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ؛ فيدخل الموثّق وشبهه بل الحسن أيضا.

وعلى ما ذكر ، فيثبت من آية النبأ ـ منطوقا ومفهوما ـ حجّيّة الأقسام الأربعة للخبر : الصحيح ، والحسن ، والموثّق ، والضعيف المحفوف بقرينة ظنّيّة.

المناقشة في الاستدلال المذكور

ولكن فيه من الإشكال ما لا يخفى ؛ لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ ؛ كيف ولو كان المراد مجرّد الظنّ لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا ، إذ العاقل لا يعمل بخبر إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه.

إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقا : من أنّ المقصود التنبيه والارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه ، وأنّه لا يؤمن من كذبه وإن كان المظنون صدقه.

وكيف كان : فمادّة «التبيّن» ولفظ «الجهالة» وظاهر التعليل ـ كلّها ـ آبية عن (١) إرادة مجرّد الظنّ.

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم ؛ فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.

لكن ، لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالا على حجّيّة الظنّ

__________________

(١) في غير (ظ) و (م) : «من».


الاطمئنانيّ المذكور وإن لم يكن معه خبر فاسق ؛ نظرا إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لا بدّ من تبيّن الأمر من الخارج ، والعمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجيّ.

نعم ، ربما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن.

فالمقصود : الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ، فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق حينئذ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها.

والحاصل : أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ، سواء قلنا بأنّ المراد منه العلم أو الاطمئنان أو مطلق الظنّ ، حتّى أنّ من قال (١) بأنّ (٢) خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه ـ لحسن (٣) أو توثيق أو غيرهما من صفات الراوي ـ فلازمه القول بدلالة الآية على حجّيّة مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن لم يكن معه خبر أصلا ، فافهم واغتنم واستقم.

هذا ، ولكن لا يخفى : أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق ، وهو الإخبار بالارتداد (٤).

__________________

(١) كالمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٢٢٣.

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «إنّ».

(٣) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «بحسن».

(٤) لم ترد «هذا ولكن ـ إلى ـ بالارتداد» في (ظ) ، (ل) و (م).


الآية الثانية : آية «النفر»

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة براءة :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

وجه الاستدلال بها

دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين ، من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ، فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.

أمّا وجوب الحذر ، فمن وجهين :

أحدهما : أنّ لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنى الترجّي ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلّم ، وإذا تحقّق حسن الحذر ثبت وجوبه ؛ إمّا لما ذكره في المعالم : من أنّه لا معنى لندب الحذر ؛ إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن (٢) ، وإمّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المركّب ؛ لأنّ كلّ من أجازه فقد أوجبه.

الثاني : أنّ ظاهر الآية وجوب الإنذار ؛ لوقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا» ، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب الحذر لوجهين :

أحدهما : وقوعه غاية للواجب ؛ فإنّ الغاية المترتّبة على فعل الواجب ممّا لا يرضى الآمر بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تب لعلّك تفلح» ، و «أسلم لعلّك تدخل الجنّة» ، وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣).

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) المعالم : ٤٧.

(٣) طه : ٤٤.


الثاني : أنّه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول ؛ وإلاّ لغى الإنذار.

ونظير ذلك : ما تمسّك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العدّة ، من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(١) ، فاستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الإظهار عليهنّ ، على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام (٢).

فإن قلت : المراد بالنفر النفر إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ،) ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ليس للتفقّه والإنذار.

نعم ربما يترتّبان عليه ، بناء على ما قيل (٣) : من أنّ المراد حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات الله وظهور أوليائه على أعدائه وسائر ما يتّفق في حرب المسلمين مع الكفّار من آيات عظمة الله وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم (٤) الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ؛ فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة ، لا الغاية حتّى تجب بوجوب ذيها.

قلت :

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) المسالك ٩ : ١٩٤.

(٣) قاله الحسن وأبو مسلم ، انظر تفسير التبيان ٥ : ٣٢١ ، ومجمع البيان ٣ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٤) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إلى» ، وشطب عليه في (ت).


أوّلا : إنّه ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد النفر إلى الجهاد ، وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدلّ على ذلك.

وثانيا : لو سلّم أنّ المراد النفر إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النفر من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ؛ بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن أن ينفر من كلّ قوم طائفة ، فيمكن أن يكون التفقّه غاية لإيجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا لإيجاب أصل النفر.

ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار

وثالثا : إنّه قد فسّر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد (١) ؛ كما يظهر من قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٢) ، وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يخلّوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم وحرامهم حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.

ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار

والحاصل : أنّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار ممّا لا ينكر ، فلا محيص عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض ألفاظها.

الأخبار التي استشهد فيها الإمام عليه‌السلام بآية «النفر» على وجوب التفقّه

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار : استشهاد الإمام بها على وجوبه في أخبار كثيرة.

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله ، عن الرضا عليه‌السلام في حديث ، قال :

__________________

(١) فسّره بذلك الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٨٣.

(٢) التوبة : ١٢٢.


«إنّما امروا بالحجّ ؛ لعلّة الوفادة إلى الله ، وطلب الزيادة ، والخروج عن كلّ ما اقترف العبد» ـ إلى ـ أن قال ـ : «ولأجل (١) ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم‌السلام إلى كلّ صقع وناحية ؛ كما قال الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) الآية» (٢).

ومنها : ما ذكره في ديباجة المعالم (٣) : من رواية عليّ بن أبي حمزة ، قال :

«سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تفقّهوا في الدّين ؛ فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابيّ ؛ إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)» (٤).

ومنها : ما رواه في الكافي ـ في باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام عليه‌السلام ـ من صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال : أين قول الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...)؟ قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم» (٥).

ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال :

__________________

(١) لم ترد «ولأجل» في (ظ) و (م).

(٢) الوسائل ١٨ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٥.

(٣) معالم الاصول : ٢٥.

(٤) الكافي ١ : ٣١ ، باب فرض العلم ، الحديث ٦.

(٥) الكافي ١ : ٣٧٨ ، الحديث ١.


«سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول العامّة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة؟ قال : حقّ والله ، قلت : فإنّ إماما هلك ، ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه ، لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ؛ إنّ الإمام إذا مات وقعت (١) حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وحقّ النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم ؛ إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) الآية» (٢).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها : «قلت : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال : أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني أهل المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ؛ إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)» (٣).

ومنها : صحيحة البزنطيّ المرويّة في قرب الإسناد ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (٤).

ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاريّ الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اختلاف امّتي رحمة» ، قال : «إذا كان اختلافهم رحمة

__________________

(١) كذا في الكافي ، وفي (ص) ، (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) : «دفعت» ، وفي (ت) و (ر) : «رفعت».

(٢) الكافي ١ : ٣٧٨ ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ١ : ٣٨٠ ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام ، ضمن الحديث ٣.

(٤) قرب الإسناد : ٣٤٨ ـ ٣٥٠ ، الحديث ١٢٦٠.


فاتّفاقهم عذاب؟! ليس هذا يراد ، إنّما يراد الاختلاف في طلب العلم ، على ما قال الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)» (١) ، الحديث منقول بالمعنى ولا يحضرني ألفاظه.

وجميع هذا هو السرّ في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيّا.

هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة.

المناقشة في الاستدلال بهذه الآية من وجوه

لكنّ الإنصاف : عدم جواز الاستدلال بها من وجوه :

الأوّل : أنّه لا يستفاد من الكلام إلاّ مطلوبيّة الحذر عقيب الإنذار بما يتفقّهون في الجملة ، لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقّف وجوبه على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا ، فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون ، ومطلوبيّة العمل من المنذرين بما انذروا ، وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل ؛ ولهذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم.

فليس في هذه الآية تخصيص للأدلّة الناهية عن العمل بما لم يعلم ؛ ولذا استشهد الإمام ـ فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة (٢) ـ على وجوب النفر في معرفة الإمام عليه‌السلام وإنذار النافرين للمتخلّفين ، مع أنّ الإمامة لا تثبت إلاّ بالعلم.

الثاني : أنّ التفقّه الواجب ليس إلاّ معرفة الامور الواقعيّة من الدين ، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الامور المتفقّه فيها ، فالحذر

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٢) في نفس هذه الصفحة والصفحتين السابقتين.


لا يجب إلاّ عقيب الإنذار بها ، فإذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ أنّ الإنذار هل وقع بالامور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطأ أو تعمّدا من المنذر ـ بالكسر ـ لم يجب الحذر حينئذ ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة ، فهو نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري لعلّه يمتثلها (١).

فهذه الآية (٢) نظير ما ورد من الأمر (٣) بنقل الروايات (٤) ؛ فإنّ المقصود من هذا الكلام ليس إلاّ وجوب العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو (٥) لم يعلم مطابقته للواقع ، ولا يعدّ هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّيّ الصادر من المخاطب في الأمر الكذائيّ.

ونظيره : جميع ما ورد ، من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ؛ فإنّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحقّ الواقعيّ ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع.

__________________

(١) في (ظ) و (م) بدل «بأوامري لعلّه يمتثلها» : «بكذا لعلّه يقبل منك».

(٢) في (ل) بدل «فهذه الآية» : «لأنّه».

(٣) يأتي بعضها في الصفحة ٣٠٨.

(٤) لم ترد «فهذه ـ إلى ـ الروايات» في (ظ) و (م) ، وفي (ص) كتب أنّها زائدة.

(٥) في (ظ) و (م) بدل «العمل بالامور ـ إلى ـ فيما يحكي ولو» : «قبول الخبر الكذائي بالخصوص لا قبول كلّ ما يخبر فلان بأنّه كذا وإن».


ثمّ الفرق بين هذا الإيراد وسابقه : أنّ هذا الإيراد مبنيّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الامور الواقعيّة ، المستلزم لعدم وجوبه إلاّ بعد إحراز كون الإنذار متعلّقا بالحكم الواقعيّ ، وأمّا الإيراد الأوّل فهو مبنيّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجبا على الإطلاق أو بشرط حصول العلم.

الثالث : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذر ولو لم يفد العلم ، لكن لا تدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث إنّه خبر ؛ لأنّ الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف ، فإنشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلا ، ومن المعلوم أنّ التخويف لا يجب إلاّ على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الامور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يوعد على شرب الخمر وفعل الزنا وترك الصلاة ، أو (١) على المرشدين في مقام إرشاد الجهّال ، فالتخوّف لا يجب إلاّ على المتّعظ أو (٢) المسترشد ، ومن المعلوم أنّ تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارج عن الأمرين.

توضيح ذلك : أنّ المنذر إمّا أن ينذر ويخوّف على وجه الإفتاء ونقل ما هو مدلول الخبر باجتهاده ، وإمّا أن ينذر ويخوّف بلفظ الخبر حاكيا له عن الحجّة.

فالأوّل ، كأن يقول : «يا أيّها الناس اتّقوا الله في شرب العصير ؛

__________________

(١) في (ر) : «و».

(٢) في (ت) و (ظ) : «و».


فإنّ شربه يوجب المؤاخذة». والثاني ، كأن يقول في مقام التخويف (١) : قال الإمام عليه‌السلام : «من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر».

أمّا الإنذار على الوجه الأوّل ، فلا يجب الحذر عقيبه إلاّ على المقلّدين لهذا المفتي.

وأمّا الثاني ، فله جهتان : إحداهما : جهة تخويف وإيعاد. والثانية : جهة حكاية قول من الإمام عليه‌السلام.

ومن المعلوم أنّ الجهة الاولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلاّ على من هو مقلّد له ؛ إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه.

وأمّا الجهة الثانية ، فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية ، لكن وظيفته مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الإمام عليه‌السلام ، وأمّا أنّ مدلوله متضمّن لما يوجب التحريم الموجب للتخوّف (٢) أو الكراهة ، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة إلى هذا المجتهد.

فالآية الدالّة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين مختصّة بمن يجب عليه اتّباع المنذر في مضمون الحكاية وهو المقلّد له ؛ للإجماع على أنّه لا يجب على المجتهد التخوّف عند إنذار غيره. إنّما الكلام في أنّه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه‌السلام أم لا؟ والآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب

__________________

(١) لم ترد «في مقام التخويف» في (ص) ، (ل) و (ه).

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «للخوف».


عليه التخوّف عند التخويف.

الأولى الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد والتقليد

فالحقّ : أنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب التقليد على العوامّ ، أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.

وذكر شيخنا البهائيّ قدس‌سره في أوّل أربعينه :

كلام الشيخ البهائي

أنّ الاستدلال بالنبويّ المشهور : «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (١) على حجّيّة الخبر ، لا يقصر عن الاستدلال عليها بهذه الآية (٢).

وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها ؛ لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدّا ، كما سيجيء (٣) إن شاء الله عند ذكر الأخبار.

هذا ، ولكن ظاهر الرواية المتقدّمة (٤) عن علل الفضل يدفع هذا الإيراد. لكنّها من الآحاد ؛ فلا ينفع في صرف الآية عن ظاهرها في مسألة حجّيّة الآحاد. مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ؛ لأنّ (٥) الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ من كلّ صقع بحيث يكون الغالب حصول القطع من حكايتهم لحكم الله الواقعيّ عن الإمام عليه‌السلام ، وحينئذ فيجب

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٦٦ ـ ٦٧ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٤ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ و ٦٢.

(٢) الأربعون حديثا : ٧١.

(٣) انظر الصفحة ٣٠٧.

(٤) في الصفحة ٢٨٠.

(٥) في (ت) ، (ص) ، (ظ) و (م) بدل «لأنّ» : «وأنّ».


الحذر عقيب إنذارهم ، فإطلاق الرواية منزّل على الغالب.

الآية الثالثة : آية «الكتمان»

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها جماعة (١) ـ تبعا للشيخ في العدّة (٢) ـ على حجّيّة الخبر ، قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(٣).

وجه الاستدلال بها

والتقريب فيه : نظير ما بيّناه في آية النفر : من أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار.

المناقشة في الاستدلال

ويرد عليها (٤) : ما ذكرنا من الإيرادين الأوّلين في آية النفر ، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلم عقيب الاظهار ، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره ؛ فإنّ من أمر غيره بإظهار الحقّ للناس ليس مقصوده إلاّ عمل الناس بالحقّ ، ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجّيّة قول المظهر تعبّدا ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحقّ.

ويشهد لما ذكرنا : أنّ مورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما بيّن الله لهم ذلك في التوراة (٥) ، ومعلوم أنّ آيات (٦) النبوّة

__________________

(١) منهم : المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٣٨ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٧٦.

(٢) انظر العدّة ١ : ١١٣.

(٣) البقرة : ١٥٩.

(٤) في نسخة بدل (ل) : «عليه».

(٥) انظر مجمع البيان ١ : ٢٤١.

(٦) لم ترد «آيات» في (ظ).


لا يكتفى فيها بالظنّ.

نعم ، لو وجب الإظهار على من لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن جعل ذلك دليلا على أنّ المقصود العمل بقوله وإن لم يفد العلم ؛ لئلاّ يكون إلقاء هذا الكلام كاللغو.

ومن هنا يمكن الاستدلال بما تقدّم (١) : من آية تحريم كتمان ما في الأرحام على النساء على وجوب تصديقهنّ ، وبآية وجوب إقامة الشهادة (٢) على وجوب قبولها بعد الإقامة.

مع إمكان كون وجوب الإظهار لأجل رجاء وضوح الحقّ من تعدّد المظهرين.

الآية الرابعة : آية «السؤال من أهل الذكر»

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها بعض المعاصرين (٣) ، قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٤).

وجه الاستدلال بها

بناء على أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب ؛ وإلاّ لغى وجوب السؤال ، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جوابا له ؛ لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعا ، فإذا سئل الراوي الذي هو من أهل العلم عمّا سمعه عن الإمام عليه‌السلام في خصوص الواقعة ، فأجاب بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبول بحكم الآية ، فيجب قبول قوله ابتداء : إنّي سمعت الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٧٨.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

(٣) هو صاحب الفصول في الفصول : ٢٧٦.

(٤) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.


يقول كذا ؛ لأنّ حجّيّة قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ، كما لا يخفى.

المناقشة في الاستدلال

ويرد عليه :

أوّلا (١) : أنّ الاستدلال إن كان بظاهر الآية ، فظاهرها بمقتضى السياق إرادة علماء أهل الكتاب ، كما عن ابن عباس ومجاهد (٢) والحسن وقتادة (٣) ؛ فإنّ المذكور في سورة النحل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ،) وفي سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.)

من هم أهل الذكر؟

وإن كان مع قطع النظر عن سياقها ، ففيه : (٤) أنّه ورد في الأخبار المستفيضة : أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم‌السلام ، وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك (٥) ، وأرسله في المجمع عن عليّ عليه‌السلام (٦).

وردّ بعض مشايخنا (٧) هذه الأخبار بضعف السند ؛ بناء على اشتراك بعض الرواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي.

__________________

(١) لم ترد «أوّلا» في (ت) ، (ظ) و (ه).

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٦٢.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٤٠.

(٤) في جميع النسخ زيادة : «أوّلا» ، ولكن شطب عليها في (ص) و (ل).

(٥) الكافي ١ : ٢١٠.

(٦) مجمع البيان ٤ : ٤٠.

(٧) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٩٧.


وفيه نظر ؛ لأنّ روايتين منها صحيحتان ، وهما روايتا محمّد بن مسلم والوشّاء (١) ، فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ (٢) حسنة أو موثّقة. نعم ثلاث روايات أخر منها (٣) لا تخلو من ضعف ، ولا تقدح قطعا.

وثانيا : أنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا ، كما يقال في العرف : سل إن كنت جاهلا.

ويؤيّده : أنّ الآية واردة في اصول الدين وعلامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعا.

وثالثا : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب لا لحصول العلم منه ، قلنا : إنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام عليه‌السلام ؛ وإلاّ لدلّ على حجّيّة قول كلّ عالم بشيء ولو من طريق السمع والبصر ، مع أنّه يصحّ سلب هذا العنوان عن (٤) مطلق من أحسّ شيئا بسمعه أو بصره ، والمتبادر من وجوب سؤال أهل العلم ـ بناء على إرادة التعبّد بجوابهم ـ هو سؤالهم عمّا هم عالمون به ويعدّون من أهل العلم في مثله ، فينحصر مدلول الآية في التقليد ؛

استدلال جماعة بالآية على وجوب التقليد

ولذا تمسّك به جماعة (٥) على وجوب التقليد على العامّي.

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٠ ـ ٢١١ ، باب أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم‌السلام ، الحديث ٧ و ٣.

(٢) المصدر المتقدّم ، الحديث ٦.

(٣) المصدر المتقدّم ، الأحاديث ١ ، ٢ و ٨.

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه) : «من».

(٥) منهم : الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣١٩ ، والمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٥٥ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٤١١.


وبما ذكرنا يندفع ما يتوهّم : من أنّا نفرض الراوي من أهل العلم ، فإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب.

حاصل وجه الاندفاع : أنّ سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي سمعوها (١) من الإمام عليه‌السلام والتعبّد بقولهم (٢) فيها ، ليس سؤالا من أهل العلم من حيث هم أهل العلم ؛ ألا ترى أنّه لو قال : «سل الفقهاء إذا لم تعلم أو الأطبّاء» ، لا يحتمل أن يكون قد أراد ما يشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة من قيام زيد وتكلّم عمرو ، وغير ذلك؟

الآية الخامسة : آية «الاذن»

ومن جملة الآيات ، قوله تعالى في سورة براءة :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣).

وجه الاستدلال بها

مدح الله عزّ وجلّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديقه للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق بالله جلّ ذكره ، فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا.

تأييد الاستدلال ، بالرواية الواردة في حكاية إسماعيل

ويزيد تقريب الاستدلال وضوحا : ما رواه في فروع الكافي في الحسن ب" ابن هاشم" (٤) ، أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد الله دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام :

«يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ قال : سمعت الناس يقولون ،

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «سمعها».

(٢) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «بقوله».

(٣) التوبة : ٦١.

(٤) في (ص) و (ظ) : «بابراهيم بن هاشم».


فقال : يا بنيّ ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ،) يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ؛ فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» (١).

المناقشة في الاستدلال

ويرد عليه :

المراد من «الأذن»

أوّلا : أنّ المراد بالاذن سريع التصديق والاعتقاد بكلّ ما يسمع ، لا من يعمل تعبّدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه ، فمدحه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ؛ لحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم.

المراد من «تصديق المؤمنين»

وثانيا : أنّ المراد من التصديق في الآية ليس جعل المخبر به واقعا وترتيب جميع آثاره عليه ؛ إذ لو كان المراد به ذلك لم يكن اذن خير لجميع الناس ؛ إذ لو أخبره أحد بزنا أحد ، أو شربه ، أو قذفه ، أو ارتداده ، فقتله النبيّ أو جلده ، لم يكن في سماعه (٢) ذلك الخبر خير للمخبر عنه ، بل كان محض الشرّ له ، خصوصا مع عدم صدور الفعل منه في الواقع. نعم ، يكون (٣) خيرا للمخبر من حيث متابعة قوله وإن كان منافقا مؤذيا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ على ما يقتضيه الخطاب في «لكم» ؛ فثبوت الخير لكلّ من المخبر والمخبر عنه لا يكون إلاّ إذا صدّق المخبر ، بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأسا ، مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلى المخبر عنه ، فإن كان المخبر به ممّا يتعلّق بسوء حاله لا يؤذيه (٤) في الظاهر ، لكن يكون على حذر منه

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوديعة ، الحديث الأوّل.

(٢) في (ت) و (ه) : «لسماعه».

(٣) في (ظ) و (م) : «كان».

(٤) في (ل) بدل «لا يؤذيه» : «لا يؤذنه» ، وفي (ظ) : «لا يؤذن به».


في الباطن ، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية اسماعيل المتقدّمة.

ويؤيّد هذا المعنى : ما عن تفسير العياشيّ ، عن الصادق عليه‌السلام : من أنّه يصدّق المؤمنين ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رءوفا رحيما بالمؤمنين (١) ؛ فإنّ تعليل التصديق بالرأفة والرحمة على كافّة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم على الآخر بحيث يرتّب (٢) عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه وقوعه ؛ إذ مع الإنكار لا بدّ من تكذيب أحدهما ، وهو مناف لكونه «اذن خير» ورءوفا رحيما بالجميع (٣) ، فتعيّن إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا.

ويؤيّده أيضا : ما عن القمّي رحمه‌الله في سبب نزول الآية :

«أنّه نمّ منافق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبره الله بذلك (٤) ، فأحضره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله ، فحلف : أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ (٥) عليه ، فقبل منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إنّه يقبل كلّ ما يسمع ، أخبره الله أنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبل ، وأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فردّه الله تعالى بقوله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)» (٦).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٩٥ ، وحكاه عنه الفيض الكاشاني في تفسير الصافي ٢ : ٣٥٤.

(٢) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «يترتّب».

(٣) في (ه) : «لجميع المؤمنين» ، وفي (ت) : «بجميع المؤمنين».

(٤) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «ذلك».

(٥) في (ظ) و (م) : «نمّ».

(٦) تفسير القمّي ١ : ٣٠٠.


ومن المعلوم : أنّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقا.

وهذا التفسير (١) صريح في أنّ المراد من «المؤمنين» : المقرّون (٢) بالإيمان من غير اعتقاد ، فيكون الإيمان لهم على حسب إيمانهم.

ويشهد بتغاير معنى الإيمان في الموضعين ـ مضافا إلى تكرار لفظه ـ : تعديته في الأوّل بالباء وفي الثاني باللام ، فافهم.

توجيه رواية إسماعيل

وأمّا توجيه الرواية ، فيحتاج إلى بيان معنى التصديق ، فنقول : إنّ المسلم إذا أخبر بشيء فلتصديقه معنيان :

أحدهما : ما يقتضيه أدلّة تنزيل (٣) فعل المسلم على الصحيح والأحسن ؛ فإنّ الإخبار من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه ما كان مباحا ، وفاسده ما كان نقيضه ، كالكذب والغيبة ونحوهما ، فحمل الإخبار على الصادق حمل (٤) على أحسنه.

والثاني : هو حمل إخباره من حيث إنّه لفظ دالّ على معنى يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ، على كونه مطابقا للواقع وترتيب (٥) آثار الواقع عليه.

و (٦) المعنى الثاني هو الذي يراد من العمل بخبر العادل. وأمّا المعنى

__________________

(١) في (ل) بدل «التفسير» : «التعبير» ، وفي (م) : «التفصيل».

(٢) في (ه) بدل «المقرّون» : «المقرونون».

(٣) في (ه) بدل «تنزيل» : «حمل».

(٤) في (ظ) ، (ل) و (م) : «حمله».

(٥) في (ر) ، (ص) و (ه) : «بترتيب».

(٦) في (ص) ، (ظ) و (م) زيادة : «الحاصل أنّ».


الأوّل ، فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن ، وهو ظاهر الأخبار الواردة في : أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن يصدّقه ولا يتّهمه (١) ، خصوصا مثل قوله عليه‌السلام : «يا أبا محمّد ، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة : أنّه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذّبهم ... الخبر» (٢).

فإنّ تكذيب القسامة مع كونهم أيضا مؤمنين ، لا يراد منه إلاّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم ، لا ما يقابل تصديق المشهود عليه ؛ فإنّه ترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح.

نعم ، خرج من ذلك مواضع (٣) وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه.

وأنت إذا تأمّلت هذه الرواية ولاحظتها مع الرواية المتقدّمة (٤) في حكاية إسماعيل ، لم يكن لك بدّ من حمل التصديق على ما ذكرنا.

وإن أبيت إلاّ عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق بمعنى ترتيب آثار الواقع ، فنقول : إنّ الاستعانة بها على دلالة الآية خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى السنّة ، والمقصود هو الأوّل. غاية الأمر كون هذه الرواية في عداد الروايات الآتية (٥) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) يأتي بعضها في مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) الوسائل ٨ : ٦٠٩ ، الباب ١٥٧ من أحكام العشرة ، الحديث ٤. وفيه : «يا محمّد» ، كما يأتي في مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٤٧.

(٣) في (ت) و (ه) : «موضع».

(٤) راجع الصفحة ٢٩١.

(٥) الآتية في الصفحة ٢٩٧ ، فما بعد.


مدلول الآيات المستدلّ بها على حجيّة الخبر الواحد

ثمّ إنّ هذه الآيات ، على تقدير تسليم دلالة كلّ واحدة منها على حجّيّة الخبر ، إنّما تدلّ ـ بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل وغيره بمفهوم (١) آية النبأ ـ على حجّيّة خبر العادل الواقعيّ أو من أخبر عدل واقعيّ بعدالته ، بل يمكن انصراف المفهوم ـ بحكم الغلبة وشهادة التعليل بمخافة الوقوع في الندم (٢) ـ إلى صورة إفادة خبر العادل الظنّ الاطمئنانيّ بالصدق ، كما هو الغالب مع القطع بالعدالة ؛ فيصير حاصل مدلول الآيات اعتبار خبر العادل الواقعيّ بشرط إفادته (٣) الظنّ الاطمئنانيّ والوثوق ، بل هذا أيضا منصرف سائر الآيات ، وإن لم يكن انصرافا موجبا لظهور عدم إرادة غيره حتّى لا يعارض (٤) المنطوق (٥).

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها بدل «بمفهوم» : «بمنطوق».

(٢) لم ترد عبارة «وشهادة ـ إلى ـ الندم» في (ص) و (ه) والنسخة المصحّحة الموجودة عند المحقّق الآشتياني قدس‌سره على ما ذكره في بحر الفوائد ١ : ١٦٠ ، وشطب عليها في (ل).

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «إفادة».

(٤) في (ص) و (ل) : «يعارض».

(٥) كذا في (ه) وهامش (ت) و (ل) ، ولم ترد عبارة «والوثوق ـ إلى ـ المنطوق» في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت فيها العبارة التالية : «وهو المعبّر عنه بالوثوق ، نعم لو لم نقل بدلالة آية النبأ من جهة عدم المفهوم لها اقتصر على منصرف سائر الآيات وهو الخبر المفيد للوثوق وإن لم يكن المخبر عادلا» ، ولكن شطب عليها في (ل) ، وكتب عليها في (ت) : «زائد» ، ووردت كلتا العبارتين في (ص) وكتب على الثانية : «زائد».


[الثاني : السنّة](١)

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بطوائف من الأخبار :

وأمّا السنّة ، فطوائف من الأخبار :

منها : ما ورد في الخبرين المتعارضين : من الأخذ بالأعدل والأصدق (٢) أو (٣) المشهور ، والتخيير عند التساوي :

١ ـ ما ورد في الخيرين المتعارضين

مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، (٤) حيث يقول : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث» (٥).

مقبولة ابن حنظلة

وموردها وإن كان في الحاكمين ، إلاّ أنّ ملاحظة جميع الرواية تشهد : بأنّ المراد بيان المرجّح للروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان.

مرفوعة زرارة

ومثل رواية عوالي اللآلي المرويّة عن العلاّمة ، المرفوعة إلى زرارة : «قال : يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النّادر ، قلت : إنّهما معا مشهوران؟ قال : خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» (٦).

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) لم ترد في (ظ) و (م) : «والأصدق».

(٣) في (ر) و (ص) : «و».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) زيادة : «وهي وإن وردت في الحكم».

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٥ و ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ضمن الحديث الأوّل.

(٦) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩ ، ومستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الحديث ٢.


رواية ابن أبي الجهم

ومثل رواية ابن الجهم (١) عن الرضا عليه‌السلام : «قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيّهما الحقّ ، قال : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (٢).

رواية الحارث ابن المغيرة

ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتّى ترى القائم» (٣).

وغيرها من الأخبار (٤).

والظاهر : أنّ دلالتها على اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور واضحة ، إلاّ أنّه لا إطلاق لها ؛ لأنّ السؤال عن الخبرين اللذين فرض السائل كلا منهما حجّة يتعيّن العمل بها لو لا المعارض ؛ كما يشهد به السؤال بلفظة (٥) «أيّ» الدالّة على السؤال عن المعيّن (٦) مع العلم بالمبهم ، فهو كما إذا سئل عن تعارض الشهود أو أئمّة الصلاة ، فأجاب ببيان المرجّح ، فإنّه لا يدلّ إلاّ على أنّ المفروض تعارض من كان منهم مفروض القبول لو لا المعارض.

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) وفي المصدر : «الحسن بن الجهم» ، وفي (ل) : «أبي الجهم» ، وفي غيرها : «ابن أبي جهم».

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٤) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ٥٧ ـ ٦٦.

(٥) في (ر) ، (ل) و (ه) : «بلفظ».

(٦) في (ر) ، (ل) و (ه) : «التعيين».


نعم ، رواية ابن المغيرة (١) تدلّ على اعتبار خبر كلّ ثقة ، وبعد ملاحظة ذكر الأوثقيّة والأعدليّة في المقبولة والمرفوعة يصير الحاصل من المجموع اعتبار خبر الثقة ، بل العادل.

لكنّ الإنصاف : أنّ ظاهر مساق الرواية أنّ الغرض من العدالة حصول الوثاقة ، فيكون العبرة بها.

٢ - ما دّل على إرجاع آحاد الرواة إلى آحادالأصحاب:

ومنها : ما دلّ على إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحابهم عليه‌السلام ، بحيث يظهر منه عدم الفرق بين الفتوى والرواية ، مثل : إرجاعه عليه‌السلام إلى زرارة بقوله عليه‌السلام : «إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس» مشيرا إلى زرارة (٢).

الإرجاع إلى زرارة

وقوله عليه‌السلام في رواية اخرى : «أمّا ما رواه زرارة عن أبي عليه‌السلام فلا يجوز ردّه» (٣).

الإرجاع إلى محمد بن مسلم

وقوله عليه‌السلام لابن أبي يعفور بعد السؤال عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : «فما يمنعك عن الثقفيّ؟ ـ يعني محمّد بن مسلم ـ فإنّه سمع من أبي أحاديث ، وكان عنده وجيها» (٤).

الإرجاع إلى أبان بن تغلب

وقوله عليه‌السلام ـ فيما عن الكشّيّ ـ لسلمة بن أبي حبيبة (٥) : «ائت أبان

__________________

(١) في نسخة بدل (ت) بدل «ابن المغيرة» : «ابن جهم».

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٤ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٤ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٠٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٥) كذا في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) ، وفي (ص) ، (ل) ونسخة بدل (ت) : «سلمة بن أبي حبلة» وكتب في (ص) فوق «حبلة» : «حبيبة» ، وفي المصدر : «مسلم بن أبي حيّة» ، وفي رجال النجاشي : «سليم بن أبي حيّة».


ابن تغلب ؛ فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا ، فما روى لك عنّي فاروه عنّي» (١).

الإرجاع إلى أبي بصير

وقوله عليه‌السلام لشعيب العقرقوفيّ بعد السؤال عمّن يرجع إليه : «عليك بالأسديّ» يعني أبا بصير (٢).

الإرجع إلى زكريّا بن آدم

وقوله عليه‌السلام لعليّ بن المسيّب بعد السؤال عمّن يأخذ عنه معالم الدين : «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدّين والدّنيا» (٣).

الإرجاع إلى يونس ابن عبد الرحمن

وقوله عليه‌السلام لمّا قال له عبد العزيز بن المهتدي (٤) : «ربما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال : نعم» (٥).

وظاهر هذه الرواية : أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي ، فسأل عن وثاقة يونس ، ليرتّب (٦) عليه أخذ المعالم منه.

ويؤيّده في إناطة وجوب القبول بالوثاقة : ما ورد في العمريّ وابنه اللذين هما من النوّاب والسفراء ، ففي الكافي في باب النهي عن التسمية ، عن الحميريّ ، عن أحمد بن إسحاق ، قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ، المعروف برجال الكشّي ٢ : ٦٢٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧ ، اختيار معرفة الرجال ٢ : ٧٨٤.

(٤) كذا في الوسائل واختيار معرفة الرجال ، ولكن في جميع النسخ : «عبد العزيز ابن المهديّ».

(٥) الوسائل ١٨ : ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٦) في أكثر النسخ : «ليترتّب».


الإرجاع إلى العمري وابنه

وقلت له : من اعامل ، أو عمّن آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال عليه‌السلام له : العمريّ ثقتي ؛ فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ؛ فإنّه الثقة المأمون» (١).

وأخبرنا أحمد بن إسحاق : أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : «العمريّ وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ؛ فإنّهما الثّقتان المأمونان ... الخبر» (٢).

وهذه الطائفة ـ أيضا ـ مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على اعتبار خبر الثقة المأمون.

٣ - ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء رواية إسحاق ابن يعقوب

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء على وجه يظهر منه : عدم الفرق بين فتواهم بالنسبة إلى أهل الاستفتاء ، وروايتهم بالنسبة إلى أهل العمل (٣) بالرواية ، مثل : قول الحجّة ، عجّل الله فرجه ، لإسحاق بن يعقوب ـ على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وكمال الدين (٤) للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي ـ : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم» (٥).

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٠ ، باب تسمية من رآه عليه‌السلام ، الحديث الأوّل.

(٢) نفس المصدر ، ذيل الحديث.

(٣) في (ل) : «العلم».

(٤) في غير (ظ) ، (ل) و (م) : «إكمال الدين».

(٥) كمال الدين : ٤٨٤ ، ضمن الحديث ٤ ، والغيبة للطوسي : ٢٩١ ، ضمن الحديث ٢٤٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٨٣.


فإنّه لو سلّم أنّ ظاهر الصدر الاختصاص بالرجوع في حكم الوقائع إلى الرواة أعني الاستفتاء منهم ، إلاّ أنّ التعليل بأنّهم حجّته عليه‌السلام يدلّ على وجوب قبول خبرهم.

ومثل الرواية المحكيّة عن العدّة ، من قوله عليه‌السلام :

رواية العدّة

«إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا ، فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه‌السلام» (١).

دلّ على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة مع عدم وجود المعارض من روايات الخاصّة.

رواية الاحتجاج في تفسير آية «ومنهم اُمّيَون»

ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ...) الآية (٢) ـ من أنّه قال رجل للصادق عليه‌السلام :

«فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم».

فقال عليه‌السلام : «بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة : أمّا من حيث استووا ؛ فإنّ الله تعالى ذمّ

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٦٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ ، وانظر العدّة ١ : ٦٠.

(٢) البقرة : ٧٨.


عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث افترقوا فلا.

قال : بيّن لي يا بن رسول الله؟

قال : إنّ عوامّ اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والنسابات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم (١) ، وعلموهم يقارفون (٢) المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق ، لا يجوز أن يصدّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله تعالى ؛ فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، والترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا.

__________________

(١) كذا في (ر) و (ص) والمصدر ، ولم ترد «من أجلهم» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «يتعارفون» ، وفي (م) : «تقارفون» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.


فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة ، لا جميعهم. فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ، ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك (١) ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ؛ ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، فيتعلّمون بعض علومنا الصحيحة ، فيتوجّهون به (٢) عند شيعتنا ، وينتقصون (٣) بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ـ لعنه الله ـ على الحسين بن عليّ عليه‌السلام» (٤) ، انتهى.

دلّ هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق على جواز قبول

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «لتلك».

(٢) «به» من (ص) والمصدر.

(٣) كذا في (ر) ، (ص) ، (ل) والمصدر ، وفي (ت) ، (ظ) و (م) : «ينتقضون».

(٤) الاحتجاج ٢ : ٥٠٨ ـ ٥١٢ ، الحديث ٣٣٧ ، وتفسير العسكري : ٢٩٩ ـ ٣٠١.


قول من عرف بالتحرّز عن الكذب وإن كان ظاهره اعتبار العدالة بل ما فوقها ، لكنّ المستفاد من مجموعه : أنّ المناط في التصديق هو التحرّز عن الكذب ، فافهم.

روايةُ اُخرى

ومثل ما عن أبي الحسن عليه‌السلام فيما كتبه جوابا عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدين ، قال :

«اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، كثير القدم في أمرنا» (١).

وقوله عليه‌السلام في رواية اخرى :

روايةُ اُخرى

«لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ؛ فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ؛ إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ... الحديث» (٢).

وظاهرهما (٣) وإن كان الفتوى ، إلاّ أنّ الإنصاف شمولهما (٤) للرواية بعد التأمّل ، كما تقدّم في سابقيهما (٥).

رواية الحسين ابن روح

ومثل ما في كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد الله الكوفيّ ـ خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح ـ حيث سأله أصحابه عن

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

(٣) كذا في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) ، وفي (ت) ، (ل) و (ه) : «ظاهرها».

(٤) كذا في (ت) ، (ر) ، (ص) و (م) ، وفي (ظ) ، (ل) و (ه) : «شمولها».

(٥) كذا في (ظ) و (م) ، وفي (ر) و (ص) : «سابقتهما» ، وفي (ت) و (ه) : «سابقتها» ، وفي (ل) : «سابقيها».


كتب الشلمغانيّ ، فقال الشيخ : أقول فيها ما قاله العسكريّ عليه‌السلام في كتب بني فضّال ، حيث قالوا له (١) : «ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (٢).

فإنّه دلّ بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضّال ، وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقات ورواياتهم ؛ ولهذا أنّ الشيخ الجليل المذكور الذي لا يظنّ به القول في الدين بغير السماع من الإمام عليه‌السلام قال : أقول في كتب الشلمغانيّ ما قاله العسكريّ عليه‌السلام في كتب بني فضّال ، مع أنّ هذا الكلام بظاهره قياس باطل.

رواية المحاسن

ومثل ما ورد مستفيضا في المحاسن وغيره : «حديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير لك من الدّنيا وما فيها من ذهب وفضّة» (٣). وفي بعضها : «يأخذ صادق عن صادق» (٤).

رواية الكشيّ

ومثل ما في الوسائل ، عن الكشّيّ ، من أنّه ورد توقيع على القاسم بن العلاء ، وفيه : «إنّه لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ؛ قد علموا أنّا نفاوضهم سرّنا ونحمله إليهم» (٥).

مرفوعة الكناني

ومثل مرفوعة الكنانيّ ، عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :

__________________

(١) لم ترد «له» في (ظ) و (ل).

(٢) الغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.

(٣) المحاسن ١ : ٣٥٦ ، الحديث ١٥٧ و ١٥٨ ، والوسائل ١٨ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٦٧ ـ ٧٠.

(٤) المستدرك ١٧ : ٢٩٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٣.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٠٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.


(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١) ، قال : «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا فيسمعون حديثنا ويفتّشون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم ، فيعيه اولئك ويضيّعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» (٢).

دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يضيّعه ولا يعمل به.

٤ - ما يظهر منها جواز العمل بخبر الواحد

ومنها : الأخبار الكثيرة التي يظهر من مجموعها جواز العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كلّ واحد على ذلك نظر.

مثل النبويّ المستفيض بل المتواتر : «إنّه من حفظ على امّتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة» (٣).

قال شيخنا البهائيّ قدس‌سره في أوّل أربعينه : إنّ دلالة هذا الخبر على حجّيّة خبر الواحد لا يقصر عن دلالة آية النفر (٤).

ومثل الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرواية والحثّ عليها ، وإبلاغ ما في كتب الشيعة (٥) ، مثل ما ورد في شأن الكتب التي

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٦٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥ ، وفيه : «مرفوعة الكناسي».

(٣) الوسائل ١٨ : ٦٦ ـ ٦٧ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٥٤ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ و ٦٢.

(٤) الأربعون حديثا : ٧١.

(٥) في (ر) ، (ظ) و (ل) ونسخة بدل (ص) بدل «الشيعة» : «الثقة».


دفنوها لشدّة التقيّة ، فقال عليه‌السلام : «حدّثوا بها فإنّها حقّ» (١).

ومثل ما ورد في مذاكرة الحديث والأمر بكتابته ، مثل قوله [عليه‌السلام] للراوي : «اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ؛ فإنّه يأتي زمان هرج ، لا يأنسون إلاّ بكتبهم» (٢).

وما ورد في ترخيص النقل بالمعنى (٣).

وما ورد مستفيضا بل متواترا ، من قولهم عليهم‌السلام : «اعرفوا منازل الرجال منّا بقدر روايتهم عنّا» (٤).

وما ورد من قولهم عليهم‌السلام : «لكلّ رجل منّا من يكذب عليه» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة ، وإنّ من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار» (٦).

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّا أهل بيت صدّيقون ، لا نخلو من

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨ ، وفي المصدر بدل «بني عمّك» : «إخوانك».

(٣) الوسائل ١٨ : ٥٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٤) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣ ، والصفحة ١٠٩ ، نفس الباب ، الحديث ٤١.

(٥) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ورواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ، المعتبر ١ : ٢٩.

(٦) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ورواه في المعتبر مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعتبر ١ : ٢٩ ، وورد قريب منه في الوسائل ١٨ : ١٥٣ ، الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، ضمن الحديث الأوّل.


كذّاب يكذب علينا» (١).

وقوله عليه‌السلام : «إنّ الناس اولعوا بالكذب علينا ، كأنّ الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره» (٢).

وقوله عليه‌السلام : «لكلّ منّا من يكذب عليه» (٣).

فإنّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذّابة ، والاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة.

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها : رضا الأئمّة عليهم‌السلام بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع.

القدر المتيقّن من الأخبار اعتبار الوثاقة

وقد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة (٤) ، إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال ؛ كما دلّ عليه ألفاظ «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة ، وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها.

عدم اعتبار العدالة

وأمّا العدالة ، فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل في كثير منها التصريح بخلافه ، مثل رواية العدّة الآمرة بالأخذ بما رووه عن عليّ عليه‌السلام ، والواردة في كتب بني فضّال ، ومرفوعة الكنانيّ وتاليها (٥).

__________________

(١) البحار ٢ : ٢١٧ ، الحديث ١٢ ، وفيه : «صادقون».

(٢) البحار ٢ : ٢٤٦ ، ضمن الحديث ٥٨ ، وسيأتي الحديث بكامله في الصفحة ٣٢٥.

(٣) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ولعلّه منقول بالمعنى.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٩٣ (الفائدة الثامنة).

(٥) تقدّمت بأجمعها في الصفحة ٣٠٢ و ٣٠٦ ـ ٣٠٧.


نعم ، في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في الشيعة (١) ، لكنّه محمول على غير الثقة أو على أخذ الفتوى ؛ جمعا بينها وبين ما هو أكثر منها ؛ وفي رواية بني فضّال شهادة على هذا الجمع.

مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرواية بأنّهم ممّن خانوا الله ورسوله يدلّ على انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة ؛ فإنّ الغير الإماميّ الثقة ـ مثل ابن فضّال وابن بكير ـ ليسوا خائنين في نقل الرواية ، وسيأتي توضيحه عند ذكر الإجماع إن شاء الله.

__________________

(١) مثل ما تقدّم في الصفحة ٣٠٥.


[الثالث : الإجماع](١)

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بالإجماع من وجوه :

وأمّا الإجماع ، فتقريره من وجوه :

أحدها : الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ، وطريق تحصيله أحد وجهين على سبيل منع الخلوّ :

١ ـ الإجماع في مقابل السيّد وأتباعة وتحصيله بطريقين

أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين فيحصل من ذلك : القطع بالاتّفاق الكاشف عن رضا الإمام عليه‌السلام بالحكم ، أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة.

أ ـ تتبّع أقوال العلماء

ولا يعتنى بخلاف السيّد وأتباعه ؛ إمّا لكونهم معلومي (٢) النسب كما ذكره الشيخ في العدّة (٣) ، وإمّا للاطلاع على أنّ ذلك لشبهة حصلت لهم ، كما ذكره العلاّمة في النهاية (٤) ويمكن أن يستفاد من العدّة أيضا ، وإمّا لعدم اعتبار اتّفاق الكلّ في الإجماع على طريق المتأخّرين المبنيّ على الحدس.

ب ـ تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّية

والثاني : تتبّع الإجماعات المنقولة في ذلك : فمنها : ما حكي عن الشيخ قدس‌سره في العدّة في هذا المقام ، حيث قال :

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (ل) : «معلوم».

(٣) العدّة ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.


وأمّا ما اخترته من المذهب فهو : أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن أحد الأئمّة عليهم‌السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ـ ؛ لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم كما تقدّمت القرائن ـ ، جاز العمل به.

دعوى الشيخ الطوسي الإجماع على حجيّة الخبر الواحد

والذي يدلّ على ذلك : إجماع الفرقة المحقّة ؛ فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه ، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله.

هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة صلوات الله عليهم إلى زمان جعفر بن محمّد عليه‌السلام الذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ؛ لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.

والذي يكشف عن ذلك : أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ منهم واحد و (١) عمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يكن اعتقاده ، ردّوا قوله وأنكروا عليه وتبرّءوا من قوله ، حتّى أنّهم يتركون

__________________

(١) «و» من (ه).


تصانيف من وصفناه ورواياته لمّا كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر.

قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر ، أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصّون بطريقه ، وأمّا (١) ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم ، فقد بيّنّا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنّا الفرق بين ذلك وبين القياس ، وأنّه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد علم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتّى أنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك لأنّ السمع لم يرد به ، وما رأينا أحدا تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتابا ، ولا أملى فيه مسألة ، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك؟

قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد ، إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون خلافها ، وذلك صحيح على

__________________

(١) كذا في (ص) و (م) ، وفي غيرهما والمصدر : «فأمّا».


ما قدّمناه ، ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ، إلاّ مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها. فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم ؛ لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه (١).

على أنّ الذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة بين أقوال الطائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين ، وكلّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يعتدّ بذلك القول ؛ لأنّ قول الطائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيهم معصوم ، فإذا كان القول من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ، ووجب المصير إليه على ما بيّنته في الإجماع (٢) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد ، والشرع ورد به ، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة المحقّة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامّة؟

ثمّ أجاب عن ذلك : بأنّ خبر الواحد إذا كان دليلا شرعيّا فينبغي أن يستعمل بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارع يرى العمل بخبر طائفة خاصّة ، فليس لنا التعدّي إلى غيرها. على أنّ العدالة شرط في الخبر بلا خلاف ، ومن خالف الحقّ لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه.

__________________

(١) في (ص) زيادة : «وأمّا من أحال ذلك عقلا فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله ، وبيّنا أنّ ذلك جائز ، فمن أنكره كان محجوجا بذلك».

(٢) العدّة ١ : ١٢٦ ـ ١٢٩.


ثمّ أورد على نفسه : بأنّ العمل بخبر الواحد يوجب كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين.

ثمّ أجاب ـ أوّلا ـ : بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر الواحد إذا كان هناك خبران (١) متعارضان ؛ فإنّه يقول مع عدم الترجيح بالتخيير ، فإذا اختار كلا منهما إنسان لزم كون الحقّ في جهتين ، وأيّد ذلك : بأنّه قد سئل الصادق عليه‌السلام عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ، فقال عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم» (٢). ثمّ قال بعد ذلك :

فإن قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ، ونحن نعلم أنّ رواتها كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتفويض وغير ذلك من الغلوّ والتناسخ وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟

قلنا لهم : ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ أنّه نقل لم يدلّ على أنّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ؛ ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الروايات ، لا لأنّه معتقد ذلك ، ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل اعتمدنا على العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم ، وأمّا مجرّد الرواية فلا حجّيّة (٣) فيه على حال.

__________________

(١) في (ه) زيادة : «متوازيان».

(٢) انظر الوسائل ٣ : ١٠١ ، الباب ٧ من أبواب المواقيت ، الحديث ٣ ، والكافي ١ : ٦٥ ، باب اختلاف الحديث ، الحديث ٥ ، والبحار ٢ : ٢٣٦ و ٢٥٢ ، الأحاديث ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ و ٦٩.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) والمصدر : «حجّة».


فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الروايات ، وأكثر رواتها المجبرة والمشبّهة والمقلّدة والغلاة والواقفيّة والفطحيّة وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به؟

وإن عوّلتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم ، وذلك يدلّ على جواز العمل بأخبار الكفّار والفسّاق.

قيل لهم : لسنا نقول إنّ جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه.

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك به.

وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده : أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل ، معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه.

على أنّ من أشاروا إليه (١) لا نسلّم أنهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة.

وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين ؛ لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعة ليس يقف حصول المعرفة على حصولها ، كما قلنا في أصحاب الجملة.

وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ؛ لأنّهم

__________________

(١) في (ت) و (ه) : «أشار إليهم».


إذا سألوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الأئمّة أو صحّة النبوّة قالوا روينا كذا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريقة أصحاب الجملة.

وذلك أنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجملة وقد حصل لهم المعارف بالله ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم.

وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصحّ أن يكون دليلا إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفة بالله ، وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين ، وهم عالمون على الجملة كما قرّرنا ، فما يتفرّع عليه من الخطأ لا يوجب التكفير ولا التضليل.

وأمّا الفرق الذين أشار إليهم من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان ، ثمّ ذكر الجوابين :

وحاصل أحدهما : كفاية الوثاقة في العمل بالخبر ؛ ولهذا قبل خبر (١) ابن بكير وبني فضّال وبني سماعة.

وحاصل الثاني : أنّا لا نعمل برواياتهم إلاّ إذا انضمّ إليها رواية غيرهم.

ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغلاة ومن هو متّهم في نقله ، وذكر الجوابين أيضا في روايات المجبّرة والمشبّهة ، بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ؛ لأنّ روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه لا تدلّ على ذهابهم إليه.

ثمّ قال :

__________________

(١) في (م) : «عمل بخبر».


فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن (١) الاعتماد على عملهم بها.

قيل لهم : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ؛ لأنّها اكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ؛ لأنّه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ؛ لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه. ولا بالسنّة (٢) المتواترة ؛ لعدم ذكر ذلك في أكثر الأحكام ، بل وجودها في مسائل معدودة. ولا بإجماع (٣) ؛ لوجود الاختلاف في ذلك.

فعلم : أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة. ومن ادّعى القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم ضرورة خلافه ، ومدافعا لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه.

ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ،

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) : «لم يكن».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما والمصدر : «في السنّة».

(٣) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «في إجماع» ، وفي المصدر : «في الإجماع».


ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه ، انتهى.

ثمّ أخذ في الاستدلال ـ ثانيا ـ على جواز العمل بهذه الأخبار : بأنّا وجدنا أصحابنا مختلفين في المسائل الكثيرة في جميع أبواب الفقه ، وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ، ولم يعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ، فدلّ ذلك على جوازه عندهم.

ثمّ استدلّ ـ ثالثا ـ على ذلك : بأنّ الطائفة وضعت الكتب لتمييز الرجال الناقلين لهذه الأخبار وبيان أحوالهم من حيث العدالة والفسق ، والموافقة في المذهب والمخالفة ، وبيان من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه في التصانيف ، وهذه عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه ، فلو لا جواز العمل برواية من سلم عن الطعن لم يكن فائدة لذلك كلّه (١) ، انتهى المقصود من كلامه ، زاد الله في علوّ مقامه.

وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه ، حتّى أنّه أشار في جملة (٢) كلامه إلى دليل الانسداد ، وأنّه لو اقتصر على الأدلّة العلميّة وعمل بأصل البراءة في غيرها ، لزم ما علم ضرورة من الشرع خلافه ، فشكر الله سعيه.

ثمّ إنّ من العجب أن غير واحد من المتأخّرين (٣) تبعوا صاحب

__________________

(١) العدّة ١ : ١٢٩ ـ ١٤٢.

(٢) في (ص) و (م) زيادة : «من».

(٣) سيأتي ذكرهم في الصفحة ٣٢١.


المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجّيّة الأخبار المجرّدة عن القرينة ، قال في المعالم على ما حكي عنه :

والإنصاف : أنّه لم يتّضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس‌سره ؛ إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه‌السلام واستفادة الأحكام منه (١) ، وكانت القرائن المعاضدة لها متيسّرة كما أشار إليه السيّد قدس‌سره ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه ، حيث قال في المعارج :

ذهب شيخنا أبو جعفر قدس‌سره إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبيّن : أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الذي تبيّن لي من كلامه. ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار ، حتّى لو رواها غير الإماميّ وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به (٢) ، انتهى.

قال بعد نقل هذا عن المحقّق : وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، لا ما نسبه العلاّمة إليه (٣) ، انتهى كلام صاحب المعالم.

__________________

(١) في غير (ص) والمصدر : «منهم».

(٢) المعارج : ١٤٧.

(٣) المعالم : ١٩٧ ـ ١٩٨.


المناقشة فيما ذكره صاحب العالم

وأنت خبير : بأنّ ما ذكره في وجه الجمع ـ من تيسّر القرائن وعدم اعتمادهم على الخبر المجرّد ـ قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة (١) ببداهة بطلانه ؛ حيث قال : إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة ، وأنّ المدّعي لها معوّل على ما يعلم ضرورة خلافه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. والظاهر ـ بل المعلوم ـ أنّه قدس‌سره لم يكن عنده كتاب العدّة.

كلام المحدّث الأسترابادي في موافقة الشيخ للسيّد المرتضى

وقال المحدّث الأسترابادي ـ في محكيّ الفوائد المدنيّة ـ : إنّ الشيخ قدس‌سره لا يجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم ، وذلك هو مراد المرتضى قدس‌سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه (٢) ، انتهى كلامه.

وقال بعض من تأخّر عنه من الأخباريّين (٣) في رسالته ، بعد ما استحسن ما ذكره صاحب المعالم :

كلام الشيخ حسين الكركي في ذلك أيضا

ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد قدس‌سرهما من كلام المحقّق قدس‌سره كما هو حقّه.

والذي يظهر منه : أنّه لم ير عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحقّق قدس‌سره ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا. وكم له من تحقيق أبان به من غفلات المتأخّرين ، كوالده وغيره. وفيما ذكره كفاية لمن طلب الحقّ وعرفه ؛ وقد تقدّم كلام الشيخ ، وهو صريح فيما فهمه

__________________

(١) في الصفحة ٣١٨.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٦٧.

(٣) هو الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي في كتاب هداية الأبرار ، كما سيأتي ، انظر شرح الوافية (مخطوط) : ١٨٦.


المحقّق قدس‌سره ، وموافق لما يقوله السيّد قدس‌سره ، فليراجع.

والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم : ما ذكره الشيخ في العدّة : من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الإماميّ ، ولم يتأمّل بقيّة الكلام كما تأمّله المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يجوّز العمل بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب واجتمعوا على جواز العمل بها ، وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ؛ وإلاّ فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمّة صلوات الله عليهم ـ مع قدرتهم على أخذ اصول الدين وفروعه منهم عليهم‌السلام بطريق اليقين ـ أن يعوّلوا فيها على أخبار الآحاد المجرّدة ، مع أنّ مذهب العلاّمة (١) وغيره (٢) أنّه لا بدّ في اصول الدين من الدليل القطعيّ ، وأنّ المقلّد في ذلك خارج عن ربقة الإسلام؟ وللعلاّمة وغيره كثير من هذه الغفلات ؛ لالفة أذهانهم باصول العامّة.

ومن تتبّع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريّين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للعلم ، وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء والافتاء ، والله الهادي (٣) ، انتهى كلامه.

المناقشة في ما أفاده المحدّث الأسترابادي والشيخ الكركي

أقول : أمّا دعوى دلالة كلام الشيخ في العدّة على عمله بالأخبار

__________________

(١) انظر الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٤٨.

(٢) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٣١ ، والمحقّق في المعارج : ١٩٩ ، والشهيد الأوّل في الألفيّة : ٣٨ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٢١.

(٣) هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار : ٦٨ ـ ٦٩.


المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها وأنّه ليس مخالفا للسيّد قدس‌سرهما ، فهو كمصادمة الضرورة ؛ فإنّ في العبارة المتقدّمة من العدّة (١) وغيرها ممّا لم نذكرها مواضع تدلّ على مخالفة السيّد.

نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدوّنة ، إلاّ أنّ السيّد يدّعي تواترها له أو احتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ؛ كما صرّح به في محكيّ كلامه في جواب المسائل التبّانيّات : من أنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع على صحّتها ، إمّا بالتواتر أو بأمارة وعلامة تدلّ على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن وجدناها في الكتب مودعة بسند مخصوص من طريق الآحاد (٢) ، انتهى. والشيخ يأبى عن احتفافها بها (٣) ، كما عرفت (٤) كلامه السابق في جواب ما أورده على نفسه بقوله : فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، إلى آخر ما ذكره (٥).

ومجرّد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ ـ لدعوى الأوّل تواتره ، والثاني كون خبر الواحد حجّة ـ لا يلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ؛ فإنّ الخلاف فيها يثمر في خبر يدّعي السيّد تواتره ولا يراه

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٨.

(٢) المسائل التبّانيّات (رسائل الشريف المرتضى) ١ : ٢٦.

(٣) في (ت) و (ه) بدل «بها» : «بالقرينة».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «من».

(٥) راجع الصفحة ٣١٨.


الشيخ جامعا لشرائط الخبر المعتبر ، وفي خبر يراه الشيخ جامعا ولم يحصل تواتره للسيّد ؛ إذ ليس جميع ما دوّن في الكتب متواترا عند السيّد ولا جامعا لشرائط الحجّيّة عند الشيخ.

ثمّ إنّ إجماع الأصحاب الذي ادّعاه الشيخ على العمل بهذه الأخبار لا يصير قرينة لصحّتها بحيث تفيد العلم ، حتّى يكون حصول الإجماع للشيخ قرينة عامّة لجميع هذه الأخبار ؛ كيف وقد عرفت (١) إنكاره للقرائن حتّى لنفس المجمعين؟ ولو فرض كون الإجماع على العمل قرينة ، لكنّه غير حاصل في كلّ خبر بحيث يعلم أو يظنّ أنّ هذا الخبر بالخصوص وكذا ذاك وذاك ، ممّا اجتمع (٢) على العمل به ، كما لا يخفى.

بل المراد الإجماع على الرجوع إليها والعمل بها بعد حصول الوثوق من الراوي أو من القرائن ؛ ولذا استثنى القميّون كثيرا من رجال نوادر الحكمة (٣) مع كونه من الكتب المشهورة المجمع على الرجوع إليها ، واستثنى ابن الوليد (٤) من روايات العبيديّ ما يرويها عن يونس مع كونها في (٥) الكتب المشهورة.

والحاصل : أنّ معنى الإجماع على العمل بها عدم ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الإجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها.

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٨.

(٢) في (ت) و (ص) : «أجمع».

(٣) كتاب نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمّي.

(٤) هو محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، أبو جعفر ، شيخ القمّيين وفقيههم.

(٥) في (ه) : «من».


ثمّ إنّ ما ذكره (١) ـ من تمكّن أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام من أخذ الاصول والفروع بطريق اليقين ـ دعوى ممنوعة واضحة المنع. وأقلّ ما يشهد عليها : ما علم بالعين (٢) والأثر : من اختلاف أصحابهم صلوات الله عليهم في الاصول والفروع ؛ ولذا شكا غير واحد من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام إليهم اختلاف أصحابهم (٣) ، فأجابوهم تارة : بأنّهم عليهم‌السلام قد ألقوا الاختلاف بينهم حقنا لدمائهم ، كما في رواية حريز (٤) وزرارة (٥) وأبي أيّوب الخزّاز (٦) ، واخرى أجابوهم : بأنّ ذلك من جهة الكذّابين ، كما في رواية الفيض بن المختار ، قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال : وأيّ الاختلاف يا فيض؟ فقلت له : إنّي أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ، حتّى أرجع إلى المفضّل بن عمر ، فيوقفني من ذلك على ما تستريح به نفسي ، فقال عليه‌السلام : أجل (٧) ، كما ذكرت يا فيض ، إنّ الناس قد اولعوا بالكذب علينا ، كأنّ الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره ، إنّي احدّث أحدهم

__________________

(١) أي : الشيخ حسين الكركي العاملي في كلامه المتقدّم في الصفحة ٣٢٢.

(٢) في (ظ) و (م) بدل «بالعين» : «باليقين».

(٣) في غير (ص) : «أصحابه».

(٤) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ ، الحديث ١٤.

(٥) نفس المصدر ، الحديث ١٦.

(٦) نفس المصدر ، الحديث ١٥.

(٧) في المصدر زيادة : «هو».


بحديث ، فلا يخرج من عندي حتّى يتأوّله (١) على غير تأويله ؛ وذلك لأنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عند الله تعالى ، وكلّ يحبّ أن يدعى رأسا» (٢). وقريب منها : رواية داود بن سرحان (٣).

واستثناء القميّين كثيرا من رجال نوادر الحكمة معروف (٤) ، وقصّة ابن أبي العوجاء ـ أنّه قال عند قتله : قد دسست في كتبكم أربعة آلاف حديث ـ مذكورة في الرجال (٥). وكذا ما ذكره يونس بن عبد الرحمن : من أنّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام ، ثمّ عرضها على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة (٦) ، إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ما ذكره.

وأمّا ما ذكره (٧) : من عدم عمل الأخباريّين في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة ، ففيه :

أنّ الأظهر في مذهب الأخباريّين ما ذكره العلاّمة (٨) : من أنّ الأخباريّين لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد.

__________________

(١) في (ظ) : «يؤوّله».

(٢) اختيار معرفة الرجال ١ : ٣٤٧ ، الحديث ٢١٦.

(٣) نفس المصدر ١ : ٣٩٩ ، الحديث ٢٨٧.

(٤) كما تقدّم في الصفحة ٣٢٤.

(٥) انظر أمالي السيّد المرتضى ١ : ٩٥.

(٦) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

(٧) أي : الشيخ الكركي العاملي في كلامه المتقدّم في الصفحة ٣٢٢.

(٨) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.


ولعلّهم المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السابق (١) في المقلّدة (٢) : أنّهم إذا سألوا عن التوحيد وصفات الأئمّة و (٣) النبوّة ، قالوا : روينا كذا ، وأنّهم يروون في ذلك الأخبار.

وكيف كان : فدعوى دلالة كلام الشيخ في العدّة على موافقة السيّد في غاية الفساد ، لكنّها غير بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ؛ لأنّه إذا ادّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار التي أودعها الشيخ في كتابيه ، فكيف يرضى للشيخ ومن تقدّم عليه من المحدّثين أن يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة؟

عذر صاحب المعالم

وأمّا صاحب المعالم قدس‌سره ، فعذره أنّه لم يحضره عدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع ، كما حكي عن بعض حواشيه (٤) واعترف به هذا الرجل (٥).

وأمّا المحقّق قدس‌سره ، فليس في كلامه المتقدّم (٦) منع دلالة كلام الشيخ على حجّيّة خبر الواحد المجرّد مطلقا ، وإنّما منع من دلالته على الإيجاب الكلّيّ وهو : أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يعمل به ، وخصّ مدلوله

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٧.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «من».

(٣) في غير (ه) : «أو».

(٤) ذكره المولى صالح المازندراني في حاشيته على المعالم ، انظر هامش المعالم (الطبعة الحجرية) : ١٩٧.

(٥) أي الشيخ حسين الكركي العاملي.

(٦) في الصفحة ٣٢٠.


بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ، وجعله موافقا لما اختاره في المعتبر : من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة بعد ذكر الأقوال فيها ، وهو : أنّ ما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطّراحه (١) ، انتهى.

والإنصاف : أنّ ما فهمه العلاّمة من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الإماميّ أظهر ممّا فهمه المحقّق من التقييد ؛ لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالإجماع على العمل بالروايات المدونة في كتب الأصحاب على حجّية مطلق خبر العدل الإماميّ ، بناء منه على أنّ الوجه في عملهم بها كونها أخبار عدول ، وكذا ما ادّعاه من الإجماع على العمل بروايات الطوائف الخاصّة من غير الإماميّة ؛ وإلاّ فلم يأخذه في عنوان مختاره ، ولم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ، فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، والله العالم وهو الهادي إلى الصواب.

التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ

ثمّ إنّه لا يبعد وقوع مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ـ مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب ـ في العمل بخبر الواحد ؛ فكم من مسألة فرعيّة وقع الاختلاف بينهما في دعوى الإجماع فيها ، مع أنّ المسألة الفرعيّة أولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ؛ لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب مفتى بها غالبا بالخصوص ـ نعم قد يتّفق دعوى الإجماع بملاحظة قواعد الأصحاب ـ والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كتبهم ، إنّما المعلوم من حالهم أنّهم عملوا بأخبار وطرحوا أخبارا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.


فلعلّ وجه عملهم بما عملوا كونه متواترا أو محفوفا عندهم ، بخلاف ما طرحوا ، على ما يدّعيه السيّد قدس‌سره على ما صرّح به في كلامه المتقدّم (١) : من أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة. ونصّ في مقام آخر (٢) على : أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة.

ويحتمل : كون الفارق بين ما عملوا وما طرحوا ـ مع اشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ـ فقد شرط العمل في أحدهما دون الآخر ، على ما يدّعيه الشيخ قدس‌سره على ما صرّح به في كلامه المتقدّم (٣) ، من الجواب عن احتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن.

نعم ، لا يناسب ما ذكرنا من الوجه تصريح السيّد بأنّهم شدّدوا الإنكار على العامل بخبر الواحد.

ولعلّ الوجه فيه : ما أشار إليه الشيخ في كلامه المتقدّم (٤) بقوله : إنّهم منعوا من الأخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابنا خلافها (٥).

واستبعد هذا صاحب المعالم ـ في حاشية منه على هامش المعالم ، بعد ما حكاه عن الشيخ ـ : بأنّ الاعتراف بإنكار عمل الإماميّة بأخبار

__________________

(١) في الصفحة ٣٢٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢.

(٣) في الصفحة ٣١٨.

(٤) في الصفحة ٣١٣.

(٥) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «خلافه».


الآحاد لا يعقل صرفه إلى روايات مخالفيهم ؛ لأنّ اشتراط العدالة عندهم وانتفاءها في غيرهم كاف في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه (١) ، انتهى.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب والتجنّن به في مقام لا يمكنهم التصريح بفسق الراوي ، فاحتالوا في ذلك بأنّا لا نعمل إلاّ بما حصل لنا القطع بصدقه بالتواتر أو (٢) بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون ، وفي عبارة الشيخ ـ المتقدّمة (٣) ـ إشارة إلى ذلك ؛ حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد بصورة المناظرة مع خصومهم.

الجمع بين دعوى السيّد والشيخ قدس‌سرهما

والحاصل : أنّ الإجماع الذي ادّعاه السيّد قدس‌سره قوليّ ، وما ادّعاه الشيخ قدس‌سره إجماع عمليّ ، والجمع بينهما يمكن بحمل عملهم على ما احتفّ بالقرينة عندهم ، وبحمل قولهم على ما ذكرنا من الاحتمال في دفع الروايات الواردة فيما لا يرضونه من المطالب ، والحمل الثاني مخالف لظاهر القول ، والحمل الأوّل ليس مخالفا لظاهر العمل ؛ لأنّ العمل مجمل من أجل (٤) الجهة التي وقع عليها.

عدم صحّة هذا الجمع

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل كما سيأتي (٥) ،

__________________

(١) حكى المولى صالح المازندراني هذه الحاشية في حاشيته على المعالم ، انظر هامش المعالم (الطبعة الحجريّة) : ١٩٩.

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «و».

(٣) في الصفحة ٢١٣.

(٤) لم ترد «أجل» في (ل).

(٥) انظر الصفحة ٣٣١ ـ ٣٣٢.


فلا بدّ من حمل قول من حكى عنهم السيّد المنع ، إمّا على ما ذكرنا : من إرادة دفع أخبار المخالفين التي لا يمكنهم ردّها بفسق الراوي ، وإمّا على ما ذكره الشيخ : من كونهم جماعة معلومي النسب لا يقدح مخالفتهم بالإجماع.

الجمع بوجه آخر

ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر (١) ، وهو : أنّ مراد السيّد قدس‌سره من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان ؛ فإنّ المحكيّ عنه قدس‌سره في تعريف العلم : أنّه ما اقتضى سكون النفس (٢) ، وهو الذي ادّعى بعض الأخباريّين (٣) : أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.

فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن : تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلا ، وهي موافقة الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو دليل العقل ، ومراد السيّد من القرائن التي ادّعى في عبارته المتقدّمة (٤) احتفاف أكثر الأخبار بها : هي الامور (٥) الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية ، بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما ، وحينئذ فيحمل إنكار الإماميّة للعمل بخبر الواحد على إنكارهم للعمل به تعبّدا ، أو (٦) لمجرّد حصول رجحان بصدقه على ما يقوله المخالفون.

__________________

(١) في (ر) و (ص) ونسخة بدل (ت) بدل «آخر» : «أحسن».

(٢) الذريعة ١ : ٢٠.

(٣) وهو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٦٣.

(٤) في الصفحة ٣٢٣.

(٥) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «الخارجيّة» ، وفي (ظ) زيادة : «الخارجة».

(٦) في (م) : «و».


والإنصاف : أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوى الإجماع على أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس ولو بمجرّد وثاقة الراوي وكونه سديدا في نقله لم يطعن في روايته.

هذا الوجه أحسن الوجوه

ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي (١) الشيخ والسيّد قدس‌سرهما ، خصوصا مع ملاحظة تصريح السيّد قدس‌سره في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة (٢) ، وتصريح الشيخ قدس‌سره في كلامه المتقدّم (٣) بإنكار ذلك.

وممّن نقل الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد : السيّد الجليل رضيّ الدين بن طاوس ، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على السيّد قدس‌سره :

دعوى ابن طاووس الإجماع على حجيّة الخبر الواحد

ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة تعمل (٤) بأخبار الآحاد في الامور الشرعيّة؟ ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى (٥) وعلماء الشيعة الماضين (٦) عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد ابن الحسن الطوسي في كتاب العدّة ، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار

__________________

(١) في (ل) : «كلام».

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «بالقرائن».

(٣) في الصفحة ٣١٨.

(٤) في (ر) و (ص) : «لا تعمل».

(٥) شطب على «والمرتضى» في (ت).

(٦) في (ر) : «والماضين».


الشيعة وغيرهم من المصنّفين (١) ، انتهى.

وفيه دلالة على : أنّ غير الشيخ من العلماء أيضا ادّعى الإجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد.

دعوى العلاّمة الإجماع أيضاً

وممّن نقل الإجماع أيضا : العلاّمة رحمه‌الله في النهاية حيث قال : إنّ الأخباريّين منهم لو يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصوليّين منهم ـ كأبي جعفر الطوسيّ وغيره ـ وافقوا (٢) على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ؛ لشبهة حصلت لهم (٣) ، انتهى.

دعوى المحدّث المجلسي الإجماع كذلك

وممّن ادّعاه أيضا : المحدّث المجلسيّ قدس‌سره في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد (٤).

ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس‌سره من الأخباريّين ، يمكن أن يكون مثل الصدوق (٥) وشيخه قدس‌سرهما (٦) ؛ حيث أثبتا السهو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ؛ لبعض أخبار الآحاد ، وزعما أنّ نفيه عنهم عليهم‌السلام أوّل درجة في الغلوّ ،

__________________

(١) لم نعثر عليه ، ولا على من حكاه.

(٢) كذا في (ت) و (ه) والمصدر ، نعم «وغيره» من المصدر فقط ، وفي غيرها بدل «وغيره ـ إلى ـ الواحد» : «عمل بها».

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

(٤) انظر البحار ٢ : ٢٤٥ ، ذيل الحديث ٥٥.

(٥) انظر الفقيه ١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، ذيل الحديث ١٠٣١.

(٦) وهو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، انظر نفس المصدر.


ويكون ما تقدّم في كلام الشيخ (١) من المقلّدة الذين إذا سألوا عن التوحيد وصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام قالوا : روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار. وقد نسب الشيخ قدس‌سره ـ في هذا المقام من العدّة ـ العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غفلة أصحاب الحديث.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون الشبهة التي ادّعى العلاّمة قدس‌سره حصولها للسيّد وأتباعه ، هو : زعم الأخبار التي عمل بها الأصحاب ودوّنوها في كتبهم محفوفة عندهم بالقرائن ، أو أنّ من قال من شيوخهم بعدم حجّيّة أخبار الآحاد أراد بها مطلق الأخبار ، حتّى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثاقة الراوي ، أو أنّ مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة لأجل شبهة حصلت له ، فخالف المتّفق عليه بين الأصحاب.

ثمّ إنّ دعوى الإجماع (٢) على العمل بأخبار الآحاد ، وإن لم نطّلع (٣) عليها صريحة في كلام غير الشيخ وابن طاوس والعلاّمة والمجلسي قدّست أسرارهم ، إلاّ أنّ هذه الدعوى منهم مقرونة بقرائن تدلّ على صحّتها وصدقها ، فخرج عن الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرّد عن القرينة ، ويدخل في المحفوف بالقرينة ؛ وبهذا الاعتبار يتمسّك به (٤) على حجّيّة الأخبار.

اعتراف السيّد بعمل الطائفة بأخبار الآحاد :

بل السيّد قدس‌سره قد اعترف في بعض كلامه المحكيّ ـ كما يظهر منه ـ

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٧.

(٢) في غير (ر) زيادة : «صريحا».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «لم يطّلع».

(٤) كذا في (ت) ، وفي (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «بها».


بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه يدّعي أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة كعدم عملهم بالقياس ، فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة.

قال في الموصليّات على ما حكي عنه في محكيّ السرائر :

كلام السيّد في الموصليّات

إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام ، حتّى رووا عن أئمّتهم عليهم‌السلام في ما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح : أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا يناقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع عليها بما هو (١) مشتبه وملتبس مجمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّي إلى العلم ، وكذلك نقول في أخبار الآحاد (٢) ، انتهى المحكيّ عنه.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ اعتراف بما (٣) يظهر منه عمل الشيوخ بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه قدس‌سره ادّعى معلوميّة خلافه من مذهب الإماميّة ، فترك هذا الظهور أخذا بالمقطوع ، ونحن نأخذ بما ذكره أوّلا ؛ لاعتضاده بما يوجب الصدق ، دون ما ذكره أخيرا ؛ لعدم ثبوته إلاّ من قبله ، وكفى

__________________

(١) كذا في المصدر.

(٢) المسائل الموصليات الثالثة (رسائل الشريف المرتضى) ١ : ٢١٠ ـ ٢١١ ، وحكى عنه في السرائر ١ : ٥٠.

(٣) لم ترد «اعتراف بما» في (ر) و (ص).


القرائن على صدق الإجماع المدّعى من الشيخ

بذلك موهنا ، بخلاف الإجماع المدّعى من الشيخ والعلاّمة ؛ فإنّه معتضد بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه وأنّ الأصحاب عملوا بالخبر الغير العلميّ في الجملة.

١ - ما ادّعاه الكشّي

فمن تلك القرائن : ما ادّعاه الكشّيّ ، من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة (١) ؛ فإنّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحا بمعنى عملهم به ، لا القطع بصدوره ؛ إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصحّة ، مع أنّ الصحّة عندهم ـ على ما صرّح به غير واحد (٢) ـ عبارة عن الوثوق والركون ، لا القطع واليقين.

٢ - دعوى النجاشي

ومنها : دعوى النجاشيّ أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب (٣). وهذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم بأنّه لا يروي أو لا يرسل إلاّ عن ثقة ؛ فلو لا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن وجه لقبول مراسيل ابن أبي عمير الذي لا يروي إلاّ عن الثقة.

والاتّفاق المذكور قد ادّعاه الشهيد في الذكرى (٤) أيضا. وعن

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٥٠٧ ، الترجمة ٦٧٣٩.

(٢) كالشيخ البهائي ، انظر مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي) : ٢٦٩ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ١ : ١٤ ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٨٤ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٣٠٩.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٣٢٦ ، رقم الترجمة ٨٨٧.

(٤) الذكرى ١ : ٤٩.


كاشف الرموز تلميذ المحقّق : أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي (١).

ومنها : ما ذكره ابن إدريس ـ في رسالة خلاصة الاستدلال التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ـ في مقام دعوى الإجماع على المضايقة ، وأنّها ممّا أطبقت عليه الإماميّة إلاّ نفر يسير من الخراسانيّين ، قال في مقام تقريب الإجماع :

إنّ ابني بابويه والأشعريّين : كسعد بن عبد الله وسعد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ، والقمّيين أجمع : كعليّ بن إبراهيم ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة ؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته (٢) ، انتهى.

فقد استدلّ على مذهب الإماميّة : بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم إلى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ذهابهم إلى المضايقة.

وليت شعري : إذا علم ابن إدريس أنّ مذهب هؤلاء ـ الذين هم أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ويحصل العلم بقول الإمام عليه‌السلام من اتّفاقهم ـ وجوب العمل برواية الثقة وأنّه لا يحلّ ترك العمل بها ، فكيف تبع السيّد في مسألة خبر الواحد؟

إلاّ أن يدّعى أنّ المراد بالثقة من يفيد قوله القطع ، وفيه ما لا يخفى. أو يكون مراده ومراد السيّد قدس‌سرهما من الخبر العلميّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان لا ما يفيد (٣) اليقين ، على ما ذكرناه سابقا في الجمع بين

__________________

(١) كشف الرموز ١ : ٤٥٢.

(٢) تقدّم نقل هذا الكلام من خلاصة الاستدلال في الصفحة ٢٠٧.

(٣) كذا في (ر) ، (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها بدل «يفيد» : «يوجب».


كلامي السيّد والشيخ قدس‌سرهما (١).

٤ - ما ذكره المحقّق قدس‌سره

ومنها : ما ذكره المحقّق في المعتبر في مسألة خبر الواحد ، حيث قال :

أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ؛ فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة عليّ» ، وقول الصادق عليه‌السلام : «إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه» (٢).

واقتصر بعضهم من هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به. وما علم أنّ الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ؛ إذ ما من مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل.

وافرط آخرون في طريق ردّ الخبر حتّى أحالوا استعماله عقلا. واقتصر آخرون ، فلم يروا العقل مانعا ، لكنّ الشرع لم يأذن في العمل به.

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسّط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب اطّراحه (٣) ، انتهى.

وهو ـ كما ترى ـ ينادي : بأنّ علماء الشيعة قد يعملون بخبر

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٣١.

(٢) تقدّم الحديثان في الصفحة ٣٠٨.

(٣) المعتبر ١ : ٢٩.


المجروح كما يعملون بخبر العدل ، وليس المراد عملهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ؛ لأنّ كلامه في الخبر الغير العلميّ ، وهو الذي أحال قوم استعماله عقلا ومنعه آخرون شرعا.

٥ - ما ذكره الشهيد والمفيد الثاني

ومنها : ما ذكره الشهيد في الذكرى (١) والمفيد الثاني ولد شيخنا الطوسي (٢) : من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه عند إعواز النصوص ؛ تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته. ولو لا عمل الأصحاب برواياته الغير العلميّة لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته.

٦ - ما ذكر المحدّث المجلسي

ومنها : ما ذكره المجلسي في البحار ـ في تأويل بعض الأخبار التي تقدّم ذكرها في دليل السيّد وأتباعه ممّا دلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور ـ : من أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالخبر الغير العلميّ متواتر بالمعنى (٣).

ولا يخفى : أنّ شهادة مثل هذا المحدّث الخبير الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار بعمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالخبر الغير العلميّ. ودعواه حصول القطع له بذلك من جهة التواتر ، لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد ، وسيأتي أنّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول المهمّة ادّعى أيضا تواتر الأخبار بذلك (٤).

__________________

(١) الذكرى ١ : ٥١.

(٢) كتبه قدس‌سره غير مطبوعة ، ولم نعثر على مخطوطها.

(٣) البحار ٢ : ٢٤٥ ، ذيل الحديث ٥٥.

(٤) لم نعثر عليه في ما سيأتي ، نعم تقدّم ذلك عن الوسائل ، راجع الصفحة ٣٠٩.


ومنها : ما ذكره شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين : من أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه. وذكر فيما يوجب الوثوق امورا لا تفيد إلاّ الظنّ (١).

ومعلوم أنّ الصحيح عندهم هو المعمول به ، وليس مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه أو لخلل آخر ؛ فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن إليه النفس وتثق به.

هذا ما حضرني من كلمات الأصحاب ، الظاهرة في دعوى الاتّفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلميّ في الجملة ، المؤيّدة لما ادّعاه الشيخ والعلاّمة.

ذهاب معظم الأصحاب إلى حجيّة الخبر الواحد

وإذا ضممت إلى ذلك كلّه ذهاب معظم الأصحاب بل كلّهم ـ عدا السيّد وأتباعه ـ من زمان الصدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر الغير العلميّ ، حتّى أنّ الصدوق تابع في التصحيح والردّ لشيخه ابن الوليد ، وأنّ ما صحّحه فهو صحيح وأنّ ما ردّه فهو مردود ـ كما صرّح به في صلاة الغدير (٢) ، وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب الرحمة (٣) ـ ، ثمّ ضممت إلى ذلك ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم كثير من الرواة في كون العمل بالخبر الغير العلميّ مسلّما عندهم ، مثل قولهم : فلان لا يعتمد على ما ينفرد به ، وفلان مسكون في روايته ، وفلان صحيح الحديث ، والطعن في بعض بأنّه يعتمد الضعفاء والمراسيل ،

__________________

(١) مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي) : ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٩٠ ، ذيل الحديث ١٨١٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ـ ٢٣ ، الحديث ٤٥.


و (١) غير ذلك ، وضممت إلى ذلك ما يظهر من بعض أسئلة الروايات السابقة : من أنّ العمل بالخبر الغير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرواة ، تعلم علما يقينيّا (٢) صدق ما ادّعاه الشيخ من إجماع الطائفة (٣).

والإنصاف : أنّه لم يحصل في مسألة يدّعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة (٤) والأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ، ما حصل في هذه المسألة ، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة ، اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب.

القدر المتيقّن هو الخبر المفيد للاطمئنان

لكنّ الإنصاف : أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان ، لا مطلق الظنّ. ولعلّه مراد السيّد من العلم كما أشرنا إليه آنفا (٥). بل ظاهر كلام بعض احتمال أن يكون مراد السيّد قدس‌سره من خبر الواحد غير مراد الشيخ قدس‌سره.

__________________

(١) في (ر) و (ص) بدل «و» : «إلى».

(٢) في غير (ص) ، (ظ) و (م) : «يقينا».

(٣) وردت هنا في (ر) زيادة ، وهي : «وحكى السيّد المحدّث الجزائري عمّن يثق به : أنّه قد زار السيّد صاحب المدارك المشهد الغروي ، فزاره العلماء وزارهم إلاّ المولى عبد الله التستري ، فقيل للسيّد في ذلك ، فاعتذر بأنّه لا يرى العمل بأخبار الآحاد فهو مبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها : أنّ من زار مبدعا فقد خرّب الدين.

وهذه حكاية عجيبة لا بدّ من توجيهها ، كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى المشار إليه ومسلكه في الفقه ، فراجع».

(٤) في (ت) و (ر) بدل «العظيمة» : «القطعيّة».

(٥) راجع الصفحة ٣٣١.


قال الفاضل القزويني في لسان الخواصّ ـ على ما حكي عنه ـ : إنّ هذه الكلمة أعني خبر الواحد ـ على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم ـ تستعمل في ثلاثة معان :

كلام الفاضل القزويني في تفسير «الخبر الواحد»

أحدها : الشاذّ النادر الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ، ويقابله ما عمل به كثيرون.

الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثّقات المحفوظ في الاصول المعمولة عند جميع خواصّ الطائفة ، فيشمل الأوّل ومقابله.

الثالث : ما يقابل المتواتر القطعيّ الصدور ، وهذا يشمل الأوّلين وما يقابلهما.

ثمّ ذكر ما حاصله : أنّ ما نقل إجماع الشيعة على إنكاره هو الأوّل ، وما انفرد السيّد قدس‌سره بردّه هو الثاني ، وأمّا الثالث ، فلم يتحقّق من أحد نفيه على الإطلاق (١) ، انتهى.

وهو كلام حسن. وأحسن منه ما قدمناه (٢) : من أنّ مراد السيّد من العلم ما يشمل الظنّ الاطمئنانيّ ، كما يشهد به التفسير المحكيّ عنه للعلم ، بأنّه : ما اقتضى سكون النفس (٣) ، والله العالم.

٢ - الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على العمل بخبر الواحد

الثاني من وجوه تقرير الإجماع :

أن يدّعى الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على وجوب العمل

__________________

(١) لسان الخواصّ (مخطوط) : ٤٢.

(٢) راجع الصفحة ٣٣١.

(٣) الذريعة ١ : ٢٠.


بالخبر الغير العلميّ في زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ؛ فإنّ الظاهر أنّ السيّد إنّما منع من ذلك لعدم الحاجة إلى خبر الواحد المجرّد ، كما يظهر من كلامه المتضمّن للاعتراض على نفسه بقوله :

كلام السيّد المرتضى قدس‌سره

فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلميّة ، وما يبقى من المسائل الخلافيّة يرجع فيها إلى التخيير (١).

وقد اعترف السيّد رحمه‌الله في بعض كلامه ـ على ما في المعالم (٢) ـ بل وكذا الحلّي في بعض كلامه (٣) ـ على ما هو ببالي ـ : بأنّ العمل بالظنّ متعيّن فيما لا سبيل فيه إلى العلم.

٣ - استقرار سيرة المسلمين على العمل بخبر الواحد

الثالث من وجوه تقرير الإجماع :

استقرار سيرة المسلمين طرّا على استفادة الأحكام الشرعيّة من أخبار الثقات المتوسّطة بينهم وبين الإمام عليه‌السلام أو المجتهد.

أترى : أنّ المقلّدين يتوقّفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد ، أو الزوجة تتوقّف فيما يحكيه زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، وراجع الصفحة ٣٢٩.

(٢) المعالم : ١٩٦ ـ ١٩٧ ، وانظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢١٠.

(٣) انظر السرائر ١ : ٤٦ و ٤٩.


يتعلّق بها إلى أن يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلميّ؟ وهذا ممّا لا شكّ فيه.

ودعوى : حصول القطع لهم في جميع الموارد ، بعيدة عن الإنصاف. نعم ، المتيقّن من ذلك صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال الخلاف.

وقد حكي اعتراض السيّد قدس‌سره على نفسه (١) : بأنّه لا خلاف بين الامّة في أنّ من وكلّ وكيلا أو استناب صديقا في ابتياع أمة أو عقد على امرأة في بلده أو في بلاد نائية ، فحمل إليه الجارية وزفّ إليه المرأة ، وأخبره أنّه أزاح العلّة في ثمن الجارية ومهر المرأة ، وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك : أنّ له وطأها والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك والزوج. وهذه سبيله مع زوجته وأمته إذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرجل بموت امرأته فيتزوّج اختها.

وكذا لا خلاف بين الامّة في أنّ للعالم أن يفتي وللعاميّ أن يأخذ منه ، مع عدم علم أنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه.

فأجاب بما حاصله : أنّه إن كان الغرض من هذا الردّ على من أحال التعبّد بخبر الواحد ، فمتوجّه ولا محيص (٢). وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ، فهذه مقامات ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة من

__________________

(١) لم ترد في (ظ) و (م) : «على نفسه».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «فلا محيص».


إجماع وغيره على أنحاء مختلفة ، في بعضها لا يقبل إلاّ إخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل إلاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد (١) ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمّي ، كما في الوكيل ومبتاع (٢) الأمة والزوجة في الحيض والطهر. وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام (٣).

أقول : المعترض حيث ادّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ، فقد لقّن الخصم طريق إلزامه والردّ عليه بأنّ هذه الموارد للإجماع ، ولو ادّعى استقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة وإن لم يطّلعوا على كون ذلك إجماعيّا عند العلماء ، كان أبعد عن الردّ ، فتأمّل.

٤ ـ استقرار طريقة العقلاء على العمل بخبر الواحد

الرابع :

استقرار طريقة العقلاء طرّا على الرجوع إلى خبر الثقة في امورهم العاديّة ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد.

فنقول : إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو ، وإلاّ وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة ، كما ردع في مواضع خاصّة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ؛ لأنّ اللازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «قول العدل الواحد» : «العلم».

(٢) لم ترد في (ر) و (ص) : «مبتاع».

(٣) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٣٧ ـ ٤١.


طاعة في العرف وترك ما يعدّ معصية كذلك.

فإن قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة (١) والأخبار المتظافرة بل المتواترة (٢) على حرمة العمل بما عدا العلم.

قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين ، وأنّ الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما :

الأوّل : أنّ العمل بالظنّ والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

والثاني : أنّ فيه طرحا لأدلّة الاصول العمليّة واللفظيّة التي اعتبرها الشارع عند عدم العلم بخلافها.

وشيء من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل ؛ لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء ؛ لأنّ حرمة التشريع ثابت عندهم ، والاصول العمليّة واللفظيّة معتبرة عندهم مع عدم الدليل على الخلاف ، ومع ذلك نجد (٣) بناءهم على العمل بالخبر الموجب للاطمئنان.

والسرّ في ذلك : عدم جريان الوجهين المذكورين بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ؛ لانتفاء تحقّق التشريع مع بنائهم على سلوكه في مقام الإطاعة والمعصية ؛ فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترك ما أخبر بحرمته لا يعدّ مشرّعا ، بل لا يشكّون في كونه

__________________

(١) الأنعام : ١١٦ ، الإسراء : ٣٦ ، يونس : ٣٦.

(٢) راجع الصفحة ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٣) لم ترد «نجد» في (ظ) و (م).


مطيعا ؛ ولذا يعوّلون عليه (١) في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع أنّ قبح التشريع عند العقلاء لا يختصّ بالأحكام الشرعيّة.

وأمّا الاصول المقابلة للخبر ، فلا دليل على جريانها في مقابل خبر الثقة ؛ لأنّ الاصول التي مدركها حكم العقل ـ لا الأخبار ؛ لقصورها عن إفادة اعتبارها ـ كالبراءة والاحتياط والتخيير ، لا إشكال في عدم جريانها في مقابل خبر الثقة بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به في أحكامهم العرفيّة ؛ لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة إلى الأحكام الشرعيّة والعرفيّة سواء.

وأمّا الاستصحاب ، فإن اخذ من العقل فلا إشكال في أنّه لا يفيد الظنّ في المقام. وان اخذ من الأخبار فغاية الأمر حصول الوثوق بصدورها دون اليقين.

وأمّا الاصول اللفظيّة كالإطلاق والعموم ، فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق به في مقابلها ، فتأمّل.

٥ ـ إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد

الخامس :

ما ذكره العلاّمة في النهاية : من إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ، وقد ذكر في النهاية مواضع كثيرة عمل فيها الصحابة بخبر الواحد (٢).

التأمّل في هذا الوجه

وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّه : إن اريد من الصحابة العاملين

__________________

(١) في (ص) و (ل) بدل «يعوّلون عليه» : «يقولون به».

(٢) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٥.


بالخبر من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجّة عليه‌السلام ، فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه‌السلام له.

وإن اريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كلّ ناعق ، فمن المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه‌السلام ؛ لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم.

ولعلّ هذا مراد السيّد قدس‌سره ، حيث أجاب عن هذا الوجه : بأنّه إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الذين يتحشّم (١) التصريح بخلافهم ، وإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم (٢).

إلاّ أن يقال : إنّه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام بل ولا أتباعه من الصحابة النكير على العاملين ؛ إظهارا للحقّ وإن لم يظنّوا الارتداع ؛ إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة التي أنكرها عليهم من أنكر ؛ لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السكوت على الرضا.

٦ ـ دعوى إجماع الإماميّة على وجوب الرجوع إلى الأخبار المدوّنة

السادس :

دعوى الإجماع من الإماميّة حتّى السيّد وأتباعه ، على وجوب الرجوع إلى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا المودعة في اصول الشيعة وكتبهم.

__________________

(١) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «يتجشّم».

(٢) انظر الذريعة ٢ : ٥٣٧.


ولعلّ (١) هذا هو الذي فهمه بعض (٢) من عبارة الشيخ المتقدّمة عن العدّة (٣) ، فحكم بعدم مخالفة الشيخ للسيّد قدس‌سرهما.

المناقشة في هذا الوجه أيضا

وفيه :

أوّلا : أنّه إن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بكلّ واحد واحد (٤) من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا علم خلافه بالعيان ، وإن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بها في الجملة ـ على اختلاف العاملين في شروط العمل ، حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم مطروحا عند آخر ـ فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتّفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ، وليس يوجد ذلك في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من ردّ بعض المشايخ ـ كالصدوق والشيخ ـ بعض الأخبار المودعة (٥) في الكتب المعتبرة بضعف السند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما.

وثانيا : أنّ ما ذكر من الاتّفاق لا ينفع حتّى في الخبر الذي علم اتّفاق الفرقة على قبوله والعمل به ؛ لأنّ الشرط في الاتّفاق العمليّ أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما ؛ ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة ـ يعلم (٦) برضا (٧) الإمام عليه‌السلام بعملهم ـ على النظر إلى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل

__________________

(١) لم ترد «لعلّ» في (ل).

(٢) هو الشيخ حسين الكركي العاملي المتقدّم كلامه في الصفحة ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٣) راجع الصفحة ٣١٢ ـ ٣١٩.

(٤) لم تتكرّر «واحد» في (ر) و (ظ).

(٥) في (ر) و (ه) ونسخة بدل (ص) : «المرويّة».

(٦) في (ت) و (ه) زيادة : «منه».

(٧) في (ر) و (ه) : «رضا».


أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم وامّا لآخر وبنتا لثالث وأمّ زوجة لرابع وبنت زوجة لخامس ، وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرميّة بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتّفاق الجماعة الكاشف عن رضا الإمام عليه‌السلام؟ بل لو رأى شخص الإمام عليه‌السلام ينظر إلى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسّي به؟ وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الذي يقع عليه.

فلا بدّ في الاتّفاق العمليّ من العلم بالجهة والحيثيّة التي اتّفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة ، ومرجع هذا إلى وجوب إحراز الموضوع في الحكم الشرعيّ المستفاد من الفعل.

ففيما نحن فيه : إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانّا بصدوره قاطعا بحجّية هذا الظنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ولا العلم بحجّية الظنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطإ من يعمل به لأجل مطلق الظنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين.


الرابع : الدليل العقلى

الاستدلال بالدليل العقلى على حجية خبر الواحد وهو من وجوه ، بعضها يختصّ بإثبات حجّية خبر الواحد ، وبعضها يثبت حجّية الظنّ مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر :

بالدليل العقلى على حجية خبر الواحد من وجوه

أمّا الأوّل ، فتقريره من وجوه :

أوّلها :

الوجه الإوّل العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام

ما اعتمدته سابقا ، وهو : أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم في كون (١) أكثر الأخبار بل جلّها ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ صادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛ وهذا يظهر بعد التأمّل في كيفيّة ورودها إلينا ، وكيفيّة اهتمام أرباب الكتب ـ من المشايخ الثلاثة ومن تقدّمهم ـ في تنقيح ما أودعوه (٢) في كتبهم ، وعدم الاكتفاء بأخذ الرواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم ؛ حذرا من كون ذلك الكتاب (٣) مدسوسا فيه من بعض الكذّابين.

فقد حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى ، أنّه جاء إلى الحسن بن عليّ الوشّاء وطلب إليه (٤) أن يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «أنّ».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «ودّعوه».

(٣) لم ترد «الكتاب» في (م).

(٤) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «وطلب منه».


لأبان بن عثمان الأحمر ، فلمّا أخرجهما ، قال : احبّ أن أسمعهما ، فقال : رحمك الله ما أعجلك؟! اذهب ، فاكتبهما واسمع من بعد (١) ، فقال (٢) : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فإنّي قد أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ (٣) ، كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام (٤).

وعن حمدويه ، عن أيّوب بن نوح : أنّه دفع (٥) إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا (٦) ؛ فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ؛ فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته (٧).

شدّة اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار

فانظر : كيف احتاطوا في الرواية عمّن لم يسمع من الثقات وإنّما وجد في الكتب.

وكفاك شاهدا : أنّ عليّ بن (٨) الحسن بن فضّال لم يرو كتب أبيه

__________________

(١) كذا في (ه) والمصدر ، وفي (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م). «من بعدي» ، وفي (ت) و (ر) : «من بعده».

(٢) وقعت في نقل هذه الحكاية اختلافات غير مهمّة بين النسخ ، وبينهما والمصدر.

(٣) كذا في المصدر ، وفي جميع النسخ : مائة شيخ.

(٤) رجال النجاشي : ٣٩ ، رقم الترجمة ٨٠.

(٥) في (ص) ، (ل) و (م) : «وقع عنده دفاتر».

(٦) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) بدل «إن شئتم ـ إلى ـ فافعلوا» : «إن تكتبوا ذلك».

(٧) اختيار معرفة الرجال ١ : ٧٩٥ ، الحديث ٩٧٦.

(٨) لم ترد «بن الحسن» في (ر) ، (ظ) و (م).


الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وإنّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد ، عن أبيه ، واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه كان صغير السنّ ، ليس له كثير معرفة بالروايات ، فقرأها على أخويه ثانيا (١).

والحاصل : أنّ الظاهر انحصار مدارهم على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب أو ممّن سمعه منه ، فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط من صاحب الكتاب ولو كان معلوم الانتساب ، مع اطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم.

حتّى أنّه ربما كانوا يتبعونهم في تصحيح الحديث وردّه ، كما اتّفق للصدوق بالنسبة إلى شيخه ابن الوليد قدس‌سرهما (٢).

وربما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدح بعيد المدخليّة في الصدق ؛ ولذا حكي عن جماعة منهم : التحرّز عن الرواية عمّن يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل وإن كان ثقة في نفسه ، كما اتّفق بالنسبة إلى البرقيّ (٣). بل يتحرّزون (٤) عن الرواية عمّن يعمل بالقياس ، مع أنّ عمله لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنسبة إلى الإسكافيّ ؛ حيث ذكر في ترجمته : أنّه كان يرى القياس ، فترك رواياته لأجل ذلك (٥).

وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ فعدل عنه وإن

__________________

(١) رجال النجاشي : ٢٥٨.

(٢) انظر الفقيه ٢ : ٩٠ ، ذيل الحديث ١٨١٧ ، وراجع الصفحة ٣٤٠.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٧٦ ، الرقم ١٨٢ ، ورجال العلاّمة الحلّي : ١٤ ، الرقم ٧.

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ظ) و (م) : «يحترزون».

(٥) انظر الفهرست للشيخ الطوسي : ٢٦٨ ، الرقم ٥٩٢.


كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة ، حتّى أذن لهم الإمام عليه‌السلام أو نائبه ، كما سألوا العسكري عليه‌السلام عن كتب بني فضّال ، وقالوا : إنّ بيوتنا منها ملاء (١) ، فأذن عليه‌السلام لهم (٢). وسألوا الشيخ أبا القاسم بن روح عن كتب ابن أبي عزاقر (٣) التي صنّفها قبل الارتداد عن مذهب الشيعة ، حتّى أذن لهم الشيخ في العمل بها (٤).

والحاصل : أنّ الأمارات الكاشفة عن اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرضا عليه‌السلام أكثر من أن تحصى ، ويظهر (٥) للمتتبّع.

الداعي إلى هذا الاهتمام

والداعي إلى شدّة الاهتمام ـ مضافا إلى كون تلك الروايات أساس الدين وبها قوام شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا قال الإمام عليه‌السلام في شأن جماعة من الرواة : «لو لا هؤلاء لاندرست آثار النبوّة» (٦). وأنّ الناس لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في كتبهم المؤلّفة في التواريخ التي

__________________

(١) كذا في الغيبة : ٣٨٩ ، وفي البحار ٢ : ٢٥٢ : «مليء» ، وفيه ٥١ : ٣٥٨ : «ملأى».

(٢) البحار ٢ : ٢٥٢ ، الحديث ٧٢ ، و ٥١ : ٣٥٨ ، باب احوال السفراء ، والغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٩ ، الرقم ٣٥٥ ، وانظر الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٣) كذا في (ه) والمصدر ، وفي (ص) ، (ل) و (م) : «ابن عذافر» ، وفي (ر) : «ابن عزاقر» ، وفي (ظ) : «ابن عذافر».

(٤) انظر المصادر المتقدّمة ، البحار والغيبة.

(٥) لم ترد «ويظهر» في (ت) ، (ظ) و (ه).

(٦) الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.


لا يترتّب على وقوع الكذب فيها أثر دينيّ ، بل (١) ولا دنيويّ ، فكيف في كتبهم المؤلّفة لرجوع من يأتي إليها في امور الدين ، على ما أخبرهم الإمام عليه‌السلام ب «أنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم» (٢) ، وعلى ما ذكره الكلينيّ قدس‌سره في ديباجة الكافي : من كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك ـ (٣) :

دسّ الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهما‌السلام

ما تنبّهوا له ونبّههم عليه الأئمّة عليهم‌السلام : من أنّ الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ؛ كما يظهر من الروايات الكثيرة :

منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرحمن على سيّدنا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال صلوات الله عليه : «إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام» (٤).

ومنها : ما عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان المغيرة بن سعد لعنه الله يتعمّد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه ـ المستترون بأصحاب أبي ـ يأخذون الكتب من

__________________

(١) لم ترد «بل» في (ت) و (ل).

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨.

(٣) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٩٠ ، رقم الترجمة ٤٠١.


أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي عليه‌السلام ... الحديث» (١).

ورواية الفيض بن المختار المتقدّمة (٢) في ذيل كلام الشيخ ، إلى غير ذلك من الروايات (٣).

وظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما علم إجمالا من الأخبار الكثيرة : من وجود الكذّابين ووضع الأحاديث (٤) ، فهو إنّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام.

مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ التي تنسب إلى بعض الأخباريّين (٥) ، أو دعوى الظنّ بصدور جميعها (٦) ، ولا ينافي (٧) ما نحن بصدده : من دعوى العلم الإجماليّ بصدور أكثرها أو كثير منها ، بل هذه دعوى بديهيّة.

والمقصود ممّا ذكرنا : دفع ما ربما يكابره المتعسّف الخالي عن التتبّع ، من منع هذا العلم الإجماليّ.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٩١ ، رقم الترجمة ٤٠٢.

(٢) في الصفحة ٣٢٥.

(٣) تقدّم بعضها في الصفحة ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(٤) في (ت) و (ه) : «الحديث».

(٥) انظر الفوائد المدنيّة : ٥٢ ـ ٥٣ ، وهداية الأبرار : ١٧ ، والحدائق ١ : ١٧.

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «التي يعترف بها المنصف بعد التأمّل في ما ذكرنا وتتبّع أضعافه من تراجم الرواة» ، مع اختلاف يسير.

(٧) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «ذلك».


ثمّ إنّ هذا العلم الإجماليّ إنّما هو متعلّق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ، وإلاّ فالعلم بوجود مطلق الصادر (١) لا ينفع ، فإذا ثبت العلم الإجماليّ بوجود الأخبار الصادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور ؛ لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه ؛ توصّلا إلى العمل بالأخبار الصادرة.

بل ربما يدّعى : وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض ، والعمل بمظنون الصدور أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين.

المناقشة في الوجه الأوّل

والجواب عنه :

أوّلا : أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل وجوب امتثال أحكام الله الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصادر عن الإمام عليه‌السلام إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم الله تعالى (٢) ، وحينئذ نقول : إنّ العلم الإجماليّ ليس مختصّا بهذه الأخبار ، بل نعلم إجمالا بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛ لوجود (٣) تكاليف كثيرة ، وحينئذ : فاللازم أوّلا الاحتياط ، ومع تعذّره أو تعسّره أو قيام الدليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظنّ بصدور الحكم الشرعيّ التكليفيّ عن الحجّة عليه‌السلام ، سواء كان المفيد للظنّ خبرا أو شهرة أو غيرهما ، فهذا الدليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة

__________________

(١) في (م) : «الصادرة».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «الواقعي».

(٣) في (ظ) و (م) : «بوجود» ، وفي (ص) و (ل) : «لوجوب».


كلّ ما ظنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن خبرا.

فإن قلت : المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار التي بأيدينا ، وأمّا صدور الأحكام المخالفة للاصول غير مضمون هذه الأخبار فهو غير معلوم لنا ولا مظنون.

قلت (١) : العلم الإجماليّ وإن كان حاصلا في خصوص هذه الروايات (٢) التي بأيدينا ، إلاّ أنّ العلم الإجماليّ حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ومن الأمارات الأخر المجرّدة عن الخبر التي بأيدينا المفيدة للظنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام ، وليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجماليّ الحاصل في المجموع بحيث يكون العلم الإجماليّ في المجموع مستندا إلى بعضها وهي الأخبار ؛ ولذا لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع الأمارات الأخر ، كان العلم الإجماليّ بحاله.

فهنا علم إجماليّ حاصل في الأخبار ، وعلم إجماليّ حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ؛ فالواجب مراعاة العلم الإجماليّ الثاني وعدم الاقتصار على مراعاة الأوّل.

نظير ذلك : ما إذا علمنا إجمالا بوجود شياه (٣) محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته إلى البعض الآخر ،

__________________

(١) في غير (ر) ، (ظ) و (ل) زيادة : «أوّلا» ، والصحيح عدمه لعدم وجود ثان له.

(٢) لم ترد «الروايات» في (م).

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «شاة».


وعلمنا أيضا بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه علم إجمالا بوجود الحرام فيها أيضا ؛ والكاشف عن ثبوت العلم الإجماليّ في المجموع ما أشرنا إليه سابقا : من أنّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة التي علم بوجود الحرام فيها قطعة توجب انتفاء العلم الإجماليّ فيها وضممنا إليها مكانها باقي الغنم ، حصل العلم الإجماليّ بوجود الحرام فيها أيضا ، وحينئذ : فلا بدّ (١) من أن نجري (٢) حكم العلم الإجماليّ في تمام الغنم إمّا بالاحتياط ، أو بالعمل بالمظنّة لو بطل وجوب الاحتياط. وما نحن فيه من هذا القبيل. ودعوى : أنّ سائر الأمارات المجرّدة لا مدخل لها في العلم الإجماليّ ، وأنّ هنا علما إجماليّا واحدا بثبوت الواقع بين الأخبار ، خلاف الانصاف.

المناقشة الثانية في الوجه الأول

وثانيا : أنّ اللازم من ذلك العلم الإجماليّ هو العمل بالظنّ في مضمون تلك الأخبار ؛ لما عرفت (٣) : من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم الله الذي يجب العمل به ، وحينئذ : فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ـ ولو من جهة الشهرة ـ يؤخذ به ، وكلّ خبر لم يحصل الظنّ (٤) بكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصدور ، فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصدور.

__________________

(١) في (ت) و (ر) : «لا بدّ».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «يجري».

(٣) راجع الصفحة ٣٥٧.

(٤) لم ترد «الظنّ» في (ظ) ، (ل) و (م).


المناقشة الثالثة في الوجه الأوّل

وثالثا : أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف ؛ لأنّه الذي يجب العمل به ، وأمّا الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها. نعم ، يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها.

وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة (١).

والحاصل : أنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلا متّبعا في مخالفة الاصول العمليّة والاصول اللفظيّة مطلقا ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور ، كما لا يثبت بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة بل كلّها ، فانتظر.

__________________

(١) وردت في (ت) ونسخة بدل (ه) زيادة ، وهي : «لأنّ العمل بالخبر من باب الاحتياط لا يوجب تخصيص العام وتقييد المطلق».


الوجه الثاني على حجية خبر الواحد : ما ذكره الفاضل التوني

الثاني :

ما ذكره في الوافية ـ مستدلا على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، بوجوه ـ قال :

الأوّل : أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالاصول الضروريّة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعيّ ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان (١) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده الفاضل التوني

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجماليّ ، كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل (٢) ؛ وإلاّ (٣) أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجماليّ في الباقي ، كأخبار العدول مثلا ؛ فاللازم حينئذ : إمّا الاحتياط

__________________

(١) الوافية : ١٥٩.

(٢) راجع الصفحة ٣٥٧.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «لما».


والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة.

إلاّ أن يقال : إنّ المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشروط.

وثانيا : أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالّة على الشرائط والأجزاء دون الأخبار الدالّة على عدمهما ، خصوصا إذا اقتضى الأصل الشرطيّة والجزئيّة.


الوجه الثالث : ما ذكره صاحب هداية المسترشدين

الثالث

ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين (١) ـ في حاشيته على المعالم ـ لإثبات حجّيّة الظنّ الحاصل من الخبر لا مطلقا ، وقد لخّصناه لطوله ، وملخّصه :

أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع ، بل الضرورة والأخبار المتواترة ، وبقاء هذا التكليف أيضا بالنسبة إلينا ثابت بالأدلّة المذكورة ، وحينئذ : فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ منهما (٢).

هذا حاصله ، وقد أطال قدس‌سره في النقض والإبرام بذكر الإيرادات والأجوبة على هذا المطلب.

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية

ويرد عليه : أنّ هذا الدليل بظاهره عبارة اخرى عن دليل الانسداد الذي ذكروه لحجّيّة الظنّ في الجملة أو مطلقا ؛ وذلك لأنّ المراد بالسنّة هو (٣) : قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، فإذا وجب علينا الرجوع إلى مدلول (٤) الكتاب والسنّة ولم نتمكّن من الرجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السنّة ، تعيّن الرجوع ـ باعتراف المستدلّ ـ إلى ما

__________________

(١) وهو الشيخ محمد تقي الأصفهاني ، صاحب هداية المسترشدين.

(٢) هداية المسترشدين : ٣٩٧ ، الوجه السادس.

(٣) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «هي».

(٤) لم ترد «مدلول» في (ت) و (ظ).


يظنّ (١) كونه مدلولا لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره ، وجب الأخذ به ، ولا اختصاص للحجّيّة بما يظنّ كونه مدلولا لأحد هذه الثلاثة من جهة حكاية أحدها التي تسمّى خبرا وحديثا في الاصطلاح.

نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدليل : الظنّ الحاصل بحكم الله من أمارة لا يظنّ كونه (٢) مدلولا لأحد الثلاثة ، كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الاستقراء أنّ الحكم كذا عند الله ولم يظنّ بصدوره عن الحجّة ، أو قطعنا بعدم صدوره عنه عليه‌السلام ؛ إذ ربّ حكم واقعيّ لم يصدر عنهم وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح.

لكن هذا نادر جدّا ؛ للعلم العاديّ بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو ببيان الحجّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، فكلّ ما ظنّ من أمارة بحكم الله تعالى فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم عنهم (٣).

والحاصل : أنّ مطلق الظنّ بحكم الله ظنّ بالكتاب أو السنّة ، ويدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبار الكتاب والسنّة الظنّيّة.

فإن قلت : المراد بالسنّة الأخبار والأحاديث ، والمراد أنّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكيّة عنهم ، فإن تمكّن من الرجوع إليها على

__________________

(١) في (ظ) ، (ر) و (م) : «ظنّ».

(٢) في غير (ر) و (ص) : «كونها».

(٣) لم ترد «عنهم» في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م).


وجه يفيد العلم فهو ، وإلاّ وجب الرجوع إليها على وجه يظنّ منه بالحكم.

قلت : مع أنّ السنّة في الاصطلاح عبارة عن نفس قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، لا حكاية أحدها ، يرد عليه :

أنّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكيّة المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضرورة الثابتة من الدين أو المذهب. وأمّا الرجوع إلى الأخبار المحكيّة التي لا تفيد القطع بصدورها (١) عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدين التي ادّعاها المستدلّ ؛ فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما ادّعاه الشيخ والعلاّمة (٢) في مقابل السيّد وأتباعه قدّست أسرارهم.

وأمّا دعوى الضرورة من الدين والأخبار المتواترة كما ادّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها. ولعلّ هذه الدعوى قرينة على أنّ مراده من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا حكايتها التي لا توصل إليها على وجه العلم.

نعم ، لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات الغير العلميّة ؛ لأجل لزوم الخروج عن الدين لو طرحت بالكلّيّة ، يرد عليه :

أنّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (ل) : «بالصدور».

(٢) راجع الصفحة ٣١١ و ٣٣٣.


منها للتكاليف الواقعيّة التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلا ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الذي ذكروه لحجّية الظنّ ، ومفاده ليس إلاّ حجّية كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعيّ.

وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجماليّ بصدور أكثر هذه الأخبار ـ حتّى لا يثبت به غير الخبر الظنّيّ من الظنون ـ ليصير دليلا عقليّا على حجّية خصوص (١) الخبر ، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأوّل الذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ، فراجع (٢).

حاصل الكلام في أدلّة حجيّة الخبر الواحد

هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها على حجّية الخبر ، وقد علمت دلالة بعضها وعدم دلالة البعض الآخر.

والإنصاف : أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء (٣) ، والمعيار فيه : أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا ، بحيث لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتردّد الذي لا ينافي حصول مسمّى الرجحان ، كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة ، فافهم. وليكن على ذكر منك ؛ لينفعك فيما بعد.

__________________

(١) لم ترد «خصوص» في (ر).

(٢) راجع الصفحة ٣٥١ و ٣٥٧.

(٣) راجع الصفحة ٣٣٦.


[أدلّة حجّية مطلق الظن](١)

الدليل العقلي على حجيّة مطلق الظنّ من وجوه أيضا :

فلنشرع في الأدلّة التي أقاموها على حجّيّة الظنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدليل ، وإن اقتضاها أمر (٢) آخر ، وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثبوت من ذلك الدليل إذا فرض أنّه لا يثبت إلاّ الظنّ في الجملة ولا يثبته كليّة ، وهي أربعة :

الوجه الأوّل : وجوب دفع الضرر المظنون

الأوّل

أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبيّ أو التحريميّ مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم (٣).

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب على الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ باستحقاق العقاب على الفعل. أو لأنّ

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل «أمر» : «دليل».

(٣) استدلّ به العلاّمة في النهاية كما سيأتي ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٤٧ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٧٨ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٤ و ٤٨٥.


الظنّ بالوجوب ظنّ بوجود المفسدة في الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل ، بناء على قول «العدليّة» بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، وقد جعل في النهاية (١) كلاّ من الضررين (٢) دليلا مستقلا على المطلب.

واجيب عنه بوجوه :

جواب الحاجبيّ عن هذا الوجه ، والمناقشة فيه

أحدها : ما عن الحاجبي (٣) ، وتبعه غيره (٤) ، من منع الكبرى ، وأنّ دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين احتياط مستحسن ، لا واجب.

وهو فاسد ؛ لأنّ الحكم المذكور حكم إلزاميّ أطبق العقلاء على الالتزام به في جميع امورهم وذمّ من خالفه (٥) ؛ ولذا استدلّ به المتكلّمون (٦) في (٧) وجوب شكر المنعم (٨) الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى ، ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة ، ولم يكن لله على غير الناظر حجّة ؛ ولذا خصّوا النزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلاّت العقليّة

__________________

(١) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧.

(٢) في (ظ) : «التقريرين».

(٣) انظر شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ، المتن للحاجبي والشرح للعضدي.

(٤) كالعضدي (شارح المختصر) ، المصدر نفسه.

(٥) في (ر) و (ص) ومحتمل (ت) : «يخالفه».

(٦) لم ترد «المتكلّمون» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) في (ظ) : «على».

(٨) انظر كتاب المنقذ من التقليد للشيخ سديد الدين الحمصي الرازي ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.


بما كان مشتملا على منفعة وخاليا عن أمارة المفسدة ؛ فإنّ هذا التقييد يكشف عن أنّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه ، بل الأقوى ـ كما صرّح به الشيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر (١) ، والسيّد في الغنية (٢) ـ : وجوب دفع الضرر المحتمل ، وببالي أنّه تمسّك في العدّة بعد العقل بقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا ...) الخ (٣).

ثمّ إنّ ما ذكره : من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليّين ، غير ظاهر ؛ لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة ، مثل التعليل في آية النبأ (٤) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٥) ، وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦) بناء على أنّ المراد العذاب والفتنة الدنيويّان ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(٧) ، وقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)(٨) ، وقوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٤٢ و ٧٤٧.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

(٣) ليس في العدّة في البحث المذكور تمسّك بالآية المذكورة ، نعم استدلّ بها فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ٢ : ٢٥٦ ، والآية من سورة البقرة : ١٩٥.

(٤) الحجرات : ٦.

(٥) البقرة : ١٩٥.

(٦) النور : ٦٣.

(٧) الأنفال : ٢٥.

(٨) آل عمران : ٢٨.


السَّيِّئاتِ)(١) ، إلى غير ذلك.

نعم ، التمسّك في سند الكبرى بالأدلّة الشرعيّة يخرج الدليل المذكور عن الأدلّة العقليّة. لكنّ الظاهر أنّ مراد الحاجبيّ منع أصل الكبرى ، لا مجرّد منع استقلال العقل بلزومه ، ولا يبعد عن الحاجبيّ أن يشتبه عليه حكم العقل الإلزاميّ بغيره ، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح ، والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثاني.

جواب آخر عن هذا الوجه

ثانيها : ما يظهر من العدّة (٢) والغنية (٣) وغيرهما (٤) : من أنّ الحكم المذكور مختصّ بالامور الدنيويّة ، فلا يجري في الاخرويّة مثل العقاب.

والمناقشة فيه أيضا

وهذا كسابقه في الضعف ؛ فإنّ المعيار هو التضرّر. مع أنّ المضارّ الاخرويّة أعظم.

اللهمّ إلاّ أن يريد المجيب ما سيجيء (٥) : من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به ، بخلاف المضارّ الدنيويّة التابعة لنفس الفعل أو الترك ، علم حرمته أو لم يعلم. أو يريد أنّ المضارّ الغير الدنيويّة ـ وإن لم تكن خصوص العقاب ـ ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ، وهو الباعث له على التكليف والبعثة (٦).

__________________

(١) النحل : ٤٥.

(٢) العدّة ١ : ١٠٧.

(٣) الغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٧٦.

(٤) انظر الذريعة ٢ : ٥٤٩.

(٥) انظر الصفحة ٣٧٣.

(٦) في (ص) : «البعث».


لكنّ هذا الجواب راجع إلى منع الصغرى ، لا الكبرى.

جواب ثالث عن هذا الوجه

ثالثها : النقض بالأمارات التي قام الدليل القطعيّ على عدم اعتبارها ، كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (١).

واجيب عنه (٢) تارة : بعدم التزام حرمة العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم.

ما اجيب به عن هذا الجواب

واخرى : بأنّ الشارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به.

عدم صحّة ما اجيب

ويضعّف الأوّل : بأنّ (٣) دعوى وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم وإن لم ينسدّ في غيرها ، الظاهر أنّه خلاف مذهب الشيعة ، لا أقلّ من كونه مخالفا لإجماعاتهم المستفيضة بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس.

والثاني : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتّب الضرر على تركه أو تركه حذرا من التضرّر بفعله ، لا يتصوّر فيه ضرر أصلا ؛ لأنّه من الاحتياط الذي استقلّ العقل بحسنه وإن كانت الأمارة ممّا ورد النهي عن اعتباره.

نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظنّ بذلك الضرر وجعل مؤدّاها حكم الشارع والالتزام به (٤) والتديّن به ، ربما كان ضرره أعظم من

__________________

(١) هذا النقض مذكور في الذريعة ٢ : ٥٥٠ ، والغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٦ ، والمعارج : ٤٣ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

(٢) الجواب من المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨.

(٣) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أنّ».

(٤) لم ترد «به» في (ت) ، (ر) و (ه).


الضرر المظنون ؛ فإنّ العقل مستقلّ بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق العقاب عليه ؛ لأنّه تشريع.

لكن هذا لا يختصّ بما علم إلغاؤه ، بل هو جار في كلّ ما لم يعلم اعتباره. توضيحه :

أنّا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة (١) : أنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قطعيّ ـ سواء قام دليل على عدم اعتباره أم لا ـ فالعمل به بمعنى التديّن بمؤدّاه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة. وأمّا العمل به بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه مثلا (٢) أو ترك ما ظنّ حرمته من دون أن يتشرّع بذلك ، فلا قبح فيه إذا (٣) لم يدلّ دليل من الاصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظنّ ، بأن يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه أو وجوب ما ظنّ تحريمه.

فإن أراد أنّ الأمارات التي يقطع بعدم حجّيّتها ـ كالقياس وشبهه ـ يكون في العمل بها بمعنى التديّن بمؤدّاها وجعله حكما شرعيّا ، ضرر أعظم من الضرر المظنون ، فلا اختصاص لهذا الضرر بتلك الظنون ؛ لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره قاطع يكون في العمل به بذلك المعنى هذا الضرر العظيم ، أعني التشريع.

وإن أراد ثبوت الضرر في العمل بها بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه

__________________

(١) راجع الصفحة ١٢٥.

(٢) لم ترد «مثلا» في (ت) و (ل).

(٣) في (ت) : «إذ».


حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ، وترك ما ظنّ حرمته لذلك ، كما يقتضيه قاعدة دفع الضرر ، فلا ريب في استقلال العقل وبداهة حكمه بعدم الضرر في ذلك أصلا وإن كان ذلك في الظنّ القياسيّ.

الأولى في المناقشة في الجواب الثالث

وحينئذ (١) : فالأولى لهذا المجيب أن يبدّل دعوى الضرر في العمل بتلك الأمارات المنهيّ عنها بالخصوص بدعوى : أنّ في نهي الشارع عن الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها ـ مع علمه بأنّ تركها ربما يفضي إلى ترك الواجب وفعل الحرام ـ مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته في الواقع ، فتأمّل.

وسيجيء تمام الكلام عند التكلّم في الظنون المنهيّ عنها بالخصوص ، وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجّيّة الظنّ لها إن شاء الله تعالى (٢).

الأولى في الجواب عن الوجه الأوّل

فالأولى أن يجاب عن هذا الدليل :

إن إريد من الضرر العقاب

بأنّه إن اريد من الضرر المظنون العقاب ، فالصغرى ممنوعة ؛ فإنّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك ـ كاستحقاق الثواب عليهما ـ ليس ملازما للوجوب والتحريم الواقعيّين ؛ كيف وقد يتحقّق التحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو مركّبا ، بل استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقّق الإطاعة والمعصية اللتين لا تتحقّقان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما ، وأمّا الظنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشكّ ، بل هو هو ؛ بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون

__________________

(١) لم ترد «وحينئذ» في (ظ) و (م).

(٢) انظر الصفحة ٥١٦ وما بعدها.


المفروض منها (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم بعدم العقاب والثواب فيما فرض من صورتي الجهل البسيط و (٢) المركّب بالوجوب والحرمة ، إنّما هو لحكم العقل بقبح التكليف مع الشكّ أو القطع بالعدم ، أمّا (٣) مع الظنّ بالوجوب أو التحريم فلا يستقلّ العقل بقبح المؤاخذة ، ولا إجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النزاع.

ويردّه : أنّه لا يكفي المستدلّ منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع ، بل لا بدّ له من إثبات أنّ مجرّد الوجوب والتحريم الواقعيّين مستلزمان للعقاب حتّى يكون الظنّ بهما ظنّا به ، فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا ، فالصغرى غير ثابتة.

ومنه يعلم فساد ما ربما يتوهّم : أنّ قاعدة دفع الضرر يكفي للدليل على ثبوت الاستحقاق.

وجه الفساد : أنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصغرى وهي الظنّ بالعقاب.

نعم ، لو ادّعي أنّ دفع الضرر المشكوك لازم توجّه فيما نحن فيه الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظنّ ، بناء على عدم ثبوت الدليل على نفي العقاب عند الظنّ ، فيصير وجوده محتملا ، فيجب دفعه.

لكنّه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين.

__________________

(١) لم ترد «بل هو هو ـ إلى ـ المفروض منها» في (ت) و (ه).

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أو».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) : «وأمّا».


وإن اريد من الضرر المفسدة

وإن اريد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة ، ففيه أيضا : منع الصغرى ؛ فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ، إلاّ أنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد ارتكاب ما ظنّ حرمته ؛ لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ؛ لاحتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف أو يعلمه بإعلام الشارع ، نظير الكفّارة والتوبة وغيرهما من الحسنات التي يذهبن السيّئات.

ويرد عليه : أنّ الظنّ بثبوت مقتضي المفسدة مع الشكّ في وجود المانع كاف في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشكّ في وجود (١) المانع ؛ فإنّ احتمال وجود المانع للضرر أو وجود ما يتدارك الضرر لا يعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع الظنّ بوجود مقتضي الضرر أم القطع به ، بل أكثر موارد التزام العقلاء التحرّز عن المضارّ المظنونة ـ كسلوك الطرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو ذلك ـ من موارد الظنّ بمقتضى الضرر دون العلّة التامّة له ، بل المدار في جميع غايات حركات الإنسان ـ من المنافع المقصود جلبها والمضارّ المقصود دفعها ـ على المقتضيات دون العلل التامّة ؛ لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها.

وأضعف من هذا الجواب ما يقال : إنّ في نهي الشارع عن العمل بالظنّ كليّة إلاّ ما خرج ، ترخيصا في ترك مراعاة الضرر المظنون ، ولذا لا يجب مراعاته إجماعا في القياس.

ووجه الضعف ما ثبت سابقا (٢) : من أنّ عمومات حرمة العمل

__________________

(١) لم ترد «وجود» في (ل) و (م).

(٢) راجع الصفحة ١٢٦.


بالظنّ أو بما عدا العلم إنّما تدلّ على حرمته من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ، ولا تدلّ على حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله والحذر عن مخالفته.

الإولى في الجواب عن الم فسد المظنونة

فالأولى أن يقال : إنّ الضرر وإن كان مظنونا ، إلاّ أنّ حكم الشارع ـ قطعا أو ظنّا ـ بالرجوع في مورد الظنّ إلى البراءة والاستصحاب وترخيصه لترك مراعاة الظنّ أوجب القطع أو الظنّ بتدارك ذلك الضرر المظنون ؛ وإلاّ كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظنّ إلغاء للمفسدة (١).

توضيح ذلك : أنّه لا إشكال في أنّه متى ظنّ بوجوب شيء وأنّ الشارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا لا يرضى بتركه إلاّ أنّه اختفى علينا ذلك الطلب ، أو حرّم علينا فعلا كذلك ، فالعقل مستقلّ بوجوب فعل الأوّل وترك الثاني ؛ لأنّه يظنّ في ترك الأوّل الوقوع في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ والمحبوب المنجّز النفس الأمري ، ويظنّ في فعل الثاني الوقوع في مفسدة الحرام الواقعيّ والمبغوض النفس الأمري ، إلاّ أنّه لو صرّح الشارع بالرخصة في ترك العمل في هذه الصورة كشف ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون ؛ ولذا وقع الإجماع على عدم وجوب مراعاة الظنّ بالوجوب و (٢) الحرمة إذا حصل الظنّ من القياس ، وعلى جواز مخالفة الظنّ في الشبهات الموضوعيّة حتّى يستبين التحريم أو تقوم به البيّنة.

ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشارع ترك مراعاة

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «المفسدة».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «أو».


الظنّ بالضرر ـ كما عرفت (١) من الظنّ القياسيّ بالوجوب والتحريم ومن حكم الشارع بجواز الارتكاب في الشبهة الموضوعيّة ـ ، وبين أن يحصل الظنّ بترخيص الشارع في ترك مراعاة ذلك الظنّ ، كما في الظنّ الذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشارع ، فإنّه يجوز ترك مراعاته ؛ لأنّ المظنون تدارك ضرر مخالفته لأجل ترك مظنون الوجوب أو فعل مظنون الحرمة ، فافهم.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ أصل البراءة والاستصحاب إن قام عليهما الدليل القطعيّ بحيث يدلّ على وجوب الرجوع إليهما في صورة عدم العلم ولو مع وجود الظنّ الغير المعتبر ، فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضرر ، وفي أنّه لا يجب الترك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ ترخيص الشارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضرر لا يكون إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك (٣) الضرر المظنون على تقدير الثبوت واقعا.

وإن منعنا عن قيام الدليل القطعيّ على الاصول وقلنا : إنّ الدليل القطعيّ لم يثبت على اعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشرعيّة وخصوصا مع الظنّ بالخلاف ، وكذلك الدليل لم يثبت على الرجوع إلى البراءة حتّى مع الظنّ بالتكليف ؛ لأنّ العمدة في دليل البراءة الإجماع والعقل المختصّان بصورة عدم الظنّ بالتكليف ، فنقول : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظنّيّة على الاستصحاب والبراءة عند عدم العلم الشامل لصورة الظنّ ، فيحصل الظنّ بترخيص الشارع لنا في

__________________

(١) راجع الصفحة السابقة.

(٢) راجع الصفحة السابقة.

(٣) لم ترد «ذلك» في (ر) و (ت).


ترك مراعاة ظنّ الضرر (١) ، وهذا القدر يكفي في عدم الظنّ بالتضرّر (٢).

وتوهّم : أنّ تلك الأخبار الظنّيّة (٣) لا تعارض العقل المستقلّ بدفع الضرر المظنون ، مدفوع : بأنّ الفرض أنّ الشارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضرر إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته ، فحكم الشارع ليس مخالفا للعقل ، فلا وجه لاطّراح الأخبار الظنّيّة الدالّة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل (٤).

__________________

(١) في (ر) : «الظنّ بالضرر».

(٢) في (ت) و (ه) : «بالضرر».

(٣) في (ر) و (ص) : «ظنّيّة».

(٤) في هامش (ت) ، (ر) و (ص) زيادة مع اختلاف يسير بينها ، وهي : «ومحصّل الكلام : أنّ الضرر الدنيويّ لمّا جاز حكم الشارع عليه بجواز الارتكاب بخلاف الضرر الاخروي ، فيجوز أن يحكم الشارع بجواز الارتكاب مع ظنّه ، فيكون ترك مظنون الضرر كمحتمله مرخّصا فيه بأدلّة الاصول.

نعم ، لو ثبت طريقيّة الظنّ وحجّيّته كان كمقطوع الضرر ، فإذا فرضنا أنّ الإضرار الواقعي بالنفس محرّم فإن قطع أو ظنّ بظنّ معتبر جاء التحريم ، وإلاّ دخل تحت الشبهة الموضوعيّة المرخّص فيها مع الشكّ والظنّ غير المعتبر ، فوجوب رفع الضرر المظنون موقوف على إثبات طريقيّة الظنّ ، فإثباتها به دور ظاهر.

فالتحقيق : أنّ الظنّ بالضرر إن استند إلى الأمارات الخارجيّة في الشبهات الموضوعيّة كان طريقا وحجّة بإجماع العلماء والعقلاء ؛ والسرّ فيه انسداد باب العلم بالضرر في الامور الخارجيّة ، فالعمل بالاصول في مقابل الظنّ يوجب الوقوع في المضارّ الكثيرة بحيث يختلّ نظام المعاش نظير العمل بظنّ السلامة. وإن كان مستندا إلى الأمارات في الشبهات الحكميّة فلا دليل على اعتباره ، بل


مفاد هذا الدليل

ثمّ إنّ مفاد هذا الدليل هو وجوب العمل بالظنّ إذا طابق الاحتياط لا من حيث هو ، وحينئذ : فإذا كان الظنّ مخالفا للاحتياط الواجب ـ كما في صورة الشكّ في المكلّف به ـ فلا وجه للعمل بالظنّ حينئذ.

ودعوى الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، واضحة الفساد ؛ ضرورة أنّ العمل في الصورة الاولى لم يكن بالظنّ من حيث هو بل من حيث كونه احتياطا ، وهذه الحيثيّة نافية للعمل بالظنّ في الصورة الثانية ، فحاصل ذلك : العمل بالاحتياط كليّة وعدم العمل بالظنّ رأسا (١).

__________________

المرجع الاصول المرخّصة النافية للتكليف ، إلاّ إذا ثبت انسداد باب العلم فيها فيرجع إلى دليل الانسداد. وكذلك الكلام في ظنّ السلامة في مقابل الاصول المثبتة للتكليف ، فتأمّل.

والأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضرر الدنيوي على مخالفة الواجب والحرام إمّا بالوجدان ، وإمّا لاحتمال كون المصالح والمفاسد مترتّبة على المخالفة عصيانا لا مطلقا ، ولا يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط في موارد الشكّ فافهم ، (منه قدس‌سره)» [*]

(١) في (ت) و (ر) وهامش (ص) زيادة مع اختلاف يسير ، وهي كما يلي : «ويمكن أن يردّ أيضا : بأنّها قاعدة عمليّة لا تنهض دليلا حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدالّة على الحكم الغير الضرري.

وقد يشكل : بأنّ المعارضة حينئذ تقع بين هذه القاعدة وبين الاصول اللفظيّة ، فإن نهضت للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك أيضا في البراءة والاستصحاب النافيين للتكليف المرخّصين للفعل والترك المؤمّنين من الضرر ، فافهم».


الوجه الثاني في حجية مطلق الظن : قبح ترجيح المرجوح

الثاني : أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح (١).

وربما يجاب عنه (٢) : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأخذ به حسن عقلا.

ما اجيب عن هذا الوجه ومناقشته

وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا للمرجوح ، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، مثلا : إذا ظنّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا ، فحينئذ الإتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل ؛ لأنّ الإتيان لا ينافي عدم الوجوب.

وإن اريد الإتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ، ففيه : أنّ الإتيان على هذا الوجه مخالف للاحتياط ؛ فإنّ الاحتياط هو الإتيان لاحتمال الوجوب ، لا بقصده.

ما اجيب عن هذا الوجه أيضا ومناقشته

وقد يجاب أيضا : بأنّ ذلك فرع وجوب الترجيح ، بمعنى أنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الراجح كان الأوّل قبيحا ، وأمّا إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا يرجّح المرجوح ولا الراجح (٣)

__________________

(١) هذا الاستدلال أشار إليه العلاّمة أيضا في ذيل الدليل السابق ، انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧ ، وكذا المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٢٤٣ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٨٦.

(٢) هذا الجواب من الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٤١١.

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «فلا مرجّح للمرجوح ولا للراجح».


وفيه : أنّ التوقّف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح (١).

الأولى في الجواب عن هذا الوجه

فالأولى الجواب أوّلا : بالنقض بكثير من الظنون المحرّمة العمل بالإجماع أو الضرورة.

وثانيا : بالحلّ ، وتوضيحه : تسليم القبح إذا كان التكليف وغرض الشارع متعلّقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط ؛ فإنّ العقل قاطع بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذهاب إلى بغداد وتردّد الأمر بين طريقين ، أحدهما مظنون الإيصال والآخر موهومه ، فترجيح الموهوم قبيح ؛ لأنّه نقض للغرض ، وأمّا إذا لم يتعلّق التكليف بالواقع أو تعلّق به مع إمكان الاحتياط ، فلا يجب الأخذ بالراجح ، بل اللازم في الأوّل هو الأخذ بمقتضى البراءة ، وفي الثاني الأخذ بمقتضى الاحتياط ، فإثبات القبح موقوف على إبطال الرجوع إلى البراءة في موارد الظنّ وعدم وجوب الاحتياط فيها ، ومعلوم أنّ العقل قاض حينئذ بقبح ترجيح المرجوح (٢) ، فلا بدّ من إرجاع هذا الدليل إلى دليل الانسداد الآتي (٣) ، المركّب من بقاء التكليف ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات التي لا يتردّد الأمر بين الأخذ بالراجح والأخذ بالمرجوح إلاّ بعد إبطالها.

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «فتأمّل جدّا».

(٢) في (ص) زيادة : «بل ترك ترجيح الراجح على المرجوح» ، وقريب منها في (ر).

(٣) في الصفحة ٣٨٤.


الوجه الثالث : ما حكي عن صاحب الرياض قدس‌سره

الثالث : ما حكاه الاستاذ عن استاذه السيّد الطباطبائيّ قدس‌سرهما (١) : من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك كلّه (٢) ؛ لأنّه عسر أكيد وحرج شديد ؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي «الاحتياط» و «انتفاء الحرج» ، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّه راجع إلى دليل الانسداد الآتي (٣) ؛ إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك (٤) الدليل إلاّ و (٥) يحتاج (٦) إليها في إتمام هذا الدليل ، فراجع وتأمّل حتّى يظهر لك حقيقة الحال.

مع أنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات ـ أيضا ـ كالمظنونات

__________________

(١) حكاه شريف العلماء عن استاذه صاحب الرياض قدس‌سرهما في مجلس المذاكرة ، على ما في بحر الفوائد ١ : ١٨٩.

(٢) لم ترد «كلّه» في (ظ) و (م).

(٣) في الصفحة ٣٨٤.

(٤) في (ه) ونسخة بدل (ص) : «هذا».

(٥) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ) زيادة : «هي».

(٦) في (ظ) : «محتاج».


لا يلزم منه حرج قطعا ؛ لقلّة موارد الشكّ المتساوي الطرفين كما لا يخفى ، فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط.

ودعوى : أنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال بعدمه ـ أيضا ـ في المشكوكات ، في غاية الضعف والسقوط.


الوجه الرابع : الدليل الانسداد.

الدليل الرابع : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد.

وهو مركّب من مقدّمات :

مقدّمات دليل الانسداد

الاولى : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

الثانية : أنّه لا يجوز لنا إهمال الأحكام المشتبهة ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من أنحاء امتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ (١) ، بأن نقتصر في الإطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا أو بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع ، ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ممّن لا حكم عليه فيها كالأطفال والبهائم ، أو ممّن (٢) حكمه فيها الرجوع إلى أصالة العدم.

الثالثة : أنّه إذا وجب التعرّض لامتثالها فليس امتثالها بالطرق الشرعيّة المقرّرة للجاهل : من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الإجماليّ بالامتثال ، أو الأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتّبع شرعا في نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمّة إلى غيرها من المجهولات ، أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها.

الرابعة : أنّه إذا بطل الرجوع في الامتثال إلى الطرق الشرعيّة المذكورة ـ لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الآخر ـ ، والمفروض عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدّمة الثانية ، تعيّن بحكم العقل المستقلّ

__________________

(١) في (ت) و (ص) بدل «التفصيلي» : «اليقيني».

(٢) في (ظ) : «من».


الرجوع إلى الامتثال الظنّي والموافقة الظنّية للواقع ، ولا يجوز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا إلى الامتثال الاحتماليّ والموافقة الشكّية بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظنّ فيها ، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيّا للامتثال من دون إفادته للظنّ أصلا (١).

__________________

(١) في (ت) و (ر) ونسخة بدل (ص) زيادة : «فيحصل من جميع هذه المقدّمات وجوب الامتثال الظنّي والرجوع إلى الظنّ».


أمّا المقدّمة الاولى : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ

أمّا المقدّمة الاولى :

فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم في الأغلب غير محتاجة إلى الإثبات ؛ ضرورة قلّة ما يوجب العلم التفصيليّ بالمسألة على وجه لا يحتاج العمل فيها إلى إعمال أمارة غير علميّة. وأمّا بالنسبة إلى انسداد باب الظنّ الخاصّ ، فهي مبنيّة على أن لا يثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية خبر الواحد حجّية مقدار منه يفي ـ بضميمة الأدلّة العلميّة وباقي الظنون الخاصّة ـ بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يبقى مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصّة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ، من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير.

تسليم أو منع هذه المقدّمة

فتسليم هذه المقدّمة ومنعها لا يظهر إلاّ بعد التأمّل التامّ وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلّة حجّيّة الخبر ، وأنّه هل يثبت بها حجّيّة مقدار واف من الخبر أم لا؟

وهذه هي عمدة مقدّمات دليل الانسداد ، بل (١) الظاهر المصرّح به في كلمات بعض (٢) أنّ ثبوت هذه المقدّمة يكفي في حجّيّة الظنّ المطلق ؛ للإجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ (٣) ؛ ولذا

__________________

(١) في (ظ) : «إذ».

(٢) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٩.

(٣) لم ترد عبارة «للإجماع ـ إلى ـ الظنّ الخاصّ» في (ر) ، وكتب عليها في (ص) : «نسخة».


لم يذكر صاحب المعالم (١) وصاحب الوافية (٢) في إثبات حجّيّة الظنّ الخبريّ غير انسداد باب العلم.

وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن المقدّمات الآتية ، من الرجوع بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ إلى شيء آخر غير الظنّ ، فإنّما هي امور احتملها بعض المدقّقين من متأخّري المتأخّرين ، أوّلهم ـ فيما أعلم ـ المحقّق جمال الدين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال الرجوع إلى البراءة واحتمال الرجوع إلى الاحتياط (٣) ، وزاد عليها بعض من تأخّر (٤) احتمالات أخر.

__________________

(١) انظر المعالم : ١٩٢.

(٢) انظر الوافية : ١٥٩.

(٣) سيأتي نقل كلامه في الصفحة ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٤) كالفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٧٩.


وأمّا المقدّمة الثانية

المقدّمة الثانية : عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة والدليل عليه من وجوه :

وهي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الأنحاء ، فيدلّ عليه وجوه :

١ ـ الإجماع القطعيّ

الأوّل : الإجماع القطعيّ على أنّ المرجع على تقدير انسداد باب العلم وعدم ثبوت الدليل على حجّيّة أخبار الآحاد بالخصوص ، ليس هي البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم ، بل لا بدّ من التعرّض لامتثال الأحكام المجهولة بوجه ما ، وهذا الحكم وإن لم يصرّح به أحد من قدمائنا بل المتأخّرين في هذا المقام ، إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طرّا ؛ فربّ مسألة غير معنونة يعلم اتّفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها.

أترى : أنّ علماءنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على اعتبارها ، كانوا يطرحونها ويستريحون في مواردها إلى أصالة العدم؟! حاشا ثمّ حاشا.

مع أنّهم كثيرا ما يذكرون أنّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم ، وقد حكي عن السيّد في بعض كلماته : الاعتراف بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم (١) ، بل قد ادّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت الإجماع على ذلك (٢).

٢ ـ لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة

الثاني : أنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى نفي الحكم مستلزم

__________________

(١) انظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٩ ، وحكاه عنه في المعالم : ١٩٧.

(٢) المختلف ٣ : ٢٦.


للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، المعبّر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين (١) ، بمعنى أنّ المقتصر على التديّن بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة جاعلا لها كالمعدومة ، يكاد يعدّ خارجا عن الدين ؛ لقلّة المعلومات التي أخذ بها وكثرة المجهولات التي أعرض عنها ؛ وهذا أمر يقطع ببطلانه كلّ أحد بعد الالتفات إلى كثرة المجهولات ، كما يقطع ببطلان الرجوع إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلا (٢) لو فرض ـ والعياذ بالله ـ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في جميع الأحكام ، وانطماس هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة.

فيكشف بطلان الرجوع إلى البراءة عن وجوب التعرّض لامتثال تلك المجهولات ولو على غير وجه العلم والظنّ الخاصّ ، لا أن يكون تعذّر العلم والظنّ الخاصّ منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ، كما توهّمه بعض من تصدّى للإيراد على كلّ واحدة واحدة من مقدّمات الانسداد (٣).

نعم ، هذا إنّما يستقيم في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علميّ أو ظنّيّ معتبر ، كما هو دأب المجتهدين بعد تحصيل الأدلّة والأمارات في أغلب الأحكام ، أمّا إذا صار معظم الفقه أو كلّه مجهولا فلا يجوز أن يسلك فيه هذا المنهج.

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين : ٤٠٢ ، ومفاتيح الاصول : ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، وضوابط الاصول : ٢٥٢.

(٢) لم ترد «أصلا» في (ظ) و (م).

(٣) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٦٠ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.


الإشارة إلى هذا الوجه في كلام جماعة

والحاصل : أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعيّة بنفسه محذور مفروغ عن بطلانه ، كطرح جميع الأحكام لو فرضت مجهولة ، وقد وقع ذلك تصريحا أو تلويحا في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين :

منهم : الصدوق في الفقيه ـ في باب الخلل الواقع في الصلاة ، في ذيل أخبار سهو النبيّ ـ حيث قال رحمه‌الله (١) : فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواردة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه إبطال للدين والشريعة (٢) ، انتهى.

و (٣) منهم : السيّد قدس‌سره حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد ، وقال : فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟ فأجاب بما حاصله : دعوى انفتاح باب العلم في الأحكام (٤).

ولا يخفى : أنّه لو جاز طرح الأحكام المجهولة ولم يكن شيئا منكرا لم يكن وجه للايراد المذكور ؛ إذ الفقه حينئذ ليس إلاّ عبارة عن الأحكام التي قام عليها الدليل والمرجع وكان فيها (٥) معوّل. ولم يكن وقع أيضا للجواب بدعوى الانفتاح الراجعة إلى دعوى عدم الحاجة إلى

__________________

(١) «حيث قال رحمه‌الله» من (ت) فقط.

(٢) الفقيه ١ : ٣٦٠ ، ذيل الحديث ١٠٣١.

(٣) لم ترد عبارة «منهم الصدوق ـ إلى ـ انتهى و» في (ظ) ، (ل) و (م) ، وكتب عليها في (ص) : «نسخة».

(٤) انظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢.

(٥) في غير (ه) : «فيه».


أخبار الآحاد.

بل المناسب حينئذ الجواب : بأنّ عدم المعوّل في أكثر المسائل لا يوجب فتح باب العمل (١) بخبر الواحد.

والحاصل : أنّ ظاهر السؤال والجواب المذكورين التسالم والتصالح (٢) على أنّه لو فرض الحاجة إلى أخبار الآحاد ـ لعدم المعوّل في أكثر الفقه ـ ، لزم العمل عليها وإن لم يقم عليه دليل بالخصوص ؛ فإنّ نفس الحاجة إليها هي أعظم دليل ، بناء على عدم جواز طرح الأحكام ؛ ومن هنا ذكر السيّد صدر الدين في شرح الوافية : أنّ السيّد قد اصطلح بهذا الكلام مع المتأخّرين (٣).

كلام الشيخ الطوسي قدس‌سره

ومنهم : الشيخ قدس‌سره في العدّة ، حيث إنّه ـ بعد دعوى الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد ـ قال ما حاصله : أنّه لو ادّعى أحد أنّ (٤) عمل الإماميّة بهذه الأخبار كان لأجل قرائن انضمّت إليها ، كان معوّلا على ما يعلم من الضرورة خلافه ـ ثمّ قال ـ :

ومن قال : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به. وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من

__________________

(١) في (م) و (ه) : «باب العلم».

(٢) في (م) : «أو التصالح».

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ١٨٨.

(٤) في النسخ زيادة : «دعوى».


الشرع خلافه (١) ، انتهى.

ولعمري ، أنّه يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرجوع إلى البراءة عند فرض فقد العلم والظنّ الخاصّ في أكثر الأحكام (٢).

ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين ـ في مسألة إثبات عصمة الإمام ـ حيث ذكر : أنّه عليه‌السلام لا بدّ أن يكون حافظا للأحكام ؛ واستدلّ بأنّ الكتاب والسنّة لا يدلاّن على التفاصيل ـ إلى أن قال ـ : والبراءة الأصليّة ترفع جميع الأحكام (٣).

ومنهم : بعض أصحابنا (٤) ـ في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة بعصرة المنجود ـ حيث استدلّ على عصمة الإمام عليه‌السلام : بأنّه حافظ للشريعة ؛ لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به ـ إلى أن قال ـ : والقياس باطل ، والبراءة الأصليّة ترفع جميع الأحكام (٥) ، انتهى.

ومنهم : الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر ، إلاّ أنّه

__________________

(١) العدّة ١ : ١٣٦.

(٢) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «ومنهم : المحقّق في المعتبر ، حيث قال في مسألة خمس الغوص ـ في ردّ من نفاه مستدلا بأنّه لو كان لنقل بالسنّة ـ : قلنا : أمّا تواترا فممنوع ؛ وإلاّ لبطل كثير من الأحكام» انتهى. وزاد في (ص) أيضا : «لعدم وجود التواتر في كثير من الأحكام». انظر المعتبر ٢ : ٦٢٢.

(٣) نهج المسترشدين : ٦٣.

(٤) هو الشيخ زين الدين البياضي النباطي العاملي ، المتوفّى سنة ٨٧٧.

(٥) عصرة المنجود (مخطوط) ، باب الإمامة ، الصفحة ٣.


قال : إنّ الرجوع إلى البراءة الأصليّة يرفع أكثر الأحكام (١).

والظاهر : أنّ مراد العلاّمة وصاحب الرسالة قدس‌سرهما من جميع الأحكام ما عدا المستنبط من الأدلّة العلميّة ؛ لأنّ كثيرا من الأحكام ضروريّة لا ترفع (٢) بالأصل ، ولا يشكّ فيها حتّى يحتاج إلى الإمام عليه‌السلام.

كلام المحقّق الخوانساري قدس‌سره

ومنهم : المحقّق الخوانساري في ما حكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية (٣) : من أنّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ؛ مستدلا ـ بعد مفهوم آية النبأ ـ : بأنّ اعتبار التعدّد يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدليل (٤).

كلام الفاضل التوني قدس‌سره

ومنهم : صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه (٥) الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد : بأنّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والمتاجر والأنكحة وغيرها ، بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور.

كلام بعض شراّح الوسائل

وهذه عبارة اخرى عن الخروج عن الدين الذي عبّر به جماعة من مشايخنا (٦).

__________________

(١) شرح الباب الحادي عشر : ٤٣.

(٢) في (ت) ، (ص) ، (م) ونسخة بدل (ه) : «لا ترتفع».

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ٢٠٩.

(٤) حاشية شرح مختصر الاصول للمحقق جمال الدين الخوانساري (مخطوط) : الورقة ١٣٠ ، فما بعدها.

(٥) راجع الصفحة ٣٦١.

(٦) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٣٨٩.


ومنهم : بعض شرّاح الوسائل (١) ، حيث استدلّ على حجّيّة أخبار الآحاد : بأنّه لو لم يعمل بها بطل التكليف ، وبطلانه ظاهر.

كلام المحدّث البحراني قدس‌سره

ومنهم : المحدّث البحرانيّ صاحب الحدائق ، حيث ذكر في مسألة ثبوت الربا في الحنطة بالشعير خلاف الحلّي في ذلك (٢) ، وقوله بكونهما جنسين ، وأنّ الأخبار الواردة في اتّحادهما آحاد لا توجب علما ولا عملا ، قال في ردّه : إنّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر (٣) ؛ انتهى.

كلام الحاجبي والمضدي

ومنهم : العضدي ـ تبعا للحاجبي ـ حيث حكى عن بعضهم الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد : بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك (٤).

ثمّ ، إنّه وإن ذكر في الجواب عنه (٥) : أنّا نمنع الخلوّ عن المدرك ؛ لأنّ الأصل من المدارك ، لكنّ هذا الجواب من العامّة القائلين بعدم إتيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحكام جميع الوقائع ، ولو كان المجيب من الإماميّة القائلين بإتمام (٦) الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك.

وبالجملة : فالظاهر أنّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) انظر السرائر ٢ : ٢٥٤.

(٣) الحدائق ١٩ : ٢٣١.

(٤) في المصدر : «عن الحكم» ، انظر شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، المتن للحاجبي ، والشرح للعضدي.

(٥) حكاه الحاجبي في ذيل الاستدلال المذكور.

(٦) كذا في (ت) ، (ر) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «بإكمال».


للرجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في معظم الفقه بحكم تكليفيّ ، كأنّه أمر مفروغ البطلان.

والغرض من جميع ذلك : الردّ على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدّمة (١) ، ولم يأت بشيء عدا ما قرع سمع كلّ أحد ، من أدلّة البراءة وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ، ولم يتفطّن لأنّ مجراها في غير ما نحن فيه ؛ فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا ـ والعياذ بالله ـ ارتفاع العلم بجميع الأحكام.

بل نقول : لو فرضنا أنّ مقلّدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما تعلّم من أبويه بظنّ الصحّة ـ مع احتمال الفساد عنده احتمالا ضعيفا ـ ولم يتمكّن من أزيد من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة ، أو أنّه يأتي بها على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ، والمفروض أنّ قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ؟ فإذا لم تجد من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ، فكيف ترخّص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظنّ الخاصّ ، وترك ما عداه ولو كان مظنونا بظنّ لم يقم على اعتباره دليل خاصّ؟

بل الإنصاف : أنّه لو فرض ـ والعياذ بالله ـ فقد الظنّ المطلق في معظم الأحكام ، كان الواجب الرجوع إلى الامتثال الاحتماليّ بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة.

__________________

(١) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٥٩ ـ ٣٧٦ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.


٣ ـ العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات

الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ الرجوع إلى البراءة لا يوجب شيئا ممّا ذكر من المحذور البديهيّ ، وهو الخروج عن الدين ، فنقول : إنّه لا دليل على الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ؛ فإنّ أدلّتها مختصّة بغير هذه الصورة ، ونحن نعلم إجمالا أنّ في المظنونات (١) واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أنّ الوجه السابق كان مبنيّا على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها بالخروج عن الدين ، وهو محذور مستقلّ وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة.

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ، وأصل البراءة في مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الإجماليّ إلى حدّ الشبهة الغير المحصورة ، وقد ثبت في مسألة البراءة : أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف ، لا الشكّ في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما في ما نحن فيه.

فإن قلت : إذا فرضنا أنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع إلى ما يوافق البراءة ، فما تصنع؟

قلت :

أوّلا : إنّه مستحيل ؛ لأنّ العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة يمنع عن حصول الظنّ بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «المشتبهات».


للتحريم ؛ لأنّ الظنّ بالسالبة الكلّيّة يناقض العلم بالموجبة الجزئيّة ، فالظنّ بأنّه (١) «لا شخص من العلماء بفاسق» يناقض العلم إجمالا بأنّ «بعض العلماء فاسق».

وثانيا : إنّه على تقدير الإمكان غير واقع ؛ لأنّ الأمارات التي يحصل للمجتهد (٢) منها الظنّ في الوقائع لا تخلو عن الأخبار المتضمّن كثير منها لإثبات التكليف وجوبا وتحريما ، فحصول الظنّ بعدم التكليف في جميع الوقائع أمر يعلم عادة بعدم وقوعه.

وثالثا : لو سلّمنا وقوعه ، لكن لا يجوز حينئذ العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ؛ لأجل العلم الإجماليّ المفروض ؛ فلا بدّ حينئذ من التبعيض بين مراتب الظنّ بالقوّة والضعف ، فيعمل في موارد الظنّ الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط ، وفي موارد الظنّ القويّ بنفي التكليف بمقتضى البراءة ، ولو فرض التسوية في القوّة والضعف كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع : من التخيير إن لم يتيسّر لهذا الشخص الاحتياط ، وإن تيسّر الاحتياط تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه وإن (٣) لم يجز لغيره تقليده ، ولكنّ الظاهر أنّ ذلك مجرّد فرض غير واقع ؛ لأنّ الأمارات كثير منها مثبتة للتكليف ، فراجع كتب الأخبار.

ثمّ إنّه قد يردّ (٤) الرجوع إلى أصالة البراءة ـ تبعا لصاحب

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «بأنّ».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «المجتهد».

(٣) لم ترد «إن» في (ظ) و (م).

(٤) الرادّ هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٢.


المعالم (١) وشيخنا البهائيّ في الزبدة (٢) ـ : بأنّ اعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظنّ.

وفيه : منع كون البراءة من باب الظنّ. كيف؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليل على اعتبارها ، بل هو من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف (٣) من دون بيان.

كلام المحقّق القمّي قدس‌سره

وذكر المحقّق القمّي رحمه‌الله في منع حكم العقل المذكور : أنّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ أو الظنّيّ.

فإن كان الأوّل ، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل.

سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجماليّة على سبيل اليقين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا ، كما لا يخفى.

سلّمنا ذلك ، ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه.

وإن أراد الحكم الظنّيّ ـ سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ـ فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار التي لم يثبت حجّيّتها (٤) بالخصوص. مع أنّه ممنوع بعد

__________________

(١) انظر المعالم : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) الزبدة : ٥٨.

(٣) في (ل) : «بعدم التكليف».

(٤) في (ت) ، (ر) و (ه) : «حجّيّتهما».


ورود الشرع ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيها أفاده المحقّق القميّ

وفيه : أنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان حكم قطعيّ لا اختصاص له بحال دون حال ، فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء ، وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط من الآيات والأخبار (٢) التي ذكروها. وأمّا الخبر الصحيح فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على اعتباره كان داخلا في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البراءة معه ، وإلاّ فوجوده كعدمه غير مؤثّر في الحكم العقليّ.

والحاصل : أنّه لا ريب لأحد ـ فضلا عن أنّه لا خلاف (٣) ـ في أنّه على تقدير عدم بيان التكليف بالدليل العامّ أو الخاصّ فالأصل البراءة ، وحينئذ فاللازم إقامة الدليل على كون الظنّ المقابل بيانا.

وممّا ذكرنا ظهر : صحّة دعوى الإجماع على أصالة البراءة في المقام ؛ لأنّه إذا فرض عدم الدليل على اعتبار الظنّ المقابل صدق قطعا عدم البيان ، فتجري البراءة.

وظهر فساد دفع أصل البراءة بأنّ المستند فيها إن كان هو الإجماع فهو مفقود في محلّ البحث ، وإن كان هو العقل فمورده صورة

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٢.

(٢) في (ت) : «أو الأخبار».

(٣) في (ه) : «فضلا من الاختلاف».


عدم الدليل ولا نسلّم عدم الدليل مع وجود الخبر.

وهذا الكلام ـ خصوصا الفقرة الأخيرة منه ـ ممّا يضحك الثكلى (١) ؛ فإنّ عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة.

واعلم : أنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد بعدم استلزامها للعمل بالظنّ ؛ لجواز الرجوع إلى البراءة ، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزبدة وأجابا عنه بما تقدّم (٢) مع ردّه : من أنّ أصالة البراءة لا يقاوم الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ أنّ أوّل من شيّد الاعتراض به وحرّره لا من باب الظنّ ، هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس‌سره في حاشيته (٣) ، حيث قال :

يرد على الدليل المذكور : أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتّى يتّجه ما ذكروه ؛ لجواز أن لا يجوز العمل بالظنّ ، فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للإجماع على وجوب التمسّك بها ؛ بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم ، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا

__________________

(١) في (ص) بدل «ممّا يضحك الثكلى» : «كما ترى».

(٢) راجع الصفحة ٣٩٨.

(٣) أي في حاشيته على شرح مختصر الاصول.


بمقتضاها حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ؛ بل لما ذكرنا : من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا ، ولا يكفي الظنّ به. ويؤكّده : ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ.

وعلى هذا ، ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه ـ كغسل الجمعة ـ فالخطب سهل ؛ إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور.

وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه ، كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة الإخفاتيّة التي قال بوجوب كلّ منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ؛ لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر أو الإخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما ، وعلى هذا فلا يتمّ الدليل المذكور ؛ لأنّا لا نعمل بالظنّ أصلا (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيها أفاده الخوانساري قدس‌سره

وقد عرفت (٢) : أنّ المحقّق القمّي قدس‌سره (٣) أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد ، فالحقّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة (٤).

ثمّ إنّ ما ذكره : من التخلّص عن العمل بالظنّ بالرجوع إلى البراءة ، لا يجري في جميع الفقه ؛ إذ قد يتردّد الأمر بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شكّ في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها اثنان ، فإنّه

__________________

(١) حاشية جمال الدين الخوانساري على شرح المختصر (مخطوط) : الورقة ١١٩.

(٢) راجع الصفحة ٣٩٨.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «قد».

(٤) في الصفحة ٣٩٦ ـ ٣٩٧.


لا مجرى هنا للبراءة ؛ لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضا ؛ لأنّ كلا منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه.

مع أنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصوصة.

اللهمّ إلاّ أن يتمسّك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على أنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ، فلو ابدل في الإيراد أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل.

ويمكن أن يكون هذا الأصل ـ يعني أصل الفساد وعدم التملّك وأمثاله ـ داخلا في المستثنى في قوله : «لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم» ، بناء على أنّ أصل العدم من الظنون الخاصّة التي قام على اعتبارها الإجماع والسيرة ، إلاّ أن يمنع قيامهما على اعتباره عند اشتباه الحكم الشرعيّ مع وجود الظنّ على خلافه.

واعتباره من باب الاستصحاب ـ مع ابتنائه على حجّيّة الاستصحاب في الحكم الشرعيّ ـ رجوع إلى الظنّ العقليّ أو الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد الدالّة على الاستصحاب.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى تواترها ولو إجمالا ، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالا ، فيخرج عن حيّز الآحاد (١) ، ولا يخلو عن تأمّل.

وكيف كان ، ففي الأجوبة المتقدّمة (٢) ولا أقلّ من الوجه الأخير غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في غير (ظ) و (م) : «خبر الآحاد».

(٢) في الصفحة ٣٩٦ ـ ٣٩٧.


المقدّمة الثالثة : بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل

المقدّمة الثالثة :

في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل : من الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة ، أو الرجوع إلى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها ، فنقول :

إنّ كلا من هذه الامور الثلاثة وإن كان طريقا شرعيّا في الجملة لامتثال الحكم المجهول ، إلاّ أنّ منها ما لا يجب في المقام ومنها ما لا يجري.

عدم وجوب الاحتياط لوجهين

أمّا الاحتياط ، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ، إلاّ أنّه في المقام ـ أعني صورة انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهيّة ـ غير واجب ؛ لوجهين :

١ ـ الإجماع القطعيّ

أحدهما : الإجماع القطعيّ على عدم وجوبه في المقام ، لا بمعنى أنّ أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كلّ الفقه أو جلّه حتّى يرد عليه : أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة ، بل بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة.

وحاصله : دعوى الإجماع القطعيّ على أنّ المرجع في الشريعة ـ على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجّيّة أخبار الآحاد رأسا أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ـ ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك.


وصدق هذه الدعوى ممّا يجده المنصف من نفسه (١) بعد ملاحظة قلّة المعلومات ، مضافا إلى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء ، المتقدّمة (٢) في بطلان الرجوع إلى البراءة وعدم التكليف في المجهولات ؛ فإنّها واضحة الدلالة على أنّ (٣) بطلان الاحتياط كالبراءة مفروغ عنه ، فراجع (٤).

٢ ـ لزوم العسر والحرج

الثاني : لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه ؛ لكثرة ما يحتمل موهوما وجوبه خصوصا في أبواب الطهارة والصلاة ، فمراعاته ممّا يوجب الحرج ، والمثال لا يحتاج إليه ؛ فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ أو خبر متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع اموره يوما وليلة ، لوجد صدق ما ادّعيناه.

هذا كلّه بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.

تعليم وتعلّم موارد الاحتياط حرج أيضا

وأمّا تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد موارد الاحتياط الشخصيّة ، وعلاج تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القويّ على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف ، فهو أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يخلّ بنظام معاشهم ومعادهم.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ونسخة بدل (ص) : «في نفسه».

(٢) راجع الصفحة ٣٩٠ ـ ٣٩٤.

(٣) في غير (ت) : «في أنّ».

(٤) لم ترد عبارة «مضافا ـ إلى ـ فراجع» في (ظ) و (م) ، وكتب فوقها في (ص) : «نسخة».


توضيح الحرج في ذلك

توضيح ذلك : أنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ترك التطهير به ، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات أخر ، بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو ؛ فإنّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره ، فإنّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما (١) لم ينعقد الإجماع على طهارته. وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائيّة والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه (٢). وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب.

فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد استعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره.

وبالجملة : فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها ـ فضلا عن العمل بها ـ أمر يكاد يلحق بالمتعذّر ، و (٣) يظهر ذلك (٤) بالتأمّل في الوقائع الاتّفاقيّة.

فإن قلت : لا يجب على المقلّد متابعة هذا الشخص الذي أدّى

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «قد أصابه ماء».

(٢) لم ترد «المجمع عليه» في (ر) و (ل) ، وشطب عليها في (ت) و (ه).

(٣) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ل) : «يظهر لك».


نظره إلى انسداد باب العلم في معظم المسائل ووجوب الاحتياط ، بل يقلّد غيره.

قلت ـ مع أنّ لنا أن نفرض انحصار المجتهد في هذا الشخص ـ : إنّ كلامنا في حكم الله سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد الذي اعتقد انسداد باب العلم ، وعدم الدليل على ظنّ خاصّ يكتفى به في تحصيل غالب الأحكام ، وأنّ من يدّعي وجود الدليل على ذلك فإنّما نشأ اعتقاده ممّا لا ينبغي الركون إليه ويكون الركون إليه جزما في غير محلّه ، فالكلام في : أنّ حكم الله تعالى ـ على تقدير انسداد باب العلم وعدم نصب الطريق الخاصّ ـ لا يمكن أن يكون هو الاحتياط بالنسبة إلى العباد ؛ للزوم الحرج البالغ حدّ اختلال النظام.

ولا يخفى : أنّه لا وجه لدفع هذا الكلام بأنّ العوامّ يقلّدون مجتهدا غير هذا قائلا بعدم انسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنّيّة الوافية بأغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرج وضيق.

مع عدم إمكان الاحتياط لا مناص عن العمل بالظنّ

ثمّ إنّ هذا كلّه مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكن فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات ، أمّا مع عدم إمكان الاحتياط ـ كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منهما إلى صرفه عليه في الحال ، وكما في المرافعات ـ فلا مناص عن العمل بالظنّ.

الإيراد على لزوم الحرج بوجوه

وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس بالإشارة إلى بعضها :

الإيراد الأوّل

منها : النقض بما لو أدّى اجتهاد المجتهد وعمله بالظنّ إلى فتوى يوجب الحرج ، كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، أو وجوب الغسل على مريض أجنب متعمّدا وإن أصابه من


المرض ما أصابه كما هو قول بعض أصحابنا (١) ، وكذا لو فرضنا أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب امور كثيرة يحصل العسر بمراعاتها (٢).

وبالجملة : فلزوم الحرج من العمل بالقواعد لا يوجب الإعراض عنها ، ففيما نحن فيه (٣) إذا اقتضى القاعدة رعاية الاحتياط لم يرفع اليد عنها للزوم العسر.

جواب الإيراد

والجواب : أنّ ما ذكر في غاية الفساد ؛ لأنّ مرجعه إن كان إلى منع نهوض أدلّة نفي الحرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات وتخصيصها بغير صورة لزوم الحرج ، فينبغي أن ينقل الكلام في منع ثبوت قاعدة الحرج ، ولا يخفى أنّ منعه في غاية السقوط ؛ لدلالة الأخبار المتواترة معنى عليه (٤) ، مضافا إلى دلالة ظاهر الكتاب (٥).

والحاصل : أنّ قاعدة نفي الحرج ممّا ثبتت بالأدلّة الثلاثة ، بل الأربعة في مثل المقام ؛ لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب اختلال نظام أمر المكلّف. نعم ، هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدة ظنّية تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصّة المحكمة وإن لم تكن قطعيّة.

__________________

(١) كالشيخ المفيد في المقنعة : ٦٠.

(٢) في (ت) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ص) : «لمراعاتها».

(٣) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «وفيما نحن فيه».

(٤) مثل : ما في الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، والصفحة ١١٣ و ١١٥ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥ و ١١ ، وانظر عوائد الأيّام : ١٧٤ ـ ١٨١.

(٥) سورة الحجّ : ٧٨.


حكومة أدلّة نفي الحرج على العمومات المثبتة للتكليف

وأمّا القواعد والعمومات المثبتة للتكليف ، فلا إشكال بل لا خلاف في حكومة أدلّة نفي الحرج عليها ، لا لأنّ النسبة بينهما عموما من وجه فيرجع إلى أصالة البراءة كما قيل (١) ، أو إلى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحرج كما زعم (٢) ؛ بل لأنّ أدلّة نفي العسر (٣) بمدلولها اللفظيّ حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف ، فهي بالذات مقدّمة عليها ، وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجيّ ، بل يقدّمونها من غير مرجّح خارجيّ.

نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخّرين (٤) عمل الفقهاء بها في الموارد من المرجّحات لتلك القاعدة ؛ زعما منه أنّ عملهم لمرجّح توقيفيّ اطّلعوا عليه واختفى علينا (٥). ولم يشعر أنّ وجه التقديم كونها حاكمة على العمومات.

ممّا يوضح الحكومة

وممّا يوضح ما ذكرنا ، و (٦) يدعو إلى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ، ويوجب الإعراض عمّا زعمه غير واحد (٧) ، من

__________________

(١) انظر القوانين ٢ : ٥٠.

(٢) زعمه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٣٧.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٤) انظر كفاية الأحكام : ٢٤١.

(٥) في (ر) ، (ظ) و (م) ومصحّحة (ل) ونسخة بدل (ص) : «واختفى عنّا».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل «وممّا يوضح ما ذكرنا و» : «وتوضيح هذا وإن كان له مقام آخر ، إلاّ أنّا نشير إجمالا إلى ما» ، وفي (ظ) و (م) بدل «له» : «في».

(٧) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٣٧ ، والفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ١٩٤.


وقوع التعارض بينها وبين سائر العمومات ، فيجب الرجوع إلى الاصول أو المرجّحات : ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام في من عثر ، فانقطع ظفره ، فجعل عليه مرارة ، فكيف يصنع بالوضوء؟ فقال عليه‌السلام : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ؛) امسح عليه» (١).

فإنّ في إحالة الإمام عليه‌السلام لحكم هذه الواقعة إلى عموم نفي الحرج ، وبيان أنّه ينبغي أن يعلم منه أنّ الحكم في هذه الواقعة المسح فوق المرارة ، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة ، دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحرج بأنفسها على العمومات المثبتة للتكاليف من غير (٢) ملاحظة تعارض وترجيح في البين ، فافهم.

وإن كان مرجع ما ذكره إلى : أنّ التزام العسر إذا دلّ عليه الدليل لا بأس به ، كما فيما ذكر من المثال والفرض ، ففيه ما عرفت (٣) ، من : أنّه لا يخصّص تلك العمومات إلاّ ما يكون أخصّ منها معاضدا بما يوجب قوّته (٤) على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه ليس في المقام إلاّ قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد عنها لأجل العسر في موارد كثيرة : مثل الشبهة الغير المحصورة ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، والآية من سورة الحجّ : ٧٨.

(٢) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «حاجة إلى».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٧.

(٤) كذا في مصحّحة (ت) ، وفي غيرها : «قوّتها».


وما لو علم أنّ عليه فوائت ولا يحصي عددها ، وغير ذلك.

بل أدلّة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل ، فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات الاجتهاديّة.

وأمّا ما ذكره : من فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب امور يلزم من فعلها الحرج ، فيرد عليه :

أوّلا : منع إمكانه ؛ لأنّا علمنا بأدلّة نفي الحرج أنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجب العسر على المكلّف ، ومع هذا العلم الإجماليّ يمتنع الظنّ التفصيليّ بوجوب امور في الشريعة يوجب ارتكابها العسر ، على ما مرّ نظيره في الإيراد على دفع الرجوع إلى البراءة.

وثانيا : سلّمنا إمكان ذلك ـ إمّا لكون الظنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنونا نوعيّة لا تنافي العلم الإجماليّ بمخالفة البعض للواقع ، أو بناء على أنّ المستفاد من أدلّة نفي العسر (١) ليس هو القطع ولا الظنّ الشخصيّ بانتفاء العسر ، بل غايته الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات بذلك ، فلا ينافي الظنّ الشخصيّ التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ، وإمّا بناء على ما ربما يدّعى : من عدم التنافي بين الظنون التفصيليّة الشخصيّة والعلم الإجماليّ بخلافها ، كما في الظنّ الحاصل من الغلبة مع العلم الإجماليّ بوجود الفرد النادر على الخلاف ـ لكن (٢)

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «ولكن».


نمنع وقوع ذلك ؛ لأنّ الظنون الحاصلة للمجتهد ـ بناء على مذهب الإماميّة من عدم اعتبار الظنّ القياسيّ وأشباهه ـ ظنون حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والإجماع المنقول والأولويّة الاعتباريّة ونظائرها ، ومن المعلوم للمتتبّع فيها أنّ مؤدّياتها لا تفضي إلى الحرج ؛ لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ، كما لا يخفى على من لاحظها وسبرها سبرا إجماليّا.

وثالثا : سلّمنا إمكانه ووقوعه ، لكنّ العمل بتلك الظنون لا يؤدّي إلى اختلال النظام حتّى لا يمكن إخراجها عن عمومات نفي العسر ، فنعمل (١) بها في مقابلة عمومات نفي العسر ونخصّصها (٢) بها ؛ لما عرفت (٣) من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال.

وليس في هذا كرّ على ما فرّ منه ؛ حيث إنّا عملنا بالظنّ فرارا عن لزوم العسر ، فإذا أدّى إليه فلا وجه للعمل به ؛ لأنّ العسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظنّ كان بالغا حدّ اختلال النظام من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة ، وأمّا الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط فلا بدّ من العمل عليها ، سواء عملنا بالظنّ أو عملنا بالاحتياط ، وحينئذ : فليس العسر اللازم من العمل بالظنون الاجتهاديّة في فرض المعترض من جهة العمل بالظنّ ، بل من جهة مطابقته (٤)

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «فتعمل».

(٢) في (ت) : «وتخصّصها».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٧.

(٤) في (ت) و (ر) : «المطابقة».


لمقتضى الاحتياط ، فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إلى تلك الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط.

الإيراد الثاني على لزوم الحرج وجوابه

ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ والعمومات النافية للحرج ، والأوّل أكثر ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الإجماليّ بالتكاليف الكثيرة سليمة عن المزاحم.

وفيه : ما لا يخفى ؛ لما عرفت في تأسيس الأصل (١) : من أنّ العمل بالظنّ ليس فيه ـ إذا لم يكن بقصد التشريع والالتزام شرعا بمؤدّاه ـ حرمة ذاتيّة ، وإنّما يحرم إذا أدّى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، فالنافي للعمل بالظنّ فيما نحن فيه ليس إلاّ قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك الاحتمالات ، وقد فرضنا أنّ قاعدة الاحتياط ساقطة بأدلّة نفي العسر (٢). ثمّ لو فرضنا ثبوت الحرمة الذاتيّة للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ، لكن عرفت سابقا (٣) عدم معارضة عمومات نفي العسر لشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر.

الإيراد الثالث على لزوم الحرج

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلا وبالذات ، فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع ؛ ولذا لو نذر المكلّف امورا عسرة ـ كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر ، أو

__________________

(١) راجع الصفحة ١٣٤.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٨.


إحياء (١) الليالي أو المشي إلى الحجّ والزيارات (٢) ـ لم يمنع تعسّرها عن انعقاد نذرها ؛ لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قبل المكلّف. وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ لم يمنع مشقّته من صحّة الإجارة ووجوب الوفاء بها.

وحينئذ ، فنقول : لا ريب أنّ وجوب الاحتياط ـ بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ـ إنّما هو من جهة اختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع المبيّنة للأحكام والمميّزة للحلال عن الحرام ، وهذا السبب وإن لم يكن عن (٣) فعل كلّ مكلّف ـ لعدم مدخليّة أكثر المكلّفين في ذلك ـ إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليّا حتّى يقبح أن يكلّف به من لم يكن سببا له ويختصّ عدم قبحه بمن صار التعسّر من سوء اختياره ، بل هو أمر منفيّ بالأدلّة السمعيّة ، وظاهرها أنّ المنفيّ هو جعل الأحكام الشرعيّة أوّلا وبالذات على وجه يوجب العسر على المكلّف ، فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذ أكثر بمراتب.

ألا ترى : أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ـ ولو كفاية ـ من

__________________

(١) في (ت) ، (ظ) و (م) : «وإحياء» ، وفي غير (ه) و (ت) : «إحياء بعض الليالي».

(٢) في (ر) و (ص) : «أو الزيارات».

(٣) في (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «من».


الامور الشاقّة جدّا خصوصا في هذه الأزمنة ، فهل السبب فيه إلاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة؟ وهل يفرّق في نفي العسر بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ؟

جواب الإيراد الثالث

والجواب عن هذا الوجه : أنّ أدلّة نفي العسر ـ سيّما البالغ منه حدّ اختلال النظام والإضرار بامور المعاش والمعاد ـ لا فرق فيها بين ما يكون بسبب يسند عرفا إلى الشارع ، وهو الذي اريد بقولهم عليهم‌السلام : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (١) ، وبين ما يكون مسندا إلى غيره.

ووجوب صوم الدهر على ناذره إذا كان فيه مشقّة لا يتحمّل عادة ممنوع. وكذا أمثالها (٢) : من المشي إلى بيت الله جلّ ذكره ، وإحياء الليالي ، وغيرهما.

مع إمكان أن يقال : بأنّ ما ألزمه المكلّف على نفسه من المشاقّ (٣) ، خارج عن العمومات ، لا ما كان السبب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمّدا فلا يجب الغسل مع المشقّة وبين إجارة النفس للمشاقّ ؛ فإنّ الحكم في الأوّل تأسيس من الشارع وفي الثاني إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه ، فتأمّل.

وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عند انسداد باب العلم ـ فمع أنّه شيء يقضي بوجوبه الأدلّة القطعيّة ، فلا ينظر إلى تعسّره وتيسّره ـ فهو

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٦٢ ، الباب ٢٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٦.

(٢) كذا في جميع النسخ ، والأنسب : «أمثاله».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) زيادة : «لازم» ، وفي (ظ) و (م) زيادة : «بملزم».


ليس أمرا حرجا (١) ، خصوصا بالنسبة إلى أهله ؛ فإنّ مزاولة العلوم لأهلها ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصعبة التي يتحمّلها الناس لمعاشهم ، وكيف كان فلا يقاس عليه.

وأمّا عمل العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو الامور في الوقائع الشخصيّة إذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات المتعارضة ، فإنّ هذا دونه خرط القتاد ؛ إذ أوقات المجتهد لا يفي بتمييز (٢) موارد الاحتياط (٣) ، ثمّ إرشاد المقلّدين إلى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي تتّفق (٤) للمقلّدين ، كما مثّلنا لك سابقا بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

الردّ على الاحتياط بوجوه أخر

وقد يردّ الاحتياط بوجوه أخر غير ما ذكرنا من الإجماع والحرج :

الوجه الأوّل والمناقشة فيه

منها : أنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وأنّ الاحتياط أمر مستحبّ إذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

وفيه : أنّه إن اريد أنّه لا دليل على وجوبه في كلّ واقعة إذا لوحظت مع قطع النظر عن العلم الإجماليّ بوجود التكليف (٥) بينها وبين الوقائع الأخر ، فهو مسلّم بمعنى : أنّ كلّ واقعة ليست ممّا يقتضي الجهل

__________________

(١) في (ر) : «حرجيّا».

(٢) في غير (ه) : «بتميّز».

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «الاحتياطات».

(٤) في النسخ : «يتّفق».

(٥) في (ت) و (ه) : «التكاليف».


فيها ـ بنفسها ـ للاحتياط (١) ، بل الشكّ فيها إن رجع إلى التكليف ـ كما في شرب التتن ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ لم يجب فيها الاحتياط ، وإن رجع إلى تعيين المكلّف به ـ كالشكّ في القصر والإتمام والظهر والجمعة ، وكالشكّ في مدخليّة شيء في العبادات بناء على وجوب الاحتياط فيما شكّ في مدخليّته ـ وجب فيها الاحتياط ، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات فيها وإن كان الشكّ في نفس الواقعة شكّا في التكليف ؛ ولذا ذكرنا سابقا (٢) : أنّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوّليّة عند انسداد باب العلم.

نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتّى مع العلم الإجماليّ بالتكليف فهو مستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط.

الوجه الثاني : أنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط

ومنها : أنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط ؛ لأنّ مذهب جماعة من العلماء بل المشهور بينهم اعتبار معرفة الوجه ، بمعنى تمييز (٣) الواجب عن المستحبّ اجتهادا أو تقليدا ـ قال في الإرشاد في أوائل الصلاة : يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من مندوبها وإيقاع كلّ منهما (٤) على وجهه (٥) ـ وحينئذ : ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه ، التي أفتى جماعة

__________________

(١) كذا في جميع النسخ ، ولعلّ الأنسب : «الاحتياط».

(٢) راجع الصفحة ٤٠٣.

(٣) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «تميّز».

(٤) في (ت) و (م) : «كلّ منها».

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥١.


بوجوبها وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه :

أوّلا : أنّ معرفة الوجه ممّا يمكن ـ للمتأمّل في الأدلّة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وفي سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام مع الناس ـ الجزم بعدم اعتبارها حتّى مع التمكّن من المعرفة العلميّة ؛ ولذا ذكر المحقّق قدس‌سره ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ : أنّ ما حقّقه المتكلّمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه (١) أو وجه وجوبه كلام شعريّ (٢) ، وتمام الكلام في غير هذا المقام.

وثانيا : لو سلّمنا وجوب المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للاحتياط ، فإنّما هو مع التمكّن من المعرفة العلميّة ، أمّا مع عدم التمكّن فلا دليل عليه قطعا ؛ لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقّف نيّة الوجه عليها ، فلا يخفى أنّه لا يجدي المعرفة الظنّيّة في نيّة الوجه ؛ فإنّ مجرّد الظنّ بوجوب شيء لا يتأتّى معه القصد إليه (٣) لوجوبه ؛ إذ لا بدّ من الجزم بالغاية. ولو اكتفي بمجرّد الظنّ بالوجوب ـ ولو لم يكن نيّة حقيقة ـ فهو ممّا لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نيّة الوجه. نعم ، لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به تحقّق معه نيّة الوجه الظاهريّ على سبيل الجزم. لكنّ الكلام بعد في وجوب العمل بالظنّ.

فالتحقيق : أنّ الظنّ بالوجه إذا لم يثبت حجّيّته فهو كالشكّ فيه

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «بوجهه».

(٢) انظر الرسائل التسع : ٣١٧ ، والمدارك ١ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٣) لم ترد «إليه» في (ر) ، (ص) و (ظ).


لا وجه لمراعاة نيّة الوجه (١) معه أصلا.

وإن كان اعتبارها لأجل توقّف الامتثال التفصيليّ المطلوب عقلا وشرعا (٢) عليه ـ ولذا أجمعوا ظاهرا (٣) على عدم كفاية الامتثال الإجماليّ مع التمكّن من التفصيليّ ، بأن يتمكّن من الصلاة إلى القبلة في مكان ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة إلى أربع جهات ، أو يصلّي في ثوبين مشتبهين أو أكثر مرّتين أو أكثر مع إمكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطهارة ، إلى غير ذلك ـ ففيه :

أنّ ذلك إنّما هو مع التمكّن من العلم التفصيليّ ، وأمّا مع عدم التمكّن منه ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيليّ الظنّي على الامتثال الإجماليّ العلميّ ؛ إذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان إلى جهة مظنونة على الصلاة (٤) المكرّرة في مكان مشتبه الجهة ، بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفيّة على ترجيح العلم الإجماليّ على الظنّ التفصيليّ.

وبالجملة : فعدم جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ممّا لم يقم له وجه ، فإن كان ولا بدّ من إثبات العمل بالظنّ فهو بعد تجويز الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحبّا ، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل (٥) الظنّ الخاصّ الذي قام الدليل عليه بالخصوص ، فتأمّل.

__________________

(١) في (ص) ، (م) و (ه) زيادة : «فيه».

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «أو شرعا».

(٣) لم ترد «ظاهرا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ظ) ، (ل) و (ه) : «الصلوات».

(٥) لم ترد «تحصيل» في (ر) ، (ص) و (ظ).


نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيليّ في العبادات ممّا انعقد الإجماع ظاهرا على عدم جوازه ، كما أشرنا إليه في أوّل الرسالة في مسألة اعتبار العلم الإجماليّ وأنّه كالتفصيليّ من جميع الجهات أم لا ، فراجع (١).

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ القائل بانسداد باب العلم وانحصار المناص في مطلق الظنّ ليس له أن يتأمّل في صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد إذا أخذ بالاحتياط ؛ لأنّه لم يبطل عند انسداد باب العلم إلاّ وجوب الاحتياط لا جوازه أو رجحانه ، فالأخذ بالظنّ (٢) وترك الاحتياط عنده من باب الترخيص ودفع (٣) العسر والحرج ، لا من باب العزيمة.

وثالثا : سلّمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنّيا على الإجماليّ ولو كان علميّا ، لكنّ الجمع ممكن بين تحصيل الظنّ في المسألة ومعرفة الوجه ظنّا والقصد إليه على وجه الاعتقاد الظنّي ، والعمل على الاحتياط.

مثلا : إذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ، فيأتي بالقصر بالنيّة الظنّيّة الوجوبيّة ، ويأتي بالإتمام بقصد القربة احتياطا أو بقصد الندب (٤). وكذلك إذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في

__________________

(١) راجع الصفحة ٧١ ـ ٧٢.

(٢) في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) زيادة : «عنده».

(٣) في (ر) ، (ص) و (م) : «رفع».

(٤) لم ترد عبارة «أو بقصد الندب» في (ت) ، (ر) و (ه). وشطب عليها في (ص).


الصلاة ، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ، ثمّ يأتي بالسورة قربة إلى الله تعالى للاحتياط (١).

ورابعا : لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا ، فنقول : إنّ الظنّ إذا لم يثبت حجّيّته فقد (٢) كان اللازم بمقتضى العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط كما عرفت سابقا (٣) ، فإذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة وهو الوجوب ، وتأتّى نيّة الوجه (٤) الظاهريّ كما تأتّى في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من باب الاحتياط واستصحاب الاشتغال (٥).

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ العمدة في ردّ الاحتياط هي ما تقدّم من الإجماع ولزوم العسر دون غيرهما.

__________________

(١) في (ه) زيادة : «بناء على اعتبار قصد الوجه» ، وفي (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) زيادة عبارة اخرى ـ مع اختلاف يسير بينها ـ وهي : «أو بقصد الندب بناء على اعتبار قصد الوجه.

ودعوى : أنّ التمام المأتيّ به في الفرض الأوّل والسورة المأتيّ بها في الفرض الثاني ، يحتمل وجوبهما ، فيكون نيّة الندب نيّة الخلاف والندب مخالفة للاحتياط ، يدفعها : الإجماع على أنّه لا يعتبر فيما يؤتى به لخصوص الاحتياط إلاّ الوجه الظاهريّ ؛ وإلاّ لارتفع الاحتياط رأسا ، وهو باطل بديهة من العقل والشرع» ، ولكن كتب فوقها في (ص) : «زيادة».

(٢) لم ترد «فقد» في (ت) و (ه).

(٣) راجع الصفحة ٤٠٣.

(٤) في (ل) و (ص) : «نيّة الوجوب».

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «فتأمّل».


مقتضى نفي الاحتياط عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة فقط

إلاّ أنّ هنا شيئا ينبغي أن ينبّه عليه ، وهو :

أنّ نفي الاحتياط بالإجماع والعسر لا يثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات ـ مظنونها ومشكوكها وموهومها ـ ويندفع العسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاّ أو بعضا ، بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة ؛ لأنّها الأولى بالإهمال إذا ساغ ـ لدفع الحرج ـ ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به العسر ، ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ؛ لما تقرّر في مسألة الاحتياط : من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بمحتملات وقام الدليل الشرعيّ على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر (١) ، تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم يسقط وجوب الاحتياط رأسا.

توضيح ما ذكرنا : أنّا نفرض المشتبهات التي علم إجمالا بوجود الواجبات الكثيرة فيها بين مظنونات الوجوب ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب ، وكان الإتيان بالكلّ عسرا أو قام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع ، تعيّن ترك الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب ، بمعنى أنّه إذا تعلّق ظنّ بعدم الوجوب لم يجب الإتيان.

وليس هذا معنى حجّيّة الظنّ ؛ لأنّ الفرق بين المعنى المذكور وهو أنّ مظنون عدم الوجوب لا يجب الإتيان به ، وبين حجّيّة الظنّ بمعنى كونه في الشريعة معيارا لامتثال التكاليف الواقعيّة نفيا وإثباتا ـ وبعبارة

__________________

(١) لم ترد «في الظاهر» في (ر) و (م).


اخرى : الفرق بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة وبين جعل الظنّ فيها حجّة ـ هو : أنّ الظنّ إذا كان حجّة في الشرع كان الحكم في الواقعة الخالية عنه الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من دون التفات إلى العلم الإجماليّ بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات ؛ إذ حال الظنّ حينئذ كحال العلم التفصيليّ والظنّ الخاصّ بالوقائع ، فيكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلا أو ما هو بمنزلة المعلوم ، وبين مشكوك الوجوب رأسا.

وأمّا إذا لم يكن الظنّ حجّة ـ بل كان غاية الأمر بعد قيام الإجماع ونفي الحرج على عدم لزوم الاحتياط في

جميع الوقائع المشتبهة التي علم إجمالا بوجود التكاليف بينها ، عدم وجوب الاحتياط بالإتيان بما ظنّ عدم وجوبه ؛ لأنّ ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلاف الإجماع وموجب للعسر ـ كان اللازم في الواقعة الخالية عن الظنّ الرجوع إلى ما يقتضيه العلم الإجماليّ المذكور من الاحتياط ؛ لأنّ سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات لا يقتضي سقوطه في المشكوكات ؛ لاندفاع الحرج بذلك.

وحاصل ذلك : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلميّ التفصيليّ للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلميّ الإجماليّ وهو الاحتياط المطلق ، ومع تعذّره لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلميّ الإجماليّ في البعض والظنّي في الباقي ، كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ، ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّيّة ، وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات


وإلغائه في الموهومات ، كان الثاني هو المتعيّن.

ودعوى : لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات ، خلاف الإنصاف ؛ لقلّة المشكوكات ؛ لأنّ الغالب حصول الظنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم.

دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا

اللهمّ إلاّ أن يدّعى : قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، وحاصله : دعوى أنّ الشارع لا يريد الامتثال العلميّ الإجماليّ في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع ، فيكون حاصل دعوى الإجماع : دعوى انعقاده على أنّه لا يجب شرعا الإطاعة العلميّة الإجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقا ـ لا في الكلّ ولا في البعض ـ وحينئذ يتعيّن (١) الانتقال إلى الإطاعة الظنّيّة.

الإشكال في هذه الدعوى

لكنّ الإنصاف : أنّ دعواه مشكلة جدّا وإن كان تحقّقه مظنونا بالظنّ القويّ ، لكنّه (٢) لا ينفع ما لم ينته إلى حدّ العلم.

فإن قلت : إذا ظنّ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظنّ بأنّ المرجع في كلّ مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فيصير الاصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ، فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلّف ، وكفاية الرجوع إلى الاصول ، وسيجيء (٣) : أنّه لا فرق في الظنّ الثابت حجّيّته بدليل الانسداد بين الظنّ المتعلّق بالواقع ، وبين الظنّ المتعلّق بكون شيء

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «تعيّن».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «لكن».

(٣) انظر الصفحة ٤٣٧.


طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلّف عن الواقع (١).

قلت : مسألة اعتبار الظنّ بالطريق موقوف على هذه المسألة ، بيان ذلك : أنّه لو قلنا ببطلان لزوم الاحتياط في الشريعة رأسا ـ من جهة اشتباه التكاليف الواقعيّة فيها ، وعدم لزوم الامتثال العلميّ الإجماليّ حتّى في المشكوكات ، وكفاية الامتثال الظنّيّ في جميع تلك الواقعيّات المشتبهة ـ لم يكن فرق بين حصول الظنّ بنفس الواقع وبين حصول الظن بقيام شيء من الامور التعبديّة مقام الواقع في حصول البراءة الظنّية عن الواقع والظنّ بسقوط الواقع في الواقع أو في حكم الشارع وبحسب جعله.

أمّا لو لم يثبت ذلك ، بل كان غاية ما ثبت هو عدم لزوم الاحتياط بإحراز الاحتمالات الموهومة ـ للزوم العسر ـ كان اللازم جواز الفعل (٢) على خلاف الاحتياط في الوقائع المظنون عدم وجوبها أو عدم تحريمها ، وأمّا الوقائع المشكوك وجوبها أو تحريمها فهي باقية على طبق مقتضى الأصل من الاحتياط اللازم المراعاة ، بل الوقائع المظنون

__________________

(١) وردت في (ت) ، و (ر) ، (ص) ، (ه) وهامش (ل) ، بخطّ يغاير خط المتن ، زيادة ، وهي : «قلت : مرجع الإجماع ـ قطعيّا كان أو ظنّيا ـ على الرجوع في المشكوكات إلى الاصول ، هو الإجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي انسدّ فيها باب العلم حتّى تكون المسائل الخالية عنها موارد للاصول ، ومرجع هذا إلى دعوى الإجماع على حجّيّة الظنّ بعد الانسداد».

(٢) في هامش (ص) : «العمل» ، وفي (ل) شطب عليها.


وجوبها أو تحريمها نحكم فيها بلزوم الفعل أو الترك ؛ من جهة كونها من محتملات الواجبات والمحرّمات الواقعيّة.

وحينئذ : فإذا قام ما يظنّ كونه طريقا على عدم وجوب أحد الموارد المشكوك وجوبها ، فلا يقاس بالظنّ القائم على عدم وجوب مورد من الموارد المشتبهة في ترك الاحتياط ، بل اللازم هو العمل بالاحتياط ؛ لأنّه من الموارد المشكوكة ، والظنّ بطريقيّة ما قام عليه لم يخرجه عن كونه مشكوكا.

وأنت خبير : بأنّ جميع موارد الطرق المظنونة التي يراد إثبات اعتبار الظنّ بالطريق فيها إنّما هي من المشكوكات ؛ إذ لو كان نفس المورد مظنونا مع ظنّ الطريق القائم عليه لم يحتج إلى إعمال الظنّ بالطريق ، ولو كان مظنونا بخلاف الطريق التعبّديّ المظنون كونه طريقا ، لتعارض الظنّ الحاصل من الطريق والظنّ الحاصل في المورد على خلاف الطريق ، وسيجيء الكلام في حكمه (١) على تقدير اعتبار الظنّ بالطريق (٢).

فإن قلت : إذا لم يقم في موارد الشكّ ما ظنّ طريقيّته لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات و (٣) المحرّمات الواقعيّة ـ وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة اقتضاء

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٣٢ ، وما بعدها.

(٢) لم ترد عبارة «قلت : مسألة اعتبار ـ إلى ـ اعتبار الظنّ بالطريق» في (ر) و (ه) ، وشطب عليها في (ل) ، ووردت في هامش (ص).

(٣) كذا في (ل) و (ه) ، وفي (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «أو».


القاعدة في نفس المسألة ، كما لو كان الشكّ فيه في المكلّف به ـ وهذا إجماع من العلماء ؛ حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشكّ من جهة احتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ، وإن احتاط الأخباريّون في الشبهة التحريميّة من جهة مجرّد احتمال التحريم ، فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّا مع عدم قيام ما يظنّ طريقيّته على عدم الوجوب ، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة.

قلت : العلماء إنّما لم يذهبوا إلى الاحتياط في موارد الشكّ ؛ لعدم العلم الإجماليّ لهم بالتكاليف ، بل الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلا أو مظنون لهم بالظنّ الخاصّ ، وبين مشكوك التكليف رأسا ، ولا يجب الاحتياط في ذلك عند المجتهدين ، بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبيّة.

والحاصل : أنّ موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظنّ الخاصّ مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد ، وقد نبّهنا على ذلك غير مرّة في بطلان التمسّك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء ، فراجع.

والحاصل : أنّ اعتبار الظنّ بالطريق وكونه كالظنّ بالواقع (١) مبنيّ على القطع ببطلان الاحتياط رأسا ، بمعنى أنّ الشارع لم يرد منّا في مقام امتثال الأحكام المشتبهة الامتثال العلميّ الإجماليّ ، حتّى يستنتج من ذلك حكم العقل بكفاية الامتثال الظنّي ؛ لأنّه المتعيّن بعد الامتثال العلميّ بقسميه من التفصيليّ والإجماليّ ، فيلزم من ذلك ما سنختاره : من عدم

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي (ل) و (م) : «في الواقع».


الفرق ـ بعد كفاية الامتثال الظنّي ـ بين الظنّ بأداء الواقع والظنّ بمتابعة طريق جعله الشارع مجزيا عن الواقع ، وسيجيء تفصيل ذلك (١) إن شاء الله تعالى (٢).

إشكال آخر في المقام

ويحصل (٣) ممّا ذكر إشكال آخر ـ أيضا ـ من جهة : أنّ نفي الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها (٤).

ودعوى : أنّ باب العلم والظنّ الخاصّ إذا فرض انسداده سقط عمومات الكتاب والسنّة المتواترة وخبر الواحد الثابت حجّيّته بالخصوص عن الاعتبار ؛ للعلم الإجماليّ بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلّم ، فلا يبقى ظاهر منها على حاله حتّى يكون الظنّ الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد ، مجازفة ؛ إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص ، مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٥) و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٦) وشبههما. وأمّا كثير من

__________________

(١) انظر الصفحة ٤٣٧.

(٢) لم ترد عبارة «قلت : مسألة اعتبار ـ إلى ـ تعالى» في (ت) ، ولم ترد عبارة «والحاصل أن اعتبار ـ إلى ـ تعالى» في (ر) و (ه) ، ووردت في هامش (ص) وكتب عليها : «زائد».

(٣) في (ت) و (ه) : «وتحصّل».

(٤) في (ل) زيادة : «وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إن شاء الله تعالى».

(٥) المزّمّل : ٢٠.

(٦) آل عمران : ٩٧.


العمومات التي لا نعلم (١) بإجمال كلّ منها ، فلا نعلم ولا نظنّ (٢) بثبوت المجمل بينها لأجل طروّ التخصيص في بعضها. وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إن شاء الله.

هذا كلّه حال الاحتياط في جميع الوقائع.

بطلان الرجوع في كلّ واقعة إلى ما يقتضيه الأصل

وأمّا الرجوع في كلّ واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من غير التفات إلى العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ نفس الواقعة : فإن كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه استصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيير ، وإلاّ : فإن كان الشكّ في أصل التكليف ـ كشرب التتن ـ اجري البراءة ، وإن كان الشكّ في تعيين المكلّف به ـ مثل القصر والإتمام ـ : فإن أمكن الاحتياط وجب ، وإلاّ تخيّر ، كما إذا كان الشكّ في تعيين التكليف الإلزاميّ ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم.

ويردّ هذا الوجه : أنّ العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المطابق لها (٣) المخالف للاحتياط ، بل وكذا العلم الإجماليّ بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط يمنع عن العمل بالاستصحابات من حيث إنّها استصحابات (٤) ، وإن كان لا يمنع عن العمل بها من حيث الاحتياط ،

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ل) : «لا يعلم».

(٢) في غير (ظ) ، (م) و (ه) : «فلا يعلم ولا يظنّ».

(٣) لم ترد «المطابق لها» في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه).

(٤) في (ص) زيادة : «فتأمّل».


لكنّ الاحتياط في جميع ذلك يوجب العسر.

وبالجملة : فالعمل بالاصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج ؛ وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

بطلان الرجوع إلى فتوى العالم وتقليده

وأمّا رجوع هذا الجاهل الذي انسدّ عليه باب العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى العالم بها وتقليده فيها ، فهو باطل ؛ لوجهين :

أحدهما : الإجماع القطعيّ.

والثاني : أنّ الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص ، وأمّا الجاهل الذي بذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلّطه في استناده إليه واعتقاده عنه ، فلا دليل على حجّيّة فتواه بالنسبة إليه ، وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل ؛ فإنّ من يخطّئ القائل بحجّيّة خبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها كيف يجوز له متابعته؟ وأيّ مزيّة له عليه حتّى يجب رجوعه إليه ولا يجب العكس؟

وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء : من أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدليل على التكليف.

والحاصل : أنّ اعتقاد مجتهد ليس حجّة على مجتهد آخر خال عن ذلك (١) الاعتقاد ، وأدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يراد بها العالم

__________________

(١) لم ترد «ذلك» في (ر) و (م).


الذي يختفي منشأ علمه على ذلك الجاهل (١) ، لا مجرّد المعتقد (٢) بالحكم ، ولا فرق بين المجتهدين المعتقدين المختلفين في الاعتقاد ، وبين المجتهدين اللذين أحدهما اعتقد الحكم عن دلالة ، والآخر اعتقد فساد تلك الدلالة فلم يحصل له اعتقاد.

وهذا شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهدا كان أو مفتيا أو (٣) غيرهما.

__________________

(١) وردت في (ر) بدل «العالم الذي ـ إلى ـ ذلك الجاهل» : «غير ذلك».

(٢) في (ر) زيادة : «ولو كان أعلم».

(٣) في (ر) ، (ص) و (م) : «أم».


المقدّمة الرابعة تعيّن العمل بمطلق الظنّ

المقدّمة الرابعة :

ئي أنّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرّة كما هو مقتضى المقدّمة الثانية (١) ، وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه إلى الاصول الشرعيّة ، كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة ، تعيّن بحكم العقل (٢) التعرّض لامتثالها على وجه الظنّ بالواقع فيها ؛ إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظنّي بالظنّ الخاصّ المعتبر في الشريعة امتثال مقدّم على الامتثال الظنّي.

توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرّض لامتثال الحكم الشرعيّ ، فله مراتب أربع :

__________________

(١) كذا في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي (ت) و (ه) جاءت العبارة كما يلي : «المقدّمة الرابعة : في أنّه إذا وجب التعرّض لامتثال الواقع في مسألة واحدة أو في مسائل ، ولم يمكن الرجوع فيها إلى الاصول ، ولم يجب أو لم يجز الاحتياط ، تعيّن العمل فيها بمطلق الظنّ. ولعلّه لذلك يجب العمل بالظنّ في الضرر والعدالة وأمثالهما.

إذا تمهّدت هذه المقدّمات ، فنقول : إذا ثبت وجوب التعرّض فيما نحن فيه للامتثال حيث انسدّ فيه باب العلم والظنّ الخاصّ كما مرّ في المقدّمة الاولى».

ومن المحتمل : أن يكون الصادر من قلمه الشريف أوّلا ما أثبتناه ثمّ شطب عليه وأثبت ما في (ت) و (ه) ، كما أشار إلى ذلك المحقّق الحاج ميرزا موسى التبريزي قدس‌سره في هامش أوثق الوسائل.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «المستقلّ» ، وفي (ص) بدل (العقل) «المقدمة الرابعة».


مراتب امتثال الحكم الشرعي

الاولى : الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو أن يأتي بما يعلم تفصيلا أنّه هو المكلّف به.

وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطريق الشرعيّ وإن لم يفد العلم ولا الظنّ ، كالاصول الجارية في مواردها ، وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد.

الثانية : الامتثال العلميّ الإجماليّ ، وهو يحصل بالاحتياط.

الثالثة : الامتثال الظنّي ، وهو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به.

الرابعة : الامتثال الاحتماليّ ، كالتعبّد بأحد طرفي المسألة من الوجوب والتحريم ، أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه.

ترتّب هذه المراتب

وهذه المراتب مترتّبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها (١) إلاّ مع تعذّرها ، على إشكال في الأوّلين تقدّم (٢) في أوّل الكتاب (٣) ، وحينئذ فإذا تعذّرت المرتبة الاولى ولم يجب الثانية تعيّنت الثالثة ، ولا يجوز الاكتفاء بالرابعة.

فاندفع بذلك : ما زعمه بعض (٤) من تصدّى لردّ دليل الانسداد : بأنّه لا يلزم من إبطال الرجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالاحتياط

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «سابقه إلى لاحقه».

(٢) راجع الصفحات ٧١ ـ ٧٢.

(٣) لم ترد عبارة «على إشكال ـ إلى ـ الكتاب» في (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت في هامش (ل).

(٤) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٧٧ ـ ٣٧٩.


وجوب العمل بالظنّ ؛ لجواز أن يكون المرجع شيئا آخر لا نعلمه ، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه ، فعلى المستدلّ سدّ باب هذه الاحتمالات ، والمانع يكفيه الاحتمال.

توضيح الاندفاع ـ بعد الاغماض عن الإجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها (١) ـ : أنّ مجرّد احتمال كون شيء غير الظنّ طريقا شرعيّا لا يوجب العدول عن الظنّ إليه ؛ لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام امتثال الواقع وإن قام عليه ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيّا ؛ إذ مجرّد الاحتمال لا يجدي في طرح الطرف المظنون ؛ فإنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم والشكّ قبيح.

الامتثال الظنّي بعد تعذّر العلمي لا يحتاج إلى جعل جاعل

والحاصل : أنّه كما لا يحتاج الامتثال العلميّ إلى جعل جاعل ، فكذلك الامتثال الظنّي بعد تعذّر الامتثال العلميّ وفرض عدم سقوط الامتثال.

واندفع بما ذكرنا أيضا : ما ربما يتوهّم ، من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل وبين التزام العمل بالظنّ ؛ نظرا إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في امتثاله (٢).

توضيح الاندفاع : أنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمر بين محذورين من حيث الحكم أو من حيث الموضوع بحيث لا يمكن الاحتياط ، فإنّ الحكم بالتخيير لا ينافي

__________________

(١) لم ترد عبارة «بعد الاغماض ـ إلى ـ وما بعدها» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ت) و (ه) : «في إحراز الواقع وامتثاله».


التزام بقاء التكليف فيقال : إنّ الأخذ بأحدهما لا يجدي في امتثال الواقع ؛ لأنّ المراد ببقاء التكليف عدم السقوط رأسا بحيث لا يعاقب عند ترك المحتملات كلا ، بل العقل يستقلّ باستحقاق العقاب عند الترك رأسا ، نظير جميع الوقائع المشتبهة.

فما نحن فيه (١) نظير اشتباه الواجب بين (٢) الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معا ، مع عدم إمكان الاحتياط أو كونه عسرا قد نصّ الشارع على نفيه ، مع وجود الظنّ بأحدهما (٣) ، فإنّه يدور الأمر بين العمل بالظنّ والتخيير والعمل بالموهوم ، فإنّ إيجاب العمل بكلّ من الثلاثة وإن لم يحرز به الواقع ، إلاّ أنّ العمل بالظنّ أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخيير ، فيجب عقلا ، فافهم.

الأخذ بالمرجوح وطرح الراجح قبيح مطلقا

ولا فرق في قبح طرح الطرف الراجح والأخذ بالمرجوح بين أن يقوم على المرجوح ما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا شرعا ، وبين أن لا يقوم ؛ لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيح ولو باحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعا ؛ حيث قام عليه ما يحتمل كونه طريقا.

نعم ، لو قام على الطرف الموهوم ما يظنّ كونه طريقا معتبرا شرعيّا ، ودار الأمر بين تحصيل الظنّ بالواقع وبين تحصيل الظنّ بالطريق المعتبر الشرعيّ ، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «فيما نحن فيه».

(٢) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «من».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «بإحداهما».


والحاصل : أنّه بعد ما ثبت ـ بحكم المقدّمة الثانية ـ وجوب التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الأنحاء وحرمة إهمالها وفرضها كالمعدوم ، وثبت ـ بحكم المقدّمة الثالثة ـ عدم وجوب امتثال المجهولات بالاحتياط ، وعدم جواز الرجوع في امتثالها إلى الاصول الجارية في نفس تلك المسائل ، ولا إلى فتوى من يدّعي انفتاح باب العلم بها : تعيّن وجوب تحصيل الظنّ بالواقع فيها وموافقته ، ولا يجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفي المسألة ، ولا بعد تحصيل الظنّ الأخذ بالطرف الموهوم ؛ لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشكّ والوهم مع التمكّن من الظنّ ، كما يقبح الاكتفاء بالظنّ مع التمكّن من العلم ، ولا يجوز أيضا الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا مع عدم إفادته للظنّ (١) ؛ لعدم خروجه عن الامتثال الشكّي أو الوهمي.

هذا خلاصة الكلام في مقدّمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظنّ في الجملة.

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «الظنّ».



وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

أنّك قد عرفت أنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوب الامتثال الظنّي للأحكام المجهولة ، فاعلم :

عدم الفرق في الامتثال الظنّي بين الظنّ بالحكم الواقعي أو الظاهري

أنّه لا فرق في الامتثال الظنّي بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ـ كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبي ـ وبين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ ، كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّيّة أمر لا يفيد الظنّ كالقرعة مثلا ، فإذا ظنّ حجّيّة القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعيّ ، إلاّ أنّه حصل ظنّ ببراءة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصّة ، وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلّف إلاّ من حيث كون تحقّقه مبرءا للذمّة.

فكما أنّه لا فرق في مقام التمكّن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق علم كون سلوكه مبرءا للذمّة في نظر الشارع ، فكذا لا فرق عند تعذّر العلم بين الظنّ بتحقّق الواقع وبين الظنّ ببراءة الذمّة في نظر الشارع.

المخالف للتعميم فريقان

وقد خالف في هذا التعميم فريقان :


أحدهما : من يرى (١) أنّ مقدّمات دليل الانسداد لا تثبت إلاّ اعتبار الظنّ وحجّيّته في كون الشيء طريقا شرعيّا مبرءا للذمّة في نظر الشارع ، ولا يثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعيّ ؛ زعما منهم عدم نهوض المقدّمات المذكورة لإثبات حجّيّة الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ، إمّا مطلقا أو بعد العلم الإجماليّ بنصب الشارع طرقا للأحكام الفرعيّة.

الثاني : مقابل هذا ، وهو من يرى (٢) أنّ المقدّمات المذكورة لا تثبت إلاّ اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ، وأمّا الظنّ بكون شيء طريقا مبرءا للذمّة فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة لم يثبت اعتباره فيها من دليل الانسداد ؛ لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة.

أدلّة القائلين باعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة دون الفرعيّة

أما الطائفة الاولى ، فقد ذكروا لذلك وجهين :

أحدهما ـ وهو الذي اقتصر عليه بعضهم (٣) ـ ما لفظه :

١ ـ ما ذكره صاحب الفصول

«إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا فعليّا بأحكام فرعيّة كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع

__________________

(١) منهم : الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين وأخوه صاحب الفصول ، كما سيأتي.

(٢) منهم : شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٦٦ ، وكذا السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٣) وهو صاحب الفصول.


قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالرجوع إليها في معرفتها.

ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق (١) إلى الظنّ الفعليّ الذي لا دليل على عدم حجّيّته ؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه» (٢).

المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول

وفيه : أوّلا : إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصّة للأحكام الواقعيّة (٣) ؛ كيف؟ وإلاّ لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار ؛ لتوفّر الدواعي بين المسلمين على ضبطها ؛ لاحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس.

واحتمال اختفائها مع ذلك ؛ لعروض دواعي الاختفاء ـ إذ ليس الحاجة إلى معرفة الطريق أكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مدفوع ؛ بالفرق بينهما ، كما لا يخفى.

وكيف كان : فيكفي في ردّ الاستدلال ، احتمال عدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام وإرجاع امتثالها إلى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه

__________________

(١) في (ل) ، (ظ) و (م) بدل «تلك الطرق» : «ذلك».

(٢) الفصول : ٢٧٧.

(٣) في (ر) وهامش (ص) زيادة : «وافية بها».


ديدنهم في امتثال أحكام الملوك والموالي مع العلم بعدم نصب الطريق الخاصّ (١) : من الرجوع إلى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم أو باجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاصّ ، أو الرجوع إلى الظنّ الاطمئنانيّ الذي يسكن إليه النفس ويطلق عليه العلم عرفا ولو تسامحا في إلقاء احتمال الخلاف ، وهو الذي يحتمل حمل كلام السيّد (٢) عليه ، حيث ادّعى انفتاح باب العلم.

هذا حال المجتهد ، وأمّا المقلّد : فلا كلام في نصب الطريق الخاصّ له وهي فتوى مجتهده ، مع احتمال عدم النصب في حقّه أيضا ، فيكون رجوعه إلى المجتهد من باب الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء ، ويكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريرا لهم ، لا تأسيسا.

وبالجملة : فمن المحتمل قريبا إحالة الشارع للعباد في طريق امتثال الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفيّة : من الرجوع إلى العلم أو الظنّ (٣) الاطمئنانيّ ، فإذا فقدا (٤) تعيّن الرجوع أيضا بحكم العقلاء إلى الظنّ الغير الاطمئنانيّ ، كما أنّه لو فقد ـ والعياذ بالله ـ تعيّن الامتثال بأخذ أحد طرفي الاحتمال (٥) ؛ فرارا عن المخالفة القطعيّة

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «للأحكام».

(٢) تقدّم كلامه في الصفحة ٣٣١.

(٣) في (ظ) و (م) : «والظنّ».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه) : «فقد».

(٥) كذا في (ر) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرهما بدل «الاحتمال» : «الامتثال».


والإعراض عن التكاليف الإلهيّة الواقعيّة.

فظهر ممّا ذكرنا : اندفاع ما يقال : من أنّ منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء الأحكام الواقعيّة ؛ إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان.

توضيح الاندفاع : أنّ التكليف إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأسا ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظنّ مع عدم الطريق الخاصّ ، أو مع ثبوته وعدم رضا الشارع بسلوكه ، وإلاّ فلا يقبح التكليف مع عدم الطريق الخاصّ وحكم العقل بمطلق الظنّ ورضا الشارع به ؛ ولذا اعترف هذا المستدلّ : بأنّ الشارع لم ينصب طريقا خاصّا يرجع إليه عند انسداد باب العلم في تعيين الطرق (١) الشرعيّة مع بقاء التكليف بها.

وربما يستشهد للعلم الاجماليّ بنصب الطريق : بأنّ المعلوم من سيرة العلماء في استنباطهم هو اتّفاقهم على طريق خاصّ وإن اختلفوا في تعيينه.

وهو ممنوع :

أوّلا : بأنّ جماعة من أصحابنا ـ كالسيّد (٢) رحمه‌الله وبعض من تقدّم عليه وتأخّر (٣) عنه ـ منعوا نصب الطريق الخاصّ رأسا ، بل أحاله بعضهم (٤).

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «الخاصّة».

(٢) راجع الصفحة ٢٤٠.

(٣) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٢٤٠ أيضا.

(٤) وهو ابن قبة ، راجع الصفحة ١٠٥.


وثانيا : لو أغمضنا عن مخالفة السيّد وأتباعه ، لكن مجرّد قول كلّ من العلماء بحجّيّة طريق خاصّ ـ حيث ما (١) أدّى إليه نظره ـ لا يوجب العلم الإجماليّ بأنّ بعض هذه الطرق منصوبة ؛ لجواز خطأ كلّ واحد فيما أدّى إليه نظره.

واختلاف الفتاوى في الخصوصيّات لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ، إلاّ إذا كان اختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتّفاقهم على قدر مشترك ، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ؛ فإنّها لا توجب تواتر القدر المشترك ، إلاّ إذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعا إلى التعيين ، وقد حقّق ذلك في باب التواتر الإجماليّ والإجماع المركّب.

وربما يجعل تحقّق الإجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع انسداد باب العلم كاشفا عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاصّ.

وينتقض أوّلا : بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصّا ؛ للإجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس.

ويحلّ ثانيا : بأنّ مرجع هذا إلى الإشكال الآتي (٢) في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بأحد الوجوه الآتية (٣).

فإن قلت : ثبوت الطريق إجمالا ممّا لا مجال لإنكاره حتّى على

__________________

(١) لم ترد «حيث ما» في (ر) ، (ص) و (ه). نعم ، ورد بدلها في (ص) و (ه) : «حسب ما».

(٢) في الصفحة ٥١٧.

(٣) في الصفحة ٥١٧ ـ ٥٢٩.


مذهب من يقول بالظنّ المطلق ؛ فإنّ غاية الأمر أنّه يجعل مطلق الظنّ طريقا عقليّا رضي به الشارع ، فنصب الشارع للطريق بالمعنى الأعمّ من الجعل والتقرير معلوم.

قلت : هذه مغالطة ؛ فإنّ مطلق الظنّ ليس طريقا في عرض الطرق المجعولة حتّى يتردّد الأمر بين كون الطريق هو مطلق الظنّ أو طريق آخر مجعول ، بل الطريق العقليّ بالنسبة إلى الطريق الجعليّ كالأصل بالنسبة إلى الدليل ، إن وجد الطريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقا ؛ لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذمّة. وإن لم يوجد كان طريقا ؛ لأنّ احتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل لا يلتفت إليه مع الظنّ بالواقع ، فمجرّد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ـ كما في ما نحن فيه ـ كاف في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقا ، وعلى كلّ حال فتردّد الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ممّا لا معنى له.

المناقشة الثانية في كلام صاحب الفصول

وثانيا : سلّمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك :

أنّ ما حكم بطريقيّته لعلّه قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلاّ قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعليّ بالصدور ـ الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن ـ ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان ، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبيّنة الشرعيّة أو الشياع مع إفادته الظنّ الفعليّ بالحكم ، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ؛ إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجاليّة محكيّ التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشّيّ والنجاشيّ وغيرهما ، ومن


المعلوم أنّ مثل هذا لا تعدّ بيّنة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل (١) مثله (٢) في الحقوق.

ودعوى حجّيّة مثل ذلك بالإجماع ممنوعة ، بل المسلّم أنّ الخبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتّفاق (٣). لكن قد عرفت سابقا (٤) ـ عند تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ـ أنّ مثل هذا الاتّفاق العمليّ لا يجدي في الكشف عن قول الحجّة. مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة ، خصوصا إذا انضمّ إليه إفادة الظنّ الفعليّ.

وثالثا : سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة ـ من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ـ ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقّن من هذه ، فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلاّ فالمتيقّن من الباقي ـ مثلا : الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقّن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات ؛ إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول ـ فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقّن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي (ص) ، (ل) ونسخة بدل (ت) و (ه) : «لا يقبل».

(٢) في (ر) : «بمثله».

(٣) في (ر) زيادة : «العملي».

(٤) راجع الصفحة ٣٤٩.


نعم ، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كلّ منهما ، صحّ تعيينه بالظنّ بعد الإغماض عمّا سيجيء من الجواب.

ورابعا : سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن ، لكنّ اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ؛ لأنّه مقدّم على العمل بالظنّ ؛ لما عرفت (١) : من تقديم الامتثال العلميّ على الظنّي. اللهمّ إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ، وهو في المقام مفقود.

ودعوى : أنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ؛ لأنّ العمل بما ليس طريقا حرام ، مدفوعة : بأنّ العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم ، والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.

نعم ، قد عرفت : أنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنّما هي من جهة أنّ فيه طرحا للاصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة ، وهذا أيضا غير لازم في المقام ؛ لأنّ مورد العمل بالطريق المحتمل (٢) إن كان الاصول على طبقه فلا مخالفة ، وإن كان مخالفا للاصول : فإن كان مخالفا للاستصحاب (٣) فلا إشكال ؛ لعدم حجّيّة الاستصحابات بعد العلم الإجماليّ بأنّ بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع. وإن كان مخالفا للاحتياط فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ،

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٣٢.

(٢) كذا في (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها بدل «بالطريق المحتمل» : «بالظنّ».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «النافي للتكليف».


ولا يعمل بذلك الظنّ (١).

فحاصل الأمر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة ـ أعني نصب الطريق ـ إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فالعمل مطلقا على الاحتياط.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كالشكّ في الجزئيّة وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الإجماليّ بوجوب العمل في بعضها على خلاف الحالة السابقة ؛ إذ يصير حينئذ كالشبهة المحصورة ، فتأمّل.

وخامسا : سلّمنا العلم الإجماليّ بوجود الطريق المجعول وعدم المتيقّن وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إنّ ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط بل هو مجوّز له ، كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ؛ وذلك لأنّ الطريق المعلوم نصبه إجمالا : إن كان منصوبا حتّى حال انفتاح باب العلم فيكون هو في عرض الواقع مبرءا للذمّة بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم.

مثلا : إذا فرضنا حجّيّة الخبر مع الانفتاح تخيّر المكلّف بين امتثال ما علم كونه حكما واقعيّا بتحصيل (٢) العلم به ، وبين امتثال مؤدّى الطريق المجعول الذي علم (٣) جعله بمنزلة الواقع ، فكلّ من الواقع ومؤدّى

__________________

(١) لم ترد «ولا يعمل بذلك الظنّ» في (ر) ، (ص) و (ه) ، وإنّما زيد فيها وفي (ت) : «وكذا لو كان مخالفا للاستصحاب المثبت للتكليف».

(٢) في (ظ) و (ه) : «يحصّل» ، وفي (ت) : «ويحصّل».

(٣) لم ترد «علم» في (م).


الطريق مبرئ مع العلم به ، فإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بأحدهما تعيّن الآخر ، وإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بهما تعيّن العمل فيهما بالظنّ ، فلا فرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق في كون كلّ واحد امتثالا ظنّيا.

وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند انسداد باب العلم بالواقع ، فنقول : إنّ تقديمه حينئذ على العمل بالظنّ إنّما هو مع العلم به وتميّزه عن غيره ؛ إذ حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ؛ إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى الظنّي (١) ، أمّا مع انسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميّزه عن غيره إلاّ بإعمال مطلق الظنّ ، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظنّ على إحراز الواقع بمطلق الظنّ.

وكأنّ المستدلّ توهّم : أنّ مجرّد نصب الطريق ـ ولو مع عروض الاشتباه فيه ـ موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، كما ينبئ عنه قوله (٢) : وحاصل القطعين إلى أمر واحد ، وهو التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّيات الطرق.

وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهّم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «وكذا مع العلم الإجماليّ ؛ بناء على أنّ الامتثال التفصيليّ مقدّم على الإجماليّ. أو لأنّ الاحتياط يوجب الحرج المؤدّي إلى الاختلال» ، وفي (ت) زيادة «لو كان» بعد «وكذا».

وكتب فوقها في (ت) : «زائد» ، وفي (ص) : «نسخة ...».

(٢) في الصفحة ٤٣٩.


فإن قلت : نحن نرى أنّه إذا عيّن الشارع طريقا للواقع عند انسداد باب العلم به ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء على العمل بالظنّ في الطريق دون نفس الواقع ؛ ألا ترى : أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعيّ ، والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات لا في تحصيل الحقّ الواقعيّ بين المتخاصمين؟

قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فإنّ الظنون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع امور غير مضبوطة كثير المخالفة للواقع ، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس ، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ؛ فإنّها حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل بها.

فالمثال المطابق لما نحن فيه : أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجماليّ بكثرة مخالفة إحداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما (١) بالخصوص ، كما أنّا لو فرضنا أنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين (٢) كان المتعيّن العمل بالظنّ في نفس الواقع دون الطريق.

فما ذكرنا : من العمل على الظنّ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «أخذها» ، وفي (ص) : «أخذهما».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (م) : «من المثالين».


الواقع ، فإنّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ؛ فإنّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظنّ ، لم يجب عليه العمل بالظنّ في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ.

وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحقّ لا يعمل به ، وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به ؛ فإنّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ، بخلاف الظنّ بحقّية أحد المتخاصمين ؛ فإنّه ممّا يصعب الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ؛ لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتّى يأخذ بالأحرى ، وكما أنّ المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصيّة ، فتأمّل.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغايرة لمسألتنا ؛ من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة ، مثل الإقرار والبيّنة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبيّ عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات كونها أغلب مطابقة للواقع وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة ، كما ينبئ عنه : ما ورد في


نتيجة (١) العمل بالعقول في دين الله ، وأنّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال (٢) ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (٣) ، وأنّ الدين يمحق بالقياس (٤) ، ونحو ذلك (٥).

ولا ريب : أنّ المقصود من نصب الطريق (٦) إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعيّ.

بل الظاهر : أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى ؛ لإحراز المصلحة الأوّليّة التي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ؛ فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ؛

__________________

(١) لم ترد «نتيجة» في (ر) ، (ص) و (ل).

(٢) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثيّة ، نعم ورد في الوسائل : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» أو «من تفسير القرآن» ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٩٤ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٥) تقدّم بعضها في الصفحة ٦٢ ـ ٦٣.

(٦) في (ت) و (ه) : «الطرق».


ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت (١) الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.

فإن قلت : العمل بالظنّ في الطريق عمل بالظنّ في الامتثال الظاهريّ والواقعيّ ؛ لأنّ الفرض إفادة الطريق للظنّ بالواقع ، بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ؛ فإنّه ظنّ بالواقع وليس ظنّا بتحقّق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهريّ مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ.

قلت :

أوّلا : إنّ هذا خروج عن الفرض ؛ لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ في الطريق (٢) وإن لم يكن الطريق مفيدا للظنّ بالواقع (٣) أصلا. نعم ، قد (٤) اتّفق في الخارج أنّ الامور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظنّ (٥) ، لا أنّ مناط الاستدلال اتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع.

__________________

(١) راجع الصفحة ٤١٧ ـ ٤٢٠.

(٢) في (ص) : «بالطريق».

(٣) لم ترد «بالواقع» في (ظ) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في (ر) و (ص) : «به».

(٤) لم ترد «قد» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «شخصا أو نوعا» ، وفي (ت) زيادة : «نوعا أو شخصا».


وثانيا : إنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنّيّة على بعض باعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعا دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّيّة الظنّ بالواقع لا بالطريق. وسيجيء (١) الكلام في أنّ نتيجة دليل الانسداد ـ على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم ـ كلّية بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ، أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثمّ التعميم مع فقد المرجّح.

والاستدلال المذكور مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الاصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعيّة ؛ بناء منه على أنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطرق (٢) ليست مكلّفا بها تكليفا فعليّا إلاّ بشرط قيام تلك الطرق عليها ، فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي.

وقد عرفت ممّا ذكرنا : أنّ نصب هذه الطرق ليس إلاّ لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ (٣) في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأوّل.

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها : جعلها

__________________

(١) انظر الصفحة ٤٦٣.

(٢) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «الطريق».

(٣) في (ت) و (ل) : «الظنّ».


عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له.

والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : «لا اريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق» ، فينحصر التكليف الفعليّ حينئذ في مؤدّيات الطرق (١) ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ ، وبين أن يكون التكليف الفعليّ بالواقع باقيا على حاله ، إلاّ أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ، فمؤدّى هذه الطرق واقع جعليّ ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقيّ وبين الظنّ بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح ؛ إذ الترجيح مبنيّ على إغماض الشارع عن الواقع.

وبذلك ظهر ما في قول بعضهم (٢)(٣) : من أنّ التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلا ؛ لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ؛ نظرا إلى أداء

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «الطريق».

(٢) هو الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين.

(٣) كذا في نسخة بدل (ص) و (ل) ، وفي غيرهما : «هذا المستدلّ» ، إلاّ أنّه لم ترد «هذا» في (ل).


الواقع وكونه من الوجه المقرّر ؛ لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ؛ فلذا لا يحكم بالبراءة معه (١) ، انتهى.

٢ ـ ما ذكره صاحب هداية المسترشدين

الوجه الثاني : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين (٢) مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأخر (٣) ، قال :

لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وحينئذ فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ.

وبينهما بون بعيد ؛ إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة ؛ لقيام دليل ظنّي على حجّيته سواء حصل منه الظنّ بالواقع

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٤.

(٢) هو الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين أيضا.

(٣) في (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ص) بدل «الآخر» : «الآتية».


أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ؛ إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظنّ ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيّته ، فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيّته عند الشارع يكون حجّة ، دون ما لم يقم عليه ذلك (١) ، انتهى بألفاظه.

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذكره سابقا في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك المقدّمات :

إنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره؟ أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع منّا في الظاهر وحكم معه قطعا بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقته للواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل به شيء منهما؟ وجهان.

الذي يقتضيه التحقيق : هو الثاني ؛ فإنّه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩١.


ولم يقض شيء من الأدلّة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الأدلّة الشرعيّة قائمة على خلاف ذلك ؛ إذ لم يبن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ؛ وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ؛ إذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به (١) ، انتهى.

ثمّ شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا ، إلى أن قال :

فتحصّل ممّا قرّرناه : كون العلم الذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها للواقع.

وبعبارة اخرى : لا بدّ من المعرفة بالتكليف ، وأداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين ، من غير فرق بين الوجهين ، ولا ترتيب بينهما.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٨٤.


نعم ، لو لم يظهر طريق مقرّر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع مع إمكانه ؛ إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطرق المقرّرة (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية

أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه (٢) وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ، ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، ما جزم به من أنّ المناط في تحصيل العلم أوّلا هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه ، فيه :

أنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ، وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليّا بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمّة بهذا ـ على مذهب المخطّئة ـ من حيث إنّه نفس المراد الواقعيّ بجعل الشارع ، لا من حيث إنّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعيّ ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.

والحاصل : أنّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين مراد واقعيّ حقيقيّ ، ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقرّرة ذلك المراد الواقعيّ ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ـ وقد اعترف (٣)

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(٢) لم ترد «عليه» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ت) زيادة : «به».


المحقّق المذكور ؛ حيث عبّر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول ـ فأداء كلّ من الواقع الحقيقيّ والواقع الجعليّ لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة للأمر (١) المتعلّق به ما لم يحصل العلم به.

نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الإطاعة والامتثال ، كان مجرّد إتيان كلّ منهما مسقطا للأمر من دون امتثال ، وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلاّ مع العلم.

ثمّ إنّ هذين الأمرين مع التمكّن من امتثالهما يكون المكلّف مخيّرا في امتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه وينتفي موضوع الأمر الآخر ؛ إذ المفروض كونه ظاهريّا قد اخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع ، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظاهريّ.

هذا مع التمكّن من امتثالهما ، وأمّا لو تعذّر عليه امتثال أحدهما تعيّن عليه امتثال الآخر ، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع وتمكّن من سلوك الطريق المقرّر ؛ لكونه معلوما له ، أو انعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وانسدّ عليه باب سلوك الطريق المقرّر ؛ لعدم العلم به.

ولو عجز عنهما معا قام الظنّ بهما مقام العلم بهما بحكم العقل.

فترجيح الظنّ بسلوك الطريق المقرّر (٢) على الظنّ بسلوك الواقع

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «لأمره».

(٢) لم ترد «المقرّر» في (ر) و (ل).


لم يعلم وجهه ، بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ؛ لما أشرنا إليه سابقا (١) : من حكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع.

هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكّن من العلم ، وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم ، فهو أيضا كذلك ؛ ضرورة أنّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعيّة عند تعذّره هي الإطاعة الظاهريّة المتوقّفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه.

والحاصل : أنّ سلوك الطريق المجعول ـ مطلقا أو عند تعذّر العلم ـ في مقابل العمل بالواقع ، فكما أنّ العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجب امتثالا ، وإنّما يوجب فراغ الذمّة من المأمور به واقعا لو لم يؤخذ فيه تحقّقه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول ، فكلّ منهما موجب لبراءة الذمّة واقعا وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو اعتقد عدم حصوله.

وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقّق في شيء منهما إلاّ بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه.

فالحكم بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، بخلاف الظنّ بأداء الواقع فإنّه لا يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، إلاّ إذا ثبت حجّيّة ذلك الظنّ ؛ وإلاّ فربما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ، تحكّم صرف.

ومنشأ ما ذكره قدس‌سره : تخيّل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعيّ

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٥١.


المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقليّ الغير المجعول وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبراءة الذمّة ، فيكون هو أيضا كذلك ، فيكون الظنّ بالسلوك ظنّا بالبراءة ، بخلاف الظنّ بالواقع ؛ لأنّ نفس أداء الواقع ليس سببا تامّا للبراءة حتّى يحصل من الظنّ به الظنّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعيّ بالطريق العقليّ.

وأنت خبير : بأنّ الطريق الشرعيّ لا يتّصف بالطريقيّة فعلا إلاّ بعد العلم به تفصيلا ؛ وإلاّ فسلوكه ـ أعني مجرّد تطبيق الأعمال عليه ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع ، لغو صرف ؛ ولذلك أطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ، لا في مقابل العلم بالعمل (١) بالواقع ، ويلزم من ذلك كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر ؛ فدعوى : أنّ الظنّ بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ بإتيان الواقع ، فاسدة.

هذا كلّه ، مع ما علمت سابقا في ردّ الوجه الأوّل : من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام ، وإنّما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم ، ثمّ على الظنّ الاطمئنانيّ.

ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ مآل هذا القول إلى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة إلى المسائل الاصوليّة وهي حجّيّة الأمارات المحتملة للحجّيّة ، لا بالنسبة إلى نفس الفروع ، فاعلم :

القول باعتبار الظنّ في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة

أنّ في مقابله قولا آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدّس الله أسرارهم (٢) ، وهو عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل

__________________

(١) لم ترد «بالعمل» في (م) و (ه).

(٢) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٤٣٨ ، الهامش (٢).


هذه المسألة الاصوليّة ، أعني حجّيّة الأمارات المحتملة ، وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبيه : أنّه ذهب إليه فريق. وسيأتي الكلام فيه عند التكلّم في حجّية الظنّ المتعلّق بالمسائل الاصوليّة إن شاء الله تعالى (١).

ما ذكره صاحب ضوابط الاصول

ثمّ اعلم : أنّ بعض من لا خبرة له ـ لمّا لم يفهم من دليل الانسداد إلاّ ما تلقّن من لسان بعض مشايخه (٢) وظاهر عبارة كتاب القوانين (٣) ـ ردّ القول الذي ذكرناه أوّلا عن بعض المعاصرين (٤) : من حجّيّة الظنّ في الطريق لا في نفس الأحكام ، بمخالفته لإجماع العلماء ؛ حيث زعم أنّهم بين من يعمّم دليل الانسداد لجميع المسائل العلميّة (٥) ـ اصوليّة أو فقهيّة ـ كصاحب القوانين (٦) ، وبين من يخصّصه بالمسائل الفرعيّة ، فالقول بعكس هذا خرق للإجماع المركّب (٧).

المناقشة فيما أفاده صاحب ضوابط الاصول

ويدفعه : أنّ المسألة ليست من التوقيفيّات التي يدخلها الإجماع المركّب ، مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشيعة جدّا. بل

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٤١ ، وما بعدها.

(٢) وهو شريف العلماء.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٠.

(٤) راجع الصفحة ٤٣٨ و ٤٥٤.

(٥) في (ت) و (ظ) : «العملية».

(٦) القوانين ١ : ٤٥٢.

(٧) وقفنا على هذا المطلب في ضوابط الاصول للسيّد ابراهيم القزويني : ٢٦٦ ، وقد أثبت فيه دروس استاذه شريف العلماء.


المسألة عقليّة ، فإذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطرق (١) ، فلا معنى لردّه بالإجماع المركّب.

فلا سبيل إلى ردّه إلاّ بمنع جريان حكم العقل ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوصها كما عرفته منّا ، أو فيها في ضمن مطلق الأحكام الشرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا (٢).

__________________

(١) في (ل) و (ه) : «الطريق».

(٢) كالوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٧٦ ، والرسائل الاصولية : ٤٣٠ ـ ٤٣١ ، والمحقق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٠.


الأمر الثاني

الكلام في مقامات

وهو أهمّ الامور في هذا الباب : أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة من حيث أسباب الظنّ ، فلا يعمّ الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظنّ إلاّ بعد ثبوت معمّم ـ من لزوم ترجيح بلا مرجّح ، أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ـ ، أو قضيّة كلّيّة لا تحتاج (١) في التعميم إلى شيء؟

وعلى التقدير الأوّل ، فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض أم لم يثبت؟

وعلى التقدير الثاني ـ أعني كون القضيّة كلّيّة ـ فكيف توجيه خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص؟

فهنا مقامات :

__________________

(١) في جميع النسخ : «لا يحتاج».


الأوّل

في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة :

هل أن نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة

والتحقيق : أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السابقة ـ التي حاصلها بقاء التكليف ، وعدم التمكّن من العلم ، وعدم وجوب الاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى القاعدة التي يقتضيها المقام ـ إذا جرت في مسألة ، تعيّن وجوب العمل بأيّ ظنّ حصل في تلك المسألة من أيّ سبب ، وهذا الظنّ كالعلم في عدم الفرق في اعتباره بين الأسباب والموارد والأشخاص ، وهذا ثابت بالإجماع وبالعقل.

وقد سلك هذا المسلك صاحب القوانين ؛ حيث إنّه أبطل البراءة في كلّ مسألة من غير ملاحظة لزوم الخروج عن الدين ، وأبطل لزوم الاحتياط كذلك مع قطع النظر عن لزوم الحرج (١). ويظهر أيضا من صاحبي المعالم (٢) والزبدة (٣) ؛ بناء على اقتضاء ما ذكراه لإثبات حجّيّة خبر الواحد للعمل (٤) بمطلق الظنّ ، فلاحظ.

لكنّك قد عرفت ممّا سبق : أنّه لا دليل على منع (٥) جريان

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ٤٤٠.

(٢) المعالم : ١٩٢.

(٣) الزبدة : ٥٨.

(٤) في (ت) ، (ل) و (ص) : «العمل».

(٥) في (ل) ونسخة بدل (ص) بدل «منع» : «بطلان».


أصالة البراءة وأصالة (١) الاحتياط أو الاستصحاب (٢) المطابق لإحداهما (٣) في كلّ مورد مورد (٤) من مواردها بالخصوص ، إنّما الممنوع جريانها في جميع المسائل ؛ للزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة ولزوم الحرج عن الاحتياط ، وهذا المقدار لا يثبت إلاّ وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظنّ.

تقرير دليل الانسداد بوجهين

١ ـ على وجه الكشف

وحينئذ فنقول : إنّه إمّا أن يقرّر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظنّ ، بأن يقال : إنّ بقاء التكاليف ـ مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ، مع عدم إيجاب الاحتياط علينا ، وعدم بيان طريق مجعول فيها ـ يكشف عن أنّ الظنّ جائز العمل ، وأنّ العمل به ماض عند الشارع ، وأنّه لا يعاقبنا على ترك واجب إذا ظنّ بعدم وجوبه ولا بفعل محرّم إذا ظنّ بعدم تحريمه.

فحجّية الظنّ على هذا التقرير تعبّد شرعيّ كشف عنه العقل من جهة دوران الأمر بين امور كلّها باطلة سواه ، فالاستدلال عليه من باب الاستدلال على تعيين أحد طرفي المنفصلة أو أطرافها بنفي الباقي ، فيقال : إنّ الشارع إمّا أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالا ، أو

__________________

(١) في (ظ) ، (م) و (ه) : «أو أصالة».

(٢) في (ر) و (ص) : «والاستصحاب».

(٣) في غير (م) : «لأحدهما».

(٤) لم ترد في (ت) و (ظ) : «مورد» الثانية.


أراد الامتثال بها على (١) العلم ، أو أراد الامتثال المعلوم إجمالا ، أو أراد امتثالها من طريق خاصّ تعبّدي ، أو أراد امتثالها الظنّي ، وما عدا الأخير باطل ، فتعيّن هو.

٢ ـ على وجه الحكومة

وإمّا أن يقرّر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظنّي ، بمعنى حسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه ، كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ عند التمكّن من تحصيل العلم ، فهذا الحكم العقليّ ليس من مجعولات الشارع ؛ إذ كما أنّ نفس وجوب الإطاعة وحرمة المعصية بعد تحقّق الأمر والنهي من الشارع ليس من الأحكام المجعولة للشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف ، فكذلك كيفيّة الإطاعة وأنّه يكفي فيها الظنّ بتحصيل مراد الشارع في مقام ، ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر إمّا تفصيلا أو إجمالا.

وتوهّم : أنّه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع ، مدفوع بما قرّرنا في محلّه : من أنّ التلازم بين الحكمين إنّما هو مع قابليّة المورد لهما ، أمّا لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا تلازم (٢) ، كما في الإطاعة والمعصية ، فإنّهما لا يقبلان لورود حكم الشارع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيّين ـ بأن يريد فعل الاولى وترك الثانية بإرادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه الحاصلة بالأمر والنهي ـ حتّى أنّه لو صرّح بوجوب الإطاعة وتحريم المعصية

__________________

(١) في (ص) زيادة : «وجه».

(٢) «فلا تلازم» من (ت) و (ص).


كان الأمر والنهي للإرشاد لا للتكليف ؛ إذ لا يترتّب على مخالفة هذا الأمر والنهي إلاّ ما يترتّب على ذات المأمور به والمنهيّ عنه ، أعني نفس الإطاعة والمعصية ، وهذا (١) دليل الإرشاد ، كما في أوامر الطبيب ؛ ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر أو ثواب آخر غير ما يترتّب على نفس المأمور به والمنهيّ عنه فعلا أو تركا من الثواب والعقاب.

التعميم من حيث الموارد مشترك بين التقريرين

ثمّ إنّ هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من حيث الموارد يعني المسائل ؛ إذ على الأوّل يدّعى الإجماع القطعيّ على أنّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ، وعلى الثاني يقال : إنّ العقل مستقلّ بعدم الفرق في باب الإطاعة والمعصية بين واجبات الفروع من أوّل الفقه إلى آخره ولا بين محرّماتها كذلك ، فيبقى التعميم من جهتي الأسباب ومرتبة الظنّ.

لازم الحكومة التعميم من حيث الأسباب دون المراتب

فنقول :

أمّا التقرير الثاني ، فهو يقتضي التعميم والكلّية من حيث الأسباب ؛ إذ العقل لا يفرّق في باب الإطاعة الظنّية (٢) بين أسباب الظنّ ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه إلاّ الانكشاف.

وأمّا من حيث مرتبة الانكشاف قوّة وضعفا فلا تعميم في النتيجة (٣) ؛ إذ لا يلزم من بطلان كلّية العمل بالاصول ـ التي هي طرق

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «نفس» ، لكن ، شطب عليها في (ص) و (ه).

(٢) في (ظ) و (م) : «بالمظنّة».

(٣) في هامش (ل) زيادة : «بحيث يحكم العقل العمل بكلّ ظنّ قويّا وضعيفا».


شرعيّة ـ الخروج عنها بالكلّيّة ، بل يمكن الفرق في مواردها بين الظنّ القويّ البالغ حدّ سكون النفس في مقابلها فيؤخذ به ، وبين ما دونه فيؤخذ بها.

لازم الكشف الإهمال من حيث الأسباب والمراتب

وأمّا التقرير الأوّل ، فالإهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ومن جهة المرتبة.

الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو الحكومة من وجوه :

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ، وأنّ التقرير على وجه الكشف فاسد.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع للظنّ (١) ـ مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة ـ حجّة ؛ لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذّر العلم أصلا ، بل عرفت ـ في الوجه الأوّل من الإيراد على القول باعتبار الظنّ في الطريق ـ : أنّ ذلك غير بعيد.

وهو أيضا طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ؛ حيث يعملون بالظنّ في تكاليفهم العرفيّة مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ، ولا يجب على الموالي نصب الطريق عند تعذّر العلم ، نعم يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع الذي يؤدّي إليه الامتثال الظنّي.

إلاّ أن يقال : إنّ مجرّد إمكان ذلك ما لم يحصل العلم به لا يقدح في إهمال النتيجة وإجمالها ، فتأمّل (٢).

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) لم ترد عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ فتأمّل» في (ظ) ، (ل) و (م).


الوجه الثاني

وأمّا ثانيا : فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الإهمال والإجمال ، صحّ المنع الذي أورده بعض المتعرّضين (١) لردّ هذا الدليل ، وقد أشرنا إليه سابقا (٢) ، وحاصله :

أنّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظنّ أو الظنّ في الجملة ـ المتردّد بين الكلّ والبعض المردّد بين (٣) الأبعاض ـ كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجّة من دون اعتبار إفادته الظنّ ؛ لأنّه أمر ممكن غير مستحيل ، والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظنّ في الجملة دون شيء آخر ، ولم يكن لهذا المنع دفع أصلا؟ إلاّ أن يدّعى الإجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظنّ في الجملة ، فتأمّل (٤).

الوجه الثالث

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو صحّ كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عيّنت : فإمّا أن تعيّن (٥) في ضمن كلّ الأسباب ، وإمّا أن تعيّن (٦) في ضمن بعضها المعيّن ، وسيجيء (٧) عدم تماميّة شيء من هذين إلاّ بضميمة الإجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجّيّة مطلق الظنّ بعد الانسداد ،

__________________

(١) كذا في (ل) و (ه) ، وفي غيرهما : «المعترضين».

(٢) راجع الصفحة ٤٣٢.

(٣) لم ترد عبارة «الكلّ والبعض المردّد بين» في (ظ).

(٤) لم ترد عبارة «إلاّ أن ـ إلى ـ فتأمّل» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ص) ، (ل) ، (م) و (ه) : «يعيّن».

(٦) في (ص) ، (ل) ، (م) و (ه) : «يعيّن».

(٧) في المقام الثاني ، الصفحة ٤٧١.


فتسميته دليلا عقليّا لا يظهر له وجه ، عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشرعيّة ونتيجتها عقليّة ، وهذا جار في جميع الأدلّة السمعيّة ، كما لا يخفى.


المقام الثاني

في أنّه على أحد التقريرين السابقين (١) هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب والمرتبة (٢) ، أم لا؟

طرق التعميم على الكشف

فنقول : أمّا على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجّيّة الظنّ في الجملة ، فقد عرفت أنّ الإهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما (٣) وجوه :

الطريق الأوّل : عدم المرجّح

الطريق الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ؛ لبطلان الترجيح بلا مرجّح والإجماع على بطلان التخيير.

والتعميم بهذا الوجه يحتاج إلى ذكر ما يصلح (٤) أن يكون مرجّحا وإبطاله ، وليعلم أوّلا (٥) : أنّه لا بدّ أن يكون المعيّن والمرجّح معيّنا لبعض كاف ، بحيث لا يلزم من الرجوع بعد الالتزام به إلى الاصول محذور ؛ وإلاّ فوجوده لا يجدي.

إذا تمهّد هذا ، فنقول :

__________________

(١) في الصفحة ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

(٢) في (ل) و (ص) : «أو المرتبة».

(٣) كذا في (ت) و (ر) ، وفي غيرهما : «جهتها».

(٤) في (ظ) و (م) : «يستصلح».

(٥) لم ترد «أوّلا» في (ر) و (ص).


ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا :

ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا أحد امور ثلاثة :

الأوّل من هذه الامور : كون بعض الظنون متيقّنا (١) بالنسبة إلى الباقي ، بمعنى كونه واجب العمل قطعا على كلّ تقدير ، فيؤخذ به ويطرح الباقي ؛ للشكّ في حجّيّته.

وبعبارة اخرى : يقتصر في القضيّة المهملة المخالفة للأصل على المتيقّن ، وإهمال النتيجة حينئذ من حيث الكمّ فقط ؛ لتردّده بين الأقلّ المعيّن (٢) والأكثر.

ولا يتوهّم : أنّ هذا المقدار المتيقّن حينئذ من الظنون الخاصّة ؛ للقطع التفصيليّ بحجّيّته.

لاندفاعه بأنّ المراد بالظنّ (٣) الخاصّ ما علم حجّيّته بغير دليل الانسداد ، فتأمّل.

٢ ـ كون بعض الئنون أقوي

الأمر الثاني : كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعيّن العمل عليه ؛ للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة من الواجبات والمحرّمات على القدر المتيقّن ، وهو ما كان الاحتمال المخالف (٤) للاحتياط فيه في غاية البعد ؛ فإنّه كلّما ضعف الاحتمال المخالف (٥) للاحتياط كان ارتكابه أهون.

٣ ـ كون بعض الظنون مظنون الحجيّة

الأمر الثالث : كون بعض الظنون مظنون الحجّيّة ؛ فإنّه في مقام دوران

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) : «متعيّنا».

(٢) في نسخة بدل (ص) : «المتيقّن».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) ونسخة بدل (ص) : «من الظنّ».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «المخالف» : «الموافق».

(٥) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «المخالف» : «الموافق».


الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره :

إمّا لكونه أقرب إلى الحجّية من غيره ، ومعلوم أنّ القضيّة المهملة المجملة تحمل ـ بعد صرفها إلى البعض بحكم العقل ـ على ما هو أقرب محتملاتها إلى الواقع.

وإمّا لأنّه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ؛ لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع ؛ لأن المفروض كونه من الامارات المفيدة للظنّ بالواقع ، ورجحان كونه بدلا عن الواقع ؛ لأنّ المفروض الظنّ بكونه طريقا قائما مقام الواقع بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له.

فاحتمال مخالفة هذه الأمارة للواقع ولبدله موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ؛ لأنّها على تقدير مخالفتها للواقع لا يظنّ كونها بدلا عن الواقع.

ونظير ذلك : ما لو تعلّق غرض المريض بدواء تعذّر الاطلاع العلميّ عليه ، فدار الأمر بين دواءين : أحدهما يظنّ أنّه ذلك الدواء ، وعلى تقدير كونه غيره يظنّ كونه بدلا عنه في جميع الخواصّ ، والآخر يظنّ أنّه ذلك الدواء ، لكن لا يظنّ أنّه على تقدير المخالفة بدل عنه ، ومعلوم بالضرورة أنّ العمل بالأوّل أولى.

ثمّ إنّ البعض المظنون الحجّيّة : قد يعلم بالتفصيل ، كما إذا ظنّ حجّيّة الخبر المزكّى رواته بعدل واحد أو حجّيّة الإجماع المنقول.

وقد يعلم إجمالا وجوده بين أمارات ، فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار ، وهذا كما لو ظنّ عدم حجّيّة بعض الأمارات ، كالأولويّة والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ، فإنّا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة


مردّدة بين هذه الامور (١) وغيرها ، وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ، لزم من ذلك الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها وإن كان مردّدا بين أبعاض ذلك الغير ، فكان الأخذ بالغير أولى من الأخذ بها ؛ لعين ما تقدّم وإن لم يكن بين أبعاض ذلك (٢) الغير مرجّح ، فافهم.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض.

المناقشة في المرجّحات المذكورة

لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه في الترجيح لا ينفع ، والذي ينفع غير مسلّم كونه مرجّحا.

١ ـ تيقّن البعض لا ينفع

توضيح ذلك هو : أنّ المرجّح الأوّل ـ وهو تيقّن البعض بالنسبة إلى الباقي ـ وإن كان من المرجّحات (٣) ، بل لا يقال له المرجّح ـ لكونه معلوم الحجّية تفصيلا ، وغيره مشكوك الحجّيّة ، فيبقى تحت (٤) الأصل ـ لكنّه لا ينفع ؛ لقلّته وعدم كفايته ؛ لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي زكّي جميع رواته بعدلين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعا من سائر الأمارات الأخر ، ولم يوهن بمعارضة شيء (٥) منها ، وكان معمولا به عند الأصحاب كلاّ أو

__________________

(١) لم ترد «الامور» في (ت) ، (ل) و (م).

(٢) لم ترد «ذلك» في (ل) و (م).

(٣) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «توضيح ذلك : هو أنّ تيقّن البعض بالنسبة إلى الباقي من المرجّحات».

(٤) في (ل) بدل «فيبقى تحت» : «منفيّ بحسب».

(٥) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي (ه) : «لمعارضته بشيء» ، وفي (ل) : «بمعارضته شيء» ، وفي (ر) و (ص) : «لمعارضة شيء» ، وفي (م) : «لمعارضته شيء».


جلاّ ، ومفيدا للظنّ الاطمئنانيّ بالصدور ؛ إذ لا ريب أنّه كلما انتفى أحد هذه القيود (١) الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجّة دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّيّة على كلّ تقدير.

وأمّا عدم كفاية هذا الخبر لندرته (٢) ، فهو واضح ، مع أنّه لو كان بنفسه كثيرا كافيا لكن يعلم إجمالا بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له في الأمارات الأخر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها ، إلاّ أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدّي منها بما هو متيقّن (٣) بالإضافة إلى ما بقي ، فتأمّل.

٢ ـ أقوائيّة البعض لا يمكن ضبطه

وأمّا المرجّح الثاني ، وهو كون بعضها أقوى ظنّا من الباقي ، ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّة له متعسّر أو متعذّر ؛ لأنّ القوّة والضعف إضافيّان ، وليس تعارض القويّ مع الضعيف هنا في متعلّق واحد حتّى يذهب الظنّ من (٤) الأضعف ويبقى في الأمارة الاخرى. نعم يوجد مرتبة خاصّة ، وهو الظنّ الاطمئنانيّ الملحق بالعلم حكما بل موضوعا ، لكنّه نادر التحقّق.

مع أنّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة محلّ منع ؛ إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره ، كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة ؛ فإنّها ليست على الإطلاق أقوى من غيرها

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «الامور».

(٢) في (ر) و (ص) : «وأمّا عدم كفايته لندرته».

(٣) في (ت) ، (م) و (ه) : «متعيّن».

(٤) لم ترد «من» في (ظ).


بالبديهة.

وما تقدّم في تقريب مرجّحيّة القوّة (١) ، إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم من منشآت العقل وأحكامه ، وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة ، وتردّد أمره في أنظارنا بين الكلّ والأبعاض ، فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونه هو المجعول حجّة ؛ لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة.

٣ ـ الظنّ بحجيّة البعض ليست له ضابطة كليّة أيضا

وأمّا المرجّح الثالث ، وهو الظنّ باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد الوجهين المتقدّمين (٢) ، ففيه ـ مع أنّ الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته ـ :

أنّ الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوّة والضعف في أنّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ : إذا (٣) فرضنا كون الظنّ الذي لم يظنّ حجّيته (٤) أقوى ظنّا بمراتب من الظنّ الذي ظنّ حجّيّته ، فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ، فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد الخاصّة ، وعدم وجود ضابطة كلّيّة بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظنّ المظنون الاعتبار.

نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائما من حيث القوّة

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٧٢.

(٢) في الصفحة ٤٧٣.

(٣) في غير (ر) و (ص) : «فإذا».

(٤) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «بحجّيته».


والضعف ، كان ذلك المرجّح بنفسه منضبطا ، ولكنّ الفرض مستبعد بل مستحيل.

مع أنّ اللازم على هذا أن لا يعمل بكلّ مظنون الحجّيّة ، بل بما ظنّ حجّيّته بظنّ قد ظنّ حجّيته ؛ لأنّه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله بناء على التقرير المتقدّم (١).

وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ، ففيه :

أوّلا : أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّيّة أمارة على الإطلاق ؛ فإنّ أكثر ما اقيم على حجّيّته (٢) الأدلّة ـ من الأمارات الظنّيّة المبحوث عنها ـ الخبر الصحيح ، ومعلوم عند المنصف أنّ شيئا ممّا ذكروه لحجّيته (٣) لا يوجب الظنّ بها على الإطلاق.

عدم اعتبار مطلق الظنّ في تعيين القضية المهملة

وثانيا : أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل.

ثمّ إنّه قد توهّم غير واحد (٤) : أنّه ليس المراد اعتبار مطلق الظنّ وحجّيّته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ، وإنّما المقصود ترجيح بعضها على بعض.

__________________

(١) في الصفحة ٤٧٣.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «حجّية».

(٣) كذا في (ت) ، (ر) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «لحجّيتها».

(٤) منهم صاحب هداية المسترشدين كما سيأتي ، وكذا صاحب الفصول في الفصول : ٢٨٠.


فقال بعضهم (١) في توضيح (٢) لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار ـ بعد الاعتراف بأنّه ليس المقصود هنا إثبات حجّيّة الظنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنّيّة القائمة عليها ، ليكون الاتّكال في حجّيّتها على مجرّد الظنّ ـ :

إنّ الدليل العقلي المثبت لحجّيّتها هو الدليل العقليّ المذكور ، والحاصل من تلك الأمارات الظنّيّة هو ترجيح بعض الظنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكلّيّة ، بل يقتصر في مفاد القضيّة المهملة على تلك الجملة ، فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون ؛ نظرا إلى حصول القوّة بالنسبة إليها ؛ لانضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع.

فإذا قطع العقل بحجّية الظنّ بالقضيّة المهملة ، ثمّ وجد الحجّية متساوية بالنظر إلى الجميع ، حكم بحجّيّة الكلّ ، وأمّا إذا وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجّيّة من الباقي ـ نظرا إلى الظنّ بحجّيّتها دون الباقي ـ ، فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك ، والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الظنّ مثبتا لحجّيّة ذلك الظنّ ، وإنّما هو قاض بتقديم جانب الحجّيّة في تلك الظنون ، فينصرف إليه ما قضى به الدليل المذكور.

ثمّ اعترض على نفسه : بأنّ صرف الدليل إليها إن كان على وجه

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين.

(٢) في (ت) ونسخة بدل (ه) : «توجيه».


اليقين تمّ ما ذكر ، وإلاّ كان اتّكالا على الظنّ.

والحاصل : أنّه لا قطع لصرف الدليل إلى تلك الظنون.

ثمّ أجاب : بأنّ الاتّكال ليس على الظنّ الحاصل بحجّيّتها ، ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها ، بل التعويل على القطع بالترجيح.

وتوضيحه : أنّ قضيّة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ على سبيل الإهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّيّة الجميع والبعض ، ثمّ الأمر في البعض يدور بين المظنون وغيره ، وقضيّة العقل في الدوران بين الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض ؛ أخذا بالمتيقّن ؛ ولذا قال علماء الميزان : إنّ المهملة في قوّة الجزئيّة.

ولو لم يتعيّن البعض في المقام ودارت الحجّيّة بينه وبين سائر الأبعاض من غير تفاوت في نظر العقل ، لزم الحكم بحجّيّة الكلّ ؛ لبطلان الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا لو كانت حجّيّة البعض ـ ممّا فيه الكفاية ـ مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب إلى الحجّيّة من غيره ممّا لم يقم على حجّيّته دليل ، فيتعيّن عند العقل الأخذ به دون غيره ؛ فإنّ الرجحان حينئذ قطعيّ وجدانيّ ، والترجيح من جهته ليس ترجيحا بمرجّح ظنّي وإن كان ظنّا بحجّيّة تلك الظنون ؛ فإنّ كون المرجّح ظنّا لا يقتضي كون الترجيح ظنّيّا ، وهو ظاهر (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

مناقشة فيما أفادة الهداية

أقول : قد عرفت سابقا (٢) : أنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٢) راجع الصفحة ٤٦٥ ـ ٤٦٦.


تجعل كاشفة عن كون الظنّ في الجملة حجّة علينا بحكم الشارع ، كما يشعر به قوله : كان بعض الظنون أقرب إلى الحجّيّة من الباقي. وإمّا أن تجعل (١) منشأ لحكم العقل بتعيّن (٢) إطاعة الله سبحانه حين الانسداد على وجه الظنّ ، كما يشعر به قوله : نظرا إلى حصول القوّة لتلك الجملة ؛ لانضمام الظنّ بحجّيّتها إلى الظنّ بالواقع.

فعلى الأوّل ، إذا كان الظنّ المذكور مردّدا بين الكلّ والبعض (٣) اقتصر على البعض ، كما ذكره ؛ لأنّه المتيقّن. وأمّا إذا تردّد ذلك البعض بين الأبعاض ، فالمعيّن لأحد المحتملين أو المحتملات لا يكون إلاّ بما يقطع بحجّيّته ، كما أنّه إذا احتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لا يمكن ترجيح أحدهما بمجرّد الظنّ به إلاّ بعد إثبات حجّيّة ذلك الظنّ.

بل التحقيق : أنّ المرجّح لأحد الدليلين عند التعارض ـ كالمعيّن لأحد الاحتمالين ـ يتوقّف على القطع باعتباره عقلا أو نقلا ؛ وإلاّ فأصالة عدم اعتبار الظنّ لا فرق في مجراها بين جعله دليلا وجعله مرجّحا.

هذا ، مع أنّ الظنّ المفروض إنّما قام على حجّيّة بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيّته بدليل الانسداد ، فتأمّل.

وأمّا على الثاني ، فالعقل إنّما يحكم بوجوب الإطاعة على الوجه

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (م) و (ه) : «يجعل».

(٢) كذا في (ت) ، (ر) و (ه) ، وفي غيرها : «بتعيين».

(٣) لم ترد «والبعض» في (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم ورد في هامش (ل) تصحيحا.


الأقرب إلى الواقع ، فإذا فرضنا أنّ مشكوك الاعتبار يحصل منه ظنّ بالواقع أقوى ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار ، كان الأوّل أولى بالحجّيّة في نظر العقل ؛ ولذا قال صاحب المعالم : إنّ العقل قاض بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة متفاوتة بالقوّة والضعف ، فالعدول عن القويّ منها إلى الضعيف قبيح (١) ، انتهى.

نعم ، لو كان قيام الظنّ على حجّيّة بعضها ممّا يوجب قوّتها في نظر العقل ـ لأنّها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظنّ ، بخلافه ـ رجع الترجيح به إلى ما ذكرنا سابقا ، وذكرنا ما فيه.

وحاصل الكلام يرجع إلى : أنّ الظنّ بالاعتبار إنّما يكون صارفا للقضيّة إلى ما قام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجّيّته في تعيين الاحتمالات ، أو صار موجبا لكون الإطاعة بمقتضاها أتمّ ؛ لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل. والأوّل موقوف على حجّيّة مطلق الظنّ. والثاني لا اطّراد له ؛ لأنّه قد يعارضها قوّة المشكوك الاعتبار.

وربما التزم بالأوّل بعض من أنكر حجّيّة مطلق الظنّ (٢) ، وأورده إلزاما على العاملين (٣) بمطلق الظنّ ، فقال :

كلام الفاضل النراقي إلزاماً على القائلين بحجيّة مطلق الظنّ

«كما يقولون يجب علينا في كلّ واقعة البناء على حكم ؛ ولعدم كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظنّ ، فكذا نقول : بعد ما وجب علينا العمل بالظنّ ولم نعلم تعيينه ، يجب علينا في تعيين هذا الظنّ

__________________

(١) المعالم : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) هو الفاضل النراقي قدس‌سره.

(٣) كذا في (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ت) ، وفي غيرها : «القائلين».


العمل بالظنّ.

ثمّ اعترض على نفسه بما حاصله : أنّ وجوب العمل بمظنون الحجّيّة لا ينفي غيره.

فقال : قلنا : نعم ، ولكن لا يكون حينئذ دليل على حجّيّة ظنّ آخر ؛ إذ بعد ثبوت حجّيّة الظنّ المظنون الحجّيّة ينفتح باب الأحكام ولا يجري دليلك فيه ويبقى تحت أصالة عدم الحجّية» (١).

المناقشة في كلام الفاضل النراقي

وفيه : أنّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد مع فرض عدم المرجّح العمل بمطلق الظنّ في الفروع ، دخل الظنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ، فلا مورد للترجيح والتعيين حتّى يعيّن بمطلق الظنّ ؛ لأنّ الحاجة إلى التعيين بمطلق الظنّ فرع عدم العمل بمطلق الظنّ.

وبعبارة اخرى : إمّا أن يكون مطلق الظنّ حجّة وإمّا لا ، فعلى الأوّل لا مورد للتعيين والترجيح ، وعلى الثاني لا يجوز الترجيح بمطلق الظنّ ، فالترجيح بمطلق الظنّ ساقط على كلّ تقدير.

وليس للمعترض القلب : بأنّه إن ثبت حجّية مطلق الظنّ تعيّن ترجيح مظنون الاعتبار به ؛ إذ على تقدير ثبوت حجّيّة مطلق الظنّ لا يتعقّل ترجيح حتّى يتعيّن الترجيح بمطلق الظنّ.

ثمّ إنّ لهذا المعترض (٢) كلاما في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ ، لا من حيث حجّية مطلق الظنّ حتّى يقال : إنّ بعد ثبوتها لا مورد للترجيح ، لا بأس بالإشارة إليه وإلى ما وقع من الخلط

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) أي : الفاضل النراقي.


والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا. فقال معترضا على القائل بما قدّمنا ـ من أنّ ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه بالاستدلال ـ بقوله :

كلامّ آخر للفاضل النراقي في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ

إنّ هذا القائل خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ولم يعرف الفرق بينهما ، ولبيان هذا المطلب نقدّم مقدّمة ، ثمّ نجيب عن كلامه ، وهي :

أنّه لا ريب في بطلان الترجيح بلا مرجّح ؛ فإنّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعرف والعادة ، بل يقولون بامتناعه الذاتيّ كالترجّح بلا مرجّح ، والمراد بالترجيح بلا مرجّح هو سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل إليه من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك فهو أمر آخر وراء ذلك. ثمّ أوضح ذلك بأمثلة :

منها : أنّه لو دار أمر العبد في أحكام السلطان المرسلة إليه بين امور ، وكان بعضها مظنونا بظنّ لم يعلم حجّيّته من طرف السلطان ، صحّ له ترجيح المظنون ، ولا يجوز له الحكم بلزوم ذلك.

ومنها : أنّه لو اقدم (١) إلى (٢) أحد طعامان أحدهما ألذّ من الآخر فاختاره عليه ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، وإن لم يلزم أكل الألذّ ، ولكن لو حكم بلزوم الأكل لا بدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الألذّيّة. نعم لو كان أحدهما مضرّا صحّ الحكم باللزوم.

ثمّ قال :

وبالجملة : فالحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني يكون في مقام

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأنسب : «قدّم».

(٢) في (ه) : «على».


التصديق والحكم.

ثمّ قال :

أن ليس المراد أنّه يجب العمل بالظنّ المظنون حجّيّته وأنّه الذي يجب العمل به بعد انسداد باب العلم ، بل مراده : أنّه بعد ما وجب على المكلّف ـ لانسداد باب العلم وبقاء التكليف ـ العمل بالظنّ ، ولا يعلم أيّ ظنّ ، لو عمل بالظنّ المظنون حجّيّته أيّ نقص يلزم عليه؟

فإن قلت : ترجيح بلا مرجّح ، فقد غلطت غلطا ظاهرا ، وإن كان غيره ، فبيّنه حتّى ننظر (١) ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى أنّه ليس المراد من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظنّ ، فإذا فرض أنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ، فلا غرض إلاّ في تعيينه بحيث يحكم بأنّ هذا هو الذي يجب العمل به شرعا ، حتّى يبني المجتهد عليه في مقام العمل ويلتزم بمؤدّاه على أنّه حكم شرعيّ عزميّ (٢) من الشارع. وأمّا دواعي ارتكاب بعض الظنون دون بعض فهي مختلفة غير منضبطة : فقد يكون الداعي إلى الاختيار موجودا في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون في مظنون الاعتبار.

فليس الكلام إلاّ في أنّ الظنّ بحجّيّة بعض الظنون هل يوجب الأخذ بذلك الظنّ شرعا ، بحيث يكون الآخذ بغيره لداع من الدواعي معاقبا

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) لم ترد «عزميّ» في (ت) ، (ر) ، (ل) ، وورد بدلها في (ت) : «عرفي وجوبي» ، وفي (ل) : «جزمي».


عند الله في ترك ما هو وظيفته من سلوك الطريق؟ وبعبارة اخرى : هل يجوز شرعا أن يعمل المجتهد بغير مظنون الاعتبار ، أم لا يجوز؟ إن قلت : لا يجوز شرعا.

قلنا : فما الدليل الشرعيّ بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة على أنّ تلك المهملة غير هذه الجزئيّة؟

وإن قلت : يجوز (١) ، لكن بدلا عن مظنون الاعتبار لا جمعا بينهما ، فهذا هو التخيير الذي التزم المعمّم ببطلانه.

وإن قلت يجوز جمعا بينهما ، فهذا هو مطلب المعمّم.

فليس المراد بالمرجّح ما يكون داعيا إلى إرادة أحد الطرفين ، بل المراد : ما يكون دليلا على حكم الشارع ، ومن المعلوم أنّ هذا الحكم الوجوبيّ لا يكون إلاّ عن حجّة شرعيّة ، فلو كان هي مجرّد الظنّ بوجوب العمل بذلك البعض فقد لزم العمل بمطلق الظنّ عند اشتباه الحكم الشرعيّ ، فإذا جاز ذلك في هذا المقام لم لا يجوز في سائر المقامات؟ فلم قلتم : إنّ نتيجة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ في الجملة؟

وبعبارة اخرى : لو اقتضى انسداد باب العلم في الأحكام تعيين الأحكام المجهولة بمطلق الظنّ ، فلم منعتم إفادة ذلك الدليل إلاّ لإثبات حجّيّة الظنّ في الجملة؟ وإن اقتضى تعيين الأحكام بالظنّ في الجملة ، لم يوجب انسداد باب العلم في تعيين الظنّ في الجملة ـ الذي وجب العمل به بمقتضى الانسداد ـ العمل في تعيينه بمطلق الظنّ.

وحاصل الكلام : أنّ المراد من المرجّح هنا هو المعيّن والدليل

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «ذلك».


الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ ، فإن كان في المقام شيء غير الظنّ فليذكر ، وإن كان مجرّد الظنّ فلم تثبت حجّيّة مطلق الظنّ.

فثبت من جميع ذلك : أنّ الكلام ليس في المرجّح للفعل ، بل المطلوب المرجّح للحكم بأنّ الشارع أوجب بعد الانسداد العمل بهذا دون ذاك.

وممّا ذكرنا يظهر ما في آخر كلام البعض المتقدّم ذكره (١) في توضيح مطلبه : من أنّ كون المرجّح ظنّا لا يقتضي كون الترجيح ظنّيا.

فإنّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعيّا لا يقتضي ذلك ، بل إن قام دليل على اعتبار ذلك المرجّح شرعا (٢) كان الترجيح به قطعيّا ، وإلاّ فليس ظنّيّا أيضا.

ثمّ إنّ ما ذكره الأخير في مقدّمته : من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح بل محال ، يظهر منه خلط بين الترجيح بلا مرجّح في الإيجاد والتكوين ، وبينه في مقام الإلزام والتكليف ؛ فإنّ الأوّل محال لا قبيح ، والثاني قبيح لا محال ؛ فالإضراب في كلامه عن القبح إلى الاستحالة لا مورد له ، فافهم.

عدم صحّة تعيين بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه

فثبت ممّا ذكرنا : أنّ تعيين الظنّ في الجملة من بين الظنون بالظنّ غير مستقيم.

وفي حكمه : ما لو عيّن بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما

__________________

(١) أي الشيخ محمّد تقي ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة ٤٧٩.

(٢) لم ترد «شرعا» في (ظ).


سواه ، كالأولويّة والاستقراء بل الشهرة ؛ حيث إنّ المشهور على عدم اعتبارها ، بل لا يبعد دخول الأوّلين تحت القياس المنهيّ عنه ، بل النهي عن العمل بالاولى منهما وارد في قضيّة «أبان» المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة (١) ؛ فإنّه يظنّ بذلك : أنّ الظنّ المعتبر بحكم الانسداد في ما عدا هذه الثلاثة.

وقد ظهر ضعف ذلك ممّا ذكرنا : من عدم استقامة تعيين القضيّة المهملة بالظنّ.

ونزيد هنا : أنّ دعوى حصول الظنّ على عدم اعتبار هذه الامور ممنوعة ؛ لأنّ مستند الشهرة على عدم اعتبارها ليس إلاّ عدم الدليل عند المشهور على اعتبارها ، فيبقى تحت الأصل ـ لا لكونها منهيّا عنها بالخصوص كالقياس ـ ومثل هذه الشهرة المستندة إلى الأصل لا يوجب الظنّ بالواقع.

وأمّا دعوى كون الأوّلين قياسا ، فنكذّبه بعمل غير واحد من أصحابنا (٢) عليهما ، بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد (٣).

__________________

(١) تقدّم الحديث في الصفحة ٦٣.

(٢) الزبدة : ٧٤ ، والحدائق ١ : ٦٠ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٠ ، ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ، و ٦٦٧ ـ ٦٧١.

(٣) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣١٠ ، و ٢ : ١٠٤ ، ١٦٩ و ١٨٢ ، وكولده صاحب المعالم في فقه المعالم : ٤٠٣ ، كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث الاستصحاب ٣ : ٢٩٩.


ومنه يظهر : الوهن في دلالة قضيّة «أبان» على حرمة العمل عليها بالخصوص ، فلا يبقى ظنّ من الرواية بحرمة العمل عليها بالخصوص.

ولو فرض ذلك : دخل الأولويّة في ما قام الدليل على عدم اعتباره ؛ لأنّ الظنّ الحاصل من رواية «أبان» متيقّن الاعتبار بالنسبة إلى الأولويّة ؛ فحجّيّتها مع عدم حجّيّة الخبر الدالّ على المنع عنها غير محتملة ، فتأمّل.

صحّة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ في مواضع

ثمّ بعد ما عرفت : من عدم استقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ، فاعلم : أنّه قد يصحّ تعيينها بالظنّ في مواضع :

أحدها : أن يكون الظنّ القائم على حجّيّة بعض الظنون من المتيقّن اعتباره بعد الانسداد ، إمّا مطلقا كما إذا قام فرد من الخبر الصحيح المتيقّن (١) اعتباره من بين سائر الأخبار وسائر الأمارات على حجّيّة بعض ما دونه ، فإنّه يصير حينئذ متيقّن الاعتبار ؛ لأجل قيام الظنّ المتيقّن الاعتبار على اعتباره.

وإمّا بالإضافة إلى ما قام على اعتباره إذا ثبت حجّيّة ذلك الظنّ القائم ، كما لو قام الإجماع المنقول على حجّيّة الاستقراء مثلا ؛ فإنّه يصير بعد إثبات حجّيّة الإجماع المنقول ببعض (٢) الوجوه ظنّا معتبرا.

ويلحق (٣) به ما هو متيقّن بالنسبة إليه ، كالشهرة إذا كانت متيقّنة

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «متيقّن».

(٢) في (ل) : «على بعض».

(٣) في (ظ) ، (م) ، و (ه) : «والحق».


الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء بحيث لا يحتمل اعتباره دونها (١).

لكن ، هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجّيّة الظنّ بين كونه في المسائل الفروعيّة وكونه في المسائل الاصوليّة ؛ وإلاّ فلو قلنا : إنّ الظنّ في الجملة الذي قضى به مقدّمات (٢) الانسداد ، إنّما هو المتعلّق بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ، فالقدر المتيقّن إنّما هو متيقّن بالنسبة إلى الفروع ، لا غير.

وما ذكرنا سابقا (٣) : من عدم الفرق بين تعلّق الظنّ بنفس الحكم الفرعيّ وبين تعلّقه بما جعل طريقا إليه ، إنّما هو بناء على ما هو التحقيق من تقرير مقدّمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل دون كشفه عن جعل الشارع ، والقدر المتيقّن مبنيّ على الكشف ، كما سيجيء (٤).

إلاّ أن يدّعى : أنّ القدر المتيقّن في الفروع هو متيقّن في المسائل الاصوليّة أيضا (٥).

__________________

(١) لم ترد عبارة «وإمّا بالإضافة ـ إلى ـ اعتباره دونها» هنا في (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) ، وشطب عليها في (ل) ، نعم كتبت هنا في هامش (ه).

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «دليل».

(٣) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٤) انظر الصفحة ٤٩١.

(٥) لم ترد عبارة «إلاّ أن ـ إلى ـ أيضا» في (ظ) و (م) ، وفي (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) هنا زيادة : «وإمّا بالاضافة ـ إلى ـ اعتباره دونها» التي تقدّمت في الصفحة السابقة.


الموضع الثاني

الثاني : أن يكون الظنّ القائم على حجّيّة ظنّ متّحدا لا تعدّد فيه ، كما إذا كان مظنون الاعتبار منحصرا فيما قامت أمارة واحدة على حجّيّته ، فإنّه يعمل به في تعيين المتّبع وإن كان أضعف الظنون ؛ لأنّه إذا انسدّ باب العلم في مسألة تعيين ما هو المتّبع بعد الانسداد ولم يجز الرجوع فيها إلى الاصول حتّى الاحتياط كما سيجيء (١) ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ الموجود في المسألة فيؤخذ به ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم وفرض عدم صحّة الرجوع فيها إلى مقتضى الاصول ، تعيّن ـ بحكم العقل ـ العمل بأيّ ظنّ وجد في تلك المسألة.

الموضع الثالث

الثالث : أن يتعدّد الظنون في مسألة تعيين المتّبع بعد الانسداد بحيث يقوم كلّ واحد منها على اعتبار طائفة من الأمارات كافية في الفقه ، لكن يكون هذه الظنون القائمة ـ كلّها ـ في مرتبة لا يكون اعتبار بعضها مظنونا ، فحينئذ : إذا وجب ـ بحكم مقدّمات (٣) الانسداد في مسألة تعيين المتّبع ـ الرجوع فيها إلى الظنّ في الجملة ، والمفروض تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة وعدم المرجّح لبعضها ، وجب الأخذ بالكلّ بعد بطلان التخيير بالإجماع وتعسّر ضبط البعض الذي لا يلزم العسر من الاحتياط فيه (٤).

وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن بناء على الكشف

ثمّ على تقدير صحّة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ،

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٠٤.

(٢) راجع الصفحة ٤٣٥.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «دليل».

(٤) لم ترد عبارة «بعد بطلان ـ إلى ـ الاحتياط فيه» في (ظ) و (م).


فالذي ينبغي أن يقال (١) : إنّ اللازم على هذا ـ أوّلا ـ هو الاقتصار على المتيقّن من الظنون.

وهل يلحق به كلّ ما قام المتيقّن على اعتباره؟ وجهان : أقواهما العدم كما تقدّم ؛ إذ بناء على هذا التقرير لا نسلّم (٢) كشف العقل بواسطة مقدّمات الانسداد إلاّ عن اعتبار الظنّ في الجملة في الفروع دون الاصول ، والظنّ بحجّيّة الأمارة الفلانيّة ظنّ بالمسألة الاصوليّة.

نعم ، مقتضى تقرير الدليل على وجه حكومة العقل : أنّه لا فرق بين تعلّق الظنّ بالحكم الفرعيّ أو بحجّيّة طريق.

لو لم يكن القدر المتيقّن كافيا

ثمّ إن كان القدر المتيقّن كافيا في الفقه ـ بمعنى أنّه لا يلزم من العمل بالاصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ـ فهو ، وإلاّ فالواجب الأخذ بما هو المتيقّن من الأمارات الباقية الثابتة (٣) بالنسبة إلى غيرها ، فإن كفى في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقّن بالنسبة ، وهكذا.

ثمّ لو فرضنا عدم القدر المتيقّن بين الأمارات أو عدم كفاية ما هو (٤) المتيقّن مطلقا أو بالنسبة : فإن لم يكن على شيء منها أمارة فاللازم الأخذ بالكلّ ؛ لبطلان التخيير بالإجماع وبطلان طرح الكلّ

__________________

(١) وردت عبارة «فالذي ينبغي أن يقال» مقدّمة على «تقدير ...» في غير (ظ) و (م) ، ولم ترد في تلك النسخ «ثمّ».

(٢) في (ظ) و (م) : «لا يسلم».

(٣) لم ترد «الثابتة» في (ت) و (ه).

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «القدر».


بالفرض وفقد المرجّح ، فتعيّن الجمع (١).

وإن قام على بعضها أمارة : فإن كانت أمارة واحدة ـ كما إذا قامت الشهرة على حجّيّة جملة من الأمارات ـ كان اللازم الأخذ بها ؛ لتعيين (٢) الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظنون.

وإن كانت أمارات متعدّدة قامت كلّ واحدة منها على حجّيّة ظنّ مع الحاجة إلى جميع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها ، عمل بها. ولا فرق حينئذ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظنّ بالاعتبار والعدم ، وبين تفاوتها في ذلك.

وأمّا لو قامت كلّ واحدة منها على مقدار من الأمارات كاف في الفقه : فإن لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظنّ بالاعتبار ، وجب الأخذ بالكلّ ـ كالأمارة الواحدة ـ ؛ لفقد المرجّح. وإن تفاوتت ، فما قام متيقّن الاعتبار ومظنون الاعتبار على اعتباره يصير معيّنا (٣) ، كما إذا قام الإجماع المنقول ـ بناء على كونه مظنون الاعتبار ـ على حجّيّة أمارة غير مظنون الاعتبار ، وقامت تلك الأمارة ، فإنّها تتعيّن (٤) بذلك.

هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفا.

وأمّا على ما هو المختار من كونه حاكما ، فسيجيء الكلام فيه (٥)

__________________

(١) في (ر) و (ل) : «الجميع».

(٢) في (ر) : «لتعيّن».

(٣) في (ظ) زيادة : «بعده» ، وفي (ل) ، (م) و (ه) زيادة : «لغيره».

(٤) في (ظ) : «تعيّن».

(٥) انظر الصفحة ٥٠٢.


بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك : فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات ، حتّى يعرف المتيقّن منها حقيقة أو بالإضافة إلى غيره (١) ، ويحصّل ما يمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ، ويميّز بين تلك الأمارات القائمة من حيث التساوي والتفاوت من حيث الظنّ بحجّية بعضها من أمارة اخرى ، ويعرف كفاية ما أحرز اعتباره من تلك الأمارات وعدم كفايته في الفقه.

وهذا يحتاج إلى سير مسائل الفقه إجمالا ، حتّى يعرف أنّ القدر المتيقّن من الأخبار لا يكفي مثلا في الفقه ، بحيث يرجع في موارد خلت عن هذا الخبر إلى الاصول التي يقتضيها الجهل بالحكم في ذلك المورد ، وأنّه إذا انضمّ إليه قسم آخر من الخبر ـ لكونه متيقّنا إضافيّا ، أو لكونه مظنون الاعتبار بظنّ متّبع ـ هل يكفي أم لا؟ فليس له الفتوى على وجه يوجب طرح سائر الظنون حتّى يعرف كفاية ما أحرزه من جهة اليقين أو الظنّ المتّبع. وفّقنا الله للاجتهاد الذي هو أشدّ من طول الجهاد ، بحقّ محمّد وآله الأمجاد.

الطريق الثاني للتعميم : عدم كفاية الظنون المعتبرة

الثاني من طرق التعميم : ما سلكه غير واحد من المعاصرين (٢) : من عدم الكفاية ؛ حيث اعترفوا ـ بعد تقسيم الظنون إلى مظنون

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «غيرها».

(٢) انظر الفصول : ٢٧٨ ، وهداية المسترشدين : ٤٠٢.


الاعتبار ومشكوكه وموهومه ـ بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة الاقتصار على مظنون الاعتبار ، ثمّ على المشكوك ، ثمّ يتسرّى إلى الموهوم.

لكنّ الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، إمّا بأنفسها ؛ بناء على انحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين. وإمّا لأجل العلم الإجماليّ بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة (١) منها ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فلا يجوز التمسّك بتلك الظواهر ؛ للعلم الإجماليّ المذكور ، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام.

فلا بدّ من التسرّي ـ بمقتضى قاعدة الانسداد ولزوم المحذور من الرجوع إلى الاصول ـ إلى الظنون المشكوكة الاعتبار التي دلّت على إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ، فيعمل بما هو ـ من مشكوك الاعتبار ـ مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّد لإطلاقاته وقرائن لمجازاته.

فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل بغيرها (٢) ممّا ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ، بالإجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ؛ فإنّ أحدا لم يفرّق بين الخبر الحسن المعارض لإطلاق الصحيح ، وبين خبر حسن آخر غير معارض لخبر صحيح ، بل بالأولويّة القطعيّة ؛ لأنّه إذا

__________________

(١) ورد في (ص) بدل «الظاهرة» : «المرادة».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «لغيرها».


وجب العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى.

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالا بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشف عن ذلك ـ ظنّا ـ هي الأمارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ، ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالإجماع المركّب ؛ حيث إنّ أحدا لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة ، كما عرفت.

المناقشة في هذه الطريقة

أقول : الإنصاف : أنّ التعميم بهذا الطريق أضعف من التخصيص بمظنون الاعتبار ؛ لأنّ هذا المعمّم قد جمع ضعف القولين ؛ حيث اعترف بأنّ مقتضى القاعدة ـ لو لا عدم الكفاية ـ الاقتصار على مظنون الاعتبار ، وقد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ بالاعتبار إلاّ إذا ثبت جواز العمل بمطلق الظنّ عند انسداد باب العلم.

وأمّا ما ذكره : من التعميم لعدم (١) الكفاية ، ففيه :

أوّلا : أنّه مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ، وليس كذلك ، بل الأمارات الظنّيّة ـ من الشهرة ، وما دلّ على اعتبار قول الثقة ، مضافا إلى ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات وفي تشخيص أحوال الرواة ـ توجب الظنّ القويّ بحجّيّة الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر الموثّق ، والضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية ، ومن

__________________

(١) في (م) : «بعدم».


المعلوم : كفاية ذلك وعدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلى الاصول.

وثانيا : أنّ العلم الإجماليّ الذي ادّعاه يرجع حاصله إلى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار ، ومن المعلوم أنّ العمل بها لأجل ذلك لا يوجب التعدّي إلى ما ليس فيه هذه العلّة ، أعني مشكوكات الاعتبار الغير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار ؛ فإنّ العلم الإجماليّ بوجود شهرات متعدّدة مقيّدة لإطلاقات (١) الأخبار أو مخصّصة لعموماتها ، لا يوجب التعدّي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو تخصيص ، فضلا عن التسرّي إلى الاستقراء والأولويّة.

ودعوى الإجماع لا يخفى ما فيها ؛ لأنّ الحكم بالحجّيّة في القسم الأوّل لعلّة غير مطّردة في القسم الثاني حكم عقليّ نعلم (٢) بعدم تعرّض الإمام عليه‌السلام له قولا ولا فعلا ، إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي وجود العلم الإجماليّ.

ومن ذلك يعرف الكلام في دعوى الأولويّة ؛ فإنّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الإجماليّ ، فكيف يتعدّى إلى ما لا يوجد فيه المناط ، فضلا عن كونه أولى؟

وكأنّ متوهّم الإجماع رأى أنّ أحدا من العلماء لم يفرّق بين أفراد

__________________

(١) في جميع النسخ : «لإطلاق».

(٢) في (ر) : «يعلم» ، وفي (ت) ، (ل) و (ه) : «فعلم».


الخبر الحسن أو (١) أفراد الشهرة ، ولم يعلم أنّ الوجه عندهم ثبوت الدليل عليهما مطلقا أو نفيه كذلك ؛ لأنّهم أهل الظنون الخاصّة ، بل لو ادّعى الإجماع على أنّ كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو شهرات لأجل العلم الإجماليّ بمطابقة بعضها للواقع لم يعمل بالباقي لخالي عن هذا العلم الإجماليّ ، كان في محلّه.

الثالث من طرق التعميم : قاعدة الاشتغال

الثالث من طرق التعميم : ما ذكره بعض مشايخنا طاب ثراه (٢) ، من قاعدة الاشتغال ؛ بناء على أنّ الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، فإذا لم يكن قدر متيقّن كاف في الفقه وجب العمل بكلّ ظنّ.

ومنع جريان قاعدة الاشتغال هنا ـ لكون ما عدا واجب العمل من الظنون محرّم العمل ـ قد (٣) عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة اعتبار الظنّ بالطريق.

المناقشة في هذه الطريقة أيضا

ولكن فيه : أنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ، كما إذا اقتضى الاحتياط في الفرع (٤) وجوب السورة ، وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ، فإنّه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة

__________________

(١) في (ر) : «وأفراد».

(٢) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٥٥.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ص) : «فقد».

(٤) في (ص) : «في الفروع».


السورة ؛ لاحتمال وجوبها ، ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الاصوليّة ؛ لأنّ الحكم الاصوليّ المعلوم بالإجمال ـ وهو وجوب العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب ـ معناه وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أن يقع الفعل على وجه الوجوب ، ولا تنافي بين الاحتياط وفعل (١) السورة لاحتمال الوجوب ، وكونه لا على وجه الوجوب الواقعيّ.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظنّ وجوب تطبيق عمله عليه ، فإذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به إلاّ أنّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل ، فإذا (٢) اختار فعل ذلك فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ؛ إذ لا يعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصد عدم الوجوب. نعم ، يجب التشرّع والتديّن بعدم الوجوب ـ سواء فعله أو تركه ـ من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع.

وحينئذ : فإذا تردّد الظنّ ـ الواجب العمل ـ المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب امور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظنّ المجمل المعلوم إجمالا وجوب (٣) أن لا يكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذه الظنون وكانت هذه الامور مباحة

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «بفعل».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (ه) : «وإذا».

(٣) كذا في (ر) ، (ل) ، (ه) ومصحّحة (ت) ، وفي غيرها : «وجوبه».


بحكم الأصل ؛ ولذا يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل لاحتمال أنّه واجب.

ثمّ إذا فرض العلم الإجماليّ من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الامور ، فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد (١) منها ؛ لاحتمال أن يكون هو الواجب.

وما اقتضاه الظنّ القائم على عدم وجوبه ـ من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب ـ باق بحاله ؛ لأنّ الاحتياط في الجميع لا يقتضي إتيان كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعيّ ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ، والظنّ القائم على عدم وجوبه لا يمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه ، كما أنّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتفصيل ـ كظاهر الكتاب ـ دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه لاستحباب الإتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب.

هذا ، وأمّا ما قرع سمعك : من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما ، فليس في مثل المقام.

بل مثال الأوّل منهما : ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة مزيلا للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا تردّد الواجب بين القصر والإتمام ودلّ على أحدهما أمارة من الأمارات التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها ؛ فإنّه إذا قلنا بوجوب العمل

__________________

(١) لم ترد «واحد» في (ظ) ، (ل) و (م).


بهذه الأمارات (١) يصير (٢) حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين.

إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي (٣) إتيانها لا نفي غيرها ، فالصلاة الاخرى حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير نظير ما نحن فيه.

وأمّا الثاني وهو مورد المعارضة ، فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها أمارات نعلم إجمالا بحجّيّة إحداها ؛ فإنّ مقتضى هذا وجوب الإتيان بالجميع ، ومقتضى ذاك ترك الجميع ، فافهم.

وأمّا دعوى : أنّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العمل به في مقابل الاحتياط ؛ للإجماع المركّب ، فقد عرفت شناعته (٤).

فإن قلت : إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط ، لزم العسر والحرج ؛ إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو (٥)

__________________

(١) في (ت) و (ظ) : «الأمارة».

(٢) في (ت) : «تصير».

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «وجوب».

(٤) راجع الصفحة ٤٦١.

(٥) في (ت) ، (ر) و (ص) بدل «أو» : «و» ، وفي (ر) ، (ص) و (م) زيادة : «كلّ».


موهوم الوجوب مع كونه مطابقا للاحتياط اللازم ، فإذا فرض لزوم العسر من مراعاة الاحتياطين معا في الفقه تعيّن دفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ ، فإذا فرض (١) هذا الظنّ مجملا لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضى الظنّ بالتكليف احتياطا ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيعمل بها ؛ فرارا عن لزوم العسر.

قلت : دفع العسر يمكن بالعمل ببعضها ، فما المعمّم؟ فيرجع الأمر إلى أنّ قاعدة الاشتغال لا تنفع ولا تثمر (٢) في الظنون المخالفة للاحتياط ؛ لأنّك عرفت (٣) أنّه لا يثبت وجوب التسرّي إليها فضلا عن التعميم فيها ؛ لأنّ التسرّي إليها كان للزوم العسر ، فافهم.

هذا كلّه على تقدير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظنّ في الجملة ، وقد عرفت (٤) أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وعرفت (٥) أيضا ما ينبغي سلوكه على تقدير تماميّته : من وجوب اعتبار المتيقّن ـ حقيقة أو بالإضافة ـ ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة (٦).

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «فرضنا».

(٢) كذا في (ت) ، وفي (ص) و (ل) : «لا ينفع ولا يثمر» ، وفي (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «لا ينفع ولا يتم».

(٣) راجع الصفحة ٤٩٧.

(٤) راجع الصفحة ٤٦٨.

(٥) راجع الصفحة ٤٩١.

(٦) راجع الصفحة ٤٩٣.


وجوب الاقتصار على الظنّ الاطمئناني بناء على الحكومة

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الإطاعة الظنّيّة والفرار عن المخالفة الظنّيّة ، وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ، فالتعميم وعدمه لا يتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ؛ لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنّي بين الأسباب المحصّلة له ، كما لا فرق فيما (١) كان المقصود الانكشاف الجزميّ بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّر عرفا.

بيان ذلك : أنّ الثابت من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيليّ : هو وجوب الامتثال الإجماليّ بالاحتياط في إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ، لكن المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت (٢) وجوبه على وجه الموجبة الكلّية ، بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط أو يرجع إلى الأصل كذلك ، ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكليّة لا يستلزم صدق السالبة الكليّة ، وحينئذ فلا يثبت من ذلك إلاّ وجوب العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة.

ثمّ إنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القويّ الاطمئنانيّ أقرب إلى العلم عند تعذّره ، وأنّه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع وترك ما يكرهه وجب تحصيل ذلك بالظنّ الأقرب إلى العلم.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إذا».

(٢) في النسخ : «أبطل».


وحينئذ : فكلّ واقعة تقتضي (١) الاحتياط الخاصّ بنفس المسألة أو الاحتياط العامّ من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطع (٢) بتحقّق التكليف فيها ، إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنّيّة توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع تركنا الاحتياط وأخذنا بها.

وكلّ واقعة ليست فيها أمارة كذلك ، نعمل (٣) فيها بالاحتياط ، سواء لم توجد (٤) أمارة أصلا كالوقائع المشكوكة ، أو كانت ولم تبلغ (٥) مرتبة الاطمئنان.

وكلّ واقعة (٦) لم يمكن فيها الاحتياط ، تعيّن التخيير في الأوّل ، والعمل بالظنّ في الثاني وإن كان في غاية الضعف ؛ لأنّ الموافقة الظنّيّة أولى من غيرها ، والمفروض عدم جريان البراءة والاستصحاب ؛ لانتقاضهما بالعلم الإجماليّ ، فلم يبق من الاصول إلاّ التخيير ، ومحلّه عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلاّ فيؤخذ بالراجح (٧).

النتيجة بناء على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط

ونتيجة هذا : هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظنّ الغير الاطمئنانيّ إن أمكن (٨) ، والعمل بالظنّ في الوقائع المظنونة بالظنّ

__________________

(١) في النسخ : «يقتضي».

(٢) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «يقطع».

(٣) في (ظ) و (م) : «يعمل».

(٤) في النسخ : «لم يوجد».

(٥) في النسخ : «ولم يبلغ».

(٦) في (م) و (ظ) بدل «وكلّ واقعة» : «نعم لو».

(٧) لم ترد عبارة «والمفروض عدم ـ إلى ـ فيؤخذ بالراجح» في (ظ) و (م).

(٨) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) زيادة : «وإلاّ فبالأصول».


الاطمئنانيّ ، فإذا عمل المكلّف قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة ـ الغير الواجب على المكلّف من جهة العسر ـ إلاّ إلى الموافقة الاطمئنانيّة ، فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظنّ الاطمئنانيّ بها.

وأمّا مورد التخيير ، فالعمل فيه على الظنّ الموجود في المسألة وإن كان ضعيفا ، فهو خارج عن الكلام ؛ لأنّ العقل لا يحكم فيه بالاحتياط حتّى يكون التنزّل منه إلى شيء آخر ، بل التخيير أو العمل بالظنّ الموجود تنزّل من العلم التفصيليّ إليهما بلا واسطة.

وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه في موارد (١) الانسداد على الظنّ الاطمئنانيّ ومطلق الظنّ والتخيير ، كلّ في مورد خاصّ ، وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقلّ.

وقد سبق لذلك مثال في الخارج ، وهو : ما إذا علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع ، وكان أقسام القطيع ـ بحسب احتمال كونها مصداقا للمحرّمات ـ خمسة ، قسم منها يظنّ كونها محرّمة بالظنّ القويّ الاطمئنانيّ لا أنّ المحرّم منحصر فيه ، وقسم منها يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشكّ والتحيّر ، وثالث يشكّ في كونها محرّمة ، وقسم منها في مقابل الظنّ الأوّل ، وقسم منها (٢) في مقابل الظنّ الثاني ، ثمّ فرضنا في المشكوكات وهذا القسم من الموهومات ما يحتمل أن يكون واجب الارتكاب.

وحينئذ : فمقتضى الاحتياط وجوب اجتناب الجميع ممّا لا يحتمل

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «مورد».

(٢) في غير (ه) زيادة : «موهوما» ، ولكن شطب عليها في (ت).


الوجوب ، فإذا انتفى وجوب الاحتياط لأجل العسر واحتيج إلى ارتكاب موهوم الحرمة ، كان ارتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئنانيّ أولى من الكلّ ، فيبنى على العمل به ، ويتخيّر في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ، ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه.

الفرق بين العمل بالظنّ بعنوان التبعيض في الاحتياط أو بعنوان الحجيّة

لكنّك خبير : بأنّ هذا ليس من حجّيّة مطلق الظنّ ولا الظنّ الاطمئنانيّ في شيء ؛ لأنّ معنى حجّيته أن يكون دليلا في الفقه ـ بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل (١) الذي يقتضيه ـ ، والظنّ هنا ليس كذلك ؛ إذ العمل :

أمّا في موارد وجوده (٢) ، ففيما طابق منه الاحتياط (٣) على الاحتياط لا عليه ؛ إذ لم يدلّ (٤) على ذلك مقدّمات الانسداد ، وفيما خالف الاحتياط لا يعوّل عليه إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العسر ، وإلاّ فلو فرض فيه جهة اخرى لم يكن معتبرا من تلك الجهة (٥) ، كما لو دار الأمر بين شرطيّة شيء وإباحته واستحبابه ، فظنّ باستحبابه ، فإنّه لا يدلّ مقدّمات دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء ، والأخذ بالظنّ في عدم وجوبه ، لا في إثبات استحبابه.

__________________

(١) كذا في (ل) ، وورد في غيرها بدل «وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل» : «وفي موارد الخلوّ عنه بمقتضى الأصل».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «موارد وجوده» : «موارده».

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «فالعمل» ، ولكن شطب عليه في (ص).

(٤) في (ر) و (ص) : «لا يدلّ».

(٥) لم ترد «الجهة» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).


وأمّا في موارد عدمه وهو الشكّ ، فلا يجوز العمل إلاّ بالاحتياط الكلّي الحاصل من احتمال كون الواقعة من موارد التكليف المعلوم (١) إجمالا وإن كان لا يقتضيه نفس المسألة ، كما إذا شكّ في حرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ، بل العمل على هذا الوجه يتبعّض (٢) في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعا للحرج ، ثمّ يعيّن العقل للطرح البعض الذي يكون وجود التكليف فيها احتمالا ضعيفا في الغاية.

فإن قلت : إنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّة إلى المظنونات (٣) يوجب العسر فضلا عن انضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ (٤) ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ووجوب الرجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل (٥) ، وهذا مساو في المعنى لحجّية الظنّ المطلق ، وإن كان حقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلّيّ ، لكنّه لا يقدح بعد عدم الفرق في العمل.

قلت : لا نسلّم لزوم الحرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «المعلومة».

(٢) كذا في (ل) وظاهر (م) ، وفي غيرهما : «تبعيض».

(٣) في (ظ) و (م) بدل «المظنونات» : «الموهومات» ، وفي (ل) و (ه) زيادة : «مطلقا».

(٤) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ» : «في المظنونات بالظنّ الغير القويّ».

(٥) في (ظ) و (م) زيادة : «في كلّ منها».


بالظنّ الغير القويّ في نفي التكليف ، فضلا (١) عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات ؛ وذلك لأنّ حصول الظنّ الاطمئنانيّ غير عزيز في الأخبار وغيرها.

أمّا في غيرها ؛ فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة والإجماع المنقول والاستقراء والأولويّة.

وأمّا الأخبار ؛ فلأنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن ، وهو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه ـ ولو في خصوص الرواية ـ وإن لم يكن إماميّا أو ثقة على الإطلاق ؛ إذ ربما يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.

وأمّا احتمال الإرسال ، فمخالف لظاهر كلام الراوي ، وهو داخل في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئنانيّ منه ، فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالإسناد ، لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر ؛ لأنّ الجهة التي يعتبر فيها (٢) الظنّ الاطمئنانيّ هو جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه ، وأمّا أنّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظيّ لا بأس بعدم إفادته للظنّ ، فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا ؛ لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

وبالجملة : فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار وغيرها

__________________

(١) في (ظ) و (م) بدل «بالظنّ الغير القويّ في نفي التكليف فضلا» : «بالظنّ القويّ فضلا».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إفادة».


من الأمارات ، بحيث لا يحتاج إلى ما دونها ، ولا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلى الاحتياط (١) محذور وإن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان ، قريبة جدّا. إلاّ أنّه يحتاج إلى مزيد تتبّع في الروايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء.

وكيف كان : فلا أرى الظنّ الاطمئناني الحاصل من الأخبار وغيرها من الأمارات أقلّ عددا من الأخبار المصحّحة بعدلين ، بل لعلّ هذا (٢) أكثر.

عدم الفرق في الظنّ الاطميناني بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالطريق

ثمّ إنّ الظنّ الاطمئناني من أمارة أو أمارات إذا تعلّقت (٣) بحجّية أمارة ظنّية كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تفده ، بناء على ما تقدّم (٤) : من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق (٥) ، إلاّ أن يدّعي مدّع قلّتها بالنسبة إلى نفسه ؛ لعدم الاطمئنان له غالبا من الأمارات القويّة وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضا ، وحينئذ فيتعيّن في حقّه التعدّي منه إلى مطلق الظنّ.

الإشكال في العمل بما يقتضيه الأصل في المشكوكات

وأمّا العمل في المشكوكات (٦) بما يقتضيه الأصل في المورد ، فلم يثبت ، بل اللازم بقاؤه على الاحتياط ؛ نظرا إلى كون المشكوكات

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها ونسخة بدلها بدل «الاحتياط» : «الاصول».

(٢) في النسخ : «هذه».

(٣) في (ر) و (ت) : «تعلّق».

(٤) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٥) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل «بالطريق» : «بالواقع».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) : «المشكوك».


من المحتملات التي يعلم إجمالا بتحقّق التكليف فيها وجوبا وتحريما. ولا عسر في الاحتياط فيها ؛ نظرا إلى قلّة المشكوكات ؛ لأنّ أغلب المسائل يحصل فيها الظنّ بأحد الطرفين ، كما لا يخفى.

مع أنّ الفرق بين الاحتياط في جميعها والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها إنّما يظهر في الاصول المخالفة للاحتياط ، ولا ريب أنّ العسر لا يحدث بالاحتياط فيها ، خصوصا مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم الترك ، وهو غير موجب للعسر.

وحينئذ : فلا يثبت المدّعى ، من حجّيّة الظنّ وكونه دليلا بحيث يرجع في موارد عدمه إلى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات.

والحاصل : أنّ العمل بالظنّ من باب الاحتياط (١) لا يخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلّي الثابت بمقتضى العلم الإجماليّ في الوقائع.

نعم ، لو ثبت بحكم العقل أنّ الظنّ عند انسداد باب العلم مرجع في الأحكام الشرعيّة نفيا وإثباتا كالعلم ، انقلب التكليف إلى الظنّ ، وحكمنا بأنّ الشارع لا يريد إلاّ الامتثال الظنّيّ ، وحيث (٢) لا ظنّ ـ كما في المشكوكات ـ فالمرجع إلى الاصول الموجودة في خصوصيّات المقام ، فيكون كما لو انفتح باب العلم أو الظنّ الخاصّ ، فيصير لزوم العسر حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الإجمالي في الامتثال بعد تعذّر

__________________

(١) في نسخة بدل (ص) بدل «الاحتياط» : «العسر».

(٢) في غير (ه) : «فحيث».


التفصيليّ ، لا علّة حتّى يدور الحكم مدارها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ المقدّمات المذكورة لا تنتج هذه النتيجة ، كما يظهر لمن راجعها وتأمّلها. نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العسر ثبتت (١) النتيجة المذكورة ، لكن عرفت (٢) فساد دعواه في الغاية ، كدعوى أنّ العلم الإجماليّ المقتضي للاحتياط الكلّي إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ، فلا مقتضي فيها للعدول عمّا تقتضيه (٣) الاصول الخاصّة في مواردها ؛ فإنّ هذه الدعوى يكذّبها ثبوت العلم الإجماليّ بالتكليف الإلزاميّ قبل استقصاء الأمارات ، بل قبل الاطّلاع عليها ، وقد مرّ تضعيفه سابقا ، فتأمّل فيه ؛ فإنّ ادّعاء ذلك ليس كلّ البعيد.

الإشكال في الاصول اللفظيّة أيضا

ثمّ إنّ نظير هذا الإشكال الوارد في المشكوكات من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاصول العمليّة ، وارد فيها من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والأخبار المتيقّن كونها ظنونا خاصّة.

توضيحه : أنّ من مقدّمات دليل الانسداد (٤) إثبات عدم جواز العمل بتلك (٥) الظواهر ؛ للعلم الإجماليّ بمخالفة ظواهرها في كثير من

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «تثبت».

(٢) راجع الصفحة ٤٢٣.

(٣) في غير (ظ) : «عمّا يقتضيه».

(٤) هنا زيادة «تقتضي» في طبعة جماعة المدرّسين.

(٥) في (ر) و (ص) : «بأكثر تلك».


الموارد ؛ فتصير مجملة لا تصلح للاستدلال.

فإذا فرضنا رجوع الأمر إلى ترك الاحتياط في المظنونات أو في المشكوكات أيضا ، وجواز العمل بالظنّ المخالف للاحتياط وبالأصل المخالف للاحتياط ؛ فما الذي أخرج تلك الظواهر عن الإجمال حتّى يصحّ الاستدلال بها (١) في المشكوكات ؛ إذ (٢) لم يثبت كون الظنّ مرجعا كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع (٣) إلى الظواهر عدم الظنّ بالمخالفة؟

مثلا : إذا أردنا التمسّك ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٤) لإثبات صحّة عقد انعقدت أمارة ـ كالشهرة أو الإجماع المنقول ـ على فساده ، قيل : لا يجوز التمسّك بعمومه ؛ للعلم الإجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لا نعلم تفصيلها.

ثمّ إذا ثبت وجوب العمل بالظنّ ـ من جهة عدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد ، وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزما للحرج ـ ، فإذا شكّ في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنّية ، قيل : إنّ الواجب الرجوع إلى عموم الآية ، ولا يخفى أنّ إجمالها لا يرتفع بمجرّد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التكليف.

ودفع هذا ـ كالإشكال السابق ـ منحصر في أن يكون نتيجة دليل

__________________

(١) في غير (ظ) : «بها الاستدلال».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «إذا».

(٣) في (ه) زيادة : «عملا».

(٤) المائدة : ١.


الانسداد حجّيّة الظنّ كالعلم ، ليرتفع الإجمال في الظواهر ـ لقيامه في كثير من مواردها ـ من جهة ارتفاع العلم الإجماليّ ، كما لو علم تفصيلا بعض تلك الموارد بحيث لا يبقى علم إجمالا في الباقي.

أو يدّعى أنّ العلم الإجماليّ الحاصل في تلك الظواهر إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ، فلا يقدح في المشكوكات سواء ثبت حجّيّة الظنّ أم لا.

وأنت خبير : بأنّ دعوى النتيجة على الوجه المذكور يكذّبها مقدّمات دليل الانسداد.

ودعوى : اختصاص المعلوم إجمالا من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات ، مضعّفة بأنّ هذا العلم حاصل بملاحظة (١) الأمارات ومواردها ، وقد تقدّم سابقا أنّ المعيار في دخول طائفة من المحتملات في أطراف العلم الإجماليّ ـ لنراعي فيها حكمه ـ وعدم دخولها ، هو تبديل طائفة من المحتملات ـ المعلوم لها دخل في العلم الإجماليّ ـ بهذه الطائفة المشكوك دخولها ، فإن حصل العلم الإجماليّ كانت من أطراف العلم ، وإلاّ فلا.

وقد يدفع الاشكالان : بدعوى قيام الإجماع بل الضرورة على أنّ المرجع في المشكوكات إلى العمل بالاصول اللفظيّة إن كانت ، وإلاّ فإلى الاصول العمليّة.

وفيه : أنّ هذا الإجماع مع ملاحظة الاصول في أنفسها ، وأمّا مع طروّ العلم الإجماليّ بمخالفتها في كثير من الموارد ـ غاية الكثرة ـ

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «من دون ملاحظة».


فالإجماع على سقوط العمل بالاصول مطلقا ، لا على ثبوته.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجماليّ وإن كان حاصلا لكلّ أحد قبل تمييز (١) الأدلّة عن غيرها ، إلاّ أنّ من تعيّنت له الأدلّة وقام الدليل القطعيّ عنده على بعض الظنون عمل بمؤدّاها ، وصار المعلوم بالإجماع عنده معلوما بالتفصيل ، كما إذا قامت أمارة معتبرة كالبيّنة واليد على حرمة بعض (٢) القطيع الذي علم بحرمة كثير من شياهها ، فإنّه يعمل بمقتضى الأمارة ، ثمّ يرجع في مورد فقدها إلى أصالة الحلّ ؛ لأنّ المعلوم إجمالا صار معلوما بالتفصيل ، والحرام الزائد عليه غير معلوم التحقّق في أوّل الأمر.

وأمّا من لم يقم عنده الدليل (٣) على أمارة ، إلاّ أنّه ثبت له عدم وجوب الاحتياط ، والعمل بالأمارات لا من حيث إنّها أدلّة ، بل من حيث إنّها مخالفة للاحتياط وترك الاحتياط فيها موجب لاندفاع العسر ، فلا رافع (٤) لذلك العلم الإجماليّ لهذا الشخص بالنسبة إلى المشكوكات.

حاصل الكلام في المسألة

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامّة في الإنتاج إلاّ أنّ نتيجتها لا تفي بالمقصود : من حجّية

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ه) : «تميّز».

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما بدل «قامت ـ إلى ـ بعض» : «نصب أمارة طريقا لتعيين المحرّمات في».

(٣) في (م) : «دليل».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ) : «فلا دافع».


الظنّ وجعله كالعلم أو كالظنّ الخاصّ.

وأمّا على تقرير الكشف ، فالمستنتج منها وإن كان عين المقصود ، إلاّ أنّ الإشكال والنظر بل المنع في استنتاج تلك النتيجة.

فإن كنت تقدر على إثبات حجّيّة قسم من الخبر لا يلزم من الاقتصار عليه محذور ، كان أحسن ، وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكشف عمّا (١) ذكرناه (٢) من المسلك في آخره ، وعلى تقدير الحكومة ما بيّنا هنا أيضا : من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظنّ الاطمئنانيّ بالحكم أو بطريقيّة أمارة دلّت على الحكم وإن لم تفد اطمئنانا بل ولا ظنّا ، بناء على ما عرفت من مسلكنا المتقدّم (٣) : من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق.

وأمّا في ما لا يمكن الاحتياط ، فالمتّبع فيه ـ بناء على ما تقدّم (٤) في المقدّمات : من سقوط الاصول عن الاعتبار ؛ للعلم الإجماليّ بمخالفة الواقع فيها ـ هو مطلق الظنّ إن وجد ، وإلاّ فالتخيير.

وحاصل الأمر : عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه.

وعليك بمراجعة ما قدّمنا من الأمارات على حجّيّة الأخبار ، عساك تظفر فيها بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة

__________________

(١) في (ر) ، (ظ) و (م) بدل «عمّا» : «ما».

(٢) راجع الصفحة ٤٩٣.

(٣) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٤) في الصفحة ٤٢٨.


عرفا إذا أفاد الظنّ وإن لم يفد الاطمئنان ، بل لعلّك تظفر فيها بخبر مصحّح بعدلين مطابق لعمل المشهور مفيد للاطمئنان يدلّ على حجّيّة المصحّح بواحد عدل ـ نظرا إلى حجّية قول الثقة المعدّل في تعديله ، فيصير بمنزلة المعدّل بعدلين ـ حتّى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعا ؛ بناء على دليل الانسداد بكلا تقريريه ؛ لأنّ المفروض حصول الاطمئنان من الخبر القائم على حجّية قول الثقة (١) المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ؛ بناء على شمول دليل اعتبار خبر الثقة للتعديلات (٢) ، فيقضي به تقرير الحكومة ، وكون مثله متيقّن الاعتبار من بين الأمارات فيقضي به تقرير الكشف.

__________________

(١) لم ترد «الثقة» في (ه) ، وفي غير (ظ) و (م) زيادة : «المعدّل».

(٢) لم ترد عبارة «بناء ـ إلى ـ للتعديلات» في (ظ) و (م).


المقام الثالث (١)

عدم الإشكال في خروج الظنّ القياسي على الكشف

في أنّه إذا بني على تعميم الظنّ ، فإن كان التعميم على تقرير الكشف ، بأن يكون مقدّمات الانسداد كاشفة عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظنّ في الجملة ثمّ تعميمه بأحد (٢) المعمّمات المتقدّمة ، فلا إشكال (٣) من جهة العلم بخروج القياس عن هذا العموم ؛ لعدم جريان المعمّم فيه بعد وجود الدليل على حرمة العمل به (٤) ، فيكون التعميم بالنسبة إلى ما عداه ، كما لا يخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة.

توجّه الإشكال على الحكومة

وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن يكون مقدّمات الدليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ما عدا الظنّ وقبح اكتفاء المكلّف بما دونه (٥) ، فيشكل توجيه خروج القياس ، وكيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ويقبح من الآمر والمأمور التعدّي عنه ، ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارع العمل به؟ فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل ـ من

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في المقامين الأوّلين في الصفحة ٤٦٤ و ٤٧١.

(٢) في (ل) و (ه) : «بإحدى».

(٣) في (ص) زيادة : «أصلا» ، وفي (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) زيادة : «أيضا».

(٤) لم ترد «به» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «على ما دونه».


الظنّ أو خصوص الاطمئنان ـ لو فرض ممكنا جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ؛ إذ لعلّه نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد ، واختفى علينا.

ولا رافع (١) لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك على الشارع ؛ إذ احتمال صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلاّ بقبحه. وهذا من أفراد ما اشتهر : من أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص ، ومنشؤه لزوم التناقض.

ولا يندفع إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجا عن الموضوع وهو التخصّص. وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظيّة إنّما هو لكون العموم صوريّا ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصوريّ.

ثمّ إنّ الإشكال هنا في مقامين :

١ ـ خروج الظنّ القياسي عن حجيّة مطلق الظنّ

الإشكال في مقامين

أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله ممّا نقطع بعدم اعتباره. الثاني : في حكم الظنّ الذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر ؛ حيث إنّ الظنّ المانع والممنوع متساويان في الدخول تحت دليل الانسداد ولا يجوز العمل بهما ، فهل يطرحان أو يرجّح المانع أو الممنوع منه أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال.

أمّا المقام الأوّل ، فقد قيل في توجيهه امور :

ما قيل في توجيه خروج القياس

الأوّل : ما مال إليه أو قال به بعض (٢) : من منع حرمة العمل

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «لا دافع».

(٢) هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٣.


بالقياس في أمثال زماننا ، وتوجيهه بتوضيح منّا :

١ ـ منع حرمة العمل بالقياس في زمان الانسداد

أنّ الدليل على الحرمة : إن كان هي الأخبار المتواترة معنى في الحرمة (١) ، فلا ريب أنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمّة صلوات الله عليهم من العامّة التاركين للثقلين (٢) ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر ، ورجعوا إلى اجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا واستحسنوا وضلّوا وأضلّوا ، وإليهم أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال : «برهة يعملون بالقياس» (٣) ، والأمير صلوات الله عليه بما معناه : «إنّ قوما تفلّتت عنهم الأحاديث أن يحفظوها وأعوزتهم النصوص أن يعوها ، فتمسّكوا بآرائهم ... إلى آخر الرواية» (٤).

وبعض منها : إنّما (٥) يدلّ على الحرمة من حيث إنّه ظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

وبعض منها : يدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدين ومحق السنّة ؛ لاستلزامه الوقوع غالبا في خلاف الواقع (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤ ، ١٠ ، ١١ ، ١٥ ، ١٨ ، ٢٠ وغيرها.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٢٤ وغيرها.

(٣) البحار ٢ : ٣٠٨ ، الحديث ٦٨.

(٤) البحار ٢ : ٨٤ ، الحديث ٩ ، مع تفاوت.

(٥) لم ترد «إنّما» في (ت) ، (ظ) و (ل).

(٦) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.


وبعض منها : يدلّ على الحرمة ووجوب التوقّف إذا لم يوجد ما عداه (١) ، ولازمه الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقّف لأجل العمل بالرجوع إلى أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات ، أو نحو ذلك.

ولا يخفى : أنّ شيئا من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ، لا يدلّ على حرمة العمل بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عموما أو خصوصا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد امنائه صلوات الله عليهم أجمعين ، مع عدم التمكّن من تحصيل العلم به ولا الطريق الشرعيّ ، ودوران الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه صدر منهم عليهم‌السلام والعمل بما يظنّ أنّ خلافه صدر منهم ، كمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده أو الأمارات (٢) المعارضة له. وما ذكرنا واضح على من راعى الإنصاف وجانب الاعتساف.

وإن كان الدليل هو الإجماع ، بل الضرورة عند علماء المذهب كما ادّعي (٣) ، فنقول : إنّه كذلك ، إلاّ أنّ دعوى الإجماع والضرورة على الحرمة في كلّ زمان ممنوعة.

ألا ترى : أنّه لو فرض ـ والعياذ بالله ـ انسداد باب الظنّ من الطرق السمعيّة لعامّة المكلّفين أو لمكلّف واحد باعتبار ما سنح له من البعد عن بلاد الإسلام ، فهل تقول : إنّه يحرم عليه العمل بما يظنّ

__________________

(١) نفس المصدر ، الحديث ٤٩.

(٢) في (ظ) و (م) : «أو الأمارة» ، وفي (ر) ، (ص) : «والأمارة».

(٣) انظر القوانين ١ : ٤٤٩ ، ومفاتيح الاصول : ٦٦٣ ـ ٦٦٤.


بواسطة القياس أنّه الحكم الشرعيّ المتداول بين المتشرّعة ، وأنّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، ثمّ تدّعي الضرورة على ما ادّعيته من الحرمة؟ حاشاك!

ودعوى : الفرق بين زماننا هذا وزمان انطماس جميع الأمارات السمعيّة ممنوعة ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارات السمعيّة الموجودة بأيدينا لم تثبت كونها مقدّمة (١) في نظر الشارع على القياس ؛ لأنّ تقدّمها : إن كان لخصوصيّة فيها ، فالمفروض بعد انسداد باب الظنّ الخاصّ عدم ثبوت خصوصيّة فيها ، واحتمالها بل ظنّها لا يجدي ، بل نفرض الكلام فيما إذا قطعنا بأنّ الشارع لم ينصب تلك الأمارات (٢) بالخصوص.

وإن كان لخصوصيّة في القياس أوجبت كونه دونها في المرتبة ، فليس الكلام إلاّ في ذلك.

وكيف كان ، فدعوى الإجماع والضرورة في ذلك في الجملة مسلّمة ، وأمّا كلّيّة فلا. وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد (٣).

المناقشة في هذا الوجه

لكنّ الإنصاف : أنّ إطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الإجماعات يوجب الظنّ المتاخم للعلم بل العلم بأنّه ليس ممّا يركن إليه في الدين مع وجود الأمارات السمعيّة ، فهو حينئذ ممّا قام الدليل على عدم حجّيّته ، بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ـ كما هو

__________________

(١) في (ر) و (م) : «متقدّمة».

(٢) في غير (ر) و (ص) : «الأمارة».

(٣) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤.


لازم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجّيّته ـ ضروريّ البطلان في المذهب.

٢ ـ منع إفادة القياس للظنّ

الثاني (١) : منع إفادة القياس للظنّ ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة ، وفرّق بين ما يتخيّل متآلفة.

وكفاك في هذا : عموم ما ورد من (٢) : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) ، و «أنّ السنّة إذا قيست محق الدين» (٤) ، و «أنّه لا شيء أبعد عن عقول الرجال من دين الله» (٥) ، وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس (٦) ، وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في دية أصابع الرجل والمرأة الآتية (٧).

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ منع حصول الظنّ من القياس في بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان. وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات ، فلا يؤثّر في منع الظنّ ؛ لأنّ هذه الموارد بالنسبة إلى موارد

__________________

(١) هذا الجواب أيضا ذكره المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٢.

(٢) لم ترد «من» في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) كمال الدين : ٣٢٤ ، الحديث ٩ ، والبحار ٢ : ٣٠٣ ، الحديث ٤١ ، وفي المصدر : «بالعقول الناقصة».

(٤) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٥) لم نعثر عليه ، نعم في الوسائل ما يقرب منه ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٦) الوسائل ١٨ : ٢٧ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨.

(٧) تقدّمت الرواية في الصفحة ٦٣ ، ولم نعثر عليها فيما يأتي.


الجمع بين المؤتلفات أقلّ قليل.

نعم ، الإنصاف : أنّ ما ذكر من الأخبار في منع العمل بالقياس (١) موهن قويّ يوجب غالبا ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادئ النظر ، أمّا منعه عن ذلك دائما فلا ؛ كيف؟ وقد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمّى عندهم بتنقيح المناط القطعيّ. وأيضا : فالأولويّة الاعتباريّة من أقسام القياس ، ومن المعلوم إفادتها للظنّ ، ولا ريب أنّ منشأ الظنّ فيها هو استنباط المناط ظنّا ، وأمّا آكديّته في الفرع فلا مدخل له في حصول الظنّ.

٣ ـ أنّ باب العلم في القياس مفتوح

الثالث (٢) : أنّ باب العلم في مورد القياس ومثله مفتوح ؛ للعلم بأنّ الشارع أرجعنا في هذه الموارد إلى الاصول اللفظيّة أو العمليّة ، فلا يقضي دليل الانسداد باعتبار ظنّ القياس في موارده.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ هذا العلم إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلام في وجوب الامتناع عنه بعد منع الشارع ، إنّما الكلام في توجيه نهي الشارع (٣) عن العمل به مع أنّ موارده وموارد سائر الأمارات متساوية ، فإن أمكن منع الشارع عن العمل بالقياس أمكن ذلك في أمارة اخرى ، فلا يستقلّ العقل بوجوب العمل بالظنّ وقبح

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (م) : «أنّ ما ذكر من تتبّع الأخبار في أحوال القياس» ، وفي (ه) ونسخة بدل (ص) : «أنّ ما ذكر من تتبّع الأخبار في منع العمل بالقياس» ، وفي (ل) : «أنّ ما ذكر من الأخبار في أحوال القياس».

(٢) هذا الجواب أيضا للمحقق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٢.

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «توجيه صحّة منع الشارع».


الاكتفاء بغيره من المكلّف (١). وقد تقدّم أنّه لو لا ثبوت القبح في التكليف بالخلاف لم يستقلّ العقل بتعيّن (٢) العمل بالظنّ ؛ إذ لا مانع عقلا عن وقوع الفعل الممكن ذاتا من الحكيم إلاّ قبحه.

والحاصل : أنّ الانفتاح المدّعى إن كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلاف المفروض ، وإن كان بملاحظة منع الشارع ، فالإشكال في صحّة المنع ومجامعته مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ، فالكلام هنا في توجيه المنع ، لا في تحقّقه.

الرابع : عدم حجيّة مطلق الظنّ النفس الأمري

الرابع (٣) : أنّ مقدّمات دليل الانسداد ـ أعني انسداد باب العلم مع العلم ببقاء التكليف ـ إنّما توجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني (٤) في نفسه ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى ، وبالجملة : هي تدلّ على حجّيّة الأدلّة الظنّية دون مطلق الظنّ النفس الأمريّ ، والأوّل أمر قابل للاستثناء ؛ إذ يصحّ (٥) أن يقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على مراد الشارع ظنّا إلاّ الدليل الفلانيّ ، وبعد إخراج ما خرج عن ذلك يكون باقي الأدلّة (٦) المفيدة للظنّ حجّة معتبرة ، فإذا تعارضت تلك الأدلّة لزم الأخذ بما هو الأقوى وترك ما هو الأضعف ،

__________________

(١) في (ظ) و (م) زيادة : «وقبح الأمر بغيره من المكلّف».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) ، (ظ) و (ه) : «بتعيين».

(٣) هذا الجواب أيضا للمحقّق القمّي.

(٤) لم ترد «يعني» في (ر) و (ص).

(٥) في (ر) ، (ص) و (ه) : «إذ لا يقبح».

(٦) في (م) : «يكون ما في الأدلّة».


فالمعتبر حينئذ هو الظنّ بالواقع ، ويكون مفاد الأقوى حينئذ ظنّا والأضعف وهما ، فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره (١) ، انتهى.

أقول : كأنّ غرضه ـ بعد فرض جعل الاصول من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط ـ : أنّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها يوجب عقلا الرجوع إلى طائفة من الأمارات الظنّية ، وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ويكون القياس خارجا عن حكمها ، لا أنّ (٢) العقل يحكم بعمومها ويخرج الشارع القياس ؛ لأنّ هذا عين ما فرّ منه من الإشكال. فإذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم فلا بدّ من إعمال الباقي في مواردها ، فإذا وجد في مورد أصل وأمارة ـ والمفروض أنّ الأصل لا يفيد الظنّ في مقابل الأمارة ـ وجب الأخذ بها ، وإذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة اخذ بالأصل ؛ لأنّه يوجب الظنّ بمقتضاه.

وبهذا (٣) التقرير : يجوز منع الشارع عن القياس ، بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرجوع في كلّ مسألة إلى الظنّ الموجود فيها ؛ فإنّ هذه القضيّة لا تقبل الإهمال ولا التخصيص ؛ إذ ليس في كلّ مسألة إلاّ ظنّ واحد.

وهذا معنى قوله في مقام آخر : إنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظنّية ، لا أنّ الظنّ القياسيّ مستثنى من مطلق الظنّ. والمراد بالاستثناء

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٢.

(٢) في (ر) ، (ل) و (م) زيادة : «يكون».

(٣) في (ظ) و (م) : «وهذا».


هنا إخراج ما لولاه لكان قابلا للدخول ، لا داخلا بالفعل ؛ وإلاّ لم يصحّ بالنسبة إلى المهملة.

هذا غاية ما يخطر بالبال في كشف مراده.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه ؛ فإنّ مرجع ما ذكر ـ من الحكم بوجوب الرجوع إلى الأمارات الظنّية في الجملة ـ إلى العمل بالظنّ في الجملة (١) ؛ إذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّيّة في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ ، سواء اعتبر مطلقا أو على وجه الإهمال ، وقد تقدّم (٢) : أنّ النتيجة على تقرير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئنانيّ مع الكفاية ، ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لإخراج القياس. وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملة لا يشكل معها خروج القياس ؛ إذ الإشكال (٣) مبنيّ على عدم الإهمال وعموم النتيجة ، كما عرفت (٤).

الخامس : عدم حجيّة الظنّ الذي قام على حجيّته دليل

الخامس (٥) : أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّيّة الظنّ الذي لم يقم على عدم حجّيّته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص دون

__________________

(١) في غير (ت) و (ه) : «بالجملة».

(٢) راجع الصفحة ٤٦٧.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «الاشكال» : «القياس».

(٤) راجع الصفحة ٤٦٨.

(٥) هذا الجواب ذكره الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٣٩٥ ، وأخوه صاحب الفصول في الفصول : ٢٨٥.


التخصيص.

توضيح ذلك : أنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ؛ لأنّ البراءة الظنّية تقوم مقام العلميّة ، أمّا إذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنّية حتّى يحكم العقل بوجوبها.

واستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم (١) في تقرير أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به ، فإنّ هذا لا يكون (٢) تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ؛ لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ مع التمكّن من العلميّ ، فإذا فرض الدليل على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به صار الامتثال ـ في العمل بمؤدّاه ـ علميّا ، فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ ، فما نحن فيه على العكس من ذلك.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّك قد عرفت ـ عند التكلّم في مذهب ابن قبة (٣) ـ : أنّ التعبّد بالظنّ مع التمكّن من العلم على وجهين :

أحدهما : على وجه الطريقيّة بحيث لا يلاحظ الشارع في أمره عدا كون الظنّ انكشافا ظنّيّا للواقع بحيث لا يترتّب على العمل به عدا

__________________

(١) في غير (ظ) زيادة : «نظيره».

(٢) في (ت) و (ه) بدل عبارة «فإنّ هذا لا يكون» : «لم يوجب ذلك».

(٣) راجع الصفحة ١٠٨ ـ ١١٢.


مصلحة الواقع على تقدير المطابقة.

والثاني : على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة على تقدير مخالفة الظنّ للواقع.

وقد عرفت (١) : أنّ الأمر بالعمل بالظنّ مع التمكّن من العلم على الوجه الأوّل قبيح جدّا ؛ لأنّه مخالف لحكم العقل بعدم الاكتفاء في الوصول إلى الواقع بسلوك طريق ظنّيّ يحتمل الإفضاء إلى خلاف الواقع. نعم ، إنّما يصحّ التعبّد على الوجه الثاني.

فنقول : إنّ الأمر في ما نحن فيه كذلك ؛ فإنّه بعد ما حكم العقل بانحصار الامتثال عند فقد العلم في سلوك الطريق الظنّي ، فنهي الشارع عن العمل ببعض الظنون : إن كان على وجه الطريقيّة ـ بأن نهى عند فقد العلم عن سلوك هذا الطريق من حيث إنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ـ فهو قبيح ؛ لأنّه معرّض لفوات الواقع فينتقض به الغرض ، كما كان يلزم ذلك من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمكّن من العلم ؛ لأنّ حال الظنّ عند الانسداد من حيث الطريقيّة حال العلم مع الانفتاح لا يجوز النهي عنه من هذه الحيثيّة في الأوّل كما لا يجوز الأمر به في الثاني ، فالنهي عنه وإن كان مخرجا للعمل به عن ظنّ البراءة إلى القطع بعدمها ، إلاّ أنّ الكلام في جواز هذا النهي ؛ لما عرفت من أنّه قبيح.

وإن كان على وجه يكشف النهي عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ يغلب على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ، فهذا وإن

__________________

(١) راجع الصفحة ١٠٩ ـ ١١٠.


كان جائزا حسنا نظير الأمر به على هذا الوجه مع الانفتاح ، إلاّ أنّه يرجع إلى ما سنذكره (١)(٢).

٦ ـ ما اخترناه سابقا

السادس : وهو الذي اخترناه سابقا (٣) ، وحاصله : أنّ النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح.

فإن قلت : إذا بني على ذلك ، فكلّ ظنّ من الظنون يحتمل أن يكون في العمل به مفسدة كذلك.

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبراءة عند الانسداد ، كما أنّ احتمال وجود المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد (٤) : أنّ العقل مستقلّ بوجوب العمل بالظنّ مع انسداد باب العلم (٥) ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ؛ إذ لا يحصل من العمل

__________________

(١) في الوجه الآتي.

(٢) في غير (ت) و (ه) زيادة : «في».

(٣) لم ترد عبارة «وهو الذي اخترناه سابقا» في (ر) و (ل).

(٤) راجع الصفحة ٤٣٤.

(٥) وردت في (ظ) ، (ل) و (م) بدل عبارة «العمل ـ إلى ـ العلم» عبارة : «البراءة الظنّية مع عدم العلم».


بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة أو توهّمها ، ولا يجوز العدول عن البراءة الظنّية إليهما.

عدم تماميّة هذا الوجه أيضا

وهذا الوجه وإن كان حسنا وقد اخترناه سابقا ، إلاّ أنّ ظاهر أكثر الأخبار الناهية عن القياس : أنّه لا مفسدة فيه إلاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك وبعضها ظاهرا في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، إلاّ أنّ دلالة الأكثر أظهر ، فهي الحاكمة (١) على غيرها ، كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه (٢).

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لا بدّ من حملها ـ في مقابل العقل المستقلّ ـ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع إلى الأئمّة عليهم‌السلام. والأدلّة القطعيّة منها ـ كالإجماع المنعقد على حرمة العمل به حتّى مع الانسداد ـ لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة ، كما أنّه إذا قام دليل على حجّيّة ظنّ مع التمكّن من العلم نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ؛ لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره.

٧ ـ مختار المصنّف في التوجيه

الوجه السابع : هو أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع ؛ كما يشهد به قوله عليه‌السلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين» (٣) ، وقوله : «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (٤) ، وقوله :

__________________

(١) في (ه) ونسخة بدل (ت) : «المحكّمة».

(٢) راجع الصفحة ٥٢٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٤) الوسائل ٥ : ٣٩٤ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٤.


«ليس شيء أبعد عن عقول الرّجال من دين الله» (١) ، وغير ذلك (٢).

وهذا المعنى لمّا (٣) خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّية عند فقد العلم ، فهو إنّما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حال القياس فيحكم ـ حكما إجماليّا ـ بعدم جواز الركون إليه.

نعم ، إذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد ، لا يحكم بترجيح غيره عليه في مقام البراءة عن الواقع ، لكن يصحّ للشارع المنع عنه تعبّدا بحيث يظهر (٤) : أنّي ما اريد الواقعيّات التي تضمّنها (٥) ؛ فإنّ الظنّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه والأخذ بغيره.

وحينئذ : فالمحسّن لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة كونه في علم الشارع مؤدّيا في الغالب إلى مخالفة الواقع.

والحاصل : أنّ قبح النهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة ؛ إمّا أن يكون لغلبة الوقوع في خلاف الواقع مع طرحه فينافي الغرض ، وإمّا أن يكون لأجل قبح ذلك في نظر الظانّ ؛ حيث إنّ مقتضى القياس أقرب في نظره إلى الواقع ، فالنهي عنه نقض لغرضه في نظر الظانّ.

__________________

(١) لم نعثر عليه ، نعم ورد ما يقرب منه ، في الوسائل ١٨ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٢) تقدّم بعضها في الصفحة ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) لم ترد «لمّا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ر) و (ص) زيادة : «منه» ، وفي (ت) و (ه) زيادة : «له».

(٥) في (ص) زيادة : «القياس».


أمّا الوجه الأوّل ، فهو مفقود في المقام ؛ لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع.

وأمّا الوجه الثاني ، فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظانّ النهي في ذلك المورد الشخصيّ على عدم إرادة الواقع منه في هذه المسألة ولو لأجل اطّراد الحكم.

ألا ترى : أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسيّ القاطع بنجاسة ثوبه : «ما اريد منك الصلاة بطهارة الثوب» وإن كان ثوبه في الواقع نجسا ؛ حسما لمادّة وسواسه.

ونظيره : أنّ الوالد إذا أقام ولده الصغير في دكّانه في مكانه ، وعلم منه أنّه يبيع أجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له منعه عن العمل بظنّه ، ويكون منعه في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ، ويكون هذا النهي في نظر الصبيّ الظانّ بوجود النفع في المعاملة الشخصيّة إقداما منه ورضى بالخسارة وترك العمل بما يظنّه نفعا ؛ لئلا يقع في الخسارة في مقامات أخر ؛ فإنّ حصول الظنّ الشخصيّ بالنفع تفصيلا في بعض الموارد لا ينافي علمه بأنّ العمل بالظنّ القياسيّ منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجب الوقوع غالبا في مخالفة الواقع ؛ ولذا علمنا ذلك من الأخبار المتواترة معنى مع حصول الظنّ الشخصيّ في الموارد منه ، إلاّ أنّه كلّ مورد حصل الظنّ نقول بحسب ظنّنا : إنّه ليس من موارد التخلّف ، فنحمل عموم نهي الشارع الشامل لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع وإغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ؛ لئلاّ يقع في مفسدة تخلّفه عن الواقع في أكثر الموارد.


هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الإشكال ، وعليك بالتأمّل في هذا المجال ، والله العالم بحقيقة الحال.

٢ ـ لو قام ظنّ على حرمة العمل ببعض الظنون

المقام الثاني (١) :

فيما إذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ على حرمة العمل ببعضها بالخصوص ، لا على عدم الدليل على اعتباره ، فيخرج مثل الشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ؛ لأنّ مرجعها إلى انعقاد الشهرة على عدم الدليل على حجّيّة الشهرة وبقائها تحت الأصل.

هل يجب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط؟

وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط وجوه ، بل أقوال.

ذهب بعض مشايخنا (٢) إلى الأوّل ؛ بناء منه على ما عرفت سابقا (٣) : من بناء غير واحد منهم على أنّ دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة التي منها مسألة حجّيّة الممنوع.

ولازم بعض المعاصرين (٤) الثاني ؛ بناء على ما عرفت منه : من أنّ اللازم بعد الانسداد تحصيل الظنّ بالطريق ، فلا عبرة بالظنّ بالواقع ما لم يقم على اعتباره ظنّ.

وقد عرفت ضعف كلا البناءين (٥) ، وأنّ نتيجة مقدّمات الانسداد

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في المقام الأوّل في الصفحة ٥١٧.

(٢) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٦٧.

(٣) راجع الصفحة ٤٣٨.

(٤) هو صاحب الفصول ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

(٥) راجع الصفحة ٤٣٧.


هو الظنّ بسقوط التكاليف الواقعيّة في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس الواقع ، وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع.

القول بوجوب طرح الظنّ الممنوع والاستدلال عليه

نعم ، بعض من وافقنا (١) ـ واقعا أو تنزّلا ـ في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، اختار في المقام وجوب طرح الظنّ الممنوع ؛ نظرا إلى أنّ مفاد دليل الانسداد ـ كما عرفت في الوجه الخامس (٢) من وجوه دفع (٣) إشكال خروج القياس ـ هو اعتبار كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر ، والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر وهو الظنّ المانع ؛ فإنّه معتبر ؛ حيث لم يقم دليل على المنع منه ؛ لأنّ الظنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظنّ المانع ، غاية الأمر : أنّ الأخذ به مناف للأخذ بالمانع ، لا أنّه يدلّ على وجوب طرحه ، بخلاف الظنّ المانع فإنّه يدلّ على وجوب طرح الظنّ الممنوع.

فخروج الممنوع من باب التخصّص لا التخصيص ؛ فلا يقال : إنّ دخول أحد المتنافيين تحت العامّ لا يصلح دليلا لخروج الآخر مع تساويهما في قابليّة الدخول من حيث الفرديّة.

ونظير ما نحن فيه : ما تقرّر في الاستصحاب (٤) ، من أنّ مثل استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوب النجس دليل حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ، وإن كان كلّ من طهارة الماء ونجاسة الثوب

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٣٩٥.

(٢) راجع الصفحة ٥٢٥.

(٣) في (ت) ، (ظ) و (م) : «رفع».

(٤) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٤.


ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب ـ متيقّنة في السابق مشكوكة في اللاحق ، وحكم الشارع بإبقاء كلّ متيقّن في السابق مشكوك في اللاحق متساويا بالنسبة إليهما ؛ إلاّ أنّه لمّا كان دخول يقين الطهارة في عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلا على زوال نجاسة الثوب المتيقّنة سابقا ، فيخرج عن المشكوك لاحقا ، بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ؛ فإنّه لا يصلح للدلالة على طروّ النجاسة للماء المغسول به قبل الغسل وإن كان منافيا لبقائه على الطهارة.

المناقشة في هذا الاستدلال

وفيه : أوّلا : أنّه لا يتمّ فيما إذا كان الظنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقوم الشهرة مثلا على عدم حجّيّة الشهرة ؛ فإنّ العمل ببعض أفراد الأمارة وهي الشهرة في المسألة الاصوليّة دون البعض الآخر وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ، كما ترى.

وثانيا : أنّ الظنّ المانع إنّما يكون ـ على فرض اعتباره ـ دليلا على عدم اعتبار الممنوع ؛ لأنّ الامتثال بالممنوع حينئذ مقطوع العدم ـ كما تقرّر في توضيح (١) الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس (٢) ـ وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع. مثلا : إذا فرض صيرورة الأولويّة مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد ، لم يعقل بقاء الشهرة المانعة عنها على إفادة الظنّ بالمنع.

ودعوى : أنّ بقاء الظنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليل على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّيّة الأولويّة ؛ وإلاّ لارتفع الظنّ بعدم حجّيّتها ، فيكشف ذلك عن دخول الظنّ المانع تحت دليل الانسداد.

__________________

(١) في (ل) : «في ترجيح».

(٢) راجع الصفحة ٥٢٥.


معارضة : بأنّا لا نجد من أنفسنا القطع بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع ، فلو كان الظنّ المانع داخلا لحصل القطع بذلك.

وحلّ ذلك : أنّ الظنّ بعدم اعتبار الممنوع إنّما هو مع قطع النظر عن ملاحظة دليل الانسداد ، ولا نسلّم بقاء الظنّ بعد ملاحظته.

ثمّ إنّ الدليل العقليّ أو الأمارة القطعيّة (١) يفيد القطع بثبوت الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد موضوعه ، فإذا تنافى دخول فردين : فإمّا أن يكشف عن فساد ذلك الدليل ، وإمّا أن يجب طرحهما ـ لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقليّ بشيء منهما ـ ، وإمّا أن يحصل القطع بدخول أحدهما فيقطع بخروج الآخر ، فلا معنى للتردّد بينهما وحكومة أحدهما على الآخر.

فما مثّلنا به المقام : من استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الثوب ، ممّا لا وجه له ؛ لأنّ مرجع تقديم الاستصحاب الأوّل إلى تقديم التخصّص على التخصيص ، ويكون أحدهما دليلا رافعا لليقين السابق بخلاف الآخر ، فالعمل بالأوّل تخصّص وبالثاني تخصيص ، ومرجعه ـ كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين (٢) ـ إلى وجوب العمل بالعامّ تعبّدا إلى أن يحصل الدليل على التخصيص.

إلاّ أن يقال : إنّ القطع بحجّيّة المانع عين القطع بعدم حجّيّة الممنوع ؛ لأنّ معنى حجّيّة كلّ شيء وجوب الأخذ بمؤدّاه ، لكنّ القطع بحجّيّة الممنوع ـ التي هي نقيض مؤدّى المانع ـ مستلزم للقطع بعدم حجّيّة

__________________

(١) في (ص) : «والأمارة القطعيّة» ، وفي (ظ) و (م) : «أو الأمارة العقليّة» ، وفي (ل) و (ه) : «أو الأمارات العقليّة».

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.


المانع ، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع ، وإنّما هو عين خروجه ؛ فلا ترجّح ولا تخصّص (١) ، بخلاف دخول الممنوع ؛ فإنّه يستلزم خروج المانع ، فيصير ترجيحا من غير مرجّح ، فافهم.

مختار المصنّف في المسألة

والأولى (٢) أن يقال : إنّ الظنّ بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لا يجوز ـ كما عرفت سابقا في الوجه السادس (٣) ـ أن يكون من باب الطريقيّة ، بل لا بدّ أن يكون من جهة اشتمال الظنّ الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع ، وحينئذ : فإذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ فقد ظنّ بإدراك الواقع ، لكن مع الظنّ بترتّب مفسدة غالبة ، فيدور الأمر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأقوى.

فإذا ظنّ بالشهرة نهي الشارع عن العمل بالأولويّة ، فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اخذ به ، وكلّ أولويّة كان أضعف منه وجب طرحه ، وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة حكم بالتساقط ؛ لعدم استقلال العقل بشيء منهما حينئذ.

هذا إذا لم يكن العمل بالظنّ المانع سليما عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظنّ الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة ، وإلاّ تعيّن العمل به ؛ لعدم التعارض (٤).

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «فلا ترجيح ولا تخصيص».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ه) : «فالأولى».

(٣) راجع الصفحة ٥٢٨.

(٤) لم ترد عبارة «هذا إذا ـ إلى ـ التعارض» في (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم وردت في هامش (ل) مع اختلاف.


الأمر الثالث (١) :

لو حصل الظنّ بالحكم من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل

أنّه لا فرق في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد بين الظنّ الحاصل أوّلا من الأمارة بالحكم الفرعيّ الكلّيّ كالشهرة أو نقل الإجماع على حكم ، وبين الحاصل به من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل ، كأن يحصل الظنّ من قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)(٢) ، بجواز التيمّم بالحجر مع وجود التراب الخالص ؛ بسبب قول جماعة من أهل اللغة : إنّ الصعيد هو مطلق وجه الأرض (٣).

الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين

ثمّ الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ، ذكرناهما في بحث حجّية الظواهر (٤).

أحدهما : ما يتعلّق بتشخيص الظواهر ، مثل الظنّ من الشهرة بثبوت الحقائق الشرعيّة ، وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ،

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في الأمر الأوّل والثاني في الصفحة ٤٣٧ و ٤٦٣.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) القاموس المحيط ١ : ٣٠٧ ، والمصباح المنير : ٣٣٩.

(٤) راجع الصفحة ١٣٥ ـ ١٣٦.


وأنّ الأمر عقيب الحظر ظاهر في الإباحة الخاصّة أو في مجرّد رفع الحظر ، وهكذا.

والثاني : ما يتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ، كأن يحصل ظنّ بإرادة المعنى المجازي أو أحد معاني المشترك ؛ لأجل تفسير الراوي مثلا أو من جهة كون مذهبه مخالفا لظاهر الرواية.

وحاصل القسمين : الظنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر أو المرادات.

الظاهر حجيّة هذه الظنون

والظاهر : حجّيّتها عند كلّ من قال بحجّيّة مطلق الظنّ لأجل الانسداد ، ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس الظنون المتعلّقة بالألفاظ ، بأن يقال : إنّ العلم فيها قليل ، فلو بني الأمر على إجراء الأصل لزم كذا وكذا.

بل لو انفتح باب العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد وجب العمل بالظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ من تلك الأمارة المتعلّقة بمعاني الألفاظ عند انسداد باب العلم في الأحكام.

وهل يعمل بذلك الظنّ في سائر الثمرات المترتّبة على تعيين معنى اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعيّ الكلّي ، كالوصايا والأقارير والنذور؟

فيه إشكال ، والأقوى العدم ؛ لأنّ مرجع العمل بالظنّ فيها إلى العمل بالظنّ في الموضوعات الخارجيّة المترتّبة عليها الأحكام الجزئيّة الغير المحتاجة إلى بيان الشارع حتّى يدخل في ما انسدّ فيه باب العلم ، وسيجيء عدم اعتبار الظنّ فيها (١).

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٥٠.


نعم ، من جعل الظنون المتعلّقة بالألفاظ من الظنون الخاصّة مطلقا لزمه الاعتبار (١) في الأحكام والموضوعات ، وقد مرّ تضعيف هذا القول عند الكلام في الظنون الخاصّة (٢).

لو حصل الظنّ بالحكم من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجي

وكذا : لا فرق بين الظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من نفس الأمارة أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ، وبين (٣) الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجيّ ، ككون الراوي عادلا أو مؤمنا حال الرواية ، وكون زرارة هو ابن أعين لا ابن لطيفة ، وكون عليّ بن الحكم هو الكوفيّ بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ؛ فإنّ جميع ذلك وإن كان ظنّا بالموضوع الخارجيّ ، إلاّ أنّه لمّا كان منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ الكلّي الذي انسدّ فيه باب العلم عمل به من هذه الجهة ، وإن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلّقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق اسمه المشترك.

حجيّة الظنون الرجاليّة

ومن هنا تبيّن : أنّ الظنون الرجاليّة معتبرة بقول مطلق عند من قال بمطلق الظنّ في الأحكام ، ولا يحتاج إلى تعيين أنّ اعتبار أقوال أهل الرجال من جهة دخولها في الشهادة أو في (٤) الرواية ، ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظنّ بصدق الخبر المستلزم للظنّ بالحكم

__________________

(١) في (ص) : «لزمه القول بالاعتبار».

(٢) راجع الصفحة ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) في (ص) زيادة : «الظنّ».

(٤) لم ترد «في» في (ت) و (ل).


الفرعيّ الكلّي.

ملخّص الكلام في هذا التنبيه

وملخّص هذا الأمر الثالث : أنّ كلّ ظنّ تولّد منه الظنّ بالحكم الفرعي الكلّي فهو حجّة من هذه الجهة ، سواء كان الحكم الفرعي واقعيّا أو كان ظاهريّا ـ كالظنّ بحجّيّة الاستصحاب تعبّدا وبحجّية (١) الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعلي بالحكم ـ ، وسواء تعلّق الظنّ أوّلا بالمطالب العلميّة (٢) أو غيرها أو بالامور الخارجيّة من غير استثناء في سبب هذا الظنّ.

ووجهه واضح ؛ فإنّ مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظنّي وترجيح الراجح على المرجوح في العمل. حتّى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات ـ بناء على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد ـ لم يكن فرق بين ما تعلّق تلك الأمارة بنفس الحكم أو بما يتولّد منه الظنّ بالحكم ، ولا إشكال في ذلك أصلا ، إلاّ أن يغفل غافل عن مقتضى دليل الانسداد فيدّعي الاختصاص بالبعض دون البعض من حيث لا يشعر.

ما تخيله السيد المجاهد والمناقشة فيه

وربما تخيّل بعض (٣) : أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام ، بل المقتصر على الظنون الخاصّة في الأحكام أيضا عامل بالظنّ المطلق في الرجال.

__________________

(١) في (ت) و (ر) : «أو بحجّية».

(٢) في (ظ) ، (م) و (ه) زيادة : «العمليّة» ، إلاّ أنّه كتب فوقها في (ه) : «خ ل» ، وفي (ر) بدل «العلميّة» : «العمليّة».

(٣) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٩٢.


وفيه نظر ، يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال ؛ فإنّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكلّ أمارة.

نعم ، لو كان الخبر المظنون الصدور ـ مطلقا أو بالظنّ الاطمئناني ـ من الظنون الخاصّة لقيام الأخبار أو الإجماع عليه ، لزم القائل به العمل بمطلق الظنّ أو الاطمئناني (١) منه في الرجال ، كالعامل (٢) بالظنّ المطلق في الأحكام.

حجيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة

أدلّة القائلين بعدم الحجّية :

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ الظنّ في المسائل الاصوليّة العمليّة حجّة بالنسبة إلى ما يتولّد منه ، من الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ أو الظاهريّ (٣) ، وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان الله عليهم (٤) ، وما استند إليه أو يصحّ الاستناد إليه للمنع أمران :

١ ـ أصالة الحرمة العمل بالظنّ

أحدهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد ؛ لأنّ دليل الانسداد : إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاصوليّة كما يجري في خصوص الفروع ، وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرعيّة ، فيثبت حجّية الظنّ في الجميع ويندرج فيها المسائل الاصوليّة ، وإمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة ، فيثبت به اعتبار الظنّ في خصوص الفروع ، لكنّ الظنّ بالمسألة الاصوليّة يستلزم الظنّ

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «الاطمئنان».

(٢) في (ر) ، (ص) ، (ه) ونسخة بدل (ت) : «كالقائل».

(٣) لم ترد في (ظ) و (م) : «الواقعيّ أو الظاهريّ».

(٤) مثل شريف العلماء والسيّد المجاهد كما تقدّم ، راجع الصفحة ٤٣٨.


بالمسألة الفرعيّة التي تبتني عليها.

وهذه الوجوه بين ما لا يصحّ وما لا يجدي.

أمّا الأوّل ، فهو غير صحيح ؛ لأنّ المسائل الاصوليّة التي ينسدّ فيها باب العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يلزم من إجراء الاصول فيها محذور كان يلزم من إجراء الاصول في المسائل الفرعيّة التي انسدّ فيها باب العلم ؛ لأنّ ما كان من المسائل الاصوليّة يبحث فيها عن كون شيء حجّة ـ كمسألة حجّيّة الشهرة ونقل الإجماع وأخبار الآحاد ـ أو عن كونه مرجّحا ، فقد انفتح فيها باب العلم وعلم الحجّة منها من غير الحجّة والمرجّح منها من غيره ؛ بإثبات حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة ؛ إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة العقليّة على أنّ ما كان من الأمارات داخلا (١) في نتيجة دليل الانسداد فهو حجّة.

وقس على ذلك معرفة المرجّح ؛ فإنّا قد علمنا بدليل الانسداد أنّ كلاّ من المتعارضين إذا (٢) اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات ، فهو راجح على صاحبه مقدّم عليه في العمل.

وما كان منها يبحث فيها عن الموضوعات الاستنباطيّة ـ وهي ألفاظ الكتاب والسنّة من حيث استنباط الأحكام عنهما ، كمسائل الأمر والنهي ، وأخواتهما من المطلق والمقيّد ، والعامّ والخاصّ ، والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ـ فقد علم حجّيّة الظنّ فيها من حيث استلزام الظنّ بها

__________________

(١) في غير (ظ) : «داخلة».

(٢) لم ترد «إذا» في (ظ) و (م).


الظنّ بالحكم الفرعي (١) الواقعي ؛ لما عرفت : من أنّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجّية الظنّ الحاصل بها من الأمارة ابتداء ، والظنّ المتولّد من أمارة موجودة في مسألة لفظيّة.

ويلحق بهما (٢) : بعض المسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وامتناع اجتماع الأمر والنهي والأمر مع العلم بانتفاء شرطه (٣) ، ونحو ذلك ممّا يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الفرعي ، فإنّه يكتفى في حجّية الظنّ فيها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ، ولا يحتاج إلى إجرائه في الاصول.

وبالجملة : فبعض المسائل الاصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد ، وبعضها صارت حجّية الظنّ فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع ، فالباقي (٤) منها ـ الذي يحتاج (٥) إثبات حجّيّة الظنّ فيها إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاصول ـ ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالاصول وطرح الظنّ الموجود فيها محذور وإن كانت في أنفسها كثيرة ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات ، كخبر الواحد ونقل الإجماع لا بشرط الظنّ الشخصي ، وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار

__________________

(١) في (ص) بدل «الفرعي» : «الشرعي» ، وفي (ت) ونسخة بدل (ص) : «الفرعي الكلّي».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (ه) : «بها».

(٣) كذا في (ت) و (ل) ، وفي غيرهما : «الشرط».

(٤) في (ر) : «والباقي».

(٥) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «في».


الآحاد على مذهب من يراها ظنونا خاصّة ، والباحثة عن بعض المرجّحات التعبّديّة ، ونحو ذلك ؛ فإنّ هذه المسائل لا تصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع. لكنّ هذه المسائل بل (١) وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظنّ بأحد طرفي المسألة إلى الاصول وطرح ذلك الظنّ لزم محذور كان يلزم في الفروع.

وأمّا الثاني ، وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعيّة ـ فرعيّة كانت أو أصليّة ـ فهو غير مجد ؛ لأنّ النتيجة وهو العمل بالظنّ لا يثبت عمومه من حيث موارد الظنّ إلاّ بالإجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، بأن يقال : إنّ العمل بالظنّ في الطهارات دون الديات ـ مثلا ـ ترجيح بلا مرجّح ومخالف للإجماع ، وهذان الوجهان مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاصوليّة.

أمّا فقد الإجماع فواضح ؛ لأنّ المشهور ـ كما قيل ـ على عدم اعتبار الظنّ في الاصول.

وأمّا وجود المرجّح ؛ فلأنّ الاهتمام بالمطالب الاصوليّة أكثر ؛ لابتناء الفروع عليها ، وكلّما كانت المسألة مهمّة كان الاهتمام فيها أكثر ، والتحفّظ عن الخطأ فيها آكد ؛ ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك بقولهم : إنّ إثبات مثل هذا الأصل بهذا مشكل ، أو (٢) إنّه إثبات أصل بخبر ، ونحو ذلك.

__________________

(١) لم ترد «بل» في (ظ) و (م).

(٢) في (ص) : «وأنّه».


وأمّا الثالث ، وهو اختصاص مقدّمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعيّة ، إلاّ أنّ الظنّ بالمسألة الفرعيّة قد يتولّد من الظنّ بالمسألة (١) الاصوليّة ، فالمسألة الاصوليّة بمنزلة المسائل اللغويّة يعتبر الظنّ فيها ؛ من حيث كونه منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ ، ففيه :

أنّ الظنّ بالمسألة الاصوليّة : إن كان منشأ للظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ـ كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة ، والمسائل العقليّة مثل وجوب المقدّمة وامتناع اجتماع الأمر والنهي ـ فقد اعترفنا بحجّية الظنّ فيها.

وأمّا ما لا يتعلّق بذلك وتكون باحثة عن أحوال الدليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة ـ وهي التي منعنا عن حجّية الظنّ فيها ـ فليس يتولّد من الظنّ فيها الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، وهو ممّا لم يقتض انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة العمل بالظنّ فيه ؛ فإنّ انسداد باب العلم في حكم العصير العنبيّ إنّما يقتضي العمل بالظنّ في ذلك الحكم المنسدّ ، لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته.

بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات لا من حيث هي ، بل من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعليّ عليها : إن ثبت انسداد باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الاصول عمل فيها بالظنّ ، وإلاّ (٢) فانسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «في المسألة».

(٢) في (ظ) زيادة : «فلا».


إمكان العمل فيها بالاصول لا يقتضي العمل بالظنّ في هذه الأحكام ؛ لأنّها لا تغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم.

هذا غاية توضيح ما قرّره استاذنا الشريف قدس‌سره اللطيف (١) ، في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة.

٢ ـ ما اشتهر : من عدم حجيّة الظنّ في مسائل اصول الفقه

الثاني من دليلي المنع : هو أنّ الشهرة المحقّقة والإجماع المنقول على عدم حجّيّة الظنّ في مسائل اصول الفقه ، وهي مسألة اصوليّة ، فلو كان الظنّ فيها حجّة وجب الأخذ بالشهرة ونقل الإجماع في هذه المسألة.

والجواب :

الجواب عن الدليل الأوّل

أمّا عن الوجه الأوّل : فبأنّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظنّ ، والمختار في الاستدلال به في المقام (٢) هو الوجه الثالث ، وهو إجراؤه في الأحكام الفرعيّة ، والظنّ في المسائل الاصوليّة مستلزم للظنّ في المسألة الفرعيّة.

وما ذكر : من كون اللازم منه هو الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ صحيح ، إلاّ أنّ ما ذكر ـ من أنّ انسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها إلى الاصول ، لا يقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ـ ممنوع ، بل المقدّمات المذكورة كما عرفت غير مرّة ، إنّما تقتضي اعتبار الظنّ بسقوط تلك الأحكام

__________________

(١) انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٦٦.

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «للمقام».


الواقعيّة وفراغ الذمّة منها.

فإذا فرضنا مثلا : أنّا ظننّا بحكم العصير لا واقعا ، بل من حيث قام عليه ما لا يفيد الظنّ الفعليّ بالحكم الواقعيّ ، فهذا الظنّ يكفي في الظنّ بسقوط الحكم الواقعيّ للعصير.

بل لو فرضنا : أنّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعيّ أصلا ، وإنّما حصل الظنّ بحجّية امور لا تفيد الظنّ ، فإنّ العمل بها يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعيّة عنّا ؛ لما تقدّم (١) : من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الإتيان بالواقع علما أو ظنّا ، وبين الإتيان ببدله كذلك ، فالظنّ بالإتيان بالبدل كالظنّ بإتيان الواقع ، وهذا واضح.

الجواب عن الدليل الثاني

وأمّا الجواب عن الثاني :

أوّلا : فبمنع الشهرة والإجماع ؛ نظرا إلى أنّ المسألة من المستحدثات ، فدعوى الإجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة.

وثانيا : لو سلّمنا الشهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظنون الخاصّة كأخبار الآحاد والإجماع المنقول ، وحيث إنّ المتّبع فيها الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها كالإجماع والسيرة على حجّية أخبار الآحاد مختصّة بالمسائل الفرعيّة ، بقيت المسائل الاصوليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولم يعلم بل ولم يظنّ من مذهبهم الفرق بين الفروع والاصول ، بناء على مقدّمات الانسداد واقتضاء العقل كفاية الخروج الظنّي عن عهدة التكاليف الواقعيّة.

وثالثا : سلّمنا قيام الشهرة والإجماع المنقول على عدم الحجّية على

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٣٧.


تقدير الانسداد ، لكنّ المسألة ـ أعني كون مقتضى الانسداد هو العمل بالظنّ مطلقا (١) في الفروع (٢) دون الاصول ـ عقليّة (٣) ، والشهرة ونقل الإجماع إنّما يفيدان الظنّ في المسائل التوقيفيّة دون العقليّة.

ورابعا : أنّ حصول الظنّ بعدم الحجّية مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية لا يجتمعان ، فتسليم دليل الانسداد يمنع من حصول الظنّ.

وخامسا : سلّمنا (٤) حصول الظنّ ، لكنّ غاية الأمر دخول المسألة فيما تقدّم ، من قيام الظنّ على عدم حجّية ظنّ (٥) ، وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى ، فراجع (٦).

__________________

(١) لم ترد «مطلقا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ه) ونسخة بدل (ص) : «أو في خصوص الفروع».

(٣) لم ترد «عقليّة» في (ظ) و (ل).

(٤) لم ترد عبارة «أنّ حصول الظنّ ـ إلى ـ سلّمنا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ر) و (ص) : «الظنّ».

(٦) راجع الصفحة ٥٣٦.


الأمر الرابع (١)

أنّ الثابت بمقدّمات دليل الانسداد هو الاكتفاء بالظنّ في الخروج عن عهدة الأحكام المنسدّ فيها باب العلم ، بمعنى أنّ المظنون إذا خالف حكم الله الواقعيّ لم يعاقب (٢) بل يثاب عليه ، فالظنّ بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل.

عدم كفاية الظنّ بالامتثال في مقام التطبيق

وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعيّن ، فلا دليل على الاكتفاء فيه بالظنّ ، مثلا : إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظنّ ، فلو ظننّا وجوب الجمعة فلا نعاقب على تقدير وجوب الظهر واقعا ، لكن لا يلزم من ذلك

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «الأمر الخامس».

هذا ، ولكن من المحتمل أن يكون ما صدر عن الشيخ الأعظم قدس‌سره هو : «الأمر الخامس» ؛ وذلك لأنّه قدس‌سره تعرّض للبحث عن الظنّ في المسائل الاصوليّة العمليّة في ذيل الأمر الثالث ، من غير أن يعدّه أمرا مستقلا ، فلعلّه عدّه ـ في نفسه ـ أمرا رابعا ، وكتب هنا : «الأمر الخامس».

(٢) في (ر) زيادة : «عليه».


حجّية الظنّ في مقام العمل على طبق ذلك الظنّ ، فإذا ظننّا بعد مضيّ مقدار من الوقت بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن احتمل نسيانها ، فلا يكفي الظنّ بالامتثال من هذه الجهة ، بمعنى أنّه إذا لم نأت بها في الواقع ونسيناها قام الظنّ بالإتيان مقام العلم به ، بل يجب بحكم الأصل وجوب الاتيان بها. وكذلك لو ظننّا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظنّ بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال.

وبالجملة : إذا ظنّ المكلّف بالامتثال وبراءة ذمّته وسقوط الواقع ، فهذا الظنّ : إن كان مستندا إلى الظنّ في تعيين الحكم الشرعيّ كان المكلّف فيه معذورا مأجورا على تقدير المخالفة للواقع ، وإن كان مستندا إلى الظنّ بكون الواقع في الخارج منه منطبقا على الحكم الشرعيّ فليس معذورا ، بل يعاقب على ترك الواقع أو ترك الرجوع إلى القواعد الظاهريّة التي هي المعوّل لغير العالم.

عدم حجيّة الظنّ في الامور الخارجيّة

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ الظنّ بالامور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها على المفاهيم الكلّية التي تعلّق بها الأحكام الشرعيّة لا دليل على اعتباره ، وأنّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسد فيه باب العلم لفقد الأدلّة المنصوبة من الشارع أو إجمال (١) ما وجد منها ، ولا يعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ؛ فإنّ المعذور فيه هو الظنّ بأنّ قبلة العراق (٢) ما بين المشرق والمغرب ، أمّا الظنّ بوقوع

__________________

(١) في غير (ص) : «وإجمال».

(٢) في (ت) و (ص) زيادة : «هو».


الصلاة إليه فلا يعذر فيه.

فظهر : اندفاع توهّم أنّه إذا بني على الامتثال الظنّي للأحكام الواقعيّة فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج على المفهوم ؛ لأنّ الامتثال يرجع بالأخرة إلى الامتثال الظنّي ؛ حيث إنّ الظانّ بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب امتثاله للتكاليف الواقعيّة ظنّي ، علم بما بين المشرق والمغرب أو ظنّ.

وحاصله (١) : أنّ حجّية الظنّ في تعيين الحكم بمعنى معذوريّة الشخص مع المخالفة لا تستلزم حجّيته في الانطباق بمعنى معذوريّته لو لم يكن الخارج منطبقا على ذلك الذي عيّن ؛ وإلاّ لكان الإذن في العمل بالظنّ في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها ، وهو بديهيّ البطلان.

فعلم : أنّ قياس الظنّ بالامور الخارجيّة على المسائل الاصوليّة واللغويّة ، واستلزامه الظنّ بالامتثال قياس مع الفارق ؛ لأنّ جميع هذه يرجع إلى شيء واحد هو الظنّ بتعيين الحكم.

ثمّ من المعلوم عدم جريان دليل الانسداد في نفس الامور الخارجيّة ؛ لأنّها غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتّى يدّعى طروّ الانسداد فيها في هذا الزمان فيجري دليل الانسداد في أنفسها ؛ لأنّ مرجعها ليس إلى الشرع ولا إلى مرجع آخر منضبط.

حجّية الظنّ في بعض الامور الخارجيّة كالضرر والنسب وشبههما

نعم ، قد يوجد في الامور الخارجيّة ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي انيط به أحكام كثيرة من

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «والحاصل».


جواز التيمّم والافطار وغيرهما ، فيقال : إنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالبا ؛ إذ لا يعلم غالبا إلاّ بعد تحقّقه ، وإجراء (١) أصالة عدمه في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو الوقوع في الضرر غالبا ، فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظنّ.

هذا إذا انيط الحكم بنفس الضرر ، وأمّا إذا انيط بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك ، بل يشمل حينئذ الشكّ أيضا.

ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما من الموضوعات التي يلزم من إجراء الاصول فيها مع عدم العلم الوقوع في مخالفة الواقع كثيرا ، فافهم.

__________________

(١) كذا في (ل) و (ه) ، وفي غيرهما : «فإجراء».


الأمر الخامس (١)

هل يعتر الظنّ في اُصول الدين

في اعتبار الظنّ في اصول الدين

الأقوال في المسألة

والأقوال المستفادة من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة ، من حيث وجوب مطلق المعرفة ، أو الحاصلة عن خصوص النظر ، وكفاية الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، ستّة.

القول الأوّل

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف عن الأكثر (٢) ، وادّعى عليه العلاّمة ـ في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح ـ إجماع العلماء كافّة (٣). وربما يحكى دعوى الإجماع عن العضديّ (٤) ، لكنّ الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في العقليّات

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «السادس» ، وقد تقدّم توجيهه في الصفحة ٥٤٩.

(٢) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٣٠ ـ ٧٣١ ، والمحقّق في المعارج : ١٩٩ ، والعلاّمة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٤٨ ، والشهيد الأوّل في الألفيّة : ٣٨ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٢١ ، وانظر مناهج الأحكام : ٢٩٤ ، والفصول : ٤١٦ ، والمعالم : ٢٤٣.

(٣) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤.

(٤) حكاه عنه الفاضل النراقي في المناهج : ٢٩٣ ، والمحقّق القمي في القوانين ٢ : ١٧٤.


من اصول الدين : دعوى إجماع الامّة على وجوب معرفة الله (١).

القول الثاني

الثاني : اعتبار العلم ولو من التقليد ، وهو المصرّح به في كلام بعض (٢) والمحكيّ عن آخرين (٣).

القول الثالث

الثالث : كفاية الظنّ مطلقا ، وهو المحكيّ عن جماعة ، منهم المحقّق الطوسيّ في بعض الرسائل المنسوبة إليه (٤) وحكي نسبته إليه في فصوله (٥) ولم أجده فيه ، وعن المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وظاهر شيخنا البهائي والعلاّمة المجلسي والمحدّث الكاشاني وغيرهم (٦) قدّس الله أسرارهم (٧).

القول ارابع

الرابع : كفاية الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائيّ قدس‌سره في بعض تعليقاته على شرح المختصر : أنّه نسبه إلى بعض (٨).

__________________

(١) شرح مختصر الاصول : ٤٨٠.

(٢) كالسيّد الصدر في شرح الوافية (مخطوط) : ٤٨٠.

(٣) حكاه الشهيد الثاني عن جماعة من المحقّقين منّا ومن الجمهور ، انظر المقاصد العليّة : ٢٦ ، وراجع القوانين ٢ : ١٧٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٩٤.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) الفصول النصيريّة ، فارسيّ في اصول الدين.

(٦) لم ترد «وغيرهم» في (ر) و (ص).

(٧) حكاه عن أكثرهم المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٨٠ ، والفاضل النراقي في المناهج : ٢٩٣ ، وانظر مجمع الفائدة للمحقّق الأردبيلي ٢ : ١٨٣ ، والزبدة للشيخ البهائي : ١٢٤.

(٨) حاشية الشيخ البهائي على شرح مختصر ابن الحاجب (مخطوط) ، لا يوجد لدينا.


القول اخامس

الخامس : كفاية الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس‌سره في النهاية عن الأخباريّين : من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد (١) ، وحكاه الشيخ في عدّته في مسألة حجّيّة أخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب الحديث (٢).

والظاهر : أنّ مراده حملة الأحاديث ، الجامدون على ظواهرها ، المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة المعارضة لتلك الظواهر.

القول السادس

السادس : كفاية الجزم بل الظنّ من التقليد ، مع كون النظر واجبا مستقلا لكنّه معفوّ عنه ، كما يظهر من عدّة الشيخ قدس‌سره في مسألة حجّيّة أخبار الآحاد وفي أواخر العدّة (٣).

ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقّح ، فالأولى ذكر الجهات التي يمكن أن يتكلم فيها ، وتعقيب كلّ واحدة منها بما يقتضيه النظر من حكمها ، فنقول ـ مستعينا بالله ـ :

مسائل اصول الدين على قسمين

إنّ مسائل اصول الدين ، وهي التي لا يطلب فيها أوّلا وبالذات إلاّ الاعتقاد باطنا والتديّن ظاهرا وإن ترتّب على وجوب ذلك بعض الآثار العمليّة ، على قسمين :

أحدهما : ما يجب على المكلّف الاعتقاد والتديّن به غير مشروط بحصول العلم كالمعارف ، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات الواجب

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

(٢) العدّة ١ : ١٣١.

(٣) العدّة ١ : ١٣٢ ، و ٢ : ٧٣١.


المطلق ، فيجب.

١ ـ ما يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم به

الثاني : ما يجب الاعتقاد والتديّن به إذا اتّفق حصول العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف.

أمّا الثاني (١) ، فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل (٢) المعرفة العلميّة (٣) كان الأقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظنّ لو فرض حصوله ، ووجوب التوقّف فيه ؛ للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقّف (٤) ، وأنّه : «إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها. وأهوى بيده إلى فيه» (٥).

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأمارة الواردة في تلك المسألة خبرا صحيحا أو غيره.

كلام الشهيد الثاني قدس‌سره

قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة ـ بعد ذكر أنّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم ـ : وأمّا ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديق به مطلقا وإن كان طريقه صحيحا ؛ لأنّ خبر الواحد ظنّيّ ، وقد اختلف في جواز العمل به في الأحكام

__________________

(١) سيأتي البحث في القسم الأوّل في الصفحة ٥٦٩.

(٢) في (ظ) و (ل) بدل «عدم وجوب تحصيل» : «عدم حصول».

(٣) لم ترد «العلميّة» في (ظ) و (م) ، وفي (ت) و (ه) زيادة : «فيه».

(٤) راجع الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، في وجوب التوقّف والاحتياط.

(٥) الوسائل ١٨ : ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.


الشرعيّة الظنّية ، فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلميّة (١) ، انتهى.

وظاهر الشيخ في العدّة : أنّ عدم جواز التعويل في اصول الدين على أخبار الآحاد اتّفاقيّ إلاّ عن بعض غفلة أصحاب الحديث (٢). وظاهر المحكيّ في السرائر عن السيّد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلا (٣)(٤). وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم اعتبار أخبار الآحاد في اصول الفقه.

لو حصل الظنّ من الخبر

لكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظنّ من الخبر :

فإن أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدم تصديقه علما أو ظنّا ، فعدم حصول الأوّل كحصول الثاني قهريّ لا يتّصف بالوجوب وعدمه.

وإن أرادوا (٥) التديّن به الذي ذكرنا وجوبه في الاعتقاديّات وعدم الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد ـ كما يظهر من بعض الأخبار الدالّة على أنّ فرض اللسان القول والتعبير عمّا عقد عليه القلب وأقرّ به ؛ مستشهدا على ذلك بقوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) إلى آخر الآية (٦) ـ فلا مانع من وجوبه في مورد خبر الواحد ، بناء على أنّ

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٥.

(٢) العدّة ١ : ١٣١.

(٣) السرائر ١ : ٥٠ ، وانظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢١١.

(٤) لم ترد عبارة «وظاهر المحكي ـ إلى ـ أصلا» في (م).

(٥) في (ر) زيادة : «عدم».

(٦) الوسائل ١١ : ١٢٩ ، الباب ٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٧ ، والآية من سورة البقرة : ١٣٦.


هذا نوع عمل بالخبر ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى الشمول لمثل ذلك.

نعم ، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدليل الخاصّ على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة إليه ـ لثبوت التكليف وانسداد باب العلم ـ لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض ، أو يقال : إنّ عمدة أدلّة حجّيّة أخبار الآحاد ـ وهي الإجماع العمليّ ـ لا تساعد على ذلك.

العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اصول الدين

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اصول الدين ؛ فإنّه قد لا يأبى دليل حجّيّة الظواهر عن وجوب التديّن بما تدلّ عليه من المسائل الاصوليّة التي لم يثبت التكليف بمعرفتها ، لكن ظاهر كلمات كثير عدم العمل بها في ذلك.

ولعلّ الوجه في ذلك : أنّ وجوب التديّن المذكور إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاصوليّة لا من آثار نفسها ، واعتبار الظنّ مطلقا (١) أو الظنّ الخاصّ ـ سواء كان من الظواهر أو غيرها ـ معناه : ترتيب الآثار المتفرّعة على نفس الأمر المظنون لا على العلم به (٢).

وأمّا ما يتراءى من التمسّك بها أحيانا لبعض العقائد ؛ فلاعتضاد مدلولها بتعدّد الظواهر وغيرها من القرائن ، وإفادة كلّ منها الظنّ ، فيحصل من المجموع القطع بالمسألة ، وليس استنادهم في تلك المسألة إلى مجرّد أصالة الحقيقة التي قد لا تفيد الظنّ بإرادة الظاهر ، فضلا

__________________

(١) في (ه) : «الظنّ المطلق».

(٢) لم ترد عبارة «ولعلّ ـ إلى ـ لا على العلم به» في (ظ) ، (ل) و (م).


عن العلم.

تمييز ما يجب تحصيل العلم به عمّا لا يجب

ثمّ ، إنّ الفرق بين القسمين المذكورين ، وتمييز ما يجب تحصيل العلم به عمّا لا يجب في غاية الإشكال.

وقد ذكر العلاّمة قدس‌سره في الباب الحادي عشر ـ فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد ـ امورا لا دليل على وجوبها كذلك ، مدّعيا أنّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإيمان (١) مستحقّ للعذاب الدائم (٢). وهو في غاية الإشكال.

هل تجب معرفة التفاصيل؟

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضى عموم وجوب المعرفة ـ مثل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(٣) أي ليعرفون ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات (٤) الخمس» (٥) ، بناء على أنّ الأفضليّة من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب ـ ، وكذا عمومات وجوب التفقّه في الدين (٦) الشامل للمعارف ؛ بقرينة

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (م) ونسخة بدل (ت) : «ربقة الإسلام».

(٢) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٥.

(٣) الذاريات : ٥٦.

(٤) في (ر) و (م) : «الصلاة».

(٥) انظر الوسائل ٣ : ٢٥ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث الأول.

والحديث مرويّ في مصادر الحديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيه بدل «هذه الصلوات الخمس» : «هذه الصلاة».

(٦) مثل آية النفر في سورة التوبة : ١٢٢ ، وانظر تفسير القمّي ١ : ٣٠٧.


استشهاد الإمام عليه‌السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق عليه‌السلام ، وعمومات طلب العلم (١) ، هو وجوب معرفة الله جلّ ذكره ومعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعرفة (٢) الإمام عليه‌السلام ومعرفة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلّ قادر يتمكّن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتّى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد وتديّن ، وإلاّ توقّف ولم يتديّن بالظنّ لو حصل له.

ومن هنا قد يقال : إنّ الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهمّ من الاشتغال بعلم المسائل العمليّة ، بل هو المتعيّن ؛ لأنّ العمل يصحّ عن تقليد ، فلا يكون الاشتغال بعلمه إلاّ كفائيّا ، بخلاف المعرفة.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكّن من ذلك إلاّ للأوحديّ من الناس ؛ لأنّ المعرفة المذكورة لا يحصل إلاّ بعد تحصيل قوّة استنباط المطالب من الأخبار ، وقوّة نظريّة اخرى ؛ لئلاّ يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعا ، فيحرم عليه التقليد.

ودعوى جوازه له للضرورة ، ليس بأولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالبا بالأعمال المبتنية على التقليد.

هذا إذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلّة المجتهدين ، وأمّا في مثل زماننا فالأمر واضح.

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه.

(٢) لم ترد «معرفة» في (ت) ، (ل) و (ه).


فلا تغترّ حينئذ بمن قصر استعداده أو همّته عن تحصيل مقدّمات استنباط المطالب الاعتقاديّة الاصوليّة والعمليّة عن الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فيتركها بغضا لها ؛ لأنّ الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الربّ جلّ ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم ، ينظر (١) في الأخبار لا يعرف (٢) من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلا عن معرفة الخاصّ من العامّ ، وينظر (٣) في المطالب العقليّة لا يعرف به البديهيّات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العمليّة والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النيّة ، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون.

عدم اعتبار معرفة التفاصيل في الإسلام والإيمان للأخبار الكثيرة

هذا كلّه حال وجوب المعرفة مستقلا ، وأمّا اعتبار ذلك في الإسلام أو الإيمان فلا دليل عليه ، بل يدلّ على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الإسلام والإيمان.

ففي رواية محمّد بن سالم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، المرويّة في الكافي : «إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكّة عشر سنين ، فلم يمت بمكّة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أدخله الله الجنّة بإقراره ، وهو إيمان التصديق (٤)» ؛ فإنّ الظاهر أنّ حقيقة الإيمان التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الكفر

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ل) و (م) : «بنظر».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (ه) زيادة «به».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ل) : «بنظر».

(٤) الكافي ٢ : ٢٩ ، ضمن الحديث الأوّل.


الموجب للخلود في النار ، لم تتغيّر بعد انتشار الشريعة.

نعم ، ظهر في الشريعة امور صارت ضروريّة الثبوت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيعتبر في الإسلام عدم إنكارها ، لكنّ هذا لا يوجب التغيير (١) ؛ فإنّ المقصود أنّه لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكونه رسولا صادقا فيما يبلّغ ، وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ؛ وإلاّ لم يكن من آمن بمكّة من أهل الجنّة أو كان حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الإسلام.

وفي رواية سليم بن قيس ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه الله تبارك وتعالى إيّاه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة ، فقلت : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت؟ قال : نعم» (٢) ، وهي صريحة في المدّعى.

وفي رواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «جعلت فداك ، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ، ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ، ما هو؟ فقال : أعد عليّ ، فأعاد عليه ، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ، وصوم شهر رمضان ـ ثمّ سكت قليلا ، ثمّ قال ـ : والولاية ، مرّتين

__________________

(١) في (ر) و (ظ) : «التغيّر».

(٢) كتاب سليم بن قيس : ٥٩ ، والبحار ٦٩ : ١٦ ، الحديث ٣.


ـ ثمّ قال ـ : هذا الذي فرض الله عزّ وجلّ على العباد ، لا يسأل الربّ العباد يوم القيامة ، فيقول : ألا زدتني على ما افترضت عليك ، ولكن من زاد زاده الله ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ سنّة حسنة ينبغي للناس الأخذ بها» (١).

ونحوها رواية عيسى بن السريّ : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حدّثني عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام ، التي إذا أخذت بها زكى عملي ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده؟ فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاقرار بما جاء من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ، وقال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ،) فكان عليّ ، ثمّ صار من بعده الحسن ، ثمّ من بعده الحسين ، ثمّ من بعده عليّ ابن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثمّ هكذا يكون الأمر ؛ إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام ... الحديث» (٢).

وفي صحيحة أبي اليسع : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني بدعائم (٣) الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شيء منها ، التي من قصّر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله ، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه وقبل عمله ولم يضق به ممّا هو فيه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٢ ، الحديث ١١.

(٢) الكافي ٢ : ٢١ ، الحديث ٩ ، والآية من سورة النساء : ٥٩.

(٣) كذا في المصدر ، وفي (ت) ، (ر) و (ص) : «عن دعائم».


لجهل شيء من الامور جهله؟ فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والإيمان بأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر الله عزّ وجلّ بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي رواية إسماعيل : «قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله ، فقال : الدين واسع ، وإنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ، فقلت : جعلت فداك أما أحدّثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال : بلى ، قلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وأتولاّكم ، وأبرأ من عدوّكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلت شيئا (٢) ، هو والله الذي نحن عليه ، قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال : لا ، إلاّ المستضعفين ، قلت : من هم؟ قال : نساؤكم وأولادكم ، قال : أرأيت أمّ أيمن ، فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنّة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه» (٣).

فإنّ في قوله عليه‌السلام «ما جهلت شيئا» دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين.

والمستفاد من هذه الأخبار المصرّحة بعدم اعتبار معرفة أزيد ممّا ذكر فيها في الدين ـ وهو الظاهر أيضا من جماعة من علمائنا الأخيار ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٩ ، الحديث ٦.

(٢) كذا في المصدر ، وفي النسخ زيادة : «فقال».

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٥ ، الحديث ٦.


ما يكفي في معرفة الله تعالي

كالشهيدين في الألفيّة (١) وشرحها (٢) ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة (٣) ، وشارحها (٤) ، وغيرهم (٥) ـ هو : أنّه يكفي في معرفة الربّ التصديق بكونه موجودا (٦) واجب الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنّه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا.

المراد من «المعرفة»

والمراد بمعرفة هذه الامور : ركوزها (٧) في اعتقاد المكلّف ، بحيث إذا سألته عن شيء ممّا ذكر ، أجاب بما هو الحقّ فيه وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ.

ما يكفي في معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ويكفي في معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ، والتصديق بنبوّته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوما بالملكة من أوّل عمره إلى آخره.

قال في المقاصد العليّة : ويمكن اعتبار ذلك ؛ لأنّ الغرض المقصود من الرسالة لا يتمّ إلاّ به ، فينتفي الفائدة التي باعتبارها وجب إرسال الرسل. وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدّرة بأنّ من جهل ما ذكروه

__________________

(١) الألفيّة والنفليّة : ٣٨.

(٢) المقاصد العليّة : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) ١ : ٨٠.

(٤) الفوائد العليّة في شرح الجعفريّة للفاضل الجواد (مخطوط) : ١٣ ـ ١٥.

(٥) كأبي المجد الحلبي في إشارة السبق : ١٤.

(٦) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «و».

(٧) في (ت) و (ه) : «ركزها».


فيها فليس مؤمنا مع ذكرهم ذلك. والأوّل غير بعيد من الصواب (١) ، انتهى.

أقول : والظاهر أنّ مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس‌سره حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه (٢).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفة ما عدا النبوّة واجبة بالاستقلال على من هو متمكّن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع ؛ لما ذكرنا : من عمومات وجوب التفقّه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأنّ الجهل بمراتب سفراء الله جلّ ذكره مع تيسّر العلم بها تقصير في حقّهم ، وتفريط في حبّهم ، ونقص يجب بحكم العقل رفعه (٣) ، بل من أعظم النقائص.

وقد أومأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك حيث قال ـ مشيرا إلى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعيّة ـ : «إنّ ذلك علم لا يضرّ جهله. ـ ثمّ قال : ـ إنّما العلوم ثلاثة : آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة ، وما سواهنّ فهو فضل (٤)» (٥).

وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدّثين في ديباجة الكافي ، حيث قسّم

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) انظر الباب الحادي عشر : ٣ و ٥.

(٣) في (ت) و (ل) : «دفعه».

(٤) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «فضول».

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٤٥ ، الباب ١٠٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.


الناس إلى أهل الصحّة والسلامة وأهل المرض والزمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الأخيرة (١).

ما يكفي في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام

ويكفي في معرفة الأئمّة صلوات الله عليهم : معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنّهم أئمّة يهدون بالحقّ ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم.

وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان.

وقد ورد في بعض الأخبار : تفسير معرفة حقّ الإمام عليه‌السلام بمعرفة كونه إماما مفترض الطاعة (٢).

ما يكفي في التصديق بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ويكفي في التصديق بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التصديق بما علم مجيئه به (٣) متواترا ، من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسمانيّ والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالا ، مع تأمّل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسمانيّ من هذه الامور في الإيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ؛ للأخبار المتقدّمة (٤) المستفيضة (٥) ، والسيرة المستمرّة ؛ فإنّا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أوّل البعثة إلى يومنا هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ المعتبر هو عدم إنكار هذه الامور وغيرها

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٥.

(٢) انظر الوسائل ١٠ : ٤٣٥ ، الباب ٨٢ من أبواب المزار ، الحديث ١٠.

(٣) لم ترد «به» في (ر).

(٤) في الصفحة ٥٦٢ ـ ٥٦٣ ، ولم ترد «المتقدّمة» في (م).

(٥) لم ترد «المستفيضة» في (ر) ، (ظ) و (ل).


من الضروريّات ، لا وجوب الاعتقاد بها ، على ما يظهر من بعض الأخبار ، من أنّ الشاكّ إذا لم يكن جاحدا فليس بكافر ؛ ففي رواية زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا» (١) ، ونحوها غيرها (٢).

ويؤيّدها : ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس‌سره بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ جماعة يقال لهم الحقّيّة ، وهم الذين يقسمون بحقّ عليّ ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة» (٣).

ما يعتبر في الإيمان

وبالجملة : فالقول بأنّه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص وبنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإمامة الأئمّة عليهم‌السلام ، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسمانيّ الذي لا ينفكّ غالبا عن الاعتقادات السابقة ، غير بعيد ؛ بالنظر إلى الأخبار والسيرة المستمرّة.

وأمّا التديّن بسائر الضروريّات ، ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضا ، فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدين (٤) ، وجوه أقواها الأخير ، ثمّ الأوسط.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٩.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي : ١٤٩ ، مع اختلاف.

(٤) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «وأمّا التديّن بسائر الضروريّات ففي اشتراطه أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين أو لا يشترط ذلك» مع زيادة في (ل) ، وهي : «فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدين».


وما استقربناه في ما يعتبر في الإيمان وجدته بعد ذلك في كلام محكيّ عن المحقّق الورع الأردبيليّ في شرح الإرشاد (١).

ثمّ إنّ الكلام إلى هنا في تمييز القسم الثاني ـ وهو ما لا يجب الاعتقاد به إلاّ بعد حصول العلم به ـ عن القسم الأوّل ، وهو ما يجب الاعتقاد به مطلقا فيجب تحصيل مقدّماته (٢) ، أعني الأسباب المحصّلة للاعتقاد ، وقد عرفت (٣) : أنّ الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني.

٢ ـ ما يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد

، فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم واخرى بالنسبة إلى العاجز ، فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في القادر

على تحصيل العلم في الاعتقاديّات

والكلام في جواز عمله بالظنّ يقع في موضعين :

الأوّل : في حكمه التكليفيّ :

وجوب تحصيل العلم وعدم جواز الاقتصار على الظنّ في الاعتقاديّات.

والثاني : في حكمه الوضعيّ من حيث الإيمان وعدمه ، فنقول :

أمّا حكمه التكليفيّ ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظنّ ، فمن ظنّ بنبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بإمامة أحد من الأئمّة صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار ، فيجب عليه ـ مع التفطّن

__________________

(١) انظر مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٢٢٠.

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «مقدّمته».

(٣) راجع الصفحة ٥٥٦.


لهذه (١) المسألة ـ زيادة النظر ، ويجب على العلماء أمره بزيادة النظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحقّ ؛ لأنّه حينئذ يدخل في قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ؛ فإنّ بقاءه على الظنّ بالحقّ أولى من رجوعه إلى الشكّ أو الظنّ بالباطل ، فضلا عن العلم به.

الاستدلال علي ذلك

والدليل على ما ذكرنا : جميع الآيات والأخبار الدالّة على وجوب الإيمان والعلم والتفقّه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتديّن وعدم الرخصة في الجهل والشكّ ومتابعة الظنّ ، وهي أكثر من أن تحصى.

الحكم بعدم الإيمان لو اقتصر على الظنّ والدليل عليه

وأمّا الموضع الثاني : فالأقوى فيه ـ بل المتعيّن (٢) ـ الحكم بعدم الإيمان ؛ للأخبار المفسّرة للإيمان بالإقرار والشهادة والتديّن والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم (٣).

هل يحكم بالكفر مع الظنّ بالحق؟

وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ؟ فيه وجهان :

من إطلاق ما دلّ على أنّ الشاكّ وغير المؤمن كافر (٤) ، وظاهر ما دلّ من الكتاب والسنّة على حصر المكلّف في المؤمن والكافر (٥).

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «بهذه».

(٢) في (ت) و (ل) ونسخة بدل (ه) : «المتيقّن».

(٣) راجع الكافي ٢ : ١٨ ، الحديث ١ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٣ و ١٤ ، والصفحة ٢٧ ، الحديث الأوّل.

(٤) الوسائل ١٨ : ٥٦١ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٢٢ ، ٥٢ ، ٥٣ و ٥٦.

(٥) انظر سورة التغابن : ٢ ، والكافي ٢ : ٢ ، باب طينة المؤمن والكافر.


ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود (١) ، فلا يشمل ما نحن فيه ، ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان ، وقد اطلق عليه في الأخبار الضلال (٢).

لكنّ أكثر الأخبار الدالّة على الواسطة مختصّة بالإيمان بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ على أنّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر ، لا على ثبوت الواسطة بين الإسلام والكفر ، نعم بعضها (٣) قد يظهر منه ذلك.

وحينئذ : فالشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخصّ ليس بمؤمن ولا كافر ، فلا يجري عليه أحكام الإيمان.

حكم الشاكّ غير الجاحد من حيث الإيمان والكفر

وأمّا الشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإسلام بالمعنى الأعمّ كالنبوّة والمعاد ، فإن اكتفينا في الإسلام بظاهر الشهادتين وعدم الإنكار ظاهرا وإن لم يعتقد باطنا فهو مسلم. وإن اعتبرنا في الإسلام الشهادتين مع احتمال الاعتقاد على طبقهما ـ حتّى يكون الشهادتان أمارة على الاعتقاد الباطنيّ ـ فلا إشكال في عدم إسلام الشاكّ لو علم منه الشكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين : من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما.

وهل يحكم بكفره ونجاسته حينئذ؟

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٥٦٨ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٥٠.

و ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦٦ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٤٣ ، ٤٨ و ٤٩.

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٣ ، باب الضلال من كتاب الإيمان والكفر ، الحديث ٢.


فيه إشكال : من تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود.

هذا كلّه في الظانّ بالحقّ ، أمّا الظانّ بالباطل فالظاهر كفره.

هل يكفي حصول الجزم من التقليد أو لا بدّ من النظر والاستدلال؟

بقي الكلام في أنّه إذا لم يكتف بالظنّ وحصل الجزم من تقليد ، فهل يكفي ذلك أو لا بدّ من النظر والاستدلال؟

ظاهر الأكثر : الثاني ، بل ادّعى عليه العلاّمة قدس‌سره ـ في الباب الحادي عشر ـ الإجماع ؛ حيث قال : «أجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتيّة وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبوّة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد» (١). فإنّ صريحه أنّ المعرفة بالتقليد غير كافية. وأصرح منها (٢) عبارة المحقّق في المعارج ؛ حيث استدلّ على بطلان التقليد بأنّه جزم في غير محلّه (٣). ومثلهما عبارة الشهيد الأوّل (٤) والمحقّق الثاني (٥)(٦).

لكن مقتضى استدلال العضديّ (٧) على منع التقليد بالإجماع على

__________________

(١) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤.

(٢) في غير (ظ) و (م) : «منهما».

(٣) المعارج : ١٩٩.

(٤) القواعد والفوائد ١ : ٣١٩ ، القاعدة ١١٢.

(٥) الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) ١ : ٨٠.

(٦) وردت عبارة «ومثلهما ـ إلى ـ الثاني» في (ت) ، (ر) و (ه) قبل قوله : «وأصرح ...» ، وورد في غير (ظ) و (م) بدل «ومثلهما» : «ومثلها».

(٧) انظر شرح مختصر الاصول : ٤٨٠.


وجوب معرفة الله وأنّها لا تحصل بالتقليد ، هو : أنّ الكلام في التقليد الغير المفيد للمعرفة. وهو الذي يقتضيه أيضا ما ذكره شيخنا في العدّة ـ كما سيجيء كلامه (١) ـ وكلام الشهيد في القواعد : من عدم جواز التقليد في العقليّات ، ولا في الاصول الضروريّة من السمعيّات ، ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عمل ويكون المطلوب فيها العلم ، كالتفاضل بين الأنبياء السابقة (٢). ويقتضيه (٣) أيضا : ظاهر ما عن شيخنا البهائي قدس‌سره في حاشية الزبدة : من أنّ النزاع في جواز التقليد وعدمه يرجع إلى النزاع في كفاية الظنّ وعدمها (٤).

ويؤيّده أيضا (٥) : اقتران التقليد في الاصول في كلماتهم بالتقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى أنّ المستفتى فيه هي الفروع دون الاصول.

لكنّ الظاهر : عدم المقابلة التامّة بين التقليدين ؛ إذ لا يعتبر في التقليد في الفروع حصول الظنّ ، فيعمل المقلّد مع كونه شاكّا ، وهذا غير معقول في اصول الدين التي يطلب فيها الاعتقاد حتّى يجري فيه الخلاف.

وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع ، مخالفا

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٨١.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٣١٩ ، القاعدة ١١٢.

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «ويعضده».

(٤) الزبدة : ١٢٠.

(٥) لم ترد «أيضا» في (ر).


كان في الواقع أو موافقا كما في الفروع ، بل المراد كفاية التقليد في الحقّ وسقوط النظر به عنه ، إلاّ أن يكتفي فيها بمجرّد التديّن ظاهرا وإن لم يعتقد ، لكنّه بعيد.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الحاجبيّ والعضديّ اختصاص الخلاف بالمسائل العقليّة ، وهو في محلّه ، بناء على ما استظهرنا منهم من عدم حصول الجزم من التقليد ؛ لأنّ الذي لا يفيد الجزم من التقليد إنّما هو في العقليّات المبتنية (١) على الاستدلالات العقليّة ، وأمّا النقليّات فالاعتماد فيها على قول المقلّد ـ بالفتح ـ كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن ، وفي الحقيقة يخرج هذا عن التقليد.

الأقوى : كفاية الجزم الحاصل من التقليد في الاعتقاديّات

وكيف كان : فالأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد ؛ لعدم الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد ، وتقييدها بطريق خاصّ لا دليل عليه.

مع أنّ الإنصاف : أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ؛ لكثرة الشّبه الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ، فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده ، ليشتغل بعد ذلك بامور معاشه ومعاده ، خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لإلقاء الشبهات والتشكيك في البديهيّات ، وقد شاهدنا جماعة (٢) صرفوا أعمارهم

__________________

(١) في (ر) و (ظ) : «المبنيّة».

(٢) في (ت) ، (ص) ، (ل) و (ه) زيادة : «قد».


ولم يحصّلوا منها (١) شيئا (٢) إلاّ القليل.

المقام الثاني : في غير المتمكّن من العلم

العاجز عن تحصيل العلم في الاعتقاديّات

والكلام فيه : تارة في تحقّق موضوعه في الخارج.

واخرى في أنّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظنّ أم لا؟

وثالثة في حكمه الوضعيّ قبل الظنّ وبعده.

هل يوجد العاجز في الاعتقاديّات؟

أمّا الأوّل ، فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز ؛ نظرا إلى العمومات الدالّة على حصر الناس في المؤمن والكافر (٣) ، مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النار (٤) ، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر ، فيكشف (٥) ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وأنّ من نراه قاصرا عاجزا عن العلم قد يمكن عليه تحصيل (٦) العلم بالحقّ ولو في زمان ما وإن كان (٧) عاجزا قبل ذلك أو (٨) بعده ، والعقل لا يقبّح عقاب مثل هذا الشخص ؛ ولهذا ادّعى غير واحد ـ في مسألة التخطئة

__________________

(١) في (ت) و (ل) : «منه».

(٢) في (ظ) و (م) زيادة : «نعم».

(٣) التغابن : ٢.

(٤) البيّنة : ٦.

(٥) كذا في (ت) ونسخة بدل (ه) ، وفي غيرهما : «فينتج».

(٦) في (ت) : «قد تمكّن من تحصيل» ، وفي (ل) و (ه) : «تمكّن عليه».

(٧) في غير (ل) : «صار».

(٨) في (ت) : «و».


والتصويب ـ الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور (١).

شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين

لكنّ الذي يقتضيه الإنصاف : شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين ؛ وقد تقدّم عن الكليني ما يشير إلى ذلك (٢) ، وسيجيء عن الشيخ قدس‌سره في العدّة (٣) : من كون العاجز (٤) عن التحصيل بمنزلة البهائم.

هذا (٥) ، مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر (٦) ، وقضيّة مناظرة زرارة وغيره مع الإمام عليه‌السلام في ذلك مذكورة في الكافي (٧). ومورد الإجماع على أنّ المخطئ آثم هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجهد معذورا غير آثم.

هل يجب تحصيل الظنّ على العاجز؟

وأمّا الثاني ، فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظنّ (٨) ؛ لأنّ المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به ، ولا دليل آخر على عدم جواز التوقّف ، وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظنّ مع تعذّر العلم ؛ لأنّ المقصود فيها العمل ، ولا معنى للتوقّف فيه ،

__________________

(١) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٢٣ ، وصاحب المعالم في المعالم : ٢٤١.

(٢) راجع الصفحة ٥٦٧.

(٣) انظر الصفحة ٥٨٢.

(٤) في (ت) و (ل) : «القاصر».

(٥) لم ترد «هذا» في (ظ) و (م).

(٦) الوسائل ١٨ : ٥٦٦ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٤٣ ، ٤٨ و ٤٩.

(٧) الكافي ٢ : ٤٠٣ ، الحديث ٢.

(٨) في (ت) و (ه) زيادة : «عليه».


فلا بدّ عند انسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظنّ. والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد ، فإذا عجز عنه فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئا (١) ، فيندرج في عموم قولهم عليهم‌السلام : «إذا جاءكم ما لا تعلمون فها» (٢).

نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ، ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّي إلى الباطل ، فلا يبعد وجوب إلزامه بالتحصيل ؛ لأنّ انكشاف الحقّ ـ ولو ظنّا ـ أولى من البقاء على الشكّ فيه.

حكم العاجز من حيث الإيمان والكفر

وأمّا الثالث ، فإن لم يقرّ في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر كفره.

وإن أقرّ به مع العلم بأنّه شاكّ باطنا فالظاهر عدم إسلامه ، بناء على أنّ الإقرار الظاهريّ مشروط باحتمال اعتقاده لما يقرّ به.

وفي جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال :

من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاكّ (٣).

ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود ، مثل : رواية محمّد بن مسلم ، قال : «سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما تقول في من شكّ في الله؟ قال : كافر ، يا أبا محمّد. قال : فشكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : كافر. ثمّ التفت إلى زرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جحد» (٤) ، وفي

__________________

(١) لم ترد «شيئا» في (ظ) و (م).

(٢) الوسائل ١٨ : ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

(٣) راجع الصفحة ٥٧١ ، الهامش (١).

(٤) الوسائل ١٨ : ٥٦٩ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث ٥٦.


رواية اخرى : «لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (١).

ثمّ إنّ جحود الشاكّ ، يحتمل أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التديّن به ؛ لأجل عدم الثبوت ، ويحتمل أن يراد به الإنكار الصوريّ على سبيل الجزم ، وعلى التقديرين فظاهرها : أنّ المقرّ ظاهرا الشاكّ باطنا الغير المظهر لشكّه ، غير كافر.

ويؤيّد هذا : رواية زرارة ـ الواردة في تفسير قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فتجب (٢) لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب (٣) لهم النار ، فهم على تلك الحالة إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم» (٤) ، وقريب منها غيرها (٥).

ولنختم الكلام بذكر كلام السيّد الصدر الشارح للوافية ، في أقسام المقلّد في اصول الدين بناء على القول بجواز التقليد ، وأقسامه بناء على عدم جوازه ، قال :

كلام السيّد الصدر في أقسام المقلّد في اصول الدين وبعض المناقشات فيه

إنّ أقسام المقلّد ـ على القول بجواز التقليد ـ ستّة ؛ لأنّه : إمّا أن يكون مقلّدا في مسألة حقّة أو في باطلة ، وعلى التقديرين : إمّا أن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢) و (٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «فيجب».

(٤) الكافي ٢ : ٤٠٧ ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة التوبة : ١٠٦.

(٥) الكافي ٢ : ٤٠٧ ، الحديث ٢.


يكون جازما بها أو ظانّا ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : إمّا أن يكون إصراره على التقليد مبتنيا على عناد وتعصّب ، بأن حصل له طريق علم إلى الحقّ فما سلكه ، وإمّا لا ، فهذه أقسام ستّة.

فالأوّل : وهو من قلّد في مسألة حقّة جازما بها ـ مثلا : قلّد في وجود الصانع وصفاته وعدله ـ فهذا مؤمن ؛ واستدلّ عليه بما تقدّم حاصله : من أنّ التصديق معتبر من أيّ طريق حصل ـ إلى أن قال : ـ

الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّا بها من دون جزم ، فالظاهر إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر إذا أقرّ (١) ؛ إذ ليس حاله بأدون من حال المنافق ، سيّما إذا كان طالبا للجزم مشغولا بتحصيله فمات قبل ذلك.

أقول : هذا مبنيّ على أنّ الإسلام مجرّد الإقرار الصوريّ وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد. وفيه : ما عرفت من الإشكال وإن دلّ عليه غير واحد من الأخبار.

الثالث : من قلّد في باطل ـ مثل إنكار الصانع أو شيء ممّا يعتبر في الإيمان ـ وجزم به من غير ظهور حقّ ولا عناد.

الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به كذلك.

والظاهر في هذين إلحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة ، وأمّا في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقدا ما يوجبه ، وبالإسلام إن لم يكونا كذلك. فالأوّل كمن أنكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا ، والثاني كمن أنكر إماما.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «باللسان».


الخامس : من قلّد في باطل جازما مع العناد.

السادس : من قلّد في باطل ظانّا كذلك.

وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحقّ والإصرار.

ثمّ ذكر أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ، قال :

إنّه إمّا أن يكون مقلّدا في حقّ أو في باطل ، وعلى التقديرين : مع الجزم أو الظنّ ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : بلا عناد أو به ، وعلى التقادير كلّها : دلّ عقله على الوجوب أو بيّن له غيره ، وعلى تقدير الدلالة : أصرّ على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد أو لا.

فهذه أقسام أربعة عشر.

الأوّل : التقليد في الحقّ جازما مع العلم بوجوب النظر والإصرار ، فهذا مؤمن فاسق ؛ لإصراره على ترك الواجب.

الثاني : هذه الصورة مع ترك الإصرار والرجوع ، فهذا مؤمن غير فاسق.

الثالث : المقلّد في الحقّ الظانّ مع الإصرار ، والظاهر أنّه مؤمن مرجى في الآخرة ، وفاسق ؛ للإصرار.

الرابع : هذه الصورة مع عدم الإصرار ، فهذا مسلم ظاهرا غير فاسق.

الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازما أو ظانّا مع عدم العلم بوجوب الرجوع ، فهذان كالسابق بلا فسق.

أقول : الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع فرض القول بعدم جواز التقليد ، إلاّ أن يريد بهذا القول قول الشيخ قدس‌سره : من وجوب النظر


مستقلا ، لكنّ ظاهره إرادة قول المشهور ، فالأولى الحكم بعدم إيمانهم على المشهور ، كما يقتضيه إطلاق معقد إجماع العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ؛ لأنّ الإيمان عندهم المعرفة الحاصلة عن الدليل لا التقليد.

ثمّ قال :

السابع : المقلّد في الباطل جازما معاندا مع العلم بوجوب النظر والاصرار عليه ، فهذا أشدّ الكافرين.

الثامن : هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضا كافر.

ثمّ ذكر الباقي وقال : إنّ حكمها يظهر ممّا سبق (١).

أقول : مقتضى هذا القول الحكم بكفرهم ؛ لأنّهم أولى به من السابقين.

كلام الشيخ الطوسي في العدّة في وجوب النظر مع العفو

بقي الكلام في ما نسب إلى الشيخ في العدّة : من القول بوجوب النظر مستقلا مع العفو ، فلا بدّ من نقل عبارة العدّة ، فنقول :

قال في باب التقليد ـ بعد ما ذكر استمرار السيرة على التقليد في الفروع ، والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول ؛ مستدلاّ بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العامّيّ معرفة الصلاة وأعدادها ـ : وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة ، وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك.

ثمّ اعترض :

بأنّ السيرة كما جرت له على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاصول وعدم الإنكار عليهم.

__________________

(١) شرح الوافية (مخطوط) : ٤٨٢ ـ ٤٨٤.


فأجاب : بأنّ على بطلان التقليد في الاصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك ، وهذا كاف في النكير.

ثمّ قال :

على أنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه ؛ وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدّمناها ؛ لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمة عليهم‌السلام قطع موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند ذلك إلى حجّة من عقل أو شرع.

ثمّ اعترض على ذلك : بأنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنّه يؤدّي إلى الإغراء بما لا يأمن أن يكون جهلا.

وأجاب : بمنع ذلك ؛ لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ؛ لأنّه إنّما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول ، وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه ، فكيف يكون إسقاط العقاب مغريا؟ وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالاصول وسبروا أحوالهم ، وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ، ولا يسوغ ذلك لهم إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ، وذلك يخرجه من باب الإغراء ، وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله.

وأقوى ممّا ذكرنا : أنّه لا يجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلّفة بحال (١) ، انتهى.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٣١ ـ ٧٣٢.


وذكر عند الاحتجاج على حجّيّة أخبار الآحاد ما هو قريب من ذلك ، قال :

وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه (١) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده الشيخ الطوسي

أقول : ظاهر كلامه قدس‌سره في الاستدلال على منع التقليد بتوقّف معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة اصول الدين : أنّ الكلام في المقلّد الغير الجازم ، وحينئذ فلا دليل على العفو.

وما ذكره : من عدم قطع العلماء والأئمّة موالاتهم مع المقلّدين ـ بعد تسليمه والغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم ؛ لعدم العلم بأحوالهم ـ لا يدلّ على العفو ، وإنّما يدلّ على كفاية التقليد.

وإمساك النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدلّ على عدم وجوبه عليهم ـ لما اعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الأدلّة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول ـ لم يدلّ على العفو عن هذا الواجب المستفاد من الأدلّة ، فلا دليل على العفو عن هذا الواجب المعلوم وجوبه.

والتحقيق : أنّ إمساك النكير لو ثبت ولم يحتمل كونه لحمل أمرهم على الصحّة وعلمهم بالاصول ، دليل على عدم الوجوب ؛ لأنّ وجود الأدلّة لا يكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن

__________________

(١) العدّة ١ : ١٣٢.


المنكر وإن كفى فيه من حيث الإرشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، لكنّ الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين.

رأي المصنّف في المسألة

فالإنصاف : أنّ المقلّد الغير الجازم المتفطّن لوجوب النظر عليه فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزميّة بعقائده ، بل قد عرفت احتمال كفره ؛ لعموم أدلّة كفر الشاكّ.

وأمّا الغير المتفطّن لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة. وفي جريان حكم الكفر احتمال تقدّم.

وأمّا الجازم فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن علم من عمومات (١) الآيات والأخبار وجوب النظر والاستدلال ؛ لأنّ وجوب ذلك توصّليّ لأجل حصول المعرفة ، فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر ، اللهمّ إلاّ أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال واجبا تعبّديّا مستقلا أو شرطا شرعيّا للإيمان ، لكنّ الظاهر خلاف ذلك ؛ فإنّ الظاهر كون ذلك من المقدّمات العقليّة.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «عموم».


الأمر السادس (١)

بناء على عدم حجيّة الظنّ فهل له آثار أخر غير الحجيّة؟

إذا بنينا على عدم حجّيّة ظنّ أو على عدم حجّيّة الظنّ المطلق ، فهل يترتّب عليه آثار أخر غير الحجّيّة بالاستقلال ، مثل كونه جابرا لضعف سند أو قصور دلالة ، أو كونه موهنا لحجّة اخرى ، أو كونه مرجّحا لأحد المتعارضين على الآخر؟

ومجمل القول في ذلك : أنّه كما يكون الأصل في الظنّ عدم الحجّيّة ، كذلك الأصل فيه عدم ترتّب الآثار المذكورة : من الجبر ، والوهن ، والترجيح.

وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة :

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «السابع».


المقام الأوّل : الجبر بالظنّ الغير المعتبر

هل يكون الظنّ غير المعتبر جابراً

فنقول : عدم اعتباره : إمّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه ، وإمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظنّ.

أمّا الأوّل ، فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه مفيدا للجبر ؛ لعموم ما دلّ على عدم جواز الاعتناء به واستعماله في الدين.

الكلام في جبر قصور السند

وأمّا الثاني ، فالأصل فيه وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه إذا كان المجبور محتاجا إليه من جهة إفادته للظنّ بالصدور (١) ـ كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص بوصف (٢) كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارة الغير المعتبرة الظنّ بصدور ذلك الخبر ـ انجبر قصور سنده به.

إلاّ أن يدّعى : أنّ الظاهر اشتراط حجّيّة ذلك الخبر بإفادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده.

الكلام في جبر قصور الدلالة

وبالجملة : فالمتّبع هو ما يفهم من دليل حجّيّة المجبور : ومن هنا لا ينبغي التأمّل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظنّ المطلق ؛ لأنّ المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في مدلولاتها ، لا مجرّد الظنّ بمطابقة مدلولاتها (٣) للواقع ولو من الخارج.

__________________

(١) كذا في مصحّحة (ت) ، ولم ترد «بالصدور» في (ه) ، وفي غيرهما : «بمضمونه».

(٢) في غير (ت) و (ه) : «لوصف».

(٣) في غير (ص) : «مدلولها».


فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو ، وإلاّ ـ بأن كان مجملا أو كان دلالته في الأصل ضعيفة كدلالة الكلام بمفهومه الوصفيّ ـ فلا يجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ؛ إذ التعويل حينئذ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام.

بل ربما لا تكون تلك الأمارة موجبة للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايته إفادة الظنّ بالحكم الفرعيّ ، ولا ملازمة بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لا يريده بذلك اللفظ. نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعيّ ، فالظنّ به يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتّفاق.

وممّا ذكرنا يظهر (١) : أنّ (٢) ما اشتهر ـ من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب ـ غير معلوم المستند ، بل وكذلك دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب لم يعلم لها بيّنة.

والفرق : أنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ؛ فإنّ غايته الكشف عن الحكم الواقعيّ الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ ، كما عرفت.

الكلام فيما اشتهر : من كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر

بقي الكلام في مستند المشهور ، في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر :

__________________

(١) في (ت) و (ه) : «ظهر».

(٢) في (ظ) ، (م) ونسخة بدل كلّ من (ت) و (ص) بدل «أنّ» : «ضعف».


فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر ، ففيه ـ مع أنّه قد لا يوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر ـ : أنّ جلّهم لا يقولون بحجّيّة الخبر المظنون الصدور مطلقا ؛ فإنّ المحكيّ عن المشهور اعتبار الإيمان في الراوي (١) ، مع أنّه لا يرتاب في إفادة الموثّق للظنّ.

فإن قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الإماميّ بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ (٢) ، ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا» (٣).

قلنا : إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية مختصّا بما لا يفيد الظنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا لما ظنّ بصدوره كان خبر غير الإماميّ المنجبر بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج. ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك.

وإن كان لقيام دليل خاصّ عليه ، ففيه : المنع من وجود هذا الدليل (٤).

__________________

(١) حكاه في المعالم : ٢٠٠ ، وغاية المأمول (مخطوط) : الورقة ١١٠ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٣٦٢.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

(٤) لم ترد عبارة «وإن كان لقيام ـ إلى ـ الدليل» في (ظ) و (م).


وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ، في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية. وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة (١).

وربما يدّعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة ؛ حيث ادّعي الإجماع على حجّيّته (٢) ، ولم يثبت.

وأشكل من ذلك : دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ؛ بناء على أنّ التبيّن يعمّ الظنّي (٣) الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.

وهو بعيد ؛ إذ لو اريد مطلق الظنّ فلا يخفى بعده ؛ لأنّ المنهيّ عنه ليس إلاّ خبر الفاسق المفيد للظنّ ؛ إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه. وإن اريد البالغ حدّ الاطمئنان فله وجه ، غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ـ ولو بضميمة المجبور ـ حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة. فالآية تدلّ على حجّيّة الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بعد فيه ، وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه ، من حكايات الإجماع والأخبار.

وأبعد من الكلّ : دعوى استفادة حجّيته ممّا دلّ من الأخبار

__________________

(١) المسالك ٦ : ١٥٦.

(٢) ادّعاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٤٨٧ ، وكذا كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ٣٨.

(٣) في (ت) : «الظنّ».


ـ كمقبولة ابن حنظلة (١) والمرفوعة إلى زرارة (٢) ـ على الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ؛ فإنّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيته في مقام عدم المعارض (٣) بالإجماع والأولويّة.

وتوضيح فساد ذلك : أنّ الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية ؛ كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : «إنّهما معا مشهوران» ، مع أنّ ذكر الشهرة من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٣) في (ت) و (ظ) بدل «مقام عدم المعارض» : «غير مقام التعارض».


المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهنا

هل يكون ظنّ غير المعتبر موهناً

والكلام هنا أيضا يقع : تارة فيما علم بعدم اعتباره ، واخرى فيما لم يثبت اعتباره.

الكلام في الظنّ الذي علم عدم اعتباره

وتفصيل الكلام في الأوّل : أنّ المقابل له إن كان من الأمور المعتبرة لأجل إفادته الظنّ النوعيّ ـ أي لكون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ ، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ـ فلا إشكال في عدم وهنه بمقابلة ما علم عدم اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصّة على هذا الوجه. ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الظواهر اللفظيّة ، فإنّه لا عبرة به أصلا بناء على كون اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ.

ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح.

نعم ، لو كان حجّيته ـ سواء كان من باب الظنّ النوعي أو كان من باب التعبّد ـ مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقّف مجال.

ولعلّه الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين ، عن شيخه : أنّه ذكر له مشافهة : أنّه يتوقّف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه.

لكنّ هذا القول ـ أعني تقييد حجّيّة الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ـ بعيد في الغاية.

وبالجملة : فيكفي في المطلب ما دلّ على عدم جواز الاعتناء


بالقياس (١) ، مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس ـ معلّلا بما حاصله غلبة مخالفته للواقع ـ يقتضي أن لا يترتّب شرعا على القياس أثر ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر التعليل أنّه كالموهوم ؛ فكما أنّه لا ينجبر به ضعيف لا يضعّف به قويّ.

ويؤيّد ما ذكرنا : الرواية المتقدّمة عن أبان (٢) الدالّة على ردع الإمام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع (٣).

وهذا حسن ، لكن الأحسن منه : تخصيص ذلك بما كان اعتباره من قبل الشارع كما لو دلّ الشرع على حجّيّة الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه ؛ فإنّ نفي الأثر شرعا من الظنّ القياسي يوجب بقاء اعتبار تلك الأمارة على حاله.

وأمّا ما كان اعتباره من باب بناء العرف وكان مرجع حجّيته شرعا إلى تقرير ذلك البناء كظواهر الألفاظ ، فإنّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع ، فتأثير الظنّ بالخلاف في القدح في حجّية الظواهر

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٦٣.

(٣) لم ترد عبارة «ويؤيّد ـ إلى ـ فراجع» في (ظ) و (م).


ليس مثل تأثيره في القدح في حجّية الخبر المظنون الخلاف في كونه مجعولا شرعيّا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ؛ لأنّ المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا هي الآثار المجعولة دون غيرها.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ العرف بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع لا يعبئون به في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته ، فيكون النهي عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها للقياس.

وممّا ذكرنا يعلم حال القياس في مقابل الدليل الثابت حجّيته بشرط الظنّ ، كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها ؛ فإنّ في وهنهما (١) بالقياس الوجهين :

من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجّيتهما (٢) على وجه الشرطيّة ، فمرجعه إلى فقدان شرط وجدانيّ ـ أعني وصف الظنّ ـ بسبب القياس. ونفي الآثار الشرعيّة للظنّ القياسي لا يجدي ؛ لأنّ الأثر المذكور أعني رفع الظنّ ليس من الامور المجعولة.

ومن أنّ أصل اشتراط الظنّ من الشارع ، فإذا علمنا من الشارع أنّ الخبر المزاحم بالظنّ القياسي لا ينقص أصلا ـ من حيث الإيصال إلى الواقع وعدمه ـ من (٣) الخبر السليم عن مزاحمته ، وأنّ وجود القياس

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) : «وهنها».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «حجّيتها».

(٣) في (ظ) و (م) : «عن».


وعدمه في نظره سيّان ، فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء.

ومن هنا يمكن جريان التفصيل السابق : بأنّه إن كان الدليل المذكور المقيّد اعتباره بالظنّ ممّا دلّ الشرع على اعتباره ، لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين الله ، وإن كان ممّا دلّ على اعتباره العقل الحاكم بتعيين الأخذ بالراجح عند انسداد باب العلم والطرق الشرعيّة ، فلا وجه لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجّيته أعني الظنّ ؛ فانّ غاية الأمر صيرورة مورد اجتماع تلك الأمارة والقياس مشكوكا ، فلا يحكم العقل فيه بشيء.

إلاّ أن يدّعي المدّعي : أنّ العقل بعد تبيّن حال القياس لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به عن القوّة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم ، وإن كان لا يعبّر عن تلك القوّة حينئذ بالظنّ وعن مقابلها بالوهم.

والحاصل : أنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجئوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم ، وعلموا من (١) حال القياس ببيان الشارع أنّه (٢) لا عبرة بما يفيده من الظنّ ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والإجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا ، لأنّه

__________________

(١) لم ترد «من» في (ه).

(٢) في (ظ) و (م) : «أنّ القياس» ، وفي (ص) و (ه) : «وأنّه».


لا ينقصهما عمّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأنيّ والنوعيّ والطبعيّ.

وممّا ذكرنا : صحّ للقائلين بمطلق الظنّ لأجل الانسداد (١) إلاّ ما خرج ، أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأنيّ ، بمعنى أنّ الظنّ الشخصيّ إذا ارتفع عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القول بذلك على رأي (٢) بعضهم (٣) ممّن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة ؛ لأنّه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم.

هذا كلّه ، مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهيّة وعدم الاعتناء به في الكتب الاصوليّة ، فلو كان له أثر شرعيّ ولو في الوهن لوجب التعرّض لأحكامه (٤) في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في كلّ مورد من موارد الفروع ؛ لأنّ الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب ، وقد تركه أصحابنا في الاصول والفروع ، بل تركوا روايات من اعتنى به منهم وإن كان من المؤسّسين لتقرير الاصول وتحرير الفروع ، كالإسكافيّ الذي نسب إليه أن بناء تدوين اصول الفقه من الإماميّة منه ومن العمّانيّ يعني ابن أبي عقيل قدس‌سرهما (٥) ، وفي كلام آخر : أنّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلّة

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «لأصل الانسداد».

(٢) لم ترد «رأي» في (ظ) و (م).

(٣) هو المحقّق القمّي ، كما تقدّم في الصفحة ٤٦٤.

(٤) في (ت) و (ه) : «لحاله».

(٥) انظر الوافية : ٢٥٢ ، ورجال السيّد بحر العلوم ٢ : ٢٢٠.


منهما أيضا ، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء.

ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التفصّي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه ، على التكلّم فيما سطّرنا هاهنا نقضا وإبراما.

الكلام في الظنّ الذي لم يثبت اعتباره

هذا (١) تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظنّ المنهيّ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه.

وأمّا الظنّ الذي لم يثبت إلغاؤه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظنّ بالخلاف ، فضلا عمّا كان اعتباره مشروطا بإفادة الظنّ ، والسرّ فيه انتفاء الشرط.

وتوهّم : جريان ما ذكرنا في القياس هنا ؛ من جهة أنّ النهي يدلّ على عدم كونه مؤثّرا أصلا ، فوجوده كعدمه من جميع الجهات ، مدفوع.

كما أنّه لا إشكال في عدم الوهنيّة (٢) إذا (٣) كان اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ (٤).

__________________

(١) لم ترد عبارة «من الطائفة ـ من الصفحة ٥٨٢ ، السطر ٦ ، إلى ـ هذا» في (ل).

(٢) في (ه) : «عدم وهنه».

(٣) في (ت) ، (ص) و (ه) : «لما».

(٤) في (ص) زيادة : «المطلق» ، ولم ترد عبارة «كما أنّه ـ إلى ـ النوعيّ» في (ظ) ، (ل) و (م).


المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجحاً

وقد عرفت (١) أنّه على قسمين : أحدهما ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه (٢) ، والآخر ما لم يعتبر لأجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمة.

الكلام في الظنّ الذي ورد النهي عنه بالخصوص

أمّا الأوّل ، فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به (٣) ، نعم يظهر من المعارج وجود القول به بين أصحابنا ؛ حيث قال في باب القياس :

كلام المحقّق في الترجيح بالقياس

ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على معارضه ؛ ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا ؛ لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين على الآخر ؛ وهذا لأنّ فائدة كونه

__________________

(١) راجع الصفحة ٥٨٦.

(٢) لم ترد في (ظ) و (م) : «كالقياس وشبهه».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «كالقياس وشبهه».


مرجّحا كونه دافعا (١) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، لا بذلك القياس. وفيه نظر (٢) ، انتهى.

الحقّ عدم الترجيح

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس‌سره (٣) بعض الميل ، والحقّ خلافه ؛ لأنّ رفع (٤) الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ؛ فإنّه لو لا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به لأجل القياس (٥) ، وأيّ عمل أعظم من هذا؟

والفرق بين المرجّح والدليل ليس إلاّ أنّ الدليل مقتض لتعيّن العمل به والمرجّح رافع (٦) للمزاحم عنه ، فلكلّ منهما مدخل في العلّة التامّة لتعيّن العمل به ، فإذا كان استعمال القياس محظورا وأنّه لا يعبأ به في الشرعيّات كان وجوده كعدمه غير مؤثّر.

مع أنّ مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظنّ كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ، فيشترك مع الدليل المنضمّ إليه في الاقتضاء.

هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ ، وأمّا على مذهبهم

__________________

(١) كذا في (م) ، وفي غيرها : «رافعا».

(٢) المعارج : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٦.

(٤) في (ر) ، (ص) و (م) : «دفع».

(٥) في (ظ) و (م) بدل «لأجل القياس» : «بالقياس».

(٦) كذا في (ت) ، (ر) و (ه) ، وفي (ص) ، (ظ) و (م) : «دافع».


فيكون القياس تمام المقتضي بناء على كون الحجّة عندهم الظنّ الفعليّ ؛ لأنّ الخبر (١) المنضمّ إليه ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعليّ بمضمونه. نعم ، قد يكون الظنّ مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي ، فتأمّل (٢).

ويؤيّد ما ذكرنا ، بل يدلّ عليه : استمرار سيرة أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسيّ أحيانا ، فضلا عن أن يتوقّفوا في التخيير بين الخبرين المتعارضين (٣) مع عدم مرجّح آخر أو الترجيح بمرجّح موجود ، إلى أن يبحثوا عن القياس ؛ كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّيّة.

الكلام في الظنّ غير المعتبر لأجل عدم الدليل في مقامات :

وأمّا القسم الآخر ، وهو الظنّ الغير المعتبر لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل.

فالكلام في الترجيح به يقع في مقامات :

الأوّل : الترجيح به في الدلالة ، بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين كما في العامّين من وجه وأشباهه. وهذا لا اختصاص له بالدليل الظنّي السند ، بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة.

الثاني : الترجيح به في وجه الصدور ، بأن نفرض الخبرين

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «الجزء».

(٢) لم ترد «فتأمّل» في (ت) و (ه).

(٣) لم ترد «المتعارضين» في (ر) ، (ظ) و (م).


صادرين وظاهري الدلالة ، وانحصر التحيّر في تعيين ما صدر لبيان الحكم وتمييزه عمّا صدر على وجه التقيّة أو غيرها من الحكم المقتضية لبيان خلاف الواقع. وهذا يجري في مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور مع بقاء الظنّ بالصدور في كلّ منهما.

الثالث : الترجيح به من حيث الصدور ، بأن صار بالمرجّح أحدهما مظنون الصدور.

أمّا المقام الأوّل ، فتفصيل القول فيه :

الترجيح به في الدلالة

أنّه إن قلنا بأنّ مطلق الظنّ على خلاف الظواهر يسقطها عن الاعتبار ـ لاشتراط حجّيتها بعدم الظنّ على الخلاف ـ فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظنّ المرجّح ، لكن يخرج حينئذ عن كونه مرجّحا ، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجّية ، لا لدفع مزاحمته للظهور المنضمّ إليه ، فيصير ما وافقه حجّة سليمة عن الدليل المعارض ؛ إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنّ لأسقطه عن الاعتبار ، نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذّ التي لا اعتبار بها ، بل امرنا بتركها (١) ولو لم يكن في مقابلها خبر معتبر.

وأولى من هذا : إذا قلنا باشتراط حجّية الظواهر بحصول الظنّ منها أو من غيرها على طبقها. لكنّ هذا القول سخيف جدّا ، والأوّل أيضا بعيد ، كما حقّق في مسألة حجّيّة الظواهر (٢)

__________________

(١) لم ترد «بل امرنا بتركها» في (ظ) و (م).

(٢) راجع الصفحة ١٧٠.


وإن قلنا بأنّ حجّية الظواهر من حيث إفادتها للظنّ الفعليّ وأنّه لا عبرة بالظنّ الحاصل من غيرها على طبقها ، أو قلنا بأنّ حجّيتها من حيث الاتّكال على أصالة عدم القرينة التي لا يعتبر فيها إفادتها للظنّ الفعليّ ، فالأقوى عدم اعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح ؛ إذ المفروض على هذين القولين سقوط كلا الظاهرين عن الحجّية في مورد التعارض ، وأنّه إذا صدر عنه قوله ـ مثلا ـ : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» ، وورد أيضا : «كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله» ، وفرض عدم قوّة أحد الظاهرين من حيث نفسه على الآخر ، كان ذلك مسقطا لظاهر كليهما عن الحجّيّة في مادّة التعارض ، أعني خرء الطير الغير المأكول (١) وبوله.

أمّا على القول الأوّل ؛ فلأنّ حجّية الظواهر مشروطة بالظنّ المفقود في المقام.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ أصالة عدم القرينة في كلّ منهما معارضة بمثلها في الآخر ، والحكم (٢) في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة أحدهما على الآخر ، التساقط والرجوع إلى عموم أو أصل يكون حجّيته مشروطة (٣) بعدم وجودهما على قابليّة الاعتبار ، فلو عمل حينئذ بالظنّ الموجود مع أحدهما ـ كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة ـ كنّا قد عملنا بذلك الظنّ مستقلا ، لا من باب كونه مرجّحا ؛

__________________

(١) لم ترد «الغير المأكول» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ظ) ، (م) و (ه) : «والمحكّم».

(٣) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «مشروطا».


لفرض (١) تساقط الظاهرين وصيرورتهما كالعدم ، فالمتّجه حينئذ الرجوع في المسألة ـ بعد الفراغ من المرجّحات من حيث السند أو من حيث الصدور تقيّة أو لبيان الواقع ـ إلى قاعدة الطهارة.

وأمّا المقام الثاني ، فتفصيل القول فيه :

٢ ـ الترجيح به في وجه الصدور

أنّ أصالة عدم التقيّة : إن كان المستند فيها أصل العدم في كلّ حادث ـ بناء على أنّ دواعي التقيّة التي هي من قبيل الموانع لإظهار الحقّ حادثة تدفع بالأصل ـ فالمرجع بعد معارضة هذا الأصل في كلّ خبر بمثله في الآخر ، هو التساقط. وكذلك لو استندنا فيها إلى أنّ ظاهر حال المتكلّم بالكلام ـ خصوصا الإمام عليه‌السلام في مقام إظهار الأحكام التي نصب لأجلها ـ هو بيان الحقّ ، وقلنا بأنّ (٢) اعتبار هذا الظهور مشروط بإفادته الظنّ الفعلي المفروض سقوطه من الطرفين.

وحينئذ : فإن عملنا بمطلق الظنّ في تشخيص التقيّة وخلافها ـ بناء على حجّيّة الظنّ في هذا المقام ؛ لأجل الحاجة إليه ؛ من جهة العلم بصدور كثير من الأخبار تقيّة ، وأنّ الرجوع إلى أصالة عدمها في كلّ مورد يوجب الافتاء بكثير ممّا صدر تقيّة ، فيتعيّن العمل بالظنّ ، أو لأنّا نفهم ممّا ورد في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم كون ذلك من أجل كون الموافقة مظنّة للتقيّة ، فيتعيّن العمل بما هو أبعد عنها بحسب كلّ أمارة ـ كان ذلك الظنّ دليلا مستقلا في ذلك المقام وخرج عن كونه مرجّحا.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «لزوم».

(٢) في (ل) ، (م) و (ه) بدل «بأنّ» : «إنّ».


ولو استندنا فيها إلى الظهور المذكور واشترطنا في اعتباره عدم الظنّ على خلافه ، كان الخبر الموافق لذلك الظنّ حجّة سليمة عن المعارض لا عن المزاحم ، كما عرفت نظيره في المقام الأوّل (١).

وإن استندنا فيها إلى الظهور النوعيّ ، نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح وظهور تكلّم المتكلّم في كونه قاصدا لا هازلا ، ولم نشترط في اعتباره الظنّ الفعلي ولا عدم الظنّ بالخلاف ، تعارض الظاهران ، فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظنّ المفروض ، والكلام فيه يعلم ممّا سيجيء في (٢) المقام الثالث.

[وأمّا المقام الثالث](٣) :

٣ ـ ترجيح السند بمطلق الظنّ

وهو ترجيح السند بمطلق الظنّ ؛ إذ الكلام (٤) فيه أيضا مفروض فيما إذا لم نقل بحجّية الظنّ المطلق ولا بحجّية الخبرين بشرط إفادة الظنّ ولا بشرط عدم الظنّ على خلافه ؛ إذ يخرج الظنّ المفروض على هذه التقادير عن المرجّحيّة.

بل يصير حجّة مستقلّة على الأوّل ، سواء كان حجّية المتعارضين من باب الظنّ المطلق أو من باب الاطمئنان أو من باب الظنّ الخاصّ ؛ فإنّ القول بالظنّ المطلق لا ينافي القول بالظنّ الخاصّ في بعض الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين. ويسقط المرجوح عن الحجّية على

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٠٠.

(٢) في (ه) بدل «في» : «أمّا» ، وفي (ت) : «وأمّا».

(٣) ما بين المعقوفتين منّا.

(٤) في (ت) و (ه) بدل «إذ الكلام» : «فالكلام».


الأخيرين.

فيتعيّن الكلام في مرجّحيّته فيما إذا قلنا بحجّية كلّ منهما من حيث الظنّ النوعيّ كما هو مذهب الأكثر.

والكلام يقع : تارة في الترجيح بالظنّ في مقام لولاه لحكم بالتخيير ، واخرى في الترجيح به في مقابل المرجّحات المنصوصة في الأخبار العلاجيّة.

مقتضى الأصل عدم الترجيح

أمّا الكلام في الأوّل (١) فملخّصه :

أنّه لا ريب في أنّ مقتضى الأصل عدم الترجيح كما أنّ الأصل عدم الحجّيّة ؛ لأنّ العمل بالخبر الموافق لذلك الظنّ إن كان على وجه التديّن والالتزام بتعيّن العمل به من جانب الشارع وأنّ الحكم الشرعيّ الواقعيّ هو مضمونه ـ لا مضمون الآخر ـ من غير دليل قطعيّ يدلّ على ذلك ، فهو تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة. والعمل به لا على هذا الوجه محرّم إذا استلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فقد هذا الظنّ.

فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظنّ مستقلا ـ من التشريع أو مخالفة الاصول القطعيّة الموجودة في المسألة ـ جار بعينه في الترجيح بالظنّ ، والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلّها متساوية النسبة إلى الحجّيّة وإلى المرجّحية ، وقد عرفت (٢) في الترجيح بالقياس

__________________

(١) لم ترد عبارة «والكلام ـ إلى ـ في الأوّل» في (ر) و (ه) ، وكتب عليها في (ت) : «زائد» ، وفي (ص) : «نسخة».

(٢) راجع الصفحة ٥٩٨.


أنّ المرجّح يحدث حكما شرعيّا لم يكن مع عدمه ، وهو وجوب العمل بموافقه (١) عينا مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر.

ظاهر معظم الاصوليين هو الترجيح

هذا ، ولكنّ الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليّين (٢) هو الترجيح بمطلق الظنّ.

وليعلم أوّلا : أنّ محلّ الكلام ـ كما عرفت في عنوان المقامات الثلاثة ، أعني : الجبر ، والوهن ، والترجيح ـ هو الظنّ الذي لم يعلم اعتباره.

فالترجيح به من حيث السند أو الدلالة ترجيح بأمر خارجيّ ، وهذا لا دخل له بمسألة اخرى اتّفاقيّة ، وهي وجوب العمل بأقوى الدليلين وأرجحهما ؛ فإنّ الكلام فيها في (٣) ترجيح أحد الخبرين الذي يكون بنفسه أقوى من الآخر من حيث السند ، كالأعدل والأفقه أو المسند أو الأشهر رواية أو غير ذلك ، أو من حيث الدلالة ، كالعامّ على المطلق ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز على الإضمار ، وغير ذلك.

وبعبارة اخرى : الترجيح بالمرجّحات الداخليّة من جهة السند (٤)

__________________

(١) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «بموافقته».

(٢) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥١ ، وغاية البادئ (مخطوط) : ٢٧٦ ، وغاية المأمول (مخطوط) الورقة : ٢١٨ ، والفصول : ٤٤٣ ، ومفاتيح الاصول : ٦٨٦.

(٣) في (ظ) و (م) بدل عبارة «الكلام فيها في» : «المراد بها».

(٤) كتب في (ص) على عبارة «من جهة السند» : «زائد».


اتّفاقيّ ، واستفاض نقل الإجماع من الخاصّة والعامّة على وجوب العمل بأقوى الدليلين عن الآخر (١).

والكلام هنا في المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لمضمون أحد الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

نعم ، لو كشف تلك الأمارة عن مزيّة داخليّة لأحد الخبرين على الآخر من حيث سنده أو دلالته دخلت في المسألة الاتّفاقيّة ووجب الأخذ بها ؛ لأنّ العمل بالراجح من الدليلين واجب إجماعا (٢) ، سواء علم وجه الرجحان تفصيلا أم لم يعلم إلاّ إجمالا.

ومن هنا ظهر : أنّ الترجيح بالشهرة والإجماع المنقول إذا كشفا عن مزيّة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ، ممّا لا ينبغي الخلاف فيه. نعم ، لو لم يكشفا عن ذلك إلاّ ظنّا ففي حجّيته أو إلحاقه بالمرجّح الخارجيّ وجهان : أقواهما الأوّل كما سيجيء.

ما استدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ :

وكيف كان : فالذي يمكن أن يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجيّ وجوه :

الوجه الأوّل : قاعدة الاشتغال ؛ لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق للظنّ.

قاعدة الاشتغال

وتوهّم : أنّه قد يكون الطرف المخالف للظنّ موافقا للاحتياط اللازم في المسألة الفرعيّة فيعارض الاحتياط في المسألة الاصوليّة ، بل

__________________

(١) انظر مفاتيح الاصول : ٦٨٦ ـ ٦٨٨ ، ومناهج الأحكام : ٣١٣.

(٢) لم ترد في (ظ) : «إجماعا».


يرجّح عليه في مثل المقام كما نبّهنا عليه عند الكلام في معمّمات نتيجة دليل الانسداد.

مدفوع : بأنّ المفروض في ما نحن فيه عدم وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لو لا الظنّ ؛ لأنّ الأخذ به : إن كان من جهة اقتضاء المورد للاحتياط ، فقد ورد عليه حكم الشارع بالتخيير المرخّص للأخذ بخلاف الاحتياط ، وبراءة الذمّة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له ؛ ولهذا يحكم بالتخيير أيضا وإن كان أحدهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا ؛ إذ كما أنّ الدليل المعيّن للعمل به يكون حاكما على الاصول ، كذلك الدليل المخيّر في العمل به وبمعارضه.

وإن كان من جهة بعض الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط وطرح ما خالفه (١).

ففيه : ما تقرّر في محلّه (٢) ، من عدم نهوض تلك الأخبار لتخصيص الأخبار الدالّة على التخيير.

بل هنا كلام آخر ، وهو : أنّ حجّيّة الخبر المرجوح في المقام وجواز الأخذ به يحتاج إلى توقيف ؛ إذ لا يكفي في ذلك ما دلّ على حجّية كلا المتعارضين بعد فرض امتناع العمل بكلّ منهما ، فيجب الأخذ بالمتيقّن جواز العمل به وطرح المشكوك ، وليس المقام مقام التكليف المردّد بين التعيين والتخيير حتّى يبنى على مسألة البراءة والاشتغال.

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٢) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ٤٠.


وتمام الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث التراجيح (١) إن شاء الله تعالى (٢).

٢ ـ الإجماع على ذلك

الثاني : ظهور الإجماع على ذلك ، كما استظهره بعض مشايخنا (٣) ؛ فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح (٤) ببعض المرجّحات الخارجيّة ، بإفادته للظنّ بمطابقة أحد الدليلين للواقع ، فكأنّ الكبرى ـ وهي وجوب الأخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق أحد الدليلين ـ مسلّمة عندهم. وربما يستفاد ذلك من الإجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى المتعارضين (٥).

إلاّ أنّه يشكل بما ذكرنا : من (٦) أنّ الظاهر أنّ المراد بأقوى الدليلين فيها (٧) ما كان كذلك في نفسه ولو لكشف أمر خارجيّ عن ذلك ، كعمل الأكثر الكاشف عن مرجّح داخليّ لا نعلمه تفصيلا ، فلا يدخل فيه ما كان مضمونه مطابقا لأمارة غير معتبرة ، كالاستقراء والأولويّة الظنيّة مثلا على تقدير عدم اعتبارهما ؛ فإنّ الظاهر خروج

__________________

(١) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ٤٨ ـ ٥٠.

(٢) لم ترد عبارة «بل هنا كلام ـ إلى ـ تعالى» في (ظ) و (م).

(٣) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٧.

(٤) في (ظ) و (م) : «للترجيح».

(٥) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥١ ، ومبادئ الوصول : ٢٣٢ ، ومفاتيح الاصول : ٦٨٦.

(٦) في (ظ) و (م) بدل عبارة «إلاّ أنّه يشكل بما ذكرنا من» : «إلاّ أن يقال».

(٧) في (ت) و (ر) «منهما» ، وفي (ص) : «فيهما».


ذلك عن معقد تلك الإجماعات وإن كان بعض أدلّتهم الآخر قد يفيد العموم لما نحن فيه كقبح ترجيح المرجوح ، إلاّ أنّه لا يبعد أن يكون المراد المرجوح في نفسه من المتعارضين لا مجرّد المرجوح بحسب الواقع ؛ وإلاّ اقتضى ذلك حجّية نفس المرجّح مستقلا.

نعم ، الإنصاف : أنّ بعض كلماتهم يستفاد منه ، أنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجّح أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

وقد استظهر بعض مشايخنا (١) الاتّفاق على الترجيح بكلّ ظنّ ما عدا القياس.

فمنها : ما تقدّم عن المعارج (٢) ، من الاستدلال للترجيح بالقياس بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

ومنها : ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرّر ، فإنّ مرجع ما ذكروا فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظنّ بموافقة أحدهما لحكم الله الواقعيّ.

إلاّ أن يقال : إنّ هذا حاصل من نفس الخبر المتّصف بكونه مقرّرا أو ناقلا.

ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف معلّلين : بأنّ الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، وفي ترجيحه

__________________

(١) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٧.

(٢) راجع الصفحة ٥٩٧.


بعمل علماء المدينة.

إلاّ أن يقال أيضا : إنّ ذلك كاشف عن مرجّح داخليّ في أحد الخبرين.

وبالجملة : فتتبّع كلماتهم يوجب الظنّ القويّ بل القطع بأنّ بناءهم على الأخذ بكلّ ما يشتمل على ما يوجب أقربيّته إلى الصواب ، سواء كان لأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوّة مضمونها.

ثمّ لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات بمرجّحية مطلق الظنّ (١) المطابق لمضمون أحد الخبرين ، فلا أقلّ من كونه مظنونا ، والظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير وإن لم يجب العمل به في مقابل الاصول ، وسيجيء بيان ذلك (٢) إن شاء الله تعالى.

٣ ـ ما يظهر من بعض الأخبار

الثالث : ما يظهر من بعض الأخبار ، من أنّ المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع ، سواء كان لمرجّح داخليّ كالأعدليّة مثلا ، أو لمرجّح (٣) خارجيّ كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر :

ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة

فمنها (٤) : ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة في الحديث كما في مقبولة ابن حنظلة (٥) ، فإنّا نعلم أنّ وجه الترجيح بهذه الصفة ليس إلاّ كون

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «الظنّ المطلق».

(٢) انظر الصفحة ٦١٧ ـ ٦١٩.

(٣) في (ت) و (ل) : «مرجّح».

(٤) كذا في (ص) ، (ظ) و (م) ، وفي (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) : «مثل».

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.


خبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من خبر غير الموصوف بها ، لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق (١) ، وليس هذه الصفة مثل الأعدليّة وشبهها في احتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ؛ ولذا اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق وثاقته (٢) ؛ لأنّ صفة الصدق ليست إلاّ المطابقة للواقع ، فمعنى الأصدق هو الأقرب إلى الواقع ، فالترجيح بها يدلّ على أنّ العبرة بالأقربيّة من أيّ سبب حصلت.

ما دلّ على ترجيح أوثق المخبرين

ومنها (٣) : ما دلّ (٤) على ترجيح أوثق المخبرين (٥) ، فإنّ معنى الأوثقيّة شدّة الاعتماد عليه ، وليس إلاّ لكون خبره أوثق (٦) ، فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجّح خارجي ، اتّبع.

دلّ على ترجيح أحد الخبرين لكونه مشهورا

ما دلّ (٧) على ترجيح أحد الخبرين لكونه مشهورا وممّا يستفاد منه المطلب على وجه الظهور : ما دلّ (٨) على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث

__________________

(١) لم ترد عبارة «لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق» في (ل) و (م).

(٢) في (ت) : «الوثاقة» ، والأنسب : «وثاقتها».

(٣) في (ت) ، (ر) و (ه) بدل «منها» : «مثل».

(٤) وهي مرفوعة زرارة ، المستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٥) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «الخبرين».

(٦) لم ترد عبارة «عليه ـ إلى ـ أوثق» في (م).

(٧) وهي مقبولة ابن حنظلة ، الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٧) وهي مقبولة ابن حنظلة ، الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.


يعرفه كلّهم وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم بل ينفرد (١) بروايته بعضهم دون بعض ؛ معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ؛ فيدلّ على أنّ طرح الآخر لأجل ثبوت الريب فيه ، لا لأنّه لا ريب في بطلانه كما قد يتوهّم ؛ وإلاّ لم يكن معنى للتعارض وتحيّر السائل ، ولا لتقديمه على الخبر المجمع عليه ، إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه ـ صدر الخبر ، ولا لقول السائل بعد ذلك : «هما معا مشهوران».

فحاصل المرجّح : هو ثبوت الريب في الخبر الغير المشهور وانتفاؤه في المشهور ، فيكون المشهور من الأمر البيّن الرشد ، وغيره من الأمر المشكل ، لا بيّن الغيّ كما توهّم.

وليس المراد به (٢) نفي الريب من جميع الجهات ؛ لأنّ الإجماع على الرواية لا يوجب ذلك ضرورة ، بل المراد وجود ريب في غير المشهور يكون منتفيا في الخبر المشهور ، وهو احتمال وروده على بعض الوجوه أو عدم صدوره رأسا.

وليس المراد بالريب مجرّد الاحتمال ولو موهوما ؛ لأنّ الخبر المجمع عليه يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعض الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ، غاية الأمر كونه في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحا وفي غير المشهور احتمالا مساويا يصدق عليه الريب عرفا.

وحينئذ : فيدلّ على رجحان كلّ خبر يكون نسبته إلى معارضه

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «يتفرّد».

(٢) لم ترد «به» في (ظ) و (م).


مثل نسبة الخبر المجمع على روايته إلى الخبر الذي اختصّ بروايته بعض دون بعض مع كونه بحيث لو سلم عن المعارض أو كان راويه أعدل وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لاخذ به ، ومن المعلوم أنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبته إلى معارضه تلك النسبة.

ولعلّه لذا علّل تقديم الخبر المخالف للعامّة على الموافق : بأنّ ذاك لا يحتمل إلاّ الفتوى وهذا يحتمل التقيّة ؛ لأنّ الريب الموجود في الثاني منتف في الأوّل. وكذا كثير من المرجّحات الراجعة إلى وجود احتمال في أحدهما مفقود ـ علما أو ظنّا ـ في الآخر ، فتدبّر.

فكلّ خبر من المتعارضين يكون فيه ريب لا يوجد في الآخر ، أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريبا ، فذاك الآخر مقدّم عليه.

ما دلّ على الترجيح بمخالفة العامّة

ما دلّ على الترجيح بمخالفة العامّة وأظهر من ذلك كلّه في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ : ما دلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة (١) ، بناء على أنّ الوجه في الترجيح بها أحد وجهين :

أحدهما : كون الخبر (٢) المخالف أبعد من التقية ، كما علّل (٣) به الشيخ (٤) والمحقّق (٥) ، فيستفاد منه اعتبار كلّ قرينة خارجيّة توجب أبعديّة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) لم ترد «الخبر» في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م).

(٣) في (ظ) و (م) : «كما علّله».

(٤) انظر العدّة ١ : ١٤٧.

(٥) انظر المعارج : ١٥٦.


أحدهما عن خلاف الحقّ ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء ، بل يستفاد منه : عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق احتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ، كما هو مفاد الخبر المتقدّم (١) الدالّ على ترجيح ما لا ريب فيه على ما فيه الريب بالإضافة إلى معارضه.

لكنّ هذا الوجه لم ينصّ عليه في الأخبار ، وإنّما هو شيء مستنبط منها ، ذكره الشيخ ومن تأخّر عنه (٢). نعم في رواية عبيد بن زرارة :

«ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (٣)» (٤).

الثاني : كون الخبر (٥) المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع. والفرق بين الوجهين : أنّ الأوّل كاشف عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.

وهذا الوجه لما نحن فيه (٦) منصوص في الأخبار ، مثل : تعليل الحكم المذكور فيها بقولهم عليهم‌السلام (٧) : «فإنّ الرشد في خلافهم» (٨) ، و «ما

__________________

(١) وهي مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة في الصفحة ٦١١ ، الهامش (٨).

(٢) كصاحب المعالم في المعالم : ٢٥٥.

(٣) لم ترد عبارة «نعم ـ إلى ـ فلا تقيّة فيه» في (م).

(٤) الوسائل ١٥ : ٤٩٢ ، الباب ٣ من أبواب الخلع والمباراة ، الحديث ٧.

(٥) لم ترد «الخبر» في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م).

(٦) لم ترد «لما نحن فيه» في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه).

(٧) في (ر) ، (ص) و (ه) : «بقوله عليه‌السلام».

(٨) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ضمن الحديث ١٩


خالف العامّة ففيه الرشاد» (١) ؛ فإنّه هذه القضيّة قضيّة غالبيّة لا دائميّة ، فيدلّ على أنّه يكفي في الترجيح الظنّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين.

ويدلّ على هذا التعليل أيضا : ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد ، من قوله : «ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ؛ فإنّ الحقّ فيه» (٢).

وأصرح من الكلّ في التعليل بالوجه المذكور : مرفوعة أبي إسحاق الأرجائيّ إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال عليه‌السلام : «أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالف عليه الامّة إلى غيره ؛ إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم ليلبسوا على الناس» (٣).

ويصدّق هذا الخبر سيرة أهل الباطل مع الأئمّة عليهم‌السلام على هذا النحو تبعا لسلفهم ، حتّى أنّ أبا حنيفة حكي عنه أنّه قال : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يغمض عينيه في السجود أو يفتحهما (٤).

__________________

(١) من مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة في الصفحة ٦١١ ، الهامش (٨).

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٤.

(٤) حكاه المحدّث الجزائري في زهر الربيع : ٥٢٢.


والحاصل : أنّ تعليل الأخذ بخلاف العامّة في هذه الروايات بكونه أقرب إلى الواقع ـ حتّى أنّه يجعل دليلا مستقلاّ عند فقد من يرجع إليه في البلد ـ ظاهر في وجوب الترجيح بكلّ ما هو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّة الرشد ، فإذا انضمّ هذا الظهور إلى الظهور الذي ادّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ، فالظاهر أنّه يحصل من المجموع دلالة لفظيّة تامّة.

ما دعا أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين

ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة هو الذي دعا أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ، بل يوجب في أحدهما مزيّة مفقودة في الآخر ولو بمجرّد كون خلاف الحقّ في أحدهما أبعد منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات.

فما ظنّه بعض المتأخّرين من أصحابنا (١) على العلاّمة وغيره قدّست أسرارهم : من متابعتهم في ذلك (٢) طريقة العامّة ، ظنّ في غير المحلّ.

القول بوجوب الترجيح ودليله

ثمّ إنّ الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظيّة ، فلا إشكال في الاعتماد عليها ، وإن لم يبلغ هذا الحدّ ـ بل لم يكن إلاّ مجرّد الإشعار ـ كان مؤيّدا لما ذكرناه من ظهور الاتّفاق ، فإن لم يبلغ المجموع حدّ الحجّية (٣) فلا أقلّ من كونها أمارة مفيدة للظنّ بالمدّعى ،

__________________

(١) انظر الحدائق ١ : ٩٠ ، وهداية الأبرار : ٦٨.

(٢) لم ترد «في ذلك» في (ظ) و (م).

(٣) في (ظ) و (م) : «الحجّة».


ولا بدّ من العمل به ؛ لأنّ التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت ؛ لأنّ التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجّحات يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ؛ لأنّا نعلم بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها معيّنا ، والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية ، مع أنّ تلك الأخبار معارض بعضها بعضا ، بل بعضها غير معمول به بظاهره ، كمقبولة ابن حنظلة المتضمّنة لتقديم الأعدليّة على الشهرة ومخالفة العامّة وموافقة الكتاب.

وحاصل هذه المقدّمات : ثبوت التكليف بالترجيح ، وانتفاء المرجّح اليقينيّ ، وانتفاء ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فينحصر العمل في الظنّ بالمرجّح (١) ؛ فكلّ ما ظنّ أنّه مرجّح في نظر الشارع وجب الترجيح به ؛ وإلاّ لوجب ترك الترجيح أو العمل بما ظنّ من المتعارضين أنّ الشارع رجّح (٢) غيره عليه ، والأوّل مستلزم للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم (٣) بوجوب الترجيح ، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح في مقام وجوب البناء ـ لأجل تعذّر العلم ـ على أحدهما ، وقبحه بديهيّ ؛ وحينئذ : فإذا ظنّنا من الأمارات السابقة أنّ مجرّد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع تعيّن الأخذ به.

__________________

(١) العبارة في (ت) و (ه) هكذا : «فينحصر الأمر في العمل بالظنّ بالترجيح».

(٢) كذا في (ه) ، وفي (ر) ، (ظ) و (م) : «مرجّح» ، وفي (ص) و (ل) وظاهر (ت) : «لم يرجّح».

(٣) في غير (ظ) زيادة : «التكليف».


القول بعدم وجوب الترجيح ودليله

هذا ، ولكن لمانع أن يمنع وجوب الترجيح بين المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي دلّ العرف على وجوب الترجيح بها كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر.

بيان ذلك : أنّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ـ كالعامّ والخاصّ وشبههما ممّا لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد ـ فالمرجّح فيه معلوم من العرف.

وما كان من قبيل تعارض الظاهرين كالعامّين من وجه وشبههما ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد ، فالوجه فيه ـ كما عرفت سابقا ـ : عدم الترجيح إلاّ بقوّة الدلالة ، لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجيّ غير معتبر ؛ ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظنّ ، بل يرجع فيه إلى الاصول والقواعد ؛ فهذا كاشف عن أنّ الحكم فيهما (١) ذلك من أوّل الأمر ؛ للتساقط ؛ لإجمال الدلالة.

وما كان من قبيل المتباينين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بشاهدين ، فهذا هو المتيقّن من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة. ومن المعلوم أنّ موارد هذا التعارض على قسمين :

أحدهما : ما يمكن الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتاب أو سنّة مطابق لأحدهما ، وهذا القسم يرجع فيه إلى ذلك العموم أو الأصل وإن كان الخبر المخالف لأحدهما مطابقا لأمارة خارجيّة ؛ وذلك لأنّ العمل بالعموم والأصل يقينيّ لا يرفع اليد عنه إلاّ بوارد يقينيّ ، والخبر المخالف

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «فيها».


له لا ينهض لذلك ـ لمعارضته بمثله ـ ، والمفروض أنّ وجوب الترجيح بذلك الظنّ لم يثبت ، فلا وارد على العموم والأصل.

القسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهذا أقلّ قليل بين المتعارضات ، فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظنّ خارجيّ على طبق أحدهما لم يلزم (١) محذور ـ نعم الاحتياط يقتضي الأخذ بما يطابق الظنّ ـ خصوصا مع أنّ مبنى المسألة على حجّية الخبر من باب الظنّ غير مقيّد بعدم الظنّ الفعليّ على خلافه ، والدليل على هذا الاطلاق مشكل ، خصوصا لو كان الظنّ المقابل من الشهرة المحقّقة أو نقل الإجماع الكاشف عن تحقّق الشهرة ؛ فإنّ إثبات حجّيّة الخبر المخالف للمشهور في غاية الإشكال وإن لم نقل بحجّية الشهرة ؛ ولذا قال صاحب المدارك : إنّ العمل بالخبر المخالف للمشهور مشكل ، وموافقة الأصحاب من غير دليل أشكل (٢).

مقتضى الاحتياط في المقام

وبالجملة : فلا ينبغي ترك الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير ، وأمّا في مقابل العمل بالأصل (٣) : فإن كان الأصل مثبتا للاحتياط ـ كالاحتياط اللازم في بعض الموارد ـ فالأحوط العمل بالأصل ، وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة والاستصحاب النافي للتكليف ، أو مثبتا له مع عدم التمكّن من الاحتياط كأصالة الفساد في باب المعاملات ونحو ذلك ، ففيه الإشكال. وفي باب التراجيح تتمّة

__________________

(١) في (ه) : «لم يكن يلزم» وكذا استظهره في (ص) ، وفي (ر) : «لم يكن».

(٢) المدارك ٤ : ٩٥.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) : «بالاصول».


المقال (١) ، والله العالم بحقيقة الحال.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(١) لم ترد عبارة «وفي باب التراجيح تتمّة المقال» في (ظ) و (م).


تمّ

الجزء الأوّل

ويليه

الجزء الثاني

في

البراءة والاشتغال



العناوين العامّة

المقصد الأوّل : في القطع

التنبيه على امور................................................................ ٣٧

مبحث التجرّي................................................................. ٣٧

القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة............................................... ٥١

قطع القطّاع.................................................................... ٦٥

العلم الإجمالي.................................................................. ٦٩

المقصد الثاني : في الظنّ

في إمكان التعبّد بالظنّ........................................................ ١٠٥

في وقوع التعبّد بالظنّ.......................................................... ١٢٥

حجّية ظواهر الكتاب......................................................... ١٣٩

حجّية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه................................... ١٦٠

حجّية قول اللغوي............................................................ ١٧٣


حجّية الإجماع المنقول.......................................................... ١٧٩

حجّية الشهرة الفتوائيّة......................................................... ٢٣١

حجّية الخبر الواحد............................................................ ٢٣٧

حجّية مطلق الظنّ............................................................ ٣٦٧

دليل الانسداد................................................................ ٣٨٤

الظنّ في اصول الدين.......................................................... ٥٥٣

كون الظنّ جابرا أو موهنا أو مرجّحا............................................. ٥٨٥


فهرس المحتوى

المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي............................................... ٢٥

الاصول العمليّة الأربعة ومجاريها................................................... ٢٥

تقرير آخر لمجاري الاصول العمليّة................................................. ٢٦

مقاصد الكتاب................................................................ ٢٦

المقصد الأوّل : في القطع

وجوب متابعة القطع............................................................ ٢٩

إطلاق الحجّة على القطع والمراد منه............................................... ٢٩

انقسام القطع إلى طريقي وموضوعي............................................... ٣٠

خواصّ القسمين :.............................................................. ٣١

١ ـ عدم جواز النهي عن العمل في الطريقي وجوازه في الموضوعي....................... ٣١

القطع الموضوعي تابع في اعتباره لدليل الحكم....................................... ٣١

أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر مطلقا............................................... ٣٢

أمثلة للقطع الموضوعي المعتبر على وجه خاص...................................... ٣٢


أمثلة للقطع الموضوعي بالنسبة إلى حكم غير القاطع................................ ٣٣

٢ ـ قيام الأمارات وبعض الاصول مقام القطع الطريقي والموضوعي الطريقي.............. ٣٣

عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي.......................................... ٣٤

انقسام الظنّ ـ كالقطع ـ إلى طريقي وموضوعي...................................... ٣٥

التنبيه على امور :

الأوّل : الكلام في التجرّي وأنّه حرام أم لا؟........................................ ٣٧

هل القطع حجّة مطلقا أو في خصوص صورة مصادفته للواقع؟........................ ٣٧

الاستدلال على حرمة التجرّي بالإجماع............................................ ٣٧

تأييد الحرمة ببناء العقلاء......................................................... ٣٨

الاستدلال على الحرمة بالدليل العقلي............................................. ٣٨

المناقشة في الإجماع.............................................................. ٣٩

المناقشة في بناء العقلاء.......................................................... ٣٩

المناقشة في الدليل العقلي........................................................ ٤٠

تفصيل صاحب الفصول في التجرّي............................................... ٤١

المناقشة في تفصيل صاحب الفصول............................................... ٤٣

عدم الإشكال في القبح الفاعلي.................................................. ٤٥

الإشكال في القبح الفعلي........................................................ ٤٥

دلالة الأخبار الكثيرة على العفو عن التجرّي بمجرّد القصد إلى المعصية................. ٤٦

دلالة بعض الأخبار على العقاب في القصد........................................ ٤٦


الجمع بين أخبار العفو والعقاب................................................... ٤٨

أقسام التجرّي.................................................................. ٤٨

ما أفاده الشهيد حول بعض الأقسام المذكورة....................................... ٤٩

الثاني : عدم حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة عند الأخباريّين................ ٥١

مناقشة الأخباريّين.............................................................. ٥١

كلام المحدّث الأسترابادي في المسألة.............................................. ٥٢

كلام جماعة من الأخباريّين في المسألة............................................. ٥٤

نظريّة المصنّف في المسألة........................................................ ٥٧

تفسير الأخبار الدالّة على مدخليّة تبليغ الحجّة...................................... ٦٠

عدم جواز الركون إلى العقل فيما يتعلّق بمناطات الأحكام............................. ٦٢

ترك الخوض في المطالب العقليّة فيما يتعلّق باصول الدين.............................. ٦٤

الثالث : المشهور عدم اعتبار قطع القطّاع.......................................... ٦٥

كلام كاشف الغطاء في المسألة................................................... ٦٥

مناقشة ما أفاده كاشف الغطاء................................................... ٦٥

توجيه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع............................................. ٦٧

مناقشة التوجيه المذكور.......................................................... ٦٧

الرابع : الكلام في اعتبار العلم الإجمالي ، وفيه مقامان :............................. ٦٩

المقام الثاني : هل يكفي العلم الإجمالي في الامتثال؟................................. ٧١

الامتثال الإجمالي في العبادات..................................................... ٧١

لو توقّف الاحتياط على تكرار العبادة............................................. ٧٢

لو لم يتوقّف الاحتياط على التكرار............................................... ٧٢


هل يقدّم الظنّ التفصيلي المعتبر على العلم الإجمالي؟................................. ٧٣

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بدليل الانسداد....................................... ٧٣

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص........................................... ٧٤

المقام الأوّل : هل تحرم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟.............................. ٧٧

صور العلم الإجمالي............................................................. ٧٧

العلم الإجمالي الطريقي والموضوعي................................................. ٧٨

إذا تولّد من العلم الإجمالي علم تفصيلي بالحكم الشرعي............................. ٧٩

عدم الفرق بين هذا العلم التفصيلي وغيره من العلوم التفصيليّة........................ ٧٩

الموارد التي توهم خلاف ذلك.................................................... ٧٩

الجواب عن الموارد المذكورة........................................................ ٨٢

أقسام مخالفة العلم الإجمالي...................................................... ٨٢

جواز المخالفة الالتزاميّة للعلم الإجمالي............................................. ٨٤

المخالفة الالتزاميّة ليست مخالفة................................................... ٨٧

دليل الجواز بوجه أخصر......................................................... ٨٧

المخالفة العمليّة للعلم الإجمالي.................................................... ٩٣

لو كانت المخالفة لخطاب تفصيلي................................................ ٩٣

لو كانت المخالفة لخطاب مردّد ، ففيها وجوه....................................... ٩٤

الأقوى عدم الجواز مطلقا........................................................ ٩٦

الاشتباه من حيث شخص المكلّف................................................ ٩٦

لو تردّد التكليف بين شخصين................................................... ٩٦

لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه خطاب إليه.................................. ٩٦

بعض فروع المسألة.............................................................. ٩٧


أحكام الخنثى.................................................................. ٩٨

معاملتها مع الغير............................................................... ٩٩

حكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكل من الفريقين........................... ١٠٠

معاملة الغير معها............................................................. ١٠١

المقصد الثاني : في الظنّ

وفيه مقامان

المقام الأوّل : في إمكان التعبّد بالظنّ وعدمه...................................... ١٠٥

أدلّة ابن قبة على الامتناع...................................................... ١٠٥

استدلال المشهور على الإمكان................................................. ١٠٦

الأولى في وجه الاستدلال....................................................... ١٠٦

المناقشة في أدلّة ابن قبة........................................................ ١٠٦

التعبّد بالخبر على وجهين : الطريقيّة والسببيّة...................................... ١٠٨

عدم الامتناع بناء على الطريقيّة................................................. ١٠٩

عدم الامتناع بناء على السببيّة.................................................. ١١٠

التعبّد بالأمارات غير العلميّة على وجهين :....................................... ١١٢

١ ـ مسلك الطريقيّة........................................................... ١١٢

٢ ـ مسلك السببيّة............................................................ ١١٢

وجوه الطريقيّة................................................................. ١١٢

وجوه السببيّة :............................................................... ١١٣

١ ـ كون الحكم مطلقا تابعا للأمارة.............................................. ١١٣


٢ ـ كون الحكم الفعلي تابعا للأمارة.............................................. ١١٤

الفرق بين هذين الوجهين...................................................... ١١٤

٣ ـ المصلحة السلوكيّة.......................................................... ١١٤

الفرق بين الوجهين الأخيرين.................................................... ١١٥

معنى وجوب العمل على طبق الأمارة............................................. ١١٧

إشكال الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري....................................... ١٢١

جواب الإشكال.............................................................. ١٢٢

حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة........................................... ١٢٢

القول بوجوب التعبّد بالأمارة والمناقشة فيه........................................ ١٢٣

المقام الثاني : في وقوع التعبّد بالظنّ.............................................. ١٢٥

أصالة حرمة العمل بالظنّ للأدلّة الأربعة.......................................... ١٢٥

تقرير هذا الأصل بوجوه أخر والمناقشة فيها....................................... ١٢٧

للحرمة في العمل بالظنّ جهتان................................................. ١٣١

الإشارة إلى هاتين الجهتين في الكتاب والسنّة...................................... ١٣٢

الاستدلال على أصالة الحرمة بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ...................... ١٣٣

موضوع هذه الرسالة هي الظنون المعتبرة الخارجة عن الأصل المتقدّم................... ١٣٤

الأمارات المستعملة في استنباط الأحكام من ألفاظ الكتاب والسنّة ، وهي على قسمين : ١٣٥

القسم الأوّل : ما يستعمل لتشخيص مراد المتكلّم الخلاف في موضعين :............. ١٣٧


١ ـ حجّية ظواهر الكتاب

عدم حجّية ظواهر الكتاب عند جماعة من الأخباريين.............................. ١٣٩

الاستدلال على ذلك بالأخبار.................................................. ١٣٩

الجواب عن الاستدلال بالأخبار................................................. ١٤٢

المراد من «التفسير بالرأي»..................................................... ١٤٢

الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بظاهر القرآن.................................. ١٤٤

الدليل الثاني على عدم حجّية ظواهر الكتاب والجواب عنه.......................... ١٤٩

توهّم عدم الثمرة في الخلاف في حجّية ظواهر الكتاب.............................. ١٥٥

الجواب عن التوهّم المذكور...................................................... ١٥٥

لو اختلفت القراءة في الكتاب.................................................. ١٥٧

وقوع التحريف في القرآن لا يمنع من التمسّك بالظواهر............................. ١٥٨

توهّم ودفع................................................................... ١٥٨

٢ ـ حجّية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه تفصيل صاحب القوانين بين من قصد إفهامه وغيره        ١٦٠

توجيه هذا التفصيل........................................................... ١٦٠

المناقشة في التفصيل المذكور.................................................... ١٦٣

احتمال التفصيل المتقدّم في كلام صاحب المعالم................................... ١٦٨

عدم الفرق في حجّية الظواهر بين ما يفيد الظنّ بالمراد وغيره نظريّة المحقّق الكلباسي والمناقشة فيها     ١٧٠


تفصيل صاحب هداية المسترشدين والمناقشة فيه................................... ١٧٠

تفصيل السيّد المجاهد في المسألة................................................. ١٧١

المناقشة في هذا التفصيل....................................................... ١٧٢

القسم الثاني : ما يستعمل لتشخيص الظواهر حجّية قول اللغوي هل قول اللغويين حجّة في الأوضاع اللغويّة ، أم لا؟   ١٧٣

الاستدلال على الحجيّة بإجماع العلماء والعقلاء.................................... ١٧٤

المناقشة في الإجماع............................................................ ١٧٤

مختار المصنّف في المسألة....................................................... ١٧٥

حجّية الإجماع المنقول هل الإجماع المنقول حجّة ، أم لا؟........................... ١٧٩

الكلام في الملازمة بين حجّية الخبر الواحد وحجّية الإجماع المنقول.................... ١٧٩

عدم حجّية الإخبار عن حدس.................................................. ١٨٠

الاستدلال بآية النبأ على حجّية الإجماع المنقول................................... ١٨٠

عدم عموميّة آية «النبأ» لكلّ خبر.............................................. ١٨٣

الإجماع في مصطلح الخاصّة والعامّة.............................................. ١٨٤

وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة................................................ ١٨٥

المسامحة في إطلاق الإجماع..................................................... ١٨٧

مسامحة اخرى في إطلاق الإجماع................................................ ١٨٩

لا ضير في المسامحتين.......................................................... ١٨٩


أنحاء حكاية الإجماع........................................................... ١٩١

مستند العلم بقول الإمام عليه‌السلام أحد امور :.................................. ١٩٢

١ ـ الحسّ.................................................................... ١٩٢

٢ ـ قاعدة اللطف............................................................. ١٩٢

عدم صحّة الاستناد إلى اللطف................................................. ١٩٣

ظهور الاستناد إلى قاعدة اللطف من كلام جماعة.................................. ١٩٦

٣ ـ الحدس................................................................... ١٩٧

لا يصلح للاستناد إلاّ الحدس................................................... ١٩٨

محامل دعوى إجماع الكلّ :..................................................... ٢٠٢

١ ـ أن يراد اتّفاق المعروفين..................................................... ٢٠٢

٢ ـ أن يستفاد إجماع الكلّ من اتّفاق المعروفين.................................... ٢٠٢

٣ ـ أن يستفاد إجماع الكلّ من اتّفاقهم على أمر من الامور......................... ٢٠٣

ذكر موارد تدلّ على الوجه الأخير............................................... ٢٠٤

حاصل الكلام في المسألة....................................................... ٢١٢

فائدة نقل الإجماع............................................................. ٢١٤

لو حصل من نقل الإجماع وما انضمّ إليه القطع بالحكم............................ ٢١٥

لو حصل من نقل الإجماع القطع بوجود دليل ظنيّ معتبر............................ ٢١٧

كلام المحقّق التستري في فائدة نقل الإجماع....................................... ٢١٨

الفائدة المذكورة لنقل الإجماع بحكم المعدومة....................................... ٢٢٤

استلزام الإجماع قول الإمام عليه‌السلام أو الدليل المعتبر إذا انضمّ إلى أمارات أخر...... ٢٢٥


حكم المتواتر المنقول........................................................... ٢٢٦

معنى قبول نقل التواتر.......................................................... ٢٢٧

الكلام في تواتر القراءات....................................................... ٢٢٨

حجّية الشهرة الفتوائيّة

هل الشهرة الفتوائيّة حجّة ، أم لا؟.............................................. ٢٣١

منشأ توهّم الحجّية :.......................................................... ٢٣١

١ ـ الاستدلال بمفهوم الموافقة................................................... ٢٣١

المناقشة في هذا الاستدلال..................................................... ٢٣٢

٢ ـ الاستدلال بمرفوعة زرارة ومقبولة ابن حنظلة................................... ٢٣٢

الجواب عن الاستدلال بالمرفوعة................................................. ٢٣٤

الجواب عن الاستدلال بالمقبولة................................................. ٢٣٥

حجّية الخبر الواحد

إثبات الحكم الشرعي بالأخبار يتوقّف على مقدّمات.............................. ٢٣٧

الخلاف في الأخبار المدوّنة في مقامين :.......................................... ٢٣٩

١ ـ هل هي مقطوعة الصدور ، أم لا؟........................................... ٢٣٩

٢ ـ هل هي معتبرة بالخصوص ، أم لا؟.......................................... ٢٣٩

ما هو المعتبر منها؟............................................................ ٢٤٠

أدلّة المانعين من الحجّية :...................................................... ٢٤٢

١ ـ الاستدلال بالآيات........................................................ ٢٤٢

٢ ـ الاستدلال بالأخبار........................................................ ٢٤٢


وجه الاستدلال بالأخبار....................................................... ٢٤٥

٣ ـ الاستدلال بالإجماع........................................................ ٢٤٦

الجواب عن الاستدلال بالآيات................................................. ٢٤٦

الجواب عن الاستدلال بالأخبار................................................. ٢٤٦

الجواب عن الاستدلال بالإجماع................................................. ٢٥٢

أدلّة القائلين بالحجيّة :........................................................ ٢٥٤

الاستدلال بالكتاب :......................................................... ٢٥٤

الآية الاولى : آية «النبأ»...................................................... ٢٥٤

الاستدلال بها من طريقين :.................................................... ٢٥٤

أ ـ من طريق مفهوم الشرط..................................................... ٢٥٤

ب ـ من طريق مفهوم الوصف................................................... ٢٥٤

ما اورد على الاستدلال بالآية بما لا يمكن دفعه................................... ٢٥٦

١ ـ عدم اعتبار مفهوم الوصف................................................. ٢٥٦

عدم اعتبار مفهوم الشرط في الآية لأنّه سالبة بانتفاء الموضوع....................... ٢٥٧

٢ ـ تعارض المفهوم والتعليل..................................................... ٢٥٨

ما اجيب به عن إيراد تعارض المفهوم والتعليل..................................... ٢٦١

المناقشة في هذا الجواب........................................................ ٢٦١

الأولى في التخلّص عن هذا الإيراد............................................... ٢٦٢

الإيرادات القابلة للدفع :....................................................... ٢٦٢

١ ـ تعارض مفهوم الآية للآيات الناهية عن العمل بغير العلم........................ ٢٦٢

الجواب عن هذا الإيراد......................................................... ٢٦٢

٢ ـ شمول الآية لخبر السيّد المرتضى ، والجواب عنه................................. ٢٦٤


٣ ـ عدم شمول الآية للأخبار مع الواسطة......................................... ٢٦٥

الجواب عن هذا الإيراد......................................................... ٢٦٦

إشكال تقدّم الحكم على الموضوع............................................... ٢٦٧

الجواب عن الإشكال.......................................................... ٢٦٨

٤ ـ عدم إمكان العمل بمفهوم الآية في الأحكام الشرعيّة............................ ٢٧٠

الجواب عن هذا الإيراد......................................................... ٢٧٠

٥ ـ عدم العمل بمفهوم الآية في مورده ، والجواب عنه............................... ٢٧١

٦ ـ مفهوم الآية لا يستلزم العمل والجواب عنه..................................... ٢٧٢

٧ ـ كون المسألة اصوليّة وجوابه.................................................. ٢٧٢

٨ ـ انحصار مفهوم الآية في المعصوم عليه‌السلام ومن دونه.......................... ٢٧٣

الجواب عن هذا الإيراد......................................................... ٢٧٣

الاستدلال بمنطوق الآية على حجيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه......... ٢٧٤

المناقشة في الاستدلال المذكور................................................... ٢٧٥

الآية الثانية : آية «النفر»...................................................... ٢٧٧

وجه الاستدلال بها............................................................ ٢٧٧

ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار............................................ ٢٧٩

الأخبار التي استشهد فيها الإمام عليه‌السلام بآية «النفر» على وجوب التفقّه......... ٢٧٩

المناقشة في الاستدلال بهذه الآية من وجوه........................................ ٢٨٢

الأولى الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد والتقليد............................. ٢٨٦

الآية الثالثة : آية «الكتمان»................................................... ٢٨٧

وجه الاستدلال بها............................................................ ٢٨٧


المناقشة في الاستدلال......................................................... ٢٨٧

الآية الرابعة : آية «السؤال من أهل الذكر»...................................... ٢٨٨

وجه الاستدلال بها............................................................ ٢٨٨

المناقشة في الاستدلال......................................................... ٢٨٩

من هم أهل الذكر؟........................................................... ٢٨٩

استدلال جماعة بالآية على وجوب التقليد........................................ ٢٩٠

الآية الخامسة : آية «الاذن»................................................... ٢٩١

وجه الاستدلال بها............................................................ ٢٩١

تأييد الاستدلال ، بالرواية الواردة في حكاية إسماعيل............................... ٢٩١

المناقشة في الاستدلال......................................................... ٢٩٢

المراد من «الاذن»............................................................ ٢٩٢

المراد من «تصديق المؤمنين».................................................... ٢٩٢

توجيه رواية إسماعيل........................................................... ٢٩٤

مدلول الآيات المستدلّ بها على حجيّة الخبر الواحد................................ ٢٩٦

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بطوائف من الأخبار :.......................... ٢٩٧

١ ـ ما ورد في الخبرين المتعارضين................................................. ٢٩٧

٢ ـ ما دلّ على إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد الأصحاب............................. ٢٩٩

٣ ـ ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء.......................... ٣٠١

٤ ـ ما يظهر منها جواز العمل بالخبر الواحد....................................... ٣٠٧

القدر المتيقّن من الأخبار اعتبار الوثاقة........................................... ٣٠٩

عدم اعتبار العدالة............................................................ ٣٠٩

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بالإجماع من وجوه :............................ ٣١١

١ ـ الإجماع في مقابل السيّد وأتباعه وتحصيله بطريقين :............................ ٣١١


أ ـ تتبّع أقوال العلماء.......................................................... ٣١١

ب ـ تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّية......................................... ٣١١

دعوى الشيخ الطوسي الإجماع على حجيّة الخبر الواحد............................ ٣١٢

التدافع بين دعوى السيّد والشيخ قدس‌سرهما...................................... ٣٢٨

الجمع بين دعوى السيّد والشيخ قدس‌سرهما....................................... ٣٣٠

عدم صحّة هذا الجمع......................................................... ٣٣٠

الجمع بوجه آخر.............................................................. ٣٣١

اعتراف السيّد بعمل الطائفة بأخبار الآحاد....................................... ٣٣٤

القرائن على صدق الإجماع المدّعى من الشيخ..................................... ٣٣٦

ذهاب معظم الأصحاب إلى حجيّة الخبر الواحد................................... ٣٤٠

القدر المتيقّن هو الخبر المفيد للاطمئنان........................................... ٣٤١

٢ ـ الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على العمل بخبر الواحد......................... ٣٤٢

٣ ـ استقرار سيرة المسلمين على العمل بخبر الواحد................................. ٣٤٣

٤ ـ استقرار طريقة العقلاء على العمل بخبر الواحد................................. ٣٤٥

٥ ـ إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد....................................... ٣٤٧

التأمّل في هذا الوجه........................................................... ٣٤٧

٦ ـ دعوى إجماع الإماميّة على وجوب الرجوع إلى الأخبار المدوّنة.................... ٣٤٨

المناقشة في هذا الوجه أيضا..................................................... ٣٤٩

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بالعقل من وجوه :............................. ٣٥١

الوجه الأوّل : العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام................. ٣٥١

شدّة اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار........................................... ٣٥٢


الداعي إلى هذا الاهتمام....................................................... ٣٥٤

دسّ الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام.............................. ٣٥٥

المناقشة في الوجه الأوّل........................................................ ٣٥٧

الوجه الثاني : ما ذكره الفاضل التوني............................................. ٣٦١

المناقشة فيما أفاده الفاضل التوني................................................ ٣٦١

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب هداية المسترشدين................................ ٣٦٣

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية............................................... ٣٦٣

حاصل الكلام في أدلّة حجيّة الخبر الواحد........................................ ٣٦٦

الدليل العقلي على حجيّة مطلق الظنّ من وجوه أيضا :

الوجه الأوّل : وجوب دفع الضرر المظنون

جواب الحاجبيّ عن هذا الوجه ، والمناقشة فيه..................................... ٣٦٨

جواب آخر عن هذا الوجه ، والمناقشة فيه أيضا................................... ٣٧٠

جواب ثالث عن هذا الوجه.................................................... ٣٧١

ما اجيب به عن هذا الجواب................................................... ٣٧١

عدم صحّة ما اجيب.......................................................... ٣٧١

الأولى في المناقشة في الجواب الثالث.............................................. ٣٧٣

الأولى في الجواب عن الوجه الأوّل............................................... ٣٧٣

مفاد هذا الدليل.............................................................. ٣٧٩

الوجه الثاني : قبح ترجيح المرجوح

ما اجيب عن هذا الوجه ومناقشته............................................... ٣٨٠


ما اجيب عن هذا الوجه أيضا ومناقشته.......................................... ٣٨٠

الأولى في الجواب عن هذا الوجه................................................. ٣٨١

الوجه الثالث : ما حكي عن صاحب الرياض قدس‌سره :

المناقشة في هذا الوجه.......................................................... ٣٨٢

الوجه الرابع : دليل الانسداد

مقدّمات دليل الانسداد :...................................................... ٣٨٤

المقدّمة الاولى : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ.................................. ٣٨٦

تسليم أو منع هذه المقدّمة...................................................... ٣٨٦

المقدّمة الثانية : عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة والدليل عليه من وجوه :............. ٣٨٨

١ ـ الإجماع القطعي........................................................... ٣٨٨

٢ ـ لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة................................................ ٣٨٨

الإشارة إلى هذا الوجه في كلام جماعة............................................ ٣٩٠

٣ ـ العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات...................................... ٣٩٦

المقدّمة الثالثة : بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل................ ٤٠٣

عدم وجوب الاحتياط لوجهين :................................................ ٤٠٣

١ ـ الإجماع القطعي........................................................... ٤٠٣

٢ ـ لزوم العسر والحرج......................................................... ٤٠٤

تعليم وتعلّم موارد الاحتياط حرج أيضا........................................... ٤٠٤


مع عدم إمكان الاحتياط لا مناص عن العمل بالظنّ.............................. ٤٠٦

الإيراد على لزوم الحرج بوجوه :................................................. ٤٠٦

الإيراد الأوّل................................................................. ٤٠٦

جواب الإيراد................................................................. ٤٠٧

حكومة أدلّة نفي الحرج على العمومات المثبتة للتكليف............................ ٤٠٨

الإيراد الثاني على لزوم الحرج وجوابه............................................. ٤١٢

الإيراد الثالث على لزوم الحرج.................................................. ٤١٢

جواب الإيراد الثالث.......................................................... ٤١٤

الردّ على الاحتياط بوجوه أخر :................................................ ٤١٥

الوجه الأوّل والمناقشة فيه....................................................... ٤١٥

الوجه الثاني.................................................................. ٤١٦

المناقشة في هذا الوجه.......................................................... ٤١٧

مقتضى نفي الاحتياط عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة فقط................. ٤٢١

دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا..................... ٤٢٣

الإشكال في هذه الدعوى...................................................... ٤٢٣

إشكال آخر في المقام.......................................................... ٤٢٧

بطلان الرجوع في كلّ واقعة إلى ما يقتضيه الأصل................................. ٤٢٨

بطلان الرجوع إلى فتوى العالم وتقليده........................................... ٤٢٨

المقدّمة الرابعة : تعيّن العمل بمطلق الظنّ.......................................... ٤٣١

مراتب امتثال الحكم الشرعي................................................... ٤٣٢

ترتّب هذه المراتب............................................................. ٤٣٢


الامتثال الظنّي بعد تعذّر العلمي لا يحتاج إلى جعل جاعل.......................... ٤٣٣

الأخذ بالمرجوح وطرح الراجح قبيح مطلقا......................................... ٤٣٤

التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : عدم الفرق في الامتثال الظنّي بين الظنّ بالحكم الواقعي أو الظاهري...... ٤٣٧

المخالف للتعميم فريقان........................................................ ٤٣٧

أدلّة القائلين باعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة دون الفرعيّة :....................... ٤٣٨

١ ـ ما ذكره صاحب الفصول................................................... ٤٣٨

المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول............................................. ٤٣٩

٢ ـ ما ذكره صاحب هداية المسترشدين.......................................... ٤٥٤

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية............................................... ٤٥٧

القول باعتبار الظنّ في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة............................... ٤٦٠

ما ذكره صاحب ضوابط الاصول................................................ ٤٦١

المناقشة فيما أفاده صاحب ضوابط الاصول...................................... ٤٦١

الأمر الثاني : الكلام في مقامات :.............................................. ٤٦٣

المقام الأوّل : هل أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة؟........................ ٤٦٤

تقرير دليل الانسداد بوجهين :.................................................. ٤٦٥

١ ـ على وجه الكشف......................................................... ٤٦٥

٢ ـ على وجه الحكومة......................................................... ٤٦٦

التعميم من حيث الموارد مشترك بين التقريرين..................................... ٤٦٧

لازم الحكومة التعميم من حيث الأسباب دون المراتب.............................. ٤٦٧


لازم الكشف الإهمال من حيث الأسباب والمراتب................................. ٤٦٨

الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو الحكومة من وجوه................................ ٤٦٨

المقام الثاني : في أنّه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب المرتّبة ، أم لا؟   ٤٧١

طرق التعميم على الكشف.................................................... ٤٧١

الطريق الأوّل : عدم المرجّح..................................................... ٤٧١

ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا :............................................ ٤٧٢

١ ـ كون بعض الظنون متيقّنا بالنسبة إلى الباقي................................... ٤٧٢

٢ ـ كون بعض الظنون أقوى.................................................... ٤٧٢

٣ ـ كون بعض الظنون مظنون الحجّية............................................ ٤٧٢

المناقشة في المرجّحات المذكورة :................................................. ٤٧٤

١ ـ تيقّن البعض لا ينفع....................................................... ٤٧٤

٢ ـ أقوائيّة البعض لا يمكن ضبطه............................................... ٤٧٥

٣ ـ الظنّ بحجيّة البعض ليست له ضابطة كليّة أيضا............................... ٤٧٦

عدم اعتبار مطلق الظنّ في تعيين القضية المهملة................................... ٤٧٧

عدم صحّة تعيين بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه..................... ٤٨٦

صحّة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ في مواضع................................. ٤٨٨

وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن بناء على الكشف............................. ٤٩٠

لو لم يكن القدر المتيقّن كافيا................................................... ٤٩١

الطريق الثاني للتعميم : عدم كفاية الظنون المعتبرة.................................. ٤٩٣

المناقشة في هذه الطريقة........................................................ ٤٩٥

الطريق الثالث للتعميم : قاعدة الاشتغال......................................... ٤٩٧


المناقشة في هذه الطريقة أيضا................................................... ٤٩٧

وجوب الاقتصار على الظنّ الاطمئناني بناء على الحكومة........................... ٥٠٢

النتيجة بناء على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط............................... ٥٠٣

الفرق بين العمل بالظنّ بعنوان التبعيض في الاحتياط أو بعنوان الحجيّة................ ٥٠٥

عدم الفرق في الظنّ الاطميناني بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالطريق................... ٥٠٨

الإشكال في العمل بما يقتضيه الأصل في المشكوكات............................... ٥٠٨

الإشكال في الاصول اللفظيّة أيضا.............................................. ٥١٠

المقام الثالث : عدم الإشكال في خروج الظنّ القياسي على الكشف................. ٥١٦

توجّه الإشكال على الحكومة................................................... ٥١٦

الإشكال في مقامين :......................................................... ٥١٧

المقام الأوّل : في خروج الظنّ القياسي عن حجيّة مطلق الظنّ....................... ٥١٧

ما قيل في توجيه خروج القياس :................................................ ٥١٧

١ ـ منع حرمة العمل بالقياس في زمان الانسداد................................... ٥١٨

المناقشة في هذا الوجه.......................................................... ٥٢٠

٢ ـ منع إفادة القياس للظنّ والمناقشة فيه.......................................... ٥٢١

٣ ـ إنّ باب العلم في القياس مفتوح والمناقشة فيه.................................. ٥٢٢

٤ ـ عدم حجيّة مطلق الظنّ النفس الأمري........................................ ٥٢٣

المناقشة في هذا الوجه.......................................................... ٥٢٥

٥ ـ عدم حجيّة الظنّ الذي قام على حجيّته دليل................................. ٥٢٥

المناقشة في هذا الوجه.......................................................... ٥٢٦

٦ ـ ما اخترناه سابقا........................................................... ٥٢٨


عدم تماميّة هذا الوجه أيضا..................................................... ٥٢٩

٧ ـ مختار المصنّف في التوجيه................................................... ٥٢٩

المقام الثاني : فيما إذا قام ظنّ على حرمة العمل ببعض الظنون...................... ٥٣٢

هل يجب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط؟................ ٥٣٢

القول بوجوب طرح الظنّ الممنوع والاستدلال عليه................................. ٥٣٣

المناقشة في هذا الاستدلال..................................................... ٥٣٤

مختار المصنّف في المسألة....................................................... ٥٣٦

الأمر الثالث : لو حصل الظنّ بالحكم من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل................ ٥٣٧

الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين.............................................. ٥٣٧

الظاهر حجيّة هذه الظنون..................................................... ٥٣٨

لو حصل الظنّ بالحكم من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجي........................ ٥٣٩

حجيّة الظنون الرجاليّة......................................................... ٥٣٩

ملخّص الكلام في هذا التنبيه................................................... ٥٤٠

حجيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة................................................ ٥٤١

أدلّة القائلين بعدم الحجّية :.................................................... ٥٤١

١ ـ أصالة حرمة العمل بالظنّ................................................... ٥٤١

٢ ـ ما اشتهر : من عدم حجيّة الظنّ في مسائل اصول الفقه........................ ٥٤٦

الجواب عن الدليل الأوّل....................................................... ٥٤٦

الجواب عن الدليل الثاني....................................................... ٥٤٧

الأمر الرابع : عدم كفاية الظنّ بالامتثال في مقام التطبيق........................... ٥٤٩


عدم حجيّة الظنّ في الامور الخارجيّة............................................. ٥٥٠

حجّية الظنّ في بعض الامور الخارجيّة كالضرر والنسب وشبههما.................... ٥٥١

الأمر الخامس : هل يعتبر الظنّ في اصول الدين؟.................................. ٥٥٣

الأقوال في المسألة............................................................. ٥٥٣

مسائل اصول الدين على قسمين :.............................................. ٥٥٥

١ ـ ما يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم به....................................... ٥٥٦

لو حصل الظنّ من الخبر....................................................... ٥٥٧

العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اصول الدين................................ ٥٥٨

تمييز ما يجب تحصيل العلم به عمّا لا يجب....................................... ٥٥٩

هل تجب معرفة التفاصيل؟..................................................... ٥٥٩

عدم اعتبار معرفة التفاصيل في الإسلام والإيمان للأخبار الكثيرة..................... ٥٦١

ما يكفي في معرفة الله تعالى.................................................... ٥٦٥

المراد من «المعرفة»............................................................ ٥٦٥

ما يكفي في معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله................................................... ٥٦٥

ما يكفي في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام................................................. ٥٦٧

ما يكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله...................................... ٥٦٧

ما يعتبر في الإيمان............................................................. ٥٦٨

٢ ـ ما يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد......................................... ٥٦٩

القادر على تحصيل العلم في الاعتقاديّات........................................ ٥٦٩

وجوب تحصيل العلم وعدم جواز الاقتصار على الظنّ في الاعتقاديّات................ ٥٦٩

الاستدلال علي ذلك.......................................................... ٥٧٠


الحكم بعدم الإيمان لو اقتصر على الظنّ والدليل عليه.............................. ٥٧٠

هل يحكم بالكفر مع الظنّ بالحق؟.............................................. ٥٧٠

حكم الشاكّ غير الجاحد من حيث الإيمان والكفر................................. ٥٧١

هل يكفي حصول الجزم من التقليد أو لا بدّ من النظر والاستدلال؟................. ٥٧٢

الأقوى : كفاية الجزم الحاصل من التقليد في الاعتقاديّات........................... ٥٧٤

العاجز عن تحصيل العلم في الاعتقاديّات......................................... ٥٧٥

هل يوجد العاجز في الاعتقاديّات؟.............................................. ٥٧٥

شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين........................................... ٥٧٦

هل يجب تحصيل الظنّ على العاجز؟............................................ ٥٧٦

حكم العاجز من حيث الإيمان والكفر........................................... ٥٧٧

كلام السيّد الصدر في أقسام المقلّد في اصول الدين وبعض المناقشات فيه............ ٥٧٨

كلام الشيخ الطوسي في العدّة في وجوب النظر مع العفو........................... ٥٨١

المناقشة فيما أفاده الشيخ الطوسي.............................................. ٥٨٣

رأي المصنّف في المسألة........................................................ ٥٨٤

الأمر السادس : بناء على عدم حجيّة الظنّ فهل له آثار أخر غير الحجيّة؟........... ٥٨٥

هل يكون الظنّ غير المعتبر جابرا؟............................................... ٥٨٦

الكلام في جبر قصور السند.................................................... ٥٨٦

الكلام في جبر قصور الدلالة................................................... ٥٨٦

الكلام فيما اشتهر : من كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر............. ٥٨٧


هل يكون الظنّ غير المعتبر موهنا؟............................................... ٥٩١

الكلام في الظنّ الذي علم عدم اعتباره........................................... ٥٩١

الكلام في الظنّ الذي لم يثبت اعتباره............................................ ٥٩٦

هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجّحا؟............................................. ٥٩٧

الكلام في الظنّ الذي ورد النهي عنه بالخصوص................................... ٥٩٧

كلام المحقّق في الترجيح بالقياس................................................. ٥٩٧

الحقّ عدم الترجيح............................................................. ٥٩٨

الكلام في الظنّ غير المعتبر لأجل عدم الدليل في مقامات :......................... ٥٩٩

١ ـ الترجيح به في الدلالة...................................................... ٦٠٠

٢ ـ الترجيح به في وجه الصدور................................................. ٦٠٢

٣ ـ ترجيح السند بمطلق الظنّ................................................... ٦٠٣

مقتضى الأصل عدم الترجيح................................................... ٦٠٤

ظاهر معظم الاصوليين هو الترجيح.............................................. ٦٠٥

ما استدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ :............................................. ٦٠٦

١ ـ قاعدة الاشتغال........................................................... ٦٠٦

٢ ـ الإجماع على ذلك......................................................... ٦٠٨

٣ ـ ما يظهر من بعض الأخبار :................................................ ٦١٠

ما دعا أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين...................... ٦١٦

القول بوجوب الترجيح ودليله................................................... ٦١٦

القول بعدم وجوب الترجيح ودليله............................................... ٦١٦

مقتضى الاحتياط في المقام..................................................... ٦١٩

العناوين العامّة................................................................ ٦٢٣

فهرس المحتوى................................................................. ٦٢٥

فرائد الاصول - ١

المؤلف:
الصفحات: 648