

الواجب
النفسي والغيري
وينقسم الواجب إلى
النفسي والغيري.
وقد اختلف في
تعريفهما وبيان حقيقتهما :
تعريف الواجب النفسي
والغيري
فقد اشتهر تعريف
الواجب النفسي ب «ما أُمر به لأجل نفسه» والغيري ب «ما أُمر به لأجل غيره».
فأشكل عليه الشيخ
الأعظم : بأنّ هذا التعريف للواجب الغيري ينطبق على كلّ الواجبات الشرعية ، لكونها
مأموراً بها لأغراض تترتّب عليها ، لأنّ الأحكام تابعة للأغراض المولويّة.
تعريف
الشيخ الأعظم والكلام حوله :
ولهذا فقد غيَّر
الشيخ التعريف فقال : بأنّ الواجب النفسي هو ما وجب لا للتوصّل
إلى واجبٍ آخر ، والغيري ما وجب للتوصّل إلى واجب آخر ، أي : إن النفسي ما لم يكن
الداعي لإيجابه التوصّل إلى واجب آخر ، والغيري هو ما كان الداعي لإيجابه التوصّل
إلى واجب آخر.
توضيحه
: إنّ الإيجاب عمل
كسائر الأعمال الاختياريّة ، وكلّ عمل اختياري فلا يصدر إلاّ عن الداعي ، فإنْ كان
الداعي لإيجاب الشيء التوصّل به إلى
__________________
شيءٍ آخر ، فهو
الواجب الغيري ، وإنْ لم يكن ذلك هو الداعي لإيجابه فهو الواجب النفسي ، وهذا
الواجب منه ما يكون مطلوباً لذاته ، وهو معرفة الله ، فإنّها واجبة ومطلوبيتها
ذاتيّة ، ومنه ما يكون مطلوباً وليست مطلوبيّته للوصول إلى واجب آخر ، بل من أجل
حصول غرضٍ يترتّب عليه ، والعبادات أكثرها من هذا القبيل ، وكذا التوصّليات كلّها
... لأنّ الأغراض ليست بواجبات.
وأورد على الشيخ :
بأنّ المفروض كون وجوب الصلاة ـ مثلاً ـ ناشئاً من الغرض ، فهو الداعي لإيجابها ،
وحينئذٍ ، فلا بدّ وأنْ يكون الغرض الداعي لزوميّاً وإلاّ لم يصلح لأنْ يكون علّةً
لجعل الطلب الوجوبي ، وإذا كان لزوميّاً كانت الواجبات ـ غير معرفة الله ـ واجبةً
لواجبٍ آخر ، فيعود الإشكال.
وقد أُجيب عن
الإشكال : بأن الأغراض ليست بواجبة ، لكونها غير مقدورة للمكلّف ، وكلّ ما ليس
بمقدورٍ فلا يتعلّق به الوجوب.
واعترضه صاحب (الكفاية)
وتبعه السيّد الأُستاذ : بأنّها وإنْ كانت غير مقدورة ، إلاّ أنّها مقدورة
بالواسطة ، وهي الواجبات الناشئة عنها ، فلمّا كان الأمر الواجب مقدوراً للمكلّف
فالغرض الداعي لإيجابه مقدور ، ولا يعتبر في المقدوريّة أنْ تكون بلا واسطة ،
فالطهارة مقدورة على سببها وهو الوضوء ، والمكليّة مقدورة للقدرة على سببها وهو
العقد ، وكذلك العتق مثلاً وهو الإيقاع.
فقال
شيخنا : لكنّ هذا إنّما
يتمُّ في مورد الأسباب التوليديّة كما مثّل ، إذ لا يوجد فيها إلاّ واجب واحد ،
فلا يوجد أمرٌ بالطهارة وأمر آخر بالوضوء ، بل هو أمر بالطهارة ، وهو المحرّك
للعبد نحو السبب التوليدي لها وهو الوضوء مثلاً ، وللمستشكل على الشيخ بأن الأغراض
غير مقدورة أن يطرح الاشكال حيث
__________________
يتصوّر وجوبان ،
إذ الوجوب الغيري عنده ما وجب لواجبٍ آخر.
وأجاب المحقّق
الخراساني عن الإشكال : بأنّ من العناوين ما يكون حسناً في نفسه ، وإنْ أمكن كونه
مقدّمةً لأمر مطلوبٍ واقعاً ، ومنها ما لا يكون حسناً في نفسه وإنّما يكون وجوبه
لكونه مقدمةً لواجب نفسي وإن اتّصف بعنوانٍ حسن في نفسه. مثلاً : التأديب عنوان
متّصف بالحسن ، أمّا الضرب فلا يتّصف بنفسه بالحسن وإنّما يكون حسناً في حال وقوعه
مقدمةً للتأديب.
فكلّ ما كان من
قبيل الأوّل فهو واجب نفسي ، إذ قد لوحظ حسنه وقد أُمر به بالنظر إلى ذلك ، وما
كان من قبيل الثاني ، أي لم يكن له حسن في نفسه ، وإنّما تعلّق به الأمر من أجل
التوصّل به إلى أمرٍ حسن ، أو كان ذا حسن في نفسه لكنّه لم يكن الأمر به بالنظر
إلى ذلك ، فهو واجب غيري. فنصب السلّم ليس له حسن في نفسه ، وإنما يؤمر به من أجل
الصعود إلى السطح ـ المفروض حسنه ـ فهو واجب غيري ، بخلاف الوضوء ، فله جهة حسنٍ ،
لأنّ الله تعالى يقول (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ) والإمام عليهالسلام يقول : «الوضوء نور» . فإنْ تعلّق به الأمر بالنظر إلى هذه الجهة كان مطلوباً
نفسيّاً. أمّا إذا كان الأمر به لا بلحاظ ما ذكر بل بالنظر إلى شرطيّته للصّلاة
وأنّه «لا صلاة إلاّ بطهور» كان واجباً غيريّاً.
قال : ولعلّه مراد
من فسّرهما بما أُمر به لنفسه وما أُمر به لأجل غيره.
تعريف الكفاية والكلام حوله :
فكان تعريفه له :
إنّ الواجب النفسي : ما وجب لحسنه ، والواجب الغيري :
__________________
ما وجب للتوصّل
إلى ما هو حسن بنفسه .
وما ذهب إليه وإنْ
سلم من الإشكال الوارد على تعريف الشيخ ، ولكنْ قد أورد عليه بوجوه :
الأول : إنّ أكثر
الواجبات الشرعيّة غير متّصفة بالحسن العقلي حتّى يقال بأنّها قد وجبت لحسنها ،
فإن كان حسنها من أجل ترتّب المصلحة عليها ، عاد إشكال كونها غيريّةً لا نفسيّة.
فما ذكره ـ من أنّ الواجب النفسي ما وجب لحسنٍ في نفسه ـ غير صادقٍ على عمدة
الأحكام الشرعيّة.
والثاني : كلّ شيء
تعنون بعنوان ، فإمّا يكون عنواناً ذاتيّاً له ، وامّا يكون عنوان عرضيّاً له ،
لكنّ كلّ ما بالعرض فلا بدّ وأنْ ينتهي إلى ما بالذات ... وحينئذٍ نقول :
إنّ العنوان الحسن
بالذات عقلاً ليس إلاّ العدل ، كما أنّ العنوان القبيح بالذات عقلاً هو الظلم ،
ولذا لا يزول الحسن عن العدل أبداً كما لا ينفصل القبح عن الظلم أبداً ، بخلاف مثل
حسن الصّدق وقبح الكذب كما هو معلوم ، وعلى هذا ، فلا بدّ وأن ينتهي حسن الواجبات
الشرعيّة إلى «العدل» فينحصر الواجب الشرعي بهذا العنوان فقط ، ولا واجب آخر غيره
، وهذا ما لا يلتزم به صاحب الكفاية.
والثالث : إنّه
بناءً على ما ذكره من مقدوريّة الأغراض مع الواسطة ، يلزم أنْ يجتمع عنوان «النفسية»
وعنوان «الغيرية» في كلّ واجبٍ من الواجبات. أمّا الأوّل ، فلفرض وجود الحسن فيه.
وأمّا الثاني ، فلكونه مقدّمة لحصول الغرض منه ، فلم يتمحّض واجب من الواجبات
الشرعيّة في النفسيّة.
__________________
ولورود هذه
الإشكالات على تعريف المحقّق الخراساني ، سلك المحقّقون المتأخّرون طرقاً أُخرى
لدفع الإشكال الوارد على تعريف الشيخ.
طريق الميرزا
قال : إنّ الأغراض
المترتّبة على الواجبات تنقسم إلى ثلاثة أصناف :
١ ـ فمن الأغراض
ما يترتّب على الفعل الخارجي المأمور به من دون توسّط أمر بينهما ، سواء كان
اختياريّاً أو غير اختياري ، كما هو الحال في الأفعال التوليدية ، كالغسلات
والمسحات بالنسبة إلى الطهارة ، والعقد بالنسبة إلى الزوجيّة ، والإيقاع بالنسبة
إلى الطلاق مثلاً.
وفي هذا القسم من
الأغراض ، لا مانع من تعلّق التكليف بها ، لكونها مقدورةً بالقدرة على أسبابها.
٢ ـ ومنها ما
يترتّب على الفعل الخارجي المأمور به ، لكنْ بواسطة أمرٍ اختياري من المكلّف ،
كالصعود على السطح مثلاً ، وفي هذا القسم من الأغراض أيضاً لا مانع من تعلّق
التكليف بها ، لكونها مقدورةً كذلك.
٣ ـ ومنها ما
يترتّب على الفعل الخارجي المأمور به ، لكن بواسطة أمر غير اختياري ، بل تكون
النسبة بينهما نسبة المعدّ إلى المعدّ له ، كحصول الثمرة من الزرع ، المتوقّف على
أُمورٍ خارجة عن قدرة الزارع وإرادته.
فيقول الميرزا :
والواجبات الشّرعيّة بالنسبة إلى الأغراض الواقعيّة من هذا القبيل ، فالغرض من
الصّلاة هو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، وترتّبه عليها موقوف على أُمور بعضها
خارج عن قدرة المكلّف ... فالغرض غير مقدورٍ للعبد فلا يعقل تعلّق التكليف به.
فتلخّص
: إنّه صحيح أنّ
الواجبات الشرعيّة تابعة لمصالح لزوميّة ، لكنْ
ليس كلّ غرض لزومي
قابلاً لأن يتعلّق الوجوب به ، بل القابل لذلك هو الاختياري. فتعريف الشيخ صحيح لا
يرد عليه الإشكال.
إشكال المحاضرات
وأورد عليه في (المحاضرات)
: بأنّ ما أفاده إنّما يتمّ بالإضافة إلى الغرض الأقصى من
التكليف ، لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إليها من قبيل العلل المعدّة ، لفرض
كونها خارجةً عن اختيار المكلّف وقدرته ، كما في النهي عن الفحشاء الذي هو الغاية
القصوى من الصّلاة كما تقدّم. لكنّه لا يتم بالإضافة إلى الغرض القريب ، وهو
حيثيّة الإعداد للوصول إلى الغرض الأقصى ، حيث أنّه لا يتخلَّف عنها ، فيكون
ترتّبه عليها من ترتّب المعلول على العلّة التامّة والمسبّب على السبب. وبما أنّ
السبب مقدور للمكلّف فلا مانع من تعلّق التكليف بالمسبّب ، فيكون نظير الأمر بزرع
الحبّ في الأرض ، فإنّ الغرض الأقصى منه ـ وهو حصول الثمرة ـ وإنْ كان خارجاً عن
الاختيار ، إلاّ أنّ الغرض القريب ـ وهو إعداد الأرض للثمرة ـ مقدور بالقدرة على
سببه. هذا من ناحية. ومن ناحية أُخرى : بما أنّ هذا الغرض المترتّب على تلك
الأفعال ترتّب المسبّب على السبب لزومي على الفرض ، فبطبيعة الحال يتعيّن تعلّق
التكليف به ، لكونه مقدوراً من جهة القدرة على سببه. وعلى ذلك يبقى إشكال دخول
الواجبات النفسية في تعريف الواجب الغيري على حاله.
قال الأُستاذ
ويضاف إلى ما ذكر
ناحية أُخرى ، وهي إنّ الميرزا يرى أنّ المسبّب قابل لتعلّق الأمر كالسبب ، لأنّ
وزان الإرادة التشريعيّة عنده وزان الإرادة التكوينيّة ،
__________________
فكما تتعلّق
الإرادة في التكوينيّات بالمسبّب ومنها تتحقّق الإرادة بالنسبة إلى السبب ، فهما
إرادتان ، كذلك الحال في الإرادة التشريعيّة ، ويكون فيها إرادتان نفسيّة وغيرية.
فيتوجّه الإشكال
على الميرزا ، لأنّه صحيح أنّ ترتّب النهي عن الفحشاء على الصّلاة موقوف على أُمور
غير اختياريّة ، لكنّ نفس الصّلاة توجد في النفس الإنسانيّة استعداداً ، ونسبة هذا
الاستعداد إلى الغرض الأقصى نسبة السبب إلى المسبّب ، فلا محالة تصير الصّلاة
واجباً غيريّاً ، فما انحلّت المشكلة بطريق الميرزا.
هذا ، لكن الإشكال
فيما ذكر هو : إنّ الإهمال في الغرض غير معقول ، فإمّا يكون الغرض من الصّلاة هو
الاستعداد بشرط لا عن الوصول إلى الغرض الأقصى أو يكون لا بشرط عن الوصول إليه أو
يكون بشرط الوصول. أمّا أنْ يكون الغرض هو الاستعداد لا بشرط ، أي سواء وصل إلى
الغرض الأقصى أو لا ، فهذا باطل ، لأنّه خلف لفرض كون غرضاً أقصى ، وأمّا أن يكون الغرض
هو الاستعداد بشرط لا ، فكذلك ، فتعيَّن كون الغرض من الصّلاة حصول الاستعداد في
النفس بشرط الوصول ، وإذا كان كذلك سقط الإشكال على الميرزا ، لأنّ الاستعداد بشرط
الوصول غير اختياري.
إلاّ أنّه يمكن
الجواب : بأنّ الغرض المترتّب على متعلّق الأمر لا يمكن أن يكون أخصّ من المتعلّق
ولا أعمّ منه ، سواء في المراد التكويني أو التشريعي ، لأنّه إن كان أخصّ لزم أن
تكون الحصّة الزائدة بلا غرض ، وهو محال ، وكذلك إن كان أعم ، لأنّ الإرادة
المتعلِّقة بالمأمور به هي فرع الغرض ومعلول له ، فلا يعقل أن يكون الغرض أعم أو
أخص ، وعلى هذا ، فالإرادة المتعلّقة بالصّلاة تنشأ من
الغرض الاستعدادي
فيها وهو حصول الاستعداد فيها ، لا الاستعداد الموصل للغرض الأقصى ، فإنّه أخصّ من
الصّلاة ، وقد تبيّن استحالته بناءً على ما ذكر.
والحاصل
: إنّ متعلّق الأمر
هو طبيعي الصّلاة ، وليس الغرض منه بحسب الآية المباركة إلاّ استعداد النفس
الإنسانيّة.
فإشكال المحاضرات
على الميرزا قوي.
طريق
المحاضرات
ثمّ قال : فالصحيح
في المقام أن يقال ـ بناءً على نظريّة المشهور ، كما هي الحق ، وهي إن حال السبب
حال سائر المقدّمات ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ـ إنّ المصالح والغايات
المترتّبة على الواجبات ليست بقابلةٍ لأنْ يتعلّق بها التكليف ، لأنّ تعلّق
التكليف بشيء يتقوّم بأمرين ، أحدهما
: أن يكون مقدوراً
للمكلّف.
والآخر : أنْ يكون أمراً
عرفيّاً وقابلاً لأنْ يقع في حيّز التكليف بحسب أنظار أهل العرف ، والمصالح والأغراض
وإنْ كانت مقدورةً بالقدرة على أسبابها ، إلاّ أنّها ليست ممّا يفهمه العرف العام
، لأنّها من الأُمور المجهولة عندهم ، وخارجة عن أذهان عامّة الناس ، فلا يحسن من
المولى توجّه التكليف إليها ، ضرورة أن العرف لا يرى حسناً في توجّه التكليف
بالانتهاء عن الفحشاء والمنكر أو بإعداد النفس للانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، فلا
مناص من الالتزام بأنّ الغايات والأغراض غير متعلّق بها التكليف ، وإنّما هو
متعلّق بنفس الأفعال ، ويصدق عليها حينئذٍ أنّها واجبة لا لأجل واجب آخر ، فلا
إشكال على الشيخ.
وفيه
: إنّ في الأخبار
والخطب المرويّة عن الشارع إشارات كثيرة إلى الأغراض والغايات المترتّبة على
الأحكام الشرعيّة ، فقد جاء فيها ذكر الغرض من الجهاد بأنّ الجهاد عزّ للإسلام قال
عليهالسلام : «فمن تركه رغبةً عنه ألبسه
الذلّ ...» ، وأنّ الزكاة تطهير للنفس وتوفير للمال ، وفي القرآن
الكريم (إِنَ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ) فهل خاطب الشارع
الناس بما لا يفهمون؟
إذا قال الشارع
للناس : يجب عليكم العمل من أجل عزّ الإسلام والمحافظة على عظمة الدين ، وذلك يحصل
بالجهاد في سبيل الله ، ألا يفهم العرف هذا المعنى؟ وإذا قال : عليكم بالمحافظة
على المصالح العامّة للمجتمع الإسلامي ، وطريق ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، ألا يفهمون مراد الشارع؟
نعم ، العرف العام
بل الخاص يجهلون كيفيّة ترتّب الأغراض على الأفعال ، والسرّ في حصول الانتهاء عن
الفحشاء والمنكر بإقامة الصّلاة ـ مثلاً ـ لكنّ هذا الجهل لا يضرّ بالمطلب ولا
يمنع من توجّه التكليف بالغرض.
والحاصل : إنّ هذا
الطريق غير دافع للإشكال.
طريق المحقّق الأصفهاني
وطريق المحقّق
الأصفهاني ناظر إلى قاعدة إنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما
بالذات ، ومن ذلك مطلوبيّة الشيء ، فإنّها إن كانت بالعرض لا بدّ وأن تنتهي إلى
مطلوبٍ بالذات ، سواء عند الإنسان والحيوان ، فإنّ الحيوان لمّا يطلب القوت ،
فإنّه طلب بالعرض ، والمطلوب الذاتي هو البقاء والحياة ، فانتهى الأمر إلى حبّ
الذات ... وفي القضايا المعنوية نرى أنّ جميع مرادات الإنسان ترجع إلى مرادٍ
بالذات هو معرفة الله عزّ وجل. وفي التشريعيّات كذلك ، فإنّه عند ما يأمر بشراء
اللحم ، فإن هذا مطلوب بالعرض ، والمطلوب بالذات هو طبخ اللحم
__________________
وأكله.
وفي التشريعيّات ،
تارةً : يتوجّه الخطاب بالمطلوب بالعرض والخطاب بالمطلوب بالذات ، يتوجّه كلاهما
إلى شخصٍ واحدٍ ، وأُخرى : يكون متعلّق الإرادة التشريعيّة ـ أي المطلوب بالعرض ـ فعل
شخص ، ويكون متعلّق الغرض القائم بذلك الفعل ـ أي المطلوب بالذات ـ فعل شخصٍ آخر ،
فيأمر زيداً بشراء اللحم ، ويأمر عمراً بطبخه.
فالمناط في النفسي
والغيري هو : إنّه إن كان المطلوب الذاتي مطلوباً من نفس الشخص ـ الذي طلب منه
المطلوب بالعرض ـ جاء البحث عن أنّ هذا الغرض حينئذٍ مطلوب لزومي أو لا؟ فإن كان
لزوميّاً ، صار شراء اللحم واجباً غيريّاً. وإن كان المطلوب الذاتي قائماً بشخصٍ
آخر ، كان شراء اللحم من الأوّل مطلوباً نفسيّاً لا غيريّاً ، إذ لم يطلب منه شيء
آخر سواه وإنْ كان شراء اللحم مقدّمةً لطبخه.
وتلخّص
: إنّه إن كان
المراد بالذات والمراد بالعرض قائمين بشخصٍ واحد ، كان المراد بالعرض واجباً
غيريّاً والمراد بالذات واجباً نفسيّاً ، وإن كان المراد بالذات قائماً بشخصٍ غير
من قام به المراد بالعرض ، كان المطلوب من الشخص الأوّل واجباً نفسيّاً.
قال
الأُستاذ
وهذا الطريق لا
يجدي حلاًّ للمشكلة ، إذ لا ريب في أنّ المبحوث عنه في علم الأُصول هو الأعمّ من
الواجبات الشرعيّة والعرفيّة ، كما في مسألة حجيّة خبر الواحد ، وحجيّة الظواهر ،
لكنّ الغرض من هذه المباحث هو التحقيق عن حال الأخبار الواردة عن الشارع وظواهر
ألفاظه في الكتاب والسنّة ... وهكذا في
المسائل الأُخرى.
وهنا ، لمّا نقسّم
الواجبات إلى النفسيّة والغيريّة ، فالبحث أعمّ من الخطابات الشرعيّة والعرفيّة ،
وحلّ المشكل في الخطابات العرفية لا يجدي نفعاً بالنسبة إلى الخطابات الشرعيّة ...
والطريق المذكور قد حلّ المشكل في العرفيّات ، أمّا في الشرعيّات فلا ... لأنّ
المولى يأمر زيداً بشراء اللحم وعمراً بطبخه ، وهذا في الأوامر العرفيّة كثير ،
أمّا في الشرعيّات ، فإن الغرض مطلوب من نفس المخاطب بالعمل ، كالانتهاء من
الفحشاء والمنكر ، فإنّه مطلوب من نفس من أُمر بالصّلاة ، ولا معنى لأنْ يؤمر
مكلَّف بالصّلاة ويترتّب الأثر عليها عند مكلّف آخر.
والحاصل : إن كان
الغرض ـ كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر ـ لزوميّاً ، فالواجب أي الصّلاة غيري ،
وإنْ لم يكن لزوميّاً فلا وجوب للصّلاة.
فإن قال : الغرض
خارج عن قدرة المكلّف واختياره.
قلنا : هذا هو طريق
الميرزا.
هذا أوّلاً.
وثانياً
: إنّ ما ذكره لا
يحلّ المشكلة في العرفيّات أيضاً ، ففي المثال الذي ذكره نقول : إن لم يكن للمولى
غرض من الأمر بشراء اللّحم لم يعقل صدور الأمر منه به ، فلا بدّ من الغرض ، وهو
هنا تمكّن عمرو من طبخ اللحم ، ثمّ تمكّن الآمر من الأكل ، فإنْ كان هذا التمكّن
غرضاً لزوميّاً ، فالمفروض وجود القدرة عليه ، وحينئذٍ ، جاز تعلّق الأمر به.
طريق المحقّق العراقي
وذكر المحقّق
العراقي إنّ الشيخ قد عرّف الواجب الغيري بأنّه «ما وجب
__________________
لواجب آخر» وهناك
في كلّ واجب مقامان ، أحدهما
: مقام التكليف ، والآخر مقام روح التكليف وسرّه. أمّا بالنظر إلى سرّ التكليف ، إذ
للصلاة أسرار ، وللحج أسرار وهكذا ... فالواجبات الشرعيّة كلّها غيريّة ، لأنّها
إنّما وجبت لترتّب تلك الأسرار والآثار ، لكنّ هذه الغيريّة هي بحسب مقام إرادة
المولى وبلحاظ أسرار التكليف ، وبحثنا في الواجبات الغيريّة ليس من هذه الجهة ، بل
هو من جهة مقام التكليف ، وفي هذا المقام إنْ كان الشيء الموضوع على الذمّة
والمكلّف به طريقاً للوصول إلى شيء آخر كذلك فهذا الواجب غيري ، وإنْ لم يكن فهو
واجب نفسي.
والحاصل
: إنّ الشيخ قال :
الغيري ما وجب لواجب آخر ، أي : لتكليفٍ آخر موضوع على الذمّة ، مطلوب من المكلَّف
كسائر التكاليف ، كما هو الحال في الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ... وليس الانتهاء
من الفحشاء والمنكر من هذا القبيل ، بل هو سرّ الصّلاة ولبّ الإرادة المتعلّقة بها
....
نعم ، لو قال
الشيخ : «ما وجب لغيره» توجّه إليه الإشكال.
وبعبارة
أُخرى : المراد من «الواجب
الآخر» هو الواجب الشرعي ، كما في الوضوء ، فإنّه واجب شرعي قد وجب لواجب شرعي آخر
هو الصّلاة ، وليس المراد من «الواجب الآخر» هو الواجب العقلي ....
أقول
:
وهذا الطريق هو
المختار عند الشيخ الأُستاذ.
لو
تردّد واجب بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً
فما هو مقتضى
القاعدة؟
إنّه الرجوع إلى
الأصل ، وهو تارةً : لفظي ، وأُخرى : عملي ، فإنْ وجد الأصل
اللفظي فهو المرجع
، وإلاّ فالأصل العملي.
١
ـ مقتضى الأصل اللفظي
لو تردّد أمر
الوضوء بين أن يكون واجباً نفسيّاً فيجب الإتيان به سواء كانت الصّلاة واجبةً
وجوباً فعليّاً أو لا ، أو يكون واجباً غيريّاً ، فيكون واجباً في حال كون الصّلاة
واجبةً وكون وجوبها فعليّاً ... فهل يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات النفسيّة؟ وهل
هو من إطلاق المادّة أو الهيئة؟
اتّفق الشيخ وصاحب
الكفاية على إمكان الرجوع إلى الإطلاق لإثبات كون الواجب نفسيّاً لا غيريّاً ،
إلاّ أنّ الشيخ يقول بإطلاق المادّة ، وصاحب الكفاية بإطلاق الهيئة.
توضيح
رأي الشيخ
إنّ مفاد هيئة
افعل الواردة على الوضوء «توضّأ» هو الطلب الحقيقي للوضوء ـ وليس الطلب المفهومي
ـ. أي : إنّ مادة «الوضوء» بمجرّد اندراجها تحت هذه الهيئة تتّصف بالمطلوبيّة
حقيقةً ، وهذا الاتّصاف إنّما يكون بالطلب الحقيقي ، إذ لا يعقل الانفكاك بين
المطلوب الحقيقي والطلب الحقيقي ، وقد حصل الطلب الحقيقي من الهيئة ، فكان مفادها
واقع الطّلب ومصداقه ، لأنّ الشيء لا يصير مطلوباً حقيقةً بمفهوم الطلب.
إلاّ أنّ المشكلة
هي : إن واقع الطلب ومصداقه هو الفرد ، والفرد لا يقبل التقييد والإطلاق ، لأنّهما
عبارة عن التضييق والتوسعة ، وهما يجريان في المفهوم لا المصداق ... فسقط إطلاق
الهيئة.
لكنّ الإطلاق في
المادّة جارٍ ، إذ الوضوء دخل تحت الطلب سواء قبل
__________________
الوقت أو بعده ،
وسواء وجدت الصّلاة أو لا ، ومطلوبيّته كذلك يعني المطلوبيّة النفسيّة.
وتلخّص
: إنّه مع التردّد
بين النفسيّة والغيريّة ، يكون مقتضى تماميّة مقدّمات الحكمة وتوفّرها جريان
الاطلاق في طرف «الواجب» ـ وهو الوضوء في المثال ـ لا في طرف «الوجوب» أي : هيئة
توضّأ.
توضيح رأي المحقّق الخراساني
وقد أنكر المحقّق
الخراساني برهان الشيخ على عدم جريان الإطلاق في هيئة الوضوء ، من
جهة أنّ مدلول الهيئة لو كان هو الطلب الحقيقي كما قال الشيخ ، فإنّ الطلب الحقيقي
قائم بالنفس ، وصيغة «افعل» إنشاء لا إخبار ، والأمر القائم بالنفس لا يقبل
الإنشاء ، فليس الطلب الحقيقي هو مدلول الهيئة ، وعليه ، فلا يكون مدلولها الفرد
والمصداق حتّى يرد الإشكال بأن الفرد لا يقبل التقييد فلا يقبل الإطلاق.
فإنْ قيل : إذا لم
يكن مدلول الهيئة هو الطلب الحقيقي ، فكيف صار الوضوء مطلوباً حقيقيّاً؟
قلنا : إنّ اتّصاف
المادّة ـ أي الوضوء ـ بالمطلوبيّة الحقيقيّة إنّما يأتي من حيث أنّ الداعي
للإنشاء هو الطلب النفساني ، لأنّ المفروض أنّ الداعي له لم يكن الامتحان أو
الاستهزاء أو غيرهما ، وإنّما كان الطلب الحقيقي ، فالمطلوبيّة له إنّما جاءت من
ناحية الداعي للإنشاء لا من ناحية هيئة افعل.
وهذا بيان إشكال
المحقّق الخراساني على برهان الشيخ لعدم جريان الإطلاق في الهيئة.
__________________
فكان المختار عنده
جريان الإطلاق في طرفها ، فما معنى هذا الإطلاق؟
وهل هو صحيح؟
قال المحقّق الأصفهاني :
إنّ مقتضى مقدّمات
الحكمة هنا عدم تقييد الوجوب وهو مفاد الهيئة لا إطلاقه ، أي : إنّها تقتضي حيثيّة
عدميّة ، وليست مقتضيةً لإطلاق الوجوب بمعنى اللاّبشرطيّة ... وتوضيح ذلك :
إنّ الوجوب النفسي
والغيري قسمان من الوجوب ، وقد تقدّم أنّ النفسي هو الواجب لا لواجبٍ آخر ،
والغيري هو الواجب لواجبٍ آخر ، فكان أحدهما مقيّداً بأمرِ عدمي والآخر مقيّداً
بأمرٍ وجودي ، فالواجب النفسي مقيَّد بعدم كونه لواجب آخر ، والغيري مقيَّد بكونه
لواجبٍ آخر ... فكلاهما مقيَّد ، وكلّ قيدٍ ـ سواء كان وجودياً أو عدميّاً ـ فهو
محتاج إلى بيان.
وعلى الجملة ،
فكما أنّ كون الشيء «بشرط شيء» قيد له ، كذلك كونه «بشرط لا» ، ولا بدّ لكلّ قيدٍ
من بيانٍ ومئونةٍ زائدة ... وهذا مقتضى القاعدة.
لكنّ هناك موارد
يرى العرف فيها استغناء القيد العدمي عن البيان ، بمعنى أنّ مجرّد عدم البيان
بالنسبة إلى القيد الوجودي ، يكفي لأنْ يكون بياناً على القيد العدمي ، وما نحن
فيه من هذا القبيل ، وذلك : لأنّ الواجب النفسي ما كان واجباً لا لواجبٍ آخر ، والغيري
ما وجب لواجبٍ ، فكان الغيري مقيّداً بكونه للغير ، وحينئذ ، فلو تعلّق الطلب
بشيءٍ ولم يكن معه بيانٌ لكون هذا الطلب لشيء آخر ، كان نفس عدم البيان لذلك
كافياً عند أهل العرف في إفادة أنّ هذا المطلوب ليس لواجبٍ آخر ....
__________________
وعلى هذا ، ليس
الطريق إلى تعيين حال الفرد المحقّق خارجاً من الوجوب المتعلّق بالوضوء ، من حيث
النفسيّة والغيريّة ، هو التمسّك بالأصل اللفظي في مفهوم الوجوب ، كما ذهب إليه
المحقّق الخراساني ، بل الصّحيح إثبات إطلاق الفرد الواقع عن طريق عدم التقييد
بكونه للغير ، فإنّه يفيد كونه لا للغير ، فهذا هو المراد من الاطلاق هنا ، وهذا
طريق إثباته.
وتلخّص
: إنّه ليس الطريق
هو التمسّك بإطلاق مفهوم الطّلب ، فإنّه لا يحلّ المشكلة ولا يخرج الفرد الواقع من
التردّد بين النفسيّة والغيريّة ، لأنّ ذلك لا يحصل عن طريق إطلاق مفهوم الوجوب ،
إذ الإطلاق المفهومي لا يعيّن حال الفرد الواقع ، بل الطريق الذي سلكناه هو الذي
يعيّن حاله ويرفع التردّد والشك ، لأنّه أفاد عدم التقييد بالغيريّة.
أقول
:
وبهذا التقريب
الذي استفدناه من شيخنا الأُستاذ دام بقاه تندفع خدشة سيدنا الأُستاذ ، حيث أنه
أورد كلام المحقّق الأصفهاني وذكر اشتماله على ثلاثة إيرادات على الكفاية ، ثم قال
: والإنصاف أنّ هذه الوجوه مخدوشة كلّها ، ووجه الاندفاع هو أنّ مناقشته للكلام
المذكور إنما جاءت على مقتضى القاعدة ، من جهة أنّ النفسيّة يحتاج إلى بيان
كالعدميّة ، لأنّ كلاًّ منهما قيد زائد على أصل الوجوب ، ولا وجه لدعوى أنّه لا
يحتاج إلى بيانٍ زائد بعد أن كان قيداً كسائر القيود الوجوديّة أو العدميّة .
لكنّ الارتكاز
العرفي الذي أشار إليه المحقق الأصفهاني بقوله : «فما يحتاج إلى التنبيه عرفاً كون
الوجوب لداعٍ آخر غير الواجب» هو الوجه للدعوى
__________________
المذكورة ، وقد
وقع الغفلة عنه.
فما أفاده المحقق
الأصفهاني لا محذور فيه ، لكنه ـ كما قال شيخنا ـ متّخذ من كلام صاحب الكفاية في
مبحث الإطلاق والتقييد ... وبيان مطلبه هناك هو :
إنّ الإطلاق يفيد
تارة : الشمول والعموم الاستيعابي ، وأخرى : العموم البدلي ، وثالثة : خصوصيّة
أُخرى ، غير الشموليّة والبدليّة.
مثال
الأوّل : قوله تعالى (أَحَلَّ
اللهُ الْبَيْعَ) ، فإنّه يفيد
حليّة البيع عامّة.
ومثال
الثاني : قولك : بع دارك ،
فإنّه أمر ببيع داره ويفيد جواز البيع بأيّ نحوٍ من الأنحاء اختار هو ، على
البدليّة ، وليس يفيد العموم الاستيعابي ، فإنّه غير ممكن كما لا يخفى.
ومثال
الثالث : قول المولى : «توضّأ»
من غير أنْ يعلّق الوجوب على شيء ... فهنا ليس الإطلاق من قبيل الأوّلين ، وإنّما
هو لإفادة خصوصية أنّ وجوبه ليس لغيره ، لأن خصوصيّة الغيريّة هي المحتاجة إلى
البيان ، وأمّا النفسيّة فيكفي فيها عدم البيان على الغيريّة ، فكان الإطلاق ـ بمعنى
عدم إقامة القرينة على إرادة الغيرية ـ يقتضي النفسيّة.
القول بالإطلاق
الأحوالي
وقال المحقّق
الإيرواني بالإطلاق الأحوالي في الفرد المردّد بين النفسيّة
والغيريّة ، لأنّ الإطلاق قد يكون أفرادياً ، وقد يكون أحواليّاً. فالأفرادي
موضوعه الطبيعة وهي ذات فردين أو أفراد ، وحينئذٍ يصلح لأنْ يكون مطلقاً ، أي لا
بشرط بالنسبة إلى خصوصيّة هذا الفرد أو ذاك ... كما هو الحال في «الرقبة» مثلاً ،
حيث
__________________
أنّها طبيعة ذات
حصّتين ، وهي قابلة لأنْ تكون هي المراد والمورد للحكم.
وأمّا الإطلاق
الأحوالي ، فإنّه يجري في الفرد أيضاً ... وكلّما كانت طبيعة ذات حصّة ولكن المورد
لا يصلح لأن تكون الطبيعة هي المراد ، فإنّه يجري فيه الإطلاق الأحوالي.
وعلى هذا ، فإنّ
الشيخ رحمهالله لمّا قال بأنّ مدلول الهيئة هو الفرد ، والفرد لا يقبل
الإطلاق والتقييد ، يتوجّه عليه : إنّه لا يقبل الإطلاق الأفرادي ، لكنّه يقبل
الإطلاق الأحوالي.
والمحقّق
الخراساني ذهب إلى الإطلاق المفهومي ، فيرد عليه الإشكال : بأنّ الإطلاق المفهومي
لا مورد له في المقام ، لأن مجراه مثل «الرقبة» حيث أنّ الطبيعة تكون مورداً للحكم
والإرادة ويتعلّق بها التكليف ، فيعمّ كلتا الحصّتين المؤمنة والكافرة ، بخلاف
المقام ، فإنّه لا يعقل أن يكون المراد هو الأعم من النفسيّة والغيريّة ، بل إن
حال الفرد الواقع خارجاً مردّد بين الأمرين ، والمقصود بيان حاله وإخراجه من حالة
التردّد ، ولا يعقل الإطلاق المفهومي في الفرد ... بل يتعيّن الإطلاق الأحوالي ،
فإذا كان الوجوب المتعلّق بالوضوء فرداً ، فإنّه ذو حالين ، حال وجوب الصّلاة وحال
عدم وجوبها ، ومقتضى الإطلاق هو التوسعة بالنسبة إلى الحالين لهذا الفرد ، فهو
توسعة في الحال لا في المفهوم.
فظهر جريان
الإطلاق الأحوالي بناءً على مسلك المحقّق الخراساني من أنّ مدلول الهيئة هو مفهوم
الطلب ، وهو أيضاً جار بناءً على كون مدلولها : النسبة البعثيّة أو البعث النسبي.
أمّا الإطلاق الأفرادي فلا يجري ، لأن مدلول الهيئة معنىً حرفيّ والمعنى الحرفيّ
جزئي ....
هذا كلّه في
التمسّك بإطلاق مفاد الهيئة.
وأمّا التمسّك
بإطلاق المادّة ، فقد أفاد في (المحاضرات) : بأنّه بناءً
على نظرية الشّيخ من لزوم رجوع القيد إلى المادّة ، يمكن تقريب التمسّك بالإطلاق
بوجهين :
الأوّل
: فيما إذا كان
الوجوب مستفاداً من الجملة الاسميّة ، كقوله عليهالسلام : «غسل الجمعة فريضة من فرائض الله» فإنّه لا مانع من
التمسّك في مثله بالإطلاق لإثبات النفسيّة ، إذ لو كان غيريّاً لزم على المولى
إقامة القرينة.
والثاني
: التمسّك بإطلاق
دليل الواجب ـ كدليل الصّلاة مثلاً ـ لدفع ما يحتمل أن يكون قيداً له كالوضوء
مثلاً ، ولازم ذلك عدم كون الوضوء واجباً غيريّاً ، وقد تقرّر حجيّة مثبتات
الأُصول اللفظيّة.
قال
الأُستاذ : إنّه لا وجه
للحصر بوجهين ، بل الإطلاق الأحوالي جارٍ أيضاً كما تقدّم ... هذا أوّلاً.
وثانياً
: إنّ الوجه الثاني
ـ من الوجهين المذكورين ـ لا يقول به الشيخ ، وإن كان وجهاً صحيحاً في نفسه.
وتلخّص
: تمامية الإطلاق
بوجوهٍ ثلاثة :
١ ـ الإطلاق
الأحوالي في مفاد الهيئة.
٢ ـ إطلاق المادّة
، أي مادّة الوضوء في «توضّأ».
٣ ـ إطلاق دليل
الواجب.
٢
ـ مقتضى الأصل العملي
واختلف الأنظار في
مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم تماميّة الأصل اللفظي :
__________________
رأي المحقق الخراساني :
ذكر المحقّق
الخراساني لمقتضى الأصل العملي ـ في دوران أمر الفرد الواقع من
الوجوب بين النفسيّة والغيريّة ـ صورتين ، لأنّ وجوب ذلك الغير ـ الذي شككنا في
كون هذا الشيء مقدّمةً له ، أو أنّه واجب نفسي وليس بمقدّمةٍ له ـ تارةً فعلي
وأُخرى غير فعلي.
فإن كان فعليّاً ،
كان الشيء المشكوك النفسيّة والغيريّة مجرى قاعدة الاشتغال ، لأنّ المفروض هو
العلم بوجوبه ، إنّما الجهل في وجه هذا الوجوب. مثلاً : الوضوء واجب على تقدير
النفسيّة وعلى تقدير الشرطيّة للصّلاة الواجبة بالوجوب النفسي الفعلي ، فلو تُرك
الوضوء فقد تُرك واجب نفسي ، وهو الوضوء إن كان واجباً نفسيّاً أو الصّلاة
المشروطة به ، فكان العلم الإجمالي المتعلّق بالمردّد بين النفسيّة والغيريّة
موجباً للعلم باستحقاق العقاب في حال ترك الوضوء ، فلا محالة يكون هذا العلم
الإجمالي منجزاً.
وإنْ لم يكن وجوب
الغير فعليّاً ، كان مشكوكُ النفسيّة والغيريّة مجرى أصالة البراءة ، لأنّ المناط
في منجزيّة العلم الإجمالي هو تعلّق العلم بالتكليف الفعلي ، والمفروض عدمه ، إذ
الوضوء على تقدير كونه واجباً نفسيّاً فعلي ، وعلى تقدير كونه واجباً غيريّاً ،
فهو شرط لواجب غير فعلي ، ومع عدم فعليّة المشروط لا يكون الشرط فعليّاً ، فلا
يكون العلم حينئذٍ منجّزاً ، فالمرجع البراءة.
هذا كلام المحقّق
الخراساني.
تفصيل الإيرواني
لكن الصّورة
الثانية يتصوَّر فيها صورتان ، لأنّ ذاك الغير المفروض عدم
__________________
فعليّته ، قد يكون
واجباً من قبل ثم ارتفع وجوبه ، وقد لا يكون كذلك ، فإنْ لم يكن مسبوقاً بالوجوب
فالأصل الجاري هو البراءة كما ذكر. وأمّا إن كان مسبوقاً بوجوب مرتفع عنه فعلاً ،
حصل لنا العلم بأنّ الواجب المشكوك في نفسيّته وغيريّته كان من قبل واجباً غيريّاً
، فالحالة المتيقّنة السابقة لهذا المشكوك فيه هو الوجوب الغيري ، وبزوال فعليّة
وجوب ذلك الغير يصير هذا الوجوب الغيري مقطوع الزوال ، لأنّه بزوال وجوب المشروط
بقاءً يزول وجوب الشرط كذلك ... فيكون وجوب المشكوك النفسيّة والغيريّة فرداً
مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، لأنّ هذا الوضوء ـ المشكوك كذلك ـ في
كون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً ـ إنْ كان واجباً غيريّاً فقد زال عنه الوجوب يقيناً
وإنْ كان واجباً نفسيّاً فوجوبه باق ... وعليه ، فيكون صغرى للقسم الثاني من أقسام
استصحاب الكلّي ....
فعلى القول بعدم
جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلّي ـ لا في الفرد ولا في الكلّي ـ فالمرجع
أصالة البراءة ، وأمّا على القول بجريانه فيه ـ كما هو الصحيح ـ فهو أصل حاكم على
البراءة ، فكانت الصورة الثانية من صورتي المحقّق الخراساني تنقسم إلى صورتين ،
والحكم يختلف ... وقد نبّه على هذا المحقّق الإيرواني .
إشكال الأُستاذ
وأشكل عليه
الأُستاذ : بأنّ المعتبر في المستصحب أن يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي
مجعول أو موضوعاً للحكم العقلي بمناط عدم لغويّة التعبّد فإنّه ـ وإن لم يكن المستصحب
حكماً أو موضوعاً لحكم ـ يكفي لأن يكون للاستصحاب أثر في الاشتغال أو الفراغ ، فلا
يكون التعبّد به لغواً.
__________________
لكن استصحاب
الكلّي هنا لا تتوفّر فيه هذه الضابطة ، لأنّ هذا الكلّي الذي يراد إجراء
الاستصحاب فيه ـ وهو الجامع الانتزاعي بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري ـ ليس
بمجعولٍ شرعي ، إذ المجعول من قبل الشارع إمّا الوجوب النفسي أو الوجوب الغيري ، ولا هو موضوع لحكم شرعي كما لا يخفى ، وهل هو موضوع للحكم العقلي على ما
ذكر؟ كلاّ ... وذلك : لأنّ الحكم العقلي إنّما يتحقّق في الجامع بين الواجبين
النفسيّين وإنْ كان جامعاً انتزاعيّاً ، لأنّ موضوع حكمه هو استحقاق العقاب على
المخالفة ، فلو كان واجبان نفسيّان تردّد أمرهما بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ،
جرى استصحاب الكلّي الجامع بينهما ، وأفاد وجوب الإتيان بالجامع وترتيب الأثر عليه
، لحكم العقل باستحقاق العقاب على المعصية.
أمّا في محلّ
البحث ، فأحد الوجوبين نفسي والآخر غيري ، والواجب الغيري لا يحكم العقل باستحقاق
العقاب على تركه ، فإحدى الحصّتين من الكلّي غير محكومة بحكم العقل باستحقاق
العقاب على تركها ، فكيف يتمّ إجراء الاستصحاب في الجامع لتحقيق الحكم العقلي؟
فتلخّص
: عدم تماميّة
الاستصحاب في الكلّي الانتزاعي أي : الوجوب الجامع بين النفسي والغيري. نعم ، لو
صحّ جريانه في الفرد المردّد لتمّ ما ذكره المحقّق الإيرواني ، لكنّه أجلّ شأناً
من أن يقول بذلك.
__________________
رأي الميرزا
وذهب الميرزا إلى أنّ المردّد واجب بالوجوب النفسي ، وأنّ الصّلاة مجرى البراءة. وتوضيح
ذلك : إنّه إذا تردّد أمر الوضوء بين النفسيّة والغيريّة ، وكان على تقدير
الغيريّة شرطاً لواجبٍ غير فعلي ، كما لو تيقّن بالنذر وتردّد بين أن يكون قد نذر
الصّلاة أو نذر الوضوء ، فإنْ كان متعلّق نذره هو الوضوء فهو واجب نفسي ، وإن كان
الصّلاة كان الوضوء واجباً غيريّاً. إذن ، لا فعليّة لوجوب الصّلاة ، بل إنّه فعلي
على تقدير كون الوضوء واجباً غيريّاً لا نفسيّاً. فيقول الميرزا : بأنّ الوضوء
واجب قطعاً ، بالوجوب النفسي أو الغيري ، وأمّا الصّلاة فهي مجرى البراءة ،
لجريانها فيها بلا معارض ، وذلك : لأنّ معنى دوران أمر الوضوء بين النفسيّة
والغيريّة هو تحقّق علم إجمالي بأنّ الواجب عليه بالوجوب النفسي إمّا هو الصّلاة
وامّا هو الوضوء ، وهذا العلم مؤثر في التنجيز ، ولا بدّ من الإتيان بالوضوء
والصّلاة معاً ، غير أنّ الوضوء يؤتى به قبل الصّلاة ، حاله حال الواجب الغيري ...
لكنّ هذا العلم منحل ... لأنّ أحد الطرفين ـ وهو الوضوء ـ يقطع باستحقاق العقاب
على تركه ، إمّا لكونه واجباً نفسيّاً وامّا لأن تركه يؤدّي إلى ترك الواجب
المشروط به ، ومع القطع باستحقاق العقاب على تركه لا تجري البراءة فيه ، ويبقى
الطرف الآخر محتمل الوجوبيّة ، فالشبهة فيه بدويّة ، وتجري البراءة فيه بقسميها.
ثمّ ذكر في نهاية
الكلام أنّ المقام من صغريات التفكيك والتوسّط في التنجيز.
وتوضيح المراد من
ذلك هو : إنّ الوقائع منها هو منجّز على كلّ تقدير ، ومنها ما هو غير منجّز على كل
تقدير.
والأوّل : هو الحكم المعلوم
بالإجمال ،
__________________
والثاني
: هو الحكم المشكوك
فيه شبهةً بدوية. وهذا القسمان واضحان. والثالث منها هو : ما إذا كان العلم الإجمالي مردّداً بين الأقل
والأكثر ، وهذا مورد التوسّط في التنجيز ، كما لو حصل العلم بوجوب مركب تردّدت
أجزاؤه بين كونها عشرة أو أحد عشر مثلاً ، فإنّه مع ترك الجزء الحادي عشر لا يقين
باستحقاق العقاب ، بخلاف الأجزاء العشرة ، فلو تركها استحق العقاب ... إذن ،
فالواجب الواحد والوجوب الواحد قابل للتفكيك من حيث استحقاق العقاب وعدمه ... وهذا
مراده من التوسّط والتفكيك في التنجيز.
الإشكال
على رأي الميرزا
إنّما الكلام في
اختصاص ذلك بمورد المركّب ذي الأجزاء الخارجيّة ـ كما ذكر ـ أو أنّه ينطبق على
المركّب ذي الأجزاء التحليليّة أيضاً؟
إن حال المركّب من
الأجزاء الخارجيّة هو أنّ وجوده بتحقّق أجزاءه كلّها ، فهو وجود واحد ، أمّا عدمه
فيتعدّد بعدد الأجزاء ، ويتّصف بالعدم إذا عدم الجزء الأوّل ، وبعدمٍ آخر إذا عدم
الجزء الثاني ، وهكذا ... فإذا دار أمره بين الأقل والأكثر ، فأيّ مقدارٍ من
الأعدام بقي تحت العلم كان العلم منجّزاً بالنسبة إليه.
وهل هذا الحال
موجود في الأجزاء التحليليّة كما في محلّ البحث؟
مقتضى الدقّة في
كلام الميرزا : جريان التوسيط في التنجيز في الأجزاء التحليليّة أيضاً ، لأنّه كما
يحصل للمركب من الأجزاء أعدام بعدد أجزائه ، كترك الصّلاة بترك القراءة ، وپتركها
بترك الركوع ... وهكذا ... فإنّه يحصل له ذلك بترك كلٍّ من قيوده وشروطه ،
فالصّلاة المقيَّدة بالطهارة والاستقبال و... يحصل لها تروك بعدد تلك الأُمور ،
فكما ينتفي المركب بانتفاء جزئه ، كذلك ينتفي بانتفاء قيده ... وليس تعدّد الترك
منحصراً بالأجزاء الخارجيّة المحقّقة للمركّب ....
وعلى هذا ، فترك
الصّلاة من ناحية ترك الوضوء منجّز ، لأنّ المفروض تحقّق العلم بوجوب الوضوء سواء
كان نفسيّاً أو غيريّاً ، وإذا تعلّق العلم بالوضوء كان ترك الصّلاة من جهة ترك
الوضوء مورداً للمؤاخذة ، لقيام الحجة من ناحية المولى عليه ، بخلاف ما لو تركت
الصّلاة من جهة غير الوضوء ، لعدم وجود البيان والحجّة منه ، وعلى الجملة ، فقد
تحقّق التنجيز بالنسبة إلى الصّلاة من حيث الوضوء ، أمّا بالنسبة إلى الصّلاة فلا
، بل الشبهة فيها بدويّة ، فالبراءة جارية في الصّلاة ، لكن وجوب الوضوء نفسي.
وتحصّل
: أنّ التفكيك في
التنجّز يجري في أجزاء المركب ، ويجري في القيود والشرائط ، ولا يختص بالأجزاء.
فلا يرد على
الميرزا الإشكال بذلك .
وأورد
عليه : بأن موردنا من
قبيل دوران الأمر بين المتباينين ، وليس من الأقلّ والأكثر ، لأن طرفي العلم
الإجمالي هما الوضوء والصّلاة ، والنسبة بينهما هو التباين.
وفيه
: إنّه منقوض
بالموارد التي تكون نسبة الجزء إلى الكلّ بحيث لا يطلق على الجزء عنوان الكلّ ـ كما
هو في الإنسان والرقبة مثلاً ـ فلو علمنا بمقدارٍ من الأجزاء هي في العرف في مقابل
المركب لا بعضه ، وتردّد الأمر بينه وبين سائر الأجزاء ، كان لازم ما ذكر عدم
جريان البراءة. مثلاً : الصّلاة مركّبة من أجزاء أوّلها التكبير وآخرها التسليم ،
فلو تعلّق العلم بالتكبير وحده وشكّ في الزائد تجري البراءة عنه ، مع أنّ النسبة
بين التكبير والصّلاة هو التغاير والتباين ، إذ لا يصدق عنوان الصّلاة على التكبير
وحده.
__________________
وأمّا حلّ المطلب
فهو : أنّ ملاك انحلال العلم ليس خصوصيّة الأقل والأكثر ، حتى لا ينحل ولا تجري
البراءة إذا كانت النسبة التباين ، بل الملاك على التحقيق ـ وعليه الميرزا ـ هو
كون أحد الطرفين مجرى الأصل دون الطرف الآخر ، فإذا كان أحد الطرفين فقط مجرى
الأصل ـ سواء كانا متباينين أو أقل وأكثر ـ جرت البراءة. وفيما نحن فيه : الوضوء
وإنْ لم يكن جزءاً من الصّلاة بل هو شرط لها ، إلاّ أنّ الأصل لا يجري في الوضوء
وهو جارٍ في الصّلاة ، لأنّ الوضوء معلوم الوجوب على كلّ تقدير ، دون الصّلاة
فإنّها مشكوكة الوجوب.
وأورد
عليه : بأنّه يعتبر في
انحلال العلم الإجمالي وجود السنخيّة بين المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل ،
وذلك كما في مثال أجزاء الصّلاة ، فلو علم إجمالاً بالوجوب النفسي ، وتردّد بين أن
يكون عشرة أجزاء من المركب أو أحد عشر ، فإن عنوان «الوجوب النفسي» ينطبق على
العشرة ، الذي أصبح المعلوم بالتفصيل.
أمّا فيما نحن فيه
، فلا توجد هذه المسانخة ، لأنّ المعلوم بالإجمال أوّلاً هو «الوجوب النفسي» إذ
تردّد بين الصّلاة والوضوء ، لكن المعلوم بالتفصيل في طرف الوضوء هو الجامع بين
النفسيّة والغيريّة ، فهو غير المعلوم بالإجمال الأوّلي.
وفيه
: إنّه ليس الملاك
ذلك ، بل الملاك ما ذكرناه من كون أحد الطرفين موضوعاً للأصل دون الطرف الآخر.
وأورد
عليه : بأنّ المفروض هو
العلم الإجمالي بوجوب الوضوء ، مردّداً بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً ، فإن كان في
الواقع نفسيّاً استحقّ العقاب على تركه ، وأمّا إن كان وجوبه غيريّاً فلا يستحقّه
، لكنّ انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي
في طرف وشك بدوي
في طرف آخر ، إنّما هو حيث يكون العلم التفصيلي متعلّقاً بتكليفٍ منجّز موجبٍ
لاستحقاق العقاب ، وقد تقدّم أنّ الوضوء على تقدير كون وجوبه غيريّاً لا يستحق
العقاب على تركه ، فالعلم الإجمالي المردّد بين النفسيّة والغيريّة باقٍ على حاله
، لعدم استلزام مخالفته لاستحقاق العقاب على كلّ تقدير.
وفيه
: إنّه إن كان
المقصود إثبات استحقاق العقاب على ترك الوضوء نفسه فالإشكال وارد ، للشك في كونه
واجباً نفسيّاً ، والوجوب الغيري لا تستتبع مخالفته استحقاق العقاب. لكنّ المقصود
من إجراء البراءة هو رفع التكليف والتوسعة على المكلّف ، وهذه التوسعة لا تكون في
طرف الوضوء للعلم التفصيلي بوجوبه ، فلا يمكن الترخيص في تركه ، لكون وجوبه إمّا
نفسيّاً فلا يجوز تركه ، وامّا غيريّاً فكذلك لأنّه يؤدي إلى ترك الصلاة ، أمّا في
طرف الصّلاة فهي حاصلة بأصالة البراءة.
والحاصل
: إنّ المهم كون
المورد مجري لأصالة البراءة وترتّب أثر هذا الأصل ، أعني التوسعة والمرخصيّة
للمكلّف ، وهذا حاصل ، لوجود مناط الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي ، وهو جريان
البراءة في طرف وهو الصّلاة ، لوجود المقتضي لجريانه وعدم المانع عنه ، دون الآخر
وهو الوضوء للعلم التفصيلي المتعلّق به.
الإشكال
الأخير :
إنّ هذا العلم
الإجمالي لا ينحلّ ، لأنّه يلزم من انحلاله عدم الانحلال. وهو الإشكال الذي اعتمده
الأُستاذ في الدّورة السابقة في ردّ رأي الميرزا في المقام.
وتوضيح
ذلك : إنّ الغرض هو حلّ
مشكلة دوران أمر الوضوء بين النفسيّة والغيريّة ، ونتيجة انحلال هذا العلم
الإجمالي هو الاشتغال بالنسبة إلى الوضوء
والبراءة عن
الصّلاة. لكنّ البراءة إنّما تجري حيث يقطع بجريانها ـ وإلاّ فالظن بجريانها لا
يفيد فضلاً عن الشك فيه ـ والقطع بجريان البراءة في الصّلاة يستلزم القطع بعدم
المؤاخذة على ترك الوضوء ، لكونه مقدّمةً لها ، لأنّ القطع بعدم المؤاخذة على ترك
ذي المقدّمة يستلزم القطع بعدمها على ترك مقدّمته ، وإذا حصل القطع بعدم المؤاخذة
على ترك الوضوء ، حصل العلم بتعلّق التكليف به على تقدير ، والعلم بعدم المؤاخذة
به على تقدير ، فلم يحصل العلم التفصيلي بالنسبة إليه ، فلا تجري قاعدة الاشتغال ،
بل يكون الوضوء مجرى أصالة البراءة.
وفيه
: إن كان المقصود
من الانحلال هو الانحلال العقلي ، فالإشكال وارد ، لكن المقصود هو انحلال العلم
الإجمالي بحكم الشارع ، والحكم العقلي هنا معلّق على عدم الانحلال الشرعي ، فإنّ
العقل حاكمٌ بضرورة ترتيب الأثر على العلم الإجمالي بين الوضوء والصّلاة ما دام لم
يصل مؤمّن من قبل الشارع ، ومع وصوله يرتفع موضوع حكم العقل ، والمؤمّن هنا حديث
الرفع ، إذ المقتضي لجريانه موجود والمانع عنه مفقود ، وهذا المعنى متحقّق في طرف
الصّلاة إذ شك في وجوبها النفسي ، فتمّ المقتضي لجريان أصل البراءة ، ومع وجود
العلم التفصيلي في طرف الوضوء لا موضوع لجريان الأصل فيه ، فلا معارض لأصالة
البراءة في الصّلاة.
أقول
:
كان هذا ملخّص ما
استفدناه من كلامه دام بقاه في الدّورة اللاّحقة. ولكنّ الاستدلال بحديث الرفع هنا
يبتني على أن يكون المرفوع فيه هو المؤاخذة من جهة العمل نفسه أو من جهة غيره
المترتّب عليه ، فإنّه على هذا المبنى يكون الوضوء مشمولاً لحديث الرفع ، إذ بتركه
يترتّب العقابُ على ترك الصّلاة لكونه
مقدمةً لها.
وأمّا على القول
بأنّ المرفوع هو المؤاخذة على خصوص العمل ـ كما هو مختار السيد الأُستاذ ـ فلا يتم
الاستدلال به ، فراجع .
رأي السيد الخوئي
وذكر السيد الخوئي
في مقام الأصل العملي أربعة صور :
(الصورة الأُولى) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء إجمالاً في الشريعة وتردّد
بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً ، وهو يعلم بأنّه لو كان غيريّاً لم يكن وجوب ذلك
الغير بفعلي ، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها وشكّت في أنّ وجوبه عليها
نفسي أو غيري ، وأنّه في حال الغيريّة للصّلاة فلا فعليّة لوجوبها لكونها حائض.
(الصورة الثانية) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء فعلاً وتردّد بين كون وجوبه
نفسيّاً أو غيريّاً ، وهو يعلم أنّه لو كان غيريّاً ففعليّة وجوب الغير يتوقّف على
تحقق ذلك الشيء خارجاً. كما إذا علم بتحقّق النذر ولكنْ تردّد بين الوضوء والصّلاة
... كما تقدّم.
وقد ذهب قدسسره إلى البراءة في
كلتا الصورتين ، أمّا في الأولى ، فهي جارية في الشيء المشكوك فيه ، لعدم العلم بوجوبٍ
فعلي على كلّ تقدير ، إذ على تقدير الغيريّة لا يكون فعليّاً لعدم فعليّة وجوب ذي
المقدمة. وأمّا في الثانية ، فهي جارية في الصّلاة على ما تقدّم بيانه.
(الصورة الثالثة) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين في الخارج ،
__________________
وشك في أنّ وجود
أحدهما مقيّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الاطلاق والاشتراط من
بقية الجهات ، أي إنهما متساويان إطلاقاً وتقييداً ، كوجوب الوضوء والصّلاة مثلاً.
فذكر عن الميرزا
القولَ بالبراءة ، واختار هو الاحتياط ، (قال) : قد أفاد شيخنا قدسسره : أنّ الشك حيث
أنّه متمحّض في تقييد ما علم كونه واجباً نفسيّاً كالصلاة بواجب آخر وهو الوضوء ـ مثلاً
ـ فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد ، لفرض أن وجوب الصّلاة والوضوء
معلوم ، ومتعلّق الشك خصوص تقييد الصّلاة به أي خصوصيّة الغيريّة ، فالبراءة تجري
عن التقييد.
(فأجاب) بأنّ
أصالة البراءة عن التقييد المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب
نفسي ، وذلك لأنّ المعلوم تفصيلاً وجوبه الجامع بين النفسي والغيري ، وأمّا
الخصوصيّة فمشكوك فيها ، فلا مانع من جريان الأصل في الخصوصيّة في كلا الطرفين ،
ويتعارض الأصلان ، ويكون المرجع قاعدة الاحتياط ، فيجب الإتيان بالوضوء أوّلاً ،
ثمّ بالصّلاة.
أقول
:
وقد قرّب الأُستاذ
دام بقاه رأي السيد الخوئي في هذه الصّورة وأوضح الفرق بينها وبين الصّورة السابقة
التي قال فيها بالبراءة عن الصّلاة ... بأنّ صورة المسألة السابقة هي : إمّا
الصّلاة واجبة بالوجوب النفسي وامّا الوضوء ، ومعنى ذلك أنّه إن كان الواجب النفسي
هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غيري ، ولذا تحقّق العلم التفصيلي في وجوب الوضوء ،
والشك البدوي في وجوب الصّلاة. أمّا الصّورة الثالثة هذه ، فلا شكّ في وجوب
الصّلاة ـ ووجوبها نفسي ـ بل الشك في ناحية الوضوء ، وللعلم الإجمالي طرفان ، أحدهما : الوجوب النفسي للوضوء ،
والآخر
: الوجوب الغيري له
... ومقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط.
فالحقّ مع
المحاضرات خلافاً للميرزا.
(الصّورة الرابعة) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين وشكّ في تقييد
أحدهما بالآخر ، مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الإطلاق والتقييد ، وذلك :
كما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت وشك في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أنّ
وجوبه نفسي أو غيري ، وأنّه على الأوّل غير مشروط وعلى الثاني مشروط ، لتبعيّة
الوجوب الغيري للنفسي في الإطلاق والاشتراط.
(قال) : وقد أفاد
شيخنا الأُستاذ أن البراءة جارية من جهات (الأُولى) : الشك في تقييد الصّلاة بالوضوء ، وهو مجرى البراءة ،
فتصحّ بلا وضوء.(الثانية) : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب
الصّلاة ، والمرجع البراءة ، ونتيجة ذلك نتيجة الغيريّة من ناحية عدم ثبوت وجوبه
قبل الوقت في المثال (الثالثة) : الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلى من أتى به
قبله ، ومرجع هذا الشك إلى أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم يؤت به
قبله ، وبما أنّ ذلك مشكوك فيه بالإضافة إلى من أتى به قبله ، فلا مانع من الرجوع
إلى البراءة ، والنتيجة تخيير المكلّف بين الإتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده ، قبل
الصّلاة وبعدها.
(قال) ولنأخذ
بالنظر في هذه الجهات ، بيان ذلك : إن وجوب الوضوء في مفروض المثال ، المردّد بين
النفسي والغيري ، إن كان نفسيّاً ، فلا يخلو من أنْ يكون مقيّداً بإيقاعه قبل
الوقت أو يكون مطلقاً ، وإن كان غيريّاً ، فهو مقيَّد بما بعد الوقت على كلّ
تقدير.
وعلى
الأوّل ، فلا يمكن جريان
البراءة عن تقييد الصّلاة بالوضوء ،
لمعارضته بجريانها
عن وجوبه النفسي قبل الوقت ، للعلم الإجمالي بأنّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ،
وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعيّة العمليّة ؛ فلا بدّ من
الاحتياط والوضوء قبل الوقت ، فإن بقي إلى ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده ولا تجب
الإعادة ، وإلاّ وجبت لحكم العقل بالاحتياط.
وعلى
الثاني : فلا معنى لإجراء
البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، لعدم احتمال تقيّده به ، لأنّ مفاد أصالة
البراءة رفع الضّيق عن المكلّف لا رفع السّعة ، وأمّا بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب
الوضوء ، للعلم الإجمالي بوجوبه إمّا نفسيّاً وامّا غيريّاً ، ولا يمكن إجراء
البراءة عنهما معاً ، ومعه يكون العلم الإجمالي مؤثّراً ويجب الاحتياط.
نعم ، لو شككنا في
وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيريّاً ، أمكن رفعه بأصالة البراءة ،
لأنّ تقييده بما بعد الوقت على تقدير كون وجوبه غيريّاً مجهول ، فلا مانع من الأصل
، لأنّ وجوبه إنْ كان نفسيّاً فهو غير مقيّد بذلك ، وإن كان غيريّاً ، فالقدر
المعلوم تقيّد الصّلاة به وأمّا تقيّدها بخصوصيّة بعد الوقت فشيء زائد مجهول ،
فيدفع بالأصل.
فالبراءة لا تجري
إلاّ في الجهة الأخيرة.
رأي الشيخ الأُستاذ
وخالف الشيخ
الأُستاذ الميرزا القائل بالبراءة في الصّورة ، والسيد الخوئي القائل بالتفصيل
فيها كما تقدَّم ، واختار الاحتياط في الجهات الثلاثة ، أي : وجوب الإتيان بالوضوء
قبل الصّلاة ... وخلاصة كلامه هو :
إنّ جريان أصالة
البراءة في أطراف العلم الإجمالي موقوف على إخراج مورد الشّبهة عن الطرفيّة للعلم
وكون الشك فيه بدويّاً ، وإلاّ لم يجر الأصل. هذا
بناءً على مسلك
العليّة. وأمّا بناءً على مسلك الاقتضاء ، فالانحلال لا يحصل إلاّ بخروج مورد
الشّبهة عن الطرفيّة للمعارضة. ومن الواضح أنّ وقوع المعارضة فرع وجود المقتضي
للجريان في كلّ طرفٍ ، فيكون الأصل جارياً فيهما ويسقطان بسبب المعارضة.
وعلى هذا ، فإنّ
معنى الشك بتقيُّد أحدهما بالآخر ـ في عنوان الصورة الرابعة ـ بأن تكون الصّلاة
مقيّدةً بالوضوء ، هو كون وجوب الصّلاة نفسيّاً ووجوب الوضوء غيريّاً ، فيحصل لنا
علم إجمالي في الوضوء بين أن يكون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً ، لكنّ حصول العلم
الإجمالي بالوجوب النفسي أو الغيري للوضوء مسبوق بعلم إجمالي مردّد بين الوجوب
النفسي للوضوء والوجوب النفسي للصّلاة ، ـ والعلم الإجمالي المذكور في الوضوء تابع
لهذا العلم الإجمالي السّابق ـ ومن المحال تحقّق العلم الإجمالي بين النفسيّة
والغيريّة للوضوء بدون العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للوضوء أو الوجوب النفسي
للصّلاة ... وعليه ، فكما أنّ المقتضي لجريان الأصل موجود في طرف الوضوء ، كذلك هو
موجود في طرف الصّلاة ، والأصلان يجريان ويتعارضان ، ويتنجّز العلم الإجمالي ويجب
الاحتياط.
والحاصل
: إنّ العلم
الإجمالي في الوضوء ـ وأنّه إن كان نفسيّاً فكذا وإنْ كان غيريّاً فكذا ـ تابع
للعلم الإجمالي بالوجوب النفسي للصّلاة أو الوضوء ـ سواء كان في الطول كما هو
الصحيح أو في العرض ـ وإذا تساقط الأصلان في العلم المتبوع وجب الاحتياط.
تذنيبٌ
وفيه أمران
الأمر الأول
في حكم الواجب الغيري من حيث الثواب والعقاب
إنّه هل يترتّب
الثواب والعقاب على امتثال ومخالفة الواجب الغيري كما يترتّب ذلك على الواجب
النفسي ، أو بين الواجبين فرق من هذه الجهة؟
أمّا الواجب
النفسي ، فلا إشكال في ترتّبهما على امتثاله ومخالفته.
كلام المحقّق الأصفهاني في الواجب النفسي
وقد ذكر المحقق
الأصفهاني لذلك وجوهاً ثلاثة :
أحدها
: قاعدة اللطف ،
فإنها تقتضي تكليف العباد لغرض إيصالهم إلى المصالح المترتّبة على التكاليف
وإبعادهم عن المفاسد المترتّبة على تركها أو إتيان المحرّمات ، وهذا لطف عظيم ،
إلاّ أنّ للوعد والوعيد دخلاً في تحقّق الامتثال وقبول البشارة والنذارة ، ولا ريب
في وجوب الوفاء بالوعد ، فيكون ترتّب الثواب على الأعمال واجباً شرعاً ، وكذا
استحقاق العقاب على المخالفة والمعصية.
والثاني
: تجسّم العمل ،
فإنّ هناك ملازمةً بين الأعمال وبين الصّور المناسبة لها ، فالعمل إن كان حسناً
تحقّقت صورة حسنة مناسبة له ، وإن كان سيّئاً تحقّقت صورة مناسبة له ... وهذا وجه
آخر لترتّب الثواب والعقاب على الإطاعة
والمعصية ،
وأنّهما من لوازم الأعمال ، كالملازمة بين النار والحرارة وغيرهما من التكوينيّات.
والثالث
: حكم العقل ،
بيانه : إنّ حفظ النظام غرض من أغراض العقلاء بالضرورة ، وهم يرون ضرورة تحقّق كلّ
ما يؤدّي إلى حفظ النظام ، ومن ذلك المدح والجزاء على العمل الحسن والذم والمؤاخذة
على العمل السيّئ ، فالأوامر والنواهي المولويّة ـ سواء المولى الحقيقي أو العرفي
ـ لها مصالح ومفاسد ولها دخل في حفظ النظام ، والعمل الحسن يستتبع استحقاق الجزاء
الحسن والعمل السّيئ يستتبع استحقاق العقوبة ، فإذا أعطى المولى الجزاء أو عاقب
على المعصية وقع في محلّه ، لا أنّه واجبٌ على المولى ذلك وأنّ للعبد المطالبة
بالثواب على عمله ، فإنّ هذا لا برهان عليه .
أقول
:
وقد تكلّم
الأُستاذ دام بقاه على الوجه الثالث من هذه الوجوه ومحصّله : أن الحكم بترتّب
الثواب والعقاب عقلائي ، وهو حكم عرضي بلحاظ حفظ النظام ، وليس ذاتيّاً ، وأنّ
هناك كبرى واحدة تجري في المولى الحقيقي والمولى العرفي ... فناقشه : بأنّ الأحكام
العقلائية هي قضايا توافقت عليها آراؤهم حفظاً للنظام ، لكنّ الحاكم باستحقاق
الثواب والعقاب على موافقة حكم المولى الحقيقي أو مخالفته هو العقل لا العقلاء ،
لأنّ الأحكام العقلائيّة تدور مدار النظام وحفظه ، أمّا حكم العقل بقبح مخالفة
المولى الحقيقي فموجود سواء كان هناك عقلاء ونظام أو لم يكن ... فإنّ العقل يرى
قبح معصية المولى الحقيقي على كلّ حال ، ولو كان هذا الحكم عقلائيّاً لجازت
المعصية حيث لا يوجد نظام أو عقلاء ، أو حيث لا يلزم
__________________
اختلال للنظام ،
وهذا باطل.
والحاصل
: إنّ كلام هذا
المحقّق يستلزم جواز مخالفة المولى الحقيقي حيث لا يترتّب على المخالفة اختلال
للنظام العقلائي ، وأنّه في حال عدم لزوم الاختلال فلا دليل على وجوب إطاعة أوامر
الباري وحرمة معصيته ، وهذا اللازم باطل ، لأنّ العقل مستقل بلزوم إطاعة المولى
الحقيقي في جميع الأحوال وعلى كلّ التقادير.
المختار عند الأُستاذ
والمختار عند
الأُستاذ : أمّا استحقاق العقاب ، فلا ريب في ترتّبه على المخالفة والمعصية للمولى
الحقيقي. وأمّا استحقاق الثواب على الطاعة ، بمعنى أن يكون للعبد حق المطالبة ،
فهذا باطل ، لأنّ القدرة على الطاعة وتحقّقها من العبد تفضّل منه ، وهذه خصوصيّة
المولى الحقيقي هذا أولاً. وثانياً : إنّ أوامر المولى ونواهيه كلّها ألطاف ، لأنه
بالامتثال لها يحصل له القرب من المولى ، وهذا نفع للعبد المكلّف.
(قال) : لكنّ
المهمّ هو معرفة المولى الحقيقي حق معرفته ، وما عرفناه! كما قال تعالى (وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ومن عرفه كذلك
كان مصداقاً لقوله (يا أَيُّهَا الَّذينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) إذن ، لا بدّ
أوّلاً من معرفة المولى معرفةً كاملةً ، ومن حصلت له تلك المعرفة حصل عنده تقوى
الله حقّ تقاته ، أي أداء حق العبوديّة والقيام بالوظيفة على نحو الكمال.
ومن معرفته تعالى
هو : أنْ نعرف أنّ عدم إعطائه الثواب على الأعمال
__________________
الصالحة والطاعات ليس
بلائق بشأنه ... وتوضيح ذلك :
إنّا لا نقول
بوجوب الثواب على الطاعة من حيث أنّها طاعة ولكون العبد مطيعاً ، لأنّ العبد مملوك
للمولى وطاعته إنّما كانت بحوله وقوّته وهي لطف منه ومنّة على العبد ، ولا جزاء
عليه حينئذٍ ، بل نقول بوجوب الثواب من جهة المطاع ، بمعنى أنّ عدم ترتّب الثواب
على الطاعة غير لائق بهذا المولى ، فالطاعة ـ من حيث أنّها طاعة ـ لا تستتبع وجوب
الثواب ، لكنّ عدم ترتّب الثواب عليها غير لائق بالمولى ....
والدليل على هذا ـ
قبل كلّ شيء ـ هو كلامه تعالى ، ففي الكتاب آيات مبدوّة بكلمة «ما كان» ومعناها :
عدم لياقة هذا الشيء لأن يتحقّق ويكون ، سواء كان من الله أو الرسول أو سائر الناس
... فمثلاً يقول تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي : إن هذا غير
لائق بالمؤمنين وليس من شأنهم ، بل إنّ المؤمنين يتّبعون ما أراده الله تعالى لهم
وقضى في حقّهم ، إذ لا يكون قضاؤه فيهم إلاّ حقّاً ومصلحةً لهم.
ويقول تعالى : (وَما
كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي : إن هذا لا
ينبغي وغير صالح صدوره منه.
ويقول تعالى : (وَما
كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى بظلم ...) فالظلم لا يليق
بذاته المقدّسة ، وكذا العذاب بلا بيان ، إذ قال : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً .
وقد وردت الكلمة
في آيةٍ تتعلّق بالبحث وهي (وَما كانَ اللهُ
لِيُضيعَ
__________________
إيمانَكُمْ)فالآية دالّة على أنّ الله تعالى ليس من شأنه أن يضيع أعمال
المؤمنين ، ولا يليق به ذلك ، ولذا قال بعد هذا : (إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحيمٌ) وهو بمثابة التعليل ، بمعنى أنّ الرءوف الرحيم على الإطلاق
ـ ولعموم الناس ـ لا يليق به أن يضيع إيمان المؤمنين ويترك أعمالهم بلا ثوابٍ
وأجر.
والحاصل
: إنّه ليس للعبد
أن يطالب المولى الحقيقي بشيءٍ من عمله ، فإنّه إذا صلّى إطاعةً لأمر الله ، فقد
أتى بها بحول الله وقوته (ما شاءَ اللهُ
لاقُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ) وإذا صلّى حصلت
له التزكية (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وتلك منّة من
الله عليه ... فليس للعبد أن يحتج بشيء على الله ، لا من ناحية نفسه ولا من ناحية
عمله ... لكنّ مقتضى شأن ربوبيّته وأُلوهيّته التي أشار إليها ب (هو) في (قُلْ
هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لاإِلهَ إِلاّ هُوَ) أن لا يجعل العمل
بلا أجر ، وكذا مقتضى صفاته (وهو الرؤف الرحيم) فللعبد أن يقول
له : «أنت كما وصفت نفسك» «اللهمّ إن لم أكن أهلاً لأنْ أُبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن
تبلغني وتسعني» فيطلب منه الأجر والثواب من هذا الباب.
هذا تمام الكلام
على ترتّب الأثر على الواجبات والمحرّمات النفسية.
وأمّا الواجب
الغيري ، فقد ذهب المحقّقان الخراساني والأصفهاني إلى عدم استحقاق الثواب على
موافقة الأمر الغيري والعقاب على مخالفته.
__________________
الدليل على عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجب
الغيري
واستدلّ في (الكفاية)
على عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجب الغيري بوجهين ، أحدهما : حكم العقل بعدم الاستحقاق واستقلاله بذلك. والآخر : إنّ الثواب والعقاب من آثار القرب والبعد عن المولى ،
والواجب الغيري لا يؤثّر قرباً أو بُعداً عن الله ، بل المؤثّر في ذلك هو الواجب
النفسي ... نعم لو كان لواجب نفسي مقدّمات كثيرة ، فإنّه يثاب على الإتيان بتلك
المقدّمات من باب «أفضل
الأعمال أحمزها» .
وقال المحقّق
الأصفهاني ما محصّله :
إنّ هذا الوجوب
بما أنه مقدّمة للوجوب النفسي ولا غرض منه إلاّ التوصّل إليه ، فهو معلول له ،
والانبعاث إنّما يكون من الأمر النفسي المتعلّق به الغرض الاستقلالي ، وأمّا تحرّك
الإنسان نحو المقدّمة فهو بالارتكاز ، ولذا يكون الواجب المقدّمي مغفولاً عنه ،
وتحرك الإنسان نحوه يكون بالارتكاز ، فكلّ الآثار مترتّبة على الواجب النفسي .
أقول
:
والإنصاف : إن ما
ذكر لا يكفي لأن يكون وجهاً لعدم استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري ، بل
قال السيد الأُستاذ : بأنه لا يخرج عن كونه وجهاً صوريّاً .
وأشكل عليه شيخنا
دام بقاه : بأن مورد البحث هو حيث يكون المكلّف
__________________
حين العمل ملتفتاً
، كما هو الحال في الوضوء من أجل الصّلاة مثلاً ، فإنّ المتوضّئ ليس بغافل عمّا
يفعل. فليس المقدّمة مغفولاً عنه. والحاصل : إنّ المقدميّة لا تمنع من الالتفات والتوجّه إلى العمل ،
وهو ظاهر قوله عليهالسلام : «طوبى لعبدٍ تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي».
وعلى الجملة ،
فإنّ المقدّمة قد تعلّق بها الطلب وأصبحت واجبةً ، وقد أتى بها امتثالاً للأمر ،
وهي ملتفت إليها ، وإنْ كان الغرض الأصلي مترتّباً على ذي المقدّمة.
وذكر سيّدنا
الأُستاذ قدسسره برهاناً آخر قال : ومحصّل ما نريد أن نقوله بياناً لهذا
الوجه هو : إن الثواب إنما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطاً بالمولى بالاتيان به بداعي
الأمر ـ الذي هو معنى الامتثال ـ ، فترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري انما
تتصور بالإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري ، ومن الواضح أن الأمر الغيري لا يصلح
للداعويّة والتحريك أصلاً ، فلا يمكن الاتيان بالعمل بداعي الامتثال الأمر الغيري.
أما أنه لا يصلح للداعويّة والتحريك ، فلأن المكلف عند الاتيان بالمقدمة إمّا ان
يكون مصمماً وعازماً على الاتيان بذي المقدمة أو يكون عازماً على عدم الإتيان به ،
فإن كان عازماً على الإتيان به ، فإتيانه المقدمة ـ مع التفاته إلى مقدميتها كما
هو المفروض ـ قهري لتوقف ذي المقدمة عليها ، سواء تعلق بها الأمر الغيري كي يدعى
دعوته إليها أو لا فالاتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر
الغيري ، بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وإن كان عازماً على عدم الاتيان
بذي المقدمة ، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري بالاتيان بالمقدمة ، إذ ملاك تعلق الأمر
الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسي ،
__________________
لو لم نقل ـ إذ
وقع الكلام في أن المقدميّة جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة تقييدية ـ : بان
موضوع الأمر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة. ومن الواضح أنه مع
قصد عدم الاتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند
الاتيان بالمقدمة ، ومعه لا معنى لقصد امتثال الأمر الغيري بالعمل ، إذ جهة تعلق
الأمر الغيري غير ملحوظة أصلاً.
ويتضح هذا الأمر
على القول بكون الأمر الغيري متعلقاً بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلى ترك
الواجب النفسي لا يكون المأتي به واجباً بالوجوب الغيري ، فلا معنى لقصد امتثاله
فيه لانه ليس بمتعلق الوجوب .
أقول
:
إن الكلام ـ الآن
ـ في ترتّب الثواب على إطاعة الأمر الغيري ، فمع فرض كون المكلّف ملتفتاً إلى
مقدّمية الواجب الغيري وكونه عازماً على إطاعة أمر الواجب النفسي ، هل يعتبر في
ترتب الثواب وجود أمرٍ بالمقدّمة والانبعاث منه كي يقال بعدم الترتّب ، لعدم
داعوية الأمر الغيري ، أو يكفي لترتّبه الرجحان الذاتي أو الانقياد للمولى
المتمشّي منه مع الالتفات إلى ما ذكر؟
الظاهر هو الثاني
، وهو الذي نصّ عليه السيد الأُستاذ نفسه في مسألة الطّهارات الثلاث ، فتأمّل.
وأمّا العقاب على
معصية الواجب الغيري ، فقد يقال بترتّبه كالثواب ، لأنه أمرٌ وقد عصي ، قال المحقق
الإيرواني : إنّ المفروض وجوب المقدّمة ، وأثر الوجوب هو الثواب على الإطاعة
والعقاب على المعصية .
__________________
لكنّ الحقّ ـ كما
عليه المحققون ومشايخنا ـ أنّ هذا خلاف الارتكاز العقلائي ، فإنّ العقلاء لا يرون
استحقاق العقاب إلاّ على ترك ذي المقدّمة ، وهم يرون قبح ترك المقدمة لأنه يؤدّي
إلى ذلك.
قال شيخنا : اللهم
إلاّ إذا خولف الأمر الغيري عصياناً لنفس الأمر الغيري. لكنّ مثل هذه الحالة قليل
جدّاً ، ولذا كان الارتكاز العقلائي ـ على وجه العموم وبالنظر إلى عامّة الناس ـ قائماً
على عدم استحقاق العقاب لمخالفة الأمر الغيري.
الأمر الثاني
كيفيّة
عباديّة الطّهارات الثلاث
ثم إنه بناءً على
أن الأمر الغيري لا يستحقُّ على امتثاله الثواب ، فقد وقع الكلام بين الأعلام في
الطهارات الثلاث ، لأنّ الأوامر المتعلّقة بها غيريّة ، مع أنها يترتّب عليه
الثواب بلا إشكال؟
وأيضاً
: الأوامر المتعلّقة
بالمقدّمات توصّلية وليست بعباديّة ، لأنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل إلى ذي
المقدّمة وليس يترتّب عليها غرض آخر ، وعليه فهي غير منوطة بقصد القربة ، لكن
الإتيان بالطهارات بلا قصد القربة باطلٌ ، فكيف الجمع؟
رفع المحقّق
الخراساني الإشكال فيها
أجاب المحقّق الخراساني
عن الإشكال الأوّل : بأنّ ترتّب الثواب على الطهارات إنّها
هو من جهة المطلوبيّة النفسيّة لها كما في قوله تعالى : (إِنَّ
اللهَ يُحِبُ
__________________
التَّوَّابينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ) فالطهارة بنفسها
محبوبة لله ، والثواب مترتّب على هذه المحبوبيّة والمطلوبيّة ، لا من جهة الأمر
الغيري المتعلّق بها كي يرد الإشكال.
وأجاب عن الثاني :
بأنّ كلّ أمرٍ إنّما يدعو إلى متعلّقه ، والأمر الغيري كذلك ، فإنّه يدعو إلى
متعلَّقه وهو المقدّمة. لكن المقدّمة قد لا تكون عباديّة كنصب السّلم للصعود إلى
السطح ، فيتحقّق التوصّل إلى ذي المقدّمة بمجرّد حصول المقدّمة. أمّا في الطهارات
فقد تعلّق الأمر بها لا بذواتها ، بل مقيّدة بقصد القربة ، فكان الأمر ـ مع كونه
غيريّاً ـ قد تعلّق بمقدّمة عباديّة ، وعلى هذا فلا يسقط إلاّ بالامتثال له والإتيان
به مع هذا القيد.
الأصل فيه هو الشيخ الأعظم
وهذا الذي ذكره
المحقّق الخراساني في دفع الاشكال متّخذ من الشيخ قدّس الله روحه ، والأفضل هو
الرجوع إلى كلامه والتعرّض لما قاله الأعلام في نقضه أو إبرامه.
فلقد طرح الشيخ في
مسألة الطهارات ثلاث إشكالات ، ذكر اثنين منها في الأُصول والثالث في مبحث نيّة الوضوء من (كتاب الطهارة) فيقول الشيخ في بيان الاشكال الأوّل :
إنّ مقتضى القاعدة
العقليّة هو أنّ الأمر الغيري من شئون الأمر النفسي وليس في قباله ، وكذلك إطاعة
الأمر الغيري ، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسي ، فالأمر الغيري تابع للأمر النفسي
في ذاته وفي ترتّب الأثر عليه قرباً وبعداً وفي إطاعته ومعصيته. لكنّ هذا مخالف
للأخبار المستفيضة في الطهارات والإجماع القائم
__________________
على ترتّب الثواب
على نفس الطهارة ، فإنّ الثواب يترتّب على الوضوء للصّلاة ، لا للصّلاة عن وضوء ...
فكان الإشكال الأوّل : المخالفة بين القاعدة العقليّة ومقتضى النصوص والإجماعات.
فأجاب الشيخ :
بأنّ الثواب في
الطهارات مترتّب على ذواتها ، لكونها محبوبةً بالمطلوبيّة والمحبوبيّة النفسيّة ،
وليس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغيري ليتوجّه الإشكال ، بل إنّها محبوبة بأنفسها
ولها الاستحباب النفسي.
وهذا ما ذكره صاحب
الكفاية.
ولكن الشيخ قدّس
سره قد نصّ على أنّه جواب غير مفيد ، والوجه في ذلك هو : أنّ تصوير الاستحباب
النفسي للطّهارة لا يجتمع مع الوجوب الغيري الثابت لها ، لأنّ الوجوب والاستحباب
لا يجتمعان في المتعلّق الواحد ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين ، ولو قلنا بأنّه مع
الوجوب الغيري لا يبقى الاستحباب النفسي ، عاد الإشكال ....
إلاّ أن يوجّه :
بأنّه مع الوجوب الغيري ينعدم الاستحباب النفسي بذاته ، بل يزول حدّه ويندك في
الوجوب ، كاندكاك المرتبة الضعيفة من النور في المرتبة القويّة منه ، فإنه لا
ينعدم بل يندك ، وذاته محفوظة ... فلا مانع من أن يترتّب الأثر على المطلوبيّة
النفسيّة الاستحبابيّة الموجودة هنا مندكّةً في الوجوب الغيري ....
لكنّ هذا التوجيه
أيضاً لا يرفع المشكلة إلاّ في الوضوء والغسل ، لقيام الدليل فيهما على المطلوبيّة
النفسيّة كذلك ، أمّا في التيمّم فلا دليل ، وإنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض
الأخبار ، لكنّه لا يفيد.
على أنّه يرد على
تصوير الاستحباب النفسي أيضاً : إنّ المستفاد من كلمات
الأصحاب كفاية
الإتيان بالطهارات بداعي الأمر الغيري حتّى مع الغفلة عن المطلوبيّة النفسيّة
المذكورة ، وهذا لا يجتمع مع عباديّتها ـ ولو بالاستحباب ـ لأنّها موقوفة على
الالتفات والقصد.
ثم قال الشيخ : بأنّ
الأولى هو القول بأنّ الثواب على الطهارات تفضّل من الله.
ثمّ أمر بالتأمّل.
وأخذ صاحب الكفاية
هذا الجواب إذ قال : بأنّ الأمر يدعو إلى متعلّقه وهو «المقدّمة» وهي الطهارات
بقصد القربة ، فيكون الاستحباب النفسي مقصوداً بقصد الأمر الغيري. ثمّ أمر بالفهم.
والوجه في ذلك
واضح ، لأنّه مع الجهل والغفلة يكون القصد محالاً ، ومع عدمه لا يمكن تحقّق عنوان
العباديّة.
هذا كلّه بالنسبة
إلى الإشكال الأوّل ، وهو كيفيّة ترتّب الثواب على الأمر الغيري.
وأمّا الإشكال
الثاني ـ وهو أنّه إذا كان الوضوء مثلاً للتوصّل إلى الغير فوجوبه توصّلي مع أنّه
عبادة يعتبر فيه قصد القربة ـ فقد ذكره الشيخ ، وحاصله : إنّ الطهارات الثلاث لا يحصل الغرض منها بأيّ صورةٍ اتّفقت
، بل يعتبر فيها قصد القربة ، فكيف يكون وجوبها غيريّاً والغرض منها التوصّل إلى
الصّلاة مثلاً؟
وأجاب الشيخ ـ وتبعه
في الكفاية ـ بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العباديّة من المقدّمة.
لكنّ هذا يتوقّف
على حلّ المشكلة السابقة ، إذ الإتيان بالمقدّمة مع الجهل والغفلة عن استحبابها
النفسي لا يحصل الغرض منها وهو التوصّل إلى
ذي المقدّمة ، فقد
اعتبر فيها قصد القربة والمفروض انتفاؤه ، قاله شيخنا دام بقاه.
وأمّا الإشكال
الثالث ـ الذي تعرّض له في كتاب الطهارة في كيفيّة نيّة الوضوء ـ فهو : إنّ الأمر
الغيري قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً ، لا بعنوان المقدّمة ، فالوضوء
الواقع مقدّمة للصّلاة ـ سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول في
الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة ـ فهو رافع أو شرط إن أُتي به وتحقّق مع قصد
القربة ... فالأمر الغيري يتوقّف تحقّقه على كون متعلّقه مقدّمةً قبل أن يتوجّه
إليه الأمر ويتعلّق به ، وثبوت مقدّمية المتعلّق موقوفٌ على كونه مأتياً به عبادةً
، لكنّ عباديّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغيري به ، وهذا دور.
وأورد عليه
الميرزا : بأنّ هذا الدور لا يتوقّف على تحقّق المتعلّق والإتيان
به على وجه العباديّة ، بل هو حاصل في مرحلة جعل المتعلّق وتوجّه التكليف به ، ففي
تلك المرحلة لا بدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغيري من متعلّق ، ولا بدّ من أن
يكون عبادةً ـ وإلاّ لا يكون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول في الصّلاة ـ فجعل
الأمر الغيري موقوف على عباديّة الوضوء مثلاً ، وعباديّته موقوفة على جعل الأمر
الغيري ... فالدور حاصل ، سواء وصل الأمر إلى مرحلة التحقّق خارجاً أو لا.
ثمّ أجاب عن الدور
: بأنّ عباديّة الوضوء ليست من ناحية الأمر الغيري ، بل من جهة استحبابه النفسي
الموجود قبل تعلّق الأمر الغيري به.
فقال
الأُستاذ : لكنّ الإشكال في
مورد الجاهل والغافل باقٍ على حال ، فإمّا أن ترفع اليد عن عباديّة الطهارات في
حقّهما ، وامّا يقال بأنّ عباديّتها جاءت من ناحية الأمر الغيري ، فيعود محذور
الدور.
ولكنْ لا يبعد أن
يكون نظر الشيخ في تقريب الدور إلى لزومه في مرحلة
__________________
العمل مضافاً إلى
مرحلة الجعل ، فهو يريد إضافة إشكال ، وأنّ الدور لازم في المرحلتين ، لا أنّه
ينفي لزومه في مرحلة الجعل. بل إنّ مقتضى الدقّة هو أنّ إثبات الدور في مرحلة
الامتثال وفعلية الأمر يستوجب اثباته في مرحلة الجعل ، ولا عكس ... وكأنّ الميرزا
قد غفل عن هذه النكتة ... فبيان الشيخ أمتن من بيان الميرزا ، فتدبّر.
وأشكل الميرزا في
الطّهارات الثلاث ، بإشكال الدور ، وبالنقض بالتيمّم لأنّه ليس بمستحبٍّ نفسي ...
وقد تقدّم ذكرهما عن الشيخ.
ثمّ أجاب الميرزا
عن الإشكال ـ باستحالة القصد مع الجهل والغفلة ، وأنّه إذا استحال القصد استحالت
العبادية للطهارات ـ بأنّه يمكن تحقّق العباديّة فيها بوجهٍ آخر ، وهو أنّ الأمر
بالمشروط ينبسط على الشرط كانبساط الأمر بالمركّب على أجزائه ، وكما أنّ الإتيان
بالأجزاء بقصد الأمر بالمركّب يحقّق لها العباديّة ، كذلك الأمر المتوجّه إلى
المشروط ، فإنّه يتحقّق العباديّة للشرط ، فالوضوء يؤتى به بداعويّة الأمر
المتوجّه إلى الصّلاة ، كما أنّ الركوع ـ مثلاً ـ يؤتى به بداعويّة الأمر
بالصّلاة.
فأورد شيخنا
الأُستاذ عليه : بأنّ المبنى المذكور غير مقبول ولا يحلّ المشكل ، فأمّا تعلّق
الأمر في المركب بالأجزاء فهو أوّل الكلام ، ثمّ إنّ الفرق بين الجزء والشرط واضح
تماماً ، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر على المبنى ، لكنّ الشروط خارجة عنه ، إذ
الداخل تحته فيها هو الاشتراط لا الشّرط ، فليس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل
المطلوب به تقيّدها واشتراطها به.
وكذا سيّدنا
الأُستاذ وأضاف : بأنه لو سلّم ما ذكر ، فالشرط فيما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء
، وهي مسبّبة عن الوضوء ، والإشكال في تصحيح عباديّة
نفس الأعمال
المأتي بها ، وهي لا تكون متعلّقةً للأمر الضمني لأنها ليست شرطاً ... .
فما ذكره لا يحلّ
المشكلة.
وأمّا الجواب عن
النقض بالتيمّم : بأنّه مستحبٌ بالاستحباب النفسي ، بالنّظر إلى طائفتين من النصوص
، أفادت الأولى مطلوبيّة الطّهور في جميع الأحوال ، والثانية كون التيمّم أحد
الطهورين ، ومحصّلهما كون التيمّم مطلوباً للمولى. فقد ذكره الشيخ قدسسره ، إلاّ أنّه قال
بعد ذلك ما حاصله : أن أحداً من الفقهاء لم يذهب إلى الاستحباب النفسي للتيمّم.
لكنّ الحق تماميّة
الجواب المذكور ، إذ المستفاد من الصحيحة : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا»
هو المطلوبيّة النفسيّة للطهارة ، وروى الصدوق مرسلاً : «من
تطهّر ثمّ أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده ...» وفي الخبر أيضاً : «إنّ التيمّم أحد الطهورين» ومن جميع هذه الأخبار يستفاد المطلوبيّة النفسية للتيمّم ، ومقتضى القاعدة هو
الأخذ بظواهر هذه النصوص إلاّ أن يثبت إعراض الأصحاب عنها ، لكنّها دعوى ممنوعة ،
بل إنّ ظواهر كلمات بعضهم في بدليّة التيمّم عن الوضوء ترتّب جميع آثار الوضوء على
التيمّم.
هذا ، وقد يقال :
باستحباب التيمّم نفساً عن طريق الإجماع القائم على أن رافعيّة الطهارات الثلاث
للحدث أو مبيحيّتها للدخول في الصّلاة متوقفة على كونها ـ أي الطهارات ـ عبادةً ،
وذلك : لأنّه إذا لم يكن الأمر الغيري موجباً لعباديّتها
__________________
كان الإجماع
المذكور دليلاً على الاستحباب النفسي لها ، وإلاّ لم يتحقّق العباديّة للتيمّم.
وأشكل عليه
الأُستاذ : بأنّ الإجماع على مقدميّة الطهارات للصّلاة وكونها عبادةً لا يثبت
الاستحباب النفسي للتيمّم ، لاحتمال استناد المجمعين إلى الروايات التي أشرنا
إليها ، أو لقولهم بأنّ الإتيان بالمقدّمة بداعويّة الأمر الغيري أو التوصّل إلى
الصّلاة مقرّب. ومع وجود هذه الاحتمالات لا يكون هذا الإجماع كاشفاً عن رأي
المعصوم أو عن دليل معتبر ....
وتحصّل اندفاع
الاشكال بالنظر إلى الروايات واستظهار الاستحباب النفسي منها.
وأشكل الميرزا
أيضاً : بأنّ الطّهارات الثلاث ـ لكونها مقدّمةً للصّلاة ـ متّصفة بالوجوب الغيري
، ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلّق بها بحاله ، للتضادّ بين الأحكام ،
وعليه ، فلا بدّ من الالتزام باندكاك الأمر النفسي الاستحبابي في الوجوب ، وحينئذ
، كيف يمكن أن يكون منشأً للعباديّة؟
قال الأُستاذ :
وهذا الإشكال أيضاً قد تعرّض له الشيخ وأجاب عنه : بأن زوال الطلب قد يكون بطروّ
مفسدة ، وقد يكون بطروّ مصلحةٍ أُخرى للطلب ، فإنْ كان الطارئ هو المفسدة فلا
مطلوبية نفسية ، وإنْ كان هو المصلحة ، فإنّ حدّ المطلوبيّة يزول بعروضها وأمّا
أصل المطلوبية فباق ، وحينئذٍ ، يمكن الإتيان بالطهارة بداعي أصل المطلوبيّة
النفسيّة.
وقد أوضح المحقّق
الأصفهاني هذا الجواب : بأنّ الوجوب الغيري إن كان الإرادة الشديدة فلا كلام ،
كأن يكون الوضوء ـ مثلاً ـ مطلوباً نفسيّاً قبل الوقت
__________________
ومتعلّقاً للإرادة
، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فيكون واجباً ... لأنّ الإرادة قابلة للشدّة
كما هو معلوم ، نظير النور ، فإنّه مع مجيء النور الشديد لا ينعدم النور الضعيف
السابق عليه. وإن كان الأمر ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري أمر آخر غير الأمر
الاستحبابي النفسي ، فلا ريب في زوال الأمر النفسي بمجيئه ، لاستحالة اجتماع المثلين
، لكنّ ملاكه باق ولا مانع من التقرّب بملاك الأمر النفسي.
وقد تنظّر فيه
الاستاذ بما حاصله : أنّه ينافي مسلكه في الإرادة الغيريّة والأمر الغيري ، وذلك
لأنّه قد ذهب فيما سبق إلى أنّ الإرادة الغيريّة والأمر الغيري لا يقبل اللّحاظ
الاستقلالي ، لكونه كالمعنى الحرفي ، فلا يصلح للباعثية ، لأنّه غير قابل للالتفات
النفسي ، نعم ، يتم هذا الجواب على مسلكنا من أنّ هذه الإرادة وهذا الأمر ملحوظ
بالاستقلال ، ويمكن تعلّق القصد به وإنْ كان في ضمن الإرادة الشديدة.
هذا تمام الكلام
على إشكال التيمّم ، ومشكلة انقلاب الاستحباب النفسي إلى الطلب الغيري.
أمّا الأول ، فقد
اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسيّاً من الروايات ، وأمّا الثاني ، فقد اندفع
بناءً على أنّ المطلوب بالطلب الغيري ملحوظ باللحاظ الاستقلالي كما اخترناه.
بقي الكلام في
الإشكال : بأن الجاهل أو الغافل غير الملتفت إلى الاستحباب النفسي ، إنّما يأتي
بالطهارات بقصد الأمر الغيري ، والمفروض أنّ الأمر الغيري توصّلي وليس بعبادي ...
فإنّ هذا الإشكال باقٍ بعد ما تقدّم من سقوط جواب الميرزا بدعوى عباديّتها بنفس
الطلب المتعلّق بالصّلاة ، فلنرجع إلى الوجوه الأُخرى المطروحة في حلّ هذا الإشكال
، فقد قال في الكفاية «وقد تفصّي عن
الاشكال بوجهين
آخرين ...» ولكنّ الأولى هو التعرّض لكلام الشيخ نقلاً عن التقريرات
مباشرةً ، فإليك محصّل كلامه أعلى الله في علوّ مقامه :
إنّ من المقدّمات
ما ندرك توقّف ذي المقدّمة عليه ، ومنها ما لا ندركه ، فالأوّل كتوقف الصعود على
السطح على نصب السلّم ، فإنّ هذا واضح عند كلّ عاقل سواء جاء بيان فيه من الشارع
أو لا ، لكنّ توقّف الصّلاة على الطهارة من القسم الثاني ، فإنّا لا ندرك كيفيّة
توقف أفعال الصّلاة من الحركات والسكنات على الوضوء مثلاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى
الشارع ، ومن أمره بالوضوء عند القيام إلى الصّلاة نستكشف توقّفها عليه.
ثمّ إنّ الأفعال
أيضاً مختلفة ، فمنها : ما يكون حسنه معلوماً ، ومنها : ما لا نعلم جهة الحسن فيه
، ومنها : ما يختلف بالوجوه فهو من وجهٍ حسن ومن وجهٍ قبيح ، كالقيام مثلاً عند دخول
الشخص ، فقد يكون تعظيماً وإكراماً له وقد يكون إهانةً ... وأمر الوضوء من هذا
الحيث أيضاً مجهول ، فإنّا لا ندرك أنّ الوضوء في أيّة حالةٍ يتّصف بالحسن حتى
يكون مقدّمةً للصّلاة.
وعلى الجملة ،
فإنّا جاهلون بالعنوان الذي به يتّصف الوضوء بالحسن والمقدميّة للصّلاة ، ولكنّ
الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غيريّاً ، كان أمره بذلك طريقاً لأنْ نأتي بالوضوء
بعنوانه ، وإنْ كان العنوان على حقيقته مجهولاً عندنا.
وحاصل هذا الوجه :
أوّلاً
: ليس الحسن
والمقدميّة للوضوء بالنسبة إلى الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغيري حتى يلزم
الدور ، بل ذلك يحصل من عنوانٍ يكون الأمر
__________________
الغيري طريقاً
إليه.
وثانياً
: إنّ الأمر الغيري
لا يوجب القرب والثواب كما تقدّم ، لكنّ العمل قد تعنون بعنوانٍ ، فكان الإتيان به
مقرّباً لذلك العنوان ، غاية الأمر هو مجهول ، ولا ضير في ذلك.
وثالثاً
: صحيح أنّ الأمر
الغيري المتعلّق بالوضوء توصّلي ، ولا يمكن أن يكون تعبّدياً ـ والحال أنّ الوضوء
عبادة ـ لكنّ عباديّة الوضوء لم تنشأ من ناحية هذا الأمر حتى يرد الإشكال ، وإنّما
هي من ناحية ذلك العنوان المجهول الذي كان الأمر الغيري طريقاً إليه ، فاندفع
الإشكال. لكنّ عباديّة العمل منوطة بالقصد ، ومع الجهل بالعنوان الموجب للعباديّة
كيف يقصد؟ فأجاب الشيخ : بكفاية قصد الأمر الغيري ، لأنّه يدعو إلى الإتيان
بالوضوء بذلك العنوان ، فصار العنوان مقصوداً عن طريق الأمر الغيري.
هذا ، ولا يخفى
أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشكلة التيمّم أيضاً ـ لأنّ الشيخ قد أشكل على استحبابه
النفسي لظاهر الأخبار ، بعدم ذهاب الأصحاب إلى ذلك ـ فإنّه يتم استحبابه ويكون
مقدّمةً للصلاة بعنوانٍ يكون الأمر الغيري طريقاً إليه وكاشفاً عنه.
لكن يرد على هذا
الوجه :
أوّلاً
: ما ذكره الشيخ
نفسه من أنّ عدم دركنا لكيفيّة توقف ذي المقدّمة على المقدّمة وترتّبه عليها ، غير
منحصر بالطهارات الثلاث ، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخرى أيضاً قد اعتبرها الشارع
مقدّمةً لها ونحن نجهل كيفية توقّفها عليها ، فلو كانت المقدميّة المأخوذة شرعاً
توجب عباديّة المقدّمة ولزوم الإتيان بها بعنوان العبادة ، فلا بدّ من القول بذلك
في تلك المقدّمات أيضاً ، مع أنّ وجوب
الإتيان بقصد
القربة وبالوجه الحسن يختصُّ بالطهارات الثلاث فقط.
وثانياً
: ما ذكره المحقّق
الخراساني من أنّه كما يمكن قصد ذلك العنوان ـ الموجب لحسن العمل والمجهول عندنا ـ
بطريقيّة الأمر الغيري ، كذلك يمكن قصده بنحو التوصيف ، كأن يقصد الوضوء بوصف كونه
مأموراً به ، فلا يكون إتيانه بالوضوء بداعويّة الأمر وطريقيّته ، وإذا أمكن قصد
تلك الخصوصيّة المجهولة بالتوصيف ـ لا بمحركيّة الأمر الغيري ـ أمكن أنْ يكون
الداعي شيئاً آخر غير أخذ الشارع ، فمن أين تحصل العباديّة؟
هذا ، وذكر
المحقّق الخراساني وجهاً آخر وهو : إنّه لا ريب في عباديّة نفس الصّلاة ، وأنّها
يؤتى بها بالوجه القربي ـ سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني ـ وكما أنّ الأمر
قد اقتضى الإتيان بذي المقدّمة ـ أي الصّلاة ـ بوجهٍ قربي ، كذلك يقتضي أن يؤتى
بمقدّماته على الوجه المزبور. إذن ، لم يكن الإتيان بالطّهارات بالأمر الغيري ،
ليرد الإشكال بأنّه لا يوجب العباديّة ، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه.
قال
الأُستاذ : حاصله : لزوم
الاتيان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلى الصّلاة ، لكنّ هذا
الوجه لم يوضّح كيفيّة تأثير الأمر المتعلّق بالصّلاة في مقدّمات الصّلاة وهي
الطهارات الثلاث.
وذكر المحقّق
الخراساني وجهاً آخر وحاصله : أنّه كما تمّت العباديّة للصّلاة بمجموع أمرين ،
تعلّق الأوّل بالأقوال والأفعال والثاني بوجوب الإتيان بها بقصد القربة ، كذلك
تتمّ العبادية للطّهارات بأمرين ، أفاد أحدهما وجوب الإتيان بالغسلات والمسحات ـ في
الوضوء مثلاً ـ والثاني وجوب الإتيان بها بقصد القربة وداعي الأمر الشرعي ... فلا
تكون عباديّتها بالأمر الغيري.
قال
الأُستاذ :
وفيه
: الفرق الواضح بين
الصّلاة والطهارات ، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة كان أمراً نفسيّاً
، وهو مقرّب ، والامتثال له موجب للثواب ، بخلاف الأمر في الطهارات ، فإنّ الأمر
الأوّل فيها غيري ، فلو جاء أمر آخر يقول بلزوم الإتيان بها بداعي الأمر ، فأيّ
أمر هو المقصود؟ إن كان الأمر الأوّل فهو غيري ، والأمر الغيري لا يستتبع ثواباً
وعقاباً ، وإنْ كان غيره فما هو؟
وتلخص
:
إن مشكلة عدم
استتباع الأمر الغيري للثواب والعقاب باقية على المبنى ، وأنّه كيف يكون ممتثلاً
من أتى بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسي لها؟
وذكر المحقّق
الايرواني : أنّ الاشكال المهم في المقام هو : عدم إمكان عباديّة المقدّمة التي
تعلّق بها الأمر الغيري ، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلى ذيها ،
فبنفس الغسلات والمسحات يتحقّق المقدّمة ولا يعتبر فيه قصد القربة.
فأجاب : بأنّ
توقّف الصّلاة على الطهارة ليس من قبيل توقّف الكون على السطح على نصب السلّم ، إذ
الأمر بذلك غير مقيّد بنصبه ، بخلاف بنصبه ، لكنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقيَّد
بالطهارة ، فيكون تقيّدها بها داخلاً في المأمور به ، فكانت الصّلاة مركّبةً من
الأجزاء الواقعيّة كالتكبير والركوع والسجود ... ومن جزءٍ عقلي هو تقيّدها
بالطّهارة ... ولمّا كانت الصّلاة عبادة مقيّدةً بهذه القيود ، فإنّ مقتضى
عباديّتها أن يؤتى بجميع القيود على الوجه القربي ومنها التقيد المذكور ، لكن
الإتيان ب «التقيّد» على الوجه المذكور لا يتحقّق إلاّ بالإتيان ب «القيد» وهو «الوضوء»
مثلاً على ذلك الوجه ... فتحقّق العباديّة للطهارات الثلاث ولزوم
الإتيان بها على
الوجه القربي.
إشكال
الأُستاذ
وأورد عليه
الأُستاذ بوجهين : أحدهما في قوله في طرح الاشكال بعدم امكان كون الأمر الغيري
عباديّاً ، وأنّه غير معقول. فإنّ فيه : أنّ المقدّمة هي ما يتوقّف عليه الشيء ،
وهو قد يكون عبادةً تتقوّم بالقصد ، وقد لا يكون كذلك.
والثاني في قوله في تقيّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادي. ففيه : أن
كونه عبادة يحتاج إلى دليلٍ ، فإنْ كان الدليل عليه هو نفس الدليل على وجوب الإتيان
بالصّلاة بقصد القربة ، بتقريب أنّ الصّلاة في هذه الحال مركّبة من التقيّد ومن
الأجزاء ، فإن هذا يتوقّف على دخول التقيّد المذكور في ماهيّة الصّلاة بحيث لا
يصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه ، والحال أنه ليس كذلك ، بل يصدق عنوان الصّلاة
على الفاقدة للتقيّد.
وعلى فرض دخول
التقيّد في الصّلاة كذلك ، فما الدليل على ضرورة كون القيد ـ كالوضوء مثلاً ـ عملاً
عباديّاً حتى يتحقّق التقيّد؟ بل إنّ الصّلاة مقيّدة بعدم الخبث في لباس المصلّي ،
فكان التقيّد داخلاً ، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له ليس بعملٍ عبادي.
وذكر بعضهم : إنّ
منشأ العباديّة للطهارات هو قابليّتها للتقرّب إلى المولى ، وهذا كاف لترتّب
الآثار كالثواب ... ويشهد بكفاية القابليّة ارتكاز المتشرعة ، فإنّهم لا يأتون
بالوضوء ـ مثلاً ـ بداعي استحبابه النفسي ، بل يأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل
للتقرّب به إلى المولى.
اشكال
الأُستاذ
فأورد عليه
الأُستاذ : بأنْ الأُمور ثلاثة ، فمنها : ما لا يصلح للمقربيّة لأنّه
لا يقبل الإضافة
إلى المولى أصلاً كالظلم ، لقبحه الذاتي. ومنها : ما يصلح لذلك لأنّه يقبل الإضافة
إليه كالعدل ، لحسنه الذاتي ، ومنها : ما لا يصلح لذلك إلاّ بعد الإضافة وأمّا
قبلها فلا ، والحاكم في صلوحه لذلك هو العقل ، والعقل يرى المقربيّة في أحد أمرين
إمّا أن يكون مقرّباً بالذات كالتعظيم ، وامّا أن يكون مقرّباً بالعرض ...
والطهارات الثلاث ليست عبادةً بالذات ، وعباديتها بالعرض موقوف على إضافتها إلى
المولى ، بأنْ يؤتى بها بداعي الأمر أو المحبوبيّة ، فلا يكفي مجرّد القابليّة
فيها للعباديّة.
وقال السيد الخوئي
: «والصحيح في المقام أن يقال : إنّ منشأ عباديّة الطّهارات الثلاث أحد أمرين على
سبيل منع الخلو
أحدهما : قصد امتثال الأمر
النفسي المتعلّق بها مع غفلة المكلّف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم
الإتيان به ، كاغتسال الجنب ـ مثلاً ـ مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو قاصد بعدم
الإتيان بها ، وهذا يتوقّف على وجود الأمر النفسي ، وقد عرفت أنّه موجود. وثانيهما : قصد التوصّل بها إلى الواجب ، فإنّه أيضاً موجب لوقوع
المقدّمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت في بحث التعبّدي والتوصّلي من
أنّه يكفي في تحقّق قصد القربة إتيان الفعل. مضافاً به إلى المولى وإن لم يكن أمر
في البين» .
إذن ، ارتفع
الإشكال ، لأنّ عباديّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلى المولى وهي متحقّقة ، كما
يرتفع اشكال ترتّب الثواب ، لأنّه قد أتى بالعمل بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي
لا بداعي الأمر الغيري.
__________________
قال
الأُستاذ
إنّ هذه النظريّة
متّخذة من كلام الشيخ الأعظم رحمهالله في باب التعبّدي والتوصّلي ، ومن كلام له في باب المقدّمة.
قال الشيخ في
الفرق بين التعبّدي والتوصّلي كما في (التقريرات) : بأنّ الفرق بينهما ليس من ناحية الأمر ، بل من ناحية الغرض والمصلحة
القائمة بمتعلّق الأمر ، ففي التوصّلي تتحقّق المصلحة بالإتيان بالمتعلّق ، أمّا
في التعبّدي فلا ، بل لا بدّ من الإتيان بقصد الامتثال ، فيكون في التوصّلي أمر
واحد ، وفي التعبدي أمران ، يتعلّق الأول منهما بالعمل كقوله صلّ ، والثاني يقول :
أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعي الإطاعة ، وهذا ما أخذه الميرزا واصطلح عليه ب «متمم
الجعل».
وقال الشيخ في باب
المقدّمة : بأنّ التوصّل إلى ذي المقدمة تارةً : يكون بصرف وجود
الأمر الغيري بلا دخلٍ لأمرٍ آخر ، وأُخرى : لا يتحقّق التوصّل إلى ذي المقدّمة
إلاّ بالإتيان بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذيها ، إذن ، لا بدّ من أمرٍ آخر
لإفادة هذا المعنى وتحقيق الغرض من الأمر ، كما هو الحال في التعبّدي والتوصّلي ،
مع فرق بينهما هو أنّ الأمرين هناك كلاهما نفسي ، بخلاف المقام فإنّ الأمرين
كليهما غيريّان ، لتعلّق الأول بالوضوء وهو مقدمة للصّلاة فهو غيري ، وكذلك الثاني
الذي أفاد الإتيان بالوضوء بداعي التوصّل إلى الصّلاة كما لا يخفى.
طريقة الأُستاذ لحلّ الاشكال
وقال الأُستاذ دام
بقاه : بأنّ الإتيان بالعمل بداعي الأمر الغيري يرفع جميع المشاكل ، فإنّه يرفع
مشكلة ترتّب الثواب ويرفع مشكلة عبادية الطهارات
__________________
الثلاث ، وعلى
الجملة ، فإنّ العباديّة تتحقّق بالأمر الغيري وتترتّب عليه جميع الآثار.
أمّا ترتّب الثواب
، فيكفي فيه الإتيان بالعمل مضافاً إلى المولى ، فإذا أُضيف إليه صلح لأنْ يكون
مقرّباً إليه ولأن يترتّب عليه الأجر والثواب ، بل العقل حاكم بكفاية الإتيان به
بمجرّد كون المحرّك نحوه مطلوبيّته للمولى ، فلا خصوصيّة لإضافته إليه ، بل إنّ
حصوله بداعٍ إلهي يجعله مورداً للثواب ، والإتيان بالطهارات كذلك ، وإنْ كان الطلب
الدّاعي له غيريّاً لا نفسيّاً.
وكذلك عباديّة
العمل ، فإنّها تتحقّق بإضافته إلى المولى وإنْ كان الطلب المتوجّه إليه غيريّاً ،
لعدم الفرق في تحقّق الإضافة بين الطلب النفسي والغيري ، والأمر في الطهارات
الثلاث من هذا القبيل ، فالعباديّة متحقّقة فيها بالأمر الغيري ولا إشكال في ذلك ،
إلاّ مشكلة الدور التي ذكرها الشيخ ، لأن متعلّق الأمر فيها ليس هو الأفعال من
الغسل والمسح ، بل الأفعال بوصف العباديّة ، فلو تحقّقت العباديّة لها من ناحية
الأمر الغيري لزم الدور.
وقد تقدّم منّا
حلّ هذه المشكلة : بأنها تبتني على أنْ تؤخذ في متعلّق الأمر الغيري خصوصيّة
الإتيان به بقصده ، إذْ يلزم تقدم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، أو لا تؤخذ ولكنّ
الإطلاق يكون بنحو جمع الخصوصيّات ، فتكون الخصوصيّة المذكورة مأخوذةً في ضمنها ،
وأمّا إذا كان المتعلّق وهو الغسل والمسح في الوضوء مطلقاً بنحو رفض القيود ، كان
المأخوذ فيه طبيعة العباديّة ، ويكون الإتيان به بقصد الأمر الغيري من مصاديق
الطبيعة ، فالأمران مختلفان والدور غير لازم.
وتلخّص : إنّ منشأ
عباديّة الطهارات الثلاث أحد أُمور ثلاثة :
١ ـ قصد امتثال
الأمر الاستحبابي النفسي ، فالعمل مضاف إلى المولى. ذكره
المحقّق
الخراساني.
٢ ـ قصد التوصّل
بها إلى الواجب النفسي ، لأنّه يتحقّق لها بذلك إضافة إلى المولى. ذكره الشيخ.
٣ ـ قصد الأمر الغيري
، لأنّه يضاف العمل للمولى ، وإشكال الدور مرتفع بما ذكرناه ، وإن كان من الشيخ
وارتضاه الآخرون ، وقال في (المحاضرات) : بأنّ الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأً
لعباديّتها . فقد ظهر أنّه معقول ، لأنّ الدور إنّما يلزم لو أُخذ خصوص
الأمر الغيري فيها ، أمّا مع أخذ العباديّة مطلقاً أي بنحو رفض القيود فلا يلزم.
وهذا تمام الكلام
في الطهارات الثلاث.
__________________
هل الوجوب الغيري
يتعلّق بمطلق المقدّمة
أو حصّةٍ معيّنةٍ منها؟
ثم إنّه قد وقع
الخلاف بين الأعلام في متعلّق الوجوب الغيري ، فهل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصّة
معيّنة منها؟ أقوال :
أحدها
: ما نسب إلى صاحب
المعالم : من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على الإتيان بذيها ... فيكون
قيداً للوجوب.
والثاني
: ما نسب إلى الشيخ
من أنّ متعلّق الوجوب : المقدّمة التي قصد بها التوصّل إلى الواجب ... فيكون قيداً
للواجب.
والثالث
: ما اختاره صاحب
الفصول : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة.
والرابع
: ما نسب إلى
المشهور : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة.
النظر في القول الأوّل
إنّ كلمات صاحب (المعالم)
مضطربة مختلفة ، فله كلام يحتمل أنّه يريد كون الوجوب مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة
بنحو القضيّة الشرطية ، وأن يريد أنّها واجبة حين إرادة ذي المقدّمة بنحو القضيّة
الحينيّة.
وكلامه على كلّ
تقدير غير مقبول ، لأنّه بناءً على وجوب المقدّمة ، فإنّ المبنى فيه هو الملازمة بين
مطلوبيّة ذي المقدمة بالطلب النفسي ومطلوبيّة المقدمة بالطلب الغيري ، وعليه يكون
وجوبها تابعاً لوجوبه ولا تفكيك بينهما ،
وحينئذٍ ، يستحيل
تقيّد وجوب المقدمة بإرادة ذيها ، لأنّ الوجوب إنما هو من أجل أن يؤثّر في الإرادة
، فاشتراطه بها تحصيل للحاصل ... ووجوب شيء في حال أو حين إرادة ذلك الشيء ، فإنّه
تحصيل للحاصل كذلك.
إذن ، ليس وجوب
المقدّمة مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة ، ولا هو في حال إرادته.
والحاصل ، إنّه
بعد ثبوت التبعية ، يستحيل الاشتراط بالإرادة أو التقييد بحالها ، وإلاّ يلزم
التفكيك بين الوجوبين الغيري والنفسي.
النظر في القول الثاني
وهو القول المنسوب
إلى الشيخ (التقريرات) ، بأنّ المقدّمة مقيّدة بداعي التوصّل ، وهو قيد اختياري ،
بخلافه في القول الثالث ، فإنّه قيد قهري كما سيأتي ، ... وأيضاً ، هو قيدٌ للواجب
لا للوجوب.
وقد استدلّ لهذا
القول :
بأنّ ما يتوقّف
عليه الشيء معنون بعناوين ، لكنّ العنوان الذي يدخل تحت الأمر الغيري بحكم العقل
هو عنوان المقدميّة لذي المقدّمة ، فنصب السلّم مثلاً يتصوّر له أكثر من عنوان ،
إلاّ أنّ متعلّق الأمر الغيري فيه عنوان المقدميّة للصعود إلى السطح ، إذ الأمر لم
يتعلّق به بعنوان نصب السلّم بما أنّه كذلك بل بما أنّه مقدّمة ... وإذا كان هذا
هو المتعلّق للأمر ، فلا ريب أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، وداعويّته لغير
المتعلّق مستحيلة ، فإذا لم يؤت به بهذه الخصوصيّة لم يتحقّق الامتثال.
وعلى هذا ، فإن
مصداق الواجب ـ سواء في المقدّمات العباديّة أو غيرها ـ
__________________
هو ما أُتي به
بقصد المقدّمة لذيها ، وإنّ ما يُحقّق عنوان المقدميّة هو الإتيان بداعي التوصّل ،
غير أنّه في العباديّات يعتبر قصد القربة أيضاً.
وقد أيّد الشيخ
مطلبه بما في الأوامر العرفيّة ، فلو أمر المولى عبده بتحصيل الثمن وشراء اللّحم
به ، ثم حصل الثمن لا بقصد شراء اللّحم ، لم يكن تحصيله عند العرف امتثالاً للأمر
، لأنّه قد أمر بتحصيل الثمن لاشتراء اللّحم.
وفرّع الشيخ على
مسلكه مسألتين :
أحدهما
: إنّه لو كان على
المكلّف صلاة قضاءٍ ، فتوضّأ قبل الوقت لا بداعي الصّلاة الفائتة ولا بقصد غايةٍ
من الغايات للوضوء ، فلا يجوز له الصّلاة به ، لأنّ المتعلّق للوجوب هو المقدّمة
المأتي بها بداعي التوصّل لذي المقدّمة.
وثانيهما
: إنّه لو اشتبهت
القبلة فصلّى المكلّف إلى جهةٍ من الجهات من غير أن يقصد بها التوصّل إلى الاحتياط
الواجب ، ـ كأن لم يُرد الصلاة إلى الجهات الأُخرى ـ بطلت صلاته. ولذا لو عزم على
الاحتياط بالصّلاة إلى الجهات وجب عليه إعادة تلك الصّلاة ، أمّا لو قلنا بعدم
اعتبار قصد التوصّل ، فإنّه لو قصد الصّلاة إلى جهةٍ واحدةٍ فقط ، ثمّ بدا له وأراد
الصّلاة إلى جميعها عملاً بالاحتياط ، لم تجب عليه إعادة الصّلاة الأولى.
وأورد عليه
الميرزا ـ وتبعه الأُستاذان ـ بخروج هذه الثمرة عن البحث ، لأنّ البحث في المقدّمة
الوجودية لا العلميّة.
هذا في العبادات.
وأمّا في غيرها ،
فمن المقدّمات ما لا يعتبر فيه قصد التوصّل ، فلا فرق بين رأي الشيخ ورأي المشهور
، مثل غسل الثياب لا بداعي التوصّل إلى الصّلاة. ومنها
__________________
ما يعتبر فيه ذلك
، وتتحقّق الثمرة بين القولين فيما لو أمر بإنقاذ الغريق وتوقف ذلك على التصرّف في
ملك الغير ، فيقول الشيخ : بأنّه لو تصرّف بداعي إنقاذ الغريق فلا حرمة ، لأنّ
متعلّق الوجوب هو التصرّف بداعي التوصّل به إلى الإنقاذ ، ولمّا كان الإنقاذ أهمّ
فلا تبقى الحرمة ، أمّا لو تصرّف لا بداعي التوصّل به للإنقاذ فالحرمة باقية وإن
حصل الإنقاذ.
كلام المحقّق الاصفهاني في توجيه مراد الشيخ
وقد تصدّى المحقّق
الاصفهاني لتوجيه كلام الشيخ بما تقريبه :
١ ـ إنّ الأحكام
العقليّة منها نظريّة ومنها عمليّة ، فمن أحكام العقل النظري : استحالة اجتماع
النقيضين وارتفاعهما ، بل هذا هو أُمّ القضايا فيها. ومن أحكام العقل العملي : حسن
العدل وقبح الظلم ، بل هذا هو أُمّ القضايا فيها.
أمّا الأحكام
الشرعيّة ، فإنّ الغايات منها ـ وهي متأخّرة وجوداً ومتقدّمة في اللّحاظ ـ هي
العلل لجعل تلك الأحكام ، فالحكم يتوجّه إلى ذات العمل وليس في متعلّقه قيد «كونه
ذا مصلحة» بل إنّ كونه كذلك علّة للحكم ، فالمصلحة المترتّبة على العمل خارجاً
متأخّرة عن العمل ، لكنّها في الحقيقة هي العلّة للحكم ، بخلاف الأحكام العقليّة ـ
مطلقاً ـ فإنّ متعلّق الحكم فيها هو المصلحة وهي الموضوع ، فنقول في الأحكام
الشرعيّة : هذا واجب لأنّه ذو مصلحة. وفي الأحكام العقليّة نقول : ذو المصلحة واجب
، فيكون اللزوم والوجوب متعلّقاً ب «ذو المصلحة» وهو الموضوع للحكم ... فالعقل
يدرك استحالة الدور ـ في الأحكام الشرعيّة ـ وهذه الكبرى تطبّق على مواردها ، مثل
ما تقدّم في محلّه : من أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق محال ... فهو لا يدرك
استحالة أخذه كذلك ، بل
__________________
يدرك الكبرى التي
هذا المورد من صغرياتها.
وفي الأحكام
العمليّة كذلك ، فهو لا يدرك أنّ ضرب اليتيم تأديباً حسن بل يدرك : التأديب حسن ،
ثم الكبرى تطبّق على هذه الصغرى ، فهو يحكم بحسن ضرب اليتيم لكونه مصداقاً لكبرى
حسن العدل.
فعلى هذا ، فإن
القيود في الأحكام العقلية تدخل تحت الطلب ، أي كون العمل ذا مصلحةٍ ، أو كونه
عدلاً ، بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإن كون صلاة الظهر ذات مصلحةٍ ثابت ، لكنّ هذا
القيد غير داخلٍ تحت الأمر بل هو العلّة له.
هذا ، والبرهان
على رجوع أحكام العقل النظري كلّها إلى اجتماع النقيضين وارتفاعهما هو : أنّ كلّ
ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات. وعلى هذا الأساس أيضاً ترجع أحكام العقل العملي
إلى حسن العدل وقبح الظلم.
هذا ... فيقول
الأصفهاني : إنّ ما ذكره الشيخ صحيح على القاعدة ، لأنّ المفروض كون وجوب المقدمة
من باب الملازمة بينها وبين ذيها ، والملازمة حكم عقلي ، وإذا كان كذلك ، فليس نصب
السلّم بموضوعٍ للوجوب ، بل موضوعه هو الصعود على السطح ، فنصب السلّم المقصود
بالعرض ، المنتهى إلى ما بالذات هو المقدّمة ... وهذا العنوان لا يتحقّق بدون
الداعي للتوصّل إلى ذي المقدّمة.
إشكال الأُستاذ
إنّ هذا الذي ذكره
المحقّق الاصفهاني إنّما يتمّ في الأحكام العقليّة ، فالتأديب مثلاً هو موضوع
الحكم لا خصوص ضرب اليتيم ... أمّا في الأحكام الشرعيّة فلا ، ومقامنا من الأحكام
الشرعيّة وإن كان الكاشف عنه هو العقل ... لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول
به ـ حكم غيري ، من جهة أنّ من يطلب شيئاً
فهو طالب لمقدّمته
أيضاً ، للتلازم بين إرادته وإرادتها ، فهذا ثابت في عالم الثبوت ، غير أنّ الكاشف
عنه في عالم الإثبات هو حكم العقل. فكون الحيثيات التعليليّة ـ مثل كون العمل ذا
مصلحةٍ كما تقدّم ـ حيثيّات تقييديّة وموضوعات للأحكام العقليّة ، صحيح في الأحكام
العقليّة ، لكنّ وجوب المقدّمة حكم شرعي كما هو المفروض ، فلا تنطبق عليه القاعدة
المذكورة ... بل إنّ موضوع الحكم الشرعي في المقام هو ذات المقدّمة فقط ... وفاقاً
للمحقّق الخراساني.
٢ ـ إنّه دائماً
يتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة ، وما كان خارجاً عن الاختيار فلا يتعلّق الأمر به
، وعليه ، فالمتعلّق للأمر الغيري هو الحصّة المقدورة ، الاختيارية ، وهي ما قصد
به المقدميّة والتوصّل به إلى الغير.
اشكال المحاضرات
وأورد عليه في (المحاضرات)
: بأنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت القدرة على المتعلّق
مأخوذةً فيه شرعاً وواردة في لسان الدليل ، كما في آية الحج ، بناءً على تفسير «الاستطاعة»
ب «القدرة» ، وكذا في آية التيمّم ، بناءً على أنّ المراد من «الوجدان» هو «القدرة»
على الاستعمال شرعاً ... لأنّه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه الموارد إلاّ في
خصوص الحصّة المقدورة. وأمّا الحصّة الخارجة عن القدرة ، فلا طريق للكشف عنه فيها.
وأمّا إذا كانت
القدرة معتبرة في المتعلّق بحكم العقل ، فلا يتم ما ذكر ، لأنّ القدرة على بعض
أفراد الطبيعة يكفي لتحقّقها على الطبيعة.
ولمّا كان اعتبار
القدرة على المقدّمة حكماً عقليّاً ، لأنه الحاكم بأنّه لو لا القدرة عليها فلا
وجوب ، فلا محالة لا يكون وجوبها مختصّاً بما يصدر من
__________________
المكلّف عن اختيار
، بل يعمّه وغيره ، وإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع بين المقدور وغيره ، كان
الإتيان به لا بقصد التوصّل مصداقاً للطبيعي ، فلا موجب لتخصيصه بالحصّة المقدورة.
نقد الأُستاذ
قال الأُستاذ : قد
تقدّم أنّ مراد الشيخ هو أنّ متعلّق الوجوب ليس هو ذات المقدّمة بما هي ذات ، ولا بما
هي معنونة بعنوانٍ من العناوين ، بل المتعلّق هو الذات المعنونة بعنوان المقدميّة
، فلو أتى بها بدون قصد المقدميّة كأن يصلّي صلاة الظهر لا بقصد عنوان الظهر ، فلا
يتحقق الامتثال ولا يسقط الأمر.
وإذا كان هذا
مراده ، فلا ربط لكلام المحقّق الأصفهاني به ، ولا لجواب المحاضرات وإن كان صحيحاً
في حدّ ذاته.
وتلخّص
: إنّ الاشكال
الوارد على الشيخ هو : أنّ ما ذكره إنّما يتم في الأحكام العقليّة ، ففيها يدخل
العنوان تحت الطلب ، أمّا في الأحكام الشرعيّة المستكشفة بالعقل فلا ....
مختار الكفاية وردّه على الشيخ
وتعرّض المحقّق
الخراساني لمسلك الشيخ بالنقض والحلّ ... فذكر أُموراً :
١ ـ إنّ الأمر
معلول للغرض ، ولا يعقل أن يكون أخصّ من الغرض. وهذا مراده من أنّ كلام الشيخ
يستلزم التخصيص بلا مخصّص ... وتوضيحه :
إنّ الغرض من
الأمر بالمقدّمة هو تحقّق ذيها ، لأنّه يتوقّف عليها ، وهذا الغرض يتحقّق سواء
أُتي بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذي المقدّمة أو لا بهذا
__________________
الداعي ، فتخصيص
متعلّق الأمر الغيري بالحصّة التي يؤتى بها بهذا الداعي بلا مخصّص.
٢ ـ إنّه لو أتى
بالمقدّمة لا بداعي التوصّل ، ثمّ بدا له أن يأتي بذي المقدّمة ، لم يجب إعادة
المقدّمة ، وهذا دليلٌ على عدم تقيّد متعلّق الأمر الغيري بالإتيان به بداعي
التوصّل ، وعدم دخول عنوان المقدميّة تحت الطلب ، بل الأمر يسقط ويتحقّق الامتثال
بلا قصدٍ للتوصّل.
٣ ـ إنّ الشيخ
أشكل على صاحب الفصول القائل بالمقدّمة الموصلة : «بأنّ مناط المقدميّة هو ما يلزم
من عدمها عدم ذي المقدّمة» فكلّ ما كان كذلك فيدخل تحت الطلب دون غيره ، وقيد «الموصليّة»
لا يلزم من عدمه عدم ذي المقدمة. فقال المحقّق الخراساني : بأنّ هذا الاشكال يرد
على الشيخ نفسه القائل بتقيّد المقدّمة : بالمأتي بها بداعي التوصّل إلى ذيها.
هذا ، وقد ذهب
المحقّق الخراساني إلى عدم اعتبار قصد التوصّل ، وعدم اعتبار الموصليّة ، قال : «فهل
يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل ... أو ترتّب
ذي المقدّمة عليها ... أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما؟ الظاهر عدم الاعتبار».
ثمّ قال بعد
المناقشة مع الشيخ : «نعم ، إنّما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت من أنّه لما
يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلاً لأمرها وآخذاً في امتثال الأمر بذيها فيثاب
بثواب أشق الأعمال».
وحاصل
كلامه : عدم دخل قصد
التوصّل في متعلّق الأمر الغيري ، نعم له دخل في عباديّة المقدّمة.
وقد فرّع على ذلك
في مسألة الدخول في ملك الغير لإنقاذ الغريق ، بناءً
على مختاره من أنّ
الغرض هو تحقّق ذي المقدّمة فيؤتى بالمقدّمة لتوقّفه عليها : بأنّ التوقف موجود سواء دخل لقصد التوصّل أو لا ، فترتفع الحرمة
حيث يكون الإنقاذ موقوفاً على الدخول ، غير أنّه يختلف باختلاف حال المكلّف من حيث
الالتفات إلى التوقّف وعدمه ، فتارةً : لا يكون ملتفتاً إلى توقف ذي المقدّمة ـ وهو
الإنقاذ ـ على الدخول ، ففي هذه الحالة يكون دخوله في تلك الأرض مع اعتقاد الحرمة
تجرّياً ، لأنّه قد أتى بما هو واجب عليه واقعاً مع اعتقاد حرمته. وأُخرى : يكون ملتفتاً إلى
المقدميّة والتوقف ، فيكون دخوله حينئذٍ تجرّياً بالنسبة إلى ذي المقدّمة ، لأنّ
المفروض عدم قصده التوصّل إليه مع وجوبه عليه. وثالثة : يكون ملتفتاً ويقصد التوصّل ، لكن هذا القصد ناشئ من داعٍ
آخر ، فيكون دخوله واجباً ، فلا معصية ولا تجرّي أصلاً.
موافقة الأُستاذ مع صاحب الكفاية في الاشكال على
الشيخ
ثمّ إنّ الأُستاذ
وافق على الإيراد على الشيخ بذلك ـ وإن كان له نظر في كلام الكفاية ـ وسيأتي فيما
بعد.
وحاصل
الاشكال على الشيخ : إنّه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد التوصّل في امتثال الأمر الغيري المتعلّق
بالمقدّمة ، ولكنّ الاشكال في مقام الإثبات ، لأنّ الدليل الإثباتي إن كان عن طريق
الملاك ، فلا وجه لحصر الملاك في هذه الحصّة بل هو أعمّ. وإن كان أخذ الشارع في
لسان الدليل ، فهو غير موجود. وإن كان الارتكاز العرفي ، فالحقّ عدم وجود هكذا
ارتكاز عند العرف والعقلاء.
كلام الميرزا
ثمّ إنّ الميرزا احتمل في رأي الشيخ أوّلاً
: أن يكون مراده
أنّ القصد
__________________
المذكور محقّق
لعباديّة المقدّمة ، لا أنّه مأخوذ قيداً لمتعلّق الأمر الغيري. واحتمل ثانياً : أن يكون مراده اعتبار القيد المذكور في مقام التزاحم بين
حكم المقدّمة وحكم ذيها ، كما إذا كانت المقدّمة محرّمة ، كالدخول في ملك الغير
وذو المقدّمة واجب كإنقاذ الغريق ، ففي هذه الصورة ترتفع الحرمة عن المقدّمة
لأهميّة ذيها منها ... ثمّ ذكر أنّه لو عصى ولم ينقذ الغريق ثبتت حرمة التصرّف في
ملك الغير ، من باب الترتّب.
تعليق الأُستاذ
وعقب الأُستاذ على
كلام الميرزا : بأن لا اضطراب في كلام التقريرات ، فإنّه صريح في نسبة القول بأخذ
القيد المذكور في المتعلّق.
وأمّا ما ذكره
الميرزا من صورة المزاحمة ، فإنّها بين الحرمة النفسيّة للمقدّمة وبين الوجوب
النفسي لذيها ، سواء قيل بوجوبها أو لا. والحاصل : إنّه لا يتوقّف التزاحم في المثال المذكور على القول بوجوب
المقدّمة مطلقاً ، أو بقيد التوصّل كما عن الشيخ ، أو بقيد الموصليّة كما عن صاحب
الفصول.
وأمّا بقاء الحرمة
للدخول في صورة معصية ذي المقدّمة ، بناءً على الترتّب ، فسيأتي ما فيه في مبحث
الضد.
هذا تمام الكلام
على مسلك الشيخ في المقام.
مسلك صاحب الفصول
وقال صاحب (الفصول)
بالمقدّمة الموصلة ، فجعل متعلّق الوجوب الغيري هو الحصّة الموصلة من
المقدّمة ، أي إنّه جعل ترتّب ذي المقدّمة عليها شرطاً لاتّصافها بالوجوب.
__________________
وقد استدلّ لما
ذهب إليه بوجوه :
الأوّل
: إنّ وجوب
المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على
القدر المذكور.
والثاني
: إنّه لا يأبى
العقل أنْ يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل
الواجب دون ما لم يتوصّل إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ،
كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقاً أو على تقدير التوصّل بها
إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها
إليه.
والثالث
: إنّ الأمر تابع
للغرض الداعي إليه ، ولا يمكن أن يكون الأمر أضيق أو أوسع من الغرض ، والذي يدركه
العقل هو أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس إلاّ التوصّل بها إلى الواجب ، فالأمر
ليس إلاّ في خصوص المقدّمة الموصلة.
اشكالات الكفاية
وقد أورد المحقّق
الخراساني على نظريّة الفصول وجوهاً من الإشكال : ١ ـ إنّه تارةً : يكون بين المقدّمة
وذيها واسطة اختياريّة. وأُخرى : تكون النسبة بينهما نسبة الفعل التوليدي إلى
السبب التوليدي كالإلقاء في النار وحصول الاحتراق ... ولازم مبنى الفصول خروج
القسم الأوّل من المقدّمات من تحت قاعدة الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ،
والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. بيان الملازمة :
إنّ ترتّب ذي
المقدّمة على المقدّمة في التوليديّات واضح ، لأنّه بمجرّد الإلقاء في النار يحصل
الاحتراق. أمّا في مثل الحج وغيره من الواجبات الشرعيّة ،
__________________
فلا يترتّب ذو
المقدّمة حتّى بعد توفّر جميع المقدّمات ، فقد يعصي المكلّف ولا يأتي بالواجب ،
فكيف يترتّب على تحقّق كلّ فردٍ من أفراد المقدّمات؟
فقول صاحب الفصول
بأنّه : لمّا كان الغرض هو ترتّب ذي المقدّمة ، فالواجب من المقدّمة ما يترتّب
عليه ذو المقدّمة ، يستلزم خروج جميع الأفعال الاختيارية ، وهذا باطل قطعاً.
ثمّ ذكر اعتراضاً
على هذا الاشكال وأجاب عنه.
٢ ـ إنّه لو كان
ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة شرطاً في وجوبها ، لما كان الأمر الغيري المتعلّق
بالمقدّمة ساقطاً بمجرّد الإتيان بها ، والحال أنّه يسقط ويكشف ذلك عن تحقّق الغرض
منه ، وذلك يكشف عن أنّه ليس وجوب المقدّمة مشروطاً بترتّب ذي المقدّمة عليها ، بل
الغرض هو التمكّن من ذي المقدّمة ، إذ لو كان الترتّب فالمفروض عدم حصوله فكيف سقط
الأمر؟
وتعرّض المحقّق
الخراساني لاعتراضٍ على هذا الإشكال وأجاب عنه ، وحاصل الاعتراض هو : أنّ سقوط
الأمر لا يكشف دائماً عن تحقّق الامتثال وحصول الغرض منه ، فقد يسقط الأمر بانتفاء
الموضوع ، كما لو قال أكرم العالم فمات العالم ، وقد يسقط بالعصيان ، وقد يسقط
بقيام الغير بالعمل ، كما لو أُمر بدفن ميّت ، فقام غيره بذلك.
فأجاب : بعدم
تحقّق شيء من المسقطات في المقام إلاّ الامتثال ، أمّا الموضوع ، فالمفروض تحقّقه
من قبل المكلّف لا تفويته ، وكذا المعصية ، فإنّها غير حاصلة ، وكذا قيام الغير
بالفعل.
٣ ـ إنّ مراده من
المقدّمة الموصلة هو الذات التي يترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، فيكون وجوبها
مقيّداً ومشروطاً بالموصليّة ، لكنّ المقيّد هو
ذو المقدّمة ،
فيكون مقدّمة ، فاجتمع في ذي المقدّمة وجوبان : الوجوب النفسي لكونه ذا المقدّمة ،
والوجوب الغيري لكونه مقدمةً لحصول المقدّمة الموصلة ، وهذا محال.
اشكال المحاضرات على الكفاية
وأورد في (المحاضرات)
على المحقّق الخراساني ـ في قوله : بأنّ الغرض من المقدّمة
هو التمكّن من ذي المقدّمة ـ : بأنّ التمكّن منه ليس من آثار وجود المقدّمة ، بل
هو من آثار التمكّن منها ، فلا يكون الأثر مترتّباً على مطلق المقدّمة كي يكون
وجوبها تابعاً لهذا الأمر.
هذا أوّلاً.
وثانياً
: إنّه لو كان وجوب
المقدّمة من أجل التمكّن من ذيها ، فإنّه تنتفي القدرة على ذي المقدّمة بانتفائها
على المقدّمة ، ومع انتفاء القدرة عليه فلا وجوب له ، فلو كان وجوب ذي المقدّمة
منوطاً بالتمكّن المترتّب من وجود المقدّمة ، كانت القدرة شرطاً للوجوب ، مع أنّ
تحصيل القدرة غير لازم ، فيجوز حينئذٍ تفويت ذي المقدّمة ، وهذا باطل. فالقول بأنّ
الغرض من المقدّمة هو التمكّن من ذيها باطل.
قال
الأُستاذ
إنّه لمّا كان
الأصل في هذا التحقيق هو المحقّق الاصفهاني ، فالأولى التعرّض لكلامه ، فإنّه قال
في (نهاية الدراية) ما حاصله : إنّ المقصود من «المقدّمة» في كلمات القوم لا
يخلو عن أحد وجوه ثلاثة :
أحدها
: أن يكون المراد
ما كان عدمه مستلزماً لعدم ذي المقدّمة ، فيكون
__________________
وجودها متعلّقاً
للغرض.
والثاني : أن يكون الغرض منها ترتّب إمكان ذي المقدّمة على وجودها.
والثالث
: إنّ الغرض هو
التمكّن من ذي المقدّمة.
(قال) :
والاحتمالات كلّها مردودة :
أمّا استلزام عدم
المقدّمة لعدم ذيها ، ففيه : إنّ الأمر العدمي لا يمكن أن يكون غرضاً للوجود ، بل
الأمر العدمي من لوازم الغرض ، ولازم الغرض غير الغرض ، فلا يصحّ القول بأنّ الغرض
من المقدّمة أن لا يلزم من عدمها عدم ذي المقدّمة.
وأمّا أنّ الغرض
من المقدّمة إمكان ذي المقدّمة ، ففيه : إنّ الإمكان إمّا ذاتي وامّا وقوعي وامّا
استعدادي. أمّا الإمكان الذاتي الثابت لذي المقدّمة ، فإنّه لا يتوقّف على وجود
المقدّمة ، لأنّه استواء نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم ، وهذا المعنى حاصل لذي
المقدّمة بلا توقّف على المقدّمة.
وأمّا الإمكان
الوقوعي ، أي ما لا يلزم من وجوده محال ، فهذا أيضاً حاصل لذي المقدّمة بلا توقّف
على وجودها.
وأمّا الإمكان
الاستعدادي لذي المقدّمة ، فهو منوط بالقدرة ، فإنْ وجدت عند الإنسان تمكّن وإلاّ
فلا ... على أنّ القدرة والقوّة على الفعل مقدّمة لوجوبه لا لوجوده ، وكلامنا في
المقدّمة الوجوديّة.
وأمّا أنّ الغرض
هو التمكّن من ذي المقدّمة ، بأن يكون التمكّن منه موقوفاً على وجودها ، فهذا
أيضاً مردود ، لأن المراد من التمكّن ـ سواء كان العقلي أو العرفي ـ هو القدرة على
ذي المقدّمة ، لكنّ القدرة عليه موقوفة على التمكّن من المقدّمة لا على وجودها.
وإذا بطلت
الاحتمالات ، بطل القول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمكّن من ذي المقدّمة.
تحقيق الأُستاذ
قال الأُستاذ :
إنّ المهمّ في كلمات الكفاية قوله بأنّ الغرض من المقدّمة هو التوقّف والمقدميّة ،
ومن الواضح أنّ هذا غير التمكّن من ذي المقدّمة ، كي يرد عليه اشكال المحاضرات من
أنّ التمكّن منه أثر التمكّن من المقدّمة وليس بأثرٍ لوجودها ... كما أنّ التوقّف
ليس بأمرٍ عدمي ، كي يرد عليه إشكال المحقّق الأصفهاني ... وتوضيح مراد المحقّق
الخراساني من «المقدميّة» هو أنّ المقدّمة لها دخل في وجود ذي المقدّمة دخل
المقتضي في المقتضى أو دخل الشرط بالنسبة إلى المشروط. فالمقدّمة إمّا مقتضٍ أو
شرط ، ومن الواضح : إنّ الاقتضاء والشرطيّة من خواصّ وجود المقتضي ووجود الشرط ،
فإذا فقد فلا اقتضاء. ثمّ إنّ الاقتضاء أثر لمطلق وجود المقتضي والشرط ، لا خصوص
الشرط أو المقتضي الفعليين.
فظهر عدم ورود شيء
ممّا ذكر على المحقّق الخراساني ، فهو يرى أنّ المراد من المقدّمة هو الاقتضاء ،
وهو يتحقّق بنفس وجودها ـ لا أنّه الاقتضاء الفعلي المنتهى إلى حصول ذي المقدّمة
كما يقول صاحب الفصول ـ غير أنّ حصول كلّ واحدة من المقدمات تغلق أحد أبواب عدم ذي
المقدّمة ، وإذا حصلت المقدّمات كلّها أوصلت إلى ذي المقدّمة.
وتلخّص
: تماميّة مبنى
الكفاية ثبوتاً.
الكلام على اشكالات
الكفاية على الفصول
ثمّ إنّ الأُستاذ
تكلّم على إشكالات الكفاية على الفصول ، (فأمّا الأوّل) وهو انحصار الواجب من المقدّمات بما يكون من قبيل الأسباب
التوليديّة ، وأمّا ما
يكون الاختيار
واسطة بينها وبين ذي المقدّمة فليس بواجب ، لأنّ الإرادة من أجزاء السّبب ، وهي
غير قابلة لتعلّق الوجوب (ففيه) :
إنّه إن كانت
اختياريّة الشيء بكونه مسبوقاً بالإرادة ، فالإشكال وارد ، لأنّ الإرادة قد لا
تتعلّق بها الإرادة فلا تكون اختياريّة ، واستلزام كلّ إرادة لإرادة أُخرى مستلزم
للتسلسل كما قال المحقّق الخراساني. ولكنّ المناط في تعلّق التكليف هو اختياريّة
المكلّف به ، سواء كانت بالذات أو بالعرض ، والاختيار في الارادة هو بالذات ،
واختياريّة الأفعال بالعرض ، أي إنّها اختياريّة بسبب تعلّق الاختيار بها ، وإذا
كانت الاختياريّة بالعرض مصحّحة للتكليف ، فالاختياريّة بالذات كذلك بطريقٍ أولى ،
فكما يصحّ أن يقال : صلّ ، يصح أن يقال : اختر الصّلاة ، لأنّ الاختيار مقدور
بالذات وبه يصحّ تعلّق التكليف.
وعلى
الجملة ، فإنّ الاختيار
أمر اختياري بالذات ، فيصحُّ تعلّق التكليف به ، كسائر الأجزاء إن كان المكلّف به
ذا أجزاء.
(وأمّا الثاني) وهو سقوط الأمر الغيري بالإتيان بالمقدّمة ، ومنشأ السقوط
هو الإطاعة فقط ، فدلّ ذلك على أنّ متعلّق الأمر مطلق المقدّمة (ففيه) :
إنّ هذا أشبه
بالمصادرة ، لأنّ الواجب إن كان طبيعي المقدّمة فلا محالة يكون وجه سقوط الأمر
حصول الإطاعة والامتثال ، لكنّ للقائل بخصوص المقدّمة الموصلة أن يقول : إنّه بعد
أن جاء بالمقدّمة إمّا يأتي بذي المقدّمة أو لا يأتي ، فإنْ جاء به ، فقد سقط
الأمر بذي المقدّمة بالإتيان به وسقط الأمر بالمقدّمة لكونها أوصلت إليه ، وإنْ لم
يأت بذي المقدّمة ، فقد عصى الأمر النفسي المتعلّق به وكان سقوطه بالعصيان ، وكذا
الأمر الغيري المتعلّق بالمقدّمة ، فقد عصي ، لأنّ المفروض تعلّقه بالحصّة الموصلة
إلى ذي المقدّمة ، والمفروض عدم تحقّق
الإيصال إليه.
والحاصل
: إنّ سقوط الأمر
الغيري لا يكون إلاّ إذا كان المتعلّق مطلق المقدّمة ، وهذا أوّل الكلام.
(وأمّا الثالث) وهو لزوم اجتماع النفسيّة والغيريّة في ذي المقدّمة (ففيه)
: إنّه مردود بما يجاب به عن دليل الميرزا على بطلان المقدّمة الموصلة ،
ولنتعرّض لذلك ثمّ نذكر الجواب :
اشكالات الميرزا على الفصول
إنّ تخصيص وجوب
المقدّمة بخصوص الحصّة الموصلة يستلزم إمّا الدور في الوجود أو الوجوب ، وامّا
الخلف أو التسلسل.
وتوضيح
ذلك : إنّ المقسّم
للشيء تارةً : يكون في رتبة وجود الشيء وأُخرى : في رتبةٍ متأخرة عن وجوده ،
فالأوّل مثل تقسيم الأجناس إلى الأنواع ، حيث أنّ الجنس يقسّم إليها بواسطة الفصل
وهو في مرتبة الجنس ، وكتقسيم النوع إلى الأصناف كالانسان إلى الزنجي والرومي ...
وما نحن فيه من القسم الثاني ، حيث أنّ المقدّمة تنقسم إلى الموصلة وغير الموصلة ،
لكنّ عنوان «الموصلة» منتزع من شيء متقدّم وهو «وجود» ذي المقدّمة ، إذ المقدّمة
بذاتها لا تنقسم إلى ذلك ، وإنّما تنقسم إلى القسمين المذكورين إذا وُجد ذو
المقدّمة بعد وجودها ، فوصف المقدّمة بالموصليّة يكون بعد وجودها ووجود ذي
المقدّمة بعدها ، وأمّا قبل وجود ذي المقدّمة فلا يوجد إلاّ ذات المقدّمة.
وعلى هذا ، فلو
كان متعلّق الأمر الغيري هو المقدّمة الموصوفة بالموصليّة لزم الدور ، لأنّ وصفها
بالموصليّة موقوف على وجود ذي المقدّمة ، ووجوده موقوف على وجود المقدّمة.
وهذا هو الدّور في
الوجود ، وهو بيانه في الدّورة الأُولى .
وأمّا بيان الدور
في الوجوب ـ وهو ما يستفاد من كلامه في الدورة الثانية ـ فهو : إنّه قد تقدّم كون عنوان الموصليّة منتزعاً من وجود ذي المقدّمة ،
وعليه ، فذو المقدّمة من قيود المقدّمة الموصلة ومن مقوّماتها ، فيقع الدور في
الوجوب ، من جهة أنّ وجوب ذي المقدّمة علة لوجوب المقدّمة ، إلاّ أنّه لو لا وجوب
المقدّمة لما وجب ذو المقدّمة ، لكونه من قيودها كما تقدّم.
وأمّا الخلف أو
التسلسل ، فلأنّ الواجب لو كان خصوص المقدّمة الموصلة كانت ذات المقدّمة من
مقدّمات تحقّق المقدّمة خارجاً ، فإنْ كان الواجب هو الذات فقط بلا تقيّد بالايصال
، لزم الخلف ، وإن كان الذات المقيَّدة بالإيصال هو الواجب ، كان نسبة «الذات» إلى
«الإيصال» نسبة «المقدّمة» إلى «ذي المقدّمة» ، وحينئذٍ ، ينتقل إلى الذات وأنّها
واجبة مطلقاً أو مقيَّدة بالإيصال. والأوّل خلف والثاني مستلزم للتسلسل.
والجواب
:
وقد أجاب السيد
الأُستاذ عن هذه المحاذير وكذا شيخنا دام بقاه ، فأفاد ما ملخّصه :
أمّا عن لزوم
الدور في الوجود ، فلأنّ وجود ذي المقدّمة غير متوقّف على المقدّمة بوصف الوجود ،
إذ لا دخل لوصفها بالوجود في تحقّق ذيها ، بل إنّه موقوف على ذاتها.
وأمّا عن لزوم
الدور في الوجوب ، فلأن الوجوب النفسي لذي المقدّمة
__________________
يكون منشأً للوجوب
الغيري للمقدّمة ، لكن ذا المقدّمة يتّصف بالوجوب الغيري أيضاً من حيث أنّه لولاه
لما اتّصفت المقدمة به ، فلا يلزم الدور في الوجوب ، وإنّما اللازم هو اجتماع
الوجوب النفسي والغيري في شيء واحد وهو ذو المقدّمة ، وهذا لا مانع منه ، لأنّه
يؤول إلى الاندكاك وتحقّق وجوب واحدٍ مؤكّد على مبنى الميرزا ، فلا دور.
وأمّا عن لزوم
الخلف أو التسلسل ، فلأنّ هذا المحذور إنّما يترتّب بناءً على وجوب أجزاء المركّب
بالوجوب الغيري ... لأنّ المقدّمة الموصلة مركّبة من جزءين هما ذات المقدّمة
وتقيّدها بالإيصال ، وحينئذٍ ، فلو قلنا بأنّ الأجزاء متّصفة بالوجوب الغيري لزم
المحذور ، لأنّ الذات مقدّمة لهذا المركب ، فتكون واجبةً بالوجوب الغيري أيضاً ،
لكن الأجزاء غير واجبة بالوجوب الغيري لذي المقدّمة ، بل المقدّمة هو المركّب ،
فأصل الاستدلال باطل.
قال
الأُستاذ
لكن يمكن تقريب
الاشكال بوجهٍ آخر بأن يقال : إنّ المفروض على مبنى الفصول كون الإيصال منتزعاً من
وجود ذي المقدّمة ، فلو كان متعلّق الوجوب الغيري هو المقدّمة الموصلة ، لزم وجود
الوجوب الغيري بعد وجود الوجوب النفسي ، لتقدّم منشأ الانتزاع في الوجود على الأمر
الانتزاعي ، فيلزم اجتماع التقدّم والتأخّر في الشيء الواحد.
وهنا لا بدّ من
التعرّض لكلام المحقّق الاصفهاني في تقريب مبنى الفصول ، وبه تنحلّ المشكلات.
تحقيق المحقّق الاصفهاني
والعمدة هو فهم
كيفية أخذ «الإيصال» في المقدّمة ، إذ لا ريب في أن متعلّق
الوجوب هو ما دخل
تحت الطلب من طرف المولى ، فهل هو عبارة عن المقدّمة بوصف الموصليّة إلى ذي
المقدّمة المنتزع من ذي المقدّمة ، أي المقدّمة المقيّدة بوجود ذيها ، أو أنّ
المراد منها عبارة عن الحصّة التوأمة مع وجود ذي المقدّمة كما هو المستفاد من كلام
المحقّق العراقي ، أو المراد منها العلّة التامّة ، أو الحصّة ـ من المقدّمة ـ الملازمة
لوجود ذي المقدّمة ـ لا المقيَّدة بوجوده ـ كما هو المستفاد من كلام المحقّق
الأصفهاني؟
والحاصل
: إنّ المحقّق
الاصفهاني يرى أنّ المراد من المقدّمة هي الحصّة منها الملازمة لوجود ذيها ، هذا
في تقريب. وفي تقريب آخر : أنّ المراد هو العلّة التامّة. وعلى كلّ منهما فإشكال
الكفاية من اجتماع المثلين ، وكذا ما طرحناه أخيراً من اجتماع المتأخّر والمتقدّم
في الشيء الواحد ... يرتفع ....
قال قدّس الله
روحه :
إنّ المراد من
المقدّمة ما يكون مقدّمةً لذيها بالفعل لا بالقوّة ، فالحطب مقدّمة للطبخ ، لكنه
تارةً : مقدّمة بالقوّة وهو ما كان قبل الاشتعال ، وأُخرى : بالفعل وهو ما كان
مشتعلاً ، وهاتان حصّتان من وجود الحطب ، وكذا الكلام في اشتراط الشيء بشرطٍ ،
فإنّه تارة يكون شرطاً بالقوّة وأُخرى بالفعل ، فإنْ كان المقتضي بالفعل فسيكون
الشرط أيضاً فعليّاً ، كما في يبوسة الحطب ومماسّته للنار من أجل الاحتراق ، فلا
يمكن تماميّة الاقتضاء إلاّ مع فعليّة الشرط ، وإذا تمّ الأمران ، أصبح المشروط
والمقتضى فعليّاً ....
وعلى الجملة ،
فإنّه يوجد تلازم بين أجزاء العلّة ، ويوجد تلازم بين أجزاء العلّة ـ المقدّمة ـ مع
المعلول ، وهو ذوها.
__________________
ومن الواضح : إنّ
التلازم غير التوقّف ... ولذا يكون بين «الابوّة» و «البنوّة» تلازم ، لكنْ لا
توقف لأحدهما على الآخر.
وعلى هذا ، فإنّ
المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة الملازمة ـ أو التوأمة ـ مع وجود ذيها ،
لا أنّ وجوده موقوف على وجودها ، بل إنّ فعليّتهما تكون في عرضٍ واحد وليستا في
الطول ليرد عليه الإشكال.
وملخّص هذا البيان
:
أوّلاً
: إنّ المطلوب من
المقدّمة هو الحصّة الموجودة بالفعل منها لا بالقوّة.
وثانياً
: إنّ بين المقدّمة
وذيها تلازماً من قبيل التلازم بين أجزاء المقدّمة والعلّة التامّة ، وليس بينهما
توقّف.
وثالثاً
: إنّه لمّا كان
الغرض قائماً بوجود ذي المقدّمة ، وهو لا يتحقّق إلاّ بالمقدّمة ، فالإرادة تتعلّق
بنفس ذي المقدّمة ، ويحصل منها إرادة تبعيّة غيريّة متعلّقة بالمقدّمة ، ولا يمكن
أن يكون متعلّقاً بالقوّة كما تقدّم.
فظهر بذلك أنّ
المراد من الموصليّة ليس الإناطة والتقييد ، فكلّ الإشكالات المتقدّمة من الميرزا
والكفاية وغيرهما مندفعة.
أقول
:
هذا البيان في
المحقّق الأصفهاني هو أحد التقريبين منه لمبنى صاحب الفصول.
وأمّا التقريب
الآخر له ، فهو على أساس كون المراد من المقدّمة هو العلّة التامّة ، وقد تعرّض له
شيخنا كذلك ، ثمّ أورد عليه اشكالات ، كلّها ترجع إلى خصوصيّاتٍ وجزئيّات في كلام
المحقّق الاصفهاني. أمّا بالنسبة إلى ما يتعلّق بدفع الإشكالات المزبورة ، فقد
وافق الأُستاذ على ما ذكره من أنّ : متعلّق الإرادة الغيريّة
هو الحصّة الملازمة
مع وجود ذي المقدّمة لا الحصّة المقيّدة بالإيصال إليه ... والفرق بين المسلكين واضح ، فإنّه على مسلك المحقّق
الأصفهاني تكون المقدّمة هو ما ينتهي إلى وجود ذيها ، وعلى مسلك صاحب الفصول قد
يقع التخلّف بينهما ، لأنّه قيد ومقيّد. والصحيح هو الأوّل ، لأن ما ينتهي إلى ذي
المقدّمة يكون دائماً متعلّقاً للإرادة الغيريّة والشوق الغيري ، وأمّا على الثاني
فالإشكالات ترد ، لأنّ التقيّد بوجوده لا يكون إلاّ بنحو الاشتراط به بنحو الشرط
المتأخّر ، فيقع البحث عن كيفيّة هذا الاشتراط ، وأنّه في الواجب أو الوجوب ،
بخلاف المسلك الأوّل ، فإنّه لا اشتراط ـ بناءً عليه ـ لا في الواجب ولا في الوجوب
، بل الواجب من المقدّمة عبارة عن الحصّة منها الملازمة مع وجود ذيها ، ووجود أحد
المتلازمين ليس مشروطاً بوجوب الملازم الآخر حتّى يبحث فيه عن أنّه شرط للوجوب أو
الواجب.
وهذا هو الحق ،
وهو تامّ ثبوتاً ، وكذا إثباتاً ، والوجدان قائم على أنّه إذا تعلّق الشوق بشيء ،
فكلّ ما يكون في طريقه فهو مشتاق إليه دون ما ليس كذلك.
هذا تمام الكلام
في المقام ، ويبقى التحقيق عن ثمرة البحث.
ثمرة النّزاع بين المشهور والفصول
ذكر صاحب الفصول
في بيان ترتّب الثمرة على مختاره ما ملخّصه : إنّ الأمر
بالشيء يقتضي إيجابه لنفسه وإيجاب ما يتوقّف عليه من المقدّمات للتوصّل إليه ، ومن
جملة المقدّمات ترك الأضداد المنافية للفعل ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة.
وتوضيحه
: إنّ هذه الثمرة
تترتّب على النزاع فيما لو أُمر ـ مثلاً ـ بإنقاذ
__________________
الغريق وتوقّف ذلك
على ترك الصّلاة ، بناءً على المقدّمات التالية :
١ ـ أن يكون ترك
أحد الضدّين مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، كأن يكون ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإنقاذ.
٢ ـ أن يكون الأمر
بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه ، فإذا وجب الإنقاذ كان الصّلاة مورداً للنهي.
٣ ـ أن يكون النهي
عن العبادة مقتضياً للفساد ، فتكون الصّلاة باطلة في المثال.
فبناءً على أنّ
الواجب مطلق المقدّمة ـ كما عليه المشهور ـ فالصّلاة باطلة ، للمقدّمات المذكورة ،
وأمّا بناءً على أنّه خصوص المقدّمة الموصلة ـ كما عليه صاحب الفصول ـ فصحيحة ،
لأنّ الإتيان بالصّلاة ليس نقيضاً لتركها الموصل إلى الإنقاذ حتى تكون مورداً
للنهي فتبطل ، بل نقيض ترك الصّلاة الموصل إلى الإنقاذ هو عدم هذا الترك الموصل ،
وهو ـ أي ترك الصّلاة كذلك ـ ليس عين الصّلاة ليتوجّه النهي إليها فتبطل ، بل إن
عدم تركها يمكن أن يتحقّق بفعلها وأن يتحقّق بفعلٍ آخر كالنوم مثلاً. فهذه هي
الثمرة ، ذكرها في الفصول وقرّرها المحقّق الخراساني في الكفاية.
إشكال الشيخ
ثمّ ذكر في (الكفاية)
إشكال الشيخ الأعظم على الثمرة ، وأنّ مقتضى القاعدة هو
البطلان على كلا القولين ، بتقريب : إن نقيض ترك الصّلاة الموصل إلى الإنقاذ له
فردان : فعل الصّلاة أو تركها المجرّد عن الإيصال إلى الإنقاذ ، وبناءً على اقتضاء
الأمر بالشيء لحرمة نقيضه ، فإنّه تسري الحرمة إلى كلٍّ من الفردين ،
__________________
فتبطل الصّلاة على
القولين.
جواب الكفاية
وأجاب عنه صاحب
الكفاية : بالفرق بين نقيض الترك الموصل والترك المطلق ، وحاصله : إنّ نقيض ترك
الصّلاة المطلق هو الصّلاة ، فترك الترك هو فعلها ، وإذا كان الانقاذ واجباً
والصّلاة نقيضه ، فإنّ الإتيان بها منهيٌّ عنه ، فتبطل ... أمّا بناءً على مسلك الفصول وأنّ المقدّمة لتحقّق الإنقاذ
هو ترك الصّلاة الموصل ، فإنّ النقيض عدم هذا الترك ، وعليه ، فيكون فعل الصّلاة
مقارناً لهذا الترك ـ إذ أنّه يتحقّق بفعلٍ آخر كالنوم مثلاً ـ وإذا كان مقارناً ،
فإنّ حرمة الشيء لا تسري إلى مقارنه ، فلا تكون الصّلاة باطلة.
أقول
:
ملخّص
إشكال الشيخ : أمّا على المشهور ، فإنّ فعل الصّلاة وإنْ لم يكن نقيض المقدّمة فهو مصداق
لنقيضها أو لازمٌ له ، فالنقيض لترك الإنقاذ هو ترك ترك الإنقاذ ، وهذا منطبق على
نفس فعل الصّلاة ، فتكون فاسدة. أمّا على مبنى الفصول ، فإنّ هذا العنوان منطبقٌ ،
لكن مورد الانطباق أمران أحدهما فعل الصّلاة والآخر مجرّد الترك ، فكلاهما مورد
انطباق النقيض ... فالصّلاة فاسدة كذلك.
وملخّص
جواب الكفاية : عدم انطباق النقيض على فعل الصّلاة ، بل هو ملازم للنقيض ، وحرمة الملازم لا
يوجب حرمة الملازم الآخر ، فالثمرة مترتّبة.
بيان المحقّق الاصفهاني لانتفاء الثمرة ردّاً على
الكفاية
وذهب المحقّق
الاصفهاني إلى عدم الفرق بين القولين في النتيجة ، وهي بطلان
الصّلاة. أمّا على قول الفصول : فإنّ المقدّمة الموصلة ـ بناءً على كون ترك
__________________
الضدّ مقدّمةً
للضدّ الآخر ـ إمّا هي العلّة التامّة وامّا هي المقدّمة التي لا تنفك عن ذيها.
أمّا بناءً على
كونها العلّة تامّةً ، فإنّ المقدّمة هي ترك الصّلاة وإرادة الإنقاذ ، فالعلّة
مركّبة من هذين الجزءين ، ونقيض ترك الصّلاة هو فعلها ، كما أنّ نقيض إرادة
الإنقاذ هو عدم إرادته ، فالعلّة التامّة مجموع الجزءين ـ ترك الصّلاة وإرادة
الإنقاذ ـ وهذا المجموع واحد اعتباري والنقيض هو : وجود الصّلاة وعدم إرادة
الإنقاذ ، وهذا المجموع أيضاً واحد اعتباري ، لكنّ الذي هو مقدّمة حقيقةً هو ترك
الصّلاة خارجاً ووجود الإرادة خارجاً ، أمّا مجموعهما فليس بموجودٍ في الخارج بل
هو أمر اعتباري كما تقدّم ، وإذا كان متعلّق الأمر الوجوبي الغيري ترك الصّلاة
ووجود الإرادة ، فإنّه يستلزم النهي عن نقيضهما وهما فعل الصلاة وعدم إرادة
الإنقاذ ، فيحرم هذان حرمةً واحدة ، كما وجب ترك الصّلاة ووجود الإرادة بوجوبٍ
واحد ... وإذا تعلّقت الحرمة بالصّلاة بطلت.
وحاصل هذا هو أنّ
الصّلاة بنفسها تكون نقيضاً للمقدّمة.
وأمّا بناءً على
أن المقدّمة هي المقدّمة التي لا تنفك عن ذيها ويترتّب عليها ذو المقدّمة ، فإنّها
مركّب من الشيء ـ وهو الترك ـ. وتقييده بقيدٍ وهو الموصليّة ، والترك أمر عدمي
والموصليّة أمر وجودي ، ونقيض ذلك العدمي هو فعل الصّلاة ، ونقيض ذلك الوجودي هو
عدم الموصليّة ، وكما كانت المقدّمة كذلك متعلّق الوجوب ، فنقيضها أيضاً يكون
متعلّق النهي ، فتكون الصّلاة محرمة ، فهي باطلة.
إشكال الأُستاذ
وأورد عليه
الأُستاذ :
أوّلاً
: إنّ تعدّد النقيض
ظرفه هو الخارج ، ولكن الوجود الخارجي لفعل الصّلاة وعدم إرادة الإنقاذ مسقط
للتكليف ، وليس وجود التكليف حتّى يكون
محكوماً بالحرمة
فالفساد.
وثانياً
: هذا الجواب
بظاهره غير كاف ، لأنّه يتكفّل الجواب عن الشق الأوّل وهو كون المقدّمة الموصلة هي
العلّة التامّة. وأمّا الشق الثاني وهو كونها المقدّمة التي لا تنفك عن ذيها ، فلم
يذكر جوابه ، ولعلّ الجواب هو : أنّكم قد اعترفتم أن لا نقيض للترك الخاص بما هو ،
لأنّه ليس رفعاً لشيء ولا هو مرفوع بشيء ، ثمّ قلتم : بل نقيض الترك المرفوع به
الفعل ونقيض خصوصيّته عدمها الرافع لها.
فيكون الفعل
محرّماً لوجوب نقيضه.
فأقول
: إذا لم يكن
نقيضاً فهو ملازم أو مقارن كما قال صاحب الكفاية. هذا أوّلاً.
وثانياً : إنّ متعلّق الوجوب هو الترك الخاص كما ذكرتم ، والفعل
ليس نقيضاً للترك الخاص لوجود فرد آخر وهو النوم أو أيّ فعل وجودي آخر ....
وعلى الجملة ،
فإنّ النقيض ـ كما ذكر هذا المحقّق ـ إمّا الرفع للشيء وامّا المرفوع بالشيء ،
والمقصود من رفع الشيء عدمه ، ومن المرفوع به الوجود الذي به يرتفع العدم ، وعلى
هذا ، فإنّه لما كان العلّة التامّة هنا هي ترك الصّلاة الموصل وإرادة الإنقاذ ،
كان نقيض الترك المذكور هو فعل الصّلاة لأنّه المرفوع بتركها ، لكنّ كون فعل
الصّلاة نقيضاً للعلّة التامّة محال ، لأنّها ليست برفعٍ للعلّة التامّة لأنّها
وجوديّة والرفع عدم ، ولا هي مرفوع بالعلّة التامّة ، لأنّ المفروض كون العلّة
التامّة مركّبة من وجود إرادة الإنقاذ ومن عدم الصّلاة ، وإذا لم تكن رفعاً للعلّة
ولا مرفوعاً بها ، استحال أن تكون نقيضاً ، فلا يتعلّق بها النهي فلا فساد. فالحقّ
مع الكفاية.
وتلخّص
: إنّه بناءً على
تماميّة المقدّمات الثلاث فالثمرة مترتّبة ، ولكنّ الكلام في تماميّتها لا سيّما
الأُولى منها.
وهذا تمام الكلام
في النفسي والغيري ، والحمد لله.
هل المقدّمة
واجبةٌ شرعاً؟
وقد وقع الكلام
بين الأعلام في المقدّمة ، هل هي واجبة بالوجوب الشرعي أو إنها لابديّة عقلية؟
والأقوال المهمّة
في المسألة أربعة ، قد ذكرها صاحب الكفاية أيضاً.
١ ـ الوجوب
مطلقاً.
٢ ـ عدم الوجوب
مطلقاً.
٣ ـ التفصيل بين
السبب وغيره.
٤ ـ التفصيل بين
المقدّمة الشرعيّة وغيرها.
مقتضى الأصل العملي
إلاّ أنّ المحقّق
الخراساني قدّم البحث عن مقتضى الأصل في المقام على ذكر الأدلّة ، وتبعه على ذلك
غيره ، قال :
اعلم أنّه لا أصل
في محلّ البحث في المسألة ، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدّمة
وعدمها ، ليست لها حالة سابقة ، بل تكون الملازمة أو عدمها أزليّةً ، نعم ، نفس
وجوب المقدّمة يكون مسبوقاً بالعدم ، حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة ،
فالأصل عدم وجوبها.
والحاصل
: إن هنا مسألتين ،
مسألة أُصوليّة ، وهي هل وجوب ذي المقدّمة
__________________
يلازم وجوب
المقدّمة أو لا؟ فهذه مسألة كبروية أُصولية تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ،
فإذا ثبتت الملازمة أفتى الفقيه بوجوب المقدّمة وجوباً شرعيّاً ، وإلاّ فلا.
ومسألة فقهيّة
فرعيّة ، هل المقدّمة واجبة أو لا؟
إذا علم هذا ،
فإنّ الأصل المطروح في المقام هو الاستصحاب ، وصاحب الكفاية يرى جريانه في المسألة
الفقهيّة دون المسألة الأُصوليّة ، فمن قوله «اعلم ...» يريد الأُصوليّة ، ومن
قوله : «نعم ...» يريد الفقهيّة ، فالكلام في مقامين :
المقام الأوّل (مقتضى
الأصل في المسألة الأُصولية)
إنّه يمكن طرح
الاستصحاب في الأُصوليّة في الجعل ، بأن يكون الأصل عدم جعل الملازمة ، ويمكن طرحه
في المجعول ، بأن يكون الأصل عدم الملازمة نفسها ....
يقول المحقّق
الخراساني بعدم جريان الاستصحاب في المسألة الأُصوليّة لعدم تماميّة أركانه فيها ،
لعدم الحالة السابقة ، بل تكون الملازمة أو عدمها أزليةً.
وتوضيح
ذلك : قالوا إنّ هناك
أُموراً تلازم الماهيّة ولا تنفكُّ عنها ، سواء كانت الماهيّة موجودةً أو لا ،
كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة كما يقولون. وإنّ هناك أُموراً تلازم وجود الماهيّة
كالحرارة الملازمة لماهيّة النار الموجودة خارجاً ....
وعلى هذا ، فإنّ
لوازم الماهيّة لا تكون مسبوقة بالعدم ، بخلاف لوازم الوجود فلها حالة سابقة ،
لأنّها قبل أن تكون الماهيّة كانت معدومة وبوجودها وجدت.
ثمّ إنه يقول بأنّ
الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها هي من قبيل لوازم الماهيّة لا من قبيل
لوازم وجودها ، فإنّ وجوب المقدّمة لا ينفك عن وجود
ذيها كما لا تنفكّ
الزوجيّة عن الأربعة ، إنّها ملازمة موجودة عند العقل ... فليس لها حالة سابقة حتى
تكون مجرى الاستصحاب.
قال
الأُستاذ :
أوّلاً
: إنّ كلام المحقّق
الخراساني مبني على أن تكون الملازمة من لوازم الماهيّة ، وأمّا بناءً على أنّها
من لوازم الوجود ، فإنّه كلّما وجد وجوب ذي المقدّمة استلزم وجود وجوب المقدّمة ،
فالملازمة بين الوجودين ، وقد تقرّر أن الوجودين مسبوقان بالعدم فكذا لازمهما ،
فالملازمة لها حالة سابقة.
وثانياً
: إنّه يعتبر في
المستصحب أن يكون إمّا حكماً شرعيّاً وامّا موضوعاً لحكم شرعي ، لكنّ الملازمة بين
الوجوبين ليست بحكم شرعي بل هي من الموضوعات التكوينيّة ، ولا هي موضوع لحكم شرعي
لعدم ترتّب شيء من الأحكام الشرعيّة عليها ، وعليه ، فإنّه لو أجري الاستصحاب في
الملازمة ، كان لازم هذا الاستصحاب هو وجوب المقدّمة شرعاً وجوباً غيريّاً ، فكان
وجوبها أثراً عقليّاً للاستصحاب ، وهو أصل مثبت.
وتلخّص
: إنّ الملازمة إن
كانت من لوازم الوجود لا الماهيّة ، فلها حالة سابقة خلافاً لصاحب الكفاية ، لكنّ
الاستصحاب لا يجري إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت ، فظهر الفرق علماً وعملاً.
أمّا علماً ، فالملازمة هي بين وجودي الماهيّتين لا نفس الماهيّتين. وأمّا عملاً ،
فإنّ الاستصحاب يكون جارياً عند من يقول بحجيّة الأصل المثبت.
قال
الأُستاذ :
لكنّ التحقيق عدم
معقوليّة أنْ يكون للماهيّة لوازم ، وعدّهم الزوجيّة من لوازم الأربعة غير صحيح ،
لأنّ الزوجيّة ماهيّة والأربعة ماهيّة ، ولا يعقل استلزام
ماهيّةٍ لماهيّةٍ
أُخرى ، لكون الماهيّات متباينات بالذات. هذا أوّلاً.
وثانياً
: إنّه لا يتصوّر
أنْ يكون للماهيّة ـ بقطع النظر عن الوجود ـ استلزام ، لأن كون الشيء ذا لزوم أمر
وجودي ، والملازمة من الأُمور الوجوديّة ، فكيف تستلزم الماهيّة من حيث هي هي
أمراً وجوديّاً؟
نعم ، الزوجيّة
تلازم الأربعة ، لكنْ بوجودها الذهني أو الخارجي.
المقام الثاني (مقتضى الأصل في المسألة الفقهيّة)
وأمّا في المسألة
الفقهيّة ، فالأصل المطروح هو الاستصحاب والبراءة بقسميها ، كما أنّ الاستصحاب
يطرح في عدم الجعل وهو الوجوب ، وعدم المجعول ، أي عدم الوجوب ، فهي أربعة أُصول
في هذا المقام.
قال صاحب الكفاية
: بجريان الاستصحاب في الوجوب ، وقال جماعة : بعدم جريانه ، وعليه في المحاضرات ... وتحقيق ذلك في جهتين
:
الجهة
الأُولى : هل للاستصحاب
مقتضٍ في هذا المقام؟
قال جماعة : بعدم
وجود المقتضي للاستصحاب بالنسبة إلى عدم الوجوب خلافاً للخراساني صاحب الكفاية ،
لأنّ الوجوب حادث ، فأركان الاستصحاب فيه تامّة. أمّا وجه عدم الجريان فهو : أنّ
وجوب المقدّمة لا يقبل الجعل ، فلا معنى لاستصحاب العدم فيه ، والدليل على عدم
قبول وجوب المقدّمة للجعل هو : أنّ وجوبها من لوازم وجوب ذيها كما تقدّم ،
واللّوازم غير قابلة للجعل ، لا الجعل البسيط ـ وهو مفاد كان التامّة ـ ولا الجعل
التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة.
وقد أجاب المحقّق
الخراساني : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ، وهو آبٍ عن الجعل البسيط
والتأليفي كما ذكر ، لكنّه لا يأبى عن الجعل التبعي ، إذ اللزوم في لوازم الماهيّة
هو بمعنى التبعيّة ، لأنّ جعل الماهيّة يكفي
لانتزاع لوازمها
منها ، فيكون اللاّزم مجعولاً بتبع جعل الماهيّة ... وإذا كان قابلاً للجعل كان
مجرى للاستصحاب .
قال
الأُستاذ
إن أراد من الجعل
التبعي أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غير أنّه لا ينفك عن وجوب ذيها ، فهو
مجعولٌ بالجعل البسيط ، فهذا ينافي نفيه للجعل البسيط.
وإن أراد أنّ
الجعل يتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض ، كما أنّ الزوجيّة مجعولة بجعل الأربعة ،
والفوقيّة مجعولة بجعل الفوق ، ففيه : إنّه ليس كذلك ، لأنّ هناك إرادة متعلّقة
بالمقدّمة وإرادة أُخرى متعلّقة بذي المقدّمة ، فتلك غيريّة وهذه نفسيّة ، ولكلٍّ
جعل على حده ، وليس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضي.
فالحق : إنّ
المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسيط ، فلجريان الأصل فيها مجال ، بالبيان
الذي ذكرناه.
وقال آخرون ـ منهم
السيّد البروجردي ـ بعدم جريان الأصل ، من جهة أنّ وجوب المقدّمة في حال
وجوب ذيها قهري ذاتي ، وما كان كذلك فلا يقبل الجعل ، وما لا يقبله فلا يجري فيه
الأصل.
قال
الأُستاذ
ما المراد من أنّ «وجوب
المقدّمة ذاتي وقهري بالنسبة إلى ذي المقدّمة»؟ إن كان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذي المقدّمة ، ثبت
للمقدّمة بصورةٍ قهريّة ، فإنّ هذا يتم في الإرادة دون الوجوب ، إذ الإرادة إذا
تحقّقت بالنسبة إلى
__________________
ذي المقدّمة
تتحقّق قهراً بالنسبة إلى مقدّمته ، لكنّ الإرادة من الصفات ، والوجوب من الأفعال
، فتلك الحالة بالنسبة إلى الإرادة متصوّرة وواقعة ، أمّا الوجوب فيحتاج إلى موجب
، وهو فعل اختياري للمولى ، يمكن أن يجعله وأن لا يجعله ، بخلاف الإرادة.
وأشكل على
الاستصحاب هنا ـ واعتمده في المحاضرات ـ بأنّه لا أثر
له ، بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة ، فلا معنى لجريانه.
وأجاب المحقّق
الأصفهاني : بأنّ اعتبار الأثر للاستصحاب إنّما هو حيث لا يكون المستصحب نفسه
حكماً مجعولاً شرعيّاً ، وإلاّ فلا حاجة إلى اشتراط الأثر.
قال
الأُستاذ : لكنّ أثر جعل
الحكم هو تحريك العبد ، فيجعل الوجوب مثلاً لأن يكون داعياً له للفعل ، ومع وجود
الداعي ـ وهو اللاّبدية العقليّة ـ لا يبقى للوجوب داعويّة للعبد من أجل التعبّد ،
فإنْ كان للوجوب أثر آخر فهو وإلاّ فلا حاجة إليه.
هذا تمام الكلام
في الاستصحاب.
وأمّا
البراءة :
فإنّ العقليّة غير
جارية ، لأنّ مجراها هي الشبهات الحكميّة للتكاليف الإلزاميّة ، وعلى القول بوجوب
المقدّمة ، فإنّ تركها لا يستتبع استحقاق العقاب ، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب
بلا بيان.
وأمّا الشرعيّة ،
فإن قلنا : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهيّة ، وهي غير قابلة للجعل ، فلا
يجري حديث الرفع في المقدّمة ، إذ ما لا يقبل الجعل لا يقبل
__________________
الرفع.
وإن قلنا :
بقابليّته للجعل تبعاً ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ فيقبل الرفع ، إذ لا فرق
بين الاستقلالية والتبعية هنا.
وعلى المختار من
كون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسيط الاستقلالي ، فالبراءة جارية.
هذا ، ولا تجري
البراءة الشرعية ـ على القول بكون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ـ من جهةٍ
أُخرى أيضاً ، وهي : أنّ لازم هذا القول أن يكون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذي
المقدّمة ، وما كان وضعه بوضع غيره فلا يقبل الرفع إلاّ برفع ذلك الغير ، ولذا
قالوا بأن حديث الرفع لا يرفع الجزئيّة ـ مثلاً ـ لكونها مجعولةً بجعل الأمر
المتعلّق بالمركّب الذي هو منشأ انتزاعها ، إذ ليس لها وضع استقلالي ، فلا رفع
كذلك.
لكنّ التحقيق أنّه
ليس وجوب المقدّمة من لوازم ماهيّة وجوب ذيها ، بل له وجود مستقل.
وأورد في
المحاضرات : بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعيّة بعد حكم العقل بلابدّية الإتيان
بالمقدّمة ، لتوقف الواجب النفسي عليها.
فأفاد الأُستاذ :
بأنّ هذا الإشكال يبتني على عدم ترتّب ثمرةٍ من الثمرات المذكورة سابقاً على
الإتيان بالمقدّمة ، لكنّ تصوير الثمرة ممكن ، فمثلاً : بناءً على عدم جواز أخذ
الأُجرة على الواجب الشرعي ، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعيّة عن وجوب المقدّمة
سقطت عن الوجوب ، ولا يبقى إشكال في جواز أخذ الأُجرة عليها ....
هذا تمام الكلام
في مرحلة المقتضي لجريان الأصل في المقام.
وأمّا المانع ،
فقد ذكر في الكفاية : إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعي للمقدّمة يستلزم التفكيك بين
المتلازمين في صورة الشك ، قال رحمهالله : «نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في مرتبة
الفعلية لما صح التمسّك بالأصل» هكذا في نسخةٍ. وفي أُخرى «صحّ التمسّك» وعن بعض تلامذته
أنّ «لما صحّ» كانت في الدّورة السابقة ، و «صحّ» في الدورة اللاّحقة.
وحاصل الكلام :
وجود المانع عن جريان الأصل ـ بعد تماميّة المقتضي له ـ وهو لزوم التفكيك بين
الوجوبين.
فأجاب رحمهالله عن الإشكال : أمّا بناءً على كلمة «لما صح» بأنّ الإشكال إنّما يرد لو كانت
الملازمة بين الوجوبين ظاهراً وواقعاً ، أمّا لو قلنا بأنّها في الواقع فقط ، دون
مقام جريان الأصل ، فلا ملازمة بين الوجوبين ، إذ للشارع أن يتصرّف في مرتبة
الظاهر ويرخّص بالنسبة إلى المقدّمة بجريان أصالة عدم وجوبها فيها.
وأمّا بناءً على
كلمة «صحّ» فتقريب الإشكال هو : إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة يعني الشك في
الملازمة ووقوع التفكيك بين المتلازمين احتمالاً ، وهذا محال كالتفكيك بينهما
قطعاً.
فأجاب رحمهالله ـ فيما حكاه المحقّق القوچاني ـ بأنّه في كلّ موردٍ يوجد دليلٌ يستلزم الأخذ
به محالاً من المحالات ، فإنّ ظهور ذلك الدليل يكون حجةً على أنْ لا موضوع لذلك
اللازم المحال ... ويؤخذ بالدليل ... وهذا هو البيان الذي مشوا عليه في جواب شبهة
ابن قبة في حجيّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال من العمل
بخبر الواحد ، واحتمال لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين من جهة تعذّر الجمع بين
الحكمين الظاهري والواقعي.
__________________
وقد استفاد
المحقّق الخراساني من هذا المطلب ليعطي الجواب عن إشكال لزوم التفكيك في المقام ،
فهو يقول بأنّ عمومات أدلّة الاستصحاب وأدلّة البراءة الشرعيّة حجّة على عدم
الملازمة ، فلا موضوع للاّزم المحال وهو التفكيك بين المتلازمين ....
والحاصل
: إنّ التعبّد
بالأدلّة يثبت عدم وجود الملازمة ، فصحّ جريان الأصل وتمّ عدم وجوب المقدّمة.
هذا تمام الكلام
في مقتضى الأصل في وجوب المقدّمة.
أدلّة الأقوال في مقدّمة الواجب
قد ذكرنا الأقوال
، ونتعرّض هنا لأدلّتها :
دليل القول بالوجوب مطلقاً :
وقد استدل للقول
بالوجوب مطلقاً بوجوه :
الأوّل
إنّ الإرادة
التشريعيّة على وزان الإرادة التكوينيّة ، فكما أنّ التكوينيّة إذا تعلّقت بشيء
تعلّقت بمقدّمته المتوقّف عليها ، غير أنّ تلك إرادة نفسيّة وهذه غيريّة ، كذلك
التشريعيّة ... وإن كان فرق بين الإرادتين من حيث أنّ التكوينيّة متعلّقها فعل
النفس ، والتشريعيّة متعلّقها فعل الغير عن اختيار. وهذا ما اعتمده في (الكفاية) .
وهو أقوى الوجوه ،
إذ لا ريب في شيء من مقدّماته. إلاّ أنّ تماميّة هذا الوجه متوقّفة على معرفة
حقيقة الحكم ، لأنّ الدليل أفاد أنّه إن حصل الشوق الواصل إلى حدّ النصاب بالنسبة
إلى المقدّمة تحقّق الوجوب الغيري لها ، فهل هذا
__________________
صحيح؟
قيل : إنّ الحكم
فعل اختياري.
وقيل : إنّه
الإنشاء بداعي جعل الداعي.
وقيل : إنّه
اعتبار لابدّية شيء أو حرمان المكلّف من شيء.
والقدر المشترك
بين هذه الأقوال هو إنّ الحكم فعل اختياري.
وفي المقابل قول
المحقّق العراقي من أنّ الحكم هو الإرادة المبرزة والكراهة المبرزة.
فعلى القول بأنّه
فعل اختياري ، فلا محالة تكون الإرادة التشريعيّة ـ وهي الشوق البالغ حدّ النصاب ـ
أجنبيّة عن الفعل. أمّا على القول بأنّه الإرادة المبرزة ، فلا تكون الإرادة
التشريعيّة بلا إبراز حكماً ، اللهم إلاّ أن يبرز الإرادة بالنسبة إلى المقدّمة ،
كأن يقول : ادخل السوق واشتر اللّحم.
نعم ، يتم
الاستدلال لو قيل بأن حقيقة الحكم نفس الإرادة والكراهة.
الثاني
وقوع الأمر
بالمقدّمة في القضايا التكوينيّة كقوله : ادخل السوق واشتر اللحم ، وفي القضايا
الشرعيّة كما في الخبر : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ...» والأصل في الاستعمال هو الحقيقة ، والأمر ظاهر في الوجوب. وهذا الوجوب الثابت
للمقدّمة غيري بالاستقراء ، لأنّ الوجوب إمّا إرشادي وامّا مولوي طريقي وامّا
مولوي نفسي وامّا غيري. أمّا الإرشادي ، فهو إرشاد إلى حكم العقل في المورد كما في
(أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ
...) فهنا يوجد الحكم العقلي
__________________
ولا يمكن أن يكون
الأمر بالإطاعة حكماً شرعيّاً مولوياً ، فيحمل على الإرشادية ، لكنْ ليس في مقامنا
حكم من العقل ، فهو لا يقول بلزوم الإتيان بالمقدّمة ، بل يقول بلابدّيته وهو غير
اللزوم والوجوب ، وأيضاً ، ففيما نحن فيه يمكن الحكم المولوي.
وأمّا المولوي
الطريقي ، فلا معنى له هنا ، إذ الحكم المولوي الطريقي ما يجعل للتحفّظ على الواقع
، وفيما نحن فيه لا جهل بالواقع حتّى يجعل حكم الوجوب للاحتفاظ عليه.
وأمّا المولوي
النفسي ، فالمفروض أنّ بحثنا في المقدّمة.
فانحصر كون الوجوب
هنا غيريّاً ... فيكون الأمر بغسل الثوب واجباً غيريّاً.
والجواب
:
وقد أجاب الأكابر
عن هذا الاستدلال : بأنّ هناك شقّاً آخر وهو : الإرشاديّة إلى الشرطيّة ، بأن يكون
الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلى شرطيّة الطهارة من الخبث في صحّة الصّلاة.
قال
الأُستاذ
وهذا الجواب الذي
ارتضاه في المحاضرات أيضاً ، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء شرطاً ، كاشتراط الصّلاة
بطهارة اللباس ، وبالطهارة من الحدث كما في (يا أَيُّهَا الَّذينَ
آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) ، أمّا في مثل : اذهب إلى السوق واشتر اللحم ، فليس دخول
السّوق شرطاً ولا مقدّمةً لشراء اللحم ، وإنّما هو مقدّمة وجوديّة.
__________________
وكذا الحمل على
الارشاد إلى المقدميّة ، ففيه : إنّه من الواضح في مثل : ادخل السّوق واشتر اللحم ، كون الدخول مقدمةً للشراء ، ولا
حاجة إلى التنبيه والإرشاد إليه.
(قال) والذي يمكن
أن يقال في الجواب : إنّ لابدّية الإتيان بمتعلّق الأمر هي لترتّب ذي المقدّمة
عليه ، وهذه الخصوصيّة تمنع من انعقاد الظهور العرفي للأوامر الشرعيّة المتعلّقة
بالمقدّمات في الطلب المولوي.
لا يقال : إنّه
بعد ثبوت حكم العقل بلابديّة المقدّمة ، من باب الملازمة العقلية بين المقدمة
وذيها ، يكون المقام من صغريات قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيتم
الحكم الشرعي ، أعني وجوب المقدّمة شرعاً.
لأنّ الأصحاب قد
نفوا الوجوب الشرعي هنا مع قولهم بقانون الملازمة. وبيان ذلك بحيث يكون نافعاً في سائر الموارد هو :
إن العقل ، سواء
قلنا بأنه حاكم أو مدرك فقط ، إنما يحرّك المكلّف ويحمله على امتثال حكم المولى
حتى يخرج عن عهدة التكليف ، فيما إذا لم يكن قبله حكم من الشرع ، لأنّ حكم الشرع
السابق على حكم العقل يكون كافياً لداعويّة العبد ، وفي مثل هذه الحالة لا أثر
للحكم العقلي ليكون مورداً لقاعدة الملازمة ، على أنّه يستلزم التسلسل ، لأنّ
الحكم العقلي لو استتبع حكماً شرعيّاً ، كان الحكم الشرعي موضوعاً لوجوب الإطاعة
عقلاً ، ووجوب الإطاعة لو استتبع حكماً شرعيّاً ، كان موضوعاً لوجوب الإطاعة كذلك
، وهكذا فيتسلسل. ومن هنا قالوا : الأحكام العقليّة التي هي في طول الأحكام الشرعيّة ليست
مورداً لقاعدة كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.
بل الأحكام
العقليّة التي هي مورد القاعدة هي الأحكام العقليّة الواقعة في
سلسلة علل الأحكام
الشرعيّة ، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك المصلحة الملزمة غير المزاحمة بالمفسدة ، أو
المفسدة الملزمة غير المزاحمة بالمصلحة ، فإنّ تلك المصلحة أو المفسدة تكون علّةً
للوجوب أو الحرمة ، لكون الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، فمثل هذه
الأحكام تكون مورداً للقاعدة.
والحاصل
: إنّ الأحكام
العقليّة على قسمين ، فما كان منها في طول الأحكام الشرعيّة فلا يكون مورداً
للقاعدة ، وما كان منها في سلسلة العلل لها فهي مورد للقاعدة.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعيّاً عن مورد القاعدة ، لأنّه ليس في
مقامنا إلاّ درك العقل التلازم في الإرادة والاشتياق بين المقدّمة وذي المقدّمة ،
وهذا التلازم أمر تكويني وليس وظيفةً للعبد ، فالعقل يرى هذه اللاّبدّية لكن لا
بعنوان كونها وظيفةً من وظائف العبوديّة ....
وتلخّص
: عدم تماميّة
القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة عن طريق قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
الثالث
ما نقله في
الكفاية عن أبي الحسين البصري وهو أنّه : لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وإذا تحقّق
الترك ، فلا يخلو حال ذي المقدّمة من أنْ يبقى على وجوبه فيلزم التكليف بما لا
يطاق ، أو يخرج عن الوجوب المطلق ويكون مشروطاً بوجود المقدّمة ، وهذا خلف.
أجاب
في الكفاية : بعدم لزوم شيء من
المحذورين ، بعد حكم العقل
__________________
بلابدّية الإتيان
بالمقدّمة ، فلو ترك المقدّمة ـ مع ذلك ـ لزم سقوط الأمر بذي المقدّمة بالعصيان ،
فالأمر غير باقٍ حتى يلزم التكليف بما لا يطاق.
وأشكل
المحقّق الإيرواني على الكفاية : بأنّ هذا الجواب يتم على القول بجواز خلوّ
الواقعة عن الحكم الشرعي. وأمّا بناءً على أنّ لكل واقعة حكماً شرعياً ، فإنّه إن
لم تجب المقدّمة فهي مباحة شرعاً ، ومع الإباحة تكون موضوعاً لحكم العقل بالرخصة ،
وإذا جاء الترخيص بالنسبة إلى المقدّمة أمكن ترك ذي المقدّمة أيضاً ، فينقلب وجوبه
عن الإطلاق إلى الاشتراط بالإتيان بالمقدّمة.
وهذا هو الخلف.
والحاصل
: إنّ جواب الكفاية
عن الاستدلال مبنائي.
والأُستاذ وافق على إشكال المحقّق الإيرواني ، لكنّه ذكر أنّ المبنى
الصحيح ما ذهب إليه في الكفاية ، إذ لا دليل على ضرورة وجود حكم شرعي في كلّ واقعة
، بل الحكم العقلي أيضاً وظيفة مخرجة للعبد من الحيرة. وبعبارة أُخرى : لا بدّ من
تعيين الوظيفة في كلّ واقعةٍ سواء كانت من ناحية العقل أو الشرع.
دليل القول بعدم وجوب المقدّمة
واستدلّ للقول
بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، باستحالة الوجوب بلا ملاك ، وملاك جعل الوجوب في
المقدّمة إمّا تحريك العبد نحو العمل ، وامّا إسناد العمل إلى أمر المولى إن كان
العبد متحرّكاً ومنبعثاً . وليس في وجوب المقدّمة شيء من الملاكين.
أمّا أن يكون لأجل
تحريكه ، فقد تقدّم كفاية اللابدّية العقلية.
__________________
وأمّا أن يكون
لأجل الإضافة إلى المولى فيكون مقرّباً ، فإنْ قلنا : بأن المقدّمة معنى حرفي وليس
لها وجود مستقل ، فلا موضوع للوجوب ، وإن قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بأنّها قابلة
للنظر الاستقلالي وتوجّه الأمر إليها ، فإنّ مقربيّة الإتيان بالمقدّمة حاصلة
بالإتيان بذي المقدّمة ، لأنّه إنّما يأتي بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذيها ،
فالمقربيّة حاصلة ولا أثر لجعل الوجوب للمقدّمة من هذه الجهة.
ومع انتفاء كلّ من
الملاكين ، يكون جعل الوجوب للمقدّمة لغواً اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ جعله لها
يؤثّر أثر التأكيد ، بأن يأتي بها بداعيين ، أحدهما الوجوب الغيري والآخر التوصّل
إلى ذي المقدّمة. فلا لغويّة. فيكون وجه عدم الوجوب للمقدّمة حينئذ عدم الدليل على
وجوبها لا عدم الملاك ولزوم اللغويّة ، إذ لا دليل شرعي على وجوب المقدّمة ، وقد
عرفت أنّ العقل غير كاشف هنا إلاّ عن التلازم بين المقدّمة وذيها في الشوق
والإرادة ، أمّا أن يكشف عن حكم شرعي فلا ... وقانون الملازمة أيضاً لم يثبت حكماً شرعيّاً للمقدّمة.
فالحقّ : عدم وجوب
مقدّمة الواجب شرعاً.
دليل التفصيل بين المقدّمات السببيّة وغيرها
فإن كانت سبباً
فهي واجبة ، وإنْ كانت شرطاً فلا ، وذلك : لأنّ القدرة على المتعلّق شرط ،
والمسبّب خارج عن القدرة ، فلا يتعلّق التكليف به ، لكنّ السبب المتوقّف عليه
مقدور ، فلا بدّ من صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلى السبب ، وعليه ، فلو أمر
بالطّهارة من الحدث ، فإنّه يتوجّه إلى السبب المحصّل لها ، لأنّه المقدور دون نفس
الطّهارة.
أجاب
في الكفاية
أوّلاً
: إن هذا الذي ذكر
ليس بدليلٍ على التفصيل ، بل إنّه دليل على أنّ الأمر النفسي إنّما يكون متعلّقاً
بالسبب دون المسبّب ، فيكون السبب واجباً نفسيّاً. وهذا شيء خارج عن محلّ البحث ،
وهو وجوب المقدّمة بالوجوب الغيري وعدمه.
وثانياً
: إنّ ما ذكر من
أنّ المسبّب غير مقدور غير صحيح ، لأنّ الشيء يكون مقدوراً بالقدرة على سببه ،
والقدرة المعتبرة في التكاليف أعم من القدرة بالمباشرة أو بالتسبيب ، فلو أمر
بالإحراق ـ وهو المسبّب ـ مع القدرة على الإلقاء في النار كان صحيحاً ، ولا وجه
لصرفه إلى الإلقاء ، أي السبب.
وقال
الميرزا :
إن كان وجود
العلّة غير وجود المعلول صحّ وجوب العلّة بالوجوب الغيري ، وإن كانا موجودين
بوجودٍ واحدٍ ـ كالإلقاء والإحراق ، والغسل والطهارة من الخبث ونحوهما ـ فلا معنى
لأنْ يكون وجوب العلّة غيريّاً والمعلول نفسيّاً.
أشكل
الأُستاذ
أوّلاً
: بأنّه لا يعقل
وجود العلّة والمعلول بوجودٍ واحدٍ ، إذ العلّة والمعلول متقابلان ، العلّة مؤثرة
والمعلول أثر ، والمتقابلان لا يوجدان بوجود واحدٍ.
وثانياً
: ما ذكره من تعدّد
الوجود في الإلقاء والاحتراق غير صحيح ، لأنّ الإلقاء لا ينفك عن الإحراق ، لكنّ
عدم الانفكاك أمرٌ ووجودهما بوجودٍ واحدٍ أمر آخر.
دليل التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره
فإنْ كانت
المقدّمة شرطاً شرعيّاً كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة فهي واجبة ،
__________________
وإنْ كانت شرطاً
غير شرعي كنصب السلّم للصعود إلى السطح الواجب فلا ، وهو قول ابن الحاجب في (المختصر)
وشارحه العضدي ، فهو :
أنّه لو لا وجوب
الشرط الشرعي شرعاً لما كان شرطاً ، حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً.
والحاصل
: إنّ المقدّمة إن
كانت عقليّة كطيّ الطريق للحج أو عاديّة كنصب السلّم للصعود ، فلا حاجة إلى جعل
الوجوب الشرعي ، لأنّ جعله إنّما هو بداعي بعث المكلّف ، والمفروض انبعاثه عقلاً
أو عادةً نحو المتعلّق ، وأمّا إن كانت المقدّميّة شرعيّة ، فإنّ العقل لا يدرك
لابديّتها ، كلابدّية الوضوء للصّلاة ، وهذا معنى قوله : لو لا وجوبه شرعاً لما
كان شرطاً.
جواب
المحقّق الخراساني
وأجاب المحقّق
الخراساني : أوّلاً
: إنّ الشرط مطلقاً
ـ شرعيّاً كان أو عقليّاً أو عاديّاً ـ هو ما ينتفي المشروط بانتفائه ، وعليه ،
فالشروط الشرعيّة ترجع إلى العقليّة.
قال
الأُستاذ
وفيه
: إنّه فرقٌ بين
الشروط الشرعيّة وغيرها ، لأنّ غير الشرعيّة واضحة لدى العقل ، بخلاف الشرعيّة ،
إذ العقل لا يدرك لابدّيتها إلاّ بعد وجوبها شرعاً ، كما تقدّم.
وأجاب
ثانياً : بأنّه لا يتعلّق
الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدّمة ، فلا بدّ من إثبات مقدميّة المقدّمة قبل تعلّق
الأمر فلو كانت مقدميّته متوقّفة على تعلّق الأمر بها لزم الدور.
__________________
قال
الأُستاذ
ويمكن الجواب :
بأنّ الوضوء كما هو شرط وقيد للصّلاة بما هي واجبة ، كذلك هو قيد للصّلاة بما هي
قربان كلّ تقي ـ مثلاً ـ فله دخلٌ في وجوبها وفي الغرض منها ، لكنّ دخله في الغرض
منها غير موقوف على وجوبه الغيري ، بل الوجوب الغيري موقوف على ذلك ، إذ لو لم يكن
الوضوء قيداً للغرض من الصّلاة لم يتعلّق به الوجوب الغيري. وعليه ، فقد أصبح
الوجوب الغيري للوضوء موقوفاً على دخله في الغرض من الصّلاة ، وليس دخله فيه
موقوفاً على وجوبه الغيري.
نعم ، مقدميّة
الوضوء للصّلاة ـ من حيث أنّها واجبة ـ موقوفة على الوجوب الغيري. والحاصل : إنّه
قد وقع الخلط بين مقدميّة الوضوء للواجب ومقدميّته للغرض من الواجب.
وعلى
الجملة : فإن كون الوضوء
شرطاً وقيداً للواجب موقوف على مصحّح انتزاع هذه الشرطيّة وهو الوجوب الغيري ،
لكنّ الوجوب الغيري موقوف على شرطيّته للقربانيّة وغيرها من الأغراض ، فاختلف
الموقوف والموقوف عليه ، فلا دور.
الحق
في الجواب
ما ذكره المحقّق
الخراساني بالتالي ، من أنّ المصحّح لاتّصاف المقدّمة الشرعيّة بالمقدميّة هو :
الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة مقيّداً بالمقدّمة ، كقوله : صلّ مع الطّهارة ،
فإنّ مثل هذا الخطاب يكون منشأً لانتزاع المقدميّة والشرطيّة للوضوء بالنسبة إلى
الصّلاة ، فلا يكون واجباً غيريّاً شرعاً.
هذا تمام الكلام
في مقدمة الواجب.
ثمرة القول بوجوب المقدّمة
ذكر في الكفاية
وغيرها ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة :
(منها) إنّ نتيجة البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب
مقدّماته هي الوجوب الشرعي للمقدّمة بناءً على ثبوتها ، قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لو قيل بالملازمة في المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمةً لواجب
يستنتج أنّه واجب.
يعني
: إذا علمنا مثلاً
: أنّ الوضوء مقدّمة لواجبٍ ، فجعلنا ذلك مقدّمةً للكبرى الأُصوليّة بأنّ : كلّ ما
هو مقدّمة لواجب فإنّه يلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذي المقدّمة ، ويستنتج من هذا
القياس وجوب الوضوء ، أمّا بناءً على عدم ثبوت الكبرى الأُصوليّة المذكورة ، فلا
تتم هذه النتيجة ويبقى اللاّبدّية العقليّة.
وفي
المحاضرات : إنّ ما ذكر لا
يصلح لأن يكون ثمرةً فقهية للمسألة الأُصوليّة ، لعدم ترتّب أثر عملي بعد حكم
العقل بلابدّية الإتيان بالمقدّمة.
فأجاب
الأُستاذ : بأنّه يكفي
لتحقّق الثمرة الفقهيّة جواز فتوى الفقيه بوجوب الوضوء في المثال ، فكان للقياس
المزبور هذا الأثر الفقهي العملي لبعض المكلّفين وهم الفقهاء.
(ومنها) إنّ المقدّمة إذا كانت عبادةً ، فعلى القول بوجوبها فإنّه
يؤتى بها بقصد التقرّب ، وإلاّ فلا كما هو واضح.
__________________
وفي
المحاضرات : إنّ عباديّة
المقدّمة لا تتوقّف على وجوبها ، فإنّ منشأ العباديّة لها أحد أمرين ، إمّا
الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي وامتثال الأمر المتعلّق به ، وامّا
الإتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلّق بها كما في الطهارات الثلاث ، فالوجوب
الغيري لا يكون منشأ لعباديّتها أصلاً.
فأجاب
الأُستاذ : بأنه اشكال
مبنائي ، ولا يعتبر في الثمرة أن تكون مترتّبةً على جميع المباني ، فعلى القول
بأنّ العمل بداعي الأمر الغيري غير مقرّب بل العباديّة إنّما تحصل بأحد الأمرين
المذكورين ، فلا ثمرة. أمّا على القول بأنّ الإتيان به مضافاً إلى المولى كافٍ
للعباديّة والمقربيّة ، فإنّ الإتيان به بداعي الأمر الغيري يكون مقرّباً وتترتّب
الثمرة.
(ومنها) إنه إنْ كانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعي ، كانت
موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة على الواجبات ، وإلاّ فلا مانع من ذلك.
قال
في المحاضرات : وفيه أوّلاً
: إنّ الوجوب ـ بما
هو وجوب ـ لا يكون مانعاً من أخذ الأُجرة على الواجب ، إلاّ إذا قام دليل على لزوم
الإتيان به مجّاناً كدفن الميّت ، وإذ لا دليل على لزوم الإتيان بالمقدّمة مجّاناً
، فلا مانع من أخذ الأُجرة عليها وإنْ قلنا بوجوبها. وثانياً : إنّه لا ملازمة بين وجوب شيء وعدم جواز أخذ الأُجرة عليه ،
بل النسبة بينهما عموم من وجه ، فقد يكون العمل واجباً وأخذ الأُجرة عليه جائز كما
لو كان واجباً توصلياً ، وقد يكون غير واجب ولا يجوز أخذ الأُجرة عليه كالأذان ،
فإنْ كان واجباً عبادياً حرم أخذ الأُجرة عليه على القول بالحرمة ... إذن ، لا بدّ
من التفصيل في هذه الثمرة.
قال
الأُستاذ : إنّه يكفي ترتّب
الثمرة على بعض الأقوال في المسألة ، فعلى القول بأنّ كل واجب فهو لله ، وما كان
لله فلا تؤخذ الأُجرة عليه ـ لأن وجوب
العمل على العبد
منافٍ لملكيّة العبد لعمله ـ فالثمرة مترتّبة.
(ومنها) برّ النذر بالإتيان بالمقدّمة على القول بوجوبها لو نذر
الإتيان بفعل واجب ، وعدم حصول البرّ بذلك على القول بعدم وجوبها.
وقد
أشكل في الكفاية
والمحاضرات وغيرهما على هذه الثمرة : بأنّ الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر ، فإن
كان قاصداً من لفظ «الواجب» خصوص الواجب النفسي ، لم يكف الإتيان بالمقدّمة ، لأن
وجوبها غيري على القول بوجوبها ، وإن كان قاصداً منه ما يلزم الإتيان به ولو بحكم
العقل ، وجب الإتيان بالمقدّمة ، حتّى على القول بعدم وجوبها شرعاً. نعم لو قصد من
الوجوب الأعم من النفسي والغيري ، حصل البرّ بإتيان المقدّمة على القول بوجوبها
دون القول بعدم وجوبها.
(ومنها) إنّه بناءً على وجوب المقدّمة شرعاً ، فقد يكون لواجب نفسي
مقدّمات كثيرة ، وحينئذٍ ، فلو ترك الواجب النفسي مع مقدّماته حكم بفسقه ، أمّا
بناءً على عدم وجوبها فلا ، لأنّه لم يفوّت إلاّ واجباً واحداً وهو النفسي ذو
المقدّمة ، ولا يصدق عنوان الإصرار على المعصية بذلك إلاّ إذا كان ترك ذي المقدّمة
كبيرةً من الكبائر.
وأشكل
في المحاضرات بما حاصله :
ترتّب الثمرة على بعض المباني في معنى «العدالة» وفي معنى «الإصرار على الصغيرة»
على مسلك التفصيل بين الصغيرة والكبيرة.
قال : ولو تنزّلنا
عن جميع ذلك ، فإنّه لا معصية في ترك المقدّمة بما هي مقدّمة حتى على القول
بوجوبها كي يحصل الإصرار على المعصية ، لأنّ ما يحقّق عنوان المعصية هو مخالفة
الأمر النفسي ، وأمّا مخالفة الأمر الغيري فلا تحقّق بها المعصية.
وقد
أورد عليه الأُستاذ :
أوّلاً
: بكفاية ترتّب
الثمرة على بعض المباني ، كما تقدّم.
وثانياً
: إن عنوان «المعصية»
يتحقّق بمخالفة الأمر ، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً ....
وثالثاً
: إن قيل إنّ عنوان
«الإصرار» على المعصية يتحقّق بكثرة المخالفة كما يتحقّق بتكرّر المخالفة للحكم
الواحد ، فإنّه يتحقّق فيما نحن فيه بترك جميع المقدّمات.
(ومنها) إنّ المقدّمة إن كانت محرّمة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة
شرعاً يلزم اجتماع الأمر والنهي فيها ، وعلى القول بعدم وجوبها فلا يلزم.
أجاب
في الكفاية
أوّلاً
: إنّ المقدّمة
المحرّمة على قسمين ، منحصرة وغير منحصرة ، فإن كانت منحصرةً فلا يلزم الاجتماع ،
بل يترجّح أحد الأمرين ـ الوجوب والحرمة ـ على الآخر. وإن كانت غير منحصرة ، فإنّ
مصب الوجوب ـ على القول به في بحث مقدّمة الواجب ـ هو المقدّمة المباحة ، لأنّ الحاكم
بوجوب المقدّمة هو العقل ، عن طريق الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة
، وهو لا يرى الملازمة إلاّ بين الواجب ومقدّمته المباحة ، فلا تكون المحرّمة محلّ
الاجتماع.
فأشكل
في المحاضرات في صورة عدم
الانحصار : بعدم الدليل على اعتبار إباحة المقدّمة ، لأنّ الملاك في المقدّمية
توقف ذي المقدّمة الواجب على المقدّمة ، وكما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا
الملاك فكذلك المقدّمة المحرمة ، ومجرّد انطباق عنوان المحرّم عليها لا يخرجها عن
واجديّتها للملاك ... فتكون
محلاًّ للاجتماع.
وأجاب
الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ
وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ إنّما اكتشف عن طريق حكم العقل بالملازمة
بين وجوب ذي المقدّمة شرعاً ووجوب المقدّمة ، فالعقل لا يرى انفكاكاً بين مطلوبيّة
ذي المقدّمة ومطلوبيّة المقدّمة ، لكنّ هذه المطلوبيّة من أوّل الأمر إنّما تكون
بين ذي المقدّمة ومقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولى ، فهو لا يرى
الملازمة إذا كانت مبغوضة له ، وعليه ، فإنّ الوجوب يتوجّه إلى المقدّمة المباحة ،
فلا يلزم الاجتماع.
وثانياً
: إنّه ليس المورد
من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، بل من قبيل النهي عن العبادة ، لأنّ موضوع الوجوب هو
«ذات المقدّمة» كالوضوء ، وموضوع الحرمة هو «الغصب» ، فتعلّق الأمر والنهي بما هو
مصداق فعلاً للمقدّمة ، فيكون من مسائل النهي عن العبادة.
والجواب
: صحيح أنّ عنوان «المقدّمة»
خارج عن متعلّق الأمر ، إلاّ أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعي الوضوء الجامع بين الفردين
الحلال والحرام ، والنهي قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب ، فكان متعلّق الأمر غير
متعلّق النهي ، ثمّ انطبقا على هذا الوضوء الغصبي فكان مجمعاً لهما.
وثالثاً
: إنّ الغرض من
المقدّمة هو التوصّل بها إلى ذي المقدّمة الواجب بالوجوب النفسي ، وهي لا تخلو
إمّا أن تكون توصليّة أو تعبديّة ، فإن كانت توصليّة فهي توصل إلى ذي المقدّمة وإن
كانت محرّمةً ، كالحج على الدابّة المغصوبة ، وإن كانت تعبديّة ـ كالوضوء مثلاً ـ وقع
البحث في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه ، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة
سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، وإن قلنا بالعدم وتقديم جانب النهي بطلت
سواء قلنا بوجوب المقدّمة
أم لم نقل ، فلا
ثمرة للبحث.
وفيه
:
إنّه بناءً على
عدم الفرق في المقربيّة بين الواجب النفسي والواجب الغيري ، فإنّ المقدّمة إن كانت
تعبّدية فإنّه يعتبر فيها قصد القربة ، فإنْ اتّفق كونها محرمةً كالوضوء الغصبي
امتنع التقرّب بها إلاّ على القول بوجوب المقدّمة ، بناءً على جواز اجتماع الأمر
والنهي ، فالثمرة مترتبة.
تتمّة
مقدّمة
المستحب
قال
المحقّق الخراساني :
مقدّمة المستحب
كمقدّمة الواجب فتكون مستحبةً لو قيل بالملازمة.
أقول
:
إنّه بناءً على الملازمة
بين المقدّمة وذيها ، لا يرى العقل فرقاً بين الطلب الإلزامي والطلب غير الإلزامي
، فبمجرّد وجود المقدميّة وتوقّف ذي المقدّمة عليها ، يكون مقدّمة المستحب
مستحبّاً ، كما يكون مقدّمة الواجب واجباً.
مقدّمة الحرام والمكروه
قال
المحقّق الخراساني :
وأمّا مقدّمة
الحرام والمكروه ، فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكّن معه من
ترك الحرام أو المكروه اختياراً ... .
أقول
:
حاصل كلامه قدسسره هو التفصيل ،
لأنّ المقدّمة على قسمين :
أحدهما
: المقدّمة التي
يتمكّن المكلّف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه ، لعدم كونها علّةً تامّةً ولا
جزءاً أخيراً للعلّة التامّة.
__________________
الثاني
: المقدّمة التي لا
يتمكّن المكلّف معها من ذلك ، لكونها علّةً تامّة أو جزءاً أخيراً لها.
ففي القسم الأول
لا تكون المقدّمة حراماً أو مكروهاً ، إذ مع الفرض المذكور لا وجه لذلك ، لعدم
كونها واجدةً لملاك المقدّميّة وهو التوقّف ، بل يكون إتيانه لذي المقدّمة
المحرَّم مستنداً إلى سوء اختياره ، بخلاف القسم الثاني.
وبعبارة
أُخرى : إنّه في كلّ
موردٍ تتوسّط الإرادة بين المقدّمة وذيها ، فلا تترشّح الحرمة أو الكراهة إلى
المقدّمة ، وفي كلّ موردٍ لا توسط للإرادة بينهما ، كما في الأفعال التوليديّة ،
حيث النسبة بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة والمعلول ، فالمقدّمة تكون
محرّمة أو مكروهةً كذلك.
وقال
المحقّق النائيني
بأنّ المكلّف
تارةً : عنده صارف يصرفه عن ارتكاب الحرام وأُخرى :
لا صارف عنده.
فإنْ كان عنده صارف عن الحرام ، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة ، لعدم ترتّب أثر
عليها.
وأمّا إن لم يكن
عنده صارف فهنا صور :
(الصورة الأُولى): أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ويتّحدا وجوداً ،
كصبّ الماء للوضوء حالكون الماء مغصوباً ، فقد تحقّق عنوانان أحدهما : صبّ الماء
وحكمه الوجوب والآخر : الغصب وحكمه الحرمة ، لكنّهما متّحدان وجوداً ، فالمورد من
صغريات اجتماع الأمر والنهي ، وتكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة ـ لا
الغيريّة ـ لأنّ النهي حينئذٍ يتوجّه إلى نفس الفعل التوليدي.
(الصورة الثانية) أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ووجوداً :
__________________
فإنْ كانت النسبة
بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة إلى المعلول ولا توسّط للإرادة ،
فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسيّة ـ مع كونها مقدّمة ـ لأنّها هي متعلّق القدرة
والاختيار من المكلّف ، وأمّا ذو المقدّمة فلا قدرة على تركه فلا تتعلّق به حرمة.
وإنْ لم تكن
النسبة بينهما كذلك ، فهنا صورتان :
١ ـ أن يأتي
بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الحرام ، فيكون القول بحرمتها مبنيّاً على القول
بحرمة التجرّي ، فعلى القول بذلك تكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة ، وإلاّ
فهي حرام بالحرمة الغيريّة.
٢ ـ أن يأتي بها
لا بقصد ذلك ، فلا تكون صغرى للتجرّي ، ولا وجه للحرمة حينئذٍ ، لبقاء الاختيار
والقدرة على ترك الحرام كما هو المفروض.
تحقيق
الأُستاذ في هذا المقام
فقال الأُستاذ دام
بقاه : إنّ مقتضى القاعدة ـ قبل كلّ شيء ـ تعيين المبنى في حقيقة النهي ، وأنّه هل
طلب الترك أو أنّه الزجر عن الفعل؟
فعلى القول بوحدة
الحقيقة في الأمر والنهي ، وأن كليهما طلب ، غير أنّ الأوّل طلب للفعل والثاني طلب
للترك ـ كما هو مختار صاحب الكفاية ـ يتم التفصيل الذي ذهب إليه ، لأنّ ما ليس
علّةً تامّةً ولا جزءاً أخيراً لها لا يتعلّق به طلب الترك ، فلا يكون محرّماً
بالحرمة الغيريّة ، لأنّه غير واجد للملاك وهو المقدمية والتوقّف ، لأنّ ما له دخل
في ترك الحرام هو الجزء الأخير من العلّة التامّة ، أمّا غيره من الأجزاء فلا دخل
له في تحقّق الحرام.
وبهذا البيان يظهر
الفرق بين مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام ـ مع كون كليهما طلباً على المبنى ـ فإن
مقدّمات الواجب كلّ واحدة منها دخيل في تحقّق الواجب ، فكلّ خطوة خطوة من طي
الطريق للحج واجب ، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخيل ليس إلاّ الجزء الأخير.
وهنا يواجه
المحقّق الخراساني مشكلةً يتعرّض لها بعنوان «إن قلت» وحاصلها : إنّ الإرادة علّة
تامّة للحرام ، فلا بدّ وأن تكون منهيّةً عنها فهي محرمة. ثمّ يجيب بأنّ الإرادة
غير إرادية ، فلا يتعلّق بها التكليف لا النفسي ولا الغيري ، وإلاّ لتسلسل.
فهذا توضيح مختار
الكفاية.
فأشكل عليه
الأُستاذ بإشكالين :
أحدهما
: إنّ حقيقة النهي
هو الزجر وليس طلب الترك.
والثاني
: إنّ الإرادة
يتعلّق بها التكليف ، لكون أفعالنا اختياريّةً بالعرض.
أقول
:
لكنّهما اشكالان
مبنائيّان كما لا يخفى.
هذا بالنسبة إلى
كلام المحقّق الخراساني.
وأمّا بالنسبة إلى
كلام الميرزا ، فقد أفاد الأُستاذ :
أمّا ما ذكره في
الصّورة الأُولى ـ وهي ما إذا كان للمكلّف صارف عن الحرام ـ ففيه نظر ، لأنّ مقتضى
قانون الملازمة ـ بناءً على القول به ـ هو الحكم بحرمة المقدّمة الموقوف عليها فعل
الحرام حرمةً غيريّة ، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا.
وأمّا ما ذكره في
الصّورة الثانية ـ من سراية الحرمة إلى متعلّق الأمر فيما إذا كان العنوانان
موجودين بوجودٍ واحد ـ فتامٌّ من حيث الكبرى ، إلاّ أنّ المورد ليس من صغرياتها ،
لأنّ إجراء الماء على اليد غير متّحد وجوداً مع جريانه على الأرض المغصوبة ، بل
الجريان عليها أثر لإراقة الماء على اليد بعنوان الغسل.
وأمّا ما ذكره في
الصّورة الثالثة ـ من عدم سراية الحرمة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ، لكون ذي
المقدّمة خارجاً عن القدرة في حال عدم توسط الإرادة بينهما ـ
ففيه : بعد غضّ
النظر عن اختلاف كلماته في هذا المورد ، إنّ القدرة على المسبّب موجودة ، لوجود
القدرة على سببها الذي هو مقدّمة وجوديّة لذي المقدّمة ، وحينئذ ، فالذي يحرم
بالحرمة النفسيّة هو ذو المقدّمة ، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتية لها وإنْ كانت
جزءاً أخيراً للعلّة التامّة ، فتكون محرّمةً حرمة غيريّة.
وأمّا ما ذكره في
الصّورة الرابعة ـ وهي المورد الذي لا تكون المقدّمة فيه علّةً تامّةً ، وقد أتى
بها بقصد التوصّل إلى الحرام فهي على القول بحرمة التجرّي حرام نفسي ، وعلى القول
بعدم حرمته فهي حرامٌ حرمةً غيرية ـ ففيه :
أمّا التجرّي ،
فلا حرمة شرعيّة له ، وإنّما يستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج على المولى.
وأمّا القول بالحرمة الغيريّة بناءً على عدم حرمة التجرّي ، فالمفروض هنا هو
القدرة على ترك الحرام مع الإتيان بالمقدّمة ، فلا يتحقّق مناط الحرمة الغيريّة
وهو التوقّف أو المقدميّة.
وأمّا ما ذكره في
الصّورة الخامسة ـ من عدم حرمة المقدّمة ، إنْ لم تكن علةً تامةً ولم يؤت بها بقصد
التوصّل للحرام ـ فتام بلا كلام.
فالحق
في المسألة
هو التفصيل بين
مقدّمة الواجب ـ بناءً على القول بوجوبها ـ ومقدّمة الحرام ، فإن مقدّمات الواجب
تتّصف كلّها بالوجوب ، لواجدية كلّ واحدة منها لملاك الوجوب الغيري ، وهو توقف ذي
المقدّمة عليها ، بخلاف مقدّمة الحرام ، فإنّ ذا المقدّمة إنّما يتحقّق بتحقّق
المقدّمة الأخيرة ، وأمّا غيرها من المقدّمات فلا أثر لها ، لأنّ ملاك المقدمية
غير متوفّر إلاّ في الأخيرة ، فتكون هي وحدها المحرّمة بالحرمة الغيريّة ، بناءً
على ثبوت الملازمة.
هذا تمام الكلام
في مبحث المقدّمة بجميع أقسامها.
ويقع الكلام في
مبحث الضد.
مبحثُ الضدّ
. مقدّمة في بيان المراد من ألفاظ العنوان
إنّ عنوان البحث
هو : الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟
في هذا العنوان
ألفاظ ، فما المراد منها :
(الأمر) ليس المراد به مادّة الأمر ولا صيغته ، بل المراد هو الطلب
المبرز ، بأيّ مبرز لفظي أو فعلي كالتحريك عملاً ، أو الإشارة باليد وغيرها ....
فهذا هو المراد ،
لأنّه إنْ أريد خصوص مادّة الأمر أو صيغته ، كان البحث لفظيّاً ، وتكون دلالة
الأمر على النهي لفظيّة ، مطابقية أو تضمّنيّة أو التزاميّة ، ولكنّ البحث أعم ،
ويدخل فيه الدلالة العقليّة أيضاً ، فيكون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب
اللّفظي وغيره.
و (الاقتضاء) لفظي تارةً وعقلي أُخرى ، والعقلي ينشأ تارةً : من مقدميّة ترك أحد الضدّين
لوجود الآخر ، وأُخرى : من الملازمة بين وجود أحدهما وعدم الآخر ... والاقتضاء
اللفظي هو الدلالة اللفظيّة بأقسامها الثلاثة.
والمراد من
الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظي والعقلي بأقسامهما.
وسيأتي توضيحٌ
لهذا قريباً.
و (النهي) ما يقابل الأمر ،
فإذا كان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظي وغيره ، فكذلك النّهي
يكون أعم ، سواء كان حقيقته طلب الترك أو
الزجر عن الفعل.
و (الضد) اصطلاحان ، فلسفي
وأُصولي ، أمّا في الفلسفة ، فالمراد منه الأمران الوجوديان اللذان لا يقبلان
الاجتماع ، فبينهما تقابل التضاد. توضيحه : كلّ شيئين إن اشتركا في النوع القريب
فهما متماثلان ، وإلاّ فإنْ لم يكونا آبيين عن الاجتماع في الوجود فهما متخالفان ،
وإنْ أبيا فهما متقابلان ، فإنْ كانا وجوديين فهما ضدّان ، وإنْ كان أحدهما
وجوديّاً والآخر عدميّاً فهما متناقضان. والحاصل : إنْ كان المتقابلان وجوديين ولا تلازم بينهما في التصوّر ،
فهما ضدّان فلسفةً.
وأمّا في الاصطلاح
الأُصولي ، فلا يشترط أن يكونا وجوديين ، ولذا يقسّم الضدّ إلى الخاص والعام وهو
عبارة عن الترك.
فالمراد من «الضد»
هنا هو المصطلح الأُصولي كما عرفت.
بقي أن نوضّح
المراد من «الاقتضاء» بالنظر إلى المراد من «الضد» :
وذلك لأنّ ما
تقدّم من أعميّة الاقتضاء من اللفظي والعقلي ، إنّما هو فيما إذا كان الأمر بالشيء
مقتضياً للنهي عن الضدّ العام ، فإنّه في هذه الحالة يعقل أن يكون الاقتضاء
لفظيّاً ، فقيل : بأنّ الأمر بالشيء يدلّ بالمطابقة على النهي عن تركه ، وقيل : بالتضمّن ، وقيل :
بالالتزام من جهة الملازمة بينهما باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ـ أيْ صورة عدم
انفكاك تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم ـ فإنّه متى كان اللزوم كذلك فالدلالة
التزاميّة لفظيّة.
أمّا إذا كان
الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه الخاص ، فلا وجه للدلالة اللفظيّة بل هي
عقليّة ، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه بالدلالة
المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة ، مبني على أنّ الأمر عبارة عن طلب الشيء
مع المنع عن تركه ، ومن الواضح أنّ الترك ضدّ عام ، لكنّ الأمر بالإزالة ليس
دالاًّ على النهي
عن الصّلاة ـ التي هي ضدّها الخاص ـ بإحدى الدلالات المذكورة ، إذ ليس الأمر
بالإزالة عين النهي عن الصّلاة ، ولا أنّ النهي عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة ،
ولا أن بينهما ـ أي مطلوبيّة الازالة ومبغوضيّة الصّلاة ـ اللزوم البيّن بالمعنى
الأخص ، لوضوح انفكاك تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة.
وتلخّص ، أن لا
مجال لشيء من الدلالات اللفظيّة في الضدّ الخاص.
فقد يقال باقتضاء
الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاص اقتضاء عقليّاً ، عن طريق كون ترك الضدّ
الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به ، بأن يكون وجود الإزالة موقوفاً على عدم الصّلاة
، بناءً على وجوب مقدّمة الواجب ، بمعنى : أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن
المسجد ، فإن أمره بذلك يقتضي وجوب عدم الصّلاة ، ووجوب عدم الصّلاة يقتضي النهي
عنها.
فهذا طريقٌ
لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص عقلاً.
وطريق آخر هو :
دعوى الملازمة بين وجود الإزالة وعدم الصّلاة ، ببيان : أنّه إذا وجبت الإزالة كان
عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة ، ولمّا كان المتلازمان متّفقين حكماً كان عدم
الصّلاة واجباً.
وتفصيل الكلام في
مقامين :
الأوّل :
١ ـ في اقتضاء الأمر للنّهي عن الضد
الخاص
١
ـ عن طريق المقدميّة
والبحث الآن في
الطريق الأوّل ... وفيه أقوال خمسة :
١ ـ المقدميّة
مطلقاً ، أي : أنّ وجود أحد الضدّين مقدّمة لعدم الآخر ، وعدمه
مقدّمة لوجوده.
٢ ـ عدم المقدميّة
مطلقاً ، فليس وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر ولا عدمه مقدّمة لوجوده.
٣ ـ وجود أحدهما
مقدّمة لعدم الآخر.
٤ ـ عدم الضدّ
مقدّمة لوجود الآخر.
٥ ـ العدم مقدّمة
دون الوجود ، فلا مقدميّة للوجود ، إلاّ أنّ الضدّ إن كان موجوداً فهو مقدّمة ،
وإن كان معدوماً فليس بمقدّمة.
والمهم من هذه
الأقوال ثلاثة :
الأول
: قول المشهور
بمقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر.
والثاني
: قول المتأخّرين
بعدم المقدميّة مطلقاً.
والثالث
: تفصيل المحقّق
الخونساري بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم.
دليل قول المشهور
إنّ الإزالة
والصّلاة ضدّان متمانعان في الوجود.
والعلّة التامّة
مركّبة من وجود المقتضي ووجود الشرط وعدم المانع.
فكان عدم الصّلاة
ـ المانع ـ مقدمةً لوجود الإزالة.
أجاب في الكفاية
وأجاب المحقّق
الخراساني : بأنّ بين الضدّين معاندة تامّة ، لكنْ بين الضدّ وعدم
الضدّ الآخر كمال الملاءمة ، فالسواد والبياض متنافران ، لكنْ بين البياض وعدم
السواد تلاءم ، وعليه ، فكما أنّ الضدّين في مرتبةٍ واحدة ، كذلك
__________________
وجود أحدهما وعدم
الآخر في مرتبةٍ واحدة ، وإذا ثبت الاتحاد في المرتبة ، انتفى تقدّم أحدهما على
الآخر ، والحال أنّ المقدّميّة لا تكون إلاّ مع الاختلاف في المرتبة.
وفيه
: إنّه قد يكون بين
الشيء والآخر كمال الملاءمة ولا اتّحاد في المرتبة ، كما بين العلّة والمعلول ،
فإن بين وجودهما كمال الملاءمة وهما مختلفان في المرتبة.
والحاصل
: إنّ مجرّد
الملاءمة بين وجود الضد وعدم الضدّ الآخر لا يوجب اتّحاد المرتبة حتى تنتفي
المقدميّة.
ثمّ
قال :
فكما أنّ المنافاة
بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادّين.
أقول
:
يحتمل أن يكون
تكميلاً للوجه المذكور : بأنّه كما أنّ عدم السواد ـ المنافي للسّواد ـ في مرتبةٍ
واحدة معه ، كذلك السواد والبياض.
أو يكون كما هو
ظاهر السيد الأُستاذ برهاناً آخر على عدم التمانع ، بأنْ يكون جواباً نقضيّاً ،
من حيث أنّ المعاندة بين الضدّين ليست بأكثر من المعاندة بين النقيضين ، فكما لا
يعقل أن يكون الوجود مقدّمةً للعدم ـ مع كمال المنافرة بينهما ـ كذلك السواد
والبياض. فلو كان مجرّد المنافرة موجباً لمقدميّة أحد الشيئين للآخر ، كان وجود
الشيء مقدمةً لعدم الشيء الآخر. وعلى الجملة : إنّه لو كان ملاك المقدميّة كمال
المنافرة ، فإنّ وجوده في المتناقضين أقوى منه في
__________________
الضدّين ، والحال
أنّ المقدميّة بين المتناقضين مستحيلة.
ثمّ
قال :
كيف؟ ولو اقتضى
التضادّ توقّف وجود الشيء على عدم ضدّه ـ توقّف الشيء على عدم مانعة ـ لاقتضى
توقّف عدم الضدّ على وجود الشيء توقّف عدم الشيء على مانعة ، بداهة ثبوت المانعيّة
في الطرفين والمطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح.
أقول
وهذا ـ مع كونه
جواباً عن دليل المشهور ـ برهانٌ على عدم المقدميّة بين الضدّين كما هو مختار
المحقّقين المتأخّرين. وتوضيحه
: لا ريب أنّ عدم
المانع مقدّمة من مقدّمات الممنوع ، فلو كان عدم أحد الضدّين من مقدّمات وجود الضدّ
الآخر ، كان وجود الضدّ موقوفاً وعدم الضدّ الآخر موقوفاً عليه ، لكنّ هذه الحالة
موجودة من الطرف الآخر أيضاً ، لأنّ التمانع من الطرفين ، فيكون وجود الضدّ مانعاً
من عدم الضدّ الآخر ، فعدم الضدّ الآخر موقوفٌ ، ووجود الضدّ موقوف عليه ... فكان
عدم الضدّ الآخر موقوفاً وموقوفاً عليه ، غير أنّ العدم شرط لوجود الضد ، ووجود
الضدّ سبب للعدم ، وكون أحد الطرفين شرطاً والآخر سبباً غير مانع من لزوم الدور ،
لأنّ ملاكه التوقّف ، وهو حاصل سواء كان على سبيل الشرطيّة أو السببيّة.
جواب المحقّق الخونساري
وعن المحقق
الخونساري أنه أجاب عن هذا الدور : بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلي ، بخلاف
التوقّف من طرف العدم ، فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه غير
عدم وجود ضدّه ، ولعلّه كان محالاً ، لأجل
انتهاء عدم وجود
أحد الضدّين مع وجود الآخر إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به وتعلّقها بالآخر حسب
ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي ، فلا
يكاد يكون مستنداً إلى وجود المانع كي يلزم الدور ... ذكره صاحب الكفاية ، وتوضيحه :
إنّه لا يلزم
الدور ، لكون التوقّف من أحد الطرفين فعليّاً ومن الطرف الآخر تقديريّاً ، وهذا
الاختلاف كافٍ لعدم لزومه ، لأنّ الوجود الفعلي للمعلول متوقّف دائماً على فعليّة
العلّة التامّة بجميع أجزائها ، من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فإذا تحقّقت
تحقّق المعلول واستند وجوده إليها ... هذا من جهةٍ. ومن جهة أُخرى : يعتبر وجود
أجزاء العلّة جميعاً مع وجود المعلول وإن كانت الأجزاء مختلفةً في المرتبة ، لكنّ
وجود المعلول مستند إلى جميعها ، فإذا وجدت وجد. أمّا عدم المعلول فيستند في
الدرجة الأُولى إلى عدم المقتضي ثمّ إلى عدم الشرط ثمّ إلى وجود المانع ، لأنّ
المراد من الشرط ما يتمّم فاعليّة الفاعل أي المقتضي ، ومن المانع ما يزاحم
المقتضي في التأثير ، فلا بدّ من وجود المقتضي أوّلاً ثمّ الشرط ثمّ عدم المانع ،
فلو فقد المقتضي لاستند عدم المعلول إلى عدم الشرط أو وجود المانع ، ولو فقد الشرط
ـ مع وجود المقتضي ـ استند عدم المعلول إلى عدم الشرط لا إلى وجود المانع.
فالمراد من فعليّة
التوقّف في طرف وجود الضدّ هو أنّ العلّة التامّة لوجوده متحقّقة ، إذ المقتضي
والشّرط متحقّقان ، فهو متوقّف على عدم الضدّ.
لكنّ التوقف من
طرف العدم تقديري ، لأنّ عدم الضدّ لا يسند إلى وجود الضدّ الآخر ، إلاّ إذا تحقّق
المقتضي والشرط للعدم ، فكان توقّف عدم الضدّ على
__________________
وجود الضدّ الآخر
تقديريّاً ، وذلك ، لأنّ الإرادة إن تعلّقت بالصّلاة استحال تعلّقها بالإزالة ،
فكان عدم الإزالة مستنداً إلى عدم المقتضي لها وهو الإرادة ، وليس مستنداً إلى
وجود الصّلاة المانع عن تحقّق الإزالة ... ولو كانت هناك إرادتان تعلّقت احداهما
بضدّ والأُخرى بالضدّ الآخر ، كان عدم تحقّق الضدّ الذي تعلّقت به الإرادة
المغلوبة غير مستندٍ إلى وجود المانع أي الإرادة الغالبة ، بل إلى عدم قدرة
الإرادة المغلوبة ، فرجع عدم الضدّ إلى عدم المقتضي.
وتلخّص
: عدم لزوم الدور
واندفاع الإشكال عن استدلال المشهور للقول بالمقدميّة.
رأي
صاحب الكفاية
وقد سلّم المحقّق
الخراساني للجواب المذكور ووافق على أنّه رافع للدور ، لكنّه قال : بأنّ هذا
الجواب غير سديد ، لبقاء مشكلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه ، قال
: «لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأنْ يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه ،
ضرورة أنّه لو كان في مرتبةٍ يصلح لأنْ يستند إليه ، لما كاد يصح أن يستند فعلاً
إليه» .
وحاصله
: إنّ مجرّد
صلاحيّة عدم الضدّ للمانعيّة عن وجود الضدّ الآخر كافٍ للاستحالة ، لأنّه لمّا كان
صالحاً لذلك كان متقدّماً رتبةً ، تقدّم المانع على الممنوع ، لكنّه في نفس الوقت
متأخّر عن الضدّ الموجود لكونه معلولاً له ، فيلزم في طرف الوجود اجتماع التقدّم
والتأخّر ، واجتماع المتقابلين في الشيء الواحد محال ، فالقول بتوقّف وجود الضدّ
على عدم ضدّه ـ توقّف الشيء على مقدّمته ـ باطل.
__________________
فظهر
: إنّ صاحب الكفاية
مخالفٌ للمشهور ، وأنّ جوابه عن استدلالهم يرجع إلى أنّه يستلزم اجتماع المتقابلين
في الشيء الواحد ، وهو محال ، فالدور وإن اندفع بما ذكر ، لكن ملاك الاستحالة
موجود.
أدلّة المحقّق النائيني على عدم المقدميّة
وأورد الميرزا على
المشهور بوجهٍ آخر هو في الحقيقة أوّل أدلّته على عدم المقدميّة فقال كما في (أجود
التقريرات) ما حاصله : إنّ استدلالهم يستلزم انقلاب المحال إلى الممكن
، وهو محال ، فالمقدميّة محال ... وتوضيح كلامه :
إنّه لا ريب في
اختلاف المرتبة بين العلّة والمعلول ، وكذا بين أجزاء العلّة ، وأنّ استناد عدم
المعلول إلى كلّ جزءٍ منها مقدّم رتبةً على استناده إلى الجزء المتأخّر عنه ...
كما ذكرنا من قبل. فهذه مقدّمة.
ومقدّمة أُخرى هي
: إنّ المحال وجوداً محالٌ اقتضاءً أيضاً ، فلا فرق في الاستحالة بين الفعليّة
والاقتضاء ، لأنّه إنْ كان المقتضي للضدّين موجوداً حصل لهما إمكان الوجود ،
والمفروض أنّه محال.
وعلى هذا ، فإنّ
عدم الضدّ ـ كالسّواد ـ لو كان مقدّمةً لوجود الضدّ الآخر كالبياض ، فإنّ هذه
المقدميّة ليست إلاّ لمانعيّة وجود السّواد ، فكان عدمه شرطاً لوجود البياض ، وهو
شرط عدمي ، لكنّ هذه المانعيّة موقوفة على أن يكون هناك ما يقتضي وجود البياض ،
فيلزم اقتضاء وجود الضدّين في آنٍ واحد ، وهو محال بحكم المقدمة الثانية ، وإلاّ
يلزم انقلاب المحال إلى الممكن ....
فظهر أنّ القول
بالمقدميّة مستلزم للمحال ، وكلّ ما يستلزم المحال محالٌ.
__________________
مناقشة الدليل الأوّل
وقد ناقشه شيخنا
الأُستاذ دام بقاه نقضاً وحلاًّ :
أمّا نقضاً : فبأن
لازم ما ذكره انكار المانعيّة وإبطال الجزء الأخير من العلّة التامّة.
وتوضيحه
: إنّه لا تتحقّق
المانعيّة إلاّ مع التضادّ بين المانع والممنوع ، بأنْ يكون المانع نفسه أو أثره
ضدّاً للممنوع ، وأمّا حيث لا مضادّة بينهما أصلاً فالمنع محال ، فإنْ كان نفس
المانع ضدّاً فالمانعيّة متحقّقة لا محالة ، وقد تقدّم مراراً أنّ عدم المانع
مقدّمة لوجود الممنوع ، لكونه الجزء الأخير للعلّة التامّة ، وإنْ كانت المانعيّة
بسبب التضاد بين الممنوع وأثر المانع ، كان عدم المانع الذي هو المنشأ للأثر
مقدّمة لوجود الممنوع ... وسواء كان الضدّ للممنوع هو المانع نفسه أو أثره ، فلا
بدّ وأنْ يكون هناك مقتضٍ لوجوده وإلاّ لما وجد ولما تحقّقت المانعيّة ، وقد تقدّم
أنّ إسناد عدم الضدّ إلى وجود المانع منوط بتماميّة المقتضي ، فثبت تحقّق المقتضي
للضدّين ، وإلاّ يلزم إنكار كون عدم المانع من مقدّمات وجود الضدّ ، وهو خلاف الضرورة
العلميّة.
وأمّا حلاًّ ،
فإنّ كبرى استدلاله مسلّمة ، فاقتضاء المحال ـ وهو هنا اجتماع الضدّين في الوجود ـ
محال بلا ريب ، لأنّه لو كان المحال قابلاً للوجود خرج عن المحاليّة الذاتية ،
وهذا محال. إنّما الكلام في الصغرى وهي : أنّه لو كان عدم أحد الضدّين مقدّمة
لوجود الآخر ، لزم اقتضاء المحال ... لأنّ الاستحالة الذاتية إنّما هي في اجتماع
الضدّين في الوجود ، فوجود هذا مع وجود ذاك محال ، أمّا وجود كلٍّ منهما فليس
بمحال ، والوجود يحتاج إلى مقتضٍ ، ووجود المقتضيين للضدّين ليس بمحال ... وتوضيحه :
إنّ لكلّ معلولٍ
وأثر ومقتضى وجوداً فعليّاً ووجوداً بالقوّة ، فإنْ وجد المؤثّر والعلّة والمقتضي
حصل له الوجود الفعلي ، والتمانع بين الضدّين إنّما يكون في الوجود الفعلي لهما لا
بالوجود بالقوّة ، إذ التضادّ هو بين البياض والسّواد لا بين المقتضي للبياض
والمقتضي للسّواد ، وهذه الحقيقة جارية في جميع العلل والمعاليل الطبيعيّة ، أي :
إنّ الآثار والمعاليل كلّها موجودة بوجود العلل والمؤثرات الطبيعية ، مترشّحة عنها
، اللهم إلاّ المخلوق بالإرادة ، إذ يقول تعالى (إِذا أَرادَ شَيْئًا
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وتلخّص
: إنّه إذا تحقّق
المقتضيان كان الضدّان موجودين بالقوّة ، ولا تضادّ بين الضدّين الموجودين بالقوّة
... فثبت إمكان وجود المقتضي للضدّين ... وتطبيق الميرزا الكبرى على الصغرى غير
صحيح ، فالدليل الأوّل من أدلّته ساقط.
مناقشة الدليل الثاني
والدليل الثاني :
ما تقدّم سابقاً عن المحقّق الخراساني : من أنّ ملاك مقدميّة أحد الضدّين للضدّ
الآخر هو التمانع في الوجود ، وإذا كان الضدّان لا يجتمعان لما ذكر ، فالنقيضان
كذلك ، فيلزم أن لا يكون النقيض مقدّمة للنقيض الآخر ، لكنّ التالي باطل فالمقدّم
مثله.
وأجاب عنه
الأُستاذ : بأنّ المقدميّة لا تكون إلاّ مع التعدّد في الوجود ، ولذا قلنا بأنّ
أجزاء الماهيّة ليست مقدمةً لوجودها ، لأنّ الأجزاء عين الكلّ ، لكنّ المهم هو
أنّه لا تعدّد في الوجود في النقيضين ، إذ العدم نقيض الوجود لكنّه عدم نفس ذلك
الوجود ، وكذا العكس ، فلا يعقل أنْ يكون أحد النقيضين وهو الوجود مقدمةً لنقيضه
وهو عدم الوجود ، لأنّه يستلزم صيرورة الشيء مقدّمةً لنفسه ، إذ لا تعدّد
__________________
هناك لا مفهوماً
ولا واقعاً ، وهذا هو الملاك.
وأمّا توقف الوجود
على عدم العدم فكذلك ، لأنّه وإنْ كان الوجود مغايراً لعدم العدم مفهوماً ،
لكنّهما في الواقع شيء واحد ، لتحقّق عدم العدم بالوجود ... فالمقدميّة ممنوعة.
والحاصل
: إنّ قياس
النقيضين على الضدّين مع الفارق ، لوجود التعدّد في الضدّين ، فالمقدميّة متصوّرة
بينهما ، دون النقيضين ، لأنّهما إمّا واحد مفهوماً ومصداقاً وامّا واحد مصداقاً
وإنْ تعدّدا مفهوماً.
مناقشة الدليل الثالث
وأقام الميرزا
دليلاً ثالثاً على امتناع مقدميّة الضدّ للضدّ الآخر ، وهو يبتني على أُمور :
الأوّل
: إنّ الضدّين في
مرتبةٍ واحدة ، إذ لا عليّة ومعلوليّة بينهما ولا شرطية ومشروطيّة ، حتى يختلفا في
المرتبة.
والثاني
: إن نقيض الشيء في
مرتبة الشيء ، لأنّ نقيض الوجود هو عدم ذاك الوجود لا مطلق العدم.
والثالث
: إنّ النقيضين
والضدّين لمّا كانا في رتبةٍ واحدة ، كان العدم المتّحد رتبةً مع وجود الضدّ ،
متّحداً رتبةً مع وجود الضدّ الآخر ، فهذا العدم في رتبة ذلك الضدّ وعدم ذاك الضدّ
في رتبة هذا الضد.
ونتيجة
ذلك : استحالة مقدميّة
عدم الضدّ لوجود الآخر ، لتوقّف ذلك على الاختلاف في المرتبة ، وقد تبيّن عدمه.
قال الأُستاذ دام
ظله : وفي هذه الأُمور نظر :
أمّا الأمر الأوّل
، فدعوى بلا دليل.
تارةً نقول :
الضدّان في مرتبةٍ واحدة ، وأُخرى نقول : ليس بين الضدّين اختلاف في المرتبة. وكلّ
واحدٍ من القولين دعوى تحتاج إلى إثبات.
إنّ ملاك الاتحاد
في المرتبة هو كون الشيئين معلولين لعلّةٍ واحدةٍ ، والضدّان ليسا كذلك ، بل لكل
علّته. وملاك الاختلاف في المرتبة كون أحدهما علّةً أو شرطاً للآخر ، والضدّان ليس
بينهما نسبة العليّة أو الشرطيّة. فالقدر المسلّم هو عدم وجود الاختلاف في المرتبة
بين الضدّين ، لكنّ هذا لا يكفي لاتّحاد المرتبة بينهما ، لأنّ الاتّحاد يحتاج إلى
ملاك.
فدعوى أنّ الضدّين
في مرتبةٍ واحدة أوّل الكلام.
وأمّا الأمر
الثاني ، فكذلك ، لأنّ التناقض هو بين الوجود والعدم ، فالعدم يرتفع بالوجود ويكون
الوجود مرفوعاً به ، والوجود يرتفع بالعدم ، فيكون العدم رافعاً ، فالنقيض هو
الرافع أو المرفوع به ... وعليه ، فإنّ النقيض للوجود رفع الوجود لا الرفع الواقع
في مرتبة الوجود ، ولو كان كذلك لاعتبر وحدة المرتبة من شرائط التناقض وليس كذلك ،
على أنّ المرتبة من خواص الوجود ومن آثار العليّة والمعلوليّة ، والعدم ليس ذا
مرتبة أصلاً.
والحاصل
: إنّ دعوى وحدة
المرتبة بين النقيضين غير صحيحة.
وأمّا الأمر
الثالث ، فكذلك ... لأنّا لو سلّمنا كون الضدّين في مرتبة واحدة ، وكذا النقيضان ،
لكنّ كون نقيض هذا الضدّ متّحداً في المرتبة مع وجود الضدّ الآخر يحتاج إلى دليلٍ
... إذ لا يكفي أن يقال : لمّا كان الضدّان في مرتبةٍ ، وعدم كلّ ضدٍّ في مرتبته ،
فعدم هذا الضدّ في مرتبة وجود ذاك ... لأنّ المفروض وجود الملاك لكون الضدّين في
مرتبةٍ واحدة وكذا النقيضان ، أمّا ضرورة كون نقيض أحدهما في رتبة وجود الآخر
فبأيّ ملاك؟
وتلخّص
: إنّ الأُمور التي
ذكرها مقدّمةً لدليله كلّها دعاوى بلا برهان.
رأي المحقّق الاصفهاني
واختلفت كلمات
المحقّق الأصفهاني في هذا المقام ، ففي أوّل البحث
اختار المقدميّة ، وفي آخره قال : والتحقيق يقتضي طوراً آخر من الكلام ، وانتهى
إلى القول بالعدم ... والبرهان الذي ذكره لنفي المقدميّة هو :
إنّ في الماديّات
أربع علل وشرطين ، بخلاف في المجرّدات فليس إلاّ العلّة الفاعليّة والعلّة
الغائيّة ـ :
العلّة الفاعليّة
، وهي التي يكون منها الوجود.
والعلّة الغائيّة
، وهي التي من أجلها تحقّق الوجود.
والعلّة الماديّة
، وهي الجنس.
والعلّة الصّوريّة
، وهي الفصل.
والشرطان هما : ما
يتمّم فاعليّة الفاعل ، وما يتمّم قابليّة القابل ، وذلك : لأنّ الوجود في الأُمور
الماديّة بحاجة إلى الفاعل والقابل ، فلو وجد الفاعل وكان ناقصاً لم يؤثّر أثره ،
ولو وجد القابل وابتلي بمانع فالأثر لا يتحقّق ، وبتوفّر الشرط في الطرفين يتحقّق
الأثر.
وحينئذ ، ننظر في
الأمر ونقول :
إنّ العلّة
الماديّة هي الجنس ، والعلّة الصوريّة هي الفصل ، وعدم الضدّ الآخر لا هو جنس
للضدّ الآخر ولا هو فصل له.
والعلّة الغائية
أيضاً غير متصوّرة للعدم ، لأنّ العلّة الغائيّة هي المنشأ للفاعليّة ، ولا يعقل
أن يكون عدم الضدّ فاعلاً للضدّ الآخر ، لأنّ الفاعل والعلّة
__________________
الفاعليّة للضدّ
الآخر هو مقتضي وجود ذاك الضدّ ، فلا يكون عدم أحد الضدّين فاعلاً للضدّ الآخر.
على أنّ الفاعليّة
ـ أو تتميم الفاعليّة ـ منوطة بأنْ يكون هناك أثر ومنشأ للأثر ، والعدم لا يمكن أن
يكون مؤثّراً.
وتلخّص
: أنّه لا توجد
أيّة نسبة عليّةٍ ومعلوليّة بين الضدّ كالبياض وعدم الضدّ كعدم السّواد.
فانحصر أنْ تكون
النّسبة بينهما نسبة الاشتراط ، فعدم السّواد شرط لوجود البياض ... وقد ظهر أنّ
الشرط إمّا هو متمّم لفاعليّة الفاعل أو متمّم لقابليّة القابل ... أي : إمّا يجعل
الفاعل المقتضي مؤثّراً ، أو يجعل القابل قابلاً للأثر ، لكنّ عدم الضدّ لا يمكن
أن يكون متمّماً لفاعليّة الضدّ الآخر ، لما تقدّم من أنّ الضدّ الآخر ليس فاعلاً
للضدّ ، على أنّ العدم لا يكون مؤثراً كما تقدّم أيضاً.
بقي صورة أن يكون
عدم الضدّ متمّماً لقابليّة المحلّ لوجود الضدّ الآخر ، وهذا أيضاً محال ، لأنّه
إن أُريد من قابليّة المحلّ أن يكون قابلاً لوجود كلا الضدّين معاً ، فهذا محال ،
وإنْ أُريد أن يكون قابلاً لأحدهما ، فإنّ هذه القابليّة موجودة بالذات ومن غير
حاجةٍ إلى المتمّم.
إشكال الأُستاذ
وقد أورد عليه
الأُستاذ في ما ذكر في الشقّ الأخير ، من أن عدم أحد الضدّين متمّم لقابليّة
المحلّ للآخر وكونه قابلاً لأحدهما قابليّةً ذاتيةً : بأنّه إن كان المراد من «أحدهما»
هو الأحد المردّد ، فهذا غير معقول ، لأنّ المردّد لا ذات له ولا وجود ، فالمراد
هو «الأحد» الواقعي. أي : إنّ الجدار قابلٌ للبياض وقابل للسّواد ، لكنّ الإهمال في
الواقعيّات محال ، إذن ، يكون قابلاً للبياض ـ مثلاً ـ إمّا بشرط وجود
السّواد ، وهذا
محالٌ لاستلزامه اجتماع الضدّين ، وامّا لا بشرط وجود السّواد ، وهذا أيضاً محالٌ
، لأنّه يجتمع مع وجود السّواد فيلزم اجتماع الضدّين ، ويبقى صورة بشرط لا عن وجود
السواد ، فكان عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ ومقدمةً له.
وقد
أجاب طاب ثراه في
التعليقة : بأنّه لا يمكن أن تكون قابليّة المحلّ للبياض المشروط بعدم السّواد ،
لأنّ عدمه حين يكون شرطاً يكون مفروض الوجود ـ لأن كلّ شرط فهو مفروض الوجود
للمشروط ـ فيكون المحلّ قابلاً للبياض المقيّد بعدم السواد ، والحال أنّه قابل
بالذات للبياض لا البياض المقيّد بعدم السّواد.
فقال
الأُستاذ : وهذا لا يحلّ
المشكلة ، لأنّ عدم السّواد دخيلٌ في وجود البياض على كلّ حالٍ ، لأنّ البياض إمّا
يكون مع وجود السّواد أو مع عدمه ، فإن كان المحلّ قابلاً لكليهما فهذا محال ،
لأنّ القابليّة للمحال محال ، وإن كان قابلاً للحصّة الكائنة مع عدم السّواد من
البياض ، لزم دخل عدم السّواد في تحصّص البياض وقابليّة المحلّ لتلك الحصّة ،
ودخله في ذلك ـ سواء قال بتقيّد البياض بعدم السّواد أو بأنّه مع عدم السواد ـ هي
المشكلة ....
فالبرهان المذكور
لا يدلّ على عدم مقدميّة أو دخل عدم الضدّ في وجود الضدّ الآخر.
البرهان الأخير
والبرهان الأخير
على عدم مقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر هو : ما أشار إليه صاحب
الكفاية في قوله : «والمانع الذي يكون موقوفاً على
__________________
عدم الوجود هو ما
كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده».
وقد قرّبه المحقّق
النائيني وهو أقوى البراهين في الردّ على المشهور. وهذا كلام
الميرزا بإيضاح أكثر :
إنّ الضدّين قد لا
يكون لهما مقتضٍ وقد يكون لكليهما وقد يكون لأحدهما دون الآخر ، فالصّلاة والإزالة
، قد تتعلّق الإرادة بكليهما ـ من شخصين ـ وقد لا تتعلّق بشيء منهما ، وقد تتعلّق
بأحدهما فقط ، والسواد والبياض كذلك ، فقد يكون لوجودهما في المحل مقتضٍ وقد لا
يكون وقد يكون لأحدهما.
هذه هي الصور المتصوّرة.
فإن لم يكن لشيء
منهما مقتضٍ فلا مانعيّة ، لما تقدّم من أنّ المانعيّة تأتي في مرتبةٍ متأخّرة عن
المقتضي ، وعدم المعلول يستند حينئذٍ إلى عدم المقتضي لا وجود المانع.
وإن كان لأحدهما
مقتضٍ دون الآخر ، فكذلك ، إذ مع عدم وجود المقتضي يستحيل استناد عدم الضدّ إلى
وجود المانع.
وإنْ كان كلٌّ
منهما ذا مقتضٍ ، قال الميرزا : هذا محال ، لما تقدّم من استحالة وجود المقتضي
للضدّين ، لأنّه يستلزم إمكان المحال ، والمحال بالذات يستحيل انقلابه إلى
الإمكان.
وإذا ظهر استلزام
كلّ صورةٍ للمحال ، فمقدّميّة عدم الضدّ للضدّ الآخر محال.
قال
الأُستاذ : لكنْ قد تقدّم
تحقيق أنّ وجود المقتضي للضدّين ليس
__________________
بمحال ، إذ
المقتضي للضدّين غير المقتضي للجمع بينهما ، فالصّورة الثالثة باقية ... والطريق
الصحيح هو أن نقول :
إنّه في هذه
الصّورة ، لا يخلو الحال من أن يكون المقتضيان متساويين أو يكون أحدهما أقوى من
الآخر.
فإن كانا متساويين
، استند عدم الضدّ إلى عدم تماميّة المقتضي في الأثر ، لا إلى وجود المانع ، لأنّ
المؤثر ليس مجرّد وجود المقتضي ، بل هو المقتضي الفعلي في المؤثريّة ، لما تقدّم
من تقسيم المقتضي إلى الشأني والفعلي ، وأنّ الأثر يكون للمقتضي التام في
المؤثريّة ، فكان عدم الضدّ ـ في صورة تساوي المقتضيين ـ مستنداً إلى عدم الشرط
للمقتضي وهو الفعليّة ، لا إلى وجود المانع ... وعليه ، فيستحيل أن يكون وجود
الضدّ مانعاً عن الضدّ الآخر ، بل عدم الضدّ الآخر مستند إلى عدم توفّر شرط
المقتضي للتأثير ، لأنّ المفروض تساويه مع المقتضي الآخر وكونهما متزاحمين في
الوجود ... فيكون المانع عن وجود الضدّ هو المقتضي للضدّ الآخر ، لا نفس الضدّ
الآخر.
وإن كان أحد
المقتضيين أقوى من الآخر ، فإنّ عدم الضدّ يكون مستنداً إلى ضعف المقتضي لوجوده ،
لا إلى وجود الضدّ المقابل.
وهذا شرح قول
المحقّق الخراساني من أنّه ليس كلّ معاندة منشأً للمانعيّة.
قال
الأُستاذ : وهذا البرهان تام
بلا كلام.
وأقول
:
في هذا البرهان في
صورة تساوي المقتضيين نظر ، فإنّه في هذه الصّورة ما البرهان على استناد العدم إلى
شأنيّة المقتضي لا إلى وجود الضدّ الآخر؟
وتلخص
: بطلان مبنى
المشهور ، لما ذكره صاحب الكفاية في الكلام على
الدور ، من أنّه
وإن اندفع لزومه بما ذكره المحقّق الخونساري ، لكنّ ملاك الاستحالة موجود.
وبه يبطل التفصيل
، وهو أنّ عدم ذلك الضدّ متوقّف على وجود الضدّ الآخر ، إذ قد ظهر أنّ عدم الضدّ
مستند إلى عدم المقتضي لوجوده لا إلى المانع وهو وجود الضدّ الآخر.
وكذا التفصيل :
بأنّ وجود هذا الضدّ متوقّف على عدم الضدّ الآخر وعدم ذاك موقوف على وجود هذا.
وبقي :
تفصيل المحقّق الخونساري
وتعرّض صاحب
الكفاية لرأي المحقّق الخونساري والجواب عنه ، وهو القول بالتفصيل بين الضدّ
الموجود والضدّ المعدوم ، وأن عدم الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ غير الموجود ،
بخلاف العكس ، فإنّ عدم الضدّ غير الموجود ليس بمقدمةٍ للضدّ الموجود.
وتوضيحه
: إنّ المحلّ حين
يكون خالياً عن الضدّين قابلٌ لكلٍّ منهما ، وهذه القابليّة ذاتية لا تحتاج إلى
شيء ، ولكنْ عند ما يوجد فيه أحد الضدّين تنتفي قابليّته للضدّ الآخر ، فلو أُريد
للضدّ الآخر غير الموجود أنْ يتواجد في هذا المحلّ ، فإنّ رفع الضدّ الموجود فيه
يكون مقدمةً لذلك ... فكان عدم الضدّ الموجود مقدّمةً لوجود الضدّ غير الموجود.
الجواب على مبنى
الميرزا
وجواب هذا التفصيل
على مبنى المحقّق النائيني واضح ، لأنّه ـ بناءً على أنّ مناط الحاجة إلى العلّة
في الممكنات هو الحدوث لا الإمكان ـ يلزم اجتماع
المقتضيين للضدّين
، وهو عند الميرزا محال ، لأنّه مع وجود أحدهما في المحلّ وانتفاء قابليّته للآخر
يكون للموجود مقتضٍ ، فإذا كان هذا الموجود مانعاً عن وجود الضدّ الآخر ـ كما يقول
المحقّق الخونساري ـ فإنّ مانعيّته عنه هي بعد تماميّة المقتضي لوجود ذلك الضدّ ،
فيكون الضدّ الآخر أيضاً ذا مقتضٍ ، فيلزم اجتماع المقتضيين للضدّين.
لكنّ المبنى
المذكور غير مقبول ، فلا بدّ من جوابٍ آخر عن هذا التفصيل.
قال
الأُستاذ :
والتحقيق هو النظر
في مناط حاجة الشيء الممكن إلى العلّة ، وأنّ الحق في ذلك هو الإمكان لا الحدوث ،
وحينئذٍ يبطل التفصيل ، وتوضيح
ذلك :
إنّه قد ذهب جماعة
إلى أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هو الحدوث ، فإذا تحقق له الحدوث استغنى عن
العلّة لبقائه. وذهب آخرون إلى أنّ المناط هو الإمكان ، فإذا وجد فالمناط أيضاً ـ وهو
الامكان ـ موجود ، فهو بحاجةٍ إلى العلّة بقاءً كاحتياجه إليها حدوثاً.
أمّا على الأوّل
فيتمّ التفصيل ، لأنّ الضدّ الذي وجد في المحلّ يزول مقتضيه بمجرّد وجوده وحدوثه ،
والضدّ الآخر غير الموجود قد فرض له مقتضي الوجود ، فيكون عدم وجوده مستنداً إلى
وجود الضدّ الموجود في المحلّ ، ويكون عدم الموجود مقدمةً لوجود الضدّ غير
الموجود.
وأمّا على مبنى
التحقيق فلا يتم ، لأنّ المقتضي بعد حدوث الشيء موجود ، وهو مؤثّر في وجوده في كلّ
آن ، فمقتضى الضدّ الموجود في المحلّ غير منعدم أصلاً ، وحينئذٍ ، تقع الممانعة
بين مقتضي هذا الضدّ ومقتضى الضدّ غير الموجود ، فليس نفس وجود الضدّ هو المانع
ليكون عدمه مقدّمةً.
وبهذا
ظهر : إنّه على القول
باستحالة تحقّق المقتضي للضدّين يسقط التفصيل ، سواء كان مناط الحاجة هو الإمكان
أو الحدوث ، أمّا على القول بعدم الاستحالة فينحصر الجواب عن التفصيل بكون المناط
هو الإمكان.
هذا ، ولا يتوهّم
أنّ المانعيّة إنّما هي للضدّ الموجود ، لأنّه هو السبب في ارتفاع قابليّة المحلّ
للضدّ الآخر ، ولولاه لشغل ذاك هذا المحلّ ... لأنّ ذلك ـ وإنْ كان كذلك بنظر
العرف ـ خلاف الواقع بحكم العقل وهو الحاكم في مثل هذه الأُمور دون العرف ، لأنّ
قابليّة المحلّ مقدّمة رتبةً على وجود الضدّ غير الموجود ، ولمّا كان الضدّ
الموجود هو الرافع للقابليّة هذه ، كان الضدّ الموجود مقدّماً برتبتين على الضدّ
غير الموجود ، فلا تمانع بينهما.
وأيضاً
: فإنّ الضدّ غير
الموجود فعلاً له شأنيّة الوجود ، فهو قابلٌ لأنْ يكون علّةً لزوال الضدّ الموجود
، فيكون كلّ واحدٍ منهما قابلاً للعليّة وقابلاً للمعلوليّة ، فيكون أحدهما
متقدّماً بالقوّة والآخر متأخّراً بالقوّة ، وأحياناً متقدّماً بالفعل ومتأخّراً
بالفعل. فلا يتحقّق التضاد بينهما أبداً.
وقال السيّد
الأُستاذ ـ بعد قوله : الذي يقتضيه الإنصاف هو تسليم القول بالتفصيل ـ ما ملخّصه :
هذا التفصيل لا ينفع فيما نحن فيه من متعلّقات الأحكام الشرعيّة ، لكونه من
الأفعال التدريجيّة الحصول بلا أنْ يكون لها وجود قار ، فهي دائماً تكون من الضدّ
المعدوم ، ولا مقدميّة في الضدّ المعدوم. فلا يكون للتفصيل ثمرة عمليّة .
__________________
٢
ـ عن طريق الملازمة
وبعد الفراغ عن
بحث مقدميّة عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، تصل النوبة إلى البحث عن الطريق الآخر
لدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاص ، وهو طريق الملازمة ، وتوضيحه :
إنّ وجود كلّ ضدٍّ
من الضدّين ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فوجود الحركة ملازم لعدم السكون ، ووجود
البياض ملازم لعدم السّواد ، وهذه هي الصغرى وتنطبق عليها كبرى أنّ المتلازمين
يستحيل اختلافهما في الحكم ، فإذا كانت الحركة واجبةً كان عدم السكون واجباً.
أمّا أنّ وجود
الضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلأنّه لو جاز وجود الضدّ الآخر لزم اجتماع الضدّين
، وهو محال. وأيضاً : لو جاز ـ مع وجود أحدهما ـ عدم انعدام الآخر ، لزم اجتماع
النقيضين ، وهو محال.
وأمّا أنّهما
متوافقان في الحكم ، فلأنّ المفروض أنْ يكون لكل من المتلازمين حكم ، فلو كان
أحدهما واجباً وخالفه الآخر في الحكم ، فإمّا أنْ يكون حكمه هو الحرمة فيلزم طلب
المتناقضين ، والتكليف المحال ـ فضلاً عن التكليف بالمحال ـ ، وامّا أن يكون حكمه
الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة ، وهذا محال كذلك ، لأنّه لمّا كان حكم أحدهما
الوجوب فالشارع غير مرخّص في تركه ، والعقل حاكم بلابدّيته ، لكنّ الآخر الذي فرض
حكمه أحد الأحكام الثلاثة المذكورة ، فهو مرخّص شرعاً في تركه والعقل حاكم بجواز
الترك ، فيلزم التناقض في حكم العقل ، بأنْ يحكم بلابدّية الحركة ويجوّز السكون في
نفس الوقت ، وهذا محال ... إذن ... لا بدّ وأن يكون المتلازمان متوافقين في الحكم.
قال
الأُستاذ :
لكنّ الإشكال في
الكبرى. أمّا نقضاً : فلا شكّ أن الأمر لمّا يتعلّق بالطبيعة كالصّلاة مثلاً ،
فإنّ الطبيعي لا يتحقّق خارجاً إلاّ ملازماً لخصوصيّاتٍ من الزمان والمكان وغيرهما
، لكن متعلّق الحكم ـ بضرورة الفقه ـ هو الطبيعي ، وليس لتلك الخصوصيّات حكم أصلاً
، إذ الواجب على المكلّف هو صلاة الظهر مثلاً ، لا خصوصيّة هذا الفرد منها الذي
أتى به في الدار في أوّل الوقت مثلاً.
وأمّا حلاًّ ،
فصحيحٌ أنّه ما من واقعةٍ إلاّ وفيها حكم شرعي ، لكن هذه الكبرى ليست بلا ملاك ،
وملاكها لا يخلو : إمّا هو تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد غير المزاحمة
، على مسلك العدليّة ، من جهة أنّه إذا رأى العقل المصلحة التامّة يستكشف الحكم
الشرعي في الواقعة بقانون الملازمة. وامّا هو ضرورة جعل الشارع الدّاعي لتحقّق
غرضه ، والداعي هو الحكم. وامّا هو لزوم خروج المكلّف من الحيرة في كلّ واقعة.
لكنْ لا شيء من
هذه الأُمور في المتلازمين.
أمّا
الأوّل : فلأنّه لا دليل
على أنّه لو كان للملازم ملاك فلا بدّ وأن يكون لملازمه ملاك كذلك ، فلو كان
القعود واجباً ، فما هو المصلحة لجعل الوجوب لترك القيام؟
وأمّا
الثاني : فلأنّ جعل الحكم
للملازم كافٍ للداعويّة إلى تحقّق غرض المولى ، ولا حاجة لجعل الملازم الآخر من
هذه الجهة.
وأمّا
الثالث : فلأنّه لا حيرة
للمكلّف في مورد المتلازمين في فرض جعل الحكم لأحدهما ، فإنّه مع جعل الوجوب
للقعود ، لا يبقى المكلّف متحيّراً في حكم القيام حتّى يُحتاج إلى جعل حكم الوجوب
لتركه.
وتلخّص
: أنّه لا ملاك ـ بعد جعل الحكم لأحد المتلازمين ـ لجعله
للملازم الآخر ... فالكبرى غير منطبقة هنا ... فالاستدلال ساقط.
وبذلك يظهر سقوط
الطريق الثاني لإثبات أنّ الأمر بالشيء نهي عن الضدّ الخاص.
تتمّة
مسألة
الضد من مسائل أيّ علم من العلوم؟
وقد وقع الكلام في
أنّ مسألة الضدّ كلاميّة؟ أو فقهيّة؟ أو أُصوليّة؟ أو هي من المبادئ الأحكاميّة؟
وجوه.
رأي
الأُستاذ
ومختار الأُستاذ :
هو أنّها من المسائل الأُصوليّة ، وليست من مسائل الفقه أو الكلام ، كما أنّها
ليست من مبادئ الأحكام.
أمّا عدم كونها من
المسائل الكلاميّة ، فلأنّ علم الكلام هو ما يبحث فيه عن أحوال المبدا والمعاد
بالأدلّة العقليّة والنقليّة ، والبحث عن اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاص لا
يختص بالأوامر الإلهيّة ـ لتكون المسألة كلاميّة من جهة كونها بحثاً عن عوارض
التكليف وهو فعل الله ـ بل هو أعمّ من أوامر الله وأوامر سائر الناس.
وأمّا عدم كونها
من المسائل الفقهيّة ، فلأن البحث في هذه المسألة ليس عن حرمة الضدّ الخاص وعدم
حرمته ، بل هو بحث عن أصل استلزام الأمر للنهي عن الضدّ الخاص ، وهو ليس بمسألةٍ
فقهيّة.
وأمّا عدم كونها
من المبادئ الأحكاميّة ، فلأنّ مختار القائل بذلك ـ وهو
السيد البروجردي ـ في موضوع علم الأُصول أنّه الحجّة في الفقه ، وعليه ، يكون البحث فيه عن عوارض هذا الموضوع يعدّ من المسائل الأُصوليّة ،
والبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاص ليس بحثاً عن عوارض الحجة في
الفقه ، فليس من المسائل الأُصوليّة فيكون من المبادي.
وفيه
: ـ بعد غضّ النظر
عن المبنى في موضوع علم الأُصول ، وعن القول بأنّ لكلّ علم مبادئ أحكاميّة علاوةً
على المبادئ التصوريّة والتصديقيّة ـ إن كون المسألة من مسائل علم الأُصول يدور
مدار انطباق تعريفه عليها ، فإنْ وقعت نتيجة البحث في طريق استنباط الحكم الشرعي ،
فالمسألة أُصوليّة وإلاّ فلا ، وهنا عند ما نبحث عن الاستلزام وعدمه ، فإنّ نتيجته
حرمة الضدّ بناءً على الاستلزام وعدم حرمته بناءً على عدمه ... وإذا ترتّبت هذه
الثمرة الفقهيّة فالمسألة أُصوليّة ، لأنّها نتيجة فقهيّة ترتّبت على البحث
مباشرةً.
وأيضاً ، فللبحث
ثمرة أُخرى لكن مع الواسطة ، وهي فساد العمل إن كان عباديّاً بناءً على الحرمة.
ولا يخفى أنّ
الحرمة المترتّبة إنّما هي حرمة تبعيّة ، لعدم كون المفسدة في متعلّقها وهو
الصّلاة مثلاً ، بل لأنّ الصّلاة ـ إذا اقتضى وجوب الإزالة النهي عنها ـ تكون
حينئذ مفوّتة لمصلحة الإزالة ، فكانت حرمة الصّلاة تبعيّة ، وإلاّ فلا ريب في وجود
المصلحة فيها نفسها.
__________________
المقام الثاني :
في
اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العام
والمراد من «الضدّ
العام» هو «الترك» أي عدم المأمور به ، وهل يتعلّق التكليف بالعدم حتى يبحث عن
دلالة الأمر بالشيء على النهي عن عدمه وتركه؟
إنّ هذا العدم ليس
بالعدم المطلق ، بل هو عدم مضافٌ إلى الوجود ، وقد جرى على الألسنة أنّ للعدم
المضاف إلى الوجود حظّاً من الوجود ، وعليه ، فهو قابل لأنْ يتعلّق التكليف به ...
لكنّ الأُستاذ دام بقاه لا يوافق على ذلك ، ومختاره أنّ العدم لا يقبل الاتّصاف
بالوجود عقلاً مطلقاً ... إلاّ أنّه يرى جريان البحث بالنظر العرفي ، والخطابات
الشرعيّة ملقاة إلى العرف ، لأنّ أهل العرف يرون للعدم القابليّة لتعلّق التكليف ،
ومن هنا كانت تروك الإحرام ـ وهي أُمور عدميّة ـ موضوعات للأحكام الشرعيّة ، وكذا
غيرها من الأُمور العدميّة ، ولا وجه لرفع اليد عن أصالة الظهور فيها وتأويلها إلى
أُمور وجوديّة.
هذا ، وفي المسألة
قولان ، ثم اختلف القائلون بالاقتضاء ، بين قائل بأن الأمر بالشيء عين النهي عن
نقيضه ، وهو المستفاد من كلام صاحب (الفصول) وقائل بأنه يقتضيه ويدلّ عليه
بالدلالة التضمّنيّة ، وهو المستفاد من كلام صاحب (المعالم) وقائل بدلالته عليه
بالدلالة الالتزاميّة العقليّة ، وعليه صاحب (الكفاية).
أدلّة الأقوال :
ويتلخّص مستند
صاحب (المعالم) في : أن الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع من الترك ، وإذا
كان مركّباً من الجزءين فدلالة الأمر على المنع من الترك دلالة لفظيّة تضمّنيّة.
__________________
فردّ عليه صاحب
الكفاية : بأنّ الوجوب ليس إلاّ مرتبةً واحدةً من الطلب ، فالطلب
بسيط وليس بمركّب ، غير أنّها مرتبة أكيدة في قبال الاستحباب ، لأنّ الوجوب إمّا
هو أمر اعتباري وامّا هو الإرادة ، فإنْ كان هو الإرادة ، فإنّها وإنْ كانت
تشكيكيّة لكنّها بسيطة لا تركيب فيها ، وإن كان أمراً اعتباريّاً ، فالأُمور الاعتباريّة
كلّها بسائط. وكيفما كان ، فإنّ المبنى باطل ، فما بنى عليه باطل كذلك.
ثم قال : وإذا كان
حقيقة الوجوب هي المرتبة الشديدة من الطلب ، فإنّ الآمر إذا التفت إلى نقيض
متعلَّق طلبه ، فلا ريب في كونه مبغوضاً له ومورداً للنهي منه ... فكان النهي عن
النقيض ـ وهو الترك ـ من لوازم المرتبة الأكيدة. وقد أشار بكلمة «الالتفات» إلى
أنّ هذا اللزوم عقلي ، وليس لزوماً بيّناً بالمعنى الأخص.
وهذا دليل صاحب (الكفاية)
على دلالة الأمر بالشيء على مطلوبيّة ترك تركه بالملازمة العقليّة.
ثمّ تعرّض لرأي
صاحب (الفصول) وأفاد بأنّه إذا ثبتت الملازمة ثبت الاثنينيّة ، فالقول بكون الأمر
بالشيء عين النهي عن تركه باطل.
اعتراض المحقّق الاصفهاني
وللمحقّق
الأصفهاني تعليقة مطوّلة في هذا الموضع ، وحاصل كلامه هو : إنّ بحثنا في الإرادة التشريعيّة ، ووزانها وزان الإرادة التكوينيّة ،
فإن كان المراد من قوله : الشوق في مورد الوجوب أشدّ منه في مورد الاستحباب ، أنّه
يعتبر في الوجوب وصول المصلحة إلى حدّ اللّزوم ، فهذا صحيح ، سواء في المراد
التكويني أو التشريعي. وإنْ كان المراد : إنّ الإرادة المؤثرة في تحقّق المراد هي
في
__________________
مورد الواجبات
أشدُّ وأقوى منها في مورد المستحبات ، فهذا باطل ، لأنّ ما به التفاوت بين الواجب
والمستحب هو الغرض وليس الإرادة ... ولا اختلاف في مرتبة الإرادة.
وعلى الجملة ،
فإنّه ليس الوجوب المرتبة الشديدة من الإرادة والمستحب المرتبة الضعيفة منها ، بل
إنّ إرادة المريد إن تعلّقت بأمرٍ جائز الترك عنده فهو المستحب ، وإنْ تعلّقت
بأمرٍ غير جائز الترك عنده فهو الواجب ... ومن الواضح أنّ جواز ترك الشيء وعدم
جوازه يتبع الغرض منه ... وإلاّ ، فالإرادة كيفيّة نفسانيّة ، والكيفيّات النفسانيّة
ليس لها مراتب.
مناقشة الأُستاذ
وأورد عليه
الأُستاذ : بأنّ الوجوب إن كان من الأُمور الاعتباريّة ، فالمراد أنّ المعتبر في
الوجوب هو المرتبة الأكيدة من الطلب ، كما أنّ المعتبر في الاستحباب هو المرتبة
الضعيفة منه ، فالشدّة والضعف يرجعان إلى المعتبر لا الاعتبار حتّى يقال بأنّه لا
حركة في الاعتباريات. وإن كان هو الإرادة والكيف النفساني ، فالشدّة والضعف في
الإرادة واختلاف المرتبة فيها أمر واضح ... فاعتراضه على صاحب (الكفاية) غير وجيه.
وأمّا دعواه :
بأنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ناشئ من اختلاف الغرض منهما لا من اختلاف
المرتبة في الإرادة ، فمندفعة : بأنّه يستحيل تخلّف الإرادة عن الغرض ، سواء في
أصله وفي مرتبته ، إذ النسبة بينهما نسبة المعلول إلى العلّة ، وعلى هذا ، فإذا
كان الغرض في الواجب آكد كانت الإرادة فيه كذلك لا محالة ، فقوله : بأنّ الاختلاف
بين الاستحباب والوجوب هو بالغرض لا باختلاف المرتبة في الإرادة ، مردود. اللهمّ
إلاّ بأن يقال بعدم تبعيّة الإرادات
للأغراض ، أو يقال
بتبعيّتها لها في الأصل دون المرتبة ، وكلاهما باطل.
التحقيق
في حقيقة الوجوب
ثمّ قال الأُستاذ
: لكنّ التحقيق في حقيقة الوجوب والاستحباب هو عدم كونهما مرتبة من الإرادة ، بل
هما عنوانان اعتباريان انتزاعيّان ، فصحيح أنّه يوجد في الوجوب شوق أكيد ، إلاّ
أنّه ليس الوجوب ، وإنّما ينتزع عرفاً منه الوجوب ، وفي الاستحباب يوجد الشوق
الضّعيف ، لكنّه المنشأ لانتزاع العرف الاستحباب ، وكذا الحال في الحرمة والكراهة
، ففي الحرمة مثلاً توجد المبغوضيّة الشديدة وليست هي الحرمة ، بل إنّها منتزعة
منها عرفاً.
فما ذهبوا إليه من
أنّ الوجوب هو المرتبة الأكيدة من الإرادة ، غير صحيح ، ويؤكّد ذلك أنّه لو كان
كذلك لجاز حمل الوجوب على الإرادة ، وهو غير جائز كما هو واضح.
النظر في اشكال الكفاية على الفصول
ثمّ إنّ إيراد
المحقّق الخراساني على نظريّة العينيّة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه العام ،
بأنّ بينهما ملازمة والملازمة تقتضي المغايرة ، فيه :
أوّلاً
: إنّه منقوض
باعترافه بالعينيّة في بحوثه المتقدّمة ، وذلك حيث قال ما نصّه :
«نعم ، لا بدّ أن
لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون محكوماً بحكمه
، وهذا بخلاف الفعل الثاني ، فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا ملازم
لمعانده ومنافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد
معه عيناً وخارجاً ، فإذا كان الترك واجباً فلا محالة
يكون الفعل
منهيّاً عنه قطعاً» .
فهو هناك يعترف
بأنّ الوجوب عين ترك الترك مصداقاً وإنْ اختلفا مفهوماً ، فكيف ينفي ذلك هنا؟
والعصمة لأهلها.
وثانياً
: إنّ بحثنا هو في
المغايرة المصداقيّة لا المفهوميّة ، وإثبات الملازمة لا ينتج المغايرة
والاثنينيّة الواقعيّة ، فيصحّ القول بأنّ الأمر بالشيء يلازم النهي عن الضدّ وهما
وجوداً واحد ... وهذا الإشكال من المحقّق الاصفهاني.
مختار الميرزا في المقام
وتعرّض الميرزا
للآراء في المقام ، ففصّل في القول بالعينيّة ، وردّ على القول بالدلالة
التضمّنيّة ، ولم يستبعد القول بالدلالة بالالتزام بنحو اللزوم البيّن بالمعنى
الأخص ، ثمّ نصّ على أنّها باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال فيه ولا
كلام.
أمّا التفصيل في
العينيّة فقد قال : ربّما يدّعى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه ، بتقريب : إنّ
عدم العدم وإنْ كان مغايراً للوجود مفهوماً إلاّ أنّه عينه خارجاً ، لأن نقيض
العدم هو الوجود ، وعدم العدم عنوان ومرآة له ، لا أنّه أمر يلازمه ، فطلب ترك
الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط.
قال : وفيه إنّ
محلّ الكلام هو أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فهل هو بعينه نهي عن الترك أو لا ، لا
أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهى عن الترك فهل هما متّحدان أو لا؟ والدليل إنّما
يثبت الاتّحاد في الفرض الثاني لا الأوّل ، بداهة أنّ الآمر بالشيء ربّما يغفل عن
ترك تركه فضلاً عن أن يأمر به ، فلا يبقى لدعوى الاتّحاد فيما هو محلّ الكلام مجال
أصلاً.
__________________
وأمّا القول
بالدّلالة التضمّنيّة ، فقد ردّ عليه ببساطة الوجوب وعدم تركّبه.
وأمّا القول
بالدلالة الالتزاميّة ، فذكر أنّها بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، بأنْ يكون
نفس تصوّر الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك ، ليست ببعيدة ، وعلى تقدير
التنزّل عنها فالدلالة الالتزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال
فيه ولا كلام .
النظر
فيه
وقد أشكل عليه :
بأنّ عدم استبعاد الدلالة بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، والقول بأنّ الآمر
قد يغفل عن ترك ترك أمره فضلاً عن أن يأمر به ، تناقض ، لأنّه لو كانت الدلالة
كذلك لم يتصوّر غفلة الآمر.
قال
الأُستاذ :
وعمدة الإشكال هو
التفصيل في العينيّة ، بأنْ وافق عليها إن وجد أمر بالفعل ونهى عن الترك وإلاّ
فالملازمة ، وذلك : لأنّه إن كان ترك الترك عين الفعل وطلبه عين طلبه فهو كذلك
دائماً ، وإن كان ملازماً له فهو دائماً كذلك ، إذ حقيقة المعنى الواحد ـ وهو ترك
الترك ـ لا تختلف ، ولا يعقل أن يكون المعنى الواحد عين المعنى الآخر في تقديرٍ
وملازماً له في تقدير آخر.
مختار السيد الخوئي والشيخ الأُستاذ :
وذهب السيّد
الخوئي إلى عدم الاقتضاء ، وهو مختار الشيخ الأُستاذ ، وإنْ خالفه في بعض كلماته
في ردّ العينيّة.
قال
الأُستاذ بالنسبة إلى
نظرية العينيّة : أمّا بناءً على أنّ الأمر هو الإرادة المبرزة والنهي هو الكراهة
المبرزة ، كما عليه المحقّق العراقي ، فبطلان العينيّة
__________________
واضح ، إذ الإرادة
لا تكون عين الكراهة. وكذا بناءً على أنّ الأمر هو البعث والنهي هو الزجر ، إذ
الاتّحاد بينهما غير معقول.
وأمّا أن يكون طلب
الفعل عين طلب ترك الترك ، فالتحقيق : أنّ ترك الترك من المفاهيم التي يصنعها
الذهن وليس لها ما بإزاء في الخارج ولا منشأ انتزاع ، فقول المحقّق الخوئي : بأنّه
عنوان انتزاعي منطبق على الوجود ، غير صحيح ، لأنّ الصدق دائماً يكون في عالم
الخارج ، ومن هنا قسّموا الحمل إلى الأوّلي المفهومي وإلى الشائع بلحاظ الوجود ،
فترك الترك لا مصداقيّة له ، ولو قال بأنّ مصداقه الوجود ، فمن المحال كون المعنى
الوجودي مصداقاً للمعنى العدمي ، ودعوى انتزاعيّته أيضاً باطلة ، لأنّ الانتزاع
بلا منشأ له محال ، بل لا بدّ للأمر الانتزاعي من منشأ للانتزاع يكون متّحداً معه
وجوداً ، كما في الفوقيّة والسقف ، وقد تقدّم أنّ ترك الترك لا حظّ له من الوجود
الخارجي ، بل إنّه من صنع الذهن فقط ... والعجب أنّه قد أشار إلى هذا المعنى في
كلماته حيث قال : «وليس له واقع في قبالهما وإلاّ لأمكن أن يكون في الواقع أعدام
غير متناهية ، فإنّ لكلّ شيء عدماً ولعدمه عدم وهكذا إلى أن يذهب إلى ما لا نهاية
له».
فظهر : أن ترك
الترك ليس إلاّ من صنع الذهن ، فما ذهب إليه الميرزا والسيد الخوئي غير تام ، وكذا
كلام الكفاية من أنّ بينهما اتّحاداً مصداقيّاً.
وأمّا قول (المحاضرات)
بعد ما تقدّم : «فالقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في قوّة القول بأنّ
الأمر بالشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء ، وهو قول لا معنى له أصلاً» ففيه : إنّه لا
يكون كذلك ، لأنّهما ـ وإن اتّحدا مصداقاً ـ مختلفان مفهوماً ، والقائل بالعينيّة
لا يدّعي العينيّة المفهوميّة ، والسيد الخوئي أيضاً يرى تعدّد المفهوم ، فلا معنى
لكلامه المذكور.
هذا كلّه بالنسبة
إلى العينيّة.
وأمّا القول
بالدّلالة التضمّنيّة ، فبطلانه واضح ، لكون الوجوب أمراً بسيطاً على جميع المباني
في حقيقة الأمر.
وأمّا القول
بالدلالة الالتزاميّة ، بأن يكون الأمر بالشيء دالاًّ على النهي عن تركه بالالتزام
، فإنّ اللزوم ـ سواء أُريد منه اللّزوم بنحو البيّن بالمعنى الأخصّ ، وهو ما لا
ينفك تصوّر أحد المتلازمين عن تصوّر الآخر ، كتصوّر العمى الذي لا ينفك عن تصوّر
البصر ، وكذا نحوهما من الملكة وعدمها ، أو بنحو اللّزوم بالمعنى الأعمّ ، وهو ما
إذا تصوّر الإنسان كليهما أذعن بالملازمة بينهما ـ لا ينطبق على شيء من الأقوال في
حقيقة الأمر والنهي ، وهي : القول بأنّهما الإرادة والكراهة ، والقول بأنّهما
البعث والزجر ، والقول بأنّهما طلب الفعل وطلب الترك ، والقول باعتبار اللاّبدّية
واعتبار الحرمان.
نعم ، هناك تلازم
بين الحبّ والبغض ، بمعنى أنّه لو أراد شيئاً كره وأبغض تركه ، وهذا اللّزوم هو
بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، إلاّ أنّه لا ربط له بالملازمة بين الأمر
والنهي ، إلاّ أن يقال بأنّ حقيقة الأمر بالشيء إرادته بالشوق البالغ حدّ النصاب ،
وحقيقة النهي كراهيّة الشيء مع البغض الشديد له البالغ حدّ النصاب ، سواء أبرز أو
لا ، لكنْ لا قائل بهذا ، لأنّ القائلين بأنّ حقيقة الأمر والنهي هي الإرادة
والكراهة يقولون باعتبار إبرازهما.
وتحصّل
: أنّ الدلالة
الالتزاميّة ساقطة ، كسقوط التضمّنيّة والعينيّة ، وأنّ القول بدلالة الأمر على
النهي عن ضدّه العام باطل على جميع الوجوه.
ثمرة البحث
ثم إنه قد بحث
الأعلام عن ثمرة هذا البحث فذكروا موارد :
منها
: مسألة المواسعة
والمضايقة ، فقد ذهب المشهور من المتقدّمين إلى المضايقة ، بناءً على أنّ الأمر
بالصّلاة الفائتة يدلّ على النهي عن الحاضرة ، وهي الضدّ الخاصّ ، وعليه ، فقد
أفتوا بأن من كانت ذمّته مشغولةً بصلاةٍ ، فصلاته الأدائيّة بعد الوقت باطلة ،
لأنّ عدم الضدّ الخاص ـ وهو الصّلاة الحاضرة ـ يكون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر وهو
الصّلاة الفائتة.
لكن مقدميّة عدم
أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر أوّل الكلام ، كما تقدّم بالتفصيل.
ومنها
: مسألة ترتّب
العقاب على المخالفة للنهي بناءً على الدلالة ، وعدم ترتّبه بناءً على عدمها.
لكنّ استلزام
مخالفة النهي الغيري لاستحقاق العقاب أوّل الكلام.
ومنها
: ترتّب أثر
المعصية ، فإنّه إذا كان الأمر بالشيء دالاًّ على النهي عن ضدّه ، يكون الضدّ
الخاص ـ كالسّفر ـ معصيةً ، ويترتّب على ذلك وجوب إتمام الصلاة.
ولكنْ هذا يتوقّف
على عدم انصراف أدلّة وجوب الإتمام في سفر المعصية عن النهي الغيري العرضي.
ومنها
: فساد العبادة ،
لأنّه مع الدلالة على النّهي تكون العبادة المزاحمة فاسدةً ، لأنّ النهي عنها موجب
لفسادها ، أمّا مع عدم الدلالة فهي صحيحة ، وتوضيح ذلك :
إنّه إن كان الأمر
بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه من باب أنّ عدم أحد
الضدّين مقدّمة
للضدّ الآخر ، فيجب عدمه بمقتضى دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العام ، فلا
ريب في حرمة فعل الضدّ.
وإن كان الأمر
بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه من باب الاستلزام ، بأنْ يكون عدم ذاك ملازماً
لوجود هذا ، كان عدم ذلك الضدّ واجباً لكونه ملازماً للواجب ، والمفروض اتّحاد
المتلازمين في الحكم ، وإذا كان واجباً فوجوبه يدلّ على النهي عن الضدّ العام ،
فيكون فعله محرّماً.
وإذا ثبت حرمة
الضدّ ـ بأحد الطريقين : المقدميّة أو الملازمة ـ فإن كان الضدّ عبادةً ، وقعت
باطلة ، بناءً على أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد ... لكنّ هذا النهي تبعي
وعرضي ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي في العبادات على الفساد حتى في النواهي
العرضيّة.
لكنّ الضدّين
المتزاحمين ، قد يكونان مضيّقين ، وقد يكون أحدهما مضيّقاً والآخر موسّعاً ، وعلى
الأوّل ، فتارةً يكونان متساويين ، وأُخرى يكون أحدهما مهمّاً والآخر أهم.
فإن كانا مضيّقين
وأحدهما أهم ، كما لو دار الأمر في آخر وقت الصّلاة بينها وبين إزالة النجاسة عن
المسجد ، فإنّه وإن كان وجوب الإزالة فوريّاً ، فإنّ ضيق وقت الصّلاة يوجب
أهميّتها ، وحينئذٍ ، يكون الأمر بالصّلاة دالاًّ على النهي عن الضدّ فلا تجوز
الإزالة.
وإن كان وجوب
أحدهما موسّعاً ، كما لو كان وقت الصّلاة موسّعاً والأمر بالإزالة فوري ، فعلى
القول بالدّلالة يكون الأمر بالإزالة دالاًّ على النهي عن الصّلاة.
ولو كانا مضيّقين
وكان أحدهما عملاً غير عبادي لكنْ كان أهمّ من الآخر العبادي ، كما لو دار الأمر
في ضيق الوقت بين أن يصلّي أو ينقذ النفس المحترمة
من الغرق ، فالأمر
بالإنقاذ الأهم من الصّلاة يدلّ على النهي عنها بناءً على الدلالة ، فلو أتى بها
حينئذٍ كانت فاسدة ، لكون النهي عن العبادة موجباً للفساد ، أمّا بناءً على عدم
الدلالة ، فلا موجب لفسادها لو أتى بها في ذلك الوقت وترك الإنقاذ.
رأي الشيخ البهائي في الثمرة
وأورد الشيخ البهائي
رحمهالله على هذه الثمرة ـ كما عن كتابه (زبدة الأُصول) ـ : بأنّ
العبادة باطلة مطلقاً حتى على القول بعدم دلالة الأمر للنهي عن الضدّ ، فالثمرة
منتفية ، وذلك لأنّ العبادة تتوقّف على قصد الأمر ، إذن ، فصحّة العبادة مشروطة
بتعلّق الأمر بها فعلاً حتى يُقصد ، وفي صورة الأمر بشيءٍ ووقوع التزاحم بينه وبين
ضدّه ، لا يوجد أمرٌ بالضدّ ، لاستحالة تعلّق الأمر بالضّدين معاً ، فالضدّ الآخر
غير مأمور به ، سواء دلّ الأمر بالشيء على النهي عنه أو لم يدل ؛ ومع عدم الأمر به
يكون فاسداً ، لكونه عبادةً وصحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها.
الجواب
عنه
وأجيب عن ذلك
بوجهين :
أحدهما
: ما ذكره صاحب (الكفاية)
وغيره كالمحاضرات ، من أنّ المعتبر في صحّة العبادة ليس خصوص قصد الأمر بل
قصد القربة بأيّ وجهٍ تحقّق ، والحاصل
: إنّه يكفي
الإتيان بالعمل مضافاً إلى المولى ، كأن يؤتى به بقصد كونه محبوباً له أو بداعي
تحصيل الثواب عليه والقرب منه. وعلى هذا فالثمرة مترتّبة.
لكن هذا الجواب
مبنائي.
والثاني
: ما يستفاد من
كلمات المحقّق الثاني ، وبيان
ذلك :
__________________
أوّلاً
: إنّه يعتبر في
التكليف أن يكون المتعلّق مقدوراً ، ومناط اعتبار القدرة في المتعلّق هو حكم العقل
بذلك ـ لا اقتضاء الخطاب كما عليه الميرزا ـ فإن كان متعلّق التكليف هو طبيعي
المأمور به لزم وجود القدرة عليه ، وإن كان الحصّة من الطبيعة لزم وجود القدرة
عليه كذلك.
وثانياً
: إنّه إن كان
المتعلّق هو الطبيعة ، فإنّ القدرة عليها تحصل بالقدرة على فردٍ ما منها ، وانطباق
الطبيعة عليه قهري.
وثالثاً
: إنّ الأمر يستحيل
أن يتجاوز عن متعلّقه ، فلو كان المتعلّق هو الطبيعة فلا يتجاوز إلى الفرد.
ورابعاً
: إنّ الحاكم
بالإجزاء وسقوط الأمر هو العقل ، لأنّه في كلّ موردٍ يكون الانطباق فيه قهريّاً ،
فالإجزاء فيه عقلي.
ففي كلّ موردٍ
توفّرت هذه المقدّمات ، تكون العبادة صحيحة ، ويندفع اشكال الشيخ البهائي ، وإلاّ
فالإشكال وارد ، كما في المضيّقين حيث القدرة منتفية.
رأي الميرزا
النائيني
وذهب الميرزا إلى إنكار الثمرة بوجهٍ آخر ، وذلك : لأنّه إن اعتبر قصد الأمر في عباديّة
العبادة ، فلا ثمرة كما عن الشيخ البهائي ، وإنْ لم يعتبر فيها ذلك فكذلك ، أمّا
بناءً على عدم دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه فواضحٌ ، إذ الضدّ يؤتى به
عبادةً لكونه ذا مصلحةٍ ملزمة يجب استيفاؤها ، فيؤتى به بقصدها ولا إشكال في
صحتها. وأمّا بناءً على الدلالة ، فإنّ النهي عن الضدّ المزاحم ليس ناشئاً عن
مفسدةٍ في المتعلّق ـ وهو الصّلاة ـ ومبغوضيّة ذاتيّة فيه ، بل هو في الواقع يرجع
إلى مطلوبيّة الإزالة ، وإذْ ليس في نفس الصّلاة مفسدة ، فلا يكون مثل هذا
__________________
النهي بمانعٍ عن
المقربيّة.
فالحاصل
: إنّ المقتضي
للمقربيّة ـ وهو المصلحة ـ موجود ، والمانع عنها ـ وهو النهي ـ مفقود.
فظهر صحّة الصّلاة
على التقديرين ، فلا ثمرة.
الدفاع عنه في
قبال المحاضرات والمنتقى
وأورد عليه في
المحاضرات : بأنّ الإتيان بالعمل بقصد الملاك والمصلحة غير كافٍ في العباديّة ، بل
لا بدّ من الإتيان به مضافاً إلى المولى ، والإتيان به بقصد الملاك لا يفيد إضافته
إليه.
والجواب
:
فأفاد شيخنا ما
حاصله : إنه فرق بين مطلق المصلحة والمصلحة التي هي الغرض من التكليف ، وقصد
المصلحة التي هي الغرض عند المولى ـ كما لو كان الانتهاء عن الفحشاء والمنكر هو
المصلحة في إيجاب الصلاة ـ مقرّب إلى المولى ومضيف للعمل إليه ... نعم ، قد يكون
العمل مبتلى بالمزاحم الأهم ، فيكون المكلّف عاجزاً إلاّ أنّ العمل واجد للمصلحة
اللاّزم استيفاؤها.
والإشكال : بأن
هذا إنّما يتمّ إن كانت المصلحة مترتبةً على ذات العمل ، أمّا بناءً على ترتّبها
على العمل المأتي به بعنوان العباديّة ، فالمصلحة متأخّرة رتبةً عن العمل ، ومع
تأخّرها عنه كيف تقصد عند الإتيان به؟
مندفعٌ بالنقض ،
لأنّ المستشكل يرى صحّة العبادة المأتي بها بقصد المحبوبيّة عند المولى ، لكونها
حينئذٍ عبادة مضافة إليه ، والحال أنّ المحبوبيّة مترتّبة على العباديّة لا على
ذات العمل ، فتكون في طول العباديّة ومتأخّرة عنها ، فكيف يؤتى بالعمل بقصد
المحبوبيّة؟
الإيراد
على الميرزا
لكن الإشكال
الوارد عليه قوله بمقرّبيّة العمل وإن كان منهيّاً عنه ... لأنّه وإن كان النهي عن
الصّلاة هو من جهة محبوبيّة الإزالة مثلاً لا لمفسدةٍ فيها ، إلاّ أنّه زجر عن
الصّلاة ، ومع الزجر كيف تكون مقرّبةً؟ إن العقل يلحظ الزجر بغض النظر عمّا هو المنشأ
له ، ويحكم بأنّ ما زجر عنه المولى فهو مبغوض عنده ، والمبغوض لا يكون مقرّباً بل
مبعّداً عنه ... ولا أقل من الشكّ في المقربيّة ، ومعه يرجع الشكّ إلى العباديّة ،
والمرجع حينئذٍ قاعدة الاشتغال.
نتيجة
البحث
إنّ الميرزا يرى ـ
بناءً على دلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ ـ صحّة العبادة ، لكون العمل ذا
مصلحة والنهي عنه غير ذاتي ، فيكفي قصد الملاك بناءً على عدم اعتبار قصد الأمر.
والأُستاذ يرى أنّ
هذا النهي أيضاً يؤثر ، فلا يصلح العمل للمقربيّة ، لكنّ الصّلاة صحيحة لأنّه لا
يرى دلالة الأمر على النهي عن الضدّ.
وفي (المنتقى) ـ بعد
أنْ قرّبه وأفاد أنّ مقصود المحقق النائيني بالملاك المصحّح للعباديّة هو المصلحة
ـ يرد عليه :
«أولاً : إن قصد
المصلحة لا يمكن تحققه هنا.
وذلك : لأن العمل
إذا فرض كونه عبادياً كانت المصلحة مما يترتب على العمل بقيد كونه عبادياً. أما
ذات العمل فلا تترتب عليه المصلحة.
وعليه ، فلا يصلح
ترتب المصلحة لأن يكون داعياً إلى الإتيان بالعمل ، لعدم ترتّبه عليه ، والداعي ما
كان بوجوده العلمي سابقاً وبوجوده العيني لاحقاً.
وبالجملة : لا
يمكن أن يؤتى بالعمل بداعي المصلحة ، إذ لا مصلحة فيه ، بل
المصلحة تترتب على
العمل العبادي فقصد المصلحة في طول تحقق العبادية لا محقق لها ، فهو نظير الإتيان
بالعمل بداعي ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فإنه في طول العبادة لا محقق لها
، كما تقدم بيان ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي.
وثانياً : لو فرض
إمكان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا يكون مقرباً ، لما تقدم من أنه يعتبر في المقربية
ارتباط العمل بالمولى بنحو ارتباط ، والإتيان بالعمل لأجل ترتب المصلحة عليه لا
يرتبط بالمولى ، فلا يكون العمل مقرباً لعدم ربطه بالمولى.
وعلى هذا ، لا
يستقيم ما أفاده المحقق النائيني من إنكار الثمرة ، إذ الملاك المصحح ليس إلا
المحبوبية ، وهو لا يتحقق مع تعلق النهي بالعمل.
ولكن الذي يسهل
الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده ، إما لأجل إنكار
دعوى المقدمية التي هي عمدة أساس القول بالاقتضاء. وأمّا من جهة إنكار وجوب
المقدمة» .
__________________
طرق تصحيح الفرد المزاحم
بعد أنْ ظهر أنّ
الحق عدم دلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ ، لا من باب المقدميّة ولا من باب
التلازم ، وأنّ الحق عدم دلالته على النهي عن الضدّ العام ، لسقوط القول بالعينيّة
والدلالة التضمّنيّة والالتزاميّة ، لكنّ دلالته على مبغوضيّته ثابتة ، لأنّه إذا
كان الفعل محبوباً للمولى كان تركه مبغوضاً له يقيناً ، وكذا العكس ، لكن لا بدّ
من التنبيه على أنّ متعلّق البغض ـ وهو الترك ـ لا يتجاوز عن متعلّقه ، ليكون
لازمه ـ وهو فعل الضدّ الخاص ـ مبغوضاً كذلك ، فإذا كان الضدّ الخاصّ أمراً
عباديّاً فلا دليل على فساده.
إلاّ أنّ عدم
الدليل على عدم الفساد لا يكفي لعباديّة العمل ، بل يعتبر أن يؤتى به مضافاً إلى
المولى.
أمّا على القول
باشتراط صحّة العبادة بقصد الأمر ، فقد تقدّم أنّه لا أمر بالنسبة إلى المزاحم في
عرض الواجب المأمور به ، لاستحالة طلب الضدّين ، فإمّا أن يدّعى وجود الأمر
بالطبيعة ـ التي يكون الضدّ الخاص فرداً لها ـ في عرض الأمر المتوجّه إلى الواجب ،
وامّا أن يدّعى كونه مأموراً به بالأمر الطولي على أساس الترتّب.
وأمّا على القول
بصحّة العبادة بقصد الملاك ، فلا بدّ أوّلاً من إثبات المبنى بإقامة الدّليل عليه
، ثمّ تحقيق الصّغرى وهو كون العمل واجداً للملاك.
الطريق الأول
وتفصيل الكلام على
القول الأوّل هو : إنه بناءً على ما تقدّم عن المحقق الثاني ، فإنّ الطبيعة هي
المتعلّق للأمر والفرد غير مأمور به ، إلاّ أنّ انطباقها عليه قهري والإجزاء عقلي
، وبذلك تتم عباديّة الفرد المزاحم.
الأقوال في اعتبار القدرة في متعلّق التكليف
وقد تقدّم سابقاً
: أنّ طريق المحقّق الثاني مبنيٌّ على أنّ اعتبار القدرة في متعلّق التكليف هو
بحكم العقل ، والكلام الآن حول هذا المبنى ، فإنّ في المسألة أقوالاً ثلاثة :
فقيل
: إنّ القدرة على
المتعلّق غير معتبرة في صحّة التكليف ، فللمولى تكليف العاجز ، إلاّ أنّ المكلّف
إن كان قادراً على الامتثال فواجب ، وإن كان عاجزاً فهو معذور.
وهذا رأي جماعة من
المحقّقين ، ومنهم السيد الخوئي.
وقيل
: إنّ القدرة شرط
في التكليف.
فقال المحقّق
الثاني وجماعة : إنّها شرط بحكم العقل.
وقال الميرزا : هي
شرط باقتضاء الخطاب.
والقائلون بأنّها
بحكم العقل ، اختلفوا بين قائل : بأنّ القدرة على فردٍ ما من أفراد الطبيعة تكفي
لصحّة الأمر بالطبيعة ، وقائل : لا تكفي.
ومذهب المحقّق الثاني
هو الكفاية.
قال
الميرزا :
الصحيح إنّه
باقتضاء التكليف لا بحكم العقل ، وعليه ، فكون الفرد المزاحم فرداً للمأمور به
محال ... وتوضيح ذلك هو :
إنّ التكليف جعل
الداعي ، وجميع التكاليف إنما تُنشأ لأجل أنْ يوجد الدّاعي للامتثال عند المكلّف ،
والداعي يقتضي ـ بذاته ـ إمكان المدعوّ إليه عقلاً وشرعاً ، لأنّ النسبة بينهما هي
التضايف ، فلمّا كان الداعي إمكانيّاً فالمدعوّ إليه كذلك ، إذن ، فمتعلّق التكليف
هو الفرد المقدور ، وأمّا غير المقدور فخارج عن التكليف ، ويكفي عدم القدرة
الشرعيّة ، لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ....
والحاصل
: إنّ متعلّق
التكليف هو غير الضدّ المزاحم.
إشكالات المحاضرات
وأورد عليه في
المحاضرات من جهات :
(الأُولى) إنّ ما أفاده قدسسره ـ من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً
للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، والقول بأنه اقتضاء نفس التكليف ،
فيسلّم ما ذكره المحقّق الثاني على الأوّل دون الثاني ـ لا يرجع إلى معنى محصّل ،
بناءً على ما اختاره من استحالة الواجب المعلّق وتعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور
في ظرفه ، وبيان ذلك باختصار هو :
إنّ الأمر في
الواجب الموسّع وإنْ تعلّق بالطبيعة وبصرف الوجود منها ، إلاّ أنّه مشروط بالقدرة
عليها ، وذلك لا يمكن إلاّ بأن يكون بعض وجوداتها ـ ولو كان واحداً منها ـ مقدوراً
للمكلّف ، أمّا لو كان جميع أفرادها غير مقدور للمكلّف ولو في زمان واحدٍ ، فلا
يمكن تعلّق التكليف بنفس الطبيعة في ذلك الزمان إلاّ على القول بجواز الواجب
المعلّق. وحيث أنّ الواجب الموسّع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيّق غير مقدور
بجميع أفراده ، فلا يعقل تعلّق التكليف به ، ـ ليكون انطباقه على الفرد المزاحم
قهريّاً وإجزاؤه عن المأمور به عقليّاً ـ إلاّ بناء على صحة الواجب المعلّق ، حيث
يتعلّق الطلب بأمرٍ متأخّر مقدور في ظرفه. ولا يفرّق في
ذلك بين المسلكين
في منشأ اعتبار القدرة في المتعلّق.
نعم ، إنما يتمّ
كلام الميرزا فيما إذا كان للواجب أفراد عرضيّة ، وكان بعضها ـ لا كلّها ـ مزاحماً
بواجب مضيّق ، لأنه يصحّ حينئذٍ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر
بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها ، بناءً على قول المحقّق الثاني ، كما
لو وقعت المزاحمة بين بعض الأفراد العرضيّة للصّلاة وإنقاذ الغريق ، في أحد مواضع
التخيير بين القصر والإتمام ، حيث أنّ الفرد المزاحم للإنقاذ هو الإتمام ، فيلزم
عليه اختيار القصر ليتمكّن من الإنقاذ أيضاً ، فلو اختار التمام وعصى الأمر بالأهم
ـ وهو الإنقاذ ـ فالصّلاة صحيحة ، لكونها فرداً من الطبيعة المأمور بها ، المقدور
عليها بالقدرة على فردٍ وهو القصر ... أمّا بناءً على مبنى الميرزا فلا تصحّ ،
لأنّ متعلّق التكليف هو الفرد المقدور وهو القصر ، وهذا الفرد غير منطبق على الفرد
المزاحم.
لكنّ الكلام في
الأفراد الطولية.
الجواب
أما سيّدنا
الأُستاذ ، فقد ذكر أنّ هذا الإيراد من المحقق الأصفهاني وقد أوضحه السيّد الخوئي مفصّلاً. قال : وهو وجه لطيف لكنه لا يخلو عن
مناقشةٍ سيأتي التعرّض لها في غير هذا المقام . لكنّا لم نوفّق
للوقوف عليه. وأمّا شيخنا الأُستاذ ، فقد أجاب عن هذا الإشكال : بأنّ تعلّق
التكليف ـ بناءً على القول بالواجب المعلّق ـ وإنْ كان معقولاً ، بأن يتعلّق الأمر
بالعبادة الموسّعة كالصّلاة في حال مزاحمتها بالواجب المضيّق ، على نحو يكون
الوجوب الآن والواجب في
__________________
المستقبل ،
لاستحالة تعلّق الأمر الآن بالطبيعة من جهة كونها في حال المزاحمة غير مقدورة
بجميع أفرادها ، إلاّ أن انطباق الواجب على الفرد المزاحم مورد للإشكال ، لأنّ
حقيقة الواجب المعلّق هو أن يكون الوجوب مطلقاً والواجب معلّقاً على الزمان الآتي
، فيكون الوجوب الآن والواجب مقيّداً ، وإذا كان الواجب مقيّداً كذلك كان غير قابل
للتطبيق ـ بما هو واجب ـ على الفرد في أوّل الوقت ، إذ الفرد في أوّل الوقت لا يكون
فرداً للطبيعة بما هي مأمور بها.
والحاصل
: إنّ الواجب إنْ
كان لا بشرط بالنسبة إلى الزمان الآتي ، فانطباقه على جميع أفراد الطبيعة ممكن ،
لكنّه ليس بواجب معلّق ، وإن كان مشروطاً به ، فهو غير منطبق الآن على الفرد
بعنوان الواجب.
ولو
قيل : بأن تقيّد الواجب
بالزمان اللاّحق يكون تارةً من جهة كونه دخيلاً في الملاك والغرض ، كما في الحج
حيث أنّ الوجوب الآن والواجب مقيّد بأيام المناسك ، وهو قيد دخيل في الغرض ،
وأُخرى من جهة عدم قدرة المكلّف لا لدخله في الغرض ، فيتقيّد الواجب بزمان بعد
زمان المزاحمة مع الأهم ، وما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأوّل ، فهو ذو ملاك.
فإنّه
يمكن الجواب : بأنّ الفرق المذكور موجود ، لكن كليهما شريكان في عدم إطلاق الواجب ، ومع
تضيّق دائرة الواجب المأمور به ، لا يمكن القول بأن هذا الفرد فرد للمأمور به بما
هو مأمور به ، فالاشكال باق.
هذا ، على أنّ
احراز واجديّة الواجب المقيّد بزمان بعد المزاحمة للغرض وأن تقيّده بذلك إنّما هو
من جهة عدم القدرة ، أمر مشكل.
(الجهة الثانية) قال : إنّه لو تنزّلنا وسلّمنا الفرق بين القولين ، فلا
يتم ما أفاده الميرزا كذلك بالنظر إلى مختاره من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد
من تقابل
العدم والملكة ،
فكلّ مورد لم يكن فيه التقييد فالإطلاق غير ممكن. وما نحن فيه من هذا القبيل ،
لأنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بالفرد المزاحم مستحيل ، فإطلاقها بالنسبة إليه
كذلك حتى على قول المحقّق الثاني في اعتبار القدرة في التكليف.
والحاصل
: إنّه لا يمكن
الحكم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم إطلاق المأمور به ، ليكون الإتيان به بداعي الأمر
حتى على القول بصحّة الواجب المعلّق.
نعم ، بناءً على
ما حقّقناه من أنّ التقابل بينهما من قبيل التضادّ ، يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم
بداعي الأمر بالطبيعة ، بناءً على جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه
كما هو المفروض ، لأنّه إذا استحال التقييد كان الإطلاق ضروريّاً.
جواب
الأُستاذ
فأجاب الأُستاذ :
بأنّ استحالة التقييد إنّما تستلزم ضرورة الإطلاق فيما إذا كان التقييد ممكناً ،
أمّا لو لم يتمكّن المولى من التقييد فلا ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ
المولى ـ كما يعترف المستشكل ـ غير متمكّن من التقييد بالفرد المزاحم ، وحينئذٍ ،
فلا يكون الإطلاق كاشفاً عن كون مراده مطلقاً ....
والحاصل
: إنّه لا اعتبار
لمثل هذا الإطلاق.
(الجهة الثالثة) في أنّ القدرة غير معتبرة في صحّة التكليف ، وهو القول
الثالث من الأقوال في المسألة ، فلا هي معتبرة بحكم العقل ، ولا هي معتبرة باقتضاء
الخطاب ، بل إنّها معتبرة بحكم العقل في مرحلة امتثال التكليف. قال : وذلك : لأنّ
حقيقة الحكم والتكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه
في الخارج بمبرز ، وهذا الاعتبار لا يقتضي اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة ، ضرورة
أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور.
فالحاصل
: إنّه لا مقتضي من
قبل الخطاب لاعتبار القدرة في المتعلّق ، وكذا العقل ، فإنّه لا يقتضيه إلاّ في
ظرف الامتثال ، فإذا لم يكن المكلّف حين جعل التكليف قادراً على الامتثال وأصبح
قادراً عليه في ظرفه ، صحّ التكليف ولا قبح فيه عقلاً.
جواب
الأُستاذ
وقد أجاب عنه
الأُستاذ : بأنّ اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلّف فعل اختياري له ، وكلّ فعل
اختياري فهو معلول للغرض ، وليس الغرض إلاّ جعل الداعي للعبد نحو الفعل ، وحينئذٍ
تعود نظرية الميرزا من أن جعل الداعي يقتضي القدرة على المدعوّ إليه ، فلو كان
عاجزاً عن الامتثال لم يمكن من المولى جعل الداعي له ، فإنْ كان التكليف مطلقاً
جعل الداعي كذلك ، وإنْ كان مشروطاً بشرطٍ كان الداعي في ظرف تحقّق الشرط ، وأمّا
إن كان معلّقاً ـ بأنْ يكون الوجوب فعليّاً والواجب استقباليّاً ـ فإنْ البعث
الإمكاني الفعلي نحو الأمر المتأخّر يقتضي إمكان الانبعاث في الواجب في ظرفه ،
وكذلك الحال بناءً على إنكار الواجب المعلّق ، فإنّ البعث الإمكاني يقتضي الانبعاث
الإمكاني.
فالحاصل
: إنّه على جميع
التقادير والأقوال : البعث الإمكاني يقتضي الانبعاث الإمكاني.
كلام المحقّق العراقي في المقام
وذكر المحقّق
العراقي في (المقالات) ـ مشيراً إلى نظريّة الميرزا بعنوان التوهّم ـ ما حاصله :
إنّ القدرة على الامتثال من الأُمور الدخيلة في فاعليّة الإرادة حتّى لو لم يكن
الخطاب فعليّاً ، وحقيقة الحكم هي الإرادة المبرزة ، فإنْ أُريد
__________________
للإرادة الوصول
إلى الفعليّة اعتبرت القدرة ، فتكون القدرة ممّا يعتبر في ظرف الامتثال ...
والحاصل
: فاعتبار القدرة
متأخّر رتبةً عن الخطاب ، والخطاب متأخّر رتبةً عن متعلّقه ، ومع تأخّره لا يمكن
أن يكون دخيلاً فيه ... فالخطاب لا يقتضي اعتبار القدرة خلافاً للميرزا.
نقد كلام العراقي والدفاع عن الميرزا
وقد انتقد الشيخ
الأُستاذ كلام المحقّق العراقي بما انتقد به كلام المحاضرات ، وحاصل ما أفاده هو :
إنه لا ريب في أنّ المتأخّر لا يمكن أخذه في المتقدّم عليه ، ولو أنّ المولى قد
أخذ القدرة في متعلّق حكمه لتمّ كلام هذا المحقّق ، لكنّ تقيّد الخطاب بالقدرة ليس
بأخذ المولى بل إنّه تقيّد وتضيّق ذاتي ، لما تقدّم من أنّ الحكم بعث ، وهو يقتضي
القدرة على المبعوث إليه ، لأنّ المولى الحكيم الملتفت لا يبعث نحو غير المقدور ،
فالبعث من أصله مضيّق وبذلك تتضيّق دائرة المتعلّق ، ويكون الحصّة المقدورة فحسب.
والحاصل
: إنّ كلام المحقّق
النائيني قوي ... ولا يصلح ما ذكر للردّ عليه.
الإشكال
على الميرزا
إلاّ أنّ فيه ـ بعد
الموافقة على كبرى أنّ البعث الإمكاني يقتضي الانبعاث الإمكاني ـ أن تلك الكبرى
غير منطبقة هنا حتّى تتم دعوى أنّ البعث نحو الطبيعة يختص دائماً بالحصّة المقدورة
منها ، لأنّ المفروض كون البعث نحو الطبيعة ، وهي لا بشرط بالنسبة إلى الخصوصيّات
الفرديّة ، وأنّ حقيقة الإطلاق رفض القيود ، وعلى ما ذكر ، فإنّ المولى لما يبعث
نحو الطبيعة فهو يريد الوجود المضاف إليها ، وإذا كان البعث الإمكاني يقتضي
الانبعاث الإمكاني ، فإنّ القدرة
على فردٍ ما من
أفراد الطبيعة تحقّق إمكان الانبعاث ، فلا محالة تكون الطبيعة بما هي مأمور بها
منطبقةً على الفرد المزاحم ، وإذا تمّ الانطباق القهري تمّ الإجزاء.
والحاصل
: إنّ الخطاب لا
يتعلّق بالحصّة المقدورة من الطبيعة ، بل هو متعلّق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على
فردٍ ما من أفرادها ، ومنها الفرد المزاحم ، خلافاً للميرزا القائل بخروج الفرد
المزاحم غير المقدور عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها.
التحقيق في اعتبار القدرة في صحّة التكليف
أمّا على القول
الثالث ، فمشكلة تصحيح العبادة المزاحمة منحلّة ، لأنّه بناءً عليه يكون التكليف
متعلّقاً بالطبيعة ، وهو غير مشروط بالقدرة ، فيصحُّ الإتيان بالفرد المزاحم بقصد
الأمر ، لأن انطباق الطبيعة عليه قهري والإجزاء عقلي.
وأمّا على القول
باعتبار القدرة بحكم العقل فكذلك ، لأنّ الطبيعة مقدورة بالقدرة على فردٍ ما من
أفرادها ، فيصح الإتيان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة.
وأمّا على القول
باعتبارها باقتضاء نفس الخطاب ، فالمشكلة باقية ، لأنّ المتعلّق ـ بناءً عليه ـ هو
الحصّة المقدورة من الطبيعة ، لا الجامع بين المقدور وغير المقدور ، فلا يصحّ
الفرد المزاحم بالإتيان به بقصد الأمر ، وتصل النوبة إلى قصد الملاك ـ وهو الطريق
الثاني ـ.
لكنّ التحقيق عند
الأُستاذ قابليّة الطبيعة لتعلّق الأمر وصحّة العبادة المزاحمة بقصد الأمر ....
فلا فرق بين
الآراء الثلاثة في حلّ المشكلة.
إلاّ أنّ الحق ـ عنده
ـ بقاء المشكلة على حالها ، لأنّه لا قدرة على الطبيعة في
الأفراد الطوليّة
في أوّل الوقت ، فلا بدّ من تصوير الواجب المعلّق ، وعليه ، فيكون الواجب بعد
الفرد المزاحم ، لأنّه ـ أي الفرد المزاحم ـ مقيّد بالزمان الآتي ، فلا ينطبق
الواجب عليه ... فلا يمكن تصحيحه بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، وتصل النوبة إلى
طريق قصد الملاك أو طريق الأمر الترتّبي.
الطريق الثاني
والبحث في الطريق
الثاني ـ وهو تصحيح العبادة بقصد الملاك ، كما ذهب إليه صاحب (الكفاية) والميرزا ـ
يستدعي الكلام في جهتين :
جهة الكبرى ، وهي
تصحيح العبادة بقصد الملاك ، وأنّه لا ينحصر تصحيحها بقصد الأمر فقط ... وللتحقيق
عن هذه الجهة موضع آخر.
وجهة الصغرى ، وهي
المهمّة في المقام ، وهي أنّه كيف يثبت الملاك في الفرد المزاحم؟
إنّه لا بدّ من
الكشف عن الملاك كي يؤتى بالعمل بقصده ، والمفروض عدم وجود أمر عرضي يكون كاشفاً
عنه كشف المعلول عن العلّة ـ على مسلك العدلية ـ لأنّ وجوده مشروط بالقدرة على
الامتثال وهي منتفية ، من جهة أنّ الواجب عليه هو الفرد الأهمّ ، فالمكلّف عاجز
شرعاً عن امتثال الواجب المزاحم المهم ، فهل يمكن الكشف عنه عن طريق مفاد المادّة
بعد سقوط اطلاق الهيئة لكونها مشروطة بالقدرة؟ هنا وجوه :
الوجه
الأوّل
يقول الميرزا ـ كما
في (أجود التقريرات) ـ بعدم تبعيّة إطلاق المادّة لإطلاق الهيئة ، وتوضيح هذه
الدعوى هو : إنّ قول المولى «صلّ» مشتمل على
__________________
مادةٍ وهو الواجب
الذي تعلّق به الحكم ، وعلى هيئةٍ وهو الحكم أي الوجوب ... وكلٌّ منهما صالحٌ
للتقييد بالقدرة أو غيرها من القيود ، وللإطلاق برفض القيود كلّها ، فإن أخذ
المولى في خطابه القدرة على الواجب ، كأن يقول : إنْ قدرت فصلّ ، فقد اعتبرت
القدرة الشرعيّة إلى جنب القدرة العقليّة ـ المعتبرة بحكم العقل على مسلك المحقّق
الثاني ، أو باقتضاء الخطاب على مسلك الميرزا ـ وكشفت عن دخلها في الغرض من
الصّلاة ، وإنْ لم يأخذها كشف ـ عدم أخذها ـ عن عدم دخلها في الغرض.
وكذلك الحال
بالنسبة إلى الوجوب ....
لكنّ المفروض أنّه
مع التزاحم بالأهمّ ، لا وجوب بالنسبة إلى المهمّ وهو الصّلاة ، فلا اطلاق للهيئة
، لكون وجوب الصّلاة مقيّداً بالقدرة ، وحينئذٍ ، يأتي البحث عن أنّه إذا سقط
إطلاق الهيئة يسقط بتبعه إطلاق المادّة أو لا؟
فذهب الميرزا إلى
بقاء المادّة على إطلاقها ، وأنّه كاشف عن أنّ الغرض قائم بالجامع بين المقدور
وغير المقدور ، فيكون الفرد المزاحم ـ وإن كان غير مقدور ـ واجداً للملاك بمقتضى
الإطلاق ، ويمكن الإتيان به بقصده.
هكذا قرّب
الأُستاذ هذا الوجه.
وفي (المحاضرات) :
إنّ الفرد المزاحم تام الملاك حتى على القول بكونه منهيّاً عنه ، لأنّ النهي
المانع عن التقرّب بالعبادة ، هو الذي ينشأ من مفسدةٍ في متعلّقه وهو النهي النفسي
، وأمّا النهي الغيري ، فبما أنّه لا ينشأ من مفسدةٍ في متعلّقه ، لا يكشف عن عدم
وجود الملاك في المتعلّق. فبضم هذا إلى كبرى كفاية قصد الملاك ، تتمّ صحة عباديّة
الفرد المزاحم .
__________________
اشكالات
الميرزا على نفسه وجوابه عنها
ثمّ إن الميرزا
أورد على نفسه اشكالات أربعة ، وأجاب عنها .
الأوّل
: إنه لا إطلاق مع
وجود المقيّد العقلي حتى يتمسّك به ، وعلى القول باقتضاء ذات الخطاب القدرة في
المتعلّق ، يتقيّد المتعلّق ويخرج عن الإطلاق. وبعبارة أُخرى : صحّة الفرد المزاحم
من جهة الملاك ، لا يجتمع مع القول باقتضاء الخطاب القدرة في المتعلّق ، لأنّه
بناءً عليه تكون القدرة دخيلةً في ملاك الحكم ، وبارتفاعها يرتفع الملاك.
الثاني
: إنّه لو سلّمنا
عدم القطع بالتقييد باقتضاء الخطاب ، فلا ريب في أنّ ذلك صالح للقرينيّة ، فيكون
المقام من صغريات احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد الإطلاق ، ليتم
الملاك فيقصد بالفرد المزاحم.
الثالث
: إنّه لو سلّمنا
عدم الصلاحيّة للتقييد ، إلاّ أنّ إطلاق المتعلّق إنّما يكشف عن عدم دخل القيد في
الملاك ، فيما إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الإثبات ، مع دخله في
مقام الثبوت ، وأمّا إذا لم يلزم نقض الغرض ، فلا يكون الإطلاق في مقام الإثبات
كاشفاً عن عدم القيد فيه ثبوتاً ، فلو كان غرض المولى متعلّقاً بالرقبة المؤمنة ـ مثلاً
ـ كان عليه البيان في مقام الإثبات لئلاّ يلزم نقض الغرض ، ومن عدم البيان نستكشف
عدم دخل الإيمان في الغرض ويتم الإطلاق. وأمّا إذا لم يلزم في موردٍ نقض الغرض من
عدم البيان ، فلا يتم استكشاف الإطلاق.
وما نحن فيه من
هذا القبيل ، وذلك لأنّا نعلم بأنّ المكلّف عاجز عن الإتيان بالفرد غير المقدور ،
فهو غير محتاج إلى البيان كي نقول بأنّ عدم البيان عن التقييد
__________________
كاشف عن الإطلاق
وإلاّ يلزم نقض الغرض ... فالمورد ليس من موارد التمسّك بإطلاق المتعلّق.
الرابع
: إنّ أوّل مقدّمات
الإطلاق هو كون المتكلّم في مقام البيان من تلك الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق
فيها ، وبدون ذلك فلا يتم الإطلاق ... مثلاً : الآية المباركة : (فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عليه) في مقام بيان حليّة أكل هذا الصيد ، وليست في مقام البيان
من جهة الطهارة والنجاسة حتى يُتمسّك بإطلاقها فيقال بطهارة هذا الحيوان الذي
اصطاده الكلب.
وفيما نحن فيه :
المولى في مقام بيان متعلّق حكمه ، وليس في مقام بيان ملاك الحكم ، حتّى يقال
بأنّه لم يقيّد بالقدرة ، فالملاك مطلق والمتعلّق للحكم مطلق.
والجواب
:
أمّا عن الإشكال
الأوّل ، فبأنّ تقييد المتعلّق عقلاً يكون إمّا باقتضاء الخطاب كما هو مسلك
الميرزا ، وامّا بحكم العقل ، ولا ثالث لهما. والأوّل تقييد عقلي ذاتي والثاني
تقييد عرضي. وأيضاً : فإنّ الأوّل متحقّق في كلّ خطابٍ لأنّه باقتضاء نفس الخطاب ،
بخلاف الثاني ، فهو يختص بالخطاب الصادر من الحكيم ، لكون خطاباته تابعة للحسن
والقبح العقليين ، فالأوّل يرجع إلى اقتضاء العقل النظري ، والثاني إلى اقتضاء
العقل العملي وهو قبح تكليف العاجز.
وحينئذ : فإنْ كان
المدّعى تقييد متعلّق الحكم ـ وهو المادّة ـ باقتضاء نفس الخطاب ، فمن الواضح أنّ
التقييد متأخّر عن الحكم المتأخّر عن المتعلّق ، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتين
، ولا يمكنه أنْ يؤثر في إطلاقه في مرحلة قيام الغرض تام بلا كلام.
وإن كان المدّعى
تقييد المتعلّق بحكم العقل ، فإن حكم العقل متأخّر عن حكم الشرع ، تأخّر الحكم عن
موضوعه ، وحكم الشرع في مرتبةٍ متأخّرةٍ عن المتعلّق ، فالتقييد متأخّر عن
المتعلّق بمرتبتين كذلك.
فاندفع الإشكال الأوّل.
وبذلك يندفع
الإشكال الثاني ، فإنّه إذا ثبت استحالة التقييد ، لا يبقى احتمالٌ حتى يكون
صالحاً للقرينيّة.
وأمّا عن الإشكال
الثالث ، فقد ذكر جوابين :
أحدهما : إن هذا
إنّما يتم فيما إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينيّة في الملاك ، لاستحالة
صدور غير المقدور ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض أصلاً. وأمّا إذا كان الشك
في كون القدرة ـ ولو كانت شرعيّة ـ دخيلةً في الملاك كما هو المفروض في المقام ،
فيلزم نقض الغرض من عدم التقييد ، إذ للمكلّف الإتيان بالواجب الموسّع مع التزاحم
بينه وبين المضيّق تمسّكاً بالإطلاق ، إذن ، لا بدّ من البيان ، ومع عدمه يستكشف
عدم الدخل ويتم الإطلاق.
والثاني : إن لزوم
نقض الغرض ليس من مقدّمات الإطلاق ، بل إنّ من مقدّماته تبعيّة مقام الإثبات لمقام
الثبوت ، فكون المتكلّم في مقام بيان جميع ما له دخل في غرضه يستلزم بيان ذلك كلّه
وإلاّ لزم الخلف ، فمن الإطلاق وعدم التقييد بقيدٍ يستكشف عدم دخله في مقام الثبوت
، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض.
وأمّا عن الإشكال
الرابع فأجاب :
بأنّه ليس المراد
الكشف عن الملاك من جهة كون المولى في مقام البيان له ، بل المراد هو : إنّه لمّا
كان في مقام بيان متعلّق حكمه ، والأحكام تابعة للملاكات
ومعلولة لها ،
فتوجّه التكليف إلى ذات المتعلّق بلا أخذ القيد فيه ، يكشف عن كون العلّة ـ وهو
الملاك ـ مطلقاً كذلك ، فيصحّ حينئذٍ التمسّك بالإطلاق للكشف عن الملاك المطلق.
وإذا اندفعت
الإشكالات ، فلا مانع من التمسك بإطلاق المادّة للكشف عن الملاك ، فيؤتى بالصّلاة
بقصده.
قال
الأُستاذ
وتنظّر الأُستاذ
فيما أجاب به الميرزا عن الإشكالات ... فوافق على الجواب الأول عن الإشكال الثالث.
وأبطل الثاني : بأنه وإنْ كان المعروف عدم كون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق
، لكنّ الحق هو كون المولى في مقام بيان الغرض ، لأنّ الأمر معلول له ولحاظ المولى
له عرضي ، ولكنّ لحاظه للغرض ذاتي ، لأنه هو العلّة للأمر.
وأمّا جوابه عن
الإشكالين ـ الأوّل والثاني ـ وملخّصه : استحالة تقييد ما هو المتأخّر رتبةً لما
هو متقدّم في الرتبة ، ففيه :
إنّ المقيّد هو
المولى إنْ أخذ القيد في المتعلّق ، وهو المطلق إنْ رفضه ، وانقسام الصّلاة إلى
المقدورة وغير المقدورة ، أمر واقعي طارئ على الصّلاة قبل حكم المولى ـ لا في
مرتبته ولا بعده ـ سواء وجد الحكم أو لا ... فإنْ كان القيد دخيلاً في غرض المولى
الملتفت إلى الانقسام أخذه في متعلّق حكمه وإلاّ رفضه ، فالإطلاق والتقييد بالنسبة
إلى القدرة ليس من الانقسامات الحاصلة من ناحية الخطاب ، بل هو القرينة على أخذ
المولى للقيد في المتعلّق ، والتقييد حاصل في رتبة المتعلّق ، غير أنّ القرينة
عليه ـ وهو الخطاب ـ متأخّر عن ذي القرينة بالتأخّر الطبعي كما حقّق في محلّه ،
وإذا كان التقييد في مرتبة المتعلّق فلا إطلاق.
وبما ذكر يسقط
الجواب عن الإشكال الثاني.
وأمّا جوابه عن
الإشكال الرابع ففيه :
إنّه قد ورد الأمر
بالصّلاة في مرتبة الاستعمال على طبيعي الصّلاة ، لكنّه مقيّد عقلاً ـ باقتضاء
الخطاب عند الميرزا ـ بالحصّة المقدورة ، فالمراد الجدّي من الصّلاة أخصّ من
المراد الاستعمالي ، والكاشف عن الملاك هو المراد الجدّي لا الاستعمالي ، وإذا كان
المراد الجدّي هو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، فكيف يكون كاشفاً عن وجود الملاك
في الحصّة غير المقدورة؟
وبتعبير السيد
الأُستاذ : «إنّ الدليل الدال على تبعيّة الأحكام للمصالح من إجماعٍ أو عدم
اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفّر الملاك فيما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه ، وإن
كان قد تعلّق في ظاهر الخطاب بالمطلق ، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في
متعلّق الأمر خطاباً ، والمفروض فيما نحن فيه أن الأمر وإنْ كان يرد على المطلق لا
على المقيّد ، ولكنْ إنما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصّة المقدورة دون الأعم» .
فالحق : امتناع
التمسّك بالإطلاق ، لوجود القرينة العقليّة ، بحكم العقل بقبح تكليف العاجز أو
باقتضاء نفس الخطاب لأنْ يتوجّه التكليف إلى الحصّة المقدورة ، فإنّ هذه القرينة
مانعة من انعقاد الإطلاق في المادّة ، وحينئذٍ ، فلا كاشف عن الغرض.
رأي السيد الخوئي
وجوّز السيّد
الخوئي التمسّك بالإطلاق بناءً على مسلكه من أنّ القدرة لم تعتبر في متعلّق
التكليف ، لا من جهة حكم العقل ولا من جهة اقتضاء التكليف ،
__________________
فلا موجب
لاعتبارها فيه ، إلاّ أنّ الإشكال في المقتضي لهذا الإطلاق ، لأنّ المتكلّم غالباً
بل دائماً ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه ، حتى يمكن التمسك بالإطلاق فيما
إذا شك في فردٍ أنّه واجد للملاك أم لا ، ومع قطع النظر عن ذلك وفرض أنّه في مقام
البيان حتى من تلك الجهة ، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق ، إذ قد عرفت أنّه لا حكم
للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في المتعلّق ، ليكونا صالحين للبيان
ومانعين عن ظهور اللّفظ في الإطلاق.
وحاصل كلامه :
إنّه لا حكم للعقل باشتراط التكليف بالقدرة ، ولا اقتضاء للتكليف لذلك ، فلا مانع
من التمسّك بالاطلاق ، لأنّه لا يكون الاشتراط إلاّ بأحد الأمرين المذكورين ، بل
القدرة شرط لتنجّز التكليف. لكنّ الكلام في تماميته الإطلاق ، لأن المولى في مقام
بيان متعلّق الحكم لا ما يقوم به الملاك ، فلا مقتضي لانعقاده. وهذا هو الصحيح في
الإشكال على الإطلاق.
قال الأُستاذ
وفيه
:
أوّلاً
: إنّ الكلام في
حكم المولى الحكيم الملتفت وليس حول غيره ، ولذا قيّد ما ذكره بالموالي العرفيّة
حيث قال «بل الغالب في الموالي العرفيّة غفلتهم عن ذلك فضلاً عن كونهم في مقام
بيانه» ... فالكلام في الخطابات الشرعيّة الصادرة من الشارع ، وقد
تقرّر أنّ تكاليفه معلولة للأغراض ، فكيف لا يكون في مقام بيان غرضه؟
وثانياً
: إن ما ذهب إليه
من أنّ القدرة من شرائط التنجيز ، فلها الدّخل في استحقاق العقاب فقط ، لا يجتمع
مع ما ذهب إليه من أنّ التكليف اعتبار مبرَز ، وأنّ
__________________
الأمر مصداق للبعث
والنهي مصداق للزجر. وتوضيح ذلك :
إنه لا يخفى الفرق
بين المفهوم والمصداق ، فكلّما كان الاتّحاد بين الشيئين مفهوميّاً كان الحمل
بينهما أوّليّاً ، وكلّما كان الاتحاد بينهما في الوجود كان الحمل شائعاً.
فالمفهوم ـ أي الصّورة الذهنيّة ـ من «زيد» غير ما هو المفهوم من «الإنسان» إلاّ
أنّهما في الوجود واحد ، وهذا معنى المصداقيّة. فهذا مطلب. ومطلب آخر هو : إنّ
مفهوم «البعث» لا يستلزم «الانبعاث» لكن مصداقه يستلزمه.
فإذا كان الأمر
مصداقاً للبعث ، فللبعث وجودٌ ، ويستلزم وجود الانبعاث ، ووجوده يستلزم القدرة ...
وعليه ، فالبعث الإمكاني ـ بمعنى وجود المقتضي وعدم موانع الطاعة ـ يستلزم
الانبعاث الإمكاني ... ولو لا القدرة لما تحقّق الانبعاث ... فانفكاك الانبعاث عن
القدرة غير معقول ... فتكون من شرائط التكليف ، إمّا بحكم العقل وامّا باقتضاء نفس
الخطاب.
فظهر سقوط ما ذهب
إليه السيّد المحقّق الخوئي.
المختار
وأنّ الحق عدم
تماميّة التمسّك بإطلاق المادّة ومتعلّق الأمر ، لكون المتعلّق مقيّداً عقلاً
بالقدرة ، إذ الحكم العقلي هنا ـ سواء على مبنى المحقّق الثاني أو المحقّق
النائيني ـ يصلح لأن يعتمد عليه المولى ويكتفي به إن كان غرضه هو المقيّد ، فلا
كاشف عن الملاك.
أقول
: وهذا الذي ذكر ـ أعني
صلاحيّة ذلك لأن يعتمد عليه المولى ـ موجود في كلمات السيّد الخوئي أيضاً في (تعاليقه)
.
__________________
الطريق الثاني للكشف عن الملاك
وأمّا الطريق
الثاني للكشف عن الملاك ، الذي جاء به صاحب الكفاية ، فهذا توضيحه :
إنّ الشيء قد يكون
متعلّقاً للأمر بنفسه وقد يكون متعلّقاً له لكونه مصداقاً للطبيعة المأمور بها ،
فالأوّل : كالصّلاة في المسجد ، فيما لو أُمر بالصّلاة فيه ، والثاني : كالصّلاة
فيما لو قال : «صل».
وفي المقابل : ما
لا يكون متعلّقاً للأمر لا بنفسه ولا بكونه مصداقاً ، وهذا يكون على ثلاثة أنحاء :
الأوّل : ما خرج
عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها بالتخصيص اللفظي ، كقوله لا تكرم الفساق ،
المخرج لهم عن عموم أكرم العلماء.
والثاني : ما خرج
عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها بالتخصيص العقلي ، كموارد اجتماع الأمر والنهي
، حيث تخرج الصّلاة في الدار المغصوبة عن الطبيعة المأمور بها ، بحكم العقل بعدم
صلاحيّتها للمقربيّة.
والثالث : ما خرج
عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها مع تماميّة المقتضي ، لوجود المانع والمزاحم من
الفرديّة والمصداقيّة ، كالصّلاة في وقت الإزالة ، فإنّها تخرج عن الفرديّة
للصّلاة المأمور بها ، والمخرج ليس المخصّص اللفظي أو العقلي حتى يكشف عن عدم
الملاك ، بل الملاك موجود والمخرج هو عدم القدرة ، فإنّ القدرة دخيلة في توجّه
الخطاب ، وبدونها لا يتوجّه إلى المكلّف ، وعلى الجملة ، فإنّ المزاحمة مع الإزالة
الواجبة توجب سلب القدرة عن المكلّف ، فيمتنع تكليفه بالصّلاة مع وجود المقتضي لذلك
، بحيث لو لم يكن النهي الغيري مانعاً عن التكليف ، وكان الأمر بالشيء غير مقتضٍ
للنهي عن ضدّه
الخاص ، جاز
الإتيان بالصّلاة بقصد الملاك.
إشكالات المحقّق الإيرواني
وقد أورد عليه
المحقّق الإيرواني بوجوه :
الأوّل
: إنّ المفروض سقوط
الأمر على أثر المزاحمة مع الواجب الآخر ، فلو كانت المصلحة في نفس الأمر ، فلا
تبقى بعد سقوطه مصلحة حتى يُؤتى بالعمل بقصدها ، فلا يتم ما ذكره من أنّ الشيء قد
يكون متعلّقاً للأمر بنفسه.
والثاني
: إن ما ذكره إنما
يتم بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات في الواقعيات.
والثالث
: إنّه مع المزاحمة
لا تبقى مصلحة للأمر ، فلو كان هناك مصلحة لما انتفى الأمر من الشارع.
جواب
الأُستاذ عن هذه الإشكالات :
أمّا
الأوّل ، ففيه : إنّ مورد
الكلام هو الضدّ العبادي كالأمر بالصّلاة والأمر بالإزالة ، فلو سقط الأمر
بالصّلاة على أثر المزاحمة ما انتفت مصلحة الصّلاة. فغاية ما يرد على المحقّق
الخراساني أن كلامه أخصّ من المدّعى.
وأمّا
الثاني ، ففيه : إنّ صاحب
الكفاية يتكلّم هنا على مبنى العدليّة.
وأمّا
الثالث ، ففيه : إنّ
المقصود هو وجود المصلحة في متعلّق الأمر ، وكون الأمر ذا مصلحة هو لوجود المصلحة
في متعلّقه ، إلاّ أنّ عدم القدرة هو المانع عن الأمر.
فظهر ، اندفاع هذه
الإشكالات إلاّ الأوّل كما ذكرنا.
تقرير
آخر للإشكال والجواب عنه
وقد يقرّر الإشكال
على (الكفاية) بوجهٍ آخر وهو : إنّ الأمر هو الكاشف عن الملاك كشف المعلول على
العلّة ، فإذا سقط على أثر المزاحمة انتفى الكاشف عن الملاك ، وحينئذٍ ، كما يحتمل
أن يكون سقوط الأمر بسبب وجود المانع وهو عدم القدرة ، كذلك يحتمل أن يكون بسبب
عدم المقتضي وهو الملاك ، ومع هذا الاحتمال كيف يقطع بوجود الملاك حتى يُقصد في
العبادة؟
لكنّه يندفع :
بأنّ مفروض الكلام عدم وجود المخصّص اللفظي والعقلي في المقام ، وعليه ، فإنّه لا
مانع من عموم الأمر إلاّ الأمر بالأهمّ المزاحم له ... فكان المانع هو المزاحم
الموجب لعدم القدرة على الامتثال ، مع العلم بعدم دخل القدرة في الملاك ، فمع لحاظ
جميع هذه الجهات ، ينحصر المانع بعدم القدرة على الامتثال مع وجود الملاك ، فلا
مجال لهذا الإشكال.
الطريق الثالث للكشف عن الملاك
وأمّا الطريق
الثالث ، فهو طريق الدلالة الالتزامية ، وتقريب ذلك ضمن أُمور :
الأوّل
: إنّ الأحكام
تابعة للملاكات ومعلولة لها ، كما هو مسلك العدليّة.
والثاني
: إنّ الأمر إذا
تعلّق بشيء كان له مدلولان ، أحدهما : المدلول المطابقي وهو وجوب ذلك الشيء.
والآخر : المدلول الالتزامي ، وهو كون الوجوب ذا ملاك.
والثالث
: إنّه إذا سقط
المدلول المطابقي على أثر وقوع المزاحمة بين هذا الأمر وأمرٍ آخر أهم منه ،
فالمدلول الالتزامي ـ وهو الدلالة على وجود الملاك ـ باقٍ.
أمّا الأمر الأوّل
، فهو واضح.
__________________
وأمّا الأمر
الثاني ، فكذلك.
هل تبقى الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية؟
إنّما الكلام في
الأمر الثالث ، وهو بقاء الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة ، باقتضاء
الخطاب كما عليه الميرزا ، أو بحكم العقل من قبح تكليف العاجز كما عليه المشهور ،
وقد ذكروا في بيان بقائها ما حاصله : إنّ ذلك مقتضى التفكيك في الحجية وأنّ
الضرورات تتقدّر بقدرها ، فأمّا الدلالة المطابقيّة فقد سقطت لأن امتثالها كان
مشروطاً بالقدرة فإذا انتفت سقطت ، وأمّا الملاك فغير مقيّد بالقدرة ولا دخل لها
فيه ، فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزاميّة ....
هذا ، وقد نصّ على
بقاء الدلالة الالتزاميّة مع سقوط المطابقيّة عدّة من الأكابر كصاحب الكفاية
والميرزا والعراقي ، وبنوا على هذا المبنى واستنتجوا منه في موارد ... كما في باب
التعارض بين الخبرين حيث قال الميرزا بدلالتهما على نفي الثالث بالالتزام ، فلو
دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ، ثبت عدم الاستحباب.
وقال آخرون : بعدم
معقوليّة بقاء الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة ، وعليه فلا كشف عن الملاك
بهذا الطريق ... وقد أورد على المبنى الأوّل بعدّة نقوض :
نقوض المحاضرات والجواب عنها
النقض
الأوّل : إنّه لو قامت
البيّنة على ملاقاة الشيء للبول مثلاً ، فهنا دلالتان : الملاقاة للبول وهي
الدلالة المطابقيّة ، ونجاسة الملاقي وهي الدلالة الالتزاميّة. فإن انكشف كذب
البيّنة سقطت الدلالة المطابقيّة كما هو واضح ، فهل تبقى الدلالة الالتزاميّة؟
مقتضى القول بعدم التبعيّة بقاؤها ، وهو باطل بالضرورة
من الفقه.
لكنْ يمكن دفع
النقض ، بأنّ الشرط لبقاء الدلالة الالتزاميّة ـ عند القائلين به ـ هو بقاء
الموضوع لهذه الدّلالة ، والموضوع فيها في المثال هو النجاسة وانتفاؤها مقطوع به
عندهم ، فمثل هذا المورد خارج عن البحث.
النقض
الثاني : لو كانت الدار ـ مثلاً
ـ في يد زيد ، فقامت بيّنة على أنّها لعمرو وأُخرى على أنّها لبكر ، وقع التعارض
بينهما ، لكنهما متّفقتان على أنّها ليست لزيد ذي اليد ، فإن قلنا بالتبعيّة ،
سقطت الدلالتان وبقيت الدار لزيد ذي اليد ، وإن قلنا بعدم التبعيّة ، كانت النتيجة
عدم كونها لزيد ، فهي مجهولة المالك. وهذا ما لا يلتزم به أحد.
وفيه
: إنّه لا بدّ هنا
من مراجعة النصوص الواردة في المسألة ، وعليه مشى صاحب النقض في كتابه مباني تكملة
المنهاج.
والحاصل : إنّ المرجع هنا
خبر إسحاق بن عمار وخبر غياث بن إبراهيم ، ومقتضى الجمع بينهما : إنّ زيداً ذا
اليد ، إن اعترف لأحدهما المعيّن ، دار أمر الملكيّة بينه ـ المعترف له ـ وبين
طرفه ، ويقع النزاع بينهما ، وإن اعترف لكليهما خرج هو عن الملكيّة وتقاسما الدار
، وإن لم يعترف لأحدهما ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر انتقلت الدار إلى الحالف ،
وإن حلفا أو نكلا تناصفاها .
وتلخّص
: عدم ورود النقض.
النقض
الثالث : لو شهد شاهد واحد
على أنّ الدار التي بيد زيدٍ هي لعمرو ، وشهد آخر على أنّها لبكر ، فإنّ الشهادتين
ساقطتان على الحجيّة في مدلولهما
__________________
المطابقي ، بغض
النظر عن التعارض بينهما ، فهل يلتزم بمدلولهما الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد
ـ لكونهما متوافقين في ذلك ـ؟ كلاّ لا يمكن.
وفيه
: إنّ أصل المدلول
المطابقي هنا ليس بحجّةٍ ، لأن شهادة الواحد في الأملاك ليس بحجّةٍ بل لا بدّ من
ضمّ اليمين إليها. وعليه ، فلمّا كان أصل المدلول المطابقي بلا مقتضٍ ، فلا تصل
النوبة إلى البحث عن وجود أو عدم المدلول الالتزامي.
النقض
الرابع : لو قامت البيّنة
على أنّ الدار التي في يد زيدٍ هي لعمرو ، فأقرّ عمرو بأنّها ليست له ، فالبيّنة
تسقط من جهة إقرار عمرو ، وبذلك تسقط الدلالة المطابقيّة ، فهل يمكن الأخذ بالدلالة
الالتزاميّة وهو القول بعدم ملكية زيد؟ كلاّ.
وفيه
: إنّ اليد أمارة
الملكيّة ، وسقوطها يحتاج إلى دليل ، والبيّنة دليل تسقط بها أماريّة اليد ، وبعبارة أُخرى : فإنّ دليل حجيّة البيّنة يخصّص دليل حجيّة اليد ويتقدّم
عليه بالتخصيص ، ولكنْ هل هذا التخصيص والتقدّم مطلق يعمّ صورة تكذيب ذي اليد؟
كلاّ. وعليه ، فلا أثر لهذه البيّنة ولا يثبت بها شيء من الأساس ، فلا تصل النوبة
إلى البحث عن مدلولها الالتزامي.
الجواب الحلّي
وذهب الأُستاذ إلى
القول بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والسقوط ، وذكر
في مقام حلّ المسألة بعد الإجابة عن النقوض : إنّ لكلّ كلامٍ ثلاث دلالات :
فالدلالة
الأُولى : هي الدلالة
التصوّرية ، والمقصود منها دلالة اللفظ على معناه الموضوع له ، سواء التفت
المتكلّم إلى ذلك وقصده أو لا.
والدلالة
الثانية : هي الدلالة
التصديقيّة الأُولى ، وهي دلالة اللفظ على
الإرادة
الاستعماليّة ، بأن يصدّق بأنّ المتكلّم قد استعمل اللفظ في معناه.
والدلالة
الثالثة : هي الدلالة
التصديقيّة الثانية ، وهي دلالة اللفظ على الإرادة الجديّة ، بأن يكون المعنى
مقصوداً للمتكلّم جدّاً.
أمّا الدلالة
الأُولى ، فواضحة.
وأمّا الدلالة
الثانية ، فدليلها تعهّد المتكلّم باستعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها في
اللغة.
وأمّا الدلالة
الثالثة ، وهي حمل الكلام على معناه الجدّي ونسبة ذلك إلى المتكلّم ، فدليلها
السيرة العقلائيّة القائمة على كاشفية اللّفظ المستعمل في معناه عن المراد الجدّي
للمتكلّم. ولكنّ الكلام في حدّ هذه السّيرة ، فهل هي قائمة على كاشفيّة الدلالة
الالتزاميّة عن المراد الجدّي حتّى مع سقوط الدلالة المطابقيّة؟
الظاهر عدم تحقّق
هذا البناء من العقلاء ، ولا أقل من الشك ، ومقتضى القاعدة الأخذ بالقدر المتيقن
من السيرة ـ لكونها دليلاً لبيّاً ـ وهو صورة عدم سقوط الدلالة المطابقيّة عن
الحجيّة.
وتلخّص
: عدم تماميّة هذا
الطريق للكشف عن الملاك.
ويقع الكلام في :
الترتّب
فبعد الفراغ عن
سقوط الأمر بالصّلاة مع وجود الأمر بالإزالة ، لاستحالة الأمر بالضّدين ، وعن عدم
إمكان إحراز الملاك بأحد الطرق الثلاثة كي يُقصد وتتمُّ به عباديّة العمل ، تصل
النوبة إلى البحث عن الترتّب ، وأنّه لو عصى الأمر الأهمّ ـ وهو الأمر بالإزالة ـ هل
يثبت الأمر بالمهمّ وهو الأمر بالصّلاة ، فيؤتى بها بقصده ويكون عبادةً أو لا يثبت؟
والكلام تارةً :
في الواجبين الموسّعين ، ولا تزاحم بينهما ، لا في مقام الجعل ولا في مقام
الامتثال ، لأنّ الوقت يسع كلا الأمرين ويتحقّق امتثالهما معاً ، وأُخرى :
في الواجبين
المضيّقين ، كوجوب إنقاذ هذا الغريق وذاك ، وهو مورد التزاحم ، وثالثةً : فيما إذا
كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّق ، فهل هما كالمضيّقين ، كما دار أمر المكلّف بين
أداء الصّلاة في أوّل الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد؟
قال
في الكفاية
بعد كلامٍ له :
فقد ظهر أنّه لا
وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلاّ ملاك الأمر. نعم ، فيما إذا
كانت موسّعةً وكانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت ـ لا في تمامه ـ يمكن أن يقال :
إنّه حيث كان الأمر بها على حاله وإن صارت مضيّقةً بخروج ما زاحمه الأهم من
أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر ، فإنّه وإن كان
خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلاّ أنّه لما كان
__________________
وافياً بغرضها
كالباقي تحتها ، كان عقلاً مثله في الإتيان به في مقام الامتثال والإتيان به بداعي
ذاك الأمر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلاً.
ودعوى : إنّ الأمر
لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم
وإن كان من أفراد الطبيعة لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها. فاسدة ، فإنّه
إنّما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصاً لا مزاحمة ، فإنّه معها
وإن كان لا تعمّه الطبيعة المأمور بها إلاّ أنّه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان
تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً. وعلى كلّ حال ، فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام
الامتثال وإطاعة الأمر بها بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.
هذا على القول
بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع.
وأمّا بناءً على
تعلّقها بالأفراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى. فتأمّل.
وحاصل
كلامه هو : إنّ الأمر
بالصّلاة مثلاً قد تعلّق بالطبيعة ، والفرد المزاحَم بالأمر بالإزالة خارج من تحت
هذا الإطلاق ، لكنّ هذا الخروج تزاحمي وليس تخصيصيّاً ، فلو كان خروجه كذلك لم
يمكن الإتيان به بقصد الأمر بالطبيعة أو بقصد الملاك ، أمّا مع الخروج التزاحمي
فالإتيان به بقصد الأمر أو الملاك لا مانع منه ، إذ العقل لا يرى تفاوتاً بينه
وبين غيره من أفراد الطبيعة في الوفاء بالغرض.
فالفرد المزاحم
خارج عن الطبيعة بما هي مأمور بها ، إلاّ أنّ ذلك غير ضارٍّ ، لأنّه كغيره من
الأفراد وافٍ بالغرض من الأمر عند العقل بلا تفاوت.
أشكل
الأُستاذ : بأنّه إذا كان الفرد المزاحَم خارجاً من تحت الطبيعة ـ كما
صرّح بذلك ـ فإنّ الإطلاق غير شامل له ، بل يتحدّد بما سواه من الأفراد ، وحينئذٍ
، لا يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، والمفروض أنّ
الفرد
بنفسه لا أمر له ،
فبأيّ أمر يؤتى به في مقام الامتثال؟
وبالجملة ، فإنّ
نتيجة كلامه أنّ الفرد المزاحم غير مأمور به حتّى يمكن الإتيان به بقصد الأمر. نعم
، على القول بانطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم ، كما عليه المحقّق
الثاني ومن تبعه ، يكون مورداً للأمر فيمكن الإتيان به بقصده.
والمحقّق
الخراساني لم يذكر برهاناً على خروج الفرد المزاحم من تحت الطبيعة.
وأمّا الميرزا ،
فيرى التزاحم كذلك
، لكنْ ببيان آخر ، وهو :
إن تقييد خطاب
الواجب الموسّع بالفرد المزاحم غير معقول ، لأنّه يستلزم طلب الضدّين في آنٍ واحد
، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق كذلك ، لأنّ النسبة بين الإطلاق والتقييد
عنده نسبة العدم والملكة ، فلا يعقل الأمر بالصّلاة في أوّل الوقت مع وجود الأمر
بالإزالة ، فيقع بينهما التزاحم. هكذا في (المحاضرات) .
وببيان آخر ـ وهو
الأقرب إلى ما ذهب إليه من أنّ الإطلاق يتوجّه باقتضاء الخطاب إلى الحصّة المقدورة
، وأنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب وليس بحكم العقل ـ إنّ الأمر بالصّلاة
متوجّه من أصله إلى الحصّة المقدورة منها ، فإطلاق «صلّ» من أوّل الأمر غير شامل
للفرد المزاحم منها للإزالة ، فسواء كانت النسبة بين الإطلاق والتقييد هي العدم
والملكة أو التضاد ، يكون هناك تزاحم بين «صلّ» و «أزل النجاسة عن المسجد». فإنْ
صحّت الصّلاة المزاحمة عن طريق قصد الملاك ـ المنكشف بإطلاق المادّة أو الدلالة
الالتزاميّة ـ كما ذهب هو إلى ذلك ـ
__________________
فهو وإلاّ وصلت
النوبة إلى بحث الترتّب.
وكيف كان ، فلا
بدّ قبل الورود في البحث من ذكر ما يلي :
الأصل في الترتب هو المحقق الثاني
إنّ مبتكر بحث
الترتّب هو المحقّق الثاني في (جامع المقاصد) ، ثمّ تبعه الشيخ جعفر في كشف الغطاء
ثمّ حقّقه الميرزا الشيرازي ، ثمّ شيّد أركانه الأعلام الثلاثة.
وذهب المحقّق
الخراساني إلى استحالة الترتّب ، ونسبه في المحاضرات إلى الشيخ الأعظم ، إلاّ أنّ
الأُستاذ ذكر أنّ كلمات الشيخ مختلفة ، وسيأتي.
ثمّ إنّ هذا البحث
عقلي محض ، ولا دخل للّفظ فيه ، وهو يدور بين الإمكان والاستحالة ، ومجرّد الإمكان
كافٍ للوقوع بلا حاجةٍ إلى دليلٍ آخر.
كلام
المحقّق الثاني
ذكر العلاّمة في (القواعد)
: أنّه إن كان مديناً بدينٍ ، وكان الدّائن يطالبه به وهو في أوّل الوقت ، فلو
صلّى بطلت صلاته. وكذا المدين بالخمس والزكاة.
فقال المحقّق
الثاني بشرحه : مبنى المسألة أنّ أداء الدين بعد الطلب واجب فوري ، وكذا أداء
الخمس والزكاة ، وحينئذٍ ، يكون الأمر بأداء الدّين ناهياً عن الضدّ وهو الصّلاة ،
والنهي عن العبادة موجب للفساد.
ثمّ أشكل : بأن
الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ الخاص ، والصّلاة ضدّ خاصٌ لأداء الدّين.
قال :
فإن قيل : إن
الترك ضدّ عامٌّ يتحقّق بالصّلاة التي هي ضد خاصّ. فأجاب عن ذلك ، ثمّ أشكل بإشكال
آخر وأجاب عنه ، إلى أن قال :
إن قيل : إنّ
الأمر بالصّلاة مع فرض فوريّة أداء الدّين يستلزم التكليف بما
لا يطاق ، لكونهما
ضدّين.
فأجاب : بعدم لزوم
ذلك ، لأنّ الصّلاة واجب موسّع ، والأمر بأداء الدين أو الخمس والزكاة فوري ، وله
الأمر بهما معاً ، بأن يكون مأموراً بأداء الدين ، فإن عصى أتى بالصّلاة.
ثمّ نقض بما لو
كانت الصّلاة في آخر الوقت ، فيقع التزاحم بين المضيّقين لكنّ الحكم صحّة الصلاة ،
لأن أحد الواجبين مشروط بمعصية الواجب الآخر.
ونقض على العلاّمة
بمن خالف الترتيب في واجبات الحج ، حيث يحكم بصحّة العمل ، ولا وجه لذلك إلاّ
الترتّب.
قال : وإنّ هذا
الأصل إن لم يتم يبطل كثير من أعمال الناس ، وإن كان مقتضى الاحتياط ما ذكره العلاّمة
من البطلان .
كلام كاشف الغطاء
وتعرّض الشيخ
الكبير في (كاشف الغطاء) للترتّب فقال : إنّه يمكن للشارع وللمولى المطاع أنْ يأمر
بواجب ، ثمّ يأمر بآخر على فرض عصيان الأوّل.
قال : إنّه في
مسألة الجهر والإخفات ، لو جهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، يصحّ العمل. للقاعدة.
قال : ومع عدم الالتزام بهذه القاعدة يلزم بطلان عبادات الناس كثيراً ... .
كلام الشيخ الأعظم
واختلفت كلمات
الشيخ الأعظم ، فالمستفاد من كلامه في بعض المباحث استحالة الترتّب ، وظاهر كلامه
في رسالة التعادل والتراجيح من (فرائد الأُصول) ،
__________________
عند البحث عن
الأصل في الخبرين المتعارضين بناءً على السببيّة هو الإمكان ، فأفاد ما حاصله : أنّه لمّا كان نتيجة القول بالسببيّة تحقّق المصلحة فيما قامت عليه الأمارة
، فإنّه يكون حال الخبرين المتعارضين حال الواجبين المتزاحمين ، فيكونان مجرى
قاعدة الترتّب حتّى في صورة أهميّة أحدهما من الآخر ، قال : إنّ التكليف واقع
بكليهما ولكلٍّ منهما ملاك الوجوب ، لكنّ القدرة على امتثال كلٍّ منهما تحقّق في
ظرف ترك الآخر ، وإذا تحقّقت القدرة حكم العقل بالامتثال.
هذا محصّل كلامه ،
ومن وجود لفظة «القدرة» في عبارته يستكشف أنّ المانع عن الواجب الآخر هو العجز ،
فالعقل حاكم بلزوم الامتثال في كلّ فردٍ قد تحقّقت القدرة عليه منهما.
ثمّ ذكر : إنّ هذه
القاعدة جارية في جميع موارد الواجبين المتزاحمين.
ومن الواضح : إنّ
مقتضى تعليقه الأمر على القدرة ، فإنّه مع ترك الأهمّ تكون القدرة موجودة بالنسبة
إلى المهم ، هو الالتزام بالترتّب.
ومن هنا قال
الميرزا : ومن الغريب أنّ العلاّمة الأنصاري قدسسره مع إنكاره الترتب وبنائه على سقوط أصل خطاب المهم دون
إطلاقه ، ذهب في تعارض الخبرين ـ بناءً على السببيّة ـ إلى سقوط إطلاق وجوب العمل
على طبق كلٍّ من الخبرين ... .
استحالة الترتّب ببيان الكفاية
وذكر في (الكفاية)
نظرية القائلين بالترتّب بنحوين فقال : «إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر
بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان وعدم إطاعة
__________________
الأمر بالشيء بنحو
الشرط المتأخّر أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوى أنّه
لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدين كذلك ، أي : بأنْ يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً
والأمر بغيره معلّقاً على عصيان ذاك الأمر أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع
كثيراً عرفاً» .
لكنّه يرى أن لا
طريق إلاّ على نحو الشرط المتأخّر ، بأن يكون المعصية على هذا النحو ، لأنّ
العبادة لا بدّ وأن تنشأ من الأمر ، فلو اشترط معصية الأهم بنحو الشرط المتقارن ،
فلا بدّ وأن تتحقّق بفعل المهم ، فلم ينشأ فعل المهم من الأمر به ، لأن المفروض أن
لا أمر به قبل معصية الأهم ، أمّا لو تأخّرت المعصية عن الأمر ، كان فعل المهمّ
ناشئاً عن الأمر به ، وأمّا العزم فلا تتحقّق به المعصية.
فقد قرّب صاحب
الكفاية النظريّة بأنّه : لو كان الشرط هو العزم على المعصية فالمفروض عدم تحقّق
المعصية ، فالأمر بالأهم على حاله بنحو الإطلاق ، والأمر بالمهمّ موجود مشروطاً ،
ومع اشتراط العزم على المعصية وتأخّرها ، يكون فعل الضدّ ـ وهو المهم ـ ناشئاً من
الأمر المتعلّق به والعزم على ترك الأهم. أمّا مع الاشتراط بالعصيان ، فيعتبر أن
يكون بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه ترك الأهم وتركه في مرتبةٍ واحدةٍ مع فعل المهم
، فلمّا كان العصيان شرطاً للأمر بالمهم ، وقع فعل المهم في مرتبةٍ متقدّمة على
الأمر به ، فيكون فرض العصيان بنحو الشرط المتأخّر.
وعلى أيّ حالٍ ،
فقد أجاب عن هذا التقريب : بأنّ الأمر بالضدّين وطلبهما محال ، سواء كان التضادّ
بالذات أو بالعرض ، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعي جعل الدّاعي ، ومع وجود التضادّ
بين الشيئين كيف يتحقّق الداعي بجعل الداعي؟
__________________
وفيما نحن فيه :
كلّ طلبٍ مشروط بالقدرة على متعلّقه ـ على مبنى المشهور أو الميرزا ـ وإذ لا قدرة
على الضدّين فطلبهما محال.
يقول
: «ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرضٍ واحدٍ آتٍ في
طلبهما كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما. إلاّ أنّه كان
في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعليّة الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم
سقوطه بعدُ بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعليّة الأمر
بغيره أيضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً».
يعني
: إنّه في صورة
التضادّ بالذات ، يطارد كلٌّ من الضدّين الآخر ، وفي صورة التضادّ بالعرض ـ وهو
صورة الاشتراط ـ تكون المطاردة من طرفٍ واحد ، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ ، أي إنّه
لا بشرط بالنسبة إلى المهم ، وهذا الأمر مقدَّم على متعلّقه ـ تقدّم العلّة على
المعلول ـ فهو مقدّم على عصيانه ، لأنّ الإطاعة والعصيان في مرتبةٍ واحدة ، فكان
الأمر بالأهمّ مقدّماً على إطاعة الأهم وعصيانه ، لكن العصيان شرط للأمر بالمهمّ ،
وكلّ شرط متقدّم على المشروط ، فيكون الأمر بالأهمّ وعصيانه مقدّماً على الأمر
بالمهمّ بمرتبتين ، وعليه ، فلا يمكن للأمر بالمهمّ أن يطارد الأمر بالأهم ، فيكون
الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع.
وهو أيضاً موجود
في مرتبة إطاعة الأمر بالأهم وعصيانه ، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم في هذه المرتبة
حتى يطارد الأمر بالأهم ، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ينشأ بعد مرتبة عصيان
الأمر بالأهم.
فإن عصي الأمر
بالأهم ، يصير الأمر بالمهم فعليّاً ، لتحقّق شرطه ، لكنّ المفروض أنّ الأمر
بالأهم مطلق ، فهو بإطلاقه يشمل هذه المرتبة ، فله اقتضاء الامتثال ، والمهمُّ له
اقتضاء الامتثال ، فتقع المطاردة في هذه المرتبة.
الترتّب ببيان الميرزا
وتصدّى الميرزا
لتصحيح الترتّب والردّ على إشكال الكفاية ، وذكر لذلك مقدّمات:
المقدّمة
الأُولى(في التحقيق عن منشأ الإشكال)
ففي المقدّمة
الأُولى حاول التحقيق عن منشأ الإشكال والمحذور في الأمرين المتضادّين بالعرض ،
وأنّه هل هو في أصل وجودهما أو في إطلاقهما؟
إن كان منشأ
الاستحالة وجود الأمرين فهو صحيح ، وأمّا إن كان المنشأ هو الإطلاق فيهما ،
فالمحذور مرتفع والترتّب ضروري. وبيان ذلك :
إنّه لو يكن بين
الواجبين تضادّ ، كما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق وأمر بالصوم كذلك ، كان نتيجة
الإطلاقين هو مطلوبية كليهما ، والجمع بينهما ممكن ولا تضاد. أمّا لو قُيد أحدهما
بأنْ قيل : صلّ فإن لم تصلّ فصُم ، كان نتيجة التقييد عدم مطلوبيّة كليهما ، فلو
صلّى وصام لم يكن ممتثلاً لأمرين ... هذا لو لم يكن تضادّ بين الواجبين.
فإن كانا متضادّين
كالصّلاة في أوّل الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الإطلاق فيهما يقتضي أن
يكون كلاهما مطلوبين. أمّا لو تقيّد أحدهما بترك الآخر وعصيانه ، فوقوعهما على وجه
المطلوبية محال.
والحاصل
: إن كلّ دليلٍ
يشتمل على أصل الطلب وعلى إطلاق الطلب ، والاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق
الدليلين لا من أصل وجودهما ، فلو حصل تقييد في أحد الطرفين لا يكونان مطلوبين ،
فلا يتحقّق طلب الضدّين وهو غير مقدور.
__________________
نتائج
هذه المقدمة
ونتيجة هذا المطلب
أُمور :
١ ـ إنّه إذا كان
المحذور في إطلاق الدليلين ، كان مقتضى القاعدة في سائر موارد التضاد سقوط
الإطلاقين ـ بأن يقيّد الوجوب في كلّ من الدليلين بعدم الآخر ، إن لم يكن أحدهما
أهم من الآخر ـ وبقاء أصل الدليلين ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، وحينئذٍ ،
يكون المكلّف مخيّراً بينهما تخييراً عقليّاً. أمّا في صورة كون الدليلين بوجودهما
منشأً للمحذور ، كان مقتضى القاعدة سقوط كليهما من أصلهما ، وحينئذٍ ، يستكشف
العقل خطاباً شرعيّاً تخييرياً بين الأمرين.
٢ ـ إنّه عند ما
يكون المحذور في إطلاق كليهما ، فلا محالة يتقيّدان ويكون شرط كلّ منهما ترك الآخر
، فيجب إنقاذ هذا الغريق في حال ترك الآخر وكذلك العكس ، وحينئذ ، فلو ترك كليهما
فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً ، فيكون قد ارتكب معصيتين ويستحق عقابين ، لأنّه قد
خالف خطابين فعليين ، إذ الخطاب المشروط يكون فعليّاً بفعليّة شرطه ، وقد كان
الشرط في كلّ من الخطابين هنا ترك الآخر ، والقدرة على الجمع بين التركين حاصلة ،
بخلاف ما لو كان المحذور في أصل وجود الدليلين وفرض سقوطهما وتحقّق حكم تخييري كما
تقدّم ، فإنّه لو ترك كليهما فقد ترك واجباً واحداً ، فالمعصية واحدة والعقاب
واحد.
اشكال
الميرزا على الشيخ
٣ ـ إنّه بعد
تصوّر ما ذكر ، يصير الأصل عبارةً عن أنّه في كلّ متزاحمين لا بدّ من رفع اليد عن
منشأ المحذور ، وقد ظهر أنّه الإطلاق ، وعليه ، فالأصل في الخبرين المتعارضين ـ بناءً
على السببيّة ـ هو التخيير ، لأنّهما خطابان مشروط كلٌ
منهما بترك الآخر.
فيرد الإشكال على الشّيخ : بأنّه كان عليه الالتزام بسقوط الإطلاقين ـ لا أصل
الخطابين ـ إن لم يكن بينهما أهم ، وإن كان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق في
طرف.
نقد
الدفاع عن الشيخ
قال
الأُستاذ
والحق : ورود هذا
الإشكال على الشيخ. وما قد يقال في الدفاع عنه : من أنّ كلامه ـ حيث قال بصرف
القدرة في أحد الضدّين في حال عدم صرفها في الآخر ـ إنّما هو في مرحلة الامتثال ،
وكلامنا ـ في الترتّب ـ يتعلّق بمرحلة الجعل والتشريع ، فقد اختلط الأمر على
الميرزا ، لأن الشيخ قائل بالتزاحم والترتّب هناك لكونه في مقام الامتثال ، ولا
يقول به هنا لأنّه مقام الجعل. ففيه نظر من وجوه :
الأوّل
: إنّ الشيخ وإن
ذكر ذلك في مرحلة الامتثال ، لكنّه أضاف : بأنّ المطلب كذلك في كلّ متزاحمين
شرعيّين ، فالميرزا قد تدبّر في كلام الشيخ ، والمستشكل قد غفل عن هذه النكتة.
والثاني
: إنّ مرحلة
الامتثال ظلّ مقام الجعل والتشريع ، والامتثال فرع التكليف ، فيستحيل أن يتحقّق
الترتّب في مرحلة الامتثال ولا يتحقّق في مرحلة الجعل ، فلو لم يكن التكليف
ترتّبياً ، فالامتثال الترتّبي محال.
والثالث
: إنّ القواعد
العقليّة غير قابلة للتخصيص ، فإذا حكم العقل بالترتّب في مرحلة الامتثال فهو حاكم
به في مرحلة الجعل.
٤ ـ قد ظهر أنّ
إشكال المحقّق الخراساني ناشئ من مطلوبيّة الجمع بين الضدّين من جهة إطلاق
الخطابين ، لكنّ الميرزا يقول : بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشكال ، لأنّه ضد الجمع
، بل يستحيل الجمع بناءً عليه ، لأنّه مع حصول الإزالة
فالصّلاة غير
مطلوبة ، وإنّما تكون مطلوبةً لو ترك الإزالة ، فتركها بشرط وجوب الصّلاة ، فأين
مطلوبيتهما في آنٍ واحد حتى يلزم التكليف بالمحال.
نعم ، مع إطلاق
الأمر بالأهم يكون الأمر به موجوداً في ظرف عصيانه ، وهو ظرف وجود الأمر بالمهم ،
لكنّ اجتماع الطلبين غير اجتماع المطلوبين ، وقد كان الإشكال هو لزوم اجتماع
المطلوبين لا الطلبين ، وبالترتّب ينتفي لزومه.
هذا تمام الكلام
في المقدّمة الأُولى.
المقدّمة
الثانية (في الجواب عن المطاردة)
إنّه يجاب عن
إشكال المطاردة بين إطلاق الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه وصيرورته
مطلقاً بذلك ، بناءً على ما صرّح به الميرزا من أنّ كلّ موضوع شرط وكلّ شرط موضوع
، فإنّه يكون للشرط ما كان للموضوع من الأثر ، وكما تتحقّق الفعليّة للحكم بوجود
الموضوع ، فإنّ فعليّة الشرط فعليّة الحكم ، فلا فرق بين «المستطيع يجب عليه الحج»
و «المكلّف إذا استطاع يجب عليه الحج» وعلى هذا ، فكما لا يخرج الموضوع عن
الموضوعيّة قبل وجوده وبعد وجوده ، كذلك الشرط لا ينسلخ عن كونه شرطاً بعد تحقّقه
، وعليه ، لا يخرج المشروط عن الإناطة بالشرط ليكون مطلقاً بعد تحقّقه ، وإذ لا
يكون مطلقاً فلا تتحقّق المطاردة بين الحكمين.
الإشكال
على الميرزا
وقد أشكل على
الميرزا هنا بوجوه بعضها ناش من عدم التدبّر في كلامه وبعضها خارج عن البحث ، إلاّ
أن الإشكال الوارد من الأُستاذ يرجع إلى المناقشة في المبنى ، إذ يقول : بأنّ
الشرط إمّا متمّم لاقتضاء المقتضي وامّا متمّم لقابليّة القابل ، فيستحيل كون
الشرط موضوعاً للحكم ورجوع الموضوع إلى الشرط ،
وعلى الجملة ،
فإنّ المقتضي ـ وهو الموضوع ـ منشأ للأثر ، والشرط هو ما يساعد على تأثير المقتضي
أثره ، فكلّ من الموضوع والشرط جزء للعلّة التامّة ، ويستحيل رجوع أحد الأجزاء إلى
الجزء الآخر ... فهذا هو الإشكال على الميرزا رحمهالله.
لكن الميرزا يصرّح
: بأنّه ليس حكم الموضوع والشرط حكم أجزاء العلّة التكوينيّة ، بل الموضوع في
الأحكام الشرعية هو المكلّف ، وشرط التكليف هو البلوغ والعقل ، والحكم إرادة
المولى بحسب الملاكات. فليس البلوغ ـ مثلاً ـ متمّماً للاقتضاء أو لقابليّة المحلّ
القابل ، بل الملاكات هي التي تؤثر في إرادة المولى ، وهو يجعل الحكم ويعتبره عند
تحقّق الشرط ... فالإناطة التي كانت قبل تحقق الشرط موجودة بعد تحققه ، ولا يصير
الواجب المشروط بعد تحقق الشرط واجباً مطلقاً ، بل الحكم المشروط بعصيان الأهم
يبقى مشروطاً بعد تحقق العصيان أيضاً ... فالإشكال مندفع.
نعم ، لو كان
مراده أنّ كلّ شرط موضوع وكلّ موضوع شرط في جميع الآثار ، فهذا غير تام ، ففي باب
المفاهيم ـ مثلاً ـ لو كان كلّ شرط موضوعاً بلا فرق ، كان معنى قولك : «إن جاءك
زيد فأكرمه» : زيد الجائي إليك أكرمه ، ومعنى الآية : (إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) : الفاسق الجائي إليكم تبيّنوا عنه ، وحينئذٍ ، ينتفي
مفهوم الشرط ويرجع الكلام إلى مفهوم اللقب ، وهذا ليس بمرادٍ للميرزا. بل المراد
هو : إنّ الشرط والموضوع بمنزلة واحدةٍ في إناطة الحكم وتعليقه عليهما ، فكلّ حكم
منوط بالموضوع حدوثاً وبقاءً ، ومنوط بشرطه حدوثاً وبقاءً كذلك.
المقدمة
الثالثة (في دفع الإشكال على الميرزا)
والغرض منها دفع
ما يرد على الميرزا بناءً على مبنى الترتب وذلك :
إنه في الواجب
المضيّق يعتبر وجود الحكم قبل زمان امتثاله ، فوجوب
الصّوم لا بدّ من
تحقّقه قبل طلوع الفجر ، لأنه لو لم يكن الخطاب متقدّماً على الإمساك في أول الفجر
آناً ما ، فإمّا أن يكون المكلّف حين توجّه الخطاب إليه أوّل الفجر متلبّساً
بالإمساك أو غير متلبّس به ، وعلى كلا التقديرين يستحيل توجّهه إليه ، لأن طلب
الإمساك ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل ، كما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع
بين النقيضين ، وكلاهما محال. فلا بدّ من تقدّم الخطاب ـ ولو بآنٍ ما ـ على زمان
الامتثال والانبعاث ، ليكون الانبعاث عن ذلك الخطاب المقدّم عليه وامتثالاً له ...
فتكون النتيجة في بحثنا : إن وجوب المهم لا بدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم
، لكن امتثال الأمر بالمهم في مرتبةٍ واحدة مع عصيان الأمر الأهمّ ، فوجود الأمر
بالمهم لا بدّ وأن يكون في رتبة قبل عصيان الأهم.
وتوضيح أساس هذا
الإشكال هو :
إن البعث لا بدّ
وأن يكون مقدّماً على الانبعاث ، والأمر لا بدّ من تقدّمه على الامتثال ، والدليل
على ذلك أمران : أحدهما
: إن منشأ الامتثال
وموجب الانبعاث هو تصوّر ما يترتّب على مخالفته ثم التصديق بما تصوّره ، فهنالك
يحصل الامتثال ، ولو لا تقدّم الأمر على الامتثال كيف تتحقّق هذه القضايا؟ إذن :
لا بدّ من تقدّم الأمر على الامتثال زماناً ... وقد اعتمد على هذا البيان المحقق
الخراساني.
والثاني
: لو كان الأمر
مقارناً في الزمان للامتثال ولم يكن قبله ، فالمكلّف إمّا تارك وامّا فاعل ، فإن
كان فاعلاً ـ كما في مثال الإمساك ـ كان الأمر طلباً للحاصل ، وإن كان تاركاً ،
كان طلباً للفعل في آن الترك ، وهو طلب النقيض مع وجود النقيض له ، فهو طلب اجتماع
النقيضين.
فتلخّص
: ضرورة تقدّم
الأمر زماناً على الانبعاث.
ونتيجة
ذلك :
أولاً
: إذا كان الأمر
متقدّماً زماناً على الانبعاث ، كان زمان الوجوب مقدّماً على زمان الواجب ، فيلزم
الالتزام بالواجب المعلّق. والحال أنّ الميرزا ينكر الواجب المعلّق.
وثانياً
: إن امتثال الأمر
بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم ، وعصيان الأمر الأهم هو في آن امتثال الأمر بالمهم
ـ لأن عصيان الأهم يتحقق بامتثال المهم ، فهو يعصي الأمر بالإزالة بالإتيان
بالصّلاة ـ وإذا كان كذلك ، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر ، والميرزا ينكر الشرط
المتأخّر.
وتلخّص
: إن على الميرزا
أنْ يرفع اليد ، إمّا عن الترتب وامّا عن إنكار الواجب المعلّق والشرط المتأخّر.
جواب
الميرزا
وقد أجاب الميرزا
عن الإشكال بوجوه :
أولاً
: بالنقض ، فقال :
لو صحّ ذلك لصحّ في نظيره ، أعني به العلّة والمعلول التكوينيين ، بتقريب إن
المعلول لو كان موجوداً حين علّته لزم عليّتها للحاصل ، وإلاّ لزم كونها علةً
للمستحيل ، لأن تأثير العلّة في الشيء في ظرف عدمه اجتماع للنقيضين ، وكلاهما
مستحيل ، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زماناً يستلزم القول بلزوم تقدّم
العلّة التكوينية على معلولها زماناً أيضاً ، وهو واضح البطلان.
وثانياً
: بالحلّ في
المقامين : فإن المعلول أو الامتثال ، إنْ كان مفروض الوجود في نفسه حين وجود
العلّة أو الخطاب فيلزم ما ذكر من المحذور ، وأمّا إنْ كان فرض وجوده لا مع قطع
النظر عنهما ، بل لفرض وجود علّته أو لتحريك
الخطاب إليه ، فلا
يلزم من المقارنة الزمانيّة محذور أصلاً. وبالجملة : الامتثال بالإضافة إلى الخطاب
كالمعلول بالإضافة إلى علّته ، فلا مانع من مقارنته إيّاه زماناً ، فلا موجب لفرض
وجود الخطاب قبلاً ولو آناً ما.
هذا ، وقد نصّ
السيد الخوئي على متانة هذا الجواب.
وثالثاً
: إن المكلّف إن
كان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساك عليه عند الفجر ، كفى ذلك في إمكان تحقق
الامتثال منه حين الفجر ، فوجوده قبله لغو محض ، إذ المحرّك له حينئذٍ هو الخطاب
المقارن لتحقق متعلّقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، إذ لا يترتب عليه أثر في
تحقق الامتثال أصلاً. وأمّا إذا لم يكن المكلّف عالماً به قبل الفجر ، فوجود
الخطاب في نفس الأمر لا أثر له في تحقق الامتثال في ظرف العلم ، فيكون وجوده لغواً
أيضاً. ولأجل ما ذكرناه ـ من عدم كفاية وجود التكليف واقعاً في تحقق الامتثال من
المكلّف في ظرفه ، بل لا بدّ فيه من وصول التكليف إليه ـ ذهبنا إلى وجوب تعلّم
الأحكام قبل حصول شرائطها الدخيلة في فعليّتها ، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب على
الامتثال قد التبس عليه لزوم تقدّم العلم على الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب عليه.
رابعاً
: إن تقدّم الخطاب
على الامتثال ـ ولو آناً ما ـ يستلزم فعليّة الخطاب قبل وجود شرطه ، فلا بدّ من
الالتزام بالواجب المعلّق ، وكون الفعل المقيّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب
المتقدّم. وقد عرفت استحالته في محلّه.
خامساً
: النقض بالواجبات
الموسّعة ، فإنه لا إشكال في صحّة العبادات الموسّعة كالصّلاة مثلاً إذا وقعت في أول
وقتها تحقيقاً. والقول بلزوم تقدّم الخطاب على زمان الامتثال آناً ما في المضيّقات
، يستلزم القول بلزوم تقدّمه عليه في الموسّعات أيضاً ، إذ لا فرق في لزوم ذلك بين
وجوب مقارنة الامتثال لأوّل
الوقت كما في
المضيّقات وجوازها كما في الموسّعات ، مع أنهم لا يقولون بلزوم التقدّم فيها ،
فيكشف ذلك عن بطلان الالتزام به في المضيّقات أيضاً.
(قال) والغرض من
هذه المقدمة وإبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو : إثبات أن زمان شرط الأمر
بالأهمّ وزمان فعليّة خطابه وزمان امتثاله أو عصيانه ـ الذي هو شرط الأمر بالمهم ـ
كلّها متّحدة ، كما أنه الشأن في ذلك بالقياس إلى الأمر بالمهمّ وشرط فعليّته
وامتثاله أو عصيانه ، ولا تقدّم ولا تأخّر في جميع ما تقدّم بالزمان ، بل التقدّم
والتأخر بينها في الرتبة. وعليه يتفرّع دفع جملة من الإشكالات.
اشكال
المحقق الأصفهاني
وقد أشكل عليه
المحقق الأصفهاني : بأنّ ترتّب السقوط على فعليّة التكليف وتوجّهه لا يعقل
أن يكون بالرتبة ، لمناقضة الثبوت السقوط ، وأن الإطاعة ليست علةً للسقوط وكذلك
المعصية ، وإلاّ لزم عليّة الشيء لعدم نفسه في الأولى وتوقف تأثير الشيء على
تأثيره في الثانية ، بل بالإطاعة ينتهي أمد اقتضاء الأمر ، وبالمعصية في الجزء
الأول من الزمان يسقط الباقي عن القابليّة للفعل ، فلا يبقى مجال لتأثيره فيسقط
بسقوط علّته الباعثة على جعله.
دفاع
الأُستاذ
وقد دفع الأُستاذ
هذا الإشكال : بأنّا لم نجد في كلام الميرزا ما يفيد أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً
على السقوط ، نعم ، قال : ثبوته متقدّم رتبةً على عصيانه ، ومن الواضح أنّ العصيان
غير السقوط ، لأن الأمر حال العصيان موجود وهو متقدّم عليه رتبةً كما ذكر ، أمّا
سقوطه فهو بعد العصيان.
__________________
المقدمة الرابعة
(قال : وهي أهمّ
المقدّمات) :
إن انحفاظ الخطاب
في تقديرٍ ما إنما يكون بأحد وجوهٍ ثلاثة ... وحاصل كلامه :
إن الإطلاق ـ وكذا
التقييد ـ ينقسم إلى قسمين : فالأول
: ما كان الانقسام
فيه سابقاً على الخطاب ، كالانقسام إلى البالغ وغير البالغ ، فإنه محفوظ قبل وجود
الخطاب.
والقسم الثاني : ما كان الانقسام فيه متفرّعاً على الخطاب ، كالانقسام إلى العالم به والجاهل
به. ولمّا كان الانقسام الأول يقبل اللّحاظ ، ـ وأنّ الحاكم في ظرف الحكم يلحظه ،
فإمّا يعتبر البلوغ وامّا لا يعتبر فيطلق ـ فيسمّى بالإطلاق اللحاظي ، وأمّا
الانقسام الثاني فليس كذلك ، غير أنّ ملاك الحكم يمكن فيه التقييد بالعلم ـ مثلاً
ـ وإلاّ فالإطلاق ، فيسمّى بالإطلاق الذاتي والملاكي ، ولمّا كان الخطاب فيه غير
قابل للإطلاق والتقييد احتاج إلى دليل آخر ، وهذا ما يعبّر عنه بنتيجة الإطلاق ،
بخلاف الانقسام الأوّل ، فإن الإطلاق فيه بنفس الدليل الأوّل.
فهذان
وجهان لانحفاظ الخطاب
... وقد وقع الخلاف بين الأكابر هنا ، فالميرزا يقول بهذين الوجهين ، ومنهم من
يقول : بأنّ الإطلاق في جميع الموارد لحاظي.
والوجه
الثالث : ما كان الخطاب فيه محفوظاً ـ لا بالإطلاق اللّحاظي ولا
بالإطلاق الملاكي ـ باقتضاء نفس الخطاب ، مثل : وجود الوجوب في مرتبة الإطاعة
والمعصية ، فإنّه موجود مع فعل الواجب ومع تركه ، وهذا مقتضى نفس الخطاب.
ولا بدّ هنا من
الالتفات إلى أن فعل الواجب أو تركه ، يلحظ تارةً : بعنوان الفعل والترك وأُخرى :
بعنوان الطاعة والمعصية ، فإن كان بالعنوان الثاني فهو من
الانقسامات
اللاّحقة ، وإن كان بالأوّل فلا ، لأن الفعل والترك غير متفرّعين على وجود الواجب
، ولذا نبّه الميرزا على أن لا يتوهّم قابليّة الإطاعة والمعصية للإطلاق الملاكي ،
لكونهما من الانقسامات اللاّحقة ، فأفاد أنّه ليس كلّ ما كان من الانقسامات
اللاّحقة فهو قابل للإطلاق الملاكي ، بل لا بدّ من التفصيل ...
قال : إن الإطلاق
والتقييد بقسميهما ـ أعني بهما الملاكي واللّحاظي ـ مستحيلان في باب الإطاعة
والمعصية.
أمّا استحالة
التقييد : فلأن وجوب فعل لو كان مشروطاً بوجوده ، لاختصّ طلبه بتقدير وجوده خارجاً
، وهو طلب الحاصل ، ولو كان مشروطاً بعدمه ، لاختصّ طلبه بتقدير تركه ، وهو طلب
الجمع بين النقيضين ، فعلى كلا التقديرين يكون طلبه محالاً ، فلا يصح له أن يقول :
إن صلّيت وجبت عليك ، أو يقول : إن تركت الصّلاة وجبت عليك ، فلا الطلب أي الوجوب
يمكن تقييده ولا المطلوب وهو الواجب. هذا كلامه. لكنّ المحقق الاصفهاني جعل البحث
في تقييد المطلوب ... إلاّ أنّ تقييد الطلب فيه محذور ثالث أيضاً ، كما سنوضّحه
فيما بعد.
وأمّا استحالة
الإطلاق ، فقد ذكر له وجهين ، أحدهما : ما ذهب إليه من أن التقابل بين الإطلاق
والتقييد تقابل العدم والملكة. والثاني : ما ذكره من أنّ الإطلاق في قوّة التصريح
بكلا التقديرين ، فإن قوله : اعتق رقبةً وإن لم يكن معناه : اعتق رقبةً مؤمنة أو
كافرة ، لكنّه في قوّة ذلك ، فلو كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلى الفعل والترك لزم
محذور تحصيل الحاصل أو محذور اجتماع النقيضين.
قال
الأُستاذ :
فمن قال بأن
التقابل من قبيل التضاد لا يمكنه إثبات الاطلاق ، وكذا بناءً على أن الاطلاق ليس
في قوّة الجمع بين القيود والخصوصيات ... فظهر أن أساس هذه
المقدمة مبني على
هذه المباني ... وإلاّ فلا يتم الإطلاق ، وهذا هو إشكال السيد الخوئي في (التعليقة)
آخذاً من المحقق الأصفهاني.
ثم
قال الميرزا :
والفرق بين انحفاظ
الخطاب في هذا القسم وانحفاظه في القسمين السابقين ، إنما هو من جهة أن انحفاظه في
هذا القسم لأجل أنه من لوازم ذاته ، حيث أن تعلّق الخطاب بشيء بذاته يقتضي وضع
تقديرٍ وهدم تقدير آخر ، سواء كان الخطاب وجوبيّاً أو تحريميّاً ، لأن الأول يقتضي
وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم ، كما أن الثاني يقتضي وضع تقدير العدم وهدم
تقدير الوجود.
وهذا بخلاف انحفاظ
الخطاب في القسمين السابقين ، فإنه من جهة التقييد بذلك التقدير أو الإطلاق
بالإضافة إليه ، وإلاّ فذات الخطاب بالحجّ أو الصّلاة مثلاً لا يقتضي انحفاظه في
تقدير الاستطاعة بنفسه.
قال :
ويترتب على الفرق
من هذه الجهة أمران :
الأول
: إن نسبة التقدير
المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه في القسمين الأوّلين ، نسبة العلّة إلى معلولها.
أما في موارد التقييد فهو واضح ، لما ذكرناه من أن مرجع كلّ تقدير كان الخطاب
مشروطاً به إلى كونه مأخوذاً في موضوعه ، وقد عرفت أنّ رتبة الموضوع من حكمه نظير
رتبة العلّة من معلولها. وأمّا في موارد الإطلاق ، فلما ذكرناه من اتّحاد مرتبة
الإطلاق والتقييد ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موردٍ قابل له ، فإذا كانت
مرتبة التقييد سابقة على مرتبة الحكم المقيّد به ، كانت مرتبة الإطلاق أيضاً كذلك.
وأمّا في هذا القسم ، فنسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه نسبة
المعلول إلى العلّة ، وذلك : لما مرّ من أن الخطاب
له نحو عليّة
بالإضافة إلى الامتثال ، فإذا كانت نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلّة إلى
معلولها ، كان الحال ذلك بالإضافة إلى العصيان أيضاً ، لأن مرتبة العصيان هي
بعينها مرتبة الامتثال.
الثاني
: إن نسبة التقدير
المحفوظ فيه الخطاب في القسمين الأوّلين بما أنها نسبة الموضوع إلى حكمه ، فلا
محالة لا يكون الخطاب متعرّضاً لحاله أصلاً وضعاً ورفعاً ، مثلاً : خطاب الحج لا
يكون متعرّضاً لحال الاستطاعة ، بأن يكون مقتضياً لوجودها أو عدمها ، وإنما هو
يتعرّض لحال الحجّ باقتضاء وجوده على تقدير وجود الاستطاعة بأسبابها المقتضية لها
، فلا نظر له إلى إيجادها وعدم إيجادها ، وهذا بخلاف التقدير المحفوظ فيه الخطاب
في هذا القسم ، فإنه بنفسه متعرّض لحال ذلك التقدير وضعاً ورفعاً ، إذ المفروض أنه
هو المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.
فتحصل
: إن انحفاظ الخطاب
في هذا القسم وفي القسمين الأوّلين من الجهتين المذكورتين على طرفي النقيض.
نتيجة
المقدمة
وتكون نتيجة هذه
المقدمة ـ التي هي أهمّ المقدّمات كما قال ـ : أنّ انحفاظ خطاب الأهم في ظرف
العصيان ، إنما هو من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدير وهدمه ، من دون أن يكون له نظر
إلى شيء آخر على هذا التقدير ، بخلاف خطاب المهم ، فإنه لا نظر له إلى وضع هذا
التقدير ورفعه ، لأنه شرطه وموضوعه ، وقد عرفت أنه يستحيل أن يقتضي الحكمُ وجودَ
موضوعه أو عدمه ، وإنما هو يقتضي وجود متعلّقه على تقدير عصيان خطاب الأهمّ ، فلا
الخطاب بالمهم يعقل أن يترقّى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاء لموضوعه ،
ولا الخطاب بالأهمّ
يعقل أن يتنزل
ويقتضي شيئاً آخر غير رفع موضوع خطاب المهم ، فكلا الخطابين وإن كانا محفوظين في
ظرف العصيان ومتّحدين زماناً إلاّ أنهما في مرتبتين طوليّتين.
توضيحه
:
إن الأمر بالأهمّ
مطلقٌ بالنسبة إلى الأمر بالمهمّ ، لكن الأمر بالمهمّ مقيّد بعصيان الأمر بالأهم ،
فليس للأمر بالأهمّ إلاّ الاقتضاء الذاتي لمتعلّقه أعني الإزالة ، لأنّ كلّ أمرٍ
إنّما يدعو إلى متعلّقه ، فهو يقتضي الطاعة بفعل الإزالة وهدم عصيان الأمر بها ،
ولا يخفى أنّ الاقتضاء غير التقييد ، فهو يقتضي الفعل والطاعة لا أنّه مقيّد
بالفعل والطاعة ، لأنّ تقييد الخطاب بالفعل أو المعصية محال ، لكونهما متفرّعين
على الخطاب.
أمّا الأمر بالمهم
، فهو مقيّد بعصيان الأمر بالأهم ، فكان عصيانه موضوع الأمر بالمهم ، وقد تقرّر أن
الحكم لا يتكفّل موضوعه ، بل يترتّب عليه عند تحقّقه ، فلا اقتضاء للأمر بالمهم
لتحقق موضوعه وهو عصيان الأمر بالأهم ، أمّا الأمر بالأهمّ فكان له اقتضاء الطاعة
وعدم العصيان ... وبعبارةٍ أُخرى :
إن الأمر بالمهم
يدعو إلى متعلّقه ـ وهو الصّلاة ـ عند تحقق شرطه وهو عصيان الأهم أي الإزالة ،
وإذا كان مشروطاً بذلك فهو في مرتبةٍ متأخرةٍ عن الشرط ، لكنّ الأمر بالأهمّ في
مرتبة متقدّمة ويقتضي عدم العصيان ، ....
فكان
الحاصل : وجود الاختلاف
الرتبي بين الأمرين وأنّ الأمر بالأهمّ متقدّم ، ووجود الاختلاف بينهما من حيث
المقتضى ، إذ الأمر بالأهم له اقتضاء بالنسبة إلى العصيان ويريد هدمه ، والأمر
بالمهم لا اقتضاء له بالنسبة إليه ، وإنما هو شرط له ويتحقق ـ الأمر بالمهم ـ عند
تحقّقه ....
وبعد هذا ... أين
يكون التمانع؟
تلخّص
:
إن المحقق
الخراساني يرى بأنّ محذور اجتماع الضدّين لا يرتفع بكون أحد الخطابين مطلقاً
والآخر مقيّداً ، فمع التنزّل عن كون عصيان الأمر بالأهم شرطاً للأمر بالمهم بنحو
الشرط المتأخّر ، اللاّزم منه تحقق التمانع من الطرفين ، يكون الطّرد من طرف الأمر
بالأهم كافياً للزوم المحذور ....
فأجاب المحقق
النائيني : بجعل الشرط شرطاً مقارناً لا متأخّراً ، وذكر أنّ الأمر بالأهم يدعو
إلى امتثال متعلّقه مطلقاً ، أي سواء كان في قباله أمر بالمهم أو لا ، لكن الأمر
بالمهم جاء مقارناً لعصيان الأمر بالأهم ومشروطاً به ، ولا تعرّض له لهذا الشرط لا
وضعاً ولا رفعاً ، فالأمر بالمهم غير طارد للأمر بالأهم ، كما أن الأمر بالأهم لا
تعرّض له للمهمّ أصلاً ، وإنما يدعو إلى متعلّقه كما تقدّم.
والحاصل
: إنّ الأمر
بالمهمّ لا يتكفّل شرطه ـ وهو عصيان الأمر بالأهمّ ـ فلا اقتضاء له بالنسبة إليه ،
والأمر بالأهم لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فلا اقتضاء له بالنسبة إلى متعلّق الأمر
بالمهم ، ولا نظر له إليه أبداً ، نعم ، لو كان مفاده أنك إن عصيت الأمر بالأهمّ
فلا تأت بمقتضى الأمر بالمهم ، لزم طلب الضدّين ... ولذا قال الميرزا : لا الأمر
بالمهم يترقى إلى الأمر بالأهم ، ولا الأمر بالأهم يتنزل إلى الأمر بالمهم.
وبعبارة
أُخرى : التمانع ليس في
مرتبة الملاك والغرض من الخطابين ، وليس في مرتبة الإرادة والشوق إليهما ـ فإن
الإرادة تابعة للملاك والغرض ـ وليس في مرتبة الإنشاء ، لأنه ـ سواء كان الاعتبار
والإبراز أو إيجاد الطلب ـ لا محذور في الإنشاءين ، وتبقى مرحلة اقتضاء الخطابين ،
ووجود التمانع في هذه المرحلة ليس
بين نفس
الاقتضاءين ، بل هو ـ إن كان ـ في المقتضَيَين ، فإن قال «صلّ» وقال «أزل النجاسة
عن المسجد» وطلب تحقّقهما في آن واحد بلا اشتراطٍ ، لزم محذور الجمع بين الضدّين ،
والتكليف بما لا يطاق ، أمّا لو قال : «أزل النجاسة» ثم قال : «صلّ إن عصيت
الإزالة» كان المقتضى للأمر الأوّل إطاعته وعدم معصيته ، والمقتضى للثاني : وجوب
الصّلاة على تقدير عصيان الأوّل ، ولا تمانع بين هذين المقتضَيَين ، لأن الأمر
بالإزالة إنما ينهى عن عصيانه ولا تعرّض له للصّلاة ، والأمر بالصّلاة مفاده :
وجوب إطاعته على تقدير عصيان الأمر بالإزالة ....
إذن : لا تمانع
بينهما في مرحلةٍ من المراحل.
وببيان
آخر : إن المفروض أن
القدرة واحدة ، والقدرة الواحدة لا تكفي لامتثال الخطابين معاً إن كانا مطلقين ،
أمّا لو كان أحدهما مشروطاً ، فلا تمانع بين المتعلّقين في جلب القدرة ، لأنّ
الأمر بالأهم يطالب بصرف القدرة فيه ، لكنّه ساكت عمّا لو عصي ، والأمر بالمهم
يطالب بصرف القدرة فيه في حال عصيان الأمر بالأهم ... فلا مشكلة.
والشيخ الأعظم
لمّا جعل المشكلة في القدرة ، وأنه لا توجد قدرتان في المتزاحمين بناءً على
السببيّة ، فمع تقييد كلٍّ منهما بعدم صرفها في الآخر يتم التخيير. فأشكل عليه
الميرزا بأنه : مع عدم صرف القدرة في الأهم لا بدّ من صرفها في المهم ، وإلاّ يلزم
تفويت مصلحة ملزمة مع القدرة على استيفائها ، وهذا هو الترتب.
إشكال
المحقق الأصفهاني
وقد أورد المحقق
الأصفهاني على المقدمة الرابعة بأُمور ، نتعرّض لما
__________________
يتعلّق منها
بالموضوع ، وهو اشكالان :
الإشكال
الأول وهو ذو جهتين :
إحداهما
: إن الميرزا جعل
محذور الترتب لزوم تحصيل الحاصل ، ولزوم الجمع بين النقيضين في مورد تقييد المطلوب
، والحال أن البحث في الترتب هو في تقييد الطلب لا المطلوب.
قال
الأُستاذ :
هذا الإشكال وارد
على الميرزا بالنظر إلى كلامه في الدورة الأولى كما في (فوائد الأُصول) تقرير
المحقق الكاظمي . أمّا في الثانية ـ كما في (أجود التقريرات) ـ فقد طرح
البحث في تقييد الطلب.
الثانية
: إن المحذور ليس
الأمرين المذكورين ، بل هو استلزام الترتّب عليّة الشيء لنفسه ، وتقييد العلّة
بعدم معلولها ، فهذان هما المحذوران ، لا ما ذكرهما الميرزا. وتوضيحه :
إن الميرزا يقول :
بأنّ الطلب إنْ تقيّد بوجود متعلّقه لزم تحصيل الحاصل ، وإن تقيّد بعدمه وتركه ،
كان الطلب مع التقييد بترك المتعلّق جمعاً بين النقيضين.
فقال الأصفهاني :
بأنّ القيد وجود ناشئ من الطلب نفسه ، فالمحذور هو كون الشيء علّةً لنفسه ، لأنّ
كلّ قيدٍ وشرط فهو علّة للمقيّد والمشروط ، فلو كان وجود الصّلاة شرطاً لوجوبها ـ والوجوب
علّة وجودها وتحققها في الخارج ـ كان وجودها معلولاً ، من جهة أن العلّة وجوبها ،
وعلّةً ، لفرض كونها شرطاً لوجوبها.
إذن ، قد أصبح
الشيء علّةً لنفسه ، وهذا محذور التقييد ، لا تحصيل الحاصل. هذا من جهة أخذ
الوجود.
__________________
ولو كان ترك
الصّلاة شرطاً للوجوب ـ والوجوب علّة لوجودها ـ كان عدم الصّلاة عدم المعلول ،
لكنّ هذا العدم قد فرض جعله شرطاً للأمر والوجوب الذي هو علّة لوجود الصّلاة ،
فاللاّزم أن يكون عدم المعلول علّة وشرطاً لوجود علّة هذا المعلول. ثم أمر المحقق
الأصفهاني بالتدبّر فإنه حقيق به.
قال
الأُستاذ
لم يكن الميرزا في
مقام استقصاء جميع المحاذير ، هذا أوّلاً. وثانياً : إن ما ذكره ـ من عدم لزوم
تحصيل الحاصل هنا ، بل المحذور عليّة الشيء لنفسه ، لأنّ الوجود المأخوذ شرطاً أو
قيداً وجود معلول لنفس هذا الوجوب لا وجوب آخر ، ليلزم محذور تحصيل الحاصل ـ في
غير محلّه ، لأن الميرزا لم يقل بأنّ قيد الوجوب ناشئ من نفس هذا الوجوب ، بل قال
: بأنّ تقييد الوجوب واشتراطه بوجود المتعلّق تحصيل للحاصل ... فلا وجه لحصر
الإشكال بما ذكر المحقق الأصفهاني.
وعلى الجملة ، فإن
مقصود الميرزا هو أن تقييد وجوب الأهم بفعله محال ، وإذا استحال التقييد استحال
الإطلاق ، لكون النسبة بينهما عنده نسبة العدم والملكة. والمحقق الأصفهاني يرى
النسبة بينهما نسبة السلب والإيجاب بوجهٍ والعدم والملكة بوجه.
وتلخّص عدم ورود
هذا الإشكال.
الإشكال
الثاني وقد تبعه المحقق
الخوئي :
إن محذور لزوم
تحصيل الحاصل أو طلب النقيضين موجود في طرف التقييد بالوجود أو العدم ، أما في طرف
الإطلاق فلا ... لأنّ التقييد لحاظ الخصوصيّة وأخذها ، والإطلاق عبارة عن لحاظ
الخصوصيّة وعدم أخذها ، نعم ،
لو كان أخذ
الخصوصيّات وجمعها كان اللازم أحد المحذورين المذكورين ... وعليه ، فالإطلاق ممكن
، بل هو واجب ، لكون النسبة بينه وبين التقييد نسبة السلب والإيجاب.
وعليه ، فإن
اقتضاء الأمر بالأهم لفعل الأهم يكون بإطلاقه عند المحقق الأصفهاني ، لا باقتضاء
ذاته كما هو عند الميرزا ، ولا يخفى الفرق ، إذ على الأوّل يكون الاقتضاء مجعولاً
للشّارع ، وعلى الثاني فهو غير مستند إلى الشارع بل هو اقتضاء العليّة
والمعلوليّة.
قال
الأُستاذ
إن الفعل والترك
إن كانا من الانقسامات المتفرّعة على الخطاب ، أمكن التقييد بهما أو لحاظهما وجعل
الخطاب لا بشرط بالنسبة إليهما ، وهذا معنى الإطلاق ، وإن لم يكونا من الانقسامات
المتفرّعة عليه ، فلا يمكن التقييد بأحدهما ، فالإطلاق ضروري على مبنى المحقق
الأصفهاني ، لكون النسبة هي السلب والإيجاب.
ولمّا كان حقيقة
الإطلاق هو عدم الأخذ للخصوصيّة ، وجعل نفس الذات مركباً للحكم ، فلا محذور في
الإطلاق هنا ، وفاقاً للمحقق الأصفهاني وخلافاً للميرزا ....
وينبغي الالتفات
إلى أن الميرزا قد ذكر أن الأمر بالأهم موجود في حال العصيان إلاّ أنه بلا اقتضاءٍ
وداعويّة ، والمحقق الأصفهاني لم يتطرّق إلى هذه النكتة وكأنه موافق عليها.
المقدمة الخامسة (في
تشخيص محلّ الكلام في بحث الترتّب)
إن القول بالترتب
لا يترتب عليه محذور طلب الجمع بين الضدّين ـ كما
توهّم ـ فإنه إنما
يترتب على إطلاق الخطابين دون فعليّتهما. وبيان ذلك :
إن الشرط الذي
يترتّب عليه الخطاب ، إمّا أن لا يكون قابلاً للتصرّف الشرعي ، لخروجه عن اختيار
المكلّف بالكليّة ، كالزّوال بالنسبة إلى الصّلاة ، وامّا أن يكون قابلاً لذلك ،
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، فإن للشارع أن يتصرّف فيه بأن يوجب ـ مثلاً ـ أداء
الدين ، فيرتفع الاستطاعة بحكم الشارع ويسقط وجوب الحج.
ثم إن الشرط يكون
تارةً : شرطاً للحكم بحدوثه وأُخرى : ببقائه وثالثةً : بوجوده في برهةٍ من الزمان.
مثلاً : في باب الحضر والسفر قولان ، فقيل : الشرط للقصر هو السّفر ، ويكفي حدوثه
في أوّل الوقت ، فمن كان مسافراً في أول وقت الصّلاة وجب عليه القصر ، وإن كان
حاضراً في بلده في آخره. وقيل : لا يكفي الحدوث بل الشرط كونه مسافراً حتى آخر
الوقت.
ثم إنّ الموارد
تقبل التقسيم إلى قسمين بلحاظ حال المكلّف واختياره وينقلب الحكم بتبع ذلك ، كما
لو كان حاضراً فسافر أو العكس ، فإنّ الحكم الشّرعي ينقلب قصراً أو تماماً ، أمّا
في مثل الاستطاعة فلا خيار للمكلّف ، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبى.
والخطاب الشرعي
أيضاً ينقسم تارةً : إلى الخطاب الرافع للموضوع بنفسه ، فلا دخل لإطاعة الخطاب ،
وأُخرى : يكون الرافع له امتثال الخطاب وإطاعته ، كما في مسألة أرباح المكاسب ،
فإن الربح موضوع لوجوب الخمس ، فإن أوجب الشارع على المكلّف أداء ديون تلك السنة
من الأموال الحاصلة فيها ـ لا السنين الماضية ـ فإنّ نفس هذا الخطاب يرفع موضوع
الخمس.
هذا ، والمهم في
موارد الترتّب أن يكون رفع الموضوع بامتثال الخطاب ،
لا أن يكون أصل
وجود الخطاب رافعاً ـ كما تقدّم ـ فإن التزاحم ينتفي حينئذٍ ولا يبقى موضوع للترتب
، لأنه فرع التزاحم بين الخطابين ، فلا بدّ من وجوده حتى نرى هل يرتفع باشتراط
أحدهما بعصيان الآخر أو لا؟
ثم إن هنا قاعدةً
وهي : إنه لو حصل خطاب في موضوع خطابٍ آخر ، فإمّا أن يمكن اجتماع متعلّقي
الخطابين ، فلا بحث ، كما لو جاء في موضوع وجوب الصّلاة ، ـ وهو أوّل الفجر ـ وجوب
الصّوم أيضاً ، فيكون أوّل الفجر موضوعاً لكليهما ولا تمانع بينهما ، وامّا لا
يمكن ويقع التمانع ، فعلى الحاكم لحاظ الملاكين وتقديم الأهم وإلاّ فالتخيير.
فإن كان لكلٍّ من
المتعلّقين ملاك تام ووقع الإشكال في مرحلة الخطاب ، من حيث القدرة وعدمها عند
المكلّف على الامتثال ، كان أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله ، لفرض عدم
القدرة على امتثالهما معاً ، وبقطع النظر عن الامتثال يكون الموضوع باقياً ، إلاّ
أن القدرة الواحدة لا تفي لامتثال الحكمين. فإن لزم من الجمع بينهما طلب الجمع بين
الضدين ، فلا مناص من الأخذ بالأهم وينعدم الخطاب بالمهم ، أما إن كانا متساويين
ولا أهم في البين ، فالخطابان كلاهما ينعدمان ويستكشف خطاب واحد تخييري ، وإن لم
يلزم منهما طلب الجمع بين الضدّين ـ والمفروض وجود الملاك التام لكلّ منهما ـ وجب
وجودهما ... وهذا معنى قولهم : إن إمكان الترتّب مساوق لوجوبه.
إنما الكلام ـ كلّ
الكلام ـ في إثبات عدم لزوم الجمع. وقد أقام الميرزا ثلاثة براهين على ذلك.
وقد ذكر قبل
الورود في المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بين الضدّين ، فقال : بأنّ المنشأ لهذا
المحذور هو أحد أُمورٍ ثلاثة :
١ ـ أن يقيّد كلّ
من الخطابين بوجود الآخر ، بتقييد المطلوبين أحدهما بالآخر ، كأن يقول : تجب عليك
القراءة المقيّدة بالصّوم ، ويجب عليك الصّوم المقيّد بالقراءة ، أو بتقييد طلب
كلٍّ بطلب الآخر ، فوجوب القراءة في فرض وجود الصّوم ووجوب الصّوم في فرض وجود
القراءة.
فمن الواضح أن
تقييد كلٍّ منهما بالآخر يستلزم الجمع بينهما.
٢ ـ أن يقيّد
أحدهما بالآخر دون العكس ، كأن يقول : صم. ثم يقول : صلّ إن كنت صائماً. فيلزم
الجمع.
٣ ـ أن لا يقيّد
شيئاً منهما بل يجعلهما مطلقين ، فيقول : صم ، صلّ ، فكلّ منهما واجب سواء كان
الآخر موجوداً أو لا ، فيلزم الجمع في فرض وجودهما.
ومن الواضح
استحالة لزوم الجمع لو قيّد أحدهما بعدم الآخر ، كما لو قال : صم إن لم تقرأ.
وحينئذٍ ، فإن
الإشكال على الترتّب يندفع بإقامة البرهان على عدم لزوم الجمع ، لأن لزومه يكون
إمّا بإيجاب الجمع بعنوانه كأن يقول : اجمع بين كذا وكذا ، وامّا بإيجاب واقع
الجمع ، وذلك يكون بالأمر بكليهما على نحو الإطلاق ، فيلزم الجمع ، أمّا إذا لم
يكن هذا ولا ذاك فلا وجه للاستحالة ، والبرهان هو :
أولاً
: إنّ المفروض في
الترتب تقييد أحد الخطابين بعصيان الآخر ، فيكون وقوع أحدهما على صفة المطلوبيّة
بنحو القضيّة المنفصلة الحقيقيّة ، لأن الأمر بالأهم إمّا أن يمتثل في الخارج أو
لا؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم على صفة المطلوبيّة ، وإن لم يمتثل فبما أن
متعلّقه لم يوجد في الخارج ، يستحيل كونه مصداقاً للمطلوب ومعنوناً بعنوانه.
وبعبارة أُخرى :
إن حال الأهم لا يخلو عن أن يوجد خارجاً أو لا يوجد ، فإن
وجد ، كان هو
الواقع على صفة المطلوبيّة ولا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعني عصيان الأهم ، وإن
لم يوجد الأهم ووجد المهم ، كان هو الواقع على صفة المطلوبيّة ، وإن لم يوجد
المهمّ كذلك لم يقع شيء منهما على صفة المطلوبية من باب السّالبة بانتفاء الموضوع
... وعلى كلّ حال ، يستحيل وقوعهما معاً في الخارج على صفة المطلوبيّة ، فيستكشف
من ذلك عدم استلزام فعليّة طلبهما لطلب الجمع.
وتوضيحه
: إن خطاب المولى ب
«صلّ» مشتمل على نسبتين : نسبة طلبيّة بين المولى والصّلاة ، ونسبة تلبّسية هي بين
المكلّف والصّلاة ، ولا تنافي بين هاتين النسبتين ، فكأنه يقول للمكلّف : كن
فاعلاً للإزالة أو تجب عليك الصّلاة ، فالمولى آمر بالمهم ـ وهو الصّلاة ـ والمكلّف
فاعل للأهم ـ وهو الإزالة ـ فأين الاجتماع بين النسبتين؟ بل الاجتماع ضروري
الامتناع! لأنّ واقع الجمع هو في مطلوبيّة الأهم والمهم ـ المتضادّين ـ في زمانٍ
واحد ، لكنّ المفروض في الترتّب عدم اجتماع فاعليّة الأهم مع وجوب المهم ، لأنّه
لمّا يكون فاعلاً للأهم لا يكون مخاطباً بالمهم ، وعند ما يكون مخاطباً بالمهم
ويجب عليه ، لا يكون للأهم فاعليّة ، فهما ليسا مطلوبين في وقت واحد ليلزم طلب
الجمع بين الضدّين.
وثانياً
: إن القيد يكون تارةً
: قيداً للمطلوب كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ويكون تحصيله واجباً. وأُخرى :
قيداً للطلب وتحصيله غير واجب كالاستطاعة فإنه قيد لطلب الحجّ لا لنفس الحج.
وقيد الطلب لا
يكون قيداً للمطلوب.
وهنا : ترك الأهم
قيد لطلب المهم ـ وليس قيداً للمهم نفسه ـ إذ كان عصيان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب
المهم وهو الصّلاة ، فهي ليست بواجبة إلاّ عند ترك
الإزالة ،
فالنتيجة ضد إيجاب الجمع ... لأن إيجاب الجمع عبارة عن أن يكون المتضادّان متّصفين
بالمطلوبيّة ، ومع الالتفات إلى ما تقدّم يستحيل تحقق المطلوبيّة لهما معاً ، لأن
المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبيّة على ترك الأهم لا على وجوده ، فشرط
مطلوبيّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها ... وإلاّ لزم خلف الشرط ، كما أنه لا
يتصف المهم بالمطلوبيّة إلاّ مع عدم الأهم ، فلو اتّصف بها مع وجوده ، لزم وجود
الأهم وعدمه وهو اجتماع للنقيضين ... فإيجاب الجمع يستلزم الاستحالة من وجهين
أحدهما : لزوم الخلف ، والآخر : لزوم اجتماع النقيضين. وكلّما استلزم المحال فهو
محال.
قال
الأُستاذ :
في كلامه نقص لا
بدّ من تتميمه ، إذ للمنكر للترتب أن يقول : حاصل البرهان عدم مطلوبيّة المهم مع
وجود الأهم ، لكنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ ، وما ذكرتموه لا يثبت استحالة
مطلوبيّته. وبعبارة أُخرى : إن إطلاق الأهم يقتضي مطلوبيّته مع وجود المهم ، فيلزم
اجتماع الضدّين ويعود الإشكال ، وإن كان مندفعاً بالنظر إلى تقيّد المهم بعدم
الأهم.
وتتميم البرهان
يكون بالاستفادة ممّا ذكره الميرزا في المقدمات السابقة ، من أن مطلوبيّة المهم
إنّما هي في حال ترك الأهم ، إذ أصبح تركه موضوعاً لمطلوبيّة المهم ، وإذا تحقق
ترك الأهم تحقق مطلوبيّة المهم في ظرف عدم الأهم.
هذا تمام الكلام
في مطالب الميرزا في هذا المقام.
الترتّب ببيان الشيخ الحائري :
والشيخ عبد الكريم
الحائري ذكر في (الدرر) مستفيداً من المحقق السيّد
__________________
الفشاركي أربع
مقدّماتٍ ، وقد شارك الميرزا في بعض الخصوصيّات ، كقولهما بكون الأمر بالمهم
مقيّداً ـ خلافاً للمحقّق العراقي القائل بأنّه مطلق ، كما سيأتي ـ ونحن نتعرّض
للمقدّمتين الأولى والثانية ، وحاصل كلامه فيهما :
إن الإرادة
المتعلّقة بالعناوين تنقسم إلى قسمين ، فقد تكون مطلقةً لم يؤخذ فيها أيّ تقدير ،
بل الشيء يجب إيجاده بجميع مقدّماته ، كأن يريد إكرام زيد بلا قيدٍ ، فهذه إرادة مطلقة
تقتضي تحقّق الموضوع وهو مجيء زيد ليترتب عليه إكرامه. وقد تكون الإرادة على
تقديرٍ ، وجودي أو عدمي ، فتكون منوطةً بذلك التقدير ، فلو لم يتحقّق التقدير فلا
إرادة بالنسبة إليه ... وتنقسم هذه الإرادة إلى ثلاثة أقسام بحسب حصول التقدير
الذي أُنيطت به:
فتارةً : تتعلّق
بالشيء بعد حصول التقدير ، كتعلّقها بإكرام زيد على تقدير مجيئه. وثانيةً : تتعلّق
به عند حصوله ، كتعلّقها بالصوم عند الفجر. وثالثةً : تتعلّق به قبله ، كتعلّقها
بالخروج إلى استقبال زيد الذي سيصل إلى البلد بعد ساعات مثلاً.
ففي هذه الأقسام
تكون الإرادة منوطة بالتقدير ، فإذا علم به كان لها الفاعليّة ، كما لو علم بوقت
قدوم المسافر خرج إلى استقباله ، ولو علم بالفجر صام ، ولو علم بالمجيء أكرم ...
فكان للعلم بالتقدير دخل في فاعلية الإرادة وتأثيرها.
وهذه هي المقدمة
الأولى ... ونتيجتها في الترتب هو :
إنّ الإرادة
المتعلّقة بالأهم مطلقة وليس فيها تقدير ، والمتعلّقة بالمهم منوطة غير منوطة
بتقدير ترك الأهم ، وموجودة قبل حصول التقدير المذكور ، غير أنّ فاعليّتها متوقّفة
على حصوله. وعلى هذا ، فمورد الترتب في طرف الأهم من قبيل الإرادة المطلقة ، ومن
طرف المهم من قبيل الإرادة المنوطة ، فكما لا فاعليّة لإرادة الصّوم قبل طلوع
الفجر ، كذلك لا فاعليّة لإرادة الصّلاة قبل ترك إزالة النجاسة من
المسجد ، بل عند
تحقق تركها تتحقّق الفاعليّة بالنسبة إلى الأمر بالمهم.
قال
الأُستاذ :
وهذا بيانٌ آخر
لمطلب الميرزا ، غير أنه قال : بأنّ الأمر بالمهم لا تحقّق له ما لم يتحقق الشرط ـ
وهو ترك الأهم ـ فلا فعليّة له ولا فاعلية ، والحائري يقول بوجود الفعليّة له ،
وإنما الفاعليّة منوطة بترك الأهم.
وقد خالفا صاحب
الكفاية ، إذ جعل الترك شرطاً متأخّراً ، وقد جعلاه مقارناً ، غير أنّه عند
الميرزا هو شرط مقارن للفعليّة فما لم يتحقق فلا فعليّة ، وعند الحائري هو شرط
مقارن للفاعليّة فما لم يتحقق فلا فاعليّة ، أمّا الفعليّة فهي محققة قبل الشرط
للأمر بالمهم كما هي محقّقه للأمر بالأهم.
ثم ذكر الشيخ
الحائري في المقدّمة الثانية : إنه لمّا كانت الإرادة في المهم منوطةً بالتقدير ،
فإنه يستحيل تحقق الفاعليّة لها قبل تحقّقه ، فليس لها أي تأثير في تحرّك العبد
إلا بعد تحقق التقدير ، إذ لو فرض لها فاعليّة قبله للزم الخلف وهو محال.
قال
:
قد توافق الشيخ
الحائري والمحقق العراقي على أن حقيقة الواجب المشروط هي الإرادة المنوطة ، وقد
أخذا هذا من فكر السيد المحقّق الفشاركي ، والسرّ في الالتزام بذلك في الواجب
المشروط هو : إنه إذا قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، فهل قبل الزوال يوجد إيجابٌ
ووجوبٌ أو كلاهما يحصلان عند الزوال ، أو يحصل الإيجاب بهذا الإنشاء والوجوب عند
الزوال؟
فإن قلنا :
بحصولهما عند الزوال ، فالإنشاء قبله لغو. وإن قلنا : بحصول الإيجاب عند الإنشاء
والوجوب عند الزوال ، لزم التفكيك بين الإيجاب
والوجوب.
فتعيّن القول
بحصولهما عند الانشاء ... وهذا هو الواجب المشروط. لكن يرد عليه :
أوّلاً : إن هنا
إرادة قد أُنيطت بقيدٍ وتقديرٍ ، ومعنى الإناطة هو الابتناء والاشتراط ، فإن لم
يكن للقيد دخلٌ في الإرادة فهي مطلقة ولا إناطة ، وإن جعل دخل القيد في الفاعلية
فقط ، لزم أن تكون الإرادة مطلقةً كذلك. فليس الواجب مشروطاً بل هو مطلق ... نعم ،
للمحقق الحائري أن يقسّم الواجب المطلق إلى قسمين ، أحدهما : ما كانت للإرادة فيه
فعليّة بلا فاعليّة ، والآخر : ما كانت للإرادة فيه فعليّة وفاعليّة.
وثانياً : إنّ
شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب ، لأنّ شروط الوجوب لها دخل في الغرض من الحكم ،
فما لم يتحقق الشرط فلا غرض ، كالزوال بالنسبة إلى الصّلاة ، وشروط الواجب لها دخل
في فعليّة الغرض ، كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، إذ الغرض من الصّلاة موجود سواء
وجدت الطهارة أو لا ، لكنّ فعليّة الغرض موقوفة عليها.
وعلى ما ذكره من
تحقّق الإرادة وفعليتها في الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، يلزم تخلّف الإرادة
عن الغرض ، فكيف تتحقّق الإرادة والغرض غير حاصل لكونه مشروطاً بشرط غير حاصل ...
وبعبارة أُخرى : كيف تتحقّق الإرادة مع العلم بعدم تحقق الغرض والحال أنّ الإرادة
تابعة للغرض؟
إيراد
المحقق الأصفهاني وجوابه :
وأمّا إيراد
المحقق الأصفهاني : بأن تخلّف الإرادة عن المراد محال ، سواء كانت الإرادة
تكوينيّة أو تشريعيّة ، لأنّ الإرادة التكوينيّة هي الجزء الأخير للعلّة
التامّة ،
والتشريعيّة هي الجزء الأخير لإمكان البعث ، ولا يتخلّف إمكان البعث عن امكان
الانبعاث.
فقد أجاب الأُستاذ
عنه : بأنه يبتني على إنكار الواجب المعلّق وعدم تخلّف البعث التشريعي عن الانبعاث
، وقد تقدّم في محلّه إثبات الواجب المعلّق وإمكان التخلّف في التشريعيّات ... فمن
الممكن أن يكون الوجوب حاليّاً والواجب استقباليّاً.
الترتّب ببيان المحقق العراقي :
وقد جوّز المحقق
العراقي طلب الضدّين بنحو العرضيّة مضافاً إلى جواز ذلك بنحو
الترتب ، خلافاً للمحققين الآخرين ، إذ خصّوا ذلك بالترتب فقط ، ونحن نذكر محصّل
كلامه في كلتا الجهتين كما في (نهاية الأفكار) :
أمّا تصويره طلب
الضدّين على نحو العرضيّة ، فقد ذكر أنّ الأهم والمهم يُطلبان في عرض واحدٍ ـ وبلا
تقييد لا في الطلب ولا في المطلوب ـ إلاّ أنّ إيجاب الأهمّ تام ، وإيجاب المهمّ
ناقص.
والأصل في هذه
النظريّة هو المحقق صاحب الحاشية في تعريف الواجب التخييري ، فقد ذهب إلى أنّه أمر بالشيء مع النهي عن بعض أنحاء التروك ، في
قبال الواجب التعييني فهو الأمر بالشيء مع اقتضائه للنهي عن جميع أنحاء التروك ،
وذلك : لأن لكلّ وجوب تروكاً متعددةً بالنظر إلى مقدّماته وأضداده ، فالصّلاة
تنتفي بانتفاء الطهارة التي هي من شروطها ، وبوجود المزاحم ، فيكون وجود الصّلاة
موقوفاً على وجود شرائطها وعدم جميع الموانع لها ،
__________________
ويتعدّد عدمها
بعدد كلّ مقدمةٍ مقدمةٍ إذا عدمت ، وبعدد كلّ مزاحم مزاحم إذا وجد ... وعلى هذا ،
فالواجب المطلق ما انسدّ فيه جميع الأعدام ، ومقتضى تعلّق الطلب به هو سدّ أبواب
الأعدام كلّها. وكذلك الواجب التعييني ، فهو يقتضي سدّ التروك ، لأنّ ترك العتق
يتحقّق بترك الصوم وبفعل الصوم ، فإذا وجب العتق على نحو التعيين ، كان وجوبه
مقتضياً لانتفاء تركه مع فعل الصوم وانتفائه مع ترك الصوم. لكنه إذا وجب على نحو
التخييرية يسدّ باب تركه مع ترك الصوم لا مع فعله ، إذ له أن يصوم ولا يعتق ...
فهذا معنى أنّ الواجب التخييري هو الأمر بالشيء مع النهي عن بعض أنحاء تركه.
ونتيجة هذا
التحقيق في حقيقة الوجوب التخييري هو أن متعلّق الطلب فيه هو الحصّة الملازمة لترك
العدل ، فمتعلّق الطلب في العتق مثلاً هو الحصة الملازمة لترك الصوم والإطعام ،
دون الحصّة الملازمة لفعلهما. ومن هنا اتّخذ المحقق العراقي مصطلح الحصّة التوأمة.
وعلى ضوء ما تقدم
، قال هنا :
إنّ الضدّين إمّا
لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، وامّا لهما ثالث كالصّلاة والإزالة.
فإن كانا من قبيل
الأول ، فالتخيير الشرعي مستحيل بل هو تخيير عقلي من باب لابديّة أحد الأمرين ، إذ
التخيير الشرعي إنما يكون حيث يمكن ترك كلا الطرفين ولا يكون أحدهما قهري الحصول ،
فليس الحركة والسكون من موارده.
وإن كانا من قبيل
الثاني ، فالمجموع مقدور على تركه وليس شيء منه بقهريّ الحصول ، وحينئذ ، فالحكم
هو التخيير شرعاً ، لأن المفروض إمكان استيفاء الملاك بكلٍّ من الطرفين ، فمع أن
ملاك الصّوم يغاير ملاك العتق ، وبينهما
تضاد ، لكن مجموع
الملاكات يمكن استيفاؤه كما يمكن تفويته ، فلو لم يجعل الشارع خطاباً تخييرياً لزم
انتفاء المجموع ، وجعل الخطاب التعييني غير ممكن ، لفرض التضادّ بين الملاكات ،
فيجب وجود الخطاب التخييري ... ومن هنا يقول هذا المحقق : إن المجعول في الواجبات
التخييرية متمّم الوجود والوجوب ، لأنّ الوجوب في كلّ فردٍ من التخييري ناقص ـ بخلاف
الوجوب في الواجب التعييني ـ إذ ينسد باب العدم عن أحد الفردين حيث يترك الفرد
الآخر ، أمّا مع فعله فلا يلزم سدّ باب العدم.
والمهم أن نفهم
كيفية الوجوب التخييري ، وأنه كيف يكون أحد الوجوبين في الأهم والمهم ناقصاً ،
ويكون كلاهما تامّاً في المتساويين؟
يقول : إن الضدّين
إمّا متساويان في الملاك وامّا مختلفان ، والواجبان إمّا مضيّقان وامّا موسّعان ،
وامّا أحدهما مضيّق والآخر موسّع.
فإن كانا مضيّقين
وتساويا في الملاك ـ ولا أهم ومهم ـ احتمل اشتراط الطلب في كلّ منهما بترك الآخر ،
واحتمل اشتراط المطلوب في كلّ منهما بترك الآخر ، لكنّ كليهما مستحيل ، وينحصر
الأمر بكون وجوبهما وجوباً ناقصاً.
ووجه الاستحالة هو
: أنه لو كان الغريقان متساويين في الملاك ولا يمكن انقاذهما معاً ، فإن اشتراط
طلب انقاذ هذا بترك انقاذ ذاك محال ، لأنه إن ترك انقاذ كليهما تحققت المطاردة بين
الطلبين ، لحصول شرط وجوب كلٍّ من الطلبين بترك كليهما ، ويصبح الطلبان فعليين ،
والطلبان الفعليّان مع وحدة القدرة محال. واشتراط طلب انقاذ كلٍّ منهما بمعصية
الأمر بإنقاذ الآخر محال كذلك ، للزوم تأخّر المتقدّم بمرتبتين ، لأن المفروض كون
طلب انقاذ هذا مشروطاً بمعصية طلب إنقاذ الآخر ، والمعصية متأخّرة عن الطلب ،
والمشروط متأخّر عن الشرط ،
فكلّ طلبٍ متأخّر
بمرتبتين ومتقدّم بمرتبتين ، وهذا محال.
فتحصّل : استحالة
اشتراط طلب أحد الضدّين المتساويين ملاكاً بترك الآخر أو بمعصية الأمر المتعلّق
بالآخر.
فلا يمكن أن يكون
الطلب مشروطاً.
وأمّا المطلوب
فكذلك ، لأن المطلوب ـ وهو الواجب ـ متأخّر عن الشرط ، فلو اشترط المطلوب الواجب ـ
وهو إنقاذ هذا الغريق ـ بترك إنقاذ الآخر ، كان المطلوب متأخّراً عن الترك ،
والترك يتقدّم على وجود الإنقاذ تقدّم الشرط على المشروط ، لكن وجود إنقاذ هذا
متّحد رتبةً مع ترك إنقاذ الآخر وكذا العكس ، لكون النقيضين في مرتبةٍ واحدة.
فتكون النتيجة
تأخّر وجود هذا الإنقاذ عن وجود انقاذ الآخر ، وقد عرفت تأخّر وجود الآخر عن وجود
هذا كذلك ... فيستحيل اشتراط الواجب بترك الواجب الآخر.
وهكذا الحال لو
اشتراط الواجب المطلوب بمعصية الأمر المتعلّق بالمطلوب الآخر ، لما ذكرناه في
اشتراط الطلب بمعصية طلب الآخر.
وإذا استحال
اشتراط الطلب واشتراط المطلوب ، فلا مناص من الالتزام ـ في المضيّقين المتّحدي
الملاك ـ بوجوبين ناقصين ، والمقصود هو : إن كلاًّ من الإنقاذين واجب ، بحيث يطرد
هذا الوجوب عدم نفسه إلاّ من جهة وجود انقاذ الآخر ، فلو أنقذ الغريق الآخر لم يجب
انقاذ هذا ، وكذا العكس.
قال : إنّ وجوب
شيء على تقدير وجود شيء آخر ، ـ كما لو وجب إكرام زيد على تقدير مجيئه ـ هو في
الحقيقة إلزام من جهةٍ وترخيص من جهة أُخرى ، إذ الإكرام يكون واجباً إن جاء ،
ويكون مرخّصاً فيه في فرض عدم مجيئه ، فاجتمع
الإلزام مع
الترخيص في الترك ، وكذلك يمكن أن يجتمع الإلزام بفعل شيء مع الإلزام بترك نفس
الشيء ، لأنّ كلّ شيء له أضداد وموانع عن وجوده ، فيصح الإلزام بفعل شيء على تقدير
وجود ضدٍّ من أضداده ، والإلزام بترك الشيء نفسه على تقدير وجود ضدٍّ آخر ، كأن
يلزم بإتيان الصّلاة على تقدير النوم ، بمعنى أن النوم لا يرفع وجوب الصّلاة ، وأن
يلزم بترك الصّلاة على تقدير ضدّ آخر وهو الإزالة ، بمعنى أنه مع الإتيان بالإزالة
مأمور بترك الصّلاة.
فظهر إمكان الأمر
بالضدّين المتساويين في الملاك بالوجود والوجوب الناقص.
وأمّا إنْ كانا
غير متساويين ، بل كان أحدهما أهم من الآخر فكذلك ... لما تقدّم من أن للشيء أنحاء
من العدم بأنحاء الإضافات والأضداد والمقدّمات ، فلو حصل التمانع بين طلب الإزالة
وطلب الصّلاة ، وكانت الإزالة أهم ، تحقق للصّلاة عدم من ناحية وجود الإزالة ،
وعدم من ناحية وجود غير الإزالة كالأكل والنوم وغيرهما.
إلاّ أنه لمّا كان
المفروض كون طلب الصّلاة ناقصاً ، كان المقصود هو عدم مطلوبيّة الصلاة في حال تحقق
الإزالة ، لكنّها مطلوبة من ناحية وجود غير الإزالة من الأضداد ، فاجتمع في طلب
الصّلاة جهة الإلزام بفعلها والإلزام بتركها. أمّا الإلزام بفعل الصّلاة فمن غير
ناحية وجود الإزالة ، وأمّا الإلزام بتركها فمن ناحية وجود الإزالة ... هذا
بالنسبة إلى طلب الصّلاة.
وأمّا الإزالة ـ وهي
الأهم ـ فإن طلبها تام وليس بناقص ، فهو يريدها من جميع النواحي ، أي يريد الأعدام
كلّها ، عدم الصّلاة ، عدم الأكل ، عدم النوم ... فقد توجّه الأمر بالإزالة بهذا
الشكل ....
وبهذا البيان لا
يلزم أيّ محذور من أن يجتمع الأمر بالضدّين ـ الإزالة والصّلاة ـ ويكونا في عرضٍ
واحد ... لأن المحذور لا يكون إلاّ في مرحلة الاقتضاء أو في مرحلة الامتثال
والطاعة ، ومع كون أحد الطلبين تامّاً والآخر ناقصاً فلا يلزم أيّ محذور ، لأنّ
مقتضى الأمر بالأهم إعدام المهم بلحاظ وجود الأهمّ لتماميّة اقتضاء وجوده من هذه
الناحية ، بخلاف الأمر بالمهم فليس له هذا الاقتضاء بالنسبة إلى الأهم ، وإنما
يقتضي إعدام الأضداد الأُخرى ... فلا مطاردة بين الطلبين ... في مرحلة الاقتضاء.
وكذلك في مرحلة الامتثال ، لأنّه مع امتثال الأمر بالأهمّ لا يبقى الموضوع للأمر
بالمهمّ حتى تصل النوبة إلى امتثاله ، لأنّ الأهمّ يقتضي سدّ باب عدمه من ناحية
المهم ، أمّا الأمر بالمهم فقد كان ناقصاً ، لفرض كونه محفوظاً بالنسبة إلى غير الإزالة
من الأضداد ، أمّا بالإضافة إلى الإزالة فلا ... اللهم إلاّ أن تصل النوبة إلى
إطاعته بالتمرّد والمعصية للأمر بالأهمّ ، وهذا شيء آخر غير المطاردة بين الأمرين.
فظهر : أن الأمر
بالأهمّ لا يطرد إطاعة الأمر بالمهمّ ، بل إنه مع إطاعة الأمر بالأهم لا يبقى موضوع
لطاعة الأمر بالمهم ، وإن الأمر بالمهم لا يطرد إطاعة الأمر بالأهم ، لأن الأهم إن
لم تتحقّق إطاعته فذلك على أثر العصيان لا على أثر الأمر بالمهم ....
فلا مطاردة بين
الأمرين ، لا اقتضاءً ولا امتثالاً.
إشكال
المحقق الأصفهاني
وأورد المحقق
الأصفهاني على نظرية المحقق العراقي بما توضيحه :
إنه إن كان المراد
من «التام» و «الناقص» أنّ إمكان الترتّب غير موقوفٍ على
__________________
اشتراط وجوب المهم
وترك الأهم وعصيانه ، وأنه يمكن بنحو الواجب المعلّق ، فلا حاجة إلى هذا التقريب
الغريب ، حيث صوّرتم الحصص للعدم وأنّ للشيء ـ الذي له وجود واحد ـ أعداماً عديدة
، بل نقول : إنه من المعقول أن يكون الوجوب فعليّاً ويكون الواجب مقيّداً بظرف
معصية الأهم ، كما هو الحال في كلّ واجب معلّق ، حيث الوجوب مطلق والواجب حصّة
خاصة. هذا أولاً. وثانياً : إن كان المقصود أن المهمّ غير مشروط بمعصية الأهم ،
وأنه يصوّر وجوب المهم بنحو الواجب المعلّق ، فيرد عليكم لزوم التفكيك بين فعليّة
الوجوب وفاعليّته ، وهذا باطل ، إذ الطلب الفعلي يتقوّم بأن يجعل المولى ما يمكن
أن يكون محرّكاً وباعثاً للعبد ، فهذا معنى إمكان الباعثيّة ، لأن العبد لو خلّي
عن الموانع يكون للطلب إمكان الباعثيّة له ، فقولكم بوجود الأمر والطلب وبفعليّته
لكن بلا فاعلية ، يستلزم التفكيك بين البعث والانبعاث ، وهذا غير معقول.
وإن كان المراد من
تصوير «التام» و «الناقص» رفع المطاردة والتمانع بين الأهم والمهم ، فهذا غير
متحقّق ، لأن المفروض إطلاق الأمر بالأهم ، فهو موجود في حال وجود المهم وفي حال
عدمه ، وحينئذٍ ، فالحصّة من عدم الأهم الملازمة مع وجود المهم مطرودة من قبل
الأهم ولا يبقى الاقتضاء للمهم ، وأمّا الحصّة من عدم الأهم الملازمة لعدم المهم ،
فيتحقّق فيها المطاردة. مثلاً : لو ترك الأهم مع عدم المهم لوجود بعض الأضداد
الأُخرى ، كان الأمر بالمهم مقتضياً لطرد عدمه من ناحية غير وجود الأهم ، لأنه
يدعو إلى نفسه من غير ناحية الأهم من سائر الأضداد ، لكن الأمر بالأهم موجود
بإطلاقه ، فهو يقتضي عدم نفسه ، فالطّرد يحصل من طرف الأهم والمهم كليهما ، إذ
الأهم يقول بطرد عدم نفسه والمهم يقول مع وجود بعض الأضداد الأُخرى بطرد عدم نفسه
، والمفروض أن القدرة
واحدة والوقت
ضيّق.
دفاع
الأُستاذ عن المحقق العراقي
وقد أجاب شيخنا
الأُستاذ ، أمّا عن الإشكال الأوّل : فبأنّ المحقق العراقي لا يقصد إثبات المطلب
عن طريق الواجب المعلّق ، بل يريد أن هنا طلبين بلا اشتراط من طرف المهم ، وأحدهما
تام والآخر ناقص ، فلا علاقة للبحث بالواجب المعلّق. وبعبارة أُخرى : إنه لو
أنكرنا الواجب المعلّق فما الإيراد على نظريّة المحقق العراقي؟
إنه يقول : بأن أحد
الطلبين ناقص والآخر تام ، أمّا في الواجب المعلّق فالطلب تام وليس بناقص ، وإنما
المتعلّق له هو الحصّة ... فكم الفرق؟
هذا أوّلاً.
وثانياً : إن المحقق العراقي من القائلين بالواجب المعلّق ، فالإشكال عليه من هذا
الحيث مبنائي.
وأمّا عن الإشكال
الثاني : فبأن معنى «المطاردة» هو «التمانع» وقد بيّن المحقق العراقي عدم حصوله في
مرحلة الاقتضاء وفي مرحلة الامتثال ، فهو يقول باقتضاء الأهم إعدام المهم دون
بقيّة أضداد المهم ، إذ لا نظر للأهم إلى الأكل والشرب والنوم وأمثالها ، وإنما
يدعو إلى نفسه وترك المهم ، والمهم يقتضي الاتيان به من ناحية بقيّة الأضداد لا من
ناحية وجود الأهم ، فلا تمانع بين الاقتضائين. وكذلك يقول في مرحلة الإطاعة بمعنى
: أن الأهم يدعو إلى نفسه ويريد الإطاعة له ، لكنّ المهمّ لا اقتضاء له للإطاعة مع
وجود الأهم ، لأنه مع تأثير الأهم في الإطاعة لا يبقى موضوع للأمر بالمهم ، حتى
يمكنه طرد الأهم ... ولو فرض سقوط الأمر بالأهمّ على أثر التمرّد والعصيان له ،
فلا فاعليّة له ليكون طارداً للأمر بالمهم ، لفرض كون الأمر بالأهم منطرداً حينئذٍ
ـ حسب تعبيره ـ فأين
المطاردة؟
اشكال
الأُستاذ
هذا ، وأورد
الاستاذ على المحقق العراقي : بأنّ العمدة في الفرق بين نظريّته وأنظار المحققين
الآخرين هو عدم الاشتراط والتقييد بين الطلبين ، بل إنّ كلاً منهما بالنسبة إلى
الآخر مطلق ، غير أنّ أحد الطلبين تام والآخر ناقص فالإشكال هو : إنّ الإطلاق وعدم
التقييد في الطلب يرجع إلى المولى ، كما أنّ أصل الطلب يرجع إليه ، وكما يعتبر في
أصل الخطاب والطلب أن لا يكون لغواً ـ لفرض كون المولى حكيماً لا يفعل اللغو ـ كذلك
يعتبر في الاطلاق وجود الأثر وعدم اللّغوية ، لكنّ وجود الأمر بالمهم مع امتثال
الأمر بالأهم لغو ، فلا يمكن أن يكون مطلقاً ، إذ لا أثر لطلبه مع امتثال الأمر
بالأهم ، فإمّا يكون الأمر بالمهم مهملاً ، لكن الإهمال أيضاً محال ، وامّا أن
يكون مشروطاً ومقيّداً بترك الأهم ، وهذا هو المعقول والمتعيّن ، فعاد الأمر إلى
الترتّب وانتهى الاشتراط الذي هو مبنى الميرزا.
وقد فرغنا ـ حتى
الآن ـ من طرح نظريّات الميرزا ، والحائري تبعاً للفشاركي ، والعراقي ... وقد عرفت
أن أمتن البيانات هو بيان الميرزا ، وبقي :
الترتب ببيان المحقق الأصفهاني
وقد ذكر تحت عنوان
(والتحقيق الحقيق بالتصديق) مقدمتين :
إحداهما
: إن ثبوت
المقتضيين للضدّين جائز ، وإنما المحال وجود الضدّين ، بل يجب تحقق المقتضيين لهما
، فلو فرض عدم المقتضي لأحدهما لم تصل النوبة في عدم الضدّ إلى وجود الضدّ الآخر
ومانعيّته له ... مضافاً : إلى أن ذلك كذلك في الوجدان ، إذ الشيء الواحد يمكن أن
تتعلّق به إرادة زيد وإرادة عمرو
__________________
في وقت واحد ،
والجسم الواحد يصلح لأن يكون لونه أسود أو أبيض ....
وعلى الجملة ،
فإنه لا تمانع بين المقتضيين ، بل هو بين مقتضى هذا وذاك.
الثانية
: إن النسبة بين
الأمر وإطاعته هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، لا العلّة إلى المعلول ، لأنه لو كان
من قبيل العلّة والمعلول لكان منافياً للاختيار ، والحال أن اختيار المكلّف محفوظ
، وأمر المولى إنما هو جعلٌ لما يمكن أن يكون داعياً ومحرّكاً للمكلّف نحو
الامتثال ، ولذا تتوقّف فعليّة الامتثال وتحقّقه على خلوّ نفس العبد من موانع
العبوديّة.
وبعد
المقدمتين :
فإن أمر المولى
بأمرين ، ولم يكن لأحدهما قيد ، تحقّق المقتضي التامّ للفعليّة لإيجاد الدّاعي في
نفس العبد ، فإذا كان العبد مستعدّاً للامتثال صلح كلّ من الأمرين لأن يصل إلى
مرحلة الفعليّة ، وحينئذٍ ، تقع المطاردة بينهما ... أمّا لو كان أحد الأمرين غير
مطلقٍ. بل على تقدير ، ـ والمقصود هو التقدير في مرحلة الاقتضاء لا مرحلة الفعليّة
ـ فيكون الأمر بالمهم مقدّراً ومقيّداً بسقوط الأمر بالأهم عن المؤثّرية ، بمعنى
أن أصل الإنشاء بداعي جعل الدّاعي في طرف المهم مقيّد بأن لا يكون الأمر بالأهم
مؤثّراً ، وحينئذٍ ، يكون الاقتضاء في أحد الأمرين معلّقاً ، وعلى هذا تستحيل
المطاردة بينهما ، لأن اقتضاء الأمر بالأهم تنجيزي واقتضاء الأمر بالمهم تعليقي ...
ففي حال تحقّق الأمر بالمهم يكون الأمر بالأهم منطرداً مطروداً ، فلا تصل النوبة
لأن يكون الأمر بالمهم طارداً له.
أقول
:
إن هذا الوجه هو
عين الوجه الذي ذكره المحقق العراقي ، وقد عرفت ما فيه ، فالصحيح ما ذهب إليه
الميرزا.
الكلام في ما أُشكل به على الترتّب
والكلام الآن فيما
أُشكل به على القول بالترتّب :
الإشكال الأوّل
فقد قال في (الكفاية)
: ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة
مخالفة الأمرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان
سيدنا الأُستاذ ـ قدسسره ـ لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به على
الترتّب وكان بصدد تصحيحه .
وتوضيحه : إنه على
القول بالترتّب ، يكون هناك تكليفان وجوبيّان ، أحدهما بالأهم والآخر بالمهم ،
وكلّ تكليف يستتبع استحقاق العقاب على تركه ، ففي صورة مخالفة التكليفين وترك
الواجبين يستحق العقوبتين ، والحال أن المكلّف لم يكن له القدرة على امتثال كليهما
، فكيف يستحق العقاب على ترك ما لا يقدر عليه؟
الجواب
وقد أُجيب عن هذا
الاشكال بجوابين : أما
نقضاً : فبموردين ،
أحدهما : في الواجب الكفائي ، حيث أنه لو تُرك الواجب كفايةً ، يستحق كلّ
المكلّفين به العقاب عليه ، مع أن القيام به لم يكن مقدوراً إلاّ لواحدٍ منهم.
والمورد الآخر : هو صورة تعاقب الأيدي على مال الغير ، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم
انتقل المال إلى
__________________
غيره ومنه إلى
ثالثٍ وهكذا ، فإن الأيدي المتعاقبة هذه تستحق العقاب على الغصب ، مع أن الغاصب هو
واحد منهم وليس كلّهم ....
وأمّا
حلاًّ : فإنّ تعدّد
العقاب لا محذور فيه ، إذ العقاب ليس على الفعل كي يقال بأن الجمع بين الأهم
والمهم في الإتيان غير مقدور ـ لكون القدرة على أحدهما فقط ـ بل العقاب هو على
الترك للتكليف ، والجمع بين التكليفين ـ الأهم والمهم ـ في الترك مقدور ، فكان
العقاب على أمرٍ مقدورٍ صادر عن اختيار. وكذلك الحال في الواجب الكفائي.
وببيانٍ
آخر : إنّه لمّا ترك
الأهم واستحق العقاب على تركه ، كان بإمكانه الإتيان بالمهم ، فلمّا تركه استحق
عقاباً آخر غير استحقاقه له على تركه للأهم.
وتلخص
: اندفاع الإشكال ،
وحاصله الالتزام بتعدّد العقاب.
قال
الأُستاذ
إن ملاك استحقاق
العقاب يكون تارةً هو «ترك الفعل المقدور» وأُخرى :
«الترك المقدور»
ففي الواجب الكفائي يستحق المكلّفون العقاب لتحقّق «ترك فعلٍ مقدور» كدفن الميت أو
الصّلاة عليه مثلاً ، فقد كان فعلاً مقدوراً لم يقم به أحد منهم ، فاستحقّوا
العقاب على تركهم له.
أمّا فيما نحن فيه
، فإن المقدور ليس الفعل ، أي امتثال الأمرين ، بل هو الترك ، فإنّ ترك هذا وذاك
مقدور ، فهما تركان مقدوران ....
وعليه ، فإن كان
مناط استحقاق العقاب هو الجمع بين التركين المقدورين ، فالجواب صحيح ، ويتمّ
الالتزام باستحقاق العقابين. وأمّا إن كان المناط في استحقاق العقاب هو ترك ما هو
المقدور ، فالمفروض عدم كون كليهما مقدوراً ليتحقق التركان ويُستحق العقابان ...
لكن ما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن
المطلوب فيه هو
الفعل لا الترك. وبعبارة أُخرى : إن بحثنا في الواجب لا الحرام ، ومن المعلوم أنّ
العقاب في الواجبات يكون على ترك الفعل ، ولا بدّ وأن يكون الفعل مقدوراً حتى يجوز
على تركه ، لكنّ المقدور فعل واحد ، فليس إلاّ عقاب واحد.
وتلخّص
: إن العقاب يتبع
كيفيّة التكليف ، فإذا كان مناطه ترك الفعل المقدور ـ لا الترك المقدور ـ فإنّ
الفعل المقدور واحد وليس بمتعدّد ، وتركه يستتبع عقاباً واحداً ، فكيف يلتزم
الميرزا وغيره باستحقاق العقابين؟
ويؤكّد
ذلك : إن لازم كلامهم
عدم الفرق بين القادر على امتثال كلا الأمرين التارك لهما ، كما لو قدر على إنقاذ
الفريقان فلم يفعل لهما ، والقادر على امتثال أحدهما التارك له ، كما لو تمكّن من
إنقاذ أحدهما وترك ، فهل يفتي الميرزا وأتباعه بتساويهما في استحقاق العقاب؟
الإشكال الثاني
إنه لا ريب في
استحالة تعلّق الإرادتين التكوينيّتين العرضيين بالضدّين ، وكذا الطوليّتان ، بأن
تكون احداهما مطلقة والأُخرى مشروطة ، ووزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة
التكوينيّة ، فإذا استحال الترتّب في التكوينيّة فهو في التشريعيّة كذلك.
والجواب
: هو إنّ الإشكال
يبتني على عدم الفرق بين الإرادتين في جميع الأحكام ، لكن لا برهان على ذلك ، بل
هو على خلافه ، لأن النسبة بين الإرادة والفعل في التكوينيّات نسبة العلّة التامّة
إلى المعلول ، ولا يعقل تصوير الترتّب هناك ، بأن تكون علّة مطلقة وأُخرى مترتبة
عليها ، للزوم الخلف. أمّا في التشريعيّات ، فإنّ الإرادة بالنسبة إلى الفعل من
العبد ليست بعلّةٍ تامّة بل هي
مقتضيةٌ له ، وأين
الاقتضاء من العليّة التامّة؟ إن العلّة التامّة لا حالة منتظرة لها ، بخلاف
المقتضي فإنّ شرط تأثيره اختيار العبد للامتثال ، فلو لم يتحقّق بقيت الإرادة
التشريعيّة في مرحلة الاقتضاء ، وعليه ، يصحّ وجود مقتضيين يكون مؤثريّة أحدهما في
تحقّق الفعل متوقّفة على عدم مؤثريّة الآخر ، كما تقدّم في تصوير المحقق الحائري
للترتب ، أو يكون أصل فعليّة أحدهما متوقفاً على عدم مؤثريّة الآخر ، كما تقدّم في
تصوير الترتب على مسلك الميرزا وهو المختار ...
فقياس الإرادة
التشريعيّة على التكوينيّة قياس مع الفارق.
الإشكال الثالث
إن المتلازمين
يستحيل اختلافهما في الحكم ، كأنْ يكون أحدهما واجباً والآخر حراماً مثلاً ، لأنه
يلزم التكليف بالمحال ، إذ فعل الفرد الواجب يستلزم فعل الآخر الحرام ، وترك
الحرام يستلزم ترك الفرد الواجب.
وعلى هذا ، فإن
القول بالترتب يستلزم القول بالتكليف بالمحال ، لأنّ الأمر بالأهمّ يستلزم النهي
عن ضدّه العام وهو تركه ، فيكون تركه حراماً ، لكنّ ترك الأهمّ ملازم لفعل المهم
وهو واجب ، فكان المتلازمان مختلفين في الحكم ، وهو محال كما تقدّم.
والجواب
: صحيحٌ أنّ الأمر
بالأهم يستلزم النهي عن ضدّه العام وهو الترك ، ووجوب المهم مشروط بترك الأهم ،
وبينهما تلازم ، لكن حرمة الترك حكم استلزامي ، فوجوب الأهم قد استلزم حرمة تركه
وكانت هذه الحرمة نتيجة لوجوبه ، فإن كان وجوبه بنحو الاقتضاء قابلاً للاجتماع مع
وجوب المهم ، كانت الحرمة ـ التي هي حكم ترك الأهم ـ قابلةً للاجتماع مع المهم
بنحو الاقتضاء ، ولا محذور في هذا الاجتماع.
وعلى الجملة ، فإن
اجتماع حرمة ترك الأهم مع وجود المهم ، فرعٌ لإمكان اجتماع وجوب الأهمّ مع وجوب
المهم ، فإن أمكن الاجتماع بين وجوبهما أمكن بين حرمة ترك ذاك ووجوب هذا ... لكنّ
إمكانه في الأصل تام بالترتّب ، فلا محذور فيه بين الحرمة والوجوب كما تقدّم.
الإشكال الرابع
إن الفرد المهمّ
من المتزاحمين ـ كالصّلاة مثلاً ـ إذا وجب بالترتّب حرم تركه بناءً على اقتضاء
الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام ، ولا أقلّ من مبغوضيّة الترك ، لكنّ هذا الترك
تارةً : هو خصوص ما لا ينتهي إلى فعل الأهم ـ وهو الإزالة ـ وتارةً : يكون أعمّ من
الموصل إلى فعل الأهم وغير الموصل إليه.
فإن كان المحرّم
هو مطلق الترك ففيه :
أوّلاً
: إن ذلك ينافي
أهميّة الأهم ، لأن حرمة ترك المهم مطلقاً ـ حتى المنتهى إلى فعل الأهمّ ـ معناه
رفع اليد عن الأهم حتى لا يقع في ترك الحرام ، وهذا ينافي أهميّة الأهم.
وثانياً
: إنه بناءً على
الترتّب ، يكون فعل المهم في فرض ترك الأهمّ ، فكيف يكون الحرام هو ترك المهم
المجامع لفعل الأهم؟ إذن ... بناءً على الترتب لا يمكن أن يكون الترك المحرّم
للمهمّ هو الترك المطلق.
وإن كان الترك
المحرّم هو الترك الذي لا يوصل إلى فعل الأهم ، فهذا أيضاً محال ، لأنّ ترك المهمّ
غير الموصل إلى فعل الأهم إن كان حراماً كان نقيضه واجباً ، ونقيض الترك غير
الموصل هو «ترك الترك غير الموصل» ، وهذا له لازمان ، أحدهما : فعل المهمّ.
وثانيهما : الترك الموصل لفعل الأهم ، (قال) وإنما قلنا بكونهما لازمين ولم نقل
بكونهما فردين ، لأنّ «ترك الترك غير الموصل» أمر
عدمي ، وفعل المهم
وجودي ، والوجودي لا يكون مصداقاً للعدم والعدمي ، وإذا كانا من اللّوازم ، فقد
ثبت أن حكم الملازم لا يسري إلى الملازم ، فإنّ «ترك الترك غير الموصل» لمّا كان
واجباً ، فإنّ هذا الحكم ـ وهو الوجوب ـ لا يسري إلى ملازمه ـ وهو المهم ـ فمن
المحال أن يكون المهم واجباً. وإذا استحال وجوب المهم بطل الترتب من الأساس.
(قال) ولو تنزّلنا
وقلنا بجواز أن يكون فعل المهمّ مصداقاً «لترك الترك غير الموصل» فالإشكال موجود
كذلك ، لأنّه كما كان فعل المهم مصداقاً فيكون واجباً ، كذلك تركه الموصل لفعل
الأهم مصداق فيكون واجباً ، وإذا تعدّد فرد الواجب كان الوجوب تخييريّاً ،
والمفروض في الترتب كون وجوب المهم تعييناً لا تخييريّاً.
جواب
المحقق الأصفهاني
أجاب بأنا نختار
كلا الشقّين ولكلٍّ جواب.
أمّا الشق الأوّل
، فنسلّم بحرمة نقيض الواجب ووجوب نقيض الحرام ، إلاّ أن الواجب هو فعل المهم ،
لكن لا فعله على كلّ تقدير ، بل على أحد التقادير وهو ترك الأهم ، فلا يكون نقيضه
الترك المطلق ليشمل الترك المنتهى إلى فعل الأهم ، فكان الحرام هو خصوص ترك المهم
الذي هو في تقدير ترك الأهم.
جواب
الأُستاذ
هذا الذي أفاده
المحقق الأصفهاني ناظرٌ إلى الشق الثاني من كلام الميرزا الكبير ، والصحيح أن يقال
في الجواب عنه :
أولاً
: إنّ الأصل هو
وجوب المهم وليس حرمة النقيض ـ وإن عكس الميرزا وجعل حرمة النقيض هي الأصل ـ ووجوبه
على ما تقدّم بالتفصيل مشروط بترك
الأهم ، فيقتضي ـ بناءً
على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض ـ حرمة ترك المهم على تقدير حرمة الأهم ،
ولا يمكن أن يقتضي حرمة الترك المطلق ، لأنّ المفروض كون الواجب خاصّاً غير مطلق ،
وكما كان الأصل ـ وهو وجوب المهم ـ ترتّبياً فحرمة ضدّه أيضاً ترتبيّة لكونها
متفرعةً عليه ... فلا يبقى محذور.
وثانياً
: لو تنزّلنا ،
وجعلنا الأصل حرمة ترك المهم ، ويتفرّع عليه وجوب المهم ، فإنّ الأمر لا ينتهي إلى
الوجوب التخييري ، لأنّ الحرام على القول بالترتّب ليس ترك المهم حتى الترك الموصل
لفعل الأهم ـ لأن هذا خلف فرض الترتّب ـ بل إن الحرام هو تركه غير الموصل لفعل
الأهم ، وإذا كان كذلك ، فإنّ نقيضه هو ترك الترك غير الموصل ، وهذا لا يتحقق إلاّ
بفعل المهم ، ولا يقبل الاجتماع مع الترك الموصل لفعل الأهم ، فتبيّن أن ليس
للاّزم أو النقيض فردان ، ليرجع الأمر إلى الوجوب التخييري.
فالصحيح أن نختار
هذا الشق ونجيب عنه بما ذكرناه ، فإشكاله غير وارد حتى لو قلنا باقتضاء الأمر
بالشيء للنهي عن الضدّ العام.
الإشكال الخامس
إذا كان شرط وجوب
المهم هو عصيان الأمر بالأهم ، فما المقصود من هذا العصيان؟ إن كان الشرط هو عصيان
الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، فهو خلف فرض الترتّب ، وإن كان بنحو الشرط
المتأخّر ، فهو يستلزم طلب الضدّين ، وإن كان بالعزم ، فيستلزم طلب الضدّين كذلك ،
فالترتّب على جميع الاحتمالات غير معقول.
فإن كان المقصود
من الشرط هو الشرط المقارن ففيه :
إن الإطاعة
والمعصية لا يكونان إلا مع فرض الأمر ، فلولا الأمر فلا طاعة
ولا معصية.
فقال
الميرزا وغيره : بكون العصيان بنحو الشرط المقارن ، فالأمر موجود وإنّما يسقط بعد العصيان.
لكن
المشكلة هي : إن الأمر تابع
للملاك ، وهو لا يسقط إلاّ إذا سقط وتحقق الغرض أو امتنع حصوله فيستحيل وجود الأمر
كذلك ، وعليه ، ففي ظرف العصيان لا يعقل تحصيل الغرض ، إذ لا يعقل وجود الأمر
حينئذٍ.
لا
يقال : إنّ امتناع الأمر
في هذا الفرض امتناع بالاختيار ، وهو لا ينافي وجود الأمر ، لأن المنافي لوجوده هو
الامتناع الذاتي والوقوعي ، أمّا الامتناع بالغير الناشئ من عصيان المكلّف للأمر
فلا ينافيه.
لأنا
نقول : إن الامتناع
بالاختيار لا ينافي العقاب ، أمّا الخطاب والأمر فإنّه ينافيه ، ومع تعذّر الخطاب
الناشئ من اختيار العبد ، فالأمر لغو ، لكونه معلولاً للملاك ، وأن الغرض من الأمر
هو تحصيله.
وتحصّل
: إن الإشكال على
تقدير كون العصيان شرطاً مقارناً باقٍ على حاله.
وإن كان المقصود
من الشرط هو العزم أو العصيان بنحو الشرط المتأخّر ، بناءً على وجود الأمر مع
العصيان ، فالتحقيق أن يقال :
إن أساس الإشكال
في الترتّب هو مؤثّرية كلا الأمرين معاً ، فإن أمكن تصوير عدم كونهما مؤثّرين فكان
المؤثر أحدهما دون الآخر ، ارتفع الإشكال ، فبأيّ طريق أمكن حلّ العقدة يثبت
الترتّب ، وعلى هذا ، فمن عزم على معصية الأمر بالأهم بعد الأمر به ، سقط في حقّه
مؤثريّته ووجب عليه الإتيان بالمهم ، وكذا الحال في تعقّبه بالعصيان بنحو الشرط
المتأخّر.
وعلى
الجملة : فإن العمدة سقوط
الأمرين عن التأثير في عرض واحد ، وهذا يتحقق بالعزم على عصيان الأمر بالأهم أو
اشتراط تعقّبه بالعصيان ، بل ويسقط باشتراط العصيان بنحو الشرط المقارن.
وتلخّص
: إن الإشكال في
الترتّب ثبوتاً وسقوطاً يدور مدار مؤثّرية كلا الأمرين ، فلو انتفت بأيّ طريقٍ من
الطرق فلا إشكال ، والمختار عند الأُستاذ تصوير الترتّب باشتراط العزم على العصيان
، فمن كان مستطيعاً واستقرّ الحج على ذمّته فعزم على العصيان وترك الحج ، يسقط
الحج عن ذمته بإتيان النائب عنه به ، وإن كان في أُجرة النائب إشكال ، وبيانه
موكول إلى محلّه.
هذا ، فأمّا أن
أساس مشكلة الترتّب هو باعثيّة كلا الأمرين وعدم إمكان الانبعاثين ـ وليس طلب
الضدّين ـ فإن سقط أحدهما عن الباعثيّة ارتفعت ... فهذا مذكور في كلام الميرزا
والمحقق الأصفهاني وليس ممّا انفرد به السيد البروجردي كما جاء في تقرير بحثه وفي
حاشيته على الكفاية.
ثم إنّ هناك بحثاً
حول كون الشرط هو «العزم» وقد طرحه الاستاذ في الدرس وبيّن وجهة نظره فيه ، تركنا
التعرّض له اختصاراً.
تنبيهات
الترتب
التنبيه
الأول
(في تسرية كاشف الغطاء الترتّب إلى
الجهر والإخفات)
وقبل الورود في
البحث نذكّر بمطلبين :
الأول
: إنه بعد الفراغ
من إمكان الترتّب لا تبقى حاجة إلى بيان وقوعه ، لكفاية الإمكان ، لأنه بعد رفع
اليد عن إطلاق أحد الدليلين وهو المهم وتقييده بعصيان الآخر وهو الأهم ، يكون
المقتضي لوجوب المهم موجوداً والمانع مفقوداً ، كسائر الموارد.
والثاني
: إن التضاد الواقع
بين متعلّقي الدليلين في سائر موارد الترتّب هو تضاد اتّفاقي وليس بدائمي ، لأنه
يكون ـ مثلاً ـ على أثر العجز عن امتثال الأمرين كإنقاذ الغريقين حيث لا قدرة ـ غالباً
ـ إلاّ على أحدهما ... ولكنّ مسألة الجهر والإخفات ليست من هذا القبيل ، فالتضادّ
بينهما دائمي ، فيقع البحث عن معقوليّة الترتّب في مثلها ... وتصوير ذلك هو :
إن الجاهل المقصّر
يستحق العقاب بلا كلام ، وعباداته محكومة بالبطلان ، فإن انكشف وقوع العمل على
خلاف الواقع فهو غير مجزٍ ، وعدم الإجزاء حينئذٍ واقعي ، وإن لم ينكشف ذلك كان غير
مجزٍ ظاهراً ، حتى يتبيّن مطابقة عمله للواقع وعدمها ، إن تمشّى منه قصد القربة في
هذه الحالة.
لكنهم حكموا
بالإجزاء في موردين ، أحدهما : الجهر والإخفات ، والآخر : القصر والتمام ، لوجود
النصوص بإجزاء الإخفات فيما ينبغي الجهر فيه وبالعكس ، ومع ذلك حكموا باستحقاقه
العقاب للتقصير ، فوقع البحث بينهم في كيفية الجمع بين الإجزاء واستحقاق العقاب ،
وذكروا لذلك وجوهاً.
منها : ما جاء في (كشف
الغطاء) على أساس قانون الترتّب ، فقال :
إن الخطاب
المتوجّه أوّلاً إلى هذا الجاهل المقصّر في تعلّم الحكم ، هو الجهر في القراءة في
الصّلاة الجهريّة ، فإن عصى فالواجب عليه هو القراءة إخفاتاً ... وكذا بالعكس في
الصّلاة الإخفاتية.
وكذا الكلام في
مسألة القصر والإتمام.
فالصّلاة صحيحة ،
لكنه عاصٍ يستحق العقاب ، لأنه قد ترك المأمور به الأهمّ.
قال كاشف الغطاء :
بل لا بدّ من تطبيق ذلك على سائر الفروع في مختلف الأبواب الفقهيّة ، وإلاّ لزم
الحكم ببطلان أكثر عبادات المكلّفين. مثلاً : لو كان في ماله الخمس أو الزكاة ،
فلم يؤدّ عصياناً وصلّى ، صحّت صلاته من باب الترتّب. وكذا في الحج وغيره ، وتصوير
ذلك هو : إن الواجب عليه أداء الدّين أو دفع الخمس أو الزكاة أو الذهاب للحج أو
النفقة ، فإن عزم على المعصية فالصّلاة واجبة عليه ومجزية. وكذا أمثالها. هذا
كلامه رحمهالله ....
وقد نقله الشيخ في
خاتمة البراءة والاشتغال ، في أحكام الجاهل المقصّر ، ثم قال : بأنا لا نعقل
الترتّب في هذه المسائل ، إذ كيف يصدر من المولى الأمر بشيء مشروط بمعصية أمرٍ آخر
، والمكلّف بعد غير عاصٍ للأمر الأول؟
فقال الميرزا رحمهالله : نحن نعقل الترتّب ... غير أنّ الإشكال على كاشف الغطاء في الصغرى.
قال الأُستاذ :
الظاهر من الشيخ هو الموافقة على الصغرى ، غير أنه ينكر هنا الترتّب كبرويّاً.
__________________
إشكالات الميرزا على كاشف الغطاء
وقد أشكل الميرزا
من الناحية الصغرويّة بوجوه :
الأول
: إنه قد وقع الخلط
على كاشف الغطاء بين التزاحم والتعارض ، لأنّ بحث الترتب من صغريات التزاحم ،
ومسألة الجهر والإخفات من صغريات التعارض.
تشييد الأُستاذ
الإشكال الأوّل
توضيحه : إن قوام باب
التزاحم هو أن يكون كلّ من المتعلّقين ذا ملاك وتكون المصلحة تامّةً فيهما ، فلا
مشكلة في مقام الجعل ، وإنما هي في مقام الامتثال ، من جهة العجز عن تحصيل كلا
الملاكين ، فإن كان أحدهما أهم من الآخر تقدّم من باب الترتب. بخلاف باب التعارض ،
فإنّه لا يوجد ملاك لأحد الخطابين ... ومسألة الجهر والإخفات من هذا القبيل ، إذ
لا ملاك لإحدى الصّلاتين ـ القصريّة والتامّة ـ في اليوم الواحد ، فإذا انتفى
الملاك عن أحد الفردين ، خرجت المسألة عن باب التزاحم وكانت من باب التعارض.
هذا معنى كلام
الميرزا. فلا يرد عليه الإشكال : بأن محذور الترتب هو طلب الضدّين ، وكما يرتفع هذا
المحذور في المتضادّين اتفاقاً ، كذلك يرتفع في المتضادّين دائماً ، عن طريق
الترتّب ....
وجه الاندفاع هو :
أن في كلام الميرزا نكتةً غفل عنها ، وهي أنه قد نصّ على قيام الضّرورة على عدم
وجوب صلاتين في يوم واحدٍ ووقت واحدٍ إحداهما قصر والأُخرى تمام. هذا من جهةٍ. ومن
جهةٍ أُخرى : فقد ثبت في باب
__________________
التعارض : أنه قد
يكون بالذات وقد يكون بالعرض ، كأن يقوم دليلٌ على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة
ويقوم آخر على وجوب صلاة الجمعة ، فتجب صلاتان ، ولكن قد قام الإجماع على عدم وجوب
الصّلاتين في ظهر يوم الجمعة ، فيقع التعارض بين الدليلين بالعرض ، ويحصل اليقين
ببطلان أحدهما ، ومسألة الجهر والإخفات من هذا القبيل ، فهي من باب التعارض.
ثم ذكر في (المحاضرات)
ما حاصله :
إنه كما يتعقّل
الترتب في مقام الامتثال ، كذلك يتعقّل في مقام الجعل ، ويرتفع المشكل في مقام
الإثبات بالتقييد ، وأمّا في مقام الثبوت فالنصوص الواردة في المسألة هي الدليل
على جعل الحكم بنحو الترتّب ، كصحيحة زرارة في من جهر فيما لا ينبغي الإخفات فيه
أو أخفت فيما ينبغي الجهر فيه .
فأشكل
الأُستاذ :
بأن الترتّب في
مقام الجعل في الضدّين اللذين لهما ثالث معقول ، كأن يقول المولى : تجب عليك
الإزالة فإن عصيت وجبت عليك الصّلاة ، إلاّ أن مورد البحث من الضدّين اللذين لا ثالث
لهما ، فلا يعقل التقييد ـ مع توقف الترتّب على التقييد ـ كأن يقيّد وجوب الحركة
بترك السكون. هذا ثبوتاً.
وأمّا إثباتاً ،
فإن نصوص المسألة لا تفي بدعوى كون الجعل بنحو الترتّب ، لأنّ معنى الترتّب في
مرحلة الجعل هو أن يجعل الشارع ـ بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ وجوب الإخفات لمن وجب
عليه الجهر فعصى ، والنصوص وإن احتمل دلالتها على هذا المعنى ، يحتمل دلالتها على
جعل البدل في مقام الامتثال كما هو الحال في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، ومن الواضح
الفرق بين جعل الحكم على نحو
__________________
الترتّب مشروطاً
بالعصيان ، وجعله من باب بدليّة العمل الناقص عن التكليف ؛ ولعلّ في النصوص ما هو
ظاهر في جعل البدل كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر المذكورة وهذا نصّها : «في رجل
جهر فيما لا ينبغي الجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه. فقال : أيّ ذلك
فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء
عليه وقد تمّت صلاته» فإنّ ظاهر قوله عليهالسلام : تمّت صلاته ، هو جعل البدل في مرحلة الامتثال ، أي لا
نقص في صلاته.
وفي رواية أُخرى
عن أحدهما عليهماالسلام : «إن الله تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود والقراءة
سنّةً ، فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة ومن نسي فلا شيء عليه» .
وهذه ظاهرة في جعل
البدل كذلك ، وإلاّ لزم المستشكل القول بجريان الترتّب في مورد النسيان أيضاً.
وعلى أيّ حالٍ ،
فالإشكال من المحقّق السيد الخوئي على الميرزا غير وارد.
وهذا تمام الكلام
على الإشكال الأوّل.
الوجه
الثاني : إن مورد الخطاب
الترتبي هو ما إذا كان خطاب المهم مترتّباً على عصيان الأمر بالأهم ، وهذا لا يكون
إلاّ فيما إذا لم يكن المهم ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهم ، كما هو الحال
في الضدّين اللذين لهما ثالث. وأمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما ، ففرض عصيان
الأمر بأحدهما هو فرض وجود
__________________
الآخر لا محالة ، فيكون
البعث نحوه تحصيلاً للحاصل.
إشكال
السيد الخوئي
فأشكل في التعليقة
: بأنّ إدراج محلّ الكلام في الضدّين اللذين ليس لهما ثالث ، غير مطابق للواقع ،
لأن المأمور به في الصّلاة إنما هي القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة ، ومن الواضح
أن لهما ثالثاً وهو ترك القراءة رأساً ، فلا مانع من الأمر بهما في زمانٍ واحدٍ
مشروطاً أحدهما بعصيان الآخر.
أجاب
الأُستاذ
بأنّ ما ذكره خلاف
ظواهر النصوص :
«عن أبي جعفر عليهالسلام : لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه».
«سألته عن قول
الله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها ...) المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديداً».
«قلت لأبي عبد
الله عليهالسلام : على الإمام أن يُسمع من خلفه وإنْ كثروا؟ قال : ليقرأ
قراءةً وسطاً».
«الجهر بها رفع
الصوت والتخافت ما لم تسمع نفسك».
«الاجهار أن ترفع
صوتك تسمعه من بُعد عنك ، والإخفات أن لا تسمع من معك إلاّ يسيراً».
فالمستفاد من
النصوص ليس هو القراءة الجهريّة والإخفاتيّة ، بل الواجب في الصّلاة هو الإجهار في
القراءة والإخفات فيها ... فالإشكال مندفع.
الوجه
الثالث : إنّ الخطاب
المترتّب على عصيان خطابٍ آخر ، إنما يكون
__________________
فعليّاً عند تنجّز
الخطاب المرتّب عليه وعصيانه ، وبما أنّ المفروض فيما نحن فيه توقف صحّة العبادة
الجهريّة ـ مثلاً ـ على الجهل بوجوب الإخفات ، لا يتحقق هناك عصيان للتكليف
بالإخفات ليتحقق موضوع الخطاب بالجهر ، لأن التكليف الواقعي لا يتنجّز مع الجهل به
، وبدونه لا يتحقق العصيان الذي فرض اشتراط وجوب الجهر به أيضاً.
هذه عبارته.
وبعبارة
أُخرى : إن شرط التكليف
هو الوصول ، وما لم يصل لم يصر فعليّاً ، والجاهل المقصّر لا يتحقّق في حقّه هذا
الشرط ، فلو كان الخطاب الترتّبي إليه كأنْ يقول : يجب عليك الإخفات فإن عصيت
فعليك الجهر ، كان وجوب الإخفات عليه في صورة التفاته إلى العصيان ، وإلاّ فالشرط
غير واصل فلا يعقل فعليّة التكليف ، وبمجرّد الالتفات منه إلى العصيان صار
متعمّداً ، فينعدم موضوع الخطاب الترتّبي.
إشكال
السيد الخوئي
أجاب السيد الخوئي
: بأن المدار في الترتّب على ترك الأهمّ لا على عصيانه ، وخطاب الإخفات مشروطاً
بترك الجهر قابل للوصول ، إذ الجاهل المقصّر ملتفت إلى كونه تاركاً للجهر.
أجاب
الأُستاذ
بأن ما ذكر صحيح
كبرويّاً ، فالترتب لا يتوقف على العصيان ، لكنّ كاشف الغطاء عبّر بالعصيان قال : «كل
مولى مطاع يمكنه القول : يجب عليك الجهر فإن عزمت على المعصية وجب عليك الإخفات»
فإشكال الميرزا وارد من هذه الناحية ، لأن العزم على المعصية يستحيل وصوله ولو
التفت صار متعمّداً.
لكن لا يخفى أن
الميرزا يقول ب «العصيان» وكاشف الغطاء يقول «بالعزم» فنقول :
إنّ القول باشتراط
العزم وإن كان هو الصحيح المختار في الترتّب ـ كما تقدّم ـ لكنّ كاشف الغطاء لا
يمكنه إجراء الترتب ، لأنه يقول أيضاً باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن جميع الأضداد
الوجوديّة للشيء ، فإذا أُمر بالإزالة فقد نهي عن الصّلاة ، ومع النهي عنها كيف
تكون مأموراً بها بالعزم على معصية الأمر بالإزالة؟ فتصحيح العبادة عن طريق
الترتّب ـ كما ذكر كاشف الغطاء ـ موقوف على أن يرفع اليد عن المبنى المذكور ، لأنه
لا يتمشّى الترتّب معه ، وهذا هو الإشكال الوارد عليه قدسسره بناءً على مبناه
في اشتراط العزم على المعصية في الترتّب.
وهذا تمام الكلام
على التنبيه الأوّل.
التنبيه الثاني
(لو اختلف اعتبار القدرة في الواجبين)
لا يخفى أن القدرة
على الامتثال في مثل إزالة النجاسة والصّلاة ونحو ذلك هي القدرة العقليّة ، وقد
أُجري الترتب في هذه الموارد على القول به ، كما في البحوث السابقة.
أمّا إذا كانت
القدرة المعتبرة في الامتثال مختلفة ، بأن يكون أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة
العقليّة والآخر بالقدرة الشرعيّة ، كما لو كان عند المكلّف ماء يكفي إمّا للوضوء
وامّا لرفع العطش عن نفس محترمة ، إذ الأوّل مشروط الشرعيّة ، والثاني العقلية ،
كما هو معلوم ، فهل يجري الترتّب كذلك أو لا؟
فعن الميرزا
الشيرازي ـ القائل بالترتّب ـ الفتوى ببطلان الوضوء إنْ توضّأ
بالماء بعد عصيان
الأمر بصرفه في رفع العطش ، ونسب البطلان كذلك إلى الشيخ ، مع أنه غير قائل
بالترتب. قال الميرزا : وأمّا ذهاب السيد المحقق الطباطبائي اليزدي قدسسره إلى الصحة في
مفروض الكلام ، فهو ناشئ من الغفلة عن حقيقة الأمر.
والحاصل : إن
المسألة خلافيّة ، ولا بدّ لتحقيق الحال فيها من ذكر مقدّمات.
الأُولى
: تارةً : تؤخذ
القدرة في لسان الدليل كما في دليل الحج والوضوء ، وأُخرى : لا تؤخذ كما في دليل
الصّلاة مثلاً ، فإن أُخذت ، كان مقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات دخل
القدرة في الملاك والغرض ، وإن لم تؤخذ فمقتضى ذلك قيام الغرض بنفس ذات المتعلّق.
الثانية
: إنه بمجرّد حصول
القدرة العقليّة بالتمكن من الإتيان بالمادّة كالصّلاة ، يكون المتعلّق واجباً
فعليّاً ، إذ الحاكم هو العقل ، وهو يرى كفاية التمكّن من الشيء في صحّة طلبه ،
وحينئذٍ ، فلا يبقى موضوع للواجب الآخر الذي أخذ الشارع القدرة في لسان الدليل
عليه ... لأن المرجع في القدرة الشرعيّة هو العرف ـ لكون الخطابات الشرعية ملقاةً
إليه ـ ومع فعليّة الواجب الآخر ينتفي القدرة العرفيّة العقلائية.
الثالثة
: أخذ القدرة في
الواجب تارة : يكون بالمطابقة مثل آية الحج ، وأُخرى : بالالتزام مثل آية التيمّم
، ولمّا كان التيمم في عرض الوضوء ، إذ المكلّف إمّا يكون متيمّماً أو متوضّأً ،
فإنه بأخذ العجز عن الماء في التيمّم يثبت بالالتزام أخذ القدرة في الوضوء ...
وهذه القدرة شرعيّة لا تكوينيّة ، لسقوط الوضوء عن المريض مع قدرته تكويناً عليه.
الرابعة
: إن تصحيح العبادة
بالأمر الترتّبي موقوف على أن يكون الأمر ذا
ملاك ، لتبعيّة
الأحكام الشرعيّة للملاكات عند العدليّة ، فلولا الملاك فلا أمر. أمّا المنكرون
للترتّب فلهم تصحيحها بالإتيان بها بقصد الملاك ، كما عليه صاحب الكفاية قدسسره.
وإذا عرفت هذه
المقدّمات ، ظهر الدليل على القول ببطلان الوضوء بكلّ وضوح ، وذلك :
لأنّ وجوب صرف
الماء في رفع العطش عقلي ، وشرط وجوبه هو القدرة التكوينيّة ، بخلاف وجوب الوضوء ،
فالقدرة المأخوذة على الماء فيه شرعيّة ، وإذا صرف في رفع العطش انتفت القدرة
المعتبرة في الوضوء وتبدّل الحكم إلى التيمّم ، لأنه بمجرّد صرفه في رفع العطش
يكون الوضوء بلا ملاك لانتفاء شرطه وهو القدرة الشرعيّة ، وإذا انتفى الملاك انتفى
الأمر ، وبذلك ينتفي الترتّب.
فظهر أنّ وجه فتوى
الميرزا القائل بالترتب ، هو عدم الأمر الترتّبي ، لعدم الملاك ، والشيخ يقول
بالبطلان ، مع إنكار الترتب ، لعدم الملاك حتى يصحّح بقصده.
ولا يبقى وجه
للقول بصحة هذا الوضوء ، لأنّ طريق تصحيحه إمّا الترتب وامّا قصد الملاك ، وقد علم
أن لا ملاك فيقصد أو يثبت الأمر الترتبي تبعاً له ، وقد نسب الميرزا هذا القول إلى
السيّد في (العروة) ، وكلامه فيها ـ في السبب السادس من أسباب التيمّم ـ واضحٌ في
البطلان لا الصحّة ، إذ قال : لو دار الأمر بين الوضوء وبين واجب أهمّ ، يقدّم صرف
الماء في الأهم ، لأنه لا بدل له والوضوء له بدل . وفي حاشيته على نجاة العباد وافق الماتن في القول بالبطلان.
هذا ، وذهب
السيّدان الحكيم والخوئي إلى الصحّة من باب الترتّب ، في
__________________
مثال دوران الأمر
بين رفع العطش والوضوء مع عدم كفاية الماء إلاّ لواحدٍ منهما.
قال في (المحاضرات)
ما ملخّصه بلفظه تقريباً :
إنه لا مانع من
الترتّب إلاّ توهّم أنّه لا ملاك للوضوء ، فلا يمكن تعلّق الأمر به على نحو
الترتّب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك ، لكنه يندفع : بأن القول بجواز تعلّق
الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ، لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ،
إذ لا يمكن إحرازه فيه إلاّ بتعلّق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به على إحرازه
لدار ، سواء كان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً ، لأنّ ملاك الترتّب
مشترك بين التقديرين ، فإذا لم يكن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً
ولا شرعاً إذا كان في طوله ، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به على نحو الترتب
ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعيّة ، وعليه ، فإذا لم يصرف المكلّف الماء في
الواجب الأهم وعصى الأمر به ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء ، لكونه حينئذٍ
واجداً للماء ومتمكّناً من صرفه فيه عقلاً وشرعاً.
وقد تحصّل من ذلك
: إن دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المهم شرعاً
، تبتني على الالتزام بأمرين :
الأوّل : دعوى أن
الترتّب يتوقّف على أن يكون الواجب المهم واجداً للملاك مطلقاً حتى في حال
المزاحمة ، وإحرازه إنما يكون إذا كانت القدرة المعتبرة عقليّة ، وأمّا إذا كانت
شرعيّةً ، فبانتفاء القدرة ـ كما في المثال ـ ينتفي الملاك ، ومعه لا يجري الترتب.
والثاني : دعوى أن
الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً ، حتى في حال عصيانه وعدم
الإتيان بمتعلّقه.
ولكن قد عرفت فساد
كلتا الدعويين.
أمّا الأُولى ،
فلما سبق من أن الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ، فإن إحرازه
غير ممكنٍ مع سقوط الأمر حتى فيما إذا كانت القدرة عقليّة فضلاً عن كونها شرعيّة ،
فلو كان الترتّب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الالتزام به على كلا
التقديرين.
وأمّا الثانية ،
فقد عرفت عدم التنافي بين الأمرين ، إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر
بالأهم .
جواب
الأُستاذ
وقد أجاب الأُستاذ
عن ذلك : بأنه كلام غير مناسب لشأنه ، لأنّ الميرزا إنما يستكشف الملاك عن طريق
إطلاق المادّة لا عن طريق الأمر كما عليه المستشكل ، فالميرزا يقول : بأنه إذا
تعلّق الأمر بشيء ولم تؤخذ القدرة فيه في لسان الدليل الشّرعي ، فإنّ نفس إطلاق
الواجب يكشف عن قيام الملاك بذات المادّة ... فالإشكال أجنبي عن مسلك الميرزا. هذا
أوّلاً.
وثانياً : لو
سلّمنا أنّ الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ـ كما قال ـ فإنّ
الواقع في المسألة هو إحراز عدم الملاك ، فما ذكره خلط بين عدم إحراز الملاك
وإحراز عدم الملاك ، وذلك لأن القدرة المأخوذة في الواجب قيد للواجب ، وكلّ ما
يكون قيداً له فهو قيد للملاك ، لاستحالة تقيّد الواجب من دون تقيّد الملاك ،
وعليه ، فإنه يستحيل أن تقيّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقيّد المصلحة المترتبة
عليها والغرض منها بالطهارة ، والمفروض اعتبار القدرة الشرعيّة على الطهارة ، فإذا
انتفت هذه القدرة عليها حصل القطع بعدم الملاك ، والقطع بعدمه في المهم يبطل
الترتب ... وقد اعترف المستشكل في مباحث الضدّ بأنه متى
__________________
أُخذت القدرة في
المتعلّق وكانت قيداً للواجب ، فإنّه ينتفي الملاك بانتفاء هذا القيد ... ومع
قطعاً يستحيل جريان الترتب.
وثالثاً : كيف
الجمع بين قوله هنا في المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاك وأنّ عدمه لا ينافي
الترتّب بين الواجبين ، وقوله في كتاب الحج بشرح (العروة) «لعدم جريان الترتب في أمثال المقام» وهذا نصّ عبارته :
«الظاهر عدم وجوب
متعلّق النذر حتى في مثل الفرض ، لعدم جريان الترتب في أمثال المقام ، لأن الترتب
إنما يجري في الواجبين اللذين يشتمل كلّ منهما على ملاك ملزم ، غاية الأمر لا
يتمكن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال» ؟
فالحق مع الميرزا
، لأنّه قد أُخذ في لسان أدلّة التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء ، فكان وجوب
التيمّم والتكليف به رافعاً لموضوع حكم الوضوء ، فلو توضّأ ـ والحال هذه ـ بطل.
التنبيه الثالث
(في ما لو كان أحد الواجبين موسّعاً والآخر مضيّقاً)
هل يجري الترتب
فيما لو كان أحد الواجبين موسّعاً والآخر مضيّقاً ، كما لو وجب عليه إزالة النجاسة
عن المسجد ووجبت الصّلاة في سعة الوقت ، بعد العلم بأنهما لو كانا مضيّقين فهما
داخلان في البحث ، ولو كانا موسّعين فخارجان يقيناً؟ وجوه :
__________________
١ ـ عدم جريان
الترتب مطلقاً.
٢ ـ الجريان
مطلقاً.
٣ ـ التفصيل بما
إذا كان اعتبار القدرة في الخطاب بحكم العقل كما عليه المحقق الثاني فلا يجري ،
وأمّا بناءً على اعتبارها باقتضاء الخطاب كما عليه الميرزا النائيني فيجري.
ولا بدّ من النظر
في أصل تحقّق التزاحم في هذه الصّورة ، فالميرزا على أنّ التزاحم موجود بين إطلاق
الأمر بالموسّع وأصل الأمر بالمضيّق ـ بخلاف المضيّقين فهو بين أصل دليل كلٍّ من
الواجبين ـ ولكنّ هذا إنما يتم على مسلكه ، أمّا على مسلك المحقق الثاني ، حيث
اعتبرت القدرة في جواز التكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز ، فلا تزاحم أصلاً
، إذ يكفي في صحّة التكليف عند العقل تمكّن المكلّف على فردٍ ما من أفراد الطبيعة
، وعلى هذا ، فإن الفرد المزاحم بالمضيّق غير مقدور ، أمّا غيره من الأفراد فمقدور
، وهذه القدرة تكفي لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبيعة ، فلا موضوع للترتب ، لكونه
فرع التزاحم ...
ونتيجة ذلك على
مسلك المحقق الثاني اختصاص الترتب بالمضيّقين.
وأمّا على مبنى
الميرزا ، فإنّ مقتضى نفس الخطاب توجّه التكليف إلى الفرد المقدور من الطبيعة ،
لأنّ حقيقة التكليف هي البعث ، والبعث يقتضي الانبعاث ، وهو لا يتحقق إلاّ بالنسبة
إلى الفرد المقدور ، فلا محالة يتقيّد المأمور به بذلك ، ويخرج غير المقدور عن
دائرة اطلاق المأمور به ، ويتوقف شموله له على جواز الترتب ، فإن جوّزناه كان
داخلاً في الإطلاق عند عصيان الأمر بالأهم ، وإلاّ كان خارجاً عنه. يعني : إن شمول
الإطلاق للفرد المزاحم غير ممكن ، لكونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضيّق
له ، فينصرف الإطلاق عنه ، فلو أُريد جعله
مأموراً به فلا
مناص من الالتزام بالترتب ، بأن يتقيّد الاطلاق بالعصيان كما لو قال :
أزل النجاسة عن
المسجد فإن عصيت تجب عليك الصّلاة.
كلام
المحاضرات
وجاء في المحاضرات
ـ بعد الإيراد على الميرزا والمحقق الثاني ، بأن القدرة غير مأخوذة في متعلّق
التكليف لا من جهة اقتضاء الخطاب ولا من جهة حكم العقل ، بل هي معتبرة في ظرف
الامتثال والطاعة ـ إن جريان الترتب في المقام مبني على مسلك الميرزا من أن
استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، وبما أنّ تقييد المهم في المقام بخصوص
الفرد المزاحم محال ، لكون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً ، والممتنع الشرعي كالممتنع
العقلي ، فالإطلاق أيضاً محال ، لكون النسبة بينهما نسبة العدم والملكة.
ثم أورد عليه :
بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضادّ ، فلا يستلزم استحالة أحدهما
ـ في موردٍ ـ استحالة الآخر ولمّا كان التقييد بالفرد المزاحم غير معقول ،
والإهمال كذلك ، كان الإطلاق ضروريّاً ، فيمكن الإتيان بالفرد بداعي امتثال الأمر
المتعلّق بالطبيعة.
(قال) فجريان
الترتب هنا مرتكز على أحد أمرين : الأوّل : دعوى اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة
في المتعلّق ، وأنه يوجب تقييده بالحصّة المقدورة. والثاني : دعوى أن استحالة
التقييد تستلزم استحالة الإطلاق. لكنّ الدعويين فاسدتان كما تقدّم.
فالصحيح
: أن يقال بخروج
المسألة عن كبرى التزاحم ، لتمكّن المكلّف فيها من الجمع بين التكليفين في مقام
الامتثال .
__________________
قال
الأُستاذ
أمّا ما ذكره من
النسبة بين الإطلاق والتقييد فتام ، إذ الصحيح كون الإطلاق رفض القيود لا جمعها ،
فبناءً عليه وبالنظر إلى أنّ الحكم يستحيل أن يتجاوز عن متعلّقه ، يثبت وجوب
الإطلاق ، ومجيء الحكم على طبيعي الصّلاة لا على أفرادها ، فليس الواجب هذا الفرد
أو ذاك ، بل الفرد مصداق للواجب ... فما جاء في المحاضرات متينٌ ، إلاّ أنّ النظر
في إيراده على الميرزا ، وذلك :
أوّلاً
: إن الذي استند
إليه الميرزا لاستحالة الإطلاق ، ليس كون النسبة بينه وبين التقييد هو العدم
والملكة ، كما لا يخفى على من راجع (أجود التقريرات) و (فوائد الأُصول) ، بل مستنده هو القصور الذاتي للخطاب ، ولذا جوّز الاطلاق على مسلك المحقق
الثاني ، فلو كان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقييد التكليف بالفرد المزاحم ،
لما تعقّل الميرزا الإطلاق على ذاك المسلك ، لأن استحالة تقييده واضحة على كلا
المسلكين.
وثانياً
: لقد ذكر الميرزا
في وجه نظره : إن البعث إنما يكون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال ، ولذا يقع
التزاحم هنا بين إطلاق الواجب الموسّع وأصل وجوب الواجب المضيّق ، أمّا على مبنى
المحقق الثاني فلا تزاحم.
وإذا كان الميرزا
يعبّر بالتزاحم ، فلا بدّ وأن يكون وقوعه هنا معقولاً ، أمّا لو كان الاطلاق
مستحيلاً ـ لكونه عدم ملكة ـ فكيف يصح التعبير بالتزاحم؟
فظهر
: أن كلامه في
المقام مستند إلى الضيق الذاتي للخطاب ، وليس مستنداً إلى تقابل العدم والملكة بين
الاطلاق والتقييد ... فالإشكال عليه من هذه الناحية غير وارد.
__________________
بل
الإشكال الوارد على الميرزا : أمّا من ناحية المبنى ، فالصحيح أن اعتبار القدرة في
التكليف هو بحكم العقل وفاقاً للمحقق الثاني ، لأنّ التكليف ليس هو البعث ـ كما
ذكر الميرزا ـ بل هو جعل الشيء في الذمّة ـ وفاقاً للسيد الخوئي ـ كما هو ظاهر
الأدلّة اللفظيّة من قبيل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ...) ونحوه ، وهو
المرتكز عند العرف ، والبعث والانبعاث من آثار جعله في الذمّة ....
وأمّا من ناحية
البناء بعد فرض صحّة المبنى : فقد تقرّر أن متعلّق التكليف هو الطبيعة ، والأفراد
خارجة ، فلو كان اعتبار القدرة بنفس الخطاب وكان حقيقة التكليف هو البعث ، فلا بدّ
من إمكان الانبعاث نحو المتعلّق ، ومن المعلوم أن القدرة على المتعلّق ـ وهو
الطبيعة ـ تحصل بالقدرة على فردٍ ما من أفرادها ، فما أمكن الانبعاث نحوه هو الفرد
، لكنّ الفرد غير متعلّق للتكليف ، وما تعلّق به التكليف هو الطبيعة ، وهي ملغى
عنها الخصوصيات الفردية لا يمكن الانبعاث نحوها ، وإذا كان الامتثال يحصل بفردٍ ما
من أفرادها فلا يتحقق التزاحم ، فلا مورد للترتب.
التنبيه
الرابع
(في
الترتب في التدريجيات)
هل تجري مسألة
الترتب في الواجبين التدريجيين أو أحدهما تدريجي والآخر آنيّ أو لا؟
والكلام في ثلاث
صور :
١ ـ أن يكونا
تدريجيين.
٢ ـ أن يكون الأهم
آنيّاً والمهم تدريجيّاً.
٣ ـ أن يكون المهم
آنيّاً والأهم تدريجيّاً.
فإن كان الأهمّ
آنيّاً والمهم تدريجيّاً ، كان الجزء الأوّل من المهم التدريجي مزاحماً للأهم
الآني ، فعلى الترتّب يكون وجوب هذا الجزء مشروطاً بمعصية الأمر بالأهم الآنيّ ،
وتكون معصيته شرطاً مقارناً للوجوب الفعلي للمهم ، فإن عصى الأهم وأتى بالمهم صحّ
... ولا كلام.
وإن كان المهم
والأهم تدريجيّين ، وقع الإشكال والبحث ـ بالإضافة إلى مسألة الترتب ـ من جهة لزوم
الالتزام بالشرط المتأخّر أو بالواجب المعلّق. إذن ، يتوقّف الفتوى بصحّة العمل ـ علاوةً
على القول بالترتب ـ بالالتزام بالشرط المتأخّر.
وذلك : لأنّ
المفروض أن هنا واجبين تدريجيّين كإزالة النجاسة من المسجد في أوّل الوقت ـ وهي
الأهم ـ والصّلاة وهي المهم ، ومن الواضح أنّ فعليّة الأمر بالصّلاة متوقفة على
معصية الأمر بالإزالة ، لكن معصيتها تدريجيّة ، وتستمرّ إلى آخر الصّلاة ، بأن
يُعصى الأمر بالإزالة في وقت التكبير والقيام والركوع والسجود ... وهكذا إلى
التسليم ، ولو لا معصية الإزالة في وقت كلّ جزءٍ فلا فعليّة للجزء ... وعليه ،
فإنّ فعليّة الأمر بالتكبيرة مشروطة بعِصيان الأمر بالإزالة في وقت الأجزاء
اللاّحقة لتكبيرة الإحرام ، وهذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر.
كما يلزم الالتزام
بالواجب المعلّق ، لأنّ فعليّة الوجوب للتكبيرة متوقفة على امكان الواجب المعلّق ،
لأنّ وجوب الجزء الآخر للواجب التدريجي استقبالي ، ولو لا وجوبه لما ثبت وجوب
لتكبيرة الإحرام.
فظهر أنّ تصوير
الترتّب في هذه الصّورة يتوقّف على القول بالشرط المتأخّر والقول بالواجب المعلّق
، فمن قال بجوازها كلّها فهو في راحة ، ومن قال
بالترتب وأنكر
الشرط المتأخّر والواجب المعلّق ـ كالميرزا قدسسره ـ لم يمكنه إجراء الترتب ، وكان مورد الترتب المتزاحمين
الآنيّين فقط ، كإنقاذ الغريقين وما شابه ذلك.
تفصّي
الميرزا
لكن الميرزا قدسسره تفصّى عن هذه
المشكلة بأنّ مشكلة التزاحم كانت من ناحية عدم القدرة على امتثال
كلا الأمرين ، فكان القول بالترتّب ـ بأن يكون شرط التكليف بالأمر بالمهم هو عصيان
الأمر بالأهم ـ هو الطريق لحلّ المشكلة ، لأن اشتراط التكليف بالقدرة حكم عقلي ،
وهو يرى أن بتحقّق هذا الشرط يتحقّق الامتثال ....
وعلى هذا ، فإنّ
الشرط ـ في صورة التدريجيّين ـ هو القدرة على الجزء الأوّل من أجزاء الواجب
التدريجي المتعقّبة بالقدرة على سائر أجزائه ، فشرط وجوب الصّلاة ـ مثلاً ـ هو القدرة
على التكبيرة المتعقّبة بالقدرة على سائر أجزائها حتى التسليمة ، وهذا العنوان ـ عنوان
التعقّب ـ حاصل بالفعل ، فيندفع بهذا البيان محذور الالتزام بالشرط المتأخّر ،
فيكون شرط فعليّة وجوب الأمر بالمهم عصيان الأمر بالأهم في الآن الأوّل متعقّباً
بعصيانه في بقيّة الآنات ، وقد فرض تحقّق عصيانه في آن أوّل امتثال الأمر بالمهم
المتعقّب بعصيانه في سائر أزمنة امتثال المهم ، فيكون من الشرط المقارن لا من
الشرط المتأخر.
اشكال
السيد الخوئي
وقد أشكل عليه في (المحاضرات)
: بأن لا محصّل لجعل عنوان التعقّب
__________________
هو الشرط ، لعدم
الدليل عليه .
دفاع
الأُستاذ عن الميرزا
فقال الأُستاذ :
بأن كلام الميرزا دقيق ، وذلك ، لأن أساس حكم العقل هو استحالة تعلّق الأمر
بالضدّين ، للزوم التكليف بالمحال أو التكليف المحال ، وأساس ذلك هو عجز المكلّف
عن الامتثال ، فكان الحاصل عدم وجود القدرة على امتثال الأمر بالمهم ، أمّا مع
عصيان الأمر بالأهم فالقدرة تحصل ، وإذا حصلت تحقق الشرط لوجوب المهم ، فيجب
امتثاله ... وهذا هو الأساس في نظرية الترتب.
وعليه ، فإن
العصيان للأهم إنما يكون شرطاً للمهم من جهة حصول القدرة على المهم بذلك ، وإلاّ
فالمكلّف عاجز عن امتثاله ، ففي المورد الذي يستمرّ فيه الأمر بالأهم إلى آخر جزءٍ
من أجزاء المهم ، ـ كما هو الفرض في الإزالة بالنسبة إلى الصّلاة ـ تتحقّق القدرة
على المهم فيما إذا استمرت معصية الأهمّ إلى الآخر ، وإلاّ ، فلا تحصل القدرة التي
هي شرط التكليف بالمهم بحكم العقل ، فيعتبر في فعليّة وجوب الصّلاة القدرة
المستمرة ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالعصيان المستمر للأمر بالإزالة ، ومع فرض تعقّب
معصية الجزء الأوّل من الأهم ، أو المعصية في الآن الأول من آناته بالمعصية إلى
الآن والجزء الأخير ، تكون القدرة على المهمّ حاصلةً على الصّلاة ، ويحكم العقل
بوجوب الامتثال.
وإن كان الأهم
تدريجياً والمهم آنيّاً ... فالإشكال على حاله ، لأنّ المفروض استمرار الأهم ،
وبالاشتغال به من الآن الأوّل تنتفي القدرة على المهم الآني.
__________________
التنبيه الخامس
(في حكم الاطلاع على الأهم بعد الاشتغال بالمهم)
إنه تارةً : يطّلع
على الأهم قبل الاشتغال بالمهم ، وأُخرى : بعده. فإن كان الأوّل فالترتّب جارٍ ،
وإن كان الثاني فصورتان ، إحداهما : ما إذا لم يكن قطع المهم محرّماً ، فالترتب
جارٍ كذلك. والثانية : ما إذا كان قطعه حراماً ، فالميرزا على أن لا ترتب بل الأمر
بالمهم متوجّه والامتثال له متحقق.
والمثال الواضح هو
الإزالة والصّلاة ... فلو التفت إلى النجاسة في المسجد وهو في الصّلاة ، فالصّلاة
مأمور بها حتى بناءً على انكار الترتب ، فإن كان دليل وجوب الأهم هو الإجماع ، كان
المورد خارجاً عن القدر المتيقّن ، وهو صورة الاشتغال بواجبٍ ، والمفروض كونه في
الصّلاة. وإن كان دليله لفظيّاً وكان مطلقاً ، قطع الصّلاة وعمل بمقتضى الترتب.
إشكال السيد الخوئي
فأشكل عليه : بأن
دليل حرمة قطع الصّلاة إن كان هو الأخبار في أن تحليلها التسليم ، فالأمر كما أفاد
الميرزا ، لأن القدر المتيقّن من الإجماع على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً
، إنما هو في غير ما دلّ الدليل اللّفظي بإطلاقه على وجوب المضيّ في الصّلاة ،
المستلزم لتأخير الإزالة إلى زمان الفراغ منها. وأمّا إن كان دليل حرمة قطع
الصّلاة هو الإجماع فقط ، لعدم دلالة تلك الأخبار إلاّ على الحكم الوضعي فلا تفيد
الحرمة التكليفيّة ، فلا موجب لتقدّم وجوب المضيّ في الصّلاة على وجوب الإزالة ،
بل مقتضى القاعدة هو الحكم بالتخيير. فقول الميرزا بوجوب المضيّ في الصّلاة لا
دليل عليه .
__________________
جواب الأُستاذ
وقد أجاب الأُستاذ
عن ذلك : بمنافاته لما بنى عليه المستشكل في الفقه ، فقد ذهب إلى أن معنى كلمة «الحل»
لغةً وعرفاً هو «الإرسال» كما أن «الحرمة» هي «الحرمان» ومقتضى ذلك : ظهور
اللّفظتين في الإطلاق الشامل للحكم الوضعي والتكليفي معاً ، وتخصيصها بأحدهما
يحتاج إلى قرينةٍ ، كأن لا يكون المورد قابلاً للحكم الوضعي كما في (أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ) و (حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وأمّا مع عدم
القرينة ، فمقتضى القاعدة هو الحمل على الجامع بين الحكمين كما هو مختاره في (وَأَحَلَّ
اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).
وعليه ، فإن
المستفاد من الأخبار هو مبطليّة فعل المنافي للصّلاة وحرمة ذلك تكليفاً ، إلاّ في
النّافلة لقيام الدليل على جواز قطعها فيكون مخصّصاً للأخبار المذكورة ، وأمّا
الخدشة في أسانيدها فمردودة ، كما أوضحناه في محلّه.
وتلخّص : أن الحق
مع الميرزا ... والله العالم.
وهذا تمام الكلام
في مسألة الضدّ.
__________________
هل
الأوامر والنواهي
متعلّقة
بالطبائع أو الأفراد؟
نظرية صاحب الكفاية :
قال : الحق أن
الأوامر والنواهي تكون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد. ولا يخفى أن المراد أن
متعلّق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد ، كما أنّ متعلّقه في النواهي هو محض
الترك. ومتعلّقها هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيّدة بقيود تكون بها موافقة
للغرض والمقصود ، من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات اللاّزمة للوجودات ، بحيث لو
كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً ، كما هو
الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام ، بل في المحصورة على ما حقق في غير
هذا المقام.
وفي مراجعة
الوجدان للإنسان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنه لا
غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع ، ولا نظر له إليها من دون نظرٍ إلى
خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وإنّ نفس وجودها السّعي ـ بما هو وجودها
ـ تمام المطلوب ، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة.
فانقدح بذلك أن المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها السّعي
بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود متعلّقة للطلب ، لا أنها بما هي هي كانت
متعلّقة له كما ربما يتوهّم ، فإنها كذلك ليست إلاّ
هي ، نعم هي كذلك
تكون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود. فافهم .
توضيحه
عند ما يتعلّق
الأمر بالصّلاة ـ مثلاً ـ فإنّها إذا وجدت كان لها لوازم ، من المكان والزّمان
الخاصّين بها ، ومن غير ذلك ، فعلى القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة تكون هذه
الخصوصيّات اللاّزمة للوجود خارجةً من تحت الطلب ، وعلى القول بتعلّقه بالفرد
داخلة تحته ... هذا ما ذكره أوّلاً. لكنّه غيّر التعبير فقال : إن الغرض متعلّق
بنفس الطبيعة ، وإن نفس وجودها السعي ـ بما هو وجودها ـ تمام المطلوب ، من دون
نظرٍ إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد
ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة.
والحاصل
: تارةً : ننظر إلى
الطبيعة بما هي موجودة فنقول : المطلوب في ب (أَقِمِ الصَّلاةَ) مثلاً هو وجود طبيعة الصّلاة ، لا هذا الوجود منها أو ذاك
من الوجودات الخاصة ، وأُخرى : ننظر إليها مجرّدةً عن لوازم وجودها وأمارات
تشخّصها ونقول بأن المطلوب هو وجود الطبيعة ، وتلك العوارض واللوازم غير داخلة في
الطلب ... وعلى كلّ تقديرٍ ، فإنّ تمام المطلوب هو الطبيعة ـ لا هذا الفرد أو ذاك
ـ تلك الطبيعة التي هي ملزوم اللّوازم والمشخّصات ، أمّا هي ، فخارجة عن تحت الطلب
وإن كانت الطبيعة غير منفكّة عنها.
هذا ، وقد أشار
بأمره بالفهم إلى أنه لا يمكن أن يكون الأمر طلب الوجود ، بل الأمر نفس الطلب ،
فالوجود خارج من الأمر.
وأمّا دليله على
ما ذهب إليه من أن متعلّق الأمر هو الطبيعة ، فالوجدان ، يعني
__________________
أنّا لمّا نراجع
الوجدان ـ في المرادات التكوينيّة ، كإرادتنا للأكل والشرب والضرب ، والتشريعيّة ،
كإرادتنا صدور تلك الأفعال من الغير ـ نرى أن متعلّق الطلب والإرادة ليس إلاّ وجود
الطبيعة ولا دخل للزمان والمكان ... غير أنّ الفرق بين الأمر والنّهي هو أنّ
متعلّق الطلب في الأولى هو صرف الإيجاد وفي الثاني محض الترك ، ولا يخفى وجود
الخلاف في حقيقة الأمر والنهي ، فقيل : الأمر هو البعث نحو المادّة والنهي هو الزجر
عنها ... وعلى هذا لا دخل للوجود والعدم في المتعلّق. وقيل ـ وهو مسلك الكفاية ـ أن
المدلول في الأمر والنهي ليس إلاّ الطلب ، غير أن متعلّقه في طرف الأمر هو الوجود
وفي طرف النهى هو الترك والعدم.
أمّا صاحب الفصول
والمحقق القمي ، فقد استدلاّ للمدّعى بالتبادر ، وبأن مادّة المتعلّق ـ مثل
الصّلاة ـ ليست إلاّ الصّلاة ، والخصوصيّات الزائدة عليها لا دخل لها في المادّة.
فظهر أنّ الأدلّة
للمدعى ثلاثة :
١ ـ تبادر الطبيعة
إلى الذهن.
٢ ـ مادّة متعلّق
الأمر.
٣ ـ الوجدان.
الإشكال على
المحقق الخراساني
ثم إنّ الأُستاذ
أورد على ما تقدّم عن الكفاية بما يلي :
أوّلاً
: إنه جعل مدلول
الأمر طلب الفعل ، ومدلول النهي طلب الترك. فيرد عليه الإشكال في الأوامر التي هي
هيئات عارضة على المواد ـ وهي الأكثر في الأوامر ـ بأنّ الهيئات معاني حرفيّة ، و
«الطلب» معنى اسمي ، فكيف يصير المعنى الاسمي مدلولاً للهيئة؟
فإن قيل : إن
المحقق الخراساني لا يفرّق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي.
قلنا : نعم ،
لكنّه يرى الاختلاف بينهما باللّحاظ ، وهذا يتمّ في مثل الابتداء والانتهاء
ونحوهما ، أمّا الطلب فلا يقبل اللّحاظين.
وثانياً
: إنه جعل الاختلاف
بين الأمر والنّهي في ناحية المتعلّق ، فكلّ منهما طلب ، لكن الأمر طلب الفعل
والنهي طلب الترك.
وفيه : إن هذا خلاف
الارتكاز العرفي ، إذ العرف العام على أنهما متغايران بالذات.
وثالثاً
: إنه أدخل الوجود
والعدم في مدلولي الأمر والنهي ، لكنّ كلاًّ من الأمر والنهي مركّب من المادّة
والهيئة ، ولا دلالة لشيءٍ منهما على الوجود في طرف الأمر ، والعدم في طرف النهي ،
وقد عرفت أنّ المعنى الاسمي لا يمكن أن يكون مدلولاً للهيئة التي هي معنى حرفي ،
ولا يعقل وجود مدلولٍ بلا دالٍّ ، فلا يدلّ الأمر على طلب الوجود والنهي على طلب
الترك والعدم.
ورابعاً
: قوله : بأن
متعلّق الطلب هو وجود الطبيعة ، لأن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي ، لا مطلوبة
ولا لا مطلوبة.
وفيه : إن الطلب على
مسلكه هو طلب الوجود ، وقد طرأ على الطبيعة ـ وهو أمر زائد على ذاتها ـ فلما ذا لا
يطرأ على الطلب؟ وعلى الجملة ، فإنّ المناط لصحّة تعلّق الطلب بوجود الطبيعة هو
المناط لتعلّقه بها ، وإذا كانت الطبيعة من حيث هي ليست متعلّقة للأمر ، فهي غير
متعلّقة للطلب أيضاً.
وخامساً
: ما أورده
المحقّقان الأصفهاني والعراقي ، وهو يرتبط بجوابه عن الوهم. وتوضيح ذلك :
إنه قد ذكر تحت
عنوان «دفع وهم» ما حاصله : إن الأمر طلب وجود
الطبيعة ، فيرد
عليه : أنّه إنْ كان المراد وجودها الذهني ، ففيه : أن الوجود الذهني ليس بحاملٍ للغرض حتى يطلب. وأيضاً : يرد عليه ما يرد على الوجود الخارجي إن كان المراد ، وهو :
إن الطلب من المفاهيم ذات التعلّق ، كسائر الصفات النفسانية من الحبّ والبغض
ونحوهما ، فلو تعلّق بالوجود الخارجي ، يلزم أن يصير هو ـ أي الطلب ـ خارجيّاً ،
أو يصير المتعلّق الخارجي نفسانيّاً ، وكلاهما محال.
وأيضاً
: فإنّ الخارج ظرف
سقوط الطلب ، فكون الوجود الخارجي مقوّماً للطلب محال.
فأجاب في الكفاية
: بأن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب هو أن يريد المولى صدور الوجود من
العبد وإفاضته بالمعنى الذي هو مفاد كان التامّة ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت
في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهّم ... فليس متعلّق الطلب هو الوجود الخارجي
، لأنه مسقط للطلب ولأنّه تحصيل للحاصل ، بل المتعلّق هو الإفاضة.
والإشكال
على هذا الجواب هو : إن الإفاضة عين المفاض ، والصدور عين الصادر ، والإيجاد عين الوجود ، لأنّ
اسم المصدر والمصدر واحد حقيقةً والاختلاف بالاعتبار ، فرجع الأمر إلى الوجود
الخارجي ، فالإشكال باق على حاله.
نظرية الميرزا
وأمّا الميرزا
النائيني ، فقد جعل البحث في المقام من صغريات مبحث أنّ الكلّي
الطبيعي موجود في الخارج أو لا؟ فعلى القول بعدم وجوده خارجاً ، يكون متعلّق الطلب
هو الفرد ، إذ المفروض أنه موجود غيره ، فهو المطلوب والغرض
__________________
قائم به. أمّا على
القول بوجود الكلّي الطبيعي ، فهو متعلّق الغرض بقطع النظر عن مشخّصاته ، بحيث لو
تمكّن المكلّف من إيجاده خارجاً بدونها لحصل الغرض.
وعلى هذا ، فتظهر
الثمرة بين القولين في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، ففي الصّلاة في الدار المغصوبة
ـ مثلاً ـ يبقى الطلب على القول بتعلّقه بالطبيعة على الصّلاة ولا يتجاوزه إلى
متعلّق النهي وهو الغصب ، لكونهما طبيعتين مستقلتين ، غاية الأمر ، أن كلّ واحدةٍ
منهما قد أصبحت مشخّصةً للأُخرى في مورد الاجتماع ، والمفروض خروج المشخّصات عن
دائرة المتعلّق ، وعليه ، فيقال بجواز اجتماع الأمر والنهي. وأمّا على القول
بتعلّق الطلب بالفرد ، وهو الصّلاة مع المشخّصات في المثال ، فقد أصبح الفرد ـ وهو
هذه الصّلاة في الدار المغصوبة ـ هو المطلوب ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في الشيء
الواحد ، وهو محال ... وهذه ثمرة مهمّة.
والمختار عند
الميرزا هو : تعلّق الأمر بالطبيعة ، وأنّ المشخّصات لها إنما توجد في عرض وجودها
خارجاً ، وليست من ذات الطبيعة وماهيّتها قبل وجودها ، لتدخل في دائرة المتعلّق.
اشكال السيد الخوئي
وقد أشكل عليه في (المحاضرات)
: بأن هذه النظرية خاطئة ، لأنّ كلّ وجود ـ سواء كان جوهراً أو عرضاً ـ يتشخّص في
الخارج بذاته ، فلا يعقل أن يكون متشخّصاً بوجود آخر ، لأن الوجود هو التشخص
وتشخّص كلّ شيء بالوجود ، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بشيء آخر أو بوجود ثان وإلاّ
لدار أو تسلسل ، وعليه ، فتشخّصه ـ بمقتضى قانون كلّ ما بالغير وجب أن ينتهي إلى
ما بالذات ـ يكون بنفس ذاته ، وهذا بخلاف الماهيّة فتشخّصها يكون بالوجود. وعليه ،
فإنّ الأمور المتلازمة مع الطبيعة خارجاً من الكم والكيف وغيرها ،
موجودات أُخرى في
عرض وجود الطبيعة ومتشخّصات بنفس وجوداتها ، وهي أفراد لطبائع مختلفة ، فلا يعقل
أن تكون مشخّصات لوجود الطبيعة ، وعليه ، ففي إطلاق المشخّصات للطبيعة عليها
مسامحة واضحة.
(قال) وبعد بيان
ذلك نقول : إن تلك اللّوازم والأعراض كما أنها خارجة عن متعلّق الأمر على القول
بتعلّقه بالطبيعة ، كذلك هي خارجة عن متعلّقه على القول بتعلّقه بالفرد ، بداهة
أنه لم يقصد من القول بتعلّقه بالفرد تعلّقه بفردٍ ما من هذه الطبيعة وفردٍ ما من
الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي كالغصب مثلاً.
(قال) وكيف كان ،
فالعجب منه قدسسره كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة وهي : أن الأعراض واللوازم
ليست متعلّقة للأمر على كلا القولين ، ولكنك قد عرفت أن هذا مجرّد خيال لا واقع له
، وإن مثل هذا الخيال من مثله غريب ، لما سبق من أن تلك الأعراض لا تعقل أن تكون
مشخّصات الوجود خارجاً ، فإن تشخّص الوجود بنفسه لا بشيء آخر ، بل إنها وجودات
أُخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في الخارج .
جواب الأُستاذ عن الاشكال
وأجاب الشيخ
الأُستاذ : بأن السيّد قد اشتبه في تقريب كلام الميرزا فقال ما لا ينبغي أن يقول ،
فإنّ الميرزا يصوّر النزاع على أساس أن التشخّص بالوجود : بأنّه إن كانت المشخّصات
عارضةً على الطبيعة قبل عروض الوجود ، فالوجود لا محالة يكون طارياً على الماهيّة
المشخّصة ، وتكون العوارض موجودة بعين وجود الفرد ، وإن كانت غير عارضة على
الطبيعة قبل وجود الفرد ، بل في نفس
__________________
تلك المرتبة التي
طرأ فيها الوجود على الفرد ، فالماهيّة حينئذٍ غير متشخصة بالعوارض بل يكون
تشخّصها بالوجود.
فالقائلون بتعلّق
الأمر بالفرد يقولون بأن الماهيّة تتشخّص بالعوارض من الكم والكيف والأين ، فتكون
موجودة. والقائلون بتعلّقه بالطبيعة يقولون بأن متعلّق الأمر هو الماهيّة والتشخّص
غير داخل فيه.
وبهذا تظهر الثمرة
في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فعلى القول بخروج التشخصات عن المتعلّق يكون متعلق
النهى غير متعلق الأمر ، وأمّا على القول بدخولها كان الأمر والنهي واردين على
الشيء الواحد ، ويلزم الاجتماع ولا بدّ من القول بالامتناع.
ومختار الميرزا هو
أن العوارض المشخّصة ليست عارضةً من قبل ، بل إنها تشخّص الماهيّة في عرض الوجود ،
فالمتعلّق هو الطبيعة.
والحاصل : إن
الميرزا يصرّح بأن التشخّص ليس إلاّ بالوجود ، ونسبة تشخّص الماهيّة بالعوارض إليه
هو الأمر الغريب.
إلاّ أن يشكل على
المبنى ، فينكر أن تكون العوارض والمشخّصات في عرض الوجود ... وهذا أمر آخر.
نظريّة المحقّق العراقي
وقال المحقق
العراقي قدسسره : إن الطلب على كلّ تقدير يحتاج إلى متعلّق ، وهو مورد
النزاع.
والطبيعة تلحظ :
تارةً بما هي هي ، ففي الانسان ـ مثلاً ـ لا يلحظ إلاّ الحيوان والناطق. وأُخرى :
تلحظ موجودةً بالوجود الذهني كقولنا : الإنسان نوع. وثالثةً : تلحظ بما هي
خارجيّة.
فيقول : إن متعلّق
الطلب في الأمر هو العنوان ، لكن العنوان المرئيّ خارجاً ، وكذلك الصفات
النفسانيّة كالحبّ والشوق والإرادة ، فإنها تتعلّق بالعناوين الفانية في
المعنونات. فمراد القائلين بتعلّق الأمر بالفرد هو أن المتعلّق نفس المعنون
الموجود في الخارج ، ومراد القائلين بتعلّقه بالطبيعة أن المتعلّق هو العنوان ـ لا
المقيّد بالوجود الذهني ، لأنه لا يقبل الوجود في الخارج ، ولا بما هو هو ، لأنه
ليس بحاملٍ للغرض كي يتعلّق به الغرض والأمر ، ولا الموجود في الخارج ، لأنه فرد
وهو منشأ لانتزاع عنوان الطبيعة ، ـ أي العنوان المتّحد مع الخارج ، كالإنسان
المتحد مع زيد ... فظهر الاختلاف بين القولين ... فالقول الأول : هو تعلّق الأوامر
بالأفراد الموجودة خارجاً ، كزيد المعنون بعنوان الإنسان. والقول الثاني : هو
تعلّقها بالعناوين كعنوان الإنسان الملحوظ فانياً في زيد.
قال : نظير الحال
في الجهل المركب ، حيث توجد الإرادة عند الجاهل كذلك ، لكنّ متعلّق الإرادة عنده
هو العنوان والصورة الفانية في الخارج في ذهنه ، لا الخارج ، لأن الخارج ظرف سقوط
الأمر ، فلا يكون متعلّقاً للطلب والإرادة التي هي صفة نفسانية.
ثم أورد على
الكفاية قوله : بأن متعلّق الطلب هو إيجاد الطبيعة فقال : إن متعلّق الطلب متقدّم
على الطلب تقدّماً طبعيّاً ، فلا يعقل وجود الطلب بلا متعلّق ، وإن أمكن وجود
المتعلّق بلا طلب ، كأن يتعلّق الطلب بالأكل ، فإنه بدون الأكل محال ، لكن قد يوجب
الأكل بلا طلب ، فلا ريب في تقدّم متعلّق الطلب على الطلب تقدّم الواحد على
الاثنين ، إذ لا يعقل وجود الاثنين بدون الواحد ، لكن يمكن وجوده بدون الاثنين ...
هذا أوّلاً.
وثانياً : إن
إيجاد الطبيعة معلولٌ للطلب فيكون متأخّراً عنه رتبةً ، فلو كان هو
المتعلّق كان متقدّماً
رتبةً على الطّلب ، فيلزم تقدّم المتأخّر ، وهو محال.
وأورد عليه أيضاً
قوله : بكون المتعلّق هو الوجود السعي للطبيعة : بأنّ هذا غير ممكن ، لأنه قد تؤخذ
مادة الوجود في الأمر ، فيلزم حضور الوجود في الذهن قبل الأمر بمرتبتين ، كما لو
قال ـ بدل : «صل» ـ أوجد الصّلاة ، وهذا ضروري البطلان.
وتلخّص
: إنه ليس متعلّق
الإرادة هو الخارج ، إذ الخارج ظرف سقوط الطلب والإرادة ، وليس الوجود الذهني ، بل
إن الحامل للمصلحة والغرض هو الوجود الخارجي ومتعلّق الطلب هو الوجود الزعمي ، كما
ذكر ، أي الوجود المرئي خارجاً ، فلمّا يقول : «جئني بماءٍ» يتصوّر الماء خارجاً ،
أمّا لدى التّصديق فالصّورة غير خارجيّة وإنما هي مرئيّة خارجاً ، فالصّورة في
النظر التصوّري خارجيّة وفي النظر التّصديقي غير خارجيّة ، لأن الخارج ظرف للسقوط
، فهي غير منعزلة عن الخارج ، كما أن الماهيّة غير منعزلة عن الوجود ، لكنّ
التحليل العقلي يعزل الماهيّة عن الوجود ، فالصّور كذلك ، هي بالتحليل العقلي
منعزلة عن الخارج ، لكنّ الصورة متّحدة مع الخارج ، فيكون الخارج هو الحامل للغرض
، ولكن الصّورة هي متعلّق الطلب .
نظر الأُستاذ
وتنظّر الأُستاذ
في هذه النظريّة : بأنه صحيحٌ أن الخصوصيّات لا تتعلّق بها الإرادة ، سواء في
الأوامر الشرعيّة أو العرفيّة ، لكنّ القول بأن متعلّق الإرادة هي الصّورة الفانية
في الخارج بالنظر التصوّري ـ أمّا بالنظر التصديقي فخلاف الواقع ، لكون الصورة في
الذهن ولا علاقة لها بالخارج ـ لا يمكن المساعدة عليه ، لأنه
__________________
خلاف الوجدان ،
لأنا لا نجد في أنفسنا في مختلف مراداتنا تعلّق الطلب والإرادة بالصّورة الفانية
في الخارج ، وكيف يكون للإنسان طلب وإرادة ولا يجد في نفسه ولا يلتفت إلى متعلّق
طلبه؟ هذا أوّلاً.
وثانياً : إنّ
المفروض في كلامه قدسسره هو : أجنبيّة الصّورة الفانية في الخارج عن الخارج الواقعي
، وأنّ ذلك ليس إلاّ في النظر التصوّري أمّا بالنظر التصديقي فهو باطل. فيرد عليه
: أنه كيف يعقل تعلّق الإرادة بعنوانٍ وصورةٍ يراها بالنظر التصديقي غير موجودة في
الخارج؟
وأمّا إيراده على
نظريّة تعلّق الأمر بإيجاد الطبيعة ، فيمكن دفعه بأن : الإيجاد ذهني تارةً وأُخرى
هو ذهني فانٍ في الخارج ، فكما عندنا وجود خارجي ووجود ذهني هو مرآة للوجود
الخارجي ، كذلك الإيجاد ، لأن الوجود والإيجاد واحد حقيقةً ، فلقائل أن يقول بأن
متعلّق الطلب هو الايجاد المفهومي الفاني في الخارج ... وبذلك يندفع الإشكال وإن
كانت عبارة الكفاية قابلةً له.
وأمّا إيراده
الثاني من لزوم تصوّر الوجود مرّتين في مثل : أوجد الصّلاة ، لكون الهيئة مشتملةً
على الوجود على مسلك الكفاية ، ولكون مادّة الوجود في حيّز الطلب ... فقد يجاب عنه
: بأنّ الوجه في إشراب الوجود في الهيئة هو أن العقل يرى عدم قابليّة الطبيعة من
حيث هي لتعلّق الطلب بها ، فلا مناص من أخذ الوجود لتصير قابلةً لذلك ، سواء كانت
المادّة هي الوجود أو غيره من المواد ، فإن كانت المادّة هي الوجود فلا ضرورة
عقليّة لإشرابه في المادّة ، فلا يتكرّر تصوّر الوجود.
نظريّة السيد البروجردي
وأمّا السيّد
البروجردي ، فقد قدّم على بيان ما ذهب إليه مقدّماتٍ ، ذكر
في الأولى المراد من الحصّة والطبيعة والفرد فقال : بأن المراد من
الحصّة تارةً : هو الطبيعة المضافة كقولنا : الانسان الأبيض ، وأُخرى : الماهيّة
المتشخّصة بالوجود ، أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد حصّة من الإنسان ، وكذا في
عمرو وغيره ، فلهم في الحصّة اطلاقان في قبال الطبيعة بقطع النظر عن الإضافة ،
كقولك الانسان نوع ، الصادق على الخارج من زيد وعمرو ... فيقال : زيد إنسان ، وذلك
لأنهم وجدوا في الأفراد ـ كقولنا زيد موجود ـ حيثيّتين ، حيثيّة الوجوديّة ، وهي
تشمل عمراً وبكراً والسماء والأرض أيضاً ، وحيثيّة خصوصيّة في زيد ، فهو زيد ومع
الإنسانية التي يشاركه فيها عمرو وبكر ، فالطبيعة لها وجود في القضيّة الذهنيّة ـ وهي
قولنا : الإنسان نوع ـ يشترك فيها زيد وعمرو وبكر من حيث الوجود كما يشتركون من
حيث الانسانية ... وهذه هي الطبيعة.
(قال) والماهيّة
التي هي عبارة عن الطبيعة موجودة في الخارج ، ولا يصح القول بعدم وجودها ، غير أنّ
للوجود إضافتين ، احداهما : إلى الفرد ، والأُخرى : إلى الطبيعة ، فهو يضاف أوّلاً
وبالذات إلى الماهيّة المتشخّصة التي هي حصّة من الطبيعة ، ثم إلى الطبيعة في
الرتبة الثانية ، فبناءً على أصالة الوجود يكون المتحقق بالذات في الخارج هو
الوجود ، إلاّ أنه ليس بغير حدّ ، بل الحدّ أيضاً موجود حقيقةً ، فالوجود موجود
بالذات والإنسانيّة الموجودة في زيد حدّ لهذا الوجود ، وكذلك الوجود في عمرو ...
وذلك الحدّ هو الماهيّة الشخصيّة أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد المركّبة من جنس
هو «حيوان» وفصل هو «ناطق». وهكذا
__________________
في غيره ... لكن
الإنسانية الموجودة بوجود زيد غير الموجودة بوجود عمرو ... وهكذا ، كما أنّ وجود
كلّ منهم يغاير وجود الآخر ... إلاّ أن الإنسانيّة ـ الحيوانيّة الناطقية ـ موجودة
ووجودها يكون أوّلاً وبالذات ، ويكون وجود الإنسان : زيد وعمرو ... ثانياً وبالعرض
، أي بتبع وجود الإنسانيّة ، وهذا معنى قولهم : «الحق أن الطبيعي موجود بوجود فرده».
فظهر المراد من
الحصّة والطبيعة والفرد ، وخلاصة ذلك أن :
الحصّة عبارة عن
الإنسانية الموجودة بوجود خاص :
والطبيعة عبارة عن
الجهة المشتركة بين الإنسانيّات الموجودة ، ووجود هذه الجهة يكون بوجود الأفراد ،
كنسبة الآباء إلى الأبناء.
والفرد قد يطلق
ويراد منه الوجود ، بناءً على أصالة الوجود ، إذ الوجود متفرّد بذاته وهو عين
الفردية ، وقد يطلق ويراد منه الماهيّة ، وهو الفرد بالعَرَض.
وقد ذكروا أن
الماهيّة على قسمين : ما يقبل الصّدق على كثيرين وهو الطبيعة غير المتحصّصة ، وما
لا يقبله وهو الماهيّة المتحصّصة أي المتشخّصة. فالإنسانية تصدق على كثيرين ، أمّا
إنسانية زيد فلا ، كما أن الوجود كذلك ، فلا يقبل الصّدق على كثيرين لأنه سالبة
بانتفاء الموضوع ، بخلاف الماهيّة المتشخّصة ، فهي في ذاتها تقبل الصّدق على
كثيرين ، لكنّها بإضافتها إلى الوجود سقطت عن القابليّة لذلك ، فكان عدم القابليّة
للصّدق على كثيرين فيها بالعرض ، كما كان في الوجود بالذات.
المقدمة
الثانية : تارةً : نجعل
الموضوع في القضيّة مفهوم الوجود كأن نقول : «مفهوم الوجود من أعرف الأشياء» ، أي
: إنه بديهي التصوّر ، وهذا من أحكام مفهوم الوجود ، ـ لا من أحكام واقع الوجود ،
لاستحالة تصوّر واقع الوجود
حتى يحكم عليه
بحكمٍ ـ بأن يجرّد المفهوم من الوجود ويتصوّر وحده في الذهن ، ثم يحكم عليه.
وأُخرى : نجعل
الموضوع واقع الوجود؟ كأن نقول : «كنه الوجود في غاية الخفاء». لكن إذا كان واقعه
غير قابلٍ للتصوّر ، فكيف يجعل موضوعاً ويحكم عليه بحكم من الأحكام؟
إن غاية ما قيل في
الجواب هو : إن مفهوم الوجود ، إن لوحظ بلحاظ ما فيه ينظر ، كان موضوعاً لأحكام
نفس المفهوم ، وإن لوحظ بلحاظ ما به ينظر ، كان موضوعاً لأحكام واقع الوجود ، وفي
قولنا : «كنه الوجود في غاية الخفاء» جعلنا مفهوم الوجود بما فيه ينظر بالنسبة إلى
واقع الوجود.
فقال : بأن متعلّق
الطلب هو مفهوم وجود الطبيعة ، لكن بلحاظه مرآةً لوجود الطبيعة ، خلافاً لصاحب
الكفاية ، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبيعة.
المقدمة
الثالثة : إن متعلّق الطلب
لا بدّ وأن يكون فيه جهة وجدان وجهة فقدان ، وأمّا الفاقد من جميع الجهات فلا يصلح
لأن يتعلّق به الطلب ، لأنه معدوم والمعدوم لا يتقوّم وجود الطلب به ، وكذا لو كان
واجداً من جميع الجهات ، فإن طلب ما كان كذلك طلب للحاصل وهو محال.
وبعد
المقدمات : إن متعلّق الطلب
والإرادة هو الوجود الفرضي للموجود التحقيقي الخارجي ، فإنّه في عالم الفرض يفرض
وجود شيء فيتعلّق الإرادة والطلب والشوق به لأن يوجد خارجاً ، فالمتعلّق هو ما في
يفرض أنه موجود في الخارج ... وكذلك الحال في جميع الإرادات التكوينيّة ، إذ المتعلّق
لها هو الموجود بالحمل الشائع لكن بالوجود الفرضي ، ووزان الإرادة التشريعيّة وزان
الإرادة التكوينيّة ، فيكون المتعلّق لها هو الوجود التحقيقي الموجود بالوجود
الفرضي ...
وأمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق ... وعلى هذا ، يكون تطبيق المكلّف
للمتعلّق على الأفراد بنحو التخيير ... لأنه ليس المتعلّق إلا وجود الطبيعة
بالوجود الفرضي بتعبير المحقق الأصفهاني ، وبتعبير السيد البروجردي : مفهوم وجود
الطبيعة الفاني بوجود الطبيعة ، فيكون التطبيق بيد المكلّف ، وهذا تخيير عقلي ،
بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد والماهيّة الشخصيّة ، فإن التخيير يكون
شرعيّاً. فظهر ما في كلام المحاضرات من جعل التخيير عقليّاً على كلّ تقدير.
إشكال الأُستاذ
قال الأُستاذ بعد
بيان كلام المحقق الأصفهاني والسيد البروجردي : بأن الإشكال السّابق يعود ، لأن
مفروض الكلام كون الآمر ملتفتاً إلى أن متعلّق طلبه ليس خارجيّاً وأنه يستحيل ذلك
، لكن غرضه من الطلب قائم بالوجود الخارجي لا الفرضي ....
وعلى الجملة ،
فإنّ مشكلة كيفيّة تعلّق الطلب باقية ، ولم تحل بوجهٍ من الوجوه المذكورة في
المقام في الكتب الأُصوليّة ... بل إن حلّها موقوف على فهمنا لكيفيّة علمنا
بالأشياء ، وأنه هل يمكن المعرفة أو لا؟
وكيف كان ، فعلى
القول بتعلّق الأمر بأمارات التشخّص وكونها داخلةً في المتعلّق ، فلا محالة يلتزم
بالامتناع في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، لكون المورد حينئذٍ صغرى لباب التعارض ،
وعلى القول بخروجها ، يكون صغرى لباب التزاحم ، وتكون النتيجة هو القول بالجواز.
لكن الحق خروجها
عن المتعلّق ، لأن محلّ البحث هو تعلّق الأمر بذات الطبيعة ، المرئية خارجاً كما
عليه المحقق العراقي ، أو الموجودة بالوجود الفرضي
كما عليه السيد
البروجردي ... فالمتعلّق هو القدر المشترك بين الحصص ، لأنّه الذي يقوم به الغرض ،
... وعليه يكون التخيير عقليّاً ... خلافاً للعراقي فإنّه ـ مع ذهابه إلى أن
المتعلّق عبارة عن الطبيعة وأن الحصص غير داخلة فيه ـ قال بأن التخيير شرعي ، لكون
المتعلّق وإن كان الطبيعة ، لكنه الطبيعة بالحدود الطبيعيّة ، كالإنسان مثلاً ،
فإنه يمتاز عن غيره من الأنواع بحدودٍ طبيعيّة ، فإذا كان كذلك ، كان التخيير
شرعيّاً.
فأورد عليه
الأُستاذ : بأنّ الحدود للطبيعة ليست إلاّ الجنس والفصل ، لأنّ الحدّ المضاف إلى
الطبيعة المقوّم لها ليس إلاّ ذلك ، فعلى القول بتعلّق الأمر بالطبيعة ، يكون
المتعلّق هو الطبيعة النوعيّة ، وهي متّحدة مع الحدود ، غير أنّ الاختلاف يكون
بالإجمال والتفصيل ، كالإختلاف بين «الإنسان» و «الحيوان الناطق» فليست حدود
الطبيعة شيئاً زائداً عليها ، ولمّا كان متعلّق الطلب هو الطبيعة وهي الحامل للغرض
، فكيف يكون التخيير شرعيّاً؟ إنّ التخيير الشرعي يتقوّم بكون الخصوصيّة داخلةً
تحت الطلب بنحو على البدل ، بأن يصلح دخول «أو» عليه ، كما في : أعتق رقبةً أو صم
ستّين يوماً. أمّا حيث يكون متعلّق الطلب هو «الصّلاة» فلا تكون الصّلاة هنا أو
هناك داخلةً تحت الطلب.
وتلخّص :
إن الأمر يتعلّق
بالعنوان فيما لا طبيعة له ، كعنوان الصّلاة والصّوم والحج ، فإن كان للمتعلّق
طبيعة قابلة للوجود خارجاً فإنها هي المتعلّق وهي الحاملة للغرض ، ويكون التخيير
عقليّاً.
النسخ
كلام الكفاية :
«إذا نسخ الوجوب ،
فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ولا بالمعنى
الأخص ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام.
ضرورة أنّ ثبوت
كلّ واحدٍ من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن ، ولا دلالة
لواحدٍ من دليلي الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعيين واحدٍ منها ، كما
هو أوضح من أن يخفى ، فلا بدّ للتعيين من دليلٍ آخر» .
أقول
:
للبحث أمثلة كثيرة
، منها : قوله عزّ وجلّ : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) حيث قيل إنّ الآية منسوخة بقوله عزّ وجل (لا
إكراهَ في الدِّين). فهل يبقى جواز القتل بعد زوال الوجوب أو لا؟ فههنا مقامات
، أحدها : بقاء الجواز ثبوتاً ، والثاني : الجواز إثباتاً ، والثالث : في مقتضى
الأُصول في المسألة .... وقد أشار المحقق الخراساني في كلامه المزبور إلى أنّ
للجواز معنيين ، أحدهما : الجواز بالمعنى الأعمّ ، وهو ما يجتمع مع الوجوب
والاستحباب
__________________
والإباحة ، والآخر
: الجواز بالمعنى الأخص ، وهو الإباحة. ولفظ «البقاء» يقتضي أن يكون المراد من «الجواز»
هو المعنى الأعم لا الأخص.
فما ذكره المحقق
المذكور من عدم الدلالة على بقاء الجواز ، لا بالمعنى الأعم ولا بالأخص ، مخدوش ، لأن
الجواز بالمعنى الأخص ليس بقائيّاً أصلاً بل هو حدوثي.
المقام الأوّل
إن البحث الثبوتي
في المسألة يبتني على تشخيص حقيقة الوجوب ، فهل هو بسيطٌ أو مركّب ، وعلى الثاني
هو مركّب من جواز الفعل مع المنع عن الترك تركيباً انضماميّاً ، أو مركّب منهما
تركيباً اتحاديّاً من قبيل التركيب بين الجنس والفصل ، فيكون موجوداً بوجودٍ واحدٍ
منحلٍّ إلى جزءين؟ أقوال.
فعلى القول
بالبساطة ـ وهو الحق ـ لا بقاء للجواز بعد ارتفاع الوجوب ، لأنّ الحقيقة شيء واحد
، إمّا موجود وامّا مرتفع ، إذ البسيط لا يتبعّض والواحد لا يتعدّد.
وكذا على القول
بالتركيب الاتّحادي ، لأن بقاء الجنس بعد زوال الفصل غير معقول إلاّ متفصّلاً
بفصلٍ آخر.
وأمّا على القول
بالتركيب الانضمامي ، فيمكن بقاء الجواز ثبوتاً بعد زوال الوجوب ، وهذا واضح.
تصوير المحقق العراقي بقاء الجواز على القول بالبساطة
وحاول المحقق
العراقي رحمهالله تصوير بقاء الجواز ثبوتاً على القول بالبساطة ، بأنّ
الوجوب عبارة عن الإرادة غير المحدودة بالحدّ العدمي ، وهذه
__________________
الإرادة ـ مع
كونها بسيطة ـ مشتملة على ثلاثة أُمور هي : أصل الرجحان ، والجواز ، والحدّ
الوجوبي وهو شدّة الرجحان ، فلو ارتفع شدّة الرجحان ـ وهو الوجوب ـ أمكن بقاء
الرجحان والجواز ، نظير اشتمال اللّون الأبيض على : اللّونية ، والبياض ، وشدّة
البياض ، فإن ارتفعت الشدّة ، كان اللون والبياض باقيين.
ويشهد بذلك قولهم
بجريان الاستصحاب في المراتب ، كما في النور ، فلو كان هناك نور شديد ، ثم علم
بارتفاع الشدّة وشكّ في بقاء أصل النور والضوء ، فإنّه يستصحب النور.
مناقشته
وقد يورد عليه
بناءً على أنّ الوجوب أمر منتزعٌ من اعتبار الشارع اللاّبديّة على ذمّة المكلّف ،
والأُمور الانتزاعية لا مراتب لها وليست مشكّكة. لكنّه إشكال مبنائي.
فيرد عليه ـ مع
حفظ المبنى ـ أولاً : إن الإرادة ، وهي الشوق الأكيد غير المحدود ، كيف نفساني
تكويني ، والترخيص أمر جعلي اعتباري ، فكيف يكون من أجزاء الأمر التكويني؟
ومن هنا يظهر أن
الإرادة ليست إلاّ الشوق وشدّة الشوق ، ولا ثالث.
وثانياً : إنه على
فرض كون الترخيص أمراً واقعيّاً ، فإنّ الإرادة عبارة عن الشوق كما تقدّم ، فإن
أُبرزت مع الحدّ فهو الاستحباب ، ومع عدمه فهو الوجوب ، فهي متقوّمة بالرجحان ،
لكنّ الترخيص هو اللاّاقتضاء ، فاجتماع الترخيص مع الإرادة ودخالته فيها غير معقول
، وعليه ، فلو نسخ الوجوب أمكن بقاء الاستحباب ـ على مبنى المحقق العراقي ـ لا
الجواز بالمعنى الأعم الذي هو مورد البحث.
دليل المحاضرات على الامتناع الثبوتي
قال : إن الجواز
والوجوب ليسا مجعولين شرعيين ، بل هما أمران انتزاعيّان ، والمجعول الشرعي إنما هو
اعتبار المولى لا غيره ، والمفروض أنه قد ارتفع بدليل الناسخ ، فإذن ، لا موضوع
للاستحباب (قال) : ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلك
لا دليل لنا على بقاء الجواز ، والوجه في ذلك :
أمّا أوّلاً :
فلأن الوجوب أمر بسيط وليس مركّباً من جواز الفعل مع المنع من الترك.
وأمّا ثانياً :
فلو سلّمنا أن الوجوب مركّب ، إلاّ أن النزاع هنا في بقاء بالجواز بعد نسخ الوجوب
وعدم بقائه ، ليس مبنيّاً على النزاع في تلك المسألة ، أعني مسألة إمكان بقاء
الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه ، وذلك ، لأن النزاع في تلك المسألة إنما هو
في الإمكان والاستحالة العقليين ، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه إنما هو في الوقوع
الخارجي وعدم وقوعه ، بعد الفراغ عن أصل إمكانه .
توضيحه
:
إنّ الأمر الواقع
بالنسبة إلى الوجوب هو اعتبار ثبوت الفعل في ذمّة المكلّف ، فإن اعتبر مع الترخيص
في الترك ، كان المنتزع عقلاً هو الاستحباب ، فالوجوب في الحقيقة أمر منتزع من
الاعتبار الشرعي لا مع الترخيص ، فليس مجعولاً شرعيّاً ، فلا موضوع للبحث عن أنه
بعد النسخ هل يبقى الجواز أو لا؟
وأيضاً : فإنّ
حقيقة النسخ ليس الرفع ، لأنه يستلزم الجهل في الباري ، وإنما هو الدفع ، بمعنى
أنّه بيانٌ لانتهاء أمد الحكم ، وهذا مفاد الدليل الناسخ.
__________________
إشكال الأُستاذ
وأورد عليه شيخنا
ـ في كلتا الدورتين ـ بأن ما ذكره يناقض ما ذهب إليه ـ تبعاً للمحقق العراقي ـ من
عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكليّة الالهية الإلزاميّة ـ خلافاً
للمشهور بين المحققين ـ من جهة المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم
الجعل ، كما لو شك في جواز وطئ المرأة بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، فالأصل بقاء
الحكم المجعول وهو حرمة الوطء في حال الحيض ، لكن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم
جعل الحرمة لهذه الحال بالخصوص ، فالوجوب والحرمة أمران مجعولان شرعاً. بينما يقول
هنا بأنهما غير مجعولين من قبل الشارع ، فكيف يقع التعارض؟
وأمّا قضيّة أن
حقيقة النسخ هو الدفع ، بمعنى انتهاء أمد الحكم ، فإنّه لا منافاة بين انتهاء أمد
الحكم الوجوبي وبقاء أصل الجواز.
فالمختار في
المقام
هو عدم البقاء
ثبوتاً ، من جهة أنّ الوجوب أمر بسيط ، سواء كان انتزاعيّاً أو واقعيّاً. وما ذكره
المحقق العراقي من تصوير المسألة بناءً على هذا القول ، قد عرفت ما فيه.
هذا تمام الكلام
في المقام الأول.
المقام الثاني
إنه بناءً على
تماميّة بقاء الجواز ثبوتاً ـ كما عليه المحقق العراقي ـ تصل النوبة إلى مقام
الإثبات والبحث عن دلالة الدليل على البقاء ، ولا دليل إلاّ الناسخ والمنسوخ.
وتقريب الاستدلال هو : إن حكم الدليل الناسخ بالنسبة إلى الدليل المنسوخ حكم دليل
الاستحباب بالنسبة إلى دليل الوجوب ، فكما يقتضي ذاك
الدليل رفع اليد
عن ظهور ما دلّ على الوجوب وحمله على الاستحباب ، كذلك ناسخ الوجوب ، فإنه يزاحم
المنسوخ في دلالته على الوجوب ، أي شدّة الارادة ، ويبقى دلالته على أصل الرجحان.
وقد أورد عليه
المحقق العراقي : بأن هذا إنما يتمّ في الدليلين المتعارضين ، كأن يقوم
الدليل على الوجوب ثم يأتي دليل آخر مفاده «لا بأس بالترك» ، فبمقتضى نصوصيّة
الثاني أو أقوائيّة ظهوره يتقدّم على الأوّل ، لا في دليلين أحدهما حاكم على الآخر
، لأنه لا يلحظ في الحكومة جهة النصوصيّة أو الأقوائية بل الحاكم يتقدّم على
المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً منه. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الدليل الناسخ
ناظر إلى الدليل المنسوخ ، وهذا معيار الحكومة ، فلا يتم تنظير محلّ الكلام
بالوجوب والاستحباب.
ثم قال : وبناءً
على الحكومة ، وأن الحاكم يتقدّم على المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً ، فإنّ الظهور
العرفي قائم على كون الناسخ ناظراً إلى المنسوخ بجميع مراتبه لا بعضها ، وعلى هذا
، فإن المنسوخ يرتفع بتمام مدلوله ـ وهو الإرادة ـ وحينئذٍ لا يبقى شيء بعد ارتفاع
الوجوب.
قال : اللهم إلاّ
إذا كان الناسخ مجملاً ، فإنه يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو نسخه لمرتبة
الشدّة من الإرادة ، فيبقى أصل الإرادة ، إلاّ إذا سرى إجمال الناسخ إلى المنسوخ
فيسقط من الأساس.
قال
الأُستاذ
ولا يرد على
المحقق المذكور : أن ما ذكره إنما يتم في صورة كون الظهور ذا مراتب ، وهذا أول
الكلام ، إذ لا ينبغي الاختلاف في مراتب الظهور ، وإلاّ لما أمكن
__________________
تقدم النصّ على
الظاهر ، إذ النصوصيّة ليست إلاّ الشدّة في مرتبة الظهور.
لكنّ الإشكال
الوارد عليه في استثنائه صورة إجمال الناسخ ، إذ فيه :
أوّلاً : إن الناسخ
دليل منفصلٌ عن المنسوخ ، فيستحيل سراية إجماله إليه ، وإلاّ لزم سراية إجمال كلّ
مخصّص منفصل مجمل إلى العام ، وعدم جواز التخصيص ....
وثانياً : إن بقاء
الرجحان في حال عدم سراية الإجمال ـ إن كان مجملاً ـ إلى المنسوخ ، موقوف على
دلالة المنسوخ على الرجحان ، وهي إمّا بالالتزام وامّا بالتضمّن ـ وهو يقول
بالثاني لأنه يرى أن الرجحان من مراتب الوجوب ، والتحقيق هو الأول ـ لكنّ الدلالة
التضمنيّة والالتزامية فرعٌ للدلالة المطابقيّة ، في الحدوث والحجيّة ، فلو سقطت
فلا تبقى الدلالتان ، وفيما نحن فيه : تقع المزاحمة بين الناسخ والمنسوخ ، إمّا في
أصل مدلول المنسوخ وامّا في حجيّته ، وعلى كلّ تقديرٍ ، فإنّه يسقط ، وإذا سقط
المدلول المطابقي استحال بقاء شيء.
فالحق ، أنه على
مسلك المحقق العراقي في حقيقة الوجوب : لا يبقى دلالة على الرجحان المستلزم للجواز
بالمعنى الأعم.
المقام الثالث
فإنّه ـ بعد
الفراغ عن مرحلة الثبوت ، وعن البحث الإثباتي ـ هل يجري استصحاب بقاء الجواز بعد
ارتفاع الوجوب أو لا؟
إن المستصحب تارة
شخصي وأُخرى كلّي ، وقد ذكروا للكلّي أقساماً :
أحدها : الكلّي
الموجود في الفرد المشكوك بقاؤه ، فيصح استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد.
الثاني : أن يكون
الفرد مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، وهذا هو
القسم الثاني من
أقسام الكلّي.
والثالث : أن يكون
الفرد معيّناً ، وهو زائل يقيناً ، لكن يحتمل وجود فردٍ آخر للكلّي مع ذاك الفرد.
وهذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث.
والرابع : أن يكون
الفرد معيّناً ، وهو زائل يقيناً ، لكن يحتمل حدوث فردٍ آخر للكلّي مقارناً لزوال
ذاك الفرد. وهذا هو القسم الثاني من القسم الثالث.
والخامس : أن يكون
المتيقّن حقيقة واحدة لكن ذا مراتب ، فيقطع بزوال مرتبة ويشك بذلك في بقاء الحقيقة
وعدم بقائها.
فهذه مقدمة.
ومقدمة أُخرى :
إنه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة ، وحدةً عرفيّة
لا عقلية.
وبعد المقدمتين ،
نذكر أوّلاً كلام المحقق الخراساني في هذا المقام ؛ قال :
«ولا مجال
لاستصحاب الجواز إلاّ بناءً على جريانه في القسم الثالث من أقسام الكلّي ، وهو ما
، إذا شك في حدوث فرد كلّي مقارناً لارتفاع الحادث الآخر ، وقد حقّقنا في محله أنه
لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة
المتّصلة بالمرتفع ، بحيث يعدّ عرفاً ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره.
ومن المعلوم أن كلّ واحدٍ من الأحكام مع الآخر ـ عقلاً وعرفاً ـ من المتباينات
والمتضادّات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة
والشدّة والضعف عقلاً ، إلاّ أنهما متباينان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ
في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب» .
__________________
وحاصل كلامه :
١ ـ إن المورد من
قبيل القسم الثالث من أقسام الكلّي ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، إلاّ إذا كان
الباقي من مراتب الزائل ، كما في الشدّة والضّعف مثلاً.
٢ ـ إن الأحكام
الخمسة متباينات عقلاً وعرفاً ، إلاّ في الوجوب والاستحباب ، فإنهما متباينان
عرفاً ومختلفان في المرتبة عقلاً ، فإذا ارتفع الوجوب لا يصح القول ببقاء
الاستحباب من باب الاستصحاب ، للتباين العرفي بينهما ، إذ الملاك في الاستصحاب هو
الوحدة العرفيّة في موضوع القضيّتين.
قال
الأُستاذ
والتحقيق هو النظر
في المسألة على ضوء المباني في حقيقة الوجوب :
فإن قلنا : بأنه
مركّب من البعث إلى الفعل مع المنع من الترك تركيباً انضماميّاً ، فإنه إذا نسخ
الوجوب وشك في أنّ الزائل هو الجزءان أو خصوص المنع من الترك ، كان هذا الجزء
مقطوع الزوال والآخر ـ وهو البعث إلى الفعل ـ مشكوك فيه ، وعليه فلا إشكال في
جريان الاستصحاب ، وهو استصحاب فرد واحدٍ شخصي.
وبعبارةٍ أُخرى :
الزائل مردّد بين الأقل والأكثر ، وقد كان زوال الأقل متيقّناً ، وزوال الأكثر
مشكوك فيه ، فيستصحب.
وإن قلنا : بأن الوجوب
بسيط لا مركّب ، فهنا لا يتصوّر إلاّ القسم الثاني من القسم الثالث من استصحاب
الكلّي الذي اتّفقوا على عدم جريانه.
وإن قلنا : بمسلك
المحقق العراقي ، كان المورد ـ على تقديرٍ ـ من قبيل القسم الأخير من أقسام الكلّي
، وهو كون المستصحب ذا مراتب ، ومن قبيل القسم
__________________
الأوّل على تقدير
آخر. وتوضيحه : إنّه قد استثنى الشيخ الأعظم من أقسام الكلّي ما لو كان الفرد
الموجود مرتبةً شديدةً ، ثم علم بزوال الشدّة وشكّ في بقاء أصل المرتبة ، فقال
بجريان الاستصحاب فيه. وقال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام
الكلّي ، لأن الشدّة إن كانت من المقوّمات لم يجر الاستصحاب لكونه من القسم الثالث
، وإن كانت من الحالات جرى لبقاء الحقيقة ، كالعدالة الموجودة بالمرتبة العالية ثم
حصل اليقين بزوال تلك المرتبة ، فإنه تستصحب العدالة ، لكون تلك المرتبة من
الحالات لا المقوّمات ، فيكون ـ على هذا ـ من القسم الأوّل.
فبناءً على أن
حقيقة الوجوب هي الإرادة ، يكون أصل الإرادة هو المشكوك فيه بعد زوال الحدّ ،
فيستصحب بقاؤها ، ولذا قال المحقق العراقي هنا بجريان الاستصحاب ، كما لا أنه لا
يرى التباين العرفي بين الاستحباب والوجوب خلافاً لصاحب الكفاية.
وأمّا إن قلنا
بالتركيب الاتّحادي ، فإنّه مع زوال الفصل لا يعقل بقاء الجنس ، فلا مجال
للاستصحاب ، وما أفاده المحقق الأصفهاني قدسسره ـ من أنه مع انعدام الفصل ينعدم الجنس بما هو جنس ، لكنّه
بما هو متفصّل بفصلٍ عدمي يكون باقياً ، فلو قطعت «الشجرة» ينعدم «النامي» فالجهة
الجنسيّة وهي حيثية استعداد الشجر للنمو منعدمة ، إلاّ أن تلك الجهة تبقى مع الفصل
العدمي ، أي : فإن مادّة الشجر وهي الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ ، فعلى
القول بتركّب حقيقة الوجوب يكون الجواز باقياً ـ بعد نسخ الوجوب ـ لكن مع الحيث
العدمي ، أي الجواز مع عدم المنع من الترك ـ فقد عَدَل عنه في تعليقته ، ونصّ على
عدم معقوليّته ، قال : «لأن التركّب الحقيقي من جنس وفصلٍ خارجيين ، لا يتصوّر
إلاّ في الأنواع الجوهريّة دون الأعراض التي هي بسائط خارجية ، فضلاً عن
الاعتبارات» .
مختار
الأُستاذ
قال الأُستاذ :
إنه إن كان الوجوب هو الإرادة ، وكانت الشدّة والضعف من الحالات ، جرى الاستصحاب
بلا إشكال ، لكنّ الكلام في المبنى ، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب ، وأنه غير
الإرادة ، لكونها من التكوينيّات ، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباريّة وامّا من
الانتزاعيّات ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لكونه من قبيل القسم الثاني من قسمي
الثالث من أقسام الكلّي.
نظريّة
السيد الحكيم في الاستصحاب
وقال السيد الحكيم
ـ معلّقاً على قول (الكفاية) : فلا مجال للاستصحاب ـ ما نصّه:
«يكفي في إثبات
الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع
الوجوب لا يكون وجوداً آخر للرضا ، بل يكون الرضا الأوّل باقياً ، وإذا ثبت الرضا
به ـ ولو بالاستصحاب ـ كان جائزاً عقلاً ، لأنّ الأحكام التكليفيّة إنما تكون
موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايتها عن الإرادة والكراهة والرضا لا بما هي
هي ، ويكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانية ، إذ مجرّد رفع
الوجوب لا يدلّ على ارتفاعها ، وإذا تثبت الإرادة المذكورة ثبت الاستحباب ، لأنه
يكفي فيه الإرادة للفعل مع الترخيص في الترك الثابت قطعاً بنسخ الوجوب» .
وتوضيح
كلامه :
أوّلاً : إنه قد
كان مع الوجوب الرضا بالفعل ، وبعد النسخ يبقى الرّضا السّابق
__________________
بالاستصحاب. لا
يقال : الرضا ليس من المجعولات الشرعيّة كي يجري فيه الاستصحاب. لأن الوجوب ـ كغيره
من الأحكام التكليفيّة ـ إنما يكون موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايته عن
إرادة المولى ، فكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وهذا روح الحكم في نظر
العقل.
وثانياً : إنه مع
بقاء الرضا السابق يتمّ الجواز العقلي.
وثالثاً : إنه
يكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانيّة.
وبناءً على ما ذكر
، فإنه مع بساطة الوجوب يكون رضا المولى متحقّقاً ، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا
، ويترتّب عليه الأثر ، وهو حكم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولى ورضاه ،
ويفتى بالاستحباب.
أقول
:
العمدة في هذه
النظريّة ، هي أنه قد أجرى الاستصحاب في الإرادة التي هي منشأ الوجوب ، فأثبت بها
موضوع حكم العقل ، بخلاف المحقق العراقي ، حيث أجراه في نفس الوجوب وجعله بمعنى
الإرادة ، فلا يرد على هذه النظريّة ما ورد على المحقّق المذكور.
لكنّ التأمّل فيها
هو : أنّ الوجوب ـ على كلّ حالٍ ـ إمّا بسيط وامّا مركّب ، وظاهر الكلام أوفق
بالثّاني ، فإن أراد التركيب الانضمامي بأنْ يكون الوجوب مركّباً بالانضمام من
الرضا بالفعل مع المنع من الترك ، فقد عرفت تماميّة الاستصحاب بناءً عليه ، وإن
أراد الاتحادي ، فقد عرفت ما فيه. وأمّا على القول بالبساطة ، فما هو المراد من
قوله «الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه»؟ الظاهر أن «الرضا» حالة نفسانيّة خارجة عن
الوجوب لازمة له ، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه ، فلا يبقى شيء لكي يستصحب.
وهذا تمام الكلام
في النسخ.
الوجوب التخييري
مقدمة
إنّ هذا البحث مهم
علماً وعملاً ....
إنه لا ريب في أنّ
في الشريعة واجبات يجوز تركها إلى بدلٍ كخصال الكفارة ، وواجبات لا يجوز تركها إلى
بدل كالصّلاة ، وتسمّى الأُولى بالواجبات التخييريّة والثانية بالواجبات
التعيينيّة ، ولكلٍّ من القسمين أحكام وآثار ، ففي الأوّل يستحق العقاب لو ترك
جميع الأفراد ، لكن استحقاق الثواب يكون بالإتيان بواحدٍ منها ، ومن ذلك يظهر أن
متعلّق الإرادة وحامل الغرض هو أحد الأفراد ، ولذا وقع الكلام في تصوير هذا
التكليف ، وإذا أمكن ذلك في الأحكام التكليفيّة طبّق في الأحكام الوضعيّة كذلك ، كما
في مسألة الضمان في تعاقب الأيدي على الماء المغصوب والمأخوذ بالعقد الفاسد.
والإشكال العمدة
ينشأ من نقطتين :
الأُولى : كيف
يمكن أن تتعلّق الإرادة المشخّصة الموجودة ، بأحد الأشياء أو الشيئين ، لأن الأحد
مبهم ، فكيف يُعقل تعلّق المعيّن المتشخّص بالمبهم؟
والثانية : إنه لا
ريب في أن الواجب التخييري بعث مولوي ، فكيف يكون البعث نحو «الأحد»؟ مضافاً إلى
أنه مضايف للانبعاث ، والانبعاث بالمردّد غير معقول.
فإمّا يصوّر
الوجوب التخييري بحيث يتلاءم مع هذه البراهين ، وامّا يرفع اليد عن ظواهر الأدلّة
من أجلها وينكر من أصله!
فلننظر في الكلمات
والأقوال ....
كلام المحقق الخراساني وشرحه
قال في (الكفاية)
: إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ، ففي وجوب كلّ واحدٍ على التخيير ،
بمعنى عدم جواز تركه إلاّ إلى بدلٍ ، أو وجوب الواحد لا بعينه ، أو وجوب كلّ منهما
مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعيّن عند الله. أقوال.
والتحقيق أن يقال
: إنه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما
، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ولذا يسقط به الأمر ، كان الواجب في
الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً
.... وإن كان بملاك أنه يكون في كلّ واحدٍ منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض
في الآخر بإتيانه ، كان كل واحدٍ واجبا بنحوٍ من الوجوب يستكشف عنه تبعاته ، من
عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على
تركهما ....
أقول
:
لقد ذكر رحمهالله أربعة أقوالٍ فقط ، لكنّها في المسألة أكثر منها ، واختار منها القول الرابع
وحاصله : إن المتعلّق في الوجوب التخييري لا يختلف عنه في التعييني إلاّ من جهة
سنخ التكليف ، فإنّ التخييري مشوبٌ بجواز الترك إلى بدلٍ بخلاف التعييني ، فكانا
مشتركين في عدم جواز الترك ، لأن الواجب ما لا يجوز
__________________
تركه ، غير أنّ
التخييري يجوز ترك أحد فرديه مثلاً بالإتيان بفردٍ آخر ، والتعييني لا يوجد له
بديل.
إذن ، لا يرد
الإشكال : بأنّ البعث والإرادة لا يتعلّق بالمردّد ، لأنه لا ماهيّة له ولا وجود.
والإشكال : بأن البعث والانبعاث متضايفان ، فكيف يكون الانبعاث مردّداً؟
ويبقى اشكال
اختلاف الآثار فأجاب : بأن هذا الاختلاف ينشأ من اختلاف سنخ الوجوب ، فإنّ سنخ
الوجوب في التخييري هو ترتب العقاب على ترك الكلّ والثواب على الإتيان بأحدها ...
أما في التعييني ، فإنهما يترتبان على ترك أو فعل نفس ذاك المتعلّق المعيّن.
وقد ذكر أنّه إذا
كان هناك غرض واحدٍ يقوم به كلّ واحد من الفردين ، فإنّ التخيير حينئذٍ عقلي لا
شرعي ، أي يكون المتعلّق هو الطبيعة ، والبرهان على ذلك هو قاعدة أن الواحد لا
يصدر إلاّ من الواحد ، فيكون ذلك الواحد بين تلك الأفراد هو الطبيعة. وامّا إذا
كان هناك غرضان ، بأن يقوم بكلّ من الفردين غرض مستقل عن الآخر ، لكن بينهما تزاحم
ولا يمكن اجتماعهما في الوجود ، فلا محالة تكون الإرادة متعلّقة بكلٍّ من الفردين
مع جواز تركه إلى الفرد الآخر.
ثم إنّه ذكر
الأقوال الأُخرى وناقشها.
فأمّا القول :
بأنّ المتعلّق للإرادة هو «الأحد لا بعينه» فقد أجاب عنه : بأن هذا «الأحد» ليس
مفهوميّا ، إذ ليس هو متعلّق الغرض حتى تتعلّق به الإرادة ، بل هو «الأحد»
المصداقي ، لكنّ «الأحد لا بعينه» لا مصداق له. وقد أوضح هذا في الحاشية : بأن «الأحد»
يصحّ تعلّق العلم به كما في موارد العلم الاجمالي ، وكذا يصحّ تعلّق الأمر
الانتزاعي به كتعلّق الوجوب بأحد الشيئين ، لكنّ الإرادة لا تتعلّق
بالمردّد ، لأنّها
علّة الوجود ولا يمكن أن يكون معلولها مبهماً ، ولا يعقل البعث والتحريك نحو
المبهم ... فظهر الفرق بين العلم والوجوب وبين البعث والإرادة.
وأجاب عن القول
بأن الوجوب التخييري هو وجوب كلا الشيئين ، لكن وجوب أحدهما مسقط لوجوب الآخر :
بأن الفرضين إن كانا يقبلان الوجود ، فإسقاط أحدهما للآخر مستحيل ، وإن كانا
متزاحمين لا يقبلان الوجود معاً ، فأحدهما لا يتحقق ولا تصل النوبة إلى إسقاط
الآخر إيّاه.
وعن القول بأن
الواجب هو «أحدٌ» معيّن لكن عند الله ... بأنّ المفروض كون كلّ واحدٍ من الشيئين
أو الأشياء حاملا للغرض ووافيا به ، فكيف يكون «أحد» معيّن هو الواجب دون الآخر أو
الأفراد الأُخرى.
هذا بيان كلام (الكفاية)
في هذا المقام.
إشكال المحقق الأصفهاني
وقد أشكل المحقق
الأصفهاني ـ وتبعه في (المحاضرات) و (المنتقى) ـ بأنّ مستند مبنى المحقق الخراساني هو قاعدة أن الواحد لا
يصدر إلاّ من الواحد ، ولكنّها إنما تجري في الواحد الشخصي دون النوعي ... وتوضيحه
:
إن البرهان على
تلك القاعدة هو : إنّ كلّ معلول حدّ ناقص للعلّة ، وكلّ علّةٍ فهو حدّ كامل
للمعلول (وقد وضع أهل الحكمة هذه القاعدة في باب صدور العقل الأوّل أو الفيض
الأقدس من الباري عزّ وجلّ. لكنّ الحق جريانها في الفاعل الطبيعي. أمّا الله
سبحانه وتعالى فيفعل ما يريد وكلّ الأشياء توجد بإرادته مع تكثرها ...) وعليه ،
فالمعلول موجود في رتبة وجود العلّة ، كالحرارة الحاصلة من
__________________
النار ، فإنها
موجودة في رتبة وجودها ، وإلاّ يلزم الترجّح بلا مرجّح ، فيقال : لما ذا وجدت هذه
الحرارة ولم توجد تلك الأُخرى ... فإذا كان وجود المعلول ووجوبه واحداً ، فلا بدّ
وأن تكون علّته كذلك ، لأن العلّة إذا تعدّدت تعدّد وجود المعلول ووجوبه ، والمفروض
أنه واحد ، والواحد لا يتعدّد.
هذه هي القاعدة.
فقال المحقق
الأصفهاني : بأنها إنما تجري في الواحد الشخصي ، أما النوعي ، فيمكن فيه صدور
الواحد عن الكثير مع الاختلاف في حقيقة الكثير ، فإن الحرارة قد تحصل من النار وهي
من الجواهر ، وقد تحصل من العرض كالحركة ، فقد صدر الواحد من الكثير ... وأيضاً ،
فإنّ تحقق الأجناس بالفصول ، إذ الفصل علّة لوجود الجنس كالناطقيّة بالنسبة إلى
الإنسان ، مع أن الناطقيّة مباينة للفصل الموجد لنوع الفرس مثلاً ، فكانت
المتباينات علةً لوجود الشيء الواحد وهو الجنس.
وتلخّص
: إن ما ذهب إليه
المحقق الخراساني من كون الجامع هو المتعلّق غير صحيح.
تحقيق الأُستاذ
وأفاد الأُستاذ
دام بقاه حول القاعدة بقدر ما يرتبط بعلم الأُصول : أنّ للواحد أنحاءً من الوجود :
١ ـ الواحد بالشخص
، مثل زيد وعمرو ، من حيث كونه زيداً وكونه عمراً.
٢ ـ الواحد بالنوع
، مثل زيد وعمرو من حيث الإنسانيّة.
٣ ـ الواحد
بالعنوان ، مثل وجود زيد ووجود عمرٍو وهكذا ... فإنّ العنوان مفهوم الوجود ،
وحقيقة الوجود هو المعنون ، والنسبة بينهما نسبة العنوان
والمعنون ، لا
الكلّي والفرد ، ولا الطبيعي والمصداق.
فهذه
مقدمة.
والمقدمة
الثانية : إنّ الطبيعي
موجود في الخارج بلا ريب ، فليس من الأُمور الانتزاعيّة العقليّة ، وليس من
الاعتباريات كالزوجيّة والملكيّة ، غير أنّ وجوده وجود فرده ، كما أن الأُمور
الانتزاعيّة موجودة لكن بوجود منشأ الانتزاع ... والحاصل : إن الطبيعي كالإنسان
موجود في الخارج ، لكن بوجود زيد مثلاً.
والمقدّمة
الثالثة : إن «الوحدة» و «التعدد»
متقابلان ، والاجتماع بينهما في أيّ عالمٍ محال ، فلا يجتمع الواحد بالشخص مع
المتعدّد بالشخص ، وكذلك الواحد بالنوع ، والواحد بالعنوان.
وبعد المقدّمات
نقول :
إنّ المحقق
الأصفهاني يعترف بوجود الطبيعي خارجاً ، وأنّ نسبته إلى الخارج نسبة الآباء إلى
الأبناء ـ لا نسبة الأب الواحد إلى الأبناء كما قال الرجل الهمداني ـ فنقول : هذا
الطبيعي إمّا مختص أو مشترك؟ والأول خلف الفرض ، وعلى الثاني : هل لوجود هذا
الطبيعي علّة أو لا؟ والثاني محال ، ومنافٍ لقوله بأنّ الاجناس موجودة وعللها هي
الفصول ، وإذا كان له علّة ، فهل لتلك العلّة حيثيّة غير حيثيّة الخصوصيّة؟ إنّه
لا بدّ وأن يكون فيها حيثيّة تصلح بها لأن تكون علةً لماهيّةٍ مشتركة ، إذ ما ليس
فيه إلاّ حيثيّة الخصوصيّة لا يمكن أن يكون علةً لماهيّة ذات حيثيّة مشتركة ....
إذن ، لا مناص من
الالتزام بأنّه : لو حصل غرض وكان فيه حيثيّة القدر المشترك ، فلا بدّ وأن يكون له
منشأ هو القدر المشترك ... وهذا معنى كلام المحقق الخراساني حين يقول باستحالة
حصول الأثر الواحد من كلّ واحدٍ من الفردين أو
الأفراد ويكون
مبدأ الأثر متعدّداً ... لأنّ الأثر موجود في مرتبة المبدا ، فإذا كان واحداً
والمبدأ متعدّد ، لزم اجتماع الوحدة والتعدّد في الشيء الواحد ، وهو محال.
وبالجملة ، فإنّ
قاعدة الواحد وإن طرحت في الواحد الشخصي ، لكن الملاك لها موجود في الواحد النوعي
والواحد العنواني أيضاً ، فإنّه ـ على القول بثبوت الواحد النوعي والواحد العنواني
ـ يكون للمعلول وحدة نوعيّة ، فلو لم يكن في العلّة وحدة نوعية كذلك ، يلزم عدم
السنخيّة بين العلّة والمعلول.
فظهر اندفاع
الإشكال على (الكفاية) في هذا القسم من كلامه.
اشكالات المحاضرات
على الكفاية
وأورد في المحاضرات
على القسم الآخر من كلامه حيث قال : أنه إذا كان هناك
غرضان متزاحمان ، فلا بدّ من الالتزام بالوجوبين ، إلاّ أن كلاًّ منها مشوب بالترك
، بوجوه :
أوّلاً : إن ذلك
مخالف لظواهر الأدلّة ، فإن الظاهر من العطف بكلمة «أو» هو أن الواجب أحدهما لا
كلاهما.
وثانياً : إن فرض
كون الغرضين متضادّين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج ، مع فرض كون المكلّف
قادراً على إيجاد كلا الفعلين ، بعيد جداً ، بل هو ملحق بأنياب الأغوال ، ضرورة
أنا لا نعقل التضادّ بين الغرضين مع عدم المضادّة بين الفعلين ، فإذا فرض أن
المكلّف متمكّن من الجمع بينهما خارجاً ، فلا مانع من إيجابهما معاً عندئذ.
وثالثاً : إنا لو
سلّمنا ذلك فرضاً وقلنا بالمضادّة بين الغرضين وعدم إمكان
__________________
الجمع بينهما في
الخارج ، إلاّ أن من الواضح جدّاً أنه لا مضادّة بين تركهما معاً ، فيتمكّن
المكلّف من ترك كليهما بترك الإتيان بكلا الفعلين خارجاً. هذا من ناحية. ومن ناحية
أُخرى : إن العقل مستقلّ باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، ولا يفرّق بينه
وبين تفويت الواجب الفعلي. ومن ناحية ثالثة : إن فيما نحن فيه وإن لم يستحق العقاب
على ترك تحصيل أحد الغرضين عند تحصيل الآخر ، من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في
الخارج ، إلاّ أنه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر. فالنتيجة
أنه يستحق العقابين عند جمعه بين التركين.
جواب الأُستاذ
وأجاب الأُستاذ
دام بقاه :
أمّا عن الأوّل فبأنه
: خلاف القاعدة ، لأن صاحب الكفاية يرى أن التكليف غير متعلّق بأحدهما ، لا مفهوما
ولا مصداقا ، لأن الأحد المفهومي غير حاملٍ للغرض حتى تتعلّق به الإرادة ، والأحد
المصداقي هو المردد ، والمردّد لا يقبل الوجود حتى يتعلّق به التكليف والإرادة ،
وإذ لم يمكن ثبوتاً تعلّق الإرادة بالأحد ، فلا بدّ من التصرّف في مقام الإثبات
وظواهر الأدلّة ... فالإشكال غير وارد عليه.
على أنّ القول
بتعلّق التكليف بالأحد أيضاً خلاف ظواهر الأدلّة ، لعدم وجود هذا العنوان فيها ،
بل الموجود هو العطف ب «أو» وهي في أمثال المقام للترديد ، وأمّا «الأحد» فانتزاع
من العقل وليس من ظاهر الأدلّة.
وأمّا عن الثاني
فبأن : التباين بين الأغراض شائع تكويناً وعقلاء ، فقد يستعمل دواء لغرض العلاج من
مرضٍ فيكون سبباً لحصول مرضٍ آخر.
وأمّا عن الثالث ،
فقد تقدّم في بحث الترتب بأنّه : لو لم تكن قدرة على
الفعلين فلا
استحقاق للعقابين ... وهذا كلام المحقق الخراساني. ولقد أشكل هناك على السيّد
الميرزا الشيرازي بلزوم تعدّد العقاب ، وكان السيّد لا يلتزم بذلك مع قوله
بالترتب. أمّا المحقق الخراساني ، فقد أنكر الترتب وصحّح عباديّة المهم عن طريق
الغرض ، فهو قائل بوجود الغرضين في الأهم والمهم ، وغير قائل بتعدّد العقاب بترك
الغرضين ، بل يتعدد بمخالفة الأمرين ... فالإشكال عليه خلاف القاعدة كذلك.
الاشكال الوارد على الكفاية
ثم قال الأُستاذ :
بأن الإشكال الوارد على الكفاية. أمّا في الشق الأوّل فهو : إنّه لا دليل على
الوحدة بالنوع في الأغراض ، في الواجبات التخييريّة في الشريعة المقدسة ، فما ذكره
موقوف على تماميّة الصغرى ، وإن تصوّرت الوحدة فهي ليست إلاّ الوحدة العنوانيّة.
وأمّا في الشق
الثاني ، فالإشكال عليه ـ كما في المحاضرات أخيراً ـ أنه لا ريب في سقوط التكليف
في الواجبات التخييريّة ـ العقليّة منها والشرعيّة ـ بالإتيان بكلا الطرفين أو كلّ
الأطراف ، وحصول الامتثال بذلك ، فلو كان الغرضان متباينين لم يكن الامتثال حاصلاً
، وكان الأمر باقياً ، والحال أنه ليس كذلك يقيناً.
فما ذكره غير
صحيح.
كلام الميرزا النائيني
وذهب المحقق
النائيني في تصوير الواجب التخييري ، كما في (أجود التقريرات) إلى أنّ الواجب هو الفرد المردّد والواحد على البدل ، أي هو أحد الشيئين أو
الأشياء ، وذلك ، لأنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمردد ،
__________________
وتوضيحه :
إن الإرادة
التكوينية والتشريعية تشتركان في أن كلتيهما إرادة ، لكنهما تفترقان من جهة
التكوينيّة والتشريعيّة ، ولكلٍّ منهما أحكام وأقسام. مثلاً : الإرادة من المولى
لا فاعليّة لها ، بل الفاعليّة هي لإرادة المكلّف ، والإرادة التشريعيّة تنقسم إلى
التعبّدي والتوصّلي ، وهذا غير معقول في التكوينيّة.
ومن ذلك : إن
الإرادة التكوينيّة لا يعقل أن تتعلّق بالكلّي ، بل متعلّقها دائماً هو الجزئي
الحقيقي ، لأن الإرادة التكوينيّة علّة للوجود ، والعلّة يستحيل تعلّقها إلاّ
بالوجود وهو عين التشخّص ، بخلاف الإرادة التشريعيّة ، فإنّها تتعلّق بالكليّات
حتى لو قيّد المتعلّق بقيودٍ كثيرة ، كأن يقال : صلّ في المسجد يوم الجمعة ظهراً
جماعةً في أوّل الوقت ... والسرّ في ذلك : أنه ما لم يوجد في الخارج أو الذهن فلا
تتحقّق له الجزئيّة ....
إذن ... الإرادة
التي لا تتعلّق بالمبهم المردّد هي التكوينيّة ، وأمّا التشريعيّة فإنّها تتعلّق
به ، إذ التكوينيّة هي العلّة التامّة للوجود ، والمردّد غير قابلٍ للوجود أي لا
وجود له ، أمّا التشريعيّة فليست بعلةٍ للوجود ، وإنما أثرها هو إحداث الداعي
الإمكاني في نفس العبد ، فقد يمتثل وقد لا يمتثل ، ومن هنا تكون التشريعيّة تابعة
للغرض والملاك ، فإن كان الغرض يحصل بأحد الأفراد جاءت الإرادة متعلّقة به كذلك ،
وكان الخطاب على طبق الإرادة ، إذ يأمر بالعتق أو الإطعام أو الصوم ليدلّ على أنّ
المكلّف به ليس معيّناً ، وليس هو الجامع ، بل المطلوب خصوصيّة كلّ واحدٍ من
الأفراد لكن على البدل ، وكذلك الحال في الوصيّة ، إذ يوصي بأحد الشخصين أن يعطى
كذا ، أو ينوب عنه في الحج مثلاً ، أو يُعتق في سبيل الله.
إذن ، فما ذهب
إليه الميرزا متوافق مع ظهور الأدلّة في الواجب التخييري في
مقام الإثبات ....
فظهر أنْ لا محذور
لهذا المبنى حتّى يذكر ويدفع ، فلا يبقى مجالٌ لاستغراب السيّد الأُستاذ من
الميرزا قائلاً : «وهذا غريب من مثل المحقق المذكور ، فإنّ اللازم عليه كان بيان
ما يحتمل أنْ يكون محذوراً ودفعه ، لا مجرّد عدم وجود المانع لا أكثر من دون بيان
وجه ذلك ، فإن ذلك لا يتناسب مع علميّة البحث» .
ولا يخفى أنه
أيضاً قد اختار هذا المبنى في الواجب التخييري .
الأنظار في كيفية تعلّق الإرادة ونحوها بالمردّد
وقد فصّل شيخنا
الاستاذ الكلام في أصل البحث وذكر الأنظار فيه ، وذلك لضرورة الوصول إلى منشأ
الخلاف في أنّ المردّد هل يمكن أن يقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفةٍ
وجوديّة ، أو لا؟
لقد ذكر الشيخ في (المكاسب)
مسألة ما لو باع صاعاً من الصبرة ، فهل يحمل على الكسر
المشاع ، فلو كان عشرة أصوع يكون المبيع هو العشر ، أو يكون كلّياً معيّناً ، أو
يكون فرداً من أفراد الأصوع على البدل؟ ثم أشكل على الوجه الأخير بوجوه ، منها :
إن التردّد يوجب الجهالة ، وأنه يوجب الغرر ، وأنه غير معقول ، وهذا محلّ الشاهد
هنا.
إن تعلّق البيع
بفردٍ مرددٍ من أفراد الأصوع غير معقول ، لأنّ الملكيّة صفة وجوديّة ، والصفة
الوجوديّة لا يعقل أن تتعلّق بالشيء المردد ... وهذا هو الإشكال.
__________________
وقد أجاب عنه :
بأنّ الصفة الوجوديّة على قسمين : فتارةً : هي صفة وجوديّة خارجيّة ، كالسواد
والبياض ، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد ، لأنها عرض خارجي وهو لا يوجد إلاّ في
موضوع ، والمردّد ليس له وجود حتى يتحقّق فيه العرض ويقوم به. وأُخرى : هي أمر
اعتباري ، وهذه تقبل التعلّق بما ليس له وجود خارجي ، كما في بيع الكلّي في الذمة
، والمبيع في باب السّلم.
فالشيخ يرى أن
الصّفة الوجوديّة إن كانت اعتباريةً فهي تقبل التعلّق بالمردّد.
وخالفه المحقق
الخراساني ، فذهب إلى أن الصفة الوجوديّة الحقيقيّة أيضاً تقبل
التعلّق بالمردّد ، وقد تقدّم كلامه في حاشيته على الكفاية ، إذ صرّح بأنّ العلم
يمكن تعلّقه بالمردّد كما في موارد العلم الإجمالي ، بخلاف مثل البعث ، لأنه ليس
بصفةٍ بل إنه إيجاد للدّاعي في نفس العبد ، وإيجاده نحو المردّد محال. وبعبارة
أُخرى : كلّما يكون له جهة الباعثيّة والمحرّكيّة ، فلا بدّ وأن يكون متعلّقه
مشخصاً ، وأمّا ما يكون ـ مثل العلم ـ لا جهة باعثيّة له ، فلا مانع من تعلّقه
بالمردّد.
وأمّا الميرزا ،
فقد جعل ملاك الافتراق في الإرادة جهة التكوينيّة والتشريعيّة ، فخالف المحقق
الخراساني القائل بعدم تعلّق ما كان له باعثية ـ وإنْ كانت تشريعيّة ـ بالشيء
المردّد.
ولكنّ المحقق
الاصفهاني خالف الكلّ ، وأنكر التعلّق بالمردد ، سواء في الصفة الحقيقيّة أو
الاعتباريّة ، وفي الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة ، وسواء فيما له جهة
الباعثيّة وغيره ... وله على هذا المدّعى برهانان :
(الأول) : إن
الوجود عين التشخّص والواقعيّة ، فكلّ موجود متشخّص ،
__________________
ولا يعقل فيه أيّ
إبهامٍ واجمال ، حتى لو كان الوجود اعتباريّاً ، فلا يعقل أن يكون مردّداً ، لأنّ
الوجود هو التعيّن ، وبينه وبين التردد تقابل ولا يمكن اجتماعهما أبداً.
و (الثاني) : إن
المردّد المصداقي محال ، لأنّ التردّد إمّا يكون في ذات الشيء وامّا في وجوده ،
أمّا الذات ، فهي متعيّنة ولا يعقل الإبهام والتردد فيها. وأمّا الوجود ، فقد
تقدّم.
وبعبارة أُخرى :
إنه لو كان للمردّد مصداق خارجي ، وقع الإشكال في الأُمور ذات التعلّق ، كالإرادة
والبعث والحبّ والملكيّة وأمثالها ، ـ سواء التكوينيّة منها والاعتبارية ـ فهي
أُمور لا يحصل لها الوجود إلاّ بالمتعلّق ، لكنّ الوجود لا يقبل التردّد ، فلو
تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعيّن المردد أو تردّد المعيّن ، وكلاهما
محال ، لأنّ الأوّل انقلاب ، والثاني خلف.
وبالنظر إلى هذين
البرهانين نقول ـ وفاقاً للمحقق الأصفهاني ـ بعدم صلاحيّة المردّد لأن يكون
متعلّقاً للإرادة ـ ... وتبقى المناقشة بذكر نقوض ، من قبيل الوصية بعتق أحد
العبدين ، وتمليك أحد الولدين ، أو هبة أحد المالين ، أو بيع المعدوم كما في بيع
السلف. ولا بدّ من حلّها في كتاب البيع.
نظريّة السيّد الاستاذ
لكن السيّد
الاستاذ بعد أنْ ذكر آراء الأعلام قال :
هذا محصل الإيرادات
على تعلق التكليف بالفرد المردّد وهي في الحقيقة ثلاثة ، إذ الأول يرجع إلى الثالث
كما لا يخفى.
وشيء منها لا ينهض
مانعاً عن تعلّق التكليف بالفرد المردد ، ولأجل ذلك يمكننا أن ندّعي أن متعلّق
الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل البدل ، في الوقت الذي لا ننكر فيه أن
الفرد المردد لا واقع له ، وأن كلّ موجود في الخارج
معيّن لا مردّد.
وبتعبير آخر نقول
: إن المدّعى كون متعلّق الحكم مفهوم الفرد على البدل ، أو فقل هذا أو ذاك ، بمعنى
أن كلاً من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد ، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين
، وكلاهما معاً بنحو المجموع.
ووضوح ذلك يتوقف
على ذكر مقدمتين :
الأُولى : إن
مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الذي يعبّر عنه بالتعبير العرفي ب : «هذا
أو ذاك» من المفاهيم المتعينة في أنفسها ، فإن المردّد مردّد بالحمل الأوّلي لكنه
معيّن بالحمل الشائع ، نظير مفهوم الجزئي الذي هو جزئي بالحمل الأولي كلّي بالحمل
الشائع ، فالفرد على البدل مفهوم متعين ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه
وتصوّره في الذهن كمفهوم من المفاهيم ، فهو على هذا قابل لتعلّق الصفات الحقيقيّة
والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.
الثانية : إن
الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلّق بالخيارات ، بل لا بدّ وأن يكون معروضها
في أُفق النفس دون الخارج ، وإلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً وهو خلف
، فمتعلق العلم ونحوه ليس إلا المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.
وإذا تمت هاتان
المقدّمتان ، تعرف صحّة ما ندّعيه من كون متعلّق العلم الإجمالي في مورده والملكية
في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم
هذا أو ذاك ، فإنه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة ، ولا يلزم منه
انقلاب المعين مردداً ، إذ المتعلق له تعين وتقرر ، كما لا يلزم كون الصفة بلا
مقوّم ، إذ المفهوم المذكور له واقع.
يبقى شيء ، وهو :
إن الصفات المذكورة وإنْ تعلقت بالمفاهيم ، لكنها
مرتبطة بالواقع
الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآتاً للواقع ، والمفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد
المردد ، فكيف يتعلق به العلم؟! وحلّ هذا الإشكال سهل ، فإن ارتباط المفهوم
المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطاً حقيقياً واقعياً ، ويشهد له أنه قد
لا يكون العلم مطابقاً للواقع ، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج؟ إذ لا وجود
له كي يكون طرف الربط ، ولأجل ذلك يعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. إذن ،
فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي أن يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم
الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.
ومما يؤيّد ما
ذكرناه من امكان طروّ الصفات على الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرين ،
كمجيء زيد أو مجيء عمرو ، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد ، ولذا لو لم
يأت كلّ منهما لا يقال إنه كذب كذبتين ، مع أنه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم
ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلا بذلك.
يبقى إشكال صاحب
الكفاية وهو : إن التكليف لتحريك الإرادة ، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً
تكوينياً ، فيمتنع التكليف بالمردّد ، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة.
والجواب عنه :
إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلّقه بجميع
خصوصيّاته وقيوده ، بل غاية ما هو ثابت إن التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك
العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين
وإن اختلف عن متعلّقه بالخصوصيّات.
ومن الواضح : أن
تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كلّ من
__________________
الفعلين على سبيل
البدل ، فيأتي العبد بأحدهما منبعثاً عن التكليف المزبور ، وهذا يكفي في صحة
التكليف وكونه عملاً صادراً من حكيم عاقل.
ونتيجة ما تقدم :
إنه لا مانع من تعلّق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه ، بمعنى كون كلّ
منهما متعلقاً للتكليف الواحد ، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معاً.
وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حدّ
سواء ومن دون مرجح ، فلا بدّ من كون الواجب في كلّ منهما بنحو البدلية والتردد.
وهذا المعنى لا
محيص عنه في كثير من الموارد ، ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي ،
كدعوى أن المتعلّق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة ،
كدعوى أن المبيع هو الكلّي في الذمة ولكن مع بعض القيود ، أو دعوى اخرى لا ترجع
إلى محصل. وتحقيق الكلام في كلّ منهما موكول إلى محلّه.
فالمختار على هذا
في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه ، كما التزم به المحقق النائيني ،
وإن خالفناه في طريقة إثباته» .
أقول
:
أمّا ما ذكر في
المقدمة الأُولى من أن «الفرد على البدل مفهوم متعيّن ، ولذا نستطيع التعبير عنه
والحكم عليه وتصوّره في الذهن كمفهومٍ من المفاهيم» فهذا صحيح ، ولكن التفريع عليه
بقوله : «فهو ـ على هذا ـ قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقيقيّة والاعتباريّة به كغيره
من المفاهيم المتعيّنة» فيه :
أوّلاً : كيف
تتعلّق الصفات الاعتباريّة من البعث والتحريك ونحوهما
__________________
بالوجود الذهني ما
لم يكنْ له مطابق في الخارج؟
وثانياً : كيف
يكون المردد متعيّناً كغيره من المفاهيم المتعيّنة؟ إن أراد المتعيّن خارجاً ، فإن
كلّ ما في الخارج معيّن غير مردد ، وإنْ أراد التعيّن ذهناً ، فالمفروض أنه مردد
غير معيّن.
وأمّا ما ذكر في
المقدّمة الثانية من صحّة تعلّق العلم ونحوه بالمردد ، فقد تقدّم أنه رأي صاحب
الكفاية ، وما أجاب به من أنّ الارتباط بين المفهوم والمتعلّق الخارجي ليس
ارتباطاً واقعيّاً غريب ، فإنّ الارتباط بين الشّيئين إمّا واقعي وامّا اعتباري ،
وهل الارتباط بين الصورة الذهنية ومطابقها الخارجي اعتباري لا واقعي؟
والاستشهاد لذلك
بأنّه «قد لا يكون العلم مطابقاً للواقع» أعجب ، فإنه يتضمّن الاعتراف بلزوم وجود
المطابَق ولزوم المطابقة بينهما ، وأمّا عدم المطابقة أحياناً فمن الخطأ في
التطبيق ، وأين هذا عن المدّعى حتى يستشهد به؟ وكذلك الاستشهاد بتعبيرهم عن الخارج
بالمعلوم بالعرض ، فإنّ هذا التعبير يفيد خلاف المدّعى كما لا يخفى.
وتأييد ذلك
بالإخبار عن أحد الأمرين ، واضح الضعف ، للفرق بين الإخبار ، والعلم والبعث
والتكليف ، على أن المخبر عنه هو «الأحد» الجامع بين الفردين لا الفرد المردد ،
وهذا هو المرتكز العقلائي.
الطريق الثالث
إنه في الواجب
التخييري يوجد وجوبان ، لكن كلاًّ منهما مشروط بترك الآخر ، فالإطعام واجب مشروط
بترك الصوم ، وهكذا بالعكس.
والحاصل : إن هنا غرضين
قائمين بالعدلين ، لكنّهما متزاحمان ولا يمكن استيفاؤهما معاً ،
فيجب استيفاء
أحدهما على النحو المذكور ، وإن كان ظواهر الأدلّة لا تساعد عليه ـ لعدم دلالتها
على وجود الغرضين والوجوبين ـ لكن لا مناص من تصوير الواجب التخييري بهذه الصّورة.
الاشكالات عليه
وقد أورد عليه
بوجوه :
الأوّل : إن دعوى
التمانع بين الغرضين مع القدرة على الفعلين وهم محض. قاله الميرزا وتبعه السيّد
الخوئي .
وفيه : ليس الأمر
كذلك ، فقد يقدر الإنسان على استعمال دواءين يكون الغرض من كلٍّ منهما مضادّاً
للغرض من الآخر.
والثاني : إن هذا
الطريق يستلزم القول بالترتّب ، ومن القائلين بالواجب التخييري من لا يقول بالترتب
، كصاحب الكفاية.
وفيه : أولاً : إن
المحقق الخراساني قد أنكر الترتب بين الأهمّ والمهم. وأمّا لو كانا متساويين ـ كما
في الواجب التخييري ـ فقد لا ينكره.
وثانياً : قد صوّر
في الكفاية الواجب التخييري بوجهٍ آخر ـ كما تقدّم ـ لأنّ القول بشوب الوجوب بجواز
الترك يغاير القول باشتراط وجوب أحدهما بترك الآخر.
والثالث : إنه في
حال ترك كلا الواجبين ، يتحقّق الشرط لهما معاً فيكونان فعليين ، فيلزم الإتيان
بكليهما بعنوان الوجوب ، وهذا مناف لحقيقة الواجب التخييري. قاله المحقق الإيرواني
.
__________________
وفيه ـ كما تقدّم
سابقاً ـ إن المفروض كون وجوب كلٍّ منهما مشروطاً بترك الآخر ، فلا يلزم من تركهما
معاً كون كليهما مطلوباً.
والرابع : إنه في
صورة ترك كليهما يلزم تعدّد العقاب ، وهو خلاف الضرورة.
وفيه : إنه إشكال
مبنائي ، لأنّ تعدّد العقاب إنما هو في تعدّد الواجب المنتهى إلى تعدّد الغرض ،
وليس الأمر في الواجب التخييري كذلك.
الخامس : إن لازم
هذا القول أن لا يتحقق الامتثال بالإتيان بكلا الفردين ، مع اليقين بحصول الامتثال
بذلك.
وهذا هو الإشكال
الصحيح.
والسادس : إن هذا
الوجه لا تساعده ظواهر الأدلّة في مقام الإثبات ، فقد جاءت الأفراد معطوفةً ب «أو»
لا مشروطاً بعضها بترك البعض الآخر. والقول بضرورة حمل الأدلّة على هذا المعنى
موقوف على سقوط جميع الوجوه. وهذا الإشكال الإثباتي وارد كذلك على هذا الوجه.
الطريق الرّابع
إنّ الواجب
التخييري ما كان وجوبه مشوباً بجواز الترك إلى بدلٍ. ذهب إليه المحقق الأصفهاني رحمهالله .
إن قيل : فما
الفرق بين هذا الطريق وطريق صاحب الكفاية؟
قلنا : إنّ المحقق
الخراساني قد اختار ذلك على أساس قوله بتباين الأغراض ، أمّا المحقق الأصفهاني فقد
ذهب إلى ما ذكر سواء كانت متباينة أو متسانخة ، فالاختلاف بينهما في منشأ الجعل ،
كما بينهما اختلاف في التخيير كما
__________________
سيظهر.
وتوضيح
هذا الطريق :
أوّلاً : إنه يمكن
أن يكون الغرض في كلّ من العتق والإطعام والصّوم من سنخ واحدٍ ، ويكون لزوميّاً ،
فالمقتضي لكونه لزوميّاً موجود ـ وإلاّ لما كان هناك وجوب ـ إلاّ أنّ مصلحة
الإرفاق والتسهيل على المكلّفين قد زاحمت هذا الغرض اللّزومي في حدّ الجمع بين
الأُمور لا في حدّ جميع الأُمور ، وكان مقتضى الجمع أن لا يجب الإتيان بالجميع كما
لا يجوز ترك الجميع ... وهذا معنى كون وجوب كلٍّ من الأُمور مشوباً بجواز تركه إلى
البدل. وقد لا يكون الغرض قابلاً للإرفاق فلا يقع التزاحم بين مصلحة التسهيل
ومصلحة الأُمور ، فيجب الجميع كما في كفارة الجمع ، خلافاً للمحقق الخراساني
القائل بعدم إمكان تحقق الغرضين أو الأغراض في الخارج ، لكونها متباينة.
وثانياً : إنّ
الأغراض قد يكون لها وحدة نوعيّة ، كما هو الحال بين الإطعام والعتق ، فإن الغرض
الجامع بينهما هو الإحسان ، وقد تكون متباينة كما هو الحال بين العتق والصّوم ...
خلافاً للمحقّق الخراساني القائل بالتقابل بين الأغراض دائماً.
وثالثاً : إنه
يظهر مما تقدّم عدم توجّه الإشكال الوارد على المحقق الخراساني ، من أن لازم كلامه
أن لا يكون المكلّف ممتثلاً لو جمع بين الأفراد مع أنه ممتثل يقيناً ، لأنّ المحقق
الأصفهاني لم يؤسّس طريقه على التقابل بين الأغراض ، بل ذهب إلى إمكان تحقّقها ،
لأنّ المزاحم ليس إلاّ مصلحة التسهيل ، فكان المكلّف مرخّصاً في ترك الغرضين ، لا
ممنوعاً من الجمع بينهما.
الإشكالات على هذا الطريق والنظر فيها
هذا ، وقد أورد
على هذا الطريق بوجوه كلّها مندفعة :
الأول
: إنّ الوجوب
المشوب بجواز الترك لا يعقل إلاّ بنحو الواجب المشروط ، وعليه ، فلو ترك كلا
الفردين فقد تحقق الشرط لها ، فيجب الجمع بينهما ، وهو خلف فرض الواجب التخييري ،
قاله المحقق الإيرواني.
وفيه : إنّ هذا
الإشكال لا يرد على صاحب الكفاية ، لقوله بالتقابل بين الأغراض كما تقدم ، ولا يرد
أيضاً على طريق الأصفهاني ـ وإن كان لا يرى التقابل المذكور ـ لأن المفروض وقوع
التزاحم بين الأغراض وبين مصلحة التسهيل ، ومع فرض التزاحم ، لا يبقى الفردان أو
الأفراد على الوجوب ، والجمع موقوف على وجوبها كما هو واضح ، فيكون الواجب واحداً
من الفردين أو الأفراد فقط ، فأين الجمع؟
الثاني
: إنه في حال ترك كلا
الفردين يلزم تعدّد العقاب.
وفيه : إنه قد
عرفت أنّ الباقي بعد التزاحم هو أحد الغرضين أو الأغراض ، فلو ترك الكلّ فات الغرض
الملزم الواحد ، فلا يُستحق إلاّ عقاب واحد.
والثالث
: إن القول بوجود
واجبين يجوز ترك أحدهما إلى بدل ، موقوف على تعدّد الغرض ، لكنّ الكاشف عن تعدده
هو تعدّد الوجوب ، والحال أنّ الخطاب الشرعي في الواجب التخييري جاء بكلمة «أو»
الدالّة على كون الواجب هو الجامع الانتزاعي ، وهذا يكشف عن غرض واحدٍ مترتب على
هذا الجامع ، أي : هذه الأُمور ، لا على كلّ واحد واحد.
وقد أجاب شيخنا ـ في
الدورتين ـ عن هذا الاشكال : بأنه ليس المقصود هو الكشف عن الغرض حتى يقال : ما هو
الكاشف كذلك؟ بل المقصود تصوير
الوجوب التخييري
وحلّ مشكلته في مقام الثبوت ، وحاصل ذلك : إنّه ليس الحامل للغرض هو الأحد
المصداقي ، لعدم معقوليته ، ولا المفهومي ، لأنّه جامع انتزاعي وليس له وجود في
الخارج ، بل إنّا نكشف من مذاق الشارع وأدلّة الأحكام أن يكون لكلّ من العتق
والصّوم والإطعام ملاك ، لكن مصلحة التسهيل توجب أن لا يكون المكلّف مأموراً
بتحصيل جميعها ، إلاّ المفطر عمداً فلا يقع مورد الإرفاق والتسهيل ... إذن ،
الكاشف عن الغرض موجود بهذه الصّورة.
والرابع
: إن هذه المزاحمة
إما أن تصل إلى حدّ اللّزوم ، فلا يجب شيء من الخصال ، وامّا لا ، فلا تزاحم.
وفيه : إن هذه
المزاحمة لزوميّة ، لكنّها بين مصلحة التسهيل وتحصيل جميع الأغراض ، كلّ واحدٍ
واحدٍ.
والخامس
: إن سقوط التكليف
يكون إمّا بالامتثال وامّا العجز وامّا النسخ ، والإتيان بالفرد الآخر من الواجبين
ليس بواحدٍ من هذه الأُمور.
وفيه : إنّ ما ذكر
يتمّ فيما لا يجوز تركه أصلاً وهو التعييني ، لا في الواجبين اللذين يجوز ترك
أحدهما إلى بدل.
ويبقى الإشكال
الإثباتي ، فقد قال في الدورة اللاّحقة : إنّ الإشكال الوارد على هذا الطريق هو
الإشكال الإثباتي ، فإن ظواهر الأدلة هو مطلوبيّة «الأحد» لكنّ مقتضى هذا الطريق
هو عدم الترديد ، فهو يرى وجوب كلٍّ من الأفراد.
أمّا في الدورة
السابقة ، فقد أجاب بأنّ المحقق الأصفهاني في مقام التصوير ثبوتاً ولا يدّعي
مطابقة الأدلّة لما ذهب إليه ، ولعلّ ذلك هو الظاهر من قوله : «يمكن فرض» أي أنه
غير ملتزم لأن يكون التصوير متطابقاً مع مقام الإثبات ... فلو انسدّت الطرق كلّها
وبقي هذا ، فلا مناص من رفع اليد عن الظواهر بحيث
تناسب مقام
الثبوت.
الطريق الخامس
قال المحقق
العراقي : إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه
التخيير ، فالمرجع فيه ـ كما عرفت ـ إلى وجوب كلّ واحدٍ لكن بإيجابٍ ناقص ، بنحو
لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، من غير
فرقٍ في ذلك بين أن يكون هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد فرد ـ ولو بملاحظة ما هو
القدر الجامع ـ أو أغراض متعددة ، بحيث كان كلّ واحد تحت غرضٍ مستقل وتكليف مستقل
، وكان التخيير من جهة عدم إمكان الجمع بين الغرضين ، إما للتضادّ بين متعلّقهما
كما في المتزاحمين أو بين نفس الغرضين في عالم الوجود ، بحيث لا يبقى مع استيفاء
أحد الغرضين في الخارج مجال لاستيفاء الآخر ، أو في مرحلة أصل الاتّصاف ، بحيث مع
تحقق أحد الموجودات واتّصافه بالمصلحة لا تتصف البقيّة بالغرض والمصلحة والحاصل :
إن الواجب التخييري ما يكون وجوبه وجوباً ناقصاً.
قال
الأُستاذ : لا فرق جوهري بين
هذا الطريق وطريق المحقّق الأصفهاني ، لأن الوجوب الناقص ـ في الحقيقة ـ هو الوجوب
المشوب بجواز الترك.
نعم ، بينهما فرق
من جهة أنه على القول بالوجوبين المشوبين بجواز الترك ، يكون العقاب المترتب في
حال ترك كلّ الأطراف عقاباً واحداً ، أمّا على قول المحقق العراقي ، فقد صرّح
بلزوم تعدّد العقاب في بعض الصّور ، فهو يقول بأنه لو ترك الجميع وكان الغرض منها
غرضاً واحداً يقوم بالجامع بينها ، كان العقاب واحداً لا متعدّداً ، وكذا لو كان
لكلٍّ غرضٌ ، لكن الغرضين كانا بحيث أنه مع تحقّق
__________________
أحد الغرضين أو
الأغراض ينتفي الغرض من غيره. أمّا لو كان لكلٍّ من الأطراف غرض مستقل تام فترك
جميع الأطراف ، فالعقاب متعدّد.
وبلحاظ هذا الفرق
يصلح لأن يكون طريقاً آخر.
ويرد عليه أنّ
تعدّد العقاب خلاف الضرورة الفقهيّة.
الطريق السادس
قال المحقق
الإيرواني ـ بعد المناقشة لكلام الكفاية والطرق المذكورة فيها ـ ما نصّه : فلا
محيص عن الالتزام بأن الواجب هو الواحد الجامع ، وأنّ التخيير في جميع الواجبات
التخييرية عقليّ لا شرعي ، أو الالتزام بأن الواجب أحدهما لا بعينه مصداقاً ، مع
عدم القول بتبعيّة الأحكام للمصالح في المتعلّق ، والالتزام بكفاية المصلحة في
الحكم ، وذلك لأن توجّه الحكم إلى أحدهما لا بعينه معقول ، كتوجّه التمليك إلى
الواحد المردّد ، لكن لا يعقل قيام المصالح التي تكون في الأغراض المتّصلة بالواحد
المردّد ، فلا بدّ أن تكون المصلحة إمّا في واحدٍ معين أو في الجميع ، فإن كان
الأوّل ، تعيّن ذلك الواحد للوجوب ، وإن كان الثاني ، وجب الجميع عيناً .
الإشكال عليه
وأورد عليه
الأُستاذ بوجوه :
الأوّل : إن إرجاع
موارد الوجوب التخييري في الشريعة إلى التخيير العقلي بعيد كلّ البعد عن ظواهر
الأدلّة في مقام الإثبات ، بأن يكون المراد منها كون متعلّق التكليف هو القدر
المشترك ، ثم العقل يحكم بكون المكلف مخيّراً فيما بين الأفراد ، كالأمر بالصلاة
وحكم العقل للمكلّف بالصّلاة في الدار أو في المسجد أو
__________________
في المدرسة ، وأنّ
واحدةً منها محقّق للامتثال ... وعليه ، فتكون الأدلّة في الوجوب التخييري إرشاداً
إلى حكم العقل.
وهذا ما لا يمكن
المساعدة عليه.
على أنّه يستلزم
القول بكون العقل حاكماً ، وقد تقرّر أنه مدرك فحسب ولا حكم له.
الثاني : إنه
يستلزم القول بوجود الواحد المردّد خارجاً. وقد تقرّر أنه محال.
والثالث : إنّ
الالتزام بكفاية المصلحة في الحكم الوضعي لا إشكال فيه ، بأن تقوم المصلحة في حكم
الشارع بصحّة البيع أو لزومه ، أمّا في الحكم التكليفي ـ كما فيما نحن فيه ـ فغير
معقول ، لأن معنى قيام المصلحة في جعل الوجوب حصولها بنفس جعله ، وكذا في جعل
الحرمة ، والحال أن الغرض في التكليفيّات لا يحصل إلاّ بالإتيان بالمتعلّق في
الواجب وتركه في الحرام.
الطريق السابع
قال السيد
البروجردي : وأمّا أصحابنا الإماميّة ، فلما توجّهوا إلى الفرق بين الوجوب
التعييني والتخييري ، وأن الوجوب التعييني هو تحتّم المولى عبده بإتيان شيء ،
والوجوب التخييري هو تحتّم المولى عبده بإتيان شيئين أو الأشياء على سبيل الترديد
النفس الأمري ، زادوا على تعريف الواجب التخييري بأنه هو الذي يستحق تاركه لا إلى
بدلٍ العقاب.
فالوجوب التخييري
حقيقة هو : إيجاب المولى عبده نحو شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمرى
وتعلّقه بالأطراف على وجه الترديد الواقعي ، كتردّد العلم الإجمالي بين الأطراف.
وليعلم أن ترديد
الوجوب هاهنا ترديد واقعي كما أشرنا إليه ، والترديد في
المعلوم بالعلم
الإجمالي ظاهري ، وإن كان في نفس العلم واقعياً أيضاً.
ولا يخفى المراد
بقولهم «لا إلى بدلٍ» في تعريف الوجوب التخييري ، ليس هو البدل في قبال الأصل كما
هو المصطلح في بعض المقامات الأُخر ، بل معناه هو الفرد التخييري كما هو واضح.
فهذا نظره كما في
تقرير بحثه .
ومن هنا نسب إليه
الأُستاذ القول بأن حقيقة الوجوب التخييري عبارة عن تعلّق التكليف بالمردد ، في
قبال التعييني حيث يتعلّق بالمعيّن.
وإذا كان هذا رأيه
، فلا يمكن المساعدة عليه أصلاً.
الطريق الثامن
قال في (المحاضرات)
: الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة ـ تحفّظاً على ظواهر
الأدلّة ـ هو : أن الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كلٍّ
منهما في الخارج بيد المكلّف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينيّة ، غاية
الأمر أن متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية هو الطبيعة المتأصّلة والجامع
الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية هو الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني.
(قال) ولا مانع من
تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي ، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم ـ كما
في مورد العلم الإجمالي ـ ، فضلاً عن الشرعي وهو أمر اعتباري ، فإنّه لا ريب في
تعلّقه بالجامع الاعتباري كتعلّقه بالجامع الذاتي كالإنسان ، فلا مانع من اعتبار
الشارع ملكيّة احدى الدارين للمشتري إذا قال البائع : بعت إحداهما ، بل ذلك واقع
في الشريعة كما في باب الوصيّة.
__________________
إذن ، يكون متعلّق
الأمر عنوان «الأحد» ، ومجرّد عدم الواقعية له لا يمنع من تعلّق الأمر به ، إذ
المفروض تعلّقه بالطبيعي الجامع ، ولا فرق بين الجامع المتأصّل والانتزاعي ...
وهذا هو مقتضى ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها على «أو» ، وحينئذٍ يكون الغرض
قائماً بهذا العنوان ، وهو يتحقق بالإتيان بأيٍّ من الفردين أو الأفراد ، بلا دخل
خصوصيّة شيء منها ... فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي ـ ليس تعلّقه به
بما هو موجود في النفس ، ولا يتعدى عن أُفق النفس إلى الخارج ، ضرورة أنه غير قابل
لأن يتعلّق به الأمر ويقوم به الغرض ـ إنما هو بمعنى تعلّق الأمر به بما هو منطبق
على كلّ واحدٍ من الفعلين أو الأفعال في الخارج ، ويكون تطبيقه على الخارج بيد
المكلّف.
ومن هنا يظهر أنه
لا فرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلاّ في نقطةٍ واحدة ، وهي كون المتعلّق في
الأول الطبيعة المتأصّلة كالصّلاة مثلاً ، وفي الثاني الطبيعة المنتزعة كعنوان
أحدهما.
وهذا ملخّص هذا
الطريق.
مناقشة
الأُستاذ
إن العمدة في هذا
المسلك كون متعلّق الأمر هو الجامع الانتزاعي ، لكن لا بما هو موجود ذهني ، بل بما
هو ملحوظ مرآة لما في الخارج ، فنقول :
إذا كان المتعلّق
كذلك ، فما معنى قوله : «مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق على كلّ واحدٍ من
الفعلين أو الأفعال في الخارج ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلّف»؟
إن الجامع
الانتزاعي موطنه النفس وليس له خارجيّة ـ بل ما في الخارج هو الجامع الحقيقي ـ فإن
أراد سراية الأمر بتوسّط هذا الجامع إلى الخارج ، فهذا أيضاً
محال ، لأنّ
الخارج ليس بظرفٍ لثبوت الأمر وتعلّقه بل هو ظرف سقوطه ، وبعبارة أُخرى ، فإن
الجامع قبل التطبيق أمر ذهني لا خارجية له ، وأمّا بعده ، فإنّ الخارج ظرف سقوط
الأمر لا تحقّقه.
هذا أوّلاً.
وثانياً : إن هذا
الجامع ينتزعه العقل ، فإن كان مصداق هذا الأحد المفهومي في الخارج هو الأحد
المردّد ، فهو يعترف بأن الأحد المردّد لا يتعلّق به التكليف ولا يقوم به الغرض ،
فلا بدّ وأن يكون المصداق وما بإزائه في الخارج هو المعيّن ، غير أن هذا المكلّف
يطبّقه على هذا الفرد ، والمكلّف الآخر يطبّقه على فردٍ آخر ، فإن كان الغرض
قائماً بالقدر المشترك بين الأفراد أصبح التخيير عقلياً ، وإن كان قائماً بفردٍ
معيّن خرج عن التخييريّة وكان الواجب تعيينيّاً ، وإن كان لكلّ واحدٍ واحدٍ منها
غرض غير أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهيل ، عاد المطلب إلى طريق المحقق
الأصفهاني ... وقد تقدّم سلامة طريقه ثبوتاً عن كلّ ما أُورد عليه ، ومع التنزّل
عنه ، فإن طريق السيد الخوئي يكون أحسن الطرق والمسالك في الباب.
وتلخّص : إن هذا
الطريق وإن كان أحسن الوجوه وأقربها إلى النصوص ، لكنّ الإشكال فيه من جهة الغرض
باق ، لأنّ العنوان الانتزاعي لا يحمل الغرض بل المعيّن هو الحامل له ، لكن
المفروض أنّ الواجب هنا غير معيّن. لأنه الأحد الخارجي ، والأحد المردد خارجاً
محال ... فلا مناص من أن يكون الواجب كلّ من الأفراد بخصوصه ، ويكون في كلّ فردٍ
فردٍ مصلحة ، فيقع التزاحم بين تلك الأغراض والمصالح ومصلحة التسهيل ، وهو مبنى
المحقق الأصفهاني.
لكن تقدّم أن في
مبنى المحقق الأصفهاني اشكالين :
أولاً : إنه غير
متطابق مع الأدلّة في مقام الإثبات.
وثانياً : إنّ
الوجوب المشوب بجواز الترك مرجعه إلى الوجوب المشروط ، إلاّ أن يرفع بالتحقيق
الأتي إن شاء الله.
تحقيق الأُستاذ
واختار الشيخ
الأُستاذ دام ظلّه الطريق الأخير في الدورة السابقة ، وذكر أنه كان مختاره في
الدورة الأُولى ـ في النجف الأشرف ... وكان حاصل ما أفاده : أنّه إذا كان متعلّق
التكليف هو الجامع الانتزاعي ، فلا بدّ وأن يكون هو الحامل للغرض ، وأن يصحّ البعث
إليه ... فهنا ثلاثة مراحل.
أمّا أن الجامع
الانتزاعي هو المتعلّق ، فهو مقتضى ظواهر النصوص ، كما أنه سالمٌ من محذور تعدّد
العقاب. وأمّا البعث والتحريك نحوه ، فهو بلحاظ تطبيقه على الفرد ، وهو بيد
المكلّف ، فلا مشكلة في هذه المرحلة. وتبقى مرحلة قيام الغرض ، لأنّ الغرض يكون
قائماً بما يتعلّق به التكليف ، وإذا كان المتعلّق هو الجامع الانتزاعي فهل يصلح
لأن يقوم به الغرض؟
قال دام ظلّه :
إنّ بيان (المحاضرات) غير وافٍ لحلّ المشكلة في هذه المرحلة. فلا بدّ من التحقيق
في ملاك ما يقال من ضرورة قيام الغرض بنفس متعلّق التكليف ، فأفاد ـ في كلتا
الدورتين ـ بأن صور المسألة مختلفة :
فقد : يتّحد
المتعلّق والحامل للغرض كما في الأمر بالصّلاة ، فإنّها هي متعلّق التكليف وهي
حاملة الغرض.
وقد يقع التخلّف ،
بأن يكون العنوان متعلّق التكليف والمعنون هو الحامل للغرض ، كما في الأمر بإكرام
من المسجد ، حيث يكون الغرض قائماً بالفرد المعيّن خارجاً.
وقد يكون المتعلّق
هو الملازم لعنوانٍ كان الغرض مترتباً عليه ، كما في التكليف الناسي ، بناءً على
مسلك المحقق الخراساني ، إذ لا يعقل توجّه التكليف إلى «الناسي» لأنه بذلك ينقلب
ذاكراً ، بل يتوجّه إلى عنوان «كلاه قرمز» ـ كما مثّل هو في الدرس ـ وهذا العنوان
ملازم للناسي وهو موضوع الغرض.
فعليه ، لا يلزم
أن يكون حامل الغرض هو المتعلّق ، ولا برهان على ذلك ، بل اللاّزم أن يكون تعلّق
التكليف بالعنوان منتهياً إلى التحريك نحو الموضوع الحامل للغرض.
وما نحن فيه كذلك
، فإنّ التكليف قد تعلّق بالجامع الانتزاعي ، وموطنه الذهن ، فليس حاملاً للغرض ،
إلاّ أن تعلّقه به موجب للتحرك نحو المصداق الخارجي ، ويكون المصداق هو الحامل له.
وبهذا البيان
يرتفع الإشكال عن طريق المحقق الخوئي ، وما ذكره من أن تعلّق التكليف بالجامع
الانتزاعي يكشف عن كون الغرض قائماً به ، فليس برافعٍ له.
الرأي النهائي
وبعد أن رفع
الأُستاذ الإشكال عن مسلك السيد الخوئي ، والذي كان قد اختاره سابقاً ، لكونه
الأقرب إلى ظواهر النصوص ، ذكر أنّ مقتضى الدقّة في النصوص شيء آخر غير المسلك
المزبور ... فأورد بعض النصوص ، واستظهر منها كون المجعول في موارد الوجوب
التخييري ـ الذي هو مفاد «أو» ـ هو «التخيير» :
* محمد بن أحمد بن
يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن أبي حمزة : عن أبي جعفر عليهالسلام قال : سمعته يقول : «إنّ الله فوّض إلى
الناس في كفارة
اليمين ، كما فوّض إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما يشاء. وقال : كلّ شيء في القرآن
«أو» فصاحبه فيه بالخيار» .
فالخبر ظاهر في
أنّ المجعول في هذه الموارد هو «تخيير المكلّف» و «تفويض الأمر إليه» ولا فرق بين
لسانه ولسان جعل الخيار في أبواب الخيارات ، كقوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» وقوله : «صاحب الحيوان بالخيار بثلاثة أيّام» .
فإن قيل : هذا ما
يرجع إليه الوجوب التخييري.
نقول : حمل المبدا
على النتيجة خلاف الظاهر ، بل مفاد الخبر جعل المكلّف مختاراً كما جعل الإمام عليهالسلام مختاراً في المحارب ، ولسانهما واحد ، وظاهرهما واحد ... فيكون الحاصل : كما
أن البيّعين بالخيار بين الفسخ وعدمه ، كذلك من عليه الكفّارة بالخيار بين العتق
والصيام والإطعام ، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناك هو الخيار الحقّي ، والمجعول
هنا هو الخيار الحكمي ، وحكم الأول أنه قابل للإسقاط ، وحكم الثاني أنه مثل الخيار
في الهبة غير قابلٍ للإسقاط.
والظاهر تماميّة
سند الرواية ، و «أبو حمزة» هو «الثمالي».
وعن أبي عبد الله عليهالسلام : «في كفّارة اليمين ، يطعم عشرة مساكين ، لكلّ مسكين مدّ من حنطة أو مدّ من
دقيق وحفنة أو كسوتهم لكلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة ، وهو في ذلك بالخيار أي ذلك
شاء صنع» .
__________________
فالمجعول الشرعي
كونه بالخيار.
والسند صحيح بلا
كلام.
قال الأُستاذ : إن
هذا هو الظاهر من الأخبار ، وإذ لا مانع ثبوتاً وإثباتاً من الأخذ به ، فمقتضى
الصناعة العلميّة هو الأخذ بالظهور.
ويبقى الكلام في
ضرورة تصوير الجامع بين الأفراد ....
ولنرجع إلى
الروايات في ذلك ، فإنّا نرى أنّ التخيير في الوجوب التخييري شرعي ـ وليس بعقلي ـ وقد
وجدنا أن مقتضى الظواهر هو «الكفارة» و «الفدية» وهذا هو الواجب لا «أحد الأُمور»
:
وعن أبي الحسن
الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن المحرم يصيد الصيد بجهالةٍ. قال : عليه
كفّارة».
فالمجعول على ذمة
المكلّف هو «الكفارة» ... فكان ما يكفر به الذنب أن «يصوم ستين يوماً» أو «يطعم
ستين مسكيناً» أو «يعتق رقبةً» وكلّ واحدٍ من هذه الأُمور مصداق للجامع وهو «الكفارة»
، وقد فوّض الأمر إلى المكلّف في التطبيق والعمل ، كما فوّض إلى الإمام عليهالسلام في المحارب إذ قال تعالى (إِنَّما جَزاءُ
الَّذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...).
ثم قال الراوي :
قلت : إنه أصابه
خطأ.
قال : وأيّ شيء
الخطأ عندك؟
قلت : ترمي هذه
النخلة فتصيب نخلةً أُخرى.
قال : نعم ، هذا
الخطأ وعليه الكفارة».
فكان ما «عليه» هو
«الكفارة».
قلت : إنه أخذ
طائراً متعمّداً فذبحه وهو محرم.
قال : عليه
الكفارة.
قلت : جعلت فداك ،
ألست قلت إن الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء ...».
وسندها صحيح.
وعن أبي عبد الله عليهالسلام : مرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على كعب بن عجرة الأنصاري والقمّل يتناثر من رأسه. فقال : أتؤذيك
هوامك؟ فقال : نعم. قال : فأنزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَريضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).
فالواجب هو عنوان «الفدية»
(مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) و «من» هذه بيانية.
(قال عليهالسلام) : «فأمره رسول الله بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة
مساكين ، لكلّ مسكين مدّان ، والنسك شاة.
(قال عليهالسلام) : «وكلّ شيء في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار يختار ما شاء».
وعن أبي عبد الله عليهالسلام :
«في رجلٍ أتى
امرأته وهي صائمة وهو صائم. قال : إن كان استكرهها فعليه كفّارتان ، وإن كانت
مطاوعته فعليه كفارة وعليها كفارة» .
وعن أبي عبد الله عليهالسلام : «في الرجل يلاعب أهله أو جاريته وهو في قضاء شهر رمضان ، فيسبقه الماء
فينزل. قال : عليه من الكفارة مثل ما على الذي
__________________
يجامع في رمضان» .
قال
الأُستاذ :
ولو تنزلنا عن هذا
، فالمختار من بين الوجوه المتقدمة هو مسلك السيد الخوئي.
هذا تمام الكلام
في الواجب التخييري بين المتباينين.
التخيير بين الأقل والأكثر
وقد وقع الكلام
بين الأعلام في جواز التخيير بين الأقل والأكثر ، واختلفت كلماتهم فيه ، بين قائل
: بالجواز مطلقاً ، وقائل بالاستحالة مطلقاً ، ومفصّل بين ما كان تدريجيّ الحصول
فلا يجوز كالتسبيحات ، وما كان دفعيّ الحصول فيجوز ، كدوران الأمر بين رسم الخط
القصير أو الطويل ، على أن يوجد الخط دفعةً.
ومنشأ الخلاف هو :
أوّلاً : إنه إن
وجب الأقل ، فإنّه دائماً موجود في ضمن الأكثر ، فإذا تحقق حصل الغرض من الأمر ،
ويكون الأكثر حينئذٍ بلا غرض ، فلما ذا يكون واجباً؟
وثانياً : إن معنى
«الوجوب» وحقيقته : ما لا يجوز تركه ـ اللهم إلاّ في الوجوب التخييري ، حيث يجوز
ترك أحد العدلين مثلاً بالإتيان بالعدل الآخر ـ ولكنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر
يستلزم القول بجواز ترك الواجب ، لأنّه مع الإتيان بالأقل يسقط الأكثر عن الوجوب.
ولا يخفى ورود
هذين المحذورين سواء في مورد التدريجي والدفعي ،
__________________
فلا وجه لتخصيص
المحقق الأصفهاني أحدهما بالتدريجي والآخر بالدفعي.
رأي المحقق الخراساني
وذهب المحقق
الخراساني إلى الجواز مطلقاً ، وحاصل كلامه :
تارةً : يكون
الغرض قائماً بالأقل بحدّه ، وبالأكثر بحدّه ، بحيث يكون للحدّ دخلٌ في الغرض.
فهنا لا محيص عن القول بالتخيير.
وأُخرى : يكون
الغرض قائماً بذات الأقل بلا دخل للحدّ فيه ، وكذا في الأكثر. فهنا لا يعقل
التخيير.
ففي التسبيحات ـ مثلاً
ـ إن كان الغرض الواحد قائماً بالأقل وبالأكثر بحدّهما ، كانت التسبيحة الواحدة
حاملةً للغرض كالتسبيحات الثلاث ، فلو أوجب الأقلّ دون الأكثر لزم الترجيح بلا
مرجّح ، فلا محالة يكون المكلّف مخيّراً ـ بحكم العقل ـ بين الإتيان بالأقل أو
الأكثر ، لأنّ المفروض كون الواجب هو الجامع بينهما ، وكلّ منهما مصداق له بلا
فرق.
أمّا لو تعدّد
الغرض ، وكان كلٌّ منهما حاملاً لغرضٍ غير الغرض من الآخر ولا يمكن الجمع بينهما ،
كان التخيير شرعيّاً ، إذ يكون كلٌّ منهما واجباً مع جواز تركه إلى البدل ، كما
تقدّم في المتباينين.
فإن قلت : هذا
إنما يتمّ في الدفعي ، لكون كلٍّ من الأقل والأكثر طرفاً فيتحقق التخيير ، وأمّا
مع الحصول بالتدريج ، بأن يوجد الأقل ويصير كثيراً حتى يصل إلى الأكثر فلا ، لحصول
الامتثال بالأقل.
فأجاب : بعدم
الفرق ، لإمكان ترتب الغرض على التسبيحة بقيد الوحدة
__________________
وعليها بقيد
الثلاثة ، وإذا كان كلّ منهما حاملاً للغرض ، كان تعيين الأقل منهما ترجيحاً بلا
مرجّح.
قال
الأُستاذ :
ومحصّل كلامه هو :
إن جميع موارد التخيير بين الأقل والأكثر ـ حيث يكون كلّ منهما مقيّداً بحدّه ـ ترجع
إلى التخيير بين المتباينين ، من قبيل التباين بين البشرطلا مع البشرطشيء ... وعلى
هذا الأساس قال بالتخيير.
لكنّ هذا خلاف
الفرض في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، إذ يكون الأقل موجوداً في ضمن
الأكثر ، فليس المراد من الأقل هو البشرطلا عن الأكثر ... حتى يرجع الحال إلى ما
ذكره.
فما أفاده ليس
حلاًّ للإشكال ورافعاً للمحذور المزبور سابقاً.
المختار
فالمختار في محلّ
الكلام هو القول الثاني ، أي استحالة التخيير.
والعجب من السيّد
الاستاذ أنه بعد ذكر محصَّل ما جاء في الكفاية قال ما نصه : «وبه يصحّح التخيير
بين الأقل والأكثر وإنْ كانت النتيجة إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، لإرجاعه
إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شيء. فهو تصحيح للتخيير بين الأقل
والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين ، لا التزام بالتخيير بين الأقل
والأكثر» فتدبر.
تفصيل المحقق الإيرواني
وقال المحقق
الإيرواني : بأن محلّ الإشكال هو ما إذا كان نفس الفعل
__________________
المتعلّق للتكليف
مردّداً بين الأقل والأكثر ، وكان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كرسم خطٍّ
طويل تدريجاً ، وإن عدّ المجموع بعد حصول الأكثر فعلاً واحداً ذا وجود واحد.
فيخرج بالقيد
الأوّل : ما إذا لم يكن الفعل المتعلّق للتكليف مردداً بين الأقل والأكثر ، بل كان
متعلّق ذلك الفعل مردّداً بينهما ، كما إذا أمر تخييراً بالإتيان بعصا طولها عشرة
أذرع ، أو بعصا طولها خمسة أذرع ، أو بإكرام عشرة دفعةً واحدة ، أو إكرام خمسةٍ
كذلك ، فإن ذلك من التخيير بين المتباينين ، لتباين الفعلين المتعلّق بهما
التكليف.
ويخرج بالقيد
الثاني : ما إذا لم يكن للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كما إذا أمر تخييراً
بالمسح بالكف أو بإصبع واحدة ، فإنه أيضاً من التخيير بين المتباينين.
ومن ذلك يظهر عدم
الفرق بين الكمّ المنفصل والكمّ المتصل ، فلو أمر تخييراً بين التسبيحة الواحدة
والتسبيحات الثلاث ، أو أمر تخييراً بين المشي فرسخاً واحداً أو فراسخ عديدة ، أو
القراءة والتكلّم وسائر الأُمور التدريجيّة ، كان كلّ ذلك من محلّ الكلام.
ثم إنه أورد على (الكفاية)
بإشكالين : (أحدهما) : ما تقدّم من أن ما ذكره خارج عن محلّ الكلام ، وأنّ لازم
كلامه عدم معقوليّة التخيير بين الأقل والأكثر. و (الثاني) هو : إن ما ذكره من
التخيير بين الأقل بشرط لا والأكثر غير معقولٍ أيضاً ، وإن كان ذلك داخلاً في
المتباينين ، إذ التباين المذكور تباين عقلي لا خارجي ، والإشكال لا يرتفع
بالتباين الخارجي ، ولذا لا يسع المصنف الحكم بعدم وجوب الأكثر بعد الإتيان بالأقل
، لأن ذلك في معنى إخراج الأكثر عن طرف التخيير ،
ولا الحكم بوجوب
الأكثر عيناً ، لأن ذلك في معنى إخراج الأقل عن طرف التخيير ، وحكمه بالتخيير بين
الإتيان بالزائد وعدمه في معنى عدم وجوب الزائد وانحصار الوجوب بالأقل ، لعدم
معقوليّة وجوب فعل شيء وتركه على سبيل التخيير.
إشكال الأُستاذ
وقد أورد الأُستاذ
ـ في كلتا الدورتين ـ على هذه النظريّة ، بأن ذات الأقل موجود في ضمن الأكثر في
الوجود الدفعي كذلك ، والمفروض أن الغرض مترتب على الذات ، فيكون الأكثر زائداً عن
الغرض ، لكنّ هذا يستلزم أن لا تكون ذات الأقل حاملةً للغرض إلاّ مع الحدّ وكونه
بشرط لا ، وحينئذٍ ينقلب إلى التخيير بين المتباينين ، وهو خلف الفرض كما تقدم في
الإشكال على (الكفاية).
إذن ، فمورد البحث
هو ذات الأقل لا بحدّه ، وهو موجود في ضمن الأكثر ، من دون فرقٍ بين الوجود الدفعي
للأكثر أو التدريجي.
وأمّا إشكاله على
المحقق الخراساني بأن هذه التباين عقلي لا خارجي. ففيه : إنّ منشأ اعتبار الأقل
بشرط لا مغاير خارجاً مع منشأ اعتبار البشرطشيء ، فكان التباين خارجياً لا
ذهنيّاً.
وهذا تمام الكلام
في الوجوب التخييري.
الوجوب الكفائي
والفارق بينه وبين
التخييري هو المتعلّق والموضوع ، ففي التخييري يتردّد متعلّق التكليف بين الصوم
والإطعام والعتق ـ مثلاً ـ أمّا في الكفائي ، فإنه يتردّد موضوع التكليف بين زيد
وعمرو وبكر ....
فالتكليف واحد ،
لكن الموضوع متعدّد ، واستحقاق العقاب أو الثواب يكون للكلّ ، بخلاف الواجب
التخييري حيث الثواب أو العقاب واحد.
وقد اختلفت كلمات
الأعلام في هذا المقام كذلك على وجوه :
الوجه الأوّل
فقال المحقق
الخراساني : والتحقيق أنه سنخ من الوجوب ، وله تعلّق بكلّ واحد ،
بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً ، وإن سقط عنهم لو أتى به
بعضهم ، وذلك قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحدٍ صادر عن الكلّ أو
البعض. كما أن الظاهر هو امتثال الجميع له أتوا به دفعةً واستحقاقهم المثوبة ،
وسقوط الغرض بفعل الكل ، كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد.
وحاصل كلامه هو :
أنّ حقيقة الوجوب الكفائي عبارة عن الوجوب المشوب بجواز الترك ـ كما في التخييري ،
غير أنه هناك جواز الترك إلى بدلٍ في
__________________
الفعل ، وهنا جواز
الترك إلى بدلٍ في الموضوع ـ وقد ذكر وجهين لهذه الدعوى :
(أحدهما) من جهة
العلّة للحكم وهو الغرض ، إذ الغرض واحد والفعل واحد وهو الحامل للغرض ، وحينئذٍ ،
يستوي الحال بالنسبة إلى أفراد المكلّفين ، فكلّ من أتى به فقد حصل الغرض وتحقّق
الامتثال.
فالحاصل : إنّ
موضوع التكليف هو كلّ الأفراد ـ لا جميعهم ، لوحدة الغرض والفعل ، ولا الأحد
المفهومي المردّد منهم ، لأنه غير حاملٍ للغرض ، ولا الأحد المردد المصداقي ، لأنه
لا وجود له ـ لكن سنخ التكليف هو أن الوجوب المتوجّه إلى كلّ واحدٍ مشوب بجواز
الترك له في حال قيام غيره به.
ولو أتى الجميع
بالفعل ـ كأن صلّوا جماعةً على الميّت ـ كان الامتثال حاصلاً بفعل الكلّ ، من باب
توارد العلل المتعددة على المعلول الواحد.
وهذا هو (الوجه
الثاني).
الاختلاف بين المحقق الأصفهاني وصاحب الكفاية
ثم إنّ المحقق
الأصفهاني قد وافق صاحب (الكفاية) في أصل الرأي ، إلاّ أنه خالفه في
الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ، لبطلان توارد العلل على المعلول الواحد في
الصّلاة على الميت وغيره من الواجبات الكفائية القابلة للتعدّد ، فلو صلّى كلّ
واحدٍ من المكلّفين على الميت ، كانت صلاته ذات مصلحة ، فلم يتحقّق توارد العلل
على المعلول الواحد ، هذا بالنسبة إلى أصل المصلحة. وأمّا المصلحة اللّزوميّة فهي
ليست إلاّ واحدة ، تتحقّق بقيام أيّ واحدٍ من المكلّفين بالصّلاة على الميّت ،
فنسبتها إلى جميع المكلّفين على حدٍّ سواء ، ولذا يحصل الامتثال بفعل أيّ واحدٍ
منهم ... فلا توارد للعلل ، لا في أصل المصلحة
__________________
ولا في المصلحة
اللزوميّة.
أمّا في مثل دفن
الميت ونحوه ممّا لا يقبل التعدّد ، فالأمر واضح ، إذ مع عدم تعدّد الفعل كيف
يتحقّق توارد العلل على المعلول الواحد؟
إشكال الأُستاذ
وقد أورد عليه
شيخنا بوجوه :
الأوّل : إنّ
الوجوب الكفائي وجوب مشوب بجواز الترك في طرف الموضوع ، أي المكلّف ، فلو ترك كان
المكلّفون كلّهم معاقبين ، لأنّ كلاًّ منهم قد ترك لا إلى بدلٍ ، فهو يقول بتعدّد
العقاب هنا ، ولا يقول به في الواجب التخييري مع ترك جميع الأطراف ، والحال أنّ
نفس الدليل القائم هنا على تعدّد العقاب يقتضي تعدّده هناك ، لأنّ جواز ترك
الإطعام ـ مثلاً ـ كان منوطاً بالإتيان بالعتق أو الصوم ، فلو ترك الكلّ لزم تعدّد
العقاب كذلك.
والثاني : لقد جاء
في كلامه في (نهاية الدراية) عبارة : إن المصلحة اللزوميّة هذه لا متعيّنة. فيرد
عليه :
أوّلاً : إنه لا
وجود لغير المتعيّن ، وقد ذكر هو سابقاً إن الوجود مساوق للتعيّن.
وثانياً : إنّ
المصلحة اللزوميّة متقوّمة بالفعل الحامل لها ، فكيف يكون المعلول متعيّناً
والعلّة غير متعيّنة؟ وكيف يكون اللاّمتعيّن قابلاً للامتثال؟
وثالثاً : إن
المصلحة اللزوميّة واحدة لا تقبل التعدّد وإلاّ لتعدّد الواجب وهو خلاف الفرض في
الواجب الكفائي ، ولذا يكون نسبتها إلى كلٍّ من المكلّفين على السواء ، وهي نسبة
صدوريّة ، فكيف يعقل أن يكون الصّادر واحداً ومن صدر عنه الفعل متعدّداً؟
الإشكال الصحيح
على صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني
هذا ، والإشكال
الوارد على تصوير الوجوب الكفائي بالوجوب المشوب بجواز الترك ، هو عدم مساعدة مقام
الإثبات والارتكازات العقلائيّة عليه ، وأمّا ثبوتاً فلا يرد عليه شيء.
الوجه الثاني
هو القول بالوجوب
المشروط ، بأن يجب الفعل على كلّ واحدٍ من المكلّفين مشروطاً بعدم قيام غيره منهم
به.
وهذا الوجه ساقط ،
لأنّه يستلزم عدم حصول الامتثال لو صلّى الكلّ على الميّت مثلاً ، لأنّ المفروض
اشتراط الوجوب على كلّ واحدٍ منهم بترك الآخر ، وإذا صلّى الجميع لم يتحقق الشرط
وانتفى الوجوب ، فلا امتثال للأمر ... وهذا باطل.
الوجه الثالث
إن موضوع التكليف
هو الفرد المردّد ، كما أنّ متعلّق التكليف في الوجوب التخييري هو المردّد ، فكما
تتعلّق الإرادة التشريعيّة بالمراد المردّد ـ وهو الفعل ـ كذلك تتعلّق بالمراد منه
المردد وهو الموضوع.
وفيه
:
ما تقدّم هناك من
أن تعلّق التكليف بالمردّد غير معقول ، سواء كان التردّد في الفعل المكلّف به أو
في المكلّف نفسه ، لأنّ التكليف ـ سواء على القول بأنه الإنشاء بداعي جعل الداعي ،
أو القول بأنه الطلب الإيقاعي الإنشائي ، أو القول بأنه البعث والتحريك نحو
الإتيان بالمتعلّق ، أو القول بأنه اعتبار الفعل في ذمّة العبد وإبرازه بالصيغة ـ أمر
ذو تعلّق وارتباط بالغير ، والتعلّق بالمردّد محال مطلقاً.
هذا ، ولا يخفى أن
الميرزا ـ وإن قال بمعقوليّة تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمردّد في الوجوب
التخييري ، من جهة أنّ أثرها إحداث الدّاعي في نفس المكلّف ، ولا مانع من أن يكون
المدعوّ إليه مردّداً ـ لا يقول في الوجوب الكفائي بتعلّقها بالموضوع المردّد ،
فهو يفرّق بين الموردين ، ولعلّ السرّ في ذلك هو تعيّن الموضوع في التخييري وتردّد
المتعلّق ، ولا محذور ـ عنده ـ في إحداث الداعي نحو المتعلّق المردّد ، أمّا في
الوجوب الكفائي ، فالموضوع مردّد ولا يعقل إحداث الداعي مع تردّده ... ولذا قال في
تصوير الكفائي بأنّ الموضوع صرف الوجود ـ لا الفرد المردد ـ كما سيأتي.
الوجه الرابع
إنّ موضوع التكليف
عبارة عن الكلّي الجامع بين الأفراد ، غير أنّه في مقام التشخّص يتشخص الموضوع
بقيام أيّ فردٍ من الأفراد بالمكلّف به ، كما هو الحال في الوضعيّات ، كملكيّة سهم
السّادة مثلاً ـ بناءً على أنه لكلّي الهاشمي الفقير ـ حيث الموضوع عبارة عن
الكلّي ، ويتعيّن بالقبض والإقباض ، فهنا كذلك ، فقد تعلّق التكليف بالكلّي غير
أنّه يتعيّن بمن يقوم بالعمل من أفراد المكلّفين.
وهذا ما نقله
المحقق الأصفهاني عن السيد بحر العلوم صاحب بلغة الفقيه في تصوير أخذ الأُجرة على الواجبات.
إشكال المحقق الأصفهاني
ثم أشكل عليه :
بأنّ البعث والتحريك لا بدّ وأن يتوجّه نحو الشخص ، ولا يعقل أن يكون الكلّي طرفاً
للبعث ، لعدم معقوليّة انقداح الإرادة في نفس
__________________
الكلّي ، لأن
الكلّي لا نفس له .
جواب الأُستاذ
وقد أجاب عنه
شيخنا : بأن هذا البعث اعتباري وليس تكوينيّاً ، وغاية ما يقتضيه البرهان هو
انقداح الإرادة على أثر البعث ، وهذا يحصل في نفس الفرد بالبعث نحو كلّي المكلّف
بعثاً اعتبارياً ، لأنّ الكلّي متّحد مع الأفراد. فالإشكال مندفع ....
وما جاء في كلامه من
أنّ متعلّق التكليف هو المكلّف بالحمل الشائع. مخدوش عقلاً ، لأنّ التكليف من
الأُمور ذات التعلّق ، فهو في وجوده محتاج إلى الطرف وهو مقوّم له ، لكن التكليف
والبعث من الموجودات النفسانيّة ، وتقوّم الموجود النفساني بالموجود الخارجي محال
، لاستلزامه صيرورة النفساني خارجيّاً أو الخارجي نفسانياً ، وكلاهما محال.
بل إن متعلّق
التكليف لا بدّ وأن يكون من سنخ التكليف ، فالتكليف أمر نفساني ومتعلّقه نفساني
أيضاً ، وهو الداعي في نفس العبد ، غير أنّ هذا الداعي يصير علّةً للمراد الخارجي
فيكون المبعوث إليه بالعرض ... فافهم واغتنم.
الإشكال الوارد
لكنّ الإشكال
الوارد على هذا الوجه هو : عدم معقوليّته فيما نحن فيه ، وتنظيره بالأحكام
الوضعيّة كالملكيّة قياس مع الفارق ، لأنّ الموضوع لملكيّة الخمس هو كلّي الهاشمي
الفقير ، لكنّه في ظرف التشخّص تتحقّق ملكيّة شخصيّة بمقتضى الأدلّة الشرعيّة في
المسألة ، بخلاف الأحكام التكليفيّة ، فإنّه لا موضوعية
__________________
في ظرف التشخّص ،
لأنّ ظرف التشخّص فيها هو ظرف التلبّس بالفعل والقيام به ، فما لم يقم أحد
المكلّفين بالفعل لم يتشخص الموضوع ، وإذا قام بالعمل خرج عن الموضوعيّة ، فلا
معنى لتوجّه التكليف إليه وبعثه نحو الفعل.
الوجه الخامس
إنّ موضوع الوجوب
في الكفائي عبارة عن مجموع المكلّفين ، بنحو العام المجموعي ، في مقابل العام
الاستغراقي حيث يكون الواجب عينيّاً وأنّ المكلّف كلّ واحدٍ من أفراد المكلّفين.
الإشكال عليه
وقد أورد عليه
بوجهين :
الأوّل : إنّ
المجموع أمر اعتباري ذهني ، إذ الموجود في الخارج هو الأفراد ، والتكليف ـ كما
تقرر ـ إنما هو لإيجاد الداعي في نفس المكلّف ، ومن الواضح أن الأمر الاعتباري غير
صالح للمبعوثية.
والثاني : إنه ليس
الموضوع في الوجوب الكفائي هو مجموع المكلّفين ، وإلاّ يلزم أن لا يتحقق الامتثال
بإتيان البعض بالمأمور به ، وتحقّقه بامتثال البعض كاشف عن أن الموضوع ليس
المجموع.
وهذا الإشكال
الثاني وارد.
وأمّا الأوّل
فيمكن الجواب عنه : بأنّ الأمر الاعتباري وإن لم يكن بنفسه موضوعاً للتكليف لما ذكر
، إلاّ أنه يمكن أن يكون وسيلةً لبعث من في الخارج ، نظير عنوان «أحدهما» مثلاً ،
فإنه أمر انتزاعي لا يتعلّق به التكليف ولا يقع موضوعاً له ، إلاّ أنه لمّا يقول
المولى : ليقم أحدكم بالفعل الكذائي ، يصير هذا العنوان منشأً للانبعاث في الخارج
، وقد تقدّم ـ في تصحيح جعل الكلّي عنواناً للموضوع ـ أنه لا برهان على ضرورة كون
المكلّف نفسه قابلاً للانبعاث ، بل يكفي أن يكون
لجعل العنوان
موضوعاً أثر في الخارج يخرج أخذه كذلك عن اللغويّة ، فهذا الإشكال من المحقق
الأصفهاني غير وارد.
الوجه السّادس
إن الموضوع صِرف
وجود المكلّف ، وكما أنّ الغرض من المكلّف به يترتّب على صرف وجود الطبيعة ـ كالإكرام
مثلاً ـ حيث يتحقّق الامتثال بإكرام فردٍ واحدٍ أو على مطلق وجودها الساري ،
فينحلّ التكليف بعدد أفراد تلك الطبيعة ، كذلك في طرف المكلّف ، فقد يترتّب الغرض
على صدور الفعل من مكلّفٍ ما ، وقد يترتّب على مطلق وجود المكلّف ، فإن كان الأوّل
فهو الكفائي ، وإن كان الثاني فهو العيني ....
وهذا مختار المحقق
النائيني وقال في المحاضرات : «وهو الصحيح» .
إشكال المحقق الأصفهاني
وقد تعرّض المحقق
الأصفهاني لهذا الوجه في تعاليقه على (نهاية الدراية) فقال : إن صرف الوجود بمعناه المصطلح عليه في المعقول لا يطابق له إلاّ الواجب تعالى وفعله الإطلاق ، حيث إنه لا حدّ عدمي لهما وإن كان
الثاني محدوداً بحدّ الإمكان. وبمعناه المصطلح عليه في الأُصول : إمّا أن يراد منه
ناقض العدم المطلق وناقض العدم الكلّي كما في لسان بعض أجلّة العصر ، وامّا أن يراد
__________________
المبهم المهمل من
حيث الخصوصيّات ، وامّا أن يراد منه اللاّبشرط القسمي المساوق لكونه متعيّناً
بالتعيّن الإطلاقي اللازم منه انطباقه على كلّ فرد.
(قال) فإن أُريد
منه ناقض العدم المطلق والعدم الكلّي.
ففيه : إنّ كلّ
وجود ناقض عدمه البديل له ، وليس شيء من موجودات العالم ناقض كلّ عدم يفرض في
طبيعته المضاف إليها الوجود.
وإرجاعه إلى أوّل
الوجودات ، باعتبار أنّ عدمه يلازم بقاء سائر الأعدام على حاله ، فوجوده ناقض
للعدم الأزلي المطلق لا كلّ عدم.
فهو لا يستحق
إطلاق الصرف عليه ، فإنه وجود خاص من الطبيعة بخصوصيّته الأوليّة ، مع أنه غير
لائقٍ بالمقام ، فإنه من المعقول إرادة أوّل وجودٍ من الفعل ، ولا تصحّ إرادته من
أول وجودٍ من عنوان المكلّف ، فإنّ مقتضاه انطباقه على أسنّ المكلّفين.
كما لا يصحّ
إرجاعه إلى أوّل من قام بالفعل.
فإنّ موضوع
التكليف لا بدّ من أن يكون مفروض الثبوت ولا يطلب تحصيله ، فمقتضاه فرض حصول الفعل
لا طلب تحصيله.
وإن أُريد المبهم
المهمل.
فلا إهمال في
الواقعيّات.
وإن أُريد
اللاّبشرط القسمي ، وهي الماهيّة الملحوظة بحيث لا تكون مقترنةً بخصوصية ولا
مقترنةً بعدمها.
فيستحيل شخصيّة
الحكم والبعث ـ مع لحاظ المكلّف بعد الاعتبار الإطلاقي ـ إذ لا يعقل شخصيّة الحكم
ونوعيّة الموضوع وسعته ، فلا بدّ من انحلال الحكم حسب انطباقات الموضوع المطلق على
مطابقاته ومصاديقه ، فيتوجّه
حينئذٍ السؤال عن
كيفية هذا الوجوب الوسيع على الجميع مع سقوطه بفعل البعض. وسيأتي توضيح الجواب
عنه.
جواب الأُستاذ
وأجاب شيخنا عن
الإشكال : بأن المراد من «صرف الوجود» هو ما ذكره من نقيض العدم البديل ، بمعنى أن
وجود زيد ـ مثلاً ـ رافع لعدم زيد لا عدم عمرو ، لكنّ وجود زيدٍ في نفس الوقت رافع
لمطلق العدم ، لا للعدم المطلق حتى يرد الإشكال ، إذ الفرق بين مطلق العدم والعدم
المطلق كبير ، وكذلك الفرق بين الوجود الخاص ومطلق الوجود ، فلما يتحقق زيد يتحقق
أصل الوجود معه ، كما هو الحال بين الأفراد والطبائع ، إذ يتحقق مع وجود زيد أصل
الإنسانية ومطلق الانسانية لا الإنسانية المطلقة.
فالمراد من صرف
الوجود هو الوجود الناقض للعدم ، وهذا هو الموضوع للتكليف ، لا الوجود الناقض
لجميع الأعدام أو المهمل أو الطبيعة لا بشرط ولا من يقوم بالفعل ولا أول الوجود ...
فالإشكال مندفع وإنْ تعجّب السيد الأُستاذ من التزام المحقق النائيني به وموافقة
السيد الخوئي له ، فلاحظ .
الوجه السّابع
هو : إن الأمر إذا
صدر عن المولى متوجّهاً إلى عبده ، فله أنحاء من الإضافات ، إذ له نحو إضافةٍ إلى
الآمر وهو بصدوره عنه ، ونحو إضافةٍ أُخرى إلى المأمور ، وهو بتحريكه نحو المطلوب
، ونحو إضافة بالفعل الصادر ، وهو بقيامه فيه شبه قيام العرض في الموضوع لا مثله
حقيقةً ، لما عرفت من أن التكليف ليس من العوارض الخارجية ، إذ الخارج ظرف السقوط
لا ظرف العروض.
__________________
ومعلوم : أنه لا
فرق بين الواجبات العينيّة والكفائيّة من جهة الإضافة الأولى والثانية ، إذ في
كليهما كان الآمر يصدر عنه الطلب وكان المأمور مبعوثاً نحو الفعل ، لكنّ الفرق بين
العيني والكفائي إنما هو في نحو الإضافة الأخيرة ، حيث أن نحو إضافة التكليف إلى
الفعل في العيني هو بقيد صدوره عن آحاد المكلفين مباشرةً ، فيتعدّد لا محالة
بتعدّد المكلّفين بمناسبة هذا القيد ، بخلاف الواجبات الكفائية فلا يتعدّد بتعداد
المكلّفين.
فتعلّق التكليف
بالمكلّفين هو على نحو الاستغراق في العيني والكفائي من غير فرقٍ ، والفرق بينهما
إنما هو بنحو الإضافة الأخيرة ، فكما يمكن أن يكون نحو إضافة التكليف إلى الفعل
المتعلّق بقيد أن يكون التعلّق صادراً عن كلّ فردٍ من الأفراد بالمباشرة ، كما في
الصّلاة والصوم ونظائرهما من الواجبات النفسيّة ، حيث أن المصلحة قائمة في فعل
آحاد المكلّفين بالصّدور المباشري ، كذلك يمكن أن يكون نحو إضافته إلى المتعلّق لا
بقيد صدوره عن كلّ واحدٍ مباشرة ، بل يكون نحو تعلّقه بصرف الوجود من طبيعة الفعل
لا بقيد تكثرها بكثرة أفراد المكلفين ، فيسقط الأمر بصرف وجود الطبيعة في الخارج
من أحد المكلفين قهراً ، لأنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ ما. هذا هو حقيقة الوجوب
الكفائي فافهم واغتنم. وهذا مختار السيد البروجردي .
وحاصل هذا الوجه
هو : أن كلّ التصويرات مردودة ، لأنها كانت متوجّهةً نحو المطلوب منه ، فقيل : هو
مجموع الأفراد ، وقيل : الجميع ويسقط بفعل البعض ، وقيل : الواحد المردّد ... بل
الفرق بين العيني والكفائي هو من ناحية المطلوب ، إذ هو في الأول مشروط بصدوره من
المكلّف الخاص والثاني
__________________
لا بشرط من ذلك.
وجوه الإشكال
أورد عليه
الأُستاذ بوجوه :
الأول : النقض
بالواجب التخييري ، حيث ذهب إلى أن الواجب فيه هو الواحد المردّد ... فيقال له :
أيّ فرقٍ بين ترديد المتعلّق وترديد الموضوع؟ لوضوح وحدة المناط وهو أنّ المردّد
لا وجود له ، وما كان كذلك فلا يقبل البعث ... والأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص.
والثاني : إنّه لا
يعقل تقييد المعلول بصدوره عن علّته ، فالحرارة تصدر من النار ، وإذا صدرت لا يعقل
تقييدها بالصدور عن النار ، بل إنها تصدر عنها ثم تتّصف بالصّدور. فهذه مقدّمة.
ومقدمة أُخرى : إنّ الإرادة التشريعية من المولى إنما تتعلّق بما تتعلّق به
الإرادة التكوينيّة من العبد.
وبناءً على ما ذكر
يتّضح عدم إمكان اشتراط الواجب بصدوره عن إرادة المكلّف ، لأن إرادته علّة لتحقق
الواجب ، فلو كان الواجب مشروطاً بصدوره عن إرادة المكلّف لزم اشتراط المراد
بصدوره عن الإرادة ، وهذا غير معقول ، فلا يعقل تعلّق الإرادة التشريعيّة به ...
والحاصل
: إن الإرادة
تتعلّق بالصّلاة لا بالصّلاة الصادرة عن الإرادة ... فقوله بأن الواجب العيني
عبارة عن الواجب المشروط بصدوره عن فاعل خاص ، يرجع إلى كون الصّلاة الواجبة على
زيد هي الصّلاة المقيّدة بصدورها عن إرادته ، ولمّا كان هذا المحقق من القائلين
بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة ، فإنه إذا استحال
التقييد ـ كما ذكرنا ـ يستحيل الإطلاق. فما ذكره في تصوير الواجب الكفائي وفرقه عن
العيني ساقط.
والثالث : إن
الغرض في الواجب الكفائي واحد لا متعدّد ، وقد صرّح بذلك أيضاً ، ومع وحدته يستحيل
تعدّد الواجب ، فقوله بتعدّد الوجوب على عدد أفراد المكلّفين غير صحيح.
الوجه الثامن
إنه ليس للوجوب
حقائق مختلفة متعدّدة ممتازة بذاتيّاتها ، بل هو في جميع موارده سنخ واحد ، ويكون
تكثّره بالعوارض المصنّفة والخصوصيّات المشخّصة.
فسنخ الكفائي هو
سنخ العيني ، والتكليف فيه متوجّه إلى الجميع ، لعدم معقوليّة تكليف واحدٍ على
البدل ، والفرض عدم اختصاص التكليف بواحدٍ معيّن ، والتكليف المتوجّه إلى الجميع
متعدّد ، لعدم معقوليّة توجّه تكليفٍ واحدٍ إلى متعدّدين ، فإذا تعدّد التكليف
والمكلّف تعدّد الفعل المكلّف به ، ويكون تكليف كلّ واحدٍ متعلّقاً بفعل نفسه لا
بفعل غيره ....
فحقيقة الوجوب هنا
هي حقيقة الوجوب هناك من غير تخالف في الحقيقة الوجوبيّة أصلاً ، فيجب على كلّ
واحدٍ امتثال تكليف نفسه ، فإذا اجتمع الكلّ على الامتثال دفعةً واحدة استحق كلّ
واحدٍ المثوبة الكاملة ، وإذا اجتمعوا على المعصية استحق كلّ واحدٍ عقاباً تامّاً
كما في الواجبات العينيّة.
نعم ، إذا بادر
أحدهم إلى الامتثال سقط التكليف عن الباقين ، على خلاف الواجبات العينيّة ، وليس
المنشأ لهذا الاختلاف حقيقة الوجوب ، بل الوجه في ذلك ارتفاع موضوع التكليف بإتيان
واحدٍ ، وذلك لخصوصيّة أُخذت في المتعلَّق ، فإنّ متعلّق التكليف هو الغسل والكفن
والدفن لميت لم يغسّل ولم يكفّن ولم يصلّ عليه ولم يدفن. وهذا كلّه ينتفي بإتيان
واحد ، فموضوعُ التكليف
غير باقٍ ليكلّف
الباقون.
وحاصل الكلام هو :
إن الفرق بين الوجوب العيني والوجوب الكفائي هو في طرف موضوع التكليف ، فهو في
الأول لا بشرط وفي الثاني بشرط ، أي هو الميت الذي لم يغسّل ولم يكفن ولم يصلّ
عليه ولم يدفن ، فإذا تحقّق ذلك كلّه في حقّه من واحد ، فلا موضوع لتكليف سائر
المكلّفين ، ويكون سقوط التكليف عنهم لانتفاء الموضوع ، خلافاً للسيد البروجردي ،
إذ جعل العيني مشروطاً بصدوره عن فاعلٍ خاصٍ والكفائي لا بشرط ... وهذا مختار
المحقق الإيرواني .
إشكال الأُستاذ
وقد أورد الشيخ
الأُستاذ على هذا الوجه : بأنّ كلّ موضوع فهو بقيوده مقدّم رتبةً على الحكم ، وكلّ
حكم متأخّر عن موضوعه بالتأخّر الطبعي ، فكان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة
إلى المعلول ، وإن كانت العلّة الواقعيّة هي إرادة المولى.
وأيضاً : فإنّ
الرافع للشيء لا بدّ وأن يكون متقدّماً على الشيء رتبةً ، لأنه العلّة لعدمه ،
وإلاّ فلا يكون رافعاً له.
وأيضاً : فإنّ
الإهمال في الموضوع وقيوده محال.
وبناءً على هذه
المقدّمات نقول : إذا كان تغسيل الميّت واجباً على زيدٍ أو عمرو كفايةً ، وكان
وجوبه على كلٍّ منهما مقيّداً بعدم كون الميت مغسّلاً بواسطة الآخر ، كان الرافع
للموضوع الموجب لانتفاء تكليف زيد ، هو تغسيل عمرو ، وحينئذٍ يتوجّه السؤال : هل
كان تغسيل عمرو ـ الرافع لموضوع تكليف زيد ـ مهملاً ، أي هو رافع له سواء كان
المأمور به أو لا؟ لا ريب في عدم الإهمال بل هو
__________________
مقيّد بكونه غسلاً
صحيحاً مطابقاً للأمر ، إذن ، كان موضوع الوجوب على كلٍّ من زيد وعمرو هو عدم كون
الميت مغسّلاً بالغسل الصحيح بواسطة الآخر ، فيكون الرافع للموضوع هو الغسل الصحيح
، لكنّ قيد الصحّة للموضوع متأخّر رتبةً على الموضوع المتقدم رتبةً على الحكم.
ونتيجة ذلك هو :
أن يكون وجوب التغسيل على زيدٍ متأخّراً عن الموضوع ـ وهو عدم تغسيل عمرو الغسل
الصحيح ـ بمرتبتين ، وأن يكون وجوبه على عمرٍو متأخّراً عن الموضوع ـ وهو عدم
تغسيل زيد له كذلك ـ بمرتبتين ، فيجتمع التأخّر والتقدّم في وجوبه على زيدٍ ، وهو
محال.
هذا كلّه أوّلاً.
وثانياً : إنه قد
نصّ على وحدة الغرض ، وفي نفس الوقت نصّ على تعدّد التكليف ، فكيف يكون الغرض
واحداً والمكلّف به واحداً ، ـ وهو الدفن ـ والتكليف متعدّداً؟
رأي الأُستاذ في الوجوب الكفائي
واختلف مختار
الأُستاذ في الدورتين. أمّا في السابقة ، فقد اختار قول المحقّق الخراساني ،
كالمحققين الأصفهاني والعراقي ، مستشكلاً على قول الميرزا بأن متعلّق الوجوب هو
صرف الوجود ـ بعد أن ذكر تعبير (المحاضرات) عنه بالجامع لا بعينه ـ بأن تصوير
الجامع الانتزاعي ـ الواحد لا بعينه ـ وإن أمكن في الوجوب التخييري ، فهو غير ممكن
في الكفائي ، للفرق بينهما من جهة استحقاق العقاب الواحد هناك في صورة المخالفة
للكلّ ، بخلاف الوجوب الكفائي ، فلو ترك كلّ أفراد المكلّفين استحقّوا العقاب
جميعاً ....
وأمّا في الدورة
اللاّحقة ، فقد ناقش في طريق صاحب الكفاية ومن تبعه ،
واختار طريق الميرزا
، مستشكلاً على (المحاضرات) إرجاع النظريّة إلى الجامع الانتزاعي بأنّه ليس المراد
عند المحقق النائيني ، ويشهد بذلك قوله في التخييري بأن الواجب هو الفرد المردّد ،
لأنّ الإرادة التشريعيّة تختلف عن الإرادة التكوينيّة ، فلو كان مراده في الكفائي
ذلك أيضاً لصرّح به ، مع وجود الفرق بين الوجوبين ، حيث أن المردّد هناك هو
المتعلّق والمردّد هنا هو الموضوع ... لكنّ بيان الميرزا هنا شيء آخر ، إنه يجوّز
أن يكون صرف الوجود موضوعاً للحكم ، كما جاز أنْ يكون متعلَّقاً له ، ومن الواضح
أنّ «صرف الوجود» غير «الجامع» وغير «الفرد المردد».
والحاصل
: إنه كلّما أمكن
تصوير الجامع صحّ صرف الوجود ، وكلّما لم يمكن كان التكليف متوجّهاً إلى عنوان «الأحد».
أمّا في التخييري فلا جامع بين أفراد المكلّف به من الصوم والعتق والإطعام في
الكفارة ، أو القتل والصّلب والنفي في حدّ المحارب ، ولذا يكون الواجب هو «الأحد»
، بخلاف الكفائي ، فالجامع موجود ، وهو عنوان الصّلاة ، فكان صرف وجود المكلّف هو
الموضوع للتكليف ....
وهذه هي النكتة في
اختلاف تعبير الميرزا في الموردين ، حيث قال في الوجوب التخييري بأن المتعلّق هو
عنوان «الأحد» وفي الوجوب الكفائي جعل الموضوع هو «صرف وجود المكلّف» ....
وما ذهب إليه هنا
لا يتوجّه عليه أيّ إشكالٍ ، بعد ظهور اندفاع مناقشات المحقق الأصفهاني.
وهذا تمام الكلام
على الوجوب الكفائي.
الوجوب
الموسّع والموقّت
والبحث في جهاتٍ
ثلاثة :
الجهة الأُولى : في تصوير الواجب الموسّع والواجب
المضيّق.
إنّه لا ريب في
لابديّة الزمان في كلّ أمر زماني ، وإنما الكلام في كيفيّة دخله في الغرض ، لأن من
الواجب ما ليس بموقّت ، والموقّت : منه ما يكون الزمان فيه على قدر الفعل ، ومنه
ما يكون أوسع منه ، والأوّل هو المضيَّق ، والثاني هو الموسّع.
إنما الكلام في
تصوير هذين القسمين.
إشكال العلامة في الموسّع وجوابه
فعن العلاّمة
الحلّي رحمهالله انكار الواجب الموسّع في الشريعة ، لأن القول به يستلزم
القول بجواز ترك الواجب ، لكونه جائز الترك في أوّل الوقت ، وترك الواجب غير جائز.
فأجاب عنه في (الكفاية)
بأنّا نلتزم بعدم وجوب الفعل في أوّل الوقت ، بل الواجب هو
الفعل بين الحدّين ، كالصّلاة بين الزوال والغروب ، وحينئذٍ ، تكون الصّلاة في
أوّل الوقت مصداقاً للواجب ، ومصداق الواجب غير الواجب ، فلا موضوع للإشكال.
__________________
وأمّا جواب السيد
الحكيم : بأنّ الإشكال إنما يرد لو تركت الصّلاة في أوّل الوقت لا
إلى بدلٍ ، لأنه منافٍ للوجوب ، وأمّا مع وجود البدل وهو الصّلاة في الوقت الثاني
ـ مثلاً ـ فلا يرد.
ففيه : إن الإشكال
هو أنه مع فرض كون الزمان أوسع من الواجب ، فإنّ ترك الواجب في أول الوقت ينافي
أصل الوجوب ، فلو ترك إلى بدلٍ أصبح الوجوب تخييريّاً ، والكلام في الواجب
التعييني لا التخييري.
وتلخّص : تصوير
الواجب الموسّع.
الإشكال في الواجب المضيّق وجوابه
وأمّا الإشكال في
الواجب المضيّق فهو : إن كون الزمان على قدر الفعل غير معقول ، لأن الوجوب إن كان
قبل الزمان لزم تقدّم المشروط على الشرط ، وإن كان بعده أو مقارناً له ، فمن
الضروري تصوّر البعث وتصديقه حتى يؤثر في الإرادة ، لأن الانبعاث من الأمر ـ وهو
فعل اختياري ـ يتوقف على التصوّر والتصديق ، وكلّ ذلك يحتاج إلى زمان ، فيكون زمان
الانبعاث متأخّراً عن زمان البعث ، ويلزم أن يكون زمانه أقل من زمان البعث.
والجواب هو : إن
ورود هذا الاشكال يتوقّف على أن يكون تأخّر الانبعاث عن البعث زمانيّاً ، لكنّه
تأخّر رتبي ، وذلك : لأن الموجب للانبعاث هو ـ في الحقيقة ـ الصّورة العلميّة
للأمر والبعث ، وهي تتحقّق في آن الانبعاث والامتثال ، فيحصل البعث والعلم به
والعمل على طبقه في الزمان الواحد ، فالواجب المضيّق ممكن ....
__________________
الجهة الثانية
في أنّ الدليل على
وجوب الفعل في الوقت المعيّن هل يدل على وجوبه كذلك في خارج ذلك الوقت ، أو لا بدّ
لوجوبه من دليل آخر؟ فإن كان الأوّل ، فالقضاء بالأمر الأوّل ، وإن كان الثاني ،
فهو بأمر جديد ... أقوال :
منها : عدم
الدلالة مطلقاً.
ومنها : الدلالة
مطلقاً.
ومنها : التفصيل
بين ما إذا كان الدليل الدالّ على التقييد بالزمان منفصلاً أو متّصلاً.
ومنها : التفصيل
بين ما إذا كان دليل التقييد مهملاً ودليل الوجوب مطلقاً فيدلّ ، وإلاّ فلا. وهذا
مختار المحقق الخراساني.
قال في (الكفاية) : إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجهٍ على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في
الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم ، لو كان التوقيت بدليلٍ منفصلٍ
لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضيّة إطلاقه
ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
أقول
: وحاصل كلامه
الأوّل : إن نسبة دليل التوقيت إلى دليل أصل الوجوب ، هو نسبة المقيّد إلى المطلق
، فكما يكون الدليل على اعتبار الإيمان في الرقبة مقيّداً لدليل وجوب العتق ، كذلك
الدليل القائم على مدخليّة الزمان الكذائي في الغرض من التكليف الكذائي ، وحينئذٍ
، فمقتضى القاعدة عدم الدلالة على الأمر بالفعل في غير ذلك الوقت ، لو لم نقل بدلالته
على عدم الأمر به فيه ، من جهة
__________________
مفهوم التحديد.
وأمّا كلامه
الثاني فبيانه هو : إن دليل التقييد بالزمان إنْ كان متّصلاً بدليل الوجوب ، فهو
إمّا مبيّن فيؤثر التقييد كما هو واضح ، وامّا مجمل ، فيسري إجماله إلى دليل
الوجوب. وإن كان منفصلاً ، فتارةً يكون الدليلان مطلقين ، وأُخرى مهملين ، وثالثةً
يكون دليل الوجوب مطلقاً ودليل القيد مطلق ، ورابعةً بالعكس.
فإن كانا مهملين ،
فهذا خارج من البحث.
وإن كان دليل
الوجوب مهملاً ودليل التقييد معيّناً ، أُخذ بمقتضى دليل التقييد.
وإن كان الدليلان
مطلقين ، يؤخذ بدليل التقييد أيضاً ، لكون نسبته إلى دليل الوجوب نسبة القرينة إلى
ذي القرينة.
وإن كان دليل
الوجوب مطلقاً ودليل التقييد مجملاً ، فإن كان مجملاً مردداً بين المتباينين ، سقط
دليل التقييد عن الحجيّة ، وإن كان مجملاً مردداً بين الأقل والأكثر ، رفع اليد عن
دليل الوجوب بالمقدار المتيقن وبقي على حجيّته في الزائد عنه.
هذه هي الكبرى ،
وتطبيقها على المورد هو أنه :
إن كان دليل
التقييد بالزمان المعيّن مطلقاً ، بأن يكون الوقت دخيلاً في الغرض من المطلوب في
جميع الأحوال والأفراد ، كان مقتضاه عدم الوجوب في خارج الوقت ، لعدم الغرض.
وإن كان دليل
الوجوب مطلقاً ودليل التقييد غير مطلق ، بأن يكون الغرض قائماً بالمرتبة العالية
من الصّلاة مثلاً ، وهي الصلاة في الوقت ـ أمّا لو اضطرّ ولم يصلّها كذلك ،
فالوجوب في خارج الوقت باق ، لبقاء الغرض ، بعد انتفاء المرتبة
العالية ـ فلا
حاجة إلى دليلٍ جديد ، لأن المفروض اطلاق دليل الوجوب ، وأنّ القيد في المرتبة.
وإن كان دليل
التقييد مجملاً مردداً بين كونه مقيّداً لأصل الوجوب أو للمرتبة ، فيؤخذ بالقدر
المتيقّن ، ويبقى أصل الوجوب.
رأي الأُستاذ
وقد وافق الأُستاذ
المحقق الخراساني على النظريّة ، وأنّها خالية من الإشكال الثبوتي ، غير أن مقام
الإثبات لا يساعد عليها ، لأنّ مقتضى الارتكازات العرفيّة والعقلائية ورود القيد
على أصل الوجوب ، وأنّه في غيره لا يبقى وجوبٌ ، والقول بأنّه يقيّد مرتبةً من
الطلب يحتاج إلى دليلٍ زائد ، لأنّ التمسّك بإطلاق دليل الوجوب فرع الشك في بقائه
وعدم بقائه بعد خروج الوقت ، والعقلاء ليس عندهم شك في عدم البقاء ... اللهم إلاّ
حيث يتحقّق الشك أو يقوم دليل آخر على بقاء الوجوب.
هذا ما ذكره في
الدورة اللاّحقة.
وأمّا في الدورة
السّابقة ، فقد وافق (الكفاية) على أصل النظريّة كذلك ، إلاّ أنه خالفه في إطلاقها
، فاختار عدم دلالة دليل الوجوب على بقائه بعد الوقت بالنسبة إلى المكلّف الفاعل
المختار ، ودلالته على ذلك بالنسبة إلى العاجز.
وهذا ما أفاده
الإيرواني. فليلاحظ .
ثمرة البحث
هذا ، وتظهر ثمرة
البحث في الصّلاة في كلّ موردٍ لا تجري فيه قاعدة الحيلولة وقاعدة الفراغ ، وبيان
ذلك هو : إنه لو شك في خارج الوقت في تحقق
__________________
الصّلاة في الوقت
، فتارةً يشك في أصل وجودها وأُخرى يشك في كيفية الصّلاة التي صلاّها ، فإن كان
الأوّل ، فتجري ـ في خصوص الصّلاة ـ قاعدة الحيلولة ، ولا يعتبر بالشك. وإن كان
الثاني ، فقد تجري قاعدة الفراغ وقد لا تجري ، فيكون مورد ثمرة البحث ، كما لو علم
أنّه قد صلّى في الوقت إلى جهةٍ معيّنة ، ثم شك بعد الوقت في كونها جهة القبلة ،
أمّا قاعدة الحيلولة فلا تجري ، لأنّ مجراها هو الشك في أصل وجود الصّلاة ، فإن
قلنا بجريان قاعدة الفراغ في خصوصيّات العمل ، سواءً كان مورداً للتعليل
بالأذكريّة الوارد في النصّ أو لم يكن ، فلا ثمرة للبحث ، لجريان هذه القاعدة. وإن
قلنا بعدم جريانها إلاّ في حال كونه حين العمل أذكر ، أخذاً بالتعليل ، ـ وهذا هو
المختار ـ فلا مجرى للقاعدة ، لفرض عدم كونه حينئذٍ أذكر ، ترتّبت الثمرة. فعلى
القول بأن القضاء بالأمر الأوّل ، فهو واجب ، لأن مقتضى الأمر الأول هو الاشتغال
بالنسبة إلى القبلة ، والمفروض هو الشك في وقوع الصّلاة إليها ، فالفراغ مشكوك فيه
، ومقتضى قاعدة أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية هو القضاء. وأمّا على
القول بأنه بأمر جديد ، فيقع الشك في توجّه أمر جديدٍ يقتضي القضاء ، لأنه إن كان
قد صلّى إلى القبلة فلا أمر ، وإلاّ فهو مكلّف بالقضاء ، فهو إذاً شاك في الاشتغال
بأمرٍ جديد ، وهذا مجرى البراءة.
الجهة الثالثة
إنه لو شك في أنّ
دخل الزمان في الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده ، فما هو مقتضى
القاعدة؟
ذهب الشيخ الأعظم
والمحقق الخراساني وأتباعهما إلى البراءة ، لعدم جريان الاستصحاب ، لعدم وحدة
الموضوع ، فقد كان مقتضى الدليل هو الصّلاة في الوقت وإذا خرج الوقت تغيّر
الموضوع.
وخالف المحقق
الأصفهاني ـ بعد أن وافق القوم في متن (نهاية الدراية) في الحاشية ، وتبعه السيد
الحكيم ـ فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع ، إذا كان المستصحب هو الواجب الخاص ،
وتوضيحه : إن الخصوصيّات قد تكون مقوّمة لحامل الغرض وأُخرى تكون ذات دخلٍ في
تأثير المقتضي كالشرائط مثل المماسّة بين المحرق والمحترق ... وهذا ثبوتاً. وأمّا
إثباتاً ، فإن المقتضي للنهي عن الفحشاء هو ذات الصّلاة ، وأمّا خصوصية الوقت
والطهارة والساتر والقبلة ونحو ذلك ، فلها دخلٌ في فعليّة تأثير المقتضي ، وعليه ،
فإن الوجوب النفسي متوجّه إلى ذات الصّلاة ، وتلك الخصوصيّات واجبات غيريّة ، فإذا
خرج الوقت ـ وهو من الخصوصيات ـ أمكن استصحاب وجوب الصّلاة ، وهذه الذات هي نفسها
الذات في داخل الوقت بالنظر العرفي.
وفيه : إن الملاك
في وحدة الموضوع وعدمها في الاستصحاب هو نظر العرف ، والموضوع فيما نحن فيه هو
الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة ، لأنّ العرف لا يرى الإهمال في الموضوع ولا
الإطلاق ، بل يرى أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقيّدة بالوقت وبالطهارة ، فكان
الوجوب متوجّهاً إلى هذا الموضوع الخاص ، وهو في خارج الوقت متغيّر عن الذي كان في
الوقت ....
ثم إنّه بناءً على
أنّ القضاء بأمرٍ جديدٍ في الصّلاة والصيام ، فلو خرج الوقت وشكّ المكلّف في
الإتيان بالواجب في وقته ، هل يمكن إثبات فوت الفريضة باستصحاب عدم الإتيان بها أم
لا؟ وجهان!
فعلى القول : بأنّ
موضوع وجوب القضاء هو «الفوت» وأنه أمر وجودي ، كان استصحابه لإثبات عدم الإتيان
بالفريضة أصلاً مثبتاً. أما على القول : بكونه عدمي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب
فيه ، لتمامية أركانه حينئذٍ.
وقد ذهب الميرزا
والسيد الخوئي إلى الأول ، لكون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشيء من الكيس
، وأنه ليس في نظرهم عين «الترك» ، ولو شكّ في أنه وجودي أو عدمي ، لم يجر
الاستصحاب كذلك ، لكونه حينئذٍ شبهةً مصداقية لدليل الاستصحاب.
وذهب الأُستاذ إلى
أنه وإن كان لغةً كذلك ، لكنّ العبرة في الاستصحاب بنظر العرف ، وكونه وجوديّاً
عندهم غير واضح ، إن لم يكن عدميّاً.
لكنّ المهمّ هو
أنه ليس موضوع وجوب القضاء في ظواهر النصوص ، فكما جاء في بعضها عنوان «الفوت»
كذلك يوجد عنوان «النسيان» و «الترك» و «عدم الإتيان» أيضاً.
ففي رواية : عن
أبي جعفر عليهالسلام : أنه سئل عن رجلٍ صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها
أو نام عنها. قال : يقضيها ...» .
وفي أُخرى : «كل
شيء تركته من صلاتك ... فاقضه ...» .
وفي ثالثة : «إذا
أُغمي عليه ثلاثة أيام فعليه قضاء الصلاة فيهن» .
وفي رابعة : «سألته
عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر؟ قال : نعم ...» .
وفي أبواب الحج :
«سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجلٍ مات ولم يحج ...» .
__________________
وفي أبواب الصوم :
«رجل مات وعليه
قضاء من شهر رمضان. فوقّع عليهالسلام : يقضى عنه ...».
«عن الرجل تكون
عليه أيام من شهر رمضان كيف يقضيها ...؟».
وعلى الجملة ، فقد
قال الأُستاذ بجريان الاستصحاب في كلّ موردٍ جاء الموضوع فيه عدميّاً ، وقد ظهر
أنه ليس «الفوت» فقط ، لو ثبت كونه وجوديّاً.
إذن ، لا مانع من
جريان الاستصحاب في فرض كون الشك بعد خروج الوقت.
وأمّا لو شك في
الإتيان بالفريضة في داخل الوقت لا خارجه ، فقد قالوا بوجوب الإتيان ، للاستصحاب
ولقاعدة الاشتغال ، فإن مقتضاهما صدق عنوان «الفوت» بالنسبة إلى هذا المكلّف ...
وقد جاء في النصوص «من فاتته الفريضة فليقضها كما فاتته» وبهذا يظهر الفرق بين هذه
الصّورة والصّورة السّابقة.
وقد أشكل عليه
شيخنا : بأنّ قاعدة الاشتغال عقليّة ، وهي لا تفيد الأحكام الظاهرية ، فهي تفيد
وجوب الإتيان وجوباً عقليّاً ، وموضوع «من فاتته» هو الفريضة الشرعيّة ، إذن ،
القاعدة العقليّة لا تثبت الفريضة ، وإنّما تدعو إلى السّعي وراء إبراء الذمّة ،
وهذا أمر آخر.
وأمّا التمسك
بالاستصحاب ، فإنّما يتم بناءً على مسلك جعل الحكم المماثل ، كما هو مختار صاحب (الكفاية)
، فيثبت به وجوب الصّلاة مثلاً ويتحقق موضوع «من فاتته». أمّا على القول بأنّ مفاد
أدلّة الاستصحاب ليس إلاّ التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك ، فلا تثبت
الفريضة ولا يتحقق موضوع «من فاتته» ،
__________________
وهذا مختار المحقق
الأصفهاني ، وعليه السيد الخوئي نفسه ، وعليه ، فمفاد الأدلّة إبقاء اليقين بعدم
الإتيان بالصّلاة مثلاً ، وهذا لا يثبت الفريضة إلاّ على الأصل المثبت.
وتلخّص
: إن مقتضى الأدلّة
الأوليّة هو كون القيد لتمام المطلوب ، ومع الشك في كونه لذلك أو أنه قيد لأصل
المطلوب ، فلا يجري الاستصحاب الشخصي الذي ذكره المحقق الأصفهاني وتبعه السيد
الحكيم ، ولا الكلّي ـ القسم الثالث ـ لعدم تماميّته من حيث الكبرى ... وأمّا
القسم الثاني ، فقد اختلفت كلمات السيد الخوئي في جريانه هنا وعدمه فقهاً
وأُصولاً. والمختار : هو جريان استصحاب الكلّي ، القسم الثاني ، وفاقاً له في
أُصوله.
الأمرُ بالأمر
هل الأمر بالأمر
بشيء أمرٌ بالأمر فقط ، أو أنه أمر بذلك الشيء حقيقة؟
ولعلّ السبب العمدة
في طرح هذا البحث هو الأخبار الآمرة بأن يأمر الأولياء صبيانهم بالصّلاة إذا كانوا
أبناء سبع ، فإنّه على القول الأوّل لا تكون عباداتهم شرعيّة وعلى الثاني فهي
شرعيّة ، وتظهر الثمرة فيما إذا صلّى الصبيّ وبلغ الحلم في داخل الوقت ، هل تجب
عليه إعادة الصّلاة أو لا؟ قولان :
رأي صاحب الكفاية
قال في (الكفاية)
:
«الأمر بالأمر
بشيء أمر به لو كان الغرض حصوله ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلاّ تبليغ
أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر والنهي ، وتعلّق غرضه به ، لا
مطلقا بل بعد تعلّق أمره به ، فلا يكون أمراً بذاك الشيء ، كما لا يخفى» .
وقد انقدح بذلك
أنه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به ، ولا بدّ في الدلالة عليه من
قرينة.
وبيان كلامه : أن
المحتمل في مقام الثبوت ثلاثة وجوه :
أحدها : أن يكون
الغرض قائماً بنفس الأمر ، كأن يأمر بالأمر لمصلحة إثبات
__________________
آمريّة الثاني.
والثاني : أن يكون
الغرض قائماً بالفعل المأمور به كما في قوله تعالى (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ).
والثالث : أن يكون
الغرض قائماً بالفعل الحاصل من المأمور ـ وهو الثالث ـ بشخصه المنبعث من أمر هذا
الآمر الثاني ، فكان تعلّق الغرض مقيّداً لا مطلقاً.
وأمّا في مقام
الإثبات ، فقد ذكر أنه مع وجود هذه الوجوه ، لا يكون لمجرّد الأمر بالأمر دلالة
على كونه أمراً به إلاّ بقرينةٍ.
ففي مثل الصحيحة :
«فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» يرى المحقق الخراساني وجود الاحتمالات الثلاثة ، وعليه ، فلو أمر الصبي
بالصّلاة ، فصلّى في الوقت واتّفق بلوغه بعدها ، فإن شرعيّتها يتوقّف على القرينة
على كون هذه الصّلاة حاملةً للغرض ، حتى لا تجب إعادتها ، وإلاّ احتمل كون الغرض
من الأمر به هو التمرين مثلاً ، فلا تكون مسقطةً لوجوب الإعادة ... هذا رأيه
ووافقه سيّدنا الأُستاذ .
رأي المحقق العراقي
وخالفه المحقق
العراقي قدسسره ـ وتبعه تلميذه السيد الحكيم ـ فذهب إلى شرعيّة عبادات الصبيّ ، مستدلاًّ بإطلاقات الخطابات الشرعيّة
كقوله
__________________
تعالى (أَقيمُوا
الصَّلاةَ) فإنّها تعمّ
البالغين والمميّزين الذين يتمشّى منهم القصد ، خاصّةً المميّز المقارب للبلوغ ،
فهذا مقتضى الإطلاقات ، وليس في مقابلها إلاّ حديث رفع القلم. فإنْ كان المرفوع به
هو خصوص المؤاخذة ، فلا إشكال كما هو واضح ، وأمّا إن كان المرفوع به هو التكليف
أو هو والمؤاخذة ، فإنّ مقتضى كونه في مقام الامتنان هو رفع الإلزام لا أصل التكليف
ومحبوبيّة العمل ، فيكون العمل منه مطلوباً ومشروعاً.
رأي السيد الخوئي
وناقش السيد
الخوئي الاستدلال المذكور ، وقال بشرعيّة عبادات الصبيّ بوجهٍ آخر
، وهو الدلالة العرفيّة للنصوص على ذلك ، لأنّ «الأمر» يفارق «العلم» ، من جهة أنّ
العلم قد يؤخذ موضوعاً وقد يؤخذ طريقاً وقد يؤخذ جزءاً للموضوع ، فالوجوه التي
ذكرها صاحب (الكفاية) في مقام الثبوت تأتي في «العلم» ونحوه ، لكنّ «الأمر» ليس
إلاّ طريقاً عرفيّاً إلى مطلوبيّة الشيء ، فإذا أمر الآمر غيره بأن يأمر الثالث
بالقيام بعملٍ ، كان تمام النظر إلى ذلك العمل ، واحتمال أن يكون المصلحة في نفس
الأمر لا يقاوم هذا الظهور العرفي والعقلائي ، وبذلك يستدلُّ على شرعية عبادات
الصبيّ.
رأي الأُستاذ
وأفاد الأُستاذ
دام ظلّه : بأنّ مقتضى الظهور الأوّلي كون متعلّق الأمر الأول هو
الأمر من الثاني ،
ومطلوبيّة الفعل للآمر الأوّل يحتاج إلى مزيد بيان ....
أمّا التمسك
بالإطلاقات ففيه : إن الوجوب بسيط لا يتبعّض ، فهو ليس مركّباً
__________________
من طلب الفعل مع
المنع من الترك ، وعليه ، فإنّ حديث الرفع يكون رافعاً لأصل الجعل ، فلا يبقى دليل
على المشروعية ، إلاّ أن يقال بأنه يرفع المؤاخذة فقط ، لكنّ المبنى باطل.
وأمّا ظهور الأمر
عرفاً في الطريقيّة ، فإنّه ـ لو سلّم ـ لا يكفي لترتّب الثمرة وهو شرعيّة عبادات
الصبي ، لأن غاية ما يفيد ذلك هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلك بالفعل كالصّلاة ،
ولكن هل الغرض هو نفس الغرض في عبادات البالغين ، أو أن هناك في أمر الصبي
بالصّلاة غرضاً آخر؟
إنّه لا يستفاد من
نصوص المسألة كون الغرض هو نفس الغرض من صلاة البالغين ، بل إنها صريحة في أنّه «التعويد»
، ففي صحيحة الحلبي المتقدمة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ،
ومروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ، ونحن نأمر صبياننا بالصوم ... حتى
يتعوّدوا ...».
وكذا في مرسلة
الصدوق ، ولعلّها نفس رواية الحلبي المذكورة.
وعلى هذا ، فإنّ
الغرض بالفعل متحقّق ، لكنه غرض آخر غير الغرض القائم بصلاة البالغين من الناهوية
عن الفحشاء والمنكر ونحوها.
فالقول بشرعيّة
عبادات الصبي مشكل ، والله العالم.
الأمر بعد الأمر
هل الأمر بعد
الأمر يفيد التأسيس أو التأكيد؟
كلام الكفاية :
قال : إذا ورد أمر
بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل يوجب تكرار ذاك الشيء أو تأكيد الأمر الأول
والبعث الحاصل به؟
قضيّة إطلاق
المادّة هو التأكيد ، فإنّ الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلّق بطبيعةٍ واحدةٍ مرّتين ،
من دون أن يجئ تقييد لها في البين ولو كان بمثل مرة أُخرى ، كي يكون متعلّق كلّ
منها غير متعلّق الآخر كما لا يخفى ، والمنساق من إطلاق الهيئة وإن كان هو تأسيس
الطلب لا تأكيده ، إلاّ أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها فيما كانت مسبوقةً
بمثلها ولم يذكر هناك سبب أو ذكر سبب واحد .
توضيح
ذلك :
أمّا إن كان هناك
أمران وموضوعان ، كقوله : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، ثم قوله : إن أفطرت فأعتق رقبةً ،
فلا كلام في التأسيس والتعدّد ، وكذا لو كرّر الخطاب الواحد لكن مع كلمة «مرة
أُخرى» مثلاً ... فمورد البحث ما لو أمر بشيء وكرّر الأمر قبل امتثال الأمر الأول
، كما لو قال اعتق رقبةً ، ثم قال بعد ذلك وقبل الامتثال : اعتق رقبةً ... فيقول
صاحب (الكفاية) أنّ المادّة والهيئة مطلقان ، لكن مقتضى
__________________
إطلاق المادّة ـ وهو
العتق مثلاً ـ هو التأكيد ، لأن الواجب الذي تعلّق به التكليف هو صرف وجود العتق ،
فلمّا أعاد الأمر بلا قيد «مرة أُخرى» مثلاً ، توجّه إلى صرف الوجود كذلك ، وهو
للطبيعة الواحدة لا يتعدّد ، فلو جعل الأمر الثاني تأسيسيّاً لزم ورود التكليفين
على صرف الوجود ، وهو غير معقول ، إذ البعثان يستلزمان الانبعاثين ، وقد تقدم أنه
لا يقبل التكرار ، والتعدّد ، فمقتضى إطلاق المادة هو التأكيد.
بخلاف إطلاق الهيئة
، وهو الوجوب ، فإن مقتضى الإطلاق الانصرافي فيه هو التأسيس ، لأنّ إنشاء الوجوب
إنما يكون بداعي الطلب ، فلو كان الأمر الثاني بداعي التأكيد لاحتاج إلى قرينةٍ ،
فمقتضى إطلاق الهيئة هو التأسيس.
وحينئذٍ ، يقع
التمانع بين الإطلاقين ، فإن إطلاق المادّة كان الطلب تأكيدياً ، فإنْ رجّح إطلاق
الهيئة كان تأسيسياً ، وإن لم يرجّح أحدهما فالكلام مجمل ، والمرجع هو الأصل
العملي.
رأي المحقق العراقي
وفي (نهاية
الأفكار) : قد يقال بلزوم الحمل على التأكيد ، ترجيحاً لإطلاق
المادّة على الهيئة ، باعتبار كونها معروضة للهيئة وفي رتبةٍ سابقة عليها ، إذ
يقال حينئذٍ بجريان أصالة الإطلاق فيها في رتبة سابقة بلا معارض.
(قال) : ولكن
يدفعه أن المادة كما كانت معروضةً للهيئة وفي رتبة سابقة عليها ، كذلك الهيئة
أيضاً ، باعتبار كونها علّة لوجود المادّة في الخارج كانت في رتبة سابقة عليها ،
فمقتضى تقدّمها الرتبي عليها حينئذٍ هو ترجيح اطلاقها على إطلاق المادّة».
__________________
ثم انّه احتمل
ترجيح اطلاق الهيئة بحسب أنظار العرف ، لكون الهيئة علّةً لوجود المادّة ، ثم قال
: «لكن مع ذلك لا تخلو المسألة من إشكال» ثم قال بأنّ «مقتضى الأصل هو التأكيد ،
لأصالة البراءة عن التكليف الزائد».
إشكال الأُستاذ على المحقق العراقي
وقد أورد شيخنا
على كلام المحقق العراقي بوجوهٍ :
الأول : إنه إنّ
ليس العلّة لوجود المادّة هو الهيئة أي الوجوب ، بل هو علم المكلّف بالوجوب ، فلا
تقدّم بالعليّة للهيئة ، لكنّ المادّة متقدّمة على الهيئة بالتقدّم الطبعي.
والثاني : إنّ
الملاك هو التقدّم والتأخّر في مقام الجعل ، ومن الواضح أن المولى يلحظ المتعلّق
ثم يجعل الحكم بالنسبة إليه ، فيكون إطلاقه ـ إن أُخذ مطلقاً ـ مقدّماً على إطلاق
الهيئة إن أُخذت كذلك.
والثالث : إنّ هذه
المسألة عرفيّة والتقدّم والتأخر فيها زماني ، وليست بعقليّة حتى يكون المناط فيها
هو المرتبة ، والعرف يفهم توجّه الوجوب إلى «عتق الرقبة» ويلحظهما معاً في آنٍ
واحدٍ ويتحرك نحو الامتثال ، وليس يوجد في نظر العرف اختلاف المرتبة أصلاً.
قال الأُستاذ
والتحقيق هو : أنّ
هذا الكلام له ظهور ـ ولا وجه للتوقف كما صار إليه المحقق العراقي ـ وهو ظهور
مقامي ، لأنّ كلّ أمرٍ صادر من المولى فلا بدّ وأن يكون بداعٍ من الدواعي ، كالبعث
، والاختبار ، والاستهزاء وغير ذلك ، فإذا كان الداعي هو البعث ، أي كان إنشاءً
بداعي جعل الداعي في نفس العبد ، ولم يكن هناك أيّة قرينةٍ ، كان مقتضى هذا
الإطلاق داعويّة كلّ واحدٍ من الأمرين ، واستلزامه
للامتثال ... لكنّ
الأمر الثاني لمّا كان قبل امتثال الأمر الأوّل وحصول الغرض منه ، فإنّ العرف يفهم
منه التأكيد للأمر الأوّل ، ولا يراه صادراً بداعي البعث ، فكان هذا الفهم العرفي
هو الوجه لحمل المادّة على التأكيد.
فما ذهب إليه في (الكفاية)
هو الصحيح ، للوجه الذي ذكره ، وللفهم العرفي الذي ذكرناه.
فإن وصلت النوبة
إلى الشك ، دار الأمر بين الأقل والأكثر ، إذ يشك في وجوب الزائد على صرف الوجود
وعدم وجوبه ، فيجري استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالفرد الآخر ، ويجري البراءة
الشرعية والعقلية عن التكليف الزائد ...
والله العالم.
هذا تمام الكلام
في المقصد الأول : الأوامر.
وتم الجزء الثالث
ويليه الجزء الرابع وأوّله : المقصد الثاني في النواهي.
المحتويات
الواجب النفسي والغيري
تعريف الشيخ الأعظم والكلام
حوله............................................. ٥
تعريف
الكفاية والكلام حوله.................................................... ٩
طريق
الميرزا النائيني........................................................... ١١
إشكال
المحاضرات............................................................ ١٢
طريق
السيد الخوئي........................................................... ١٤
طريق
المحقّق الأصفهاني........................................................ ١٥
طريق
المحقّق العراقي وهو المختار................................................ ١٧
لو تردّد واجب بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً......................................... ١٨
١ ـ مقتضى الأصل اللفظي.................................................... ١٩
توضيح رأي الشيخ الأعظم.................................................... ١٩
رأي
المحقّق الخراساني.......................................................... ٢٠
إشكال سيدنا الاستاذ والجواب عنه............................................. ٢٢
رأي
المحقق الإيرواني........................................................... ٢٣
٢ ـ مقتضى الأصل العملي.................................................... ٢٥
رأي
المحقق الخراساني.......................................................... ٢٦
تفصيل
المحقق الإيرواني........................................................ ٢٦
إشكال
عليه................................................................ ٢٧
رأي
الميرزا النائيني والكلام حوله................................................ ٢٩
رأي
السيد الخوئي............................................................ ٣٥
رأي
الشيخ الأُستاذ.......................................................... ٣٨
حكم الواجب الغيري من حيث الثواب والعقاب................................. ٤٠
كلام
المحقّق الأصفهاني في الواجب النفسي...................................... ٤٠
المختار
عند الأُستاذ.......................................................... ٤٢
الدليل
على عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجب الغيري....................... ٤٥
كيفيّة عباديّة الطّهارات الثلاث.................................................. ٤٨
كلام
صاحب الكفاية في رفع الإشكال......................................... ٤٨
الأصل
فيه هو الشيخ الأعظم وكلامه الأعلام حوله............................... ٤٩
طريقة
الأُستاذ لحلّ الاشكال................................................... ٦٣
هل الوجوب الغيري
يتعلّق بمطلق المقدّمة أو حصّةٍ منها
القول
الأوّل................................................................. ٧٠
القول
الثاني وهو للشيخ والنظر فيه............................................. ٧٠
كلام
المحقّق الاصفهاني في توجيه مراد الشيخ..................................... ٧٢
إشكال
الأُستاذ.............................................................. ٧٣
اشكال
المحاضرات ونقده...................................................... ٧٤
مختار
الكفاية وردّه على الشيخ................................................. ٧٥
موافقة
الأُستاذ مع صاحب الكفاية............................................. ٧٧
كلام
الميرزا النائيني........................................................... ٧٧
تعليق
الأُستاذ............................................................... ٧٨
القول
الثالث وهو لصاحب الفصول............................................ ٧٩
اشكالات
الكفاية علي الفصول............................................... ٧٩
اشكال
المحاضرات على الكفاية................................................ ٨١
الأصل
فيها هوالمحقق الإصفهاني................................................ ٨١
كلام
الاستاذ علي الإشكالات الكفاية......................................... ٨٣
اشكالات
الميرزا على الفصول.................................................. ٨٥
جواب
الاًستاذين علي الإشكالات............................................. ٨٦
تحقيق
المحقّق الاصفهاني....................................................... ٨٧
ثمرة
النّزاع بين المشهور والفصول والكلام عليها................................... ٩٠
بيان
المحقّق الاصفهاني لانتفاء الثمرة............................................ ٩٢
إشكال
الأُستاذ.............................................................. ٩٣
هل المقدّمة واجبةٌ شرعاً
مقتضى
الأصل العملي....................................................... ٩٧
١ ـ في المسألة الأُصولية....................................................... ٩٨
٢
ـ في المسألة الفقهيّة....................................................... ١٠٠
أدلّة
الأقوال في مقدّمة الواجب
دليل
القول بالوجوب مطلقاً.................................................. ١٠٥
الوجه
الأوّل............................................................... ١٠٥
الوجه الثاني................................................................ ١٠٦
الوجه
الثالث.............................................................. ١٠٩
دليل
القول بعدم وجوب المقدّمة.............................................. ١١٠
دليل
التفصيل بين المقدّمات السببيّة وغيرها.................................... ١١١
دليل
التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره...................................... ١١٢
ثمرة القول بوجوب المقدّمة.................................................. ١١٥
مقدّمة المستحب............................................................ ١٢١
مقدّمة الحرام والمكروه...................................................... ١٢١
مبحثُ الضدّ
مقدّمة
في بيان المراد من ألفاظ العنوان......................................... ١٢٩
١
ـ في اقتضاء الأمر للنّهي عن الضد الخاص................................... ١٣١
أـ عن طريق المقدميّة......................................................... ١٣١
دليل
قول المشهور.......................................................... ١٣٢
جواب
الكفاية............................................................. ١٣٢
جواب
المحقّق الخونساري..................................................... ١٣٤
أدلّة
الميرزا النائيني على عدم المقدميّة.......................................... ١٣٧
مناقشة
الدليل الأوّل........................................................ ١٣٨
مناقشة
الدليل الثاني........................................................ ١٣٩
مناقشة
الدليل الثالث....................................................... ١٤٠
رأي
المحقّق الاصفهاني....................................................... ١٤٢
إشكال
الأُستاذ............................................................ ١٤٣
البرهان
الأخير علي عدم مقدميّة عدم أحد الضدين لوجود الآخر................. ١٤٤
تفصيل
المحقّق الخونساري بين الضد
الموجود وضد المعدوم......................... ١٤٧
ب ـ عن طريق الملازمة....................................................... ١٥٠
مسألة الضد من مسائل أيّ
علم من العلوم؟................................... ١٥٢
٢ ـ في اقتضاء الأمر بالشيء
للنهي عن ضدّه العام.............................. ١٥٤
أدلّة
الأقوال............................................................... ١٥٤
اعتراض
المحقّق الاصفهاني علي الكفاية........................................ ١٥٥
مناقشة
الأُستاذ............................................................ ١٥٦
النظر
في اشكال الكفاية على الفصول........................................ ١٥٧
مختار
الميرزا النائيني.......................................................... ١٥٨
مختار
السيد الخوئي والشيخ الأُستاذ........................................... ١٥٩
ثمرة
البحث................................................................ ١٦٢
رأي
الشيخ البهائي......................................................... ١٦٤
رأي الميرزا
النائيني........................................................... ١٦٥
الدفاع عنه في قبال المحاضرات والمنتقى......................................... ١٦٦
طرق تصحيح الفرد المزاحم
الطريق
الأول.............................................................. ١٧٠
الأقوال
في اعتبار القدرة في التكليف.......................................... ١٧٠
إشكالات
المحاضرات والكلام حولها........................................... ١٧١
كلام
المحقّق العراقي......................................................... ١٧٥
نقد
كلام العراقي والدفاع عن الميرزا........................................... ١٧٦
التحقيق
في اعتبار القدرة في التكليف......................................... ١٧٧
الطريق
الثاني............................................................... ١٧٨
رأي
الميرزا النائيني وإشكالاته والكلام حولها.................................... ١٧٨
رأي
السيد الخوئي.......................................................... ١٨٤
المختار.................................................................... ١٨٦
الطريق
الثاني للكشف عن الملاك............................................. ١٨٧
إشكالات
المحقّق الإيرواني وجوب الاستاذ...................................... ١٨٨
الطريق
الثالث للكشف عن الملاك............................................ ١٨٩
هل
تبقى الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية؟................................ ١٩٠
نقوض
المحاضرات والجواب عنها............................................... ١٩٠
الجواب
الحلّي.............................................................. ١٩٢
الترتّب
كلام
الكفاية.............................................................. ١٩٤
إشكال
الأستاذ............................................................ ١٩٥
كلام
الميرزا................................................................ ١٩٦
الأصل
في الترتب هو المحقق الثاني............................................. ١٩٧
كلام
كاشف الغطاء....................................................... ١٩٨
كلام
الشيخ الأعظم........................................................ ١٩٨
استحالة
الترتّب ببيان الكفاية................................................ ١٩٩
الترتّب
ببيان الميرزا.......................................................... ٢٠٢
المقدمة
الأولى.............................................................. ٢٠٢
المقدمة
الثانية.............................................................. ٢٠٥
المقدمة
الثالثة.............................................................. ٢٠٦
المقدمة
الرابعة.............................................................. ٢١١
المقدمة
الخامسة............................................................ ٢٢٠
الترتّب
ببيان الشيخ الحائري والكلام حوله..................................... ٢٢٥
الترتّب
ببيان المحقق العراقي والكلام حوله...................................... ٢٢٩
الترتب
ببيان المحقق الأصفهاني والكلام حوله................................... ٢٣٧
الكلام في ما أُشكل به على الترتّب
الإشكال
الأوّل والكلام حوله................................................ ٢٣٩
الإشكال
الثاني والكلام حوله................................................ ٢٤١
الإشكال
الثالث والكلام حوله............................................... ٢٤٢
الإشكال
الرابع والكلام حوله................................................ ٢٤٣
الإشكال
الخامس والكلام حوله.............................................. ٢٤٥
تنبيهات الترتب
التنبيه الأول : في تسرية الترتيب
إلى الجهرو الإخفات.......................... ٢٤٨
إشكالات
الميرزا............................................................ ٢٥٠
الإشكال
الأول والكلام عليه................................................ ٢٥٠
الإشكال
الثاني والكلام عليه................................................. ٢٥٢
الإشكال
الثالث والكلام عليه............................................... ٢٥٣
التنبيه
الثاني : لو اختلف اعتبار القدرة في الواجبين.............................. ٢٥٥
حكم الوضوء بعد عصيان الأمر بصرف
الماء في رفع العطش...................... ٢٥٦
التنبيه الثالث : لو كان أحد الواجبين موسّعاً
والآخر مضيّقاً...................... ٢٦٠
الأقوال في المسألة.......................................................... ٢٦١
التنبيه الرابع : في الترتب في التدريجيات...................................... ٢٦٤
التنبيه الخامس : في حكم الاطلاع على الأهم
بعد الاشتغال بالمهم ٢٦٨
إشكال
السيد الخوئي....................................................... ٢٦٨
جواب
الأُستاذ............................................................. ٢٦٩
هل الأوامر والنواهي متعلّقة بالطبائع أو الأفراد؟
نظرية
صاحب الكفاية...................................................... ٢٧٣
الإشكال
عليه من الاستاذ................................................... ٢٧٥
نظرية
الميرزا................................................................ ٢٧٧
اشكال
السيد الخوئي....................................................... ٢٧٨
جواب
الأُستاذ عنه......................................................... ٢٧٩
نظريّة
المحقّق العراقي......................................................... ٢٨٠
إشكال
الاستاذ............................................................ ٢٨٢
نظريّة
السيد البروجردي..................................................... ٢٨٤
إشكال
الأُستاذ............................................................ ٢٨٧
النسخ
كلام
الكفاية.............................................................. ٢٩١
المقام
الأوّل بقاء الجوار ثبوتاً.................................................. ٢٩٢
تصوير
المحقق العراقي بقاء الجواز على القول بالبساطة........................... ٢٩٢
مناقشته................................................................... ٢٩٣
دليل
المحاضرات على الامتناع الثبوتي.......................................... ٢٩٤
إشكال
الأُستاذ والمختارفي المقام.............................................. ٢٩٥
المقام
الثاني : الجواز إثباتاً.................................................... ٢٩٥
المقام
الثالث : في مقتضي الأصول العلمية..................................... ٢٩٧
الوجوب التخييري
مقدمة.................................................................... ٣٠٥
تصوير
المحقق الخراساني وشرحه............................................... ٣٠٦
إشكال
المحقق الأصفهاني.................................................... ٣٠٨
تحقيق
الأُستاذ............................................................. ٣٠٩
الاشكال
المحاضرات علي الكفاية............................................. ٣١١
الإشكال
الوارد علي الكفاية................................................. ٣١٣
تصوير
الميرزا النائيني........................................................ ٣١٣
الأنظار
في كيفية تعلّق الإرادة ونحوها بالمردّد.................................... ٣١٥
نظريّة
السيّد الاستاذ والكلام حولها........................................... ٣١٧
التصوير
الثالث............................................................ ٣٢١
الاشكالات
عليه........................................................... ٣٢٢
التصوير
الرابع ، وهو للمحقق الإصفهاني...................................... ٣١٣
الإشكالات
عليه والنظرفيها.................................................. ٣٢٥
التصوير
الخامس وهو للمحقق العراقي......................................... ٣٢٧
التصوير
السادس وهو للمحقق الإيرواني....................................... ٣٢٨
الإشكال
عليه............................................................. ٣٢٨
التصوير
السابع وهوللسيد البروجردي......................................... ٣٢٩
التصوير
الثامن وهوللسيد الخوئي............................................. ٣٣٠
مختار
الأستاذ سابقاً......................................................... ٣٣٣
الرأي
النهائي.............................................................. ٣٣٤
التخيير
بين الأقل والأكثر
رأي
المحقق الخراساني........................................................ ٣٣٩
تفصيل
المحقق الإيرواني...................................................... ٣٤٠
إشكال
الأُستاذ............................................................ ٣٤٢
الوجوب الكفائي
الوجه
الأوّل............................................................... ٣٤٥
الاختلاف
بين المحقق الأصفهاني وصاحب الكفاية.............................. ٣٤٦
إشكال
الوارد.............................................................. ٣٤٧
الوجه
الثاني................................................................ ٣٤٨
الوجه
الثالث.............................................................. ٣٤٨
الوجه
الرابع وهو لصاحب بلغة الفقيه......................................... ٣٤٩
إشكال
المحقق الأصفهاني.................................................... ٣٤٩
جواب
الأُستاذ والإشكال الوارد.............................................. ٣٥٠
الوجه
الخامس.............................................................. ٣٥١
الإشكال
عليه............................................................. ٣٥١
الوجه
السادس وهو للميرزا النائيني............................................ ٣٥٢
إشكال
المحقق الأصفهاني.................................................... ٣٥٢
جواب
الاستاذ............................................................. ٣٥٤
الوجه
السّابع وهو للسيد البروجردي........................................... ٣٥٤
وجوه
الإشكال............................................................. ٣٥٦
الوجه
الثامن وهو للمحقق الإيرواني........................................... ٣٥٧
إشكال
الأُستاذ............................................................ ٣٥٨
رأي
الأُستاذ في الوجوب الكفائي............................................. ٣٥٩
الوجوب الموسّع والموقّت
الجهة
الأُولى : في تصوير الواجب الموسّع والواجب المضيّق........................ ٣٦٣
إشكال
العلامة في الموسّع وجوابه............................................. ٣٦٣
الإشكال
في الواجب المضيّق وجوابه........................................... ٣٦٤
الجهة
الثانية : هل القضاء بالأمر أوبأمرجديد.................................. ٣٦٥
رأي
الأُستاذ............................................................... ٣٦٧
ثمرة
البحث................................................................ ٣٦٧
الجهة
الثالثة : في مقتضي القاعدة في كيفية دخل الزمان......................... ٣٦٨
الأمرُ بالأمر
رأي
صاحب الكفاية....................................................... ٣٧٥
رأي
المحقق العراقي.......................................................... ٣٧٦
رأي
السيد الخوئي.......................................................... ٣٧٧
رأي
الشيخ الأُستاذ......................................................... ٣٧٧
الأمر بعد الأمر
كلام
الكفاية.............................................................. ٣٨١
رأي
المحقق العراقي.......................................................... ٣٨٢
إشكال
الأُستاذ............................................................ ٣٨٣
التحقيق
في المسألة......................................................... ٣٨٣
المحتويات................................................................. ٣٨٥
|