الباب السابع

حول الأزهر ورسالته

ـ ١ ـ

كانت الغفوة الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الوسطى ذات أثر بعيد في حياته السياسية والعقلية والاجتماعية في القرن التاسع عشر.

لم يبعد المسلمون هذه الحقبة الطويلة كثيرا عن تقاليد الشرق ، وإنما جافوا روح الإسلام ، وجهلوا مبادئه وأهدافه ، ووقفوا أمام تيار النهضة الغريبة جاهلين عاجزين أذلاء. وبادرهم المستعمرون بتحطيم ما بقي في أجسامهم من منعة ، وفي قلوبهم من إيمان ، وفي أرواحهم من عزة ومثل عليا ... وكانت الأحداث الكبرى التي هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا داعية للمفكرين والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل البعث والإحياء وتجديد الحياة والأمل في نفوس المسلمين. واقترن ذلك بدعوات جريئة للإصلاح ، انبعثت من رجال الدين حينا ، ومن غيرهم حينا آخر. من أمثال محمد بن عبد الوهاب م ١٢٠٦ ه‍ ، والسيد أحمد خان الهندي ١٨٩٨ م ، والسيد أمير علي ، والكواكبي ١٩٠٢ م ، وجمال الدين الأفغاني ١٨٩٧ م ، ومحمد عبده ١٩٠٥ م ، وسواهم من دعاة الإصلاح ، وحملة رسالته.

كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من


العبودية والاستعمار ، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدى الإسلام ، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام .. وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسيا عن طريق النهضة الثقافية به ، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها ، وأنه هو والعقل والعلم إخوة ، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة ، وإذاعة رسالة الإسلام ، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني .. وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق ، وإن لمعت جذوتها حينا في أفكار الشيخ مصطفى المراغي ، رحمه الله ، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب .. كما أضاءت الشعلة حينا آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق وحمروش وعبد المجيد سليم ، الذين كانوا يحرصون على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة. ولكن هذه الآثار لم تكن على جانب خطير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.

ـ ٢ ـ

رسالة الأزهر في رأي المراغي :

رسالة الأزهر عنده هي حمل رسالة الإسلام .. ومتى عرفت رسالته عرفت رسالة الأزهر. والإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العزة والكرامة ، طوح الإسلام بالوسطاء بين الناس وربهم ، ووصل بين العبد وربه ، ولم يجعل لأحد فضلا على أحد إلا بالتقوى ، وقد العلم والعلماء ، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات ، وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة ، ووصل إليه العقل ، وفرض عبادات كلها ترجع إلى تهذيب النفس


وتلطيف الوجدان ، وإبان أصول الأخلاق ، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرم إلا الخبائث ، ووضع حدودا تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات ، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين : قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني .. هذه صورة مصغرة جدا للدين الإسلامي ، وشرح قواعده وأسراره ، ومتى أدى الأزهر هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيبا عظيما من السعادة والخير للجمعية الإنسانية. وفي القرآن الكريم حث شديد على العلم ، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون ، وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحقة. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها ، نعم قد توجد معارف تناقض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك ، ولكنا لا نهتم لهذا. فليسر العلم في طريقه ، ولنصحح معارف الماضين ، ولكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر ، ولم يقصد من هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة ، أو كلية للكيمياء أو ما يشبه هذا : ولكنه يعني أن هناك علوما ومعارف لها صلة وثيقة بالدين ، تعين على فهمه ، وتبرهن على صحته ، ويدفع بها عنه الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني أو يتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه.

وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية ، وأصبح الإعلان عنها ضروريا لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة ، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها ، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر النفس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفا وأكثر قيمة وأمتن مادة ، ومع ذلك فهي في كساد ، وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم ، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم ، وتنفي عنه الملل والسأم ، حدثت هذه الطرق في إلقاء


الدروس والمحاضرات ، وحدثت في تأليف الكتب أيضا ، وهذا المثل ينطبق علينا ، ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر ، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر ، أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف ، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون ، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج ، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.

على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس ، وأن ييسر لهم هذه المعارف ، وأن يعرضها عرضا حديثا جذابا مشوقا ، ومسألة أخرى يجب أن يعني الأزهر بها : هي تطهير الدين الإسلامي من البدع ، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده ، فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ضنا بكرامة الفقه والدين.

من الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها ، وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي : «كان في مصر قاض شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضى الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه ، سأل ذلك القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقعات. فقال الطحاوي : أتسألني عن رأيي أم عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي : ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي : ظننتك تحسبني مقلدا. فقال القاضي : ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟» ، فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد ، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه ، فإصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم


الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها ، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأن نرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في ذلك إخلاصا لله ولرسوله وللمؤمنين وللدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله ، وجعله هداية عامة لجميع البشر .. ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيا تدبرها ، وهي احترام حرية الرأي ، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر ، ولا نطالب بشيء يعد بدعة ، ولا نحدث في الدين حدثا بهذه النصيحة ، فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي ، وحاصلها ـ على ما أذكر ـ أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا ، أما إنكار أن الإجماع حجة ، وخبر الواحد حجة ، والقياس حجة ، فلا يوجب الكفر ، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقا ، على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.

على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه الأئمة ، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا ، وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئا منه ، ولا يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطريق قاطعة ، فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر .. عرضنا لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس ، والعمل بها يمّكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة ، والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.

وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم ، فمن أول واجب على أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات ، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية ، والله لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فليحقق الأزهر القدوة ، وليرسل إلى الناس رسلا يفقهونهم في دينهم بلسانهم .. وقد عنى


المراغي بهذه المسألة كما عنى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون «أغرابا» ، فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد ، ونرجو أن يفكروا طويلا فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.

ـ ٣ ـ

وكان الشيخ عبد المجيد سليم يرى وهو في أول مشيخته الأولى اقتران الإصلاح الديني في العالم الإسلامي بإصلاح الأزهر الشريف.

ومهمة الأزهر في رأيه جد خطيرة ، فهي تشتمل : «تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغة كتابهم ، تعليما قويا مثمرا ، يجعلهم حملة للشريعة ، أئمة في الدين واللغة ، حفّاظا حرّاسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح والقيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته ، وإقامة حجته ، ونشر دينه ... فعلى رعاية هذين الجانبين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر ، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه (١)».

ووسائل إصلاح هذه الجامعة الإسلامية العتيدة تتلخص في رأيه فيما يلي :

١ ـ مراجعة الكتب الدراسية ، وإبقاء الصالح منها ، واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره.

٢ ـ تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم ... وتوجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمي الحاضر.

٣ ـ إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة ، فإن

__________________

(١) من حديث له في المؤتمر الصحفي بإدارة الأزهر في أول نوفمبر عام ١٩٥٠.


الأمة تريد من الأزهر أن يخرج لها علماء في الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها ، على أن يكون هؤلاء العلماء مزودين مع هذا بقدر صالح من العلوم الأخرى التي تفيدهم في مجتمعهم ثقافة عامة ، وفي هذا يقول أيضا موجها كلمته إلى الأزهريين : نصيحتي إليكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله ، فأقبلوا على دراستكم ، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس ، لتحقيق آمال الأمة فيكم ، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم (١).

٤ ـ تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوروبا للتزود من شتى الثقات .. ولا بدع فإن العلم رحم «بين الناس كافة» كما يقول الأستاذ سليم لعلماء جامعات أوروبا الذين زاروا مكتبه في زيارتهم للأزهر الشريف.

٥ ـ تنظيم هذه الجامعة الكبرى تنظيما يتفق مع خطر رسالتها ، ويساعدها على أداء هذه الرسالة ، بإنشاء مكتبة كبرى ، ودار كبيرة للطباعة ، وإكمال مباني الأزهر الجامعي ، تمهيدا للاحتفال بعيده الألفي ، إلى غير ذلك من وسائل الإصلاح :

أما مهمة الأزهر في سبيل الإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي فتتلخص فيما يلي :

١ ـ العناية بإصلاح حالة الأسر بإصلاح شئونها ، ودعم كيانها ، عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها : في الزواج ، والطلاق ، والنفقة ، والحضانة ، والولاية ، وما إليها (٢).

٢ ـ نشر الدين والثقافة في كل ناحية.

__________________

(١) من كلمة أذاعها في أول العام الهجري ١٣٧٠ ه‍.

(٢) من حديث له نشر في الأهرام في ٢٨ ـ ١٠ ـ ١٩٥٠.


٣ ـ إرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أرجاء البلاد الإسلامية لدراسة أحوالها وتهذيب أبنائها.

٤ ـ تشجيع البعوث الوافدة على الأزهر ، وبناء دار كبرى لإقامتهم ، ورعاية شئونهم العلمية والخلقية والدينية.

٥ ـ ربط الأزهر بشتى الجامعات الشرقية ، وإنشاء مراكز ثقافية له في عواصم البلاد الإسلامية.

وأما مهمة الأزهر في الدعوة إلى الدين في العالم ، فهي كما يرى تشمل ما يأتي :

١ ـ توجيه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات الأجنبية ، لبيان حقيقة الإسلام ومزاياه.

٢ ـ إنشاء إدارة للدعاية الإسلامية ، تتولى توجيه الناس إلى الإسلام ومبادئه الخالدة.

٣ ـ ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.

ـ ٤ ـ

ويرى الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش أن رسالة الأزهر تقوم على دعامة التوجيه العلمي لنظم الدراسة فيه ، لتكوين جيل قوي كفء من أبنائه يتحلى بصفات العلماء ، ومواهب وأخلاق رجال الدين ، دون نظرة إلى الكثرة والعدد ، وأن هذا الجيل القوي يستطيع أن يؤدي رسالة الأزهر العلمية والدينية في مصر والشرق الإسلامي ، وقد بدأ الشيخ في مشيخته بالتفكير في طبع رسائل للتعريف بالدين بشتى اللغات ، وبفتح القاعة الكبرى للأزهر لمحاضرات علمية وتوجيهية يلقيها كبار شيوخ الأزهر.


وقد نشر الأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء كتابا عنوانه «رسالة الأزهر في القرن العشرين» ، ذهب فيه إلى أن رسالة الأزهر هي أن يفهم الناس الدين على وجهه وأن ننقيه من التفسيرات الخاطئة التي دخلت عليه ، وفوق ذلك عليه أن يعني بأخلاق الأمة وتقاليدها.

وقد أخذ الأستاذ على الأزهر أن التعليم في الأزهر لم يعن بالخلق كما يجب ، وأن الإقبال على العلم بين جدرانه أصبح ضعيفا ، وأن المادية قد دخلت فيه وأفسدت الكثير من حياته.

وإبان أن ثقة الأمة في الأزهر تضعف شيئا لعوامل كثيرة : منها قلة الإنتاج العلمي في محيطه ، وانقلاب الأزهريين إلى موظفين لا غير ، وضعف نفسية الأزهري وثقافته وأفق تفكيره ، وعدم وجود بيئة صالحة في وسط الأزهر.

كما ترجع إلى الفساد الذي استشرى في الأزهر من الناحية الإدارية وغيرها ، وإلى بعد الأزهر عن الحياة العامة ، وإلى عدم انتظام الأمور فيه في الكثير ، وانعدام تنفيذ قوانين الأزهر ، وعدم أخذ الأمور بالحزم ، والسياسة الحزبية التي تفسد على الأزهر كل شيء ، وتدخل في وسطه للهدم والتدمير.

ـ ٦ ـ

وفي عام ١٣٦٢ ه‍ ـ ١٩٤٤ ألقى الأستاذ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء محاضرة في دار كلية الشريعة عنوانها «السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر» تتصل برسالة الأزهر ، وجاء فيها :

الغرض من الجامع الأزهر ، كما جاء في المادة الأولى من القانون


رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ بإعادة تنظيم الجامع الأزهر ، وهو آخر تعديل لهذا التنظيم : ـ

١ ـ القيام على حفظ الشريعة الغراء : أصولها ، وفروعها ، واللغة العربية ، وعلى نشرهما.

٢ ـ تخريج علماء يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس ويلون الوظائف الشرعية في الدولة.

وهذا هو الغرض من الجامع الأزهر ، لا من تاريخ هذا القانون فقط ، ولا من تاريخ أول قانون وضع لتنظيم الأزهر ، ولكنه غرضه من يوم أن انسلخت عن الأزهر الصبغة الشيعية التي أنشىء لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى. من يوم أن تولى الظاهر بيبرس ملك مصر سنة ٦٥٨ هجرية ، وأعاد إلى الأزهر حياته العلمية التي أبطلها صلاح الدين الأيوبي عملا منه على إزالة كل أثر للفاطميين ، فمن ذلك الحين ـ فقط ـ تبتدىء حياة الأزهر العلمية التي لا تتقيد برأي ولا مذهب ، ولا تقتصر على علم من العلوم ، فقد درست فيه جميع العلوم الشرعية على اختلاف المذاهب والأصول ، ودرست فيه علوم اللغة العربية بجميع مذاهبها وآرائها ، ودرست فيه آراء علماء العقيدة لا فرق بين فرقة وفرقة ، كما درس فيه كثير من العلوم الرياضية والعقلية ، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية ، وخدمة الشريعة والعقلية ، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية ، وخدمة الشريعة واللغة ، كان هذا هو الغرض من الجامع الأزهر منذ ذلك الحين ، ولم يكن موزعا على طلاب العلم بحيث يختص كل فريق منهم بناحية معينة على نحو ما نرى اليوم ، بل كان جميع طلابه ينهلون من جميع علومه ، لا اختصاص لأحد بعلم ، إلا ما كان عن طريق الاستعداد الفطري ، والميل النفسي ، وقد مرت بالأزهر أطوار مختلفة ، كان فيها بين الصحة والمرض ، والتقدم والتأخر ، والنهوض


والتقاعد ، والإنتاج والعقم ، ولسنا بصدد الكلام عن هذه الأطوار التي طواها التاريخ بما لها أو عليها ، ولكن مما يهمنا في هذا الحديث ، أن نعرف أن هذه الأطوار ختمت بعهد تجمعت فيه علل ماض طويل ، وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج ، وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية ، وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادىء الآتية :

١ ـ تغلبت العناية بالمناقشات اللفظية ، وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة ، بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات.

٢ ـ تغلبت روح التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون ، والسمو بها على مستوى النقد ، وعدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة ، ولو كان لها من السداد والقوة ما لها.

٣ ـ تغلبت نزعة الإشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام ، فتراهم يقولون : لو طلقها نصف تطليقة أو ربع تطليقة ، ولو قال لها أنت طالق إن شئت ، فقالت له : شئت إن شئت ، وتراهم يقولون : لو تزوج جنية ، فالحكم في النسب والميراث كذا ...

ولقد أكثروا من هذا في العبادات والمعاملات ، وأنفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديرا بهم أن يدخروه للنافع المفيد ، ووصل الأمر في ذلك إلى أن الكمال بن الهمام وهو من أفذاذ علماء القرن التاسع يقول : ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما.

رجل علق الطلاق بشهر

قبل ما بعد قبله رمضان

ثم يندفع في تخريج هذا الفرض وبيان حكمه ، ثم يأتي بعده ابن نجيم الحنفي ـ صاحب البحر والأشباه ـ فيتولى الشرح والبيان والتكميل


ويقول : «إن هذا البيت يمكن إنشاده على ثمانية أوجه ، الخ.

ويشاركه في ذلك علماء عصره ثم يأتي من بعدهم ابن عابدين من علماء القرن الثالث عشر فيضع رسالة في هذا الفرض تحت عنوان «إتحاف الذكي النبيه ، بجواب ما يقول الفقيه» ، يشرح فيها أبياتا أولها :

ما يقول الفقيه أيده الل

ه ما ولا زال عنده الاحسان

في فتى علق الطلاق بشهر

قبل ما بعده قبله رمضان

ويورد في الرسالة آراء جميع من تقدمه من العلماء في الشرح والحكم ، ولا بد أن يجعل الجواب نظما كالسؤال ، وهكذا اشتغل المتأخرون بمثل هذه الفروض وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وقضيتهم.

٤ ـ تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي ، ولقد تناولت هذه الحيل كثيرا من أبواب الفقه ، ولم تقف عند الحد الذي أثر عن الأئمة من جعلها وسيلة للتخلص من ضرر أو مكروه ، بل افترضوا حيلا يسقطون بها الواجبات ، ويفسدون بها الالتزامات ، فتجد حيلا لإسقاط الزكاة وحيلا لإسقاط حق الشفعة ، وحيلا لإسقاط عدة المطلقة ، وحيلا لإسقاط الحدود .. وهكذا مما لا يتفق ومقاصد الشريعة ـ ولقد أطنب ابن القيم أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابيه «أعلام الموقعين ، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» في الرد على فكرة الاحتيال على هذا النحو ، وبين أنها مضادة لروح التشريع ، وقال : «إن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة ، ونسبوها إليهم وهم مخطئون» ، وإذا علمنا أن العناية بالاحتيال الفقهي وصل أمرها إلى أن جعلوه فنا من كتبهم ، وبابا من أبوابها ، لأخذ منا العجب مأخذه ، فهذا ابن نجيم من علماء القرن العاشر يضع عنوانا في كتابه (الأشباه والنظائر) فيقول «الفن الخامس من الأشباه والنظائر وهو فن الجبل».


٥ ـ تغلبت روح التعصب المذهبي الشديد ، حتى وصل الأمر في ذلك بين أتباع الأئمة إلى المناقشة في صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب ، وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالا واسعا في البحث والتفريع ، ووصل الأمر أيضا إلى البحث عن حكم التزوج من الشافعية ، فترى الكمال بن الهمام وهو في الكلام على حكم التزوج بالوثنيات ينقل عن أحد علماء الحنفية : أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال ، ثم يقول بعد هذا النقل : «ومقتضاه منع مناكحة الشافعية» ، واختلف فيها هكذا : قيل يجوز ، وقيل يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته». وترى أثر هذه النزعة في حكم الحاكم بحل متروك التسمية عمدا ، وفي حكم العقد الذي يشترط فيه بعض المذاهب ما لا يشترط البعض الآخر .. وهكذا وصل التعصب المذهبي إلى مثل هذا الحد ، وصارت المذاهب بين المسلمين ـ وبين أبناء الأزهر ـ أديانا يتقاتل أهلها ، ويضلل بعضهم بعضا ، وهي لا تخرج عن أنها آراء وأفهام حذر أئمتها الأولون من تقليدها والعمل بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الحجة والبرهان.

٦ ـ تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد غير المذاهب الأربعة ، فحجروا واسعا ، ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة ، ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب ، يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي ، مشروع الزواج والطلاق ، فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع ، وتبني مناهضتها على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة فكتب المراغي مذكرة قيمة ، لها خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي ، بين فيها كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد ، كما بين آراء العلماء في تأثر الفقه بالعرف والعادة ، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الاربعة ، وإنما جعلوا مناط التقليد على وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد ، واطمئنان النفس إلى صحة النقل


عنه ، فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه ، لا فرق بين إمام وإمام ، ولا بين الأربعة وغيرهم ، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام «لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة ، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده ، وفاقا ، وإلا فلا» ، ويقول أيضا «إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله» ، ومن هنا يقول القرافي : «انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر ، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهما من غير نكير ، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل» أه ، هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة ، بل جعل واجبا يذكر تبيين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده ، فيقول بعض المؤلفين في منظومته : «وواجب تقليد حبر منهم».

ورث الأزهر أيضا فكرة أن من قلد إماما من الأئمة الأربعة فليس له أن يحيد عنه ، بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث وراء دليل ، ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه ، ومذكرة الثلاثة التي أشرنا إليها قد تأثرت بهذه الفكرة أيضا ؛ فأوجبت على القاضي أن يحكم بمذهبه ، وحظرت عليه أن يحكم بغيره ، وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة «والأصح أنه لا يلزم ، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويذر دون غيره».

ورث الأزهر أيضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الإمام ، وصاحب التحرير يقول أيضا في هذه المسألة : «ولا يمنع منه مانع شرعي» إذ للإنسان أن يسلك الأخف


عليه إذا كان له إليه سبيل ، ولا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع ، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمه عليه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما يخف على أمته».

وورث الأزهر فكرة كان لها أثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العلمية : هي خطة المعاداة لطائفة من العلماء نضجت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة ، وخالفوا الناس في كثير مما درجوا عليه ، وتحرروا من الإغلال التي قيد المقلدون بها أنفسهم ، حكم الأزهر عليهم بأحكام جائرة ، وشكك في تدينهم وإخلاصهم وآرائهم ، وشوهوا في الكتب وعلى ألسنة الدعاة بغير حق ، وجعل ذلك سبيلا إلى رفض العمل بآرائهم ، وعدم الاعتداد بأفكارهم فصرفت الأنظار عنهم ، وصرنا نسمع من أسباب رفض الرأي : هذا رأي ابن تيمية ، وابن تيمية ضال مضل ، وهذا قول ابن القيم تلميذه ، كما يقال : هذا رأي الزمخشري وهو معتزلي ، أو ابن رشد وهو فيلسوف ... وهكذا ، كأن هؤلاء ليسوا من أهل العلم ، ولا من رجال البحث أو كأن الحق وقف على طائفة من الناس لا يعدوها .. وأخيرا ورث الأزهر في ذلك العهد : القول بتحريم الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وأخذ يحارب المشتغلين بها جيلا من الزمن ، ولعل من الطريق في ذلك أن نشير إلى الاستفتاء الذي تقدم به بعض الناس إلى الشيخ الانبابي شيخ الجامع الأزهر ، وإلى مفتي الديار المصرية الشيخ محمد البنا سنة ١٣٠٥ ه‍ يسألون فيه : هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية ، مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وغيرها من سائر المعارف؟ وهل يجوز قراءتها كما تقرأ العلوم الآلية من نحو وغيره في الجامع الأزهر؟

هذه هي التركة المثقلة التي خلقتها العصور المظلمة ، واحتملها الأزهر في طور مرضه الشديد كعقائد دينية ، وواجبات يرى أن يتمسك بها


وأن يذود عنها ، وأن يرمي خارج محيطه بمن يفكر في التحلل منها ، ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل أن وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر ، وحرم نفسه لذة البحث والنقد ، وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي ـ التي تعود على العلم بكبير فائدة ، وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه ، وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين ضاقت كل منهما ذرعا بصاحبتها ، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.

ظل الأزهر كذلك حتى هيأ الله له ـ على سنة الله سبحانه : من عدم إخلاء الأمم ممن يعرف الحق ويدعو إليه ـ واحدا من أبنائه لا ينسى التاريخ فضله ، هو الاستاذ الإمام المصلح له الشيخ محمد عبده رحمه الله ورضي عنه. صاح بالأزهر صيحة أيقظته من نومه ، ونبهته بعض الشيء إلى واجبه ، وكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر ، انتفع به من انتفع ، وأزور عنه من أزور ، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه ، ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين ، وينفذ إلى بصائر المخلصين ، ويعلو ويتسع أنفه شيئا بعد شيء. ومنذ ذلك الحين اتجهت الأنظار إلى وضع نظم من شأنها أن تمكن الأزهر من الانتفاع بهذا النور ، والسير على هداه حتى يقوم برسالته ، ويصل إلى غرضه المنشود ، فوضعت نظم متلاحقة متشابهة ضمت إلى العلوم الشرعية والعربية كثيرا من العلوم العقلية والرياضية فاتسع لها صدر الأزهر ، وهضمتها عقليته الجديدة. والأزهر الآن في كلياته ومعاهدة والقضاء الشرعي والإفتاء ، والوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها ، كل أولئك ينتفعون بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم ، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها ، واستمر الأزهر كذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر للمرة الأولى الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وهو من أبناء الأزهر الذين عرفوا تاريخه


وأدركوا علله وأمراضه ، وهو إلى جانب ذلك تلميذ بروحه وعلمه وعقله وتفكيره للأستاذ الإمام عبده ، فوضع مذكرته التي تصف علل الأزهر وأداواءه وتصف الدواء الناجح لهذه العلل.

«ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة ، وظنوا أن لا مطمع لهم في الاجتهاد ، فأقفلوا أبوابه ، ورضوا بالتقليد ، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم ، وابتعدوا عن الناس فجهلوا الحياة وجهلهم الناس ، وجهلوا طرق التفكير الحديثة ، وطرق البحث الحديث ، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء ، فأعرض الناس عنهم ، ونقموا هم على الناس ، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له ، وأصبح الإسلام بلا حملة ، وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين». ويقول في شأن النظم المتقدمة : «وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم ، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه ، وقد صار من الحتم لحماية الدين ، لا لحماية الأزهر ، أن يغير التعليم في المعاهد ، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة ، يقصد بها وجه الله تعالى ، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة».

ويقول في وصف الكتب : «هي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف ، لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية ، وإنما يفهمها من مارسها ومرن على فهمها ، وعرف إصلاح مؤلفتها». ويقول فيما يختص بدراسة الفقه :

«يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب ، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة ، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة ، والأحكام المجمع عليها ، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها


ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة ، كما كان يفعل السلف من الفقهاء». ويقول فيما يختص بدراسة التفسير والحديث : «يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة ، وأن تدرس السنة دراسة جيدة ، وأن يفهمها على وفق ما تتطلبه اللغة العربية ، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة ، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه ، وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية».

هذه هي مذكرة المراغي التي جعلها دستوره في الإصلاح ، والتي علقت عليه الأمة من أجلها آمالها في إعلاء شأن الدين وانهاض أهله ، وقد رأى تنفيذا لأغراض هذه المذكرة الإصلاحية ، توزيع التعليم العالي في الأزهر على شعب ثلاث : شعبة للتفسير والتوحيد وتعرف باسم كلية أصول الدين ، وشعبة للغة العربية وتعرف باسم كلية اللغة العربية ، وشعبة للفقه والأصول وتعرف باسم كلية الشريعة. تنوع التعليم العالي إلى هذه الكليات الثلاث ، ووضعت مناهج لكل كلية تبين علومها الأساسية والإضافية ، وجعل وراء ذلك تخصصات «وإجازات» موزعة على هذه الكليات الثلاث.

ـ ٧ ـ

ويرى الدكتور محمد عبد الله دراز : أن أبدع طابع تمتاز به الجامعة الأزهرية ، ليس هو أنها قد جمعت في تعليمها بين هذين العنصرين الروحي والزمني ، اللذين نراهما منفصلين في سائر الجامعات ، بل ميزتها الكبرى هي أن الميدان الذي تتدفق فيه حيوتها يتجاوز كل حدود التعليم والتثقيف ، ويرتقي إلى دور من أهم الأدوار في توجيه حياة الجماعة. إن رسالة الأزهر على الجملة ، إنما هي امتداد لرسالة الإسلام ، ألا وإن الإسلام ليس مجموعة مبادىء نظرية تغرس في الأذهان فحسب ، وإنما هو قوة دافعة خلاقة ، غايتها أن تنظم السلوك الإنساني تنظيما فعليا ، طبقا لاسمي المثل وأسلسها قيادا على التنفيذ العملي. فليس يكفيه إذا أن يبين هذه المبادىء


دون أن يسهر على تطبيقها ... وهذا التطبيق لا يخص سلوك الفرد في نفسه ، أو في أماكن عبادته وكفى ، لأن قانون الإسلام ، الذي هو موضوع التطبيق ، لا يعرف هذا الفصل بين الدين وشئون الحياة ، بل إن قواعده العملية تمتد إلى جميع ميادين النشاط الاقتصادي والأخلاقي ، في حياة الفرد ، والأسرة. والأمة ، بل في حياة الجماعة الإنسانية كلها.

وقد عنى الأزهر ـ إلى جانب تكوينه لأسرة التدريس ـ بتخريج جماعة من المصلحين الاجتماعيين ، ليكونوا في صلة دائمة بالشعب ، ويتجهوا إليه بإرشاداتهم في كل مناسبة. ولدى الأزهر منهم الآن أكثر من ٢٥٠ واعظا ، موزعون توزيعا متناسبا بين العاصمة وسائر الأقاليم ، وإن «العدالة» و «الأمن» لمدينان أعظم الدين لجميل نصائحهم التي يوجهونها إلى الجماهير ، وإلى الأسوة الحسنة التي يقدمونها لهم في سيرتهم الشخصية ، وإلى طرق الإصلاح التي يمهدونها لهم في المنازعات ، كما تشهد بذلك السجلات الرسمية. وفي الوقت نفسه نجد في الأزهر لجنة دائمة من العلماء تتلقى المكاتبات من كل سائل ، عما أشكل عليه من أحوال السلوك وشئون المعاملات ، وتجيبه بما يزل شبهته ، وينير له السبيل السوي.

ومن وراء ذلك كله ـ وفوق كل هذه الخدمات الجليلة ـ يتمتع الأزهر بسلطة معنوية أكثر عمقا ، وأبعد حدودا ، يستعملها في توجيه المجتمع الإسلامي ، لا في مصر وحدها ، بل في سائر البلاد الإسلامية. وهاهنا أيضا لا تعوزنا الشواهد لإبراز هذه الحقيقة. فلقد أتى على عرش مصر لحظة من الزمن ، في سنة ١٨٠٥ م ، كان فيها يبدو مترددا بين «خورشيد» و «محمد علي». فكان الثقل الذي وضعه نفوذ الأزهر هو الذي رجح كفة الميزان في جانب محمد علي ، ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع في اختياره واليا على مصر. وفي سنة ١٩١٩ كان الأزهر هو المنبر الذي ارتفع منه أقوى صوت في المطالبة بإلغاء الحماية الانجليزية ، وكان حرم الأزهر هو المهد الذي ولدت فيه الوحدة التي لا تنفصم عراها بين أقباط مصر


ومسلميها ، لاحباط الدسائس البريطانية التي حيكت للتفريق بين العنصرين : أما نفوذ الأزهر في الأقطار الإسلامية فليس من نوع ذلك النفوذ الغامض البعيد ، الذي يتمتع به الأزهر بفضل مهابة اسمه وجلال مركزه فحسب ، بل إن له في تحقيقه وسائل حية ، وأدوات ناطقة. نعم ، أليس للأزهر ممثلوه في أقطار الإسلام ، ولتلك الأقطار ممثلوها فيه؟ أو ليس هؤلاء الممثلون من الجانبين هم حلقة الاتصال المتبادل الذي يحفظ وينمي هذه العلاقات الوثيقة بين الطرفين في مختلف النواحي الثقافية والأدبية والروحية؟

فأما من أحد الجانبين ، فإن الدولة الإسلامية لا تفتأ تلتمس من الأزهر في كل عام ، عددا من علمائه ليبصروا شعوبها بحقائق الإسلام ، أو ليكونوا أعضاء في هيئات التدريس في جامعاتها ومعاهدها ، ولا يسع الأزهر إلا أن يرحب دائما بندائهم فلا يرد لهم ملتمسا. وقد بلغ الآن عدد المندوبين من علماء الأزهر في خارج القطر ١٢٥ مدرسا في الأقطار الممتدة من جزائر الفيليبين إلى مملكة ليبيا. بل إن الدول الغربية قد أفادت من نظام الانتداب المذكور ، سواء لتغذية جامعاتها ، أو لإدارة مراكز الإسلام الثقافية فيها. وما نحن أولاء نرى من أساتذة الأزهر مندوبين بالفعل في «لوندره» و «واشنطن» و «سان فرانسيسكو» وقد نرى قريبا وصول هذا المدد إلى «باريس» أيضا ...

ونعود إلى الأقطار الإسلامية فنقول : إن صلتها الوثيقة بالأزهر تقوم ـ من جهة أخرى ـ على تلك الألوف من شباب المتعلمين الوافدين منها ، والذين يتبناهم الأزهر فيطبعهم بطابعه ، ويصنعهم على طرازه. وإن الحفاوة التي يقدمها لهم لمفعمة بأنواع الكرم والضيافة. فهو يؤويهم بالمجان ، ويمنح كلا منهم شهريا مقدارا من المال كافيا لمعيشته ، وعلى الرغم من زيادة عددهم عاما بعد عام ، فإن هذه المرتبات يجدونها مكفولة لهم على الدوام ، كما أن الجامعة تهيء لهم في أثناء العام رحلات مدرسية بالمجان


إلى الأماكن الأثرية ومعالم السياحة ، وتعد لهم في الصيف مقاما هادئا على شواطىء البحر في الأسكندرية. وفي نهاية دراستهم تمنحهم شهادات ينتفعون بها عند عودتهم ، لا في التدريس فحسب ، بل في مختلف المناصب في بلادهم. ولقد بلغ عدد هؤلاء الضيوف في هذا العام اكثر من ثلاثة آلاف طالب ، هم سفراء الأزهر غدا إلى بلادهم. فإذا سارت الأمور على هذا المنوال لم تمض بضع عشرات من السنين حتى يكون الأزهر قد جعل من جميع الشعوب الإسلامية أمة واحدة متجانسة في ثقافتها ، كما هي متجانسة في عقيدتها وآدابها.

على أن الرسالة الحقيقة للأزهر لن تتحقق على وجهها الأكمل إلا إذا تجاوزت حدودها الإقليمية في الشرق الإسلامي ، وأسمعت صوتها من وراء تلك الحدود.

نعم إننا اليوم ـ وقد تنازعت العالم قوى متناحرة ، وآراء متنافرة ، قد عجزت أطرافها أن تلتقي عند حد وسط يوفق بينها. وقد أخذت في صراعها تسرع بنا الخطا نحو الكارثة الكبرى ـ أقول إننا اليوم لفي أمس الحاجة إلى قوة ثالثة تتسم بطابع التعادل والتوازن ، لا عن طريق التلفيق بين عناصر متناكرة ، بل عن طريق وحدة طبيعية متماسكة يتألف فيها عنصر المادة والروح ، وتتساند فيها مطامح المنفعة وعواطف الإيثار ، وتتعانق فيها حرية الفرد وسلطان الدولة ، وتندرج بها المصالح القومية في نطاق الرحمة الإنسانية العالمية ، وبالجملة فإننا اليوم في أشد الحاجة إلى تلك الحكمة الشرقية الإسلامية التي يعد الأزهر خير ممثل لآدابها ، ويوم يتمكن الأزهر من أن يصوغ هذه السياسة الرشيدة في أسلوب واضح سائغ محدد ، ويتيسر له من الوسائل ما ينشر به هذه المبادىء في الميدان العالمي ، ويبدي فيه المعسكران المتصارعان في الوقت نفسه من حسن النية وقوة العزيمة ما يجعلهما يصغيان إلى ندائه الحكيم ، يومئذ يكون لنا أن نتحدث بحق وصدق


عن «السلام الشامل» و «الأمن العالمي الكامل» لا حلما من نسيج الأوهام ، ولكن حقيقة حية صالحة للبقاء.

ـ ٨ ـ

ويرى مصطفى صادق الرافعي أن أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين عنده ، أن يكون أهله قوة إلهية معدة للنصر ، مهيأة للنضال ، مسددة للإصابة ، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير ، تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها ، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت بمعناها ، ولن يأتى لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحية ، فلا يكون العلم تحرفا ولا مهنة ، ولا يكون في أوراق الكتب خيال ... بل تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة لا مأمورة منهية بها ويرتفع كل منهم بنفسه ، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم ، لينبث منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما يجذبها ضلالات العصر ، فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم ـ وإن الكتب والعلوم لتملأ الدنيا ـ وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم ، وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير ، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئا إلا قانون هذا الضمير ، إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى عمله ، فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته ضمائر أهله.

والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم ، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين ... فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة ، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء فيتصلوا منه بقوتين : قوة التعليم وقوة التحويل .. هذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها.

ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء


لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم ، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير ... وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا ، بل هي من أسباب هذا الشر لأن لها وجودا سياسيا ووجودا مدنيا ، أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب ، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه ، وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية ، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض ، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض ، بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل لأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة ، إنسانا تتخيره المعاني الإنسانية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضربا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه ، والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوة الحياة .. لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر ، ولذلك فهم يتبعونهم ويتأنسون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة ، وكان غنى العالم الديني شيئا غير المال بل شيئا أعظم من المال إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقير ، وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية ، ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم ، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها ، وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب ، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة ، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها ، فيجب عليهم أن يحققوا


وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها ، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلابا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع ... وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها.؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه ، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب ، وان ينقى عمل التاريخ في الكتب ، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات ، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها ، ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية ، جريئا في عمله لهذه القيادة ، آخذا بأسباب هذا العمل ، ملحا في طلب هذه الأسباب. مصرا على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم ، فإنها إن بدأت لا تقف ، والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية مطاع بحكمه فيها. محبوب بطاعتها له. والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر ، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة .. ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعا بوسائل مختلفة : أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها ، وأن يقود مدرسة حرية الفكر .. والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل ، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل. وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية


في الدعوة ، العلماء ورثة الأنبياء. وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن ، ومجاهدة في هداية الناس ، ومراغمة للوجود الفاسد ، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.

وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق ، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها ـ اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين بعد أن يكون قد حقق الذرائع إلى هذه الرسالة من فتح باب الاجتهاد وتنقية التاريخ الفقهي وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة ، ثم استخرج أسرار القرآن الكريم المكتنة فيه لهذه العصور العلمية الأخيرة ، وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد ، لا ينكره هذا ولا بغيره ذاك ، وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه.

أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوروبا وأمريكا واليابان ، بلغات الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين في ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة لها بيان الأدب ودقة العلم وإحاطة الفلسفة ، وإلهام الشعر ، وبصيرة الحكمة ، وقدرة السياسة ، ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسان واحد في الأزهر ، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر ، ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها فتكون المتكلمة عنه والحاملة لرسالته ، وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوروبا إلا أول تاريخ تلك الألسنة.

أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوروبا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر ، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية ، وسيكون


عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به.

هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين يتحقق بوسائلها من الآن ، ومن وسائلها أن يعالن بها لتكون موثقا عليه ، ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكر إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة ، فتكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه ، ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم ، وبهذه الالقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية ويحقق لنفسه المعنى الجامعي ، وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أياما في كل سنة يجمع فيها من المسلمين (قرش الإسلام) ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله. وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده ، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم الإسلامية ومواسمها الكبرى وخاصة موسم الحج.

ـ ٩ ـ

ونشر العقاد كلمة عام ١٩٤٧ عن الأزهر وإصلاح ورسالته قال فيها :

خير ما يطلب للأزهر هو أن يزداد نصيبه من الجامعية العلمية ، وأن يزدان نصيبه من المشاركة في الأعمال الدنيوية ، وأن يحال بينه وبين العزلة والانقطاع ، ونحن من المؤمنين بماضي الأزهر العظيم ، ولكننا أشد إيمانا بمستقبله بنا بماضيه ، لأن وظيفته في الماضي كانت وظيفة واحدة لا منازع فيها ، أما وظيفته في المستقبل فوظيفتان ينهض بهما فيكون له شأنان متعادلان في حكمة الإسلام وحكمة العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين ، فالجامع الأزهر أحق مكان بأن يحيي الفلسفة القديمة التي عاشت فيه وحده يوم ماتت في جوانب الدنيا بأسرها ، ومن إحياء هذه


الفلسفة أن يزاوج بينها وبين مستحدثات التفكير في كل عصر وبين كل قبيل ، والجامع الأزهر أحق مكان بتوسيع المنطق الذي تمكنت فيه أسسه وتهيأت لما يضاف إلى هذه الأسس من أركان جديدة ، في مذاهب المناطقة المحدثين ، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يعرض العقيدة الإسلامية المستنيرة على أهل المشرق والمغرب لأنه أقدر على هذه الرسالة من الآحاد أو الجماعات التي تصدت لها في غير مصر من الأقطار الإسلامية ، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يقصده الصيني من أقصى الشرق كما يقصده «الفندلاندي» من أقصى الشمال ، أو يقصده الزنجباري من أقصى الجنوب لأنهم يتعلمون فيه ما لا يجدونه في غيره من الجامعات المعصورة على العلوم الطبيعية. والجامع الأزهر أحق مكان بأن يتدارك عيب العصر الحاضر وهو العيب الجسام الذي يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح. فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم ، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين ، ونحن كبير والرجاء في إنجاز هذه المهمة العظمى بعد أن صارت مشيخة الأزهر إلى أستاذ الفلسفة الإسلامية على أحدث المناهج العصرية ، فإنه أقدر الناس على أن يحقق للجامع الأزهر وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح ، وأعوانه من الأزهريين غير قليلين.

ـ ١٠ ـ

ويقول الاستاذ مصطفى حبيب من كلمة له ألقاها في المؤتمر الثقافي العربي عام ١٩٥٠ ، وقد كان من المندوبين فيه عن الأزهر : الاتجاهات التعليمية السائدة في الأزهر الآن هي :

١ ـ العمل على تعميم التعليم الديني في البلاد بافتتاح المعاهد الدينية في جميع العواصم والمراكز الكبيرة ، وتيسير هذا التعليم على الناس بمتابعة ما جرى عليه عرف الأزهر من قديم ، من مجانية التعليم الديني ، وتشجيع الطلاب بتقرير مكافآت مادية تعينهم على مواصلة الدرس ، وقد قطع الأزهر في هذا الاتجاه شوطا بعيدا فافتتح في السنوات الأخيرة خمسة معاهد ،


هي : قنا وسوهاج والمنيا والمنصورة وسمنود ، وأعان على أن تنشر المعاهد الحرة في البلاد بما قدمه لها من العون العلمي والمادي. فقد تعهد الأزهر بتزويد كل معهد حر بالمدرسين على حساب ميزانيته فضلا عن تقرير إعانة استيفاء لكل معهد ، مما حفز على انتشار التعليم الديني في البلاد وإنشاء المعاهد الحرة.

٢ ـ تشجيع التعاون الثقافي بين الأزهر والمعاهد الإسلامية في البلاد الإسلامية جميعها ، ليوحد بين ثقافة أبناء هذه الشعوب وثقافة الأزهر ، وليعاون على إيجاد رأى عام إسلامي موحد ، وليدخل على هذه المدارس الأنظمة الإصلاحية التي قام بتجربتها الأزهر ، ليساهم بنصيب في الرقي الفكري والعلمي للشعوب العربية والإسلامية ، وللأزهر الآن في جميع البلاد الإسلامية والعربية مدرسون من خيرة أبنائه المتأثرين بالأفكار الحديثة يبثون تعاليم الأزهر ورسالته الإصلاحية في نجد والحجاز وسوريا ولبنان والعراق والكويت وأسمرة ، ويساهم الأزهر بنصيب كبير في تمويل هذه الحركة العلمية ، إيمانا منه بفائدتها لمصر والعالم الإسلامي كله.

٣ ـ نشر الثقافة الإسلامية في البلاد المتخلفة علميا والتي هي في مسيس الحاجة إلى التنوير في شئون دينها ، والأزهر معنى بهذه الناحية أشد العناية ، وقد وجه مبعوثين من رجاله لدراسة أحوال المناطق الأفريقية في جنوب السودان وأوغندة وأرتيريا وشرق أفريقيا ، وقد وضعت تقارير مفصلة عن أوجه المساعدة المثمرة لهذه الجهات ، وأرسل الأزهر فعلا بعثة علمية إلى أرتيريا وجوبا ، وهو بسبيله إلى إرسال بعثات جديدة إلى الصومال ونيجيريا وأوغندة وشرق أفريقيا.

٤ ـ العناية بنشر الإسلام وتعاليمه الصحيحة في جميع البلاد ، وإيجاد صلة قوية ورابطة متينة بين المسلمين في كافة أقطار الأرض عن طريق التبادل الثقافي ، وإنشاء مراكز إسلامية تزود بالمكتبات والعلماء الباحثين والوعاظ


لسد حاجات الناس في هذه البلاد الى الثقافة الإسلامية ، ويسير الأزهر في هذا الاتجاه بخطى حثيثة ، وأستطيع القول بأن الأزهر اليوم متصل بجميع الهيئات العلمية والإسلامية في أوروبا وأمريكا وآسيا ، وله مكتب ثقافي في لندن ، وآخر في الباكستان ، وثالث في الفلبين ، وهو يدرس اليوم مشروعات متعددة لإنشاء مكاتب أخرى في الولايات المتحدة والأرجنتين والملايو وأندونيسيا ، ولكنه على أية حال لم يحقق بعد كل ما يرجوه من التوسع في هذه الناحية لأنها تحتاج إلى المال والرجال :

٥ ـ العناية بالبعوث الإسلامية الوافدة الى الأزهر من كل بقاع الأرض وتعليمها وتثقيفا دينيا وعلميا ، ليكونوا هذاة لقومهم يرشدونهم إذا رجعوا إليهم ، ولا يدخر الأزهر وسعا في هذا السبيل ، فهو يشجع الطلاب الراغبين على الوفود ، كما يحض الهيئات الإسلامية والحكومات الإسلامية على إرسال أبنائها إلى الأزهر ، وهو يعد لهؤلاء الطلاب أماكن صحية للسكن ، ويمدهم بمعونة مادية تيسر لهم طلب العلم وتعينهم على الحياة في مصر. وفي الأزهر الآن ألفان من طلاب البعوث الإسلامية يمثلون كافة البلاد الإسلامية. وقد أعد لهم الأزهر دراسات خاصة تعينهم على معرفة اللغة العربية معرفة تؤهلهم للاندماج في سلك الدراسة مع إخوانهم المصريين. وقد بلغت البعوث الإسلامية اليوم حدا لم تبلغه في عصور الأزهر الذهبية في القرن الثامن الهجري حين سقطت بغداد وفر أبناء المسلمين إلى الأزهر بدينهم. فقد كان تعدادهم حينذاك كما روى المقريزي ٧٥٠ طالبا. وكان هذا يعتبر رقما قياسيا ، أما اليوم فهم يربون على الألفين ، والباب ما يزال مفتوحا على مصاريعه لتقبل كل من يريد العلم والتفقه فيه. فالأزهر لا يرد عن رحابة طالب علم.

٦ ـ إعداد بيئة من العلماء النابغين في علوم الدين إعدادا يؤهلهم لنشر الدعوة الإسلامية والثقافة الإسلامية في البلاد التي تتكلم باللغات الأجنبية بتمكينهم من الدراسة في الجامعات الأوروبية ، ليتصلوا بالحياة العقلية في


الغرب ، ويجيدوا اللغات الأجنبية كتابة وخطابة ، ويكونوا مزاجا جديدا من الدراسة يلائم ، حاجة العصر ، ويسد حاجات البلاد الإسلامية الناطقة باللغات الأجنبية الى مدرسين وأساتذة. وقد أدرك الأزهر قيمة هذا العمل العظيم فأرسل بعثة مكونة من عشرة من خيرة أبنائه إلى بريطانيا ليدرسوا في جامعاتها ، وما يزال الأزهر في حاجة إلى المزيد من هذه البعثات ليكثر بين أساتذته ومدرسيه من يجمعون بين الثقافتين الأزهرية والغربية ، ليكونوا في المستقبل القريب نواة لهيئة التدريس الجامعية.

٧ ـ يتجه الأزهر منذ سنوات إلى التخلص من الكتب التقليدية القديمة في الدراسة ، وتشجيع الأساتذة على تأليف كتب جديدة تتناسب مع العصر الحديث في حسن العرض والتبويب ، ليسهل على الناس الاطلاع عليها ، لأن الكتب القديمة على وضعها الحالي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها إلا من مارسها ومرن على فهمها ... وقد بدأ الأزهريون يكتبون ويؤلفون ، ولكنهم لم يحققوا بعد الآمال المعقودة عليهم ، إذ لا يزال في أعناقهم للعالم الإسلامي وأبناء هذا الجيل دين يجب أن يوفوه : هو تبسيط الحقائق العلمية وتقريبها إلى الأذهان ، وتشويق الناس للاطلاع على ما في الدين الإسلامي والتشريع الإسلامي من كنوز في المعرفة.

٨ ـ يدرس الأزهر الآن الفقه الإسلامي دراسة خالية من التعصب لمذهب بعينه ، بل ويدرس المقارنات بين المذاهب ، وقد أتاحت هذه الروح التي تسود الأزهر الآن النظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصر والعرف وتطور الأمم والشعوب ، واستنباط الأحكام التي تتمشى مع سير الزمن. وقد أصبح بفضل هذه الروح في الأزهر جماعة من أفاضل العلماء تعمل على تزويد رجال التشريع بالأحكام الاجتهادية من كافة الأئمة غير مقيدين بمذهب بعينه أو إمام بعينه. وقد صدرت القوانين الأخيرة في أحكام الوقف والوصية بعد دراسة حرة لجميع الآراء ، وأخذت الأحكام من جميع المذاهب ومن آراء الأئمة والمجتهدين بما يلائم مصلحة الأئمة ويسد


حاجات الجيل. وتلك خطوة جريئة إن أغضبت المتزمتين ، فقد أرضت الله ورسوله. ويتجه الأزهر في هذه الأيام إلى إنشاء معهد للفقه المقارن يقوم على هذه الدراسات الحرة وينميها ، لينتفع العالم بآثار الاجتهاد ، مما يحفز العقل البشري على التقدم لخدمة الإنسانية.

٩ ـ يعني الأزهر بإحياء كتب السنة وجمعها في كتاب واحد حسن التبويب ، تيسيرا للسنة على الراغبين في الاطلاع عليها. وتقوم بالأزهر الآن لجنة برئاسة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر للعمل على إخراج هذا المشروع.

١٠ ـ يعني الأزهر أشد العناية بدراسة اللغة العربية والنهوض بأساليبها التعليمية وإبراز كنوزها للناس. وقد نهض بكلية اللغة العربية نهضة كبيرة أصبحت بفضلها تنافس معاهد اللغة العربية في مصر منافسة قوية ، أفادت العلم واللغة في مصر والشرق. وها هم أولاء أبناء كلية اللغة العربية منبثون في جميع المدارس والمعاهد الأزهرية والحكومية يؤدون رسالة الأزهر في خدمة اللغة والنهوض بها على نمط يثير الإعجاب والتقدير من الجميع.

١١ ـ عمل الأزهر جادا على تقرير تعليم الدين في المدارس الحكومية وجعله مادة أساسية ، لينشأ ناشيء الفتيان منا على التمسك بأحكام الدين والرعاية لفضائله ، إيمانا منه بأن ما ينطبع في نفس الطفل منذ نعومة أظافره من إيمان وتدين ، لا يمكن أن تؤثر فيه الأيام ، بل يظل أساسا صالحا يوجه رجال المستقبل الى الخير ، ويحفزهم على البر بأنفسهم وأهليهم وأوطانهم. وقد نجح الأزهر بتقرير دراسة الدين بالمدارس.

١٢ ـ يعني الأزهر بإحياء الشعور الديني ، وتنمية روح التدين بين الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين ، وتنويرهم في شئون دينهم ، وتعريفهم بفضائله ، لتتقوى فيهم روح المحبة والتآلف ويبعد عن صفوفهم المبادىء المنحرفة التي تتنافى مع الدين والخلق. وينبث اليوم عشرات


الوعاظ من أبنائه في صفوف الشعب يخاطبونه بالأسلوب القريب إلى نفسه ، ويعالجونه علاجا نفسيا يقوي عزائمه ويثبت إيمانه.

١٣ ـ يعني الأزهر عناية جدية بوعظ السيدات وتعليمهن شئون دينهن ، ليكن خير مربيات لأبنائهن ، وليغرس في نفوسهن منذ الحداثة الإيمان بالله وحب الوطن ، وهو يعقد لذلك مئات الدروس كل يوم من أقصى الصعيد إلى القاهرة ، ومن القاهرة إلى البحر الأبيض المتوسط ، للوعظ والإرشاد والتعليم.

وفي نفوس رجال الأزهر مشروع لإنشاء معهد لتعليم البنات والسيدات العلوم الدينية والعربية ، إحياء لسنن السلف الصالح من العناية بتثقيف السيدات وإتاحة الفرصة لهن ليتفقهن في الدين ، نرجو أن يتحقق في القريب العاجل. وليس تعليم السيدات بالأزهر بجديد ، فقد سبق الأزهر العالم كله منذ إنشائه حين كانت تعقد فيه دروس خاصة للسيدات ، وكان بعضهن يحضرن الدروس العامة ليتفقهن في الدين كالرجال سواء بسواء.

هذه بعض جهود الأزهر في ربع قرن ، وهذه هي خطواته بعد الإصلاح ، وهي إن لم تكن أوفت على الغاية فقد جاوزت البداية القلقة ، وثبتت أقدام الإصلاح. والأزهر بعد يسير بخطى جبارة ، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يجمع فيها أنفاسه بعد هذا الجهد الشاق إلا ويستبق الزمن ويفقز إلى الطليعة يقود البلاد كعهده في الثقافة واللغة وعلوم الدين ، ويهيء للمجتمع الإسلامي كله حياة طيبة نافعة تسلكه مع أمم الأرض في الرقي والحضارة.

ـ ١١ ـ

وقد ألقى الشيخ عباس الجمل في أبريل عام ١٩٣٦ محاضرة موضوعها رسالة الأزهر ، كان خلاصتها أن الأزهر إنما قام لنشر فقه الشيعة وعقائدهم ومبادئهم الدينية والسياسية. وأن الفرنسيين حين دخلوا مصر


اتخذوا شيوخ الأزهر صنائع للدعاية لهم ، ولكن الذي جنى ثمرة ذلك هو محمد علي لا الفرنسيون. ثم ذكر أن الأزهر أدى رسالته العلمية في القرن التاسع عشر أداء مناسبا ، وكانت زعامة الأدب العربي في الكتابة والخطابة إلى ابن من أبنائه هو محمد عبده ، ثم سعد زغلول .. ولكن الأزهر لم يظفر بأن ينال من زعامة الشعر شيئا .. وقد رفض الأزهر ما طلبه منه الخديوي إسماعيل من تشريع قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية لتكون قوانين للمحاكم الأهلية ، فرجع الخديوي وحكومته الى القوانين الفرنسية تأخذ منها ما تشاء ، وبذلك تحمل الأزهر هذا الإثم الشديد ، ولكنه عاد فقدم للمحاكم الشرعية قوانين وقضاة.

وفي قوانين الأزهر الأخيرة ما يرشد إلى رسالة الأزهر ، فهو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر ، والغرض منه القيام على حفظ الشريعة الإسلامية الغراء وأصولها وفروعها واللغة العربية ، وعلى نشرها تخريج من يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة ويلون وظائف الدولة الشرعية .. واستطرد من ذلك إلى أن الأزهر أمامه طريق شائك وليل مظلم ، وأنه لا يستطيع بحالته أن يسير لأداء رسالته ، وطلب أن يرتفع الأزهر بأئمته وعلمائه ومفتيه ، وأن يجتهد الأزهر فيصلح ما فسد فيه ، ويسير لأداء رسالته الصحيحة ، رسالة الهدى والإصلاح.

ـ ١٢ ـ

وفي عام ١٩٣٦ أعلن علي ماهر عن عدة مسابقات تمنح الحكومة فيها مكافات سخية للفائزين ، وكان من موضوعات هذه المسابقة «رسالة الأزهر في القرن العشرين» وقد فاز بالجائزة الأولى فيها الأستاذ أحمد خاكي. وقد ذهب هذا الباحث فيما ذهب إليه إلى أن تاريخ الأزهر يتصل اتصالا وثيقا بالحركات الفكرية التي قامت في مصر منذ السنة التي أنشيء فيها ، ويتمثل فيه من ناحية أخرى مبادىء الإسلام وما كان لها من سلطان ، لأن الأزهر


معهد ديني كانت رسالته دائما رسالة الإسلام ، وكانت لشيوخه الزعامة الفكرية في القديم ، حتى أن بونابرت لما دخل مصر ووجد للأزهر الزعامة الدينية والاجتماعية والسياسية تقرب إلى شيوخه ، وجعل أعضاء «الديوان» الذي أنشأه منه ، وهذا اعتراف بسلطان الأزهر على الشعب.

ووسط الزوابع السياسية التي تلت عصر نابليون وسبقت ولاية محمد علي قام الأزهريون يثبتون حق الشعب ويؤيدون ما يذهبون إليه بنصوص من الدين الحنيف ، ولقد كان للسيد عمر مكرم نقيب الأشراف حينئذ المكانة الأولى بين ممثلي الشعب ، وكان الشعب غاضبا على خورشيد باشا راغبا في تولية محمد علي ، وفي تاريخ الجبرتي نقاش بين السيد عمر مكرم وبين عمر بك أحد أنصار خورشيد ، فقد كان عمر يذكره بالآية الكريمة (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فلم يكن من السيد عمر إلا أن قال : «أولو الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل» ، ألسنا نحس في ذلك الرد وحده تلك القوة الوليدة التي شعر بها زعماء الأزهر وألسنا نستطيع أن ندرك دهاء محمد علي حينما اجتذب الشيوخ إلى جانبه فتغلب على القوى التي كانت تنافسه؟ وسلطان هؤلاء الأزهريين هو الذي ظاهره على المماليك وهو الذي أرغم الخليفة على أن يعترف بولايته ، كانت هذه إذن سابقة للأزهر أعلنت من مكانه فظل زعيما للجماعة المصرية بعد ذلك. وما برح الأزهر يساير الحركة الفكرية في مصر حتى تمخض في أواخر القرن التاسع عشر عن حركة شاملة من حركات الإصلاح توجهت ضد العناصر الدخيلة التي مشت بالسوء في أمم الشرق ، وقد رفع هذه الحركة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ، ولعل خير ما يذكر من أيادي الاستاذ الإمام أنه خرج الى فلاسفة الغرب يرد الحجة بالحجة ويقرع البرهان بالبرهان ، ولم يكن الجدل الذي نشب بينه وبين هانوتو إلا ناحية من الصراع الفكري بين الشرق والغرب ، وكان المؤرخ الفرنسي يفتعل الذرائع والمسوغات التي تحلل ما اقترفته السياسة المادية التي استحلت لنفسها كل


ما تحرمه الشرائع والقوانين ، ولم يكن الإمام المصري في ردوده إلا مدافعا عن أصول الإسلام الأولى يلحق البينة بالبينة يميز بين ما هو من صلب الدين وبين ما هو دخيل على الدين على أن ذلك الكفاح الذي تولاه الأستاذ الإمام والذي خلق بعد ذلك مدرسة بأسرها من مدارس الفكر لم يزل حتى أصاب ساعدا قويا في أفراد من المتخرجين في الأزهر ثاروا على حكومة الدخلاء ، واتصلوا بالجيش آملين أن يحققوا بعض مثلهم العليا ، فكانت الثورة التي اتصلت باسم عرابي باشا ، وقد نجح التفكير الأزهري في هذه المرة إلى ثورة عسكرية لم تكن موفقة لأنها لم تكن من طبيعة الأزهر ، وعرابي نفسه كان أزهريا لكنه لم يكن بالأزهري الرشيد ، وقد جمعت هذه الثورة العسكرية إلى العناصر الواهية التي أنهكتها كثيرا من العناصر السامية التي خلقت في مصر أثرا بليغا ، وكانت على الرغم مما انتابها من وهن نهضة قومية ما زالت تنمو حتى كانت شاملة بعد الحرب الكبرى ، ولسنا ننسى أن الأزهر كان محطا لركاب هذه النهضة ، فالأزهر كان مركزا للزعامة في أوائل القرن التاسع عشر وقد ظل مصدر للزعماء حتى بداية القرن العشرين ، وقد ظهرت قوة الأزهر في الحالات التي احتكت بها مصر بالدخلاء الأجانب ، ظهرت تلك القوة أمام الفرنسيين بزعامة السيد عمر مكرم ، ثم انتظمت في جسم الأمة حتى وضحت مرة أخرى بزعامة الشيخ محمد عبده ، وكانت موجهة في هذه المرة إلى الذين بسطوا أقلامهم في الدين من الفلاسفة والمؤرخين الأجانب ، ثم كان لها بعد ذلك وجه قومي بدأ بقيادة عرابي وانتهى سلميا بزعامة سعد زغلول ، وقد حاولت الحركة الأولى أن تتخلص من دخلاء الشركس ، وحاولت الثانية أن تستقل عن كل أجنبي :

لقد رأينا كيف كان الأزهر مصدرا للزعامة والكفاح ، وقد رأينا كيف استعان الفكر المصري في كفاحه السياسي والديني والاجتماعي بسلطان الأزهر فقضى على المبادىء الخربة التي تربصت بالشرق الدوائر ، وقد تزعم شيوخ الأزهر المصريين لأن هؤلاء كانوا يستوحونهم الشعور الديني وكان


يتمثل في خلقهم وإرشادهم تلك القوى الحية التي نماها الإسلام وقواها فإن نحن أردنا أن نضرب بسهم في سبيل التقدم وجب علينا أن نرجع إلى أصول الإسلام الأولى فنحي تراثه وتلك الرجعة إلى ديننا الحنيف هي من رسالة الأزهر لحمتها وسداها ، وجدير بالأزهر إذا أراد إحياء لذلك المجد الأثيل أن يعود سيرته الأولى من حيث الكفاح والزعامة وأن تتمثل فيه كل المثل العليا التي بسطنا القليل منها فيما تقدم ، وبذلك يستطيع أن يلهم الناس دينهم خالصا نقيا ، بل خليق به بعد ذلك ـ إذا أراد أن يكون في الرأس ـ أن يتصل أتصالا وثيقا بالحركات الاجتماعية التي تدب بين المصريين وقد بينا كيف كانت رسالة الأزهر دائما مزدوجة ، فهي دينية من ناحية واجتماعية من ناحية أخرى ذلك بأن الإسلام كما أسلفنا دين يجمع بين العقائد والشرائع يسعى لخير الجماعة في شتى الصور ويؤلف بين خلق الفرد خاصة وبين الأمة بوجه عام ، لقد كان اهتمام الأزهر بالحركات الاجتماعية في مصر وحد به عليها أساسا لزعامته التي ظل الجميع يعترفون بها حتى أواخر القرن التاسع عشر وفي اليوم الذي يعتزل الأزهر فيه الحياة العامة يضحي من سلطانه الذي كفله الدين نفسه والذي عنا له المصريون خلال الأحداث التي اكتظ بها تاريخهم الطويل الحافل ، ويعتزل الأزهر الحياة العامة إذا هو اطمأن إلى القيود التي تعوق التقدم فإن ذلك لا يتفق مع روح الإسلام نفسه ومصر ـ ككل جزء من أجزاء الأرض ـ ما زالت تنشد الإيمان والخير والحرية لكل المصريين إذ يتشبثون بتلك المبادىء يتلفتون ذات اليمين وذات اليسار يريدون أن يجدوا ملجأ فيطمئنوا إليه ويعتصموا به.

فجدير بالأزهر إذا أن يساهم في كل نواحي الحياة المصرية وأن يكون ـ كما كان في القرن التاسع عشر ـ قوة دافعة تستمد من قوة الدين والحق ، إن زعامة الأزهر لنواحي النشاط في مصر سوف تنتج خيرا شاملا ، ذلك لأن التقدم المادي ينتهي دائما بكفاح يخلو من المثل الأعلى ، وكل كفاح يخلو من المثل الأعلى يؤدي حتما إلى الفناء كالنار تأكل نفسها ، وقد


تقنعنا نظرة عجلى إلى تاريخ أوروبا بكل ذلك فقد تناست ممالكها في تنازعها كل المثل العليا التي جاء بها دينها وهي لا تزال تتناساها إلى اليوم في نزاعها مع القارات الأخرى.

وقد كفل الإسلام الحرية بما رفع من مقام الإنسان والنظام بما أتى من أحكام الشرع وجعل طاعة الله ورسوله وأولى الأمر واجبات نقوم بها ونحن راضون ، وبذل النصح لأولي الأمر بأن يترفقوا بالناس ، ثم أنه قد جعل الناس كلهم إخوة فكان خير الناس عند الله أتقاهم فضمن بذلك حق العامة أمام الخاصة ، كل هذا أتى به الإسلام ونزله مبادىء دستورية يستطيع الفقهاء أن يلائموا بينها في بيئاتهم وبذلك كفل للإنسان أن يتقدم دائما. ولسنا نرى تقدما أرشد من هذا الذي يقوم على مثل المبادىء ، على أن التوفيق بينها أجمعين كان دائما أس التقدم عند دول الإسلام. يقول النفسيون : إن الإنسان لا يبلغ حدا من الكمال إلا إذا وازن بين القوى والملكات التي يكسبها ، وقد ذهب الى ذلك أفلاطون وقال مثل ذلك قوم آخرون قبل أن يدرس علم النفس ، لكن التوازن بين قوى الإنسان وملكاته أصبح حقيقة علمية في العصر الحديث وينشأ كثير من أنواع الجنون إذا اختل هذا التوازن بل نحسب أن الانسجام محبب إلى النفس من الوجهة الجمالية وقد حاول كثير من الفلاسفة ـ وقد كانوا موفقين ـ أن يبحثوا في مثل هذا التوازن في المجتمع ويحدث جنون الفرد إذا هو أفرط في الأخذ بفكرة من الأفكار أو خيال من الخيالات وكذلك يحدث جنون الجماعة إذا هي أخذت بمبدأ واحد تمادت فيه ـ مهما كان هذا المبدأ سليما ، وما نظن إلا أن الإسلام كفيل بأن يؤلف بين كل تلك المبادىء فيرسل الانسجام فيها إرسالا.

ثم خلص من تلك الى أن رسالة الأزهر هي نشر رسالة التقدم الروحي والفكري والاجتماعي في البلاد الإسلامية.


ـ ١٣ ـ

ويقول الدكتور حسين الهمداني الباكستاني حول رسالة الأزهر : حفلت البلاد الإسلامية منذ انبثق فجر الإسلام بدور العلم ومعاهد العرفان في وقت كانت ظلمات الجهل تجثم فيه فوق ربوع العالم العربي ، ومع أن هذه الدرر كانت تتسم بطابع خاص هو الطابع الإسلامي فإنها كانت تتوسم في نظامها واتجاهاتها الحرص على توفير أسباب الطمأنينة في نفوس طلاب العلم وتوثيق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وإشاعة تلك الروح الجامعية التي يجب توافرها في معاهد العلم العليا مثل ما يشاهده المرء الآن في أعرق الجامعات العربية. ويلوح أنه لم يكن ثمة مناص من أن تغدوا المساجد والجوامع مقرا لنشر المعرفة كما كانت وما زالت مصدرا لبث الهداية والرشد في نفوس الناس في الوقت ذاته. ولم يكن هناك تعارض في اضطلاعها بالمهمتين ، فإن الدين الإسلامي الذي يأمر بالتسامح والمساواة ويحث على طلب المعرفة ولو اقتضى الأمر الاغتراب في مشارق الأرض ومغاربها ما كان ليجد خيرا من المساجد بجوها القدسي لغرس العلم والمعرفة في نفوس المسلمين ، بل إن اختيار المساجد لهذا الغرض يحمل في طياته الإقرار بقداسة العلم ووجوب تطهيره من حمأة الأغراض الدنيوية والبعد به عن كل جو ينحرف به عن قدسيته. وقد ظهر في الإسلام معاهد علمية عظيمة القدر رفيعة الاسم ، وكان الحكام يتنافسون في إنشائها ، فأنشىء الأزهر في عام ٣٦١ ه‍ (٩٧١ م) وأنشئت الكلية النظامية في عام ٤٥٩ ه‍ (١٠٦٦ م) ، وأنشئت الصالحية في القدس عام ٥٨٣ ه‍ (١١٨٧ م). وكان الغرض من إنشاء هذه المعاهد هي وغيرها بادىء الأمر ـ وباستثناء المستنصرية ـ هو تدريس المذاهب الدينية والدعوة لها ، فأنشىء الأزهر لتدعيم المذهب الشيعي في مصر بعد فتحها على يد الفاطميين.

وأنشئت النظامية هي والصلاحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى


لتدريس الرياضيات واللغات وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخا كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟ لقد كان هذا الأزهر ولا يزال ـ وأرجو أن يظل على ذلك أبد الدهر ـ دعاية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي. وقد أراد الله بالأمم الإسلامية خيرا حين كلأ هذا الجامع بعنايته ورعايته وصانه من غوائل الدهر ومن الانهيار. ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادىء حية. بدأ جامعا فانقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمتها وطابعها. وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا / آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقة من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها ، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث. وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وألف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية ، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قوية للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان ، فإن منهجه يجب أن يحتذى في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب ، عل أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة دون أن تنوه


ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية ـ حتى أن البعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد اخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرون الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه ، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعامتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله ... وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تتهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها.

ولكن ما لبث النظام «المدرسي» الجديد الذي أدخل على الأزهر أن أضعف من هذه الرابطة العلمية بين الطالب وأستاذه. ثم إن النظام يعمل على شحن ذهن الطالب بعلوم لا طائل تحتها ولا يدع له وقتا ولا ميلا للتعمق في نوع عين من المعرفة الإسلامية تعمق من شأنه أن يخلق لنا علماء من طراز الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ المراغي وإضرابهم من جهابذة العلماء الذين يفخر العالم الإسلامي بهم. والحق أن النواة لأمثال هؤلاء العلماء موجودة فإن الطلبة الأزهريين ما زالوا يتسمون بالروح العلمية ، وقد علمت من أحد القائمين على إدارة المعهد البريطاني في القاهرة أنه وجد في الطلبة الأزهريين الذين يتلقون اللغة الانجليزية في المعهد المذكور استعدادا وإدراكا وتعمقا وغيرة وإقبالا على العلم بما هو جدير بطلبة هذه الجامعة العريقة ، ونعتقد أن خير ما يمكن أن يفعله الأزهر هو أن يعمل جاهدا للعودة لذلك الجو العلمي البحث الذي عرف به وأن يقضي على نظام الامتحانات أو يعد له ، بحيث ينصرف الطلاب للعلم وحده دون النظر للإجازات العلمية كهدف يتعين عليهم تحقيقه للحصول على الوظائف.


وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات ، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية ، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالع ألا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وافق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة. وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والأعزاز ، يبثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي انفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوبة باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله او بعضه. أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه ـ بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى ـ أن ينشىء المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذا كانت بعض الجميعات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشىء معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطون وغيرها من المدن الكبرى


على غرار ما نراه من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط ازهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم.

ـ ١٤ ـ

وفي عام ١٩٥٢ نشر الأستاذ أمين الخولي في جريدة المصري مقالات متعددة عن «الدين والحياة» عرض فيها للأزهر بالتحليل والنقد ، وندد بحيرته في أداء رسالته ، فقال في المقال الأول الذي نشره له المصري في ٢٨ من أبريل من هذا العام :

هل أدى الأزهر رسالته ، بما هو بيئة التربية الدينية والتوجيه الديني؟ أن ذلك ليقتضيني أن أرجع بالذاكرة إلى ما قبل اثنين وأربعين عاما ، إذ أعود إلى عهد من النشاط دخلت فيه «مدرسة القضاء الشرعي ، لا تلقي تلك التجربة ، السياسية والعلمية ، والاجتماعية ، التي أرادتها مدرسة الإصلاح الديني الحديث ، من شيعة «محمد عبده» وعلى رأسهم ، سعد زغلول باشا ، فأرادوا في السياسة تجربة استقلالية مصرية ، في معهد لا تمتد إليه يد أجنبية ويتولى أمر نفسه ، في استقلال إداري وثقافي ، لا صلة له بوزارة المعارف ، ومستشارها العتيد إذ ذاك كما أرادوا تجربة علمية تلتقي فيها الثقافتان : القديمة والحديثة ، والشرقية والغربية ، إلتقاء معتدلا رزينا ، لا تجوز فيه واحدة على صاحبتها ، ولا تنكر واحدة منهما أختها .. وأرادوا مع ذلك كله تجربة اجتماعية ، في الإصلاح بالقدوة والمثل ، يشهدهما المجتمع ، فيرى مبصر ، ويسمع واع .. فعانيت في دار تلك التجربة ما عانيت أعواما .. دارسا ومدرسا ، ورئيس تحرير مجلة القضاء الشرعي ، أعود بالذاكرة إلى سنة ١٣٤٢ ه‍ ـ ١٩٢٣ م ـ حين انطلقت أرقب الحياة الدينية ، والتعليم الديني في أوروبا ، وأرصد شئونها ، لأقيد نتائج مقابلة


ذلك كله بما في مصر ، متتبعا ذلك ، في إيطاليا مقر البابوية ، بمعاهدها الدينية وفي المانيا وغيرها ، بالجامعات المدنية. ثم أعود بالذاكرة إلا ما بعد ذلك ، إذ أرجع إلى مصر فأشارك في هذه الشئون بها ، مشاركة مفكرة منظمة ، مشرعة معلمة إلى حوالي سنة ١٩٤٠ م ـ نحو سنة ١٣٦٠ ه‍ ـ ثم إلى ما بعد ذلك في تجربة معانية ، مراقبة ، عنيفة ...

أعود بالذاكرة إلى ذلك كله ، لأرقب سير التطور في هذه الناحية من صلة الدين بالحياة ، وإصلاح الدين ، والإصلاح به فأجيب عن أسئلتك ، بما يحدث به اتجاه ذلك التطور ، ودلالة سيره ، على هذه الرسالة الأزهرية وأدائها وعلى غير ذلك من الشئون الدينية الحيوية .. وإذ أعود إلى هذه المذكرات المحفوظة أو المكتوبة ؛ أذكر سنة ١٣٥٥ ه‍ ـ ١٩٣٦ م إذ التقى ثلاثة من جلة الأشياخ ، ومنهم رابع وآخر جامعي لتقدير ما كتب من أبحاث ، في مسابقة من تلك المسابقات التي أثارها على ماهر ، ومن بينها مسابقة عن رسالة الأزهر في القرن العشرين .. اجتمع هؤلاء المجتمعون ليروا كيف يقدرون ما كتب عن هذه الرسالة وبأي ميزان يزنونه .. فانتهى الأمر بعد لأي إلى أن للأزهر رسالات ثلاثا : رسالة اجتماعية وأخرى دينية وثالثة علمية .. وقبل الانتهاء إلى هذه الرسالات الثلاث كانت الرسالة الاجتماعية من بين هذه الثلاث موضع اعتراضات ومناقشات حادة طويلة من أحد أولئك الذين عهد إليهم الدهر بعد بالإشراف على أدائها .. فقيل : ما ذا تكون الرسالة الاجتماعية إلى جانب الدينية؟ وكيف تتغايران؟ وبم تختلفان؟ وهل للأزهر رسالة وراء وجوده الديني الإسلامي؟! وقيل في ذلك شيء كثير ، سجل بعضه بحث عن تلك الرسالة الأزهرية لصاحب هذه الكلمات ، بيانا لما كان من أمر الأزهر أول إنشائه دعاية لسياسة معينة وعقيدة معينة ، فعرف بذلك التوجيه الاجتماعي في نشأته ، فكيف به الآن ، وقد عمر في قومه أكثر من عمر نوح بخمسين سنة وأكثر .. ثم هذا الأزهر بعد ذلك وغير بيئة دينية قد تهيأ لها من أسباب المناعة والصيانة ما تستطيع به


حماية الشخصية المصرية خاصة والشرقية عامة والإسلامية جملة .. وقد كتب حول هذه المعاني وما إليها ما دفعته مطبعة الأزهر نفسه ، في ذلك الحين ، إلى أيدي القراء وخزائن الكتب تحت عنوان : رسالة الأزهر في القرن العشرين ، وفيه أن رسالة الأزهر الاجتماعية إنما هي : حماية الروح القومية لمصر والشرق الإسلامي. جماعة عاقلة. متبصرة متدينة لا تقف عند القشور ولا تعني بالتافه. وفي سبيل هذه الحماية يحتفظ هو لنفسه بالطابع المصري الإسلامي. ثم الشرقي. النافع ، الذي لا يعوق الحياة في تجددها ونشاطها العمل. مقدرا نواميس الاجتماع. وقوانين الحياة غير واقف في طريق شيء من ذلك. أو معارض إلا على أساس من النظر البعيد. والوزن الدقيق. أذاع الأزهر الحديث هذه الرسالة الاجتماعية على الناس شرقا وغربا. والأزهريون بالأمس. يعرفون العالم بأنه : العاكف على دينه العارف بحال قومه .. وللأزهر صحافة غنية راتبة. فما الذي كان من بحث تفاصيل هذه الرسالة الاجتماعية؟ وما الذي درس من اتجاه التطور الاجتماعي. والتجدد الدائم للحياة المصرية. والنشاط العملي لها؟ أما أنا فلا أعرف من ذلك شيئا. ولعل غيري يهديني إلى شيء من هذا التعرف للواجب الاجتماعي على الأزهر لحياة الأمة التي ساير حياتها ألف عام.

وفي المقالة الثانية التي نشرت في أول مايو ١٩٥٢ عن «الأزهر في حياة مصر الدينية» ذكر أن الأزهر هو الذي يحمي إحساس مصر ، والشرق الإسلامي بذاتهما إحساسا قويا واضحا ، وهو الذي يحمي روح مصر والشرق الإسلامي الخاصة ، وهو الذي يحمي الذوق المصري الشرقي ، الصالح ، ويحييه. وهو الذي يحمي الفضائل العملية المصرية والشرقية ، ويغري الناس بها ، وهو الذي يحمي العادات المصرية الشرقية الصالحة للبقاء ، ويقف بها في وجه العادات الغربية التي لا تلائم البيئة المصرية والشرقية ، وهو الذي ينظلأ فيما تقتبسه الحياة من جديد ، ويتدخل في هذا الاقتباس ، بتعقل ولباقة ، ليقاوم الضار منه ، على ضوء الهدى الإسلامي ،


والخبرة الاجتماعية والفهم الجيد لشئون الحياة .. فكل هذا وما إليه هو ما دعته تلك الهيئة الأزهرية رسالة الأزهر الاجتماعية ، وبالنظر في هذه الرسالة ، وجدناها حينا غير واضحة في أذهان رجال هذه البيئة ، وحينا ير معتنى بتعرفها ، وفهمها الفهم الصحيح ، وآنا قد غلبت البيئة الأزهرية غير شخصيتها ذاتها فاندمجت في التيار الغالب بغربيته .. وطورا يعوز هذه البيئة الاتصال بالحياة ، اتصالا قويا فعالا ، مؤثرا في سيرها وتوجيهها.

وقد تألفت لجنة بحث المسابقة عن رسالة الأزهر في القرن العشرين ، من الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ عبد المجيد سليم ، والمرحوم عبد العزيز فهمي ، ومعهم كاتب هذه الكلمات ، الذي عرض عليهم بعد الحكم في المسابقة ، ما كتبه قبلها ولم يدخل التحكيم ، وقررت اللجنة أنه الصورة المطلوبة في ذلك ، ونشره الأزهر مطبوعا ... وفي الناحية الدينية ، من رسالة الأزهر ، أقرت اللجنة من هذا المكتوب نواحي ثلاثا :

١ ـ بيان التدين الإسلامي المرجو اليوم.

٢ ـ الهيئة الدينية التي تقوم به وتحققه في هذا العصر.

٣ ـ الهدف الذي تعمل لتحقيقه ، أو الرسالة الدينية للأزهر.

ومن الحق أن أعتمد على ما أقرته اللجنة من ذلك ، فيما أحدث عنه ، من أمر الأزهر في حياة مصر الدينية الآن ، وأول ذلك أن تعرف الرأي في التدين الإسلامي المرجو اليوم ، كما اطمأنت إليه تلك الهيئة الأزهرية ، منذ ذلك الزمن غير القريب ، فهل ترى ، أنه تدين إنساني القلب ، نبيل العاطفة ، يؤيد التعاون البشري ، ولا يعوق الإخاء الإنساني ، وأنه ليس العصبية المقيتة ، المتعمقة الأفق التي تحتقر الآخرين وتنزلهم من مرتبة الإنسانية ، وتنكر صفتهم البشرية ، وأنه تدين لا يعرف تلك السلطة الغاشمة التي ترهب العقل الطليق ، وتفت في العزم الوثيق ، وتفسد الذوق الدقيق.


وتحتكم بجبروت لاهوتي في حياة الدنيا ، وتسد الطريق إلى الآخرة ، وإنه تدين لا يخلق تلك الطبقة التي تحتكر الدين ، وتسد المسالك إلى الله ولا يعترف بتلك الطبقة أن خلقتها الظروف ، لأنه لا رياسة في الإسلام ، وكلهم قريب إلى الله سبحانه وتعالى ، ومن التدين على هذا الوجه ، ترى الهيئة الجليلة أن يشتق الأزهر صنعته الدينية ، ومن التدين على هذا الوجه يتبين الأزهر رسالته الدينية ، وما أخال مفكرا يشك ، في أن هذا التدين هو أولا ، أقرب ما يكون من حقيقة الإسلام ، وجوهره ، ثم هو ثانيا ما تتطلع إليه الروح الصافية ، الطامحة المخلصة ، البارئة من كل وهم ، أو جهل ، أو تعصب أو جحود أو حمق يسيء إلى الحياة ، وأعود بالذاكرة إلى سنة ١٣٥٥ ه‍ ـ ١٩٣٦ م ، فأرى مؤتمر الأديان العالمي يعقد في ٣ يوليو من سنة ١٩٣٦ نفسها ، ويدعى إليه الأزهر ، فيبعث إليه حضرة صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر برسالة. في موضوع الزمالة الإنسانية ، تنشر بمصر في شهر يوليو من السنة ذاتها.

وترى في هذه الرسالة أنوار من آفاق التدين الإسلامي الوضيء ، الذي قرأت آنفا وصفه ، فهي تحدثك عن زمالة عالمية يتعاون فيها أصحاب الأديان جميعا ، تعاونا حقا جادا على تحقيق أغراض معنوية ، وأغراض عملية جليلة مسعدة للإنسانية المعناة بالبغضاء والجهل والبؤس ،. فأما الأغراض المعنوية التي تسعى هذه الزمالة الإنسانية لتحقيقها فهي في إجمال إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني ، في تقريب ما بين الناس .. وأما الأغراض العملية فهي ـ على الإجمال ـ جعل التدين أداة فعالة في تهذيب الجماعة وتمكين العوامل المعنوية ، التي تشترك فيها الأديان ، من التأثير في الحياة الإنسانية الواقعية ، وتصيير الفضائل العملية التي تدعو إليها الأديان كلها نظما عملية ... كما أنها تعد الوسائل المختلفة لتحقيق تلك الأغراض النظرية والعملية من الدرس والتوجيه ، وإيجاد الهيئات و.. و... مما تجده واضحا في تلك الرسالة التي نشرها الأزهر


نفسه ، بالعربية والانجليزية في يولية سنة ١٩٣٦ م ـ والتي نشر في أبريل منها ما كتبه عن رسالة الأزهر.

وفي مقالة أخرى نشرت بعنوان «الأزهر والعمل الديني» ذكر فيها فيما ذكره أن الأزهر هو هذه البيئة الدينية الأولى والكبرى ، في مصر والشرق .. هذه البيئة التي لبثت كثيرا ، تؤدي في مصر والشرق رسالة دينية ، هذه البيئة التي ستظل دهرا طويلا تؤدي في مصر والشرق رسالة دينية وللدين عمله في الحياة ، منذ دبت الحياة على ظهر الأرض .. وسيكون للدين أثره على الحياة ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

في هذه البيئة آلاف مؤلفة ـ كما تعرف ـ ما بين طلبة دراسين وأساتذة مدرسين ، وعلماء منقطعين للبحث ، ورجال إدارة في مراكز مختلفة ، بالأزهر ، وموظفين موكلين بأعمال دينية لمصر كالواعظ ونحوهم ... وكل أولئك أهل للنشاط العملي ، والتدبير الديني لحياة مصر ، بل هم أحق بالتدبير العامل لحياة مصر ، من أهل أية بيئة أخرى ؛ علمية أو عملية بها .. وذلك أن ما يقوم به الآخرون ، غير الأزهريين إنما يدفعهم إليه شعور الوحدة الاجتماعية ، التي تربطهم بقومهم ، ويحتاجون في إثارة هذا الشعور بتلك الوحدة ، إلى معان بعيدة ، لإدراك أنهم بإصلاح حال قومهم إنما يهيئون المجال الحيوي ، الذي يجدون فيه فرصة تكميل أنفسهم وترقية وجودهم ، والحياة السعيدة الكريمة التي يطمعون فيها ، وبدون هذا المجال الحيوي ، من المجتمع الصالح الخير ، يستحيل على الفرد أن يجد فرصة لكمال نفسه هو ، وتحقيق وجوده الصالح السعيد ، وحين يتنادى أهل البيئات غير الدينية بهذه المعاني الاجتماعية ، ويجهدون في العمل لتقوية الشعور بها ، تجد أهل الدين يشعرون بمثل تلك الحقائق شعورا قويا ، تمده عقيدة وجدانية ، أصيلة بأن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر هو ما به دون غيره ، تكون الأمة خير الأمم ، وبدونه تكون الأمة ملعونة وهذا هو ما يتعبدون بتلاوته ، ويتفقهون بدرسه ، ويتواصون باتباعه ، والأمر بالمعروف


الزام بكل خير ، والنهي عن المنكر تجنيب لكل شر ، وعمل الفرد فيه يفيد الناس جميعا. وإهمال الفرد له يضر الناس جميعا ومن هنا تكون تلك الآلاف المؤلفة بالأزهر ، إذا سلمت فطرتها ، وصحت عقيدتها ، مصدر قوة كبرى في الشعور بوحدة الجماعة ، ومبعث نشاط عامل للمعروف ، مانع من المنكر ، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر ، ويقلد فيهم لاحق سابقا ، ويفتدى آخر بأول فهم جميعا يتنفسون في الجو الديني ، وهم إما معلمون يقررون هذه الأسس الدينية ، أو متعلمون يستمعون لهذا التقرير ، أو مديرون قوامون على توجيه هذه البيئة نحو غايتها ، والإشراف على خطوات سيرها إلى تلك الغاية ..

وقد رد على الأستاذ أمين الخولي وآرائه الأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء في سلسلة طويلة من المقالات الممتعة ، كما رد عليه الأستاذ الشيخ محمد الشربيني عضو الجماعة ورئيس جبهة علماء الأزهر في مقالة واحدة.

ويقول الأستاذ الجليل الشيخ محمد كامل حسن وكيل كلية اللغة العربية معبرا عن رأية في رسالة الأزهر :

رسالة الأزهر هي رسالة نبي الإسلام وإنما ينجح العلماء في أداء هذه الرسالة بما نجح به نبي الإسلام على عاملين لا ينفك أحدهما عن الآخر عامل البيان وعامل السلطان فقد بدأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يزل يتنقل بالعقول التي خضعت للوثنية ، ويذلل لها طريق الهداية إلى المبادىء الإسلامية ويوجهها إلى النظر في الآفاق والاعتبار بالآيات ويتعدها بالأدلة المقنعة في أسلوب الحكيم الماهر حتى استطاع بحكمته السامية وحجته الباهرة أن يقنع الناس بصدق الوحدانية وأن يبين لهم أمر دينهم ودنياهم معا ، حتى وضح لهم ما أحل الله لهم وما حرم عليهم ودخلوا في دين الله أفواجا عن بينة واختيار (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). ومن طريق هذا البيان أصبح


الحلال بينا والحرام بينا كما قال عليه الصلاة والسلام ومع ما قام به الرسول من بيان أوضح معالم الحلال والحرام فقد اعترضه في سبيل الدعوة إلى الله صناديد قومه الذين أكل الحقد قلوبهم فعز عليهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم برغم ما لمسوه من أنه نبي حقا وأن ما دعا إليه هو الحق وعرفوه كما يعرفون أبناءهم. وقف هؤلاء في سبيل دعوته وحرضوا على قتله وأذوا أصحابه بأنواع الأذى وكادت هذه الفتنة تزلزل أثر الدعوة التي قامت على الحجة والبيان لو لا أن تداركه مولاه بالعناية وأمره بالجهاد وأمده بالعامل الثاني عامل القوة والسلطان فأعطاه السيف لا حبا في إراقة الدماء ولكن ليزيل من طريق الدعوة هذه العقبات وليسعد العالم بالإسلام رغم أنوف هؤلاء المعاندين المعترضين سبيل الدعوة إلى الله ، فلما وضع السيف في أعناقهم محا الله صولة الكفر والكافرين ورسخت دعوته التي قامت على الحجة والبيان بعد أن عززه الله بالقوة والسلطان لذلك يقول سيدنا عثمان بن عفان : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» إنه لقول حق وفيه الموقف الفصل ومنه يتبين للمنصفين أن رسالة الإسلام إذا قامت على البيان فإنها لا تكمل ولا تتم إلا بالعامل الثاني عامل السلطان الذي غير معالم ظلم الظالمين وأزال صولة الكافرين والمعاندين ومهد للإسلام والمسلمين نعمة التمام والكمال في قول الله عز وجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

فتعالوا أيها السائلون عن رسالة الأزهر ، وهل أدى العلماء رسالتهم أو لا؟ تعالوا لنقول لكم كلمة الحق والحق أحق أن يتبع. لقد قام العلماء بواجبهم بالنسبة للعامل الأول عامل البيان وتذكير الناس بمواطن الحلال والحرام ففريق منهم يعلم أبناء المسلمين أحكام دينهم في كلياتهم ومعاهدهم ليتخرجوا للناس دعاة إلى الله ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم ـ وفريق منهم يقوم بالوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين وما شجر بين الناس في البلاد وما زالوا يجاهدون ويتنقلون لهذا في كل وادّ.


وفريق من العلماء يقوم بتعليم العامة في بيوت الله تعالى حين يجتمعون للصلاة وإذا كان في كل مسجد عالم يدعو إلى دين الله فكثير ما هم. وإذا أردت أن تعرف صدق القول في ذلك فاسأل أي رجل في عرض الطريق عما يعرف من واجبات دينه فيقول لك مثلا الصلاة الزكاة الحج الصوم صلة الأرحام وكل ما يعز دين الله ويسعد الأوطان ثم سله عما حرم الله فيقول لك : الربا الزنى الخمر الغيبة والتميمة وكل سعى بالفساد بين الناس وهكذا والعامي الذي يجيبك بهذا لم يولد من بطن أمه عالما بهذه الأحكام ولكنه مدين في علمه بذلك لبيان العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

بعد هذا اعترف للسائل بأن العلماء وإن أدوا رسالتهم بالنسبة لعامل البيان وعليه تقوم نصف الرسالة فإنهم لم يقوموا بتنفيذ ما بينوا للناس من معالم الحلال والحرام ، فهم يرون شارب الخمر يشربها ولا يكسرون كأسه ويرون الربا قد فشا التعامل به ، ولم يقضوا على آثاره ويرون النساء العاريات متبذلات ولا يتعرضون للقضاء على هذه المظاهر الخلقية بالقوة والسلطان. ويرون كثيرا من النكرات يقوم بها العام والخاص ولا يستطيعون تغيير هذه المنكرات إلا بقلوبهم وذلك أضعف الإيمان. أتدري أيها المنصف لما ذا؟ لما ذا ضعف العلماء عن تغيير هذه المنكرات؟ لأن زمام الأمور لما تولاه في الماضي قوم وهنوا في أمر دينهم استطاع المستعمرون أن يستخدموهم في نزع السلطة الدينية من العلماء ومكنوا لهم حتى شرعوا للناس قوانين وقفت عقبة في سبيل الدعوة إلى الله ، وحالت دون تغيير ما حرم الله فالعالم إذا تعرض مثلا لكسر الكأس الذي بيد شارب الخمر أدين في القانون الذي رخص بشرائها وشربها والتجارة فيها وإذا تعرض لبيان قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) اعترضه المشروع الذي أحل الربا ورخص للقضاء أن يحكم به. وإذا نهى العالم عن مظاهر الفتنة التي يتسابق فيها النساء الفاجرات رموه بالرجعية وأنه عدو الحرية وإذا أبان للناس ما كرم الله به المرأة من قوامة


الرجل عليها والقيام بخدمتها ونفقتها ووضعها دون الحجاب الذي يحفظ لها كرامتها ويديم عليها بهجتها لا يجد في المجتمع ما يؤيده ويساعده لأن الناس مغرمون بالتشريعات التي تبيح للمرأة الاختلاط بالرجال ومثل هذه التشريعات تحمل المرأة على أن تترجل وتحمل الرجل على أن يتخنث.

الحق أقول لك أيها السائل : إن في النفس شيئا كثيرا ، ويكفي أن أقول لك : إن الرسالة الأزهرية لا يتم أداؤها إلا إذا تعاون معهم أهل السلطان ، وهذا هو المنتظر بعد أن يتم القضاء على الاستعمار وأذنابه.

الأزهري وواجبه الديني والروحي

يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم ونوره ولو كره الكافرون. ضلت الإنسانية وذلت البشرية ، إن لم تهتد بنور الإسلام المشرق. وترو سحابة المغدق وتستظل بظله الوارف الأمين. وساء مثل الأمم والشعوب إن لم تؤمن بهذه الشريعة الباقية الخالدة ، وذلك الكتاب السماوي الحكيم ، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم نورا وهدى للناس وروحا وذكرى للعالم وللمؤمنين. وشاهت وجوه أولئك الوارثين لمجد الإسلام الخالد وتراثه التليد. إن لم يضربوا أروع المثل في سبيل الله ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون كما ضرب أسلافهم الأرواع المشابيب أكرم الأمثال وقاموا بأروع التضحيات والجهاد ، لتكون كلمة الله هي العليا. لقد وقعت المعجزة منذ أربعة عشر قرنا : على يدي هادي الإنسانية وناشر السلام وعلم الدنيا والآخرة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى أيدي أصحابه الأبطال الميامين ، فعلت كلمة الحق ، ونشرت راية الفضيلة ، ورفع لواء الحضارة والمدنية والثقافة ، وظهرت على دول العالم القديم الأمة الإسلامية المؤمنة ، فكان لها الفوز الأكبر ، والنصر المؤزر ، والكلمة العليا ، والشرف العظيم. فلم لا يقوم الأزهر بمثل تلك المعجزة من جديد؟ فيقودها ثورة صارمة في وجه الباطل ، وهداية حكيمة تملأ مشارق الأرض


ومغاربها نورا ، حتى يطمئن العقل الحائر ، ويسعد العالم الشقي ، وتنعم الإنسانية المعذبة ، وتسود كلمة الحق والخير والفضيلة ، وتعود الحياة سيرتها الأولى. ولم لا يستصغر المشقات في جانب روح الأبد ، وراحة الضمير ... لا يأس في الدعوة ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولا ونى في الهداية ، فإنه لا يبني في ميدان الجهاد إلا من لبس إيمانه بظلم ، ولا عمل إلا لله ورسوله ، فإن أجدر عمل بالظفر والسداد ما كانت غايته الله ورسوله. فإما أن يحيى للدعوة مجاهدا لإظهار كلمة الله ، وإما أن يموت في ميدانها شهيدا.

أين الأزهري الذي يدعو الناس بخلقه وأدبه وطريقته ، إلى ما يدعوهم إليه بقوله وبيانه وحجته؟ .. وهل تكون العظة ذات أثر إلا إذا صدرت من مؤمن عامل بها ، وممن يأمر بالمعروف ولا ينسى نفسه؟ فما أفحم الداعي إلى مكرمة لم يندب نفسه لها وإن كان بليغا منطقيا. على الأزهري أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجة البالغة ، والآية المبصرة ... يأخذ الناس على حسب عقولهم ، ويكلمهم بما يؤثر في نفوسهم ويعرض عليه نواحي الجمال في العقيدة الإسلامية ، ويبين لهم ما فيها من دعوة إلى الحق والخير والجمال والعدالة ، ومن إعزاز للنفس الإنسانية وسمو بها ، وتكريم لقدر الإنسان في الحياة ، وما فيها من ألوان الإصلاح في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم والعمران ، ومن سماحة في المبادىء وسهولة في التشريع ، ويسر في الشعائر ، وما فيها من ديمقراطية عالية ، وروحية سامية ، وإخاء كريم وعدالة ومساواة وإيثار ضربت بها الأمثال بين الناس. وعليه أن يضرب لهم الأمثال بالأسلاف الأولين ، وما كان لهم من المواقف الرائعة ، والمشاهد الماجدة ، والصفحات الناصعة في كل ميدان ... وأن يفصل لهم المدى الذي بلغته الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي ، وما كان لهما من آثار بعيدة في النهضة الغربية الحديثة. وأن يعاضد رجال الفكر والثقافة والصحافة ، ويتخذهم أصدقاء يساعدونه على أداء رسالته الدينية


ونشرها بين الناس ، وأن ينشىء الجمعيات الدينية التي تسهم بنشاط في نواحي المجتمع ومرافق الأمة ، وعلى الأزهر أن يهضم الثقافة الإسلامية القديمة ، ويحيلها غذاء عقليا جديدا بأسلوب يتفق وروح العصر والزمن ، إن الأزهر داعية للدين والخير .. فعليه أن ينهض بالعبء ويحمل الرسالة ، ويؤدي الأمانة. وأن يرشد الناس من جديد إلى كل ما في الدين من حق وخير وجمال.

والتصوف والسمو الروحي في الإسلام جدير بتأمله ودراسته وإذاعته بين الناس ، ليفهموا رسالة الروحية الحقة ، والسلام الأبدي ، والطمأنينة النفسية العميقة ، التي هي «الطب الروحي» و «العلاج النفسي» الصحيح ، الذي سبق بالكشف عنه فلاسفة الإسلام ومتصوفوه منذ أجيال مديدة في تاريخ الحياة.

الأزهري كما ينبغي أن يكون

كتب الأستاذ الأكبر المرحوم محمد مصطفى المراغي حول هذا الموضوع يقول :

أول ما يجب أن يكون عليه الأزهري : هو المحافظة على الشعائر الإسلامية محافظة تامة بحيث لا يقصر في شيء منها ، ولا يمكن غيره من الاحتفاظ عليه بزلة ، حتى يكون قدوة بعمله لا بقوله فحسب ، والقدوة العملية تترك في النفوس أثرا صالحا ، تؤثر فيها ما لا تؤثره الأقوال ، والشعائر الدينية في جملتها من أكبر الوسائل لطمأنينة النفس والتحلي بالأخلاق الفاضلة ، وهي التي توجد الصلة بين العبد وربه ، وتقوي صلات الأفراد ، وتحسن حال الجماعات ، ويصاحب هذا ملازمة الأخلاق النبوية ، والتبصر في هدى القرآن والسنة ، ومجاهدة النفس ورياضتها على احتمال الأذى والمكروه في سبيل العمل بالأخلاق الدينية وأداء الشعائر الإسلامية ،


حتى تصير الفضيلة شعارا وملكة ، وحتى تصدر أعمال الخير من غير تعمل وروية. ومن لوازم الداعي والمرشد أن يكون شجاعا صادقا قوي الإيمان بما يدعو إليه يرى في الإقدام لذة ، وحقا للنفس الخيرة يؤديه احتسابا لله لا على أنه مكلف به ، يؤديه للأجر وزيادة الدرجات والمرتبات ، ومن حق الداعي أن يكون بصيرا بالوسط الذي يعيش فيه ، خبيرا بأحوال النفوس ، واسع الحيلة في التنقل من طريق إلى طريق ، يقصد إلى الهداية المطلوبة من طريقها النافع. وليس أفعل في النفوس من جلال تسكبه التقوى وملازمة حدود الله ، ومن جمال يلقيه العلم الناضج على صاحبه ، ومن هيبة يوجدها الإعراض عن الدنيا وعدم الحرص عليها ، وقد شاهدنا فقراء ليس لهم جاه رسمي ، ولا عزة عصبية ، يهابهم أصحاب المقامات الرفيعة والأموال المكنوزة ، وينكمشون أمام هيبتهم التي بسطتها التقوى وزانهم بها العزيز الحكيم.

والحرص على الدنيا يفسد على العالم لذة العلم ، ويفسد عليه الغاية التي يطلبها ، وهي الهداية ، والناس لا شك زاهدون في العلماء إذا رأوهم مقبلين عليها معرضين عن الآخرة. فلتكن الدنيا مطلوبة بالقدر الذي تستحقه ، وفي الدرجة التالية لدراسة العلم وتحصيله واللذة به نفسه ، وباعتباره وسيلة من وسائل الآخرة ، وطريقا لرضي الله ورسوله. ولقد كانت للأزهريين تقاليد متوارثة محمودة ، وهي عطف الكبير على الصغير ، وتوقير الصغير للكبير ، واحترام الأسلاف ، والصبر على الدرس والتحصيل ، وتفهم المسائل بعللها وأسبابها وما يتفرع عنها ويتولد منها ، لا يبالون في سبيل ذلك بالوقت والجهد ويرونه أكبر لذة للنفس وأكبر متاع للعقل ، ويرونه واسطة المجد وطريق الشرف والكرامة ، وكان طالب العلم إذا لم يفهم كتابا أعاده ، وإذا لم يفهم مسألة فتش عمّن يفهمها منه ، وكانت اجتماعاتهم لا تخلو من المذاكرة في مسألة من مسائل العلم ، وقد رأينا منهم من كان أهلا للتدريس وللتقدم للامتحان وكان يحجم لأنه يريد الاستزادة وتكميل النفس ،


فالعلم نفسه تفوق لذته لذة الحصول على الدرجة ، والدخول في مضمار الحياة. كانوا يجيدون تحضير الدروس قبل إلقائها على التلاميذ بقدر ما بسمح به الجهد. وكان الطلبة يجيدون تحضير الدروس وفهمها قبل تلقيها عن الشيوخ بل كان نوابغ الطلبة لا يذهبون إلى تلقي الدروس إلا لحل مشكلة عرضت لهم. أو انتظار لتحقيق مسألة من مسائلها .. كانوا يفعلون هذا مع الطمأنينة واللذة وسعة الصدر ، لا للنجاح في الامتحان ، ولا لطلب الرزق. وكانت القناعة تجمل فقرهم وتزين علمهم ، لا يمكن أن يمر في خاطر أحدهم أن الفقر نقيصة ، وأن الإسراف في البحث مضيعة للوقت.

ولا ننكر مع هذا أن ملازمة بعض المؤلفات المختصرة ، وترك المناهل العذبة من كتب الأسلاف ، وعدم التوسع في الاطلاع على تراث الأقدمين ، ضيق دائرة التفكير ، وأوجد إسرافا في تحليل الألفاظ وإبداء ما تحتمله من الوجوه ، وأوجد انحرافا عن الجادة القويمة في طلب العلم وبحث مسائله وتحقيقها ، وبعدا عن أساليب اللغة العربية الصحية ، وإعراضا عن مسايرة الناس في الحياة وإدراك ما تتطلبه الحياة بل وشغلهم عن القرآن والسنة من ناحية الهداية التي جاء لها القرآن ، إلى نواح أخرى متكلفة. وتلك هي الأدواء التي ألم منها الناس وسعوا لإزالتها.

لكن في الوقت الذي نريد فيه إزالة هذه الأدواء ، لا يصح أن ينسى الأزهري جوهر تقاليده ، بل يجب عليه أن يحافظ عليها ، وأن يصرفها إلى وجوه الخير ، وما يعود على دينه وأمته وملته بالصلاح والفلاح.

حول رسالة الأزهر

في مساء الاثنين ٥ من جمادى الأولى سنة ١٣٧٥ ه‍ (١٩ من ديسمبر ١٩٥٥) عقد في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين مؤتمر


إسلامي كبير ليبحث فيه «رسالة الأزهر الشريف اليوم».

افتتح المؤتمر فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي الرائد الديني لجمعيات الشبان المسلمين فقال : الأزهر اليوم في محنة ، وما أكثر المحن التي مرت عليه ، ولكن محنة اليوم كبطون الليالي المثقلات بالعجائب ، وذكر أن مهاجمة الناس للأزهريين لم يقصد بها ذلك ، وإنما قصد بها محاربة رسالتهم ، وقال : والناس في شأن الأزهر ثلاثة أصناف : صديق محب ، وناقد منصف ، وعدو حقود. فالصديق المحب يفضل مقام المؤيد على مقام المحاسب المؤاخذ ، والناقد المنصف يروم الكمال ويبغي الرفعة ، وأما العدو الحقود فهو الداء الذي يستعصي على الدواء.

ثم قال : وكبر مقتا عند الله أن ننكر ما بالأزهر من حاجة ملحة إلى الإصلاح ، ولكنه جامعة كبرى يعروها ما يعرو كل كريم من تقلبات الزمن ، وقد يكون لبعض المنتسبين إليه ذنوب تحتاج إلى التهذيب. ثم ذكر فضيلته : الفرق بين كلمتي «الأزهر» و «الأزهريين» وقال : إن الأزهريين طائفة يجوز عليهم الخطأ والزلل ، ولكن خطأ الأزهري يكون أوضح مما سواه لأنه مطالب بأن ينفي غاية جهده مواطن الشر من نفسه ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولقد يغدو الأزهري أو يروح على كلمة ثناء أو تقدير ، ولكنه يغدو على سهام التجريح من مواطنيه.

وفكر فضيلته : أن الأزهر في غير وطنه حصن الإسلام الحصين ، وأبناء الإسلام في جميع البلاد يتطلعون إليه كما يتطلعون إلى المساجد الثلاثة ، وإذا كانت الرحال تشد إلى هذه المساجد تعبدا فإنها تشد إلى الأزهر تفقها وتدبرا ، لينذر أصحابها أقوامهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ، والتعبد لا يكون صحيحا إلا إذا قام على التفقه في الدين.

ثم قال : لعل الذين أنشأوا الأزهر أرادوا أن يكون مظهرا من مظاهر الطائفية في الملة ، ولكن الله لم يرد للأزهر إلا أن يكون للإسلام


والمسلمين ، ولقد زال دعاة الطائفية المذهبية ، وبقيت للأزهر عربيته وإسلاميته. ثم ذكر فضيلته أن الناس يرون في الأزهري أنه رجل الدين ، وأن واجبه أن يقول للمخطىء : أخطأت. مهما كان شأن هذا المخطىء ، وأن يغار على حرمات الله ، ولكن الواجب على المجتمع أن يمكنه من ذلك. وذكر : أن البرلمانات في الدول الحديثة تعطي حصانة للنائب تمنع عنه الأذى ، فإذا أريد لرجل الدين ذلك كان من واجب المجتمع أن يضمن له حصانة حتى يأمن على نفسه وأهله وكرامته.

وإذا كنا نغار على الأزهر أشد الغيرة ، ونذود عنه سهام الكائدين له فإننا في الوقت نفسه نذكر ما على أبنائه من واجبات ضخام ومسئوليات جسام ، فما كان لهم أن يرضوا بموروث الذكر الحكيم ولا يمنوا أنفسهم بمقام كريم ما لم يؤدوا لذلك حقه ، فعليهم أن يحسنوا القوامة ، وأن يبرهنوا قولا وعملا على أنهم أهل لذلك ، وإلا مكنوا غيرهم من مهاجمتهم ، وأن يتقولوا عليهم بالحق والباطل.

واختتم فضيلته حديثه بقوله : فليحذر الأزهريون زائد الثناء ، وليتذكروا دائما أن بقاءهم في الحياة لا يكون إلا بأداء الواجب. وليحذر أعداء الأزهر لعنة التاريخ ونقمة الجبار ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية عن «الأزهر والعالم الإسلامي» فقال : إن صلة الأزهر بالعالم الإسلامي بدأت منذ بدأ الأزهر ، واستمرت في كل طور من أطوار تاريخه. الأزهر ذلك المعهد العتيد دارت الأزمان المتطاولة وعلوم الأمم المختلفة ما هو في أقصى الشرق وما هو في أقصى الغرب. الأزهر هو ذلك المعهد الخالد الباقي وإن رغمت أنوف وعفرت جباه. ثم ذكر فضيلته أن المسلمين كانوا يعيشون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون ، ويتهذبون حتى


انتقل إلى الرفيق الأعلى ، ثم تفرقوا في البلاد غازين فاتحين معلمين للناس ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف أن هذه البلاد استفادت منهم وتخرج عليهم علماء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الأزهر جمع علم هؤلاء جميعا وعلم مدارسهم كلها من مكة والشام والمغرب وغيرها من البلاد.

وقال بعد ذلك : إن الأزهر منذ بدأ وله علاقته بالعالم الإسلامي لا في الثقافات والمؤلفات فقط ولكن في عالم الأشخاص ، وإلا فما هذه الأروقة الكثيرة من أروقة اليمن ، والأتراك ، والجاويين ، والهنود ، إلى غير ذلك.

إن الأزهر يبدو ـ كما يقولون ـ منطويا على نفسه ، ولعمري إن هذه فرية ، متى كان الأزهر منطويا على نفسه؟ الآن ..؟ أم في أعماق التاريخ؟ لا أريد أن أقول : إن محمدا عبده قد ذهب إلى بيروت وأوروبا وغيرهما .. ولكني أريد ضرب مثل برجلين من رجال الأزهر القديم هما الشيخان حسن العطار ، والدرديري ، وذكر ما كان لهما من أثر جليل في محاربة الفرنسيين ، وقيادة الشعب وتأليبه على الغاصب.

أما رجال الأزهر حديثا فهم أكثر من أن يحصوا ، فعلماؤنا اليوم في كل صوب وبلد ، ـ ثم أشار إلى فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر ـ وقال : وهذا مثل قريب منا فضيلة الأستاذ النمر سيذهب إلى الهند في الأيام القليلة المقبلة مبعوثا من الأزهر إليها.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر الشريف فقال : أستطيع أن أحصر كلمتي في سؤالين ثم أجيب عنهما أولا : لم كان الأزهر؟؟ .. ثانيا : ولم كان في مصر وعاش بمصر؟. ثم ذكر أن الدعوة الإسلامية كانت تمتد في أعماق البلاد على ألسنة من يرتحلون من قطر إلى قطر ـ وأن هذا ليس بكاف للتعليم ـ ظلت كذلك مرحلة من الزمن حتى جاء الفاطميون ، وأقاموا الأزهر.


ويقول المؤرخون : إن الأزهر ولد لحاجة سياسية وهي الطائفية ، وأعتقد غير هذا. وهبوا أنهم كذلك! فهل قصدوا من إيجاده أن يستأثروا به دون غيرهم ، وأن يستخدموه للقضاء على المذاهب الأخرى؟ هم شيعة ولا شك أنهم مسلمون على أية حال لاشتراكهم معنا في الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا ـ وإن الختلف مذهبهم الفقهي عنا أقول : إن مصر دخلها الإسلام سنة ٢٠ هجرية ، وقبل دخوله كانت مسيحية ، وقبلها كانت يهودية أفلا يجوز في نظر العقل أن يكون قصدهم اكتساح اليهودية والنصرانية بإقامة الأزهر؟. تأكدوا أن الأزهر لو كان موجودا لفكرة خبيثة لفني بفنائهم .. ولكنه بقي وبقي وسيظل بإذن الله باقيا .. ثم بين فضيلته أن الأزهر بقي على رسالته العلمية مع تطوره بتطور الزمن وأنه لم تبعث نهضة وطنية إلا والأزهر باعثها ومتعهدها. وان الأزهر له مكانته العلمية في جميع البلاد ، وما زالت الفتوى ترد إليه من جميع الأقطار لأنه قبلتهم الثانية وأن الأزهر يرسل علماءه إلى البلاد حسب إمكاناته. ثم قال : هم يظلمون الأزهر بقولهم إنه جامد لا يجدد.

وقال فضيلته : إنه لا بد وأن يكون للأزهر أعداء وخصوم لأن هذا شأن كل عظيم ثم اختتم كلمته بقوله : أعلن أن الأزهر كما أنه في ماضيه وأمام العقبات الوكداء لم يتخلف ولم يغلق أبوابه ، ولم يسرح علماءه هو في حاضره كذلك ، وسيظل فاتحا بابه ناشرا كتابه معلما أبناءه.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ كامل محمد حسن وكيل كلية اللغة العربية فبين أن رسالة الأزهر هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن علماء الأزهر لا ينجحون في دعوتهم إلا إذا سلكوا مسلك صاحب الدعوة ، وبين أن هذا المسلك ينحصر في شيئين : الأول : البيان للناس وتعليمهم أمور الدين. والثاني : القوة. وبين فضيلته : أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعامل الأول فكشف الحجب ، وطهر العقيدة حتى آمن الناس عن رغبة ، ولما تخلف عن ذلك قوم حقدا لا عن جهل ، وحسدا لا عن عقيدة ؛ أعطاه الله العامل الثاني


ليسعد الناس بالإسلام رغم أنوفهم (والمرء يثاب رغم أنفه).

ثم قال : لقد علق أحد الغيورين على ذلك بقوله : إذا كانت للعلماء قوة التأثير فهم ليسوا بحاجة إلى القوة. وجوابي أن ذلك ممكن لقوم يريدون معرفة الحق ، ولكن قوما عاندوا لا بد لهم من القوة فقد عميت بصائرهم. وليس العلماء مهما بلغوا من قوة التأثير بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك احتاج الرسول إلى الجهاد ليخرج به المعاندين إلى حكم الإسلام. وقال فضيلته : وأخيرا أعود فأقول : هل أدى الأزهر رسالته؟ الحق أن الأزهريين أدوا نصف رسالتهم التي تتعلق بالبيان ، وعجزوا عن النصف الآخر ، وهو العمل. ثم ذكر أن المسئول عن ذلك هو الاستعمار فإنه وضع العقبات في طريق الأزهر ، وأيضا القوانين التي تحمي الخارجين على الدين.

واختتم فضيلته كلمته بقوله : لا بد من العلاج لنؤدي النصف الآخر ، وإن من حق الأزهر أن يتطلع إلى رجال الثورة في مد يد المساعدة على ذلك ، ويوم أن يتم يكون العلماء كالماء يساق إلى الأرض الجرز فينبتها ويخرج ثمراتها يانعة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ثم تكلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي فشرح كلمتي «المجتمع» و «الأزهر» فذكر أن المجتمع يطلق على الأسرة والقبيلة والشعب والأمة والعالم ، وأن كلمة «الأزهر» كانت تطلق على الجامع ثم أطلقت على المعهد ثم على الجامعة العلمية ثم على الجامعة العلمية الإسلامية. وقال فضيلته : فهل هذا التطور في كلمتي الأزهر والمجتمع له تطور في التلازم بينهما؟ أرى أن كلمة الأزهر تعني كلمة الإسلام ، فالصلة بين الأزهر والمجتمع هي الصلة بينهما ـ الإسلام والمجتمع ـ ثم تساءل : هل يؤخذ على الأزهر ما يقع في المجتمع من الرقص التوقيعي والأغاني الخسيسة التي تغزو قلوب الشبان والشابات؟ هل يؤخذ عليه الحملات التي توجد في الصحف من صور عارية وقصص مثيرة؟ ليس الأزهر من القوة


بحيث يطور هذا المجتمع أو يخلع عليه تلك القوة إلا إذا كان هناك تجاوب بينه وبين المسلمين. ثم ذكر فضيلته : أن الأزهر في العرف التاريخي هو كالمسجد الذي ينشأ قبل المدينة ثم تبنى المدينة بعده ، وضرب أمثلة لذلك بمسجد عمرو بن العاص ومدينة الفسطاط ، وجامع طولون ومدينة القطائع ، والمسجد الأموي ومدينة دمشق .. الخ.

ثم حي فضيلته كثيرا من رجال الأزهر أمثال عز الدين قائد الجيوش ضد التتار ، والشيخ الدرديري وعمر مكرم الذي وقف أمام نابليون ٣٧ يوما ، والشيخ عليش وغيرهم وغيرهم وغيرهم وحي كذلك منبر الأزهر الحر الذي عامت جثث الضحايا حوله في بحر من الدماء.

ثم تساءل مرة أخرى : من الذين يباعدون بين الأزهر والمجتمع؟ أهؤلاء الذين لا يعرفون في هذه الأمة إلا التضليل ، والحديث عن الوجودية؟ أم هؤلاء الذين يلبسون لكل عهد حلة ليأكلوا على كل مائدة؟ أهؤلاء هم الذين يرددون أن الأزهر بعيد عن المجتمع؟؟.

واختتم فضيلته حديثه بقوله : أرجو الله أن يكون الأزهر في هذا الجور الحر ونحن في وقت تتكتل فيه الجهود لمحاربة الاستعمار أن يدفع بالأزهر إلى الرعيل الأول ليدافع عن كل نافع ، وأن تتجه أمم العرب والمسلمين جميعا إلى الإسلام.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر مبعوث الأزهر إلى الهند قائلا : إن الحديث عن الأزهر في الماضي ، وعن تاريخه وجهاده في العلم والدين والاجتماع ، شيء جميل نحب أن نكرره لنعرف الماضي فنصله بالمستقبل. وإننا إذا دافعنا عن الأزهر فلأنه فكرة ، وتاريخ مجيد ، ولأنه دفاع عن الإسلام وكيانه ، وليس معنى هذا أن الأزهر قد بلغ غايته من النضج. ثم ذكر أن الأزهر له روحيته وشخصيته الموجهة ، وله كذلك تربويته وعلمه. أما روحيته ومركزه في العالم الإسلامي فهو أقل مما يجب


أن يكون. فنحن نريد أن يكون موجها حاكما بروحيته ونفوذه.

ثم قام الشاعر محمد بدر الدين فألقى قصيدة حرة جريئة بعنوان «الأزهر» مطلعها :

ركع الزمان ببابك استرضاء

وسعى إليك ليقبس الأضواء

والشمس تطوي ليلها في لهفة

لتطوف حولك في النهار ولاء

ثم أجاب بعد ذلك فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي عن أسئلة السامعين وتلا بعدها قرارات المؤتمر وهي :

أولا : إن السهام التي توجه إلى الأزهر محاولة النيل منه أو الغض من شأنه ليست موجهة إلى أبناء الأزهر بقدر ما هي موجهة إلى رسالة الأزهر الكبرى التي تدور حول الإسلام ولغة القرآن.

ثانيا : الأزهر الشريف هو المفخرة الكبرى لمصر العربية الإسلامية ، وكل تعويق للأزهر عن السير في طريقه يعد تعويقا لمصر وإساءة لسمعتها الكريمة بين أبناء البلاد العربية والإسلامية.

ثالثا : من واجب الدولة أن تبسط للأزهر ورجاله الأسباب الموصلة لتحقيق رسالته وليتم التعاون بين ولاة الأمر في الدولة وفي الأزهر ، لبناء الوطن المؤمن السليم في عقائده وأخلاقه وتفكيره.

رابعا : قد يكون من وسائل التمكين للعماء في أداء رسالتهم أن تصدر الدولة تشريعا يقضي بتجنيد بعض الأزهريين المختارين من معسكرات الأزهر التدريبية لتكون مهمتهم أن يقاوموا المنكرات الشائعة في المجتمع بصورة عملية ، ويكون لهم الامتيازات المكفولة لبوليس الآداب ويسمون «الحرس الخلقي الاجتماعي» كما يكون لهم شعار خاص يعرفون به بين الجمهور.


خامسا : من واجب الأزهر أن يسارع إلى الأخذ بأسباب الإصلاح الجدي الصحيح حتى يستقيم الركب الأزهري على الطريق الموصل إلى تحقيق رسالته الإسلامية والعربية والقومية.

سادسا : يأمل الأزهر من الدولة أن تفسح أمام الأزهريين مجال العمل في المدارس وفي القضاء وفي الإذاعة وفي كل مجتمع يحتاج إلى دعاة ومرشدين.

رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين

ـ ١ ـ

هذا المعهد العريق ، والبيت العتيق ، والمنارة الشماء ، لم يعد لمصر وحدها ، ولا للعرب فحسب ، وإنما صار مجدا للعالم الإسلامي كافة ، وأصبح بعد ذلك كله خير مظهر للإسلام ، شريعة الله المنزلة على رسوله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، والتي كان كتابها المطهر هو القرآن الكريم ..

ومصر في انتفاضتها الحاضرة ، ووثبتها الراهنة ، ونهضتها الباهرة ، وفي زعامتها العالم العربي ، وفي قيادتها الروحية للعالم الإسلامي وفي حملها لواء القومية العربية المجيدة ، مصر هذه مدينة للأزهر بديون كثيرة في ماضيها وحاضرها ، وهي مع ذلك كله ـ في ظلال ثورتها الكبرى ـ محتاجة إليه أشد الاحتياج ، لتوطيد منزلتها في العالمين العربي والإسلامي ، وليسهم معها في نشر الثقافة ورسالة الإسلام في ربوع أفريقيا وآسيا ، وليكون الدعامة الأولى للقومية العربية ، ولقيادة مصر الثقافية والروحية لشعوب العروبة والإسلام.

وعند ما نفكر في رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين ،


لا بد أن نفكر أولا في طلاب الأزهر وخريجيه ومدرسيه ، لا بد أن نكفل لهم الطمأنينة والاستقرار في حياتهم ، وأن نفتح أمامهم الأبواب للمستقبل ، وأن نستعين بهم في كل الميادين الثقافية والروحية والإدارية ، حتى يستطيعوا في ظل هذه الرعاية أن ينصرفوا بكل جهودهم إلى أداء رسالة الأزهر العلمية والروحية في كل مكان ولا بد مع ذلك كله أن نفكر في احتياجات الأزهر المالية ، التي تعينه على أداء مهمته على الوجه الأكمل ، والتي تساعد على رفع المستوى العلمي في معاهده وكلياته ، وتعين على خلق نهضة فكرية وروحية في أروقته التي عاشت على مرور الأجيال تكافح في سبيل نشر ثقافة الإسلام وعلومه وآدابه وحضارته في كل مكان.

ـ ٢ ـ

وعند ما نتحدث عن رسالة الأزهر لا نستطيع أن نقول إنها يجب أن تتجه إلى العناية بالدراسات الإسلامية فحسب ، ولا إلى الدعوة إلى الإسلام فحسب ، ولكن يجب أن تبنى هذه الرسالة على أصول هاتين الغايتين الكبيرتين معا ، على أن نلاحظ هذه الحقائق التي قام عليها الأزهر طول عصور التاريخ التي شاهدها :

١ ـ الأزهر رمز للفكر الإسلامي ، لأنه أقدم الجامعات الإسلامية في بلاد المسلمين ، ولأن ماضيه أهله لحمل رسالة الفكر الإسلامي ..

٢ ـ الأزهر جامعة أمم عربية وإسلامية ، ففيه يجلس الطلاب من كل بلاد المسلمين بل من كل شعوب العالم تقريبا ، جنبا إلى جنب ، يتعلمون العلوم الإسلامية والعربية والفلسفية.

٣ ـ الأزهر ليس ملكا لمصر وحدها ، وإنما هو ملك العالم الإسلامي عامة ، ومن ثم يجب أن تسهم الدول الإسلامية في نفقاته ليقوم الأزهر بنشر رسالة الإسلام في كل جهة.

٤ ـ الأزهر ليس في عزلة ثقافية أو فكرية عن المجتمع في مصر ولا


في البلاد العربية ، إنه قطعة حية من صميم المجتمع الإسلامي ، وهو مركز ثقافي ضخم ، يسهم في النهوض بالثقافة في مصر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة عن طريق بعثاته العلمية التي يوفدها الأزهر إلى الأمم العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا وغيرهما ولا يمكن أن يكون في عزلة وأبناؤه من طلاب وأساتذة هم من مختلف طبقات الوطن على أن التاريخ قد وعى اشتراك الأزهر في كل الثورات القومية والوطنية في مصر خلال تاريخها الطويل ، وعلى أن ثورات التحرر في العالمين العربي والإسلامي إنما كان قادتها ـ في أغلب الأحيان ـ من أبناء الأزهر وخريجيه.

٥ ـ تاريخ الأزهر مرتبط بتاريخ الإسلام ، فلا يمكن أن يقول قائل : إن الأزهر لم تعد له ضرورة : فما دام دين الله باقيا على الأرض ، فإن الأزهر باق بإذن الله لدراسة علوم الإسلام ولنشر هدايته في الأرض جميعا.

ورسالة الأزهر لا بد أن تقوم أولا على خلق وعي فكري إسلامي داخل بيئة الأزهر العلمية ، وهذا الوعي جدير بتكوين شخصية فكرية مستقلة للأزهر أولا ولكل من يتخرج منه ثانيا. ولكي نعاون على خلق هذا الوعي يجب أن نفكر أولا : في مناهج الأزهر التي يسير عليها ، ففي رأيي أنها لم تعد صالحة كل الصلاحية للسير بالثقافة الإسلامية فيه إلى ما يتمناه لها وله المخلصون.

ثانيا : في الدراسات العليا في الأزهر الجامعي : هذه الدراسات التي لم يعد لها وجود في الأزهر ، والتي ترجع بالأزهر من صبغته الجامعية الواسعة النطاق إلى صبغة مدرسية محدودة.

ثالثا : في قوانين الأزهر كلها ، المنظمة له ، والموجهة للثقافة فيه ولا بد من الاستعانة في هذه السبيل بنظم الجامعات ولوائحها في مصر وفي كل مكان ، على ألا يفقد ذلك الأزهر طابعه الإسلامي ، وشخصيته التي عرف بها منذ أجيال بعيدة.


ـ ٢ ـ

ورسالة الأزهر يجب أن تتناول كل شيء يتصل بفهم الإسلام ونشر هدايته في الآفاق ، ومن ثم يجب أن يكون من أهم ما تتناوله :

١ ـ خلق جيل جديد متثقف ثقافة واسعة من أبناء الأزهر ، ليستطيع حمل رسالته إلى كل مكان.

٢ ـ عرض الثقافة الإسلامية القديمة في أسلوب جديد ، يلائم أسلوب العصر في الفهم والبحث والدراسة ، وكتابة ونشر بحوث جديدة عميقة عن الإسلام وعلومه وثقافاته.

٣ ـ فتح مراكز ثقافية إسلامية في كل عاصمة من عواصم العالم في الشرق والغرب ، تكون مراكز الدعاية للإسلام عن طريق المحاضرة وعن طريق معاونة المشرقين للمترددين عليها من أبناء الإسلام وغيرهم في البحث والدراسة وعن طريق طبع رسائل للتعريف بالإسلام تقوم هذه المراكز بتوزيعها على الجامعات وعلى المفكرين والعلماء والمهتمين بالبحوث الإسلامية ، وسوى ذلك من الطرق .. وتكون هذه المراكز بمثابة مأوى للمبعوثين من الأزهر إلى مختلف هذه الجهات ، على أن تزود بجميع المصادر والكتب الإسلامية ، وبشتى الأجهزة اللازمة لها ...

٤ ـ العمل بكل وسيلة على وحدة المسلمين الفكرية والروحية والدينية ليكون ذلك معينا على إمكان قيام وحدة سياسية بينهم في المستقبل.

٥ ـ الاتصال بشتى المفكرين في مصر والعالم ليكونوا بمثابة أصدقاء وأنصار للأزهر ولرسالته ، بشتى طرق هذا الاتصال.

٦ ـ الإشراف على التعليم الديني وعلى الهيئات الدينية جميعها في مصر ، والعمل على توجيه الجماعات الإسلامية في مصر وفي كل مكان توجيها صالحا.


٧ ـ إرسال بعثات أزهرية إلى كل مكان في العالم بقصد دراسة أحوال المسلمين وتفهم كل ما يحيط بهم من مشكلات ، للعمل على معاونتهم في حلها ، وخاصة في الجانب الروحي.

٨ ـ الإشراف على ترجمة القرآن الكريم إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية ، وعلى ترجمة طائفة مختارة من الحديث النبوي كذلك إلى هذه اللغات.

٩ ـ إقامة مواسم ثقافية على نمط عال في «قاعة محاضرات الأزهر» يتحدث فيها كبار علماء الأزهر وكبار المهتمين بالدراسات الإسلامية من غير الأزهريين.

١٠ ـ التفكير حاليا في الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر (١) ، ليمكن عن هذا السبيل ربط الأزهر من جديد بشتى جامعات العالم ، على أن يمهد لذلك بطبع مائة مؤلف من خير ما ألف الأزهريون في القديم والحديث لتوزيعها على الجامعات المختلفة وممثليها ، وبطبع رسالة عن تاريخ الأزهر تترجم إلى شتى اللغات.

__________________

(١) احتفل فعلا بهذا العيد بعد كتابة المؤلف لهذا الكتاب القيم.



الباب الثامن

آراء للأزهر في مشكلاتنا الفكريّة

ـ ١ ـ

أصدر الاستاذ علي عبد الرازق العالم الأزهري ، والقاضي الشرعي ، عام ١٩٢٥ كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ، وكان على رأس الوزارة في ذلك الحين زيور باشا يسنده حزب الأحرار الدستوريين برئاسة عبد العزيز فهمي باشا وحزب الاتحاد برئاسة يحيى باشا إبراهيم .. وكان الوفد في المعارضة برئاسة سعد.

وقد أثار الكتاب معركة اشترك فيها كل صاحب رأي أو قلم .. وقبل أن نعرض الصراع الذي دار حول هذا الكتاب نوضح فكرته الأساسية التي ذهب إليها المؤلف ... وفكرته هي : أن الإسلام لم يقرر نظاما معينا للحكومة ، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه. بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم الدولة طبقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها ، مع مراعاة تطورنا الاجتماعي ومقتضيات الزمن. وأن الإسلام بريء من نظام الخلافة ، والأدواء التي عصفت به. فإن الخلافة شلت كل تطور في شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة ، خصوصا بسبب العسف الذي أنزله بعض الخلفاء بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية ، إذ صاغوها في قالب يتفق مع مصالحهم.


وقد أثار الكتاب ضجة كبرى في محيط الأحزاب والشعب ورجال الأزهر ، فجمع شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل الجيزاوي هيئة كبار العلماء وقررت أن ما في الكتاب من آراء هي كفر وإلحاد وخروج على الدين ، كما قررت استدعاء الشيخ علي عبد الرازق ـ باعتباره من العلماء لمحاكمته ، عن تهم سبع وجهتها إليه ، وانعقدت الجلسة في ٥ أغسطس سنة ١٩٢٥. وجلس العلماء على مائدة كبيرة ، واستدعى الشيخ علي عبد الرازق ، فدخل الحجرة ، وأشار إليه شيخ الأزهر بالجلوس.

ودفع المؤلف دفعا فرعيا ، هو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية وطلب من الهيئة أن لا تعتبر حضوره أمامها اعترافا منه بأن لها حقا قانونيا في محاكمته.

وفي ٢٥ أغسطس ، أصدرت هيئة العلماء حكمها ، «بتجريد الشيخ علي عبد الرازق من العالمية ، لأنه أتى بأمور تخالف الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة!. وقد تساءلت «الأخبار» عن موقف عبد العزيز فهمي وحزبه بعد أن أحرجته جريدته بدفاعها عن الكتاب. وأما «السياسة» فقد نشرت كلمة الشيخ علي عبد الرازق يقول فيها : «لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء ، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذى قالوا «الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا» .. ومن هذا اليوم ، هجر علي عبد الرازق ملابس الشيوخ ، وأصبح «أفنديا»! ..

أيه أيها الطريد من الأزهر ، تعالى إلى نتحدث عن هذه القصة المضحكة ، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق ، فقد كان يلذ لنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام «باب المزينين» أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها الباطل ولا يصل إليها المنكر ، ولا يسعى إليها إلا الأخيار والأبرار


ثم تضرم فيها النار.! دعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا ، فقد أخرجت من الأزهر!.

ـ ٢ ـ

وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في محاكمته :

من حيث أن الشيخ عليا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا فقد قال في ص ٨٧ و ٧٩ والدنيا من أولها لآخرها وجمع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول وحبانا من عواطف وشهوات وعلمنا من أسماء ومسميات هي أعون عند الله من أن يبعث لها رسولا وأهون عند رجل الله من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها» ، وقال في ص ٨٥ أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وأوضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت لتنظيم العلاقة بين الانسان وربه فقط أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية وتدبير الشئون العامة فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها. وهل فيه استطاعة الشيخ على يشطر الدين الإسلامي شطرين يلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وما ذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، وقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). وما ذا يعمل الشيخ علي في ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن ابنة النضر أخت


الربيع لطمت جارية فكسر سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص. فقالت أم الربيع يا رسول الله أنقص من فلانة؟ لا والله. فسبحان الله. يا أم الربيع كتاب الله القصاص ومثل ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضا عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق اذرع ـ وما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعي عليه وما رواه أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.

ومن حيث أنه زعم الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. فقد قال في ص ٥٣ «وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله» .. ثم قال في ص ٥٣ «وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك ، فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين ، وفي كلامه يزعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده كان في سبيل الملك فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه. على أنه لم يقف عند هذا الحد بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك ومن الشئون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل الملك أيضا وجعل كل ذلك على هذا خارجا على حدود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل به وحي ولم يأمر به الله تعالى.

ومن حيث أنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع


غموض أو إبهام أو اضطراب ونقض ، وموجبا للحيرة فقد قال في ص ٤٠ «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة ومبهمة من كل جانب».

وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة الحكم في الشريعة الإسلامية فإنه نقض الاعتراف وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.

وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم.

ومن حيث أنه زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ ، فقد قال الشيخ علي في ص ٧١ : «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في الملك السياسي وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان. ثم عاد فأكد ذلك فقال ص ٧٣ «القرآن كما رأيت صريح في أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس وأنه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه .. ولو كان الأمر كما زعم هو كان ذلك رفضا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.

وقد قال الشيخ علي في دفاعه : «إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة لا موارية فيها أن للنبي صلى الله عليه وسلم سلطانا عاما وأنه ناضل في سبيل الدعوة بلسانه وسنانه. وهذا دفاع لا يجدي إذ لو كان معنى الذي قرره في ص ٦٦ و ٧٠ كما أشار إليه أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السماوي يتجاوز حدود البلاغ المجرد عن كل معاني السلطان لما كان سائغا أن يقول بعد ذلك في صفحة ٧١ إن آيات الكتاب متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان ، وأن يقول بعد ذلك في صفحة ٧٣ «إن القرآن صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه شيء غير بلاغ رسالة الله إلى الناس ولم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه. والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو


السلطان الروحي. كما صرح به في مذكرة دفاعه حيث قال فيها : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستولي على كل ذلك السلطان لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن الملوك والحكام ولكن من طريق الإيمان له إيمانا قلبيا والخضوع له خضوعا روحيا» ، لكان دفاعه إثباتا للتهمة لا نفيا لها ، على أنه قد نسب في ص ٦٥ و ٦٦ السلطان إلى عوامل أخرى من نحو الكمال الخلقي والتمييز الاجتماعي لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم ، كما أنه جعل الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة ولم ينسبه إلى وحي له ، وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه ويثبت أن مهمته صلى الله عليه وسلم تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم والتنفيذ فقد قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقال تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

وروى عن ابن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال اضربوه. وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت وقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترىء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتشفع في حد من من حدود الله. ثم قام فخطب فقال : يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وإيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان وأنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه؟

وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم أنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس وليس عليه أن يأخذ


الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه.

ومن حيث أنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا فقد قال في ص ٢٢ «أما دعوى الإجماع في هذه المسألة ـ وجوب نصب الإمام ـ فلا تجد مساغا لقبولها بأية حال ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل ، على أننا مثبتون لك أن دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة سواء أرادوا بها إجماع الصحابة وحدهم أم الصحابة والتابعين أم علماء المسلمين أم المسلمين كلهم». ادعى الشيخ علي أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي كان سيئا على الرغم من توافر الدواعي التي حمل على البحث فيها ، وأهمها إن مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان عرضة للخارجين عليه ، غير ان حركة المعارضة كانت تضعف وتقوي ، ثم ساق بعد أمثلة يؤيد بها ما يدعيه من أن الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلا لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب إمام للمسلمين. فإن إجماعهم على ذلك شيء وإجماعهم بيعة إمام معين شيء آخر واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على وجوب نصب الإمام ، أي إمام كان. وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو الوقت من إمام. ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.

ومن حيث أنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية فقد قال في ص ١٠٣ «والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها ، ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة». وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا عن الخلافة فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.


وقال الشيخ علي في دفاعه : «إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة واتخاذه مقاما ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة».

وما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز ، قال الله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقال تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

ومن حيث أنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية فقد قال في ص ٩ : «طبيعي معقول إلى درجة البداهة ألا توجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم زعامة دينية. وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين ، هو إذا نوع لا ديني». وهذه جرأة لا دينية فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة أن زعامة أبي بكر رضي الله عنه كانت دينية يعرف ذلك المسلمون سلفهم وخلفهم جيلا بعد جيل.

ومن حيث أن التهمة الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق ثابتة عليه وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقا للمادة (١٠١) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ ، فبناء على هذه الأسباب حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالما معنا من هيئة كبار العلماء باخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» من زمرة العلماء.


ـ ٣ ـ

وكانت الثورة الثانية عند ما أخرج الدكتور طه حسين عام ١٩٢٦ كتابه «الشعر الجاهلي» فأحدث ضجة هائلة في مصر وبين رجال الدين ، استمر صداها أمدا طويلا. وكان أول أثر لهذا الصدى هو مصادرة الكتاب ، وقد حققت النيابة العامة مع الدكتور واتخذت النيابة أخيرا قرارا بحفظ أوراق التحقيق إداريا لأن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين ، بل أن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها».

وقد أخرج الدكتور طه كتابه بعنوان جديد هو «في الأدب الجاهلي» وحذف منه بعض الفقرات التي كانت سببا لثورة الجماهير ورجال الدين على الكتاب ، وقد بسطت المسائل الأدبية التي أوردها الدكتور في كتابه (الشعر الجاهلي) ، وناقشتها مناقشة تحليلية في كتابي (الحياة الأدبية في العصر الجاهلي) ، فلا داعي للعودة إليها في هذا الكتاب.

ـ ٤ ـ

وفي عهد الشيخ المراغي فكر في ترجمة القرآن سنة ١٩٣٦ ، وقد ثار الكثير على الشيخ المراغي وعارضوا مشروع الترجمة ، وقدم الشيخ إلى رئيس مجلس الوزراء مذكرة بشأن المشروع جاء فيها :

اشتغل الناس قديما وحديثا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة وتولى ترجمته أفراد يجيدون لغاتهم ولكنهم لا يجدون اللغة العربية ولا يفهمون الاصطلاحات الإسلامية الفهم الذي يمكنهم من أداء معاني القرآن على وجه صحيح ، لذلك وجدت في التراجم أخطاء كثيرة وانتشرت تلك التراجم ولم يجد الناس غيرها فاعتمدوا عليها في فهم أغراض القرآن


الكريم وفهم قواعد الشريعة الإسلامية فأصبح لزاما على أمة إسلامية كالأمة المصرية لها المكان الرفيع في العالم الإسلامي أن تبادر إلى إزاحة هذه الأخطاء وإلى إظهار معاني القرآن الكريم نقية في اللغات الحية لدى العالم ، ولهذا العمل أثر بعيد في نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تدين بالإسلام ذلك أن أساس الدعوة إلى الدين الإسلامي إنما هو الإدلاء بالحجة الناصعة والبرهان المستقيم ، وفي القرآن الكريم من الحجج الباهرة والأدلة الدامغة ما يدعو الرجل المنصف إلى التسليم بالدين والإذعان له. وفائدة أخرى للأمم الإسلامية التي لا تعرف العربية وتشرئب أعناقها إلى اقتطاف ثمرات الدين من مصدرها الرفيع فلا تجد أمامها إلا تراجم قد ملئت بالاخطاء ، فإذا ما قدمت لها ترجمة صحيحة تصدرها هيئة لها مكانتها الدينية في العالم اطمأنت إليها وركنت إلى أنها تعبر عن الوحي الإلهي تعبيرا دقيقا.

لذلك اقترح أن يقرر مجلس الوزراء ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية على أن تقوم بذلك مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف وأن يقرر مجلس الوزراء الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل ، فأرجو النظر في هذا.

وقد أرفق المراغي بمذكرته نص فتوى كبار العلماء ، وقد وجه إليهم سؤالا جاء فيه.

ما قول السادة حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء في السؤال الآتي؟ بعد ملاحظة المقدمات الآتية :

١ ـ لا شبهة في أن القرآن الكريم اسم للنظم العربي الذي نزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى آله.

ولا شبهة أيضا في أنه إذا عبر عن معاني القرآن الكريم بعد فهمها من


النص العربي بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعاني ولا العبارات التي تؤدي هذه المعاني قرآنا.

٢ ـ ومما لا محل للخلاف فيه أيضا أن الترجمة اللفظية بمعنى نقل المعاني مع خصائص النظم العربي المعجز مستحيلة.

٣ ـ وضع الناس تراجم القرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين الذين لا يعرفون اللغة العربية ، وبعض العلماء من غير المسلمين ممن يريد الوقوف على معاني القرآن الكريم.

٤ ـ وقد دعا هذا إلى التفكير في نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه الآتي :

يراد أولا فهم معاني القرآن الكريم بوساطة رجال من خيرة علماء الأزهر الشريف بعد الرجوع لآراء كبار أئمة المفسرين وصوغ هذه المعاني بعبارات دقيقة محدودة ، ثم نقل هذه المعاني التي فهمها العلماء إلى اللغات الأخرى بوساطة رجال موثوق بأمانتهم واقتدارهم في تلك اللغات بحيث يكون ما يفهم في تلك اللغات من المعاني هو ما تؤديه العبارات العربية التي يصنعها العلماء ، فهل الإقدام على هذا العمل جائز شرعا أو غير جائز؟.

هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمن أن الترجمة ليست قرآنا وليس لها خصائص القرآن وليست هي ترجمة كل المعاني التي يحتملها النظم العربي وإنما هي ترجمة للمعاني التي فهمها العلماء وأنه ستوضع الترجمة وحدها بجوار النص العربي للقرآن الكريم.

وقد أجاب السادة العلماء على ذلك بالفتوى الشرعية الآتي نصها : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد فقد أطلعنا على جميع ما


ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا في السؤال جائز شرعا والله سبحانه وتعالى أعلم.

إمضاءات : محمود الديناري عضو جماعة كبار العلماء وشيخ معهد طنطا ، عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين وعضو جماعة كبار العلماء ، إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء ، محمد مأمون الشناوي شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء ، عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء ، محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء ، دسوقي عبد الله البدوي عضو جماعة كبار العلماء ، أحمد الدلبشاني عضو جماعة كبار العلماء ، يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء ، محمد سبع الذهبي شيخ الحنابلة وعضو جماعة كبار العلماء ، عبد المعطي الشرشيمي عضو جماعة كبار العلماء ، عبد الرحمن قراعة عضو هيئة كبار العلماء ، أحمد نصر عضو جماعة كبار العلماء ، محمد الشافعي الظواهري عضو جماعة كبار العلماء :

حيث أن الترجمة المرادة هي ترجمة لمعاني التفسير الذي يضعه العلماء فهي جائزة شرعا بشرط طبع التفسير المذكور بحوار الترجمة المذكورة ، كتبه بيده الفانية : عبد الرحمن عليش الحنفي من جماعة كبار العلماء.

ولما تلقى المراغي هذه الفتوى الشرعية أرفقها بكتاب منه هذا نصه : بسم الله الرحمن الرحيم. وجهت هذا السؤال إلى حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء وأنا أوافقهم على ما رأوه ولا أرى داعيا للحفظ الذي أبداه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عليش وهو طبع التفسير مع الترجمة لعدم الحاجة الى ذلك بعد مراعاة الشروط المدونة في السؤال. رئيس جماعة كبار العلماء : محمد مصطفى المراغي.


ومع ذلك فقد بدأت لجنة في عهد الشيخ المراغي في ترجمة القرآن ، ثم توقفت عن العمل ، ولم تنجز شيئا من مهمتها.

ولما تولى المشيخة الأستاذ الأكبر إبراهيم حمروش فكر في طبع رسائل إسلامية للتعريف بالإسلام بشتى اللغات ، ومع ذلك لم ينجز شيء من هذا العمل.

وفي أكتوبر عام ١٩٥٤ كتب الدكتور طه حسين يطالب بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الحية ، وأجابت مشيخة الأزهر على تساؤله بأن المشيخة تفكر في وضع وطبع رسائل إسلامية تكتب بشتى اللغات العالمية الحية.

ـ ٥ ـ

وفي عام ١٩٤٧ ألف الأستاذ محمد أحمد خلف الله رسالة سماها «الفن القصصي من القرآن الكريم» وقدمها إلى كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول للحصول على الدكتوراه.

وقد ثار على هذه الرسالة علماء الأزهر ، وفي مقدمتهم الشيخ عبد المجيد سليم ، والمرحوم الشيخ عبد الفتاح بدوي الأستاذ بكلية اللغة العربية سابقا ، والشيخ شلتوت وكان معهم أحمد أمين ، وبعضهم أساتذة الجامعة.

ووقف الأستاذ أمين الخولي وصاحب الرسالة يدافعان عن الكتاب .. وقد كانت أخبار اليوم وبعض الصحف والمجلات تنشر بين الحين والحين أنباء المعركة حول هذه الرسالة ، وقد قررت الجامعة عدم صلاحية الرسالة ، وطالبت المؤلف بتقديم رسالة أخرى ، وقد نشر كتابه بعد ذلك.

ـ ٦ ـ

وفي عام ١٩٥٠ أخرج الدكتور طه حسين كتابه (الوعد الحق) ، واتفقت معه بعض شركات السينما على إخراجه في (فيلم سينمائي) ...


فوافق على ذلك بعض العلماء ، وثار آخرون على هذا الفيلم الذي تعرض فيه للصحابة على الشاشة البيضاء ، ومنهم المرحوم الشيخ محمود الغمراوي عضو جماعة كبار العلماء الذي كتب في الأهرام يوم ١٠ / ٨ / ١٩٥٠ يقول :

قرأت ما أملاه الدكتور طه حسين وزير المعارف على مندوب الأهرام جوابا عن سؤاله الخاص بوضع سيادته سيناريو عن الدين الإسلامي عند ظهوره ، وقد جاء فيما أملاه الدكتور علي المندوب أنه أصدر في شهر يناير الماضي كتابا عنوانه «الوعد الحق» وإن هذا الكتاب يصور الاضطهاد الذي لقيه المسلمون عند ظهور الإسلام ، وكيف ثبت المسلمون لهذا الاضطهاد وصبروا عليه وانتصروا على الذين كانوا يضطهدونهم. وإن هذا الكتاب ظهر وتلقاه القراء لقاء حسنا ، ثم قص ما عرضه عليه الأستاذ عز الدين من رجائه للدكتور أن يأذن له في أن يستقي من هذا الكتاب سيناريو لفيلم سينمائي ، فاستغرب الدكتور الأمر واستبعد أن يكون تحقيقه ممكنا ولكنه لما كلمه فيه مرة ومرة اقتنع بإمكان ذلك ، وطلب إليه أن يستأذن من رجال الدين شيخين عينهما ، فلما جاءه منهما كتابان أذنا فيهما بهذا العمل وأظهر استحسانا شديدا له ، أخذ الدكتور في مراجعة السيناريو الذي كان قد وضعه المخرج ، وانتهيا أخيرا إلى إقراره بعد جهد طويل.

تلك هي قصة وضع ذلك السيناريو الذي اعتزم الدكتور طه حسين أن يبرز به المسلمين وخلفاءه الراشدين وأصحابه الأبرار المجاهدين مصورين في فيلم سينمائي ، فيزلزل إيمان العامة ، ويفتن جماهير المسلمين إذ يكون النظارة من الدهماء وغيرهم عند عرض هذا الفيلم عليهم بين أمرين لا ثالث لهما : فإما أن يستقبلوه كعادتهم عند عرض ما يستغرب عليهم فيتلقوه بالصفير والنعير ، ولازمة ذلك الإستهزاء والتحقير وذلك هو الإثم البواح والكفر الصراح.


أو يتلقوا هذه الصور الكريمة بما يليق لأصحابها من احترام وتوقير ، وتعظيم وتقدير ، فيدخلوا في باب من أبواب التشبه بعبدة الصور ، وحينئذ يلجون على الشرك أو يلج عليهم الشرك من باب أمرنا الإسلام بسده ، ونهى الدين عن ولوجه ، أو أن يحوم المسلمون حوله بتحريم التصوير ولعن المصورين وحظره اتخاذ الصور ، هذا إلى أن تصوير النبي وصحبه وخلفائه (وهم الذين يحرمون التصوير ويحظرون اتخاذ الصور) مؤذن باستخفاف المصور وكل من يقره أو يرضى عن عمله بأصحاب هذه الصور.

فمن أبرز إنسانا على هيئة أو صورة يكره اتخاذها لغيره ، بله أن يكون قد جاء بدين يحرم اتخاذ الصور فهو مزدر بصاحب هذا الدين ومستخف به. ولو أن إنسانا رسم الدكتور طه حسين الآن في زي : فوق رأسه عمامة وعليه قفطان وجبة وبيده مسبحة ، فإني أحكم بأن الذي فعل ذلك مستخف بالدكتور مستهزىء به ، ذلك بأني أعلم أن الدكتور طه نبذ الزي منذ أعوام وحرمه على نفسه ، فمن يصور النبي وهو يعلم أن النبي قد حرم التصوير ونهى عن اتخاذ الصور ، فقد اقترف إثما مبينا ، واقترب من الكفر بهذا النبي وشريعته ودينه. إن للدكتور طه أن يكتب للناس ويخلبهم بسحر بيانه وأن يعرض على القراء من صفحات التاريخ الإسلامي صفحات رائعات يبين لهم فيها أن المسلمين في أول ظهور الإسلام لم يكسبوا حريتهم إلا بالجهد والصبر والمقاومة والثبات ، تلك الخلال المجيدة التي كسبهم إياها أيمانهم ومكنها من قلوبهم صدقهم في الإيمان ، وأن يصور لهم في ذلك ما يشاء بأسلوبه الطلي وبيانه الساحر الوحي ، لعلهم يرجعون إلى نفوسهم ، ويتعرفون مكامن الداء في قلوبهم فيداووها ، فإن الله ليشكر له ويجزل ثوابه على ما يقدم من عمل على حسب نيته ، غير أني أرباء بالدكتور عن أن يخرج عن طبيعته ويعدل عن صنعته وأن يحاول أن يجحد بيانه ويبدل سحره وإحسانه ، ويجعل من ذلك صورا ميتة ورسوما جامدة لا فائدة من ورائها ، فإن أبى لنفسه إلا ذلك فإني أنصح له ألا يسيء إلى المسلمين وألا يمتهن


قداسة النبيين والصديقين ، يروج الوزير لمشروعه الخطير بأنه سيكون له أثر حسن جدا من ناحيتين ذكرهما! فأما عن الناحية الأولى فقد قدمنا ما سيكون من النظارة عند ما يعرض عليهم هذا الفيلم وذكرنا ما ينجم عنه من خطر على عقيدتهم ودينهم.

وإذا كنا نئن ونتوجع مما تأتيه الجماهير من الآهات المكررة والأصوات المنكرة حين سماعها للقرآن وهو الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتراهم حين يسمعون القرآن من قارىء متكسر في تلاوته يصيحون ويكثرون من التأوه بالنغمة واستحسانا للوحدة ذاهلين عن معاني الآيات التي تقرع أسماعهم فلا تخشع لها جوارحهم أو تلين قلوبهم ـ فكيف يكون الحال عند ما يشاهدون أبطال المسلمين ونبي الإسلام في ثياب بالية مهلهلة وفي هيئة تنبو عنها أبصارهم وتنفر منها أذواقهم ، وهل يبقى لواحد من هؤلاء الدهماء دينه ، أو يثبت معه أيمانه ويقينه عند ما يهجم على قلبه الاشمئزاز والنفور من تلك الهيئة البدوية والصورة العربية الوحشية التي ينكرها ذوقه ويشمئز منها حسه. أيظن معالي الدكتور أن يكون الدهماء فلاسفة عند ما يشاهدون السيناريو الذي يعده معاليه لهم فتقتحم أبصارهم تلك الصور وتتخطى ما يحيط بها من الأستار ويطفرون بعقولهم ويشبون بأفكارهم إلى ما وراء هذه الصور الشوهاء الملخبطة فيدركون ما تخفي ورائها من المعاني والأسرار.

أما الناحية الثانية التي يروج بها الدكتور لمشروعه وهي الناحية الفنية ونهوض صاحبه بها وتقدمه فإنا نتمنى لصاحبه ما يتمناه هو له من النبوغ والتقدم ، وأن يكون في فنه من العبقريين على أن لا يجري ريشته في رءوس المسلمين.

أما بعد فإن عهدي بالدكتور طه حسين أنه من أولئك الرجال الذين لا يستفتون غيرهم وإنما يستفتون قلوبهم وإن أفتاهم المفتون لا يدفعه إلى أمر


دافع ، ولا يرجعه أو يثنيه عن رغيبة أرادها راجع ، فما باله اليوم ينزل عن مطيته ، ولا يمضي لطيته حتى يجيزه اثنان ارتضاهما من بين رجال الدين. ثم أقول لحضرتي الشيخين اللذين أجازا في كتابيهما هذا العمل وأظهرا استحسانهما الشديد له : على أي أساس بنيتما هذا الأذن وكيف كان هذا الاستحسان؟ فهل غاب عنكما وأنتما من أعرف الناس بروح هذا العصر ، وما يغلب على أهله من التمرد على الدين والإلحاد فيه ـ ما يترتب على هذا العمل من خطر ، وما ينشأ عنه من فتن تفتح أبوابها وتفغر أفواهها ، وهل نسيتما سد الذرائع؟ عسى أن تعدا في العصريين ، وألا

تكونا مثلنا عن ركب الحياة متخلفين!

خدعونا بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا يا أرحم الراحمين.

ـ ٧ ـ

حول كتاب من هنا نبدأ :

وقد أخرج الشيخ خالد محمد خالد من العلماء كتابا عام ١٩٥٠ سماه «من هنا نبدأ» .. وقد ثار العلماء على هذا الكتاب ، وكثرت حركة النقد حوله مما هو مشهور ومعروف.

وقد صودر الكتاب ونظرت قضية مصادرته أمام القضاء ، فحكم بإلغاء أمر مصادرته ، لأن حرية الرأي مكفولة في حدود القانون ، والكتاب لا ينطوي على جريمة ما ، وقد كتب خالد محمد خالد مقالة في المصري بعنوان «شموع لا حراب» قال في آخرها : «لقد احتكم الأزهر إلى القضاء ، وقال القضاء كلمته ، فلننحن لها في خشوع وإعجاب ، فإنها كضوء الفجر منيرة هادية».


ـ ٨ ـ

وطالبت الهيئات النسائية بإعطاء المرأة حقوقها السياسية ، وأيدها في ذلك بعض الأفراد ، فنشر مفتي الديار المصرية الشيخ مخلوف عام ١٩٥٢ فتوى جاء فيها :

عني الإسلام أتم عناية بإعداد المرأة الصالحة للمساهمة مع الرجل في بناء المجتمع على أساس من الدين والفضيلة والخلق القويم وفي حدود الخصائص الطبيعية لكل من الجنسين فرفع شأنها وكون شخصيتها وقرر حريتها وفرض عليها كالرجل طلب العلم والمعرفة ، ثم ناط بها من شئون الحياة ما تهيؤها لها طبيعة الأنوثة وما تحسنه حتى إذا نهضت بأعبائها كانت زوجة صالحة وأما مربية وربة منزل مدبرة وكانت دعامة قوية في بناء الأسرة والمجتمع.

وكان من رعاية الإسلام لها حق الرعاية أن حاط عزتها وكرامتها بسياج منيع من تعاليمه الحكيمة وحمى أنوثتها الظاهرة من العبث والعدوان وباعد بينها وبين مظان الزيف وبواعث الافتتان فحرم على الرجل الأجنبي الخولة بها ، والنظرة العارمة إليها ، وحرم عليها أن تبدي زينتها إلى ما ظهر منها ، وأن تخالط الرجال في مجامعهم ، وأن تتشبه بهم فيما هو من خواص شئونهم ، وأعفاها من وجوب صلاة الجمعة والعيدين مع ما عرف عن الشارع من شديد الحرص على اجتماع المسلمين وتواصلهم ، وأعفاها في الحج من التجرد للإحرام ، ومنعها الإسلام من الأذان العام ، وإمامة الرجال للصلاة ، والإمامة العامة للمسلمين ، وولاية القضاء بين الناس ، وأثم من يوليها ، بل حكم ببطلان قضائها على ما ذهب إليه جمهور الأئمة ، ومنع المرأة ولاية الحروب وقيادة الجيوش ولم يبح لها من معونة الجيش إلا ما يتفق وحرمة أنوثتها.

وقد قال تعالى للمؤمنين بعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي


الأمر (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى القرآن والسنة ، وقال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فليس للمرأة المؤمنة أن تترك ما حدده لها الشارع الحكيم وتأخذ بما نهاها عنه ، وقد قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) عن أنس رضي الله عنه أن بعض النساء قلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى والجهاد سنام الإسلام وعموده وما دونه لا يدانيه فضلا وأجرا) ، وقال تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ). قال القرطي ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا للضرورة القصوى وفي الحديث (المرأة عورة وإذا خرجت استشرفها الشيطان وإنها تكون أقرب إلى الله منه في بيتها) ، وفي الحديث الصحيح (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم) وفيه (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ـ وفيه (لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفيه (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) وهذا من أعلام النبوة التي وقعت. ولا سبيل الى استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لكثرتها ، بل ما كنا في حاجة إلى ذكرها وهي من بديهيات التشريع وفيها الدلالة القاطعة على أن الشريعة الإسلامية لا تبيح للمرأة ما تطالب به الآن مما سمته حقوقا لها وهو اعتداء منها على الحقوق التي خص بها الرجال. وكل ما أباحه لها الشارع وما


منعها إنما هو لخيرها وصونها وسد ذرائع الفتنة منها والافتتان بها حذرا من أن يحيق بالمجتمع ما يفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه والله أعلم بما للطبائع البشرية من سلطان ودوافع وبما للنفوس من ميول ونوازع والناس يعلمون والحوادث تصدق. ولقد بلغ من أمر الحيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بالحجاب وهن أمهات المؤمنين حرمة واحتراما وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تمس يده وهو المعصوم أيدي النساء اللاتي بايعنه ـ وأن المرأة لم تول ولاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود من بعدهم من الملوك والأمراء ولا حضرت مجالس تشاوره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار.

ذلك شأن المرأة في الإسلام ومبلغ تحصينها بالوسائل الواقية ، فهل تريد المرأة الآن أن تخترق آخر الأسوار وتقتحم على الرجال قاعة البرلمان فتزاحم في الانتخاب والدعاية والجلسات واللجان والحفلات والتردد على الوزارات والسفر إلى المؤتمرات والجذب والدفع وما إلى ذلك مما هو أكبر إثما وأعظم خطرا من ولاية القضاء بين خصمين وقد حرمت عليها واتفق أئمة المسلمين على تأثيم من يوليها تاركة زوجها وأطفالها وبيتها وديعة في يد من لا يرحم. إن ذلك لا يرضاه أحد ولا يقره الإسلام بل ولا الأكثرية الساحقة من النساء اللهمّ إلا من يدفعه تملق المرأة أو الخوف من غضبتها إلى مخالفة الضمير والدين ومجاراة الأهواء ولا حسبان في ميزان الحق لهؤلاء .. على المسلمين عامة أن يتعرفوا حكم الإسلام فيما يعتزمون الإقدام عليه من عمل ، فهو مقطع الحق وفصل الخطاب ، ولا خفاء في أن دخول المرأة في معمعة الانتخاب والنيابة غير جائز لما بيناه.

وإننا ننتظر من السيدات الفضليات أن يعملن بجد وصدق لرفعة شأن المرأة من النواحي الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية الصحيحة في حدود طبيعة الأنوثة والتعاليم الإسلامية قبل أن يحرصن على خوض غمار الانتخاب والنيابة ـ وأن نسمع منهن صيحة مدوية للدعوة إلى وجوب تمسك


النساء عامة بأهداب الدين والفضيلة في الأزياء والمظاهر والاجتماعات النسائية وغير ذلك مما هو كمال وجمال للمرأة المهذبة الفاضلة.

وأصدرت لجنة الفتوى في الأزهر حول هذا الموضوع هذه الفتوى :

إن لجنة الفتوى تتوخى جهدها هذه الأصول والمبادىء ـ في بحث ما يعرض لها من المسائل ـ وتسير على هذا النهج في بحث المسألة الحاضرة : مسألة حق المرأة في الانتخاب. وهي تقرر أن هذه المسألة ذات شقين :

الأول : أن تكون المرأة عضوا في البرلمان.

الثاني : أن تشترك في انتخاب من يكون عضولا فيه.

ولمعرفة الحكم في هذين الأمرين اللذين يتضمن أولهما نوعا من ولاية التصرف في شئون عامة ، يلزم بيان أن الولاية نوعان. ولاية عامة وولاية خاصة.

فالولاية العامة : هي السلطة الملزمة في شأن من شئون الجماعة ، كولاية من القوانين والفصل في الخصومات ، وتنفيذ الأحكام ، والهيمنة على القائمين بذلك.

والولاية الخاصة ، هي السلطة التي يملك بها صاحبها التصرف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالوصاية على الصغار ، والولاية على المال ، والنظارة على الأوقاف. وقد فسحت الشريعة للمرأة في هذا النوع الثاني من الولاية فهي تملك منها ما يملكه الرجل كما تملك التصرف في شئون نفسها الخاصة بها. فلها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة والرهن والإجارة وغيرها من التصرفات وليس لزوجها ولا لأحد من أهلها حق معها في ذلك.

ملكتها الشريعة ذلك كله مع إرشادها إلى ما يحفظ كرامتها وحياطتها بما فيه ضمان شرفها ومكانتها.

أما الولاية العامة ـ ومن أهمها مهمة عضو البرلمان وهي ولاية سن


القوانين والهيمنة على تنفيذها ـ فقد قصرتها الشريعة الإسلامية على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة.

وقد جرى التطبيق العملي على هذا من فجر الإسلام إلى الآن. فإنه لم يثبت أن شيئا من هذه الولايات العامة قد أسند إلى المرأة ، لا مستقلة ولا مع غيرها من الرجال وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات ، وفيهن من تفضل كثيرا من الرجال كأمهات المؤمنين.

ومع أن الدواعي لاشتراك النساء مع الرجال في الشئون العامة كانت متوافرة لم تطلب المرأة أن تشترك في شيء من تلك الولايات ولم يطلب منها هذا الاشتراك ، ولو كان لذلك مسوغ من كتاب أو سنة لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء بإطراد. وهذه قصة سقيفة بني ساعدة في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ فيها الخلاف أشده ثم استقر الأمر لأبي بكر وبويع بعد ذلك البيعة العامة في المسجد ، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة ولم تدع لذلك ، كما أنها لم تدع ولم تشترك في تلك البيعة العامة.

وكم من اجتماعات شورية من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومن الخلفاء وإخوانهم في شئون عامة لم تدع إليها المرأة ولم تشترك فيها.

والدليل الشرعي على هذا المنع هو ما رواه البخاري في صحيحه وأخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سنته والترمذي في جامعه ـ قال البخاري : حدثنا عثمان بن الهيثم قال حدثنا عوف عن الحسن البصري عن أبي بكر قال «لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل ، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس ملكوا ابنة كسرى قال «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة». وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد بهذا الحديث مجرد الأخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولون المرأة أمرهم ، لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح. وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم


من الشر والخسار ، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة. وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال. وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمرا من أمورهم. ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع ، وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع أئمة السلف لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قوما ولا شأنا من الشئون العامة. فهم جميعا يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من سائر الولايات العامة. هذا الحكم المستفاد من الحديث وهو منع المرأة من الولايات العامة ليس حكما تعبديا يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان : «الرجل والمرأة». ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء «الأنوثة» التي جاءت كلمة «امرأة» في الحديث عنوانا لها. وإذا فالأنوثة وحدها هي العلة فيه.

وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة ولا عدم الذكاء والفطنة حتى يكون شيء من ذلك هو العلة ، لأن الواقع يدل على أن للمرأة علما وقدرة على أن تعلم كالرجل بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم؟ فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئا وراء ذلك كله.

إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها ، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربيته وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة وهي مع هذا تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية


وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها. ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها. فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة ، وآيات من سورة الأحزاب : تشير إلى ما كان من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتطبعهن إلى زينة الدنيا ومنعتها ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به من الغنائم حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم. لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العقل والحكمة في ذلك (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) ، وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل ، مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد ردهن القرآن إلى الجادة (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة مع كمال إيمانها ونشأتها في بيت النبوة والوحي ، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها ولم تنشأ نشأتها وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شاؤها أو تقارب منزلتها؟!

فالحق إن المرأة بأنوثتها عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم ، وهذا هو ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنقصان العقل ورتب عليه ـ كما جاء في القرآن الكريم ـ إن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وقد بنت الشريعة على هذا الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة التفريق بينهما في كثير من الأحكام :


جعلت القوامة على النساء للرجال؟ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، وجعلت حتى طلاق المرأة للرجل دونها ومنعتها السفر دون محرم أو زوج أو رفقة مأمونة ولو كان سفرها لأداء فريضة الحج. وجعلت لها حق الحضانة للصغار دون الرجل ، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعات والجهاد ولم توجب عليها شيئا من ذلك. وإذا كان الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة قد أدى في نظر الشريعة إلى التفرقة بينهما في هذه الأحكام التي لا تتعلق بالشئون العامة للأمة فإن التفرقة بينهما بمقتضاه في الولايات العامة ـ التي يجب أن تكون بمنأى عن مظان التأثر بدواعي العاطفة ـ تكون في نظر الحكمة أحق وأوجب.

ومن هنا تقرر لجنة الفتوى ، أن الشريعة الاسلامية تمنع المرأة ـ كما جاء في الحديث الشريف ـ أن تلي شيئا من هذه الولايات ، وفي مقدمتها ولاية سن القوانين التي هي مهمة أعضاء البرلمان. هذا ـ وليس من الولايات العامة التي تمنع منها المرأة ما يعهد به إلى بعض النساء من الوظائف والأعمال كالتدريس للبنات وعمل الطبيبة والممرضة في علاج المرضى من النساء وتمريضهن ، فإن هذه الأعمال وما شابهها ليس فيها معنى الولاية العامة ، الذي هو سلطان الحكم وقوة الإلزام ، وقد استند دعاة حق المرأة في الانتخاب إلى بعض وقائع حسبوها من الولاية العامة التي تولتها المرأة على حين أنها ليست من هذه الولاية في شيء ، فقد قالوا إن السيدة عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش في واقعة الجمل لمقاتلة حزب علي رضي الله عنه ، وإيراد هذه الوقعة على هذا الوجه ليس فيه إنصاف للحقيقة والتاريخ. فإن السيدة عائشة لم تخرج محاربة ولا قائدة لجيش محارب ، وإنما خرجت داعية للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه ، وقد دفعها إلى ذلك أنها كانت ساخطة ـ كغيرها من أهل عثمان وأشياعهم ـ على خطة التريث والتمهل وعدم المبادرة بالبحث قبل كل شيء عن قتلة عثمان والاقتصاص منهم ، وهذا أمر ليس من الولاية العامة في شيء كما قلنا. على أن صنيع


السيدة عائشة هذا ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد إليه ، فإن كان عن اجتهاد منها. وكانت مخطئة فيه. وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج فاعترفت بخطئها وندمت على خروجها. وفي ذلك يروي الحافظ بن حجر في شرح صحيح البخاري يقول : أخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة ـ تدعوه إلى الخروج معها ـ فقال : إنك لأم وإن حقك لعظيم. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لن يفلح قوم تملكهم امرأة» ولم يخرج معها أبو بكرة.

وورد كذلك من طريق قيس بن أبي عاصم قال : لما أقبلت عائشة فنزلت ببعض مياه بني عامر نبحث عليها الكلاب فقالت : أي ماء هذا؟ فقالوا : الحواب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة فقالت لها بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. فقالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم : «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحواب؟» وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم وصححه بن حبان وسنده على شرط الصحيح. وورد عن طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه : «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب (١) تخرج حتى تنبحها كلاب الحواب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو بعد ما كادت» ، وأخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب : «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر» قال : فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها.

من هذه الأحاديث المتعددة الطرق يتضح لمن اشتبه عليهم الأمر أن موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في واقعة الجمل كان عن اجتهاد منها لم يقرها عليه كثير من الصحابة وإنها تذكرت ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم فندمت على خروجها واعترفت بخطئها.

وقد روى الطبراني بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال عمار بن


ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل : ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكن ـ يشير إلى قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) فقالت : «أبو اليقظان؟ قال نعم قالت : والله إنك ما علمت لقوال بالحق ، قال الحمد لله الذي قضى لي على لسانك» فهي تعترف بخطئها وتقر عمارا على إنكاره لصنيعها وتوافقه على أن الخروج لمثل ذلك الشأن لا يجوز للنساء.

ويجدر أن نسوق هنا ما رواه أبو يعلي والبزار عن أنس قال : أتت النساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله فما لنا عمل ندرك به عمل الجهاد في سبيل الله؟ فقال : «مهنة إحداكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله» ، هذا إلى ما قدمناه من أن خروج السيدة عائشة في هذه الواقعة ليس من الولاية العامة ، فلا يتصل بموضوع اليوم في شيء.

وأبعد من ذلك عن الموضوع ما يستدل به أنصار حق المرأة في الانتخاب من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع النساء كما بايع الرجال. ومبايعة النساء هذه ، هي التي جاء بها القرآن الكريم في قول الله تعالى في سورة الممتحنة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ») ، هذه هي المبايعة التي يستدل بها أنصار حق المرأة في الانتخاب وهي عهد من الله ورسوله قد أخذ على النساء ألا يخالفن أحكام الله وأن يتجنبن تلك الموبقات المهلكات التي كان أمرها شائعا فاشيا في العرب قبل الإسلام ، فأي شيء في هذا يصلح مستندا لأنصار هذا الرأي؟. إنه لم يدع أحد أن المرأة ممنوعة من تلقي دروس العلم والمعرفة أو من حضور مجالس العلم محتشمة لسماع تعاليم الدين والوعظ والارشاد ، بل إن الإسلام يحتم عليها أن تتعلم وتتثقف وتتأدب بآداب الدين الصحيحة كما يحتم ذلك على الرجل ، فهذا حق لها وواجب عليها. حق لها على


الأمة أن تمكنها من أن تتعلم كل ما يصلح لها في دينها ودنياها. وواجب عليها أن تبذل جهدها في سبيل هذه المعرفة ، ولا يجب عليها أن تسأل في ذلك عما تجهل وأن تناقش فيما لا تقتنع به مما تسمع ومما هي في حاجة إليه من العلوم والمعارف. ولها في ذلك أسوة ببعض نساء السلف إذا اعترضت إحداهن على عمر وقد كان يخطب الناس في المسجد ينهاهم عن المغالاة في المهور فقالت : أيعطينا الله ويمنعنا عمر؟ تشير إلى قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) ، وفي هذا يروي ابن أبي يعلي عن مسروق أن عمر لما راجعته تلك المرأة بعد ما نزل من المنبر قال : كل الناس أفقه من عمر ثم صعد المنبر فقال : كنت نهيتكم أن تزيدوا على أربعمائة ، فمن طابت نفسه فليفعل ، كل هذا لائق بالمرأة وهو كما قلنا حق لها وواجب عليها لكنه لا نسبة له بما تطالب به اليوم من الولاية العامة وما تدعيه من حق الاشتراك في الانتخاب.

وفي رأينا أن مبايعة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم إن دلت على شيء يصح التمسك به في المسألة الحاضرة فذلك هو التفرقة في الأعمال بين ما ينبغي أن يكون للرجال أو للنساء ، فهي حجة على أنصار دعوى المساواة بين الرجل والمرأة وليست دليلا لهم ، ذلك أن مبايعة النساء هذه كانت عقب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال عند الصفا يوم فتح مكة. فقد بايع هؤلاء الرجال أولا ولكن على ماذا؟ على الإسلام والجهاد. فإن هذا الأمر الذي يليق بهم وينتظر منهم. كما بايعهم قبل ذلك في الحديبية سنة ست من الهجرة على ألا يفروا من الموت ، وكما بايع نقباء الأنصار في منى قبل الهجرة على السمع والطاعة والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

أما مبايعة النساء فكانت على ما قدمنا مما وردت به الآية الكريمة من سورة الممتحنة. ولله الحكمة البالغة ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. إذا


لا شيء مما يستدل به دعاة حق المرأة في الانتخاب يصح أن يكون دليلا لهم. ولا شيء منه يمكن أن يكون من الولاية العامة.

أما الذي هو من الولايات العامة فهو تولى شجرة الدر ملك مصر. لكنا لا نظن أحدا من أهل الجد في القول يلجأ إلى هذا الأمر فيجعل منه دليلا شرعيا على أن الإسلام يجيز في الملك أن تتولاه امرأة ، هذا ما رأته اللجنة في حكم أحد الأمرين وهو الخاص بانتخاب المرأة لتكوين عضوا في البرلمان.

أما الأمر الثاني وهو اشتراكها في انتخاب من يكون عضوا فيه ، فاللجنة ترى أنه باب تريد المرأة أن تنفذ منه إلى تلك الولاية العامة التي حظرتها عليها الشريعة ذلك أن من يثبت له حق الاشتراك في الانتخاب فإنه يثبت له حق ترشيح نفسه لعضوية البرلمان متى توافرت فيه الشروط القانونية لهذه العضوية. وبعيد أن ينشأ للمرأة قانون يبيح لها الاشتراك في التصويت ثم يمنعها ـ لأنوثتها ـ من ترشيح نفسها للعضوية وهي التي لا تقنع بأن الأنوثة تمنعها من شيء ولا ترضى إلا بأن تكون مساوية للرجل في كل شيء.

وإذا لا يصح أن يفتح لها باب التصويت عملا بالمبدأ المقرر في الشريعة والقانون.

إن وسيلة الشيء تأخذ حكمه. فالشيء الممنوع بسبب ما يلازمه أو ما يترتب عليه من ضرر أو مفسدة تكون الوسيلة إليه ممنوعة لهذا السبب نفسه ، فإنه لا يسوغ في عقل ولا شرع أن يمنع شيء لما يترتب عليه أو يلازمه من مضار ويسمح في الوقت نفسه بالوسائل التي يعلم أنها تتخذ طريقا إليه ، وبهذا يتبين أن حكم الشريعة في اشتراك المرأة في انتخاب عضو البرلمان هو كحكمها في اختيارها لتكون عضوا فيه. كلاهما ممنوع. هذا ـ ويتبين مما قدمنا أن الحكم في المسألة بشقيها على هذا الوجه لم ينظر فيه إلى شيء آخر وراء طبيعة هذين الأمرين ، أما إذا نظرنا إلى ما يلازم عملية


الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير فيه إلى نهايته. فإنا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك مما تتعرض المرأة فيه لأنواع من الشر والأذى ، ويتعرض لها فيه أرباب القلوب المريضة الذين ترتاح أهواؤهم وتطمئن أنفسهم لمثل هذا الاختلاط بين الرجال والنساء فهذه مواقف لا ينبغي للمرأة أن تزج بنفسها في معتركها غير المأمون. ويجب عليها أن تنادي بنفسها عنها حفظا لكرامتها وصونا لسمعتها. وهذا واقع لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه ويجب تقدير الأمور وتقرير الأحكام على أساسه ، وقد تكفي هذه الإشارة في التنبيه إلى مضار الاختلاط في اجتماعات الرجال والنساء ، وآيات من الكتاب العزيز ترسم لنا الطرق الصالحة في التربية الاجتماعية والتهذيب الخلقي والأدب الديني الصحيح ، فعلينا أن نعتبر بها ونقيس بتعاليهما ما هو واقع في اجتماعاتنا لنعرف مدى قربنا أو بعدنا من هذه التعاليم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، بإمضاء : محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.

وقد كتب الدكتور أحمد زكي بك والأستاذ إسماعيل مظهر يؤيدان


قضية المرأة ، ورد عليهما علماء الوعظ بالأزهر بآيات وأحاديث شريفة ، مغزاها خلاف ما ذهب إليه الدكتور زكي والأستاذ مظهر.

وقد نشر الشيخ علام نصار المفتي آراء له حول : تعدد الزوجات ، والطلاق وسواها .. وقد قامت معركة حول هذه الآراء ، واشتركت في مناقشتها والرد عليها «جبهة علماء الأزهر» في كتاب نشرته.

ـ ٩ ـ

فكرة توحيد التعليم :

هذه الفكرة أيدها الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة» ، فرأى أن يكون التعليم موحدا في الدولة وأن تكون المعاهد الثانوية مدارس ثانوية خاضعة لوزارة المعارف ، وتستقل كليات الأزهر بالدراسات الدينية.

وقد كتب الدكتور محمد يوسف موسى في ٦ اغسطس ١٩٥٠ كلمة في الأهرام يؤيد فيها هذا الرأي ، ورد عليه الأستاذ الشيخ الطيب النجار عضو جماعة كبار العلماء وغيره من أساتذة الأزهر.

ـ ١٠ ـ

لمناسبة الاحتفال بسفر المحمل والكسوة الشريفة عام ١٩٥٢ وما يلازم هذا الاحتفال عادة من تقاليد والطقوس بعث علي ماهر رئيس الوزراء سابقا إلى فضيلة مفتي الديار المصرية بكتاب يستفتيه في حكم الشريعة في هذه التقاليد والطقوس وقد جاء فيه : جرت العادة في حفلة المحمل السنوية على نظم وتقاليد وطقوس نرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي فيها قبل الموعد المحدد للحفلة في هذا العام ، مع الإحاطة بأننا نعتبر هذه لا تعدوا أن تكون إيذانا بافتتاح موسم الحج ، وإذا رأيتم فضيلتكم الاتصال بصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وصاحب الفضيلة رئيس المحكمة الشرعية


ليكون الرأي إجماعيا نكون لكم من الشاكرين.

وقد قدم حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية فتواه في الرد على رئيس الوزراء مؤيدة برأي فضيلة شيخ الجامع الأزهر وفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية إلى الرئيس علي ماهر ، وجاء فيها ما يلي بعد الديباجة : تشرفت اليوم بتلقي كتابكم المؤرخ ١٨ / ٨ / ١٩٥٢ الذي تطلبون فيه الرأي الشرعي في النظم والتقاليد والطقوس التي تجري في الحفلة السنوية للمحمل ، ونفيد أننا منذ مدة قد بينا الحكم في ذلك بيانا واضحا واستنكرنا بعض هذه التقاليد استنكارا صريحا لمخالفتها لتعاليم الإسلام ، وقد جرت العادة على إقامة هذه الحفلة كل عام عند سفر المحمل وعند عودته بما في ذلك هذه التقاليد التي ينكرها الشرع والتي هي بدع سيئة لا أصل لها في الدين ويجب إزالتها والقضاء عليها ، من ذلك :

١ ـ الطواف بالمحمل سبع مرات حول الدائرة التي ترسم له أمام السرادق المعد للاجتماع الرسمي رمزا إلى الطواف حول الكعبة سبعة أشواط مع أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة في مناسك الحج والعمرة ، ولا يجوز الرمز إلى ذلك بأية حال.

٢ ـ دوران عدة من الجمال حول هذه الدائرة وعليها رجال يطبلون ويزمرون بملابس خاصة وصورة مزرية.

٣ ـ تقبيل أمير الحج والعظماء المدعوين إلى الحفلة مقود الجمل الذي يحمل الهودج المرموز به إلى هودج شجرة الدر حين حجت في عهد دولة المماليك وليس لهذا أصل في الدين فضلا عن أنه مما تأباه النفوس الكريمة. فالتقبيل لم يؤذن به شرعا في المناسك أو غيرها إلا في الحجر الأسود وفيه قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك».


٤ ـ وقوف جماعة من مشايخ الطرق وأتباعهم أمام السرادق يقرأون الفاتحة ويبتهلون بأصوات صاخبة مزعجة وما كانت تلاوة القرآن لذلك وعلى هذا الوجه.

وقد تأصلت هذه الأعمال في النفوس حتى ظن عامة الناس أنها من الدين أو على الأقل من البدع الحسنة ، والدين يأباها ويرشد إلى أنها من السوء بمكان وفي إقراره تضليل للعامة باعتقادهم أنها من الدين وهي ليست من الدين في شيء. وبما أن الواجب شرعا رد المسلمين إلى الحق والهدى وإرشاد العامة إلى ترك المعتقدات الباطلة والبدع السيئة وقد صح من المأثور أن من أمات بدعة فقد أحيا سنة.

لهذا كله نرجو أن يفتتح هذا العهد الإصلاحي بتطهير العقائد والأعمال من شوائب المنكرات ، والله يوفقكم ويصلح بكم ويسدد خطاكم



الباب التاسع

ألوان ثقافية في حياة الأزهر العلميّة

ـ ١ ـ

كان الأزهر لا يعني كثيرا بالعلوم العقلية في عهد الانحطاط العثماني ، ومن شواهد ذلك أن أحمد كور باشا الذي تولى ولاية مصر عام ١١٦١ ه‍ في عهد مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي ، ناقش شيخ الأزهر الشيخ الشبراوي ، في إهمال الأزهر ومصر للعلوم الرياضية (١).

ومع ذلك فقد كان هناك قلة من العلماء تعني بهذه العلوم وتدرسها ، ومن هؤلاء الشيخ حسن الجبرتي الذي كان ذا شهرة عظيمة في العلوم الرياضية ، وقد ذكر ابنه المؤرخ في حديثه عنه في تاريخه أنه في سنة ١١٥٩ ه‍ ـ ١٨٠٥ م أتي إليه طلاب من الفرنجة ، وتلقوا عليه علم الهندسة ، وأهدوا إليه من مصنوعاتهم وآلاتهم أشياء نفيسة ثم رجعوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت ، وأخرجوه من القوة إلى الفعل ، واستخرجوا به صناعات بديعة ، مثل طواحين الهواء ، وجر الأثقال ، واستنباط المياه ، وما إلى هذا من الصناعات ، فأي شيء بعد هذا يحتاج إليه في إثبات فضل الأزهر على العلم؟ وأية يد أثيمة بعد هذا تحاول

__________________

(١) ١٩٢ و ٩٣ ج ١ الجبرتي.


أن تناله بسوء ، وأن تقابل فضله بالجحود؟ وقد تلقى الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم الرياضية في الأزهر ، وكذلك غيرها من العلوم الدينية والعربية ، وهو في الأصل من أهل الحبشة الذين رحلوا إلى الأزهر لطلب العلم ، ولهم رواق فيه يسمى رواق الجبرتية ، وقد تلقى العلوم الدينية والعربية على السيد محمد البنوفري والشيخ عمر الأسقاطي والشيخ أحمد الجوهري وغيرهم ، وبدأ تلقي العلوم الرياضية على الشيخ محمد النجاحي ، ثم قدم الشيخ حسام الدين الهندي إلى الأزهر ، وكان بارعا في العلوم الرياضية والفلسفية ، فتلقاها عليه بعض طلاب الأزهر ، مثل الشيخ الوسيمي ، والشيخ أحمد الدمنهوري ، فذهب إليه الشيخ حسن الجبرتي ولازمه ، وتلقى عليه كتبا نفيسة في هذه العلوم ، مثل أشكال التأسيس في الهندسة ، وتحرير أقليدس ، والمتوسطات والمبادىء والغايات ، والأكر ، وعلم الأرتماطيقي ، والجغرافيا ، وعلم المساحة ، ولم يزل يطلب هذه العلوم حتى برع فيها ، وطارت شهرته بها ، وكان يعرف اللغة التركية والفارسية ، ويتكلم بهما كأهلهما ، ثم اشتغل بالتدريس في الأزهر ، وتلقى عليه فيه الشيخ أحمد الشيخ عبد الرحمن البنان والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير ، وغيرهم من أفاضل علماء الأزهر. وكان يقتنى كثيرا من الكتب النفيسة في العربية والفارسية والتركية ، ومما كان يقتنيه من الكتب الفارسية كتاب الكلستان ، وديوان حافظ ، وشاه نامه ، وكان بها من الصور العجيبة ما يكسبها رونقا وبهاء ، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية ، والكرات النحاسية ، والآلات الإرتفاعية ، والميالات ، وحلق الأرصاد ، والأسطرلابات ، والعدد الهندسية ، وآلات أكثر الصناعات كالنجارة وغيرها ، وآلات الرسم والتقاسيم ، وكان كل ماهر في صناعته يجتمع به ليتسفيد منه ، وكان مع هذا يعرف صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المايه ، وقد رسم في أيام اشتغاله ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول ، وفي سنة ١١٧٢ ه‍ ـ ١٧٥٨ م ، وقع الخلل في الموازين


فتحركت همته لتصحيحها ، وأحضر الحدادين والسباكين ، وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار ، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي والوضع الهندسي ، ولم ينقص هذا من إلمامه بالعلوم الدينية ، بل كان حجة في الفقه وغيره من هذه العلوم ، حتى إن القضاة لم يكونوا يثقون إلا بفتواه ، وكانت وفاة هذا العالم الأزهري سنة ١١٨٨ ه‍ ـ ١٧٧٤ م ..

ـ ٢ ـ

وقد نعى الشيخ حسن العطار على الأزهر إهماله هذه العلوم وسواها وذلك في حاشيته على شرح جمع الجوامع في أصول الفقه (١) وكان من تلامذة العطار رفاعة رافع الطهطاوي الأزهري ، الذي سافر مع بعثات محمد علي إلى باريس ، وله كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وكتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ، الذي يقول فيه عن محمد علي وعهده (٢) إنه جدد دروس العلوم بعد اندراسها ، وأوجدت بعد العدم رؤساء العلماء والفضلاء نتيجة قياسها ، لقصد انتشار العلم والزيادة في الفضائل ، فأتى من ذلك بما لم تستطعه الأوائل ، غير أنه ـ حفظه الله وأبقاه ـ ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور ، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر ، نعم إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية ، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الإثني عشر ، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر ، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر ، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر ، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة ، منوط بعدول الأمر ، بهذه العصابة ، التي ينبغي أن

__________________

(١) ٤٦١ / ٢.

(٢) ٢٨ تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي ، ٢٤٧ ـ ٢٥٠ مناهج الألباب المصرية لرفاعة.


تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة ، ورفع أعلام الشريعة المنيفة ، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية ، التي لها مدخل في تقديم الوطنية ، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية ، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام ، يكون من الأعمال الباقية على الدوام ، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام ، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة ، يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله ، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم ، ومنهجه الأبهج هو القويم ، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم ، وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم ، لا سيما أن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية نقلها الأجانب الى لغاتهم من الكتب العربية ، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة ، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة ، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري (١١٠١ ـ ١١٩٢ ه‍) ـ الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير (١١٣٢ ـ ١٢٠٨ ه‍) جدّ شيخ شيوخ الجامع الأزهر ، السيد المصطفوي العلم الشهير (١) رأى أنه أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير ، وأنه له فيها المؤلفات الجمة ، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند الجامع الأزهر من الأمور المهمة ، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا :

أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر الشيخ علي الزعتري. خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات وبما توقف عليها. كالفرائض والميقات ، وسيلة ابن الهائم ومعونته ـ كلاهما في الحساب ـ والمقنع لابن الهائم ، ومنظومة الياسمين في الجبر والمقابلة ، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج ، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات وأخراهما على ربع

__________________

(١) يعني بذلك الشيخ مصطفى العروسي (١٢١٣ ـ ١٢٩٣ ه‍).


المجيب ـ كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط ـ ونتيجة الشيخ اللاذقي المحسوبة لعرض مصر ، والمنخرفات لسبط المارديني في علم وضع المزاول ، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفة في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي ، وبعضا من قانون ابن سينا ، وبعضا من كامل الصناعة ، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى ـ والجميع في الطب ـ وقرأت على استاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية ، ورسالة ابن الشاطر في علم الاضطراب ، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها ، والدر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة ، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة ، وبعضا من رفع الأشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة ، وقرأت على الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب ، منها رسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على علم التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب ، ورسالة اخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسيط المارديني ، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن صاعد الأنصاري ، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما ، أولهما علم الحرف وآخرها علم الطلاسم ، ورسالة للإسرائيلي ، ورسالة للسيد الطحان ـ كلاهما في علم الطالع ـ ورسالة للخازن في علم المواليد ـ أعني الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن ـ وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في علم الحكمة ، ومتن الجغميني في علم الهيئة ـ بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه ـ وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم


الكواكب السبعة. ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ فقال : طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرتماطيقي ، في نحو كراسين ، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه ، ورسالة الكلام اليسير في علام البواسير ، في نحو كراسين ، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح ، في نحو كراسين ، وكتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب ، في نحو خمسة كراريس ، ورسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب ، في نحو كراس ، وكتاب منهج السلوك في نصيحة الملوك ، في نحو عشرة كراريس ، وكتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب ـ معنونا باسم السلطان مصطفى خان بن السلطان أحمد خان ، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس ، الجالس على سرير الملك في سابع عشر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قبل الشمس. ويقول رفاعة : فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر ، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر ، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام ، فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية ، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية ، وفضل العلامة الجبرتي المتوفي في أثناء هذا القرن في هذه العلوم ، وفي فن التاريخ أمر معلوم ، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي ، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم ، حتى في العلوم الجغرافية ، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة ، المشهور أيضا بالملك المؤيد ، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ ، وعلى طبقات لأطباء وغيرها ، كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها ، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية ،


مع غاية الديانة والصيانة ، وله بعض تآليف في الطب وغيره ، زيادة عن تآليفه المشهورة ، فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو بمصر ، بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته ، لفازوا بدرجة الكمال ، وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال ، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة ، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد ، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر ، فترجع المسألة دورية ، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ، ليغتنم فرصة ذلك كل طالب وسائل ، وكل من سار على الدرب وصل ، وإنما المكافأة على تمام العمل.

ـ ٣ ـ

وقد ازدهر القرن التاسع عشر بكوكبة من المصلحين ، من أمثال الأفغاني (١٨٣٩ ـ ١٨٩٧ م) وعلى مبارك (١٨٢٣ ـ ١٨٩٣ م) والسيد عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٨ ـ ١٩٠٢ م) والشيخ محمد عبده (١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ م) ، وكان هؤلاء المصلحون يتجهون أول ما يتجهون إلى إيقاظ الفكر المصري والعربي ، وإلى تجديد النهضة الدينية.

ولما حضر جمال الدين الأفغاني إلى مصر لأول مرة سنة ١٢٨٦ ه‍ أقام في القاهرة أربعين يوما ، تردد فيها على الجامع الأزهر ، واتصل به كثير من العظماء والطلاب ، ثم ترك القاهرة إلى الأستانة ، فوصل إليها في سنة ١٢٨٧ ه‍ ، ولكن الدسائس أحاطت من كل جانب ، ومن أجل ذلك عاد جمال الدين إلى القاهرة في أوائل سنة ١٢٨٨ ه‍ ، فأكرمه إسماعيل ، وأجرى عليه راتبا يليق به ، فجعل من بيته مدرسة يقصدها النابهون من طلاب العلم في الأزهر وغيره ، وكان يدرس لهم أمهات الكتب في علم الكلام والحكمة والهيئة والتصوف وأصول الفقه ، ولم يكن يقصد من دروسه


التعليم فقط ، بل كان يقصد منها الدعوى إلى الإصلاح ، وفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم وبث الأخلاق العالية في النفوس ، وكان إلى هذا يرشد الطلاب إلى مطالعة كتب الأدب ، ليتعلموا منها حسن الكتابة والإنشاء ، ويستطيعوا أن ينهضوا بالأمة بالكتابة في الجرائد وغيرها ، فأيقظ النفوس من غفلتها ، وفتح عيون الطلاب في الأزهر لضعف التعليم فيه ، حتى ألفوا من بينهم جماعة تسعى في إصلاحه ، وكان أول ما عملوه كتابة منشور علقوه على أعمدة الأزهر في سواد الليل ، وبينوا فيه مواضع الخلل في التعليم بالأزهر ، وشرحوا الوسائل التي تؤدي إلى إصلاحه ، فبدأ جمال الدين بدروسه في الإصلاح ، الجهاد في إصلاح الأزهر ، وأوجد من أبنائه وغيرهم من يعمل فيه بكل ما يمكنه من الوسائل التي توصل إليه.

وكان نشاطه التعليمي ذا شعبتين : دروس علمية منظمة يلقيها في بيته (في خان الخليلي) ، وكان يتلقاها أمثال الشيخ محمد عبده ، والشيخ عبد الكريم سلمان ، والشيخ سعد زغلول ، والشيخ إبراهيم الهلباوي من مجاوري الأزهر وعلمائه ، وكان يدرس لهم كتب منطق وفلسفة وتصوف وهيئة ، ويظهر أن هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها ، وإنما قيمتها كانت فيما يضيفه عليها الشيخ في شرح آرائه وأفكاره ، والتبسط في مناحي الفكر ، والتطبيق على الحياة الواقعية ، بربط الحياة العملية بالعلمية ، هذا إلى أنه كان يأخذ بيد تلاميذه ، فيجعلهم يسيطرون على الكتاب ، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقائق ذاتها ، يحدد لهم موضوع الدرس من الكتاب ، ويفيض عليهم في شرحه من عنده حتى يحيطوا به ، ويتفهموه من جميع أطرافه.

وكانت مدرسته الثانية غير النظامية أكبر أترا وأعم نفعا ، وكان تلاميذه فيها زواره في بيته أو في بيوتهم حين يزورهم ، ومن يلتقي بهم في (قهوة البوستة) وفي المجتمعات من أمثال : محمود سامي البارودي ، وعبد السلام المويلحي وأخيه إبراهيم المويلحي وسعد زغلول ، ومحمد عبده


وعلي مظهر ، وأديب إسحق وغيرهم. وفي هذه المدرسة حول مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال ، كان الأدب عند الحكام لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء ، والتغني بأفعالهم وصفاتهم ، فأتى جمال الدين وسخّر الأدب في خدمة الشعب ، يطالب بحقوقه ، ويدافع عنه من ظلمه ، يبين للناس سوء حالتهم ، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم ، ويحرضهم أن يخرجوا من بؤسهم وضلالهم وألا يخشوا بأس الحاكم فليست قوته إلا بهم ، فكان أدبه ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم ، وينشد الحرية ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم ، ويجعل من الأديب مشرفا على الأمراء ، لا سائلا يمد يده للأغنياء ، كنت تتصفح آثار الأدباء أمثال : السيد على أبي النصر ، والشيخ علي الليثي وعبد الله باشا فكري ، فلا ترى موضوعاتهم غير غزل في حبيب ، أو رسالة إلى صديق ، أو مدح لأمير ، أو استعطاف له ، أو اعتذار إليه ، أو وصف سفينة ، أو شكر على هدية. أما مصر وحال شعبها ، وبؤس أهلها ، وظلم حكامها ، وحقوق الناس ، وواجبات الحكام ، فلا ترى لذلك أثرا. فقلب جمال الدين هذا الوضع وفتح للأدباء منافذ القول ، وكانت خطته في ذلك ما يأتي :

١ ـ كون جماعة حبب إليهم الكتابة ، ورسم لها خطتها وأوحى إليهم بالمعاني وشجعهم على إنشاء الجرائد ، يكتب فيها ، ويستكتب القادر منهم ، فأنشأ أديب إسحق جريدة «مصر» في القاهرة ، و «التجارة» بالأسكندرية ، وكان جمال يكتب فيها أحيانا باسم مستعار أو باسمه الحقيقي وقد كتب مقالين : أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها ، والثاني سماه «روح البيان في الأنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد ، ولقيت الصحيفتان رواجا كبيرا ، ثم أغلقهما رياض باشا وكذلك وجه الكتاب في «الوقائع المصرية» وغيرها ، وبذلك ربى طائفة من الكتاب تحسن الكتابة» واختيار الموضوعات ، ووضع النواة الأولى للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شئون وطنهم وحالة شعوبهم ، والذي ساعده على النجاح في ذلك


حال مصر المالية والسياسية وتدخل الأجنبي فيهما وجزع الشعب والحاكم معا لذلك فشجعوا هذا النقد من الصحافة ، ولو لا ذلك لخابت دعوة جمال الدين في مصر كما خابت في غيرها.

٢ ـ أحاديثه في المقهى وفي المحافل وبيوت الزيارة ، تواتيه المعاني ، ويطاوعه اللسان ، فيخلق أمتع الأحاديث ، ويحدث كل من بمجلسه بلسان عربي مبين ، فيدهش السامعين ، ويفحم السائلين ، ويبكم المعترضين ، وبذلك خرج مدرسة عجيبة تحسن السمر والحديث والاستطراد ، وتملك على السامع لبه من أمثال محمد عبده ، وسعد زغلول ، والهلباوي ، ولطفي السيد ، وغيرهم.

وهكذا بدأ جمال الدين تعليمه في حجرة ثم في مقهى أو مجتمع ، ثم في محفل يريد توسيع العقول ، وتعليم الحرية في البحث والنقد ، وتبصير الشعب بحقوقه وواجبات الحاكم نحوه ، ويضع يده في صميم السياسة فيريد أن يسيطر على الوزارات والحكومة بمحفله ، ورأى أول أمره أن لا قيمة لمجلس النواب ما دام الشعب غافلا جاهلا ، فلما نضجت الأمة واستبد الحكام ، غير رأيه وألح في طلب الحكم النيابي وحرض عليه. وكان يلتقي بالأمير توفيق في المحفل فيقدره ويدين بمبادئه ، ولكنه لما تولى الحكم بعد إسماعيل دس له الدساسون ، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر نفي جمال الدين فقبض عليه في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٧١ ، ونفى إلى بمباي في الهند ، وكان ذلك آخر عهد له بمصر.

وسافر الأفغاني إلى لندن عام ١٨٨٣ ومنها إلى فرنسا ، ووافاه إليها تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده وكان منفيا في بيروت. وأخذا يتشاوران فيما يعملان من وجوه الإصلاح ، وكان من رأى الشيخ محمد عبده بعد ما رأى من غدر الناس في ثورة عرابي أن يذهبا إلى مكان بعيد ، ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها أنجب التلاميذ من الأقطار الإسلامية ،


ويعدانهم للزعامة ونشر الإصلاح ، ولكن لم يعجب السيد هذا الرأي ، ورأى فيه خورا وضعفا ويأسا ، ووضع خطته بإنشاء جريدة في باريس للعالم الإسلامي تبصره بحقوقه وواجباته ووظيفته ، وكانت جريدة «العروة الوثقي» للسيد فيها الأفكار والمعاني ، وللشيخ التحرير والصياغة ، وميرزا محمد باقر يعرب لها عن الصحف الأجنبية ما يهم الشرق ، وكان وراءها جمعية سرية في جميع أقطار الإسلام ، ولها فروع في بلدانه يجتمعون للمذاكرة ، ويتبرعون بالمال ينفق منه على الجريدة والقائمين بها ، فقد كانت ترسل بالمجان أكثر أعدادها ، وكان الأعضاء يقسمون اليمين لأحياء الأخوة الإسلامية ، وتقوية الإسلام بقدر ما يستطيعون. وكان أهم أغراض الجريدة كما لخصت هي ذلك في أول عدد لها :

١ ـ بيان الواجب على الشرقيين ، وأسباب فساد حالهم.

٢ ـ إشراب النفوس عقيدة الأمل وترك اليأس.

٣ ـ الدعوة إليالتمسك بالأصول التي كان عليهم أسلافهم وعزوا بها.

٤ ـ الدفاع عما يتهم به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من أنهم لن يتقدموا ما داموا متمسكين بدينهم.

٥ ـ إخبارهم بما يهمهم من حوادث السياسة العامة والخاصة.

٦ ـ تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية ، ومناصرة من لا يجحف بحقوقهم من أمم الخارج.

وأخذ يكتب في ذلك في الجريدة ويفصل هذه الأسباب في مقالات ، وكان مثله الأعلى حكومة إسلامية موحدة للجميع ، ولما رأى عدم إمكان ذلك دعا إلى أن تحكم الأقطار الاسلامية بحكومات إمامها القرآن ، وأساسها العدل والشورى وترتبط جميعا بروابط محكمة.

وقد قاده هذا التفكير في الحكومة الإسلامية وأخلاق الشعب التي


يجب أن يكون عليها إلى أن يناهض في الجريدة الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية وخاصة في مصر ، وشغل هذا حيزا كبيرا منها بأسلوب مهيج وعبارات شديدة ، كما استخدم بجانبها رسلا متخفين إلى الأقطار المختلفة ينشرون التعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة ، وكان منهم الشيخ محمد عبده ـ وهو محكوم عليه بالنفي ـ فجاء إلى مصر وتونس وكان من نتائج هذا أن روقبت الجريدة من أصحاب السيادة على حكومات الهند ومصر ، فمنعت من دخولهما ، واستحال وصولها إلى أصحابها وقرائها فاحتجبت عن أداء رسالتها.

وقد كان يدعو إلى الاجتهاد وترك التقليد في الدين ، فإن الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. ويرى أن التفرقة بين أهل السنة والشيعة سببها مطامع الملوك ، فالفريقان يؤمنان بالقرآن ورسالة محمد ، ففيم الخلاف والقتال؟. ويرى أن الإشتراكية في الإسلام ملتحمة مع الدين ، ملتصقة مع الخلق ، يبعث عليها حب الخير ، على النقيض من إشتراكية الغرب التي يبعث عليها جور الحكام وعوامل الحسد في العمال لأرباب الغنى. كما يرى أن المرأة تساوي الرجل في تكوينها العقلي والتفاوت بينهما أتى من التربية وإطلاق السراح للرجل ، وتقييد المرأة في البيت. ومهمتها في هذا أسمى ، ولا تقل عن مهمة الرجل ، ومن يطلب مساواتها فهو مخطي ، ولا مانع من أن تعمل في الخارج إذا فقدت عائلها ، واضطرتها ظروفها ولكن بطهارة. كما أنه لا مانع عنده من رفع الحجاب إذا لم يتخذ وسيلة للفجور. ويرى كذلك أن الدين لا يخالف الحقائق العلمية ، وإذا ظهر غير ذلك وجب تأويله ، فالقرآن أعظم من أن يخالف العلم الحقيقي خصوصا في الكليات.

وقد أجمع معاصروه ومن درسوا تاريخ حياته على أن له غرضين واضحين :


١ ـ بث الروح في الشرق لينهض بثقافته وعلمه وتربيته ، وتنقية عقيدته من الخرافات واستعادة عزه ومكانته.

٢ ـ مناهضة الاحتلال الأجنبي حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على أي شكل ، لتلقي ما يحيط بها من أخطار.

ولما مات حمل المصلحون بعده لواء هذين الغرضين متفرقين وقد كان يحمل لواءهما معا ، فحمل الشيخ محمد عبده لواء الإصلاح الثقافي ، فإن الواجب الأول على المصلح في رأيه تثقيف الشعب وتهذيبه ، ثم الاستقلال يكون الخاتمة. وقد رفع العلم الآخر وهو العلم السياسي لمناهضة الحكم الأجنبي عبد الله نديم ، ثم مصطفى كامل وفريد ، ثم سعد زغلول. وكذلك كان في غير مصر من أقطار الشرق من حملوا لواء الإصلاحين وساروا على هداه ولكن في بطء لا يعجبه فقد كان طموحا إلى مقصده ، شجاعا مقداما لا يهاب الموت ، حديد المزاج ، لا يريد الحق إلا من طريق الحق ، يريده غاية ويريده وسيلة ، ولكن سياسة الدنيا غير ذلك تقوم على المصالحة ، وأخذ شيء بترك شيء ، ومن أراد الحق كاملا فليطلب ذلك في المثل الأعلى للخلق لا في السياسة أو فلينتظر حتى تخضع السيادة للخلق ولن يكون.

ـ ٤ ـ

ويقول. في إهمال العلوم الرياضية والفلسفية في الأزهر ـ الأستاذ مصطفى بيرم من رسالة له عن الأزهر قدمها لمؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة همبورج بالمانيا عام ١٩٠٢ : إن تلك العلوم الرياضية والجغرافية والعقلية والفلسفية مهجورة من الأزهر ينظر إليها بعين السخط ، ويفر من سماعها فرار الصحيح من الأجرب ، ولكن بفضل الله وكرمه لم يطل الأمر على ذلك كثيرا ، حتى قيض الله لنا علماءنا الأعلام من ثنيه لأسباب تأخرنا العلمي ، وأخذوا في السعي لإعادة تدريس تلك العلوم


النافعة المقوية للملكة الذهنية ، ولخشية المفاجأة بإعادة تدريسها للجامع بعد ما رسخ في أذهان الكثير من أن بها ما يعدوا على الدين ، رأى ولاة الأمور أن يمهدوا السبيل لادخالها في الجامع الأزهر بأخذ آراء أفاضل العلماء الأزهريين ، فكلفوا والدي المرحوم السيد محمد بيرم بهاته المهمة العلمية ، وبعد أخذ وعطاء بينه وبين المرحومين : العلامة الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام بمصر وشيخ الجامع الأزهر ، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك العهد ، استقر الرأي أن يكتب لهما استفتاء صورته ، بعد الديباجة : «ما قولكم رضى الله عنكم؟ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية؟ مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء ، وغيرها من سائر المعارف ، لا سيما ما ينبني عليه منها من زيادة القوة في الأمة ، بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة؟ بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم ، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه ، وإذا كان الحكم فيها كذلك ، فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين؟ أفيدوا الجواب ، لا زلتم مقصدا لأولى الألباب : فأجابه العلامة الشيخ محمد الأنبابي بالفتوى الآتية بعد الديباجة : يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا ، لأنه لا تعرض فيها شيء من الأمور الدينية ، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا ، كما يجب علم الطب لذلك «كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء ، وإن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة ، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وغيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية ، فإنه حرام كما


قال الغزالي ، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب ، والتعرض للإخبار بالمغيبات ، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط ، وأما الطبيعيات وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها ـ كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم ـ فإن كان ذلك البحث على طريق أهل الشرع فلا منع منها ، كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوي الجامع للمسائل المنتشرة بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها ، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب ، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد ، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام ، لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع ، كما أفاده العلامة المذكور ، نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة ، للأمن عليه مما ذكرنا ، قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة ، على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة ، ثانيها الجواز مطلقا ، ونسبه الملوى في شرح السلم للجمهور ، وثالثها المنع مطلقا ، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي ، قال الملوي : ووافقهما على ذلك كثيرا من العلماء. ولما كان الإمام النووي ممن يقول في المنطق بالمنع مطلقا مشى على نظير ذلك في الطبيعة ، فعد في كتاب السير من الروضة من العلوم المحرمة علوم الطبيعيات بدون أن يفصل ، لكن حيث يعتمد التفصيل هناك فلنعتمده هنا ، إذ لا فرق في ذلك ، فإن مظنة الضرر والنفع موجودة في كل منهما ، والظاهر أن موضوع كلام الروضة ما كان على طريقة الفلاسفة ، إذ غيره لا محظور فيه اتفاقا كالمنطق الخالص ، كما يشعر بذلك تعبيرها بعلوم الطبائعيين دون علوم الطبيعة. وأما علم تركيب الأجزاء المعبر عنه بالكيمياء فإن كان المراد به البحث عن التركيب والتحليل بدون تعرض لما يخشى منه على العقيدة الإسلامية. فلا بأس به ، بل له أهمية حسب ثمرته ، وإلا جرت فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة ، وأما العلم المعروف بعلم جابر ، ويسمى أيضا


علم الصنعة وعلم الكاف ، وهو الذي ينصرف إليه علم الكيمياء عند غالب الناس ، فقد أفاد العلامة ابن حجر في شرحه على المنهاج أنه إن قلنا بالمعتمد من جواز انقلاب الجسم عن حقيقته وكان العلم الموصل لذلك يقينا جاز تعلمه والعمل به ، وإلا حرم ، ولفقد هذا الشرط لم يتحصل المشتغلون به فيما رأينا إلا على ضياع الأموال ، وتشتت البال ، وتغيير الأحوال ـ فعلم أن العلوم الرياضية لا بأس من قراءتها كما تقرأ علوم الآلات. وكذا الطبيعيات وعلم تركيب الأجزاء ، حيث كانت تقرأ على طريقة لا يفهم منها منابذة الشرع بحال ، كبقية العلوم العقلية مثل المنطق والكلام والجدل ، بل يجب كفاية من هذه الثلاثة ما يحتاج إليه في الحجاج عن العقائد الدينية.

وكتب الشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك لعهد هذه الفتوى : «ما أفاده حضرة شيخ الإسلام موافق لمذهبنا ، وما استظهروه من أن الخلاف الجاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضا وجيه.

والله سبحانه وتعالى أعلم». وكانت فتوى الشيخ الأنبابي في غرة ذي الحجة سنة ١٣٠٥ ه‍ ، وكانت فتوى الشيخ البنا في ١٧ من هذا الشهر (١).

ـ ٥ ـ

كانت العلوم والكتب التي تدرس بالأزهر في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين كما جاء بيانها في رسالة مقدمة من شيخ الأزهر إلى الخديو في سنة ١٣١٠ ه‍ ، هي كما اشتملت عليه هذه الرسالة (٢) :

١ ـ علم التوحيد ، والكتب التي تدرس فيه هي أم البراهين الصغرى للشيخ محمد يوسف السنوسي بشرح المؤلف والهدهدي والباجوري ، وأم

__________________

(١) ٣٩ تاريخ الإصلاح في الأزهر.

(٢) ص ٥٠ تاريخ الاصلاح في الأزهر.


البراهين الكبرى للسنوسي ، وجوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني بشرح عبد السلام اللقاني ، والعقائد النسفية بشرح السعد التفتازاني ، والخريدة للشيخ أحمد الدردير ، والمقاصد لسعد الدين التفتازاني ، والمواقف للشيخ عبد الرحمن العضد بشرح الجرجاني ، وطوالع الأنوار للبيضاوي بشرح الأصفهاني ، ومتن السباعي بشرح الباجوري.

٢ ـ التصوف ، والكتب التي تدرس فيه هي الإبرير للشيخ عبد العزيز ، والأنوار القدسية للشيخ عبد الوهاب الشعراني ، وبستان العارفين للشيخ نصر السمرقندي ، وتاج العروس لابن عطاء الله السكندري ، والتجليات الإلهية للشيخ محي الدين بن عربي ، وتحفة الإخوان للشيخ الدردير ، وتفليس إبليس لعز الدين بن عبد السلام ، وتنبيه الغافلين للشيخ نصر السمرقندي ، والتنوير في إسقاط التدبير لابن عطاء الله السكندري ، والإحياء للغزالي ، وقوت القلوب لأبي طالب المكي ، والمنن الكبرى للشيخ الشعراني.

٣ ـ التفسير ، والكتب التي تدرس فيه هي الكشاف للزمخشري. وتفسير الجلالين بحاشية الشيخ الجمل ، وتفسير الخطيب الشربيني ، وتفسير عبد الله بن عمر البيضاوي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير الخازن ، وتفسير النسفي ، والاتقان للسيوطي.

٤ ـ التجويد والقراءات ، والكتب التي تدرس فيه هي تحفة الأطفال للشيخ سليمان الجنزوري ، والجزرية للشيخ الجزري ، والتمهيد له أيضا ، وجهد المقل للشيخ علي زاده ، وإرشاد الرحمن للشيخ عطية الأجهوري ، والشاطبية للشاطبي ، والوقف والابتداء للشيخ الأشموني.

٥ ـ الحديث ، والكتب التي تدرس فيه هي صحيح البخاري بشرح والعسقلاني والعيني وزكريا الأنصاري ، ومختصر البخاري للشيخ ابن أبي حمزة ، وصحيح مسلم بشرح النووي ، والشفاء للقاضي عياض


بشرح الخزرجي ومنلا على قاري ، وموطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني وابن عبد البر ، والجامع الصغير للسيوطي بشرح العزيزي والمناوى والأبياري ، والأذكار للنووي بشرح ابن علان ، والتجريد للزبيدي ، والشمائل المحمدية للترمذي بشرح الجمل ، والترغيب والترهيب للمنذري ، والأربعين للنووي ، وصحيح الترمذي ، وصحيح النسائي ، وصحيح الأشعث وصحيح ابن ماجه ، والمواهب اللدنية للقسطلاني ، والسيرة الحلبية للحلبي.

٦ ـ مصطلح الحديث ، والكتب التي تدرس فيه هي ألفية الحافظ العراقي بشرح شيخ الإسلام العدوي. وتقريب النووي بشرح الجلال السيوطي ، والنخبة لابن حجر العسقلاني ، والبيقونية للشيخ عمر البيقوني بشرح الزرقاني ومنظومة الصبان.

٧ ـ فقه الحنفية ، والكتب التي تدرس فيه هي نور الإيضاح بشرح الشرنبلالي ، والكنز للنسفي بشرح الطائي وابن نجيم والزيلعي والعيني ومثلا ، وتنوير الأبصار للتمرتاش بشرح الحصفكي ، والبداية للمرغيناني ، والهداية ، والغاية ، وفتح القدير ، والأشباه والنظائر لابن نجيم ، والخراج للإمام أبي يوسف ، وملتقى الأبحر للحلبي بشرح الحصفكي ، ومجمع البحرين لابن الساعاتي ، ومتن القدوري للبغدادي ، وجامع الفصولين ، والسراجية للسجاوندي.

٨ ـ فقه المالكية ، والكتب التي تدرس فيه هي العشماوية للشيخ العشماوي بشرح ابن تركي ، والعزية لأبي الحسن علي الشاذلي بشرح الزرقاني ، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني بشرح الحسن الصعيدي ، وأقرب المسالك للدردير ، ومختصر خليل بشرح الدردير والخرسي والزرقاني والحطاب والشبراخيتي ، والمجموع للشيخ الأمير ، والعاصمية ، والتبصرة لابن فرحون ، والقلصاوي للقرسي.

٩ ـ فقه الشافعية ، والكتب التي تدرس فيه هي التقريب لأبي شجاع


بشرح ابن قاسم والخطيب الشربيني ، والأشباه والنظائر للسيوطي ، والتحرير للشيخ زكريا الأنصاري ، ومنهج الطلاب له أيضا ، والروض لابن المقري ، ومنهاج الطالبين للنووي ، والعباب لابن المدحجي ، ونهج الطلاب للجوهري ، والبهجة لابن الوردي ، والوجيز للغزالي ، والروض للنووي ، والإرشاد لابن المقري ، وكشف النقاب للونائي ، وفتاوى ابن حجر ، وفتاوى الرملي ، والرحبية ، والترتيب للمارديني ، وكشف الغوامض للسبط ، وألفية ابن الهائم.

١٠ ـ فقيه الحنبلية ، والكتب الذي تدرس فيه هي الدليل للشيخ مرعي ، وزاد المستقنع للبهوتي ، والمنتهي للفتوحي ، والإقناع للحجاوي ، والمقنع لابن قدامة ، ومختصر المقنع للحجاوي ، والإنصاف للمرداوي ، ومختصر الشطي.

١١ ـ أصول الفقه ، والكتب التي تدرس فيه هي جمع الجوامع للسبكي بشرح المحلي ، ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد. ومنار الأنوار للنسفي بشرح بن مالك والحصفكي وابن نجيم ، والتنقيح لصدر الشريعة ، وتنقيح الفصول للقرافي ، والورقات لإمام الحرمين بشرح المحلي وابن القاسم ، والورقات للحطاب ، والتحرير للكمال ابن الهمام ، وفصول البدائع ، والمرآة.

١٢ ـ اللغة ، والكتب التي تدرس فيها هي القاموس للفيروزبادي بشرح السيد مرتضى ، والصحاح للجوهري ، ومختار الصحاح للرازي ، والمصباح المنير للفيومي ، وفقه اللغة للثعالي ، والأساس للزمخشري ، والمزهر للسيوطي ، ولسان العرب للأنصاري.

١٣ ـ النحو ، والكتب التي تدرس فيه هي الأجرومية للصنهاجي بشرح الكفراوي. والشيخ خالد ، والأزهرية وشرحها للشيخ خالد ، وقطر الندى لابن هشام ، وشذور الذهب له أيضا ، وألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل


والأشموني ، ومغنى اللبيب لابن هشام ، والكافية لابن الحاجب ، والتسهيل لابن مالك.

١٤ ـ الصرف ، والكتب التي تدرس فيه هي المراح لأحمد بن علي بن مسعود ، الشافية لابن الحاجب بشرح شيخ الإسلام والرضى ، والتصريف للغزي بشرح السعد التفتازاني ، والترصيف للأخضري ، ونظم العقود للطحاوي بشرح الشيخ عليش ، ولامية الأفعال لابن مالك ، ورسالة الجوهري في الإشتقاق.

١٥ ـ علوم البلاغة ، والكتب التي تدرس فيها هي التلخيص للخطيب القزويني بشرح السعد ، والمفتاح للسكاكي بشرح السعد والسيد ، والجوهر المكنون للأخضري بشرح الدمنهوري ، وعقود الجمان وشرحه للسيوطي ، ومنظومة ابن الشحنة ، والرسالة البيانية للصبان ، والسمرقندية.

١٦ ـ العروض والقوافي ، والكتب التي تدرس فيه هي الكافي للقنائي ، والخزرجية ومنظومة الصبان.

١٧ ـ الوضع والكتب التي تدرس فيه هي : الرسالة العضدية بشرح السمرقندي ، وعنقود الزواهر.

١٨ ـ المنطق والكتب التي تدرس فيه هي السلم للأخضري بشرح المؤلف والقويسني والملوي والباجوري ، وإيساغوجي للأبهري بشرح الشيخ زكريا الأنصاري ، والتهذيب للسعد التفتازاني بشرح الخبيصي ، والشمسية للكاتبي بشرح القطب الرازي والمختصر للسنوسي ، والمطالع للأرموي بشرح الرازي.

١٩ ـ أدب البحث والمناظرة ، والكتب التي تدرس فيه هي آداب الكلنبوي بشرح حسن باشازاده ، وآداب السمرقندي بشرح الشيرواني وشيخ الإسلام ، وآداب الساجقلي للمرعشي ، وآداب الجرجاني.


٢٠ ـ التاريخ والكتب الذي تدرس فيه هي تاريخ الخميس للقاضي حسين الديار بكري ، وإسعاف الراغبين للصبان ، ومقدمة ابن خلدون ، وتاريخه العبر وديوان المبتدأ والخبر ، والكامل لابن الأثير ، والخطط للمقريزي ، ونفح الطيب للمقري ، وتحفة الناظرين للشرقاوي ، والعقد الفريد لابن عبد ربه ، والطبقات الصغرى لابن السبكي ، وطبقات الشعراني ، ولواقح الأنوار له أيضا ، وخلاصة الأثر للحلبي ، وأخبار الأول للإسحاقي.

٢١ ـ الحساب والجبر ، والكتب التي تدرس فيهما هي الوسيلة لابن الهائم ، والتحفة السنية للسبط ، والسخاوية للسخاوي ، والياسمينية لابن الهائم ، ومنظومة في الحساب للأخضري ، ونزهة النظار لابن الهائم ، والدرة البيضاء للأخضري ، والخلاصة للعاملي ، والتخليص للدمياطي ، واللمعة لابن الهائم.

٢٢ ـ الميقات والهيئة ، والكتب التي تدرس فيهما هي دقائق الحقائق للسبط ، وخلاصة المختصرات لابن عائشة ، ورسالة في العمل بالربع للجبرتي ، والمقدمة لمحمد المجدي ، وتحفة الإخوان لابن قاسم ، والوضع على الجهات للمالكي الأندلسي ، وهداية الحائر للسبط ، ورسالة الوقت والقبلة للقليوبي ، ورسالة في معرفة التواريخ لابن مهدي ، ودستور علم الميقات لرضوان أفندي ، وزاد المسافرين لأحمد بن المجدي ، وتسهيل الدقائق لخليل الفرازي ، ورسالة المنحرفات له أيضا ، والتذكرة للطوسي ، والمطلع السعيد لحسين زائد.

٢٣ ـ الحكمة ، والكتب التي تدرس فيها هي الإشارات لابن سينا ، والهداية لأثير الدين الأبهري ، وحكمة العين للكاتبي ، ومقولات السجاعي ، ومقولات البليدي ، ومقولات المرصفي ، وغالية النشر لعبد الجواد القباني.


٢٤ ـ الرسم والكتب التي تدرس فيه هي منظومة في الرسم العثماني رسم مصحف عثمان ـ ومنظومة في الرسم القياسي.

من صحائف الذكرى

في سنة ١٢٨٠ ه‍ (١) ـ ١٨٦٣ م ، أراد السلطان عبد العزيز أن يزور الديار المصرية ، وكان هذا في عهد إسماعيل باشا خديوي مصر ، فلما وصل إلى القاهرة اختار إسماعيل باشا أربعة من علماء الأزهر ، ليذهبوا إلى تهنئة نيابة عن إخوانهم ، وهم السيد مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر ، والشيخ السقا ، والشيخ عليش ، والشيخ حسن العدوي ، وكان لمقابلة سلاطين آل عثمان آداب لا يعرفها علماء الأزهر فطلب إسماعيل باشا من قاضي قضاة مصر ـ وكان يختار من علماء دولة آل عثمان ـ أن يعلمهم آداب المثول بين يدي السلطان ، فذكر لهم أن المقابلة ستكون في حجرة يقف السلطان في صدرها على منصة مرتفعة ، وأنه يجب إذا ما وصلوا إلى باب الحجرة ووقعت أعينهم على السلطان أن ينحنوا انحناء عظيما ، ثم يلقوا عليه السلام ، ثم يكرروا الانحناء والتسليم إلى أن يرد السلطان عليهم تحيتهم ، فينحنوا ويسلموا مرة أخرى ، ويرجعوا متقهقرين إلى الوراء إلى أن يصلوا إلى باب الحجرة ، فينحنوا مرة أخرى ، ثم ينصرفوا إلى خارج الحجرة. وقد وقعت هذه الآداب من العلماء الأربعة موقع الاستغراب ، فقال لهم قاضي القضاة : إن هذا لا بد منه ، فقالوا قد فهمنا. ثم ذهبوا إلى مقابلة السلطان ، فدخل الشيخ العروسي أولا ، وأدى المقابلة بالشكل الذي ذكره قاضي القضاة ، ثم أداها مثله الشيخ السقا والشيخ عليش ، وكان الخديوي إسماعيل واقفا وراء السلطان وعينه ترقب حركاتهم ، فسر لإتقانهم آداب المقابلة ، وظهورهم بهذا المظهر الذي كان موقع استغراب منهم ، ثم دخل بعدهم الشيخ العدوي وكان عالما شجاعا لا يخشى إلا الله ، ولا يقيم

__________________

(١) ص ١٥٥ تاريخ الاصلاح في الأزهر.


وزنا لعظمة سواه ، فانحنى انحناءة خفيفة عند الباب ، ثم أقبل نحو السلطان منتصب القامة ، ولم يكرر الانحناء أمامه ، فخفق قلب إسماعيل باشا لما فعل ، ولا سيما حين رآه يجاوز الحاجز ويصل إلى السلطان ، ثم يقول له : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. فيبتسم السلطان له ويرد عليه تحيته ، وينحني له انحناء خفيفا ، فيكلمه الشيخ العدوي فيما يجب على السلطان لرعيته ، ويبين له عظم المسئولية الملقاة على عاتقه ، وأن ثوابه عند الله سيكون بقدر تلك المسؤولية وحسن قيامه بها ، وأن عقابه عنده سيكون بقدر تقصيره فيها. فلما رأى ذلك إسماعيل باشا إصفر لونه ، وأخذ يتوقع غضب السلطان عليه لهذه المقابلة ، ولكن وجد السلطان لم يبد عليه أي أثر للغضب ، بل وجده مرتاحا للكلام الذي سمعه. وقد خرج الشيخ العدوي بعد أن انتهى من موعظته ، ولم يخرج بظهره كما خرج غيره ، بل ولى وجهه نحو الباب وخرج ، فوجد العلماء الثلاثة ينتظرونه أمام الباب فأخبرهم بما فعل مع السلطان ، فأخذوا يلومونه على ما فعل ، ويخوفونه عاقبة هذا الأمر : فقال لهم : أما أنا فقد قابلت أمير المؤمنين ، وأما أنتم فكأنكم قابلتم صنما ، وكأنكم عبدتم وثنا ، ولما انصرف الشيخ العدوي سأل السلطان عبد العزيز إسماعيل باشا عنه ، فقال له : هذا شيخ من أفاضل العلماء ، ولكنه مجذوب ، وأستميح جلالتكم عفوا عن سقطته ، فقال له السلطان : كلا ، بل إني لم أنشرح لمقابلة أحد انشراحي لمقابلته. ثم أمر له بخلعة سنية ، وألف جنيه.

شعلة لا تنطفىء

لما استولى صلاح الدين على مصر ، وأبطل منها مذهب الشيعة الفاطمية أبطل الخطبة في الجامع الأزهر ، وأقرها بالجامع الحاكمي لسعته وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه زمن الدولة الأيوبية ، وبعضا من عصر المماليك البحرية ـ أي نحو مائة سنة ـ وأهمل أمره مدة تعطيل الجمعة


فيه ، وأنشئت مدارس أخرى لتدريس فقه الشافعية والتفسير والحديث وغيرها.

ولما ولي ملك مصر الظاهر بيبرس البندقداري كان من أمراء دولته الأمير عز الدين أيدمر الحلي ، وكانت داره بالقرب من الأزهر ، فرعى فيه حرمة الجوار ، واستعان بماله وجاهه عند السلطان في عمارته ، فجمع بعض ما بددته أيدي الفاطميين من أوقافه ، وأمده السلطان بالمساعدة ، فعمر الواهي من أركانه ، ورفع سقوفه ، وبلطه ، وفرشه ، وأثر فيه آثارا حسنة ، حتى عاد حرما آمنا في وسط المدينة. وأنشأ بيلبك الخازندار مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء ، ومحدثا يتلو الحديث النبوي ويلقي المواعظ ومقرئين للقرآن ، ووقف على ذلك الغلات الدارة.

ولما كانت الدراسة معطلة في الأزهر من بدء الدولة الأيوبية فقد أريد إعادة الخطبة فيه ، فامتنع قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز من إقامة خطبتين للجمعة ، فيه وفي الجامع الحاكمي ، وفقا لمذهبه ، وهو مذهب الإمام الشافعي. فولي السلطان قاضيا حنفيا فأذن في إعادتها ، وأخذ بذلك خطوط العلماء. وأعيدت إقامة الجمعة فيه باحتفال عظيم حضره أكابر الدولة ، وعاد مسجدا جامعا ، ومدرسة عظيمة. وكان هذا الإذن أساسا اعتمد عليه سلاطين المماليك وكبراؤهم في صحة بناء مساجد جامعة كثيرة في القاهرة وغيرها. وعظمت عناية المماليك بالأزهر فجددوه مرارا ، ورفعوا حواليه المنارات السامية ، وأضافوا إليه بضع عشرة مدرسة ، حبست عليها الحبوس الجليلة ، وفتحوا أبوابه للعلم ، وأجروا على قاصديه الجرايات من الطعام والحلوى ، فقصده الطلاب والعباد من أقاصي البلاد. وبلغ عدد طالبي العلم به سنة ٨١٨ ه‍ نحو سبعمائة وخمسين طالبا من مصريين ومغاربة وأعاجم ، وهم عدد عظيم بالإضافة إلى ما كان ينافسه في الشهرة وينازعه هذه المكرمة ، نحو مائة مدرسة وجامع أنشأها سلاطين المماليك


وأمراؤهم ، ووقفوا عليها أضعاف ما وقف على الأزهر.

وكانت الدراسة فيه مقصورة أول الأمر على علوم اللغة والدين ، ثم أدخلت فيه بعض علوم الرياضة والنجوم والطبيعة ، ولكنها لم تعش طويلا ، وعادت الدراسة فيه سيرتها الأولى. وظل كذلك تتوالى عليه أحوال عسر ويسر ، إلى أن نهض المصلحون لأخذ طلابه بقسط من علوم الحياة : كالتاريخ ، وتقويم البلدان ، والعلوم الرياضية ، فلقوا شيئا من المعارضة. على أن الأزهريين لم يلبثوا أن اطمأنوا إلى هذه العلوم ، وأقبلوا جاهدين على دراستها طالبين المزيد منها ، والإصلاح في جميع أنواع التعليم بمعهدهم الجليل فعولج الإصلاح بعدة مشروعات ، وتم لهم ما أرادوا وسن للأزهر قانون جعل التعليم فيه على ثلاث مراحل : هي مراحل التعليم الابتدائي ثم الثانوي ، ثم العالي ، وأنشىء للمرحلة الأخيرة ثلاث كليات ، بكل منها أقسام للتخصص. واقتضى النظام الجديد أن يختص كل مدرس بنوع من العلم لطائفة من الطلاب محدودة العدد من طبقة واحدة ، فضاق نطاق الأزهر عن فرق الدراسة ، فوزعت على كثير من الأمكنة. وألحق بالأزهر في نظامه وإدارته العليا كثير من المعاهد العلمية ، كمعهد الأسكندرية ، والجامع الأحمدي ، والجامع الدسوقي ، ومعهد دمياط ، ومعهد أسيوط ، ومعهد شبين الكوم ، ومعهد الزقازيق.

وللأزهر الفضل الذي لا يجحد في حفظ علوم الدين واللغة في تلك الحقبة الطويلة ، التي ابتليت فيها مصر بالفقر والجهل وسائر ألوان الفساد. وكان ملاذ القاصدين من أبناء اللغة العربية ، وغياث المتعطشين لورود مناهلها من سائر الممالك الإسلامية ، ومصباحا ينبعث منه نور الهداية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وله عظيم الأثر في النهضة الحديثة ، إذ كان الملجأ الذي لجأ إليه محمد علي في نهضته ، فاختار من بين طلابه بعوثه الى البلاد الأوروبية للتوسع في العلوم والفنون ، فعادوا وكانوا أئمة المصلحين. واستعان بعلمائه في القيام بكثير من شئون مملكته ، كتعليم


اللغة والدين بالمدارس التي أنشأها ، والإشراف على طبع الكتب وتصحيحها ، وتحرير الوقائع المصرية ، والمشاركة في وضع مصطلحات العلوم المترجمة. ومن الأزهر استمدت مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم طلابها ، وتخرج من المدرسة الأولى طائفة من رجال الشريعة ، نهضوا بأعباء القضاء في المحاكم الشرعية ، وأعمالها الكتابية ، كما تخرج من الثانية كثير من مدرسي المدارس المصرية في العصر الحديث ، وإلى الأزهر يرجع الفضل في توسيع نطاق التعليم. فقد أمد مدارس المعلمين الأولية بما تحتاج إليه من التلاميذ ، وساعد المدارس الحكومية والأهلية برجاله ، وعمل طلابه على إزالة الأمية ، ونشر الثقافة العامة في قرى القطر المختلفة لإنبثائهم بها ، وإقامتهم فيها ، وبه أصبحت مصر مركز الثقافة العربية ، والمثابة الأخيرة لعلوم الدين واللغة.

علماء من الأزهر القديم والحديث

ـ ١ ـ

ليس في وسعي في هذا الكتاب إحصاء جميع العلماء الذين تخرجوا من الأزهر أو درسوا فيه أو تولوا مناصبه الدينية والعلمية الكبرى ، فذلك شيء لا يمكن أن يحيط به باحث.

وقد ذكرت في فصول الكتاب أشهر الأعلام في الأزهر ، خلال عصور التاريخ المختلفة ، ونذكر الآن أسماء عديدة ، بعضهم ممن سبق ذكرهم ، ولكن هنا تحقيق دقيق لتاريخ ميلادهم ووفاتهم ، ومن الأعلام الأزهريين :

١ ـ الشيخ محمد بن عمر الخفاجي المصري المتوفى عام ١٠١٩ ه‍ ، وهو والد الشهاب الخفاجي ، وكان من جلة العلماء وله آثار علمية كبيرة (١).

__________________

(١) ٤١١ ج ٧ دائرة معارف البستاني ، ١١٦ الريحانة للشهاب الخفاجي ، ٥٨ ج ٢ بنو خفاجة.


٢ ـ الشهاب الخفاجي المصري (١) (٩٧٥ ـ ١٠٦٩ ه‍ ١٦٥٨ م) وكان من جلة العلماء والمؤلفين ، وتولى رياسة القضاء في مصر ، ورحل إلى الحرمين والشام والقسطنطينية ، ومن مؤلفاته : الريحانة ، وطراز المجالس ، وشفاء الغليل وشرح درة الغواص ، وحاشية على الشفاء ، وحاشيته المشهورة على البيضاوي ، وسواها ، كما أن له كثيرا من الكتب المخطوطة (٢).

والشهاب اسمه أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي المصري ، وقد ولد بسرياقوس وتلقى دروسه بالقاهرة ثم رحل مع أبيه إلى الحرمين ، ثم الآستانة ، وعين قاضيا على الروملي في سلانيك ، وعينه السلطان مراد قاضيا للعسكر بمصر ، ثم استقال وسافر إلى دمشق فحلب فالآستانة ، وتوفي سنة ١٠٦٩ ه‍. وكان أديب عصره ، عالما باللغة وعلومها ، كاتبا شاعرا مؤلفا. ومن شعره قوله :

إن وجدي بمصر وجد مقيم

وحنيني كما ترون حنيني

لم يزل في خيالي النيل حتى

زاد عن فكرتي ففاضت عيوني

وقوله :

فديتك يا من بالشجاعة يرتدي

وليس لغير السمر في الحرب يغرس

فإن عشق الناس المها وعيونها

من الدل في روض المحاسن تنعس

فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق

وصارت جميعا أعينا لك تحرس

وقوله مضمنا :

يا صاح إن وافيت روضة نرجس

إياك فيها المشي فهو محرم

__________________

(١) الريحانة (٢٧٢ ـ ٣٠٩) و ٣٣١ ـ ٣٤٣ ج ١ خلاصة الأثر ، ٤٢٠ ـ ٤٠٧ سلافة العصر ، وسوى ذلك من المرجع ، كما ترجمت له شتى الكتب المؤلفة في تاريخ الأدب العربي.

(٢) راجع ترجمته بتفصيل في ٥٨ ـ ٧٢ ج ـ ٢ بنو خفاجة.


حاكت عيون معذبي بذبولها

(ولأجل عين ألف عين تكرم)

وقال يتغزل ويتطرق إلى مدح محمد بن القاسم الحلبي :

حتام يغزوني صدوده

والصبر قد كثرت جنوده (١)

لم أدر : فاتر جفنه

والخصر ، أسقم أم عهوده (٢)

نشوان يعبث بي كما

عبثت بآمالي وعوده (٣)

لو لا مياه الحسن جا

لت فيه لاحترقت خدوده

كالصب لو لا دمعه

يهمي لأحرقه وقوده (٤)

يخفي الهوى وعيونه

بغرامه المضني شهوده

فسقي رياض الحسن من

دمعي حيا يهمي مديده (٥)

زمن يجيد اللهو قد

نظمت على نسق عقوده (٦)

إذ دوح أنسى يانع

بكئوسنا انفتحت وروده (٧)

والكأس نجم لاح في

فلك المسرة لي سعوده

يصفو فيحلو ذكر من

قد زين الدنيا وجوده

ذاك ابن قاسم الذي

ما زال في تعب حسوده

٣ ـ الشيخ محمد الأمير الكبير (١١٥٤ ـ ١٢٣٢ ه‍ ـ ١٧٤١ ـ ١٨١٧ م) ، وقد تولى مشيخة السادة المالكية في الأزهر.

٤ ـ الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي صاحب حاشية البلاغة المشهورة

__________________

(١) حتام أصلها (حتى ما) فخدمت ألف ما الاستفهامية لجرها بحتى. يغزوني : يسير إلى قتالي وانتهابي. والصدود : الإعراض.

(٢) جفن فاتر : غير حاد النظر. والخصر : وسط الانسان. والعهود : المواعيد.

(٣) النشوان : السكران. ويعبث بي : يلعب بي.

(٤) الصب : المشتاق الذي يكابد حرارة الشوق. يهمى : يسيل. وقوده : اتقاده واشتعاله.

(٥) الحيا : المطر. المديد : الممدود المتصل.

(٦) نسق : نظام واحد.

(٧) الدوح : الأشجار العظيمة. الورود : جمع ورد.


على شرح التلخيص وتوفي سنة ١٢٣٠ ه‍.

٥ ـ الشيخ عبد الله الشرقاوي (١١٥٠ ـ ٢ شوال سنة ١٢٢٧ ه‍ ـ ١٧٣٧ ـ ١٨١٢ م) وقد تولى مشيخة الأزهر الشريف.

٦ ـ الشيخ مصطفى بن أحمد الصاوي من الأزهريين الذين اشتهر ذكرهم أيام غزو نابليون لمصر وكان من أدباء الأزهريين (١).

٧ ـ الشيخ محمد الخالدي المعروف بابن الجوهري قرأ الدروس في الأزهر وطار صيته ، وتوفي في ٤١١+ ٥ ١٢١٥ ه‍ ـ ١٨٠١ م.

٨ ـ الشيخ حسن العطار (١١٨٠ ـ ٢ ذي القعدة ١٢٥٠ ه‍ ـ ١٧٦٦ ـ ١٨٣٥ م).

٩ ـ الشيخ حسن قويدر (١٢٠٤ ـ ١٢٦٢ ه‍ ـ ١٧٨٥ ـ ١٨٤٦ م).

١٠ ـ الشيخ شهاب الدين الشاعر المصري (١٢١٨ ـ ١٢٧٤ ه‍ ـ ١٨٠٣ ـ ١٨٥٧ م) وقد درس في الأزهر.

١١ ـ الشيخ إبراهيم البيجوري شيخ الإسلام (١١٩٨ ـ ١٢٧٧ ه‍ ـ ١٧٨٤ ـ ١٨٦٠) ، وقد ولد بمديرية المنوفية وطلب العلم في الأزهر.

واشتهر بالنبوغ بين طلابه ، وألف كتبا عديدة ، وتولى التدريس في الأزهر ، وطار صيته ، وذاعت شهرته ، وله كتب مشهورة في الفقه الشافعي.

١٢ ـ الشيخ رفاعة الطهطاوي وقد درس في الأزهر ، وسافر في بعثة أرسلها محمد علي إلى فرنسا ، وعاد منها وتولى كبريات المناصب في الدولة (١٢١٦ ـ ١٢٩٠ ه‍ ـ ١٨٠١ ـ ١٨٧٣ م).

١٣ ـ الشيخ محمد الأنبابي شيخ الأزهر (١٢٤٠ ـ ١٣١٣ ه‍ ـ ١٨٢٤ ـ ١٨٩٦ م).

__________________

(١) ٣١٣ ـ ٣١٥ ج ٣ الجبرتي.


١٤ ـ الشيخ عليش أحد مشايخ السادة المالكية (١٢٣٧ ـ ١٢١٩ ه‍ ـ ١٨٠٢ ـ ١٨٨٢).

١٥ ـ الشيخ حسين بن أحمد المرصفي المتوفى سنة ١٣٠٧ ه‍ ـ ١٨٨٩ م.

وهو العلامة اللغوي الأديب المحقق الشيخ حسين بن أحمد المرصفي. ولد بمصر ونشأ فيها. وبعد أن حفظ القرآن الكريم ، وكان مكفوف البصر ، جيء به إلى الأزهر ، فأخذ العلم عن كبار شيوخه ، حتى أدرك منه قدرا جليلا ، وتصدر للتدريس فيه. وكان شديد الشغف بعلوم العربية وآدابها ، فجد في دراستها ، وأطال النظر في وجوه بلاغاتها. ولم يطمئن إلى ذلك الأدب الذي كان شائعا في عصره. بل كان من أوائل من تفطنوا في هذه البلاد إلى قدر الأدب القديم. فأقبل على كتب اعلام البلاغة السابقين ، ودواوين فحول الشعراء المتقدمين. وجعل يقرأ ويحفظ ويتدبر ، ما اتسع له الوقت للقراءة والحفظ والتدبير. كما جعل يروض قلمه على البيان الصحيح المتين ، حتى أصبح الأديب التام الأداة. ودرس الأدب في دار العلوم للسابقين من طلابها. وكان منهم حفني ناصف وأترابه. وأخذ عنه كبار المتأدبين في عصره من أمثال البارودي ، وعبد الله فكري ، وصاحبوه ولازموه ، وعرضوا عليه بيانهم في منظومهم ومنثورهم ، فهذب ونقح ، وهدى إلى الأجمل الأصلح. وكتب في مجلة (روضة المدارس) فعلم الأدب علما ، كما درب بالعمل والقدرة ، على صحيح البيان. وقد ألف في البلاغة كتابا جليلا دعاه (الوسيلة الأدبية). فشاع الانتفاع به ، ولا يزال هذا الكتاب مرجع المتأدبين إلى اليوم. وله كذلك رسالة دعاها (الكلم الثمان) ، تحدث فيها عن معاني : الأمة ، والوطن ، والحكومة ، والعدل ، والنظام ، والسياسة ، والحرية ، والتربية.

وعلى كل حال ، فالشيخ حسين المرصفي ، رحمه الله ، يعد من


أقوى الدعائم التي قامت عليها النهضة الحديثة في اللغة والأدب.

١٦ ـ الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الأديب الأزهري المؤلف النابه (١٢٣٦ ـ ١٣٠٦ ه‍ ـ ١٨٢١ ـ ١٨٨٨ م).

ـ ٢ ـ

ويذكر أحمد أمين هذه الأغنية الشعبية المصرية ، وهي بعد حذف ديباجتها : «حصاني في الخزانة ، والخزانة «عاوزة» سلم ، والسلم عند النجار ، والنجار عاوز مسمار ، والمسمار عند الحداد ، والحداد عاوز بيضة ، والبيضة في بطن الفرخة ، والفرخة عاوزة قمحة ، والقمحة عند القماح ، والقماح عاوز فلوس ، والفلوس عند الصريف ، والصريف عاوز عصافير ، والعصافير في الجنة ، والجنة عاوزة حنا» الخ ....

ويقول عنها : إنها أغنية لطيفة حقا ، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف ، وصوتهم الشجي ، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية ، وفكرة سامية ، قد يلاحظ عليها أن الربط في بعضها محكم كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار ، وبعضها غير محكم كحاجة الحداد إلى البيضة ، وحاجة الصريف إلى العصافير ، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسار الفنون مجاوزة للحد ، فالأغنية لطيفة رغم المنطق ، ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه «جمال الدوران» أو جمال التسلسل ، مثل قولهم «لا سلطان إلا برجال ، ولا رجال إلا بمال ، ولا مال إلا بعمارة ، ولا عمارة إلا بعدل».

وقولهم : الحجر يكسر الزجاج ، والحديد يكسر الحجر ، والنار تذيب الحديد ، والماء يطفيء النار ، والريح تلعب بالماء. والإنسان يتقي الريح. والخوف يغلب الإنسان. والخمر تزيل الخوف. والنوم يغلب الخمر.


والموت يغلب النوم». ومثل قولهم : «العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا. والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما» الخ .. وبعد فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لا بد أن يكون فيلسوفا أو حكيما بعيد النظر. ومما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن بها عناية الأدب الأرستقراطي. فبينا يعني العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله. والقصيدة إلى منشئها. ويحتدم بينهم القتال على ذلك. إذ بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية. وهذا نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم. وكم أصابه من أنواع! وها هي ذي الأغاني التي تخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها ، وتهش لها نفوسنا. ولا نكلف أنفسنا مؤنة البحث عن منشئها ولكن من حسن حظ هذه الأغنية أو من حسن حظنا نحن ، أننا نجد ظلا لتاريخها فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة ١١٤٣ هجرية. فيكون عمرها أكثر من قرنين وربع وظلت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا. ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر. هو الشيخ الحفناوي أو الحفني ، كان سيد الأزهر في أيامه ، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة ، يقرأ فيها أغوص الكتب وأصعبها ، كجمع الجوامع والأشموني وحاشية السعد ، وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة. كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤها وأدباؤها ، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الأردب ، وطاحون بيته دائر ليل نهار ، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون ، إلى هيبة ووقار ، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله.

وهو مع هذا كله ظريف أديب ، سمع تلميذا له يوما يقول :

قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار

والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار


فضحك الشيخ وقال أنا لا أحبه بالزيت الحار. وإنما أحبه بالسمن ثم قال :

قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلى

والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي

وله المواويل الظريفة كقوله :

بحياة يا ليل قوامك وصوم الحر

تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حر

لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجر

أزداد لوعة ولا عمري بقيت أنسر

إلى غير ذلك ، فيحدث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يوما «أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة ، حلفت ما آكلها ، حتى يجي التاجر ، والتاجر فوق السطوح والسطوح عاوز سلم الخ» فحكاية التلميذ ولم يكن يسمعها من قبل وروايته لها عن شيخه ، ترجع الظن أنها من عمل الشيخ الحنفي. وقد زاد الشيخ على ذلك فشرح الأغنية على طريقة الصوفية ففسر التاجر بالمرشد الكامل والمربي الواصل ، والتاجر فوق السطوح في مستوى عال. والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج الخ. وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم. فالأشموني وجمع الجوامع ، والحواشي والتقارير كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديبا وزجالا ، يضع الأغاني والمواويل يتغنى بها الشعب. وهذا يذكرني بما سمعت عن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي الأسبق من أنه واضع الدور المشهور : الله يصون دولة حسنك».

أموال المسلمين الموقوفة على الأزهر

رصد المسلمون على الأزهر أوقافا كثيرة طول العصر الإسلامية.

ولما جاء محمد علي اغتصب الكثير من هذه الأوقاف وأهداها لأسرته ـ وقد كان شيخ الأزهر يشرف على هذه الأوقاف ونظارتها ، وفي العهود الأخيرة


تولت وزارة الأوقاف المصرية النظارة على هذه الأوقاف ، وقد أنشئت وزارة الأوقاف (وكانت تسمى ديوان الأوقاف) قبل إنشاء الأزهر بأكثر من مائتين وأربعين عاما ، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام ١١٨ ه‍ ، ويروي أن إنشاءه كان في عهد هشام بن عبد الملك فقد تولى قضاء مصر توبة بن نمر في زمن هشام بن عبد الملك ، وكانت أوقاف المسلمين في أيدي أهلها وفي أيدي أوصيائهم ، فقال توبة : ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين ، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الإلتواء والتوارث ، وصنع ذلك عام ١١٨ ه‍ ، فكان ذلك أول إنشاء ديوان الأوقاف في مصر ولم يمت توبة حتى صارت الأحباس ديوانا عظيما.

وفي العهد الأخير وبعد حل الأوقاف الأهلية صودرت جميع أوقاف الأزهر وحول مصرفها إلى جهات خيرية ، وأبعد عنها العلماء المدرسون بالأزهر ، على خلاف نصوص الواقفين وشروطهم.

بعض آراء في الإصلاح

الأزهر جامعة دينية كبرى ، يؤمه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو أمانة في يدي مصر ائتمنه عليه الشرق الإسلامي كله ، ومصر مسئولة أمام الله والتاريخ عن هذه الجامعة العتيدة الخالدة ، وعن النهوض بها وتمكينها من أداء رسالتها.

وأول خطوة للإصلاح في رأيي هي جعل جماعة كبار العلماء ممثلة تمام التمثيل لكبار رجال الدين ، وفي مقدمتهم شيوخ الكليات والمعاهد الثانوية ، وأساتذة الكليات حرف ا ، ورئيس المحكمة العليا الشرعية ومفتي الديار المصرية وشيخ الطرق الصوفية وشيخ الأزهر ووكيله ، وشيوخ الأزهر السابقين ، وشيوخ المذاهب الأربعة .. وتكون مهمة الجماعة ما يلي :

(١) الافتاء في المسائل الدينية والشرعية ، بتكوين لجنة من بين


الجماعة لهذا الغرض ، يساعدها بعض الأساتذة المتخرجين من تخصص المادة والمدرسين في كلية الشريعة الإسلامية وتحل هذه اللجنة محل ـ لجنة الفتوى الحالية في الأزهر.

(ب) بحث نظام الإسلام الاجتماعي والاقتصادي بحثا كافيا .. ووضع أصول التشريعات اللازمة للحياة الحاضرة في مصر والعالم الإسلامي ..

ونشر البحوث المتصلة بذلك .. على أن تقوم بذلك لجنة تختار لهذه المهمة من بين أعضاء الجماعة ، ويختار لها أساتذة مساعدون من أساتذة الكليات (حرف ب وج).

(ج) بحث نظم التعليم في الأزهر ، ووجوه الإصلاح فيه .. ويقوم بذلك لجنة تختار من أعضاء الجماعة ، ولها أن تختار مساعدين لها من بين أعضاء هيئات التدريس في الأزهر ، أو من كبار الموظفين الإداريين في الأزهر.

(د) الإشراف على الجماعات الدينية الإسلامية في مصر ، إشراف توجيه وإصلاح ، ويقوم بهذا الإشراف جماعة تختار من بين أعضاء الجماعة ، يكون من بينها : شيخ الأزهر ، والمفتي ، ورئيس المحكمة العليا الشرعية.

ويقوم التعليم في الأزهر الآن على تخريج عالم لا على تخريج رجل دين. وأرى أن يعالج هذا النقص علاجا سريعا بما يلي :

١ ـ تعميم دراسة أحاديث وآيات قرآنية مختارة في جميع مراحل الدراسة في الابتدائي والثانوي .. ودراسة مادة «قصص الأنبياء» ومادة «التصوف» ، ومادة «الأخلاق الإسلامية» في جميع سني الدراسة الابتدائية والثانوية.

ودراسة أصول الإسلام وأهدافه ومناهجه في الإصلاح الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي في كليات الأزهر.


٢ ـ جعل حفظ القرآن ضروريا للنجاح في شهادات الأزهر ، واحتساب عامين من مدة التعليم الابتدائي في الأزهر لحفظ القرآن الكريم.

٣ ـ تنظيم طلاب البعوث الإسلامية ، وإعدادها إعدادا يليق بمهمتها الجليلة.

٤ ـ تنظيم محاضرات أسبوعية في كل معهد أو كلية أزهرية يلقيها الأساتذة.

٥ ـ حسن أختيار الكتب الدراسية في الأزهر.

٦ ـ جعل اختيار شيوخ الكليات الأزهرية عن طريق انتخاب هيئات التدريس في هذه الكليات.

٧ ـ العناية بدراسة الآثار الإسلامية والتاريخ الإسلامي دراسة كاملة صحيحة.

٨ ـ الإكثار من بعثات الأزهر التعليمية إلى أوروبا ، ويختار أعضاؤها للسفر في بعثات منظمة إلى معاهد التعليم في أوروبا وفق الحاجة.

٩ ـ فتح أقسام الدراسات العليا في كليات الأزهر التي أغلقت أبوابها منذ عام ١٩٤٠ ـ إلى غير ذلك من شتى الإصلاحات التعليمية ، ومن بين الإصلاحات الواجبة :

١ ـ إصلاح مجلة الأزهر.

٢ ـ مساواة أساتذة الكليات بأساتذة الجامعات المصرية ، ومساواة أساتذة المعاهد بنظرائهم في وزارة المعارف.

٣ ـ إنشاء اتحاد عام لطلاب الأزهر على غرار اتحاد طلبة الجامعة المصرية.

٤ ـ التفكير جديا في الاحتفال بالذكرى الألفية للأزهر.

٥ ـ قيام الأزهر بنشر أصول كتب الشريعة والحديث واللغة ورسائل المتخصصين من أبنائه ونشرها في العالم الإسلامي.


الأزهر والذكريات القومية

يشارك الأزهر الأمة الفرح بالأعياد القومية ، ومن أول هذه الأعياد عيد الجلاء ، بمناسبة توقيع الاتفاقية المصرية الانجليزية عام ١٩٥٤ الخاصة بجلاء الجيوش الانجليزية عن مصر.

وقد وقعت اتفاقية الجلاء بين مصر وانجلترا الساعة ١٠ مساء يوم الثلاثاء ١٩ أكتوبر ١٩٥٤ ـ ٢١ صفر ١٣٧٤ ه‍ في البهو الفرعوني بدأ مجلس النواب في القاهرة ، وقد وقعها بالنيابة عن حكومة مصر الرئيس جمال عبد الناصر ، واحتفلت البلاد احتفالات قومية بتوقيعها ، ومن الطريف أن يوم ١٩ أكتوبر ١٨٠١ وقعت فيه اتفاقية جلاء الجيوش الفرنسية عن مصر.

وقد دعا شيخ الأزهر إلى حفلة ابتهاج باتفاقية الجلاء ، وذلك بقاعة المحاضرات بمبنى الكليات الأزهرية في الساعة السادسة يوم الاثنين ٢٧ من صفر ١٣٧٤ ه‍ ـ ٢٥ أكتوبر ١٩٥٤ ، وقد تحدث فيها شيخ الأزهر ، الشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر ، وألقى الأستاذ حسن جاد قصيدة بليغة من عيون الشعر.

قال شيخ الأزهر من كلمته :

الآن .. وقد مكنتم بحمد الله لمصر أمرها ، وثبتم لها عزتها ، وأزحتم الأجنبي عن ديارها ، وأعدتم إليها كامل استقلالها.

الآن .. وقد حللتم مشكلة مصر الخارجية فعليكم أن تعملوا على حل مشاكلها الداخلية ، وأن تسيروا في خطة الإصلاح والإنشاء الذي بدأتم فيها ، وقطعتم منها شوطا كبيرا .. بنفس العزم والقوة كي تنهض مصر إلى المستوى الجدير بها والجديرة به ، أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ولينصرن الله من ينصره ، والله قوي عزيز.


وألقى الاستاذ الشيخ عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر وعضو هيئة كبار العلماء كلمة حيا فيها قادة الثورة ، وقارن بين حياة مصر وشعبها المجيد الذي حكمه أبناؤه بعد أجيال من الاضطهاد والعذاب ، وبين ما كان عليه في العصور التي ابتلينا فيها بالغرباء الطغاة ثم قال :

وتهيأ لمصر ، الوطن الإسلامي الكبير ، نخبة من أبناء جيشها ، وتملكتهم العزة القومية ، وجاشت في صدورهم الوطنية ، وقوى فيهم الإحساس بما تقاسيه مصر ، فأصبح كل منهم يسمع في أعماق نفسه هاتفا ينادي : أن أنقذ مصر من عثرتها ، فاتحدت عزائمهم ، واستمدوا من هدى الرسالة المحمدية ما أوضح لهم السبيل ، ودفهم إلى الغاية النبيلة فصرخوها صرخة مدوية : لبيك لبيك يا مصر ، وكان لهم من جانب الله تأييد وتوفيق فبارك الله لمصر يومها العظيم ٢٣ يوليو ، وأبقاهم لشعب مصر حراسا أمناء ، ومصلحين أكفاء.

وهذه هي قصيدة الشاعر حسن جاد :

سنا فجره المأمول لاحت بواكره

وهزت ربوع المشرقين بشائره

أطل على ليل الحيارى وأشرقت

على ظلمات اليأس غرا منائره

وخف إليه الدهر يرهف سمعه

ويزحم ركب النور فيمن يسايره

وطالعت النيل السعيد بصبحه

متى طالما جاشت بهن خواطره

تزف بها بشرى الجلاء وعيده

فترقص في شطيه نشوى أزاهره

وتعتنق الأرواح فوق ضفافه

عرائس واد جن بالحسن سامره

على لهوات الطير من صبواتها

طرائف شدو أبدعتها حناجره

هو النيل والبشرى استخفت وقاره

ترنح عطفاه وجاشت هوادره

وما فاض في شطأنه غير فرحة

تضيق بها يوم الجلاء سرائره

وما هو ماء ما يفيض وإنما

عواطفه جياشة ومشاعره

ثوى في قيود الذل سبعين حجة

يكاتم غيظا أو تثور ثوائره


وصابر الاستعباد مستأسد المنى

يؤمل يوما أن تقال عواثره

تداركه فجر الخلاص بيمنه

فصحت أمانيه وقرت نواظره

فمن رام الاستقلال فليشهد الحمى

تغنت به أريافه وحواضره

ومن ضاق بالأغلال فالقيد حطمت

سلاسله والغل لانت مكاسره

ومن ضل في ليل المظالم سعيه

فقد هتكت أستاره وستائره

ومن سره أن يشهد البعث ماثلا

فهذي معانيه وتلك مظاهره

ومن شاقه يوم الجلاء وعيده

فهذي مجاليه وتلك مناظره

كفى يومه أن الزمان بأسره

أوائله يحسدنه وأواخره

رعى الله للوادي جمالا وصحبه

أسوأ جرح وادي النيل فالتأم ناغره

لقد صيروا حلم الجلاء حقيقة

وكان سرابا يخدع العين ظاهره

وكان لتجار السياسة مغنما

على سوقه السوداء قامت متاجره

وكم من ندى كان قصة لهوه

يرددها مخموره ومقامره

فساد وظلم وانحلال ونكسة

أصيب بها الوادي فضلت مصائره

وما كحمى الأخلاق حصن لأمة

إذا نكبت فيه فما ذا تحاذره؟

وقد ينهض الشعب الجريح بروحه

وليس يقوم الشعب ماتت ضمائره

تدارك رحمن السماء مصيره

وطاحت بعرش الظالمين مقادره

مضوا يتساقون الندامة علقما

وباءوا بشؤم طار بالنجس طائره

وأضحى كناس النيل غابا ممنعا

تهاب بوازيه وتخشى قساوره

صناديد راع الظلم بأس زئيرهم

فزلزل مغناه ودكت مقاصره

هي الثورة البيضاء ما شابها دم

ولا فارقت غمد الكمي بواتره

فقد بعثوا من رقدة الموت واديا

أعدت له أكفانه ومقابره

فحل هراء المرجفين فما ثنى

أخا العزم يوما جاحد الفضل ناكره

وقل للذي تعيشه أضواء نهضة

مضى ليلك الداجي وولت دياجره

يحث الخطا للمجد موكب نورها

ويدفعه قلب الحمى ويؤازره

سيبنى فلا يثنيه هدم معوق

ويمضي فلا يلوى على من يكابره


ومن يجعل الإخلاص رائد عزمه

إلى رفعة الأوطان فالله ناصره

بنى الشرق هذا الغرب ضل ضلاله

وأعمته أطماع تظل تساوره

ودان بشرع الغاب بغيا وشرة

فضلت عن الحق القويم بصائره

يعد أساليب الفناء بعلمه

هل العلم أن يفنى من الكون عامره؟

لقد عزه في الشرق قوة روحه

فراح بأنواع السلاح يفاخره

إذا العرب الأمجاد فيه توحدت

صفوفهمو عادت أمانا مخاطره

وهذا زمان ليس فيه لأعزل

مكان ولا يصغي لشكواه قاهره

فما ينفع المظلوم منطق حقه

ومنطق سفاك الحقوق بواتره

إذا الذئب لم يسمع لغير ضراعة

من الحمل الواني فما هو عاذره

هو الحق لا يعطي لذلة طالب

ولكن إذا ضجت غضابا كواسره

به مشعل النور استفاض على الحمى

سناه وجاب المشرقين مسافره

وفي ساحة شب الجهاد تحوطه

شريعة حق ما تزال تؤازره

تماثل للبعث الجديد وقد صحت

أمانيه واهتزت رجاء منابره

ألح عليه السقم من طول يأسه

وشقت من الحرمان مطلا مرائره

وأوهن عهد الظلم بأس شيوخه

وكان أعز المالكين يحاذره

وصار يلقي الأمر من كل تابع

وكانت على الحكام تلقى أوامره

أتنساه مصر وهي تفخر باسمه

ويذكره بالقول لا الفعل ذاكره

وتمنع دون الجامعات حقوقه

وتعطي كما شاءت مناها نظائره

إذا ما شكا قالوا عهدناه قانعا

تقشفه في العيش تروى مآثره

وإن ضاق بالحرمان قيل له اتئد

وعلله بالزهد من لا يصابره

أليس لنا حق الحياة كغيرنا

وأين سبيل العدل إن جار جائره؟

مضى عهد تفريق الطوائف وانقضى

وراح زمان الظلم ، لا عاد غابره

وأدركه عهد المساواة منصفا

فهل يرتجى في ظله اليوم كادره؟

متى ينصفوه ينصفوا خير معهد

موارده محمودة ومصادره

وإن تنهضوه تنهضوا بحماكمو

ويزهى على الماضي ، ويعتز حاضره


وقال جمال عبد الناصر بعد انتهاء كلمات المتحدثين : إخواني رجال الأزهر :

أحييكم ... وأعبر لكم عن سعادتي في هذه الفرصة التي جمعتنا للاحتفال بجلاء قوات الاحتلال عن أرض الوطن في رحبات الأزهر.

وفي هذه المناسبة العظيمة ، لا يسعني إلا أن أذكر لهذا الأزهر جهاده على مر السنين ، فقد حمل الأزهر دائما الرسالة ولم يتخل مطلقا عن الأمانة ، وكافح كفاحا مريرا في سبيل الحصول على أهداف الوطن. وكفاح الأزهر أيام الحملة الفرنسية معروف ، وكم قاسى رجاله ، وعذبوا وقتلوا وشردوا ، واقتحم المحتلون الأزهر فلم يتوان عن المطالبة بحقوق الوطن ... واستمر الأزهر يحمل الرسالة حتى سلمها إلى الجيش ، وإلى عرابي الذي قام متسلحا بروح الأزهر المعنوية إلى جانب القوات المادية ، يطالب بحقوق البلاد ... وعند ما وطئت أقدام المستعمر أرض مصر ، حاول بكل قواته أن يقضي على رسالة الأزهر ، كما حاولوا القضاء على الجيش وقوته ورسالته ، ورغم هذا ، استمر الأزهر على مر السنين يكافح .. ففي ثورة ١٩١٩ حمل الأزهر العلم ، وقام بأداء الرسالة والأمانة مرة أخرى. وعمل المستعمر على تفريق الشعب شيعا وأحزابا وتحطم الجيش وفصله وفصل الأزهر عن الوطن.

واليوم وبعد أن قامت الثورة أقول لكم عليكم حمل الرسالة والأمانة مرة أخرى فإن أمامنا عملا شاقا طويلا ، وهذا العمل يطالبكم بأن تجاهدوا من أجل الأهداف الكبرى التي كافح من أجلها السابقون. ورجال الأزهر على طول السنين.

الأزهر ومعارك التحرير الأولى

في أوائل القرن الثالث عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) افتتح رجال الأزهر أولى حركات التحرير في تاريخنا القومي ، فاشترك كبار العلماء


في إعداد الثورات ورسم خطط المقاومة الشعبية مضحين في سبيل الدفاع عن الوطن بأموالهم وأنفسهم فمنهم من صودرت أملاكه ، ومنهم من عذب ، ومنهم من استشهد ، وقد كان لهذه التضحيات أكبر أثر في بعث روح المقاومة في الشعب الذي نهض ليواجه قوات الاحتلال في شجاعة نادرة المثال.

إعلان الجهاد :

اضطرب المماليك حين وصلهم نبأ احتلال نابليون للأسكندرية في صفر ١٢١٣ ه‍ (١٧٩٨ م) ، وعقدوا اجتماعا للتشاور في الأمر ودعوا العلماء لحضوره ـ وكانوا قادة الرأي العام إذ ذاك ـ فحضر منهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف ، والشيخ السادات ، والشيخ الشرقاوي ، والشيخ سليمان الفيومي ، والشيخ الصاوي ، والشيخ المهدي ، والشيخ العربي ، والشيخ محمد الجوهري. وجرت أثناء الاجتماع مناقشة حادة بين العلماء والأمراء حتى قام الشيخ السادات ووجه الكلام إلى الأمراء قائلا «إن كل هذا من سوء مقالكم وظلمكم. وآخر أمرنا معكم أنكم ملكتمونا للأفرنج» ثم نظر إلى مراد بك قائلا له : «وخصوصا بأفعالك وتعديك أنت وأمراؤك على متاجرهم وأخذ بضائعهم». وأخيرا اتفق المجتمعون على إخطار الدولة العثمانية بالأمر وتجهيز العساكر للحرب.

من هذا الاجتماع نستطيع أن ندرك لأول وهلة موقف الأزهر بالنسبة للفرنسيين ، فهو موقف المقاومة المسلحة ؛ كما أن العلماء بصفتهم وكلاء عن الشعب وضعوا قاعدة دستورية هامة ، وهي محاسبة الحكام على تفريطهم في حقوق الشعب (١).

ولما وصل نابليون إلى إمبابة أعلن السيد عمر مكرم والعلماء الجهاد

__________________

(١) مجلة الأزهر ـ من مقال لاحمد عز الدين خلف الله.


واستنفروا الشعب ودعوا إلى التطوع العام ، وسار السيد عمر مكرم في مقدمة المتطوعين للقتال ، وقام بعرض شعبي في شوارع القاهرة استجاب له جميع الأهالي ، ولكن إذا كان العلماء قد نجحوا في تعبئة الشعب إلا أن تخاذل المماليك أسرع بالبلاد نحو الخاتمة المنتظرة.

بين الأزهر ونابليون :

استفز الفرنسيون المصريين بفرض الضرائب الثقيلة والقتل ومصادرة الأملاك والاعتداءات المتوالية ، مما عجل بقيام ثورة القاهرة الأولى في (جمادى الأول سنة ١٢١٣ أكتوبر سنة ١٧٩٨). فقام العلماء وعلى رأسهم الشيخ السادات يدعون إلى الجهاد ضد الفرنسيين ، وانتخبوا مجلسا للثورة كي ينظم حركات المقاومة ويمونها بالأسلحة والذخائر ، وفي ذلك يقول نابليون في مذكراته : «إن الشعب قد انتخب ديوانا للثورة ، ونظم المتطوعين للقتال ، واستخرج الأسلحة المخبوءة. وأن الشيخ السادات انتخب رئيسا لهذا الديوان». وذكر في تقريره إلى حكومة الدير كتوار أن لجنة الثورة كانت تنعقد في الأزهر.

انتشر رجال الأزهر في القاهرة يبثون الثورة في النفوس ويدعون الشعب إلى الجهاد ويعاهدونه على المقاومة ، بينما كان مجلس الثورة يوزع الأسلحة على أحياء العاصمة ، حتى اقترب الوعد فعقد المجلس اجتماعا ليلة الأحد (١٠ جمادى الأولى ١٢١٣ ـ ٢١ أكتوبر سنة ١٧٩٨) لرسم خطة العمل في صبيحة ذلك اليوم.

يقول الكولونيل ديتروا في يومياته وصفا للثورة كما شهدها : في الساعة السادسة صباحا من يوم ٢١ أكتوبر احتشدت الجموع في كثير من أحياء القاهرة وكان المؤذنون يدعون إلى الجهاد على المآذن ، وكان المعسكر العام للثائرين الجامع الكبير المسمى بالأزهر ذلك المسجد الجميل الذي


طارت شهرته في أنحاء المشرق وقد قام الثوار بإقامة المتاريس في الطرق والأزقة المفضية إليه حتى أصبح من المستحيل أن تقتحمه المدفعية أو الجنود المشاة.

وفي الساعة العاشرة صباحا اصطدم الثوار بكتيبة من الفرسان يقودها الجنرال ديبوي قومندان القاهرة وتغلب الأهالي على الكتيبة وقتل الجنرال ديبوي أثناء المعركة. وامتدت الثورة حتى اشتبكت الجماهير بدوريات الجنود في كل مكان.

كان نابليون في ذلك الوقت يطوف بسرعة ليتفقد الاستحكامات العسكرية في مصر القديمة والروضة ولما عاد إلى بولاق بلغة مصرع الجنرال ديبوي فأصدر أمرا بتعيين الجنرال بون خلفا له وكلفه بإجراء اللازم لإعادة النظام إلى المدينة.

هال الجنرال بون تفاقم الحالة في العاصمة فكتب إلى نابليون في الساعة العاشرة مساء من يوم الثورة يطلب اتخاذ إجراءات في غاية الشدة والصرامة مع حي العرب حيث يوجد الجامع الأكبر (الأزهر).

وفي صباح يوم ١١ جمادى الأولى ١٢١٣ (٢٢ أكتوبر ١٧٩٨ م) بلغت حماسة الثوار مبلغا عظيما حتى حاولوا ضرب الاستحاكات الفرنسية في القلعة من مسجد السلطان حسن ، كما تمكنوا من قتل الكولونيل سلكوسكي في معركة عند باب النصر.

وفي هذا اليوم أرسل نابليون الجنرال (برتييه) رئيس أركان حربه في الساعة الثانية بعد الظهر ومعه أمر بضرب الأزهر بالمدافع سلمه للجنرال بون وقد أوصى نابليون بوضع المدافع في أصلح المواقع ليكون تدميرها شديدا.

كما أصدر أمرا إلى الجنرال (دومارتان) بالاستيلاء على جميع المنافذ المفضية الى الأزهر ومما جاء في هذا الأمر (وعليكم أن تقتحموه بجنودكم


تحت حماية المدافع وأن تقتلوا كل من تلقونه في المسجد وأن تضعوا فيه حرسا قويا من الجنود).

وابتدأ الضرب من بعد الظهر حتى الساعة الثامنة مساء ، وأخذت رسائل الوحشية المقنعة بالمدينة تهال في صورة آلاف من القنابل على الأزهر حتى قال ريبو : أوشك الجامع أن يتداعى من شدة الضرب فيدفن تحت أنقاضه الجماهير الحاشدة فيه وأصبح الحي المجاور للأزهر صورة من الخراب والتدمير. ولما وجد العلماء أن الاستمرار في المقاومة سيفضي إلى كارثة محققة ، شرعوا في مفاوضة نابليون لإيقاف الضرب.

محاكمة العلماء الثائرين :

في ١٢ جمادى الأولى ١٢١٣ ه‍ (٢٣ أكتوبر ١٧٩٨ م) أصدر الجنرال (برتييه) أمرا باسم نابليون إلى الجنرال (بون) قومندان القاهرة بهدم الأزهر ليلا إذا أمكن ، ومن هذا نرى أن نابليون أراد أن يقضي على المقاومة الشعبية بهدم مركزها ، ثم عدل عن هذه الفكرة خوفا من إثارة الحماس الديني.

وفي ٢٤ أكتوبر توجه وفد من العلماء إلى نابليون يسأله العفو عن الأهالي ليسكن روعهم ، فطالبهم نابليون بإرشاده عمن تسبب في الثورة من العلماء ، فلم يرشدوه إلى أحد فقال لهم : «نحن نعرفهم واحدا واحدا».

قبض نابليون على ثمانين من أعضاء لجنة الثورة أعدموا سرا وألقيت جثثهم في النيل أما الذين حوكموا رسميا من المقبوض عليهم باعتبارهم زعماء الثورة فهم الشيخ إسماعيل البراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة المكفوفين والشيخ أحمد الشرقاوي وكلهم من العلماء وقد حكم عليهم بالإعدام ونفذ


الحكم في الساعة الثامنة صباحا من ٢٣ جمادى الأولى ١٢١٣ ه‍ (نوفمبر ١٧٩٨ م).

وفي كتاب تحفة الناظرين للشيخ عبد الله الشرقاوي أن الفرنسيين قتلوا في هذه الثورة ثلاثة عشر عالما.

بين الأزهر والجنرال كليبر :

لم تكد تدوي مدافع معركة عين شمس في ٢٣ شوال ١٢١٤ ه‍ (٢٠ مارس ١٨٠٠ م) حتى دوى في القاهرة نداء الحرية فلبت العاصمة النداء مستمدة قوتها من إيمان أهلها وحماستها من وطنيتهم واستبسالها من تضحيتهم وهب السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي والشيخ السادات والشيخ الجوهري وغيرهم من زعماء الثورة يحرضون الناس على القتال. ولما رجع كليبر بعد انتصاره على الجيش العثماني في معركة عين شمس وجد العاصمة أشبه ببركان ثائر لا يهدأ فاشتبك مع الثوار في معارك طاحنة دامت أكثر من ثلاثين يوما دمرت خلالها بولاق تدميرا تاما. وللمرة الثانية شرع العلماء في مفاوضة الفرنسيين على أساس العفو عن جميع سكان القاهرة فوافق كليبر على هذا الشرط ولكنه سرعان ما نقضه وفرض على الأهالي غرامة فادحة قدرها (إثنا عشر مليونا من الفرنكات) وألزم الأهالي بتسليمه عشرين ألف بندقية وعشرة آلاف سيف. وكانت أشد الغرامات المفروضة غرامة الشيخ السادات وقدرها ثمانمائة ألف فرنك هذا فضلا عما تعرض له من التعذيب والإهانة إذ كان يجلد صباحا ومساء في معتقله ، وكانت غرامة الشيخ الصاوي (٠٠٠ ، ٢٦٠ من الفرنكات) والشيخ محمد الجوهري وأخيه فتوح الجوهري مثل ذلك.

مصرع الجنرال كليبر :

كان إسراف كليبر في الأنتقام وإهانته للعترة النبوية ممثلة في شخص


الشيخ محمد السادات من أهم الأسباب التي أدت إلى مصرعه في ٢٠ المحرم ١٢١٥ ه‍ (١٤ يونيه ١٨٠٠ م) بيد سليمان الحلبي ، وسرعان ما اتجهت أنظار الفرنسيين نحو الأزهر فقاموا بتفتيشه وتفتيش أروقته وقبضوا على من ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق كما قبضوا على العلماء المعروفين بقيادة الثورات الوطنية. ورأى كبار العلماء أن الفرنسيين سيتخذون من تفتيش الأزهر بين حين وآخر ذريعة للإيقاع بهم فتوجه الشيخ الشرقاوي والشيخ الصاوي والشيخ المهدي إلى الجنرال مينو واستأذنوه في إغلاق الأزهر فأغلق في ٢٧ المحرم ١٢١٥ ه‍ (٢١ يونيه ١٨٠٠ م). وكان هذا ما يريده الفرنسيون وقد استمر الأزهر مغلقا حتى تم جلاء الفرنسيين عن مصر.

يقول تيير : «لو بقي كليبر حيا لاستمرت مصر خاضعة للحكم الفرنسي حتى انهيار نابليون على الأقل ، فقد ضاع أكبر قائد وأكفأ من يؤسس الاستعمار الفرنسي في الشرق».

وهنا لا بد من أن نقول كلمة عن المنشورات التي كان يصدرها الفرنسيون على لسان أعضاء الديوان من العلماء : إذ كان الغرض من هذه المنشورات تضليل الشعب وبث التفرقة بينه وبين زعمائه ، وأكبر دليل على براءة من اشترك من العلماء في الديوان أنهم كانوا من المعروفين لدى الفرنسيين بقيادة الثورات والتحريض عليها.

الأزهر يحرض على قتال الحملة الإنجليزية الأولى :

في المجرم ١٢٢٢ ه‍ (مارس ١٨٠٧ م) نزل الإنجليز الأسكندرية بقيادة الجنرال فريزر وما كادت تصل أنباؤهم إلى العاصمة حتى قام السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير يدعون الناس إلى الدفاع عن الوطن ، وحث الخطباء في المساجد الناس على القتال ، فأقبل هؤلاء يتطوعون في حماس نادر المثال وانضم إليهم طلبة الأزهر والعلماء وكان


المتطوعون يذهبون يوميا لضرب الاستحكامات خارج القاهرة تحت إشراف السيد عمر مكرم وكبار الشيوخ ، كما تطوع البعض الآخر للسفر ليشترك في فك حصار الإنجليز لرشيد.

وأمام هذا التضامن الشعبي الرائع وجد الإنجليز أنفسهم عاجزين عن متابعة احتلال البلاد فقرروا الجلاء عن القطر المصري في ١٠ رجب سنة ١٢٢٢ ه‍ (١٤ سبتمبر ١٨٠٧ م).

هذا هو الدور الذي قام به الأزهر في معارك التحرير الأولى ، وقد كان لهذه المعارك أكبر أثر في تكوين الوعي القومي الذي بدأ منذ ذلك الوقت يوجه تاريخنا الحديث.

إنتاج الأزهر العلمي في العصر الحديث

في مكتبات كليات الأزهر الثلاث مجموعة كبيرة من الرسائل القيمة التي نوقشت في الأزهر ، وقدمها أصحابها للحصول على العالمية من درجة أستاذ ، ونال مقدموها هذه الدرجة العلمية الرفيعة ، وشغل بعضهم مناصب التدريس في الكليات الأزهرية.

وكذلك في مكتبات الكليات توجد طوائف كبيرة من رسائل حاملي شهادة التخصص القديم ، الذين تولى أكثرهم المناصب الإدارية في الأزهر ومناصب التدريس في الكليات والمعاهد الثانوية الأزهرية.

وفي مكتب شيخ الأزهر يوجد رسائل علمية قدمت لنيل عضوية جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف ، وهذه الرسائل على جانب كبير من الأهمية العلمية والدينية.

ولو عني الأزهر بنشر هذه الرسائل كلها ، أو جلها لسدت فراغا كبيرا في الثقافة الإسلامية ، ومثلت إنتاج الأزهر العلمي في العصر الحاضر في صورة مشرقة زاهية ـ وهذه الرسائل إلى جانب ما نشره أساتذة كليات الأزهر


من دراسات وبحوث وكتب ثقافية وعلمية ، تمثل الأزهر تمام التمثيل في فترة من أعجب الفترات التي مر بها في تاريخه الطويل.

والذين يشككون في أهمية الأزهر الثقافية والعلمية ، عليهم أن يطلعوا على إنتاج شيوخه العلمي قبل أن يحكموا له أو عليه ، وللأسف فإن جل إنتاج الأزهر العلمي لا يزال مخطوطا ، وتحوى مكتبة الأزهر على الكثير من المؤلفات المخطوطات التي ألفها علماء الأزهر في العصور السابقة ، وأغلب مؤلفات الأزهريين المتقدمين قد ضاع أو بدد ، وما بقي منه يحتوى على كنوز ثمينة عظيمة القيمة العلمية.

وإذا كانت بعض مؤلفات علماء الأزهر في العصور القديمة قد كتبت بأسلوب عتيق ، على الرغم مما فيها من ثورة علمية لا تقدر بقيمة ، فإن الأمل معقود على أساتذة كليات الأزهر ومعاهده لكي ينهضوا لتحقيق هذه الكتب ، وإخراجها في ثوب علمي جديد ، حتى يتسنى للأمة وللعالم الإسلامي الانتفاع بما فيها من ثقافات واسعة ذات قيمة كبيرة ، ولا بد أن تقوم مطبعة الأزهر الثمينة على نشر تراث الأزهر العلمي القديم والحديث بإشراف وتوجيه جماعة من أفذاذ علمائه.

ومن بين رسائل الأستاذية المخطوطة رسالة نفيسة عنوانها : «أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة» للأستاذ محمد كامل الفقي المدرس في كلية اللغة العربية. ورسائل في الأدب والبلاغة وأصول النحو ومذاهب النحويين لاساتذة يحملون شهادة العالمية من درجة أساتذة ويتولون التدريس في كلية اللغة العربية اليوم ... ورسائل أخرى في الفلسفة الإسلامية وأصول الدين ، وفي علوم الشريعة الإسلامية.

كلية اللغة العربية تنشىء صحافة أزهرية

أخرج الأديب موسى صالح شرف الطالب بكلية اللغة العربية مجلة باسم صوت لأزهر في ٣ يناير سنة ١٩٥٣ ـ الموافق ١٧ ربيع الأول سنة


١٣٧٢ ولا تزال هذه المجلة توالي الصدور ... وكتب المؤلف كلمة في عددها الأول بعنوان «صوت الأزهر الخالد» وكانت المجلة تنشر مقالات وأحاديث للمؤلف أيضا ، وقد خرج على أثرها مجلة أخرى في كلية اللغة باسم «النهار» وفي الأزهر قبل هذه المجلة «مجلة الأزهر» وهي مجلة رسمية تمثل الأزهر ، وينشر على صفحاتها شيوخ الأزهر وأساتذته المقالات والأحاديث العلمية والدينية ، ويرأس تحرير هذه المجلة كبار العلماء في الأزهر ، وهناك (مجلة نور الإسلام) وهي لسان حال وعاظ الأزهر الشريف وتؤدي رسالتها في محيط الوعظ والإرشاد .. وكونت في العام الماضي أسرة للصحافة بكلية اللغة العربية وأصدرت جريدة حائط ، وفي هذا العام تخرج مجلة شهرية لأبناء كلية اللغة العربية ، وكونت لجنة للإشراف على هذه المجلة من حضرات الأساتذة أصحاب الفضيلة : الشيخ كامل حسن وكيل الكلية ، ومحمد عبد المنعم خفاجي ، وعبد الخالق سليمان ، وحسن جاد ، ويوسف البيومي ..

وتألفت لجنة من طلاب الكلية لإصدار هذه المجلة مكونة من الأدباء : موسى صالح شرف وحسن عفيفي ومحمود محجوب ورشيد أبو الفتوح الليثي وعمر عطية ومنجود محمد وكمال كامل حسن وأحمد الصاوي ، ويصدر العدد الأول من هذه المجلة في يناير عام ١٩٥٥!!

وقد أخذت المعاهد تسير على ضوء كلية اللغة العربية ، فصدرت مجلات أخرى لمعهد أسيوط ومعهد طنطا ومعهد دمياط.

الأزهر ورسالة الإسلام

في يونيو سنة ٩٧٢ ألقى إمام الأزهر من منبره الشريف ، أول درس جامعي فيما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية ، ومنذ ذلك اليوم إلى الآن ، وإلى ما شاء الله لم تنقطع ينابيع الحكمة ، والعلم والمعرفة ، ينهل منها الوافدون


إلى الأزهر من أبناء مصر ، وأبناء كل شعوب العالم في مختلف أرجاء الدنيا.

وأحب أن ألخص الرسالة التي كان يؤديها الأزهر في هذا الشعب ، وينقلها عنه الوافدون إليه من مختلف أرجاء الدنيا إلى شعوبهم وأممهم فيستيقظ بها الغافي ، ويتنبه الغافل ، ويعرف الجاهل ، ويمضي إلى غايته المعرفة النافعة ، أصحاب العزائم لخير شعوبهم وخير الإنسانية في كل مكان.

وهذه الرسالة كانت تقوم ولا تزال على دعامتين : الأولى : الحرية ، والثانية : العدالة الاجتماعية.

فأما الحرية فإنها في رسالة الأزهر تنبع من الإسلام ، الذي قام على نشره والدعوة اليه والانتفاع به الوافدون عليه ، والمعتزون بالانتساب إليه. والحرية التي تنبع من الإيمان بالله والاعتزاز به والتأمل فيه والالتجاء إليه هي أمنع وأعز وأسمى ما يتطاول إليه أعناق طلاب الحرية في كل عصر وفي كل مكان.

وعن هذه العقيدة الإسلامية مضى فقهاء الإسلام الى تقويم الحرية تقويما يرتفع بها في أحيان كثيرة الى منازل لم يقدرها أحد كما قدرها هؤلاء الفقهاء.

وإليكم هذه الصورة من صور الاعتزاز بالحرية عند فقهاء المسلمين وهي قاعدة فقهية معروفة :

إذا ترافع مسلم ومسيحي أمام قاضي المسلمين في وليد لا يعرف أبوه فقرر المسلم أمام القاضي أن هذا الوليد عبد له ، وقرر المسيحي أن هذا الوليد ولد له ، فإن على قاضي المسلمين أن يحكم به للمسيحي ولدا ولا يحكم به للمسلم عبدا.


والذين يتأملون هذه الصورة الفقهية ويقيسونها إلى ما يتراءونه اليوم في دنيا الناس من الحديث عن الحرية والتشدق بها. لا يكادون يجدون لها مثيلا في خيال شاعر أو قلم كاتب أو واقع شعب.

ووجه القوة هنا أن الفقيه المسلم وضع تعصبه للحرية قبل تعصبه لدينه على ما في التعصب للدين من قوة قاهرة وسلطان عظيم.

وأما الدعامة الثانية : وهي العدالة الاجتماعية فإنها تستند في نفس المسلم الى العقيدة التي يدين الله عليها. وتطرق سمعه كل يوم آيات الله في الدعوة الى العدل واحترامه وتكريمه بحيث يرى الدنيا بغير عدل شبحا بغير حقيقة وجسما بغير روح.

ومن أفضل ألوان العدل التي جاء بها الإسلام العدل في توزيع الثروة ويعتبر من أدق صور العدل في المجال الاقتصادي. وكذلك من أجل ألوان العدل التي جاء بها الإسلام أيضا العدل الذي يقوم على التفاضل بين الناس على قدر ما يقدم الإنسان للمجتمع من خير وليس على قدر انتسابه إلى لون خاص أو جنس خاص أو عرق خاص. فذلك قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

فهذه الصورة من العدل الذي دعا إليه الإسلام وقامت بالدعوة إليه جامعة الأزهر مدة ألف عام أمانة في أعناقنا ، لا لشعوبنا وحدها ولكن للإنسانية جمعاء.

فإن الإنسانية لم تتعرض لمحنة بالغة وابتلاء شديد كما تعرضت لمحنة التفاضل بالألوان والأجناس والعروق. فإذا كان لا بد للناس أن يطلبوا السعادة وأن يحرصوا عليها فلا بد لهم قبل كل شيء أن يعملوا على وأد هذه الثغرة ، وخنق الدعوة إلى العنصرية القائمة على الأجناس والألوان والعروق.


وإن أحوج ما يحتاج إليه الإنسان ليتم له بده سعادته ، وتتوافر به طمأنينته ، لا يعدو هذه الأمور الثلاثة :

الأساس العقيدي الذي يملأ قلبه بالإيمان والسكينة.

والأساس الاقتصادي الذي يكسوه من عدرى ويطعمه من جوع.

والأساس الإنساني الذي يجعله فاضلا بما يؤدي من عمل لا بما بنتسب إليه جنس أو لون أو عرق.

وإن من حق شعوبنا على جامعاتنا مديرين وأساتذة أن نسعى دائبين لكي نوفر لها جوا تحيا فيه راضية مطمئنة موفورة الحاجات التي لا بد من توافرها لحياة الإنسان.

الشيخ أحمد حسن الباقوري ـ من كلمة له نشرت في الأخبار



الباب العاشر

شخصيّات أزهريّة معاصرة

الشيخ محمد عرفة

هو شيخ جليل ، ومفكر نابه ، له مكانته العلمية في الأزهر ، وتلاميذه الكثيرون ولا نجد في تاريخ حياته خيرا مما أرخ به هو لنفسه في مقالة نشرتها له المصري بعنوان «الدين والحياة والأزهر» في يونيو عام ١٩٥٢ وهي من سلسلة مقالاته التي كتبها يرد فيها على الأستاذ أمين الخولي الذي نشر سلسلة مقالات في «المصري» ندد فيها بالأزهر وتأخره عن أداء رسالته ، قال الشيخ محمد عرفة :

كنت بصدد أن أثبت أن الأزهر شعر بحقيقة الدين المشرقة المتسامحة التي تدعو إلى الإخاء الإنساني والتعاون البشري وأنه تعدى دائرة الشعور إلى دائرة التنفيذ ، واستدللت ببحث كنت كتبته في العلة في مشروعية الجهاد ، أهي الكفر أم عدوان الكافرين على المسلمين ، فاستخلصت من بين الأقوال المختلفة إن العلة هي العدوان ؛ فما لم يعتد المخالفون في الدين على المسلمين فلا جهاد ولا قتال ، وبذلك كانت العلاقة الخارجية بين المسلمين وأمم الأرض هي السلم لا الحرب ويتبع ذلك ما يتبعه مما يكون بين المسالمين من المحبة والتعاون والإخاء ، وجمعت بين الأدلة المتعارضة


الظاهرة على هذا الأساس من كتاب الله وأحاديث رسول الله ، فاستقامت ككعوب الرمح على توال واتساق ، وإني أعتز بهذا البحث وأراني قد خدمت به المسلمين بخاصة والإنسانية بعامة ، وكنت أذيع هذا البحث في دروسي ومجالسي .. وإنما كنت بهذا الصدد لأرد على من قال إن الأزهر لم يشعر بالدين الإسلامي المنتظر الذي يدعو إلى الإخاء والتعاون ، وقد نبهته فلم يتنبه وهو لا يطمع في التنفيذ. فكتب الأستاذ الشرقاوي في «المصري» يشكك في قيمة هذا الدليل دون أن يبين الأسباب ، ونقل الكلام إلى أن الأزهر لا يشارك في المواضيع التي تهم الأمة وليس كغيره من علماء الأديان الأخرى الذين يشاركون مشاركة فعلية وقولية في كل شأن من الشئون وضرب أمثلة برجال الدين في جزيرة قبرص حيث خطب أحدهم يطلب الانضمام إلى اليونان ودقت الكنائس أجراسها احتفالا بالخطيب ، وذكر أن الباب تعاون الإسلام والمسيحية لمقاومة الشيوعية وتحدث بذلك سفير مصر في الفاتيكان ولم يحرك الأزهر ساكنا ، والبعثة التي جاءت إلى الأديرة في سينا لتحقيق الوثائق التاريخية لم يدرسها معها ولم يشارك في هذا التحقيق.

وإني أقبل أن ينقل الحوار إلى هذه الناحية وأذكر أن الأزهر شارك في الأحداث الجسام فكان مهد الحركة الوطنية ومنبع الثورة في سنة ١٩١٩ وظل مدة الثورة يلهب النفوس بالحماسة الوطنية ، وكان منبرا للخطابة وتوجيه الثورة ، وكان أهل الأقاليم يأتون إليه فيعمر قلوبهم بالإيمان الوطني ، ويزودهم بالرأي الناصح والمشورة النافعة ، وقد نبه إلى ذلك اللورد ملنر في تقريره. أما مسألة الشيوعية فإني أذكر أني قرأت في الجرائد أن أساقفة الكنائس اجتمعوا تحت رياسة رئيس أساقفة كانتربري وقرروا أن الشيوعية تخالف المسيحية لأنها تنكر وجود الله والحياة الآخرة وتوقد نار الحرب بين الطبقات الخ .. فما أن قرأت ذلك حتى عرضت مبادئها على قواعد الدين الإسلامي وذكرت مواضع الخلاف ونشرت ذلك بعض الصحف.


وأرى المساجلة ستضطرني إلى ذكر بعض ما شارك به الأزهر في المسائل التي تهم الأمة في شخص أحد أبنائه كاتب هذه السطور ، ولو لا موضع الحجة لما استبحت أن أنطق بكلمة ، وإني أذكرها مع الخجل والاستحياء :

١ ـ رأيت الأسر المصرية كما قلت في حينها سنة ١٩٢٢ بمدرجة السيول ، ومهب الرياح ، تقوضها الريح إذا هبت ويذهب بها السيل إذا جرى ، يبيع الرجل أو يشتري فيقسم على سلعته بالطلاق كذبا لترويج سلعته فإذا امرأته طالق ـ يغضب الرجل والغضب غول يغتال العقل فيطلق زوجته ثم يبقى نادما على بيت هدمه وأبناء شتتهم ـ يطلق الرجل امرأته ثلاثا في لفظ واحد فتبين منه ، ويندم ولات ساعة مندم.

رأيت ذلك فنظرت في الشريعة الإسلامية وأقوال الماضين فرأيت الرسول يقول : لا طلاق في إغلاق ـ أي غضب ـ وإذا من الأئمة من يرى أن يمين الطلاق التي الغرض منها الحث على شيء أو النهي عنه لا تقع طلاقا وإذا القرآن يوجب أن تطلق المرأة لعدتها طلقة واحدة وأن تبقى في بيت الزوجية ، فإذا بلغت الأجل فأما أن يعاشرها بالمعروف أو يفارقها بالمعروف ، وعلل ذلك بقوله ـ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ـ فيعطف قلبه بعد نفور ، فجعل الله له سعة في مراجعة ما كان منه ، وكان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث طلقة واحدة فأمضاه عليهم عمر فكتبت ذلك كله في مقال ونشرته بإمضاء ـ م. ع فثارت ثائرة بعض المحافظين وردوا على ذلك ، ولكنها كانت حجرا ألقي في الماء الراقد فنبهت الأذهان وفعلت فعلها حتى صدر قانون المحاكم الشرعية بعد ذلك مطابقا لكل ما اقترحته .. فإن كان ذلك قد خفظ الأسرة المصرية من التداعي والانهيار وحفظ الأبناء من الشتات والضياع ، فعند الله احتسب ما صنعت وأدخر ما قدمت.


٢ ـ كتبت في فتنة القبعة وكنت أريد أن أحفظ على المسلمين شخصيتهم ، ورددت على القائلين أنها لباس المتقدمين في العلم والحضارة ، فقلت ليس التقدم بتغيير لباس الرأس وإنما هو بتغيير ما في الرأس ، واعمدوا إلى رءوسكم فنظفوها من الخرافات وحلوها بالعلوم والمعارف بذلك وبذلك وحده تتقدمون.

٣ ـ حاضر الدكتور فخري فهاجم الاسلام في أمور كثيرة : منها جعله المرأة على النصف من الرجل في الميراث ، فدعا الأزهر الشيوخ والنواب ورجالات العلم إلى سماع محاضرة في قاعة المحاضرات بدار العلوم ، فقمت فألقيت هذه المحاضرة ، وكتب المرحوم الهباوي في شأنها يقول : هذه أول مرة يستمع الناس فيها إلى محاضرة تمكث ساعتين بدون سأم ولا ملل.

٤ ـ زعم مرقص باشا سميكة في التقويم السنوي للحكومية أن المعز لدين الله الفاطمي تنصر وقضى بقية أيامه في كنيسة سيفين ، فكتبت أرد هذه الفرية بالأدلة التاريخية القاطعة فلم يسع الباشا إلا أن يعلن في الصحف أنه أمام هذه الأدلة يرجع عن رأيه.

٥ ـ كتبت في تفسير آيات الأحكام وعرضت للوصية وما ثبت من أنه لا وصية لوارث ، وبينت أن صاحب المال قد يكون بعض أبنائه بررة به ، وبعضهم يعقونه ، فيريد أن يوصي للبررة بفضل في ماله ، وهذه إرادة مشروعة عقلا فكيف يحرم منها وبينت بعض المذاهب التي تجيز ذلك وقد نشرت أمثال هذه البحوث بجريدة البلاغ ، فجاءني المرحوم أحمد بك قمحة ـ وكيل مدرسة الحقوق وقتئذ ـ وقال : جئتك على غير معرفة سابقة لأتعرف بك ، وقال لو كتبت الشريعة بهذا القلم لرفع الخلاف بين الشريعة والقانون.

٦ ـ كتبت كتاب نقض مطاعن القرآن الكريم للرد على الأفكار التي


كانت تذاع في الجامعة مما تطعن في القرآن الكريم ، ورددت على كتاب الشعر الجاهلي ، وكتبت مقالات في الرد على ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة.

٧ ـ أخرجت كتاب «النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة» للرد على كتاب إحياء النحو ، وكتب بعض شيوخ الأزهر السابقين له مقدمة يظهر فيها الإعجاب والتقدير ، وذكر لي بعض أصدقائي أن رحالة من النحويين جاء إلى مصر ، وبحث عني وقال : جئت إلى مصر وغايتي منها أن أرى صاحب كتاب النحو والنحاة ...

٨ ـ كتبت السر في انتشار الإسلام وهي رسالة كلفتني بها جماعة كبار العلماء لحماية الإسلام وقد طبعها الأزهر وترجمت إلى اللغة الفارسية والصينية.

٩ ـ أخرجت كتاب اللغة العربية ـ لماذا أخفقنا في تعليمها ـ وكيف نعلمها ـ هديت فيه إلى الطريق الطبيعي لتعليم اللغات عامة واللغة العربية خاصة ـ وقد نشر قبل ذلك مقالات في مجلة الرسالة ـ وقد لخصه العالم الجليل عبد القادر المغربي ونشره في مجلة المجمع العلمي بدمشق ، وقدم له بحث المدارس في بلاد العرب على الأخذ بما فيه ليكسبوا ملكة التكلم والكتابة باللغة العربية ...

١٠ ـ حملت على الشعر الفاسق حملة شعواء ، لأنه يزين الرذيلة والخمر ويفسد الشباب ، وكان ذلك في حفل تأبين المرحوم شوقي بك وفي مؤتمر الثقافة العربية المنعقد بلبنان سنة ١٩٤٧ ، وطلبت أن تكون المختارات للطلاب في دور العلم من الشعر العفيف وكان أيضا في محاضرات ألقيتها في مشاكل الشباب في محطة الشرق الأدنى ، وحملت على الأغاني الخليعة والروايات المفسدة للأخلاق والصور العارية في المجلات والجرائد والنساء الكاسيات العاريات في النوادي والشوارع ،


وناشدت المجتمع أن يرفق بالشباب إذ يعرض أمامه كل هذه المفاتن ويطلب منه الصون والعفاف.

١١ ـ واليت أحداث مصر فكنت أكتب في كل مناسبة أرى الرأي النافع فأدلي به وأدعو إليه فكتب في فتنة الزقازيق ودعوت إلى الصفاء والوئام بين عنصري الأمة ، وبينت أن الإسلام جعل لهم مالنا من حقوق وعليهم ما علينا من واجبات ، وكنت أكتب في المناسبات الدينية كالهجرة والمولد ، وأحث على فضيلة أجعلها نصيحة العام ، وكنت أؤمن بالوحدة ويمنها وأكره الفرقة والانقسام فكنت أخوف منهما وأحث على التعاون والوحدة ، ولقد قلت في بعض ما كتبت إنكم لو خسرتم كل شيء وربحتم الوحدة فقد ربحتم كل شيء ، وإذا ربحتم كل شيء وخسرتم الوحدة فقد خسرتم كل شيء.

١٢ ـ كتبت رسالة الأزهر في القرن العشرين ودرست فيها الأزهر وعلله ووصفت له أداء رسالته ، وكان فيما عرضت له فيها ـ إضراب الشباب ـ فقد رأيت الشباب في الأزهر وفي دور العلم والجامعات قد هجر الدروس واعتاد المظاهرات والاعتداء على الأملاك العامة ، ورأيت أن هذه الحالة تخرج جيلا جاهلا اعتاد الفوضى وعدم احترام القانون من حيث تجعل المدارس مكانا للتعليم والتربية والتعود على النظام واحترام حقوق الغير ، فإذا خرج هؤلاء وأولئك عن الجادة فمن سنة الله أن يغلب العلم الجهل ، والنظام الفوضى ، والفضيلة الرذيلة ، وبحثت في سبب ذلك وعلته فإذا هي السياسة الحزبية دخلت دور العلم وأخذ كل حزب فريقا يشغب به إذا أراد الشغب. وعلمت إني بذكر ذلك أغضب الأحزاب والحكومات التي تستند إليها فترفقت وبينت أن ذلك واجب ديني ، وإني أكون من الخائنين للأمة وللشباب وممن يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى إذا كتمت هذه النصيحة ، فلم يجد كل ذلك فعزلت من وظيفة مدير الوعظ والارشاد في سنة ١٩٤٨ لقيامي بهذا الغرض الديني. النصيحة لله وللرسول ولأئمة المسلمين


وعامتهم ، وقد تبدلت العهود وولى الوزارة حزبيون ومستقلون ولم يغير هذا الظلم حزبي ولا مستقل ، كأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرم لا تقال عثرته ولا تقبل توبته ، ولست في ذلك بغاضب ولا متسخط بل ربما كنت راضيا بالقضاء فيه لما أرجو من ثوابه وجليل جزائه :

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

وإنما الذي أريد أن أقدم نصيحة أخرى ولا أدري ما عاقبة هذه النصيحة أيضا.

إن المنافسة كثيرا ما تكون بين أبناء الطائفة الوحيدة وكثيرا ما تكون غير مشروعة فيكيد بعضهم لبعض عند أولى الأمر ، ويصورون الناصح الشفيق بصورة العدو الضار ، ويزعمون الخير الصرف شرا بحتا ، ولو تنبه أولو الأمر لهذا الباب لما أصابوا بريثا.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام كالصلاة والصوم ، فالعقوبة عليهما كالعقوبة على أداء الصوم والصلاة ، ولا يصح أن يكون ذلك في بلد إسلامي كمصر.

إن العصر الحاضر لا يحترم شيئا كحرية الرأي ، لأنه يراها السبيل الوحيد لتقدم الإنسانية ، وليس أدل على تأخر بلد من الحجر على الحريات ، فإذا شاءت مصر أن تكسب احترام الدول فلتعمل على احترام الآراء فيها ..

إن أولى الأمر في مصر إذا ظلوا يخنقون الرأي ويضيقون بالنقد ، فإن ليل التأخر باق وطويل وفجر الاصلاح بعيد جد بعيد.

تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، وثورة هاجتها الذكرى ثم سكنت فلأرجع إلى ما كنت فيه.

ماذا أريد أن أقول ـ أريد أن أقول هذه بعض مشاركات شارك بها فرد


واحد من أفراد الأزهر فهل ترونها مشاركة عن فهم وإدراك وتبصر وشجاعة حتى إنها عصفت بصاحبها ، ورمت به خارج الأزهر ، هل ترونها حركات إصلاحية تولى صاحبها قيادتها وقام بتوجيهها ، وهل ترون فيها إنتاجا عقليا ينير عقول الناس ويتركهم خيرا مما كانوا؟.

فإذا كان هذا ما قام به أزهري واحد فهل يسوغ أن يقول قائل : إن الأزهر لا يشارك الأمة في عواطفها ، ولا يقوم بحركة من حركات الإصلاح فيها ، ولا ينتج إنتاجا عقليا ينير العقول ويرضي النفوس ..

هذا والشيخ محمد عرفة من أكثر علمائنا نشاطا وإنتاجا وجهادا وبلاء في سبيل الدين والأزهر.

خدم الثقافة في الأزهر مدة طويلة ، ومنذ عام ١٩٣٠ اختير أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الشريعة ، ثم وكيلا للكلية ، ثم عضوا في هيئة كبار العلماء التي ألفت لنشر الدعوة في سبيل الله ولمقاومة التبشير ، ثم اختير أستاذا للفلسفة بكلية اللغة العربية ، ثم أستاذا للبلاغة في تخصص الأستاذية بالكلية نفسها ، واختير عضوا في مجلس إدارتها ، ومنح عضوية جماعة كبار العلماء ، ثم اختير مديرا للوعظ عام ١٩٤٦ وأنعم عليه بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى ، ثم اختير مديرا لمجلة الأزهر ثم اختير أستاذا ذا كرسي في كليات الأزهر الشريف.

وله كثير من المؤلفات والبحوث الذائعة ، كنقض مطاعن في القرآن الكريم ، ومؤلف في تفسير آيات الأحكام ، والسر في انتشار الاسلام ، والنحو والنحاة ، الذي منح به عضوية جماعة كبار العلماء ، وآخر كتاب له «مشكلة اللغة العربية» ، هذا إلى كثير من البحوث والمحاضرات والمقالات.


والأستاذ «عرفة» بحق عالم متضلع ، وباحث دقيق ، ومفكر واسع التفكير كثير الإحاطة بآثار القدامى وبشتى الثقافات الحديثة ، وهو من صفوة العلماء الذين يفخر بهم الأزهر ، ويعتز بجهادهم العلمي ومكانتهم العلمية الكبيرة ، وبجمع إلى ذلك كله التواضع والنبل وعظمة الخلق وجلال العلماء ووقار المرشدين. وتوفي يوم الثلاثاء ٥ من ذي الحجة ١٣٩٢ ه‍ ـ ٩ يناير ١٩٧٣.

الشيخ علي محفوظ

حفظ الشيخ علي محفوظ القرآن في كتاب قريته ثم رحل إلى مدينة طنطا لتجويد القرآن وتلقي العلم في معهدها الديني وبالمعهد أتم تعليمه الابتدائي والثانوي وتلقى من العلوم ما كان مقررا فيه ثم أشار إليه شيوخه أن يستكمل دراسته العالية بالأزهر فجاء إليه بالقاهرة وأخذ عن كبار شيوخه إذ ذاك. أخذ عن الشيخ محمد عبده والشيخ أحمد أبي خطوة والشيخ بخيت المطيعي والشيخ الحلبي وغيرهم وحصل على الشهادة العالمية سنة ١٣٢٤ ه‍. واشتغل في التدريس فيه ولما أنشىء قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر اختير للتدريس فيه ووكل إليه أمر الإشراف عليه ووجد الشيخ في هذا القسم ضالته ووقف عليه فكرة ووقته وجهده وبفضله أصبح هذا القسم معهدا لتخريج الدعاة والمرشدين الذين برزوا في فنون الدعوة في مصر والأقطار الإسلامية. وقد حمله منهج الدراسة في هذا القسم أن يضع كتبا تلائم الدراسة المقررة على طلابه فوضع بذلك كتابين هامين في طرق الدعوة ومادتها يعتبران من أهم الكتب التي وضعت في فنون الدعوة الحديثة وهما كتابا (الإبداع في مضار الإبتداع) «وهداية المرشدين» إلى طريق الوعظ والخطابة أما الأول فهو كما يدل عليه اسمه في بيان البدع التي شاعت ونسبت خطأ إلى الدين وقد تتبع كثيرا من البدع في العقائد والعبادات والمعاشرة والعادات وبين أصل الخطأ فيها ووضعها من الدين وقدم لذلك


بمقدمات في بيان السنة والبدعة وأقسامها واختلاف أنظار العلماء إليها من جهة كونها مستحسنة أو غير مستحسنة.

وقد قال عنه العلامة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي : هذا السفر الجليل المسمى بالإبداع الذي وضعه العلامة الفاضل الشيخ علي محفوظ فيما رأيت خير كتاب جمع إلى تحقيق الباحث عذوبة الألفاظ وحسن الترتيب ولا غرو فالأستاذ من أجل علماء البرهان وفرسان حلبة الميدان وخير المرشدين وأجل الواعظين ـ وأما الكتاب الثاني هداية المرشدين فهو كما يدل عليه اسمه أيضا وضعه ليهتدي به المرشدون والدعاة في رسالتهم ويستعينوا به على أداء مهمتهم ويقول في مقدمته : هذا مختصر في الوعظ والخطابة جعلته نبراسا للدعاة الناصحين وسراجا يضيء للخطباء الراشدين وقد تكلم في مقدمته على الدعوة وتعريفها وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها سواء بالخطابة أو الكتابة إلى الرؤساء والملوك وتكلم عن تاريخ الوعظ وألم بتاريخ القصص والقصاص وعرض لشخصية الداعي وما ينبغي أن يكون عليه من الصفات العلمية والخلقية والطريق التي يستحسن أن يسلكها في اختيار الموضوعات والأساليب وذكر نماذج المحاضرات في موضوعات مختلفة. وقد تأثر في هذين الكتابين بالإمام الغزالي في كتاب الأحياء وبالإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام وبابن الحاج في كتاب المدخل وظهر هذا التأثر بالشاطبي في كلامه عن البدعة والسنة وبالغزالي في كلامه عن آداب الداعي وصفاته والمنهج الذي ينبغي أن ينتهجه في دعوته. ولا زال هذان الكتابان منذ وضعا مرجعا لعلماء الوعظ وطلبته ، وقد طبع في مصر مرات عديدة ـ وللشيخ غير هذين كتب ورسائل منها مجموعة الخطب والجواهر السنية في الأخلاق الدينية والدرة البهية في الأخلاق الدينية. وسبيل الحكمة وقد كان الشيخ عضوا في جماعة كبار العلماء وهي أكبر هيئة علمية في مصر فيما سبق ومنح الإمتيازات التي كانت لأعضائها.

ويعتبر الشيخ محفوظ صاحب مدرسة جديدة في الوعظ فقد جاء على


فترة اضمحل فيها الوعظ وقل الوعاظ لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. والوعظ كما تعرف أهم الوسائل لنشر الدين بأحكامه وآدابه وتقويم من انحرف عن سبيله وقد أثارت هذه الحال انتباه المصلحين فحاولوا علاجها وفكر جماعة منهم في سد الفراغ فأنشئوا مدرسة لتخريج الدعاة وتأهيلهم فنيا وسموها دار الدعوة والإرشاد ولكنها لم تلبث طويلا ولم تحقق الغرض منها فلما بدأ النشاط للشيخ في ميادين الوعظ أحس الناس بشغل كثير من ذلك الفراغ. فقد كان رحمه الله أمة في فرد يقوم بما تقوم به جماعة وفيرة العدد ولقد امتلأ إيمانا بوجوب حمل تلك الرسالة وحبب الله إليه هداية الناس حتى غدا ذلك الحب جزءا من طبيعته. فأنى رمت الهداية وجدت الشيخ يحمل مشاعلها في النوادي والجمعيات وفي العواصم والقرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ولا يشغله عن رسالته شاغل. وكان الشيخ أسلوب خاص في وعظه وكان له أثر في نجاحه فقد كان يحاول أن يربط وعظه بأحداث المجتمع ومشاكله ويستمد منها العظة والعبرة ويتخير الأسلوب المناسب لمستمعيه محاولا أن يضفي عليه وسائل التشويق والإثارة من فكاهة طريفة أو نادرة لطيفة أو قصة ذات مغزى وهدف ليبعث نشاطهم ويجذبهم إليه وقد تأثر في طريقته بالإمام الغزالي وابن الجوزي فليس الوعظ عنده سرد الأحكام والتحذير الجاف المنفرد وإنما كان منهجه قول الله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وقاربوا وسددوا.

وبالموعظة الحسنة والعرض اللطيف كان يبلغ غايته وهذه هي اللباقة في التبليغ وهذا هدى الأنبياء والمرسلين. ولقد تأثر بطريقة الشيخ تلامذته ففي كثير منهم ملامح من منهج الشيخ وأسلوبه وكان الشيخ سلفيا يحرص على المأثور ويحارب البدع لا يتسمح في شيء منها وألف فيها كتابا خاصا سبقت الإشارة إليه وقد أسهم بقلمه وجهده في أكثر الجمعيات الدينية التي وجدت أو كانت موجودة. أسهم في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية


وجمعية الهداية الإسلامية وجمعية نشر الفضائل الإسلامية كما أسهم في جمعية الرد على المبشرين وفي جمعية تحفيظ القرآن الكريم هذا إلى جهوده في اجتماعات خاصة في منزله وفي عيادات الأطباء ومكاتب المحامين وغيرهم. ولما استخدمت محطة الإذاعة بالقاهرة في نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية كان للشيخ نصيب فيها وكان من عادته أن يقوم بإلقاء الدروس الدينية بالأزهر عصر كل يوم من شهور رمضان وظل محافظا على ذلك حتى انتقل إلى جوار ربه رحمه الله.

وكان الشيخ مثلا في الخلق والتواضع سمحا لطيفا تؤمن بوادره ويغضي عما لا يروقه وكان ألفا مألوفا أحبه تلاميذه وزملاؤه وكل من عرفه. وكان وسيم الطلعة مشرق الوجه تبدو عليه سمات الصالحين ، فكان مرجو البركة مطروق الرحاب كما كان موضع التقدير من الكبراء والعظماء جمعته والمرحوم الشيخ محمد الخضر حسين التونسي المحبة في الله والرغبة في إحياء دينه فأنشأ جمعية الهداية الإسلامية التي قامت بجهد مشكور في التبصير بالدين والأخذ بيد الغافلين وقد هدى الله على يديه خلقا كثيرا. وقد ولد الشيخ في قرية محلة روح من قرى مدينة طنطا وتوفي سنة ١٣٦١ ه‍ واسمه الكامل علي بن عبد الرحمن بن محفوظ.

الشيخ صالح شرف

ـ ١ ـ

وهو الشيخ الأستاذ الكبير صالح موسى حسن أحمد شرف عضو جماعة كبار العلماء والسكرتير العام للأزهر الشريف.

ولد في بني عديات الوسطانية مركز منفلوط مديرية أسيوط يوم ٤ يوليو سنة ١٨٩٤ ، والتحق في السابعة من عمره بمكتب الدردير وتعلم القرآن الكريم وحفظه وفهم أحكامه وتجويده وسنه لا تتجاوز الثالثة عشرة ، التحق بالأزهر الشريف في المحرم ١٣٢٧ الموافق ١٩٠٨ ، وتلقى العلوم الدينية


والعربية على أفاضل العلماء ، ومنهم الشيخ عبد الحكم عطا والشيخ حسن الحواتكي والشيخ أحمد هيكل والشيخ محمد حسنين والشيخ حسنين محمد مخلوف والشيخ يوسف الدجوي والشيخ حسن مدكور والشيخ البراد والشيخ عطا المرصفي والشيخ محمد البرادي ، ثم نال الشهادة الأهلية عام ١٣٣٥ ه‍ ، ونال جوائز مالية كانت تعدها مشيخة الأزهر للمتفوقين في علوم التوحيد والفقه والأصول والإنشاء ، ونال الشهادة العالمية ١٣٤١ الموافق ١٩٢٤ وكان لجنة الامتحان مكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عطا المرصفي رئيسا والشيخ محمد السرتي والشيخ البرد والشيخ الغريبي والشيخ المرشدي والشيخ عبد المقصود الفشني ، وحضر الامتحان الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ صادق عزام وحصل على الشهادة العالمية وكان ترتيبه الثالث من ١٤٣ متخرجا ، وعين إماما ومدرسا وخطيبا في مسجد بمديرية المنيا ، ثم نقل من هذا المسجد إلى المسجد الأموي بأسيوط في يناير ١٩٢٦ ودخل مسابقة امتحان في التاريخ أعلنها الأزهر لاختيار مدرسين بالأزهر ونجح فيها بتفوق ، ثم عين مدرسا بمعهد أسيوط الديني في عام ١٩٢٧ ونقل في عام ١٩٣١ إلى معهد الزفاريق ولكنه لم يمكث به إلا شهرا ، ثم عاد إلى معهد أسيوط مرة ثانية ، ومكث مدرسا بمعهد أسيوط منذ تعيينه حتى عام ١٩٣٨ ، ونقل في عام ١٩٣٨ إلى كلية أصول الدين للتدريس بها ، ثم انتدب وكيلا لمعهد الأسكندرية الديني في عام ١٩٤٤ ومكث بالمعهد سنتين ، وعاد إلى كلية أصول الدين مرة ثانية في ١٩٤٦ ، ثم عين شيخا لرواق الصعايدة في عام ١٩٤٨ ، وانتدب شيخا لمعهد أسيوط الديني في عام ١٩٥٠ حتى عام ١٩٥٢ ، وعين عضوا في جماعة كبار العلماء في عام ١٩٥١ ورجع إلى كلية أصول الدين في عام ١٩٥٢.

عين سكرتيرا عاما للجامع الأزهر والمعاهد الدينية في عام ١٩٥٣ وعين عضوا بالمجلس الأعلى للأزهر في أكتوبر ١٩٥٤ ، ولا يزال يلقى المحاضرات العلمية على طلبة كلية أصول الدين.


الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد

من كبار الشيوخ الأزهريين ، وأكثرهم إنتاجا وتأليفا ، وأذيعهم شهرة وذكرا في العالم الإسلامي ، والكتب التي حققها ونشرها وألفها تزيد اليوم على مائة كتاب ومن بينها العديد من الكتب الدراسية في الأزهر الشريف ، وطائفة من أصول كتب البلاغة والتاريخ والأدب والنقد.

والشيخ محمد محي الدين يتولى اليوم مشيخة كلية اللغة العربية إحدى كليات الأزهر الشريف ، وقد تخرج في الأزهر الشريف عام ١٩٢٥ ، وتولى التدريس في الأزهر ثم اختير أستاذا في كلية اللغة العربية منذ إنشائها ثم وكيلا لها ، ثم ندب مفتشا بالأزهر الشريف ، فاستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية في كلية غردون بالخرطوم ، ثم أستاذا للفلسفة في كلية أصول الدين ، ثم رئيسا للتفتيش على العلوم العربية والدينية في الأزهر ، ثم عميدا لكلية اللغة العربية ، وكان والده من خيار الشيوخ الأزهريين وتولى قبل وفاته منصب مفتي وزارة الأوقاف وكانت له في الناحية الدينية والإسلامية آثار عديدة.

وقد مثل الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد الأزهر في كثير من المؤتمرات الأدبية والثقافية والدينية ، وهو في طليعة الشيوخ الذين لهم فقه باللغة العربية وأصولها وآدابها ، وفي مقدمة الأساتذة الذين شاركوا في دعم كيان الأزهر العلمي في نهضته الحاضرة.

وتوفي رحمه الله يوم السبت ٢٥ من ذي القعدة ١٣٩٢ ه‍ ٣٠ ديسمبر ١٩٧٢ م.

الشيخ شلتوت

هو أحد أعضاء جماعة كبار العلماء البارزين ، وله الكثير من الإنتاج العلمي والديني القيم ، وطائفة من المقالات والأحاديث الإسلامية الجديدة


في أسلوبها ومنهجها وطريقة تفكيرها .. والشيخ محمود شلتوت من أسر علماء الأزهر ذكرا ، وأذيعهم شهرة ، وأكثرهم تقديرا من شتى البيئات العربية والإسلامية ، وقد تخرج في الأزهر من نحو ثلاثين عاما ، وعين مدرسا فيه ، ثم أستاذا في كلية الشريعة الإسلامية ، فوكيلا لها ، فمفتشا في الأزهر الشريف ، فعضوا في جماعة كبار العلماء ، وعضوا في لجنة الفتوى بالأزهر ، فمراقبا عاما للبحوث والثقافة في الأزهر ، وقد مثل الأزهر في كثير من المؤتمرات العربية والإسلامية ، وهو من تلامذة الشيخ عبد المجيد سليم الأوفياء ، وممن درسوا أفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية التجديدية وتأثروا بها.

الشيخ محمد كامل حسن

في عام ١٩٣٦ اختير الشيخ أستاذا في كلية اللغة العربية من بين زملائه أساتذة المعاهد الدينية ، وسمعنا منه الكثير من المحاضرات في شتى العلوم العربية ، وتلقى عليه كثير من الذين تخرجوا في الكلية والتحقوا بشتى المعاهد والمدارس ، وقد راعنا من الشيخ سعة أفقه ، ودماثة خلقه ، ووداعة نفسه.

وفي عام ١٩٤٨ أختير ـ ثقة به ـ للتفتيش في الأزهر في العلوم الدينية والعربية ، وفي عام ١٩٤٩ اختير وكيلا لكلية اللغة العربية بعد وفاة وكيلها الخالد الذكر المغفور له الشيخ محمد أبي النجا ، وبعد أن ذهب وفد من أساتذة الكلية وعميدها آنذاك إلى شيخ الأزهر المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي يطلبون منه اختياره لوكالة الكلية ، وقالوا له : إنه سيكون خير خلف لخير سلف ، فاستجاب شيخ الأزهر مسرورا لهذه الرغبة ، وتم ذلك بقرار مجلس الأزهر الأعلى الصادر في مارس سنة ١٩٤٩.


وقد وقف الشيخ حياته على خدمة الكلية ، ورفع مستواها العلمي والأدبي في إخلاص ومحبة وصدق وتعاون مع الجميع ، وقد عدلت مناهج الكلية مرارا بإشرافه حتى سايرت أحدث المناهج في كليات الآداب والتربية الجامعية المختلفة .. وقد مثل الأزهر والكلية في كثير من المناسبات وكثير من اللجان ، فكان يرفع دائما من كرامة الأزهري ، ويعزز الثقة فيه ، مع تواضع المعتز بنفسه. وكثيرا ما يعلل الشيخ فلسفته في التواضع بهذه الحكمة : «إنما يتدلى من الشجرة فرعها المثمر».

وقد ولد الشيخ في يوم ٦ من يونيه سنة ١٨٩٥ وكان والده أزهري النشأة ، فعني بتربيته وتحفيظه القرآن الكريم ليكون طالبا بالأزهر ، وأتم تجويد القرآن في الأزهر سنة ١٩١٠.

وفي سنة ١٩١١ انتسب إلى الأزهر طالبا في بدء النظام الذي وضع له القانون رقم ١٠ عام ١٩١١ وعرف بنظام الشيخ محمد شاكر ، لأنه الذي وضع أسسه ورسم خططه وبدأ بتنفيذه واختار له المدرسين النابهين النابغين ، وكان لهذا النظام ثلاث مراحل (ابتدائي وثانوي وعال) ومدة كل مرحلة خمس سنوات دراسة ـ لهذا كان أول فوج تخرج في هذا النظام سنة ١٩٢٤ ، وكان الشيخ من أوائل الناجحين في جميع سني دراسته بهذا النظام.

وعين مدرسا سنة ١٩٢٥ عقب تخرجه بمعهد طنطا ، ثم نقل إلى معهد دسوق ثم الزقازيق.

وكان في كل مكان قدوة عالية لرجل الدين المثقف المستنير ، الحريص على أداء رسالته ، وعلى تعزيز ثقة المجتمع به ، ورأس لجان الامتحان للشهادات الأزهرية الكبرى ، فكان مثالا عاليا للنزاهة والكفاية وحسن السمعة بين الناس ، ومع أعماله الإدارية الكثيرة فهو يشغل كرسيا


علميا في الكلية ويقوم بنشاط علمي كبير محمود بين الأستاذة والطلبة ، ويعده الطلاب أبا روحيا ، كا يعده الأساتذة زميلا حميما لهم ، وقد حاز ثقة شيوخ الأزهر على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ونوهوا بكفايته وأمانته وحرصه على أداء الواجب في مناسبات كثيرة ، وقد شهدت الكلية منذ عام ١٩٥٣ نشاطا رائعا بفضله وتوجيهه ، وشهدت في أوائل عام ١٩٥٤ ميلاد صحيفة يومية داخلية كاملة يكتبها الطلبة بأيديهم ، وميلاد صحف مطبوعة ، وذلك بفضل يقظته وتوجيهه ورعايته ... والشيخ من أحب علماء الأزهر إلى قلوب الناس والطلاب ، وهو في ورعه وتقواه قدوة طيبة.

وقد توفي الى رحمة الله في ٢٩ من شعبان ١٣٨٩ ه‍ نوفمبر ١٩٦٩ م.

الشيخ حسين خفاجي

كان والده السيد محمد خفاجي (١٢٧٧ ه‍ ـ ١٩٤٠ م) من كبار الصوفيين الزاهدين في ثغر دمياط ـ وقد ولد الشيخ حسين في يونيو عام ١٨٩٦ ، وتخرج من الأزهر في فبراير عام ١٩٢٣ بعد أن نال العالمية بتفوق ، وتنقل في الوظائف الإدارية بالأزهر الشريف ، وهو اليوم كبير المراقبين في كلية الشريعة الإسلامية ، التي اختير لها منذ إنشائها ، وله فيها أياد تذكر بالتقدير من جميع شيوخ الأزهر الشريف ...

الشيخ عبد المتعال الصعيدي

من الشيوخ الثائرين في الأزهر ، ذوي الآراء الإصلاحية التقدمية ، وهو من بينهم يمتاز بميل إلى التجديد ، وعكوف على البحث والتأليف.

ولد (١) في قرية «كفر النجبا» من أعمال مركز أجا بمديرية الدقهلية

__________________

(١) ص ٩٠ تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي ـ الطبعة الأولى.


عام ١٣١٣ ه‍ ـ ١٨٩٤ م ومات والده وهو ابن شهر ، فكفلته والدته ، وتعلم في كتاب القرية.

ثم انتسب إلى الجامع الأحمدي ، فدرس فيه على النظام الحديث وأظهر تفوقا في الدراسة ، ويقول في ترجمته لنفسه في تاريخ الإصلاح في الأزهر : (١)

تابعت دراستي في جد واجتهاد ، حتى كنت أول الناجحين في أغلب سني الدراسية ، فإذا لم أكن الأول كنت الثاني أو الثالث ، لأني كنت على انتقادي الآن لطريقة التدريس القديمة آخذ نفسي بأقصى ما نصل إليه في البحث اللفظي والمعنوي ، حتى كان الدرس يمضي في عراك علمي بيني وبين المدرس ، ولهذا كنت موضع تقدير أساتذتي وحبهم ، ومن أشهرهم الشيخ محمد الشافعي الظواهري ، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري. ولكني كنت مع هذا شديد الشغف بمطالعة كل ما تظهره المطبعة من كتب الأدب والفلسفة وغيرها ، فكنت أطالع كل كتاب قديم أو حديث تظهره المطبعة ، وأطالع المجلات العلمية والأدبية ، وكذلك الجرائد اليومية ، ولا سيما جرائد الحزب الوطني الذي كان يقوم بالجهاد السياسي في ذلك الوقت ، فكنت أتلقى في هذه الجرائد دروس الوطنية ، وكانت تغرس في نفسي حب الجهاد في سبيل الوطن ، ولقد كنت وأنا تلميذ بالكتاب آخذ نفسي بالمطالعة ، فكنت أطالع الكتب القصصية الشائعة في القرى ، ولا سيما قصة عنترة العبسي ، فقد طالعت فيها كثيرا ، وأعدت قراءتها نحو أربع مرات ، ولعل هذا هو الذي ربى في حب المطالعة بعد أن صرت طالبا بالجامع الأحمدي ، وقد أخذت شهادة العالمية على النظام الحديث في سنة ١٩١٨ م (١٣٣٦ ه‍) ، وعينت فيها مدرسا بالجامع الأحمدي بعد امتحان

__________________

(١) ص ٩٣.


مسابقة جرى بين أكثر من مائة عالم نظامي في نحو عشر وظائف ، فنجحت فيه أنا وعالم آخر ، وسقط فيه الباقون لصعوبته.

وألف كتابا سماه «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف» ، وأهم بحوثه كما يقول الشيخ نفسه :

١ ـ كلمة في نقد قانون التخصص.

٢ ـ تمهيد في بيان الحاجة إلى الإصلاح ، وفائدة العلوم الحديثة في الدفاع عن الدين ، وفي بيان قصور النظام الحديث عن الإصلاح المطلوب.

٣ ـ الموازنة بين العهد القديم والنظام الحديث ، وخلاصتها أن الفرق قليل جدا بينهما ، لأن النظام الحديث لا يزال يعتمد على كتب العهد القديم ، وعلى طريقة التدريس القديمة ، ولا يمتاز النظام الحديث عن العهد القديم إلا بدراسة بعض العلوم الحديثة التي تدرس في المدارس الابتدائية والثانوية ، وهي دراسة ناقصة لا تناسب المعاهد الدينية ، ولا تحقق الغرض المقصود منها فيها ، وهو استخدامها في الدفاع عن الدين ، وكان الواجب أن تدرس على نحو ما تدرس في الجامعات الكبيرة في أوروبا ، لأنها تدس فيها دراسة جامعية ، ولا يصح أن يقصر الأزهر في دراستها عن هذه الدراسة ، لأنها هي التي تليق بأقدم جامعة علمية دينية.

٤ ـ نقد كتب الدراسة ، وخلاصة نقدها أنها من كتب المتأخرين ذات المتون والشروح والحواشي والتقارير ، ولما كانت متونها غامضة معقدة فدراستها تقوم على أساس فهم عبارات هذه المتون ، فهو الذي يقصد فيها أولا وبالذات ، أما فهم مسائل العلوم والتمرين عليها فلا يهتم بها كما يهتم بفهم عبارات المتون ، وهذا إلى أن هذه الكتب تسلك طريقة واحدة في


التأليف ، وخلط مسائل العلوم بعضها ببعض ، فلا تتدرج في هذا للطلاب بل تأخذ المبتدئين بما تأخذ به المنتهين ، وقد كان لتعقيدها أسوأ أثر في طلاب المعاهد الدينية ، لأنه يظهر في أسلوب كتابتهم ، ويحول دون النهوض به بتعليم الإنشاء ومطالعة كتب الأدب ، ولا يراد من هذا أن نرجع إلى كتب المتقدمين ، بل يجب أن نعتمد في الدراسة على كتب تؤلف في هذا العصر الحديث ، وتفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم.

٥ ـ نقد طريقة التدريس ، وخلاصة نقدها أنها طريقة تلقينية تقليدية ، لا تعنى بتربية ملكة الفهم الصحيح ، ولا بإعداد الطلاب ليكون منهم علماء وحكماء يرفعون منار العلم في الدنيا ، ويتحدث العالم بعلمهم ، كما كان يتحدث بعلم أسلافنا في الماضي ، وكما يتحدث اليوم بعلم أهل أوروبا.

٦ ـ نقد العلوم القديمة ، وخلاصة نقدها أنها علوم جامدة لا تزال على حالها منذ سبعة قرون ، وليس فيها أثر للتجديد الذي تناول كل شيء في عصرنا ، وقد كان علماؤنا الأولون يجتهدون فيها ويجددون في كل عصر من عصورهم ، فيجب أن نجتهد فيها ونعمل على تجديدها في عصرنا.

٧ ـ نقد نظام التعليم ، وخلاصة نقده أنه لا يتدرج بالطلاب في مراحل التعليم ، بل يبدأ بالكتاب الأقل حجما وإن كان أصعب فهما ، ويبدأ بالعلوم التي اعتيد البدء بها في العهد القديم ، وإن كان الواجب تأخيرها والبدء بغيرها ، وكذلك يجعل مدة الدرس واحدة في كل مراحل التعليم ، ويأخذ المبتدئين في هذا بما يأخذ به المنتهين.

٨ ـ إهمال التخصص في العلوم ، وخلاصة ما جاء فيه أن النظام الحديث اتبع العهد القديم في تخريج علماء يأخذون كل العلوم التي يدرسونها بنسبة واحدة ، فلم يحاول أن يوزعها في آخر مراحل التعليم على الطلاب ، ويجعل منها شعبا يتخصص الطلاب فيها ، ليعيدوا عهد


التخصص في علمائنا الأولين ، ويتخرج منهم أئمة نابغون فيما تخصصوا فيه ، ولا يكون هذا على نحو ما جاء في قانون التخصص السابق ، لأنه لا يفيد في تخريج أولئك العلماء النابغين.

٩ ـ نقد طريقة الانتساب إلى المعاهد الدينية ، وخلاصة نقدها أنها تجري على الطريقة القديمة من الاكتفاء بحفظ القرآن ، ومعرفة القراءة والكتابة ولو أقل معرفة ، فيجتمع بها في السنة الأولى أصناف من الطلاب يتفاوتون تفاوتا كبيرا في استعدادهم ، ولا يمكن أن ينتظم سير التعليم بمثلهم.

١٠ ـ نقد طريقة الامتحان ، وخلاصة نقدها أنه يجري على طريقة التدريس ، فالامتحان الشفوي يقصد منه اختبار الطلاب في فهم عبارات الكتب ، والامتحان التحريري يقصد منه معرفة تحصيلهم لها ، وحفظهم لمسائلها.

١١ ـ إهمال تعليم اللغات ، وإرسال بعثات إلى أوروبا ، وإنشاء ناد ومجلة للأزهر والمعاهد الدينية ، وإنشاء مجمع علمي ولجنة تأليف ، وإنشاء مطبعة لطبع كتب الدراسة طبعا صحيحا. وهذه هي أهم أبواب ذلك الكتاب ، وهو يقع في ستين ومائة صفحة ، وقد طبع عام ١٣٤٢ ه‍.

وقد سبق الشيخ الأحمدي الظواهري أن نقد نظام التعلم في الأزهر في كتابه «العلم والعلماء ونظام التعليم» ، الذي كان من أهم بحوثه أبواب أربعة :

فالباب الأول في العلماء ، أخذ المؤلف فيه على العلماء أنهم لا يعرفون شيئا سوى مناقشات الفنون والكتب التي يدرسونها ، فلا يعنون بمطالعة الجرائد والمجلات العلمية ، ولا يعرفون شيئا من اصطلاحات الناس وعاداتهم وغير ذلك من أمورهم ، ولا يميلون إلا إلى ما وجدوا عليه


من قبلهم ، لأنهم لا يرون الكمال إلا في علومهم ومعتقداتهم وكتبهم وطرق تدريسهم وسائر أحوالهم.

والباب الثاني في المدارس الدينية ـ الأزهر والمدارس الملحقة به ـ وخلاصة ما جاء فيه أن هذه المدارس صارت لا فائدة فيها ، وأصبحت لا تؤدي وظيفتها للعالم الإسلامي ، لاختلال نظامها ، وفساد طرق التعليم فيها ، فيجب إصلاحها بحمل طلابها على المطالعة ومعرفة نظم الأشياء وحقائقها ، وما في هذا العالم من شرائع وديانات ، وما إلى هذا من الاصطلاحات التي جاءت في هذا الباب.

والباب الثالث في العلوم ، وقد عاب فيه طرق دراستها ، ورأى أن يضاف إليها كثير من العلوم الحديثة وتاريخ الملل والمذاهب والآراء واللغات الأجنبية ، ورأى أيضا أن يؤلف فيها كتب حديثة ملائمة لهذا العصر ، وذكر أن الكتب التي تدرس فيها لا تختار من جيد ما ألفه السلف ، وإنما تختار من الرديء القليل الفائدة.

والباب الرابع في طرق التعليم ، وخلاصة ما جاء فيه أن منتهى الكمال في هذه الطرق هو التفنن في فهم عبارات المتون ، وإيراد ما لا يحصى من المعاني في فهمها ، والإكثار من الاعتراضات والأجوبة عنها ، وهي طريقة معيبة لا تهتم إلا بهذه المباحث اللفظية ، ولا يعنيها تفهيم الطلاب مسائل العلوم في ذاتها (١) .. وقد تخرج الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من الأزهر عام ١٩٠٢ وتولى المشيخة عام ١٩٢٩ واستقال منها عام ١٩٣٥ ، وتوفي في ٢٠ جمادى الأولى ١٣٦٣ ه‍ ـ ١٣ مايو ١٩٤٤.

وقد استمر الشيخ عبد المتعال الصعيدي مثابرا على البحث والتأليف ، وأخرج العديد من الكتب ، ولما أنشئت كلية اللغة العربية نقل إليها مدرسا بعد قليل ، ومن إنتاجه كتبه هذه.

__________________

(١) ١٢٠ تاريخ الإصلاح في الأزهر.


بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح أربعة أجزاء ، الكميت بن زيد شاعر العصر المرواني تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب ، شباب قريش في العهد السري للإسلام ، الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية ، لماذا أنا مسلم ، النحو الجديد ، القضايا الكبرى في الإسلام ، السياسة الإسلامية في عهد النبوة ، النظم الفني في القرآن ، في ميدان الاجتهاد ، الوسيط في تاريخ الفلسفة الإسلامية ، المنطق المنظم في شرح الملوى على السلم ، تعليقات على شرح السراجية في الميراث ، دراسات إسلامية ، المجتهدون في الإسلام ، تاريخ الإصلاح في الأزهر ، الآجرومية العصرية ، زبد العقائد النسفية مع شرحها وحواشيه ، البلاغة العالية في علوم البلاغة ، أبو العتاهية الشاعر العالمي ، الفقه المصور في أحكام العبادات ، زعامة الشعر الجاهلي بين امرىء القيس وعدي بن زيد ، روائع النظم والنثر ، نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف.

إلى كتب أخرى مخطوطة لم تقدم للطبع ، وكتب أخرى لم ينته من تأليفها.

السيد حسن القاياتي

من علماء الأزهر الشريف ، ومن الشعراء النابهين في الشعر العربي الحديث ، وهو (١) حسن بن محمد بن عبد الجواد بن عبد اللطيف ، زعيم بيت القاياتي ، بيت مصر الوسطى : الجيزة ، وبني سويف ، والمنيا ، والفيوم. وعضو المجمع اللغوي ، وشيخ رواق الفشنية في الأزهر الشريف ، ينتهي نسبه من جهة أبيه ، إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبي هريرة رضي الله عنه. ومن جهة الأم إلى الحسن السبط رضي الله عنه. وبيت القاياتي أشبه البيوت الدينية بالزوايا التي كان لها بالأوطان الإسلامية

__________________

(١) من بحث نشر عنه في مجلة الأزهر بقلم الشيخ عبد الجواد رمضان.


في العهود المتوسطة شأن مذكور ـ ولا زال ـ محط رجال الوافدين من الواحات ، ومن بلاد المغرب ، ومن أقاليم مصر الوسطى. يلقون في ربوعه الكريمة ، وفي رحابة الفيح وفي سماحته الطبيعية ، عودة الغريب إلى وطنه والنازع إلى عطنه ، والطائر إلى فننه. وهو ـ إلى أنه بيت دين وكرم بيت علم وأدب وسياسة ، فمن أعلام علمائه : السيد أحمد عبد الجواد أحد علماء الأزهر وشيخ الفشنية في القرن التاسع عشر ، والسيد عبد العظيم محمد زعيمه السابق ، وكل رجاله أدباء ، ولهم في السياسة المصرية مقام مشهود ، فالسيدان : محمد وأحمد عبد الجواد في الصف الأول من زعماء الثورة العرابية ، وكان حظهم من آثارها النفي إلى سوريا الشقيقة لمدة أربع سنوات. والشيخ مصطفى القاياتي ، وخلفه شقيقه السيد إبراهيم شيخ الفشنية السابق : وعلى الجملة : لم نجد في مصر حركة وطنية أو دينية ، لم يبذل فيها بيتا القاياتي في القاهرة وفي «القايات» أو في قسط من الجهود الأدبية والمادية بذل السخي المسماح. والسيد حسن القاياتي ، من لدات الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود أبي العيون.

وتمر الأيام ، وذكرى الشاعر حسن القاياتي لا تزال ملء القلوب والأذهان ، هذا الشاعر الذي استحدث ديباجة خاصة متميزة في الشعر المعاصر ، والذي امتاز شعره بروعة الفكرة وعمقها ، وبجمال الأسلوب وعذوبته ، وكان شعر القاياتي كأنه وشى منمنم ، وكان يميزه صفاء الطبع وجمال الموهبة وجلالها بطابع خاص.

والقاياتي من أسرة عربية تنتمي إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، ومنها شمس الدين القاياتي قاضي مصر المتوفي عام ٨٠٠ ه‍ ، وفي الخطط التوفيقية لعلي مبارك نخبة من القاياتيين ، وفي أحداث الثورة العرابية يذكر والد السيد حسن القاياتي وعمه ، وقد نفيا إلى الشام ، وكان السيد مصطفى القاياتي من زعماء ثورة ١٩١٩.


وبيت القاياتي يستوطن إقليم المنيا ، وهو من بيوت الدين والتصوف في مصر.

ولد السيد حسن القاياتي عام ١٣٠٠ ه‍ والتحق بالأزهر ، ونبغ في لأدب والكتابة ، وأحب الشعر ونظمه ، حتى صار قرين المنفلوطي والكاشف ، والهراوي والرافعي.

طبع الجزء الأول من ديوانه عام ١٩١٠ م ، وهو في نحو العشرين من عمره ، ومع كثرة شعره فلم يطبع له غير هذا الديوان حتى اليوم.

واشترك في الأحداث الوطنية ، وكتب في الصحف والمجلات المقالات الرنانة ، ونشرت له القصائد الرفيعة ، وانضم إلى كتاب الوفد في الثورات الوطنية ، ثم صار عضوا في مجلس النواب المصري ، ثم عضوا في المجمع اللغوي في القاهرة من عام ١٩٤٣ ، وظل يعاني في آخر حياته آلام المرض حتى توفاه الله إلى رحمته في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من اكتوبر عام ١٩٥٧.

ولقد مضى السيد حسن القاياتي في شعره بجزالة الأسلوب الشعري وفخامته ، وشرف المعنى ودقته.

ومن شعر يتناول القاياتي فيه بيت عبد الرازق ، فيقول :

يا مصطفى أمل الحجا

في أمة خطبت حجاها

فطر الملائك ربها

في مثل خيمك ، واحتذاها

الشمس بيتك ، والعلا

تنهل عارفة وجاها

عرفوا أباك فسدتهم

والشمس ما عرفوا أباها

إن تعل أسرة نابه

فتعرفوا : من والداها؟

للدين بيت ثقافة

للجامعات وما بناها

في هدى طه يعتلى

ناديك ، أم في علم طه؟!

ويعرض القاياتي للازهر فيقول في القصيدة نفسها


يا سيدا عصفت به

شيم الجلالة وابتناها

فتكت بنفسك عزة

كالنار يتلفها لظاها

كرم أحل بربه

تلف الأزاهر في نداها

ضحك الغواة لنبله

فبكى الفضيلة وافتداها

أنف الهوان بساحة

البدر يشرق في ذراها

ومن شعره في الغزل :

إن في الغادين مني طفلة

قام بدع الحسن منها وقعد

صورت من جوهر الشمس فما

هي إلا ريق النور جمد

أوقد الحسن على وجنتها

جمر قلبي ، فتلظى واتقد

يعكف الطرف عليها مغضيا

قد رأى قبلة حسن فسجد!

لا يراني الله إلا ذاكرا

ليلة التوديع ، والبين يعد

أقبلت والليل يرنو نجمه

نظرة الزنجي حقدا أو كمد

لا أذم البين ظلما ، وفم

من فم دان ، وخد فوق خد

تمسح الدمع غزيرا بيد

ثم تدنيني إلى الصدر بيد

أرشفتني ريقة قد بردت

من ثناياها بحبات البرد

ومن وطنياته قوله في حرب طرابلس «من مقصورة» :

أكيدا لنا يا باعثات العدا؟

دعوا البيض مركوزة والقنا

نصحا لكم. لا تهبجوا الأسود

وقد يرسل النصح لا عن هوى

جنيتم وغى ، فاجتنوا صابها

فإن لكل امرىء ما جنى

أبينا سوى خطتي عزة

فإما المعالي ، وإما الردى

نجود بأرواحنا لاثنتين

غداة الوغي وغداة الندى

زعمتم طرابلس ملكا لكم

ألا ما أحب حديث المنى!

ترون السماء ، فهل تدنى

لأيديكمو؟ هي تلك السما!

أجدتم طعان المواسي الرقاق

فأما طعان العوالي فلا


وقد تحسنون لقاء الظباء

ولا تحسنون لقاء الظبا

رويدا عديد الدبي ، تمطروا

من النبل مشل عديد الدبي

كأن تدارك وقع النبال

عليكم تدارك وقع الحيا

ومنها :

ألا يضحك الناس من زائغ

يرى المهتدين سبيل الهدى؟

ومن مستطيل كفور الفؤاد

يحاول مسعاة أهل التقي؟

أللعدل جئتم؟ معاذ الأباء

متى عرف العدل فيكم ، متى؟

أجودا على العرب الطاعمين

وفي داركم كل بادي الطوى؟

وبرا بقاصية العالمين

والبر أولى به من دنا؟

وما أصدق ما قال السيد ، في أمم الغرب بعامة ، لا في الطليان بخاصة!

والسيد حسن ـ إلى أنه شاعر فحل ـ كاتب بليغ ، يتوخى طريقة مزاجا من مذهبي الجاحظ وابن العميد في الكتابة : جزالة فخمة ، مع الترسل حينا ، ومع السجع المطبوع حينا ، وببطىء بقلمه عن المرانة والسرعة التي تستدعيها طبيعة العصر ، إباؤه على التبذل ، وسموه عن الاتجار في أسواق الحياة. ولو لا ذلك في العشرة الأوائل من كتاب الشرق العربي.

ويقول فيه الشيخ عبد العزيز البشري : لو تهيأ للبيان أن يتمثل خلقا ، لما جمع بيان السيد حسن القاياتي ، إلا على صورة صاحبه ، وفي مثل شكله ودله ، سواء بسواء ولو لم يكن قدر لي أن أرى السيد حسنا ، ثم رأيته ، بعد أن نهلت من بيانه ، لخيل إلى أني أتهدى وحدي إلى أن هذا الإنسان ، صاحب هذا البيان! عرفت السيد من صدر أيام الطلب في الأزهر ، وسرعان ما امتد بيننا حبل المودة فكان من يوم منجمه ـ وصل الله في عمره ـ برسل الكلام ، ويقرض الشعر ، إذ شعره وإذ نثره صورة صادقة حق الصدق ، لسهولة نفسه ، وجزالة طبعه ، وحلاوة خلقه ، بل إنك لتحس


في بيانه بالحياء الذي تحسه فيه نفسه.

بعد هذا ضع بيان السيد حسن القاياتي ، حيث يحلو لتقديرك. ضعه في الدرجة الأولى أو ما فوقها ، أو تخلف به عنها ، فلكل من الناس مذهبه في تقدير أصحاب الفنون ، ولكنك على أية حال تراك مرغما على أن تقضي بأن بيان السيد حسن إنما هو صورة تامة الصدق لما يعتلج في نفسه ، وما يتدسى في أطواء قلبه ، وهذا الضرب من أهل البيان قليل!! وهذه المزية ولك أن تدعوها الموهبة ، إنما تنشأ في أصلها بالفطرة ، وتنجم مع الطبع ، ما يجدي في خلقها تفكير ولا تهذيب ، على أنها تربو وتستحصد بد ذلك بطول التدريب والتمرين ، حتى ما يجد صاحبها فكاكا من صدق التعبير عما يحيك في نفسه من نزعات الإحساس ، وكذلك السيد حسن القاياتي ، ولعل مما أبلغ السيد حسنا هذه المنزلة ، بعد توافر الأمرين له ، أنه نشأ في بيت حسب ، فهو يأنف من أن يرائي الناس ، ويبادلهم بما يراه حقا ، وأن الله تعالى بسط له في الرزق فهو غني عن ترضي الناس بالحق وبالباطل!!! طلبا للمنزلة فيهم ، والتماسا للمعروف عندهم. هذا إلى أنه رجل رقيق الحس ، مهذب العاطفة ، جميل منزع النفس ، ومن كان له كل هذا ، فهو أجل محلا من أن يكذب على عواطفه ، ويفتري على ما يجول في صدره من نوازع الوجدان. يدلك على هذا من بيان السيد ، إن كنت محتاجا فيه إلى بيان ، أنك تراه يتغزل ، وأكثر شعره في الغزل ، فيطلع عليك بأرق الكلام ، وأعذبه ، حتى ليخيل إليك أنه لا يقول شعرا ، ولكنه ينفث سحرا!!! ومع هذا لا ترى في نسيبه عنفا ولا عربدة ، على نحو ما يصنع متكلفو الغزل من الشعراء!!! ، ذلك بأنه ترجم عن حسه فحسب ، فلم يتكلف ، ولم يتعمل لاصطياد المعاني النائية ، ولم يتعمد المبالغات النابية ، ليزين بها نظم القريض ، وإذا كنت ممن يعرفون السيد القاياتي وما أوتي من وداعة الطبع ، وارتياح النفس ، آمنت من فورك بصحة هذا الكلام. ومن مميزات شعره :


التأنق في اختيار اللفظ مع صفائه وعذوبته. وابتداع صور من المعاني لم يسبق إلى أكثرها. وجمال التشبيهات المنتزعة من المدركات الحسية. واستقلال كل بيت من قصيدة بفكرة مستقلة. وتخير الأوزان والقوافي التي لم يطرقها كثير من الشعراء.

ومن غزل القاياتي في صدر قصيدة وطنية ، وهو في شرعة الأدب بدع من البدع لا شعر من الشعر ، قوله :

هتفت باكية يوم الظعن

ليت هذا البين لم يملك حسن

غضبة الله على يوم النوى

إنه دل على القلب الشجن

آه من وقفة بين لم تذر

دمعة في مقلة الظبي الأغن

مقلة ملأى بسحر لم تبت

ليلة في الدهر ملأى من وسن

وفؤاد أسكنته لوعة

ود من طول خفوق لو سكن

أقبلت مطلقة من قرطها

زهرة أولى بها ذاك الفنن

تخلط الدل بمضنى حزن

حر قلبي ، من دلال في حزن (١)

الشيخ محمد الأسمر

الأسمر معروف في شتى الأوساط الدينية ، فهو عالم من علماء الأزهر ، وموظف فيه ، كما هو معروف في الأوساط الأدبية ، حيث يحبه الناس ويعرفونه بزيه الأزهري الأنيق ، وبظرفه المشهور ، وبأدبه وشعره الذائعين.

وقد ولد بمدينة دمياط في ٦ نوفمبر سنة ١٩٠٠ ميلادية.

وفي الثامنة من عمره تقريبا دخل تلميذا بإحدى المدارس الأهلية بمدينة دمياط وكان من العلوم التي يتلقاها في المدرسة حفظ القرآن وقد

__________________

(١) من كلمة للأديب السيد العناني عن الشاعر في مجلة الأزهر.


حفظ نصفه بها. وبعض المحفوظات الأدبية شعرا ونثرا ، والنحو ، والإملاء والحساب.

وتخرج في هذه المدرسة سنة ١٩١٤ وزاول التدريس بها شهورا.

لم يسترح إلى التدريس ، وكان في قطرته حب الشعر والميل إليه ، ومما ساعد على إظهار ذلك الميل للمحفوظات الأدبية التي كان يدرسها بالمدرسة الأهلية ، وما كان يسمعه من قصة أبو زيد الهلالي على الربابة بمقاهي دمياط ، حيث كان يستمع إليها وهو في طفولته مع بعض الأطفال الواقفين بجوار المقهى وهو لا يجرؤ على دخوله ولا تسمح له تربيته المنزلية والمدرسية بذلك الدخول ، فلما شب قليلا استغنى عن ذلك الوقوف بشراء قصة أبي زيد وغيرها من القصص المعروفة في ذلك الحين مثل قصة سيف بن ذي يزن ، وغيرها وكان يقرأ هذه الأشعار وهذه القصص في نهم شديد ونشوة تأخذ عليه كل مشاعره.

ثم أحس برغبته إلى الاستذادة من التعلم وحدث أن قابل بعض طلبة معهد دمياط الديني وأطلع على ما بأيديهم من الكتب فرأى علوما جديدة بالنسبة له فشاقه ذلك إلى دراستها فالتحق بالمعهد طالبا في سنة ١٩١٥.

وفي سنة ١٩٢٠ غادر معهد دمياط ليلتحق بمدرسة القضاء الشرعي وقد نجح في امتحان المسابقة لدخول هذه المدرسة وظل بها ثلاث سنوات ثم ألغت الحكومة المصرية لأسباب سياسية هذه المدرسة وكانت من خير المعاهد العلمية فالتحق طالبا بالأزهر بعد ذلك.

وزاول في أثناء التحاقه طالبا بالأزهر التصحيح بجريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين بمصر يعمل بها مساء حتى الساعة الثانية بعد نصف الليل وفي الصباح يحضر دروسه طالبا بالأزهر ، واستمر على ذلك ثلاث سنوات ... كان فيها يجمع بين العمل ليلا ونهارا ، في الليل مصحح بجريدة السياسة ، وفي النهار طالبا بالأزهر وفي ذلك الحين


كانت تنشر له جريدة «السياسة الأسبوعية» قصائده الشعرية ومقالاته الأدبية ، وكان يحبه ويعجب به المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق في ذلك الحين مفتشا بالمحاكم الشرعية.

تخرج من الأزهر ونال العالمية النظامية سنة ١٩٣٠.

ثم عين بعد ذلك أمين المحفوظات بإدارة المعاهد الدينية ، ثم معاونا لمكتبة الأزهر ، ثم أمينا لمكتبة المعهد الديني بالأسكندرية مع بقائه بالقاهرة منتدبا للعمل بمكتبة الأزهر ، ثم أمينا لمكتبة الأزهر.

حينما غادر دمياط إلى القاهرة سنة ١٩٢٠ ، وجد أمامه آفاقا جديدة فاتصل بأدبائها وشعرائها كما اتصل بالكثيرين من رجال السياسة بها وعكف على قراءة الكثير من الكتب الأدبية ودواوين الشعراء قديمهم وحديثهم ، واستطاع بمثابرته أن يكون وهو طالب من شعراء مصر النابهين.

دخل مسابقات شعرية كثيرة نال فيها الجائزة الأولى ومن هذه المسابقات المسابقة التي أقامتها إذاعة لندن بين شعراء البلاد العربية أثناء الحرب العالمية الثانية فقد فازت قصيدته «الديمقراطية» بالجائزة الأولى بين شعراء العالم العربي ، وقالت عنها جريدة الأهرام إن هذا الفوز الأدبي فوز لمصر ، وهذه القصيدة في ديوان الأسمر ص ٤٤١ في باب اجتماعيات.

كان بينه وبين انطون الجميل رئيس تحرير جريدة الأهرام صداقة ومودة وكان أنطون الجميل يعجب بشعره كثيرا ، وكان لهذا الإعجاب ولجريدة الأهرام الأثر المحمود في نفس الشاعر ، كما كان للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق ولجريدة السياسة الأسبوعية أثرها المحمود في أدبه قبل ذلك حينما كان الشاعر طالبا بالأزهر.

ندب مرتين ـ وهو موظف بالأزهر للعمل بوزارة الداخلية في قسم


مراجعة الكتب لإبداء رأيه فيها من الناحية الدينية والاجتماعية ، كما كان يؤخذ رأيه في بعض الأفلام السينمائية الأجنبية قبل عرضها.

واختير عضوا في لجنة النصوص بالإذاعة المصرية ، وعمل هذه اللجنة بحث الأغاني من الناحية الأدبية والاجتماعية لإقرار أو اختيار الصالح للإذاعة أو تعديله أو استبعاده.

كما اختير عضوا في كثير من لجان المسابقات الشعرية.

وأنشأ في جريدة الزمان المصرية بابا أسماء ركن الأدب كان يشرف على تحريره ، وكانت الرسالة الأولى لهذا الركن الأخذ بيد الناشئين من الأدباء وتمهيد الطريق أمامهم وأمام الشعراء المغمورين للظهور ، وقد لاحت لهذا الركن ثمرات طيبة في وقت قصير ، وكان له أثره المحمود. وتوفي في ٦ نوفمبر عام ١٩٥٦.

والأسمر لا يتعصب لأي لون من ألوان الشعر بل يرى أنه من الحق الطبيعي لكل شاعر أن يغرد بما يتفق مع ميوله وفطرته. ولكنه يرى أن الشعر لا بد له من أمرين : أولهما وضوح المعنى وثانيهما البراعة الفنية في صياغة التعبير ... وهو يعد هذين الأمرين جناحي الشاعر الذين يحلق بهما في سماء الشعر ، مثله في ذلك مثل الطائر لا يستطيع التحليق بغير جناحين ، لا بجناح واحد.

ومن شعره الذي طبع : ديوان «تغريدات الصباح» طبعته ونشرته على نفقتها دار المعارف وقد نفدت كل نسخه ، وكتب مقدمة هذا الديوان المغفور له أنطوان الجميل ... وأخرج بعد ذلك مجموعته الكبرى المعروفة باسم ديوان الأسمر وهو يقع في سبعمائة صفحة تقريبا وقد تناولته بالبحث جميع الصحف والمجلات في العالم العربي ، جمع الشاعر في هذا الديوان


كل شعره تقريبا حتى سنة ١٩٥٠ ميلادية : والذي وضع مقدمة هذا الديوان صديقه الشاعر القائمقام عبد الحميد فهمي مرسي.

ولدى الشاعر مجموعة من الشعر معدة للطبع عنوانها بين الأعاصير وهي مجموعة ما نظمه بعد سنة ١٩٥٠.

وأما نثر الشاعر فالمعد للطبع لديه كتاب «صور ومشاهدات» وهو مجموعة مقالات اجتماعية ... وكتاب تعليقات أدبية.

ومن شعر الأسمر قصيدته «الإنسان» أو «ورحلة شهوة».

من شهوة ، من دافق بعدها

من دودة ، من ذلك الدافق

أودعها الخالق في ظلمة

لم يدر ما فيها سوى الخالق

تحيا وتنمو في دياجيرها

في كنف المبدع والرازق

حتى إذا ما تم تكوينها

وأقبلت من بيتها الضائق

وانحدرت من غيبها قطرة

تهوى لبحر العيش من حالق

تعجب الكون لها دودة

تجيئه في منظر رائق

أصبحت الدودة طفلا له

ما لزهور الروضة الناضره

تراه في المهد له نظرة

باسمة ، مشرقة ، باهره

يدير في غرفته عينه

يسأل عما حوله ناظره

محدق فيما يراه بها

يجيل فيها المقلة الحائره

كأنه في مهده فاحص

فكم له من نظرة سابره

ينظر في عيني مستغربا

يا لجمال النظرة الساحره

بغامة أجمل في مسمعي

من بلبل غرد فوق الشجر

في صوته العذب وأنغامه

ما لا أراه في رنين الوتر

يبسم للدنيا ويشدو لها

لم يدر من أحوالها ما استتر

محرك أطرافه راجيا

إن لم أبادر محله لو طفر

أشرب راحا من سروري به

لم يحسها في حانة من سكر


فإن بكى كاد فؤادي له

يقفز من جنبيه أو ينفطر

ثم حبا ، ثم مشى عابثا

بكل ما في البيت لا يفتر

يردد الأقوال كالببغا

وفعله تقليد ما ينظر

تضحكنا منه محاكاته

لكل ما يسمع أو يبصر

وهو على ما فيه من رقة

عناده الصخرة لا تكسر

فطبعه غير مطاع فما

أحلاه إذ ينهى وإذ يأمر

أصغر من في البيت لكنه

كأنه عائله الأكبر

ثم إذا بالطفل وهو الفتى

مسترسل الوفرة غض الأهاب

يرنو إلى آماله باسما

يمرح في جيئته والذهاب

مكتمل الصحة ، بادي القوى

مؤتلق كالسيف ، أو كالشهاب

في خفة الظبي ولكنه

كأنه من عزمه أسد غاب

يجري كما شاء ، وشاء الهوى

له ، وينقض انقضاض العقاب

يضحك للدنيا ابتهاجا بها

وإنما يضحك فيه الشباب

وربما أغرق في كأسه

وأذبل الزاهر من عمره

يعاقر الخمر وفيها له

أنياب ظمآن إلى عقره

يشربها جمرا مذابا ولا

يحسس لذع الجمر من سكره

نشوتهما أقدر من ساحر

يودع ما يودع من سحره

فهو عليها عاكف غافل

عن شر ما يحسوه من خمره

شاربة شاربها!! لو درى

ما أقرب الكأس الى ثغره

وربما ألفيته في الدجى

مقامرا أعصابه تحرق

بينا تراه آملا باسما

تراه وهو اليائس المحنق

فرحان حزنان معا ، إن طفا

فإنه في لحظة يغرق

في حيرة ، مضطرب ، خائف

فليس يدري ما هو الأوفق؟!

كأنه يغشى عليه لما

يلقى من التفكير أو يخنق

ومن يقامر فهو في غنمه

أو غرمه يسرق أو يسرق


وربما ألفيته في الهوى

العوبة تلعب أنثى به

كأنه في عشه كوكب

يدور حول الشمس من جذبه

يسير في آفاقه قابعا

لسيرها يسبح في صبه

هام بها فهو لها خاضع

في شرقه إن لاح أو غربه

يحيا على هامشها مثلما

يحيا سواء ، وهي في قلبه؟؟

فهي له دنياه : إن أعرضت

ضاق به الكون على رحبه

إن وأصلته فهو في وصلها

يضمها أفعى إلى صدره

أو باعدته فهو في بعدها

يلقى الذي يلقاه من جمره

الحب ، ما الحب؟ وما سره؟

أعياني المكنون من سره

فأي شيء هو في خيره؟

وأي شيء هو في سره؟

كل غرام فهو ليل له

بدر فلا تأمن إلى بدره

كم خدعت أنواره عاشقا

حتى رأى الصادق من فجره ..

وربما لام الفتى معشر

يقال عنهم إنهم أتقياء

أطرق في مجلسهم صامتا

وصاح فيهم منه طين وماء

قال لهم إني أنا داؤه

فهل لديكم للمريض الدواء؟

ألم يكن في أصله دودة

فكيف لا يغمره الاشتهاء

في الأكل والشرب ، وفي لبسه

وجاه دنياه ، ودنيا النساء؟

ومرت الأعوام في سيرها

مسرعة ، في صمتها والسبات

على جوادين لها : أبيض

وأسود ، لا يعرفان الثبات (١)

كرهما أصبح منه الفتى

يذوي كما يذوى نضير النبات

وراحت العلات تنتابه

حتى إذا صاح غراب الشتات

أدركه ما ليس يخشى الفوات

ورفرف الموت عليه فمات

وانتهت الرحلة بعد الذي

كان بها من متعة أو عذاب

قد فعل الموت به مثلما

تفعله شمس الضحى بالضباب

__________________

(١) المراد بالجوادين هنا النهار والليل.


فأين طفل الأمس؟ أين الفتى؟

وأين من كان شبابا فشاب؟

أصبح في جوف الثرى جثة

حتى إذا طال عليها الغياب

عادت إلى الأصل ثرى في الثرى

وحلت الفطرة بين العباب

وقرت الشهوة في قبرها

وهي تراب أصله من تراب

هيئات التدريس في كليات الجامعة الأزهرية

في ٢٤ مارس سنة ١٩٥١ اعتمد مجلس الأزهر الأعلى تكوين هيئات التدريس في كليات الأزهر ، وقد راعى الأزهر في تكوينها الأسس الآتية :

أولا : أن يرتب الأساتذة والأساتذة المساعدون حسب الأقدمية مع مراعاة الصلاحية والكفاية على أن يختار الأساتذة من بين مدرسي الدرجة الأولى والثانية والثالثة حسبما تقضي المصلحة.

ثانيا : التوسع في عدد الأساتذة المساعدين بحيث لا يتجاوز في اختيارهم مدرسي الدرجة الرابعة على أن يقسم الأساتذة المساعدون إلى : (أ) ، (ب) بنسبة ٣ : ٤ حسب ترتيبهم في الأقدمية.

ثالثا : يحتفظ للمندوبين خارج البلاد من الأساتذة ذوي الكراسي بكراسيهم ، ويشغل مجلس الكلية هذه الكراسي بمندوبين حتى يعود أصحابها.

رابعا : تكون هيئة التدريس على الوضع الآتي.

١ ـ أستاذ حرف (أ) ، أستاذ حرف (ب) ، أستاذ حرف (ج).

٢ ـ أستاذ مساعد حرف (أ) ، أستاذ مساعد حرف (ب).

٣ ـ مدرس (أ) مدرس (ب).

وعلى هذا الأساس نظمت هيئات التدريس في كل كلية.


وعلى هذا أقر المجلس الأعلى أن تتألف هيئات التدريس في كل كلية على حدة على النحو الآتي :

في كلية أصول الدين

الأساتذة حرف (أ) محمد حبيب والدكتور محمد ماضي.

والأساتذة حرف (ب) عبد العزيز حطاب ومحمد الشافعي الظواهري والدكتور محمود حب الله (١) والدكتور عبد الحليم محمود وعبد القادر خليف.

وعين الأستاذ حسن أبو عرب والأستاذ أحمد حسيب الريس أستاذين حرف (ج)

وتتألف هيئة الأساتذة المساعدين حرف (أ) في كلية أصول الدين من الأساتذة : إبراهيم جمال الدين ومحمود الخضيري ومحمود شاكر عبد الله والشيخ محمد عبد الرحيم سلام وأحمد عيسى الجرجاوي وبركات أحمد بركات والطيب النجار ومحمود سليمان سعد وأحمد علي وإبراهيم البرمبالي وعبده محمد عيسى وحسن شحاته والسيد القناوي والإمام مصطفى وبسيوني نجم الشرقبالي وصالح شرف ومحمد الديناري وإبراهيم المحيص.

وتتألف هيئة الأساتذة المساعدين حرف (ب) في هذه الكلية من الأساتذة. حسن المشد ومحمد الأودن والسنوسي أحمد وعبد الفتاح السرنجاوي والدكتور محمد يوسف موسى (٢) ومحمد أحمدين وعبد الحميد شقير وإبراهيم زيدان وعبد الحميد الشاذلي وأبو بكر ذكرى ومحمد يوسف الشيخ والدكتور محمد غلاب ويوسف عبد الرازق وعبد الرازق سليمان وعبد الرحمن شاهين وأحمد صقر وحامد زين الدين وعبد السلام الزنفلي ومحمود

__________________

(١) توفي في ١٢ / ٧ / ١٩٧٤.

(٢) توفي في ١٨ ربيع الأول ١٣٨٣ ه‍ ـ ٨ أغسطس ١٩٦٣.


العيسوي ومنصور رجب ومحمد سليمان بدير وأبو زيد شلبي ومحمد فتح بدران وطه الدسوقي العربي ومحمد أبو العيون.

وتتألف هيئة المدرسين حرف (أ) في هذه الكلية من الأساتذة :

عبد الحميد إبراهيم ومصطفى يوسف موسى وصالح بكير خورشيد ومحمد المتولي سعد وعلي حموده وعبد الوهاب غزلان وبدوي عبد اللطيف وعبد الحميد بخيت وعبد الفتاح شحاته وعلي مصطفى الغرابي ومحمد علي أبو الروس وسليمان دنيا ومحمد السماحي ومحمد بيصار وحمودة غرابة ومحمد أبو شهبة ، وعين المشايخ : علي حبر ومحمود فياض وسليمان خميس مدرسين حرف (ب).

في كلية اللغة العربية

وتتألف هيئة التدريس في كلية اللغة العربية من حضرات الأساتذة :

أستاذ حرف (أ) محمد محي الدين عبد المجيد وعبد الحميد ناصف والدكتور محمد البهي.

أستاذ حرف (ب) أحمد شرف والدكتور محمد الفحام.

أستاذ حرف (ج) محمد علي النجار (١) ومحمد كامل حسن النفاض.

أستاذ مساعد حرف (أ) عبد المتعال الصعيدي وإبراهيم سليم وحامد مصطفى ويوسف شبانه وعبد المعطي الفضالي وعبد السلام يوسف وأحمد عمارة ومحمد طنطاوي كبيش وأحمد الجبالي الجنجيهي وعبد الهادي العدل وأحمد شفيع ومحمود رزق سليم ومحمد صلاح الدين أبو علي.

أستاذ مساعد حرف (ب) : عمر مرغني وعبد الحميد عوض وحامد

__________________

(١) توفي في ٤ / ١٢ / ١٩٦٥.


عوني وعبد الله الشربيني (١) ومحمد المبارك عبد الله ومحمد سليمان البحري وأحمد ابو غنيم وعبد الغنى إسماعيل ومحمد داود البيهي وعبد السميع شبانه (٢) ومحمد عبد الجواد خضير ومحمود مكاوي وجابر إسماعيل ويوسف حسن عمر وإبراهيم أبو عطية وأحمد إبراهيم موسى.

مدرسون حرف (أ) : أحمد رياض وعلي عبد الجليل وعبد الخالق سليمان وعبد العزيز أحمد وفهمي العناني وبدير عبد اللطيف وأحمد الحجار وحامد البلتاجي ومحمد مصطفى شحاته ومحمود جميلة ويوسف الضبع وأحمد كحيل ويوسف البيومي البسيوني وعبد الحميد المسلوت وعبد اللطيف سرحان وحنفي عبد المتجلي وحنفي حسنين ومحمد أبو النجا سرحان وزكي غيث ومحمد أحمد عبد الرحيم وأحمد إبراهيم شعراوي وأحمد السيد غالي وعبد الحسيب طه حميده ومحمد نايل أحمد ومحمد عبد الخالق عضيمة ومحمد كامل الفلاح وأحمد عبد العال أبو طالب وعلي إبراهيم البطشة ومحمد قناوي عبد الله وعبد المقصود السعداوي وإبراهيم علي شعوط وسليمان ربيع ومحمد رفعت فتح الله وإبراهيم محمد نجا وحسن محمد الشافعي الظواهري ومحمد يوسف وأمين عبد الله فكري ويحيى محمد عبد العاطي ومحمد جمعة حسنين وصادق خطاب ومحمد السيد نعيم ومحمد كامل الفقي وعبد الحميد عبده عطوه وعبد العاطي محمد مصطفى ورياض هلال ومحمود محمد زيادة وحسن جاد حسن ومحمد عبد المنعم خفاجي ، وجاد محمد رمضان وعبد العظيم الشناوي وعبد السلام أبو النجا سرحان ومحمد مصطفى النجار وأحمد مجاهد مصباح وعوض الله جاد حجازي ومحمود فرج العقدة (٣).

__________________

(١) توفي في ١٠ / ٥ / ١٣٨٠ ه‍ ـ ٣١ / ١٠ / ١٩٦٠ م.

(٢) توفي في ٢١ / ٥ / ١٩٦٨ م.

(٣) توفي إلى رحمة الله يوم السبت ١٧ من ربيع الثاني ١٣٨٨ ه‍ ١٣ من يوليو ١٩٦٨ م.


في كلية الشريعة (١)

وتتألف هيئة التدريس في كلية الشريعة من حضرات الأساتذة :

أستاذ حرف (أ) : محمد الجهني وحامد جاد وعبد الحفيظ الدفتار.

وأستاذ حرف (ب) : الدكتور علي عبد القادر ومحمد الشايب وطه سلطان وعبد الله عامر.

وأستاذ حرف (ج) : محمد عبد السلام القياني وعثمان صبره ومحمد عبد اللطيف السبكي.

أستاذ مساعد حرف (أ) : محمد عبد المجيد الشرنوبي وحسن علي مرزوق ومحمد عبد الله الجزار وعبد الوهاب فره ومحمد سامون وعبد ربه زيادة ومحمد سيد أحمد جاد ومحمد هاشم الشيخ وحسين علي إدريس ومحمد البسيوني زغلول وعبد المجيد دراز وموسى اللباد وشبل يحيى ومحمود عبد الغفار ومحمود عبد الدايم وطه ناصر وسليمان داود وأحمد نور الدين ومحمد حبشي السعداوي ومحمود شهاب وإسماعيل الدوي وسيد شاهين ومحمد يوسف البريري وعبد العزيز نور الدين وإبراهيم سعده.

أستاذ مساعد حرف (ب) : محمد بدران وقطب سلامة وعلي عبد المجيد وعلي الجنزوري ومحمد جيرة الله ومحمد علي السايس وحسن المرصفي ومحمد الكشكي وسليمان عبد الفتاح ومحمد عيسى الشنتلي وعبد الحفيظ فرغلي وعبد الله المشد ويوسف المنياوي وسيد شرف وعبد الحميد حمدي ومحمد إسحاق الحداد ومحمد إبراهيم المحمودي ومحسن أبو دقيقة وأحمد المسلمي وطه الديناري ومحمد حسن شبانه ومحمد سليمان حرب وعبد الرحيم فرغلي وعبد العظيم الرولي وعبد العظيم بركه ومصطفى عبد الخالق ويوسف علي يوسف ومحمود خليفة وعبد الحكيم علي مصطفى

__________________

(١) كان من عمدائها الشيخ محمد محمد المدني وقد توفي في ٣ / ٥ / ١٩٦٨ م.


ومحمد أبو النور زهير ومحمد السيد طه.

مدرس حرف (أ) : محمد محي الدين رزق وأبو العنين شحاته ومصطفى ماجد وعبد العزيز عيسى وبدر المتولى عبد الباسط وجاد الرب رمضان وإبراهيم أبو الخشب وطاهر عبد المجيد عبد الله وشمس الدين عبد الحافظ ومحمد عبد الوهاب بحيري وأحمد أبو سنه وسيد جهلان وعبد الحكم عمارة وعبد الغنى عكاشة وعيسوى أحمد عيسوى وأحمد ندا وعبد الغنى عبد الخالق وإبراهيم الدسوقي الشهاوي ومحمد عبد النبي عبد السلام وطنطاوي مصطفى وحسن مصطفى وهدان وعبد السميع إسماعيل ويوسف شلبي وعبد الوهاب عبد اللطيف وعثمان مريزق ومحمد عبد اللطيف الشافعي وعبد العظيم فياض وعبد العال عطوه وزكي الدين شعبان ومحمد مصطفى شلبي وأحمد محمود الصاوي وإبراهيم عبد المجيد.

مدرس حرف (ب) : محمد حسن فايد ومحمد أنيس عباده وعبد القوى عامر الزغبي وأحمد البهي وسيد خليل الجراحي وأحمد محمد سيد الحصري ومحمد محمد فرج سليم ... وقد وافق المجلس بعد ذلك على ما اقترحته اللجنة من نقل جميع المندوبين من المعاهد في الكليات إلى الكليات بصفة نهائية وقبولهم ضمن هيئة التدريس بالكليات وكذلك وافق على تنظيم هيئة تدريس بالكليات ، على أن يختار الأساتذة من بين مدرسي الدرجات الأولى والثانية والثالثة ، ثم قرر الوسع في عدد الأساتذة المساعدين بحيث لا يتجاوز في اختيارهم مدرسي الدرجة الرابعة كما قرر أن يكون اختيار المدرسين من الدرجتين الخامسة والسادسة.

أما المدرسون الذين ليست لموادهم كراسي فقد وافق المجلس على أن يوضع لهم كادر مستقل عن الكادر الجامعي يطلق عليه اسم كادر المدرسين النظراء ، وأن يكون حكمه في الترقية على أساس الأقدمية المشتركة بينهم.


ومنذ تكوين هيئات التدريس حتى اليوم وأساتذة الكليات يطالبون بأن يكون لهم كادر جامعي على غرار كادر الجامعات ، وللأسف لم يستجب لطلبهم العادل حتى اليوم.

ومع ذلك فلم يحقق رجاؤهم في فتح أقسام الدراسات العليا المغلقة منذ ١٩٤٠ حتى اليوم ، وكان من المأمول افتتاحها لتظل صبغة الأزهر الجامعية موفورة له ، ولكن سياسة الأزهر لا تزال هي سياسة الرجعية الثقافية والعلمية ، وتعطيل شباب الأزهر من أداء رسالتهم.

أهداف الأزهر الجامعي

إن هدف الأزهر الجامعي يجب أن يكون هو حمل نصيبه من المسئولية في ترقية العلوم الإسلامية والعربية ، والمساهمة في نهضة البلاد العامة ، والعناية بالبحث العلمي ومتابعة تطوره على أتم وجه ، وتنمية الاستقلال الفكري ، وأداء رسالته الدينية أداء كاملا.

ويتصل بهذا أن يعمل الطالب الأزهري بنفسه لنفسه ، وألا يكون اعتماده على الأستاذ إلا للتوجيه أو لتوضيح ما استعصى عليه من المسائل.

وأن يبذل الأزهر مزيدا من العناية لتهيئة البيئة الجامعية الصالحة للطلاب ، وتوفير أسباب النشاط الديني والروحي والثقافي والاجتماعي والرياضي لهم ، وتكوين اتحاد عام ينظم شئونهم الاجتماعية والثقافية.

ويجب أن يكون في كل كلية مجلس للأساتذة والأساتذة المساعدين والمدرسين بإشراف عميد كل كلية ، ويكون من اختصاص هذا المجلس ما يلي :

الاختصاصات الإدارية :

(أ) ترشيح المعيدين والأساتذة المساعدين والأساتذة غير ذوي الكراسي.


(ب) إعلان خلو مناصب المدرسين والأساتذة ذوي الكراسي.

الاختصاصات الدراسية :

(أ) وضع مناهج التدريس وتوزيعها على سني الدراسة.

(ب) ترتيب الأعمال الدراسية التي يقوم بها أعضاء هيئة التدريس في كل عام.

(ج) الإشراف على التدريس عن طريق الأساتذة وعن طريق تقديم كل عضو تقريرا سنويا عن سير الدراسة في مادته ، وما عنده من مقترحات في هذا الشأن.

(د) القيام بأعمال الامتحانات ومتابعة أحوال الطلاب في دراساتهم.

الاختصاصات العلمية :

(أ) تهيئة المحيط العلمي والمكتبات واستقدام أساتذة زائرين للمحاضرة توجيها للبحث العلمي.

(ب) اقتراح البعثات والإجازات المدرسية لاعضاء هيئة التدريس ، والإجازات الدراسية تكون إما داخلية يتخفف بها العضو من التدريس ، أو ينقطع عنه لبحث علمي بعده. وإما خارجية يسافر إلى بلد أجنبي ، لإعداد بحث علمي بعينه ويرسم خطته قبل السفر. وتخصص جوائز لمن يقوم ببحوث علمية ممتازة. ويجوز تفرغ بعض قدماء الأساتذة للبحث العلمي والاقتصار على التدريس في أقسام الدراسات العليا ، لتكوين الطلبة في هذه الأقسام ، بشرط أن يكون الأستاذ قد سبق له إنتاج علمي ممتاز متكرر ، وأن يكون قد بلغ من العمر الستين. وأن توافق اللجنة العلمية الدائمة على تفرغه.

(ج) القيام على نشر البحوث العلمية.

ومن الضروري كذلك فتح أقسام الدراسات العليا في الأزهر وتكون


الدراسة فيها على مرحلتين : مرحلة التحضير للشهادة العالمية ، ومرحلة التحضير لشهادة الأستاذية (الدكتوراه) وأن يختار الناجحون من المرحلة الأولى معيدين في الكليات.


الباب الحادي عشر

من تاريخ الأزهر

الأزهر جامعا وجامعة

ـ ١ ـ

أعرق الجامعات العلمية في العالم ، فهي أطولها عمرا ، وأجلها أثرا في تاريخ الفكر الإنساني ، وفي تاريخ العقل العربي والإسلامي بل في تاريخ العلم وميراث الحضارة كافة.

والأزهر منذ نشأته حارس التراث العربي ، وحامل مشعل الثقافة الإسلامية ، والملاذ الذي تأوي إليه العلماء ، وتهوي إليه أفئدة المسلمين في كل مكان ، والضوء الذي ينير لهم الطريق ، ويبصرهم سواء السبيل.

وللأزهر مكانته الخالدة في مصر والعالم الإسلامي جميعه ، وآراؤه وفتاوى علمائه تقابل من كل مسلم في جميع الشعوب الإسلامية بالتقدير والإجلال والحب العميق.

ولم تقم في مصر الإسلامية جامعة علمية بالمعنى الصحيح قبل الأزهر ، صاحب التاريخ الطويل ، والذكريات المجيدة ، والآثار العلمية والدينية والعقائدية.

وتاريخ العلم في الإسلام يرتبط بالمسجد ارتباطا روحيا وثيقا ؛


فالمسجد الحرام في مكة ، والمسجد النبوي في المدينة ، والجامع الأموي في دمشق ، وجامع الفسطاط وجامع القيروان ، ومسجد البصرة الجامع ، ومسجد الزيتونة ، ومسجد قرطبة الجامع ، ومسجد القرويين بفاس ، والأزهر ، وسواها ؛ كلها كانت مأوى الحلقات العلمية الجامعية في تاريخ الإسلام ، والجامعة كذلك نسبة إلى الجامع بمعنى المسجد ، وفي ذلك تفسير واضح لصلة المسجد بالثقافة ، ولأهمية الثقافة في الإسلام.

ـ ٢ ـ

والأزهر ، أو جامع القاهرة ، كما كان يقال ، هذا المسجد الجامعي ، قاهري البيئة ، فاطمي التأسيسي ، أنشأه جوهر العقلي قائد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ، بعد قيام دولة الفاطميين في مصر بنحو عام ، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى سنة ٣٥٩ ه‍ ـ ٩٧٠ م ، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه يوم السبت الرابع من رمضان من العام نفسه ؛ وكمل بناؤه لسبع خلون من رمضان عام ٣٦١ ه‍ ـ ٢٢ يونيو ٩٧٢ م. وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ، ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر ، وأطلق عليه اسم الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون ، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة تسمى الزهراء ، أو لأنه كان يظن أنه أكثر الجوامع فخامة ورواء ، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا. وقد احتفل بافتتاحه في رمضان عام ٣٦١ ه‍ ، وأصبح مسجد الدولة الرسمي.

وقد حرص وزير المعز والعزيز يعقوب بن كلس على أن يقيما حلقة علمية في الأزهر ، حيث كان يقرأ على الناس في مجلس خاص يوم الجمعة مصنفاته في الفقه الفاطمي ، كما كان يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة المتكلمين وأهل الجدل.


وحرص الخليفة المعز الفاطمي كذلك على تكليف كبار العلماء بإقامة حلقات علمية في أروقة الأزهر لتدريس الفقه الفاطمي ، وكان يمنحهم مرتبات شهرية ، ومن ثم صار الأزهر جامعة علمية ، وظهر ذلك جليا واضحا حينما بدأت حلقاته تتحول إلى دراسات جامعية علمية مستقرة ، وذلك عام ٣٧٨ ه‍ ـ ٩٨٨ م حيث استأذن ابن كلس الخليفة الفاطمي العزيز بالله (٣٦٥ ـ ٣٨٦ ه‍) في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس من كل جمعة يعين بعد الصلاة حتى العصر ، وكان عددهم ٣٧ فقيها

وفي عام ٣٨٠ ه‍ ـ ٩٩٠ م رتب المتصدرون لقراءة العلم بالأزهر ؛ وبذلك استكمل الأزهر صبغته الجامعية ، وأصبح معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة. ومن هذا التاريخ بدأ الأزهر حياته العلمية الخصبة المنتجة.

واستمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة طيلة العصر الفاطمي ، ووقفت عليه الدولة الأوقاف الضخمة ، وأحاطته برعايتها واهتمامها ، وكان في مقدمة وأوائل أساتذته المدرسين فيه بنو النعمان قضاة مصر.

وأول درس ألقي في الأزهر كان في صفر ٣٦٥ ه‍ في نهاية حكم المعز لدين الله ، ألقاه قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان ، حيث قرأ فيه مختصر أبيه في فقه آل البيت المسمى «الاقتصار» وحضره العلماء والأمراء ، وأثبتت أسماء الحاضرين في سجل خاص أما دروس ابن كلس فبدأت في رمضان عام ٣٦٩ ه‍ ، ولكن جهوده في سبيل تطوير الدراسة في الأزهر كانت سابقة على هذا التاريخ.

ولما أنشأ الحاكم الفاطمي دار العلم (دار الحكمة) لم تزدهر إلا قليلا ، وبخاصة في عصر الحاكم نفسه. وبقيت للأزهر منزلته العلمية الرفيعة ، وقصده الطلاب من كل مكان ، وكان العالم يفخر بأنه أحد أساتذته


أو أنه قد حاضر فيه يوما من الأيام.

ويذكر المقريزي في خططه أن النساء كن يحضرن حلقات العلم في الجامع الأزهر [٢ : ٢٢٦ الخطط للمقريزي].

وممن ألقى محاضراته في الأزهر : المؤيد الشيرازي داعي الدعاة في عهد المستنصر الفاطمي ، وأولى محاضراته فيه تقرؤها في كتاب «الأزهر في ألف عام» [١ : ٣٢].

ومن أوائل الكتب التي درست في الأزهر : الاقتصار للنعمان القيرواني (٣٦٣ ه‍) ، وكان يدرسه ابنه علي بن النعمان ؛ والرسالة الوزيرية التي ألفها ابن كلس.

وكان التدريس فيه يجري وفق المذهب الشيعي ، وشدد على ذلك في باديء الأمر ، حتى أنه في عام ٣٨١ ه‍ في عهد العزيز قبض على رجل وجد عنده كتاب «الموطأ» للإمام مالك ، وجلد من أجل إحرازه [٢ : ١٥٧ الخطط للمقريزي]. وفي عام ٤١٦ ه‍ أمر الخليفة الفاطمي بتدريس كتاب «دعائم الإسلام».

ومن أساتذته في العصر الفاطمي كذلك : العلامة الحوفي (ت : ٤٣٠ ه‍) إمام العربية ، وصاحب كتاب «إعراب القرآن» ؛ وابن بايشاذ النحوي (٤٦٩ ه‍) صاحب كتاب «المقدمة» و «شرح الجمل» ؛ وابن القطاع اللغوي صاحب كتاب «الأفعال» ، والمسبّحي الوزير الكاتب (٤٢٠ ه‍) ، والقضاعي (٤٥٤ ه‍) وهو من أقطاب الحديث والفقه ، وابن زولاق المؤرخ (٣٨٧ ه‍) ، وابن يونس المنجم (٣٩٩ ه‍) وغيرهم.

ـ ٣ ـ

كانت بيئة العلم في مصر قبل الأزهر تتركز في حلقات جامع عمرو ، ففيها يتعلم الطلبة ، ويحاضر الأساتذة ، ويتخرج العلماء والأدباء ، وكان من


أوائل الأساتذة الذين درسوا فيه : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وابن لهيعة ، ثم الليث بن سعد ، وعثمان بن سعيد المصري وهو أصحاب القراءات. وكان للأمام الشافعي حلقة علمية فيه ، يدرس فيها مذهبه ، ويدوّن آراءه ؛ وعلى يديه تخرج كثير من تلامذته الذين نشروا مذهبه ، كالربيع بن سليمان ، والمزني والبويطي ، وغيرهم ، ومن ثم أصبحت السيادة للمذهب الشافعي بعد أن كانت للمذهب المالكي ، الذي كان أول من أدخله إلى مصر عثمان بن الحكم الجذامي (١٦٣ ه‍).

وقد تخرج أبو تمام (٢٣١ ه‍) في الأدب والشعر في حلقات مسجد عمرو العلمية ، وكان ذو النون المصري (٢٤٥ ه‍) ممن تخرج في حلقاته.

ولما أنشىء جامع ابن طولون عام ٢٦٣ ه‍ في عهد أحمد بن طولون (٢٥٢ ـ ٢٧٠ ه‍) شارك هذا المسجد الجديد جامع عمرو في رفع مشاعل العلم والثقافة ، وأملى الحديث فيه الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي ، وصلى فيه القاضي بكار إماما ، وخطب فيه أبو يعقوب البلحي.

وكان من أشهر العلماء قبيل انشاء الأزهر ممن كانوا يدرسون في جامع عمرو (المسجد العتيق) وفي المسجد الطولوني : أبو القاسم بن قرير ، وتلميذه الكندي المؤرخ المشهور ، وأبو القاسم بن طباطبا.

ولما وفد المتنبي إلى مصر عام ٣٤٦ ه‍ كانت له حلقة في مسجد عمرو ، وكانت من أحفل حلقات العلم والأدب والشعر واللغة.

ولما قام الأزهر في عاصمة مصر القاهرة بدأ بفرض سيادته العلمية على كل البيئات الثقافية في مصر ، وتأكدت هذه السيادة كذلك على بيئات العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.


ـ ٤ ـ

وانتهى العصر الفاطمي بعد أن بلغ الأزهر فيه قمة مجده العلمي.

ولم يكد العصر الأيوبي يبدأ حتى بدأت مكانة الأزهر الدينية تتعرض لضغط الحكام والأمراء ، إذ كان الأيوبيون يحاولون القضاء على كل مظاهر التشيع في مصر ، ولكن حلقات الأزهر العلمية الجامعية لم تتعرض لمثل ما تعرض له الأزهر جامعا ومسجدا فقد حولت عنه صلاة الجمعة وخطبتها إلى مسجد الحاكم ، ولم تعد خطبة الجمعة إلى الأزهر إلا عام ٦٦٥ ه‍ في عهد بيبرس ، وظلت الشخصية العلمية للأزهر قوية.

وكان موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي يلقي دروسا في الرياضة والفلك والطب في الأزهر ، وكذلك كان عبد اللطيف البغدادي يحاضر في الكلام والبيان والمنطق والطب. وكان لابن الفارض حلقة صوفية فيه.

ومن أشهر علمائه في هذا العصر : الإمام المنذري المحدث وكان يلقب بشيخ الإسلام ، وابن أبي الإصبع ، والقضطي الوزير ، وغيرهم.

ـ ٥ ـ

وفي عصر المماليك ، ازدهرت حلقات الأزهر الجامعية ، وقصده أعلام الفكر العربي لذلك الحين من أمثال السهروردي ، وابن خلدون ، وابن منظور ، والفيروز أبادي ، وغيرهم. كما أمّة الطلاب من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي ، يقيمون حوله ، ويقطنون في أروقته ، ويجلسون في حلقاته ، ويشاركون في نشاطه العلمي ، وقد بلغ عددهم في أوائل القرن الثامن الهجري زهاء ٧٥٠ طالبا ، ويقول عالم سوداني من خريجي الأزهر يمدح أحد ملوك الفونج في سنار ، وهو السلطان بادي أبو دقن :

أيا راكبا يسري على متن ضامر

إلى صاحب العلياء والجود والبر


ويطوي إليه شقة البعد والنوى

ويقتحم الأوعار في المهمة القفر

وينهض من مصر وشاطىء نيلها

وأزهرها المعمور بالعلم والذكر

ومن أشهر علمائه في ذلك الحين : العز بن عبد السلام الإمام العالم الثائر ، صاحب المواقف المجيدة في التاريخ الإسلامي ، وابن هشام النحوي ، وابن دقيق العيد ، والسبكي ، والسيوطي ، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، وكذلك ازدان الأزهر بآلاف العلماء البارزين في علوم الدين والعربية والأدب ، ومن بين من تخرج فيه في ذلك العهد : القلقشندي ، والدميري ، والمقريزي ، وغيرهم.

واستكمل الأزهر سيره في العهد العثماني كذلك ، محافظا على تراثه ، اللغة وعلومها ، وعلى الآداب وفنونه ، إلى دراساته الإسلامية العتيدة. ومن كبار شيوخه في هذا العهد : الإمام السنباطي (٩٥٠ ه‍) ومواقفه في مقاومة طغيان الحكام خالدة ، والإمام المهناوي (٩٥٠ ه‍) ، والعلامة البرماوي (١١٠٦ ه‍) ، والشيخ الخرش المالكي أول شيخ للأزهر ، ومن عهده صار منصب مشيخة الأزهر من أكبر المناصب العلمية في العالم الإسلامي ، وتوفي عام ١١٠١ ه‍. وخلفه البرماوي [١١٠٦ ه‍] ، فالتشرتي (١١٢٠ ه‍) ، فالقليني ، فالشيخ محمد شثن (١١٣٣ ه‍) ، فالشيخ الفيومي (١٠٦٢ ـ ١١٣٧ ه‍) ، فالشيخ عبد الله الشبراوي (١١٧١ ه‍) وله شعر صوفي رفيع ، فالشيخ الحفتي (١١٠٠ ـ ١١٨١ ه‍) ، وله شعر صوفي رمزي باللغة العربية واللغة الشعبية الدارجة ؛ ثم الإمام السجيني (١١٨٢ ه‍) ، فالدمنهوري (١١٩٢ ه‍).

وفي عصر الأتراك العثمانيين قاد الأزهر حركات التحرر الكبرى ، ومن بينها : ثورة الإمام الشيخ الدردير التي قادها عام (١٢٠٠ ه‍ ـ يناير ١٧٨٦ م) ، وثورة الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي عام ١٢٠٩ ه‍ ـ ١٧٩٥ ؛ وقد كسب الشعب المصري من الثورة الأولى مبدأ دستوريا جليلا هو وجوب


احترام الحاكم لإرادة المحكومين ، وكسب من الثانية مبدأ آخر هو أن الأمة مصدر السلطات ، وكانت بمثابة إعلان لحقوق الإنسان سبق به شعب مصر غيره من الشعوب ، كما اعترف بذلك المؤرخون في الشرق والغرب.

وقد حمل علماء الأزهر وطلابه عبء الجهاد لتحرير مصر من الاحتلال الفرنسي منذ دخل جيش نابليون بلادنا فاتحا.

كما قام الأزهر بثورة أخرى بقيادة عمر مكرم في صفر ١٢٢٠ ه‍ : ١٨٠٥ م لإنهاء النفوذ التركي من مصر ، وهي الثورة التي استغلها محمد علي ، فحولها إلى مغانم شخصية له ولأسرته.

والثورة العرابية هي في الحقيقة ثورة قام بها أحد أبناء الأزهر وخريجيه ، وهو الزعيم أحمد عرابي ، ووقف علماء الأزهر معه يؤيدونه ويدعمون ثورته ، ولكن خيانة توفيق جرت على الوطن الاحتلال الانجليزي البغيض.

وقامت ثورة شعبية بقيادة أزهري آخر هو سعد زغلول ، وذلك في مارس من عام ١٩١٩ ، لإنهاء الاحتلال الانجليزي لمصر.

ومن أعظم حركات الإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث حركة الإمام محمد عبده ، وهو من أجل شيوخ الأزهر ، وأعظم علمائه ، ومن تلامذته : محمد مصطفى المراغي ، عبد المجيد سليم ، محمد الأحمدي الظواهري ، مصطفى عبد الرزاق ، إبراهيم حمروش ، محمد مأمون الشناوي ، وهم من أشهر شيوخ الأزهر في العصر الحديث.

ـ ٦ ـ

وقد أكد صبغة الأزهر الجامعية شيخان جليلان من كبار شيوخه في العصر الحديث هما : الشيخ محمد الأحمدي الظواهري الذي أصدر قانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠ بإنشاء كليات جامعية في الأزهر ، والشيخ محمد


مصطفى المراغي ، الذي أصدر قانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ بشأن إصلاح الأزهر وتأكيد الصبغة الجامعية له وإنشاء دراسات عليا فيه.

وكان أعظم حدث علمي في تاريخ الأزهر الحديث هو صدور قانون تطوير الأزهر المعروف بقانون رقم ١٠٣ لعام ١٩٦١ ، وبمقتضى هذا القانون قامت في الأزهر الجامعة العلمية الكبرى ، تضم كليات إسلامية ، وكليات علمية ، وأخذت من القانون سند وجودها الرسمي ، وإن كان لها من التاريخ سند وجودها الفعلي.

وكما تولى مشيخة الأزهر الشيخ حسن مأمون ، وإدارة جامعة الأزهر الدكتور محمد البهي ، والشيخ أحمد حسن الباقوري

وحلقات الأزهر العلمية الجليلة تعيش اليوم كما كانت تعيش خلال الأجيال ، لتحمل عن العالم الإسلامي رسالة الإسلام الروحية والدينية والثقافية ، ولتؤديها ناصعة بيضاء كخيوط الفجر ، مشرقة هادية كضوء الشمس ، ومن هذه الحلقات تخرج زعماء العالم الإسلامي القديم ، ويتخرج شباب المسلمين اليوم ، لأن هذه الحلقات هي عن جدارة بمثابة مصنع يصنع الرجال والأبطال في كل عصر ، وكل مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.



الجامع الأزهر (١)

كان بناء (المسجد) أول ما يفكر فيه المسلمون عند إنشاء مدينة جديدة ، أو استيلائهم على مدائن غيرهم ، وقد وضع هذه السياسة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتب إلى ولاة الأمصار باتخاذ مساجد للجماعة في العاصمة.

وقد نفذت هذه السياسة في مصر منذ الفتح الإسلامي ، حيث أسس عمرو بن العاص مدينة (الفسطاط) سنة ٢١ ه‍ ، وبنى فيها جامعة العتيق.

ولما جاء العباسيون أسس صالح بن العباسي مدينة (العسكر) سنة ١٣٣ ه‍ ، وبنى الفضل ابنه مسجد العسكر سنة ١٦٩ ه‍ ، وكان قد ولى مصر من قبل الخليفة المهدي على صلاتها وخراجها ، فدخلها سلخ المحرم سنة ١٦٩ ه‍.

فلما استقل أحمد بن طولون بمصر بنى مدينة (القطائع) لتكون عاصمة لدولته سنة ٢٥٦ ه‍ ، ثم أنشأ بها جامعه المشهور سنة ٢٦٣ ه‍.

ولما استولى جوهر الصقلى قائد المعز لدين الله الفاطمي على مصر

__________________

(١) الوعي الإسلامي ـ ذو الحجة ١٣٨٨ ه‍.


أسس (القاهرة وبنى بها (الجامع الأزهر) سنة ٣٥٩ ه‍ ، فأنشىء الأزهر غداة ظفر الفاطميين بملك مصر ، ومع قيام القاهرة العاصمة الجديدة (١) ، فكان الأزهر خير ما خلفه الفاطميون لمصر ، بل وللعالم الإسلامي أجمع ، فكان بيتا من بيوت الله ، يعمر النفوس بالإيمان ، ويهديها سواء السبيل ، ثم صار جامعة دينية إسلامية كبرى ، يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار الإسلامية ، ويتخرج فيها العلماء والأئمة في جميع العلوم والفنون.

تاريخ إنشائه

وقد بدىء بإنشاء الأزهر في ٢٤ من جمادي الأولى سنة ٣٥٩ ه‍ (٩٧٠ م) ، وتم بناؤه في عامين وبضعة أشهر ، وافتتح للصلاة في يوم الجمعة السابع ، أو التاسع من رمضان سنة ٣٦١ ه‍ (٩٧٢ م) ، وسمى (بجامع القاهرة) اسم العاصمة الجديدة ، أما تسميته (بالجامع الأزهر) فقد جاءت متأخرة بعد إنشاء القصور الفاطمية في عهد العزيز بالله (٣٦٥ ـ ٣٨٦ ه‍) التي أطلق عليها اسم (القصورة الزاهرة) ومن ثم أطلق اسم (الجامع الأزهر) ، أو أنه سمي (الجامع الأزهر) تفاؤلا بما سيكون له من مستقبل زاهر ، ومكانة سامية بازدهار العلوم فيه ، وإن كان المرجح أن هذه التسمية مشتقة من لفظ (الزهراء) لقب السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وزوج الإمام علي رضي الله عنه التي نسبت إليها الدولة الجديدة ، وسميت باسمها ، وقد ظل المسجد الجديد يعرف (بجامع القاهرة ، والجامع الأزهر) ثم تلاشى الاسم الأول مع الزمن وغلب عليه اسم (الجامع الأزهر) إلى اليوم.

__________________

(١) دخل جوهر مصر في يوم الثلاثاء ١٧ من شعبان سنة ٣٥٨ ه‍ ، واختط مدينة القاهرة يوم السبت لست بقين من جمادي الآخرة سنة ٣٥٩ ه‍ بعد عام من فتحه لمصر ، وحينما انتقل إليها المعز لدين الله سنة ٣٦٣ ه‍ أصبحت عاصمة الخلافة الفاطمية.


والغرض منه

وكان الغرض من إنشائه أن يكون المسجد الرسمي للدولة في حاضرتها الجديدة ، وليكون موطن الدعوة الشيعية ، ورمز سيادة الدولة الروحية ، وكانت له فوق ذلك أهمية رسمية خاصة ، ففيه كان جلوس قاضي القضاة ، وفيه مركز المحتسب العام ، وفيه كان يعقد كثير من المجالس الخلاقية والقضائية.

فالجامع الأزهر عند إنشائه كانت له الصفة الدينية والرسمية كسائر المساجد الأخرى ، غير أنه لم يلبث أن اتخذ له صفة أخرى هي الصفة (العلمية التعليمية) ، وذلك عند ما فكر الخلفاء الفاطميون في نشر مذهبهم الجديد ، عن طريق دروس تلقى في حلقاته ، لأن جامع عمرو ، وجامع ابن طولون قد جرت الدراسة فيهما ، وفق تقاليد علمية ، لا تساير تعاليم المذهب الشيعي الجديد فكان من المناسب أن يكون المسجد الجديد (الأزهر) هو المكان المختار ، لنشر تعاليم مذهبهم ، وأصبح (الجامع الأزهر) مدرسة علمية يتلقى فيها طلاب العلم ورواده الذين قصدوه من كل صوب مختلف العلوم والفنون ، بجانب نشر دعوتهم ، ومذهبهم الشيعي الجديد ، وسبق الأزهر بصفته العلمية غيره من المساجد الأخرى ، التي كانت تقوم إلى جانبه ، وظل مدى قرون ، ولا يزال مقصد طلاب العلم من كافة أرجاء العالم الإسلامي.

أول درس فيه

وأول درس ألقي في (الجامع الأزهر) ألقاه قاضي القضاة (أبو الحسن علي بن النعمان) في صفر سنة ٣٦٥ ه‍ في أواخر أيام المعز الفاطمي ، قرأ فيه مختصر أبيه في فقه آل البيت المسمى (الاقتصار) ، وحضر درسه جمع حافل من العلماء ، والكبراء ، وأثبتت أسماء الحاضرين


في سجل تخليدا لهذا الحدث الجديد ، ثم توالت حلقات بني النعمان ، وقد أسهمت هذه الأسرة في نشر المذهب الشيعي ، وخدمت الفاطميين في بث دعوتهم ، ونشر مذهبهم في المغرب ومصر (١) ، وكانت في الواقع دروسا مذهبية خالصة أعدت للدعاية السياسية والمذهبية.

ابن كلس

وفي رمضان سنة ٣٦٩ ه‍ جلس (يعقوب بن كلس (٢)) وزير الخليفة العزيز بالله في الجامع الأزهر ، وقرأ على الناس كتابا ألفه في الفقه الشيعي على مذهب الإسماعيلية ، وتوالى جلوسه بعد ذلك لقراءته في الأزهر ، وكان يحضر دروسه الفقهاء والقضاة ، وكبار رجال الدولة ، كما كانت له مجالس علم في داره ، يجتمع فيها الفقهاء وغيرهم من أهل العلم والمعرفة في سائر العلوم والفنون.

ولم تقف جهود ابن كلس عند هذا الحد ، فأراد أن يجعل (الجامع الأزهر) معهدا للدراسة المنظمة المنتظمة ، فطلب من الخليفة العزيز بالله تعيين جماعة من الفقهاء للدرس والقراءة في أوقات منتظمة مستمرة وذلك سنة ٣٧٨ ه‍ ، على أن تعقد حلقاتهم في الأزهر ، وأن يجري عليهم الأرزاق ، فاستحسن الخليفة الفكرة ، وأجابه إلى ما طلب ، وكانوا

__________________

(١) عميد هذه الأسرة هو. النعمان بن محمد الفقيه الشيعي المعروف (بأبي حنيفة النعمان) قدم القاهرة مع المعز وتوفى بها سنة ٣٦٣ ه‍ ، وقد ولى القضاء بعده أبناؤه وأحفاده وأبناء اخوته. (انظر كتاب. التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول للأستاذ خطاب عطية علي ، طبعة ١٩٤٧ م ، هامش ٢ ص ١٠٥).

(٢) ابن كلس ، هو أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس ، كان يهوديّا من أهل بغداد ، اتصل بخدمة كافور الأخشيدي بمصر فأظهر خبرة وبراعة ، ثم أسلم بعد ذلك فارتفعت مكانته في بلاط كافور ، ونال حظوته ، ثم أنه رحل إلى المغرب فرارا من وجه الوزير. أبي الفضل جعفر بن الفرات الذي استبد بالأمر في مصر بعد موت كافور ، واتصل بالمعز فقر به وأكرمه ، ثم وزر لابنه العزيز بالله ، وكان يحظى عنده بمكانة ممتازة ، فلما اعترته علة الموت عاده الخليفة العزيز بالله ، ولما توفى سنة ٣٨٠ ه‍ صلى عليه ، وظهر الحزن في وجهه لفقده ، وأمر بغلق الدواوين أياما بعده.


نيفا وثلاثين فقيها ، فكانوا يحضرون في كل يوم جمعة للصلاة بالأزهر ، ويأخذون في قراءة الفقه ، ومدارسة الحكمة ، وعقائد الدين إلى صلاة العصر.

وهكذا بدأت الدراسة في (الجامع الأزهر) ، واتخذ منذ ذلك التاريخ صفته التعليمية ، وقصده الطلاب من كل صوب ، وأصبح به طلبة متفرغون للدراسة ، وقد وفرت الدولة للمدرسين والطلاب ما يعينهم على الدراسة والتحصيل حتى لا تشغلهم مطالب الحياة ، أو السعي وراء الرزق ، فرتبت لهم الأرزاق والجرايات ، وبنت لهم المساكن ، وقدمت لهم الكسوة في كل عيد ، ويسرت لهم سبل الركوب والانتقال احتراما لهم ، وتقديرا لعلمهم ، واستطاع (الأزهر) بما فيه من أساتذة رسميين ، وطلاب منتسبين تجري عليهم جميعا الأرزاق الدائمة أن يكون معهدا للدرس ، وأن يبدأ حياته العلمية الحافلة المديدة.

وكان الصبغة المذهبية هي الغالبة على الدراسة في الأزهر ولا سيما في أول عهده ، لأنه كان مركزا لمجالس الحكمة التي كان يعقدها الدعاة فيه ، والتي كانت غايتها بث الدعوة الفاطمية ، وتوطيد إمامتها ، فكانت علوم الشيعة وفقه آل البيت تحتل من حلقاته الدينية المقام الأول ، غير أن هذا لم يمنع من تدريس علوم الدين ، واللغة وفروعها ، وكان للعلوم الدينية بنوع خاص أوفر نصيب ، كما كانت تدرس به علوم : الفلسفة ، والمنطق ، والطب ، والرياضيات وإن كان ذلك في حدود ضيقة.

دار العلم أو دار الحكمة

ظل الجامع الأزهر المركز العلمي الرئيسي للثقافة الشيعية ، والعلوم الدينية ، والعربية ، والكونية حتى ظهر له منافس خطير هو (دار العلم) التي أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم سنة ٣٩٥ ه‍ (١) ، فقد انتزعت منه الكثير من

__________________

(١) وقيل انشئت دار العلم سنة ٤٠٠ ه‍ ، وقد عنى الخليفة الحاكم بها عناية بالغة ، وألحق بها


رواده ، وتفوقت عليه ، وأثرت في سير الدراسة به ، بسبب ما وجد بها من دراسات مختلفة للغة ، والمنطق ، والفلسفة ، والطب والرياضيات في حرية وانطلاق ، ولتشجيع الخليفة الحاكم لطلابها ، غير أن ازدهار (دار العلم) كان قصيرا ، لما انتابها من اضطرابات أخلت بالتعليم فيها ، وبقي الأزهر ملاذا للعلوم الدينية ، والعربية ، ولم يقلل قيام (دار العلم) من شأنه كمعهد للقراءة ، والدرس.

وبقيت الصفة (التعليمية) مميزة للجامع الأزهر طوال العصر الفاطمي ، فزاد عدد طلابه وأساتذته ، وكثرت أروقته ، وحلقات التعليم به ، ونمت الدراسة فيه وازدهرت ، حتى بدأ يجتذب إليه الطلاب والعلماء من خارج مصر ، واستطاع أن يكون (جامعة علمية) جليلة القدر ، وأن يسدي إلى الدين واللغة أجل الخدمات على مر السنين ، حتى غدا كعبة لقصاده من سائر الأقطار الإسلامية ، كما قال المقريزي في خططه. «ولم يزل في هذا الجامع ـ الأزهر ـ منذ بني عدة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه ، وبلغت عدتهم في هذه الأيام ـ سنة ٨١٨ ه‍ ـ سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم ، وزيالعة ـ نسبة إلى زيلع ـ ومن أهل ريف مصر ، ومغاربة ولكل طائفة رواق يعرف بهم ، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ، ودراسته ، وتلقينه ، والاشتغال بأنواع العلوم ، والفقه ، والحديث ، والتفسير ، والنحو ، ومجالس الوعظ ، وحلق الذكر ، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله ، والارتياح ، وترويح النفس ما لا يجده في غيره ، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة

__________________

مكتبة نقل إليها من قصور الخلافة الكثير من الكتب في سائر العلوم والفنون ، وكانت تعرف المكتبة ، بدار الحكمة ، فدار العلم كانت. مدرسة ، ومكتبة ، وكذا عرفت. «بدار العلم حينا ، وبدار الحكمة حينا آخر» ، لأنها جمعت بين ما كانت تقوم به خزائن الحكمة كدور للكتب ، وما كانت تقوم به دور العلم من تعليم ، وظلت تؤدي رسالتها حتى زالت الدولة الفاطمية سنة ٥٦٧ ه‍ ، على يد صلاح الدين الأيوبي فجعلها مدرسة سنية لدراسة المذهب الشافعي طبقا لسياسته في محاربة التشيع.


والفلوس ، إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى ، وكل قليل تحمل إليه أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات لا سيما في المواسم.

في عهد الدولة الأيوبية

استمر الأزهر في أداء رسالته العلمية ، يحمل مشعل المعرفة الوهاج ، حتى غدا منار العلم وموئل العلماء طوال العهد الفاطمي ، فلما قامت الدولة الأيوبية بدأ نجمه في الأفول ، لأن السلطان صلاح الدين الأيوبي قد عمل منذ اللحظة التي استقل فيها بحكم مصر سنة ٥٦٧ ه‍ على محاربة التشيع ، ونشر المذهب السني ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر مركز الدعوة الشيعية أبطلها قاضي القضاة الشافعي في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي ، المسمى : (صدر الدين عبد الملك بن درباس) ، لأن الشافعية لا يجيزون إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد ، وأقرها في جامع الحاكم ، وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه نحو مائة عام ، إلى أن أعيدت إليه في عهد المماليك (الظاهر بيبرس البندقداري) سنة ٦٦٥ ه‍.

في أيام المماليك

غير أن هذه المحنة لم تؤثر فيه ، فقد تابع حياته العلمية ، ووجد في ظل المماليك الرعاية الكاملة ، وبرزت صفته العلمية بروزا واضحا في عصرهم ، وتمكن من المحافظة على التراث الإسلامي خلال المحنة التي حلت بالشرق الإسلامي من جراء الغزو المغولي ، ثم ما أصيبت به معاهد العلم والمساجد في الأندلس ، وبلاد المغرب من ذبول وضعف ، مما جعله مقصد العلماء والطلاب من المشرق والمغرب ، يجدون في رحابه الملجأ والملاذ ، وغدت القاهرة ـ مقر الجامع الأزهر ، وكرسي الخلافة الإسلامية ـ قلب العالم الإسلامي النابض ، وأمل العروبة والإسلام ، واعتبر عصر المماليك بحق. «العصر الذهبي للجامع الأزهر» من حيث الإنتاج العلمي


الممتاز ، ومحافظته على التراث الإسلامي ، وقيامه على أداء رسالته العلمية والتعليمية للمسلمين كافة ، واحتلاله مركز الزعامة.

في عهد الأتراك

وأصل الأزهر سيره ، يؤدي واجبه في خدمة الدين والثقافة بهمة فائقة ، ونشاط كبير ، حتى منيت البلاد بالفتح التركي العثماني سنة ٩٢٣ ه‍ (١٥١٧ م) فحلت بالديار المصرية الكارثة ، واغتصب السلطان سليم الأول خير ما فيها من تحف وآثار ، وكتب نفيسة ، وسلب البلاد عمالها وصناعها ، وبعث بكل ذلك إلى القسطنطينية العاصمة ، وكان طبيعيا أن يصيب الأزهر ما أصاب البلاد من أضرار جسيمة ، فاختفت من رحابه الصفوة الممتازة من علمائه الأعلام ، وخفت صوته وانكمشت أهدافه وبرامجه الدراسية ، واقتصرت الدراسة فيه على العلوم الدينية ، والعربية ، واختفت العلوم الرياضية ، والفلسفية ، والطبية وغيرها من سائر العلوم الكونية ، وخيم عليه ركود طويل كاد يقضي عليه ، ويخمد أنفاسه.

وحين جاءت الحملة الفرنسية

وعلى غير انتظار احتل الفرنسيون الديار المصرية سنة ١٢١٣ ه‍ (١٧٩٨ م) فأيقظت حملتهم الأزهر من سباته ، ونبهته من غفوته ، ووجد نفسه تحت ضغط الظروف والحوادث ، تشارك في الحركة القومية بتعبئة قوى الكفاح الشعبي ضد المستعمر الجديد ، وغرس الكراهية في النفوس ضد الفرنسيين ، الدخلاء ، فلعب دورا سياسيا خطيرا إبان الاحتلال الفرنسي ، واحتل موضع القيادة الروحية ، والزعامة السياسية في البلاد ، فكانت يقظة قومية وطنية قبل أن تكون يقظة علمية ، قادها كبار رجال الأزهر بزعامة شيخ الأزهر (الشيخ عبد الله الشرقاوي) ، وثارت القاهرة مرتين في وجه الفرنسيين ، ثم قتل (كليبر) نائب نابليون بيد (سليمان الحلبي) المنتمي


إلى الأزهر وازعجت هذه الأحداث الفرنسيين ، فنزحوا عن البلاد نهائيا بتسليم الجنرال (مينو) في شهر ربيع الآخر سنة ١٢١٦ ه‍ (سبتمبر سنة ١٨٠١ م) بعد أن مكثوا بها ثلاث سنوات وبضعة أشهر ، أرهقوا فيها أهل البلاد عامة من أمرهم عسرا ، ونالوا من قداسة الجامع الأزهر وكرامة أهله.

في عهد محمد علي

فلما آل حكم الديار المصرية إلى «محمد علي» سنة ١٢٢٠ ه‍ (١٨٠٥ م) لم يجد الأزهر عطفا من النهضة القومية في بادىء الأمر ، ولم يحفظ سيد البلاد الجديد الجميل لعلماء الأزهر الذين ارتقى على أكتافهم إلى منصب الولاية ، وابتدأ عهده بالاستيلاء على أملاك الأزهر الخاصة الواسعة ، وفقد الأزهر بسبب اغتصاب أوقافه أهم موارده المالية ، ومع ذلك فإن رغبة محمد علي في الإصلاح ، وفي إقامة بناء دولته الجديدة على أسس سليمة جعلته يرغب في الاسترشاد بالأفكار الأوروبية ، فاتجه إلى إرسال البعوث العلمية إلى الخارج ، فأنشأ في سنة ١٢٤٢ ه‍ (١٨٢٦ م) البعثة العلمية إلى باريس ، واختار لها نخبة من أنجب طلاب الأزهر ليتلقوا العلم على أساليب جديدة (١) ، فكانت هذه خطوة عملية نحو إصلاح الأزهر وإدخال أساليب البحث الحديث فيه ، والاهتمام بالعلوم الحديثة التي كانت مهملة ، غير أن الأزهر لم يستجب لهذه المحاولة ، وظل متمسكا بأسلوبه القديم ، كما عارض رجاله بشدة دعوة الزعيمين جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر ، وضاعت جهودهما في سبيل إصلاح الأزهر هباء ، وإن كانت دعوتهما قد أثمرت في خارجه حيث وجدت استجابة من بعض شباب البلاد ، ونشأ جيل من المفكرين الأحرار شارك فيما بعد في إصلاح الأزهر.

__________________

(١) من بين أعضاء هذه البعثة ، رفاعة بك الطهطاوي الذي عد شيخ المترجمين ، وإبراهيم بك النبراوي أحد نوابغ البعثة الطبية ، وأحمد حسن الرشيدي بك من أكابر خريجي مدرسة الطب ، والبعثات ، وغيرهم كثير ، كان لهم جميعا على النهضة المصرية فضل كبير.


لم يحل جهود الأزهريين دون بذل عدة محاولات لإصلاح الأزهر بإصدار القوانين المنظمة له ، فصدر أول قانون سنة ١٢٨٨ ه‍ (١٨٧٢ م) في عهد مشيخة الشيخ محمد العباسي المهدي ، وأدخلت بمقتضاه عدة إصلاحات على مناهج الدراسة ، ونظام الإدارة ، ويقرر إدخال (امتحان الشهادة العالمية ، وامتحان الطلاب الراغبين في الحصول عليها ، أمام لجنة بعينها شيخ الجامع الأزهر من بين علمائه).

ثم في عهد مشيخة الشيخ سليم البشري صدر القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ م الذي يعتبر من أهم قوانين إصلاح الأزهر في حينه ، وأكثرها عناية بمناهجه ، وخطة الدراسة فيه ، وبمقتضاه حددت اختصاصات شيخ الأزهر ، وأنشىء مجلس الأزهر الأعلى ، وجماعة كبار العلماء ، وشيوخ المذاهب الأربعة ، وأدخلت العلوم الحديثة فيه.

كما صدر في عهد مشيخة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري المرسوم بقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠ م ، الخاص بإعادة تنظيم الجامع الأزهر ، والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ، والذي حولت بموجبه الدراسة العالية بالأزهر (القسم العالي) إلى كليات ثلاث ، وإلى إنشاء أقسام للتخصص في المادة ، والمهنة بعد الحصول على الشهادة العالية من إحدى الكليات ، ولذا فإن هذا القانون يعتبر بحق أول خطوة رسمية في تمكين الجامع الأزهر من مسايرة التقدم العلمي والاجتماعي في العصر الحاضر في تزويد طلابه بما يجب أن يحيط به رجل الدين الحديث من العلوم ومن الاتجاهات.

مشيخة الشيخ المراغي

ثم كانت خطوة أوسع نحو الإصلاح على عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي الثانية (١٩٣٥ ـ ١٩٤٥ م) بصدور المرسوم بقانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م ، وقد نجح هذا القانون في معالجة الكثير من مشاكل


الإصلاح في الأزهر ، وفي النهوض بالأزهر إلى مستوى الجامعات الحديثة الكبرى ، وقد أرفق الشيخ المراغي مشروع هذا القانون بمذكرة أوضح فيها وجهة نظره ، وأنه يريد للأزهر أن يساير الحياة المعاصرة عن فهم وإدراك ، كما أنه يريد بهذا الإصلاح أن يفي الأزهر بالأغراض التي تحقق آمال المسلمين فيه ، وترجع به إلى عصوره الزاهرة من البحث العلمي السليم ، والتفكير الحر ، ودراسة الفنون التي تتفق مع طابعه القديم ، وتطابق مقتضيات العصر ، وتلبي رغباته ، وأن يتصل بالنهضة الحديثة في الغرب عن طريق تعلم اللغات الأجنبية ليرد شبهات المضللين ، ويدفع التهم الموجهة إلى الدين في كتابات الأجانب المغرضين ، ويفيد من طريقة وضعهم للكتب ، ومعالجتهم للمسائل العلمية ، ونورد فيما يلي بعض فقرات من تلك المذكرة ، فقد جاء فيها. «.. ونحن إذ نحاول إصلاح الأزهر نريد أن نوجد طالبا يفهم مسائل العلم فهما صحيحا ، ويفهم أغراضها ، وصلتها بأدلتها ، وصلتها بعضها ببعض ، ويستطيع التطبيق على الجزئيات ، ويستطيع الاستنباط والتدليل ، ويستطيع فهم الكتب القديمة التي ألفت في العصور المختلفة في جميع الفنون الإسلامية ، ... ، وأحب أن توجد كتب في جمع الفنون الحديثة على أسلوب عربي صحيح مناسب لأذواق الأجيال الحاضرة ، تهذب فيه المسائل على أحسن ما وصل إليه التحقيق العلمي ، وأن تحيا الكتب القديمة الجيدة في الأسلوب والوضع ، ... ، هذا الذي نحاوله بالتجديد. يجب ـ على ما أرى ـ أن يضعه الناس أمامهم ، وأن يجدوا للوصول إليه ، ... ، ولقد كان أسلافنا أشد الناس عناية بالعلم ، فلم يمض الزمن القليل حتى أخذوا علم اليونان ، وأدب الفرس ، وحكمة الهند واستعانوا بذلك كله في تفسير القرآن ، وفي وضع علم الكلام على الأسس التي نراها في مثل المواقف والمقاصد ، واستعانوا به في تنظيم مسائل العلوم جميعها ، فلم يخل علم من أثر الفلسفة والمنطق ، ولقد كانت لهم محاولات جديرة بالإعجاب في التوفيق بين الدين


ونظريات الفلسفة ، ... وتغيرت نظريات الفلسفة ، وحدثت نظريات أخرى ، وكان من شأن هذا كله أن توجه على الأديان جملة ، وعلى الإسلام خاصة حملات ، وصار من الواجب الحتم على علماء المسلمين أن يحيطوا علما بكل ما يوجه إلى الأديان عامة ، وإلى الإسلام خاصة من مطاعن ، وأن يردوا تلك المطاعن التي توجه إلى الإسلام ، ويذودوا عن عقيدتهم بأدلة ناصعة ، وأسلوب مقنع ممتع ، ليجنبوا المتعلمين تعليما مدنيا الشبه الزائفة ، وليضموا إلى الإسلام أفرادا وشعوبا من الأمم التي تتطلع إلى الإسلام ، وتبتغي الوقوف على خصائصه ومزاياه ، وهذا لا يتم لهم على ما ينبغي إلا بالاتصال بغيرهم اتصالا علميا ، وبتعرف اللغات الحية التي يكثر فيها الانتاج العلمي ، والتي يتناول بها العلماء مسائل الإسلام ، ومسائل اللغة العربية ، لذلك وجب أن يكون لأهل الأزهر نصيب من هذه اللغات ، وهنالك فائدة أخرى لتعلم اللغات ، وهي أنها تساعد على معرفة طريقة وضع الكتب ، وعلى معرفة الأسلوب الحديث في التأليف والتفكير ، وطريقة عرض المسائل على أنظار المتعلمين ..... الخ ..».

بهذا الإصلاح يكون الشيخ المراغي قد أتم ما بدأه الشيخ محمد عبده ، وقد كرس الشيخ المراغي فترة السنوات العشر التي أعقبت صدور القانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م على تنفيذ هذه الإصلاحات حتى لقي ربه في الثاني والعشرين من أغسطس سنة ١٩٤٥ م رحمه الله.

وقد تعاقب على كرسي مشيخة الجامع الأزهر بعد الشيخ المراغي عدد من جلة شيوخ الأزهر هم. الشيخ مصطفى عبد الرزاق ، وكان مؤمنا بالإصلاحات التي أدخلها الشيخ المراغي ، غير أن المنية قد عاجلته سنة ١٩٤٧ م ثم الشيخ محمد مأمون الشناوي ، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الأولى ، والشيخ إبراهيم حمروش ، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الثانية ، والشيخ محمد الخضر حسين ، والشيخ عبد الرحمن تاج ، والشيخ محمود شلتوت ، وقد صدرت خلال هذه الحقبة عدة قوانين معدلة للقانون


رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م ، والقانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٥٦ م ، ثم القرار الجمهوري رقم ١٥٢٥ لسنة ١٩٥٩ م ، وكلها تستهدف إصلاح الأزهر والنهوض به ، والارتفاع بمستواه العلمي والمادي.

وهكذا تقلبت الأحوال بالأزهر من عسر ويسر ، وذاق خلالها حلاوة العزة والقوة ، ومرارة الوهن والضعف خلال فترة تجاوزت الألف عام من عمره المديد ، ورغم الظروف والأحداث التي مرت به لم يقصر في أداء واجبه ، وظل عامرا بالطلاب ، زاخرا بالعلماء يؤدي رسالته العلمية والوطنية في ثقة واطمئنان ، وأخيرا صدر القانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١ م بشأن إعادة تنظيم الأزهر ، والهيئات التي يشملها في عهد الشيخ محمود شلتوت ، وأصبح الجامع الأزهر لأول مرة بموجب هذا القانون (جامعة) ، وأضيف إليه عدد من الكليات بجانب كلياته الثلاث السابقة ، وأصبحت كليات (جامعة الأزهر) الجديدة اليوم هي ، المعاملات والإدارة (التجارة) والبنات الإسلامية ، والهندسة والصناعات ، والطب ، والزراعة ، والتربية ، وقد ترك الباب مفتوحا لإنشاء كليات أخرى ـ غير الكليات التسع ـ ومعاهد عالية طبقا لحاجة التطور ومسايرته.

وكان هذا التطور الجديد ضرورة تحتمها الحياة المعاصرة ، وتقتضيها ظروف المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي الذين ينظرون إلى الأزهر على أنه من بين مقدساتهم ، لجليل نفعه ، وعظيم أثره في خدمة علوم الدين واللغة ، وحفظ تراث الإسلام والعروبة.

وقد نوهت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١ م بمكانة الأزهر ، وما يرجى له من مستقبل ، وبما يمكن أن يؤديه من خدمات جليلة في جميع أجراء العالم الإسلامي بعد إعداد أهله وفق أهداف هذا القانون ، فقد جاء فيها : «... لقد قام الأزهر بدور عظيم في تاريخ العلم ، وفي تاريخ الإسلام ، وفي تاريخ العروبة ، وفي تاريخ الكفاح القومي على توالي


العصور ، ووقف قلعة شامخة في وجه كل المحاولات لاستعبادنا ، والسيطرة علينا ، وتحطيم كياننا القومي والروحي» ، «وكانت التقاليد العلمية في الأزهر أساسا للنظام الجامعي ، والتقاليد الجامعية في كل بلاد الدنيا ، فهو أقدم جامعة في العالم ، وإن لم يكن اسمه بين أسماء جامعاتنا».

(ومن علم الأزهر شع نور الإسلام في بلاد كثيرة من أفريقيا ، ومن آسيا ، وأزداد عدد المسلمين عشرات الملايين ، وكانت بعوث الأمم المختلفة إلى الأزهر سببا لتوثيق علاقاتنا ببلاد كثيرة ، وشعوب كثيرة منذ أقدم العصور إلى اليوم ، وقد اكتسب اسم الأزهر بذلك قدسية ، واكتسب المنتسبون إليه احتراما ، وصار رأيه هو الرأي في كل ما يتعلق بالعقيدة والشريعة ، وصار هو الجامعة الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب ، لا يطلب أحد علوم الإسلام إلا عن طريق الأزهر ، ولا تتجه قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى معهد يفد إليه أولادهم للتزود من أسباب المعرفة غير الأزهر .... الخ).

ثم تناولت المذكرة بالتفصيل المبادىء التي تحقق ما يهدف إليه القانون من إصلاح الأزهر حتى يعود إليه شبابه ، وترتفع مكانته ، وينهض برسالته في الداخل والخارج ويصبح ابن الأزهر قادرا على المشاركة بدور إيجابي نافع لمجتمعه خاصة ، والمجتمع الإسلامي عامة ، «وحتى يتوافر للأمة نوع من الخبرات التي تملك إلى جانب العقيدة الواعية كفاية عملية ومهنية وعلمية ، تشارك في مجالات العلم والإنتاج في نفس الوقت الذي تدعو فيه إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة».

فالأزهر اليوم سيد جامعات الإسلام دون منازع ، وإليه يرجع الفضل في صيانة الثقافة الإسلامية العربية في ظلمات العصر التركي العثماني بمصر ، وفي مقدور الأزهر اليوم أن يشق طريقه في ظل هذا التطوير ، وتلك الرعاية التي تظله بها الدولة ليؤدي إلى العالم الإسلامي أعظم الخدمات ،


ويضيف إلى مآثره القديمة مجدا جديدا إذا جدد نفسه ، وفهم رسالة الإسلام العلمية كما كان يفهمها سلفنا العظيم ، حتى تتأكد زعامته ، وتتألق مشاعل المعرفة من أرجائه ، حتى يعم نورها أرجاء المعمورة ، ذلك ما نرجوه ، والله ولي التوفيق.



بين الأزهر وجامعة القرويين

هناك التشابه بين الأزهر الذي قام بالقاهرة وجامع القرويين الذي قام بفاس في نقطة البداية. كل منهما قام على أنه مسجد ، ثم أصبح بعد ذلك مسجدا جامعا لفترة من الفترات ، ثم مقرا للدراسات الإسلامية والعربية.

وعند ما صار كل منهما مقرا للدراسات الإسلامية والعربية تناولت الدراسة فيهما جميع فروع المعرفة المختلفة التي يتكون منها التراث الإسلامي والعربي.

فبجانب علوم اللغة والفقه وعلوم التفسير والحديث والعلوم الأخرى الدينية كانت الطبيعة وكان الطب وكانت الرياضة وكانت الفلسفة ، كل منها يكون جانبا من جوانب فروع المعرفة التي عنى بها الأزهر وجامع القرويين. وكان لكل فرع من هذه الفروع علماء مبرزون هنا وهناك يرحل إليهم طلاب العلم ويقيمون لديهم فترة طويلة أو قصيرة للتلمذة عليهم في موضوع المعرفة والتعرف على منهجهم في البحث. وكان من أشهر العلماء في الأزهر الأئمة العلماء : ابن الحاجب ، وخليل والخرشي ، والزرقاني ، والعدوي ، والدرديري ، والأمير ، والبناني ، وابن السبكي ، وجلال الدين المحلي ، والسيوطي ، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، وابن حجر ، والعيني ،


والأسنوي ، والأشموني ، والصبان ، والملوي ، وابن الهيثم الذي وضع الأسس العلمية لنظريات نيوتن في علم الطبيعة. وكان من أشهرهم في القرويين : الأئمة العلماء الحافظ أحمد بن علي بن قاسم الزقاق ، والمفتي محمد بن قاسم القصار ، والفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الصنهاجي ، والمتكلم أبو عمرو السلالجي وهو من طبقة أبي المعالي الجويني في الشرق ، والمحدث ابن رشيد السبتي والحافظ أبو العلاء العراقي ، واللغوي ابن زاكور ، والرياضي ابن البناء المراكشي ، والطبيب أبو القاسم الوزير

وكان هناك تشابه بين الأزهر وجامع القرويين في طريقة الدرس وفي منهاج البحث : فكانت هناك الحلقة ، وكانت هناك المناقشة ، وكانت هناك المحاضرة والتعقيب عليها ، وكان أسلوب الدراسة في واقع أمره أسلوبا لتربية العقل ، وتخطيط طريق التفكير والوصول إلى الحق في ذاته. وما كان للجامع الأزهر ولجامع القرويين من أسلوب في البحث إذ ذاك هو ما للجامعات المعاصرة اليوم في منهج البحث.

وهناك التشابه فيما طرأ على التعليم في كل منهما من تغيير وما أصابه من تقلبات ، تبعا للعهود السياسية التي مرت على كل من القاهرة وفاس : فنجد تشابها في طابع التعليم أيام أن حكم الفاطميون في مصر والأدارسة في المغرب ، وتشابها في طابع التعليم أيام حكم الأيوبيون بمصر والموحدون بالمغرب. كما نجد تشابها في إطار المعرفة نفسه : اتسع فترة فشمل جميع الفروع المختلفة التي يضمها اسم التراث الإسلامي والعربي ، وضاق في فترة أخرى فلم يشمل علوم الرياضة والطبيعة والطب والفلسفة.

وهناك تشابه كذلك بين الأزهر والقرويين فيما مر على التعليم في كل منهما من مراحل الإصلاح والتطور : سواء في طريقة التعليم أو في نظام الاختبار أو في تعدد المراحل أو في منهاج المواد ، أو في تغيير الكتاب : فقسمت مراحل التعليم في كل منهما إلى ثلاث ، وأخذ بنظام المحاضرة


بجانب نظام الحلقة في طريقة التدريس ، ورتبت كتب التعليم على حسب ما بينها من اختلاف في الحجم وفي أسلوب التعبير ، وعلى أية حال لم ينتقل التعليم في كل منهما طفرة ليساير الوضع الغربي سواء بسواء بسبب ما لكل منهما من طابع المحافظة على ما ورثناه من تراث روحي وفكري وعلمي ، وما لهما من طابع التمسك بالقيم التي خلفها آباؤنا في حياتنا وتوارثناها جيلا بعد جيل. وربما كان لهذا الطابع الذي للأزهر وجامع القرويين على السواء دخل كبير في مقاومة الغزو الفكري ، والغزو السياسي والاقتصادي للوطن العربي.

ويسوقنا من أجل ذلك الحديث عن وجه التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في موقف كل منهما تجاه المستعمرين الغازين ، وفيما قام به كل منهما من حمل راية الجهاد والكفاح ضد المستعمر الأجنبي ، وفيما أصاب كلا منهما من نقمة المستعمر وعنته ، وفيما سببه المستعمر لحملة التراث الإسلامي والعربي في كل منهما من أذى وأضرار مادية وأدبية في المجتمع العربي الخاص والعام ، وفيما ضيقه من خناق على هؤلاء وأقامه من عقبات في سبيل سعيهم في الحياة ، وفي الحصول على وضع في المجتمع يجعل منهم مواطنين لهم ما لمواطنيهم الآخرين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات.

وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في حفظ التراث الإسلامي والعربي وصيانته من التبديد والضياع ، فلم تفتر عناية كل منهما عن رعاية حفظ القرآن الكريم ودرسه وتفهم معانيه ولم تفتر رعاية كل منهما عن نقل ما كان للأولين العرب والمسلمين إلى خلفائهم من بعد جيلا بعد جيل من أفهام في القرآن ، ومن حلول لمشاكل الحياة ومن معارف كانت تدور في محيطهم الثقافي. وقد كانت صدور علماء وطلاب كل من الأزهر وجامع القرويين مقرا للقرآن الكريم ، وكانت عقولهم مرجعا لتفكير المسلمين ، وكانت


ألسنتهم تنطق بأسلوب كتاب الله ، وهو الأسلوب العربي المبين ، فحفظوا القرآن من التحريف ، وحفظوا التفكير من الضياع.

وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في تأثر الأزهر بعلماء بغداد الذين وفدوا في عهد المماليك إلى القاهرة في سنة ٦٥٦ ه‍ بعد سقوط بغداد ، وفي تأثر القرويين بعلماء الأندلس الذين وفدوا إلى المغرب بعد سقوط الأندلس في القرن الرابع عشر الميلادي.

وهناك التشابه في حركة الإصلاح القوية التي قام بها محمد عبده في الأزهر في نهاية القرن التاسع عشر والشيخ أبو شعيب الدكالي في القرويين في أوائل القرن العشرين.

وهناك التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في تربية الحماس القومي ، وننمية الروح الوطني ، والقيام بالحركات المعبرة عن سخط الوطن وتكوين الرأي العام ، والدفع إلى بقائه في النضال بين الدخلاء الغاضبين وبين أصحاب الوطن المعتدي عليهم.

كل هذه الأوجه من التشابه بين الأزهر وجامع القرويين تجعل لجامع القرويين في القاهرة صدى قويا لا يتضاءل ولا يضعف مهما فرق الاستعمار فيما مضى بين أجزاء الوطن الواحد ومهما حاول بأساليبه المختلفة أن يضعف من الصلات الثقافية والترابط الروحي بين فاس والقاهرة ، ومهما حاول وبذل في وضع العقبات المادية والمعنوية في طريق لقاء العربي القاهري بالعربي المغربي.

وجامعة القرويين من أقدم جامعات العالم بعد الأزهر إذ أن مسجد القرويين لم يتحول إلى جامعة للتدريس إلا سنة ٥٣٨ ، أما الأزهر فقد هيىء لتدريس الفقه والعلوم في الرابع الأخير من القرن الرابع الهجري. وعلى ذلك تكون الجامعة الأزهرية أقدم جامعات العالم على الإطلاق. ويعزي إليها ـ وإلى شقيقتها : «الزيتونة» في تونس ، و «الأزهر الشريف» في


القاهرة ، أكبر الفضل في نشر الإسلام الحنيف والحفاظ على تعاليمه السمحة وحماية لغة القرآن وآدابها والعمل على إثرائها في جميع فروع المعرفة ... بالإضافة إلى ما قامت به هذه الجامعات الإسلامية الكبرى من تزويد شعوبنا العربية خلال مراحل تطورها بالقادة والعلماء والمرشدين الروحيين طوال القرون الماضية.

وتاريخ جامعة القرويين بالذات يرتبط أوثق ارتباط بتاريخ مدينه «فاس» التي كانت منذ إنشائها عاصمة للدولة المغربية في عهد الآدارسة ومن خلفهم إلى مستهل القرن الهجري الحالي ، حيث أخذ الاستعمار يتسلل إليها. وقد سارت هذه الجامعة في تاريخها الطويل العامر ، ككل كائن حي ، تنهض وتنمو آنا ، وتجمد وتتعثر آنا آخر ... ولكن الأمر الذي لا يمكن أن ينكره أحد عليها ، أنها ظلت ـ في كل الأحوال ـ تحمل علم الدراسات الإسلامية وما يتصل بها عن جدارة ، في هذا الجزء الهام من وطننا العربي الكبير. واستطاعت أن تثبت حقا أنها منارة الهدى والعرفان ، وأساس الارتكاز الروحي عند المسلمين كافة في المغرب العربي.

والفصول الأولى لقصة إنشاء القرويين ، تبدأ ـ كما يجمع المؤرخون ـ مع هجرة ثمانمائة عائلة أندلسية ، تبعتها هجرة ثلاثة آلاف عربي من القيروان بتونس ، إلى مدينة فاس ، واتخاذهم لها وطنا ثانيا في أوائل القرن الثالث للهجرة.

وقد استقر المغتربون من الأندلس في شرقي المدينة بضاحية عرفت فيما بعد ، باسم «عدوة الأندلسيين». أما المغتربون من القيروان ، فقد استقر بهم المقام في الجهة المقابلة بضاحية على الضفة اليسرى كانت تسكنها القبائل ، وسميت أيضا باسم «عدوة القرويين».

وكان بين المغتربين التونسيين رجل ورع ، يعيش في بسطة من الرزق بسبب ما حمله معه من المال ، هو «محمد بن عبد الله الفهري


القيرواني». وقد توفى عقب فترة وجيزة من وصوله إلى فاس. وخلف ثروة طائلة لابنته «فاطمة أم البنين» وشقيقتها «مريم».

وعقدت الشقيقتان العزم على إنفاق جزء كبير مما ورثتاه عن أبيهما في بناء مسجد يخلد اسم أسرتهما واسم البلاد التي نزحتا منها. وكان من أهم الدوافع لهما على ذلك علمهما بحاجة الناس الملحة في كل «عدوة» من فاس إلى مساجد يؤدون فيها الصلاة ، نظرا لضيق المسجدين القديمين القائمين فيها بالناس.

ولم يطل تفكير الشقيقتين ، فشرعت «مريم» في بناء مسجد «الأندلس» في شرق المدينة. وبدأت «فاطمة» في بناء مسجد «القرويين» في جنوبها. وكان ذلك في يوم سبت ـ وهو يصادف غرة رمضان من سنة ٢٤٥ الموافق ٣٠ نوفمبر من سنة ٨٥٩ وهو المسجد الذي عرف بعد ذلك باسم «جامعة القرويين».

ولقد كانت الطريقة التي سلكها البناءون في البناء أنهم التزموا أن يأخذوا كل حاجاتهم من الرمال والحجارة من نفس البقعة دون غيرها. كما أنهم عثروا على عين ماء غزيرة تجاور الموقع الذي اختير لإقامة المسجد. وكان ذلك كله تحريا من المشرفين على البناء كي لا تدخل في بناء المسجد شبهة ـ على ما يقول «ابن أبي زرع» في كتاب «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى». وظلت «فاطمة» صائمة منذ أن شرع في بنائه ، إلى أن تم واكتمل وأقيمت فيه الصلاة.

وقرويين الأمس ، ليست هي قرويين اليوم ... إذ لم تكن القرويين عند نشأتها الأولى ، تشتمل إلا على أربع صحون وعلى محراب وفناء غرست فيه بعض الأشجار .. وحينما بنيت لم تكن بها حلقات للدرس كما أصبحت فيما بعد ، بل كانت مجرد مسجد يحضره الناس الذين يؤدون فيه صلاة الجمعة ، وكانت الفكرة في إنشائها ـ كما يروي «أبو الحسن علي


الجزنائي» في كتابه «زهرة الآس في بناء مدينة فاس» ـ هي ضيق المساجد التي يصلي فيها أهل العدوة وافتقارهم إلى مسجد جامع يلم شعثهم ويجمع شملهم وتلقى من فوق منبره الخطبة الرسمية.

ولقد تطلب تزايد عدد السكان واتساع نطاق المدينة إدخال إصلاحات جمة على مباني القرويين القديمة واستحداث مبان وصحون جديدة ألحقت بها ... فلم يكد ينقضي إلا نحو قرن حتى أصبحت مساحتها أربعة أضعاف ما كانت عليه بعد بنائها. كما ذكر مؤلف كتاب «القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ فاس».

وكان من أوائل الذين لهم فضل السبق في إدخال هذه الإصلاحات على مسجد القرويين الخليفة عبد الرحمن الأموي الذي أسهم بمال كثير في تجديده ، وكان شديد الشغف بالمباني والمنشآت ، وكذلك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين ، وغيرهما من الأمراء الذين عملوا على توسعة رقعته بشراء الأملاك والأراضي المجاورة له وضمها إلى القرويين ، حتى صار أعظم مسجد في أفريقيا الشمالية. وبدأت مع حلول سنة ٥٣٨ هجرية ، تعقد فيه حلقات التدريس في علوم الفقه والشريعة على أيدي علماء أجلاء وفدوا من القيروان ونقلوا معهم جل العلوم الدينية ، وإليهم يعزى الفضل في تحقيق هذه الخطوة التي تأخرت قرنين أو يزيد!

وتدور عجلة الأيام دوراتها السريعة ويزداد ازدهار القرويين في عهد المرابطين الذين بنوا فيها للعلم أمجادا وصروحا شامخة خلدها التاريخ. واستطاعت الجامعة أن تخرج عظماء وعلماء أحالوا المغرب في مدى قصير من «دويلة» كانت تتهاوى من الضعف ، وأمة يشيع فيها التأخر والجهالة ، إلى دولة يحكمها دستور السماء الكريم الذي أنزل على محمد عليه السلام.

وظلت القرويين معهد دراسة وعلم ، وتخرج فيها ملايين من المغاربة


في أجيال مختلفة. وظلت على مر القرون حصنا للعروبة والإسلام. واجتذبت شهرتها التي طبقت الآفاق عددا كبيرا من العلماء الأجانب من أنحاء أوروبا ومنهم الرحالة «جريريتا» والبابا «سلفستر» الذي نقل الأرقام العربية إلى الغرب ، كما نقل نظريات الفقه الإسلامي واستخدمها في تطوير القانون الروماني ، وكثير غيرهم من العلماء الأوروبيين الذين توافدوا على مر السنين ـ على القرويين ـ للإفادة من خزانتها التاريخية المملوءة بالمؤلفات والكتب والمخطوطات النفيسة النادرة ، في مختلف فروع العلوم والمعرفة ، وأطلعوا العالم بعد عودتهم إلى بلادهم على الحضارة التي تغمر البلاد الإفريقية والمغرب العربي بنوع خاص!.

ولعل أزهر عهد تحقق فيه للقرويين ما كانت تصبو إليه من أسباب النمو والتقدم ، كان عهد السلطان «أبي عنان المريني» ففيه أنشأت الجامعة أضخم مكتبة مزودة بالمخطوطات النادرة ، وشيدت مساكن خاصة للطلاب الذين يردون عليها من أطراف البلاد ، كما أجرى السلطان عليهم «جرايات» شهرية تكفيهم ليتفرغوا لطلب العلم ... كما كان للعلماء دور خاصة لسكناهم ، وخدم معينون يوفرون لهم كل وسائل الراحة حتى يستطيعوا التوفر على أداء رسالتهم نحو طلابهم على أكمل وجه.

وكان علماء القرويين من أغنى طبقات الشعب ، بسبب ما كان يسبغه عليهم الملوك من الهدايا وما يجرونه عليهم من الرواتب الضخمة!.

واستمرت جامعة القرويين تقوم بواجبها ، في حرية تامة ... إلى أن ابتلى المغرب بالاستعمار الفرنسي ، وأوجس الفرنسيون منها خيفة ... أرادوا في مبدأ الأمر أن يوصدوا أبوابها أمام الطلاب ، أو يحددوا عددهم ، زاعمين أن في ذلك ترقية للبلاد ... ولكنهم اصطدموا بمعارضة شديدة ... إذ فطن «المولى يوسف» الجالس على عرش البلاد لغرض المستعمرين من ذلك .. وأدى الصراع بينه وبينهم إلى انتباه جماعة من


العلماء واتجاههم إلى بعث الحركة السلفية ومحاربة الجمود ، وتطوير الدراسات لتساير روح العصر .. وكانت الخطوة الإيجابية لتحقيق ذلك الغرض ، عند ما عين جلالة الملك محمد الخامس في سنة ١٩٣٧ ، الأستاذ «محمد الفاسي» ، وهو من علماء القرويين ، ومن الذين استكملوا دراستهم في جامعة باريس ، مديرا للقرويين فأدخل العلوم العصرية واللغات الأجنبية في مناهج التعليم ، إلى جانب المواد الدينية ، كما أنشأ قسما خاصا بالقرويين لتعليم الفتيات ، وقد تخرجت فيه إلى الآن عشرات منهن يحملن شهادة «العالمية»!.

ويزدان تاريخ الحركة الوطنية في المغرب بأنصع الصفحات التي سجلها كفاح علماء القرويين وطلابها ضد القوى الاستعمارية ... ودورها في تحرير المغرب يماثل تماما دور الأزهر الشريف في ثورة سنة ١٩١٩ وما بعدها ...

وأصبحت اليوم تضم ألافا من الطلاب ، فضلا عن فروعها التي تتمثل في المعاهد الدينية المنتشرة في أنحاء المغرب ، سواء في «تطوان» أو «طنجة» أو «مراكش» أو منطقة «سوس».



بين الزيتونة والأزهر

الزيتونة أزهر تونس ، والزيتونيون أزهريون كما يقول الزيتونيون أنفسهم اعتزازا بالأزهر وكما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وأنفاس من الأزهر ما تزال تسري وتداخل جسم الزيتونة ، وأخرى من الزيتونة ما تزال ترجع على الأزهر (١).

وجامع الزيتونة أقيم في أوائل القرن الثاني للهجرة على يد بانيه عبيد الله بن الحبحاب السلولي ، وقد كان واليا على مصر ، ومنها قدم إلى تونس ، بعد أن استخلف ابنه أبا القاسم على مصر (٢) ـ وكانت مدينة الفسطاط ، دار ابن الحبحاب ، وجامعها ، جامع عمرو ، الذي هو أبو الجامع الأزهر ، قد كان ابن الحبحاب إمام محرابه ، وخطيب منبره ، فلا ضير أن ابن الحبحاب كان واقفا على تخطيط جامع الزيتونة بتونس ، وفي ذهنه صورة جامع الفسطاط ، وفي قلبه حنين إليه ، واهتمام به ، وحنين واهتمام بابنه أبي القاسم ، وقد خلفه فيه.

وكانت صحبة علي بن زياد التونسي لليث بن سعد ، وروايته عنه

__________________

(١) ص ٨٥ التوجيه الاجتماعي في الإسلام ـ من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية.

(٢) ابن خلدون ١٨٩ ج ٤ بولاق.


بمصر ، ثم انتصابه بجامع الزيتونة محدثا ومدرسا في منتصف القرن الثاني (١) حلقة أولى في سلسلة من الاتصالات العلمية ، ظهرت في مصر القديمة ثم امتدت إلى القاهرة وأزهرها ، وارتبطت بها حلقات كان منها ما هو واضح إشعاعا ، وأتم ظهورا. فالإمام سحنون : عبد السلام بن سعيد التنوخي (٢) ، والقاضي أسد بن الفرات ، بعد أن تخرجا بابن زياد في تونس بجامع الزيتونة ، قد شدا الرحلة إلى مصر. فأخذا عن ابن القاسم ، وأشهب ، وابن وهب ، وابن الحكم ، وتكونت بذلك المدونة ، فكانت أصل المذهب المالكي ، وانعكست الرحلة من القيروان على مصر ، وتتابع العلماء من تونس والقيروان وغيرهما من البلاد الإفريقية ، على الرحلة إلى مصر يسمعون ويهتفون ، مثل : عبد الله بن أحمد التميمي ، نسيب بني الأغلب ، وحمد يس الأشعري ، والقاضي عيسى بن مسكين ، وجبلة بن حمود ، وغيرهم من أهل القرن الثالث الذين أخذوا في مصر عن بني عبد الحكم ، ويونس بن عبد الأعلى ، وابن المواز ، على ما فصله القاضي عياض في «المدارك» ومن بعده في كتب الطبقات.

وقامت الدولة العبيدية في أواخر القرن الثالث ، وكان الاتصال بين علماء تونس وعلماء مصر ، مقويا أهل السنة ، ولا سيما المالكية بتونس وبمصر ، وبدأ العبيديون يحاولون إغراء العلماء بموالاتهم.

نقل عياض في المدارك عن أبي الحسن القابسي : «أن المعز الفاطمي أرسل قبل دخوله مصر إلى أبي إسحاق بن شعبان صلة من مائة مثقال وكتابا ، فقرض ابن شعبان من الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم» وأحرق باقيه في الشمعة أمام الرسول. ورد المائة عليه.

__________________

(١) الديباج لابن فرحون ص ١٩٢ ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي ص ٣٧.

(٢) الديباج ٩٨ و ١٦٠.


وجاء القرن الرابع : قرن أبي عثمان الحداد (١) وابن أبي زيد (٢) والجبلياني (٣) والقابسي (٤) وابن شبلون (٥) وربيع القطان (٦) وتأكدت الصلات بين مصر وتونس والقيروان بما كان بين ابن شعبان وابن أبي زيد ، وبين التلباني المصري (٧) وأبي الحسن القابسي وبين أبي بكر الحويكي (٨) وأبي الحسن القابسي أيضا ، والتهبت نار الثورة بمدينة تونس ، على العبيدين ، وعلى أمير القيروان باديس الصنهاجي لموالاته إياهم وطاعتهم ، وتولى أمر أهل تونس في ذلك صالح المدينة وعالمها وعابدها الشيخ محرز بن خلف الصديقي (٩) فكان لفقهاء مصر في وجه بني عبيد مثل ما كان لفقهاء تونس والقيروان ، وأصبح القول المتردد على ألسنة المتفقهين في حلق جامع الزيتونة وجامع القيروان وجامع الفسطاط قولا متصادقا متجاوبا وكان بعضه صدى لبعض ، فكانت حلقات أبي بكر بن نصر ، أبي الذكر التمار ، وأخيه مؤمل وابن الأسواني ، وابن أبي حجرة القرطبي. في جامع الفسطاط بمصر القديمة ، وقد ذكرها عياض في الطبقة الخامسة ، صورة من حلقات أبي عثمان الحداد بالقيروان والشيخ محرز بن خلف والشيخ معاوية بن عتيق بتونس. وهكذا امتدت فكرة مقاومة الدعوة العبيدية ، والامتناع عن مطاوعتها ، من المغرب إلى المشرق ، حتى بلغت البلاد الشامية.

ذكر عياض في المدارك ترجمة أبي بكر النابلسي ، شهيد مصر سنة

__________________

(١) ترجمته في المدارك من أهل أفريقيا من الطبقة الرابعة وفي أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي.

(٢) المدارك أهل أفريقيا من الطبقة السادسة والديباج ص ١٣٦ ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي.

(٣) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السادسة والديباج ص ٨٦ ط السعادة.

(٤) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السابعة والديباج ص ١٩٩ السعادة.

(٥) الديباج ص ١٥٨ ط السعادة.

(٦) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الخامسة وشجرة النور ١٦١.

(٧) المدارك أهل مصر من الطبقة الخامسة.

(٨) المرجع السابق.

(٩) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الثامنة.


٣٦٤ ه‍ : «كان شديدا على بني عبيد حين ملكوا مصر والشام ذامّا لهم ، منفرا العامة منهم ، قاليا لهم ، ونقل عن الرقيق أن أبا بكر «كان يفتي في المحافل باستحلال دم من أتى من المغرب ، ويستنفر الناس لقتالهم». يريد بني عبيد ، ثم قال عياض : «وإنما سلك في هذا مسلك شيوخ القيروان في خروجهم عليهم ... ولم يستقر للفاطميين بسبب ذلك قرار ، ففرضت ثورة تونس على خليفتهم المعز بن باديس الصنهاجي أن ينقض طاعتهم حتى فعل (١) وتتابعت مظاهر التمرد عليهم ، والاستخفاف بهم في مصر من ولاية العزيز بن المعز الفاطمي (٢) ثم ولاية الحاكم واغتياله (٣) بعد أن أعلن الرضوخ لقوة الأمة في الدفاع عن عقيدتها ، وصلابتها في التمسك بسنتها فكتب سجله بما فيه ، وأتى اليوم بما يقتضيه ، يطوي ما كان فيما مضى ، فلا ينشر ، ويعرض عما انقضى ، فلا يذكر ، ولا يقبل على ما مر وأدبر ، من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية : أيام آبائنا (٤) ...» ثم كانت ولاية الظاهر الذي بدأت الدولة تتضعضع في مدته ، إلى أن انتهى حكمهم الحقيقي في ولاية المستنصر واستبداد بدر الجمالي بأمرهم ، وتلاشى سيادتهم في ظلمة العدوان الصليبي (٥).

والروح التي كانت تعمر الزيتونة بتونس وجامع الفسطاط في مصر ، هي الروح التي ملأت الأزهر وإن كانت السلطة التي أمرت ببنائه نابية عن تلك الروح ؛ لنستنتج من ذلك كله : إن الإخاء قد كان تاما وثيقا بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر من يوم أنشىء الأزهر ، إخاء كان في الباطن والروح ، وإن لم يبد في الظاهر والشكل ، فيبقى الأزهر وفيا لروح العابدين العاكفين فيه ، مزورّا عن روح الحاكمين المباهين به.

__________________

(١) المؤنس لابن أبي دينار ص ٦٥ ط تونس الأولى.

(٢) خطط المقريزي ص ١٦٧ ج ٢ وما بعدها ط المليجي بالقاهرة.

(٣) المقريزي ج ٤ من ص ٦٨ حتى ص ٧٤ المليجي القاهرة.

(٤) ابن خلدون ص ٦٠ ج ٤ بولاق.

(٥) المقريزي ج ٤ ص ٤٩ ، ص ١٩٣ ط المليجي.


وكذلك أقام بنو عبيد بالقاهرة ما أقاموا ، وزال ملكهم عنها بعد استقراره فيها مائتي سنة وخمس سنين من دخول المعز إليها سنة ٣٦٢ ه‍ إلى وفاة العاضد سنة ٥٦٧ ه‍ فبقيت القاهرة بعدهم ، وبقي جامعها الأزهري كما قال أبو العلاء :

تفنى الملوك ومصر بعد فقدهم

مصر على العهد والإحساء إحساء

وقام حكم السلطان صلاح الدين ، وعاد التواصل والامتزاج بين الأزهر وجامع الزيتونة ، وأنشئت المدارس الصلاحية والخوانق ، وانتظمت الدراسة العلمية على الخطة الجامعة بين السنة والكلام والفقه والتصوف ، وهي الخطة التي درج عليها ، منذ القرن الرابع ، الأشعري ، والماتريدي ، والباقلاني ، وإمام الحرمين ، والقشيري : يجمعون بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والجنيدي ، وهي التي برزت واضحة مستعلنة في حكمة الغزالي وبخاصة في كتابه «إحياء علوم الدين».

وكانت المدارس التي أنشأها صلاح الدين في مصر على مثال المدرسة النظامية في بغداد ، والمدارس التي أنشأها الملك العادل نور الدين في دمشق. أما الذي أنشأه العبيديون بمصر فلم يكن يعدو مجالس مرتبة في الجامع الأزهر وجامع الفسطاط ، وكان يظلها حكم الدولة ، ويتحين لها اجتماع الناس يوم الجمعة (١) فعمرت المدارس ، وتوافر فيها الشيوخ والطلاب ، وانتظمت حلق العلم في جامع الفسطاط ، وشاع الفقه على المذاهب الأربعة ، وسارت الدراسة في العلوم على المناهج المتصلة بتلك المذاهب.

ولكن الجامع الأزهر قد اعتراه انطواء امتد إلى أواسط القرن السابع ، فلم يكن لهذه الحركة العلمية فيه مجال. وطال كسوف الأزهر قرنا كاملا ، إذ لم تقم فيه الجمعة إلا سنة ٧٦٥ ه‍ أيام الملك الظاهر بيبرس وبدأ من

__________________

(١) المقريزي ج ٤ ص ٤ ، ص ١٩٣ المليجي.


يومئذ يستعيد مجده ، حتى انتظم أمره ، وعلا شأنه في منتصف القرن الثامن على يد الأمير بشير الجامدار في عهد الناصر بن قلاوون (١).

أما في تونس ففي نحو عام ٤٤١ ه‍ جاء خطاب الخليفة العباسي من بغداد بتقليد المعز بن باديس ولاية أفريقية (٢). وأعقب ذلك زحف العرب الهلالية ، فسقطت القيروان ، وخربت ، وجلا عنها المعز وآوى إلى المدينة. وانتشر الاضطراب في البلاد ، وقامت إمارات الطوائف : في صفاقس ، وسوسة ، وقابس ، وقفصة ، وبنزرت ، وطبرقة ، والكفاف ، وغيرها ، أما مدينة تونس فقد خلعت طاعة المعز ، وقرر أهلها الانضمام إلى ملك الفرع الصنهاجي الآخر الدي كانت عاصمته قلعة بني حماد ، جنوبي بجاية ، فتوجه وفد من مشيخة مدينة تونس إلى بجاية ، ولقوا ملكها الناصر بن حماد ، فولى بإشاراتهم على مدينة تونس أحد أبنائها وهو عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان (٣) فقامت به في تونس دولة أساسها الشورى ، وعمادها إسناد الأمر إلى أهل المدينة ؛ لتدبير حمايتها من هجمات القبائل ، ومن غزوات الولاة. وعظم شأن بني خراسان ، وسما مظهر ملكهم بتونس ، وكان لعلمائها عندهم منزلة مرعية. فكان أهل تونس وبخاصة علماؤها ، وهم أهل جامع الزيتونة ، في منعة وظهور أمر ، إلى أن مضى الثلث الأول من القرن السادس ، إذ امتدت إليهم يد أمير بجاية ، ثم كانت الطامة الكبرى باحتلال النصارى الترمانديين أصحاب صقلية السواحل الشرقية للبلاد الأفريقية ، فتحركت الثورة من جديد ، للاستعداد لمقاومة الاحتلال الأجنبي ، وانعكست روح الثورة على المدينة ، فتقاتل ربضاها : الجنوبي ربض باب الجزيرة ، والشمالي ربض باب السويقة إلى أن دخلها عبد المؤمن بن علي سنة ٥٥٢ ه‍ ، ثم استنقذ جميع البلاد الساحلية من

__________________

(١) المقريزي أيضا ج ٤ ص ٥٣.

(٢) ابن خلدون ص ١٥٩ ج ٦ بولاق.

(٣) ابن خلدون ج ٦ ص ١٦٥ وما بعدها بولاق.


المغيرين الإفرنج ، واستنقذ بقية البلاد من أمراء الطوائف ، ووحد البلاد المغربية كلها في ملكه الذي امتد من الأندلس إلى حدود برقة (١).

وفي صدر القرن السابع كانت البلاد الإفريقية قد ازدهرت برد غارات الإفرانج النرمانديين ، وصارت تونس عاصمة البلاد باستقرار الدولة الحفصية وصارت حلق الوعظ والتعليم القائمة بجامع الزيتونة مزدهرة وكذلك كان شأن مدينة القاهرة قبل ذلك بخمسين سنة تقريبا. لما ردت عنها الغارات الصليبية ، وقامت فيها الدولة الأيوبية ، وصارت الحلق في الجامع الأزهر لا تختلف عن الحلق التي يقبلون عليها في جامع الفسطاط : كلها حلق سنية ، لا شائبة فيها للأهواء ، ترعاها الدولة ، ويغشاها الناس غير مكرهين ، ولا وجلين. إلا أن هذا المعنى لم يظهر ظهوره التام في الجامع الأزهر ، وإن ظهر حواليه ، فلم يظهر في الأزهر بذاته إلا في منتصف القرن السابع لما جددت عمارته ، وأقيمت فيه الجمعة على مذهب أهل السنة والجماعة ، ورتبت فيه دروس الحديث والفقه (٢).

فجامع الزيتونة لما قام الأزهر في منتصف القرن السابع برسالته العلمية السنية ، قد كان قائما على تلك الرسالة نفسها ، شديد الساعد في الاضطلاع بها فالتحمت بذلك الصلات بين الجامعين ، وزاد في تأكيد اللحمة تشابه المناهج العلمية ، وتقارب الأساليب التدريسية ، والاتحاد في أكثر مواد الدراسة ، والتفاضل المطرد بين شيوخ المعهدين : أخذا وعطاء.

فالمذهب المالكي بعد أن انقطع علماؤه من الديار المصرية ، في أواخر القرن الرابع تحت حكم الفاطميين ، بدأ يعاود منزلته في أواخر القرن السادس (٣) بمن رحل إلى مصر من الأفارقة والأندلسيين والصقليين الذين رفعوا لواء المذهب المالكي فيها من جديد ، مثل أبي محمد التونسي

__________________

(١) ص ١٦٣ نفس الجزء.

(٢) المقريزي ص ٥٢ ج ٤ ط المليجي.

(٣) شجرة النور ص ٩٣.


ومحمد بن الفرح القروي الطليلي ـ وقد ذكرهما عياض في المدارك ، ومثل أبي بكر الطرطوشي (١) محمد بن مسلم الصقلي المازري (٢) وابن الحكار العقلي (٣) وغيرهم. فشاعت بذلك الكتب المغربية ، ومناهج الدراسة الأفريقية والأندلسية ، مثل المدونة ، وتهذيبها ، وكتب ابن أبي زيد ، وكتب أبي الوليد الباجي ، وانبعثت في أصول الدين وأصول الفقه طريقة الأشعري ، والباقلاني وإمام الحرمين ، والغزالي ، والمازري ، وتوصلت بذلك المذاهب السنية ولا سيما المذهبان المالكي والشافعي وكان لشيوع دعوة الغزالي إلى وصل التصوف بعلوم الشريعة ، أثرها في تقريب المحدثين والفقهاء والمتكلمين من الصوفية ، وتأثر هؤلاء بهؤلاء ، تأثرا ظهر في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشر في المغرب كله بأبي مدين وأصحابه ، ثم تأصل بتونس في طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي التي أوصلها هو أصحابه إلى مصر ، وعم انتشارها من تونس ومن مصر غربا وشرقا.

فهذه الأسس هي التي كانت قوام طريقة التخرج في مصر وتونس على السواء ، عليها مضى القرن السادس ، وعليها سار القرن السابع حتى منتصفه لما قامت الدراسة في الجامع الأزهر ، واستمرت ـ عليها مناهج الدراسة في الأزهر بقية القرن السابع والقرون بعده.

فكانت الدراسات بالأزهر وبالزيتونة طيلة هذه القرون ، تسير على منهج واحد ، وتعتمد مادة من الكتب مشتركة ، وسندا من العلماء متحدا : فيهم المصريون ، وفيهم الأفارقة وفيهم غير المصريين وغير الأفارقة : من الأندلسيين والمغاربة ، أو من الشاميين والعراقيين والأعاجم وعلماء الروم.

__________________

(١) ترجمته في الديباج لابن فرحون ص ٢٧٦ ط السعادة وفي وفيات الأعيان لابن خلكان «محمد».

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج هامش الديباج ص ٢٧٧ ط السعادة.

(٣) من شراح المدونة ترجمته في شجرة النور الزكية رقم ١٢٥.


ففي فجر القرن السابع ظهرت المدارس بمصر (١) واتسع إليها نطاق التدريس بعد أن كان مقصورا على المساجد. وكان إنشاء المدارس الأولى بمصر في الفسطاط حول جامع عمرو. فهنالك أنشئت المدرسة الصلاحية ، والمدرسة القمحية فكان فيها مدارس أنشئت للفقهاء المالكية مثل القمحية ، وكانت الدراسة فيها بالاعتماد على أمهات المذهب المالكي المشهورة : من كتب العراقيين والأفريقيين والأندلسيين ، ومن بينها كتب ابن أبي زيد والقابسي والمازري وابن بشير وغيرهم من أبناء البلاء التونسية. يشهد لذلك ما ذكره ابن فرحون في الديباج في ترجمة أبي محمد ابن شاس (٢) المتوفى سنة ٦١٠ ه‍ أنه كان مدرسا بالمدرسة المجاورة للجامع العتيق ، مع ما ورد في كتاب الجواهر الثمينة لابن شاس من اعتماد على ابن أبي زيد ويسميه الشيخ ، وابن بشير ويسميه أبا الطاهر ، والمازري ويسميه الإمام أبا عبد الله ، زيادة على أمثال أبي الوليد الباجي ، وابن رشد ، وابن العربي ، من الأندلسيين وعبد الوهاب والأبهري ، وابن القصار ، من العراقيين.

فلما ظهرت المدارس بتونس في أوائل القرن السابع ، كانت الدروس فيها ، وفي حلق جامع الزيتونة ، سائرة على نفس ذلك المنهج ، ومعتمدة نفس تلك الدواوين. زيادة على ما كانت تتلافى فيه المناهج العلمية بين مصر وتونس ، في الفنون الأخرى غير الفقه المالكي ، من الحديث والأصول والتصوف ، وفنون العربية ، مما زاد له تأكد الصلات ، وقوة الامتزاج ، ورواج الأخذ والعطاء ، طردا وعكسا ، بين المركزين.

وظهر في ذلك القرن في مصر العلامة ابن دقيق العيد ، والإمام عز الدين بن عبد السلام والحافظ المنذري ، فصربت سمعتهم إلى تونس ، وأخذ عنهم من رجال الزيتونة مشاهير منهم أبو يحيى بن جماعة التونسي أخذ

__________________

(١) المقريزي ج ٤ ص ١٩١ وما بعدها.

(٢) الديباج ص ٤٠ السعادة بمصر.


عن ابن دقيق العيد (١) والقاضي أبو القاسم بن زيتون أخذ عن المنذري وعن عز الدين بن عبد السلام (٢) والقاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا أخذ عن عز الدين بن عبد السلام (٣) وظهر في تلك الحقبة بتونس الإمام النحوي أبو الحسن بن عصفور ، وظهر كتابه «المقرب» في النحو وكتابه «الممتع» في التصريف ، وغيرها من كتبه فطار صيتها إلى مصر ، وتلقاها عنه بتونس الشيخ أبو حيان ، فروجها في مصر والتزمها وهو الذي اختصر المقرب (٤) ووفد على مصر الإمام الصوفي الشهير أبو الحسن الشاذلي بطريقته التي كان قد أسسها بتونس من أواخر القرن السادس وفيها ربى أصحابه ، ولقن أحزابه وكان له مجلس بجامع الزيتونة ، ثم تردد هو بنفسه على مصر وأخذ عنه فيها وصارت الأسكندرية المركز الثاني لطريقته واستقر بها خليفته أبو العباس المرسي ، وعنه أخذها ابن عطاء الله وانتقل بها إلى مصر ، واشتهرت الطريقة الشاذلية في مصر ، وانتشرت منها انتشارها الشرقي كما انتشرت انتشارها الغربي من تونس (٥).

وكذلك استمر هذا التواصل بين القاهرة وتونس يزيد ثباتا وتوثقا بابن الحاجب ، والقرافي ، وابن جماعة ، إذ كان من الآخذين عليهم : ابن راشد ، أخذ عن القرافي (٦) وابن جابر الوادناشي ، أخذ عن ابن جماعة (٧) وناصر الدين الزواوي ، أخذ عن ابن الحاجب. الذي نشر مختصره الفرعي في أفريقيا والمغرب (٨) وإبراهيم التنسي المطماطي ، أخذ عن القرافي ..

__________________

(١) شجرة النور الزكية رقم ٧١٤.

(٢) الديباج ص ٩٩ ط السعادة القاهرة.

(٣) شجرة النور ٤٥.

(٤) ترجمة أبي حيان في بغية الوعاة للسيوطي (محمد بن يوسف) وكذلك ترجمة ابن عصفور (علي بن مؤمن).

(٥) الدكتور عبد الحليم محمود الإمام أبو الحسن الشاذلي وطريقته.

(٦) نيل الابتهاج هامش الديباج ص ٢٣٥ ط السعادة.

(٧) الديباج ص ٣١٢ ط السعادة.

(٨) شجرة النور ٧٦٤ وابن خلدون ص ٣٧٦ ج ١ بولاق.


وقابل ظهور هؤلاء بمصر أن ظهر بتونس أمثال ابن هارون الطائي ، وابن الغماز ، والتجاني وابن هارون الكناني ، وابن عبد السلام ، فاعتمدوا كتب المصريين ورووا عنهم ، ورووا عن المتخرجين بهم ، مثل ابن زيتون ، وابن راشد.

وكان ، في القرن السابع ، والذي بعده ، للرحالين المشاهير ، الذين رحلوا من تونس إلى مصر أثر في إشاعة أسماء الأعلام من القطرين ، كل في القطر الآخر ونعني بهؤلاء أمثال ابن جابر الوادناشي ، صاحب الفهرس المفصل الممتع الذي يوجد مخطوطا بالأسكوريال ، جمع فيه تراجم شيوخه والكتب التي أخذها عنهم ، وأسانيدهم في تلك الكتب إلى مؤلفها ، وبواسطته اتصل كثير من شيوخ مصر بالتونسيين ، كما اتصل كثير من شيوخ تونس بالمصريين من طريقه مباشرة أو بواسطة (١) ابن رشيد الفهري السبتي المتوفى بفاس سنة ٧٢١ ، صاحب الرحلة الشهيرة التي شملت الأندلس والمغرب الأقصى والقطر الجزائري والقطر التونسي ومصر والشام والحرمين الشريفين ، فاتسعت رواياته ، وكثرت لقاءاته ، وجمع أحاديث ذلك كله في رحلته الحافلة التي سماها «ملء العيبة بما جمع طول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» (٢) وقد جمع في مشايخه أعلاما من التونسيين : مثل ابن هارون الطائي وابن زيتون ، وأعلاما من المصريين : مثل الحافظ المنذري وابن دقيق العيد ، وتواصلت بواسطته أسانيد هؤلاء ، كما تلاقت فيه كثير من الأسانيد المغربية والأسانيد المشرقية ، وخالد البلوري الذي رحل أواسط القرن الثامن بعد أن أقام بتونس ، ودخل مصر ، وجمع من أخبار مشيخته في القطرين ، وأورد عنهم من فوائد العلوم ونكت

__________________

(١) ترجمته في الديباج ص ٣١١ ط السعادة.

(٢) ترجم له المقري في أزهار الرياض أثناء ترجمة ابن الحكيم في الكلام علي ابن خميس أواخر الروضة الأولى : روضة الورد ، وقال عن رحلته أنه جمع فيها من الفوائد الحديثة والفوائد الأدبية ، كل قريبة وغريبة ، وتوجد رحلة ابن رشيد منقوصة في الأسكوريال ويقوم على تحقيقها ودراستها وفهرستها ابنتا الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة.


الآداب ما طفحت به رحلته التي سماها «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» وتوجد منها نسخ عديدة في مصر وفي تونس وغيرهما ـ مراجع أيضا للمدرسين والقضاة والمفتين.

وفي القرن الثامن بلغ التواصل العلمي بين مصر وتونس أوجه ، فتأكد اشتراك المشيخات ، وتبادل الإفادة والاستفادة ، وتناقل التأليف والروايات ، واستمر ذلك ممتدا متسعا مغرقا في القرون الموالية. فكان ظهور الشيخ خليل بن إسحاق ، الفقيه المالكي ، في القرن الثامن ، وبروز شرحه على مختصر ابن الحاجب ، الذي سماه «التوضيح» ثم بروز مختصره الفقهي الجامع الذي نال إعجاب أهل المغرب ، ممكنا لمصر منزلتها عند فقهاء المالكية بتونس ، كما كان في كتاب التوضيح أثر ظاهر للمشيخة التونسية في اعتماده على شراح ابن الحاجب الزيتونيين : ابن عبد السلام وابن هارون ، وابن وليد (١) وفي المختصر أثر واضح لمتقدمي الفقهاء الأفارقة ، مثل : اللخمي ، وابن يونس ، والمطرزي ، وهم ثلاثة من الأربعة الذين بني على اختياراتهم مختصر خليل ، كما هو مبين في خطبته.

وما ظهر مختصر خليل حتى أقبل الناس عليه بالحفظ والدراسة ، وتعليق الشروح ورسخت مكانته في دراسات جامع الزيتونة ، رسوخا لم ينقطع بعد. وشرح مختصر خليل أول ما شرح ، في مصر : شرحه القاضي بهرام الدميري (٢) : شرحيه الكبير والصغير ، فاقترن الشرحان بالأصل في اتساع السعة ، حتى أصبح بهرام يلقب بين جميع الكاتبين على مختصر خليل ، من بعد ، بلقب «الشارح» ودرس المختصر بتونس وجميع البلاد المغربية ، فكان من أشهر من اعتنى به تدريسا وشرحا : العلامة ابن مرزوق الحفيد (٣) وهو تونسي زيتوني ، بالطلب والمجاورة والتدريس ، وتتابع عليه

__________________

(١) تراجمهم الثلاثة في شجرة النور ٧٢٢ ، ٧٣١ ، ٧٣٦.

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج ص ١٠١ هامش الديباج ط السعادة.

(٣) ترجمته في نيل الابتهاج أيضا ص ٢٩٣.


الشراح والدارسون والمعلقون من بعد ، فكان من أصول كتب الدراسة بجامع الزيتونة ، قرونا متتالية ، ومرجع القضاء والفتوى الذي لا محيد عنه وكان حفظه متنا عن ظهر قلب شائعا بين الطلبة. وصارت شروحه التي صنفت من بعد بمصر.

وقابل ظهور خليل بمصر ظهور شيخ الزيتونة وإمامها : ابن عرفة بتونس (١) واشتهاره بتحقيق الفقه المالكي ، نظرا ونقلا ، وتصنيفه المختصر الذي قال فيه الأبي : «ما وضع في الإسلام مثله لضبطه فيه المذهب مسائل وأقوالا مع زوائد مكملة والتنبيه على مواضع مشكلة وتعريف الحقائق الشرعية» : فكانت سمعة ابن عرفة وشهرة كتبه بالغة إلى مصر ، ثم كانت رحلته بنفسه ، وأخذ الكثيرين بمصر عنه ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، ورحلة طلبته من بعده ، وأخذهم عن المصريين ، وأخذ المصريين عنهم ، ذات أثر في وصل ما بين الطريقتين طريقة ابن عرفة ، وطريقة خليل ، وصلا ظهر بصورة جليلة في شرح ابن مرزوق على المختصر ، إذ كثيرا ما اعتمد في شرح كلام خليل على استظهارات ابن عرفة ، كما ظهر الاتصال بين الطريقتين أيضا في كتاب الشامل للشيخ بهرام ، كثيرا ما أشار إلى تحقيقات ابن عرفة ، كما نبه على ذلك شراحه (٢) ومن يومئذ أصبح لا يرى شرح لمختصر خليل ، ولا حاشية على شرح له ، إلا ومدار التحقيق على كلام ابن عرفة.

وهذا الذي حصل في الفقه المالكي ، في القرن الثامن ، من التواصل الأزهري الزيتوني قد حصل مثله أيضا في علوم العربية. فقد ظهر بمصر ، في ذلك القرن ، إمام العربية : أثير الدين أبو حيان ، وقد مر ذكر أخذه عن ابن عصفور بتونس ، وجمال الدين بن هشام ، فأظهرا في علم النحو آثارهما

__________________

(١) ترجمته في الديباج ص ٣٣٧ ونيل الابتهاج ص ٢٧٤ ط السعادة وفي نيل الابتهاج أخذ ابن حجر عنه بنقل تصريح ابن حجر بذلك في أنباء الغمر.

(٢) الكامل على الشامل للسخاوي مخطوط.


الجليلة جمعا وتحقيقا وحسن تصنيف فكانا فرسي رهان في خدمة العربية مواصلة لطريق ابن مالك ، واتقانا لأثره ، وكان ما بينهما. من كثرة المخالفة وتراد المباحث عتنا مع أبي حيان بابن عصفور ، يضع مباحث ابن عصفور بينهما على بساط المجادلة.

واختصت كتب ابن هشام بالإقبال عليها ، ولا سيما كتاب «مغنى اللبيب» فقد اشتهر وذاع صيته بالزيتونة منذ القرن الثامن ، في حياة مؤلفه الذي يقول ابن خلدون عنه (١) : «وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب فأتى من ذلك بشيء عجيب دل على قوة ملكته واطلاعه» فدخل «مغنى اللبيب» في كتب الدراسة بالزيتونة من أوائل القرن التاسع ، درسه الحفيد ابن مرزوق ، وكان قد تلقاه بمصر عن ابن المؤلف الشيخ محيى الدين بن هشام (٢) واشتهرت دراسة المغنى والاعتماد عليه ، وقد ألف الشيخ محمد الرصاع ، في منتصف القرن التاسع كتابه في ترتيب آي مغنى اللبيب ، فنوه فيه باشتهار كتب ابن هشام ، ولا سيما المغنى ، وتتابع العلماء على التسليم بعظيم قيمته من قديم ، كما صرح بما يشهد لرواج كتب أبي حيان ، وخصوصا تفسيره البحر المحيط ، والاعتناء بما في جامع الزيتونة واعتماد المدرسين عليه وعلى الزمخشري في تفسير القرآن (٣) وكان ذلك في الوقت الذي يدرس فيه المغنى بالجامع الأزهر : فقد ذكر بدر الدين الدماميني في حاشيته على المغنى ، المعروفة بالحواشي المصرية (٤) أنه قرأ المغنى بالأزهر في مدة مائة وثلاثين يوما سنة ٨١٢ ه‍.

__________________

(١) ص ٤٨١ ج ١ بولاق.

(٢) نيل الابتهاج ص ٢٩٧ هامش الديباج ط السعادة.

(٣) ذكر من ذلك بحثه مع شيخه ابن عقاب في درسه للتفسير سورة آل عمران قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والكتاب مخطوط.

(٤) مخطوط المكتبة العبدلية بتونس.


وكذلك كان القرن الثامن أيضا ظرفا للتواصل الأزهري الزيتوني في مجال العلوم العقلية والأدب فكانت شهرة آل السبكي ، بمصر ، حاملة أهل العلوم على الرغبة في الاتصال بهم ، والأخذ عنهم كما ترى ذلك في رحلة خالد البلوي ، وكانت شهرة ابن خلدون في تونس والمغرب ، ثم رحلته إلى مصر ، وتصدره للاقراء بالجامع الأزهر (١) مهيأة لأخذ أعلام الأزهر عنه مثل ابن حجر والمقريزي والأقفهسي ، وزائدة في ذيوع شهرته ؛ وشهرة الزيتونة ، وعلمائها بالمشرق.

وجاء القرن التاسع بأعلامه الذين علا بهم مجد الأزهر فكان للزيتونيين تطلع إليهم ، واتصال بهم ، فظهر الحافظ ابن حجر ، الذي أخذ عن ابن عرفة وابن خلدون ، فشدت إليه الرحلة من المشرق والمغرب وكان مدرس الأزهر وخطيبه. وقد اتصل به من التونسيين الزيتونيين وأخذ عنه : أبو عبد الله التريكي (٢) وأبو الحسن القلصادي (٣) الأندلسي الأصل ، والكفيف ابن مرزوق (٤) وهو كأبيه ابن مرزوق الحفيد ، زيتوني بالطلب وظهر الجلال المحلي ، والسراج البلقيني وغيرهما من الذين حفل بدروسهم وتآليفهم وإسنادهم القرن التاسع ، فكان رجوع كثير من الزيتونيين إليهم ، وأخذهم عنهم ملاقيا بينهم وبين أعلام الزيتونة من أهل أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع. فقد أخذ الحفيد ابن مرزوق عن الجلال المحلي (٥) وجمع بينه وبين ابن عرفة وأخذ القاضي ابن فرحون المدني ، وهو تونسي الأصل (٦) عن ابن عرفة في حجته (٧) كما أخذ عن السراج البلقيني ، واعتمده في مواضع

__________________

(١) ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي رقم ٣٨٦ ص ١٤٥ ج ٤ ط القدسي.

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج ص ٣٢٣ ط السعادة وشجرة النور ٩٥٣.

(٣) نيل الابتهاج ص ٢٠٩.

(٤) نيل الابتهاج.

(٥) نيل الابتهاج.

(٦) وفيات ابن قنفذ.

(٧) نيل الابتهاج ٣١.


كثيرة من كتابه «تبصير الحكام».

وخلف القرن التاسع لمطلع القرن العاشر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي بمجده العالي في ذيوع التآليف الكثيرة المهمة ، فتأثرت الدراسة في جامع الزيتونة في القرن العاشر باسمه تأثرا قويا امتد إلى القرون التالية ، وحطت الرحال على كتبه ، وثار تحقيق المباحث من رسالته ، ودارت الروايات على أسانيده وتأثرت الدراسة الزيتونية في القرن العاشر ، بأعلام القرن التاسع من الأزهريين وكتبهم ، فشاع تفسير الجلالين ، وكثير من كتب المحلي ، ولا سيما شرحه على جمع الجوامع ، وشرح العيني على البخاري ، وكتب الشيخ خالد الأزهري ، مثل التصريح وشرح الأجرومية ، وقد ورد ذكرهما كلها في المشيخات والإجازات والتراجم ، كما شاع التحديث في الإجازات بأسانيد شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري : آنا برواية التونسيين عن تلاميذه المصريين مثل رواية الشيخ أحمد بن إبراهيم الأندلسي عن الشيخ زين العابدين البكري عن أبيه عن الشيخ زكرياء. وآنا برواية التونسيين عمن لقوا الشيخ زكرياء من الفاسيين مثل رواية الشيخ خروف عن سقين العاصمي ، كما في كثير من الإجازات التونسية ، والمغربية بعامة ، بسند الشيخ عبد القادر الفاسي المشهور. وظهر بالأزهر في القرن العاشر أيضا أمثال الناصر اللقاني ، والبدر القرافي ، والقسطلاني ، وابن نجيم ، فشاعت كتبهم بتونس في القرن نفسه ، ولا سيما شرح القسطلاني على البخاري ، وكتاب المواهب اللدنية له وشرح العلامة الشنشوري ، خطيب الجامع الأزهر على متن الرحبية في الفرائض.

وكان من الذين طلعوا بتونس في أفق الزيتونة في القرن العاشر : الشيخ محمد خروف والشيخ محمد مغوش. أما الشيخ خروف فقد رحل إلى مصر ، وأخذ عن الناصر اللقاني ، والشمس اللقاني والشيخ أبي الحسن شارح الرسالة ، بعد أن أخذ عن جماعة من التونسيين مثل الزنديري ، وسليطن ومحمد مغوش وقد شاع الأخذ عن الشيخ خروف في الأسانيد


الفاسية برواية أبي عبد الله القصاري وأبي المحاسن الفاسي وبواسطة خروف تتصل الأسانيد الفاسية بكثير من الشيوخ الأزهريين وكتبهم (١) وأما الشيخ مغوش فقد نشأ بتونس وعظم شأنه فيها أواخر العهد الحفصي ، ثم خرج إلى المشرق قبل منتصف القرن العاشر ، واستقر بمصر ، وتوفى فيها ، وقد انتشرت سمعته العلمية ، في المشرق والمغرب ، وأخذ عنه المشارقة والمغاربة. ومن أشهر المصريين الذين أخذوا عنه شهاب الدين الخفاجي (٢).

فهؤلاء هم الذين زادوا بتلاواتهم وكتبهم وأسانيدهم ، في تقوية الصلة وكان انتظام القطرين المصري والتونسي ، في سلك الخلافة العثمانية في هذا القرن ، معينا على زيادة التواصل بين الأزهر والزيتونة ، كما كان ظهور المذهب الحنفي في تونس ، باستقرار النظام العثماني ، مهيئا لأسباب الاتصال بأعلام من فقهاء المذهب وأساتذته بالأزهر ، وممهدا لانتشار كتبهم في تونس ودخولها في مناهج الدراسة مثل كتب ابن نجيم التي كان بعضها متابعة لدروسه بالأزهر مثل شرحه على المنار. وكتب الشيخ حسن الشرنبلالي التي كانت كذلك ناشئة من دروسه في الأزهر.

وبذلك كان كثير من مدرسي الزيتونة في القرن الحادي عشر تلاميذ لأعلام الأزهر : الشيخ إبراهيم اللقاني ، والشيخ عبد الباقي الزرقاني ، وابنه الشيخ محمد ، والشيخ الشبراخيتي ، وشيخ الإسلام محمد الخرشي ، فالشيخ المفتي محمد بن مصطفى كان تلميذ الشيخ إبراهيم اللقاني (٣) والشيخ محمد بن شعبان قرأ على الشيخ إبراهيم اللقاني جوهرته في التوحيد

__________________

(١) ترجمته في فهرس الفهارس ص ٢٧٩ ط فاس وشجرة النور الزكية رقم ١٠٦١ والإسناد عنه في إجازة الشيخ عبد القادر الفاسي.

(٢) أخباره في كتاب المؤنس لابن أبي دينار ص ١٥٤ ط تونس الأولى ترجمته في نيل الابتهاج ص ٣٣٦ والشقائق النعمانية ص ٥٢ ج ٢ هامش وفيات الأعيان.

(٣) ذيل بدائر أهل الإيمان لحسين خوجه ص ٧٧ تونس.


بالجامع الأزهر (١) وهو الذي أقرأها بتونس ، كما ذكر ذلك متلقيها عنه الشيخ محمد قويسم ، في خاتمة كتابه : «سمط للآل» (٢).

وكذلك الشيخ محمد زيتونة (٣) والشيخ محمد الصفار (٤) والشيخ محمد العواني (٥) والشيخ أحمد برنار (٦) والشيخ محمد سعادة (٧) والسيد أحمد الشريف إمام دار الباشا (٨) والشيخ علي النوري الصفاقسي إمام القراءات المشهور (٩) والشيخ محمود مقديش الصفاقس (١٠) كانوا كلهم من تلاميذ أولئك الأعلام الأزهريين وبواسطتهم دخلت كتب هؤلاء الأئمة إلى تونس ، وشاعت دراستها ، ولا سيما شروح الشبراخيتي والزرقاني والخرشي على مختصر خليل وشرح الزرقاني على الموطأ ، وشرحه على المواهب ، وتوجد خطوط هؤلاء الشيوخ إلى الآن في المكاتب بتونس : ففي المكتبة العبدلية إجازة الشيخ إبراهيم اللقاني بخطه ، وفي المكتبة العبدلية أيضا نسخة من شرح الأبي على صحيح مسلم بخطه أيضا كتبها سنة ١٠١٢ ه‍ ، وفي تونس نسخة بخط الشيخ إبراهيم من كتاب مغنى اللبيب لابن هشام ، ونسخة من شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على المختصر هي أصله الذي بخطه. وفي المكتبة العبدلية جزء من شرح المواهب اللدنية للشيخ محمد الزرقاني ، كانت من أملاك الأمير حسين باشا وقد قوبلت بإذنه على نسخة منسوخة من أصل المؤلف ، المكتوب بخطه ، الذي قرأه بدرسه على طلبته بالأزهر في آخر عمود.

__________________

(١) الذيل ص ٨٠.

(٢) مخطوط.

(٣) ذيل ١٣٤.

(٤) ذيل ١٢٠.

(٥) ذيل ١٠٠.

(٦) ذيل ١٤٠.

(٧) ذيل ١٦١.

(٨) شجرة النور ١١٨٨.

(٩) شجرة النور ١٢٥٥.

(١٠) شجرة النور ١٤٦٢.


وكذلك شاعت الرواية بأسانيد أعلام المحدثين بالأزهر في ذلك القرن : مثل أسانيد الشيخ الطولوني يروى بها الشيخ محمد زيتونة ، وأسانيد الشيخ الشبراوي يروى بها السيد أحمد الشريف (١) والشيخ علي النوري (٢).

وكان للعلامة التونسي محمد زيتونة رحلتان إلى مصر سنة ١١١٤ ه‍ وسنة ١١٢٤ ه‍ خلفا صدى بعيدا وأثرا حميدا ، في توثيق الصلات بين علماء الأزهر وعلماء الزيتونة ، بما عرف أهل الأزهر وعلماء الأسكندرية من فضله وعلمه ، وما أظهر في دروسه ومجالسه ، مما نال ثناءهم ، وجلب اعتناءهم لا سيما درسه في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ليلة المعراج في رجب من سنة ١١١٤ ه‍ بجامع تربانة بالأسكندرية ، الدرس الذي نوه بذكره حسين خوجه في ذيل كتابه بشائر أهل الإيمان (٣) وكان ممن أخذ عن الشيخ زيتونة من علماء مصر المحدث الشيخ أحمد الصباغ الأسكندري ، صاحب الثبت المشهور.

وكثيرا ما تصدت رحاب الأزهر بطلب الفتوى ، في حوادث تنزل بالبلاد التونسية ، أو قضايا يدق محل النظر فيها ، كما وقع سنة ١٠٤٦ ه‍ في إمارة يوسف داي ، أن وجه سؤال إلى علماء الأزهر في قضية حال تتعلق بتوريث زوجة شهد بطلاقها بعد موت الزوج ، وكتب في (المسألة) رسالة الشيخ عمر بن علي الفكروني الأزهري ، وهو تونسي الأصل ، من مدينة سوسة ، وكان قاضيا مالكيا بمصر شيخا لرواق المغاربة بالأزهر ـ ومن تلاميذ الشيخ سالم السنهوري.

واتصلت سلاسل الرواية ، والملاقاة ، وتلقى الدروس ، كامل القرن

__________________

(١) فهرس الفهارس ج ٢ ص ٧٩ ط فاس.

(٢) شجرة النور ١٢٢٥.

(٣) ص ١٣٤ ط تونس.


الثاني عشر ، قوية نامية متتالية ، وفيه شد كثير من التونسيين الرحلة إلى الأزهر لاستكمال تخرجهم فيه بالأساتذة الأعلام الذين كانت سمعتهم السائرة تجلب إليهم الشادين في طلب العلم من الآفاق ، لا سيما وقد أثرت القرون الماضية في تشابه مناهج الدراسة ، واتحاد الكتب التي يزاولها الدارسون ، ويعتني بتقريرها والتعليق عليها المدرسون ، والشراح ، والمحشون ، فمختصر خليل ، وكتب القرافي ، والبيضاوي ، وكتب ابن هشام ، وشرح الأشموني على الألفية ، وكتب العضد ، والتفتازاني ، وكتب ابن حجر والسيوطي ، والقاضي زكرياء ، وأسانيد هؤلاء الثلاثة الأخيرين ذكرا ، هي التي كان عليها مدار الدراية والرواية ، على السواء ، بمصر وبتونس ، وعليها عكف الطلبة ، وبها تخرج العلماء في المعهدين العظيمين : الأزهر والزيتونة. ففي الوقت الذي أقبل فيه الشيخ محمد بن سعيد الحجري ، الملقب بالنحم الثاني على جامع الزيتونة ، آتيا من قرية أبي حجر ، في الساحل الشرقي التونسي ، كان اثنان من تلك البلاد الساحلية نفسها قد وفدا على الجامع الأزهر : وهما الشيخ محمد سعادة والشيخ عبد الرحمن بن جاد الله البناني. أما الشيخ محمد سعادة فقد رجع إلى تونس مملوء الوطاب ، متين الأسباب ، من دروس الشيخ محمد الزرقاني ، والشيخ أحمد الفقهيه ، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي ، ومن أسانيد الشيخ علي الطولوني ، والشيخ عبيد النمرسي (١).

وأما الشيخ البناني فقد أقام بمصر ، وكان من أعظم علماء الأزهر وأكثرهم طلبة وأبعدهم شهرة ، ناهيكم بشرحه على المحلي ، وتقريراته على شرح التفتازاني على التلخيص.

ولقد كانت الكتب التي اعتنى بها كل واحد من هؤلاء الثلاثة : هي الكتب التي اعتنى بها بقيتهم في الزيتونة وفي الأزهر : الأشموني ، ومختصر

__________________

(١) ترجمته في ذيل البشائر ص ١٦٠ ط تونس.


السعد ، وتهذيب المنطق. فقد كتب الشيخ أبي سعيد والشيخ سعادة كل منهما ، حاشية علي الأشموني. أما حاشية الشيخ سعادة فكانت قبل حاشية الصبان ، ولكنا لا نعرفها إلا ذكرا. وأما الشيخ ابن سعيد ، وحاشيته مشهورة مطبوعة ، فقد كان تدريسه الأشموني بتونس ، وكتابته «حاشيته عليه في مدة تدريس الشيخ الصبان الأشموني بالأزهر ، ووضع حاشيته عليه ، فقد أتم الصبان حاشيته سنة ٩٣ وأتم ابن سعيد حاشيته سنة ٩٧ وكان الاتصال بين الحلقتين ، بتردد الطلبة محققا ، حتى أن الشيخ ابن سعيد كثيرا ما يجاذب الشيخ الصبان أبحاثه ، ويعرض طريقته ، وزيادة على اعتماد كل منهما على حاشية الشيخ يوسف.

وتوجد بتونس كتب من ممتلكات الشيخ الصبان عليها خطة يقرب أن يكون هو ـ رحمه الله ـ مكن منها بعض طلبته وفي مكتبتنا نسخة من كتاب النكت للسيوطي عليها تمليك الصبان سنة ١١٨٧ وبقيت صلات الود وثيقة بين الشيخ ابن سعيد والشيخ البناني ، والمراسلة بينهما متسقة وهما من قريتين متجاورتين (زينان ، وبو حجر). ففي ديوان الشيخ ابن سعيد الذي سماه «الفلك المشحون» (١) رسالة من الشيخ البناني إليه بمناسبة سفر والده الشيخ ابن سعيد للحج ومروره بمصر ، يجيبه فيها عن طلبه نسخة من حاشيته على المحلي بأنه سيكتبها بيده ويوجهها إليه فيما بعد ، إلى أغراض أخرى. كل ذلك في أسلوب بليغ من خطاب المودة والتعظيم. وكذلك كان جواب ابن سعيد الذي تضمن ، فيما تضمن من ثناء وتنويه استنجازا للوعد بإرسال حاشية المحلي.

وقد اشتهر اسم الشيخ ابن سعيد بمصر ، واعتنى بكتبه ، مع أنه لم يعمر طويلا ، حتى أن الشيخ حسن العطار ، في منتصف القرن الثاني عشر اعتمد على حاشيته على شرح الخبيصي على التهذيب وجاذبه كثيرا من

__________________

(١) مخطوط مكتبتنا الماسورية.


مباحثها ، في ما كتب هو أيضا على نفس الكتاب ، كما صرح بذلك في خطبة حاشيته وفي ختامها.

وقد طبعت الحاشيتان معا ، كتابا واحدا ، في بولاق سنة ١٢٩٦.

ولم يكن الراحلون إلى الأزهر من الزيتونيين في هذا القرن الثاني عشر محصورين في البناني وسعادة ، بل غيرهما كثيرون. منهم الشيخ محمد بن علي الغرياني (١) الطرابلسي الأصل الذي أخذ عن الشيخ محمد بن سالم الحفناوي ، والسيد البليدي ، والشيخ محمد العشماوي والشيخ أحمد العماري ، وبعد زيارة ـ الحرمين الشريفين ، والأخذ عن أعلام البلد الحرام أمثال الجمال الأخير الطبري ، وتاج الدين القلعي ، وابن عقيلة ، رجع إلى الزيتونة وانتصب للتدريس وكان أستاذ الأساتذة وبه اتصلت رواية الزيتونة بالأزهريين ، وعنه يروى بتلك الأسانيد الشيخ عمر المحجوب في إجازته شيخ الإسلام محمد بن الخوجه التي في ثبته (٢) ، ومنهم الشيخ محمد بن حسين الهدة ، صاحب الحاشية على شرح الورقات فقد أخذ عن الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي ، والشيخ الدمنهوري.

وانتصب للتدريس بجامع الزيتونة (٣) ، وكان يروي عن الشيخ الحفناوي وأجاز بسنده وعنه يروى به الشيخ عمر المحجوب كما في ثبت الشيخ ابن الخوجه أيضا. ومنهم الشيخ إبراهيم بن علي شعيب الذي روى عن الحفناوي أيضا ، وعنه روى الموطأ والصحيحان بذلك السند في جامع الزيتونة ، روى عنه الشيخ حمودة إدريس ، الذي حدث عنه الشيخ المحجوب ، كما في إجازة الشيخ إسماعيل التميمي (٤).

__________________

(١) ترجمته في فهرس الفهارس ص ٢٥٢ ج ٢.

(٢) مخطوط بمكتبتنا.

(٣) ترجمته في أخبار أبناء الزمان لابن أبي الضياف ج ٢ ص ١٥ ط تونس.

(٤) ترجمة في ذيل البشائر ص ٥٤.


وزاد في قوة انجذاب الزيتونيين إلى الأزهر في هذا القرن الثاني عشر أن حفلت مصر بمقدم أسانيد في البلاد الشرقية بلغت سمعتهم عنان السماء ، يعتبر في مقدمتهم شهرة وعلو مقام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي فقد تسابق الناس للأخذ عنه ، وتزاحموا على مجالس إملائه ، حتى كان القاصدون إلى الحج ـ ولو من غير خاصة الطلبة يغتنمون إقامتهم بمصر عابرين لحضور مجالسه الجامعة ويكتب لهم الشهادة بالسماع ، والإجازة ، وبذلك شاعت الرواية عنه ، وانتشر خطه في الإجازات والأثبات وكتب السنة المقروءة عليه. ومن أخص تلاميذه من شيوخ الزيتونة الشيخ عمر بن المؤدب ، والشيخ محمد بن حمودة الصفار ، وأبناء الشيخ الغرياني ، بل إن عامة طلبة جامع الزيتونة في ذلك العصر يعتبرون طلبة له ، لأنه كتب في إجازته لأبناء الشيخ الغرياني : كذا أجزت لطلبة العلم الملازمين في حلقة دروس والدهم وسائر أحبابهم وأصحابهم ممن فيه أهلية التحمل لهذا العلم (١) وقد كان الشيخ مرتضى أخذ عن الشيخ الغرياني ، كما أخذ عن الشيخ أحمد بن عبد الله السوسي من علماء الزيتونة وعن هذا الاتصال المحكم بين الأزهر والزيتونة ، في القرن الثاني عشر ، تولدت صلات أشد إحكاما ، وروابط أتم انتظاما ، في القرن الثالث عشر ؛ فقد استهل ذلك القرن وسمعة أعلام من الأزهريين قد ضربت ما بين المشرق والمغرب ؛ بكتبهم القيمة التي شاعت في عصرهم وعم الإقبال عليها : مثل الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي ، الذي عظمت شهرة دروسه وأسانيده وكتبه واعتمدت حواشيه ، ولا سيما حاشيته على شرح الدردير على المختصر الخليلي ، التي اعتمدها فقهاء الزيتونة ، في الدروس والفتاوى والأحكام ، وعلقوا عليها ، وجاذبوا مؤلفها بحوثه ونقوله : وتحقيقاته فكان شيخ الإسلام أحمد بن حسين ، والشيخ المفتي محمد الشاهد ، وغيرهما من شيوخ المذهب المالكي في أواسط القرن الثالث عشر ، يعتمدون كلام الشيخ

__________________

(١) بخطه في مكتبتنا.


الدسوقي ، ويستندون إليه في فتاويهم وتحاريرهم ، كما هو ثابت في الوثائق ومنقول في الأخبار وكان للطباعة في القرن الثالث عشر ، ولا سيما في النصف الأخير منه ، أثر في سرعة ايصال الكتب وبسط شهرتها فعرفت كتب الشيخ الخضري ، والشيخ علي الصعيدي ، والشيخ الباجوري ، والشيخ العطار ، وشاعت في مناهج الدراسة الزيتونية فقوي بذلك تشابه المناهج بين الزيتونة والأزهر ، حتى لم يبق فرق يذكر ، لا في المناهج ، ولا في صورة التكوين العلمي للخريجين. ففي الربع الأخير من القرن الماضي كان شيخ الإسلام سالم أبو حاجب (١) يدرس الأشموني بجامع الزيتونة ، درسا اشتهر وشدت له الرحال ، وكان يتتبع حاشية الصبان. ويكثر البحث فيها ويكتب بحوثه وتقريراته ، أو يكتبها طلبته ، وكان الشيخ الأنباني ، في تلك الأيام نفسها ، يدرس الأشموني بالجامع الأزهر ، ويكتب على حاشية الصبان وكان بعض الطلبة يتردد بين الدرسين : مثل الشيخ مصطفى بن خليل ، فكانت المباحث التي تثار في أحد الدرسين يبلغ صداها إلى الآخر حتى أنه لما طبعت تقريراته الشيخ الإنبابي على الصبان ، قضى الشيخ سالم العجب من توارد الخواطر ، حتى عدل عن طبع تقريراته ، إذ أصبح غالبها مستغنى عنه بما طبع من تقريرات شيخ الإسلام المصري ، سمعت ذلك من كثير من أساتذتنا تلاميذ الشيخ سالم ، كما سمعت منه شيئا يرجع إلى هذا المعنى في أسلوب حديثه الفكه وهو في العقد العاشر من حياته رحمه الله وانتهى القرن الثالث عشر بما كان من الروابط موصولا بين الأزهر والزيتونة في ذات الفقيه الكبير الشيخ محمد عليش ، الذي أخذ عن الشيخ محمود مقديش (٢) وروى عن الشيخ محمد بن ملوكة (٣) وعنه أخذ كثير من الزيتونيين منهم الشيخ مصطفى بن خليل وكثيرا ما كانت تعرض المسائل عن الحوادث

__________________

(١) شجرة النور ١٦٨٩.

(٢) شجرة النور ١٥٤٤.

(٣) شجرة النور ١٥٥٩.


والأحكام على الشيخ محمد عليش لأخذ فتواه فيها.

وقد كان من أجل الراجلين من الزيتونة إلى الأزهر في القرن الثالث عشر : الشيخ مصطفى بن خليل فقد كان أكمل تحصيله بالزيتونة وسمى عدلا بتونس ، ثم سافر إلى مصر ، فقرأ بالأزهر على الشيخ إبراهيم السقاء ، والشيخ عليش ، والشيخ الإنبابي ، وأجازة الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي. ويوجد نص إجازته له بخطه في دار الكتب المصرية ، ثم رجع الشيخ مصطفى إلى تونس في أواخر القرن الثالث عشر ، وسمي مدرسا من الطبقة العليا بجامع الزيتونة ، وعلت منزلته ، وأخذ عنه وتخرج به كثير من علماء النصف الأول من القرن الحاضر.

وإنه ليكفي لإظهار الامتزاج الذي اكتمل في القرن الماضي بين الأزهر والزيتونة الرجوع إلى قوانين التعليم في المعهدين ، حتى يتبين أن الكتب التي تدرس في مراتب التعليم الثلاث : الابتدائية والمتوسطة ، والعالية ، إنما كانت متحدة بصفة غالبة ، لا يستثنى من ذلك إلا عدد قليل جدا ، على ما جاء في الفصول ٣ ، ٤ ، ٥ ، من الأمر العالي الصادر بضبط قانون التعليم في جامع الزيتونة سنة ١٢٦٢ مع مقارنتها بما أثبته المرحوم الشيخ منصور رجب من أسماء أشهر الكتب التي تدرس بالأزهر في كتابه : «الأزهر بين الماضي والحاضر» علاوة على أن الكتب التي كانت تدرس ـ بجامع الزيتونة وضبطها قانون ١٢٩٢ وهي مائة وخمسون كتابا يوجد من بينها ستة وأربعون كتابا هي مصرية أزهرية وكذلك ارتبط القرن الحاضر بالقرن قبله ، إذ انعقدت من القرنين أسباب امتدت من السابق منهما وشدت باللاحق».

نعم «كانت العروة الوثقى لا انفصام لها» الجمعية التي أنشأها السيد جمال الدين الأفغاني ، بعد خروجه من مصر سنة ١٢٩٩ الوثاق الذي شدت به الصلات المتينة بين رجال من علماء الأزهر ، انتصبوا لقيادة حركة الإصلاح في العالم الإسلامي ، وآخرين من علماء الزيتونة ، ساروا معهم


في ذلك السبيل (١) فيهم الشيخ محمد بيرم ، والشيخ محمد السنوسي ، والشيخ أحمد الورباني ، واستمر ذلك الاتصال يملأ قرننا الحاضر حركات متحدة المصادر ، متشابهة المظاهر. بين الأزهر والزيتونة وزار الشيخ محمد عبده تونس زيارته الأولى سنة ١٣٠٢ وامتزج بعلمائها ثم عاد بعد عشرين سنة وألقى محاضرته القيمة «العلم لطرق التعليم» وكان لمجلة المنار رواج واسع في تونس وأثر قوي في إشاعة دعوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية. ولا نريد أن ندخل في صلة هذه الحركة بالأزهر : وما كان بين المنار والأزهر ، مما كتب فيه صاحب المنار كتابا خاصا. ولكننا نكتفي بأمرين هامين يتضح بهما ما كان لهذه الحركة من انتساب متين إلى الأزهر ؛ يجعل انتشار دعوتها بتونس داخلا في موضوعنا أولهما أن قوام مجلة المنار ، وأعظم مادتها ، إنما كان ما تنشره من تلخيص دروس الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن العظيم ، وهي دروس أزهرية كانت تلقى في الرواق العباسي ، وثانيهما أن أهم ما تحدده المنار ، من دعوة الشيخ محمد عبده ، هي دعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر ، وأقصى ما تقصد إلى تحقيقه هو أن يتولى الأستاذ الإمام أمر الأزهر ، أو أن يكون مشاركا فيه مشاركة ذات نال ، فكان من هنالك منشأ الأحداث التي شطرت الأزهر شطرين : بين مناصرين لدعوة الشيخ محمد عبده ، ومعارضين لها. وكان ذلك الانقسام ساريا إلى جامع الزيتونة فنشأت فيه حركة (٢) فكرية قوية شطرت رجاله أيضا إلى شطرين بين أنصار دعوة الشيخ محمد عبده والمنار وخصومها ، وجعلت أكثر الطلبة من شيعة مفتي الديار المصرية ، ومطالبين بإصلاح التعليم الزيتوني على المبادىء التي طالب بها لإصلاح التعليم الأزهري ، وكانت حركات الطلبة في الأزهر مثالا موجها لحركات الطلبة في الزيتونة فلما أضرب الطلبة في

__________________

(١) فهرس الفهارس ص ٢٨٠ ج ١.

(٢) كتاب الحركة الفكرية والأدبية بتونس ص ٤٣ ط معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة سنة ١٩٥٦.


الأزهر سنة ١٣٢٧ لم يتأخر الطلبة الزيتونيون أكثر من أربعة أشهر حتى ابتدأوا المظاهرات والاضرابات ودخلت بذلك الحياة الزيتونية ، تبعا للحياة الأزهرية في طور جديد (١).

وإلى جانب هذا التواصل في الحركة الإصلاحية ، كان جانب آخر من التواصل الزيتوني الأزهري يتمثل في ما كان متمثلا فيه من قبل من البحث العلمي والدراسة لقد استمر طلبة من الزيتونة يقصدون الأزهر ، وآخرون من الأزهر يأتون الزيتونة وأصبحت الحياة النظامية في المعهدين تمهد لهؤلاء وهؤلاء سبيل الالتحاق بكل من المعهدين باعتبار ما بلغ إليه الطالب من درجة في المعهد الآخر. وإن من أشهر الأزهريين الذين آووا إلى الزيتونة فاعتبرت له دراسته الأزهرية. وسمح له بذلك الاعتبار أن يتقدم إلى امتحان «التطويع» مباشرة بدون أن يتدرج في مراحل الدراسة العلامة المرحوم ، شهيد حركة العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ محمد العربي التبسي الذي تخرج بشهادة التطويع عقب رجوعه من الأزهر سنة ١٣٤٠.

كما استمرت آثار الدروس الأزهرية العليا محل الاعتناء والإقبال من الأساتذة الزيتونيين ، والرواية متصلة الأسانيد بينهم أيضا.

فكان لشيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني في حياته ، رواج عظيم لكتبه في الزيتونة حتى أن حاشيته على البناني على المحلي على جمع الجوامع كان يدرسها تدريسا شيخ شيوخ الزيتونة يومئذ أستاذنا شيخ الإسلام محمد بن يوسف فضلا عن أعلام الزيتونة من تلاميذه مثل أستاذنا المحقق الشيخ محمد الصادق القاضي ، كان ذلك والشيخ الشربيني حي ، وقد علت سمعة تلك الحاشية ، واهتم الناس بها ، وأصبحت مناط البحث والتحليل ، حتى أن اتقان تدريس المحلي كان يقاس في الزيتونة باتقان تحليل الشربيني وتأصل ذلك في مقايس دروس المناظرات التي يتقدم بها خريجو الزيتونة

__________________

(١) الحركة الفكرية ص ٩٧.


لنيل منصب التدريس من الطبقة الثانية. وكذلك كان مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت معتني بتحاريره وأسانيده متلقاة من أكفائه سنا ومقاما ـ فقد اجتمع به الشيخ محمد بن يوسف في رحلته إلى مصر والشام سنة ١٣٢٧ وروى عنه ، وحدث بسنده وقد حدثني به ـ رضي الله عنه ـ في إجازته إياي المكتوبة بخطه سنة ١٣٤٢ عن الشيخ عبد الرحمن الشربيني عن الشيخ إبراهيم السقا عن الشيخ الأمير الصغير عن الشيخ الأمير الكبير ...

وأخذت سهولة الموصلات ، وتيسير وسائل الحج تنمو بعد الحرب العالمية الأولى ، فنمت معها الاتصالات الأزهرية الزيتونية وكثر سفر شيوخ الزيتونة للحج والعمرة ، وكثرت بذلك زياراتهم للأزهر والتقاؤهم بعلمائه.

وحدثت بعد الحرب العالمية الثانية صور من التلاقي لم تكن تعرف من قبل ، إذ نشأ التواصل الرسمي بين الجامعتين الأزهرية والزيتونية فيما ربطت المواصلات بين الشيخين على عهد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ مصطفى عبد الرازق ، وما اتسق من صور التعاون الرسمي بين الجامعتين حتى أنه لما توفى شيخ الأزهر سنة ١٣٦٧ أعلن شيخ جامع الزيتونة نعيه في الصحف ببلاغ رسمي ، وعطلت الدروس في جميع المعاهد الزيتونية بالقطرين التونسي والجزائري وكذلك اتبع الأمر في المناسبات المشابهة.

ولم تزل مظاهر الاتصال تبرز فيما بين المعهدين متعاقبة فقد ولى الشيخ محمد الخضر حسين التونسي مشيخة الأزهر الشريف عام ١٣٧٤ ه‍ ، ثم كانت زيارة الأستاذ مدير الجامعة الأزهرية الشيخ أحمد حسن الباقوري ، والتف حوله علماء الزيتونة وعظموا مقدمه ، وقد خطب في جامع الزيتونة وقد انتدب غير مرة أستاذا زائرا للكلية الزيتونية المرحوم الشيخ منصور رجب الذي وافاه الأجل في مدينة تونس في ذي الحجة ١٣٨٤ ـ ١٥ أبريل ١٩٦٥ بعد أن ترك فيها جمهورا من التلاميذ والأحبة ، وقد صلى عليه


شيوخ الزيتونة صفوفا بإمامة شيخهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قبل نقل جنازته إلى مصر.

وطالما اعتزت الكلية الزيتونية بتوالي زيارة الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود الذي كانت زيارته الأولى سنة ١٣٨٢ ، وجلس تحت قبة جامع الزيتونة الأعظم. ثم ترادف فضيلته على الكلية وأبنائها حتى أصبحت مشيخته للزيتونيين لا تضيق عن مشيخته للأزهريين.



الباب الثاني عشر

شخصيّات .. ومواقف

ابن السّبكى

عرف تاريخ الثقافة العربية كثيرا من البيوتات العلمية التي استفاض العلم فيها ، وكان إرثا طيبا يؤول إلى الأبناء فيما يؤول إليهم من عقار وحطام ، فكان علم الأبناء امتدادا ناضجا لعلم الآباء. وقد صان هؤلاء الأبناء ذلك الموروث العلمي العظيم ، وعملوا على إثرائه وإخصابه. وبحسبنا في هذا المقام أن نذكر الامام أبا حاتم الرازي ، محمد بن إدريس بن المنذر ، المتوفي سنة ٢٧٧ ه‍. وابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، المتوفي سنة ٣٢٧ ، من أئمة علم الجرح والتعديل. والإمام ضياء الدين خطيب الري ، عمر بن الحسين بن الحسن ، وابنه الفخر الرازي ، محمد بن عمر ، المتوفي سنة ٦٠٦ ه‍ من فرسان علم الكلام.

على أنه لم يستعلن تأثير والد في ولده كما استعلن في تاريخ الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ، المولود في سنة ٦٨٣ ه‍ والمتوفى في سنة ٧٥٦ ه‍. وولده العلامة تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي ، المولود في سنة ٧٢٧ ه‍ ، والمتوفى في سنة ٧٧١ ه‍.

وقد أجمع المؤرخون على فضل الوالد وسعة علمه ، فيقول عنه


الذهبي ـ فيما ينقل عنه السبكي :

«القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء ، كان صادقا ثبتا خيرا دينا ، من أوعية العلم ، يدري الفقه ويقرره ، وعلم الحديث ويحرره ، والأصول ويقربها ، والعربية ويحققها». ويكفي دليلا على علم هذا الرجل أنه كان الوحيد من بين علماء عصره الذي تصدى لابن تيمية ـ على عنفه وشدته ـ ورد عليه في مسألتي الطلاق ، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وهما المسألتان اللتان زعزع بهما ابن تيمية كيان العلماء في عصره. فرد عليه الإمام السبكي في مسألة الطلاق برسالتين : رافع الشقاق في مسألة الطلاق. والتحقيق في مسألة التعليق. ورد عليه في الزيارة برسالة : شفاء السقام في زيارة خير الأنام. أو شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة. ويقول فيه ابن تيمية : «لقد برز هذا على أقرانه». وقد نبغ صاحبنا تاج الدين في منتصف القرن الثامن الهجري ـ عصر الموسوعات العلمية ، هذا العصر الذي كان بمثابة الصحوة الفارهة بعد النكسة التي أصابت العالم الاسلامي ، والتي كادت تأتي على تراثه الضخم العريض ، إبان الغزو التتري الكاسح.

وقد ولد تاج الدين بالقاهرة ، ونسب إلى قرية سبك من أعمال المنوفية. ولم ينصرف الفتى في صباه إلى اللهو واللعب ، كما يفعل لداته وأترابه ، فقد هدهد سمعه في سن تفتحه وفود العلماء ، تفد إلى بيت أبيه ، تنشد العلم وتطلب الفتيا. فأقبل على ألوان المعرفة يحصلها على مهل واتئاد في الأزهر الشريف حتى اكتملت له أدوات العالم المجتهد. وكان مجلى هذه الثقافة الواسعة العريضة في نهاية الشوط موسوعة علمية ضخمة ، لمت أطراف الثقافة العربية ، وجلتها على نحو معجب خلاب ، على امتداد سبعة قرون في كتابه الخالد «طبقات الشافعية الكبرى».

لقد انفسح هذا الكتاب العظيم من خلال ترجمته لرجال المذهب


الشافعي ـ لكثير من المباحث الفقهية والفتاوي الشرعية ، والمقالات ، والمناظرات ، والنوادر والملح ، كما حفل بالضوابط اللغوية ومسائل علم الكلام والأصول. كما كان مصدرا أدبيا لكثير من الكتب التي عالجت شؤون الحب.

وكان أيضا مرجعا أصيلا في جمع أشعار الشعراء. على أن أهميته الكبرى بعد كل ذلك ترجع إلى أنه حفظ لنا كثيرا من النصوص التي ضاعت أصولها. كتاريخ نيسابور ، للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله ، المعروف بابن البيع ، المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ وتاريخ مصر لابن يونس ، عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة ٣٤٧ ه‍ ، وغير هذين الكتابين كثير من هذه الأمهات التي عبث بها الزمان.

وقد عالج ابن السبكي في كتابه هذا ذلك المنهج العلمي ، الذي عرف فيما بعد ، ونسب إلى ابن خلدون ، ذلك المنهج القائم على تمحيص الأخبار ، والتنبه لما تفعله المعاصرة والعصبية في المذهب.

استمع إليه يقول في ترجمة أحمد بن صالح المصري ، في الطبقة الثانية : «ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد ، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة ، فجرحه لذلك». ولم تقف تلمذته للإمام الذهبي حائلا دون نقده مر النقد لمخالفته هذا المنهج القائم على الحيدة والتجرد ، فيقول عنه : «وهو شيخنا ومعلمنا ، غير أن الحق أحق أن يتبع ، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه».

ولكن هذه الحياة العلمية المخلصة لم تشغل صاحبنا عن أن يلمس مظاهر الضعف والعسف التي استعلنت في الحكم المملوكي الجائر. فظهرت دعواته الإصلاحية النقدية في كتابه القيم : «معيد النعم ومبيد النقم». لقد كان هذا الكتاب ثورة عاتية على نظم الحكم ، وأخلاق الناس


فقد أتيح لابن السبكي من خلال مشاركته في الحياة العامة ـ مدرسا وخطيبا وقاضيا ـ أن يرى وبحس مدى التمزق الذي شمل الأمة نتيجة للحكم المملوكي البغيض ، الذي نبتت فيه فكرة «تركي وفلاح». والذي استأثر فيه المماليك بالمناصب الكبرى ، وتركوا أصحاب الأرض الحقيقيين يشربون العرق ويقتاتون السهد. وقد وضع ابن السبكي كتابه هذا ردا على سؤال ورد عليه ، أو وضعه هو بين يدي كتابه ، موضوعه : «هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه ، وردت عليه» وأجابه عن هذا السؤال راح ابن السبكي ينقد بقسوة وصراحة طوائف الأمة ، ابتداء من السلطان إلى أرباب الحرف ، آخذا في طريقة نواب السلطان والقضاة والمدرسين ورجال الدين من العلماء والصوفية.

استمع إليه يلخص رأيه في الأتراك عموما ، فيقول : «وقد اعتبرت كثيرا من الأتراك يميلون إلى أول شاك ، وما ذاك إلا للغفلة المستولية على قلوبهم» ثم يسخر من هؤلاء الأتراك وتعلقهم من الإسلام بالمظاهر الفارغة ، فيقول : «وأما أنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به ، ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا ، ليقال : هذا جامع فلان ، فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا». ثم يتكلم عن السلطان ويحدد اختصاصاته فيقول : «إن الله لم يوله على المسلمين ليكون رئيسا آكلا شاربا مستريحا ، بل لينصر الدين ويعلي الكلمة». وحين يتحدث عن العلماء والمفتين يأخذ على بعض هؤلاء وأولئك تعصبهم لمذاهبهم ، وأضاعتهم الوقت في الخلافيات ، فيقول مخاطبا العلماء : «لو أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكا وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرأوا منكم فيما تفعلون» ثم يأتي إلى المفتين فيقول : «ومنهم طائفة تصلبت في أمر دينها ، فجزاها الله خيرا ، تنكر المنكر وتتشدد فيه ، وتأخذ بالأغلظ ، وتتوقى مظان التهم ، غير أنها تبالغ فلا تذكر لضعفة الايمان من الأمراء والعوام إلا أغلظ المذاهب ، فيؤدي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم. فمن حق هذه الطائفة


الملاطفة وتسهيل ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير ، إذا كان الشرع قد جعل لتسهيله طريقا ، كما أن من حقها التشديد فيما ترى أن في تسهيله ما يؤدي إلى ارتكاب شيء من حرمات الله».

ويرسم ابن السبكي المعلم للمدرس منهجا تربويا راشدا حين يقول : «وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين ، ثم أن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات ، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون ، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات ، بل يدخل بهم في المشكلات». وتتجلى دعوة صاحبنا الإصلاحية في أبهى صورها حين يأسى للفلاح الذي يستهلك في السخرة والإقطاع. فحين يتكلم عن منصب ناظر الجيش وتحديد اختصاصاته يقول : «ومن قبائح ديوان الجيش الزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة. والفلاح حر ، لا يد لآدمي عليه ، وهو أمير نفسه».

وبعد ... ألا تعتقد معي أيها القارىء الكريم أن هذا الرجل إنما يتكلم بلغة عصرنا ، كمصلح اجتماعي ، وكعالم نفساني ، بصير بالنفس الإنسانية ، عالم بضعفها.

وكان طبيعيا بعد هذا النقد المر الجارح لنظام الحكم وأخلاق الناس أن تتعرض حياة الرجل ومصير أسرته للزوابع والأعاصير. فيعزل عن منصب القضاء ، لأسباب واهية ذكرها الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» وتجري له محاكمة ، يحكم عليه فيها بالحبس سنة. ولكن هل ضعف ابن السبكي ، أو تخاذل؟ استمع إلى معاصره الحافظ ابن كثير يقول : «جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله. وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله ، وإبان في أيام محنته عن شجاعة وقوة على المناظرة ، حتى أفحم خصومه ، ثم لما عاد عفا عنهم ، وصفح عمن قام عليه».


وبعد هذه الحياة الخصبة الزاخرة بالعلم والإصلاح انطفأت هذه الشعلة التي توهجت عبر أربع وأربعين سنة. وحق لابن السبكي أن يقول في زهو ورضا ، في ورقة كتبها إلى نائب الشام : «وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق ، لا يقدر أحد يرد على هذه الكلمة».

توفي تاج الدين شهيدا بالطاعون (بالدهشة) ظاهر دمشق ، في ذي الحجة. خطب يوم الجمعة ، وطعن ليلة السبت رابعه ، ومات ليلة الثلاثاء سابعه سنة ٧٧١ ه‍ ودفن بتربة السبكية بسفح قاسيون ، عن أربع وأربعين سنة ، بعد أن جلا صفحة مشرقة في تاريخ علماء المسلمين.


الشيخ محمد الحفني شيخ الأزهر

الشيخ (١) الإمام العلامة ، أوحد زمانه علما وعملا ، المشهود له بالتحقق والكمال ، والمجمع على تقدمه في كل مجال أبو الأنوار شمس الدين محمد الحفني بن السيد سالم بن علي الحفناوي ، الأزهري ، الشافعي الخلوتي ، الذي ينتسب إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وهو الثامن من الأئمة الكبار ، الذين تولوا مشيخة الأزهر الشريف.

ولد رضي الله عنه على رأس سنة ١١٠٠ ه‍ بقرية حفنا التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية ، ونسب إليها ، حتى صارت هذه النسبة علما عليه بالغلبة ، وصار لا يذكر إلا بها.

نشأ بقريته ، وحفظ بها من القرآن الكريم إلى سورة الشعراء ، وكان أبوه وكيلا لأحد الأمراء ، ويقطن بالقاهرة. مقر عمله ، فأبقاه لديه. ولما أكمل حفظ القرآن الكريم ، اشتغل بحفظ المتون : كألفية ابن مالك ، والسلم ، والجوهرة ، وغيرها ، ثم جاور بالأزهر الشريف وأخذ عن شيوخه العلم ـ وكلهم أئمة بنورهم ينجلي الظلام ، وأقطاب ببركتهم يدرك المرام ـ منهم : محيي السنة الشيخ أحمد الخليفي ، والشيخ أحمد الملوي ،

__________________

(١) عن مجلة الأزهر الأستاذ أحمد نصار.


والشيخ محمد الديربي ، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي ، والشيخ محمد السجاعي ، والشيخ يوسف الملوي ، والشيخ عبده الديوي ، والشيخ محمد الصغير.

ومن أجل شيوخه ، الذين سمع منهم : شيخ المحدثين الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت. أخذ عنه التفسير والحديث والإحياء للإمام الغزالي ، وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجه والموطأ والمعجم الكبير والأوسط والصغير للطبراني ، وصحيح ابن حبان ، والحلية للحافظ أبي نعيم ، وغير ذلك.

واجتهد ولازم ، حتى شهد له شيوخه جميعا بالتفوق ، وأثنوا على دقة فهمه ، ورجحان عقله ، وسعة معرفته وأجازوه بالإفتاء والتدريس ، وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره المبارك ، فكان أمره عجبا يلفت النظر ، لقصر هذه المدة ، التي حفظ فيها القرآن ، وأتم طلب العلم فصار أهلا للإفتاء والجلوس للتدريس ، ولكن ابن العناية ملحوظ فأقرأ الكتب الدقيقة في حياة شيوخه ، وشهد له معاصروه بالبراعة ، والإجادة في الإفادة ولازم درسه أكثر طلبة العلم.

وكان إذ ذاك في ضيق من العيش. وفي ذلك يقول :

إني أقول لنفسي وهي ضيقة

وقد أناخ عليها الدهر بالتعب

صبرا على شدة الأيام ، إن لها

وقتا وما الصبر إلا عند ذي الحسب

ولكن هذا الحال ، لم يخرجه عن القناعة والرضا ، ولم يبد منه أن لدنيا عنده قدرا فقد أنشد :

خبز وماء وظل

هو النعيم الأجل

جحدت نعمة ربي

إن قلت إني مقل

ثم أخذ بالأسباب لزيادة دخله ، فاشتغل بنسخ الكتب بالأجر ، وإن كان ذلك


قد شق عليه ، خوفا من أن يشغله النسخ عن متابعة إقراء العلم ، ولكنه لم يستمر طويلا حتى أذن الله فجاءه الفرج وأقبلت الدنيا عليه ، وصار رزقه فيضا إلهيا ، فاتجه بكليته إلى العلم وعقد الدروس ، وقرأ جمع الجوامع للعلامة السبكي ، والأشموني على الألفية ومختصر السعد ، وحاشية حفيده عليه. وابن عبد الحق على البسملة ، وغيرها.

واشتغل بعلم العروض ، حتى برع فيه وأجاد نظما ونثرا ، حتى عرف بالفصاحة ، وجودة البيان ، وكثيرا ما كان يرتجل الشعر ، فمن ذلك قوله :

أتطلبون رضائي الآن عن نفر

قلوبهم بنفاق لم تزل مرضى

تجاهروا بقبيح الفسق ، لا ربحوا

إن كنت أرضى ، فإن الله لا يرضى

ومن نثره : من رسالة لبعض تلاميذه في الطريق ، وقد جمعت بين قوة الأسلوب وعذوبة اللفظ ، وضمت إلى حسن التوجيه ، نهجا عاليا في التربية والتهذيب ، قال فيها :

«.. ومن زاد عليك إقباله ، وتوجهت إليك بالصدق آماله ، فاصرف قلبك إليه ، وعول في التربية عليه ، ومن عنك بهواه صد ، بعد أخذك عليه وثيق العهد ، فدعه ولا تشغل به البال ، وأنشده قول أستاذنا (أي السيد مصطفى البكري) لمن عن طريقنا قد مال :

ألم تدر أنا من قلانا سفاهة

تركناه غب الوصل يعمى بصده

ومن صدعنا حسبه الصد والجفا

وإن الردى أصماه من بعد بعده

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

وأنا نكافيه على ترك حمده

وإنا غدا لما نعد محبنا

واتباعنا لسنا نهم بعده

ومن أردت زجره للتربية وإرشاده ، فليكن ذلك على انفراد ، إذ هو أرجى لإسعاده ، ولا تزجر بضرب ولا نهر بين الناس ، فإن ذلك ربما أوقع المريد من اليأس ، ولا تلتفت لمن أعرض ، ولا لمن يصحبك لغرض ،


وعليك بالرفق للإخوان ، سيما أخوك فلان ، فالخير لمن صاحب بإحسان ، والأدب واللطف محمودان ، والغلظة والحقد موبقان ، فاصرح القال والقيل ، واصفح الصفح الجميل ، ولك ولكل من أخذ عنك أو حبك ، منا ومن أهل سلسلة طريقتنا ما سرك ، فابشر إن عملت بما أشرنا بكل خير ، ومزيد الفتح ، والمسير في السير».

وقد تخرج عليه غالب أهل عصره وطبقته ، ومن دونهم : كأخيه الشيخ يوسف الحفناوي ، والشيخ إسماعيل الغنيمي صاحب التآليف البديعة ، والتحريرات الرفيعة ، وشيخ الشيوخ على الصعيدي العدوي ، والشيخ محمد الغيلاني ، والشيخ محمد الزهار ، وغيرهم ، وكانت على مجالسه هيبة ووقار قلما يسأله أحد لجلالته.

ومن مؤلفاته المشهورة التي أتحف بها المكتبة العربية في كل علم وفن :

١ ـ الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية : في التاريخ.

٢ ـ حاشية على شرح الأشموني على الألفية : في النحو.

٣ ـ حاشيته على شرح الهمزية لابن حجر الهيثمي : في الأدب.

٤ ـ رسالة في التسبيح والتحميد : في الفضائل والآداب.

٥ ـ رسالة في التقليد في الفروع : في أصول الفقه.

٦ ـ رسالة في الأحاديث المتعلقة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم.

٧ ـ حاشية على الجامع الصغير للسيوطي في جزءين : في الحديث.

٨ ـ حاشية على شرح الشنشوري على الرحبية : في المواريث.

٩ ـ حاشية على مختصر الشيخ التفتازاني.


١٠ ـ حاشية على شرح الحفيد على مختصر جده التفتازاني : في البلاغة.

وكان الشيخ الحفني ، حسن السمت ، مهيب الطلعة ، معتدل القامة ، لا بالطويل البائن ولا بالقصير ، عظيم الهامة ، كث اللحية أبيضها ، مقوس الحاجبين ، رحب الراحتين ، سواء الظهر والبطن ، أبيض اللون مشرب بحمرة ، كأن على وجهه قنديلا من النور.

وكان كريم الطبع ، جميل ، السجايا لم يضبط عليه مكروه ، على جانب عظيم من الحلم ، ما جهل عليه أحد إلا قابل السيئة بالحسنة. يعظم كل الناس ، ويتمثل قائما لكل قادم ، ويخاطب كل إنسان على قدر عقله ، ويصغي لكلام كل متكلم ولو كان تافها ، ولا يضجر إن أطال عليه ، بل يظهر له المحبة ، حتى يظن أنه أعز الناس عليه ، وأقربهم إلى قلبه. وكان لا يعلق نفسه بشيء من الدنيا فلو سأله إنسان أعز حاجة عليه أعطاها له ، كائنة ما كانت ويجد لذلك أنسا وانشراحا وإذا دعى أجاب ، إلا أنه كان يعتذر من عدم حضور الولائم. لأنه يرى أنها غير مضبوطة بالأمور الشرعية.

وله صدقات وصلات خفية ، وكان يتولى الصرف على بيوت كثير من أتباعه المنتسبين إليه ولا ينقطع ورود الواردين عليه ليلا ونهارا ، وقد قيل إن راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الأردب. ويجتمع على مائدته ما لا يقل عن الأربعين.

ولما بلغ الثلاثين من عمره ، كثر انقطاعه للعبادة. وتهيأ للسلوك والاندماج في الطريق فأخذ عن الشيخ أحمد الشاذلي المعروف بالمقري وتلقى منه بعض الأحزاب والأوراد وكان يتردد على زاوية سيدي شاهين الخلوتي بسفح المقطم ويمكث فيها الليالي متحنثا. وقد ذكر الشيخ حسن شمه : أنه كثيرا ما كان ينشد في الدياجي.

خل الغرام لصب دمعة دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه


واسمح له بعلاقات علقن به

لو اطلعت عليها كنت ترحمه

وقال : سمعته مرة ينشد من شعره :

لو فتشوا قلبي لا لفوا به

سطرين قد خطا بلا كاتب

العلم والتوحيد في جانب

وحب آل البيت في جانب

ولما قدم السيد مصطفى البكري عمدة أهل الطريقة الخلوتية من الشام سنة ١١٣٣ ه‍ اجتمع عليه وحصل بينهما الارتباط القلبي حال المشاهدة ، فأخذ عليه العهد في أول لقاء ، ثم اشتغل بالذكر والمجاهدة ولما علم السيد صدق حاله ، وحسن فعاله ، قدمه على خلفائه ، وأولاه حسن ولائه ، ودعاه بالأخ الصادق.

وفي سنة ١١٤٩ ه‍ حن إلى زيارة شيخه البكري ، فسافر إلى القدس الشريف ، وأقام عنده أربعة أشهر ، عاد بعدها إلى القاهرة ، وأدار مجالس الأذكار ، بالليل والنهار ، وأحيا طريق الخلوتية ، المؤيدة بالشريعة الغراء ، في الديار المصرية ولم ، يزل أمره في ازدياد وانتشار حتى شاع ذكره وأقبل عليه الوافدون من كل فج ، وصار الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، يذكرون الله بطريقته ، وأصبح قطب الوقت بحق ، ولم يبق ولي من أهل عصره إلا أذعن له.

وكان من تلاميذه : شيخ القراء المحدثين ، وصدر الفقهاء المتكلمين العابد الزاهد الشيخ محمد السمنودي المعروف بالمنير ، وعلامة وقته الشيخ حسن الشبيني ، والشيخ محمد السنهوري والشيخ محمد الزعيري ، والشيخ خضر رسلان ، والشيخ محمود الكردي. والشيخ عبد الله الشرقاوي الذي تولى مشيخة الأزهر ، والإمام الأوحد الشيخ محمد بدير ، والشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري ، والشيخ محمد السقا ، والشيخ محمد الفشني ، والشيخ عبد الكريم المسيري الشهير بالزيات ، وأبو البركات الشيخ


أحمد محمد الدرير العدوي ، والشيخ حسن بن علي المكي المعروف بشمة.

قوم إذا جن الظلام عليهم

قاموا هنالك سجدا وقياما

وللشيخ الحفني رضي الله عنه ، كرامات وبشارات وخوارق وعادات يطول شرحها ذكر بعضها تلميذه الشيخ حسن شمه ، الناظم الناثر في كتابه الذي ألفه في نسبه مناقبه وقد ضمنه مقامة في مدحه ، أسماها : فيض المغني في مدح الحفني ، جمع فيها سائر فنون الشعر ، ولتلميذه العلامة الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري كذلك مؤلف في مناقبه ومن قصيدة له في مدحه :

سبحانك الله ما الحفني ذا بشر

لكنه ملك قد جاء للبشر

محجب عن عيون الواصلين فما

بال الخليين من سر ومن ثمر

هذا الفريد الذي نادى الرفاق به

فسار كل أسير نحو مقدر

جلت محاسنه عن كل ما وصفوا

فليس يحصرها لب من الغرر

وهو الذي ورثته الأنبيا رتبا

فضلا من الله لا بالجد والسهر

علما وحلما وتوفيقا ومكرمة

وحسن حال مع التسليم للقدر

وقد تولى مشيخة الأزهر في سنة ١١٧١ ه‍ ومكث فيها حتى وافاه داعي السماء ، بعد أن ملأ الدنيا نورا وبركة ، قبل ظهر يوم السبت ٢٧ ربيع الأول سنة ١١٨١ ه‍ ، وصلى عليه في الأزهر يوم الأحد ، في مشهد عظيم جدا ودفن بقرافة المجاورين القديمة مع أخيه العلامة الشيخ يوسف الحفناوي المتوفى سنة ١١٧٨ ه‍.



أزهريون خالدون

كانت للعلماء ، في جميع عصور الإسلام ، الريادة والقيادة : يرودون الحياة أمام الناس ويقدمون لهم ثمرة هذه الريادة من العلم والتجربة والثقافة والفضائل والتقوى. ويقودونهم ـ أفرادا وجماعات ـ إلى طريق الخير والفلاح. وفي بعض عصور التاريخ نجد لهؤلاء العلماء ريادة أخرى وقيادة للسياسة والثورة في سبيل رفع الظلم ورد العدوان. كان ذلك أوضح ما يكون الوضوح في مصر في القرن الثامن عشر ، حين أفحش الظالمون في ظلمهم واعتدى المعتدون على وطنهم.

في هذا القرن كانت تقوم ثورات شعبية كثيرة يهب فيها أهل مصر لرد عدوان الظالمين ـ وعقابهم أيضا ـ وكان علماء الأزهر (١) يشاركون الشعب إحساسه وثورته ، بل كثيرا ما كانوا يقودونه في ثورته ، ويحرضونه.

الشيخ الدردير يقود ثورة :

وللشيخ أحمد الدردير ـ وكان مفتيا للمالكية ومن أكبر علماء عصره ـ في ذلك مواقف كريمة نذكر بعضا منها :

__________________

(١) الاستاذ محمود الشرقاوي عن مجلة الأزهر.


في يوم من أيام ربيع الأول من سنة ١٢٠٠ ه‍ (يناير ١٧٨٦ م) قام حسين بك شفت (١) أحد كبار المماليك ، ومعه طائفة من جنوده قاصدا منطقة الحسينية واقتحم دار رجل اسمه أحمد سالم الجزار ، كان رئيسا على دراويش الشيخ البيومي ، ونهب الأمير حسين دار هذا الشيخ. وفي صباح اليوم التالي ثار جماعة من الحسينية ، وخرجوا إلى الأزهر ، وشكوا أمرهم إلى الشيخ أحمد الدردير ، فشجعهم في ثورتهم ، وغضب لهم وقال لهم : أنا معكم. فقام الغاضبون إلى أبواب الأزهر فغلقوها ، وصعدت طائفة منهم على المآذن يصيحون ، ويدقون الطبول ، وانتشر الناس في الأسواق وقد ظهر عليهم الغضب والتحفز ، وأقفل التجار متاجرهم. فلما رأى الشيخ الدردير ثورتهم هذه قال لهم : موعدنا غدا لنجمع الناس من أطراف المدينة ، وبولاق ومصر القديمة ، وأسير معكم إلى بيوت هؤلاء الأمراء ننهبها كما ينهبون بيوتنا. وسينصرنا الله عليهم ، أو نموت شهداء. وبعد ساعات من النهار أرسل إبراهيم بك : شيخ البلد وكبير المماليك ، نائبه ، وأميرا آخر إلى الشيخ الدردير يرجوه أن يرسل إليه قائمة بجميع ما نهب من بيت الشيخ الجزار حتى يرده إليه.

وفي شهر جمادى الآخرة من السنة نفسها كان مولد السيد البدوي ، في طنطا ، وكان الشيخ الدردير في المولد ، وجاء كاشف (٢) الغربية ، من قبل إبراهيم بك ، ففرض على الناس مغارم ثقيلة ، وأخذ إبلا لبعض الأعراب كانوا يبيعونها في المولد ، فشكوا أمرهم إلى الشيخ ، فأمر بعض أتباعه أن يذهبوا إلى الكاشف ، فخشوا بطشه ولم يذهبوا ، فركب الشيخ بنفسه ومعه بعض أتباعه ، وكثير من العامة. فلما أقبل على خيمة الكاشف ناداه فحضر إليه. وكلمه الشيخ ، وهو على ظهر بغلته ، وقال له : إنكم لا تخافون الله ، واشتد عليه بالزجر والتأنيب. فلما رأى الناس ذلك خرجوا عن

__________________

(١) يقول الجبرتي إن «شفت» معناها اليهودي والأرجح انها محرفة من كلمة «جفت» التركية.

بهذا المعنى.

(٢) كاشف : حاكم.


طورهم ، وضربوا نائب الكاشف ، وقامت فتنة بينهم وبين الجند ضرب فيها وأسر واحد من أتباع الشيخ ، وذهب كاشف المنوفية وكاشف الغربية بعد ذلك يعتذران إلى الشيخ ، ولما عاد إلى القاهرة قدم إبراهيم بك بنفسه إلى منزله معتذرا ومعه كبار المماليك.

الشيخ عباس ووقف المغاربة :

وقبل ذلك بعشر سنوات آلت بعض الأوقاف المحبوسة على طلبة العلم إلى طلبة المغاربة ، ولكن واضع اليد جحد هذه الأيلولة وأبى أن يسلم الحق لأصحابه ، ولجأ في ذلك إلى الأمير يوسف بك أمير الحج فنصره هذا على باطله ، وأقام المغاربة دعواهم أمام القاضي فأثبت لهم حقهم ، ولكن الأمر كبر على يوسف بك ، وأبى أن يمتثل لحكم القضاء ، بل أمر بالشيخ عباس ـ زعيم المطالبين بوقف المغاربة ـ أن يساق إلى السجن. فلما ذهب رسل الأمير يوسف بك إلى الأزهر لأخذ الشيخ عباس طردهم الأزهريون وسبوهم ولم يمكنوهم منه ، ثم قصدوا إلى الشيخ أحمد الدردير فأخبروه الخبر ، فكتب الشيخ إلى يوسف بك ألا يتعرض لأهل العلم ، وألا يعاند في حكم أصدره القاضي ، وأرسل الشيخ كتابه هذا إلى يوسف بك مع شيخين اختارهما لذلك. فلما وصل الشيخان برسالة الدردير أمر يوسف بك بالقبض عليهما وزجرهما زجرا شديدا ثم سجنهما.

ووصل خبر ذلك إلى الشيخ الدردير ، وأهل الأزهر ، فاجتمعوا عند الصباح وأبطلوا دروس العلم ، والأذان ، والصلاة. وأقفلوا أبواب الجامع. وجلس العلماء عند القبلة القديمة. وكان الأزهر يموج بالناس ، فصعد الصغار منهم إلى المنارات والمآذن يكثرون من الدعاء على الأمراء. وشارك الشعب أهل الأزهر شعورهم بالسخط واحتجاجهم على الظلم ، فغلقت الحوانيت والمتاجر ، وعرف الأمراء ما جرى فأرسلوا إلى يوسف بك ليطلق سراح الشيخين ، فأطلقهما ، وأرسل شيخ البلد إبراهيم بك ، كبيرا من


رجاله إلى العلماء ، فلم يستطع إرضاءهم ، وجاء كبير آخر يطلب إلى الناس أن يفتحوا متاجرهم ، وينصرفوا لشأنهم. فذهب إليه طلبة الأزهر ، وجموع من الشعب بأيديهم العصى والمساوق ، وضربوا أتباع هذا الكبير ورجموهم بالحجارة. فأطلق عليهم هو ورجاله الرصاص. وقتل ثلاثة من الطلبة ، وجرح بعض أفراد الشعب وخشى الأمراء بعد ذلك أن يتفاقم الخطب ، وتزيد ثورة الشعب والعلماء اشتعالا ، فأرسلوا في اليوم التالي كبيرا منهم ، مع الشيخ السادات ، وآخرين من الأمراء. ورأوا من الحكمة ألا يذهبوا إلى الأزهر ، في وسط هذه الفتنة فجلسوا في مسجد الأشرف ، وأرسلوا إلى أهل الأزهر ومن معهم من الثائرين ، أن طلباتهم أجيبت ، فلم يقنعهم ذلك ، ولم يتركوا أماكنهم. فلم ير إسماعيل بك ، كبير الأمراء ، بدا من أن يذهب بنفسه إليهم ، فنزل مع الشيخ السادات ، ولم يستطع أن يواجه الثائرين داخل الأزهر ، فجلس مع السادات في مسجد المؤيد ، وأرسلا إليهم كتابا تعهد فيه إسماعيل بك أن يجيب رغائبهم ويقبل جميع ما يطلبون ، وقال : إن ضمينه في ذلك الشيخ السادات ، وظل إسماعيل بك يراسل المتترسين داخل الأزهر يوما كاملا حتى استجابوا ، وفتحوا أبواب الأزهر ، وكان مما شرطوه على إسماعيل بك ألا يمر الأغا ، ولا الوالي ، ولا المحتسب قريبا من الأزهر.

الشيخ السادات يقود الثورة :

كان الشيخ السادات ، من أكبر الشيوخ مقاما ، وأعظمهم شأنا ، وأوسعهم جاها وثروة ، وأعزهم منزلة لدى الناس ، ولدى الأمراء على السواء. ولكنه ، مع اختيار نابليون له عضوا في الديوان ، وزيارته له في بيته ، كان من أكبر خصوم الفرنسيين ، والمحرضين على الثورة عليهم.

فعند ما قامت ثورة القاهرة الأولى تبين أن زعيمها الأول هو الشيخ السادات. وثبت لديهم ذلك حتى أمر الجنرال كليبر بإعدامه ، ولكن نابليون


رده عن ذلك ، مع يقينه من زعامته للثورة ، وقال : إن قتل شيخ في مكانة السادات يضر أبلغ الضرر بمركز الفرنسيين ، ويزيد في حقد المصريين وكراهتهم له.

ثم قامت ثورة القاهرة الثانية على الجنرال كليبر. وكان السادات من المحرضين عليها. فجاءت فرصة كليبر لشفاء ما في نفسه من السادات. وكان يذكر نصيحة نابليون فلم يقتله. ولكنه أوقع به من العذاب والمهانة شيئا كثيرا. حيث فرض عليه ضريبة فادحة ، قدرها مائة وخمسون ألف فرنك. فلما رفض أن يدفعها أمر بسجنه في القلعة. وكان ينام على التراب ، ويمشون به على قدميه في شوارع القاهرة ، ويضرب في صباح كل يوم خمس عشرة عصا ، ومثلها في كل مساء وحبسوا أتباعه وخدمه. وطلبوا زوجه وابنه فلم يجدوهما. فعذبوا خادما له عذابا شديدا حتى دل على مكانهما ، فسجنوهما. ووضعوا معه زوجته في سجن واحد ، فكانوا يضربونه أمامها ، وهي تبكي. وهاجموا داره ، ففتشوها ونهبوا ما كان فيها من مال ومتاع وحفروا أرضها للبحث عما فيها من سلاح ومال. وجعلوا على بيته عشرين حارسا. وعندما أعادوا تشكيل «الديوان» (١) أخرجوه منه.

وبعد أن أنزلوه من القلعة عادوا فسجنوه فيها مرة أخرى خمسين يوما ، ثم أخرجوه بعد أن أتم دفع ما فرضوا عليه ، ولكنهم عادوا فصادروا جميع ممتلكاته وإقطاعياته ـ وكانت شيئا كثيرا ـ وحبسوا مرتباته وأوقافه وأوقاف زوجاته ، وريع الأوقاف التي كانت محبوسة على زوجة أجداده. وشرطوا عليه ألا يجتمع بالناس ، وألا يخرج إلا بإذنهم ، وأن يقتصد في نفقاته ، وينقص عدد أتباعه وخدمه.

__________________

(١) عند ما دخل نابليون القاهرة ألف «الديوان» من طبقتين «العمومي» و «الخصوصي» وكان الأخير يتألف من كبار العلماء والتجار وأهل الرأي والمنزلة من المصريين. وكان رئيسه الشيخ عبد الله الشرقاوي ومن أبرز أعضائه الشيخ السادات.


ويخاف منه الأتراك أيضا :

وعند ما قدمت الحملة التركية الإنجليزية لحرب الفرنسيين وإخراجهم من مصر ، سنة ١٨٠١ ، وعلم الجنرال مينو ، نائب نابليون وقائد الجيوش الفرنسية ، أنها نزلت أبي قير في الأسكندرية ، أمر ، للمرة الرابعة ، بالقبض على الشيخ السادات حتى لا يثير المصريين عليهم. وسجن في القلعة ، وبقي فيها سجينا حتى بارح الفرنسيون مصر.

وقد مات ابن الشيخ السادات وهو في السجن فلم يسمحوا له بالخروج ليراه ، بل أذنوا له بالسير في جنازته تحت الحراسة ، ثم أعادوه إلى السجن.

ومن مواقف الشيخ السادات الوطنية الكريمة ، أنه عند ما ضرت الحرب والحصار بالثائرين في القاهرة ، التزم بالإنفاق على المحاربين والمجاهدين في المنطقة التي كان يقيم فيها ، عند قناطر السباع.

ومات الشيخ السادات بعد ذلك في مارس سنة ١٨١٣ في عهد محمد على بعد أن عرف له الناس وسجل التاريخ هذه الشجاعة وهذا البذل.


الأزهري الشيخ سليمان الجوسقي

فرغ الشيخ سليمان الجوسقي (١) من صلاة الفجر في الجامع الأزهر على عادته في كل يوم ، ولكنه في ذلك اليوم كان يبدو على غير عادته في كل شيء ، فهو ساهم واجم يستغرقه تفكير عميق ثقيل ، وهو في تفكيره منصرف عن كل شيء من حوله ، حتى كان إخوانه يتلقونه بتحية الصباح فلا يجيبهم ، وكان طلابه يكبون على يده يقبلونها فيلقيها إليهم في إغفال واستسلام كأنه لا يبالي شيئا من أمرهم.

ومضى الشيخ الجوسقي إلى حلقة الدرس وهو على هذه الحال ، ساهم واجم ، مستغرق في ذلك التفكير العميق الثقيل ، ولقد أخذ مكانه في حلقة الدرس والطلاب يحفون به منصتين ، ولكنه جلس صامتا واجما لم يتكلم بكلمة ، ولم يعنه أن يسأل الطلاب فيما حققوا من مسائل الدرس أو صادفوا من مصاعبه كشأنه معهم في كل يوم.

وما كان الشيخ الجوسقي هكذا أبدا ، ولا عرف طلابه عنه هذه الحال في يوم من الأيام ، فقد كان شيخا مكفوف البصر ، يتولى شئون طائفة العميان والتدريس لهم في الأزهر ، ولكنه لم يكن يرى في تلك المحنة حدا

__________________

(١) مجلة الأزهر الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف.


يعوقه عن أي شأن من شئون الحياة ، فكان معروفا بين إخوانه بقوة الشكيمة والصرامة في الحق ، يحرص كل الحرص على مصالح طائفته ، ويبذل كل الجهد لاستخلاص حقوقهم ، ولو أدى ذلك إلى الاعتماد على القوة ، والالتحام في المعركة ، وكان إلى جانب هذا متفتح النفس ، يهش للدعابة ، ويطيب له التبسط في الحديث مع طلابه ومريديه ، ويعنيه أن يتحقق بنفسه شئونهم العامة ، ومسائلهم الخاصة ، ومن ثم كان طلابه يخشونه أشد الخشية ، ويحبونه أعظم الحب ، وكان إذا ما أقبل على الدرس في كل يوم بعد الصلاة الأولى أقبلوا عليه ، فيفضون إليه بما في نفوسهم ، ويسمعون منه بما يشير به عليهم ، ثم يفرغون معه لدرس التفسير في كتاب الله الكريم ، وما يزالون حتى ترتفع الشمس ، ثم ينصرفون للاستعداد لدرس آخر.

ولكن الشيخ أقبل على طلابه في ذلك اليوم ، وهو على تلك الحال التي لم يألفوها منه ، ولم يعرفوها عنه ، وأشفق الطلاب أن يكون قد نزل بشيخهم مكروه في نفسه أو في أسرته ، فقال قائل منهم : لا بأس على مولانا الشيخ فيما نرى ، فقد فات موعد الدرس وهو منصرف عنا!

قال الشيخ في صوت محتبس أجش : كيف وهذا هو اليأس يأخذ بنواصينا وأقدامنا ، وهذا هو الكرب يشد على خناقنا شدا عنيفا ، فليس لنا منه متنفس. وفيم أنتم وهذا الدرس ، وما هو إلا كلام تلو كونه بألسنتكم ، وتخورون به خوار البقر ، ولكنكم والله لا تحسونه بقلوبكم ، ولا تعرفون فيه حق دينكم ، وهل حسبتم أن الإسلام هو تلك الكلمات التي ترددونها وتناقشونها ثم تنصرفون بها إلى الناس ، وكأنها تجارة كلامية ، حسبكم من الربح فيها تلك الفضلات التي تقيم أودكم ، وتمسك رمقكم ، إذن فيا ضيعة الإسلام فيكم ، ويا خسارته بكم ، ولست أدرى أهي نهاية الزمان ، أم أن الله مقيض لهذا الأمر من ينهض به ويبعثه بعثا جديدا في عقول هذه الأمة وقلوبها؟!


قال الطالب : وهل عرف شيخنا على أحد منا سوءا في دينه ، أو تفريطا في حق من حقوقه؟!

قال الشيخ : وما ذا بقي هناك من حقوق دينكم؟ وأي أثر لذلك في نفوسكم؟ لقد جل الخطب حتى أوشك أن لا يبقى من هذا الدين بقية تتصل بأرواحكم ، هؤلاء هم الفرنسيون الكفار قد وطأوا بلادكم فسكتم ، ثم انتهبوا دوركم وأموالكم فأذعنتم ، ثم انتهكوا حرماتكم وأعراضكم فرضيتم وصبرتم ، وها هم أولاء ـ فيما عرفت ـ يعمدون إلى تغيير نظام المواريث في دينكم ، فيجعلون حق الإرث كله للبنت وليس للولد منه شيء كما هو شرعهم ، ومتى بطل جزء من الشريعة فإنها جميعها لا بد صائرة إلى المسخ والزوال ، وإنكم لصائرون غدا أرقاء في خدمة هؤلاء الفرنسيس الكفار ، وبكم تكون نهاية هذا الدين ، وزوال الملة ، ونعوذ بالله من هذا الزمان.

وسرت بين الطلاب همهمة وغمغمة ، وارتفعت الصيحات استنكارا لتلك النازلة الساحقة التي حلت بالمسلمين في دارهم ، ووقف بعض الطلاب يتكلمون ، فمنهم من يلقي اللوم على أولئك المماليك الجبناء الذين فروا من مواجهة العدو وتركوا الشعب يتلظى في أتون المعركة ، ومنهم من يعتب على دولة بني عثمان التي تركت الفرنسيين يصلون إلى فتح هذه الديار ، ومنهم من يسب الخائنين والمارقين من أبناء الطوائف الدخيلة على البلاد لأنهم تعاونوا مع العدو ومكنوه من رقاب الشعب ، ومنهم من يقول : إنه غضب الله على المسلمين جزاء ما فرطوا في دينهم ، وحقوق ملتهم.

وعاد الشيخ الجوسقي يتكلم فقال : حسبكم يا أبنائي هذا الضجيج على غير طائل ، إننا اليوم لسنا في مقام توزيع التبعات وليس من الحكمة أن نترك السفينة تهوي إلى القاع ونحن مشغولون بمعرفة الملوم في هذه الكارثة ، وإنما الواجب أن نفزع لدفع النازلة التي حلت بنا ثم نصفي أمورنا


إذا بقي لنا أمر بعد ذلك ، فحرام عليكم طعامكم وشرابكم ، وحرام عليكم أن تقيموا على الضيم في وطنكم ، وأن تجلسوا في هذا المكان باسم الإسلام والفرنسيون يصنعون بإسلامكم ما شاءوا أن يصنعوا.

قال قائل منهم : وما ذا في طاقتنا أن نصنع إزاء حرب الفرنسيين. وقد حرمنا نعمة البصر فما ندري إلى أين نسير ، والله يقول : «ليس على الأعمى حرج».

ولم يكد الطالب بتم قولته حتى انفجر الشيخ كالبركان قائلا : ألا لعنة الله عليكم إن كان هذا هو مدى إدراككم ويقينكم ، نعم لا حرج عليكم فيما هو من شئونكم الخاصة ، ولكنكم اليوم إزاء كارثة حلت بدار الإسلام ، وإنها لآخذة برقابكم جميعا ، والله يقول : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، فانفروا إلى الناس في دورهم ، وحيث هم في أعمالهم ، وتفرقوا على أبواب الطرق والحارات ، وقولوا لكل من لقيتم إنكم اليوم بين شقي الرحى ، وإن الفرنسيين قد استباحوا حرماتكم ، وأهانوا شرفكم ، ونهبوا أموالكم ، وبدلوا دينكم ، فلا عزة لكم بين الأمم ، ولا كرامة لكم عند ربكم إذا ما رضيتم بهذا الأمر فيكم.

ووقف الشيخ في انفعال وقوة ، وأخذ يصرخ قائلا والدموع تنحدر على خديه : والله ما قام عمود هذا الدين إلا بالجهاد ، ولا أزهرت شجرة الإسلام إلا بدماء الشهداء ، ولقد خاض رسول الله الحرب حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ، وفي سبيل الله استشهد سادتنا من الصحابة والتابعين ، فلعنة الله علينا إن كنا من القاعدين بعد اليوم .. ثم اندفع الشيخ واندفع معه طلابه إلى الخارج وهم يصيحون : إلى الجهاد والاستشهاد ، إلى الموت في سبيل الله .. وكانت الثورة.

* * *

كانت الشمس ترتفع للضحى ، وكانت القاهرة تبدو هامدة واجمة


تحت وطأة ذلك الكابوس الفرنسي الذي جثم على قلبها فجأة ، وكان الناس يغدون ويروحون وهم لا يدرون من أمرهم شيئا لليوم أو الغد ، فما هي إلا ساعات من نهار حتى كانت القاهرة تغلي كالمرجل ، وكان الناس يقفون فيها على قدم وساق متوثبين متحفزين لأمر له ما بعده ، فقد تفرق شيوخ الأزهر وطلابه على أبواب الطرق ، وتغلغلوا في الحارات والأزقة بحي الأزهر والحسينية ، وراحوا يتحدثون إلى الناس بشأن هؤلاء الفرنسيين الذين استعمروا بلادهم ونهبوا أموالهم ، واسباحوا حرماتهم ، وأخذوا يذكرونهم بحق الدين في الجهاد والاستشهاد ، وكأنها كانت الشرارة قد اندلعت في الهشيم ، فإذا بالجموع تتداعى من كل ناحية ، والصيحات ترتفع من كل جانب : إلى الجهاد ، إلى الاستشهاد ، النصر للإسلام.

واتصل الخبر بالسلطات الفرنسية ، فركب الضابط «ديوي» على رأس قوة كبيرة من الفرسان والجنود ، ومر بشارع الغورية ، وعطف على خط الصنادقية ، ثم قصد إلى بيت القاضي فوجد جموعا كبيرة من المصريين وهم يصيحون ويتوعدون ، فتراجع أمامهم وأراد أن يخرج من بين القصرين ، ولكنهم أدركوه والتحموا به في معركة عنيفة أسفرت عن جرح «ديوي» بجراح بالغة وقتل أكثر فرسانه وجنوده ، ولم يفلت القائد الفرنسي من براثنهم إلا بأعجوبة ... وأيقن أبناء القاهرة أن هذه المعركة ليست إلا بداية موقف حاسم بينهم وبين الفرنسيين ، وأخذوا من وقتهم يستعدون لهذا الموقف ، فرابطت الجموع عند الأطراف وعلى مداخل القاهرة عند باب الفتوح وباب النصر والبرقية وباب زويلة وباب الشعرية ، وأقاموا المتاريس في كل مكان مفتوح للهجوم ، وأخرجوا ما عندهم من السلاح والذخيرة ، وباتوا الليل ساهرين منتظرين.

وأصبح الصباح ، وكانت القوات الفرنسية قد أخذت أماكنها فوق تلال البرقية والقلعة ، وهي مستعدة بالعتاد الكامل ، والمدافع الثقيلة ، ثم أخذت تقصف القاهرة بالقنابل وركزت الضرب على حي الأزهر بصفة خاصة ،


وتساقطت القنابل على الدور وفوق السكان ، ولم يكن دوي القنابل مألوفا لعامة الشعب ، فسار بينهم الفزع والرعب ، ولكن المرابطين على المتاريس وقفوا ثابتين يدافعون في شجاعة وعناد ، وأمضت القاهرة ليلة مظلمة لم تعهدها من قبل ، فكنت لا تسمع في وسط ذلك الظلام الخانق الرهيب ، إلا دوي القنابل وهي تتساقط في كل مكان ، وإلا صيحات المجاهدين والمدافعين وهي تتجاوب بالثبات والإقدام ، وطال الترقب ، والفريقان يتبادلان الرمي والضرب ، وأرسل الفرنسيون إلى شيوخ الأزهر أكثر من مرة لعلهم يتدخلون لتهدئة الثورة ، ولكن المواطنين أصروا على الكفاح إلى آخر رمق من حياتهم.

واستمرت المعركة دائرة يومين وليلة وتساقط القتلى من الجانبين في الشوارع والطرقات وتهدمت الدور في كثير من المواقع ، وبقي المواطنون في أماكنهم صامدين ، يناضلون ويدافعون حتى فقدت الذخيرة منهم ، فوقفوا عن الضرب والرمي ، وانفتحت الأبواب أمام الفرنسيين ، فانحدروا إلى القاهرة بخيلهم ورجلهم وهم يمعنون في الأهالي العزل قتلا وفتكا ، وعاثوا في حي الأزهر جميعه ، ثم اقتحموا الجامع الأزهر بخيولهم ، واستباح أولئك الذين جاءوا يبشرون في الشرق بمبادىء الثورة الفرنسية ذلك الحرم المقدس ، فربطوا فيه خيولهم ، وشربوا فيه الخمور ، وعاثوا بكل ما فيه من المصاحف والكتب والخزائن فسادا وتلفا وداسوها بنعالهم.

وأصبح الصباح في اليوم التالي ، وكانت القوات الفرنسية كلها قد تجمعت في حي الأزهر وفي جميع الأحياء التي عضدت الثورة ، وأخذوا ينهبون الدور ويبحثون عن السلاح في كل مكان ، ثم أخذوا يبحثون عن الشيوخ الذين تزعموا الثورة واعتقلوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان ، والشيخ أحمد الشرقاوي ، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي ، والشيخ يوسف المصيلحي ، والشيخ إسماعيل البراوي ، وحبسوهم في بيت البكري


بعض الوقت ، ثم نقلوهم إلى القلعة ..

وقصد الشيخ السادات ومعه بعض كبار المشايخ بالأزهر إلى القائد الفرنسي وطلبوا منه العفو عن الشيوخ المعتقلين فأمهلهم بعض الوقت ، وفي كل يوم كانوا يذهبون إليه متشفعين فيمهلهم حتى يستقر الأمن ، وبعد خمسة عشر يوما انكشفت الحقيقة في صنع الاستعماريين ، فقد وجدت جثث الشيوخ الخمسة وراء سور القلعة ، بعد أن قتلهم الفرنسيون ومثلوا بهم أشنع تمثيل ، ذلك لأنهم ارتكبوا أشنع جرم في حق أبناء المدنية الفرنسية ، فطالبوا بحق أمتهم في الحرية والحياة ...



رفاعة رافع الطهطاوي

* رفاعة رافع الطهطاوي .. ولد في ديسمبر سنة ١٨٠١ ببلدة طهطا محافظة جرجا ويختلف المؤرخون حول يوم مولده.

* كان والده تاجرا صغيرا توفي ورفاعة في سن الخامسة عشرة فرحل إلى القاهرة طلبا للعلم والتحق بالأزهر وقد كانت وسيلة سفره سفينة شراعية فاستغرقت الرحلة أسبوعين.

* في عام ١٨٢٤ عين واعظا وإماما لإحدى فرق الجيش النظامي الذي أسسه محمد علي وكان قائدا لفرقة حسن المانسترلي «بك».

* سافر إلى فرنسا عام ١٨٢٦ إماما للبعثة التعليمية المصرية بباريس وتقرر له مرتب يوزباشي .. وحضر قيام الثورة الفرنسية ضد شارل العاشر سنة ١٨٣٠.

* تأثر بالعلوم السياسية الفرنسية فترجم الدستور الفرنسي «دستور ١٨١٤» معلقا على مواده بما يدل على فهم دستوري صحيح.

* عاد إلى مصر سنة ١٨٣١ فتولى منصب أستاذ ترجمة وتدريس اللغة الفرنسية بمدرسة الطب.


* في عام ١٨٣٣ نقل من مدرسة الطب إلى المدفعية برتبة أميرلاي وعهد إليه بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية.

* أنشأ مدرسة الألسن سنة ١٨٣٦ بسراي الألفي بالأزبكية.

* في عام ١٨٥١ أرسله الخديو عباس الأول إلى السودان بعد أن أغلق مدرسة الألسن بحجة توليه إدارة مدرسة أنشئت بالسودان وكان القصد إبعاده.

* عاد من السودان عام ١٨٥٤ بعد وفاة الخديو عباس وتقلب في عدة وظائف حتى أسندت إليه سنة ١٨٥٥ وكالة المدرسة الحربية.

* أسس أول مدرسة لتعليم البنات سنة ١٨٧٣.

* من أشهر كتبه .. «تخليص الإبريز في تلخيص باريس».

* توفي في ٢٧ مايو سنة ١٨٧٣ .. ونشر نعيه بالوقائع السرية جريدة الدولة الرسمية.

إن أول صحفي في مصر (١) بل وفي العالم العربي كله ، كان أزهريا وهو المرحوم الشيخ إسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب قال عنه : (الفيكونت فيليب دي ترازي) في كتابه (تاريخ الصحافة العربية) عند حديثه عن البعثة العلمية التي رافقت حملة نابليون بونابرت إلى مصر أنها أحضرت معها مطبعة من باريس ثم يقول :

(وأول عمل باشرته هذه البعثة العلمية أنها نشرت ثلاث جرائد في المطبعة المذكورة إحداها (الحوادث اليومية) كان يحررها إسماعيل بن سعد الخشاب وهي جدة الصحف في لغة الناطقين بالضاد).

ويقول عنه الجبرتي في كتابه التاريخي المعروف : (تولع السيد إسماعيل بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي

__________________

(١) مجلة الأزهر ـ الأستاذ محمد علي غريب.


وغيره من أفاضل الوقت وأنجب في الفقه الشافعي والمعقول وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض.

إلى أن يقول :

ولما رتب الفرانساوية ديوانا لقضايا المسلمين تعين المترجم في كتابة لتاريخ لحوادث الديوان ، وما يقع فيه من ذلك اليوم .. لأن القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم ثم يجمعون المتفرق في ملخص ، يرفع في سجلهم ، بعد أن يطبعوا منه نسخا عديدة يوزعونها في جميع الجيش ... حتى لمن يكون منهم في غير المصر من قرى الأرياف ، فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم.

فلما رتبوا ذلك الديوان ، كما ذكر كان هو المتقيد برقم كل ما يصدر في المجلس : من أمر ونهي ، أو خطاب أو جواب ، أو خطأ أو صواب ، وقرروا له في كل شهر سبعة آلاف ونصف فضة.

فلم يزل متقيدا في تلك الوظيفة مدة ولاية عبد الله جاك مينو ، حتى ارتحلوا من الإقليم. ولقد جمع من سجلات الحوادث عدة كراريس ولا أدري ما فعل بها.

هذا هو إسماعيل الخشاب ، أول صحفي عربي على الإطلاق ، خرج من الأزهر إلى الصحافة ، وكانت صحيفته صغيرة لا يقرؤها إلا القليلون.

ويجيىء من بعده المغفور له الشيخ (رفاعة رافع الطهطاوي) وهو المقصود بحديثنا وصاحب أكبر فضل على النهضة العلمية والأدبية والاجتماعية في مصر ، ولقد ولد عام ١٨٠١ وتوفي عام ١٨٧٣ وكانت مسقط رأسه مدينة (طهطا) في الصعيد ولقد نشأ في أسرة كانت من أهل اليسار ثم أخنى عليها الدهر فمضى والده في طلب الرزق إلى مدينة (قنا) وبعدها إلى مدينة (فرشوط).


وقد سافر إلى فرنسا ورأى حرية هناك جعلته يشعر بالطغيان الذي يعانيه أبناء وطنه مصر ورأى ما يمكن أن يقدمه الفكر الراجح من أساليب النشاط الإنساني في شتى مناحي الحياة ، وفي فرنسا رأى الصناعة الزاخرة بالخير والنفع على الفرنسيين أجمعين فدعا إلى التصنيع في بلاده.

ولقد دعا رفاعة الطهطاوي ، المصريين إلى الحفاظ على نعمة الحرية وإعلاء شأن الفكر وإنشاء المصانع لتنافس أمتهم أرقى شعوب العالم في الحضارة والمدنية ، ولتعود إليها سيرتها الأولى في التقدم والازدهار.

وعاد رفاعة الطهطاوي إلى مصر وكله شعلة من الوطنية المتأججة ، فأشار على محمد علي بأن يصدر صحيفة «الوقائع المصرية» وتولى الشيخ رفاعة رياسة تحريرها وراح يكتب فيها المقالات التي تحث على استنهاض الهمم وبعث الشعور القومي وشحذ العزائم في سبيل خدمة الوطن.

وهي أقدم جريدة عربية على الإطلاق إذ لم تسبقها جريدة عربية أنشأها عربي في وطننا العربي الكبير.

وما صنعه رفاعة الطهطاوي لأمته يكثر إحصاؤه على المغرمين بالأرقام ، فقد ترجم عشرات الكتب من الفرنسية إلى العربية وأودع ثمراتها عقول أولئك المتعطشين إلى العلم والمعرفة ، وبارك الله في جهوده فألف وصنف ، وكانت غاية جهاده أن يرتقي بأمته إلى المكان الذي رأى فيه فرنسا.

ولقد خلف رفاعة الطهطاوي وراءه ثروة أدبية ضخمة هي طراز لما يجب أن يقوم به الرائد العظيم نذكر منها : (خلاصة الإبريز) والديوان النفيس) و (التعريبات الشافية لمريد الجغرافية) و (جغرافية ملطبرون) و (قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر) و (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) و (التحفة المكتبية) و (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك) و (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية) و


(مختصر معاهد التنصيص) و (المذاهب الأربعة) و (شرح لامية العرب) و (القانون المدني الإفرنجي) و (توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل) و (هندسة ساسير) و (رسالة في الطب) و (جمال الأجرومية) و (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز).

وهكذا عاش رفاعة الطهطاوي حياته كلها خادما أمينا للدين وللعلم وللمعرفة باذلا غاية جهده في تحريك موجات الفكر في بحرنا الآدمي المتلاطم.



صورة عن الامام الشيخ محمد عبده

نسبه ومولده ونشأته :

هو محمد بن عبده بن حسن خير الله ، من أسرة مصرية ريفية متوسطة الثراء ، في قرية من إقليم البحيرة بشمال مصر تسمى محلة نصر ، وكان أبوه يشتغل بالزراعة شأنه شأن سكان الريف جميعا. وولد له ابنه محمد في عام ١٢٦٦ ه‍. ونشأ في أول الأمر مدللا ثائرا على وضعه الاجتماعي ، فأبى أن يشارك أباه في عمله ، وعزف عن التعليم في مكتب القرية على عادة أمثاله ولداته ، وظل كذلك حتى بلغ العاشرة من عمره ، واشتد القلق بوالده فأحضر له فقيها لازمه حتى حفظ القرآن الكريم. وتعلم مبادىء القراءة والكتابة ، ثم أرسل به إلى طنطا فجود القرآن وأحسن تلاوته ، ثم ألحقه بمعهدها الديني. وقد بلغت سنة خمسة عشر عاما ، ولكن محمدا لم يتفتح قلبه لطرق الدراسة حينذاك ، ففر من معهده مرارا ، وأبوه يحاوله ويعالجه ، وهو يلج في العناد والإباء. وأخيرا نزل ضيفا على خال لأبيه في إحدى القرى المجاورة لبلدته ، وكان عالما ذكيا استطاع أن ينفذ إلى قلبه ، وأن يحبب إليه العلم والدراسة ، فلقنه تفسير القرآن. وقرأ عليه عدة كتب في الحديث من أشهرها موطأ الإمام مالك ، ثم عاد بعد ذلك إلى معهده فأتم الدراسة فيه ، وانتقل إلى الأزهر في عام ١٢٨٢ ه‍ ورأى أن ينتقل من


مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة لأنه المذهب الرسمي للحكومة وعليه القضاء والفتيا ، وظل ينازع نفسه ، ويغالب السأم والملال من الدراسات المعقدة والأساليب الملتوية ، حتى حصل على شهادة العالمية في عام ١٢٩٤ ه‍ ، وقد انتزعها انتزاعا بعد معارضة بعض العلماء في منحة إياها لجرأته وصراحته ، وزرايته بنظم الأزهر وطريقة التدريس فيه في ذلك الوقت ، واصطدامه ببعض شيوخه ومخالفتهم في كثير من الآراء والعقائد.

ثقافته وأساتذته :

كان الإمام ذكيا ألمعيا يتمتع بذهن متوقد ، وفكر ثاقب ، ونفس طلعة متحررة ، لا تحب القيود ، ولا تخضع لما تواضع عليه الناس ، فمال إلى التزود بجميع أنواع الثقافات ، وفتن بالعلوم العقلية واللسانية والأدبية ، واستقى الدين من منابعه الأولى ، ضاربا صفحا عما ابتدعه العلماء من مذاهب وعقائد ، وما أدخلوه في الدين من بدع وأساطير وخرافات.

اقتنع الشيخ بانحراف العلماء عن سنة السلف ، ومال إلى الدراسة الاستقلالية الحرة ، وشغف بالتاريخ والمنطق والفلسفة الإسلامية ، والرياضة والفلك ، وتلمس السبل لفهم ما استعصى عليه ، فاتصل وهو طالب بعالم فحل اسمه الشيخ حسن الطويل ، ولازمه وأفاد منه ، ووجد عنده ما افتقده عند غيره من العلماء فلم يظفر به ، واتصل كذلك بجمال الدين الأفغاني منذ وفد علي مصر وأخذ عنه الأدب والتوحيد والمنطق وأصول الفقه والفلسفة وغير ذلك من العلوم ـ كما أخذ عنه آراءه في السياسة والاجتماع ، وثورته على ظلم الحكام واستبداد الولاة ، ودعوته إلى نظام شورى إسلامي يقضي على المطامع والنفعية والاستغلال.

بيئته وأثرها في حياته :

نشأ الشيخ في عصر يموج بالأحداث والأعاصير ، وتتوالى فيه الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد كبل إسماعيل البلاد


بأغلال الدّين ، ومكن للأجانب من التدخل في شئونها ، والإشراف على مواردها ومنحهم امتيازات سيطروا بها على الوطنيين وانتشروا في المدن والقرى يبيعون الخمر والسموم ، ويتعاملون بالربا ، وتسقط الثروات في أيديهم كما تسقط أوراق الشجر أدركه الخريف ، ثم كان عهد توفيق وقيام الثورة العرابية ، واستعانة هذا الحاكم الخائن بالإنجليز ليحتلوا البلاد وينكلوا بقادتها وزعمائها ، ويلقوا بهم في السجون والمعتقلات ، ويقذفوا ببعضهم إلى خارج البلاد ليذوقوا مرارة النفي وألم البعاد والتشريد ، وكان للشيخ دور بارز في مقاومة البغي والعدوان ، وجاهد بقلمه ولسانه في صفوف الثورة ، وأفتى بخلع الخديو فحكم عليه بالنفي ، وقضى عدة سنوات بسوريا وفرنسا وتونس ، ولقي من الشدائد والأهوال ما الله به عليم.

ولكن الإمام أفاد من هذا الكفاح ، واكتسب خبرة بشئون الحياة لم تتهيأ لغيره من القادة والزعماء ، ولم يكّف عن أداء رسالته الدينية والوطنية ، فتولى التدريس بسوريا وتونس ، واشترك مع جمال الدين الأفغاني في إنشاء صحيفة العروة الوثقى بفرنسا ، وعاد من النفي أمر عودا وأصلب مكسرا ، وكانت له بعد ذلك جولات وصولات.

تقلبه في مناصب الدولة :

تولى الشيخ عقب تخرجه في الأزهر دراسة التاريخ الإسلامي بدار العلوم ، ودراسة اللغة العربية بمدرسة الألسن ، ثم عزلته الحكومة من عمله مخافة انتشار آرائه وأفكاره بين التلاميذ ، وقوة تأثيره في الأوساط الوطنية والشعبية ، ثم اختير بعد ذلك لرياسة تحرير الوقائع المصرية ، وبعد عودته من النفي أبعد عن التدريس ، وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية ، وعضوا في مجلس الأزهر الأعلى ، ثم اختير لمنصب الإفتاء وعضوية مجلس الأوقاف الأعلى ، كما كان عضوا بمجلس الشورى ، ورأس جمعية إحياء العلوم


العربية التي أسست سنة ١٣١٨ ه‍ ، وإليه يرجع الفضل في نشاط هذه الجمعية وإحياء كثير من كتب الأدب والدين وغيرهما.

وطنيته ودعوته للحرية السياسية والفكرية :

عاش الشيخ طول حياته مجاهدا مكافحا ، داعيا للتحرر الوطني ، وإرساء قواعد الحكم الشورى ، ومقاومة المحتلين وأذنابهم ، وعمل على نشر الوعي القومي في نفوس النشء ، وتحرير الفكر العربي من شوائب الجهالة ، وتكوين مجتمع إسلامي يتعاون أبناؤه لإقامة وحدة تعمل على ترقية شئونهم السياسية والاجتماعية ، وقد ألهب عواطف الوطنيين بقلمه ولسانه ، وبث بذور الثورة على الطغيان التركي ، وفساد أداة الحكم في مصر. ولو أن العرابيين استمعوا لنصحه ، وتريثوا قليلا حتى يستكملوا عدتهم وعتادهم لبلغت الثورة هدفها ، وآل حكم البلاد إلى بنيها ، ونجت مصر من الاحتلال الإنجليزي الذي جثم على صدرها طويلا.

إصلاحاته وآراؤه. والصراع بينه وبين علماء عصره :

كان الشيخ يرى أن إصلاح المجتمع الاسلامي يجب أن ينبع من الأزهر ، وأن يكون علماء الدين هم رسل النهضة وقادة الإصلاح ، ولكي يقوم الأزهر برسالته لا بد له من الخروج عن عزلته وجموده ، وأن يوثق صلته بالشعب ، ويجدد في نظمه وطرق التدريس فيه ، ويطهر الدين من الشوائب والخرافات ، وأن يعيد النظر في الآراء الاجتهادية التي أثبت العلم بطلانها ، ويعالج المشاكل التي نبتت في العصور الحديثة ويبين حكم الدين فيها ، وأن يعني بالتقويم الخلقي ومحاربة البدع والضلالات ، والرد على ما أثاره خصوم الإسلام من شبه تتناول أصوله وفروعه ، وأن يعد أبناءه للاضطلاع بوظائف الدولة ، وتولى شئون القضاء والتدريس على النظم الحديثة.

وقد وضع رحمه الله نظاما لإصلاح المحاكم الشرعية ، ومشروعا


لإصلاح الأزهر في النواحي الإدارية والعلمية ، وأراد أن يجدد في منهج التدريس بطريقة عملية بارعة حببت إلى الناس طلب العلم ، وغشى حلقته كثير من الأزهريين وغيرهم ، كما درس التفسير والمنطق والحكمة والفلسفة وعلم الكلام بأسلوب بليغ وعبارات جزلة فياضة. وقوة في الدليل والترجيح بين الآراء ، ونفي ما يثبت بطلانه وعدم جدواه.

وقد ثار بعض المتزمتين من الأزهريين والمتصوفة على الشيخ ورموه بالإلحاد والزندقة ، والخروج عما تواضع عليه العلماء والمؤلفون. وأقاموا من حوله سياجا من الشك والشبهات ، ولجوا في معارضته والطعن عليه ، وهو صابر محتسب ، يقابل أذاهم بالتسامح ، ومعارضتهم بالحجج الدامغة والبراهين الواضحة. وإلى هذا يشير حافظ إبراهيم في رثائه للإمام إذ يقول :

وآذوك في دين الإله وأنكروا

مكانك حتى سودوا الصفحات

رأيت الأذى في جانب الله لذة

ورحت ولم تهمم لهم بشكاة

لقد كنت فيهم كوكبا في غياهب

ومعرفة في أنفس نكرات

أبنت لنا التنزيل حكما وحكمة

وفرقت بين النور والظلمات

ووفقت بين الدين والعلم والحجا

فأطلعت نورا في ثلاث جهات

وقفت لهانوتو ورينان وقفة

أمدك فيها الروح بالنفحات

وإنما كان غضب بعض الأزهريين عليه لأنه كشف عن جهلهم وعجزهم عن أداء رسالة الدين والعلم ـ كما كان غضب الصوفية عليه لأنه سلفه طرقهم وأوضح دجلهم وتضليلهم لعقول الناس ، حتى أحالوا الدين إلى خرافات وأوهام لا تتصل به من قريب أو بعيد.

ويعد الأستاذ الإمام مجدد الأدب النثري في العصر الحديث. ومحرره من القيود التي أثقلته وجنت عليه في العصور الوسطى. جدد الشيخ في أسلوب النثر ، وفي معانيه وموضوعاته ، وامتازت كتابته بالوضوح وحسن


الترتيب وسلامة التراكيب ، والبراءة من الغريب والحشو والتوعر.

والمتأمل في أدبه يراه قد تنقل في أطوار عدة ، فقد كان أول أمره يميل إلى السجع والتكلف والصنعة ، وبعض المحسنات البديعية والمصطلحات العلمية. ويستعمل ألفاظا دخيلة من اللغات الأوروبية أو التركية ، ثم أخذ يتحلل من قيود الصنعة شيئا فشيئا بعد تضلعه في الأدب العربي ، والإكثار من قراءة الكتب القديمة ، ثم سما وعذب ورق بعد دراسته اللغة الفرنسية والآداب الأوروبية الحديثة ـ وقد شاعت طريقته بين المتأدبين في هذا العصر فترسموا خطاه وساروا على نهجه.

مؤلفاته العلمية والأدبية :

لم تدع الأحداث السياسية والحركات الإصلاحية لدى الأستاذ الإمام متسعا من الوقت للإنتاج والتأليف ، ولكنه استرق من وقته فترات ألف فيها رسالة التوحيد وتفسير جزء عم ، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ، وشرح نهج البلاغة ، ومقامات البديع ، وهو في جميع هذه الكتب محقق ، واسع الأفق ، عميق الفكرة ، واضح الحجة ، فخم العبارة ، قوي الأسلوب.

ولم يعن الإمام بقرض الشعر مع كثرة حفظه له ، واستشهاده به ، ولم يسمع عنه سوى أبيات نسبت إليه ، وزعم بعض المتصلين به أنه قالها وهو يستقبل الموت ، وهي :

ولست أبالي أن يقال محمد

أبلّ أو اكتظت عليه المآتم

ولكن دينا قد أردت صلاحه

أحاذر أن تقضي عليه العمائم

فيا رب إن قدرت رجعي قريبة

إلى عالم الأرواح وانفض خاتم

فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا

رشيدا يضيء النهج والليل قاتم


وإنما كانت عنايته منصرفة إلى النثر في جميع فنونه وأغراضه ، وهذه نماذج منه :

١ ـ كتب في رسالة إخوانية إلى بعض أصدقائه ، وفيها سجع متخير مقبول ، قال :

تناولت كتابك ولم يذكر مني ناسيا ، ولم ينبه لذكرك لاهيا ، فإني من يوم عرفتك لم يغب عني مثالك ، ولا تزال تتمثل لي خلالك ، ولو كشف لك من نفسك ما كشف لنا منها لفتنت بها ، ولحق لك أن تتيه على الناس أجمعين ، ولكن ستر الله عنك منها خير ما أودع لك فيها لتزينها بالتواضع ، وتجملها بالوداعة ، ولتسعى إلى ما لم يبلغه ساع ، فتكون قدوة في علو الهمة ، وبذل ما يعز على النفس من نفع الأمة ، زادك الله من نعمه ، وأوسع لك من فضله وكرمه ، ومتعنى بصدق ولائك ، وجعلك لي عونا على الحق الذي أدعو إليه ، ولا أحيا إلا به وله. والسلام.

٢ ـ وكتب إلى حافظ إبراهيم حين أهداه كتاب «البؤساء» ، ومعه رسالة تقدير وإطراء ، فقال :

لو كان لي أن أشكرك لفن بالغت في تحسينه ، أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينه ، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ، ويجري في الشكر إلى الغاية كما يطلبه فضلك ، لكنك لم تقف بعرفك عندنا ، بل عممت من حولنا ، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.

زففت إلى العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية ، سحرت قومها ، وملكت فيهم يومها ، ولا تزال تنبه منهم خامدا ، وتهز فيهم جامدا ، بل لا تنفك تحيى من قلوبهم ما أماتته القسوة ، وتقوم من نفوسهم ما أعذرت فيه الأسوة ، كلمة أفاضها الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلا منا ، فجردها من ثوبها الغريب ، وكساها حلة من نسج الأديب ، وجلاها للناظر ،


وجلاها للطالب ، بعد ما أصلح من خلقها ، وزان من معارفها ، حتى ظهرت محببة للقلوب ، رشيقة في مؤانسة البصائر ، تهش للفهم ، وتبش للطف الذوق ، وتسابق الفكر إلى مواطن العلم ، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام ، فما أعجز قلمي عن الشكر لك ، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.

٣ ـ وكتب إلى أحد أصحابه وهو في السجن كتابا يفيض بالألم ، استهله بقول الشاعر :

تقلدتني الليالي وهي مدبرة

كأنني صارم في كف منهزم

ثم قال بعد قليل :

رأيت نفس اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه ، في ليلة داجية غطى فيها وجه السماء بغمام سوء ، فتكاثف ركاما ركاما ، لا أرى إنسانا ، ولا أسمع ناطقا ، ولا أتوهم مجيبا ، أسمع ذئابا تعوي ، وسباعا تزأر ، وكلابا تنبح ، كلها يطلب فريسة واحدة ، هي ذات الكاتب ، ذهب ذوو السلطان في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشبه ، ومقذوفات من التهم ، وسواقط من اللمم ، ليموهوها بمياه السفسطة ، ويغشّوها بأغشية من معادن القوة ، ليبرزوها في معرض السطوة ، ويغشوا بها أعين الناظرين.

وقال في آخره :

آه ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف ، ما أشد خطبه للولاء ، وما أغيره على حقوق الأولياء ، وما أثبته على الوفاء ، هذا القلب الذي يؤلمونه بأكاذيبهم ، هو الذي سر قلوبهم بالترقية ، وملأها فرحا بالتقدم.


٤ ـ ومن رسالة له إلى بعض علماء الشام حين هنأه بمنصب الإفتاء ، قال :

أما قومي فأبعدهم عني أشدهم قربا مني ، وما أبعد الإنصاف منهم ، يظنون بي الظنون ، بل يتربصون بي ريب المنون ، تسرعا منهم في الأحكام ، وذهابا مع الأوهام ، وولعا بكثرة الكلام ، وتلذذا بلوك الملام ، أدعو فلا يستجيبون ، وأعمل فلا يهتدون ، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون ، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون بل يفرون إلى حيث يهلكون ، شأنهم الصياح والعويل ، والصخب والتهويل ، حتى إذا جاء حين العمل صدق فيهم قول القائل :

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

وأقول : ولا في الخير

وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته ، أو أب عقته ذريته ، أو ابن لم يحن عليه أبواه وعمومته ، مع حاجة الجميع إليه ، وقيام عمدهم عليه ، يهدمون منافعهم بإيذائه ، ولو شاءوا لاستبقوا باستبقائه ، وهو يسعى ويدأب ، ليطعم من يلهو ويلعب ، على أني أحمد الله على الصبر ، وسعة الصدر ، إذا ضاق الأمر ، وقوة العزم ، وثبات الحلم ، إذا اشتد الظلم ، وإن كنت في خوف من حلول الأجل ، قبل بلوغ الأمل ... الخ.

٥ ـ ومن أمثلة كتابته العلمية قوله في أحد فصول رسالة التوحيد :

جاء القرآن فنهج بالدين منهجا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدسة ، منهجا يمكن لأهل الزمن الذي أنزل فيه ولمن يأتي بعدهم أن يقوموا عليه ، فلم يقصر الاستدلال على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما عهد الاستدلال به على النبوات السابقة ، بل جعل الدليل في حال النبي مع نزول الكتاب عليه في شأن من البلاغة يعجز البلغاء عن محاكاته ، ولو في مثل أقصر سورة منه ، وقص علينا من صفات الله ما أذن الله لنا ، أو ما أوجب علينا أن


نعلم ، لكن لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته ، ولكنه أقام الدعوى وبرهن ، وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان على أنظار العقول ، وطالبها بالإمعان فيها لتصل إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه ، حتى أنه في سياق قصص أحوال السابقين. كان يقرر أن للخلق سنة لا تغير ، وقاعدة لا تتبدل فقال تعالى : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) وصرح سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

واعتضد بالدليل في باب الأدب فقال (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) ، وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل ، وتقرر بين المسلمين كافة ـ إلا من لاثقة بعقله ولا بدينه ـ أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل ، وعلمه بما يوحى به إليهم ، وإرادته لاختصاصهم برسالته ، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة ، وكالتصديق بالرسالة نفسها ، كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل.

دفاع الشيخ عن الإسلام ، وتفنيد مزاعم المبشرين :

شمر الشيخ عن ساعد الجد ، وانبرى للمبشرين المسيحيين الذين تناولوا الإسلام بالطعن والتجريح ، وسفهوا عقائد المسلمين ، وحاولوا النيل من الرسول وصحبه ، وشوهوا تعاليمه ومبادئه ، ومن ورائهم جمعيات مزودة بالمال والمطابع والصحف ، كي يزعزعوا يقين المسلمين في دينهم ، ويصدوا عنه من أراد الدخول فيه من غير أهله ـ انبرى الشيخ لهؤلاء جميعا


ومن بينهم رينان وهانوتو وإضرابهما ، وأخذ يفند مزاعمهم ، ويبطل حججهم ويبين أكاذيبهم وخدعهم ، حتى صرعهم وفضحهم في المجال الدولي ، وعرف العالم الإسلام على حقيقته ، وقال بعض فلاسفتهم : إذا كان الإسلام كما يقول الشيخ محمد عبده فأحرى بنا جميعا أن ندخل فيه ، ونستظل برايته.

كتب رحمة الله حين سخر هانوتو من تشريع الحج عند المسلمين ، وكتب بعض الكاتبين مقالة يرد بها عليه ورأى الأستاذ الإمام أنها تحتاج إلى دعم وتوضيح فكتب يقول :

يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج ، ويقول : إنه صلة بين المسلمين في جميع اقطار الأرض ، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم ، فعليهم أن يستفيدوا منه ـ وهو كلام حق ، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه ، فإن الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين ، حتى يستعين بعضهم ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم ، أو أضل من أعمالهم ، وفي مدافعة ما ينزل بهم من قحط أو ظلم أو بلاء ، وهو معهود عند جميع الأمم التي تدين بدين واحد ، خصوصا عند الأوربيين.

وكتب إلى الفيلسوف تولستوي حين حرمته الكنيسة لدعوته إلى التوحيد :

أيها الحكيم ، لم نحظ بمعرفة شخصك ، ولكنا لم نحرم التعارف مع روحك ، لقد سطع علينا نور من أفكارك ، وأشرقت في أفقنا شموس من آرائك ، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك ، ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد ، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك إليه الله.

وحقا لقد كان الشيخ محمد عبده عالما فذا ، ومصلحا قديرا ،


ومجاهدا إسلاميا عظيما ، وقد عاش مسلما صادقا ، ومات وهو في صفوف المجاهدين المؤمنين ـ وقد توفي رحمه الله في عام ١٣٢٣ ه‍ ، ١٩٠٥ م ولا يزال المصلحون يترسمون خطاه إلى اليوم.


الشيخ مصطفى عبد الرازق

١٨٨٥ ـ ١٥ فبراير ١٩٤٧

ولد رحمه الله عام ١٣٠٤ ه‍ ـ ١٨٨٥ م بأبي جرج من أعمال مديرية المنيا ، وهو الابن الثاني من أولاد المرحوم حسن عبد الرازق (باشا) ، وبعد أن أتم تعليمه الأولى حفظ القرآن الكريم وجوّده ، ثم التحق لطلب العلم بالأزهر الشريف ، وتخرج في سنة ١٩٠٦ ، وحصل على شهادة العالمية من الدرجة الأولى بين زملائه الشافعية ، وعين للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي ، وفي سنة ١٩٠٩ سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة السربون ليضم إلى ثقافة الشرق ثقافة الغرب ، وندبه مسيو لابيير لتدريس بعض المباحث الإسلامية بجامعة ليون ، ثم عاد من فرنسا في أوائل الحرب الكبرى ، وعين سكرتيرا لمجلس الأزهر ، وكان ذلك في سنة ١٩١٦ ، وفي سنة ١٩٢١ عين مفتشا في المحاكم الشرعية ، ثم عين سنة ١٩٢٧ أستاذ للفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة ، وظل في كرسي الأستاذية ، حتى اختير في سنة ١٩٣٨ وزيرا للأوقاف في وزارة محمد محمود (باشا) الثانية ، اختير عدة مرات في وزارات مختلفة لتولي هذا المنصب ، حتى انتقل المغفور له الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلى جوار ربه ، فاختير لهذا المنصب وهو وزير للأوقاف ، وصدر الأمر بتعيينه شيخا للأزهر في ٢٧ ديسمبر سنة ١٩٤٥ ، واختير أميرا للحج في العام الذي توفي فيه ، فكان


خير مبعوث لمصر بين أبناء البلاد الإسلامية عند البيت الحرام ، وتوفي في ١٥ فبراير سنة ١٩٤٧ ، ويقول عنه محمد فريد وجدي :

«كان الأستاذ الأكبر بشخصيته الممتازة ، وسعة أفقه الثقافي ، خير من يدرك آثار هذا العهد في حياة الأمم ، وأصلح من يوكل إليه أمر التوفيق بينهما لمصلحة الدين والدنيا معا ، فلا غرو إن ساور الهلع كل نفس تنتظر عهد الاستقرار والهدوء والتقدم ، لم أر فيمن قابلت من القادة والأعلين. أكرم خلقا في غير استكانة ، ولا أهدأ نفسا في غير وهن ، ولا أكثر بشاشة في غير رخوة ، من الشيخ مصطفى عبد الرازق ، وكل ذلك إلى حزم لا يعتوره لوث ، واحتياط لا يشوبه تنطع ، وأناة لا يفسدها فتور ، وإدمان على العمل ينسى معها نفسه ، وهي صفات كبار القادة ، وعلية المصلحين ، ممن خلقوا لمعالجة الشئون المعقدة ، وحسم المنازعات الشائكة ، والتوفيق بين المطالب المتنافرة ، وهذه مواقف كما تقتضي مضاء العزيمة ، تحتاج إلى هوادة الأناة ، وكما تستدعي سرعة البت ، لا بد لها من القدرة على إزالة الحوائل ، وقديما قالوا : رب عجلة أورثت ريثا ، ورب إقدام جر إلى نكوص ، فكان بما حباه بارئه من هذه المواهب النادرة ، كفاء المهمة التي وفق المسئولون في إسنادها إليه ، وكنت لا أشك في أنه بما جبل عليه من حب الإصلاح ، وما اتصف به من الصفات التي سردناها آنفا ، سيصل إلى حل مشكلة الأزهر حلا حاسما ، يعيش تحت نظامه آمنا شر العوادي ، وفي منجاة من عوامل القلق والاضطراب ، ذلك أنه بما تضلع من إلمام بنظم الجامعات ، وما حصل من علم بمقوماتها وحاجاتها ، لتمضيته في صميمها سنين طوالا من حياته طالبا ومدرسا ، يعرف من أسرار حياتها وبقائها وبواعث عللها وأعراضها ، ما لا يعلمه إلا الأقلون ، والأزهر لا يخرج عن جامعة قديمة في دور انتقال ، تتفاعل لتتناسب والعهد الذي تعيش فيه ، فهي في حاجة إلى أن تحصل على المقومات التي تؤاتيها بهذا التناسب ، وهو لا ينحصر في زيادة ميزانيتها ، ولا في تهذيب برامج دراستها ، ولكنه يتعداهما


إلى ما هو إيجاد المجال الحيوي لخريجيها ، وهو أمر لا يستطاع حله إلا بعد تمهيد الطريق إليه ، ورفع العقبات دونه. والشيخ الراحل لما اتصف به من بعد النظر ، وتخير الظروف ، كان أجدر الناس بإصابة هذا الغرض البعيد ، ولكن الله آثر له الدار الآخرة ، فكان ما أراد ، وترك الأمر لمن يخلفه ، ولله في ذلك حكمة ، وهو يتولى الصالحين.

ومما هو جدير بالذكر أن جميع مدرسي الفلسفة في عهدنا الحاضر بجامعتي القاهرة والأسكندرية من تلاميذه ، لم تنقطع صلتهم به ، وقد أسندت إليه وزارة الأوقاف مرتين ، ولما توفي الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وعز وجود من يملأ مكانه ، أسندت المشيخة إليه في ٢٧ من ديسمبر سنة ١٩٤٥ ، ومن مؤلفاته العديدة :

١ ـ ترجمة فرنسية لرسالة التوحيد تأليف الشيخ محمد عبده ، وضعها بالاشتراك مع الأستاذ ميشيل ، وحلاها هو بمقدمة طويلة.

٢ ـ رسائل صغيرة بالفرنسية عن المرحوم الأثري الكبير بهجت بك ، وعن معنى الإسلام ومعنى الدين في الإسلام.

٣ ـ كتاب التمهيد لتاريخ الفلسفة.

٤ ـ فيلسوف العرب والمعلم الثاني.

٥ ـ الدين والوحي في الإسلام.

٦ ـ الإمام الشافعي.

٧ ـ الإمام محمد عبده ، وهو مجموعة محاضرات ألقيت في الجامعة الشعبية سنة ١٩١٩ ، وكلها مؤلفات تعتبر غاية في الإفادة.

وله كتب لم تنشر ، منها : مؤلف كبير في المنطق ، وكتاب في التصوف ، وفصول في الأدب تقع في مجلدين كبيرين ، وكان رئيسا لمجلس إدارة الجمعية الخيرية ، التي كان والده من مؤسسيها ، وكان عضوا في مجمع اللغة العربية ، والمجمع العالمي المصري.


وفي ٢٧ مارس عام ١٩٤٧ أقيمت حفلة لتأبينه في جامعة القاهرة ، ألقى فيها لطفي السيد ، وعبد العزيز فهمي ، والدكتور حسين هيكل ، ومنصور فهمي ، وإبراهيم دسوقي أباظة ، وطه حسين ، وأمين الخولي ، والعقاد وغيرهم كلمات وقصائد في الإشادة بمناقبه.

ومن كلمات الشيخ كلمة ألقاها بمناسبة اختياره رئيسا فخريا لجمعيات المحافظة على القرآن الكريم بعد وفاة الشيخ المراغي ، قال فيها : القرآن مصقلة القلوب كما ورد في الحديث ، وما أحوج قلوبنا إلى ما يصقلها ، ويجلو منها الصدأ ، والقرآن هدى ونور ، فهل إلا القرآن لما يغشى العالم اليوم من ظلام وضلال؟ والقرآن من بعد هذا ثقاف للألسن ، يقوم عوجها ، ويصلح عجمتها ، ويغذي من البلاغة مادتها ، فمن عملى على تنشئة أطفالنا على حفظ القرآن وترتيله ومدارسته ، فإنما يصلح القلوب ، ويقوم الأخلاق ، ويخدم العربية ، وما أشرف ذلك مقصدا وأعظمه نفعا! ويتقاضانا الوفاء بمناسبة أول احتفال سنوي بعد وفاة الرئيس الفخري السابق رضي الله عنه أن نذكر مآثره الباقيات في خدمة القرآن الكريم : كان رحمه الله مسلما صادقا ، وكان يحب القرآن حبا جما ، وقد عنى في أكثر دروسه الدينية بالتفسير في أسلوب يلائم جلال كتاب الله ، ويوطد أسباب فهمه لأذواق الأجيال الحاضرة ، كما كان يصنع من قبل أستاذنا الإمام «الشيخ محمد عبده» ، ووجه الأزهر إلى العناية بالدراسات العالمية لعلوم القرآن ، وقد أنشأ معهد القراءات والتجويد ، والمرجو أن يتابع الأزهر السير في هذه السبيل ، فيقوي معهد القراءات ويكمله ، وينشىء إلى جانبه دراسات عالية للحديث وعلومه ، حتى يستوفي الأزهر جميع الوسائل التي تعده لأن يكون كعبة المسلمين في كل ما يتصل بالقرآن والحديث ... وفي مجلة الأزهر دراسة عن الشيخ مصطفى عبد الرازق الشاعر (١)

__________________

(١) عدد شعبان ١٣٧٠.


الأزهري يرد على اسماعيل باشا

نشبت الحرب بين مصر والحبشة في عصر الخديو إسماعيل .. وعلى غير ما كان يتوقع الخديو توالت الهزائم على مصر وتواردت الأخبار كل يوم من ميادين المعارك تحمل إليه مزيدا من الأسى واليأس .. والخلاف والخلاف الذي يدب بين قواده!!

وضاق صدر الخديو يوما بما يتلقاه من أنباء سيئة فاستدعى شريف باشا وركب معه محاولا أن يرفه عن نفسه .. وفجأة التفت الخديو إلى شريف باشا وقال له :

ـ ما ذا تصنع حينما تلم بك ملمة تريد أن تدفعها؟!

قال شريف باشا :

ـ يا أفندينا إن الله عودني إذا حاق بي شيء من هذا أن ألجأ إلى صحيح البخاري يقرأه لي علماء أطهار الأنفاس فيفرج الله عني!

انزاح الهم عن صدر الخديو واتسعت الابتسامة على وجهه .. فإذا كان الأمر كما يقول شريف باشا فبمقدوره أن يحول الهزائم إلى انتصارت دون أن يكلف خزانته شيئا!!

عاد الخديو إلى قصره وأرسل في استدعاء الشيخ العروسي شيخ


الأزهر وقتئذ وطلب منه أن يجمع له جمعا من العلماء الصالحين ليقوموا بتلاوة البخاري إمام القبلة القديمة في الجامع الأزهر بنية دفع الهزيمة عن مصر!

نفذ الشيخ العروسي أمر الخديو وجلس جمع العلماء ، المختارين بعناية .. أمام القبلة يتلون البخاري أناء الليل والنهار ، ولكن دون جدوى .. فالهزائم لم تتوقف ساعة واحدة .. وأخبارها تتوالى دون انقطاع!!

واستبد الغضب بالخديو فصحب شريف باشا إلى العلماء .. وقال لهم.

ـ أما أن هذا الذي تقرأونه ليس صحيح البخاري ، أو أنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئا؟!

وجم العلماء ولم يجد أحدهم جوابا .. ووسط الصمت الرهيب الذي ساد المكان ارتفع صوت شيخ من أخر الصف موجها حديثه للخديو :

ـ منك يا إسماعيل .. فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم»!

ركب الفزع وجوه المشايخ لهذه الجرأة من صاحبهم وتوقعوا عقابا صارما يشملهم جميعا .. إلا أن الخديو لم ينبس بكلمة وسارع بالانصراف هو وشريف باشا!

التف العلماء حول صاحبهم وأخذوا في تأنيبه ولومه .. وبينما هم كذلك أقبل شريف باشا يسأل عن الشيخ الذي رد على الخديو .. ثم صحبه معه وزملاؤه يودعونه وداع الذاهب إلى حتفه ..


دخل شريف باشا ومعه الشيخ على الخديو في قصره فطلب من الشيخ أن يجلس على كرسي بجواره وقال له : أعد يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر ، فأعاد العالم قوله وشرح للخديو حديث الرسول الكريم .. فقال الخديو :

ـ وما ذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟

قال الشيخ :

ـ يا أفنديا أليست المحاكم المختلطة قد فتحت بقانون يبيح الربا؟

أليس الفجور برخصة ، أليس الخمر مباحة ..

وأخذ يعدد للخديو أنواع المنكرات التي تجري دون أن ينكرها أحد .. ثم قال : فكيف تنتظر النصر من السماء؟!

قال الخديو :

ـ وما ذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه مدينتهم؟!

ـ إذن فما ذنب البخاري وما حيلة العلماء؟!

قال الشيخ :

سكت الخديو وأطرق طويلا .. ثم قال له :

ـ صدقت .. صدقت .. عاد الشيخ إلى زملائه بعد أن يئسوا من لقائه في الدنيا ، وقد رتب له الخديو مبلغا كبيرا يتقاضاه كل شهر!!!

وانتهت قصة الشيخ الذي حقق قول رسول الله : «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه» ..

أما التاريخ فلم ينته .. إنه ماض في طريقه يضع بصمته على مصير الشعوب!!



مفتي .. قبرص!

عاش طالبا في الأزهر منذ سنوات وعاد هذا الشهر إلى القاهرة يحمل لقب مفتي قبرص .. خامس مفتي للأتراك رشح لمنصبه بالانتخاب في الجزيرة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط .. عاد يحمل لقب دكتور في الشريعة الإسلامية من جامعة أنقرة .. دكتور مصطفى رفعت مصطفى ٤٣ سنة ، أحد الوجوه التي اشترك لأول مرة في القاهرة في المؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.

«بدأ التاريخ الإسلامي في قبرص أيام الخليفة عثمان بن عفان عند ما أرسل معاوية إلى الشام في حملة استولت على جزيرة قبرص عام ٢٨ ه‍. وكانت الحملة تضم السيدة أم حرم بنت ملحان خالة النبي في الرضاعة والتي كان النبي يجلها كثيرا ويعتبرها كأمه وكممرضة أولى في الإسلام كما جاء في الحديث النبوي الشريف وعند ما تقدم الجيش الإسلامي الذي فتح الجزيرة من سواحلها الجنوبية سقطت بنت ملحان من فوق فرسها وماتت على الفور ودفنت في المكان الذي توفيت فيه وأصبح ضريحها هذا منذ ذلك التاريخ البعيد مكانا مقدسا يحج إليه المسلمين ويتبركون به ثم جلب معاوية إلى الجزيرة ١٢ ألفا من المسلمين وأسكنهم فيها وأنشأ مدنا إسلامية مختلفة


في الجزيرة وبعد الأمويين جاء العباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى أن جاءت دولة المماليك حيث فتحوا الجزيرة وأسروا ملكها وأخذوه معهم إلى مصر وبعد مدة أعادوه ملكا على الجزيرة عند ما تأكدوا من إخلاصه لهم وأصبح كل الملوك الذين حكموا بعده تابعين لأوامر المماليك في مصر حتى عام ٥٧١ عند ما استولى العثمانيون على قبرص وبقيت تحت حكمهم وإدارتهم أكثر من ثلاثة قرون».

وجميع الأتراك مسلمون في الجزيرة على مذهب السنية ويقيمون جميع شعائر الإسلام بل أن ركعات صلاتهم كثيرة فهي تضم الفروض والسنن المؤكدة والسنن غير المؤكدة فمثلا ركعات صلاة الجمعة ١٦ ركعة.

وأسماؤهم محمد وأحمد وإبراهيم ومصطفى وعائشة وأم كلثوم وفاطمة.

أكبر التزامات الأسرة التي تنجب أنثى أن تدخر من أجلها الكثير لتقدم بها عقد زواجها منزلا مستقلا وعربة لتنقلاتها مع زوجها .. والطفل يبدأ صلاته في سن الخامسة وصيام رمضان في السابعة .. المرأة غير محجبة لكنها لا تذهب إلى الجامع بل تصلي في بيتها .. صلواتهم ودعاؤهم باللغة العربية الفصحى وتحيتهم «السلام عليكم».


مسيرة الألف عام

مجلة الاذاعة المصريّة ٢٥ / ١١ / ١٩٧٢

كل مسيرة تبدأ بخطوة .. كذلك بدأت رحلة الألف عام من ١٤ رمضان سنة ٣٥٩ هجرية .. عند ما بدأ القائد جوهر الصقلي ـ بعد التمكين للفاطميين في مصر ـ من بناء الجامع الأزهر ..

وهذه الألف سنة ، ليست عمر .. المآذن والصحن والقباب فحسب ، ولكنها عمر مصر أيضا ، بكل ما تمثله من ريادة في مختلف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية ، وكمركز إشعاع يفيض بنوره الذي يصل إلى أركان الدنيا ، فقد امتزج تاريخ الأزهر امتزاجا عضويا بتاريخ «الشعب المصري» على توالي الحقب والقرون ، بحيث يصعب الفصل بينهما ..

وشمخ الأزهر طوال حياته المديدة والعامرة .. بوصفه أقدم وأعظم جامعة في دنيا الإسلام ، وكان أعتي المتاريس التي تصدت لكل احتلال طمع في مصر ، ومعقلا من أهم معاقل القومية العربية ، ثم ها هو يستجيب لدواعي التطور وأسبابه فيصبح جامعة عصرية .. تضم جنباته مختلف الكليات العلمية ، وتستوعب مدرجاته طلابا من ٦٥ دولة إسلامية ..

ولم يكن دور الأزهر ، مقصورا منذ البداية ، على إقامة الشعائر فقط ، بل كان مدرسة لعلوم الدين والفقه .. وارتبط في أذهان العالم الإسلامي


كجامعة إسلامية .. حملت لواء الفكر الإسلامي والإنساني ، ومشعلا من المشاعل التي أضاءت للبشرية طريقها على امتداد القرون ، ولمع في صحنه وأروقته .. كثير من الأسماء الخالدة .. التي أعطت وألهمت وغذت مسيرة الإسلام .. مثل «ابن الفارض» .. و «ابن خلكان» و «البوصيري» ، و «ابن دقمان» المؤرخ المصري ، و «المقريزي» صاحب الخطط و «السيوفي» وله ٥٠٠ مؤلف من بينها تاريخ الخلفاء ، و «ابن إياس» المؤرخ المصري وتألق بجانب هؤلاء .. مفكرون جاءوا إلى مصر ليتلقوا العلم في الأزهر ... مثل «ابن خلدون» .. و «ابن بطوطة» .. و «الجبرتي».

ولا شك أن الفكر المصري والإسلامي .. يدين بالكثير للأزهر ..

الذي تخرج فيه «ابن الهيثم» العالم الذي يشيد بفضله الأوروبيون خصوصا في الطبيعة وطب العيون. و «الشعراني» إمام المتصوفة في مصر ، ومؤرخ! ... «رفاعة الطهطاوي» مؤسس الفكر المصري الحديث .. خصوصا في الترجمة والصحافة. و «الشيخ محمد عبده» و «عبد الله النديم» و «أحمد عرابي» زعيم الثورة العرابية .. و «سعد زغلول» قائد ثورة ١٩١٩. و «الدكتور طه حسين» .. عميد الأدب العربي ... و.. و..


وفي رسالة الدكتوراه عن دور الأزهر في الحياة المصرية

أثناء الحملة الفرنسية التي كتبها د. مصطفى رمضان

أبرز الباحث حركة علماء الأزهر قبل الحملة في مجالين : المعارضة الدستورية في الديوان العثماني ، مما يدل على أن علماء الأزهر شاركوا في قضايا المجتمع ، وقيادة علماء الأزهر للحركات الشعبية الثورية ضد الحكام الظالمين من العثمانيين والمماليك ، وبذلك نظموا كفاح الشعب المصري قبل مجيء الحملة الفرنسية ..

وأبرزت الرسالة شخصية الأزهر أثناء الحملة الفرنسية ، وبروز الزعامة الشعبية في مجال الدفاع الداخلي ، واستشهاد عدد كبير من زعماء الأزهر :

وقد دبرت خطة لاغتيال كليبر قائد الحملة الفرنسية وكان المنفذ سليمان الحلبي ، وهو من أبناء حلب بالشام.

وتتضمن الرسالة عدة نقاط أهمها :

إبراز دور الأزهر بعد الحملة الفرنسية حيث عاشت مصر في ظل عهد من الفوضى السياسية والاجتماعية وتعددت مراكز القوى في البلاد وحمل الأزهر لواء المعارضة وإظهار الكيان المصري مهما كان الثمن :

حارب الأزهر الابتزاز التركي للشعب.


ـ عارض علماء الأزهر سياسة الممالك في استغلال الشعب ، وتزعموا حركة لطردهم من القاهرة سنة ١٨٠٤.

ـ عند ما جاء «خورشيد» إلى الحكم ، يدفعه جشع شديد لابتزاز الأموال ، نظم الأزهر حركة ثورية بقيادة «عمر مكرم» ، وحاصرت خورشيد بالقلعة ١٨٠٥ ، وأجبرته على التخلي عن الحكم ، وعينت «محمد علي» واليا على مصر ، متوسمة فيه الحرص على مطالب الشعب .. ولكن «محمد علي» خان مبادىء الشعب وزعماءه ، ولعب دورا في تصفية الزعامة الشعبية ، بعد أن استفاد بها في المجالات الآتية :

جمع الضرائب وخداع المماليك وعدم السماح لهم بدخول القاهرة.

مقاومة الحملة الانجليزية بقيادة فريزر عام ١٨٠٧.


حوار بين العلماء والوالي

في عام ١٨٩ جاء إلى مصر وال تركي جديد هو «أحمد باشا» المعروف بكور وزيرا وكان الوزير كما يقول الجبرتي من «أرباب الفضائل وله رغبة في العلوم الرياضية ... وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر ، والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري ، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا : لا نعرف هذه العلوم فتعجب وسكت».

ويواصل الجبرتي رواية هذه الحادثة الهامة الطريفة معا «في الجزء الأول من عجائب الآثار ص ١٩٤ ، وقد نقل الدكتور حسين فوزي النجار هذه الفقرة عن الجبرتي في كتابه عن رفاعة الطهطاوي ص ٩» .. يقول الجبرتي :

إن الشيخ الشبراوي دخل على الباشا في يوم جمعة يحادثه كعادته فقال له الباشا : المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها ، فلما جئتها وجدتها كما قيل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، فقال له الشيخ هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف : فقال وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد


سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا ، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد ، فقال له : نحن لسنا أعظم علمائها وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام ، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفراض والمواريث كعلم الحساب والغيار فقال له : وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك فقال : نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل. والأمور العطاردية ، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك ، فقال : وأين البعض ، فقال : موجودون في بيوتهم يسعى إليهم ، ثم أخبره عن الشيخ الوالد «يقصد أباه الشيخ حسن الجبرتي» وعرفه عنه وأطنب في ذكره ، فقال التمس منكم إرساله عندي ، فقال يا مولانا إنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري فقال : وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال : تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الامتناع ففعل ذلك ، وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه واغتبط به كثيرا وكان يتردد عليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء ، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والإكرام الزائد».

ثم يقول الجبرتي بعد ذلك «وكان المرحوم الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له : سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لو لا وجودك كنا جميعا عنده حمير».

هذه هي القصة الواقعية التي يرويها الجبرتي عن مصر في منتصف القرن الثامن عشر ، فمصر آنذاك لم يكن فيها سوى عالم واحد استطاع


باجتهاده الخاص أن يتعلم بعض أصول الرياضيات ، أما بقية علماء مصر فلم يكونوا يعرفون أكثر من العلوم التي تدور حول اللغة والدين مثل الفقه والنحو وما إلى ذلك.



الأزهر أكسفورد الشرق (١)

تذكرت الأزهر .. وأنا أطوف في أرجاء «أوكسفورد» .. صور الأساقفة ذكرتني بشيوخ الأزهر الذين عاصروا الحملة الفرنسية ، وسجنتهم الثورة الفرنسية في القلعة ، وانتهز فنان الجيش المناسبة ، فخلدهم في لوحات ، قبيل إعدامهم أو جلدهم أو تغريمهم.

المدينة حول الجامعة ، يعيش فيها الطلاب والأساتذة ، ذكرتني بجو الأزهر في عصور سالفة .. يوم كان قلب القاهرة النابض يعيش فيه العلماء في منازل مستقلة ، طابقها الأسفل مفتوح باستمرار للضيوف من العلماء أو الطلبة (المجاورين) يتجادلون ويتبادلون المعرفة والأحاجي ..

القاعات والخزائن والردهات ، وبقايا مساكن الطلبة في القرون الماضية كلها منقولة عن أروقة الأزهر ..

«فأوكسفورد» التي قامت بعد الأزهر بقرنين .. إنما أنشئت على نظام الأزهر ووفق تقاليده ، بل وبكتب مترجمة عن مؤلفات علماء الأزهر ، بعد أن عاد الصليبيون من الشرق ، وقد تعلموا عادتين : الاستحمام والعلم ... وحملوا أول ورقة كتابة إلى أوروبا من إنتاج مصانع الورق العربية!.

__________________

(١) جريدة النهضة الكويتية ـ عام ١٩٧٣.


فلم تكن «أوكسفورد» في البداية ، إلا مكانا يلتقي فيه بعض العارفين ، ببعض الراغبين في المعرفة ثم تطورت إلى جامعة لعلوم اللاهوت ، تنقسم إلى أروقة لكل رواق «ماستر» أو «شيخ الرواق» ، كما كان الحال في الأزهر ، ويسكن فيها الطلبة الذين كان سنهم لا يزيد على ١٣ سنة عند الالتحاق .. وقد استمر نظام الأروقة حتى القرن الخامس عشر ..

ولكن الكليات كانت قد ظهرت منذ أواسط القرن ال ١٣ بينما استمر نظام الأروقة في الأزهر إلى القرن العشرين.

وكان لكل رواق شيخ .. يضم الرواق أبناء جهة واحدة ، فهناك رواق للمغاربة ورواق للشوام ، وآخر للصعايدة .. وكان لكل رواق جراية (أي راتب) خاصة ، يوقفها عليه الأمراء والأغنياء ، ونفس النظام في «أوكسفورد» ..

وكانت الجراية في الأزهر تدفع خبزا ، وهي درجات : رغيفان للطالب المنتسب ، والذي يتحقق انتسابه بحصوله على خزانة يضع فيها كتبه ، وانتسابه إلى رواق ينام فيه ، وجراية «أوتوزبير» (اسم مملوك) وهي أربعة أرغفة لا تعطى إلا لمن يجتاز امتحانا خاصا .. وجراية زينب هانم خمسة وعشرون رغيفا .. وتعطى للعلماء .. وكانت هناك جرايات نقدية بعضها يصل إلى ثلاثمائة جنيه في السنة ، وأبطل الجراية الشيخ المراغي ..

وهذه الوقفيات ، مكنت الأساتذة من التفرغ للعلم ، والعيش مع الطلبة .. وكانت الدراسة حرة على أحدث النظم الجامعية الحالية ، أو بمعنى أصح ، كما نقلت النظم الجامعية المعاصرة عن الأزهر ..

فالأستاذ ذو الكرسي .. أو بتعبير العصر القديم : «من له عامود في الأزهر» هو الذي امتحنته لجنة من العلماء .. وأجازت له حق التدريس ، ويتم الامتحان علنا أمام جمهور من الطلبة ، وعلى يد لجنة من شيوخه .. فإذا جاز الطالب الامتحان سمح له بأن يضع مقعدا بجوار أحد أعمدة


المسجد وبدأ في تلاوة درسه ، وينضم لحلقته من يشاء من الطلبة الذين يحضرون ما يحلو لهم من دروس بلا تقييد .. ويتقدمون للامتحانات متى وجدوا في أنفسهم استعدادا .. وكانت تدرس في الأزهر شتى العلوم من الفقه إلى ضرب العود والكمان كما كان يفعل الشيخ العطار في مطلع القرن التاسع عشر ..

أبراج الكنائس التي يعتليها طلبة «أوكسفورد» في شهر مايو (أيار) من كل عام يتلون من فوقها صلاة لاتينية تمجد الثالوث المقدس .. ذكرتني بمآذن الأزهر التي كان يعتليها المجاورون (الطلبة) يتلون الابتهالات والمدائح النبوية في أيام الرضا .. ويكبرون في غير أوقات الصلاة ، إذا ما نشب خلاف بين الأزهر وسلطات المدينة ، أو قاد الأزهر ثورة الأهالي ضد استبداد السلطة .. تماما كمعارك طلاب «أوكسفورد» و «كمبريدج» مع سلطات المدينة منذ سبعة قرون .. لقد نشأت أوكسفورد في القرن الثاني عشر .. بينما وضع حجر الأساس في بناء الأزهر في نيسان (ابريل) ٩٧٠ وتم بناؤه في حزيران (يونيو) ٩٧٢ ، أي أنه أكمل ألف عام .. شهد فيها الفصل الدرامي من تاريخ حضارتنا .. تألقها .. فجمودها .. ثم انهيارها ..

ولا شك أن كل الذين قارنوا بين تاريخ الأزهر ، و «أوكسفورد» ، وعرفوا كيف قامت جامعات أوروبا الحديثة على غرار الأزهر ووفق نظمه ، بل وبالمعرفة التي نقلتها أوروبا عن الأزهر.

يدركون أن أقدم كتاب في جامعة «أوكسفورد» مكتوب سنة ١٣٧٩ ..

وعند ما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر ـ وهي أكبر فصل في تاريخ الأزهر كمؤسسة قيادية ـ كان أحدث الكتب التي تدرس فيه قد كتبت حول هذا التاريخ! ..


فالأزهر كان ذروة تألق حضارة بدأت رحلة الانهيار .. أما «أوكسفورد» ، فكانت بداية حضارة جديدة في طريق النمو والازدهار .. فنمت الجامعات مع المجتمع النامي من حولها.

عند ما بني الأزهر كانت الحضارة العربية قد امتلكت كل أسس المعرفة اللازمة لانطلاق الثورة الصناعية ، لو لا أن هب على العالم الإسلامي اعصاران .. الحروب الصليبية ، ثم الخراب المغولي .. فتحول المجتمع المدني المتحضر ، إلى مجتمع عسكري خشن .. وتراجع العلماء ليحكم العسكر .. وحشدت موارد البلاد واستنزفت في القتال .. وأحرقت المدن والمزارع وكل آثار الحضارة على يد الفاتح المتقدم ، أو المنهزم المنسحب ..

وانتقلت شعلة الحضارة من الشرق المغزو ، إلى الغرب الغازي وهناك افرخت ونمت ، وتطورت إلى الحضارة الحديثة ..

وكان الثمن فادحا :

تخلفت مسيرة الحضارة العالمية ، حوالي خمسة قرون ، قضتها أوروبا في النقل الحذر المستريب للعلوم الإسلامية مع حصر المعرفة بها في دوائر خاصة .. ثم التوسع في الترجمة والدرس والفهم والتمثل وأخيرا التطور .. ولو استمرت شعلة الحضارة في النمو على شواطئنا ، لما كانت هناك هذه الفجوة ..

كذلك اقترن النمو الحضاري الجديد بالاستعمار ، ولو مضت حضارتنا في نموها لما كانت البشرية قد عرفت الاستعمار ، ولا كان التخلف قد فرض على ثلاثة أرباع شعوب العالم ، من أجل تقدم ورفاهية الربع .. فحضارتنا لم تعرف الاستعمار ، بل قامت مراكز المدنية والرفاهية في كل البلدان ، وعلى قدم المساواة ، ووفق إمكانات كل بلد ، ولعل أقلها حظا كانت الجزيرة ، بلاد الفاتحين ..


ألف عام .. بدايتها الأزهر .. الجامع الجامعة ، والأصل في المسجد أنه جامعة .. ومن المسجد وفي المسجد ظهر ونبغ كل العلماء ، ودرست كل العلوم ..

وإن كان الجيل المعاصر ، يحفظ أسماء طلاب أوكسفورد وكمبريدج عن ظهر ـ قلب من اسحق نيوتن إلى سبنسر ، وجون ميلتون .. فليسمحوا لنا في الذكرى الألفية للأزهر أن نقدم لهم أحد العلماء الذين درسوا فيه سنة (١٠٣٨) .. تعرفنا به كاتبة ألمانية هي الدكتورة «سيجريد هونكة» فتقول : «إن الحسن بن الهيثم توصل إلى نظرية في علم الضوء خاصة بالأشعة وانكسارها كانت نقطة تحول في أبحاث الطبيعة وبخاصة علم الضوء .. وهو الذي أثر في أوروبا تأثيرا بعيدا وعرفته باسم «الهزن» وكان أشهر الأساتذة العرب الذين أخذوا بيدها في هذا المضمار من البحوث. فقد وضع نظرية حول حركة الأفلاك .. وقد ظلت هذه النظرية تدرس بغير تعديل في أوروبا أربعة قرون ، فوجدت مائدة في ألمانيا محفورة سنة ١٤٢٨ عليها نظرية «الحسن» في حركة الأفلاك».

«وقد نقد الحسن سنة ١٠٣٨ نظرية اقليدس وبطلميوس في علم الضوء ، فقال : إن الأجسام المرئية هي التي يصدر منها شعاع الضوء فتراه العين وليس العكس». «وكانت هذه النظرية قفزة في علم الضوء. وهو مؤسس العلم التجريبي وليس روجيه بيكون أو باكوفون فرولام أو ليوناردو دهفينشي أو جاليليو .. وأصبح اسم الحسن بن الهيثم هو النجم الذي أضاء الطريق ومهد لقيام الأبحاث الحديثة بعد أن سبق أوروبا إليها» ... وهو الذي فسر خسوف الشمس والقمر ، واكتشف أن القمر جسم مظلم بعكس النجوم ، وهو أول من اخترع صندوقا للضوء يشبه آلة التصوير ، وهو أول إنسان رأى صورة العالم مقلوبا من خلال مرور الصورة في جهازه العجيب .. وهو الذي فسر انكسار الضوء في الهواء والماء واستطاع تحديد


ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية. «والجدير بالذكر أنه توصل إلى تحديدها بدقة ، وعرف أنها خمسة عشر كيلومترا» ..

«وفسر قوس قزح الذي عجز أرسطو عن تفسيره ، واخترع أول نظارة للقراءة .. وحتى يومنا هذا تعرف في جامعات أوروبا المسألة المعقدة المتصلة بالإلمام بالطبيعة والرياضة معا والتي حلها الحسن بن الهيثم بمعادلة من الدرجة الرابعة أظهرت نبوغه الرياضي في الجبر .. إذ حسب البعد البؤري لمرآة مقعرة .. تعرف هذه المسألة باسم «مسألة الهزن» (الحسن)».

وكتابه المتضمن لهذه النظريات لا وجود له بالعربية ، بل بقت ترجمته اللاتينية .. ضاع الأصل العربي مع ضياع الحضارة ، ونفي العالم العربي وكتابه : «كتاب المناظر» إلى أوروبا حيث ساهم في بناء العلم الحديث.

وإذا كانت جامعة «أوكسفورد» قد بدأت مكتبتها بكتابين لا زالا مربوطين بالسلال إلى الآن كما كان وضعهما في القرن الثالث عشر .. فإن مكتبة الأزهر في القرن العاشر كان بها مليون وستمائة ألف كتاب .. ولكن الانهيار الحضاري جعل الخليفة يسدد مرتبات الجند والموظفين بالكتب .. وكان «الفرنجة» يشترون هذه الكتب بالرطل ، وينقلونها إلى كنائس وأديرة .. فجامعات أوروبا.

فالأزهر لم يبدأ بالفقه والنحو والعروض وحدهم كما يتصور البعض ، بل كانت تدرس فيه كل علوم العصر ، من علوم الدين والفلسفة والمنطق إلى الرياضيات والطب والهندسة والفلك .. واستمر الحال على ذلك رغم التدهور الحضاري .. ذلك أن الإسلام ، بطبيعته ، يحتم دراسة حد أدنى من العلوم التطبيقية ، فنظام الميراث يحتم دراسة الحساب بل ويقود إلى الجبر وكذلك الزكاة ، وضبط الكيل والميزان يفتح الباب لدراسة الأثقال والحجوم والروافع وخواص المواد التي تصنع منها. ومراقبة الهلال لمعرفة


أوائل الشهور ودراسة حركة الشمس والظل لتحديد مواقيت الصلاة ، وتحديد العدة ، والقبلة .. كلها تحتم دراسة الفلك وتقسيم الزمن ، وتفتح الباب لدراسات عن الجغرافيا والهندسة والطب ، وقادت إلى اكتشاف البوصلة.

وقد تمركزت الزعامة الشعبية في العلماء ، وكان الأزهر هو مركز القيادة الشعبية ، وحلقة الوصل بين السلطة والعامة ، وقائد مقاومة الجماهير ضد استبداد السلطة وانحرافها .. وقد سلمت السلطة بهذه المكانة لشيوخ الأزهر ، والتفت الجماهير حول الشيوخ .. الذين قادوها في أكثر من معركة سجل منها تاريخ القرن الثامن عشر معارك تتعلق باستقلال الجامعة الأزهرية ، فعند ما حاول السلطان والأمراء تعيين شيخ للأزهر من المذهب الحنفي ، وهو المذهب الرسمي للدولة ، رفض الشيوخ ، لأن ذلك اعتداء على استقلال الأزهر ، والعرف المقرر فيه أن يكون شيخ الأزهر شافعيا .. وفشلت كل جهود الدولة في حماية مرشحها ومذهبها الرسمي ، وانتصرت إرادة المشايخ .. وإذا كان عمدة «أوكسفورد» قد أحرق كل وثائق الملكية الخاصة بعلماء وطلبة جامعة «أوكسفورد» عام ١٣٨١ .. فإن علماء الأزهر في ذلك التاريخ كانوا يملكون بيع سلطان مصر في المزاد العلني (حادثة العز بن عبد السلام) .. وبعد ذلك بأربعة قرون (١٧٣٥) حاول السلطان العثماني أن يعيد تنظيم الأوضاع المالية ، بما يشكل اعتداء على الحقوق المكتسبة لبعض الفئات ، وليس المشايخ منهم. فاعترض المشايخ وألغوا قرار السلطان معلنين أنه «ليس من حق السلطان تجاوز التشريعات لقائمة». وكان ذلك قبل سقوط الباستيل بنصف قرن وقبل أن يفكر عقل في لقارة الأوروبية بتحدي سلطة الملوك الإلهية.

وأخيرا قاد المشايخ ثورة فلاحين لانتزاع أول دستور مكتوب .. ١٧٩٤ .. في الوقت نفسه الذي كان العامة في فرنسا يبحثون هل دم لأمراء أزرق؟).


فعند ما جاء نابليون بأول احتلال غربي للوطن العربي .. كان الأزهر هو القلعة التي اصطدم بها ، بعد انهيار المؤسسة العسكرية (المماليك) ، وقاد الأزهر المقاومة العربية ضد الاحتلال الفرنسي ، فكانت ثورة القاهرة الأولى ، التي قادتها لجنة من مشايخ الأزهر بقيادة الشيخ السادات استطاعت أن تشكل تنظيما دقيقا يمتد من صحن الأزهر إلى أصغر قرية في الريف المصري ، وهو تنظيم عجز العالم العربي عن تكرار مثله لأكثر من قرن بعد تنحي الأزهر .. وعرف نابليون ، ممثل الثورة الفرنسية ، خصمه الحقيقي ، فصب هجومه على الأزهر ، وضرب المسجد .. الجامعة .. القيادة .. التراث .. التاريخ .. وأهم من ذلك أنه كان إمكانية المستقبل .. ضرب ذلك كله بالمدافع ، واحتله الجنود ودخلته الخيل لأول مرة في تاريخه .. معلنة هزيمة الحضارة التي يمثلها ..

وأصدر نابليون أمره بأن «يباد كل من في الجامع» ، ودخلت الجند المسجد : «وهم راكبون الخيول ، وبينهم المشاة كالوعول ، وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته ، وعاثوا بالأروقة والحارات ، وكسروا القناديل والسهارات ، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين ، والكتبة. ونهبوا ما وجدوه من المتاع ، والأواني والقصاع ، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ، ورشقوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها ، وبأرجلهم ونعالهعم داسوها ، وأحدثوا فيه وتغوطوا ، وبالوا وتمخطوا ، وشربوا الشراب ، وكسروا آوانيه ، وألقوها بصحنه ونواحيه ، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه».

وأعدم نابليون ثمانين شيخا من قيادة الثورة ..

صحيح أن عدوان نابليون على الأزهر ، قضى على كل آماله في الشرق ، ولكنه أيضا كشف للأمة العربية أنها عزلاء ، لا تستطيع حماية قيادتها ، ومقدساتها ..


وأصبحت القضية مطروحة على النحو التالي : من وجهة نظر الاستعمار الغربي .. لا بد أن تتحطم قيادة الأزهر لكي تخضع الأمة العربية للاستعمار.

ومن وجهة نظر الأمة العربية ، لا بد من حركة بعث قادرة على مواجهة الغرب الاستعماري.

وأدرك الاستعمار أن تحطيم الأزهر بالمدافع لا يجدي .. فبعد ضربه واحتلاله في الثورة الأولى ، عاد ونظم ثورة القاهرة الثانية (١٨٠٠) ، وهي الثورة الكبرى المعروفة.



الأزهر وأثره في الحياة الإنسانية

إن الأزهر الشريف (١) يرجع في قيامه إلى ألف سنة مضت. وقام ليؤدي رسالة ويحتفظ بتراث. أما الرسالة فهي تنوير المسلمين بمبادىء الإسلام. وأما التراث الذي يحتفظ به فهو تراث المسلمين العقلي والروحي والأدبي على السواء.

وظل يقوم بهذه الرسالة ويحتفظ بهذا التراث طوال هذه المدة الطويلة التي مضت على قيامه. وقد مرت به أحداث ، وعاصر ظروفا وخرج من هذه وتلك دون أن يفقد هذه الرسالة ، ودون أن يبدد هذا التراث.

فهو مدرسة وسجل للتاريخ معا. ترى في بحوثه ودراساته آثار المسلمين الذهنية ، وتسمع من خلال هذه الآثار مبادىء الإسلام كما ذكرنا.

ولأنه قام لمهمة مرتبطة بالبحوث الإسلامية كان لا يحتك به من الأحداث إلا تلك التي تتصل بكيان الأمة الإسلامية والشعوب العربية ، وفي مقدمة هذه الشعوب شعب الاقليم المصري.

والتحول الذي طرأ على التوجيه فيه من أنه كان مدرسة لتعاليم

__________________

(١) د. محمد البهي ـ مجلة قافلة الزيت.


الفاطميين ثم تغير الوضع فيه إلى أن يكون التوجيه الذي يباشره يتصل بتوجيه أهل السنة ـ هذا التحول لا يغير من مهمته الأصلية وهي العناية بنشر مبادىء الإسلام والاحتفاظ بتراث المسلمين العقلي والروحي. ولذا فمحاولة وضع هوة في تاريخه بين عهدين له ، وإبراز مراحل تطوره على أنه كان لاتجاه معين انقلب إلى ضده فيما بعد ـ لا تقلل من شأن رسالته في واقع الأمر من حيث أنها رسالة الأمة الإسلامية والشعب العربي.

والأزهر بما له من هذا الماضي الطويل وبما وضع لنفسه من رسالة احتل في العالم الإسلامي منزلة كبيرة وخالدة في الوقت نفسه. وأصبح مركز تنوير المسلمين بمبادىء دينهم وأصبح أمر الاحتفاظ بالتراث الثقافي والروحي والأدبي للمسلمين مرتبطا ارتباطا قويا بمهمة الأزهر وبما يباشره من وظيفة ورسالة.

وإذا كان قد مرت على الأزهر أحداث تأثر بها وهي الأحداث التي تتصل بالوطن الإسلامي أو العربي ، وإذا كانت هذه الأحداث قد غيرت من اتجاهه وتحول بسببها من جانب إلى جانب ، فإن الشيء الذي يمكن الوقوف عنده في تاريخه هو سير الحركة العلمية وتغير طريقة البحث والدرس فيه. فحركة التأليف العربي التي وجدت في آخر القرن الأول الهجري وازدهرت في القرنين التاليين له مالت رويدا رويدا إلى الضعف من جانب والركود من جانب آخر ، وكان للأحداث الخارجية وهي أحداث المغول والتتار في الشرق وأحداث الصليبيين من الغرب أثر آخر بجانب ما لضعف حركة التأليف وركود النشاط فيه. وهذا الأثر سواء أكان عن طريق الأحداث الخارجية أم طريق العوامل الداخلية والمحلية هو تقوية روح التبعية للخصومات المذهبية وللمؤلفين فيما كتبوا في العهود المتأخرة في تاريخ التأليف العربي.

والأزهر عند ما قام يؤدي رسالة تنوير المسلمين اعتمد في ارسال


إشعاعه وفي بحوثه ونشر تعاليمه على قسط كبير من كتب أولئك المؤلفين الذين تأخر بهم الزمن في تاريخ التأليف وتأثروا بموجة الضعف والركود الداخلية والخارجية. ولأن مهمة الأزهر تتصل بالدين ، أخذ خصيصة التقاليد وهي عدم قبوله لمبدأ التطور لا في الدين نفسه ولكن فيما صنعه الإنسان المسلم المفكر حول الدين وفيما سطره من آراء يخرج بها بعض أفكاره. وهنا كان تقبل الأزهر للخروج عن نطاق هذه الكتب التي تمثل ظاهرة الضعف والركود الفكري في تاريخ التأليف العربي أمرا ليس هينا ، وإن تقبل مبدأ التغير والانتقال من عهد إلى عهد في التعرف على مبادىء الإسلام وآراء المسلمين فإنه يتقبلها في احتياط وفي بطء.

ومن ثم كانت مسايرة الأزهر ـ لا أقول لمبدأ التطور ، وإنما أقول لفكرة الانتقال من عهد إلى عهد في تاريخ التأليف العربي ، أي الانتقال من عهد الضعف والركود مثلا إلى عهد القوة والأصالة في العصور السابقة على هذا العهد ـ مسايرة تجمد تارة وتبطىء في سيرها تارة أخرى.

ومن هنا كان لتوجيهه أثر على الشعوب الإسلامية ينعكس في هذا الأثر ما يتلزمه هو في دائرة التوجيه من الركون إلى آراء معينة أو الوقوف في استمداد التعاليم الإسلامية من بعض مصادر التأليف في الحقبة الأخيرة. وبمقدار ما يتحرك الأزهر في دائرة التأليف العربي الإسلامي بمقدار ما يكون لتوجيهه من أثر إيجابي أو سلبي.

والحركات الإصلاحية التي قامت فيه والتي باشرها بعض شيوخ الأزهر من أمثال الشيخ محمد عبده لم تقصد إلى الخروج عن دائرة التراث الثقافي والروحي للمسلمين كلية. وإنما قصدت إلى شيء واحد هو محاولة الانتقال ـ كي يفهم الإسلام فهما صحيحا ـ من عهد الركود إلى عهد الإمامة والأصالة في تاريخ التأليف العربي الإسلامي. إذ أن تأليف المتقدمين من علماء المسلمين كان أقرب إلى أصول الإسلام وإلى التعبير عما يهدف إليه القرآن مما كان للمؤلفين المتأخرين.


وهذا معناه أن يكون للعالم الأزهري فرصة في اختيار الرأي من بين آراء المسلمين. كما تكون له فرصة عرض بعض آراء المسلمين اعتمادا على القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وأي الآراء من بينها أقرب إلى روح القرآن والسنة الصحيحة هو أقواها وضوحا في التعبير عن رأي الإسلام وأكثرها قبولا للمسلم في حياته اليومية.

والنتيجة الحتمية لهذه الحركة الإصلاحية هي وضع العلماء في مواجهة القرآن وضعا مباشرا دون وسيط يلتزم رأيه وينفذ حكمه على أداء القرآن لأحكام الله وللطريق العملي الذي يسلكه المسلم. وهنا يكون مبدأ التوجيهات حقيقة واقعية يمارسها القادرون في فهم القرآن أو تحت ضوء القرآن وضوء السنة الصحيحة.

وبمقدار ما تعبر التعاليم التي يرسلها الأزهر إلى خارجه في نطاق الشعوب العربية والإسلامية بمقدار ما تتحقق روح الإسلام في حياة المسلمين. وروح الإسلام هي روح الإنسانية الصافية في معاملة المسلم للمسلم ومعاملة المسلم لغير المسلم من أهل الكتاب ومعاملة المسلم لمن ليس بذي دين أو لمنكر الدين والإيمان.

ومعاملة المسلم للمسلم ـ كما تملي روح الإسلام ـ هي معاملة الأخ للأخ والصديق للصديق ومعاملة الإنسان للإنسان في دائرة دفع الأذى والضرر وتحقيق السلم والرخاء العام. ومعاملة المسلم لغير المسلم ممن ليس بذي دين أو لمنكر الدين هي معاملة الإنسان لمن يتحدى خصائص الإنسانية ويتحدى علاقة السلم وتبادل النفع والرخاء بين الناس جميعا. إذ الذي ينكر الدين والإيمان بالله ينكر على البشر أن يسلكوا طريق الحق ، وسبيل الاستقامة وسبيل الإنسانية مذعنين لتوجيه القادر العليم مدبر الكون كله. ينكر على البشر أن يطيعوا الله خشية منه ، ويحرضهم في الوقت نفسه على أن يتمردوا على القيم البشرية بدعوى ممارسة الحرية الفردية ، أو بدعوى


سمو الإنسان عن خالقه ، أو بدعوى الاستجابة لوحي الطبيعة وما تمليه من توجيه وما ترسمه من قدر ومصير.

والإنسان مهما سما في تفكيره وإدراكه لا يصل إلى تحديد المنهج المستقيم تحديدا واضحا لا خلط فيه ، أو تحديدا مستمرا صالحا لجماعة معينة فضلا عن أن يكون صالحا لجماعات وشعوب كثيرة. والطبيعة أن ترك الإنسان نفسه يطيع ما ترسمه من توجيه فإنها ستجعله يطيع دوما ما تمليه مظاهر الحس المختلفة وعندئذ يكون شأن الإنسان شأن الحيوان في تبعيته لما يحس وعدم ارتفاعه عن هذا الذي يحس للسيطرة عليه وتوجيهه.

ومن هنا كان أثر الأزهر الديني في توجيه المسلمين أثرا إيجابيا في علاقة المسلم بالمسلم ، وفي علاقة المسلم بأهل الكتاب ، وفي موقف المسلم من الالحاد والتحدي بإنكار الإيمان ، ما يعبر في تعاليمه التي ، ينشرها عن الإسلام في صفاء آرائه ووضوح هدفه.

أما الأثر الأدبي للأزهر ورسالته فهو خدمة الإنسانية وخدمة المستوى الفاضل لها. فالإسلام إذا سار المسلمون على مبادئه يكون من الدعائم القوية في تركيز خصائص الإنسانية في نفوس البشرية. فهو رسالة كرسالة الله فيما أوحاه إلى موسى وإلى عيسى عليهما السلام تساوق الطبيعة الإنسانية في أخص صفاتها ومقوماتها. وأخص هذه الصفات والمقومات التي تدعو إليها الرسالة الإلهية هي : المحبة ، الأخوة ، السلام. ولا شك أن هذه الغايات لا تتحق إلا إذا ارتفع الإنسان عن مستوى الخصومة ومستوى الحقد والضغينة بسبب التهالك على المادة أو بسبب الانطواء تحت مظاهر الحس التي يدعو إليها الالحاد ، ويدعو إليها التحدي للإيمان.

والدين الإلهي لذلك ضرورة لضمان تحقيق هذه الأهداف الثلاثة في حياة الإنسان. وإذا ما تحققت هذه الأهداف في حياة الإنسان أصبحت البشرية في أوضح مظاهرها حقيقة عملية ، وبالتالي أصبح الناس سعداء لأن


الشر أو الشقاء لا يكمن إلا في الخصومة وفي القلق والاضطراب والحيرة. وليس من أسباب الخصومة والقلق والاضطراب والحيرة سوى تنافس الناس على ما في أيدي بعضهم بعضا ، وهنا كان الطمع والجشع أمرا مكروها لذلك في كل رسالة إلهية. وكان البر والإحسان أمرا مطلوبا في كل رسالة إلهية.

إن رسالة الأزهر في تمكين السلام العالمي واستقرار النفوس البشرية وتوكيد الترابط الأخوي والإنساني ودفع شرور الالحاد وتحدي الإيمان بالله ، وهو لذلك ضرورة في حياة مجموعة الشعوب العربية والإسلامية كضرورة الدين نفسه في حياة الإنسانية.


قرارات لمؤتمر البحوث الإسلاميّة

في الدورة الثانية لمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالأزهر واستمر شهرا كاملا .. كانت هذه الدورة مقصورة على أعضاء المجمع في المؤتمر الذين عهد إليهم بدراسة صورة المجتمع الإسلامي. وانتهت الدراسات إلى حصر المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي المعاصر تحت أربعة عناصر رئيسية هي : مقاومة العدو المشترك للإسلام والمسلمين.

وتجريد الإسلام مما علق به من الفضول والشوائب.

وتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين على أساس إسلامي سليم العمل على توحيد كلمة المسلمين ومحو أسباب التقاطع بينهم وإزالة أسباب الخلافات المذهبية.

وقد اتخذ المؤتمر أربعة قرارات هامة تدور حول هذه العناصر ، وهي :

أولا : يقرر المؤتمر أن الاستعمار ـ سواء في البلاد التي لم تزل ترزح تحت نيره أو في البلاد التي جلا عنها مخلفا آثاره ـ هو الخطر الأول الذي يجب على المسلمين أفرادا وجماعات ودولا أن يجاهدوه بالمقاومة الجادة


المستمرة حتى يتم تحرير المسلم قلبا وضميرا ووطنا ومعرفة ، وأن كل تقصير في ذلك هو عصيان لله ـ تعالى ـ وإثم كبير لأنه يقوي يد العدو على إنزال الأذى بالمسلمين.

وإن الصهيونية التي يحاول الاستعمار بعد أن تحطمت أسبابه الظاهرة أن يغلف بها أهدافه تحت ستار جديد ، هي داء استعماري خبيث يستهدف به الاستعمار أن يتمكن بآثاره في حياة المسلمين لاستمرار سيطرته عليهم ، ومن ثم كانت مجاهدتها فرضا كذلك على كل مسلم حيثما كان .. وكل تخلف عن ذلك عصيان لله ..

ثانيا : يقرر المؤتمر أن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للأحكام الشرعية ، وأن الاجتهاد لاستنباط الأحكام منهما حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة ، كما أن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك ، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي ، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.

ثالثا : أن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات وحقوق الملكية الخاصة والعامة ، هي موضوعات الساعة لأنها ملتقى شعبتين من شعب الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي.

ومن أجل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة.

ويقرر المؤتمر ، بعد الدراسة المستفيضة لموضوع الملكية ، أن حق التملك والملكية الخاصة من الحقوق التي قررها الإسلام وكفل حمايتها .. وأن من حق أولياء الأمر في كل شلدان يحدوا من حرية التملك بالقدر الذي يكفل درء المفاسد وتحقيق المصالح وأن أموال المظالم وسائر الأموال


المشبوهة يجب أن ترد إلى ذويها أو إلى الدولة .. بل أن المال الطيب ، إذا احتاجت المصلحة العامة إلى شيء منه ، أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه وأن تقدير المصلحة من حق أولياء الأمور ..

رابعا : يقرر المؤتمر أن واقع المجتمع الإسلامي المعاصر يفرض على مجمع البحوث الإسلامية أن يلتمس الوسائل لتوثيق الصلة بين المسلمين في شتى بلادهم ليجمعهم كلمة ويوحدهم رئيسا وينظمهم للتعاون أفرادا وجماعات على ما فيه خيرهم وخير الإنسانية من غير إقليمية ولا مذهبية ولا تنازع.

كما يقرر أن استكمال المجمع لأجهزته اللازمة لنشر المبادىء الإسلامية وتجليتها أمر ضروري تجب المبادرة إليه لينهض المجتمع الإسلامي بمسئولياته التي يفرضها عليه واقعه.



قصّة الأزهر الجامعي بعد عشرين عاما (١)

الأزهر القديم حافل بالذكريات المجيدة الخالدة المشهورة ، التي فصل الحديث فيها المؤرخون والباحثون.

أما «أزهرنا» اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فليس فيه من الأزهر القديم شبه ، وليس بينه وبينه صلة ، وهو حائر الرأي ، متبعثر الخطى ، كأنما يريد أن ينقض إشفاقا على حملة تراثه ، من جسامة المئولية ، وفداحة التبعة ، وهول الحساب .. وأما «أزهرنا» في الغد ، فأتخيله منارة مشرقة ، وجامعة تعود إلى فهم رسالتها ، وإلى أدائها ، وإلى الجهاد مرة أخرى من أجل الإسلام والمسلمين وتقدم النهضة الفكرية ، ومن أجل ازدهار حركة الأحياء والتجديد والإصلاح الديني .. وسيكون الفضل في ذلك راجعا إلى يقظة الرأي العام في الأزهر بعد سبات ، وإلى انتباه الشباب فيه بعد غفلة ، وإلى حرص الأمة والمسئولين على إصلاح الأزهر وتجديد معالم النهضة الدينية والعلمية في أروقته ومحاربيه.

سيكون الأزهر بعد عشرين عاما جامعة هيكلا وروحا ورسالة ، بعد أن كان في القديم جامعة بهيكله ، وبعد أن كان في عصرنا الراهن جامعة اسما

__________________

(١) ص ١٥٥ قصص من التاريخ للمؤلف.


فحسب .. وستؤدي هذه الجامعة الأمانة العلمية والدينية الملقاة على كاهلها على خير الوجوه وأجلها ، وستعود حلقات الدرس في الأزهر إلى نشاطها العلمي من جديد ، منقحة ومحققة ومجددة مبتدعة ، وسيحفل الأزهر آنذاك بعديد الأعلام من بنيه ، الذين سيكونون خير سند لنهضته الفكرية والروحية.

وستمتلىء نفوس الأزهريين بعد عشرين عاما بالعزة والكرامة ، فلا تجد فيهم ضعيف الرأي ، أو منافق اللسان ، أو هداما يستر عيوبه بالحقد على الناس ، أو أنانيا يسعى لنفسه ولو كان في ذلك الهلاك للجماعة ..

وستقوى صلة الأزهر بالأمة ، فتنزله منها منزلة الرائد الأمين ، ويحلها من نفسه مكانة عزيزة بالتوجيه والإيثار والنصح ، والدعوة إلى المثل العليا الكريمة التي يدعو إليها الإسلام الكريم.

أما مناهج الأزهر وكتبه وكنوزه القديمة فسينالها ثورة العصر الجديد ، فتعود كنوزنا العلمية إلى التأثير في العقل العربي الحديث تأثيرا قويا نافعا ، وتصبح مناهج الأزهر وكتبه ونظمه محققة لرسالته الجامعية الصحيحة .. وسيكون منصب «شيخ الأزهر» بالانتخاب من حملة الدكتوراه أو ما يعادلها من الأزهر ، وسيعود لمنصب المشيخة سالف مجده وعظمته وهيمنته الروحية الكبيرة على العالم الإسلامي كافة ، وستنال جماعة كبار العلماء ولجنة الإفتاء ومجلة الأزهر ومكتبته وأروقته ومعاهده وكلياته وبعوثه الإسلامية نصيبها من الإحياء والبعث والتجديد ، وستسهم البعوث الإسلامية الأزهرية في ميادين النشاط الديني والعلمي بنصيب كبير ، وستحمل مدرجات الأزهر أسماء الخالدين من أبنائه .. ويطلق على الكراسي العلمية المنشأة في كلياته كذلك أسماء الأعلام من علمائه .. وسنرى مدينة الأزهر الجامعية ، واتحاد الأزهر الجامعي ، وحفلات الذكرى الألفية لإنشاء الأزهر ، واللغات الحية التي تدرس في جميع أقسامه وفروعه ، وقلوبنا يملؤها البشر والفخر والإعجاب.


وسوف تقيم كليات الأزهر مواسم علمية وأدبية ضخمة ، وسيعلن آنذاك عن رحلات لطلبة كليات الأزهر في البلاد العربية والإسلامية خلال إجازة نصف السنة وفي الإجازة الصيفية.

وسيكون في كلية اللغة العربية عدة كراسي علمية ، للنقد الأدبي ومذاهب الأدب وأصول النحو والبلاغة واللغات السامية واللهجات القديمة والحديثة وسيتبعها معهد للصحافة ، وتنطق باسمها مجلة علمية ضخمة ، وسيعلن عن مناقشة رسالة للدكتوراه فيها آنذاك ، عنوانها : «مذهب أدبي جديد» يبشر صاحبها فيها بالمثالية الأدبية. وفي كلية أصول الدين ستنشأ كراسي أخرى للفلسفة والتصوف الإسلامي وعلم الأخلاق الديني وعلم الاجتماع ومناهج الوعظ ، وسواها. وسيعلن آنذاك عن مناقشة رسالة للدكتوراه. فيها موضوعها «فلسفة الشك بين ابن عربي وديكارت» ، وعن مناقشة رسالة ثانية موضوعها «علم الاجتماع بين أرسطو والفارابي وابن خلدون وغوستاف لوبون» وسيعكف أحد طلبة الدكتوراة فيها آنذاك على كتابة رسالة عن «الذرة عند فلاسفة الإسلام» .. وفي كلية الشريعة ستنشأ كذلك كراسي علمية جديدة لأصول الاجتهاد والقانون «المقارن» والشريعة الإسلامية ومذاهب المجتهدين وسواها ، وسيعلن عن قيام طلبة الدكتوراة في الكلية بنشر مجموعات القوانين الجنائية والمدنية والاقتصادية والقانون الدولي في الشريعة الإسلامية ، وستناقش رسالة للدكتوراه عنوانها أصول مذهبي الأوزاعي والليث بن سعد .. وستتبادل الجامعات في الشرق والغرب رسائل الأزهر العلمية.

ومن أهم حركات التجديد في الأزهر توطيد النظام الجامعي ورفع مستوى الكادر الجامعي في كلياته وتبادل الأساتذة بين الأزهر وشتى جامعات العالم ، وستقوم الدول الإسلامية بعبء الأموال اللازمة للبعوث الإسلامية الأزهرية ، وسيتولى الأزهر الإشراف على المساجد والمعاهد الكبرى في


العالم الإسلامي ، وستعلن جامعة «هارفرد» عن قدوم أستاذ أزهري زائر فيها لتدريس «أصول التشريع الإسلامي وأثرها في نشأة علم الاجتماع وفي الحضارة العالمية».

ويومذاك سيكون للأزهر معاهد علمية ثقافية في الخرطوم وإشبيلية والقدس وكراتشي وبغداد ولندن وبرلين وباريس ونيويورك ، وسترسل ثلاثون بعثة علمية لشتى جامعات الغرب .. وستستعين جامعة إيران وجامعة موسكو وبرلين ولندن والسوربون وجامعات الهند والصين وباكستان وسواها بأساتذة من الأزهر. ومن أهم ما سنراه في الأزهر بعد عشرين عاما تبادل الطلاب بين كلية اللغة وكليات الآداب في مصر والغرب ، وبين كليات الشريعة وكليات الحقوق ، وبين كلية أصول الدين وكليات الفلسفة في العرب ، وكذلك اعتراف الجامعات في العالم بشهادات الأزهر العلمية ، وسيدرس الطب العربي القديم في الأزهر ، وسيباح لخريجي كلية أصول الدين فتح «عيادات» نفسية للطب النفسي العلاجي. وسيكون لخريجي الأزهر دخول الكلية الحربية عاما واحدا يمنحون بعده رتبة عسكرية ويعملون في الجيش في شتى وحداته ، وسيكون القائد العام للجيش المصري آنذاك أزهري التعليم ، وسينشىء الأزهر كلية الجامعية للفتاة المصرية .. وستنال المعاهد الابتدائية حظها من الرعاية والتجديد والإصلاح ، ويباح تبادل الطلاب بين الأزهر والمدارس الابتدائية والثانوية ، وسيوحد الزي بين الأزهر والجامعات المصرية.

ويومئذ سيكون الأزهر الصرح الإسلامي الأكبر في البلاد الإسلامية.


الأزهر حصن العربية

يعني الأزهر فيما (١) يعني المعقل الذي حفظ الثقافة العربية ألف سنة ونيفا ، يسهر عليها ويزيد فيها وينفق منها على طلاب المعرفة في الشرق والغرب ، على حين دمر الجهل والكفر حصونها في بغداد والأندلس.

ويعني الأزهر فيما يعني ، الحصن الذي اعتصمت به اللغة العربية من عدوان الشعوبية والعامية والتركية حين استعجم اللسان واستترك السلطان وفشت الجهالة ، وضعفت الخلافة وعز الناصر وذل الأهل.

ويعني الأزهر فيما يعني القبلة الثانية التي يوجه المسلمون في جميع أقطار الأرض قلوبهم إليها يتلمسون على هداها الطريق إلى الحق والسبيل إلى الله.

ويعني الأزهر فيما يعني الملاذ للشعب المظلوم كلما عسفه الطغيان وبغي عليه الحكم فيأوي منه إلى ركن شديد وحام قادر.

ويعني الأزهر فيما يعني الجامعة العالمية التي يؤمها الطلاب من كل أرض ومن كل جنس ومن كل لون ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا

__________________

(١) محلة الأزهر ـ عدد رمضان ١٣٨٠ ه‍ ـ احمد حسن الزيات.


رجعوا إليهم ، لا يبغون من وراء ذلك مالا ولا جاها ولا شهرة.

ويعني الأزهر فيما يعني الخانقاة التي آوت العباد والزهاد والوعاظ وحفظة القرآن وحملة البركة.

ويعني الأزهر فيما يعني القاعدة الروحية التي كان يخشاها المستعمرون فحاولوا سرا وعلنا أن يدمروها ليتقوها ، فلما استيأسوا من تدميرها أو إضعاف تأثيرها سالموها ونافقوها. ثم جهدوا أن يستميلوها ليستغلوها.

ويعني الأزهر فيما يعني ، الصرح الوطني الذي أجج الثورات على الفساد ، وخرّج القيادات للجهاد ، وقام من نهضة العرب الحديثة مقام الرأس واليد ، يمدها بالروح ويرفدها بالقوة. ثار على الغزو الفرنسي بقيادة ستة من علمائه ، وثار على الطغيان التركي بقيادة شيخه عبد الله الشرقاوي ، وثار على الظلم الخديو بقيادة ابنه أحمد عرابي ، وثار على الاحتلال البريطاني بقيادة ابنه سعد زغلول.

كل أولئك يعنيه لفظ الأزهر ، وأكثر من أولئك يلازم معنى الأزهر ، ولكني بسبيل الحديث عن نصيب اللغة العربية من فضل الأزهر فلا أخوض في حديث غيره.

إن فضل الأزهر على اللغة العربية مستمد من فضل القرآن الكريم عليها ؛ وبعض فضله أنه كسبها عذوبة في اللفظ ورقة في التركيب ودقة في الأداء وقوة في المنطق وثروة في المعانى. وكان سببا في استحداث العلوم الشرعية والأدبية التي حفظت مادتها بالقواعد وفي المعجمات ، ووسعت دائرتها بالألفاظ والمصطلحات ، كالنحو والصرف والاشتقاق لدفع اللحن عنه ، والمعاني والبيان والبديع لتقرير الإعجاز فيه ، وعلى اللغة والأدب لتفسير غريبه وتوضيح مشكله ، والحديث والأصول والفقه والتفسير لاستنباط أحكام الشرع منه ، وهو الذي وحدها على كل لسان ، ونشرها معه في كل


مكان. وحفظها أربعة عشر قرنا إلا قليلا لا تفسد ولا تجمد ولا تتغير مصداقا لقول الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وحفظ القرآن يستلزم حفظ لغته ، والناظر في تاريخ الأديان السماوية والأرضية لا يجد دينا حملته لغته التي أنزل بها أو كتب فيها إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب في مدى ١٣٨٠ سنة ثم بقيت محافظة على قوتها وجدتها ووحدتها وطبيعتها إلا دين الإسلام ولغة العرب ، أما سائر الأديان فلا تقرأ كتبها الأصلية إلا في لغة البلد الذي ظهرت فيه. فإذا نقلت إلى بلد آخر عن طريق الدعوة قرئت مترجمة إلى لغته ، واختص بمعرفة الأصل طائفة قليلة من رجال ذلك الدين ، فمدونة الأسفار البوذية المسماة بالسلات الثلاث لا يقرأها أتباع هذه الملة في الصين واليابان إلا منقولة إلى الصينية واليابانية ، والتوراة والإنجيل ـ وهما كتابان منزلان ـ لا يقرآن في العالم المسيحي إلا في لغة كل قطر من أقطاره ، لذلك ظل تأثيرهما في الآداب الأخرى ضئيلا حتى ترجما إلى اللاتينية والتوتونية القديمة فظهر أثرهما قويا في الآداب الأوروبية.

وليس كذلك الحال في القرآن ، فإن المسلمين اعتقدوا بحق أن لغته جزء من حقيقة الإسلام ، لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابه ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته ، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده. فالقرآن لا يسمى قرآنا إلا فيها ، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها ، لذلك سارعوا إلى تعلمها والتكلم بها والتأليف فيها والتعصب لها والدفاع عنها والدعوة إليها حتى حلت محل الفارسية في العراق والرومية في الشام والقبطية في مصر والبربرية في المغرب ، وأصبحت في عصر بني العباس وهو عصرها الذهبي لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة في أكثر الدنيا القديمة ، وأصبح المسلم على اختلاف جنسه ينتقل من قطر إلى قطر في عالمه الإسلامي كما ينتقل من بلد إلى بلد في وطنه الأصلي ، لا يجد مشقة في التفاهم ، ولا صعوبة في التعامل ، ولا شدة في المعيشة ثم شغل المسلمون ـ عربهم وعجمهم ـ بالقرآن وفرغوا له ، فكان


دعاءهم في المسجد ، ونظامهم في البيت ، ومنهاجهم في العمل ، ودستورهم في الحكومة ، فسري هدية منهم مسرى الروح ، وجري وحية فيهم مجرى الطبع ، وأثر في ألسنتهم وأفئدتهم وأنظمتهم تأثيرا لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله ومن هنا كانت ثقافة الإسلام قائمة على ركنين أساسيين هما الدين بعلومه المختلفة واللغة بفنونها المعروفة ، وهذان الركنان يشد احدهما الآخر ويمسكه ، فالإسلام بغير العربية ينبهم ويضمحل ، والعربية من غير الإسلام تنكمش وتزول ، واللغات السامية مدينة ببقائها للدين ، فلو لا اليهودية ما بقيت العبرية ، ولو لا المسيحية ما بقيت السريانية ، ولو لا الإسلام ما بقيت العربية ، ولكن الفرق بين بقاء العربية وبقاء العبرية والسريانية هو الفرق بين الروح والذماء أو بين العين والأثر. والأزهر وهو وارث النبوة وحامي العقيدة وناشر الدعوة لا يمكن أن تقوم رسالته إلا على هذين الركنين ، وقد أداها بتأييد الله وتوفيقه تأدية أحلته من العالم الإسلامي كله محل الزعامة.

على أن فضله على علوم القرآن وعلوم اللسان قد يشاركه فيه بالكثير أو بالقليل طائفة من المدارس والجوامع أنشأها السلاطين في القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والنجف وقرطبة والقيروان والزيتونة ، كالناصرية والقمحية والصلاحية والمؤيدية والمنصورية والشيخونية والظاهرية والكاملية والنظامية ؛ ولكن هذه المدارس التي عفى على أكثرها الزمن لم تستطع في حياتها منفردة أو مجتمعة أن ت (اول الأزهر فضله الخالد على اللغة العربية في بقائها لسانا للعلم ورباطا للمسلمين إلى اليوم.

تحيفت الخطوب السود لغة القرآن في محنتين أشفت فيهما على الموت لو لا أن تداركها الله بفضله : محنة الغزو المغولي في منتصف القرن السابع حين انتكث فتل العباسيين في العراق بتنافس الفرس والترك ، وتحارب الشيعة والسنة ، وذهاب جلال الخلافة من النفوس ، فقوص هولاكو عرشها سنة ٦٥٦ ه‍ ، وتضعضع أمر الأمويين في الأندلس بتغلب


البربر والموالي على ملكهم وتقسيمه بينهم إلى دويلات سهل على الفرنج ازدرادها قطعة قطعة حتى ابتلعوها لقمة سائغة سنة ٨٩٨ ه‍ .. ودالت دولة الفاطميين في مصر والشام فوقعتا في أيدي الأيوبيين ، ثم صارتا إلى المماليك وظلتا تحت سلطانهم حتى دخلتا في حكم الأتراك العثمانيين سنة ٩٢٣ ه‍ ، فأتى على العرب ستون وخمسمائة عام لم يكن لهم فيها سلطان ولا ملك ، فأصبحت ديارهم وآثارهم نهبا مقسما بين المغول والترك والفرس والجركس ثم الأسبان بعد قليل ، وكان أكثر هؤلاء الأعجام وحشيين أميين فخربوا الدور وهتكوا الخدور وفجعوا اللغة وآدابها وعلومها بتحريق المكاتب وتعطيل المدارس وتقويض المراصد وتقتيل العلماء. ناهيكم بما فعله التتار في بخاري وبغداد ، والصليبيون بالشام ، والإفرنج بالأندلس ، فلو أن الزمان عفى على اللغة العربية وألحقها بأخواتها السامية لما كان ذلك خارقا لطبيعة الأشياء ولا بدعا في منطق التاريخ ، ولكنها بقيت على الرغم من هذه الخطوب لسانا للدين والعلم ، ولغة للحكومة والأمة في بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب والجزيرة ، ولو لا نعرة الترك وعصبية الفرس لكانت لغة المسلمين كافة. والفضل في بقائها بعد إدبار الزمان والسلطان عن أبنائها ، إنما كان لهذا الأزهر الجليل الذي اختصه الله بمزايا تميز بها على غيره ، منها صبغته العربية الخالصة بحكم نشأته وبيئته ، وموقعه الوسط بين الشرقين الأدنى والأوسط ، فكان ملتقى المسلمين من هنا ومن هناك ، ومنها قربه من الحجاز فكان طريق الحجاج والرحالين من علماء إفريقية والأندلس. ومنها تخريجه طائفة كبيرة من أعلام الفقه وأعيان الأدب جمعوا شتات اللغة والعلوم والآداب في أسفار أشبه بدوائر المعارف ، ومنها مكانته التي بلغت من قلوب المسلمين والحاكمين مبلغ القداسة وكان لها أثر بالغ في حل بعض المشكلات السياسية والاجتماعية ، ومنها كفايته الأساتذة والطلاب مؤونة العيش بأن كفل لهم الغذاء والكساء والمأوى والكتاب ، ومنها إيواؤه الناجين بحياتهم ودينهم وعلمهم وأدبهم وكتبهم من غارة المغول حين


اكتسحوا خراسان والفرس والعراق ، فكان من مهاجرة هؤلاء العلماء من الشرق والغرب إلى القاهرة من البحث والابتكار ما كان لمهاجرة علماء المسيحية من القسطنطينية إلى روما من البعث والازدهار. ومنها مناصرة الأيوبيين له بالمال والتعضيد ؛ لأنهم وإن كانوا أكرادا قد تكلموا بلغة العرب وتأدبوا بأدب العرب ونبغ من بينهم الشاعر والعالم والمؤرخ ، كالملك المؤيد عماد الدين أبي الفداء ، والملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، وكان هذا الملك ضعيف الرأي كثير الغفلة فغلبه عمه العادل أبو بكر وأخوه العزيز عثمان على ملك الشام ومصر ، فكتب إلى الخليفة الناصر العباسي كتابا يشكو إليه فيه ذلك وقد بدأه ببيتين من الشعر أجاد في نظمهما كل الإجادة وهما :

مولاي إن أبا بكر وصاحبه

عثمان قد أخذا بالسيف حق على

فانظر إلى حرف هذا الاسم كيف لقي

من الأواخر ما لاقى من الأول

يريد بأبي بكر عمه ، وبعثمان أخاه ، وبعلي نفسه ، فأجابه الخليفة الناصر بقوله :

وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا

بالصدق يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا عليا حقه إذ لم يكن

بعد النبي له بيثرب ناصر

فاصبر فإن غدا عليه حسابهم

وأبشر فناصرك الإمام الناصر

والجزالة ظاهرة في شعر الملك الكردي ظهور الركاكة في شعر الخليفة العربي!.

كذلك أقول في المماليك فقد أيدوه وأمدوه ؛ لأنهم اتخذوا مصر وطنا ، والإسلام دينا ، والعربية لغة ، وكان من بينهم شعراء عالجوا القريض وأجادوه كالسلطان الغوري ، هؤلاء المماليك قد عضدوا العلماء وقربوا الأدباء ، وشدوا أزر المعلمين والمؤلفين ، حتى خرّج الأزهر في ظلمهم أولئك الأئمة الذين استودع الله صدورهم ذخائر العلم والحكمة فأودعوها


الكتب ، وأخرجوها للناس : كجمال الدين بن منظور ، وجمال الدين بن هشام ، وشمس الدين النويري ، وابن فضل الله العمري ، وشمس الدين الذهبي ، والحافظ بن حجر العسقلاني ، وأبي العباس القلقشندي ، وتقي الدين المقريزي ، وبدر الدين العيني ، وسراج الدين البلقيني ، وبدر الدين الدماميني وشمس الدين السخاوي ، وكمال الدين الدميري ، وجلال الدين السيوطي ، وتقي الدين الدميري ، وجلال الدين السيوطي ، وتقي الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد.

لهذه المزايا انتهت إلى الأزهر في القرون الثلاثة السابع والثامن والتاسع زعامة الثقافة في جميع البلاد العربية والإسلامية ، فحفظ وجود اللغة ، ورفع سقوط الأدب ، وجمع شمل العلم ، ولولاه لا انقطع ما بين الأدبين القديم والحديث.

أما المحنة الأخرى التي امتحنت بها العربية وكان للأزهر الفضل في وقايتها وسلامتها فهي محنة الغزو التركي في أوائل القرن العاشر حين استولى السلطان سليم على مصر والشام سنة ٩٢٣ ه‍ فأصبحت الخلافة عثمانية لا عباسية ، وعاصمة الإسلام القسطنطينية لا القاهرة ، واللغة الرسمية التركية لا العربية ، ومكث الغازي سليم في مصر بعد الغزو ثمانية أشهر سلبها فيها أنفس أعلاقها من الكتب والتحف والآثار لنوابغ الفنانين والمؤلفين الذين تخرجوا في الأزهر وأنتجوا في مصر مدى القرون الثلاثة التي سبقت الغزو العثماني ، وأخذ الغزاة يغلبون لغتهم على اللغة العربية في الدواوين ، ويطاردونها في المدارس ، حتى كانوا يعلمون قواعد اللغة العربية باللغة التركية في الشام والعراق! ففشا في اللغة العامي والدخيل ، وذهبت أساليبها من النظم والنثر ، وخيم الظلم والظلام على النفوس فخمدت القرائع ، وضعفت رغبة الحكام في العلم ، وانقطعت أسباب الطلب له ، واستطاع الترك أن يترّكوا كل شيء في مصر من سياسة وإدارة وتعليم وجيش إلا الأزهر ، فقد راعهم ما أحسوا من جلاله وما سمعوا عن مجده ، فوقفوا على


أبوابه خاشعين يلتمسون منه العون على ما ينجم من أحداث ، والرأي فيما يشكل من الأمور.

والسلطان سليم نفسه قد زاره مرارا فصلى فيه وتبرك به. ومن قبل قد غزا الأزهر بلاد الأتراك بعلمه وأدبه وكتبه فعرب طائفة منهم تعلموا العربية وتكلموا بها وألفوا فيها كالفيروز أبادي وأبي السعود والفناري وملا خسرو والجامي والخيالي وخوجه زادة وملا مسكين وملا لطفي وحاجي خليفة وطاشكيري زاده وابن كمال باشا وكان سلاطين العثمانيين أنفسهم يدرسون العربي وآدابها كما كانوا يدرسون التركية وآدابها ، ومنهم من قرض الشعر العربي ورواه كالسلطان أحمد الأول فقد رووا له قصيدة غزلية مطلعها.

ظبي يصول ولا وصول إليه

جرح الفؤ بصارمي لحظيه

ولم تضعف عناية علماء الترك بالعربية إلا في عهد السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد الأول حين أحييا اللغة التركية وقربا مواردها وبسطا قواعدها وسمياها اللغة العثمانية ، فأنتم ترون أن اللغة العربية قد أتى عليها ستة قرون قضتها بين الاحتضار والموت ، ثلاثة منها في العصر المغولي ، وثلاثة أخرى في العصر العثماني ، أمحت فيها من الهند وخراسان والعراق وبلاد الروم والأندلس ، وبقيت في الأقطار العربية بقاء المريض أشرف على الموت ولم يبق منه إلا رمق ذلك الرمق هو الذي كفله الأزهر وتعهده فغذاه وقواه ورعاه ، حتى إذا انجاب عن مصر قتام الحكم العثماني وأراد الله لشمس الحضارة أن تشرق مرة أخرى على وادي النيل زايل اللغة الوهن وسرت فيها الحياة ، ففي الأزهر كان ملاذها وغياثها ، وفي الأزهر كان بقاؤها وانبعاثها.

كان الأزهر بعد انتهاء تلك الغمرة باحتلال نابليون ، وابتداء هذه النهضة باستقلال محمد علي ، قائد الشعب في الكفاح ورائد الحكومة في الإصلاح ، تمثلت قيادته في شيوخه الأجلاء خليل البكري ، وعبد الله


الشرقاوي ، ومحمد المهدي وسليمان الفيومي ، وحسن العطار. وتجلت ريادته في طلابه النجباء الذين أرسلوا إلى أوروبا ليستفيدوا ويستزيدوا ، كإبراهيم النبراوي ، وأحمد حسن الرشيدي ، ومحمد علي البقلي ، ورفاعة الطهطاوي ، وعلي مبارك ، وتلك يد أخرى لهذا المعهد الجليل على اللغة العربية ، ساعدها على النهوض ، كما حماها من قبل دون السقوط.

هاتان هما المحنتان اللتان عانتهما العربية في عهدين متواليين ، ثم جعل الله نجاتها منهما بفضل الأزهر حفظا لكتابه وصونا لدينه.

وهناك محنة ثالثة تجتازها اللغة اليوم وتوشك أن تبلبل اللسان وتعطل القرآن وتقطع الدين عن أصله ، وتفصل العربي عن أهله ، وتهبط بالأدب من جبل الوحي وهيكل عطارد حيث الترفع والسمو والنبل ، إلى حضيض المادية حيث التسفل والتبذل والفحش.

تلك هي محنة الإباحية اللغوية التي تغلب العامية على الفصحى ، وتؤثر أدب العامة على أدب الخاصة ، وتفضل الموضوع المثير على الموضوع المنير ، وتريد أن يكتب الكاتب وينظم الشاعر كما يشاء ، لا يتقيد بقاعدة من نحو ولا قياس من صرف ولا نظام من بلاغة ولا وزن من عروض ولا مثال من خلق. ولهذه المحنة أو المشكلة أصلان : الاستعمار والجهل. أما الاستعمار فلأنه رأى أن الرابطة بين المسلمين على اختلاف أقطارهم وتباعد ديارهم هي الدين واللغة ، وما دامت أمة محمد روحا واحدا بالإسلام ، ولسانا واحدا بالعربية ، فإن استغلالها موقوت وإن طال ، وإن استقلالها آت وإن تأخر ، لذلك سعت فرنسا سعيها الدائب في الجزائر لفتنة البربر عن دينهم بإصدار الظهير المعروف ، وقطع العرب عن لغتهم بطردها من المدارس والدواوين. ولكن دين الله كان أقوى من ظهير فرنسا ، ولغة المصحف كانت أمضى من لغة السيف. واكتفت انجلترا على عادتها من الدهاء والكياسة بمحاربة الفصحى فدعت إلى العامية بلسان موظفيها


ومبشريها ومستشرقيها ؛ لأن اللغات العامية تختلف في البلاد العربية اختلافا شديدا يكاد يجعل من كل لهجة منها لغة مستقلة. وإذا انهزمت أمامها اللغة المشتركة وهي الفصحى استحال التفاهم وضعفت العقيدة وانقطعت الصلة وتفرقت الوحدة وتبددت القوة واستطاع المستعمر أن يلتقمها لقمة لقمة فلا يغص ولا يشجى. ولكن هذه الدعوة فشلت بضعف الاستعمار في الشرق ، وقوة الوعي في العرب. وأما الجهل وهو الأصل الآخر لمحنة اللغة العربية فقد خلف الاستعمار في هذه الدعوة المجرمة ، والمراد بالجهل جهل أبناء العربية بها ، وعزوفهم عن علومها وأدبها ، وهو جناية المدرسة المدنية الحديثة ، فقد فشلت بعد طول الزمن وكثرة التجارب في تخريج القارىء الذي يقرأ بفهم ، والكاتب الذي يكتب عن علم ، والمفكر الذي يفكر عن أصالة ، وليس أدل على هذا الفشل من أن الطالب يتعلم النحو عشر سنين دأبا ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يعبر عن فكره تعبيرا صحيحا لا بلسانه ولا بقلمه ، فإذا دفعه استعداده الأدبي إلى الكتابة آثر العامية على الفصحى ودعا إلى التحلل من القواعد والقيود ليجعل الفوضى نظاما والخطأ مذهبا والعجز شركة. كانت علوم العربية تدرس في الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وفيما يجري على منهجه من معاهد لبنان وسورية والعراق والمغرب دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق. فإذا اتصل النظر بالعمل واقترن الحكم بالتطبيق وصادف ذلك استعدادا في المتعلم ظهر الكاتب الذي يكتب فيجيد ، والشاعر الذي ينظم فيبدع ، والناقد الذي يحكم فيصيب ، أما إذا فتر الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهيء الوسائل ويقرب المناهل ويوجه المواهب ويسدد الخطى ، ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر وتنمو لتنتشر وتسمو لتخلد. وكان من خريجي هذا المنهج القديم أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة ، ولا


يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر ، فإذا خلا المجتمع بعد أجل طويل أو قصير فهل يخلف من بعدهم خلف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟

الجواب عن هذا السؤال عند الأزهر وحده ؛ فهو بحكم طبيعته وعلة وجوده معتصم اللغة ومنجاها في الماضي والمستقبل ، أما المعاهد الأخرى فكل شيء فيها يبعث على التشاؤم : منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد ، وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان العام بأية وسيلة ، فالمطولات تختصر ، والمختصرات تختزل ، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. ذلكم إلى زهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد النشء عن تعمق الأصول وتقصى الفروع ، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة أو من شهادة إلى شهادة ، فإذا ما تخرج الناشىء بهذا الحظ المنكود من اللغة وكان في نفسه ميل إلى الأدب ، وفي طبعه استعداد للكتابة ، انصرف عن كنوز الأدب العربي ، لأن مفاتيحها ليست عنده ، وأقبل على روائع الأدب الغربي يحاكيها ويستوحيها حتى إذا امتلأ ذهنه وفاض شعوره وأراد أن ينتج شيئا يفيد الناس وجد في نفسه الملكة التي تخلق وفي حسه الصورة التي تمتع ، ولكنه لا يجد في لسانه اللغة التي تعبر ، ولا في قلبه الأسلوب الذي يؤثر ، فيضيق ويسخط ويثور ، ويزعم أن قواعد اللغة غصة لا تساغ ، وأن إعراب الكلمة عقبة لا تذلل ، ثم يتطرف فيدعو إلى إطلاق الحرية للكاتب فيكتب كما يشاء.

تلك حال المتخرج الأديب بطبعه أما المتخرج العادي فإنه يعود أميا كما بدأ ، لا يقرأ إذا قرأ إلا السهل ، ولا يطلب هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور ، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة ، حتى نشأ من إفراط القراء في هذا الطلب ، إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ


الذي لا ينفع ، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع ، ذلكم إلى طغيان الأدب الأوروبي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول النائين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة ففتنتهم عن أدبهم وصرفتهم عن تاريخهم ، فالمتفرنسون منهم يعرفون هوجو ولا يعرفون المتنبي ، ويدرسون فولتير ولا يدرسون الجاحظ ، ويقرءون لا مرتين ولا يقرءون البديع ، ومن هنا نشأت هذه التبعية التي فرضها الشباب على أدبنا لأدب الغرب ، فأساليبهم الكتابية اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب ، ومذاهبهم الأدبية هي مذاهب الأدب في الغرب ، ومقاييسهم النقدية هي مقاييس النقد في الغرب ، حتى الرمزية وهي بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان المغمغم يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح ، وحتى الوجودة وهي بنت الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة ، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته من سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل ، ولا يتحداها وهو مؤمن.

ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم ، الأدب للنفس والعلم للناس ، الأدب مواطن والعلم لا وطن له ؛ الأدب روح في الجسد ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلا بنفسه ، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزا بأفراده ، الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد. والعلم شيء غير أولئك كله ، فإذا جاز طبعا أن نأخذ من غيرنا ما يكمل نقصنا من العلم ، فلا يجوز قطعا أن نأخذ من هذا الغير ما يمثل أنفسنا من الأدب.

إن دراسة العربية على النهج الصحيح المنتج بعد المدرسة لا يكلف المتأدبين من الجهد والزمن أكثر مما تكلفهم دراسة الفرنسية والإنجليزية : ولكنهم في عصر السرعة يطلبون القريب ويتوخون السهل ويتخطفون العلم ويتعجلون الإنتاج ، ثم يحقدون على من يلزمونهم التأني ويجشمونهم الدرس ويقولون لهم إن أحدا لا يعرف في تاريخ الآداب القديمة والحديثة


من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا أو قصاصا أو مؤلفا ، وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه ، وإذا كان الناس يقرءون الصحيفة أو الكتاب ولا يقعون فيها على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش فالفضل لأولئك الجنود المجهولين من الأزهريين الذين يرابطون ليل نهار في دور الصحافة والنشر ويسمونهم المصححين ؛ فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم ، وعلى المعجم فيعرب ، وعلى الركيك فيقوى.

لا بأس أن ييسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب : ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير ، لا بأس أن نخفف على غير المتخصصين من عبء التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو ، ومن حفظ وجوه الإعراب التي بقيت في اللغة أثرا لاختلاف اللهجات في الجاهلية فهو شت القواعد وجعلت كل خطأ صوابا وكل صواب خطأ ، ولكن البأس كله في أن تجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي ، فيه الخفة والبساطة والشكل ، وليس فيه العضل والعصب والروح. إن ما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان ، لا تحيا به لغة ولا يبقى عليه أدب ، فإذا استطاع يوما أن يجيز امتحانا أو ينيل شهادة فلن يستطيع أبدا أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر بشيوخه وكتبه ، كمحمد عبده ، وسعد زغلول ، والمنفلوطي ، والبشري ، وطه حسين ، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كشاويش ، والمهدي ، والخضري والسكندري والجارم ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء الشرعي. كأحمد أمين وعزام والخولي. ولا أمثال من خرجتهم دار المعلمين العليا ، كالمازني وشكري وأبو حديد. ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد ، والرافعي ، وشوقي ، وحافظ في مصر. وكالبستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان. وكالمغربي والشهابي ، وجبري ، والطنطاوي ، في سوريا. وكالرصافي ، والزهاوي وكاشف الغطاء ، والشبيبي ، والأثري في العراق ، وكالنشاشيبي والسكاكيني في فلسطين.


إني أدعو إلى التوفيق بين الفصحى والعامية ، ومذهبي في مجمع اللغة العربية إمداد الفصحى بما تزخر به العامية من ألفاظ الحضارة وتراكيبها التي دخلت في الحياة العامة حتى تضيق مسافة الخلف بين اللهجتين وينتهي بهما الأمر بفضل الصحافة والإذاعة والتعليم إلى لغة واحدة عامة فيها من الفصحى السلامة والجزالة والبلاغة والسمو ، وفيها من العامية الدقة والطبيعية والحيوية والتجدد والوضوح. أما أن تكون لغتنا كلغة الهمج لا تقوم على قواعد ، ولا تجري على أنظمة ، ولا تشعرنا بجمال ، ولا تحفزنا لكمال ، ولا تربطنا بماض ، ولا تصلنا بمستقبل ، ولا تجمعنا في وحدة ، فذلك مذهب لا يقول به رجل وهو جاد ، ودعوة لا يستجيب لها إنسان وهو عاقل.

فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية لأن أساليبها غالبة على السمع ، وقواعدها جارية على الطبع ، فلا يحتاج تحصيلها إلى كتاب ومعلم ومدرسة ، وإنما يحتاج إلى بواب وخادم وشارع وتغلب الأساليب العامية معناه كما قلت فصل الأدب عن الدين وقطع الحاضر عن الماضي وتوهين الصلات بين العرب. وفي يقيني أن أمر العربية لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله : فقه أسرارها كل الفقه ، وفهم قواعدها أدق الفهم ، وحفظ أدبها أشد الحفظ ، وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم ، والعلم والخبرة في وضع المنهج ، والمنطق والذوق في تأليف الكتاب ، والكتاب الأزهري الذي تخرجنا عليه وما زلنا نرجع إليه كنز من المعارف لا يعوزه إلا سهولة مأخوذة وحسن تنسيقه وجمال عرضه ، فالفرق بينه وبين الكتاب الحديث في العرض كالفرق بين حانوت من حوانيت العطارة في الغورية ، وبيت من بيوت التجارة في قصر النيل ، قد يكون في الحانوت القديم ما ليس في المتجر الحديث من السلع التواجر والطرف النوادر ؛ ولكن اختفاءها في ركن غير ظاهر ، وعرضها في معرض غير لائق ، يضعف الإقبال عليها ويقلل الاستفادة منها ، فإذا عرضت الكنوز


الأزهرية عرضا جميلا مشوقا في الدروس والمحاضرات والمذكرات والكتب كان ذلك عسيا أن يدنى قطوفها من الطلاب على غير مؤونة ولا كد ذهن.

إن رسالة الأزهر قائمة كما قلت على ركنين من دين ولغة ، ولكن الأمر في تأديته إياها جد مختلف. الدين كامل لأنه من عمل الله ، واللغة ناقصة لأنها من عمل الإنسان ، والكامل الإلهى لا يتأثر بالمكان ولا بتغير بالزمان ولا يضيق بالحضارة ولا يبرم بالعلم ، فهو جديد أبدا ، صالح أبدا ، ثابت أبدا. أما الناقص فهو عرضة للفساد والجمود والتخلف ، وموضع للزيادة والتجديد والتطور ، لذلك كان الاجتهاد في اللغة وعلومها أمرا تحتمه الضرورة وتقتضيه الطبيعة ؛ لأن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين ، ولا أن تستقل استقلال الحي ، فهي ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، والأغراض لا تنتهي ، والمعاني لا تنفذ ، والناس لا يستطيعون أن يظلوا خرسا ، وهم يرون الأغراض تتجدد والمعاني تتولد ، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع ، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح ، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبأوا بحدوث هذه الأشياء ، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء.

نشأ من إنكار حق الوضع اللغوي على المولدين وحصره فيمن يعتد بعربيتهم من عرب الأمصار حتى آخر المائة الثانية ، أو أعراب البوادي حتى آخر المائة الرابعة ، أن طغت اللغة العامية طغيانا جارفا حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء والأدباء والشعراء والكتاب يكتبون بها للملوك ، ويؤلفون فيها للخاصة ، وسيطرت على حياة الأمة في شئونها العامة وأغراضها المختلفة ؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد ، وطبيعية تنفر من الصنعة ، فهي تقبل من كل إنسان ، وتستمد من كل لغة ، وتصوغ على كل قياس. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل ، ويستعملون الشائع ، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية


المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها ، وقد تنبه مجمع اللغة العربية لهذا الخطر فقرر فيما قرر استجابة لاقتراح عرضته ، فتح باب الوضع اللغوي للمحدثين بوسائله المعروفة من الاشتقاق والتجوز والارتجال ، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. وتحرير السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالبنائين والنجارين وغيرهم من أرباب الحرف والصناعات ، واعتماد الألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ القديمة ، وعلى هذه المبادىء وغيرها وضع معجمه الوسيط الذي سيظهر قريبا.

أما الاجتهاد في الدين فقد فتحت أبوابه أول الأمر لمن تجهز بجهازه واعتد له بعدته ، حتى إذا زخر الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه مدى عصوره بالآراء المحكمة والوجوه المحيطة ، وجد فيه المسلمون جوابا شافيا عن كل سؤال يخطر على الذهن ، وحلا جامعا لكل إشكال يعرض في المجتمع ، وحكما عادلا في كل قضية ترفع إلى القضاء ، فاستغنوا بغزارته وإحاطته عن الاجتهاد فيه ، وانصرفوا إلى اجتهاد من نوع آخر هو الاجتهاد في اختيار الرأي المناسب ، وترجيح الحكم الموفق. جاء في كتاب الولاة والقضاة للكندي أن قاضيا شافعي المذهب كان بمصر في عصر الإمام الطحاوي وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه يحقق العدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب من المذاهب ، وكان مرضي الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه ولا في خلقه ولا في حكمه ، سأل هذا القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقائع فقال الطحاوي : أتسألني عن رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي : ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي ظننتك تحسبني مقلدا فقال القاضي : لا يقلد إلا عصبي أو غبي. هذه الثروة الفقهية الضخمة لم يحجبها عن الناس إلا أسلوب التأليف القديم ، واليوم وقد تطورت المدينة وتغيرت العقلية ينبغي أن يطابق التعليم والكتاب مقتضيات العصر. هذه هي المحنة الثالثة التي تعانيها اللغة العربية اليوم.


وهي لا تختلف عن سابقتيها إلا في أن موقف الأزهر منها يجب أن يكون إيجابيا : يقابل العمل بالعمل ، ويرد الكيد بالكيد ، ويقاوم الدعاية بالدعاية ، ويقف بالمرصاد لكل من يسول له جهله أو هواه أن يبعث بلغة الإسلام ، ويوهن رابطة العرب. والأزهريون الذي حملوا أمانة الله ، وبلغوا رسالة نبيه أكثر من عشرة قرون يستطيعون أن يدرءوا خطر هذه الإباحية عن اللغة والدين متى صدقوا الجهاد وذكروا أنهم جند الله يرمي بهم العدو في كل وقت وفي كل أرض وعلى أية صورة ، فيعيشون للموت كالجنود ، ويعملون للحياة كالقادة ، ويعزفون عن الدنيا كالرسل ، والله سبحانه وتعالى قد ضمن للعربية بقاء البيان ببقاء القرآن وعلى أيدي أبناء الأزهر ـ المؤمنين برسالته ـ صدق الله وعده ، إن الله لهو خير الصادقين؟



الأزهر من بعيد .. ومن قريب

كتب محمد زكي عبد القادر في يومياته في الأخبار عام ١٩٦١ يقول :

الأزهر عزيز عليّ جدا ، لا لأنه منارة الإسلام والمسلمين عبر قرون طويلة فحسب ، ولكن لأنه اقترن بصباي ، فقد كان عمي طالبا في الأزهر وكنت تلميذا بالمدارس الثانوية أقيم معه ويرعى شئوني وأنا وهو مغتربان في القاهرة لطلب العلم .. وكنت لهذا ألتمسه في فناء الأزهر ، وأراه يشهد الدروس ، فأجلس معه أستمع فلا أفهم ولكنني أعجب لطول الدرس وطول الأناة ويشوقني أن أرى الشيخ يلقي ما يلقي ويسأل من وقت إلى آخر : ظاهر .. ظاهر .. فيسمع همهمة تقول : ظاهر ياسي الشيخ ..

وكنت أخشى الأزهر في عبض الامسيات حين أكره وحدتي في مسكني ، فيقول عمي : لا عليك .. هات كتبك واجلس معنا ذاكر دروسك .. وكنت في سن صغيرة أخشى فيها الوحدة ، فأوثر أن أحمل كتبي ، وآخذ مقعدي كما كان يفعل طلاب الأزهر حينئذ ، جالسين على الحصر الممدودة ، ومن فوقهم قناديل بيضاء جميلة ، ترسل نورا كليلا ، ولكنه كاف لكي أرى وأقرأ من غير صوت ولكي يروا ويقرءوا بصوت ،


يجتمع مع الأصوات الأخرى ، فإذا الأزهر كله خلية نحل لا تكف عن الهمهمة ، بل ما يشبه الضجيج .. وكان كلاهما يحول بيني وبين أن يأخذني النوم الذي كان يطاردني إذا آثرت أن أبقى في البيت.

وفرغت من دراستي الثانوية ، والتحقت بكلية الحقوق ، وعمي يرعاني ، وصلتي بالأزهر لا تنقطع ، أغشاه لكي أقرأ وأدرس ، وأغشاه لكي أجلس إلى زملاء عمي من طلاب الأزهر ، وأنصت أحيانا إلى ما يقرأون فلا أفهم شيئا أيضا على الرغم من أنني حينئذ كنت قد بلغت من الفهم والدرس ما أفضي بي إلى الدراسة الجامعية ..

* * *

ومرت الأيام وتخرجت ، وافترقت الحظوظ بيني وبين من عرفت من طلاب الأزهر ، ولكن صورة الأزهر ظلت خيالا يلازمني طوال حياتي ، وقرأت ما قرأت ووعيت ما وعيت وأدركت من تاريخ الأزهر الكثير ، واقترنت القراءة عنه بالصورة التي كابدتها وعرفتها وثبتت في خيالي

وكنت أزوره بين الوقت والآخر ، صحيح أن الفترات بين زياراتي كانت متباعدة ، ولكنني كنت أزوره لكي تظل صورة هذا المسجد العتيق العريق الأمين حية في خاطري وقد اقترنت في حياتي بمطلع صباي ، وقرأت تاريخه منعما متأملا ، وقارنت بين مراحل تاريخه والمرحلة التي كان يعيش فيها ، فوجدت الفرق الكبير بين الصورتين .. كان الأزهر فيما مضى ومنذ إنشائه إلى تاريخه الوسيط منارة العلوم الدينية والدنيوية ، كان ينبوع المعرفة في الطب والفلك والهندسة والكيمياء والجغرافيا إلى جانب المعرفة في علوم الدين. كان يقدم للوطن والإسلام خلاصة الرجال الذين رفعوا ذكره ورفعوا عنه العدوان .. كان المنارة التي تشع المعرفة بكل أنواعها في العالم الإسلامي والعالم العربي. ثم شاءت ظروف الحكم والسياسة وقهر الشعب أن ترد الأزهر بعض الشيء عن المشاركة الفعلية في حياة البلاد ، فقصرته


على دراسة الدين وفصلته أو كادت عن شئون الدنيا المتطورة من حوله. وليس هذا في شيء من الدين ولا هو في شيء من الإسلام ، فالدين لا يفرق بين شئون الدين والدنيا ، والإسلام منذ وجد منهج للحياة ، ومشاركة خالصة في سعادة الإنسان في الدنيا بحسبانه عضوا في جماعة متطورة لا بد أن يأخذ حظه من العلم والحضارة والتقدم المادي



الأزهر الخالد

تمهيد :

الأزهر هو أعرق الجامعات العلمية في العالم ، فهو أطولها عمرا وأجلها أثرا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي ، بل في تاريخ العلم كله.

والأزهر طوال عصور التاريخ حارس التراث العربي وحامل مشعل الثقافة الدينية ، والملاذ الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل مكان ، والضوء الذي ينير لهم الطريق ويبصرهم سواء السبيل.

وللأزهر مكانة كبرى في مصر والعالم الإسلامي جميعه ، وآراؤه فتاوي علمائه تقابل من كل مسلم في العالم الاسلامي بمزيد من التقدير والإجلال والطاعة.

ولم تقم في مصر جامعة علمية بالمعنى الصحيح قبل الأزهر ، الذي له تاريخ طويل وذكريات مجيدة وآثار علمية ودينية عديدة.

من تاريخ الأزهر :

أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلى قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بعد فتحه مصر بنحو عام ، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من


جمادي الأولى سنة ٣٥٩ ه‍ ـ ٩٧٠ م ، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان في العام نفسه. وقد كمل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة ٣٦١ ه‍ ـ ٢٢ يونيو سنة ٩٧٢ م ، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ـ ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر.

وقد أطلق على هذا المسجد اسم الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون ، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة تسمى بالقصور الزهراء ، أو لأنه كان يظن أن هذا الجامع أكثر الجوامع فخامة ورواء ، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا .. وقد احتفل بافتتاحه في أول جمعة من رمضان عام ٣٦١ ه‍.

وأصبح هذا الجامع مسجد الدولة الرسمي ، وقد حرص وزير المعز يعقوب بن كلس على أن يقيم حفلة علمية في الأزهر ، حيث كان يقرأ على الناس في مجلس خاص يوم الجمعة مصنفاته في الفقه الفاطمي ، كما كان يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة لمتكلمين وأهل الجدل ، وحرص الخليفة كذلك على تكليف كبار العلماء بإقامة حلقات علمية في أروقة الأزهر لتدريس الفقه الفاطمي ، وكان يمنحهم مرتبات شهرية. ولهذا صار الأزهر جامعة علمية ، وظهر ذلك جليا حينما بدأت حلقاته تتحول إلى دراسة جامعية علمية مستقرة. وذلك عام ٣٧٨ ه‍ ـ ٩٨٨ م حينما استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر ، وكان عددهم ٣٧ فقيها.

وفي عام ٣٨٠ ه‍ رتب المتصدون لقراءة العلم بالأزهر ... وبذلك صار الأزهر معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة. ومن هذا التاريخ يبدأ الأزهر حياته العلمية الجامعية الصحيحة.

وقد استمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة في عهد


الفاطميين الذين وقفوا عليه الوقوف وأحاطوه بالرعاية ، وكان في مقدمة الأساتذة المدرسين في الأزهر بنو النعمان قضاة مصر.

ولما قامت الدولة الأيوبية في مصر عام ٥٦٧ ه‍. على يدي مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي ، محا من مصر المذهب الفاطمي وأحل محله المذهب السني ، وغالى الأيوبيون في القضاء على كل أثر للشيعة وأفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر .. ، فلبثت معطلة فيه نحو مائة عام ، فقضى الأزهر هذه المدة في ركود طويل ، وقد ظلت حلقات الدراسة فيه على الرغم من ذلك مستمرة دون أن تحظى هذه الحلقات في ذلك العصر بكثير من رعاية الدولة.

وفي عام ٦٦٥ ه‍ أعيد افتتاح الأزهر لصلاة الجمعة في عهد بيبرس الذي شجع العلم فيه هو ولأمراء والقواد ، ووقفوا عليه الأوقاف الطائلة ... واستمر الأزهر يؤدي واجبه الديني والعلمي في عهد المماليك وعهد الدولة العثمانية وعهد النهضة المصرية الحديثة.

وأول شيخ تولى مشيخة الأزهر كما يحدثنا التاريخ هو الشيخ الخرشي المالكي المتوفى عام ١١٠١ ه‍ وتولى بعده الكثير من مشايخ الأزهر حتى بلغوا حتى اليوم ٤١ شيخا آخرهم شيخ الأزهر الحالي الشيخ عبد الرحمن تاج.

وفي عهد محمد علي وأسرته انتقصت أوقاف الأزهر وحقوقه ، ولكنه ظل يؤدي واجبه العلمي والديني بنشاط كبير. ومن الأزهر كان طلبة البعوث الذين بعث بهم محمد علي إلى أوروبا وعادوا إلى مصر ينشرون العلم والمعرفة والنهضة في كل مكان ، وكانت جل المدارس التي أنشأها محمد علي تأخذ طلبتها من طلبة الأزهر الشريف ، ولما أنشئت دار العلوم عام ١٨٧١ م ومدرسة القضاء الشرعي عام ١٩٠٧ م استمدتا طلبتهما من الأزهر. وكان مدرسو الدين واللغة العربية في جميع مدارس الدولة


ومعاهدها من خريجي الأزهر الشريف. وكذلك كان طلبة مدرسة المعلمين الأولية وأساتذتها.

وقد قام لأزهر بنشاط كبير ، وأسهم بنصيب ضخم من الجهاد الوطني في جميع المواقف القومية الوطنية فهو الذي قاوم الاحتلال الفرنسي لمصر وهو الذي أذكى لهيب الثورة العرابية ، وهو الذي غذي ثورة عام ١٩١٩ ، وله في كل موقف وطني جهاد مذكور مشكور.

ومنذ آخر القرن التاسع عشر إلى عصرنا وضعت قوانين منظمة لشئون الأزهر. ومن أشهر هذه القوانين قانون عام ١٩٣٠ م بإصلاح الأزهر الشريف ، وآخر هذه القوانين قانون عام ١٩٣٦ م الذي يسير الأزهر عليه اليوم في نظامه الجامعي والعلمي ، وفي تقسيمه إلى معاهد وكليات (١).

فضل الأزهر على العلوم والآداب :

الأزهر بيت العلم العتيق ومثابة الثقافة الإسلامية. حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قرونا متصلة وحفظ التراث الإسلامي في الدين واللغة والعلوم ونشره على الآفاق طيلة ألف سنة أو يزيد. وقد تخرج فيه أفواج من العلماء خلال عصور التاريخ ممن انتشروا في بقاع الأرض وحملوا معهم مشاعل المعرفة والثقافة التي تزودوا بها في الأزهر فأضاءوا الأرض علما ونورا ورشادا.

ولا يزال الأزهر حتى اليوم كعبة العلوم والآداب ومعقد آمال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

والأزهر هو الذي حفظ العلوم الإسلامية واللغة العربية من الضياع والاندثار وهو الذي حفظ للأدب العربي ، في شتى بلاد العروبة ، رونقه

__________________

(١) راجع الأزهر في ألف عام ـ ٣ أجزاء ـ تأليف محمد خفاجي.


وبهاءه. وقد تخرج فيه العديد من العلماء والأدباء والكتاب والخطباء والشعراء في كل عصر وكل جيل.

أثر الأزهر في التوجيه الديني :

والأزهر منذ أنشىء حتى اليوم هو الذي يتولى قيادة الحركة الدينية في العالم الإسلامي ، وآراء شيوخه في الحجة القوية التي يقابلها المسلمون في شتى بقاع الأرض بالطاعة والامتثال والقبول. وقد خرج الأزهر الكثير من رجال الدين منذ أنشىء إلى اليوم ، وخريجوه هم الذين تولوا قيادة الحركة الدينية في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي.

وفي الأزهر هيئة كبار العلماء التي أنشئت بمقتضى قانون عام ١٩١١ م. وفيه كذلك لجنة للفتوى عام ١٩٣٧ م. وهاتان الهيئتان لهما أثر كبير في التوجيه الديني في العالم الاسلامي.

ومن أعلام الأزهر وأئمته في التوجيه الديني الإمام محمد عبده (١٢٦٦ ه‍ ـ ١٩٠٥ م) وله فضل كبير في الإصلاح الديني وفي إصلاح الأزهر.

ومن أعلامه كذلك محمد مصطفى المراغي ، ومصطفى عبد الرازق وسواهما ، ممن قادوا الحركة الدينية ووجهوها توجيها قويا في العالم الاسلامي كافة.

والأزهر بحق قائد الحركة الدينية في العالم الإسلامي قاطبة.

مكانة الأزهر في العالم الإسلامي :

ولقد ورث الأزهر الحديث ميراثا روحيا وثقافيا ضخما جليلا عن الأزهر القديم ، ورث عنه الرسالة الدينية التي قام منذ أن أنشىء لحمل أمانتها ، والتي أخذها بكلتا يديه ليؤديها إلى العالم شعلة مضيئة هادية ، ومثلا إنسانيا


رفيعا ، ومذهبا فكريا قادرا على قيادة الحياة والبشرية جميعا إلى السلام والإخاء والأمن والرفاهية.

وورث عنه الرسالة الثقافية التي جاهد من أجلها أجيالا طوالا ، والتي قامت عليها أروقته ومحاريبه وقبابه ومآذنه الشم ، ودأبت على الكفاح في سبيلها حلقاته الطاهرة ، التي تجمع فيها شباب المسلمين ـ من شتى الأقطار والشعوب ـ على كلمة الحق والتقوى والمعرفة ، استجابة لأمر الله ، وتحقيقا لفكرة الإسلام ، وسعيا وراء الحقيقة التي هي أكبر محرر للأمم ، والجماعات والأفراد. من أغلال الجهل والجمود والتأخر.

وعاشت حلقات الأزهر الجليلة طويلا خلال هذه الأجيال ، وهي نحمل عن العالم الإسلامي رسالة الإسلام الروحية والدينية والثقافية ، وتؤديها ناصعة بيضاء كخيوط الفجر ، مشرقة هادية كضوء الشمس ، ومن هذه الحلقات تخرج زعماء العالم الاسلامي في القديم ، وكانت عن جدارة بمثابة مصنع يصنع الرجال والأبطال ، ممن قادوا الشعوب الإسلامية إلى النهضة ، والحضارة والعزة ، مما جعل للأزهر مكانة كبرى في العالم الإسلامي.

مواقف خالدة للأزهر :

ولا ننس أن الأزهر قد قاد في القديم ثورتين كبيرتين تعدان من أسبق الثورات الدستورية العالمية ، قاد إحداهما عام ١٢٠٠ ه‍ ـ يناير ١٧٨٦ م الشيخ الدردير ، وقاد الأخرى عام ١٢٠٩ ه‍ ـ ١٧٩٥ م شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عبد الله الشرقاوي ، وكسب الشعب المصري من الثورة الأولى مبدأ دستوريا جليلا هو وجوب احترام الحاكم لإرادة المحكومين ، وكسب من الثانية مبدأ آخر هو أن الأمة مصدر السلطان ، وكانت بمثابة إعلان لحقوق الإنسان ، ووثيقة فريدة في سبيل التحرير سبق بها شعب مصر غيره


من الشعوب ، كما اعترف بذلك المؤرخون من العرب والغرب.

وقد حمل علماء الأزهر عبء الجهاد لتحرير مصر من الاحتلال الفرنسي منذ دخل جيش نابليون أرض الوطن فاتحا. ولا ننس كذلك أن الأزهر قام بثورة ثالثة في صفر عام ١٢٢٠ ه‍ ـ ١٨٠٥ م لانهاء النفوذ التركي من مصر ، ولكن دجالا سياسيا بارعا يتدفق في أعصابه الدم التركي استطاع بدهائه أن يحول المعركة إلى مغانم شخصية له ولأسرته التي حكمت مصر نحو قرن ونصف من الزمان.

وكان قائد الثورة المصرية الرابعة كذلك أزهريا صميما ، هو الزعيم الوطني القائد «أحمد عرابي» الذي قاد الثورة العرابية للقضاء على نفوذ المستعمرين من الأتراك والمستغلين من الإنجليز. كما كان زعيم الثورة الشعبية الخامسة أزهريا صميما هو المرحوم سعد زغلول ، الذي كان يعمل للقضاء على الاستعمار الإنجليزي وتحرير شعب مصر من أغلاله. ولا ننس كذلك أن قادة ثورة مصر الأحرار تتلمذوا على شيخ أزهري ورع زاهد متصوف كان رائدا روحيا لهم هو الشيخ محمد الأودن من علماء الأزهر المعاصرين.

الأزهر والتجديد :

ولقد تطورت البيئة الثقافية في الأزهر في العصر الحديث : بتأثير الحضارة الفكرية الغربية ، وبفضل لفيف من علمائه الأعلام الخالدين.

ومن الحق أن الأزهر منذ بدأ القرن التاسع عشر كان يتطلع إلى ثقافة الغرب وحضارته في شيء من الفتور والكراهية ، إيمانا بقومية المسلمين السياسية والفكرية والثقافية ، ولكنه لم يجحد فكرة السعي إلى النهضة ، أو الإيمان بالتطور : فسافر بعض أبنائه في بعثات حكومية إلى باريس ولندن وسواهما من عواصم الغرب ، وكان من أشهرهم رفاعة الطهطاوي.


وتطلع بعض علمائه في أواخر القرن التاسع عشر إلى معرفة بعض اللغات الغربية لدراسة أصول حضارة الغرب الحديثة الفكرية والثقافية ، وللرد على ما يثيره بعض الغربيين حول الإسلام من شبهات ، وكان في مقدمة هؤلاء الإمام محمد عبده ، الذي كان أكبر رائد أزهري للفكر المصري في العصر الحديث.

ولقد نهض شيوخ الأزهر منذ أواخر القرن التاسع عشر بعبء إصلاح البيئة الثقافية داخل الأزهر ، وبعث روح التجديد والحياة في حلقات الأزهر العلمية ، لتكون على صلة بينابيع الفكر الحديثة المتدفقة.

وفي الحق أن الأزهر المحافظ المتمسك بتقاليده وشعائره ونظمه وحياته الثقافية كان أرجح كفة من عوامل التجديد ، وتيارات الجديد.

ومنذ أكثر من ربع قرن من الزمان ، أو بالتحديد في مايو سنة ١٩٢٨ تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي وهو تلميذ من تلامذة الإمام محمد عبده ، ولكنه ما لبث أن استقال منها في أكتوبر سنة ١٩٢٩ ، وخلفه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ، ثم عاد الشيخ المراغي إلى المشيخة في ٢٦ أبريل سنة ١٩٣٥ ، وظل فيها إلى أن توفي في ٢٢ أغسطس ١٩٤٥.

وعلى يد الشيخ الظواهري تحول الأزهر إلى جامعة علمية لها كليات ثلاث : هي الشريعة واللغة وأصول الدين ، وفيها أقسام للدراسات العليا ذات نظام علمي جامعي ، ولكن أثر ذلك لم يظهر إلا في عهد الشيخ المراغي وعلى يديه وبتشجيعه ورعايته ، فكان يشرف هو ومعاونوه من شيوخ الكليات الأزهرية على نظم هذه الدراسات ، ويشترك في امتحاناتها ومناقشات رسائلها ، ويرعى خريجي هذه الأقسام ويضعهم في منازلهم العلمية في كليات الأزهر. وبذلك صار الأزهر يخضع في حياته الثقافية الجديدة للنظم الجامعية الصحيحة.


هذا عدا ما صنع الشيخ من تقدير للكفايات العلمية ، ورعاية للبحث الثقافي الحر في داخل الأزهر ، فصنع بذلك نهضة ثقافية جديرة بالتأمل والتقدير.

الأزهر الخالد

الأزهر جامعة الإسلام العريقة ، ومنارته الهادية ، وسيظل النور متألقا منه إلى قيام الساعة. ومن عجب أن تقوم في مصر دعوة إلحادية ترمي إلى إلغاء التعليم الديني بحجة توحيد التعليم ، أوقل إلى إلغاء المعاهد الإبتدائية والثانوية الأزهرية ، والتي تمثل ثلثي بناء الأزهر العالمي ، ونحو ٨٠ في المائة من طلبة الأزهر الشريف.

ونحن نسائل هؤلاء الداعين إلى توحيد التعليم : هل ألغت فرنسا أو انجلترا أو أمريكا التعليم الديني في بلادها؟ كلا ... وهل ألغت هذه الشعوب التعليم الديني في المستعمرات التي تحكمها؟ كلا ... وهل ألغت فرنسا المعاهد الابتدائية والثانوية لجامعة الزيتونة الدينية في تونس بحجة توحيد التعليم؟ كلا ...

إن هذا الموقف الذي يقفه طه حسين من الأزهر يدلنا على سخف شديد وتفاهة واضحة. فطه حسين هو سفير فرنسا الثقافي في الشرق الأوسط ، وهو الذي تعامل عام ١٩٤٧ مع وكالة يهودية وأصدر لها مجلة الكاتب المصري ، وحشد لها الأقلام ليكونوا جميعا عمالا وأجراء لدى الوكالة اليهودية في مصر.

وفي الحق أن نقول : إن الأزهر ليس ملكا لمصر وحدها ، بل كذلك ملك للعالم الإسلامي كله ، وقد شارك العالم الاسلامي الأزهر في الدفاع عن الأزهر ومقوماته ، وأيدت الجماعات الإسلامية في كل مكان الأزهر الشريف ، وإن طه حسين الذي يثرثر في الصحف ويقول فيما يقول : إن


الأزهر لا يتعلم كما يتعلم الناس ، يفوته أو ينسى أنه في عام ١٩٥١ كان وهو وزير للمعارف يصرح في وفود الأزهر بأن الأزهر هو المكان الأول الذي تحيا فيه علوم الدين والعربية ، وينسى كذلك ما كتبه في مناسبات عديدة في تمجيد الأزهر وثقافته.

والدكتور لطفي السيد لا يمكن أن يكون متعصبا للأزهر ، وله كلمة في التنويه بالأزهر وثقافة بمناسبة ترؤسه لجنة مناقشة رسائل العالمية من درجة أستاذ عام ١٩٤٤ ، وقد قال في كلمته هذه : أحمد الله أن أصبح الأزهر اليوم في مستوى علمي رفيع ، وصرنا نتحدث فيه في الفلسفة القديمة ، ويتحدث أصحاب الرسائل العلمية من خريجيه عن (الإله عند أرسطو) وإنها لنهضة تبشر بالخير كل الخير بإذن الله ، وكلمته مسجلة في الجزء الثاني من كتاب (المنتخبات) لعميد الجيل الدكتور لطفي السيد. وشهادة الدكتور منصور فهمي وأمين الخولى وسواهم للأزهر ، لا يمكن أن تحمل على أي لون من العصبية ، وقد كان هؤلاء وسواهم ممن أسهموا في أعمال مناقشة رسائل خريجي أقسام العالمية من درجة أستاذ في الأزهر الشريف.

على أن مناهج الأزهر اليوم متخمة بالعلوم الحديثة في شتى مراحل التعليم فيه ، وهذه العلوم من الكثرة إلى حد أن صرنا نشكو من أنها أصبحت تستأثر بوقت الطالب الأزهري ، وتضعف مستواه في العلوم الدينية والعربية.

وإنا لنرجو أن تزداد الثقة بالأزهر يوما بعد يوم ، وما ذلك على الله بعزيز ، وإنه لم يجن على الأزهر إلا تدخل السياسة قديما في شئونه ، ونرجو للأزهر اليوم كل عزة وكرامة ، ونهضة وتقدم ، في شتى جوانب نشاطه الروحي والفكري والثقافي.


الدكتور طه حسين والازهر

يرى د. طه أن إغلاق ثلثي الأزهر إصلاح له .. وأن إبعاد ٩٠ في المائة من طلاب الأزهر عن معهدهم الذي ينهلون منه الثقافة الإسلامية الصحيحة يجب أن يكون هو الخطوة الثانية التي تخطوها مصر في عهد ثوارها. والدكتور طه لم يدع في يوم من الأيام إلى إلغاء جامعة من جامعاتنا اكتفاء بأخواتها ، وهو الذي حارب إدماج أقسام اللغة العربية في آداب الجامعات الثلاث في قسم واحد. وفي عهده في وزارة المعارف كان يشجع إنشاء المدارس الأجنبية والخاصة والحرة ، ولم يزعم أن من مبادىء الإصلاح إدماج هذه المدارس أو الجامعات بعضها في بعض ، فكيف به يقف من الأزهر هذا الموقف العابث الذي لا يتصور طه نفسه خطره على نفسه وعلى مصر وعلى العالم العربي والإسلامي.

ولو كان الدكتور طه يحرص على سمعة الفكر المصري المعاصر حقا لما لجأ إلى هذا المنطق السوفسطائي العجيب الذي يجعل به الحق باطلا والباطل حقا ، ويظن أن الناس قد صدقوا هذا المنطق المقلوب. وأنا أزعم أن الدكتور طه سوفسطائيا وإنما هو يحاول أن يلجأ إلى منطق السوفسطائيين ليقنع الناس برأيه لغرض في نفسه. وأشهد أن فرنسا الاستعمارية لم تحاول في يوم من الأيام أن تغلق الأقسام الابتدائية والثانوية من جامعة الزيتونة الدينية في تونس ، بدعوى توحيد التعليم ، أو باسم إصلاح الزيتونة ، والتعليم الابتدائي والثانوي في الأزهر ـ وهو الذي تجمع مناهجه بين ثقافات وزارة المعارف وعلوم الدين واللغة على أوسع نطاق ـ ليس هو الذي تعمل الدولة على تصفيته لأن الشعب نفسه ، والدولة نفسها ، لا ترى فيه إلا الخير كل الخير لمصر وللعالم الإسلامي كافة. ولو قدر الغي التعليم الابتدائي والثانوي من الأزهر لما استطاع مثل الدكتور طه أن يتعلم وأن يسمع به الناس.


والشعوب الإسلامية كافة ترسل أبناءها إلى الأقسام الابتدائية والثانوية في الأزهر ، فماذا يريد الدكتور طه لأبناء هذه الشعوب الإسلامية بعد إغلاق المعاهد الأزهرية الابتدائية والثانوية ، أظنه سيحاول أن يشرع لهذه الشعوب ، كما يحاول اليوم أن يشرع لمصر ولشعب مصر ولثورة مصر.

وفي البلاد الإسلامية معاهد ابتدائية وثانوية على غرار الأزهر ، وبعضها تتبع الأزهر ، فما ذا تصنع يا دكتور طه بهذه المعاهد بعد إغلاق مثيلاتها من الأزهر في مصر؟.

وأنت تعلم أن مثل هذه المعاهد هي الوسيلة الوحيدة لتعليم الثقافة الإسلامية والعربية في بعض الشعوب المسلمة التي يحكمها الاستعمار. ويعمل جاهدا على أن يحطم فيها كل مقوماتها لتظل فريسة في أنيابه إلى الآن.

وما رأيك يا دكتور طه وأنت تدعو إلى تعليم الشعب في أن هذه الأقسام الابتدائية والثانوية هي التي كان يلجأ إليها أبناء الشعب ليتعلموا ويتثقفوا ، ثم هي الوسيلة الوحيدة للتعليم لدى أغلبية الريف الذين لا يؤمنون إلا بالأزهر وثقافته.

والدكتور طه لا يجهل أن هذا التعليم الديني قد قام تحقيقا لمشيئة أهل مصر الإسلامية ، ووقف عليه المسلمون في مصر وغيرها أوقافا طائلة ، ولا يزالون يمدونه بالعون والرعاية في مصر الإسلامية وفي غيرها من الشعوب المسلمة ، وأنه هو الذي تحققت فيه مجانية التعليم وديمقراطيته وظروف تكافؤ الفرص أمام الشباب الإسلامي لا اليوم فحسب ، ولا الأمس فقط ، بل طيلة ألف عام أو يزيد.

والدكتور طه يدعو إلى توحيد التعليم تحت راية وزارة المعارف وجعل كليات الأزهر معاهد للتخصص في الثقافة الإسلامية ، وكيف يتخصص طالب في شيء لم يمهد له؟ ومن الذي يستطيع أن يفهم بعد التوجيهية


أصول الفقه وعلوم أصول الدين وفلسفة العربية في كتاب سيبوية وغيره ، وفلسفة اللغة في الخصائص والمخصص وغيرهما.

والدكتور طه يقول : إنه يحب أن يشارك الأزهريون في كل ميدان ، فيكون منهم مهندسون وأطباء وسوى ذلك ، وأنا أحب أن يشرح الدكتور للناس ذلك ، فلقد أحب ألا يكون هناك تعليم ابتدائي أو ثانوي خاضع للأزهر ، ثم فرض أن حامل التوجيهية سوف يدخل كليات الأزهر ليتخصص في الدين واللغة ، فمتى يكون مهندسا أو طبيبا؟ أيكون ذلك وهو يحمل التوجيهية فقط ، أم سوف يكون كذلك بعد تخرجه من الأزهر؟ أليس هذا هو عين سوفسطائية الدكتور طه ، التي ينعتها بلقب التجديد واسم المنطق.

والدكتور طه ، يعلم أن حامل التوجيهية لن يدخل الأزهر لأنه لا يستطيع أن يدرس بعد التوجيهية علوم الأزهر وثقافته. أرح نفسك يا دكتور من هذا الالتواء والتعقيد والتكلف البغيض ، ادع في الناس إلى إغلاق الأزهر لا لذنب جناه الأزهر ولكن لأنه لم يستطع أن يؤمن بمنطقك بأفكارك. ثم لأن له تاريخا مضيئا ، ومنزلة كريمة في العالم الإسلامي منذ عشرة قرون.

إي والله عشرة قرون كاملة ، حقق الأزهر فيها لمصر العزة والكرامة ومعاني القومية الصحيحة ورباها على الحرية ، وتعشق الثورة والإيمان بمصر ، مصر الخالدة العزيزة وظل فيها معقل القومية ، وملاذ الفكر الحر المتوثب المنطق إلى أهدافه النبيلة في الحياة.

الأزهر في القرن العشرين (١)

من روح مصر ، ومن ضميرها الوطني ، وكفاحها القومي ، انبثق فجر الحرية والثورة والكرامة والعزة والاستقلال لمصر الخالدة ، مصر التي تقهر

__________________

(١) محاضرة القيتها في هيئة التحرير عام ١٩٥٥.


الأحداث ، والتي تسلم أبناؤها الثائرون أمانة الوطن المفدي ، بعد أجيال طويلة ملؤها النضال في سبيل الشعب : حريته وعزته وكرامته.

وفي هذا المجال نذكر الأزهر ، الأزهر العريق في التاريخ ، في المجد ، في الجهاد ، والذي عرفت له مصر أروع الأعمال ، وسجلت الأيام له أمجد الصفحات في تاريخنا القومي والوطني.

وعند ما نريد الحديث عن «رسالة الأزهر في القرن العشرين» لا بد أن نشير إلى تاريخ الأزهر في الكفاح الوطني ، لأنه جزء لا يتجزأ من تاريخه الثقافي والديني ، ومن رسالته التي حملها خلال العصور والأجيال ، بل من تاريخ بلادنا التي حملت رسالة الثقافة والحضارة ، وألهمت الإنسانية أرفع معاني النهضة والتقدم والحياة.

وفي هذه السبيل نذكر الشيخ الإمام الدردير رضوان الله عليه ، وتذكر كفاحه من أجل مصر وشعبها الحر الأبي ، ففي عام ١٢٠٠ ه‍ : ١٧٨٦ م أعلن علماء الأزهر الشريف الثورة ضد الأمراء من المماليك ، لإسرافهم في فرض الضرائب ، ونهب أموال الشعب ، وكانت الثورة بقيادة الشيخ الدردير ، الذي بادر فأعلن تصريحه الخالد المأثور : سنثور مع الشعب ، وننهب بيوت المماليك كما ينهبون بيوتنا ، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم».

وجاء الأمراء يعتذرون للإمام الزعيم ، ولم يقبل الشيخ اعتذارهم حتى ألزمهم بميثاق وطني مكتوب ، أعلن فيه لأول مرة حقوق الإنسان قبل ميلاد الثورة الفرنسية بسنوات ثلاث ، ونص فيه على حرية الشعب ، وعدم جواز فرض ضرائب إلا بإرادته ، وعلى أن الأمة مصدر السلطان.

ونذكر كذلك الشيخ الإمام عبد الله الشرقاوي ، وجهاده من أجل مصر. ففي عام ١٢٠٩ ه‍ : ١٧٩٥ م أعلن علماء الأزهر الشريف الثورة


على المماليك ، وأجمعوا على مقاومة أمرائهم بالقوة إلى أن يستجيبوا لمطالب الشعب ، وكان قائد هذه الثورة هو الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر أيام ذاك ، وكان مجلس الثورة يعقد في الأزهر ، وأعضاؤه هم : الشيخ الشرقاوي : والشيخ البكري ، والشيخ الأمير ، والسيد عمر مكرم ، ولم تنته الثورة إلا بعد اعتذار أمراء المماليك ، وبعد أن أصدر أعضاء مجلس قيادة الثورة وثيقة وقعوا عليها وألزموا الأمراء بالتوقيع كذلك عليها ، وكانت إعلانا وطنيا جليلا لحقوق الشعب ، حيث تضمنت ما يلي :

١ ـ ألا تفرض ضريبة إلا إذا أقرها مندوبو الأمة.

٢ ـ أن ينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم.

٣ ـ ألا تمتد يد ذي سلطان إلى فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرع.

وعند ما دخلت الحملة الفرنسية مصر نبعت ثورة القاهرة الأولى من الأزهر الشريف عام ١٢١٣ ه‍ ـ ١٧٩٨ م ، وكان مجلس الثورة مكونا من كبار علماء الأزهر آنذاك ؛ ورئيسه هو الشيخ السادات ؛ وكان يعقد اجتماعاته في الأزهر. وقد بطش نابليون بالثوار الأحرار ، وأغلق الأزهر ، وأعدم ثلاثة عشر عالما من أبر علمائه بوطنهم ودينهم.

وكذلك قامت ثورة القاهرة الثانية عام ١٢١٤ ه‍ ـ ١٨٠٠ م من قلب الأزهر ، وكانت بزعامة الشيخ الأزهري والسيد الوطني عمر مكرم نقيب الأشراف في مصر ، وقد أخمدت هذه الثورة بقوة وعنف ، وقبض على زعمائها ، ونكل بهم تنكيلا شديدا.

وفي عام ١٢٢٠ ه‍ ـ ١٨٠٥ م أعلن علماء الأزهر الثورة على الوالي التركي خورشيد باشا» ، وأجمعوا على عزله ، وكتبوا للخليفة العثماني بذلك ؛ وقد كان عمر مكرم زعيم هذه الثورة ، ولا ننسى كلمة خالدة له


يومذاك ، عند ما ذكره أحد قواد الأتراك بالآية الكريمة : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ؛ فرد عليه عمر مكرم في عزة وإباء : أولو الأمر هم العلماء وحماة الشريعة والسلطان العادل.

ولما ولي محمد على حكم مصر استبد بالحكم ، وتنكر للشعب ، وبطش بالحريات ، وأسرف في فرض الضرائب ، وخان العهد الذي عاهد عليه العلماء بأن يحكم بالعدل والشريعة ، فاجتمع في الأزهر الشريف مجلس وطني من العلماء ، في أواسط جمادى الأولى ١٢٢٤ ه‍ ـ أول يوليو ١٨٠٩ م لمقاومة محمد علي حتى يخضع لمشيئة الشعب في عدم فرض ضرائب جديدة ، وإلغاء الضرائب المستحدثة ، ورفض السيد عمر مكرم زعيم العلماء التوقيع على ميزانية محمد علي السنوية ، وقال كلمة خالدة مأثورة : «إن هذا الحاكم ـ يريد محمد علي ـ محتال ، وإذا تمكن فسيصعب إزالته ، فلنحاربه من الآن ، وأسرع محمد علي فخلع السيد عمر مكرم من نقابة الأشراف ، ونفاه إلى دمياط ، وقد ألقى السيد عمر مكرم تصريحا عقب إبلاغه بصنيع محمد علي معه ، جاء فيه : «إني راغب عن منصب النقابة ، زاهد فيه ، فليس فيه إلا التعب. وأما النفي فهو غاية مطلوبي ، حتى لا أكون مسئولا أمام الله عن ظلم يقع على الشعب ، وإني لا أريد إلا أن أعيش في بلدة لا تدين لحكم محمد علي». وظل السيد عمر مكرم منفيا في دمياط وطنطا حتى توفاه الله عام ١٢٣٧ ه‍ ـ ١٨٢٢ م.

ولسنا ننسى الثورة العرابية وزعيمها الأزهري المصري القائد : أحمد عرابي ، وكيف وقف علماء الأزهر وراءه صفا موحدا ، يدعون الشعب إلى الجهاد تحت رايته ، وأصدروا فتوى شرعية بمروق الخديوي توفيق عن الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده. وأعلنوا في المؤتمر الوطني عزل توفيق ، ووقف أوامره وتكليف عرابي بالدفاع عن البلاد ، وأن يبلغ المجلس الوطني هذه القرارات إلى السلطان.


وقد نكل الإنجليز وتوفيق بعد ذلك بعلماء الأزهر تنكيلا شديدا. واستمر شيوخه لا يبالون بالحكام من أسرة محمد علي ، ولهم في ذلك مواقف مشهورة ، حتى قامت الثورة المصرية عام ١٩١٩. فنبعت من قلب الأزهر ، واشتعلت شرارتها في صحته ، وانبثق من منبره ومحرابه فجر الحرية لشعبنا المجيد الذي نال ما تمناه بفضل كفاحه الطويل العتيد.

ولا ننس موقف الشيوخ الثلاثة : عبد المجيد سليم ومأمون الشناوي وإبراهيم حمروش ، من سياسة القصر وعبثه بقوانين الأزهر واستقلاله وحريته ، وكيف أصدروا بيانا مطبوعا موجها إلى العالم الإسلامي ، ينددون فيه بفاروق ورئيس ديوانه ورئيس وزرائه ، ويسجلون عليهم في صراحة تدخلهم في شئون الأزهر وعبثهم بقوانينه. وللشيخ عبد المجيد سليم عند ما هدده رئيس الديوان بالخطر كلمة مأثورة خالدة : ما دمت أتردد بين بيتي والمسجد فلا خطر بإذن الله ، وله كلمة أخرى ندد فيها بفاروق وعبثه ومجونه عند ما أقام في كابري لاهيا عابثا ، قالها الشيخ وأعلنها وسارت مسير الأمثال ، وهي : «تقتير هنا وإسراف هناك».

هذه قطرة من كفاح الأزهر وأدائه لرسالته ، وللأمانة الملقاة على كواهل علمائه نحو الشعب. وهي تصور لنا في وضوح روح الأزهر وجوهره وسر خلوده وبقائه شاهق الذرى على مر الأجيال ، راسخا يرسل الضوء والنور والهدى إلى كل مكان رسوخ الجبال الراسيات. وهل هناك أروع من أن يصدر شيخ معمم فتوي ببيع أمراء المماليك الأتراك ليصرف ثمنهم في مصالح المسلمين ، لأن حكم الرق سار عليهم ، وهم أرقاء لسادتهم من أبناء مصر ، لأن السلطان اشتراهم من مال الدولة ، ولا يزال حكم الرق مستصحبا عليهم. وكان من جملة هؤلاء الأمراء نائب السلطنة ، وكلهم أصحاب حكم ، وسلطان ونفوذ وجاه ، وكان ذلك في منتصف القرن السابع الهجري ، وبعد منتصف القرن الثاني عشر الميلادي بقليل ، وكان هذا


الإمام هو الشيخ عز الدين بن عبد السلام رضوان الله عليه.

وبعد فإن رسالة الأزهر في القرن العشرين تشمل الرسالة الدينية الكبرى ، والرسالة الثقافية والأدبية ، ورسالته الوطنية والاجتماعية.

فمن صميم رسالته الدينية :

١ ـ إنشاء المراكز الإسلامية في دول أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى وأفريقيا لنشر رسالة الإسلام وتعاليمه الصحيحة.

٢ ـ وتلخيص رسالة الإسلام في مؤلفات حديثة ، ونشرها بجميع اللغات العالمية.

٣ ـ ومحاربة المادية والمذاهب الهدامة الوافدة علينا من أوروبا وأمريكا والدعوة إلى الروحية السامية المهذبة ، وإذاعتها بين جميع الطبقات.

٤ ـ والعمل على إنماء الأخوة الدينية والروحية بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ونشر رسالة التقدم الروحي والديني في البلاد الإسلامية.

٥ ـ وإذاعة مبادىء الإسلام وأصوله الرفيعة الصالحة لقيادة الإنسانية بين مختلف الجماعات والطبقات ، وإحياء الشعور الديني وتنمية روح التدين بين الأفراد والشعوب.

ومن صميم رسالة الأزهر الثقافية والأدبية :

١ ـ نشر التراث القديم في شتى العلوم الإسلامية نشرا علميا حديثا.

٢ ـ ووضع مؤلفات حديثة في جميع فروع الثقافة ، وتناول مشكلاتنا العامة والخاصة بالدراسة والبحث على ضوء الدين.

٣ ـ وإقامة معاهد دينية في جميع مدن مصر والعواصم العربية والإسلامية لتعميم الثقافة الدينية الصحيحة.


٤ ـ وترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة دقيقة إلى شتى اللغات.

٥ ـ والنظر إلى مناهج الأزهر وعلومه وكتبه الدراسية نظرة جدية جديدة تتفق وحياتنا الفكرية ومطالبنا الروحية.

٦ ـ ودعم التقاليد الجامعية الصحيحة في الأزهر مما يتفق وتقاليده القديمة الموروثة ، وتعزيز النظام العلمي الجامعي فيه ، وإقرار نظام الدراسات العليا فيه على أسس جامعية رفيعة.

٧ ـ وإنشاء أقسام جديدة في كليات الأزهر لدراسة اللغات والآداب الأوروبية الحديثة ، وأهم المذاهب الروحية والفكرية المعاصرة.

٨ ـ وتنمية التعاون الثقافي بين الأزهر ومختلف المعاهد والجامعات في الشرق والغرب.

٩ ـ وكذلك نشر الثقافة العربية والأدبية ، وإخراج أمهات كتب اللغة ومصادر الأدب إخراجا علميا منظما.

١٠ ـ وتنظيم المواسم الثقافية والأدبية لزيادة ثقافة الشباب ، والارتفاع بمستواهم الفكري.

ومن صميم رسالة الأزهر الوطنية والاجتماعية.

١ ـ العمل على بعث الروح الثوري في الشعب.

٢ ـ ومشاركة الدولة في التوجيه الاجتماعي والوطني في صفوف الأمة.

٣ ـ والمعاونة في محو الأمية ، وفي نشر الأمن ، وإذاعة الوئام بين الناس ، وفي خلق روح التضحية والقومية والإيثار والعدل وحب تحمل المسئولية في نفوس الشباب.

٤ ـ وتخفيف الآلام عن المنكوبين والمحرومين والأشقياء في


المجتمع ، إلى غير ذلك من صميم رسالة الأزهر التي هي جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام ديننا الكريم.

ومن المؤسف حقا أن تكون القوانين في الأزهر رجعية عتيقة بالية إلى الحد الذي يحول بين الكثير من الشباب والتعليم الديني ، وأن تهمل أمور الشباب فيه إهمالا خطيرا فلا يلقون رعاية ولا توجيها خارج حجرات الدراسة. ولا يتمتعون برحلات علمية منظمة ، ولا بنواد رياضية صغيرة أو كبيرة ، ولا باتحاد منظم يرعى شئونهم إلى غير ذلك من شتى ألوان التقصير الذي نشكو منه ونطالب بتلافيه.

ويحضرني هنا رأي قديم للمرحوم مصطفى صادق الرافعي ، إذ قال : إنه لا ضير على الأزهر أن تعاونه الشعوب والحكومات الإسلامية بالمال والنفقة الواسعة ؛ ليسير قدما نحو أداء رسالته كاملة غير منقوصة في خدمة الشعوب العربية والإسلامية ، وإنه لا ضير عليه كذلك من منح ألقاب علمية للمفكرين المسلمين في كل مكان ، فإن في ذلك زيادة لنفوذه الديني والروحي في شتى أنحاء العالم الإسلامي.

وبعد فلقد اجتمعت كلمة مصر والأزهريين على النهوض بهذا المعهد العتيق ، ورفعه إلى الأمام بيد قوية وعقل فتي ، وروح وثاب ، ونحن لا ننسى موقف الثورة منا ؛ ورعايتها للأزهر وسط المحن والشدائد والدعوات الإلحادية السافرة ، فلقادة الثورة وأبطالها الشكر والتقدير على تصريحاتهم القوية النبيلة التي أعزوا بها من شأن الأزهر ، ودافعوا فيها عن حضارة الإسلام ومعهده العتيق.

ومنذ اليوم سيساند الأزهر الثورة وتساند الثورة الأزهر لخلق مصر الناهضة الحرة الأبية ، ولإعزاز الدين والإسلام والوطن.


الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي

فقدت مصر والعالم الإسلامي في مارس ١٩٦٩ عالما من أجل علماء الأزهر .. هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي عضو جماعة كبار العلماء ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر ، انتقل للرفيق الأعلى عن ٧٣ عاما .. قضاها في سبيل نشر لواء العلم والدين .. كان آخر من تولى منصب شيخ مذهب الحنابلة بالأزهر .. وآخر بحوثه التي أعدها بحثا من المقدس وبحثا عن الجهاد في سبيل الله .. وآخر كتاب ـ ما زال تحت الطبع ـ هو كتاب الوحي ويقع في ٣٠٠ صفحة وسيصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وكان قد أتمه قبل وفاته بساعات.

تخرج الشيخ السبكي في الأزهر الشريف عام ١٩٢٥ وعين فور تخرجه مدرسا بمعهد الزقازيق الديني ، ثم نقل أستاذا بكلية الشريعة عام ١٩٣٥.

وفي نفس العام عين عضوا بلجنة الفتوى حين كان الإمام الراحل الشيخ المراغي شيخا للأزهر وتولى رئاسة اللجنة منذ خمس سنوات .. واختير مفتشا عاما للعلوم الدينية والعربية بالأزهر سنة ١٩٤٧ ، وفي عام ١٩٥١ عاد إلى منصبه أستاذا بكلية الشريعة وظل بها حتى أحيل للمعاش عام ١٩٥٩ ، وقضى ٤٤ عاما في خدمة العلم والدين ، وجند نفسه لتفسير الدين كما أنزله الله.


اتسع نشاط لجنة الفتوى في عهده وأصبحت تتلقى الفتاوى وترد عليهم .. وكان للشيخ السبكي مكانة في مقدمة العلماء الدارسين في علوم الدين واللغة .. وعين شيخا لمذهب الحنابلة بالأزهر وهو آخر من تولى هذا المنصب وفي عام ١٩٥٤ عين مديرا لمجلة الأزهر وعضوا في جماعة نشر الثقافة بالأزهر.

وفي السنوات الأخيرة عين رئيسا للجنة إحياء التراث الإسلامي والعربي وعضوا بلجنتي الخبراء وموسوعة عبد الناصر للفقه الإسلامي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

وقبيل وفاته بأيام راجع فيلما تليفزيونيا عن الإسلام سجله تليفزيون النمسا وأعد مادته العلمية فضيلة الشيخ عبد الحكيم سرور مدير الشئون العامة بالأزهر. وشاهد الشيخ السبكي ـ رحمه الله ـ الفيلم في عرض خاص وأشاد بجودته ، وسيترجم الفيلم إلى مختلف اللغات ، ويعرض في أنحاء العالم.

ترك سجلا حافلا من التراث الإسلامي .. في مقدمته كتب نغمات القرآن ، ورياض القرآن ، وفي ظلال الكعبة والهجرة النبوية ، كما ترك عددا كبيرا من المقالات في منبر الإسلام ولواء الإسلام والوعي الإسلامي ومجلة الأزهر والشبان المسلمين ، والعديد من الأحاديث المسجلة بالتليفزيون والإذاعة .. في برامج نور على نور ، ورحاب الإيمان ، ورأي الدين.

وأبناؤه هم المهندس حباب المعيد بهندسة جامعة الأزهر والدكتور عادل بالقصر العيني وهاني ووفاء بطب قصر العيني جامعة القاهرة.

لقد عاش الشيخ السبكي عالما ومعلما وسيظل مثلا أعلى يذكره بنوه وتلاميذه وعارفو فضله ـ بالتقدير والوفاء ـ في أرجاء العالم الإسلامي ..


ما ذا حدث؟

في ١٤ اغسطس عام ١٨٥٩ .. ما ذا حدث؟ :

استنكر رجال الأزهر الأمر الصادر بالسماح بإقامة «الحانات» بالقاهرة وكتبوا عريضة ضمنوها استنكارهم ورفعوها إلى جناب الباب العالي .. وجاء بالعريضة أن عدد الحانات بالقاهرة بلغ ١٢ حانة مما ينذر بالخطر الوبيل على سمعة الدين.



نشاط أزهري

عن نشاط الدعاة الأزهريين نشرت مجلة ليبيا الحديثة في عددها الصادر في ١ / ٤ / ١٩٦٩ حوارا بينها وبين رئيس المركز الإسلامي في بريطانيا الشيخ محمد إبراهيم الجيوشي ـ الدكتور فيما بعد ـ جاء فيه :

بدأت معه الحديث عن موضوع رسالة الدكتوراه التي يعد لها في جامعة لندن .. موضوع شيق وجديد لم يطرقه أحد من قبل ، هو البحث عن آثار مفكر إسلامي متصوف كان له أثر بعيد في الفكر الإسلامي وخاصة في التصوف .. وله بذلك منهج انصرف به عن كل شيوخ التصوف .. فمن المعروف أن شيوخ الصوفية يعتمدون في نقل أفكارهم وآرائهم على تلاميذهم ومريديهم ثم ينقلها هؤلاء إلى أتباعهم وهكذا .. إلا أن الشيخ الحكيم الترمذي ـ موضوع البحث ـ لم يسلك هذا المسلك بل وضع أفكاره وآراءه في كتب ورسائل بلغت أكثر من سنتين كتابا لا يزال معظمها مخطوطا ولم يطبع منها إلا حوالي أربعة كتب .. وشعرت بأن الشيخ محمد إبراهيم الجيوشي المدير المساعد للمركز الإسلامي بلندن سيغوص في أعماق هذه الكتب وتلك الدراسات الصوفية .. وأنا لا أزال أشعر بغمرة السعادة بعد أن أديت صلاة العيد في المركز الإسلامي بلندن الذي يتجمع فيه أكثر من عشرة آلاف مسلم ومسلمة في مثل هذه المناسبات فيمثلون أروع صورة لتجمع


المسلمين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم .. تراهم من الهند وباكستان وأفغانستان والملايو إلى آخر قطر عربي وكأنهم في حج صغير ..

ـ قلت لفضيلة الشيخ الجيوشي ما هي قصة المركز الإسلامي بلندن ..

فكرت انجلترا خلال الحرب العالمية الثانية أن تقوم بعمل تربط به أواصر الصلة بينها وبين العالم الإسلامي فقامت بتقديم هذا المركز إلى الحكومة المصرية في ذلك الوقت ليبني عليه مسجد للمسلمين .. وفي نظير ذلك قدمت الحكومة المصرية للجالية البريطانية في القاهرة قطعة أرض لتقام عليها كنيسة لهم .. بنيت الكنيسة عام ١٩٤٥ ولم يبن المسجد حتى الآن .. اعترضت بلدية لندن على المئذنة في بادىء الأمر ثم على شكل البناء بحجة أنه لا يتناسب مع الأبنية المجاورة بعد أن حذفنا من نموذج البناء الأول المئذنة ولا تزال القضية معلقة حتى الآن!.

ـ ما هو عدد المسلمين في بريطانيا ومراكز تجمعهم ونشاطهم؟ ..

اعتقد أن عددهم يبلغ حوالي مليون أو أكثر منهم سبعون ألفا في مدينة لندن والباقي موزع في كل أنحاء الجزر البريطانية وأغلب المسلمين من الهند والباكستان حيث يشكلون ٩٥ بالمائة من الجالية الإسلامية واليمنيون من أكثر المسلمين العرب واذكر أنه كان يتزعمهم في مدينة كارديف رجل متدين هو الشيخ عبد الله الحكيم وكان له نشاط ديني واسع حتى أنه أصدر صحيفة عربية ومطبعة عربية طبعت له العديد من المؤلفات ثم توقفت الجريدة عن الصدور بعد وفاة هذا الرجل الذي بنى مسجدا في مدينة كارديف يسمى مسجد نور الإسلام.

ـ ما هو نشاط المركز الإسلامي هنا؟ ..

ينقسم نشاطنا إلى ثلاثة أقسام رئيسية.


١ ـ قسم ديني

٢ ـ قسم ثقافي

٣ ـ قسم اجتماعي.

القسم الديني ـ يتمثل في إقامة الصلوات وخاصة صلاة الجمعة التي يحضرها حوالي خمسمائة رجل وتلقى الخطبة باللغتين العربية والانجليزية ويبدو هذا النشاط ملحوظا في شهر رمضان المبارك حيث تقام صلاة التراويح كل ليلة وإلى جانب ذلك الاحتفال بالمناسبات الرسمية كالعيد النبوي الشريف ، والهجرة وغزوة بدر وفتح مكة المكرمة وليلة القدر وليلة الاسراء. الخ. وفي كل ذلك نحرص على ربط المسلمين ببعضهم وربط هذه الأحداث بتاريخنا المعاصر .. وفي الأعياد تجمع الزكاة وتوزع على المحتاجين إن وجدوا ولكن الذي اتبع في العيد الماضي أن الجانب الأكبر منها صرف للمنظمات الفدائية وفكرنا أن نصرف الجانب الآخر لهذه المنظمات أيضا لأنه في نظرنا أحق الوجوه إلا أن مجلس المركز الأعلى رأى أن يأخذ رأي مشيخة الأزهر في هذا.

القسم الثقافي ـ يتلخص في تعليم اللغة العربية لمن يرغب من المسلمين .. وعندنا في المركز الإسلامي فصل لتدريس اللغة العربية مرتين كل أسبوع والدراسة فيه مجانية للجميع وهناك فصل آخر لتعليم تلاوة القرآن الكريم تلاوة صحيحة .. بجانب هذا توجد محاضرات شهرية ينظمها المركز يوم السبت الأخير من كل شهر عن موضوع إسلامي يلقيه أحد المحاضرين ثم يتبعه مناسبة عامة .. وهناك نقطة مهمة هي أن كثيرا من الكنائس والمدارس والكليات والنوادي والجمعيات المختلفة في بريطانيا تطلب منا محدثين يحدثونهم عن الإسلام فنبعث إليهم بمتحدثين يجيدون اللغة الإنجليزية ولهم اطلاع واسع بالثقافة الإسلامية ولم تكن هذه الظاهرة موجودة من قبل بهذه الصورة التي تزداد يوما بعد يوم فالناس في شوق لمعرفة حقيقة الإسلام. وهناك أيضا مجلة يصدرها المركز باللغة الإنجليزية مرة كل ثلاثة


أشهر فيها أبحاث تتعلق بالفكر الإسلامي العربي ..

القسم الاجتماعي ـ ونشاطه واسع يشمل عقود الزواج واعتناق الدين الإسلامي ومشاكل المسلمين ومعظمها نابع من البيئة التي يعيشون فيها والتي تخالف بيئتهم الأصلية كالطعام والشراب ومعاملة الناس وتربية أطفالهم تربية إسلامية في مجتمع اضطروا لأسباب مختلفة أن يعيشوا فيه .. وكثيرا ما تتصل بنا المستشفيات وتبلغنا بأن مريضا أو مريضة مسلمة ترفض أن تأكل أكلة معينة فنذهب إلى المستشفى ونوضح لهم ما ينبغي عدم أكله والواقع أنهم يستجيبون لمثل هذه التعاليم .. كذلك فإننا نقوم بزيارة بعض السجناء المسلمين ونبين لإدارة السجن أوقات الصلاة وما هو محرم على المسلم أكله أو ما شابه ذلك ويشكروننا على ذلك .. وبصورة عامة فإن هذا القسم بالإضافة إلى كل ذلك ينظم الصلة بيننا وبين الجاليات الإسلامية في الجزر البريطانية ..


المرأة في الأزهر

التحقت فاطمة الحلفاوية من بلدة «الكمايشة» مركز تلا منوفية قد التحقت بالأزهر في سنة ١٣٠٢ ه‍.

وقطعت في معهد طنطا مراحل التعليم كلها ـ ولما حاولت الحصول على الشهادة «العالمية» أخفقت في الامتحان أمام لجنة كان رئيسها المرحوم الشيخ دسوقي العربي «طه حسين حين أراد الحصول على العالمية».

وفي سنة ١٣٠٤ ه‍ انتسبت بمعهد طنطا السيدة «فاطمة الغنامية» وهي من مدينة طنطا ، وفي نفس العام التحقت سيدة أخرى اسمها فاطمة «العوضية» من بلدة طمبول الكبرى مركز السنبلاوين وجاء ذلك كله في سجلات الأزهر الشريف.



عميد الأدب العربي في الأزهر

دخل الدكتور طه حسين الأزهر يوم الاثنين.؟ ١٢ أكتوبر بعد غياب طال ٣٧ عاما دخل يتكلم اللغة الفرنسية ويقدم لشيخ الأزهر مستر رودلف سالات مدير الشئون الثقافية بهيئة اليونسكو. ويسترجع مع الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر ذكريات الماضي القريب والبعيد.

وقبل أن يغادر طه حسين المعهد الذي تلقى فيه دروسه الأولى قال له شيخ الأزهر!.

ـ إن عليك حقا للأزهر .. إن خدمته واجبة عليك لقد وضع الأزهر أساس حياتك العلمية وحان الأوان لترد الدين.

لقد دام اللقاء ساعة جرى خلالها حديث في الدين والعلم. والذكريات .. ولم يحضر هذا الحديث سوى صحفي واحد هو حنفي عاشور سكرتير عام التحرير بالجمهورية.

قال الدكتور طه حسين للأستاذ الأكبر : «إنني أحب زيارة الأحرار والارتباط بهم وأقصد من الحرية ، حرية الفكر وحرية المعرفة ، الحرية الموصلة إلى السمو في الهدف والنبل في الغاية والتي تحقق آمال الناس جميعا فيما يهدفون إليه ، أملا يبنى ولا يهدم ، ويعلي ويرفع ولا يخفض.


جئت في صحبة المستر رادولف سالات ليقدم إليكم تحية هيئة اليونسكو جميعا مقدرين لكم جهودكم في إثارة الوعي الديني المنظم الذي يجمع ولا يفرق ، وإنه ليقدر هو والهيئة أن الأزهر أقدم جامعات العالم وهو مصدر من مصادر الإشعاع العالمي فهو جدير بالتقدير ولذا رأى أنه من الواجب عليه أن يزور الأزهر جميعا ممثلا في شخصكم».

وقال الأستاذ الأكبر للدكتور طه حسين : إننا نضع يدنا في يدك وفي يد كل محب لإعلاء شأن العقل الإنساني حتى نتمكن جميعا بيد واحدة ، وتماسك واحد ، أن نخوض غمار الحياة الحرة الرتيبة ، وأنا أعتقد أن أول من يقدر الأزهر ويقدر جهاده إنما هو هيئة اليونسكو ونعتقد أيضا أن توجيه العالم إلى الخير إنما هو إلى الأزهر .. إلى كل هيئة تنشد العلم وتسعى إلى المعرفة ومن بينها هيئة اليونسكو ، وذلك مما يركز الأمن والاستقرار في ربوع العالم ويمنع من وقوع مثل هذه المذابح الدامية التي تقع دائما صراعا بين الحق والباطل وبين الحرية والاستعباد وأنا أرى أنه لا يصح أن تقف الهيئات العالمية على حد البحث العلمي الجامد ، وإنما يجب عليها أن تعمل دائما لتوطيد أركان الأمن وتركيز السلام ، فإنه لا يجوز أن نستخدم النعم التي أنعم الله بها علينا من عقول مفكرة وآراء سديدة وقوة في الإدراك ، لا يجوز أن نستغل هذه أو نوجهها إلى الشر وإلى إثارة الخواطر وتحطيم القوى ، وذلك كله إنما يكون عن طريق التعارف الذي يبعث على الحب والتآلف فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ...

ثم التفت الأستاذ الأكبر إلى الدكتور طه حسين وقال :

لعلكم تذكرون يا أخي الدكتور أن الأزهر خطا خطوة واسعة في سبيل التقريب بين المذاهب جميعا ، خطا هذه الخطوة حتى في التقريب بين أهل السنة والشيعة ، وكلية الشريعة الآن تدرس الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة وبين غيرها من المذاهب الأخرى ، وأنا حريص على أن يعرف


الطلاب ويدرك العلماء الأصول ويقدروا المراجع ، وأنا شخصيا أرى ذلك .. أي ليس في الدين ما يلزم بمذهب معين ، فكل الأئمة صح عنهم «إذا صح الحديث فهو مذهبي» وأنا حريص على أن يكون مرجعنا الكتاب والسنة نستقى منهما ونأخذ عنهما وننهل من منهلهما العذب ، على أن كل ما يخالف هذا الأصل ويخالف الكتاب والسنة نرده ولا نقبله ، وأبو حنيفة يا دكتور يقول : إن من لم يعرف من أين أتينا برأينا لا يصح أن يقلدنا ، ولقد سمعنا في أوقات كثيرة أن ابن تيمية ضال مضل ونفر المرجفون الناس من مذهبه ولكن تكشف لهم الأمر فعرفوا أنه هاد ومهد.

ثم تطرق الحديث إلى الذكريات .. فسأل الأستاذ الأكبر الدكتور طه حسين : أتذكر يا دكتور الموضوع الذي أسقطوك فيه في الشهادة العالمية؟

فأجاب الدكتور طه : نعم ، أنه المطلق والمقيد.

ثم سأله الأستاذ الأكبر : كم سنة قضيتها في الأزهر؟

قال الدكتور طه : أنا دخلت الأزهر سنة ١٩٠٢ ، وتركته سنة ١٩١٢ ، وبقيت فيه عشر سنوات ، أنا أحب الأزهر وأؤمن بأنه المشعل القوي والقوي جدا الذي ينير للعالم الطريق المستقيم ، وأحب فيه العلم والمعرفة وأكره التزمت ، أنا أذكر يا فضيلة الشيخ يوم إن كنت طالبا وكان معي ثلاثة من الزملاء وكنت أحضر النحو على الشيخ أبو النجا وكنت حريصا على النقاش العلمي ولكن ذلك الشيخ لم يعجبه ذلك وكأنني قد أفرطت في النقاش فطردنا من الدرس وأقسم ألا يدرس ونحن في الفصل فامتثلنا وتركناه ورحنا نحضر على الشيخ عبد المعطي الشرشيمي في زاوية العميان ، وكان ما كان ..

ثم عاد الدكتور حسين بالذكريات إلى الماضي البعيد فقال موجها حديثه إلى الأستاذ الأكبر : أتذكر فضيلتكم يوم أن جلسنا سويا أنا وفضيلتكم والأستاذ علي عبد الرازق وأخذنا نبحث فيما يجب علينا أن نقدمه لخدمة


الشريعة الإسلامية وللعقل البشري فاتفقنا يوم ذاك على أن يكتب الأستاذ علي عبد الرازق في العقيدة وتكتبون في الشريعة وأكتب أنا في تاريخ التشريع؟.

فرد الأستاذ الأكبر وقال : إنه لمن حسن الحظ أن تجيئوا اليوم وقد انتهت المطبعة من طبع كتابي في العقيدة والشريعة تحت عنوان «الإسلام عقيدة وشريعة».

فقال الدكتور طه حسين : وقد كتبت أنا أيضا في قسم التاريخ كتابا باسم «مرآة الإسلام» ولا زلنا في انتظار ما يكتبه الأستاذ علي عبد الرازق.

مضى من الوقت نصف ساعة والمسترسلات والدكتور تقي والأستاذ عبد الحكيم سرور وأنا نستمع في سعادة إلى الحديث الذي يدور بين الرجلين الفاضلين ثم قال المستر سالات ـ باللغة الفرنسية طبعا ـ وقام بالترجمة الدكتور طه حسين .. قال للأستاذ : إنني لأستحيى أن أذكر النسبة بين عمر اليونسكو وعمر الأزهر المديد وبين عملها وعمل الأزهر المجيد ، واليونسكو وإن كانت مؤلفة من جميع دول العالم فإنني أعتقد أن قدرتها على نشر السلام في الأرض أقل بكثير من الأزهر ولكننا نطمع في الكثير من الأزهر وخاصة في عهدكم الذي يؤمن المصلحون برسالتكم فيه ،

ثم قال الأستاذ الأكبر موجها كلامه للدكتور طه حسين : إن عليك حقا للأزهر وهذا الحق كذلك على كل من تتلمذ في الأزهر وأخذ من الأزهريين ، وإذن فخدمة الأزهر ـ إن شاء الله ـ سيصل بمعونة الله ومعونة لإخواني المصلحين إلى جمع كلمة المسلمين ورجال الإنسانية على كلمة واحدة وهدف واحد.

قال الأستاذ الأكبر : إن الجمهورية العربية معنية كل العناية بأمر هذه البعوث ومظهر ذلك إقامة هذه المدينة التي تتكون من إحدى وأربعين عمارة


ضمت خمسين جنسية من مختلف الجنسيات الإسلامية ليتفقهوا في دينهم ويتعرفوا إلى نواحي الاجتماع والتعاون والديمقراطية الصحيحة في إسلامهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، وليكونوا رسائل حية لجمهوريتنا يربطون بيننا وبين إخواننا في جميع الدول وهؤلاء يعد لهم الآن منهاج دراسي يتفق وطبيعتهم ويحقق الرباط بيننا وبين دولهم ويساعدنا ويساعدهم على تحقيق رسالة الإسلام ، ولقد وفد إلى الأزهر في هذه الآونة أحد المسلمين الأمريكان ليدرس في الأزهر ، وقد أمرت له بمنحة شهرية. أدعو الله لهذا ولغيره أن يكون جهاده وتعلمه في سبيل العلم .. في سبيل الربط الحر المتين بين دول الأرض بما ينشر السلام ويحققه.

ثم استطرد الأستاذ الأكبر قائلا : إن مشيخة الأزهر تدعوك يا دكتور طه والمستر سالات والدكتور تقي ، تدعوكم من الآن لزيارة هذه المدينة المعدة على أحدث النظم في العالم ..

ثم سأل المستر سالات : لما ذا لا تترجمون كتب فضيلتكم إلى اللغات الأخرى؟

فأجاب الأستاذ الأكبر : إنني أعدكم بترجمتها ..

فتدخل الدكتور طه حسين في الحديث وقال : إنني أتمنى لو ترجمت إلى الأسبانية واذكر بهذه المناسبة أنني عند ما كنت وزيرا للمعارف أرسلت بعثة إلى اسبانيا فاشترك الأزهر بواحد وكنت أود أن لو انتفع به الأزهر وهو الآن أستاذا في كلية دار العلوم.

وبعد ساعة .. انتهى حديث شيخ الأزهر وطه حسين والمستر سالات .. انتهى حديثهم عن حرية الفكر .. الحرية التي توصل إلى السمو في الهدف وتحقق آمال الناس جميعا فيما يهدفون إليه .. الحرية التي تأبى توجيه العلم إلى الشر وتحطيم القوى .. الحرية التي تهدف إلى التعارف الحر على أساس العلم لا على أساس السياسة ..


وانصرف الضيوف الثلاثة .. وأحسست بأنهم خرجوا بشيء جديد عن الأزهر .. أقدم جامعات لعالم واحد المصادر الكبرى للإشعاع العالمي .. كانوا يسيرون إلى الباب الخارجي وكأنهم يحاولون الخطو إلى الوراء .. ليتحدثوا من جديد .. عن حرية الفكر .. وحرية المعرفة.


محمد عبد المنعم خفاجي (١)

ـ أديبا ـ

ـ ١ ـ

عالم يخطو إلى السبعين ، في صدره عزيمة الشباب ، وعلى ظهره أعباء سنين طوال ، قضاها مجاهدا مكافحا في سبيل خدمة الثقافة والأدب ، وعلى تجاعيد وجهه تلوح سمات المحتد وعراقة الأصل وطيبة النفس والتصميم على مواصلة الكفاح في رحلة شاقة إلى المجد ، والإعتماد على النفس دون محاولة للاستعانة بجاه أحد أو بنفوذه.

ومن وراء ذلك كله مؤلفات ينوء بحملها جلد إنسان ، وذكر ذائع في كل مكان من أرجاء العالم العربي والإسلامي ، واعتزاز من كثير من المفكرين به وبأدبه.

وقد كتب عنه من المقالات ما لا يمكن حصره ، ونشرت عنه دراسات عديدة من أهمها :

(١) كتاب صورة من الفكر المعاصر تأليف الأستاذ فكري أبو النصر.

(٢) كتاب من رواد الأدب المعاصر تأليف الأستاذ حليم متري.

__________________

(١) ص ٣٤ ج ٤ صور من الأدب الحديث ـ مكتبة الأنجلو بالقاهرة.


(٣) الكتاب العربي.

وعنه كتبت تراجم في كتب عديدة من أمثال : الأزهر في ألف عام ، وبنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي ، ونشر كثير من شعره في كتاب «مع الشعراء المعاصرين» وفي ديوانه «أحلام الشباب».

ـ ٢ ـ

ويمكننا أن نتعرف إلى المذهب الأدبي عند أديبنا في كتبه ، مما يمكن تلخيصه فيما يلي :

١ ـ يؤمن أديبنا بضررة الملكة الأدبية والموهبة الذاتية كأساس لبناء الأديب من الجانب الفني والثقافي ، ومن ثم نجده يحيل كل الخصائص الذاتية التي تميز أديبا عن أديب إلى أثر هذه المواهب.

٢ ـ ويرى أن الثقافة الأدبية الحديثة للأديب يجب ـ فوق تناولها لجميع الثقافات الممكنة ـ أن تتناول التعرف إلى جميع الثقافات الأدبية القديمة والحديثة والمعاصرة عند جميع الشعوب ، ومن ثم يحرص على الاتصال بروائع الآداب الأوروبية المترجمة ، ويرى وجوب التعاون والإخاء الأدبي بين الأدب العربي وهذه الآداب. كما يرى وجوب دراسة الآداب الشرقية عامة والعربية خاصة عند جميع الشعوب التي يتصل تاريخنا بتاريخها وحياتنا بحياتها ومن أجل ذلك أسهم في نشر كثير من الآثار الأدبية القديمة والمعاصرة لأدباء من أبناء مصر والبلاد العربية. وبحثه عن الشعر السوداني المعاصر الذي نشره في كتابه «قصص من التاريخ» يعد بحثا جامعا أصيلا جديدا.

٣ ـ وأديبنا يرى أن الأدب لا بد أن يخدم هدفا اجتماعيا أو قوميا أو إنسانيا ، وإلا فقد جزءا كبيرا من مقوماته ، ومن أجل ذلك نراه في كتابته عن


الأدب المعاصر يشيد بروائع الآثار الواقعية في الأدب والشعر (راجع مقدمة كتابه قصص من التاريخ).

٤ ـ وهو مع ذلك يرى أن الأدب المعاصر تنقصه الملكة والذوق البلاغي ، كما أن الأدب القديم كان ينقصه الاتجاه والمذهب والرسالة ، ومن أجل ذلك فهو يبشر بأدب جديد تتجلى فيه خصائص الأدبين أكثر وضوحا عما هي عليه الآن.

ومن صور آرائه في الأدب الحديث ما كتبه في مقدمة كتابه «قصص من التاريخ» بعنوان (الأدب والحياة) قال :

«الأدب لم يعد اليوم ترفا وفنا خالصا ، وتصاوير مزخرفة منمقة وبلاغة أدبية محضة ، ولم يعد يقصد للترفيه والتسلية وقطع الوقت ، وليس الأدب مقصورا على إثارة الشهوات الجنسية كسبا لجمهور القراء الفارغين التافهين ، وليس بخورا يحرق في مواكب الطغاة تمجيدا وتسبيحا بحمدهم ، ولا دعاية تنشر لتضليل الرأي العام وإلهائه وكسبه بجانب الديمقراطية أو غيرها ، فلم يعد لأمثال هذه الآداب بيننا قيمة ، ولم يعد القارىء المثقف يؤمن بمثل هذا الأدب الأجوف ، ولم تعد أحكام النقد وقفا على طائفة من الكتاب والنقاد المضللين ، الذين ساروا في كل ركب ، ومشوا تحت لواء كل موكب ، ووقفوا حياتهم على الدعاية لسياسة الغرب باسم الصداقة والأحلاف والديمقراطية في الشرق العربي.

ونحن نبدأ عهدا أدبيا جديدا نحطم فيه هذه الأصنام الزائقة ، وهذه الأقلام الجوفاء ، وهذه الأغراض التي تاجرت بحريتنا الفكرية والأدبية ، وأخضعت الأدب لأهواء السياسة ومشيئتها ، وأثرت على حساب الأدباء المساكين.

نحن نمقت هذه العصابات الأدبية الضالة ، التي قتلت النبوغ وحاربت


الفكر وضاقت ذراعا بمواهب الشباب من الأدباء فقبرتها ، وسخرت الأقلام للتسبيح بحمدها بين الناس.

أصبح الأدب يدعو إلى الحرية والكرامة والحياة الطيبة للأفراد والجماعات والشعوب ، الحرية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، والكرامة التي تدع الإنسان مؤمنا بأنه لم يخلق عبدا لإنسان ، وإنما خلق إنسانا يشعر بكرامته الإنسانية وقيمته في المجتمع ، والحياة الطيبة التي تتكافأ فيها الفرص ، وتتساوى فيها المواهب ، ويجد فيها كل إنسان له عملا لائقا ، وعيشا شريفا ، ومستوى ماديا مناسبا وعناية واحدة من الحاكمين ، والتي تنعدم فيها الفروق بين الناس ، وتقل فيها المشكلات أمام الفرد ، فلا يضطر إلى الانتحار لأنه لا يجد الخبز لنفسه وأولاده ، ولا يعيش متسولا عالة على الناس ولا يقعد به المرض أو الجهل عن أن يعيش وأن تحفظ عليه كرامته في وطنه .. يجب أن يكون الأدب اليوم صدى الحياة المدوي ، وصوتها المجلجل في كل سمع ، ولسانها المعبر عن آمال الإنسانية وآلامها وأفراحها وأحزانها وسعادتها وشقائها ، وأن يعبر في وضوح عن حياتنا التي نحياها : حياة الفلاح في حقله ، وحياة العامل في مصنعه ، وحياة الموظف في وظيفته ، وحياة الفتاة التي نادينا بحريتها ، وحطمنا الأغلال دونها ، ثم لم نعمل شيئا في سبيلها ، لتستطيع الاحتفاظ بحريتها الطبيعية التي تحميها لها الحياة ، فلم نساعدها على العمل الشريف ولا على الزواج المناسب ، وعلى حياة الأسرة الهادئة ، وتركناها وحدها في الميدان ، تقضي حياتها محرومة من الزوج السعيد الصالح ، والأولاد الذين تتشوق في لهفة إليهم.

والوضوح والبساطة والجمال والصدق هي الخصائص الأدبية الأولى ، والعناصر الفنية الأساسية لكل أدب جميل بليغ. ولكن خلود هذا الأدب وذيوعه يتوقف فوق ذلك على مضمونه وعلى أن يكون الأدب إنساني النزعة ، رفيع الهدف والغاية ، يعمل مساعدا لنواميس الحياة على التقدم والنهضة والازدهار».


ـ ٣ ـ

والعوامل الثقافية التي أثرت في عقلية أديبنا ، يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ العامل الأول : ثقافة الأسرة ، وهي أسرة تنتمي إلى أصول عربية قديمة بسط صاحبنا تاريخها في كتاب خرج منه حتى الآن تسعة أجزاء ـ ومن هذه الأسرة أعلام قديمة وحديثة ومعاصرة من الأدباء والعلماء والشعراء والكتاب ، وهو كتاب «بنو خفاجة».

٢ ـ العامل الثاني : ثقافة في الأزهر الذي عاش فيه تلميذا من سنة ١٩٢٧ إلى ١٩٤٦ حيث تخرج من كلية اللغة العربية يحمل شهادة «العالمية من درجة أستاذ في البلاغة والأدب ، وتعادل الدكتوراه حرف (أ) من الجامعات المصرية ـ وتخول لحاملها التدريس في كليات الأزهر وكليات الجامعات المصرية ، وكانت الرسالة التي قدمها هي «ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان» وهي مطبوعة.

٣ ـ العامل الثالث : مطالعاته الشخصية في الأدب قديمه وحديثه ويقول لنا : إنه حتى تخرجه طالع ما لا يقل عن خمسة آلاف كتاب في الأدب عدا الكتب الثقافية الأخرى.

٤ ـ اتصاله الوثيق بالبيئات والمدارس والمذاهب الأدبية المعاصرة ، ودراساته في كلية اللغة لتلاميذه.

٥ ـ الاستعداد الشخصي والملكات الذاتية ، التي تكون لصاحبها أفكارا ثقافية وأدبية خاصة متميزة.

٦ ـ اتصاله المباشر بالبيئات الثقافية الأجنبية وكان لعمله في الليسيه الفرنسية مدرسا بها أثر ما في حياته ، وكذلك اتصاله بالعديد من العناصر والبيئات الثقافية.


ـ ٤ ـ

ومؤلفات الخفاجي تنقسم إلى عدة مجموعات :

١ ـ فالأولى طائفة من المؤلفات في الدين ، ومن بينها : الإسلام دين الإنسانية الخالد ، الإسلام وحقوق الإنسان ، الإسلام رسالة الإصلاح والحرية ، مبادىء الإسلام الخالدة (بالاشتراك) ، من ماضي الإسلام وحاضره (بالاشتراك) ، الذكر الحكيم ، مأثورات نبوية.

٢ ـ والثانية كتب في التاريخ ومن بينها : بنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي وهو في تسعة أجزاء ، الأزهر في ألف عام وهو في ثلاثة أجزاء ، قصة التصوف في مصر ، الصوفي المجدد.

٣ ـ كتب في النقد ومن بينها : مذاهب الأدب ، فصول في النقد ، موقف النقاد من الشعر الجاهلي ، وحدة القصيدة في الشعر العربي ، حكومة القاضي الجرجاني في النقد الأدبي.

٤ ـ كتب في التاريخ الأدبي القديم والحديث والمعاصر ، ومن بينها : الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ، الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام ، الحياة الأدبية في العصر العباسي ، والحياة الأدبية في الأندلس والعصر العباسي الثاني ، والحياة الأدبية بعد سقوط بغداد في عصر بني أمية ، والحياة الأدبية الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام ، الأدب العربي في ظلال الأمويين والعباسيين ، وهما (بالاشتراك) ، والأدب العربي وتاريخه وهو في أربعة أجزاء (بالاشتراك).

وقصة الأدب في مصر ، في خمسة أجزاء ، قصة الأدب في الأندلس في خمسة أجزاء ، قصة الأدب المعاصر في أربعة أجزاء ، قصة الأدب في الحجاز بالاشتراك مع الأديب الحجازي عبد الله عبد الجبار وسيقع في عدة أجزاء ، صور من الأدب الحديث في أربعة أجزاء.


٥ ـ كتب في تاريخ أعلام الأدب العربي ، ومن بينها : ابن المعتز وأثره في الأدب والنقد والبيان ، رائد الشعر الحديث في جزءين ، أعلام الأدب في عصر بني أمية في جزءين ، أشعار الشعراء الستة الجاهليين ، أعلام الأدب العربي (بالاشتراك) ، الشعراء الجاهليون ، مع الشعراء المعاصرين. أبو عثمان الجاحظ.

٦ ـ كتب في الأدب ومن بينها : فصول في الأدب ، من بلاغة العرب وهما بالاشتراك ، نداء الحياة ، التشبيه في شعر ابن المعتز وابن الرومي ، وغيرها.

٧ ـ كتب في البلاغة العربية ومن بينها الإيضاح في البلاغة في ستة أجزاء وعبد القاهر وأثره في البلاغة العربية ، والبلاغة العربية.

٨ ـ كتب في اللغة العربية وهي عديدة.

٩ ـ كتب قديمة نشرها الخفاجي وحققها وهي عديدة كذلك ، ومن بينها : البديع لابن المعتز ، فحولة الشعراء للأصمعي ، قواعد الشعر لثعلب.

ورسائل ابن المعتز ، إعجاز القرآن للباقلاني ، فصيح ثعلب ، مقامات الحريري بشرح الشريشي ، وغيرها.

وللخفاجي مقدمات لكتب كثير من الأدباء المعاصرين ، وممن كتبوا عنه : الدكتور أحمد زكي أبو شادي ، والناقد مصطفى السحرتي. روكس العزيزي. عبد الله زكريا الأنصاري. عبد الله عبد الجبار. محمد سعيد العامودي. وديع فلسطين. حسن جاد. حليم متري. أحمد الزين صاحب مجلة العرقان بلبنان. الشيخ محمود النواوي. كامل أمين. محمد فوزي العنتيل. رضوان إبراهيم. إبراهيم الواعظ من أدباء العراق. عبد المسيح حداد. أحمد الشرباصي. كامل السوافيري. فكري أبو النصر. جميلة العلايلي. أبو الوفا التفتازاني. أبو السعود الجهني ، وغيرهم.


ـ ٥ ـ

ومن شعر الخفاجي قصيدته «الشهداء» :

بطولتهم لكل فتى نشيد

وذكر فدائهم أبدا جديد

ومجد جهادهم في الدهر باق

يضن به على الدهر الخلود

شباب للعلا ثاروا غضابا

تناديهم وقد ثاروا الجدود

مشيئة مصر أن تحيوا كراما

فذودوا عن حقوق الشرق ذودوا

حياة العز أو موت زؤام

ولا يجدي التردد والقعود

دعاهم للعلا داع فهبوا

جنود في نضالهم أسود

فما يلهيهم في الروع وعد

ولا يثني عزائمهم وعيد

أباة والأبي يعيش حرا

كأن مضاءه القدر العيد

يثور على الحديد فلا حديد

ويزأر في القيود فلا قيود

وينهض للعظائم في جلال

ويفعل ما يريد كما يريد

لمصر حياتهم كانت فداء

وشعب تلك غايته يسود

هم الشهداء قد ضحوا كراما

فكل بين واديه شهيد

ويوم فدائهم للمجد ذكرى

ويوم جهادهم للشرق عيد

هم الكرماء قد بروا وجادوا

ويحيى ذكرهم بر وجود

قبورهم تفوح شذا وعطرا

وتجفوها الأزاهر والورود

وفي البيداء تخشع في جلال

ويخشع من جلالتها الوجود

كسى الشهداء تلك البيد مجدا

تشيد بذكره أرض وبيد

وليس لما بنى الشهداء مثل

وليس لتضحياتهم نديد

ويهتف باسمهم شعب أبى

تكاد الأرض إذ غضبوا تميد

عزيز أمسه الماضي كريم

طريف مجده الباقي تليد

 ـ ٦ ـ

ويقول الشاعر المصري كامل أمين ، من قصيدة له وجهها إلى الخفاجي :


يا أخا الخير «يا خفاجة» والخير شباب الندى وروح الحياة

كل أرض نما بها البر روح ألبسته الحياة ثوب النبات

قد عهدناك يا أخي تعبر الناس فتسعى بهم كسعي الفرات

تبعث اليأس القنوط من الآمال كبعث الحياة بعد الممات

* * *

يا أخي أين يوم كنت ألاقيك وكلي مجرح من كفاحي



لم أجد في الحياة لما تمزقت سواك أمرا يداوي جراحي

كنت أجتاز زحمة الناس كالبيد خوت لم تفض بغير الصياح

ضحلة البر والتعاون تجتر الشحاح الندى بها من شحاح

* * *

كم أرتني الخطوب من صور الناس زيوفا قد فتحت عينيا

رب خدن طننته ملء كفي نفض الخطب من يديه يديا

كان كالشوك لا نبات ولا ظل وإن كان كالنبات نديا

فإذا فزت من تجارب دنياك بحر كسبت بالحر دنيا

* * *

يا أخي كيف مد سحرك في الليل فمد الصباح بين بيانك

ريشة الساحر الصناع بكفيك وسحر البيان تحت لسانك

وخيال الحديث يجذب كاللحن فماذا عزفته في كمانك

الكمان الذي استحال يراعا هز داود فيه من ألحانك





ـ ٧ ـ

وفي قرية صغيرة قديمة من أعمال مركز المنصورة ، تسمى «تلبانة» ، ولد الخفاجي في ٢٢ يوليو عام ١٩١٥ بين أحضان الطبيعة الجميلة في


الريف ، وبين الفلاحين المكدودين المرهقين الذين يعيشون فيه عيشة تجمع إلى البساطة سذاجة التفكير ، وإجهاد العيش ، وشظف الحياة.

وفي إبان الحرب العالمية الكبرى ، وما تلاها من أحداث الثورة الوطنية المصرية عام ١٩١٥ ولد ونشأ الخفاجي .. تنطبع في ذهنه صور من كفاح الحياة والإنسانية ومن جهاد مصر في سبيل حريتها وآمالها ، هذا الجهاد الذي ظل أمدا طويلا شغل المصريين كافة ، وموضع تفكيرهم ، وألهم المقعد الناصب لهم في حياتهم المعاصرة.

ولم يترك الخفاجي القرية إلا في أثناء دراسته ، وظل وفيا لها ولأهلها الأبرياء البسطاء طول حياته.

وهذا الميلاد وما صاحبه وتلاه من أحداث في حياة الخفاجي يصوره في قصيدة ساحرة له عنوانها «يوم الميلاد» جاء فيها :

يوم ميلادي حمده صيغ لي اسما

وارتدت في سناه روحي جسما

ورأيت الوجود طفلا صغيرا

يستطيب الدنيا رضاعاه ونوما

ويحب الحياة مهدا وثيرا

وأبا صاغه الحنان وأما

ونشيدا وأغنيات عذابا

تملأ الغرفة لصغيرة نغما

ومناغاة إخوتي لي في المهد

وقبلات تشبع المهد لثما

والسماء الزرقاء تسحر عيني

فأحصى النجوم نجما فنجما

وأرى كل ما أشاهد حلما

وأرى صادق الحقيقة وهما

ومنها :

ما أنا؟ صورة لجد وجد

وكتاب عنهم ينبىء علما

أنا مرآة صورت كل ما طاف

بوهم الحياة وهما وحلما

أنا أغنية تلحنها البيئة

رمزا على الحياة ووسما

أنا قيثارة العصور ولحن

ربما بالحياة زادك فهما


ونشيد فم الخلود يغنيه

أمانا على الزمان وسلما

بين نجد وفي العراق ومصر

عاش قومي يأبون ذلا وضيما

ملكوا الملك شيدوا العرش ساسوا

الناس بالعدل والشجاعة حزما

أنصت التاريخ القديم إليهم

ولهم طالما أشار وأومى

فزعت بغداد وأتراك بغداد

لقوم لم يقبلوا قط ظلما

ثم أضحى المجد التليد حطاما

والجلال القديم أصبح وهما

وعيون التاريخ تهزأ بالدهر

الوفي الذي تحول خصما

بين أرض الريف الجميلة نشئت

وشمت الحياة صحوا وغيما

وحملت الأعباء طفلا صغيرا

وحسمت الأمور بالحزم حسما

وبنيت المستقبل الضخم صرحا

ودعمت البناء وحدي دعما

ومنها :

يا لذكرى الميلاد عودي وعودي

فالرجاء البعيد بالوصل هما

املأي العيش بهجة وسرورا

طالما ذقته شجونا وهما

أنطقي الدهر ، أسمعي الدهري لحني

والليالي فطالما كن صما

أنا أحيا على الرجاء وأسعى

لأنال المنى كفاحا ورغما

أنا ما أبتغي يجل عن الوصف

وجل ما أرتجي أن يسمى

أنا أحيي التاريخ مجدا وجاها

وأعيد الأيام يوما فيوما

 ـ ٨ ـ

إن الخفاجي لم يكن وحدة في الحياة ، إن تاريخ قومه يمتد إلى أكثر من ألف وخمسمائة عام.

فهو من سلالة عربية عريقة ، أرخ لها في كتابه «بنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي» ، والخفاجيون قبيلة عربية حجازية كبيرة نشأت في العصر الجاهلي وزاد نفوذها ، وهم من العقليين العامريين القيسيين ، وقد تعددت


فروع القبيلة بعد الإسلام وهاجرت سلالات منها إلى الشام ومصر والعراق والمغرب والأندلس ، ومنهم أعلام خالدون في كل مكان ، ولا ننسى الشاعر الأموي توبة الخفاجي العربي الحجازي ، والأمير ابن سنان الخفاجي الحلبي المتوفى عام ٤٦٦ ه‍ ، والشهاب الخفاجي المصري المتوفى عام ١٠٦٩ ه‍ ، وابن خفاجة الأندلسي الشاعر المشهور ، وغيرهم.

ومن الخفاجيين أسر حاكمة في حلب في القرن الخامس الهجري ، وفي العراق في القرن الرابع إلى السابع الهجري ، وكانت ولاياتهم في الناصرية بقرب الكوفة وكان يتولاها منهم بعد أمير ، وكانوا في شبه استقلال داخلي عن الخلافة العباسية.

إن هذا الماضي العريق يحمله الخفاجي في قلبه ودمه وأعصابه ويقف مزودا منه بإيمان راسخ ، وعبقرية حادة ، وقوة ضخمة تعاونه على كفاحه في الحياة.

وحفظ الخفاجي القرآن الكريم وتعلم مبادىء وأطرافا من الثقافة الأولى في مكتب القرية أو المدرسة الأولى التي كان يتعلم فيها الشباب في ريف مصر إلى عهد قريب.

وفي عام ١٩٢٧ رحل إلى مدينة الزقازيق يتلقى ثقافته الإبتدائية والثانوية في معهدها الكبير ، الذي تخرج منه عام ١٩٣٦ ، وبين هذين التاريخين قصة كفاح طويل ليس هنا في هذا الكتاب مجال تسجيلها ، إنما موضعه في كتاب مفصل آخر.

ومن أهم ما ظهر على الخفاجي في هذه الفترة الاتجاه الوطني الذي دفعه إلى الكفاح في سبيل وطنه في الأزمات السياسية التي مرت بمصر منذ عام ١٩٣٤ ، وكان رئيس اتحاد طلبة أبناء الشرقية في مدينة الزقازيق ، وكان هذا الاتحاد قوة كبيرة سياسية في هذه الفترة ، والخفاجي وأصدقاء له هم الذين كونوه ، وكانت مؤتمراته الوطنية تنشر في الصفحة الأولى في جريدة


الجهاد المصرية ، وفي شتى الصحف في هذه الفترة.

ومن أهم ما يلاحظه الخفاجي على الثقافة المصرية في هذه الفترة انعدام التوجيه وضعف تربية الملكات ، وإهمال شئون الطالب النفسية والعقلية إهمالا كبيرا. وقد جاهد الخفاجي في أزمة الأزهر عام ١٩٣٥ مع زملائه جهادا طويلا.

والتحق الخفاجي بعد مرحلة الثانوي بكلية اللغة العربية بالقاهرة وهي إحدى كليات الأزهر الشريف وبدأ دراسته فيها في أول أكتوبر عام ١٩٣٦ ، وفي اليوم الثاني من أكتوبر من هذا العام توفي والده ، وبعد ذلك بعشرين عاما أي في يوم الخميس ٢٧ جمادى الثانية ١٣٧٥ ه‍ ـ ٩ فبراير ١٩٥٦ توفيت والدته.

وفي خلال هذه الفترة اشترك الخفاجي في الحركة الوطنية ؛ وتابع دراسته وعمل أحيانا في الصحافة في جريدة السياسة والدستور ، وفي صحف أخرى ، وكتب المقالات والبحوث والدراسات في شتى الصحف والمجلات.

وكان قيام الحرب العالمية الثانية في هذه الفترة عام ١٩٣٩ أهم حدث عالمي تأثر به الشباب العربي أيما تأثر ، بل تأثر به شباب العالم قاطبة.

وفي هذه الفترة تأثر بآراء عالمين ، ومفكرين كبيرين من رجال الفكر والثقافة والإصلاح ، هما الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الأزهر فيما بعد ، والأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة العلماء بالأزهر.

وكان الأستاذ الأكبر الشيخ حمروش عميد كلية اللغة آنذاك وكان بعقله الواسع وأفق تفكيره البعيد وثقافته العلمية العريقة أرفع مثال لطلاب كليته ، يستمدون منه القدوة ويحتذون حذوه في الفهم والتفكير.

وكان الأستاذ الكبير محمد عرفة أستاذا للخفاجي في الفلسفة


والبلاغة ، ومن ثم تأثر بآرائه التجديدية العلمية تأثرا خاصا.

وتخرج الخفاجي في يوليو عام ١٩٤٠ من كلية اللغة يحمل شهادته العالية.

والتحق بأقسام الدراسات العليا في كلية اللغة العربية في أكتوبر عام ١٩٤٠ في قسم البلاغة والأدب ، فعكف في خلال الأحداث العالمية التي صاحبت الحرب العظمى ، وفي أحداث مصر القومية التي امتدت من هذا التاريخ ، وفي خلال أزمات الأزهر التي كانت نتيجة للصراع بين الحكومة والقصر والتي كان الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مظهرا لكثير من صور الحرب الخفية في هذه المعركة ، في هذه الظروف عكف الخفاجي على دراساته العليا إلى أن تخرج عام ١٩٤٥ يحمل شهادة النجاح في الامتحان التمهيدي لشهادة العالمية من درجة أستاذ.

ثم قدم رسالته الجامعية «ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد البيان» ونوقش فيها في أكتوبر عام ١٩٤٦ ، ونال بها بتفوق شهادة العالمية من درجة أستاذ في الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية وهي أرقى شهادات الأزهر الجامعية وتعادل الدكتوراه الممتازة حرف (أ).

ومن الجدير بالذكر أن الخفاجي قدم للكلية مع رسالته المخطوطة ثلاثة كتب له مطبوعة عن ابن المعتز في جوانب تخدم موضوع رسالته وهذه أول مرة يقدم فيها باحث رسالة علمية مخطوطة ومعها ثلاثة كتب تخدم رسالته وفي موضوعها.

وكان هذا الجهد الأدبي موضع تنويه الأدباء والعلماء والصحف في حينه.

ولا ننسى أن نقول : إن الخفاجي أمضى مع عمله الضخم هذا سنوات طوالا يشغل وظيفة أستاذا في الليسيه فرانسيه فرع شبرا.


وقد ترك بعد حصوله على شهادة العالمية من درجة أستاذ وظيفته في الليسيه ليتولى أستاذية البلاغة في معهد أسيوط الكبير الذي عمل فيه من نوفمبر عام ١٩٤٦ حتى أكتوبر عام ١٩٤٧ ، ثم في معهد الزقازيق الذي كان طالبا فيه من قبل ، والذي عمل فيه من عام ١٩٤٧ إلى عام ١٩٤٨.

وانتقل الخفاجي في ١٧ أغسطس عام ١٩٤٨ إلى كلية اللغة العربية مدرسا للأدب والنقد والبلاغة فيها ، وهو اليوم أستاذ فيها.

ومن الطريف أن نذكر أن الخفاجي متزوج من عام ١٩٤٨ وله ولد هو ماجد خفاجي ، وتوفيت له بنت كان اسمها «وفاء خفاجي».

وهو عضو في شتى الهيئات العلمية والأدبية في مصر والعالم.

وله العديد من المؤلفات. وهو من أكبر دعاة التجديد والإصلاح والوحدة العربية ، ومن أكبر الثائرين على النظم السياسية الجائرة السائدة في كثير من شعوب العالم العربي المتخلفة عن ركب الحياة والحضارة وعن مبادىء الإسلام الكريمة.

ـ ٩ ـ

ومن صور مقالات الخفاجي كلمة كتبها بعنوان «أيام المجد» : أيام عشتها وكأني عشت بها الدهر كله ، فقد جمعت المجد من أطرافه ، واهتزت خلالها النفس هزة الفرح والإعجاب.

أيام ويا لها من أيام ، لقد حسدت عليها نفسي ، وحسدت الجيل الذي أعيش به ، وحسدت وطني مصر لأن تاريخه احتواها ، ولأن العالم كله قد اهتز إعجابا به وبها.

أيام ويا لها من أيام ، فلو قدمت اليوم لما كان قد بقي لي من أمنية في الحياة أتمناها لي ولوطني المجيد.


فأولاها : أيام الثورة الوطنية عام ١٩١٩ في مصر ، وقد شاهدتها في قريتي الخضراء طفلا صغيرا. وشاهدت المظاهرات الوطنية التي كان يقوم بها أهالي القرية وأنا بينهم في شوارع قريتي الصغيرة وحاراتها. يهتفون للوطن بالحرية والاستقلال ، وللانجليز بالدمار والهلاك ، ويطالبون بحرية الوطن العزيز : مصر وطن الأحرار والمجد والتاريخ ، وكم كان يسعدني وأنا طفل صغير أن أخرج مع جموع الفلاحين نحمل الهراوات والعصى ونستقبل بها السيارات الوافدة على طريق القرية ، فإذا كان فيها أجانب استوقفناهم وطالبنا منهم أن ينزلوا معنا نحن الثائرين ، ويهتفوا معنا بحرية مصر واستقلالها وسقوط انجلترا والاستعمار.

وثانيتها : أيام ثورة مصر الكبرى في معركة القنال ، حيث قامت المعركة في أرض القتال بين قوات البوليس المصري وجيوش الاحتلال ، وضرب المصريون فيها أروع الأمثال وأمجد صفحات البطولة التي دونها التاريخ ، وعرفها الزمن وقد انتقم الانجليز لهذه الثورة الوطنية الجليلة الخالدة بأيدي الخوتة المصريين في ذلك الحين ، وعلى رأسهم صاحب العرش فاروق بن فؤاد ، فأحرقوا القاهرة وكتبوا الحريات ، وأعلنوا الأحكام العرفية ، وأقالوا الوزارة الدستورية القائمة آنذاك وصبوا على البلاد سوط عذاب ، ومع ذلك فقد صمدت مصر في وجه الأحداث صمود الجبال والأبطال.

وثالثها : أيام الثورة المصرية القومية الكبرى ، ثورة التحرر والتحرير في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ، حيث استيقظت في صباح هذا اليوم الجميل ، فشاهدت جيش الوطن قد احتل مرافق القاهرة : وأقام حكما جديدا في البلاد ، قضى على الخونة والفساد والإقطاع وسماسرة الحكم ، وأخذ يصنع البلاد ، ويكون فيها جيشا قويا ، يحمي حرية الوطن واستقلاله.

ورابعتها : أيام معارك الوطن الكبرى في أواخر أكتوبر ١٩٥٦ ، وأوائل


نوفمبر من هذا العام ، حيث تآمرت انجلترا وفرنسا ومعهما عدوتنا إسرائيل التي يحركها الإستعمار كما يشاء ، وغزوا بقواتهم منطقة سينا ، ثم انهالت الطائرات والقنابل تدمر مدن مصر ومنشآتها وفق ما يشاء الأعداء ، وصمدت مصر والمصريون صمود الأبطال.

وقامت المعركة في بور سعيد ، هذه المعركة الخالدة التي كتب فيها المصريون أروع الصفحات طول عصور تاريخهم المجيد ، والتي سار فيها القتال من شارع إلى شارع ، ومن منزل إلى منزل ، ووقف جيش مصر وشعبها في بور سعيد يصدون العدوان ، ويقامون جنود الامبراطورتين العجوزتين ومعهم جنود إسرائيل من مجرمي الحرب ، ومن الهابطين من الجو ، والصاعدين من البحر. وتتبع الوطن المصري أنباء القتال أولا بأول ؛ وساعة بساعة ، ووقفوا حول المذياع يسمعون وصف المعركة. وينصتون لأنبائها ، يزدهيهم الفخر والكبرياء والمجد والعظمة لبطولة جيشهم النادرة ، وعظمة الشعب المصري الكامنة المتوارثة خلال الأحقاب والأجيال ، وكأن مجرمي الحرب إيدن وموليه أرادا أن ينتقمان من مصر لتأميمها قناة السويس في ٢٦ يوليو ١٩٥٦ فرصدوا لها الأساطيل الجيوش والطائرات.

ولكن مجرم الحرب إيدن ، ومجرم الحرب موليه ، ومعهما تابعهما بن غوريون هزموا وانتصرت مصر في معركة بور سعيد وقاوم المصريون في أرض المعركة وثبتوا ثبات الجبال ، واحتمى إيدن وموليه بقرار هيئة الأمم المتحدة الذي نص على وجوب وقف القتال في الساعة الثانية صباح الأربعاء ٧ نوفمبر عام ١٩٥٦.

وهل أنسى الأسبوع الأول للحرب ، وكانت غارات طائرات الأعداء مستمرة على القاهرة كل دقيقة ، حيث لا يجد أحد متنفسا يأخذ فيه لحظة هادئة متمتعا بنعمة الأمن والتفكير والتحرر من الخوف ، وكنا في القاهرة


نطفىء الأنوار منذ دخول الليل ، وتتقطع الطرق ، وتتوالى صفارات الانذار كل دقيقة ، ونسمع أزيز المدافع وأصوات القنابل في كل مكان ، وكانت طائرات العدو تتهاوى كأنها الورق أمام مدافع مصر وبسالة أبنائها. لم نكن نجد دقيقة واحدة نخلو فيها إلى أنفسنا للتفكير أو التأمل أو القراءة أو الاستمتاع بالطعام ، وكانت المعسكرات تنتظم شباب مصر وشيوخها من المتطوعين للدفاع عن وطنهم الأكبر ، وكنا نتساءل بأي حق يبيح مجرما الحرب إيدن وموليه لأنفسهما حق غزو الشعوب التي خلقها الله حرة طليقة من كل قيد ، وفشل إيدن وفشل موليه ومعهما بن غوريون ، نعم فشلوا في تحطيم الروح المعنوية في شعب مصر أو في تحطيم المقاومة الشعبية في وطني مصر. وانسحب المعتدون من بور سعيد مكرهين في الرابع والعشرين من ديسمبر عام ١٩٥٦.

أيام كلها مجد وذكريات خالدة ، كتبت فيها مصر صفحات رائعة من المجد ، والمجد لمصر ولشعبها الحر الأبي ، وللعرب الأحرار الميامين.

ـ ١٠ ـ

ومن صور نثر الخفاجي هذه القطعة وهي بعنوان «يا وطني».

يا وطني الخالد : لك المجد ولك أمجد صفحات التاريخ.

يا وطني ، يا مصر يا أم الحضارة. ومهد المدنية ، ومعلمة الشعوب ، لك العزة والثناء ، ولك الحرية والفداء ، ولك العظمة والكبرياء.

يا وطني : لقد كتبت اليوم أروع أعمال البطولة في دفاعك المجيد عن بور سعيد ، مما شهد به العالم ، وسجلته الأحداث ، لقد قاتل شعبك المجيد قتال الأبطال من شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل ، فعلمت


البرابرة الغزاة أن أرض مصر حرام على المستعمرين ، وأنها أمنع من العقاب ، ما دام شباب مصر وشيوخها حريصين على أن يفتدوها بالمهج والأرواح.

يا وطني : لقد وقفت خلال عصور التاريخ ضد الغزاة الفاتحين مقاتلا باسلا ، ومحاربا صلبا ، فطردت الهكسوس والفرس واليونان والرومان من أرضك ، وطردت الصليبيين والتتار من ثراك الطاهر ، وأقمت بسواعد أبنائك حضارات مشرقة ، وامبراطوريات مصرية ضخمة انحنى لها التاريخ ، وهتف بذكرها الزمان.

يا وطني : بيد أحمد ورمسيس ، وبيد عمرو بن العاص وصلاح الدين ، وبيبرس وبرقوق ، وعرابي وجمال : رفعت أعرق لواء ، وأمجد راية ، وأرفع شعار للحرية والمجد والعظمة والجلال والقوة.

يا وطني : إن الامبراطورية المصرية في عهد عمرو بن العاص وخلفائه ، ثم عهد المعز وذريته ، ثم في عهد صلاح الدين الأيوبي وسلالته ، ثم في عهد المماليك ، ثم في القرن التاسع عشر : كانت من أعظم الأعمال في التاريخ ، وكانت رمزا وعزة ومنارة للإسلام والمسلمين ، وكهفا تأوي إليه الحضارة والثقافة الإسلامية.

يا وطني الخالد : لقد وقف الإنجليز في القرنين التاسع عشر والعشرين لنهضتك وحريتك ومجدك بالمرصاد ، فقضوا على الأسطول المصري في نافارين ، وقضوا على الجيش المصري وحرموه ثمرة انتصاراته الحربية العظيمة في عهد محمد علي ، ونهبوا امبراطورية مصر بسياسة الخداع والتضليل ، ثم صفوا بقاياها في عهد إسماعيل ، ثم ورثوها في عهد توفيق بعد الاحتلال ، ولكنهم وشرفك وكفاح أبنائك ونضال شعبك الحر


الأبي لن يتمكنوا من هزيمة مصر سياسيا ولا حربيا في عهد الأحرار.

بمجدك وتاريخك ، وبأبطالك وأبنائك ، وبثورة شعبك الأبي ، وبثراك الطاهر ، سنقاوم الغزاة ، وسننتصر على الغزاة ، والنصر لنا بفضل الله ، وبسواعد شعبنا العريق.


لو أن للدين رجالا

الإسلام هو المنهج الذي وضعه الله لهداية البشر كي يصلوا بالسير عليه إلى شرف الدنيا وكرامة الآخرة.

وقد استهدف هذا المنهج أعلى الأهداف وأسمى الغايات .. فمن هذه الأهداف ١ ـ تحرير النفس ٢ ـ تنمية الذات ٣ ـ تكوين أمة ٤ ـ تحقيق السلام.

تحرير النفس :

من الأهداف الأولى للإسلام تقوية الصلة بالله عن طريق الإيمان والصلاة والذكر والشكر والدعاء والعبادة والطاعة. ومتى قويت الصلة بالله تحررت النفس من معوقات التقدم نحو الخير والحق والكمال والجمال .. (١) ويتمثل هذا التحرر فيما يلي :

١ ـ التحرر من الخضوع للطغاة والمستبدين.

٢ ـ والتحرر من الخوف والقلق والاضطراب.

٣ ـ والتحرر من القيم الزائفة ، قيمة الجاه والمال والنسب.

__________________

(١) كلمة للشيخ سيد سابق الداعية الإسلامي.


٤ ـ والتحرر من الهوى والشهوة والمتاع الزائل.

٥ ـ والتحرر من الجهالة والضلالة وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :

«احفظ الله يحفظك .. احفظ الله تجده أمامك .. إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك».

تنمية الذات :

والإسلام يعطي الأهمية القصوى لتنمية الذات وتكوين الشخصية فهي حجر الزاوية في بناء المجتمع القوي الرشيد.

وتنمية الذات ثمرة التربية العقلية وتقوية الإرادة وتزكية النفس.

(أ) فالتربية العقلية قوامها الاستزادة من العلم والحكمة والتطلع إلى المعرفة والثقافة والتفكير في ملكوت السموات والأرض والسياحة في دنيا الله الفسيحة.

وغاية هذه التربية :

تعميق جذور الإيمان وترسيخها حتى يصل الإنسان إلى درجة اليقين عن طريق الحجة والبرهان.

الكشف عن سنن الله في الكون كي يستخدمها في ترقية حياته.

فتح الميادين أمام العقل كي يكشف ويخترع ويبدع ويصل إلى الكمال المنشود.

(ب) وتقوية الإرادة بتعويدها الصبر والثبات واحتمال المشاق واقتحام الصعاب رغبة في الوصول إلى معالي الأمور وتطلعا إلى تحقيق جلائل الأعمال.


وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها».

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

(ج) وتزكية النفس تتم بتخليصها من الهوى وكبت الشهوات الدنيئة وتصفيتها من الرياء والنفاق والأثرة والأنانية والحقد والحسد وغرس العواطف الكريمة والمشاعر النبيلة.

ويحتاج الإنسان كي يصل إلى هذا المستوى الرفيع إلى ما يلي.

١ ـ الأمل والعمل .. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وأن قوما غرتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا ، لو احسنوا الظن لأحسنوا العمل».

٢ ـ اليقظة والحرص على الإصلاح والتقدم والترقي .. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت. كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان».

٣ ـ مجاهدة النفس وتحدي المغريات والمثيرات والوقوف منها كالطود الشامخ أمام العواصف الهوج قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

ومتى تزكت النفس كان الإنسان جديرا بوصف الإنسانية.


تكوين الأمة :

والإسلام يحرص على إيجاد كيان قوي وأمة قادرة تستطيع إحقاق الحق وإبطال الباطل وتأديب الطغاة وتطهير الأرض من الشر والظلم والفساد ، ومن أجل ذلك دعا إلى كل ما من شأنه أن يجمع القلب إلى القلب ويضم الصف إلى الصف حتى يكونوا كما وصفوا في الحديث «كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا» و «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

فدعا إلى التآخي والاتحاد وإلى التعاون والتضامن وإلى المودة والمحبة إلى العطف والرحمة وإلى التضحية والإيثار وإلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإلى الحرية والمساواة وإلى كفالة المحتاج ورعاية المعوز. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).

تحقيق السلام :

والإسلام يعرف أن الناس وأن اتفقوا في بعض النواحي فإن هناك عوامل تفسدهم وتجعل الفرق بينهم بعيدا والبون شاسعا ، فالتربية الفاسدة والتقليد الأعمى والتعصب الذميم والجهل الممقوت ، كل ذلك يمنع كثيرا من الناس من الخضوع للحق والسير وفق منهج الصواب. قال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).

والإسلام وهو يقرر هذه السنة الاجتماعية يجعل السلام هو العلاقة بين المسلمين وغيرهم من المخالفين ما لم يقع ظلم أو اعتداء. «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم».

والسلام إنما يتحقق بإقامة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه والمحافظة على النفس والعرض والمال والجدية والكرامة بالنسبة لكل قرار بغض النظر


عن دينه ولونه وجنسه ولغته ومركزه الاجتماعي.

فالإنسان أهل للتكريم من حيث كونه إنسانا. قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).

مرت جنازة رجل من الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها ، فقالوا : يا رسول الله إنها كافر ، فقال : «أو ليست نفسا؟».

وهكذا يعمل الإسلام على تحرير النفس وتربية الفرد وتكوين الأمة وتحقيق السلام ليأخذ البشر طريقه إلى التقدم الصحيح والكمال المنشود.

قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.

وما أصدق ما قيل : يا له من دين لو أن له رجالا.



الشيخ محمود شلتوت

توفي رحمه الله في ١٠ ديسمبر ١٩٦٣ ففقدت مصر عظيما من عظمائها وعالما تفقه في مختلف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية كان بصيرا بالأحكام الشرعية الملائمة لحاجات الناس ومقتضيات العصر ومفسرا الم بكتاب الله وسنن الكون وعالما اجتماعيا يعرف أمراض المجتمع ووسائل علاجها.

في عام ١٩٢٨ بدأ الشيخ شلتوت ينشر مقالاته في الصحف محاربا الروتين وداعيا إلى إصلاح الأزهر وتطويره حتى عام ١٩٣١ حين تعارضت أراؤه الإصلاحية مع المشرفين على سياسة الأزهر في ذلك الوقت حتى انتهى الأمر إلى فصله وبعد الفصل. لم يهدأ أو ييأس بل تابع نقده ونشر أفكاره واشتغل بالمحاماة والبحوث العلمية خلال أربع سنوات حتى أعيد إلى الأزهر وكيلا لكلية الشريعة ثم مفتشا بالمعاهد الدينية.

ومنذ تولى الشيخ شلتوت أمر الأزهر أعاد النظر في تنظيم المناهج وأدخل الدراسات القانونية في كلية الشريعة لتتم المقارنة بين دراسة الفقه الإسلامي والقوانين المعاصرة وأدخل فقه الشيعة مما كان له أكبر الأثر في التقريب بين جماعات المسلمين في أنحاء العالم.


وتقديرا للشيخ شلتوت منحته جامعة شيلي الدكتوراه الفخرية عام ١٩٥٨ .. كما منحته جامعة جاكارتا الدكتوراه الفخرية عام ١٩٦٠.

وكان المسلمون في يوغوسلافيا واليابان والجزائر وروسيا وألمانيا وإيطاليا قد وجهوا إليه الدعوة لزيارة المسلمين فيها وتفقد أحوالهم.

ولقد أجمع العلماء وأهل الرأي أن التوفيق قد حالف الأزهر عند ما ولي أمره الشيخ شلتوت فوجد فيه مفكرا وعالما من اليقظة الفكرية والدراية العلمية ما يمكنه من القيام بدوره.

قبل أن تصعد روحه إلى بارئها بدقائق .. جلس يتحدث إلى زواره عن الإسراء والمعراج ثم توقف قليلا وتبين للحاضرين أنه يعاني أزمة طارئة وحاول الأطباء انقاذه وسارعوا بأنابيب الأوكسجين ليساعدوه على التنفس ولكن روحه كانت قد صعدت إلى بارئها.


أعلام معاصرون

الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد

رائد مدرسة التحقيق العلمي

بمثل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد جيلا كاملا من الكفاح العلمي الكبير ، حتى ليعد رائدا عظيما لمدرسة التحقيق العلمي ، سار على ضوئه المحققون ، وشراح كتب التراث الإسلامي العربي.

وقد تتلمذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد على جيل الرواد الإسلاميين الكبار ، الذين ازدانت بهم الحياة المصرية في أوائل القرن العشرين ، وكانوا دعامة النهضة العربية والأدبية في العالم العربي كافة.

وقد تخرج الشيخ محمد محيي الدين من الأزهر الشريف عام ١٣٤٧ ه‍ الموافق ١٩٢٥ م يحمل شهادة العالمية أعلى شهاداته العلمية آنذاك ، وكان نجاحه بل تفوقه يومئذ مثار الدهشة ، فقد جاء الأول على أقرانه من فحول العلماء.

وشغل في هذه الحقبة الطويلة الكثير من المناصب العلمية الرفيعة : أستاذا بالأزهر ، فأستاذا بكلية اللغة العربية ، فمفتشا عاما بالمعاهد الدينية ، فوكيلا لكلية اللغة ، فأستاذا بكلية أصول الدين ، فرئيسا لمفتشي العلوم الدينية والعربية بالأزهر ، فعميدا لكلية اللغة العربية ، فعضوا بالمجمع اللغوي ، وعضوا بلجنة الفتوى بالأزهر ، وعضوا في الجلس الأعلى للشئون


الإسلامية ، وفي كثير من الهيئات العلمية ، ولا ننسى أنه اختير عام ١٩٤٠ للسفر للسودان ؛ ليشارك في تأسيس مدرسة الحقوق العليا في الخرطوم ، وقد قام حينذاك بمهمته خير قيام ، وكان مضرب المثل في علو المنزلة وسمو المكانة بين السودانيين والمصريين على السواء.

ومثل الأزهر في كثير من المؤتمرات الثقافية واللغوية والأدبية ، ووجه الثقافة فيه الوجهة الرفيعة العميقة ، التي أثرت في بناء الجيل الحاضر تأثيرا كبيرا.

ويمثل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد أفكارا لغوية ، لها منهجها ودقتها وعمقها ، فهو يرى ضرورة تربية الحس اللغوي ، لينتهي بصاحبه إلى الذوق الأدبي ، ويبدأ بالكلمة لينتهي إلى الأسلوب فالأدب نفسه ، ودور الكلمة في الأدب دور كبير ، وأثرها في بناء العمل الأدبي ضخم وجليل.

والشيخ محمد محيي الدين يقف دائما في مجال الريادة :

فهو أول من فكر في تأليف كتب دينية مزدانة بالمناسب للأطفال ، فألف خمسة أجزاء : اثنين للبنين ، واثنين للبنات ، وكتابا مشتركا ، وقد ذاعت هذه الكتب آنذاك ، حتى كان المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام يذكر أنه شاهد لها ترجمات بالفارسية وبالتركية.

وهو من أول من عنى بكتب التراث وتحقيقها تحقيقا علميا دقيقا ، مما يتجلى لنا فيما حقق من أمهات كتب التراث في الأدب والنقد والبلاغة واللغة والنحو والصرف ، ولذلك يعد بحق شيخ العلماء المحققين.

وهو أشهر شارح ومفسر لكتب القدماء في مختلف فنون العلم ، وقد سهل بذلك على الجيل المعاصر قراءة هذه المصادر ، والإفادة منها والاغتراف من بحرها .. وقد اختارت مؤسسة (بريل) في هولندا نشر شرحه


على : (شرح ابن عقيل) بالحروف البارزة ليقرأه المكفوفون ، ونحن نشكر لها هذا العمل العلمي والإنساني معا.

وإذا عدنا إلى الأعمال العلمية لهذا العالم الجليل من أعلامنا المعاصرين نجدها تنقسم ثلاثة أقسام.

القسم الأول : دراسات أدبية ولغوية وإسلامية ألفها ، وكانت مثلا لرصانة العلماء ، وعمق البحث ، ودقة التأليف ، ومنها :

١ ـ دراسة كبيرة له عن المتنبي ونقد شعره ، نشرها في مجلة الأزهر تباعا ، وتعد من أهم المراجع عن أبي الطيب وشعره.

٢ ـ دراسة عن الفكر الإسلامي عند الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق ، وقد نشرت في مجلة (الكتاب) التي كانت تصدر عن (دار المعارف) عدد : نوفمبر ١٩٤٥ م.

٣ ـ تصريف الأفعال : وهو كتاب مشهور لم يؤلف مثله حقا ، ويعد مكملا لمنهج القدماء في دراسة الأفعال ، وطبع عدة طبعات ، وكان مرجعا علميا للأساتذة والطلبة في كليات اللغة ودار العلوم والآداب.

٤ ـ أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية ـ المعاملات الشرعية ـ الأحوال الشخصية ـ أصول الفقه. وهي كتب أربعة مشهورة ، كانت تدرس في كليات الحقوق وأصول الدين ، وفي مدرسة الحقوق العليا في الخرطوم ، وطبعت عدة طبعات.

القسم الثاني : كتب من أمهات التراث في مختلف العلوم ، حققها عالمنا الجليل تحقيقا علميا دقيقا ، عنى فيها عناية فائقة بتقويم النص ، وضبط مشكله ، وشرح غريبه ، ومنها :

سيرة ابن هشام ـ الموازنة للآمدي ـ يتيمة الدهر للثعالبي ـ العمدة لابن رشيق ـ نفح الطيب للمقري ـ وفيات الأعيان لابن خلكان ـ زهر الآداب


للحصري ـ فوات الوفيات لابن شاكر ـ معاهد التنصيص للعباسي ـ مروج الذهب للمسعودي ـ مقالات الإسلاميين للأشعري ، وغير ذلك مما يضيق المجال عن حصره ، ومما تلقاه قراء العربية في كل مكان بالتقدير والإعجاب ، إذ رأوا فيه طاقة علمية فريدة ، واتخذوا منه عمدة المصادر لجميع طلاب الجامعات في العالم الإسلامي العربي.

القسم الثالث : كتب من التراث شرحها شرحا وافيا ، وذلل صعوباتها للباحثين ، وأضاف إليها الكثير من الدراسات .. ومنها أهم كتب الثقافة العربية : كشرحه للأجرومية الذي خرج بعنوان : (التحفة السنية) ، وظل إلى اليوم يدرس في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي ، وطبع أكثر من خمس وعشرين طبعة. وكشرحه للأزهرية وشرحه على : (شرح قطر الندى لابن هشام) الذي طبعه ثلاث عشرة طبعة. وكشرحه على : (شرح شذور الذهب) لابن هشام. وشرحه على : (شرح ابن عقيل) في أربعة أجزاء كبار ، وطبع خمس عشرة طبعة. وشرحه على : (أوضح المسالك) لابن هشام ، ويقع في أربعة جزءين ضخام ، وطبع نحو عشر طبعات. وشرحه على : (المفصل) للزمخشري ، وهو من أصول اللغة العربية. وشرحه على : (شرح الأشموني على ألفية ابن مالك) ويقع في أربعة أجزاء كبيرة ، وهو يطبع الآن للمرة الثالثة.

وشرحه على كتاب : (الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) في جزأين كبيرين ، ويدرسه المستشرق الفرنسي بلاشير لطلابه بالسوربون ، مؤثرا لهذه الطبعة على الطبعة الأوروبية.

وكشرحه على : (متن التلخيص في البلاغة) وطبع عدة طبعات.

وقد تتلمذت على عالمنا الجليل أجيال عديدة من الشباب ، وفي مقدمتهم أساتذة وعمداء كثير من الكليات الدينية واللغوية والأدبية في مصر والسودان والعالم العربي ، ومنهم جمهرة من كبار رجالات الدولة في العالم


العربي .. وما أكثر تلاميذه في الشرق والغرب ، وجميع المستشرقين في العالم يولون بحوثه وتحقيقاته عناية فائقة ، واهتماما كبيرا.

وقد توفي ـ رحمه الله ـ في شهر المحرم سنة ١٣٩٣ ه‍ الموافق مارس ١٩٧٣ عن نيف وسبعين عاما .. أجزل الله له الثواب كفاء ما قدم لدينه ولغة كتابه الحكيم ولتراث العربية وآدابها من جهود خالدة على مرور الأيام.



الشيخ عبد السميع شبانة

أحد علماء الأزهر الذين شاركوا في تحقيق رسالته والنهوض بطلابه ، تخرج على يديه الآف العلماء من أبناء العالم الإسلامي.

كان ـ رحمه الله ـ يعطي جهده كله لخدمة العلم والعلماء. كان بيته منتدى يجتمع فيه طلاب العلم من كل جنس لينهلوا من فيض علمه الغزير .. يستوضحونه ما أبهم عليهم وينتفعون بما يدور في مجلسه من مسائل علمية سواء ما يتصل منها بالعلوم الدينية أو العربية ..

فلم يكن ـ رحمه الله ـ يقف عند حدود تخصصه في النحو أو الصرف بل جاوز ذلك إلى العلوم الشرعية فكان حجة فيها يأتي إليه الناس يستفتونه في أنور دينهم فيرشدهم إلى الحق والهدى .. كان فقيها في علم المواريث وقد صدرت له الآف الفتاوى التي كانت تستند عليها المجالس العرفية في حل المنازعات بين الأسر والأفراد.

ولد رحمه الله في ١٢ يناير سنة ١٩٠٣ في بلدة فرسيس من محافظة الشرقية .. وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم ، ألحقه والده بالأزهر الشريف والمساجد المحيطة به حتى حصل على الشهادة العالمية ونال إجازة التخصص القديم التي تعادل درجة الدكتوراه سنة ١٩٣٢.


بدأ دوره في الدعوة إلى الله وتبصير الناس بأمور دينهم بعد أن عين أستاذا في معهد الزقازيق فكان يتنقل بين قرى محافظة الشرقية ومدنها يخطب في الناس ويبين لهم الحق من الباطل فلم يكن يمضي أسبوع من غير أن يشترك في ندوة دينية أو يلقي عظاته التي كان يقبل الناس عليها.

وفي الوقت نفسه كان أحرص ما يكون على أهل بلدته فكان يعقد لهم مجالس العلم ويساعد أبناءهم في دراستهم حتى عرفت قريته (فرسيس) بأنها بلد العلم حيث كان أبناؤها يعرفون مسائل الدين وكل ما يتصل بالعبادات والمعاملات بسبب تعليم الشيخ لهم .. وكان يتخرج من الأزهر منها في كل عام أكثر من ثلاثين عالما وهي القرية الصغيرة التي لا يتجاوز تعدادها في هذا الوقت ألفي نسمة ..

واختارته مشيخة الأزهر للتدريس في كلية اللغة العربية سنة ١٩٣٩ لمكانته العلمية.

ألف الكتب الكثيرة في النحو والصرف وقد أعيد طبعها مرات كثيرة وأسهم في تطوير كلية اللغة العربية وأحدث تغييرا شاملا في دراسة النحو والصرف بها مما كان له أثره النافع على المتخرجين منها.

وبقي رحمه الله مشرفا على قسم اللغويات بكلية اللغة العربية رافضا كل المناصب التي يتهافت عليها الجميه ، حتى توفى رحمه الله في ٢١ مايو سنة ١٩٦٨ .. ففقد العالم الإسلامي بموته عالما ورعا ..


الشيخ محمد الطنطاوي

منذ خمسة عشر عاما أخرج الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه المشهور «نشأة النحو» ، الذي كان له أثره في نفسي وعقلي بل عند علماء العربية وثقاتها جميعا. وأشهد أني فرحت بالكتاب فرحا كبيرا ظهر فيما كتبته عن الكتاب من نقد آنذاك ، ولست أدري رأي النقاد فيما كتبته ، ولكنه كان وجهة نظري يفي هذا السفر النفيس حقه ، ومما جاء في هذه الكلمة :

«لمنزلة النحو من الدين والعربية ، ومن التراث الإسلامي العظيم ، ومن لغة الشرق ولسانه ، ولتجديد النشاط العلمي في مدارس النحو الحديثة ، ولأداء واجب كبير لعلماء العربية الراحلين وشيوخها السالفين الأمجاد ، وحرصا على خدمة اللغة وطلابها .. لهذا كله ألف الأستاذ الجليل محمد الطنطاوي رسالته : نشأة النحو فجأت سفرا جليلا وأثرا خطيرا في الناحية التاريخية لعلم قواعد العربية.

ومما يجعل لهذا السفر الحافل مكانة عظيمة بين كتب العربية ومؤلفاتها أنه الحلقة المفقودة لكتب طبقات النحاة التي ألف فيها العلماء من قرون ، وأنه أثر فريد في بابه ونوعه ، فلم يظهر في مدارس النحو الحديثة في مصر


والشرق العربي كتاب قبله في النواحي التاريخية لمدارس العربية ورجالها ومؤلفاتها في القديم والحديث ..

وقد كتب الأستاذ فصول كتابه بلغة جمعت بين بلاغة الآداء وجمال الأسلوب وجزالة التراكيب ، والنقد التحليلي التاريخي لأطوار علم العربية ومذاهبه ومدارسه ورجالاته ، وفي الكتاب فصول عظيمة الأهمية في أسباب تدوين القواعد العربية ، وعن الرجل الذي ذهب بشرف وضعها وتدوينها ، وعن نشأة النحو وأطواره في مراحله المختلفة ، وعن حياة شيخ العربية الأول أبي الأسود الدؤلي ، وعن مدرسة النحو الأولى بالبصرة ، ورجالها ، ومدرسة الكوفة التي نشأت بعد ذلك ورجالها ، ويبين المؤلف نزعات مذهبي النحو بالبصرة والكوفة ، والمناظرات التي قامت بين رجالهما ، ويحلل أسباب الخلاف بين مدرسة البصرة والكوفة ، والبواعث التي دعت إلى نسوء كل مدرسة واستقلالها ، والعناصر التي بنيت عليها ، والاتجاهات التي اتجهت إليها والمسائل العلمية التي اختلفت فيها ، وآثار هذا الخلاف العلمي ، ويعقد الموازنات بينهما .. ثم يتكلم عن مدارس النحو التي قامت ببغداد وفارس ومصر والشام والأندلس ، ومنهج كل مدرسة وعلمائها وآثارها .. كل هذا في أسلوب قوي دقيق وبحث علمي عميق.

والكتاب وهو يعرض علينا النحو من أول نشأته إلى العصر الحديث يمتاز عن كتب الطبقات القديمة بسعة البحث وكثرة التفصيل ، ودراسة مدارس النحو القديمة دراسة مستفيضة ، ويمتاز عن كتب المستشرقين بنفوذ مؤلفه إلى أعماق العربية وأسرارها ووقوفه على أطوارها».

ولم يكن كتاب «نشأة النحو» هو الصلة الفكرية بيننا وبين الشيخ ، ولكنه كثيرا ما جلسنا في دروسه ومحاضراته في كلية اللغة معجبين نتلقف طرائفه ، ويسحرنا بشمائله وتواضعه وعلمه ، بل كان لي كذلك حظ التلمذة عليه منذ أكثر من ربع قرن ، وكان يدرس لنا علوم البلاغة في الفرقة الثالثة


من القسم الابتدائي ، وكان له كتاب ألفه في هذا المجال ، وسماه «نفحة الريحان في علم البيان» ، وكان الكتاب يحوي مباحث كثيرة دقيقة ، ولكنه لم ينح فيه هذا المنحى التجديدي الممتع الذي لمسناه فيما بعد في «نشأة النحو».

وللشيخ الطنطاوي عدا ذلك كتابه «تصريف الأسماء» ، الذي أشهد أنه يجب دراسته في أقسام الدراسات العليا لا في الفصول الدراسية في الكلية نفسها .. وله كذلك مقالات كان ينشرها في مجلة «رسالة الإسلام» التي تصدرها دار التقريب ، والتي لا يطلع عليها أحد ، وما كان أجدره أن ينشر هذه المقالات في كتاب ليتسنى للناس أن يقفوا على علم الرجل وسعة إطلاعه ..

أما حياة الشيخ فبسيطة بساطة نفسه وأخلاقه ، ولكنها حياة كبيرة بمغزاها وأثرها ..

ولد الشيخ في ٧ سبتمبر ١٨٩٥ ببلدة أكوة الحضة مركز تلا منوفية من أسرة متدينة محافظة تعيش في الريف عيشة الهدوء والاستقامة ، ومهد له والده السبيل إلى التعليم الديني ، فأدخله مكتب القرية لحفظ القرآن الكريم ، وحفظ كتاب الله ، وأخذ يتلقى تجويده على يد فقيه من فقهاء القرية ، ثم بعث به والده إلى الجامع الأحمدي في طنطا عام ١٣٢٧ ه‍ ١٩٠٩ في أول عهده بالنظام ، فانتسب إلى الشعبة الأولى على مذهب الإمام مالك ، واستمر في التعليم يحوطه التوفيق حتى نال الابتدائية عام ١٣٣١ ه‍ ـ ١٩١٣ م ، ثم تزوج إتباعا لسنة الريف في الحرص على الزواج المبكر ، واستمر يوالي كفاحه العلمي حتى كان في طليعة الناجحين في الشهادة الثانوية عام ١٣٣٥ ه‍ ـ ١٩١٧. وفي القسم العالي بسنواته الأربع دأب في التحصيل ، وجد في الإطلاع. وثابر على الدراسة حتى فاز في النهاية بنيل شهادة العالمية النظامية عام ١٣٤٢ ، ١٩٢٣ م. ثم أنشيء قسم التخصص


وافتتح في يناير ١٩٢٤ ، فتقدم إليه والتحق بشعبة «النحو والصرف والوضع» واجتاز مراحله الثلاث بتفوق ، وفي السنة الأخيرة حازت رسالته في الإعلال تقدير أساتذته ولجنة الامتحان كذلك.

ولما عقد الشيخ المراغي عام ١٩٢٨ لسابقة بين خريجي التخصص للتعيين في وظائف التدريس بالأزهر ومعاهده كان حظ الشيخ فيها حظا طيبا ، فعين مدرسا في معهد الزقازيق الديني في اليوم السابع والعشرين من ربيع الثاني عام ١٣٤٧ ه‍ ، ١١ أكتوبر ١٩٢٨ ، وبعد قليل توفى والده يوم الثلاثاء ١٩ رجب ١٢٤٧ ه‍ ـ ٢١ ديسمبر ١٩٢٨ ، ولكنه مات وهو قرير العين بابنه الشيخ المدرس في الأزهر الشريف ، ومكث أربع سنوات في معهد الزقازيق كان فيها محل تقدير شيوخ المعهد وأساتذته وطلابه ومفتشي الأزهر الشريف ، ومن ثم انتقل منها إلى كلية اللغة العربية عام ١٩٣٣ مدرسا ، وظل فيها إلى أن توفاه الله إلى رحمته عام ١٩٥٥.


الشيخ عبد الجليل عيسى

من جديد ، وبعد مرور خمسة وسبعين عاما ، على وفاة الإمام محمد عبده ، طيب الله ثراه ؛ تنتفض هذه المدرسة العجيبة ، مدرسة الإمام محمد عبده عن رائد من أعلامها ، يتلقى من يدي الرئيس محمد أنور السادات ، في عيد الثقافة ، جائزة الدولة التقديرية ، إكبارا وتقديرا من الدولة لعلمه ، ولما أسداه فكره إلى جيلنا المعاصر من آثار جليلة.

إن تفسيره الشيخ عبد الجليل عيسى للقرآن الكريم يسير على منهج الأستاذ الإمام ، من موضوعية ونفاذ بصيرة ، وعقلية أصيلة تزن كل شيء ، وتحكم في عمق على الآثار والمرويات والمأثورات.

وكتابه «اجتهاد الرسول» يحمل طابع الإمام العقلي في كتابه المشهور «رسالة التوحيد» ، فهو قبس من جذوة الفكر العلمي ، التي أنار بها الإمام محمد عبده الطريق لجيله ، وللأجيال التي خلفته.

والشيخ عبد الجليل عيسى هذا الأزهري النابغة ، عاش حياته نضالا ورأيا وعملا ، من أجل أن يكون للعالم صوت في مجتمعه ، وعمل دائب في خدمة وطنه ، وجهاد متصل من أجل كلمة الحق تقال في كل وقت وكل مكان ..


وانتماؤه العربي والإسلامي عزز في نفسه الشعور بأصالة تراثنا ، وبعظمة الماضي وجلاله ، ويمجد الأزهر العلمي العريق ؛ وكانت هذه الانتماءات كلها هي مكونات شخصيته.

وفي ظل ما يقرب من قرن كامل عاشه ويعيشه عالمنا الجليل ، كانت الأحداث الكبرى في تاريخ وطننا ، التي شارك فيها الشيخ بقلمه وروحه ونضاله.

توفى رحمه الله عام ١٩٨١.

كان أحد علماء الأزهر الذين وقفوا على أسرار الشريعة الإسلامية ، وملكوا ناصية اللغة العربية والبيان في العصر الحديث ـ عرفته شيخا لمعهد شبين الكوم الديني الذي أنشيء في عهد الإمام المراغي ـ رحمه الله ـ وقد اختاره أول شيخ له ، لأنه كان موضع ثقته ، وأحد تلاميذه المقربين إليه وكان للشيخ عبد الجليل في قلوبنا مكانة كبيرة من التقدير والاحترام والحب والاعزاز ، لأنه وضع نصب عينيه النهوض بهذا المعهد الديني ، ولأنه كان له مزيد من الهيبة والسطوة ، ولحرصه الشديد على مصلحتنا ، وظهورنا بمظهر الطالب الأزهري المثالي الذي يحرص على عزته وكرامته ، وفي سبيل ذلك كان لا يسمح لأحد بدخول المعهد إلا إذا كان يلبس الزي الأزهري كاملا ، وإذا نمى إليه أن أحدنا لا يظهر في الخارج بصورة سلوكية مشرفة ، قام بفصله من المعهد مدة ولا يسمح له بالحضور إلا بعد تعهد من ولى أمره بضمان سلوكه واستقامته ، وذلك بعد أن يتحرى الأمر ، وقد انعكس علينا هذا جدا واستقامة ، وتفوقا في العلم واخلاق.

والشيخ عبد الجليل من الرعيل الأزهري الأول الذي اشترك في المظاهرات وقاد مع زعماء الأزهر ثورة ١٩١٩ ضد الانجليز وكان يحدثنا بذلك فخورا ، لينقل إلينا شرارة الوطنية ـ وكان معروفا عنه أنه أشد تلاميذ


المراغي إخلاصا ، حيث ترسم خطاه في ميادين إصلاح الأزهر وتطويره تطويرا يساير سمة العصر العلمية ، مع الاحتفاظ بعناصر التراث الأصيل للأزهر وكان للشيخ قلم موهوب في كتابة الموضوعات المتعددة ..



الشيخ سعاد جلال

توفي رحمه الله في يونيو عام ١٩٨٣ ، وكان علما من أعلام الشريعة الإسلامية وأستاذا جليلا في كلية الشريعة الإسلامية.

قال عنه زميله الدكتور الشيخ عبد الجليل شلبي :

عرفت «الشيخ محمد سعاد جلال» منذ أكثر من نصف قرن عرفته أول ما جئت إلى القاهرة طالبا في كلية اللغة العربية سنة ١٩٣٧ ، وكان هو في السنة الثالثة في كلية الشريعة وكانت الكليتان في مبنى واحد ، فتعارفنا بلحظة ، وتآلفنا في لحظة ، ثم مضت الأيام تزيد مودتنا قوة ، وتكسو تآلفنا إخاء وإعزازا.

والتحق الشيخ سعاد عقب تخرجه بتخصص المادة ، ليدرس الفقه الإسلامي وأصوله ، وكان هذا التخصص يستغرق نحو سبعة أعوام ، وكان طلابه يختلفون في درجاتهم العقلية ويتباينون فيما يحصلون من علمه تباينا واسعا ، فقد كان الأزهر حديث عهد بالدراسات العليا ، وكانت دراسته تقوم على درس الكتاب لا على درس الموضوع ، وقليلون من أبناء هذا القسم بنوا أنفسهم بأنفسهم وكما كان يقول المرحوم أحمد أمين : إن من ينبغ من أبناء الأزهر لم ينبغ بمنهجه وتوجيهه ولكن نبغ على الرغم من منهجه


وتوجيهه ، وكان الشيخ سعاد من هؤلاء.

وعدا الناحية العلمية ، أو لعله بسببها ، كان نزوعا إلى الخير ونفع الناس بما لديه ، وكانت موهبته الخطابية مما يساعده على بث علمه وإذاعة أفكاره وهي أيضا مما هيأ نمو مدرسته وكثرة تلاميذه ، كان وهو لا يزال في هذا التخصص يخطب يوم الجمعة في مسجد الخازنداره بشبرا وذهب وزير الأوقاف يومئذ ليصلي في هذا المسجد ، وربما جذبه إليه اسم الشيخ سعاد ، فأعجبه حديثه فقرر له علاوة استثنائية تقديرا لكفائته وعلمه ، وبعد أن أنهى الشيخ دراسته كان يخطب ثانيا في مسجد المحكمة بمصر الجديدة ثم المسجد قاهر التتار فمسجد عمر مكرم بالقاهرة وكان يتطوع بإلقاء الدروس الدينية فيها ، فكان له بها مدرسة ثانية ، بعد مدرسته في كلية الشريعة.

وكان من لباقته في دروسه أنه يوازن بين قانون الشريعة والقوانين الوضعية ، ويوازن بين مجتمعاتنا والمجتمع الإسلامي في حذق وحسن تصوير ، وهو مع هذا يتحاشى الاحتكاك بتيارات السياسة ، ولكن كانت تلميحاته أبلغ من تصريحات الآخرين ، وكان تلاميذه في كلية الشريعة يحبون درسه ويقدرون تفكيره ، وهم الآن في شتى المعاهد والمدارس داخل القطر وخارجه يشعرون بدينهم له.

ثم انضم إلى هاتين المدرستين حديثه «قرآن وسنة» ، وبه أضاف إلى تلاميذه تلاميذ لا يعرفهم ولم يروه ، ولكنهم أحبوه على البعد ، وعرفوه من غير أن يلقوه.

ومات الشيخ سعاد جلال ، فشيعت جنازته في غير حشد ، ففي ذمة الله وذمة التاريخ.


الدكتور أحمد الشرباصي

من مواليد بلدة البجلات مركز دكرنس ، مديرية الدقهلية ، وتاريخ ميلاده ١٧ نوفمبر سنة ١٩١٨. تخرج من كلية اللغة العربية سنة ١٩٤٣ ، وكان ترتيبه «الأول» بين المتخرجين كما كان «الأول» بين زملائه في سنوات الدراسة بالكلية.

نال شهادة العالمية والتخصص في التدريس سنة ١٩٤٥ ، وكان ترتيبه «الأول» بين الحاصلين على هذه الشهادة.

كانت هذه أول مرة يجمع فيها متخرج بين «الأولية» في الشهادة العالية و «الأولية» في التخصص.

اشتغل مدرسا في وزارة المعارف مدة ، ثم نقل مدرسا في معهد الزقازيق ، فمعهد القاهرة فمعهد سوهاج ، فمعهد القاهرة. واختير أمينا للجنة الفتوى بالأزهر.

ألف ما يزيد على العشرين كتابا في مباحث الدين والتاريخ والأدب والاجتماع ، ومن هذه الكتب : حركة الكشف ، محاولة ، بين صديقين ، سيرة السيدة زينب. واجب الشاب العربي ، المحفوظات الأزهرية ، لمحات عن أبي بكر ، محاضرات الثلاثاء ، صلوات على الشاطىء ، أمين


الأمة أبو عبيدة ، عائد من الباكستان ، مذكرات واعظ أسير ، النيل في ضوء القرآن من أجل فلسطين ، في رحاب الصوفية ، غربة الإسلام ، أيام الكويت ، القصاص في الإسلام ، في عالم المكفوفين ، الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز.

أذاع سلسلة أحاديث في الراديو عن الدين وصلته بالحياة ، كان يقصد فيها دائما إلى تزكية المجتمع بالمبادىء الدينية الفعالة في إصلاح الحياة والأحياء. ومن هذه الأحاديث سلسلة «الإسلام والشباب» وسلسلة «آداب المجتمع في الإسلام» وسلسلة «الإسلام ومنهج الاستقامة» وسلسلة «آدب السنة في بناء الأسرة».

اشترك ببحوثه ومناقشاته وآرائه في مؤتمرات كثيرة ، مثل : مؤتمر الشعوب الإسلامية بالباكستان ، ومؤتمر العلماء بالباكستان ، والمؤتمر الإسلامي بالقدس ، ومؤتمر الخريجين العرب بالقدس ، والمؤتمر الرياضي بالقاهرة. ونظم عدة مؤتمرات إسلامية واجتماعية وقومية في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين.

نال دبلوم الدراسات اللغوية والأدبية من معهد الدراسات العربية العليا سنة ١٩٥٥ ، وكان ترتيبه «الأول». وكان مجموع درجاته أكبر من أي مجموع في جميع شعب المعهد المذكور.

يعرف اللغة الانجليزية ، وتقدم أكثر من مرة قبل قيام الثورة في مصر لبعثة خارجية علمية ، وحيل بينه وبين ذلك بسبب خطبه ومقالاته التي كان يقاوم فيها الفساد الماضي والطغيان البائد.

دعا منذ عشرين عاما إلى إدخال نظام الكشافة في الأزهر ، وألف في ذلك كتابا ، وخطب وكتب عن ذلك مرارا ، كما دعا حينئذ وبعد ذلك إلى نشر التربية الرياضية في الأزهر والمعاهد.


ألقى سلسلة من المحاضرات في عدة مواسم دراسية على مبعوثي البلاد العربية إلى «المركز النموذجي لتوجيه المكفوفين بالزيتون» ، وهؤلاء المبعوثون يأتون للتخصص في شئون المكفوفين وتوجيههم ، وألف كتابه «في عالم المكفوفين» الذي نال جائزة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية سنة ١٩٥٦.

رحل رحلات علمية واجتماعية وإسلامية إلى : فلسطين والأردن ، ولبنان ، وسوريا ، والكويت ، والباكستان ، واليونان ، وتركيا ، وله بحوث ودراسات عن هذه البلاد ، وتكررت رحلاته إلى أكثر هذه البلاد.

كان مبعوثا علميا للأزهر الشريف في الكويت عام ١٩٥٢ ـ ١٩٥٣. وألف كتابا عن الكويت وشئونها المختلفة في قرابة خمسمائة صفحة.

اختير لألقاء محاضرات عن الشريعة الإسلامية على طلبة معهد الخدمة الاجتماعية في مستوى جامعي منذ أول سنة ١٩٥٧ الدراسية.

قام بمهمة الرائد العام لجمعيات الشبان المسلمين منذ عهد بعيد ، وكان ينظم محاضرات : «أحاديث الاثنين» ومحاضرات «مواسم التفسير» ، كما يشارك بمحاضراته وكلماته في أعمال الشبان المسلمين المختلفة ، وينشر بحوثا في مجلتها منذ سنوات ، وله محاضرات في جمعيات كثيرة إسلامية واجتماعية وقومية ورياضية ، وهو عضو في كثير من هذه الجمعيات.

أسندت إليه أمانة الفتوى في الأزهر الشريف بالإضافة إلى عمله في التدريس بالأزهر.

دعاه رئيس الجمهورية أكثر من مرة للخطابة في الأزهر الشريف في مناسبات تاريخية مشهورة ، مثل يوم معركة القتال ، ويوم الوحدة بين مصر وسوريا ، ويوم الجمعة الأخيرة من رمضان ويوم عيد الفطر ، وغيرها.


كلفته رياسة الجمهورية عن طريق الاتحاد القومي برحلة إلى سورية قبيل إعلان الاستفتاء على الوحدة بين مصر وسورية في مطلع سنة ١٩٥٨ ، وألقى هناك عشرات الخطب والمحاضرات في مختلف المدن السورية حثا على الوحدة وتعريفا بالعروبة والإسلام.

دعاه الرئيس شكري القوتلي إلى إلقاء خطبة تاريخية في المسجد الأموي بدمشق يوم الاستفتاء على الوحدة. وقد أذيعت هذه الخطبة بالراديو ، ثم نشرت ونوهت بها الصحف كثيرا.

اختارته وزارة الشئون الاجتماعية والعمل سنة ١٩٥٥ عضوا في اللجنة التي وضعت مناهج الدراسة لقسم الدراسات الاجتماعية لطلبة الكليات الأزهرية.

منذ سنة ١٩٤٠ وهو يقوم بالخطابة الدينية المصطبغة بالصبغة الاجتماعية ، وقد تنقل بين مسجد المنيرة ، ومسجد الشامية ، والجامع الأزهر ، ومسجد الرفاعي ، وغيره من المساجد.

ألف جملة مسرحيات إسلامية وتاريخية ، مثل أكثرها على مسارح : جمعية الشبان المسلمين ، ودار الأوبرا ، وحديقة الأزبكية ، والغرفة التجارية ، وغيرها.

اشترك في موضوع فيلم «خالد بن الوليد» بوضع المعلومات التاريخية والحوار وشارك في السيناريو.

كتب وخطب كثيرا في الدعوة إلى التقريب بين الدين والفن وشعاره هو : إذا تدين رجل الفن وتفنن رجل الدين التقيا في منتصف الطريق لخدمة العقيدة الإسلامية السليمة والفن القويم».

اختارته إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة في اكتوبر سنة ١٩٥٨ ليكون رائدا لبعثة الضباط الأندونيسية المركونة من قادة التربية الروحية التي


قدمت لدراسة الشئون الإسلامية والروحية والأخلاقية للانتفاع بها في تعبئة الروح المعنوية بالجيش الأندونيسي.

وكانت له صلاته المستمرة بالقضايا العامة للبلاد العربية والإسلامية.

كتب كثيرا في إصلاح الأزهر لأداء رسالته الكبرى في مصر والعالم الإسلامي.

وكانت كتاباته ومحاضراته ـ فوق اتجاهها الاسلامي والعربي ـ وقد حصل على الدكتوراه في الأدب والنقد من كلية اللغة العربية عام ١٩٦٧ تتّسم دائما بالنزعة الإنسانية.

توفي إلى رحمة الله عام ١٩٨٠.

كتب إليّ عام ١٩٥٨ من دمشق يقول :

أخي البحاثة الدءوب الأستاذ الجليل محمد عبد المنعم خفاجي :

سلام الله عليك ورحمته وبركاته. أكتب لك هذه الرسالة من دمشق الفيحاء بعد أن قضيت أسبوعا في هذا الشطر الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة ، وقد جلنا في أنحاء هذا الإقليم الكريم فزرنا طرطوس وقدموس واللاذقية وحلب وحماة ومعرة النعمان (بلد أبي العلاء) وحمص وغيرها ، وألقيت في كل بلدة من هذه البلاد أكثر من خطب عن الوحدة والعروبة والإسلام ومقومات هذه الأمة المؤمنة ، وقد سعدنا في اليوم التالي لوصولنا بمقابلة الرجل العظيم الرئيس شكري القوتلي ، وخطبت أمامه ، وأهديت إليه نسخة من كتابي «الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز» لأنه كان مصري المولد وتولى الخلافة في الشام وجمع في خلافته بين مصر وسوريا وغيرهما من بلاد العروبة والإسلام.

وقد تفضل الرجل المجاهد فتقبل الهدية وعلق عليها بأنها أحسن هدية يتلقاها لأنها تذكرة بالزهد والورع والعدالة ... ثم رد على خطبتي بخطبة


جليلة قيدنا خلاصتها ، وكان ذلك كله في القصر الجمهوري السوري. وقد طلب مني أثناء خطبته أن ألقي خطبة الجمعة يوم الاستفتاء ٢١ فبراير ١٩٥٨ في المسجد الأموي الجليل لكي تذاع بالمذياع وليسمعها ألوف المصلين بالمسجد ، وقد استحببت لذلك ، وجعلت خطبتي دائرة حول معاني الوحدة وثمرات الاتحاد ، وقد ذكرت فيها أيضا عمر بن عبد العزيز وضربت بعض الأمثلة من حياته ، وكان لها والحمد لله أثر طيب حميد كما ذكر لي الناس هنا وهناك.

دمشق الآن يا أخي في بحر لجى من الفرح والسرور والبهجة .. المظاهرات في كل مكان ، الهتاف يملأ الآذان .. الرجال والنساء ، الشيوخ والشباب ، الطلاب والطالبات .. الجميع يصفقون ويهتفون ..

إنك لا تستطيع أن تفرق مبلغ هذا الشعور الجارف الفياض إلا إذا رأيته بعينيك ...

إننا الآن بين أشقائنا وأحبائنا ، وفي بلادنا ... البلد واحد ، والقائد واحد ، والوجهة واحدة ... نصر الله كلمة الأمة ، وأعز بها شأن الحق والعدل ، وثبتها في طريق اليقين والإيمان ...

تحياتي لك ولأهلك ولكل أحبائك ، وإلى لقاء قريب ، وسلام الله عليك ورحمته.

دمشق في ٢٢ / ٢ / ١٩٥٨

أحمد الشرباصي

وكتب عنه صديقه محمد رجب البيومي يقول :

أصدر للأستاذ أحمد الشرباصي كتابه القيم : «في عالم الملفوفين» ...


والكتاب كما يراه كثير من الناقدين مجهودا علميا إنسانيا ، فلا غرابة إذا أخذ نصيبه من ثناء المنصفين!! ... ويقول زميله د. رجب البيومي عنه :

رجعت بذاكرتي إلى الوراء ، أيام كنت طالبا بالنسة الأولى بمعهد دمياط الديني ، وقد سبقني في التخرج فيه زميلي أحمد الشرباصي ، تاركا خلفه ثناء مستطابا ، تفيض به ألسنة المدرسين في المعهد ، وآراء الأدباء ، خارج الدراسة ، من أندية السمر ، ونزهات الراحة ، ودهشت كثيرا حين علمت أن الطالب المتخرج في المعهد الابتدائي قد أصدر كتابا أدبيا في موضوع توجيهي تحت عنوان : «حركة الكشف» ، ولم يكن الكتاب مقالات متناثرة في موضوعات متفرقة ، تزدحم بها الأساليب الإنشائية والخيالات البعيدة. كما نلاحظ دائما في إنتاج الشداة من الناشئين ، والطامحين من المراهقين ؛ ولكنه كان كتابا هادفا يسعى إلى غرض ، ويدور حول فكرة ، فاجتمعت له الأصالة والجدة مع التوجيه الدافع ، والحرص الغيور ، ..

وقد انتقل الإعجاب بهذا الكتاب إلى الدوائر الأدبية في القاهرة ، فأفردت له مجلة الرسالة (عدد ١٠ يناير سنة ١٩٣٨) صفحة خاصة تحدث فيها الأستاذ محمد سعيد العريان عن الكتاب وصاحبه ، فقال فيما قال :

«ها هو ذا أزهري فتي يضرب المثل لإخوانه الأزهريين في الفتوة الرحيمة ، التي تعمل للإنسانية ... يا له من فتى متمرد ؛ لا ... لا تسموه متمردا ، إنه يعرف ما عليه من تبعات الرجولة في غد ، فأعد للغد عدته ، فلا عليه إن كان هو وحده الفتى الكشاف من الأزهر الكبير وروافده .. إني لفخور به»!! ...

وأخذنا حينئذ نطالع مقالات أسبوعية يفاجئنا بها الشرباصي في مجلات مختلفة ، وكان عجيبا أن تصدر «السياسة الاسبوعية» (في ٩ يوليو


سنة ١٩٣٩) عددا خاصا عن ذكرى الإمام محمد عبده ، يتحدث به منصور فهمي وجاد المولى وأمين الخولي ومحرم والجارم وغيرهم من أدباء الصف الأول ، ثم يكون للفتى الناشىء بهذا العدد مقالان اثنان لا مقال واحد (ص ١٨ ، وص ٣٠).

شيء رائع حقا ، ونشاط حميد مشكور دفع بالأستاذ فليكس فارس ـ وهو يومئذ في طليعة كتاب الرسالة الشيوخ ـ أن يسجل تقديره في تقريظ مشجع يقول فيه (الرسالة ، عدد ٦ فبراير سنة ١٩٣٩) :

«إن المؤلف يذهب في محاولته ذهاب من رسخت عقيدته متعالية عن تردد المحاولين ، وإن العبقرية العربية تنتبه في هذا الجيل الذي سيقدم ليحل محلنا على الذروة نحن النازلين منها إلى الأغوار. لقد ولدت اقلامنا أقلاما خيرا منها».

وثناء فواح كهذا الثناء تعبق به مجلة الرسالة الارستقراطية جدير بالتقدير والاعتبار ...

مضت الأيام والشرباصي لا يني عن رسالته الأدبية ، بل يزاحم الأدباء إنتاجا وتأليفا على طراءة العمر ولدونة اليفاع ، وكان لا بد لهذا النشاط المتوثب أن يخرج للناس كتابا ثالثا تحت عنوان : «بين صديقين» ؛ وكان لا بد لجمهرة المنصفين من الأدباء أن يسابقوا إلى تكريمه وتشجيعه ، فهيأت جمعية الشبان المسلمين ساحتها مساء الأربعاء ٢٨ نوفمبر سنة ١٩٤٠ م لحفلة تكريمية ساهرة خطب بها كبار الأساتذة ونوابغ الأدباء ، وقد أظهر الوفاء دلائله الصادقة في نفوس كريمة تحتفل بالنشاط الدائب ، وتبارك الجهد الموصول ؛ وأنت تدرك كفاح الكاتب الناشىء حين تسمع زميله الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف يتحدث عنه ، فيقول (١) :

__________________

(١) كتاب تكريم الشباب ، ص ٢٣.


«لقد كنت أتلقى بريد الرسالة فأجد الشرباصي في اليوم الواحد كاتبا في (المكشوف) اللبنانية و (الحديث) الحلبية و (التفيض) العراقية و (المجلة) الدمشقية»!! ... وهذه الحقيقة المائلة تنطق بنشاط حافل ، تمده الموهبة ، وينمية الإطلاع!! ..

وقد آثرت أن أستشهد بالنصوص ليعلم هذا المبتسم عن ريبة واتهام أنني لا أبارك وحدي جهود أديب طامح ، فإذا كان لا بد من الابتسام فليوجه إلى جميع من يستمعون القول فيحبون أحسنه ، ويهتفون بقائله : مرحى مرحى فقد سلكت الطريق!! ...

وإذا كان لنا أن نحكم على إنتاج الكاتب ، فإننا نلاحظ أنه من مبدأ أمره قد احتفل بالأدب العربي دراسة وتحليلا ، فقرأ وحفظ وناقش ، وأعد نفسه ليكون أستاذا في الأدب العربي وحده ، فهو غاية يهدف إليها ، ولم يدر أن الأيام ستجعل هذه الغاية وسيلة إلى هدف أسمى ومطلب أحب ، تلك هي الدعاية للإسلام ونصرة الحق الصريح! ..

لقد أكب الشرباصي على دراسة الأدب في مختلف عصوره ، فأفاد إفادة غزيرة ، ولا زالت أبحاثه الأدبية ترتفع إلى قمة عالية. وقد قرأت له سلسلة عن «الخطابة في الأندلس» بمجلة الأزهر ، فشاهدت من أصالة الرأي وبراعة الاستنتاج وطرافة النقاش ما أعجب وأمتع ؛ بل أذكر أن أحد أساتذة العراق المرموقين قد كتب مؤلفا تحت عنوان : «بعث الشعر الجاهلي» فانبرى الشرباصي لنقضه في مجلة المقتطف ، وأبدى من غزارة المادة وقوة العارضة ما جعل الدكتور المؤلف في حرج وضيق ، ولو تفرغ أحمد للأدب وحده لرأينا مجهودا حافلا تنشرح به الصدور!! ...

ولكن الأستاذ يتعرض في نقده الأدبي إلى مأزق ضيق يكابد منه تبريحا أي تبريح! ... فهو يحرص على التشجيع والتنويه ، وتدفعه المجاملة أحيانا إلى إهمال حقوق النقد الصريح ، وكثيرا ما تقرأ له بحثا أدبيا عن


كتاب معاصر أو شاعر صاحب ، فلا ترضى عمّا يشيع فيه من تنويه وتقدير ... فإذا اضطر الكاتب إلى النقد ساقه في ثوب حريري ناعم ... وقد تخلو إليه فيحدثك عن بعض المآخذ التي رآها ولكنه تحامل على نفسه فأغفلها ؛ وتلك حال تذكرني بشاعر العربية الابتداعي خليل مطران ، فقد كانت له في الشعر رسالة ناهضة مجددة ، ولكن قيود المجتمع وقوانين المجاملة قد دفعته ـ في ضيق منه ـ إلى النظم السطحي في حفلات الأعراس ومواقف التأبين ، والخلق السمح يجد حرجا شديدا في مغاضبة الناس ، فتكون المأزمة الضائعة للإنتاج الأدبي وصاحبه المسكين.

لقد قرأت في كتاب «أيام الكويت» بحوثا أدبية عن شعراء مقلدين لم يتصلوا بالنهضة الفكرية الحديثة ؛ والأستاذ المؤلف ينظر إليهم بعين الرضا الكليلة عن العيب ؛ فكنت أقول في نفسي : أرضى الناقد عن فطمهم التقليدي فهتف بأصحابه مع الهاتفين ، أم أنه احتقر الموازين الجديدة للشعر الحديث؟! ...

ولم يطل التساؤل ، فقد قرأت للأستاذ بحثا استعراضيا عن كتاب «الشعر بعد شوقي» للدكتور محمد مندور ، فوجدت الكاتب يتفق معي في الاتجاه!! .. وينحى باللائحة على ذوي الهمود من الجامدين ، وإذ ذاك تصورت الحرب النفسية التي قاساها الشرباصي ليوائم بين الرأي الصريح والخلق السمح الحليم!! ...

على أن أحمد في مجاملته للزملاء لا يتهاون قيد شعرة مع كبار الأساتذة من الأدباء ، وقد تعرض لغضب صاحب مجلة أدبية لامعة ، حين نشر نقدا أدبيا لبعض آرائه بمجلة الثقافة سنة ١٩٤٠ م ، كما أغضب الأستاذ أحمد أمين حين انحاز مجاهرة إلى تأييد غريمه الدكتور زكي مبارك في هجومه على صاحب الجناية الأدبية! ...

ومع مناصرته لزكي مبارك فقد وقف الشرباصي الطالب الشاب موقف


الناصح المرشد من دكتور نابغة نقاد ، إذ يقول له على صفحات الرسالة (عدد ١٦ اكتوبر سنة ١٩٣٩ م) :

«أي صديقي الدكتور ، قد انتهى لغو الصيف ، وجاء جد الشتاء ، فلا تكسل ولا تنم ، على أني أرجو أن تتحاشى ما يسبق إليه قلمك من عبارات تنال من شخصية الأستاذ أحمد أمين وتجرح شعوره» فأي توجيه ذاك؟! ...

وقد كان التحاق الشرباصي بكلية اللغة العربية بالقاهرة نقطة تحول كبير في إنتاجه واتجاهه ، وكان المظنون به أن يتوسع في الدراسة الأدبية وحدها ، ولكنه وجد بالقاهرة مجالا للنشاط الإسلامي عن طريق المحاضرة والمناظرة والخطابة ، فانفرجت دائرة كفاحه إلى حيث تتسع وتمتد ، ورصد نفسه إلى خدمة الفكرة الإسلامية بالقلم واللسان!!.

وصاحب اللسان البليغ لا يرى في أسلوبه الخطابي ضرورة لقيود المقال المركز ، ومن هنا سرت عدوى اللسان إلى القلم في كتابة الشرباصي ، فقد تجد بها تفصيلا وإطنابا لا يرضيان صاحب المنطق المحدد ؛ ولكن الشرباصي يتعمد الإثارة الانفعالية في نفوس القراء ، إذ يهمه أن يجتذبهم إلى فكرته مستعملا شتى ضروب التأثير ، من منطق عقلي ، أو مهيج عاطفي ، أو حافز وجداني ؛ وإذا قرن القارىء شخصية الداعية بشخصية الكاتب في بعض مؤلفات الشرباصي فقد أراح واستراح!! ...

اقرأ مثلا كتب الرجل : ١ ـ النيل في ضوء القرآن. ٢ ـ واجب الشاب العربي. ٣ ـ أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح. ٤ ـ صلوات على الشاطىء ... فستجد المنطق العقلي سابحا في أمواج التأثير الوجداني ، ولهذه الطريقة حسناتها في استنهاض الهمم وحفز البواعث ، وإن كانت لا تسلم من نقد يؤكدة عقل منهجي محدود ..


لقد أصدر الكاتب مؤلفا صغيرا عن السيدة زينب ، كما أصدرت السيدة بنت الشاطىء مؤلفا عنها ، وصاحبة السيرة رضي الله عنها ذات مجال محدود لا يسمح بكتاب خاص ، فماذا صنع الكاتبان؟! ..

لقد لجأت الدكتورة الجامعية إلى الأساطير والأخيلة تنسج فيها خيوط البحث التاريخي ، ولم أعجب بهذا المنهج ، فنقدته نقدا صريحا بالسنة العشرين من مجلة الرسالة سنة ١٩٥٢ م. أما الشرباصي فقد هدف إلى العاطفة الدينية يستثيرها استيثارا حبيبا ، وقد عالج مشاكل دينية واجتماعية تتصل بالموالد والأذكار والصلوات ، فجاء بحثه نميرا مستطابا ينعش الروح المؤمنة ، ويرضي الوجدان الصافي ، ولكنه لا يخرج عن مجال التأثير الخطابي إلى مجال التأمل والاستنباط ؛ وفائدة القارىء في المجال الأول محتومة مفروضة ، فقد زاد إيمانا ، ورسخ عقيدة ، وصفا نبعا وأخلاقا ، وذلك ثراء أي ثراء.

هذا وقد فرغ الكاتب إلى البحث العلمي الديني في بعض مؤلفاته القوية مثل : «القصاص في الإسلام» ، و «محاضرات الثلاثاء». ولن يضيره في شيء أن يعرض بحوثه الدقيقة النافعة في ثوب رائق واضح ، فالحقيقة العلمية لا ينتقص معدنها أسلوب مشرق واستطراد نافع ، وإنما يضيرها أن يتشعب بها القول في متاهة لا تحد ، وهذان الكتابان من النفاسة جوهرا ، والوضوح أسلوبا ، والتحديد منطقا ، في مستوى رفيع ، وإذا اكتمل للمؤلف كل ذلك فقد نجح وأفاد ...

يقول فضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف في معرض الحديث عن «محاضرات الثلاثاء» في «منبر الشرق» عدد أول فبراير سنة ١٩٥٢ : «من عادتي ألا أكتب عن كتاب إلا بعد أن أقرأ أكثر مباحثه على الأقل ، فإن استمالني لمتابعة القراءة فيه بغزارة مادته ، وطلاوة عبارته ، وجودة معانيه مضيت فيه إلى نهايته ... وقد أهداني فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي


كتابه : «محاضرات الثلاثاء» وأنا أعلم أنه رجل موهوب ، ازدان علمه بتقواه ، وأسلوبه بالأدب الرفيع ، وقلمه بالسلاسة والرواء ، فعكفت على قراءته كعادتي فوجدت فيه طلبتي» الخ ...

وإذن فقد أصبح الاتجاه الإسلامي للداعية الأديب محور الحديث في الخطابة ، ومجال القلم في التأليف ... وقد سافر بحافز من هذا الاتجاه إلى ممالك الإسلامية كثيرة ، وصادف محنا وعقابا جمة ، ولكنه لم يترك تجاربه تهرب من الذاكرة هروبا لا رجعة منه ، بل أفرد لها كتبا خاصة من إنتاجه مثل : «أيام الكويت» و «عائد من الباكستان» و «مذكرات واعظ أسير» ...

وقد سلك في كتابته مسلكا يلتزمه الكثيرون ، فهو يدون الحوادث اليومية مجزأة متصلة ، تتماوج في سلسلة متعاقبة ، يوما وراء يوم ، وأذكر أني كتبت إليه في رسالة خاصة نقدا لهذه الطريقة ، إذ أرى أن الأوفق أن تمتزج هذه اليوميات ، لتتداخل في أبوبا عامة ، تتخذ لها عناوين دالة موحية ...

وكنت أعتقد أن هذا المنهج لا يختلف فيه اثنان ، ولكني وجدت من كبار الأدباء من يعدل إلى طريقة الأستاذ الشرباصي منددا بما أشرت إليه ، فقد كتب الدكتور محمد عوض محمد بالرسالة (العدد السابع من السنة الأولى) ينقد كتاب : «جولة في ربوع أفريقية» للرحالة محمد ثابت ، فيفضل أن يكتب المؤلف مذكرات يومية أثناء السياحة ، يصف فيها حركاته وسكناته ، وما مر به من الحوادث وكل شيء رآه ، وبديهي أن ذلك لا يتضح بجلاء في الأبواب الكلية كما أريد ، ولكل وجهة هو موليها ...

وقد لاحظت أن أفكار الكاتب في نشأته الأولى لم تتبدل في شبابه المكتمل ، بل أكسبها الزمن عراقة وأصالة دون أن يميل بها إلى استئصال وإبادة. ولتوضيح ذلك : قرأت للشرباصي على سبيل المثال ـ ثلاثة فصول


مختلفة عن الأستاذ الإمام محمد عبده ، وقد كتبت في فترات مختلفة ، تبتدىء من سنة ١٩٣٨ وتنتهي سنة ١٩٥٦ م ، فلاحظت أن الروح التي تغمر مقال «محاولة» هي نفسها التي تترقرق في مقال «محاضرات الثلاثاء» ، وهي نفسها أيضا تتوهج ببزوغ في مقال أخير نشر بالعام الماضي في مجلة الأزهر سنة ١٣٧٥ ه‍ .. ولا عجب إذا أكثر الشرباصي من الحديث عن الإمام المصلح ، فهو مثل يحتذيه من ناحية ، وعالم أزهري كبير له رحمة الماسة من ناحية ثانية!! ...

لقد أصبح توفيق الشرباصي في محاضراته المتتالية حديث الكثيرين ، فكيف إذا ضمت إليه مؤلفاته التي تتقاطر متتابعة دون انقطاع ، وقد يجمع المؤلف الواحد منها ضروبا في القول تتباعد مصادر ومراجع ، وتتحد هدفا وغاية ؛ وتلك حقيقة سجلها الأستاذ محمود تيمور حين قال عن كتاب «في عالم المكفوفين» بالرابطة الإسلامية ، عدد ١٦ أبريل سنة ١٩٥٦ م :

«وأكبر ظني أيها الصديق أنك ستشق بكتابك هذا على من يريدون إلحاقه بفن من فنون التأليف ، فإنهم يحارون فيه ... إن ألحقوه بالعلم فهو ذاك ، لما حوى من دراسة وتحقيق ، وإن وصلوه بالتاريخ فله منه نصيب موفور ، وإن درجوه بالاجتماع فما ظلمون ، وإن عدوه كتابا في الأخلاق فليس هو منها ببعيد».

هذه شهادة منصفة ، وهي بعد تحقيق لنبوءة الأستاذ أحمد شفيع السيد ـ الأستاذ بكلية اللغة العربية ـ حين سجل إعجابه ـ من أمد بعيد ـ بتلميذه الطالب أحمد الشرباصي ، فقال عنه من قصيدة عامرة تنطق بسماحة الأستاذ وتقدير التلميذ :

قبس من الإصلاح لاح بصيصه

سيزيده كر المدى إشعالا

وإذا رأيت الفجر يبسم ضوؤه

فارقب لأنوار الضحى إقبالا

البحر ما ذا كان؟ كان جداولا

والبدر ماذا كان؟ كان هلالا


الدكتور الخفاجي ـ محمد عبد المنعم خفاجي

ـ عالما ـ

في قرية صغيرة قديمة من أعمال مركز المنصورة ، تسمى «تلبانة» ، ولد الخفاجي في ٢٢ يوليو عام ١٩١٥ بين أحضان الطبيعة الجميلة في الريف ، وبين الفلاحين المكدودين المرهقين الذين يعيشون فيه عيشة تجمع إلى البساطة سذاجة التفكير ، واجهاد العيش ، وشظف الحياة.

وفي أبان الحرب العالمية الكبرى ، وما تلاها من أحداث الثورة الوطنية المصرية عام ١٩١٥ ولد ونشأ الخفاجي .. تنطبع في ذهنه صور من كفاح الحياة والإنسانية ومن جهاد مصر في سبيل حريتها وآمالها ، هذا الجهاد الذي ظل أمدا طويلا شغل المصريين كافة ، وموضع تفكيرهم ، وألهم المقعد الناصب لهم في حياتهم المعاصرة.

ولم يترك الخفاجي القرية إلا في أثناء دراسته ، وظل وفيا لها ولأهلها الأبرياء البسطاء طول حياته.

وهذا الميلاد وما صاحبه وتلاه من أحداث في حياة الخفاجي يصوره في قصيدة ساحرة له عنوانها «يوم الميلاد».

والخفاجي لم يكن وحدة في الحياة ، إن تاريخ قومه يمتد إلى أكثر من ألف وخمسمائة عام.


فهو من سلالة عربية عريقة ، ارخ لها في كتابه «بنو خفاجة وتاريخهم السياسى والأدبي» ، والخفاجيون قبيلة عربية حجازية كبيرة نشأت في العصر الجاهلي وزاد نفوذها وهم من العقيليين العامريين القيميين ، وقد تعددت فروع القبيلة بعد الإسلام وهاجرت سلالات منها إلى الشام ومصر والعراق والمغرب والأندلس ، ومنهم أعلام خالدون في كل مكان ، ولا ننسى الشاعر الأموي توبة الخفاجي للعربي الحجازي ، والأمير ابن سنان الخفاجي الحلبي المتوفى عام ٤٦٦ ه‍ ، والشهاب الخفاجي المصري المتوفى عام ١٠٦٩ ه‍ ، وابن خفاجة الأندلسي المشبور ، وغيرهم.

ومن الخفاجيين أسر حاكمة في حلب في القرن الخامس الهجري ، وفي العراق في القرن الرابع إلى السابع الهجري ، وكانت ولاياتهم في الناصرية بقرب الكوفة وكان يتولاها منهم بعد أمير ، وكانوا في شبه استقلال داخلي عن الخلافة العباسية.

إن هذا الماضي العريق يحمله الخفاجي في قلبه ودمه وأعصابه ويقف مزودا منه بإيمان راسخ ، وعبقرية حادة وقوة ضخمة تعاوند على كفاحه في الحية.

وحفظ الخفاجي القرآن الكريم وتعلم مبادىء وأطرافا من الثقافة الأولى في مكتب القرية أو المدرسة الأولى التي كان يتعلم فيها الشباب في ريف مصر إلى عهد قريب.

وفي عام ١٩٢٧ رحل إلى مدينة الزقازيق يتلقى ثقافته الابتدائية والثانوية في معهدها الكبير ، الذي تخرج منه عام ١٩٣٦ ، وبين هذين التاريخين قصة كفاح طويل.

ومن أهم ما ظهر على الخفاجي في هذه الفترة الاتجاه الوطني الذي دفعه إلى الكفاح في سبيل وطنه في الأزمات السياسية التي مرت بمصر منذ عام ١٩٣٤ ، وكان رئيس اتحاد طلبة أبناء الشرقية في مدينة الزقازيق ، وكان


هذا الاتحاد قوة كبيرة سياسية في هذه الفترة ، والخفاجي وأصدقاء له هم الذين كونوه ، وكانت مؤتمراته الوطنية تنشر في الصفحة الأولى في جريدة الجهاد المصرية ، وفي شتى الصحف في هذه الفترة.

ومن أهم ما يلاحظه الخفاجي على الثقافة المصرية في هذه الفترة انعدام التوجيه وضعف تربية الملكات ، وإهمال شئون الطالب النفسية والعقلية إهمالا كبيرا. وقد جاهد الخفاجي في أزمة الأزهر عام ١٩٣٥ مع زملائه جهادا طويلا.

التحق الخفاجي بعد مرحلة الثانوي بكلية اللغة العربية بالقاهرة وهي إحدى كليات الأزهر الشريف وبدأ دراسته فيها في أول اكتوبر عام ١٩٣٦ ، وفي اليوم الثاني من أكتوبر من هذا العام توفي والده ، وبعد ذلك بعشرين عاما أي في يوم الخميس ٢٧ جمادى الثانية ١٣٧٥ ه‍ ـ ٩ فبراير ١٩٥٦ توفيت والدته وتخريج الخفاجي من كلية اللغة عام ١٩٤٠ ، حيث كان في طليعة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة فيها.

وفي خلال هذه الفترة اشترك الخفاجي في الحركة الوطنية ، وتابع دراسته ، وعمل أحيانا في الصحافة في جريدة السياسة وفي صحف أخرى ، وكتب المقالات والبحوث والدراسات في شتى الصحف والمجلات.

وكان قيام الحرب العالمية الثانية في هذه الفترة عام ١٩٣٩ أهم حدث عالمي تأثر به الشباب العربي أيما تأثر ، بل تأثر به شباب العالم قاطبة.

وكان الخفاجي المتنقل بين القرية والعاصمة صورة للشباب المصري المكافح في سبيل وطنه وفي سبيل قومية بلاده وفي سبيل الثقافة التي حمل لواءها بقوة.

وفي هذه الفترة تأثر بآراء عالمين مفكرين كبيرين في الفكر والثقافة والإصلاح ، هما الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الأزهر فيما


بعد ، والأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة العلماء بالأزهر. كما كان للإمام محمد عبده صداه العميق في نفسه.

وكان الأستاذ الأكبر الشيخ حمروش عبيد كلية اللغة آنذاك وكان بعقله الواسع وأفق تفكيره البعيد وثقافته العلمية العريقة أرفع مثال لطلاب كليته ، يستمدون منه القدوة ، ويحتذون حذوه في الفهم والتفكير.

وكان الأستاذ الكبير محمد عرفة أستاذا للخفاجي في الفلسفة والبالغة ، ومن ثم بآرائه التجديدية العلمية تأشرا خاصا.

وتخرج الخفاجي في يوليو عام ١٩٤٠ من كلية اللغة يحمل شهادته العالية.

والتحق الخفاجي بأقسام الدراسات العليا في كلية اللغة العربية في أكتوبر عام ١٩٤٠ في قسم البلاغة والأدب ، فعكف في خلال الأحداث العالمية التي صاحبت الحرب العظمى ، وفي خلال أحداث مصر القومية التي امتدت من هذا التاريخ ، وفي خلال أزمات الأزهر التي كانت نتيجة للصراع بين الحكومة والقصر ، والتي كان الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مظهرا لكثير من صور الحرب الخفية في هذه المعركة ، في هذه الظروف عكف الخفاجي على دراساته العليا ، إلى أن تخرج عام ١٩٤٤ يحمل شهادة النجاح في الامتحان التمهيدي لشهادة العالمية من درجة أستاذ.

ثم قدم رسالته الجامعية «ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان» ونوقش فيها في أكتوبر عام ١٩٤٦ ، ونال بها بتفوق شهادة العالمية من درجة أستاذ في الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية وهي أرقى شهادات الأزهر الجامعية وتعادل الدكتوراه الممتازة حرف (أ).

ومن الجدير بالذكر أن الخفاجي قدم للكلية مع رسالته المخطوطة


ثلاثة كتب له مطبوعة عن ابن المعتز في جوانب تخدم موضوع رسالته وهذه أول مرة يقدم فيها باحث رسالة علمية مخطوطة ومعها ثلاثة كتب تخدم رسالته وفي موضوعها.

وكان هذا الجهد الأدبي موضع تنويه الأدباء والعلماء والصحف في حينه.

ولا ننسى أن نقول : أن الخفاجي أمضى مع عمله الضخم هذا سنوات طوالا يشغل وظيفة أستاذ في الليسيه فرانسيه فرع شبرا.

وقد ترك بعد حصوله على شهادة العالمية من درجة أستاذ وظيفته في الليسيه ليتولى أستاذية البلاغة في معهد أسيوط الكبير الذي عمل فيه من نوفمبر عام ١٩٤٦ حتى أكتوبر عام ١٩٤٧ ، ثم في معهد الزقازيق الذي كان طالبا فيه من قبل ، والذي عمل فيه من عام ١٩٤٧ إلى عام ١٩٤٨.

وانتقل الخفاجي في ١٧ أغسطس عام ١٩٤٨ إلى كلية اللغة العربية مدرسا للأدب والنقد والبلاغة فيها ، ولا يزال حتى اليوم يتولى هذا المنصب فيها.

ومن الطريف أن نذكر أن الخفاجي متزوج من عام ١٩٤٨ وله ولد هو ماجد خفاجي ، وتوفيت له بنت كان اسمها «وفاء خفاجي».

وهو كذلك رئيس رابطة الأدب الحديث في القاهرة ، وعضو في شتى الهيئات العلمية والأدبية في مصر والعالم. وقد اختير عضوا في اتحاد أبناء الدقهلية وهو من أكبر دعاة التجديد والإصلاح والتعاون والقومية العربية.

ولا أنسى أن أنوه بكفاح الخفاجي في سبيل إصلاح الأزهر ، منذ التحاقه بقسم الدراسات العليا حتى اليوم.

وفي هذا السبيل ناضل كل شيوخ الأزهر ، وطالبهم بالإصلاح والتجديد والبناء.


وأنوه كذلك بكفاحه في سبيل الأدب الذي أنفق عليه كل ما يملك من مال.

ثم بكفاحه من أجل وطنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.

وكفاحه من أجل الثقافة قد لا يصل إليه كفاح آخر.

عمل في كلية اللغة العربية بالقاهرة مدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذ فرئيس قسم الأدب والنقد. ثم اختير عميدا لكلية اللغة بأسيوط ، ثم عاد إلى القاهرة أستاذا متفرغا يدرس لطلابه في الدراسات العليا علوم الأدب والنقد.

والعوامل الثقافية التي أثرت في عقلية أديبنا يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ العامل الأول : ثقافة الأسرة وهي أسرة تنتمي إلى أصول عربية قديمة بسط صاحبها تاريخها في كتاب خرج منه حتى الآن تسعة أجزاء ـ ومن هذه الأسرة أعلام قديمة وحديثة ومعاصرة من الأدباء والعلماء والشعراء والكتاب ، وقد بسط صاحبنا تاريخهم في كتابه «بنو خفاجة».

٢ ـ العامل الثاني : ثقافته في الأزهر الذي عاش فيه تلميذا من سنة ١٩٢٧ إلى ١٩٤٦ حيث تخرج من كلية اللغة العربية يحمل شهادة «العالمية من درجة أستاذ في البلاغة والأدب» وتعادل الدكتوراه حرف (أ) من الجامعات المصرية ـ وتخول لحاملها التدريس في كليات الأزهر وكليات الجامعات المصرية ، وكانت الرسالة التي قدمها هي كما قدمنا «ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان» وهي مطبوعة.

٣ ـ العامل الثالث : مطالعاته الشخصية في الأدب قديمة وحديثة ، ويقول لنا : إنه حتى تخرجه طالع ما لا يقل عن خمسة آلاف كتاب في الأدب عدا الكتب الثقافية الأخرى.


٤ ـ اتصاله الوثيق بالبيئات والمدارس والمذاهب الأدبية المعاصرة ، ودراساته في كلية اللغة لتلاميذه.

٥ ـ الاستعداد الشخصي والملكات الذاتية ، التي تكون لصاحبها أفكارا ثقافية وأدبية خاصة متميزة.

٦ ـ اتصاله المباشر بالبيئات الثقافية والأجنبية التي كان لعمله في الليسيه الفرنسية مدرسا أثر ما في حياته ، وكذلك اتصاله بالعديد من العناصر والبيئات الثقافية.

يؤمن أديبنا الخفاجي بضرورة الملكة الأدبية والموهبة الذاتية كأساس لبناء الأديب من الجانب الفني والثقافي ، ومن ثم نجده يحيل كل الخصائص الذاتية التي تميز أديبا عن أديب إلى أثر هذه المواهب.

ويرى أن الثقافة الأدبية الحديثة للأدب يجب ـ فوق تناولها لجميع الثقافات الممكنة ـ أن تتناول التعرف إلى جميع الثقافات الأدبية القديمة والحديثة والمعاصرة عند جميع الشعوب ، ومن ثم يحرص على الاتصال بروائع الآداب الأوروبية المترجمة ويرى وجوب التعاون والإخاء الأدبي بين الأدب العربي وهذه الآداب ، كما يرى وجوب دراسة الآداب الشرقية عامة والعربية خاصة عند جميع الشعوب التي يتصل تاريخنا بتاريخها وحياتنا بحياتها.

ويرى أن الأدب لا بد أن يخدم هدفا اجتماعيا أو قوميا أو انسانيا وإلا فقد جزءا كبيرا من مقوماته ومن أجل ذلك نراه في كتابته عن الأدب المعاصر يشيد بروائع الآثار الواقعية في الأدب والشعر (راجع مقدمة قصص من التاريخ).

وهو مع ذلك يرى أن الأدب المعاصر تنقصه الملكة والذوق البلاغي كما أن الأدب القديم كان ينقصه الاتجاه والمذهب والرسالة ومن أجل ذلك


فهو يبشر بأدب جديد تتجلى فيه خصائص الأدبين أكثر وضوحا عما هي عليه الآن.

ويقول عنه الدكتور أحمد زكي أبو شادي رائد مدرسة أبو للو :

الخفاجي ظاهرة فذة شائقة في الوراثة والإطلاع والاستقراء والإنتاج فهو سبط الأديب الكبير الشيخ نافع الخفاجي وهو من أسرة بني خفاجة التي تنتمي إلى أصول عربية «قديمة» ، ومنها الأمراء الخفاجيون في إقليم الكوفة والأمراء الخفاجيون بحلب ، ومنهم الأمير ابن سنان الخفاجي الحلبي ، ومن أشهر النابغين في مصر من الخفاجيين الشهاب الخفاجي المصري. وهذا الرجل يحمل أعلى شهادات الأزهر العلمية وهي «شهادة الأستاذية في الأدب والبلاغة» التي تعادل (الدكتوراه) من الجامعات السامقة كالسوربون مثلاه والذي أخرج حتى الآن نحو ستين كتابا في فنون الأدب. ومن العسير أن يختار المرء كتابا من كتبه للعرض في مجال الحديث عن الأدب العربي ، نظرا لكثرتها وتنوعها متناولة جميع فروع الأدب. والأستاذ خفاجي ليس لغويا ولا أديبا فحسب ، بل هو شاعر أيضا ، شأنه في ذلك شأن الدكتور طه حسين ، وذلك ـ إلى جانب ثقافته الواسعة التي تلتهم كل معرفة ميسورة ـ كان طابع كتابته شعريا جميلا مع الحرص على الدقة العلمية في الوقت ذاته. ولذلك نالت تصانيفه احتراما عاما في جميع الأوساط الأدبية ببلاد الغرب وفي دوائر الاستشراق (١).

ويقول عنه الأستاذ روكس العزيزي :

«الأستاذ الخفاجي واحد من هؤلاء الأفذاذ الذين وقفوا على ماضي الأدب العربي وقوف فهم وتعمق ودراسة ورافقوا جديده فكانوا من خيرة مجدديه ، لأن فكرته في التجديد فكرة نيرة حاذقة. لذا جاءت أحكامه

__________________

(١) من حديث اذيع في صوت أمريكا عام ١٩٥٣.


محكمة تتميز بالالمعية فهو يجمع بين دقة العالم ، صفاء ذهن الباحث ، وقدرة الكاتب المجيد وروح الشاعر المرهفة الحساسة ، ويضاف إلى هذا أنه أستاذ في معهد كان وما زال أمينا على تراث هذه الأمة الأدبي والفكري.

وقال الناقد مصطفى السحرتي في الخفاجي (١) :

أصدق تعريف بالخفاجي أنه هاديء ثائر معا ، حريص على الإصلاح والجهر برأيه حتى في أدق الظروف والمناسبات وله في ذلك مواقف عديدة في الأزهر وفي خارج الأزهر على السواء.

وهو رائد في الأدب والشعر والنقد والتاريخ والتصوف كما هو رائد في علوم الدين (٢).

وقال عنه الدكتور سعاد جلال الأستاذ بجامعة الأزهر :

الخفاجي عرفته المجامع العلمية والأدبية باحثا مدققا مبرزا ، فيه الكثير من تواضع العلماء ، وتبريز الباحثين والمفكرين ، مما يصوره أدبه وإنتاجه وتآليفه ، التي هي آثار أدبية يعتز بها أدبنا المعاصر ، والتي ستبقى خالدة على الأيام.

وقال الدكتور عبد المنعم النمر فيه :

إنني أطالب مجلس الفنون والآداب بإعادة طبع موسوعات الدكتور الخفاجي كي يعم النفع بها وأطالب النفع بها وأطالب إدارة الأزهر بإخلائه من العمل ليضاعف الإنتاج وبهذا نكون قد كرمنا الرجل حقا ووضعناه في مكانه.

__________________

(١) ص ٧٥ من رواد الأدب المعاصر لحليم متري.

(٢) ص ٧٦ من رواد الأدب المعاصر.


وقال عنه الأديب الحجازي الكبير الأستاذ عبد الله الجبار :

إن الأدب العربي ليفخر بنتاج الخفاجي الأدبي والعلمي المتصل المستمر على مرور الأيام.

وقال الأديب الحجازي الكبير أحمد عبد الغفور عطار (١) :

الخفاجي أحد أعلام العلماء الذين خرجهم الأزهر ، ويفخر بهم ، وهو أعجوبة من الأعاجيب. فهو قد ألف وصنف العديد من الكتب وكتب مئات الفصول والرسائل. ولئن كنا ندهش عند ما تقرأ أن الكندي وابن سينا والسيوطي وغيرهم من أقطاب العلماء الذين ألفوا كتبا ورسائل تسد بالمئات فإن هذا الدهش سيزول عند ما نجد عالما معاصرا مشغولا بالتدريس والأندية والجمعيات الأدبية والعلمية ومشغولا بكثير من أعمال هذه الحضارة وهذا المجتمع المضطرب يستطيع ـ مع كل مشاغله ـ أن يخرج لنا العديد من المؤلفات. بينها من الكتب ما يتجاوز عدد صفحاته الآلاف .. إنه أديب متمكن ، وشاعر مبدع ، وعالم كبير.

وقال فيه الشاعر الكبير محمود غنيم :

هتفوا بذكر أغر نابه

عمرو بن يجر في نيابه

إن لم يكنه في حقي

قته فبينهما مشابه

لا في ملامح وجهه

بل في توفره ودابه

حبيت فيه طالبا

للعلم أمعن في طلابه

بل كاتبا في الأفق حلا

ق غير وإن عن شهابه

أن ينسب سفر إلي

ه تاه فخرا بامتسابه

فندفق الأسلوب نح

سبه غيرا في أنسابه

__________________

(١) ص ٤ مقدمة كتاب الخفاجي «الإسلام دين الإنسانية الخالد».


في لفه قلم لعا

ب النحل قصر عن لعابه

أسفاره منهلة

كالغيث تهطل من سحابه

أناره نست علي

ه وجردته من نقابه

كالطيب في الاخفاق ين

فخ ريحه رغم احتجابه

السيف سيف مصلبا

أو مستكا في قرابه

وقال فيه الشاعر الكبير الدكتور حسن جاد :

حيو الأديب الذكيا

والعالم الألمعيا

رب اليراع المجلسي

رسائلا ودويا

ومن يهز .. خطيبا

ويستثر النديا

فما يمل دءوبا

ولا يكل مضيا

فقل لمن كرموه

رمتم مراما عصيا

حوى الفنون جميعا

فليس ينقص شيئا

وشق كل طريق

من ذا يصد الأتيا؟

وطبق الشرق ذكرا

وشهوة ودويا

حتى شاى كل ميت

وبذ من كان حيا

ولم يدع للسيوطي

في الكتب ذكرا بقيا

أخا الصبا وصديقي

أفديك خلا وفيا

مؤلفاتك شتى

وما برحت فتيا

الدين جليت فيه

كتابه القدسيا

وكم خدمت احتسابا

حديثه النبويا

وكم سهرت لتحيي

تاريخنا العربيا

تكسو البيان جديدا

من الثيات بهيا

وانهض إلى المجد واصعد

إلى مدار الثريا

والله حسبك حصنا

مكافئا ووليا


وقال فيه الشاعر كامل أمين :

يا أخا الخير ، يا خفاجة ، والخير شباب الندى وروح الحياة كل أرض نما بها البر روح ألبسته الحياة ثوب النبات ، قد عهدناك يا أخي تعبر الناس فتسعى بهم كسعي الفرات تبعث البائس القنوط من الآمال كبعث الحياة بعد الممات.

يا أخي كيف مد سحرك في الليل فمد الصباح بين بيانك ريشة الساحر الصناع بكفيك وسحر البيان تحت لسانك وخيال الحديث يجذب كاللحن فإذا عزفته في كمانك الكمان الذي استحال يراعا عز داود فيه من ألحانك.

وقالت فيه الشاعرة جليلة رضا :

إنه كالفجر في سناه الوليد ذائم الخلق ، دائم التجديد وهو الحق والفضيلة والصدق ونور الإيمان والتوحيد وهو العلم والبلاغة والفصحى ورمز الإجلال والتمجيد وهو كالطفل في سماحته الحلوة في قلبه الشفيف الودود وهو كالوحش إن غزا الكتب استأسد وانقض فوقها كالأسود وهو في مجلس التشاحن والبغض كوجه السماء بعد الرعود بسمة كالندى ووجه صبوح واتضاع في عزة وصمود فإذا هم بالحديث فأطراق العذارى وحكمة ابن الرشيد قلم عاشق وطرس عشيق وبيان يفي بكل الوعود هكذا بذرع الوجود خفاجي بين بحث وفكرة وجهود فهو فخر الكتاب في عصرنا الحاضر رمز البقاء والتخليد وأبو المجد والعلا للخفاجيين من قبل ومن قديم الجدود.

وقال الشاعر محمود الماحي فيه :

إني أكرم همة لم يؤتها

بشر بعصر قد نسى كتابه

ولسان مقتدر عليم بسارع

مستصغر رغم الشقاء عذابه

في هذه الدنيا التي من هولها

سئم الأديب وعودها الخلابة

يجري وراء سرابها وسرابها

يجري بلا أمل يريد سرابه


يا أيها القلم السخي بعلمه

درر الحجا وقلائد منسابه

لا جف منك ومدادك الغالي ولا

فارقت قلبا مبديا إعجابه

وقال عنه الشاعر أحمد أبو المجد عيسى :

هذا الذي هام بالأسفار يكتبها

حبات عقد بديع جد مؤتلق

لك الأنامل كم صاغت لنا أدبا

به شغلنا عن الأجيال والحدق

لك الطرائف من علم ومن أدب

سارت مسير ضياء الشمس في الأفق

وأنت للجيل أستاذ تعلمه

بما يحليك من علم ومن خلق

ونلت بالعلم جاها أنت كاسبه

ولم تتله بتزييف ولا ملق

وكم رفعت أديبا كان في ظلم

كأنما عاش تحت الأرض في نفق

ونحن حولك إن كنا ذوي أدب

فالطير تهفو لفيض الجدول الغدق

والصادح العبقري اللحن يسعده

أن يستجيب إلى بستانه العبق

يكفيك أنك في الأقطار جامعة

تزود الفكر بالأضواء والالق

وقال عنه الشاعر إبراهيم شعراوي :

خفاجي ، هاتف ينساب طهرا

بأعماقي ويسكب في نشوه

فاهتف والنداء يهز نفسي

خفاجي لفظة كالشهد حلوه

أبي يا فرس الآداب إني

لأبصر فيك ميدانا وصهوه

إذا ما سأرجع الناس يوما

إلى العليا بتصميم وقوه

لكنت كشعلة بين الدياجي

تسير أمام هذا الجمع خطوه



أبو الجامعات في الشرق والغرب

قلعة حضارية في تاريخ مصر الإسلامية

هذا البناء الشامخ ، والمسجد العريق القائم في نهاية شارع الأزهر بالقاهرة ، والمجاور لميدان الحسين ، والذي رفع قبابه جوهر الصقلى ، قائد جيش فتح مصر في عهد المعز الفاطمي ـ هو جامعة الجامعات ، ومعهد العلم في عاصمة مصر قاهرة المعز الخالدة ، وهو حقا قلعة حضارية في تاريخ مصر الإسلامية طوال ألف عام أو يزيد .. إنه الأزهر أبو الجامعات في الشرق والعرب.

وشيخ معاهد العلم في مختلف أرجاء العالم. وإذا كان مسجد القرويين قد أنشىء في فاس عام ٢٤٥ ه‍ ٨٥٩ م ، فإنه لم يتحول إلى جامعة إلا في زمن متأخر جدا ، بينما صار الجامع الأزهر جامعة إسلامية بعد إنشائه بسنوات ، وصار مقصد الطلاب والأساتذة من أنحاء الدنيا ، وقام برسالة ثقافية كبيرة طيلة ألف عام ، مما لم يحدث في تاريخ أية جامعة من الجامعات في الشرق ولا في الغرب.

وكان إنشاء الأزهر وقيام الحلقات العلمية الجامعية فيه بعد إنشائه مباشرة وحتى اليوم ، معجزة المعجزات في تاريخ الثقافة الإسلامية ..

والأزهر هو أبو الجامعات الدينية ، في عالم الإسلام ، وهو الذي


يمدها بالتوجيه والخبرة ، وبالخطط العلمية المدروسة ، وبالمناهج والأساتذة ، وعلى نمطه قامت مختلف الجامعات الاسلامية الحديثة في أنحاء العالم الاسلامي ، وصار هو الصورة المشرقة لكل الجامعات وهو الذي يلخص تاريخ الحضارة الإسلامية كلها طوال ألف عام ..

إنه روح هذه الحضارة ، والمعبر عنها والمترجم لثقافاتها. وهو موئل العربية وملاذها الأمين. منذ قيامه إلى اليوم وقد سمي الأزهر لأنه كان محاطا بقصور زاهرة في رأي ، أو لأنه كان أكبر الجوامع على الاطلاق رواء وجلالا وفخامة في رأي ، أو لأنه ينتسب إلى الفاطمية وإلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأي آخر ، أو للتفاؤل بما سيكون له من المكانة والجلال والازدهار العلمي في تاريخ الثقافة الاسلامية.

وقد شرع المعز الفاطمي منذ تولى الحكم في دولة الفاطميين في المغرب في بناء دولة واسعة ، وامبراطورية ضخمة لآل البيت في وسط العالم الإسلامي ، ومن ثم امتد بصره إلى مصر ، وشرع في التمهيد لفتحها ، ونشط الدعاة الفاطميون في الدعوة لآل البيت في أنحاء مصر كلها ، ثم عين قائده جوهرا قائدا لجيش الفتح ، فخرج من القيروان بجيش ضخم في ١٤ من ربيع الأول عام ٣٥٧ ه‍ فبراير ٩٦٩ م ، فاستولى على الأسكندرية ، ثم واصل زحفه إلى الجيزة ، فدخلها في ١١ ، من شعبان عام ٣٥٨ ه‍ ـ يوليو ٩٦٩ م ، وفي اليوم التالي دخل جوهر الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية الأولى آنذاك.

ومكث جوهر في شمالي الفسطاط ثمانية أيام استراحت فيها جنوده بعد عبورهم النيل من الجيزة إلى الفسطاط وأخذ جوهر في وضع أساس عاصمة جديدة لمصر الفاطمية ، فوضع أساسها في يوم الثلاثاء ١٧ من شعبان ٣٥٨ ه‍ ٧ يوليو ٩٦٩ م كما ورد في خطط المقريزي (ج ٢ ص ٢٠٤) ، ووضع أساس القصر الفاطمي الكبير ـ الشرقي في اليوم التالي ليكون مقر


الخليفة الفاطمي المعز لدين الله.

وفي يوم السبت ٢٤ من جمادى الأولى عام ٣٥٩ ه‍ ـ ١٢ من أبريل ٩٧٠ م شرع القائد جوهر في بناء الجامع الأزهر إلى جانب القصر الكبير ـ الخطط ج ٣ ص ٣٧٣ ـ وظل البناء عامين (٩٧٠ ـ ٩٧٢ م) ، وتم البناء وأقيمت الصلاة فيه لأول مرة في السابع من رمضان عام ٣٦١ ه‍ ـ ٢٢ من يونيو عام ٩٧٢ م ولم يلبث ان صار هذا المسجد هو المسجد الرسمي لدولة الفاطميين ، وبعد تسعة أشهر من افتتاحه أخذ الناس يتلقون فيه عقائد المذهب الفاطمي.

وكانوا يجتمعون كل يوم جمعة فيما بين صلاة الظهر وصلاة العصر ، وعلى رأسهم الوزير أبو يعقوب قاضي الخندق (خطط المقريزي ج ـ ٥ ص ٤٩) ومنذ عهد الخليفة العزيز بالله الفاطمي بنيت الأروقة حول الأزهر ، وصارت جزءا منه ، وفرشت بما يلزم من الفرش ، وصارت مساكن يقيم بها الطلاب ، وفي مقدمتهم الطلاب الوافدون على الأزهر من أنحاء العالم الإسلامي ومن شتى مدن مصر الفاطمية.

وكان نظام الحلقات الذي كان متبعا في تلك الحقبة من الزمن هو النظام الوحيد للدراسة في الجامع الأزهر ، وهو أساس الحياة العلمية والثقافية في مصر. وكان لكل مذهب من المذاهب الأربعة عمود معين من عمد الجامع لا يجلس فيه إلا أهل هذا المذهب ، وكان شيخ المذهب حريصا على أن تكون حلقته العلمية بجوار هذا العمود ، وكان من عادته في أثناء إلقاء الدروس أن يجلس على الأرض بجوار العمود مستقبلا القبلة ، ثم صار أخيرا يجلس على كرسي من الخشب أو الجريد ، وصارت تلك الكراسي من أخص امتيازات كبار العلماء فيه ، ومن ذلك أخذت الجامعات نظام الأساتذة ذوي الكراسي ، وكان الطلبة يجلسون حول أستاذهم على هيئة حلقة ولكل طالب مكان في الحلقة لا يتعداه. وكان في الحلقة طالب


من أنبه طلابها يكلفه الأستاذ بإعادة درسه على زملائه وبقراءة الموضوع العلمي للدرس في مختلف مصادره ، وسمي هذا الطالب معيدا ، وعن الأزهر أخذت الجامعات نظام المعيدين أيضا. وكانت طريقة التعليم إذ ذاك هي أن يبدأ الشيخ درسه بالبسملة والحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يلخص موضوع درسه ، ثم يقرأ النصوص التي كتبت حوله في مختلف المصادر ، ويقوم الطلاب بسؤال أستاذهم في كل ما غمض عليهم ، ويستمر الحوار والمناقشة والأسئلة والإجابة عنها طول الدرس بين الأستاذ وطلبته!

ولا ننسى أنه بعد انتهاء الدولة الفاطمية ، وتولى صلاح الدين الأيوبي حكم مصر عام ٥٦٧ ه‍. أفتاه قاضيه صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعي بامتناع اقامة خطبتين في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعي ، فأبطل صلاح الدين الخطبة والتدريس في الجامع الأزهر ، وأقر الخطبة في الجامع الحاكمي بحجة أنه أوسع ، ثم أعيدت إلى الأزهر الدراسة ، وكان أول ما درس به من مذاهب أهل السنة مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ، ثم درست المذاهب الأخرى على التتابع ، فلما تولى الملك الظاهر بيبرس حكم مصر عام ٦٥٨ ه‍ لم يلبث أن أعاد الخطبة الى الجامع الأزهر عام ٦٦٥ ه‍ ـ ١٢٦٦ ـ ١٢٦٧ م.

وزاد بيبرس في بناء الجامع وشجع العلم والتعليم فيه ، وأقام الأمير عز الدين أيدمر الحلى احتفالا رسميا عظيما في الجامع الأزهر ، ابتهاجا بعودة الخطبة إليه ، كما أقام احتفالا عظيما آخر في داره حضرهما رجال الدولة وقادتها ، وكان هذا الأمير يجاور الأزهر بسكناه ، وتبرع له الكثير من ماله الخاص ، وجمع له الكثير من التبرعات من الدولة ومن الأمراء ، وأخذ في ترميم مبانيه ، وفي عمارته.

ولقى الأزهر من عناية الشعب الشيء الكثير فعاد الى حلقاته العلمية


الازدهار والجلال ، وبخاصة بعد أن دمر المغول في غزواتهم كل معاهد العلم في العالم الاسلامي ، وبعد أن قضى الاسبانيون على المدارس الإسلامية في الأندلس ، ولم يبق في العالم الإسلامي على رسالة العلم والثقافة وبناء الحضارة غير الأزهر الشريف.

ولما فتح سليم الأول العثماني مصر ، أخذ يظهر التودد إلى العلماء ، والرعاية للأزهر ، ويكثر من زيارته والصلاة فيه ، وأمر بتلاوة القرآن به ، وتصدق على فقراء طلابه.

وفي عام ١٠٠٤ ه‍ ـ ١٥٩٥ م جدد الأزهر وإلى مصر العثماني الشريف محمد باشا في عهد السلطان العثماني محمد الثالث ، ورتب لطلبته الفقراء طعاما يجهز لهم كل يوم ، فكان ذلك حافزا كبيرا على زيادة الاقبال عليه.

ولم يكن للأزهر قانون معين ، حتى عام ، ١٢٨٨ ه‍ ـ ١٨٧٢ م ، ففي هذا العام ، وفي عهد شيخه الشيخ محمد العباسي وضع قانون للتدريس في الأزهر صدر به مرسوم خديوي بتاريخ ٢٢ من ذي القعدة عام ١٢٨٧ ه‍ ـ ٣ فبراير ١٨٧٢ م ـ نص فيه على ما يلي :

١ ـ أن يكون الحصول على شهادة العالمية بامتحان يجري على يد لجنة من العلماء يختارهم شيخ الجامع.

٢ ـ أن يقسم العلماء إلى درجات ثلاث : أولى وثانية وثالثة.

٣ ـ أن تكون العلوم التي يمتحن فيها الطلاب هي : الفقه ـ الأصول ـ التوحيد ـ الحديث ـ التفسير ـ النحو ـ الصرف ـ البلاغة ـ المنطق.

ولم يكن يسمح بدخول الامتحان إلا لستة من الطلاب ، فإذا ازداد العدد يرجح منهم من امتاز بالشهرة أو بكبر السن.

وفي عام ١٣١٢ ه‍ ـ ١٨٩٥ م في عهد الخديو عباس الثاني وضع


قانون جديد للأزهر ، ألف بمقتضاه مجلس لإدارة الأزهر من أكابر شيوخه الممثلين للمذاهب الأربعة ، ومن ممثل للحكومة.

ولا ننسى أن أقدم أساتذة الأزهر كان هو القاضي أبو الحسن علي بن النعمان (ـ ٣٧٤ ه‍) فهو أول أستاذ ألقى درسا في الأزهر ـ ثم تلاه أخوه القاضي محمد بن النعمان (ـ ٣٨٩ ه‍ ـ ٩٩٩ م) ـ ثم ابنه الحسين بن النعمان قاضي الحاكم بأمر الله الفاطمي.

ومن أساتذته أبو عبد الله القضاعي الفقيه والمؤرخ (ـ ٤٥٤ ه‍ ـ ١٠٦٢ م) وكان هو سفير المستنصر بالله الفاطمي إلى قيصرة القسطنطينية «تيودورا» لعقد صلح بين مصر والامبراطورية الرومانية الشرقية ، ومن كتبه «المختار في ذكر الخطط والآثار».

ومن الأساتذة كذلك الأمير المختار عز الملك محمد المشهور بالمسبحي (ـ ٤٢٠ ه‍ ـ ١٠٢٩ م) وهو من أقطاب العلماء ومشهوريهم وله كتاب بعنوان «أخبار مصر وفضائلها».

ومنهم كذلك الشاطبي (٥٣٨ ـ ٥٩٠ ه‍ ـ ١١٩٤ م) إمام القراءات في عصره.

وممن قام بالتدريس في الأزهر المؤرخ عبد اللطيف البغدادي (ـ ٦٢٩ ه‍) ، وقد قدم على مصر عام ٥٨٩ ه‍ ـ ١١٩٣ م ، وتولى التدريس بالأزهر أعواما عدة ، في مواد الكلام والبيان والمنطق ، كما ألقى بعض دروسه الطبية في حلقات خاصة.

وكذلك الشاعر الشيخ الصوفي الكبير شرف الدين عمر بن الفارض (ـ ٦٣٢ ه‍ ـ ١٢٣٤ م) ، وابن خلكان شمس الدين (ـ ٦٨٠ ه‍ ـ ١٢٨١ م) الذي وفد على القاهرة عام ٦٣٧ ه‍ ـ ١٢٣٩ م.

وكذلك ابن هشام أمام العربية في مصر (ـ ٦٤٦ ه‍) ، وشيخ


المؤرخين ابن خلدون (ـ ٨٠٨ ه‍ ـ ١٤٠٦ ه‍). ولما قدم ابن بطوطة إلى مصر عام ٧٢٦ ه‍ ـ ١٣٢٥ م زار الأزهر ، وتعرف بعلمائه وذكر بعضهم ، ومنهم : قوام الدين الكرماني ـ شرف الدين الزواوي المالكي ـ شمس الدين الأصبهاني (راجع الرحلة لابن بطوطة ص ٢٥).

وكذلك ممن درسوا في الأزهر ابن حبان الغرناطي العالم اللغوي المشهور ، حيث كان يلقي دروسه فيه.

وكذلك المؤرخ المشهور تقي الدين المقريزي.

ومنذ أواخر القرن الثامن قلما نجد شيخا مشهورا أو أستاذا كبيرا ، لم يأخذ مجلسه في الأزهر ، وبحسبنا أن ابن خلدون شيخ المؤرخين اتخذ حلقة علمية له فيه ، وكان تدريسه في الأزهر وجلوسه في حلقاته العلمية ، حدثا علميا كبيرا.

وممن درسوا فيه كذلك : تلميذ ابن خلدون المؤرخ المشهور العلامة المغربي محمد تقي الدين الفاسي (ـ ٨٤٢ ه‍).

ومن شيوخه كذلك : الإمام شهاب الدين بن عبد الحق السنباطي (ـ ٩٥٠ ه‍ ـ ١٥٤٣ م) ، والشيخ الخرشي المالكي شيخ الجامع الأزهر (ـ ١١٠١ ه‍ ـ ١٦٨٩ م) ، والشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي (ـ ١١٠٦ ه‍ ـ ١٦٩٥ م) وكان من شيوخ الأزهر الشريف ، والشيخ حسن بن علي الجبرتي (ـ ١١١٦ ه‍ ـ ١٧٠٤ م) وهو جد المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي.

ومنهم كذلك العلامة المغربي شهاب الدين المقري (ـ ١٠٤١ ه‍ ـ ١٦٣٣ م) وقد وفد على مصر عام ١٠٢٧ ه‍ ـ ١٦١٨ م ومنذ ذلك التاريخ لازم التدريس في الجامع الأزهر ، وأقبل على حلقته العلمية الأساتذة والطلاب.


ومنهم كذلك الشيخ الإمام الصوفي عبد الغني النابلسي الذي زار مصر عام ١١٠٥ ه‍ ، والذي تصدر حلقة علمية من حلقاته ، وكذلك مرتضى الزبيدي اليمني صاحب شرح القاموس ، وكان من كبار العلماء في الحديث واللغة والأدب ، وكتابه «تاج العروس من جواهر القاموس» مشهور ، وقد ترجم له تلميذه الجبرتي في تاريخه (٢ ص ٢٠٨ ـ ٢٢٠ عجائب الآثار للجبرتي).

ومن أعلام شيوخه ومدرسيه الإمام محمد عبده (ـ ١٩٠٥ م) مفتي مصر ، ومصلح الأزهر ، ومنشىء مكتبته ، وواضع أهم قوانينه. وكان يلقي دروسه في التفسير فيه في الرواق العباسي.

وممن تخرجوا فيه أو درسوا فيه طائفة كبيرة من أعلام نهضة مصر ، ومنهم الزعيم أحمد عرابي ، وسعد زغلول ، وعبد الله فكري باشا (ـ ١٨٨٩ م) ، والمنفلوطي (ـ ١٩٢٤ م) ، والشيخ محمد شاكر (ـ ١٩٣٩ م) ، والشيخ عبد العزيز البشري (ـ ١٩٤٣ م) ، والشيخ أحمد الزين ، ود. زكي مبارك (ـ ١٩٥٢) ، وطه حسين ، وأحمد حسن الزيات ، وغيرهم.

ومن أعلام المتخرجين فيه كذلك : الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري (ـ ١٨٨٨ م) ـ والشيخ حسين المرصفي (ـ ١٨٨٩ م) ، والشيخ حمزة فتح الله (ـ ١٩١٨ م) ، والشيخ سيد المرصفي (ـ ١٩٣١) ، وغيرهم.

وقد تولى مشيخة الجامع الأزهر منذ العصر العثماني إلى اليوم ثمانية وأربعون شيخا ، أولهم الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي المالكي المتوفى في ١٧ من ذي الحجة عام ١١٠١ ه‍.

ومنهم : الشيخ البرماوي (ـ ١١٠٦ ه‍) والنشرتي (ـ ١١٢٠ ه‍) ،


والشيخ عبد الله الشبراوي أمام الصوفية في عصره (١٠٩٢ ـ ١١٧١ ه‍) ومنهم الشيخ عبد الله الشرقاوي الشافعي (١١٥٠ ـ ١٢٢٧ ه‍ : ١٧٣٧ ـ ١٨١٢ م) والشيخ حسن العطار (ـ ١٢٥٠ ه‍) ، والشيخ مصطفى العروسي ، والشيخ محمد العباسي المهدي ، والشيخ محمد الإنبابي ، والشيخ حسونة النواوي ، والشيخ عبد الرحمن النواوي ، والشيخ سليم البشري المتوفى في ١٧ من أكتوبر عام ١٩١٧ م ، والشيخ أبو الفضل الجيزاوي ثم الشيخ المراغي ، والشيخ الأحمدي الظواهري ، والشيخ المراغي للمرة الثانية حتى توفي عام ١٩٤٥ ، ثم الشيخ مصطفى عبد الرازق (ـ ١٩٤٨) ، فالشيخ مأمون الشناوي ، فالشيخ إبراهيم حمروش ، فالشيخ عبد المجيد سليم ، فالشيخ محمد الخضر حسين ، فالشيخ عبد الرحمن تاج ، فالشيخ محمود شلتوت ، فالشيخ حسن مأمون ، فالشيخ محمد الفحام ، فالشيخ عبد الحليم محمود ، فالشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخه الذي تولى مشيخة الأزهر.

ولا ننسى ثورات الأزهر الوطنية ، ثورة الشيخ الدردير التي وضعت أول ميثاق لحقوق الإنسان ، وثورة الشيخ عبد الله الشرقاوي التي ألزمت الحكام المماليك بالعدالة في معاملة الشعب ، ثم ثورة عرابي ، وثورة عام ١٩١٩ ، وهما اللتان أيدهما الأزهر وشارك فيهما مشاركة فعالة .. ولا ننسى كذلك ثورة القاهرة الأولى والثانية التي قام بها الأزهر من أجل تحرير مصر من الاحتلال الفرنسي.

وبعد ، فهذا هو الأزهر ، وهذا هو تاريخه الحافل ، في بناء الثقافة والفكر والحضارة في مصر الإسلامية ، بل في العالم الإسلامي كافة. ولا يزال الأزهر يتصدر حتى اليوم الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي.

وسوف تحتفل مصر الخالدة بالعيد الألفي للأزهر بعد شهور قليلة ،


لتقدم باسمها وباسم العالم الإسلامي لهذه الجامعة العريقة كل عرفان بالفضل ، وتقدير للصنيع ، على ما قام به طوال ألف عام من بناء للفكر وللوطن وللإنسان.


ترجمة القرآن الكريم

اقترح شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات العالمية وتقدم بها مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف وأن يقرر مجلس الوزراء المصري الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل.

وذلك في خطاب بعث به الشيخ المراغي إلى رئيس مجلس الوزراء في مصر.

وقد ناقش المشروع كثير من الناس ، وكتب الشيخ محمد سليمان القاضي الشرعي كتابا بعنوان «حدث الأحداث في الإسلام الإقدام على ترجمة القرآن» ، وأخرج محمد مصطفى الشاطر كتابه «الرد على مشروع ترجمة القرآن الكريم».

فأصدرت جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف فتوى بإجازة ترجمة معاني القرآن الكريم ، وقع عليها الأعضاء ، وهم :

ـ محمود الديناري شيخ معهد طنطا.

ـ عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين.

ـ إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة.

ـ محمد مأمون الشناوي شيخ كلية الشريعة.


ـ عبد المجيد سليم مفتي مصر.

ـ محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الأزهر.

ـ دسوقي عبد الله العربي.

ـ يوسف الدجوي.

ـ محمد سبيع الذهبي شيخ الحنابلة.

ـ أحمد الدلبشاني.

ـ عبد المعطي الشرشيمي.

ـ عبد الرحمن قراعة.

ـ أحمد نصر.

ـ محمد الشافعي الظواهري.

وبعد ذلك أصدر مجلس الوزراء قرارا بالموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية في جلسته المنعقدة في ١٦ أبريل ١٩٣٦.


الشيخ المراغي

هو الشيخ محمد مصطفى المراغي ، ولد في مراغة أحد مراكز سوهاج في مارس ١٨٨١ ، بدا رحلته التعليمية بحفظ القرآن الكريم ، ثم ذهب إلى طهطا لمواصلة العلم واتجه بعدها إلى الأزهر الشريف وحصل منه على العالمية في عام ١٩٠٤ ، اشتغل في مستهل حياته الوظيفية بالسودان ، وقد عين قاضيا في دنقلة في نفس السنة التي تخرج فيها من الأزهر ثم عين قاضيا لمديرية الخرطوم في ديسمبر ١٩٠٦ ورقى بعدها ليشغل وظيفة قاضي القضاة في ديسمبر ١٩٠٨ وهو أكبر منصب قضائي في السودان كله ، نظم خلاله القضاء الشرعي بالقطر الشقيق. ثم نقل إلى مصر في سبتمبر ١٩١٩ ، وظل يرقى المناصب القضائية إلى أن عين رئيسا لمحكمة مصر الشرعية العليا في عام ١٩٢٣ مما أتاح له أن ينهض بقانون الأحوال الشخصية بعد أن برم الناس به ، واستطاع أن يأخذ من التشريع الإسلامي من غير تقيد بمذهب ، ولمس الناس أثر إصلاحاته الكبرى.

ثم حاول القيام بأخطر مهمة في تاريخ الأزهر وذلك عن طريق تطويره وإصلاحه ومسايرته لروح العصر إذ عين شيخا للجامع الأزهر في مايو ١٩٨٢. بدأ عمله بنهج طيب مفاده أن يحفظ للخريج مكانته. إذ أرادت وزارة الأوقاف منذ عام مضى (أي في عام ١٩٢٧) إنشاء مدرسة الوعظ


والإرشاد ، لأنها ظنت أن علماء الأزهر غير قادرين على تأدية هذه المهمة.

وكان لهذه المدرسة مخصصات في ميزانية ١٩٢٨. فتدخل الشيخ متعللا بأنه في الإمكان الاستغناء عن تلك المدرسة بعد إصلاح الأزهر ، وكان بالفعل قد سار شوطا في هذا المجال. فكتب مذكرته الإصلاحية الشهيرة ـ والتي تعتبر بحق دستور الإصلاح في الأزهر الحديث ـ ضمنها آراءه وأفكاره وخلاصة تجاربه ، وأهم ما جاء فيها تقسيم القسم العالي بالأزهر إلى كليات ثلاث : كلية أصول الدين والشريعة واللغة العربية وإنشاء قسم للدراسات العليا يسمى تخصص المادة ، ثم بعض المواد في كيفية ادارة الأزهر.

وانقسم الأزهر أمام تلك الآراء إلى قسمين : مؤيد ومعارض ، وقف الملك فؤاد بجانب الفريق المعارض ، للخلاف الناشىء بينه وبين المراغي في بعض مواد القانون فقدم استقالته من مشيخة الأزهر ، وبالرغم من قصر المدة التي قضاها وهي لا تتعدى أربعة عشر شهرا ، إلا أنها كانت فترة حافلة بآثارها ونتائجها. فقد كان لآرائه وقع كبير في نفوس كل من العلماء وطلبة الأزهر ، يدل على ذلك أن قام الأزهريون عن بكرة أبيهم شيوخا وطلابا في مظاهرة من العنف والشدة ومن ورائهم الأمة جمعاء ، وليس لهم من مطلب سوى عودة الشيخ إلى الأزهر ليواصل المسيرة الإصلاحية ، فرضخ المسئولون وعلى رأسهم الملك لمطلب الشعب وعاد الشيخ إلى الأزهر.

فسكنت نفوس الأزهريين وأرادوا التعبير عن ولائهم له والسرور بعودته فأقاموا لتلك المناسبة حفلا لتكريمه بأرض المعرض الزراعي احتشد فيه أكثر من ثلاثين ألف رجل من جميع فئات الشعب ، وحضره بعض الأمراء ورجال الفكر والسياسة في العالم.

وقد صدرت الصحف صباح الحفل تشيد بنظامه ومما ألقى فيه من خطب وقصائد وتهنىء الشيخ وتغبطه على مقامه في الأزهر وفي الأمة حتى


لقد قال بعض رجال الصحافة : لم يشهد العالم لا في أوروبا ولا في مصر حفلا اجتمع له من أسباب الروعة والنجاح مثلما اجتمع لذلك الحفل العظيم.

عاد الشيخ إلى الأزهر مرة ثانية ليواصل ما بدأه من إصلاح وكان الإصلاح في نظره يقوم على ركنين : تخريج العالم الكفء الذي يصلح لتأدية رسالة الأزهر وهي نشر الدين في مصر وغيرها والثاني كفالة المستقبل لخريجي الأزهر ليحتفظوا بكرامتهم ويؤدوا رسالتهم. ولتحقيق الركن الأول أضاف إلى العلوم التي كانت تدرس في الأزهر علوما رآها ضرورية ، كما أضاف إليها بعض اللغات الأجنبية ، ولتحقيق الركن الثاني ، بين في القانون حقوق الخريجين في كل كلية من وظائف الدولة. وأخذ الشيخ يواصل خطواته في إصلاح الأزهر فأوفد بعثات أزهرية إلى أوروبا ، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد ووضع مشروع مباني المدينة الأزهرية التي تجمع كلياته ومعاهده ومكتبته العامة ومساكن للطلبة ، وأنشأ لجنة الفتوى بالأزهر فأصبحت منارة للمسلمين من سائر أنحاء العالم الإسلامي في شئونهم الدينية. وقد أحيا في عهد مشيخته الثانية سنة علمية دينية قديمة وذلك بالقاء كبار العلماء دروسا للملوك والأمراء ، فأخذ يلقي على الملك فاروق وكبار رجال الدولة وجمهرة من الشعب دروسا في تفسير القرآن الكريم في عصور وأمسيات كل جمعة من رمضان مدة عشر سنوات بأسلوب مبتكر في التفسير آثار إعجاب العالم الإسلامي كله.

أما عن مواقفه السياسية والوطنية فهي أكثر من أن تحصى ، وإن كان لا بد لنا من أن نعدد جانبا منها ، فعلينا أن نسرد التالي : حدث بعد تخرجه في الأزهر أن عين قاضيا للسودان ثم غضب عليه الانجليز ، فعاد إلى مصر وعين مفتشا في المساجد ، وبعد ذلك عرض عليه الانجليز مرة أخرى منصب قاضي قضاة السودان ، وبذلك يقفز مرتبة من ٦ جنيهات إلى ٤٥ جنيها فقال : إنه يوافق على ذلك بشرط أن يعين بمرسوم مصري ـ ديكريتو ـ


فاستدعاه اللورد كتشنر العميد البريطاني في ذلك الحين وقال له : كيف تشترط هذا ونحن نرفع مرتبك إلى أكثر من سبعة أضعاف مرتبك الحالي؟ فقال فضيلته : «لن أقبل التعيين إلا إذا عينت بمرسوم مصري فسن بذلك سنة أجبرت عليها بريطانيا ، بأن صار تعيين قاضي قضاة السودان بموجب مرسوم ملكي مصري.

وكان للشيخ أثناء عمله بالسودان موقف مشرف تجاه ثورة الشعب المصري عام ١٩١٩ ، فقد روي ضباط الجيش المصري الموجودون بالسودان روايات كثيرة عن وطنيته آنذاك. حيث قاد الثورة المصرية في السودان بخطبه الثورية الفوارة وظل الشيخ وهو بالسودان يرقب أحداث الثورة المصرية وتطورها ويوجه المصريين وجهة الخير ، وكان قطبهم الذي يدورون حوله. وكان يجمع من المصريين والسودانيين ، التبرعات المالية للإنفاق منها على بعض نواحي الثورة كاسعاف الجرحى ومواساة أسر المنكوبين ، مما جعل وجوده في السودان خطرا مستفحلا على النفوذ الانجليزي به ، فتخلصوا من الشيخ وسافر إلى مصر.

ومن أشهر مواقفه السياسية ما كان منها أثناء نشوب الحرب العالمية الثانية فقد هاله وروعه ما أحدثته غارات دول المحور على مدن مصر من دمار وخراب وتقتيل وتشريد للأنفس البريئة ، فخطب في مسجد الرفاعي خطبة بليغة أعلن موقف مصر منها وأنها لا مصلحة لها فيها في الاشتراك في الحرب ولا ناقة لها فيها ولا جمل. ولقد أحدثت تلك الخطبة ضجة هائلة وقامت لها الحكومة المصرية وقعدت واهتزت لها الحكومة الإنجليزية بعنف. وطلبت إلى الحكومة المصرية بيان موقفها من هذه الفكرة واتصل به رئيس الوزراء وخاطبه في لهجة يفوح منها رائحة التهديد فثارت ثائرته وقال له : مثلك يهدد شيخ الأزهر وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة؟ ولو شئت لصعدت منبر الحسين وأثرت عليك الرأي العام ولو فعلت لوجدت مكانك على الفور بين عامة الشعب.


هذه لمحة سريعة عن بعض مواقفه الوطنية ، ومجمل القول كان الرجل طرازا فريدا من نوعه اعتمد على حب الشعب له ، فبادله الشعب حبا بحب ، ولذلك بكته مصر والعالم الإسلامي عند وفاته في ٢٢ أغسطس سنة ١٩٤٥ إذ خرجت مئات الآلاف لتوديع رجلها الذي كانت تحس به (١).

__________________

(١) جريدة التعاون مارس ١٩٧٥.



شيخ جامعة الأزهر الحالي

الدكتور محمد السعدي عوض فرهود

علم من أعلام الأزهر المعاصرين ، وشيخ جليل من كبار شيوخه.

ولد بمدينة الزرقا بمحافظة دمياط في أول يناير سنة ١٩٢٣ وحصل على الابتدائية الأزهرية من معهد دمياط سنة ١٩٣٩ وعلى الثانوية من معهد الزقازيق الأزهري سنة ١٩٤٤ وتخرج في كلية اللغة العربية سنة ١٩٤٨ وحصل على دبلوم معهد التربية العالي للمعلمين سنة ١٩٥٠ ودبلوم الدراسات العليا للمعلمين سنة ١٩٥٤ ودورة الصحافة المدرسية سنة ١٩٥٦ ، ودبلوم معهد الدراسات العربية العالية في الدراسات الأدبية واللغوية سنة ١٩٥٦ م ، والماجستير بتقدير ممتاز في الدراسات الأدبية سنة ١٩٥٨ والدكتوراه في الأدب العربي الحديث سنة ١٩٦٧ بمرتبة الشرف الأولى.

بدأ وظيفته مدرسا بمدرسة سوهاج الثانوية سنة ١٩٥٠ ثم اختير للتدريس بالمدارس النموذجية سنة ١٩٥٤ وهو أول مدرس للغة العربية بالمدرسة الثانوية النموذجية للمتفوقين سنتي ١٩٥٦ ، ١٩٥٧.

شغل عدة وظائف أخرى منذ سنة ١٩٥٧ منها :


عضو فني وباحث بإدارة البحوث الفنية والمشروعات بوزارة التربية والتعليم (١٩٥٧).

عضو فني ووكيل إدارة قسم آسيا بالسكرتارية الفنية للجنة العليا للعلاقات الثقافية الخارجية بوزارة التعليم العالي (١٩٥٩).

مدير مساعد المركز الثقافي العربي بالرباط بالمملكة المغربية (١٩٦٠).

مدير إدارة الخطة بوزارة العلاقات الثقافية الخارجية (١٩٦٤).

مستشار بوزارة الإرشاد القومي (١٩٦٦).

عضو مكتب وزير الدولة لشئون الأزهر (١٩٦٦).

انضم إلى هيئة التدريس في قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة سنة ١٩٦٨ ، ثم رقى أستاذا للأدب والنقد في التاسع من مارس سنة ١٩٧٧ م.

اختير وكيلا لكلية اللغة العربية بأسيوط سنة ١٩٧٣ ، ووكيلا فعميدا لكلية اللغة العربية بالمنصورة سنة ١٩٧٦ حيث شارك في إنشائهما ووضع أسس العمل بالكليات الإقليمية الناهضة بجامعة الأزهر.

انتدب في سبتمبر سنة ١٩٧٩ وكيلا لجامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث وفي أغسطس سنة ١٩٨٠ عين نائبا لرئيس الجامعة لشئون الدراسة والتعليم والطلاب.

عين وكيلا للأزهر ـ بدرجة وزير ـ في ١٦ / ٢ / ١٩٨١. وهو أول وكيل للأزهر يعين بهذه الدرجة.

عين رئيسا لجامعة الأزهر في أول سبتمبر ١٩٨٣.


نشاطه :

* عضو المجلس الأعلى للجامعات بمصر.

* عضو مجمع البحوث الإسلامية.

* عضو مجلس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا.

* عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

* عضو نائب رئيس رابطة الجامعات الإسلامية.

* عضو المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي.

* عضو المجلس القومي للثقافة والآداب والفنون.

* عضو مجلس اتحاد الإذاعة والتلفزيون بمصر.

رئيس اللجنة الدينية باتحاد الإذاعة والتلفزيون.

* رئيس مجلس إدارة مركز صالح عبد الله كامل للدراسات والبحوث الاقتصادية بجامعة الأزهر.

* رئيس مجلس إدارة المركز الدولي الإسلامي للبحوث السكانية بجامعة الأزهر.

* أشرف على أكثر من ٦٠ رسالة ماجستير ودكتوراه ، وناقش أكثر من مائة وخمسين رسالة جامعية في الدراسات الأدبية والدينية والتربوية.

ـ أستاذ غير متفرغ بكلية اللغة العربية بالمنصورة للإشراف على الدراسات العليا بها منذ تعيينه وكيلا للأزهر.

* مقرر اللجنة العلمية الدائمة للترقية إلى وظائف الأساتذة بجامعة الأزهر.

ـ بدأ منذ أول يناير سنة ١٩٨٣ تفسير القرآن الكريم في برنامج يومي بإذاعة القرآن الكريم من القاهرة تحت عنوان (على هامش التلاوة) والبرنامج مستمر.


مؤلفاته :

ـ له عدة مؤلفات في الدراسات الاسلامية والأدبية منها :

ـ في البيان القرآني : ١ ـ تفسير سورة الرعد ، ٢ ـ وتفسير سورة إبراهيم.

ـ في الحديث النبوي : ١ ـ التعريف بالحديث الشرف. ٢ ـ وفي رحاب الهدى النبوي ، ٣ ـ والهدية السعدية شرح الأربعين النبوية.

ـ في الدراسات الأدبية : ١ ـ ابن زيدون وشعره ، ٢ ـ والوصف في شعر المتنبي ، ٣ ـ والاتجاهات الفنية في شعر عبد الرحمن شكري ، ٤ ـ والتيار الفكري في شعر شكري ، ٥ ـ والتيار الاجتماعي في شعر شكري ، ٦ ـ والنديم الأديب ، ٧ ـ والنبع الصافي ، ٨ ـ والكوثر العذب.

ـ في الدراسات النقدية : ١ ـ اتجاهات النقد الأدبي العربي ، ٢ ـ وقضايا النقد الأدبي ، ٣ ـ والمذاهب النقدية بين النظرية والتطبيق ، ٤ ـ ونصوص نقدية لأعلام النقاد العرب.

ـ في الدراسات البلاغية : ١ ـ أسرار البلاغة في التشبيه والتمثيل ، ٢ ـ ومبحث التقديم في دلائل الإعجاز ، ٣ ـ والعبارة وتأليفها بين كتابي نقد النشر والبرهان.

ـ في الدراسات اللغوية : ١ ـ فن القريض ، ٢ ـ ومن أدب الكاتب.

وأتم تفسيرا كاملا للقرآن الكريم في عدة أجزاء كبيرة.


الإمام نافع الخفاجي الكبير

١٢٥٠ ه‍ ـ ١٨٣٤ م ـ ١٣٣٠ ه‍ ـ ١٩١٢ م

إمام كبير ، وعالم جليل ، وأديب نابغة ، وفقيه مجتهد ، عنه مصادر واسعة تحدثنا عنه في إفاضة وسعة ودقة تحقيق وتحليل.

ترجم لنفسه في صدر معلقته الخفاجية ترجمة طويلة مستفيضة سننقل عنها في إيجاز واختصار ، قال : «نافع الخفاجي بن الجوهري بن سليمان بن حسن بن مصطفى بن أحمد الخفاجي التلباني من بني خفاجة وأمي من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب ، وجدتي أم والدي من بني شاكر ولهم اتصال في شرف الحسب.

«وكان مولدي في حدود سنة ١٢٥٠ ه‍ ، «وكنت بعد سن التمييز في مغرس طيب النبت عزيز ، في حجر والدي ، ممتعا بذخائر طريفي وتالدي ، مربى بغذاء النعم في الظاهر والباطن ، في النعيم المقيم بأرفع المساكن ، ومقام والدي الجوهري غني عن المدح ، والورق بأوكارها لا تعلم الصدح».

«وحفظت القرآن ولي دون اثنتي عشرة سنة ، ثم حفظت المتون كمتن أبي شجاع ومنهج الفقه وألفية ابن مالك والأجرومية والرجبية والجزرية


والجوهرة والسنوسية ومتن السلم وتحفة الميهي ومتن السمرقندية ومتن الزبد لابن رسلان وغيرها».

فلما درجت من عشى تركت تلك النعم المتكاثرة ورحلت في طلب العلم إلى القاهرة» .. «كان وصولي الأزهر أواخر سنة ١٢٧١ ه‍ ثم في أول سنة ١٢٧٢ حضرت ابن قاسم والكفراوي ، وفي سنة ١٢٧٣ حضرت البرماوي والكفراوي أيضا ، وفي هذه السنة زلزلت الأرض والبلاد زلزلة عظيمة هدمت منها بعض البيوت والمآذن بمصر ، وفي سنة ١٢٧٤ حضرت شرح الخطيب ثانيا وشرح الأزهرية وحاشيته وشرح القطر. وفي هذه السنة توفي أخي محمد الغندور ، وفي سنة ١٢٧٧ حضرت التحرير وشرح القطر ثانيا وشرح الشذور».

«حضرت على سيبويه زمانه وعلامة عصره وأوانه شيخ الإسلام وتاج العلماء الأعلام شيخنا إبراهيم الباجوري طيب الله ثراه وجعل الفردوس مأواه ، فحضرت دروسه في المنهج والتحرير وكتب الحديث والتفسير ، وهو الإمام الذي اقتدت به علماء الأمصار ، وتنزهت من فضائله في حدائق ذات بهجة وأنوار».

وقرأت على من رقى في معارج الفنون مولانا الشيخ إبراهيم السقا شرح الجامع الصغير وشيئا من كتب التفسير ، وقرأت الفقه وشيئا من الحديث على الشيخ محمد الأشموني ، وقرأت على شيخنا الخضري شرح المنهج والتحرير والنحو والبيان ، ونافست في الجد والطلب جميع الإخوان ، وقرأت على الشيخ مصطفى البدري شيئا من الفقه والنحو وغيرهما ، وقرأت على الشيخ الرهابيني شيئا من المنطق والنحو والبيان ، وكتب لي بخطه أجازة (موجودة لدى صورتها الخطية) ، وهي «تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ، المحي مآثر الأعيان ، بنشر ثنائهم المخلد في صحائف الأيام ، والصلاة والسلام على أفضل الرسل الكرام ، وعلى آله


وصحبه ما طرز البرق برود الغمام أما بعد فقد سألني الأخ في الله تعالى الشيخ العالم العلامة نافع بن الجوهري بن سليمان الخفاجي التلباني أن أجيزه بجميع مروياتي من فقه وحديث وتفسير ونحو ومنطق وبيان وبديع وعروض من معقول ومنقول وإفتاء وتدريس وكل ما أخذته عن مشايخي الأجلة ، لكونه وسمني بسمة العلم ولست من أهله :

إذا كان الزمان زمان سوء

فيوم صالح فيه غنيمة

فعلمت لياقته لذلك فقلت : أجزته بجميع مروياتي من مشايخي الأخيار ، وما لهم من التآليف والآثار ، وأوصيه بتقوى الله والوقوف على حدود شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يتحرى في القول والعمل ، وأن لا ينساني من صالح دعواته ، صانه الله وحماه ، وقلد جيد مجده بفرائد حلاه» .. وتاريخ هذه الإجازة جمادى الآخرة سنة ١٢٨٣ ه‍.

ونظرت في كتب المذهبين : مذهب الشافعي والنعمان ، مؤسسا على الأصلين من مشايخ العصر ، متنزها في حدائق السحر ، وشحا لآدابي بحلل النظم والنثر».

ومن أجل من أخذت عليه شيخنا الرافعي ، قرأت عليه شرح الشفا وقطعة من البخارى فأجازني بذلك» «وممن قرأت عليه الشيخ على الملبط ، حضرت عليه طرفا من العلوم وشيئا من حديث الرسول فأمدني بدعاء لا شك أنه على أكف القبول محمول ، ومنهم الشيخ النجريدي كان ينوه باسمي ويفتح جريدته برسمي. ومنهم شافعي زمانه وعلامة أوانه الشيخ نور الدين المنوفي ، حضرت دروسه الفقهية».

«وحمدت في طلب العلم السري ، ونبهت عيون حظي من سنة الكرى ؛ وقلت : دار بدار ، والعمر فرصة فالبدار. وكل ما تهواه حسن : وليس لما قرت به العين ثمن ، ففارقت من فارقت غير مذمم. ويممت من يممت خير ميمم وأخذت الفقه والنحو والتوحيد والفرائض والبيان والمنطق


والتفسير والحديث عن جماعة من الشيوخ ، وقد فتح الله علي في علوم الفقه والفرائض والتوحيد والتفسير والحديث والنحو والمنطق والبيان واللغة والعروض والإنشاء والطب والحساب ، والحروف والأوقاف والتاريخ ... ودون هذه : أصول الفقه والتصريف والاشتقاق والجدل والوضع ، ودونها : القراءات ولم آخذها من شيخ : ولضيق يدي عن شراء ما أحتاج إليه من الكتب كنت أطالع كل ما أمكنني مطالعته».

ثم أذكر جملة أسماء الكتب التي قرأها على العلماء أو طالعها أو حفظها وكانت كثيرة جدا تفوق على الألف كما يقول هو في مقامته ، ونلاحظ أن من الكتب التي قرأها في فن العربية والأدب وما يتصل به هذه الكتب : الوسيلة الأدبية للمرصفي ، حلبة الكميت ؛ أساس البلاغة للزمخشري ، أدب الكاتب لابن قتيبة ، صحاح الجوهري ، فقه اللغة ، المزهر ، المثل السائر ، شفاء الغليل ، الشفا في بديع الاكتفا للنواجي ، تاريخ ابن خلدون ؛ ابن خلكان ، الخطط للمقريزي ، حسن المحاضرة للسيوطي ، نفح الطيب ، الأغاني ، الكامل لابن الأثير ، الغناء في دمشق الفيحاء ، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ، آثار البلاد للقزويني ، الخصائص للسيوطي ، المسامرات لابن عربي ، فاكهة الخلفاء ، فوات الوفيات ، الخزانة ، مقاماتالحريري وشرح الشريشي عليها ، طراز المجالس للشهاب الخفاجي ، الكشكول ، الموازنة للآمدي ، قلائد العقيان ، يحانة الألباب للشهاب الخفاجي ، حديقة الأفراح ، رسائل الخوارزمي والبديع ، حياة الحيوان للدميري ، ثمرات الأوراق ، شرح رسالة ابن زيدون ، ديوان الصبابة ، المستطرف ، الإنشاء للعطار ، إنشاء مرعي ، ربيع الأبرار ، شرح ديوان ابن الفارضي ، شرح لامية العجم ، شرح ديوان امرىء القيس ، سوى الدواوين الكثيرة التي قرأها ، وذلك كله مما يوقفنا عليسر ثقافته الأدبية.

ثم قال : «ومصنفاتي في هذا الوقت تبلغ الخمسين ولم يكن لي


شغل بالليل والنهار سوى المطالعة :

ولدي الآن صورة خطية للأجازة العلمية التي كتبها له الشيخ الباجوري ..

بدأها بالحمد والصلاة على الرسول في إفاضة ، ثم أفاض في فضل العلم ... إلى أن قال :

«وإن ممن قدم علينا بمدينة القاهرة ، التي هي بالمحاسن ظاهرة ، وبأكابر العلماء زاهرة ، وبمدارس العلوم عامرة ، وروضتها بأنفاس أكابر العلماء عاطرة ، وأشعة شموس علومهم بها باهرة ، لا سيما الجامع الأزهر والمسجد الأنور ، الذي فيه العلوم تقرر ، وبساط العرفان ينشر ، فهو بذلك عن كل المساجد متفرد ، وبتلك الخصيصة مشهور لمن إليه يرد. تجني من رياض دروسه ثمار العلوم ، وتنبت ـ كما ينبت البقل ـ بأرضه الفهوم ، فمحله في الفضل غير منكور. ومهارة علمائه في الفنون أمره مشهور :

العالم الفاضل الماهر الكامل ، الألمعي اللوذعي ، صاحب الأفهام الدقيقة ، والمعاني الدقيقة. نافع الخفاجي التلباني ، وقد أخذ المذكور عن علمائه ومشاهير فضلائه ؛ وتفيأ في ظلال معارفهم ، واقتطف أزهار لطائفهم ، وتعطر بعبير أنفاسهم ، واستضاء بمشكاة نبراسهم ، حتى حصل من علمهم الجم ، وغاص على تلك اللآلىء في ذلك اليم ، وجد واجتهد ، وحرر وقيد ، فربحت تجارته وحسنت شارته وعظمت فائدته ، وجلت عائدته ، وامتلأ وطابه ، وشرف بالانتماء إلى العلم انتسابه ، ولما حن حنين الفحل إلى وطنه ، وأراد الرجوع إلى وطنه ؛ زودته بالدعوات الصالحات ، وكسوته حلل الكرامة بتسطير الإجازات ، رجاء الانتظام مع هؤلاء العداء ، فقلت : أجزت المذكور بكل ما تجوز لي به الرواية ، وما تلقيت عن أشياخي ـ ضاعف الله أجورهم ـ رواية ودراية ، وبما لي من تأليف وتصنيف».


وتحمل هذه الإجازة هذا الامضاء : «الفقير إبراهيم الباجوري ـ خادم العلم.

ومع هذه الوثيقة صورة أخرى لرجاء أساتذته : الشيخ الملط والشيخ البدري والشيخ علي محمد المرفوع إلى شيخ الجامع الأزهر لإعطاء «ولده الفقير خفاجي بن الجوهري خفاجي من أهالي ناحية تلبانة بولاية الدقهلية تذكرة أسوة بأمثاله بإكرامه وعدم المعارضة له بطريق ما وإجازته بكل ما أفتى وما فعل ، والعهدة علينا في ذلك».

ويلي ذلك إجازة شيخ الأزهر له ومنها : «انتظم المذكور في سلك العلماء وأخذ عن الشيوخ الموجودين في هذا العصر بعضا من العلوم ؛ ودأب في التحصيل فمنح دقائق الفهوم ، فأجازه أشياخه بما أخذ عنهم تلقاه منهم ، ولما أراد الرجوع إلى وطنه التمس إجازته بما تجوز له روايته وتنسب له عن أشياخه درايته ، فسارعت لسؤاله ، وبادرت لتحقيق آماله ، فأجزته بما تجوز لي روايته من منقول ومعقول وما تنصرف إليه همم أرباب العقول ، وعليه العمل بتقوى الله وأن لا ينساني من دعواته الخ».

وعاد الفتى الشاب العالم من القاهرة يحمل معه إجازته العلمية واستقر أخيرا في قريته.

لا نعلم في أي تاريخ عاد من مصر إلى تلبانة ولكنه على كل حال عاش في البلدة ضجرا ملولا كارها لجوها وللحياة فيها ، يقول في مقامته :

فرجعت إلى بلدي فلم أجد بها أحد يحسن قراءة الفاتحة ، وصرت فيهم غريب الفضل منفردا كبيت حسان في ديوان سحنون ، وما زلت معتكفا في حرم المطالعة من كتاب قديم إلى كتاب جديد ، حتى جذبتني حاجة الحياة إلى مخالطة الجهال الأغمار.

وأخذ يطالع ويدرس ويؤلف وينظم الشعر ، ويتصل برجال إقليم


الدقهلية ، وكان صوفيا وخليفة السيد أحمد البدوي كما في وثيقة مخطوطة عام ١٢٨٢ ه‍ ، وفيها يذكر مشايخه في الطريقة أولهم عمر الصاوي المالكي الحفناوي.

وصار بعد قليل كبير العلماء في هذا الإقليم وإمام الإفتاء فيه ، والعلم المشار إليه بالبنان ، وقصده الناس من كل جهة وحدب ، وعاش مبجلا بين الناس في وسط بلده وأسرته.

تزوج أربع زوجات وخلف ذرية كبيرة صالحة ، وكان ينفق في حياته بسخاء على أسرته الكبيرة الضخمة.

وأخيرا وبعد جهاد طويل وعمر حافل بجلائل الأمور وعظائم الأعمال توفي عام ١٩١٢ الموافق سنة ١٣٣٠ ه‍ عن ثمانين عاما.

مؤلفاته :

اطلعت على فهرس لمكتبة هذا العالم الكبير المغفور له الشيخ نافع خفاجي بخطه فوجدته قد وضع الكتب في مجموعات كل مجموعة بحسب الفن الذي ألفت فيه ، فعلم الفقه وعلم الحديث وعلم التفسير ، وعلم التاريخ الخ ، وكتب في كل مجموعة ما له من مؤلفات في هذا الباب ، وقد جمعت ما ذكره من مؤلفاته ووضعت لها أرقاما مسلسلة وهي :

١ ـ الطب لنافع الخفاجي.

٢ ـ رسالة الكيمياء لنافع.

٣ ـ الألغاز لنافع وهو موضوع في «مجموعة الحكم ومجموعة العلم والأمثال والألغاز والمسائل».

٤ ـ مناسك الحج لنافع.

٥ ـ مسامرات نافع.


٦ ـ شرح كنز الطالبين في التوحيد لنافع الخفاجي.

٧ ـ العقد الفريد في علم التوحيد لنافع الخفاجي.

٨ ـ ديوان نافع الجوهري في الخطب والمواعظ.

٩ ـ مجموعة خطب نافع مرتبة على حروف المعجم «وهي خطب دينية».

١٠ ـ تحفة الأذكار لنافع الجوهري «في مجموعة الفضائل والأوراد».

١١ ـ فضائل رمضان في آية القيام لنافع الخفاجي.

١٢ ـ فضل رمضان وفضل العيد لنافع الخفاجي.

١٣ ـ أوراد نافع.

١٤ ـ إعراب لا سيما.

١٥ ـ الزهر الفائح «في مجموعة التصوف والمواعظ».

١٦ ـ عنوان المجاوبة لنافع الخفاجي «كتاب إنشاء».

١٧ ـ إنشاء نافع خفاجي المجموع من الصحف.

١٨ ـ إنشاء نافع في المدائح وغيرها.

١٩ ـ الهجاء لجامعة نافع الخفاجي.

٢٠ ـ المرائي لجامعة نافع الخفاجي. في مجموعة.

٢١ ـ الاعراضات لجامعة نافع الخفاجي ، الأدب.

٢٢ ـ الإفادات لجامعة نافع الخفاجي ، والإنشاء.

٢٣ ـ الأرجوزة المفحمة في المكاتبة والمخاصمة.

٢٤ ـ تمرين القراء ودعاء الختم لنافع الخفاجي في مجموعة علوم القرآن.

٢٥ ـ السيرة النبوية لنافع الخفاجي.

٢٦ ـ الفلسفة لنافع الخفاجي.

٢٧ ـ الجغرافيا لنافع.


٢٨ ـ كتاب الأمثال والحكم المنظومة لنافع.

٢٩ ـ الكواكب الدرية في المسائل الفقهية لنافع الخفاجي.

ومعظم هذه الكتب فقد مع مكتبته الكبيرة التي فقد الكثير منها بعد وفاته في حريق نكبت به البلدة. والباقي منها لا يزال غير معروف لي إلى هذا الوقت ، وتوجد بقايا منها في مكتبة ابنه الأستاذ الكبير المرحوم الشيخ عبد اللطيف نافع خفاجي ولم أطلع عليها للآن.

أما الكتب الموجودة لدى من مؤلفاته فهي :

١ ـ رسالة تنوير الأذهان في علم البيان تأليف نافع الخفاجي بن الجوهري ابن سليمان التلباني الشافعي وهي دراسة واسعة للتشبيه والمجاز والاستعارة والكناية ، وستتهيأ في المستقبل القريب أسباب طبعها إن شاء الله.

٢ ـ مطالع الأفكار وتنوير الأبصار في علم المنطق لمؤلفه نافع الخفاجي التلباني.

٣ ـ السر المكتوم والدر المنظوم في علوم المنطوق والمفهوم وهو كتاب في شرح جميع أنواع العلوم من فقه وأصول الدين وتوحيد وتفسير وتجويد وقراءات وعلم رواية الحديث وعلم دراية الحديث وأصول الفقه الخ.

والكتاب ليس كاملا كله ومن محتوياته أرجوزة في النكاح على مذهب أبي حنيفة وقد طبعها بعد في كتاب مستقل وسماها : «نصيحة الإخوان».

وهذا الكتاب فذ في نوعه فقد كتب في أسلوب مقامة أدبية ، وكتابة العلوم بأسلوب أدبي يشرحها ويضيء جوانبها ويجعلها قريبة إلى العقل حبيبة إلى النفس مما لم يكن مألوفا قبل هذا الكتاب.


ويقول في مقدمته : لما رأيت العلوم في يد الامتهان ، وميدانها قد عطل من الرهان ، وبواترها قد صدئت في أغمادها ، وشعلها قد خمدت برمادها ، عن لي أن أجمع هذه المقامة تحفة لكل أديب. وجعلتها ذكرى حبيب ، وهي وإن كانت جزءا صغيرا وشيئا يسيرا ، إلا أنه يرى على ما رواه تحت برديه ، ويروي ظمأ كل وارد عليه ، قطف من أزاهير الفنون كل مشموم بهي ، وجمع من ثمار العلوم كل مطعوم شهي ، وتحلى بفرائد العلوم الأدبية ، وتجلى بنفائس الفنون الشرعية والعقلية ، مع التحيل بأجمل حيلة على جمع فرائد الفوائد الجليلة في الأوراق القليلة ، بشيء يحسن فيه جمع المتفرقات وإن كانت غير متناسبات ، وتتألف به العلوم الشاردات وإن كانت متنافرات غير متوافقات .. وقد افتتحته بالعلوم الشرعية ؛ وثنيته بالفنون العددية ، وثلثته بالعلوم العربية ثم الفنون العقلية حتى فاقت على السبعين».

والجزء الموجود عندي يحتوي على ثلاثة عشر فنا من الفنون الشرعية ، وسأوالي البحث عن باقي هذا الأثر الثمين ، ولعلي أجده بفضل الله.

٤ ـ كتاب «جواهر الكلم في منظوم الأمثال والحكم» من جمع وتأليف نافع الخفاجي التلباني» ، وهو كتاب ضخم جدا ويقول فيه في مقدمته :

«قد جمعت في هذا الكتاب فصولا جامعة لحكم منظومة ونوادر مأثورة معلومة صدرت من كلام من تقدم من العلماء والخطباء وسلف من البلغاء والحكماء ممن أشرقت بأسمائهم صفحات الزمان وطلعت من أقمار سماء الإحسان ، فأخذت بمجامع الأفكار وعمرت بها مشاهد التذكار ، فصارت أنسا للسمار ونزعة للأسماع والأبصار وقد أثبت منها في هذا الكتاب مارق وراق وشحنت به الصحائف والأوراق من حكم مرفوعة وأمثال موضوعة» ،


ثم يتحدث في هذه المقدمة عن الشعر ومكانته وأثره ، وحكمة رسول الله وبلاغتها ما روي منها ، ثم يسرد بعد هذه المقدمة الطويلة ما روي من رائع الشعر في الحكمة والمثل عن كثير من الشعراء مرتبا لها على حروف المعجم في عدد ضخم من الصفحات ، وألم فيه ببعض من شعره هو ، والكتاب ذخيرة أدبية ثمينة وسنشرع في طبعه بإذن الله في أقرب فرصة ممكنة.

٥ ـ المقامة الخفاجية (أو التلبانية) المسماة بمروج الذهب ورياض الأدب لمؤلفها نافع الخفاجي التلباني وهو مقامة ساحرة الأسلوب رائعة الديباجة ذكر فيها المناظرة التي كانت بينه وبين بعض الفقهاء أمام قاضي مركز السمبلاوين الشرعي ، وصدرها بإهداء لهذا القاضي وكان صديقا حميما له ثم ترجم لنفسه فيها ترجمة وافية ثم ذكر المناظرة في بسط ومزيد تطويل وكيف انتصر على منافسيه جميعا وتجلت للناس كافة سعة ثقافته وقوة عقليته وقد ألفت بعد وفاة والده سنة ١٢٩٤ ولا ندري السنة التي ألفت فيها بالتحديد ويقول في أولها فيما يقول :

«قد كنت وأدهم الشبيبة طرب العنان ، وورقها أخضر مائس الأفنان ، أتجر في بضاعة الأدب ، فوردت سهل بحره الصافي وطالعت منه هامي العروض والقوافي ، وكنت مغرما بصيد الشوارد ، وقيد الأوابد ، واستنبات الفضائل ، واستنساخ أقوال الأمائل. ثم اتفق لي أن أشار إلى وأومأ لدى صدر المدرسين ومفيد الطالبين مولانا الشيخ محمد سيف الدين قاضي مركز السنبلاوين ، أن أشنف سمعه الثاقب ، بحلية أدب من الغرائب ، وكان كثيرا ما يجاملني بحسن المجاملة ، ويعاملني بلطف المؤانسة ، فالتمس مني كتابا في الأدب يعذب وردا ومنهلا ، قاصدا بذلك تنويه ذكرى ، فأجبته مطيعا ، ثم اتفق لي في هذا الأوان أن سألني من أمره مطاع لدى أن أملي جميع ما جرى لي بالمحكمة الشرعية الكبرى من المناظرات وما حصل لدى من المحاورات ، فتلقيت أمره بالامتثال ، وسلكت فيها طريقا لم تسلك قبلي لوارد ، وبسطت فيها نمطا لم ينسجه ناسج ، ولا نحا نحوه قاصد ، ورسمتها


مقامة تعرب بحسن معانيها عن لطائف المعاني ، وتفصح عن عذوبة السجع بما يفوق رنات المثاني ، قد احتوت على جد القول وهزله ، ورقيق اللفظ وجزله وملح الآداب ونوادره ، إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات ، ورصفته فيها من الأمثال اللغوية واللطائف الأدبية والأهاجي النحوية والفتاوي اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة ، فهي حقيقة أن تكتب بسواد للعيون ، وأن تشتري بنفائس الأرواح لا بنقد العيون» إلى آخر ما يقول. وهذا الوصف لهذه المقامة أقل في الواقع مما تستحقه من إعجاب وتقدير ، ومن ميزاتها :

أولا : تحتوي على تاريخ للأسرة حتى عصر مؤلفها.

ثانيا : تحتوي على تاريخ لحياة هذا الرجل العظيم الذي ألفها.

ثالثا : وهي بأسلوبها الأدبي الممتاز مثل في البلاغة والبيان.

رابعا : ثم هي بهذا الأسلوب الساحر تبسط قواعد العلوم الشرعية واللغوية والأدبية وتعرض كل ما عرضت له منها عرضا يقبله الذوق وترتاح له النفس وتهش له المشاعر والوجدانات.

خامسا : احتواؤها على كثير من شعر المؤلف الخالد.

٦ ـ المقامة السعفانية لمؤلفها نافع الجوهري الخفاجي وهي أقل بكثير جدا من حجم المقامة السابقة ، وكلها هزل ممتع ، وفكاهة بارعة ، يقول في أولها :

«حدثنا عجلان ، عن أبي عطوان ، عن أبي عيسى الهتان ، عن ناظر الوسنان ، عن أبي سعفان ، عن أبي عيسى جوهري الزمان ، عن راح الروح والريحان ، عن أبي ثعلبة بن ثعلبان ، قال مررت يوما على بلدة وريقة ، خضراه نضرة أنيقة ، يقال لها تلبانة عدي بن مضر ، وإذا بها أربعة من الشبان ، قد تحلى بألفاظهم فم الزمان ، وتجلى بوجوهم ناظر الإنسان ،


وهم قيام على منابر الافتخار ، بين من بها من الأقمار ، فقلت لبعض من حضر : ما الخبر؟ فقال : إن بعض أصحاب المكاتب الأهلية ، قد حضرت ، وإن نواطق الألسنة التلبانية قد نظرت لما نضرت ، واتفقت على عقد مجلس حافل ، لاختيار من هو بآذان المسجد الجامع أحق وكافل ، وها هي ذي أكابر المؤذنين قد صعدت المنابر ، ليبدي كل إنسان حجته للناظر.

٧ ـ رسالة في التحليل وطلاق الثلاث والحرام وغير ذلك تأليف نافع الخفاجي التلباني وتقع في أكثر من خمسمائة صفحة.

٨ ـ تهييج الأشواق في حكم الخلع والطلاق تأليف نافع بن الجوهري الخفاجي التلباني. وهو غير كامل ، والذي لدى منه أكثر من مائة صفحة.

٩ ـ خطبة عبد الفطر لنافع الخفاجي وهي خطبة كبيرة.

١٠ ـ مواعظ شعرية مجموعة ومرتبة على حروف المعجم جمع نافع الخفاجي.

١١ ـ قصة الإسراء والمعراج لنافع الخفاجي.

١٢ ـ قصة الإسراء المولد النبوي لنافع الخفاجي.

وهذه هي كل الكتب الموجودة عندي من مؤلفاته ويضاف إليها :

١٣ ـ ديوان شعر نافع خفاجي وموجود لدى جزء كبير منه بعضه مجموع في كراسة والبعض الآخر في مسودات كثيرة.

١٤ ـ كما يضاف إليها فتاواه الكثيرة الهائلة العدد ولدى العائلة كثير من الأوراق القديمة التي كتبت فيها هذه الفتاوي وهي في حاجة إلى الجمع ولكن ربما لا يتسنى ذلك وستضيع هذه الفتاوي الثمينة كما ضاع الكثير من كتبه ، فيكون مجموع الكتب المفقودة والموجودة ثلاثة وأربعين كتابا ، وفي اعتقادي أن مؤلفاته لا تقل عن السبعين وهي ثروة علمية ضخمة تضع


صاحبها في الرعيل الأول من جلة العلماء الخالدين.

وقد وصلني بعد ذلك مخطوطات أخرى من تأليفه.

جملة مؤلفات الخفاجي المخطوطة الموجودة في مكتبتي :

١ ـ رسالة تنوير الأذهان في علم البيان.

٢ ـ مطالع الأفكار وتنوير الأبصار في علم المنطق.

٣ ـ السر المكتوم والدر المنظوم في علوم المنطوق والمفهوم.

٤ ـ جواهر الكلم في منظوم الأمثال والحكم.

٥ ـ المقامة الخفاجية أو التلبانية المسماة بمروج الذهب ورياض الأدب.

٦ ـ المقامة السعفانية.

٧ ـ رسالة في التحليل وطلاق الثلاث والحرام.

٨ ـ تهييج الأشواق في حكم الخلع والطلاق.

٩ ـ خطبة عيد الفطر ، وخطبة عيد النحر.

١٠ ـ مواعظ شعرية.

١١ ـ قصة الإسراء والمعراج.

١٢ ـ قصة المولد النبوي.

١٣ ـ أجزاء من ديوان نافع الخفاجي الشعري ، ومنها : الأجزاء ١ و ٢ و ٦ و ٩ و ١٠ و ١٥.

١٤ ـ بعض فتاويه.

١٥ ـ رسالة في علم المنطق.

١٦ ـ رسالة الإعجاز في شيء من المسائل والألغاز. الجزء الأول والثاني والثالث.

١٧ ـ مجموع المراثي الجزء الأول والثاني والثالث.


١٨ ـ ديوان خطب نافع الخفاجي.

١٩ ـ مجموع في الميراث.

٢٠ ـ الدر الثمين بشرح كنز الطالبين.

٢١ ـ عنوان المكاتبة.

٢٢ ـ جزء صغير من كتاب في العروض.

كتب مفقودة لنافع الخفاجي :

فضائل شهر رمضان لنافع

سيرة الأنبياء لنافع

ألغاز التاريخ لنافع

مسائل التوحيد لنافع

السيرة النبوية

قواعد الحديث لنافع

مناسك الحج لنافع

الزهور الندية في الدروس النحوية

الإنشاء لنافع

خواص الحيوان والنبات لنافع

الجزء ٣ و ٤ و ٥ من أشعار نافع

أشعار نافع

الغزل لنافع

جواهر الكلم في الحكم لنافع

رسالة الطلاق لنافع

مسائل الميراث لنافع

رسالة صوم يوم الشك لنافع

الحكم المبرم في الفقه ومختصر الحكم

الكواكب الدرية في المسائل الفقهية لنافع


نفحات العطر في زكاة الفطر

الفواكه الجنية في القواعد النحوية لنافع في النحو

مجموع العلوم لنافع

المسائل اللغوية لنافع

ألغاز القراءات لنافع

التحفة البهية في القواعد النحوية

رسالة في البيان لنافع

العقد الفريد لنافع

الرمل لنافع

لوامع الاشراق في الأوفاق لنافع

إغاثة الملهوف في علم الحروف لنافع

كشف الأحوال في ترتيب الأعمال لنافع

البدر النوراني في الطب الجسماني لنافع

الدرة المنتجة في الأدعية المجربة لنافع

إغاثة اللهفان في تسخير الجان لنافع

كفاية المهمات إلى قضاء الحاجات لنافع

الفيض الرباني في علم الروحاني لنافع

الكيمياء لنافع

لوامع الإشراق في جلب الأرزاق لنافع

رسالة في الميقات لنافع

فضائل رمضان لنافع

شرح الستين بخط أحمد نافع

السر المكتوم في علم النجوم

كنز الطالبين ومعدن الراغبين في علمي الفقه والتوحيد.

تحفة الأدعية والأذكار


التاريخ لنافع

حكم وأمثال بخط نافع

المفاكهات لنافع

الحكايات لنافع

الجغرافيا لنافع

المسامرات لنافع

الإفادات لنافع

الإعراضات لنافع

الفتاوي لنافع

عنوان المكاتبة لنافع

قواعد الحديث لنافع

رسالة البسملة لنافع

الهجاء لنافع

وأما مكتبة العلامة نافع الخفاجي فقد كانت مكتبة حافلة عامرة بالمخطوطات النفيسة ، وكانت تبلغ ١٠٦٩٨ كتابا ولكن أغلبها فقد في حريقين متتاليين في القرية والباقي بدد ولم يحافظ عليه ، وكانت في حوزة خالي المرحوم العلامة الشيخ عبد اللطيف نافع الخفاجي.

شعره : نجد شعر هذا العالم الكبير في ثلاثة مصادر :

الأول : في ثنايا مؤلفاته الأدبية والعلمية.

الثاني : في أوراق كثيرة مهملة كانت محفوظة في مكتبته.

الثالث : في كراسة خاصة جمعها الفقيد الخالد من شعره بيده.

وشعره قسمان :

(أ) الشعر العلمي ونرى الكثير منه في مقامته «السر المكتوم والدر


المنظوم» في علوم المنطوق والمفهوم» ومن هذا الشعر أرجوزته المطبوعة «نصيحة الإخوان في أحكام النكاح على مذهب النعمان».

(ب) الشعر الأدبي الوجداني وهو كثير.

صور من شعره

قال : من قصيدة طويلة مذكورة في صدر المقامة الخفاجية :

مالي وللأيام ويح صروفها

أبدا تلاحظني بعين عناد

وا حسرتا نال الزمان مراده

مني ولم أظفر بنيل مرادي

لا مسعد يرجى ولا متوجع

نشكو إليه حرارة الأكباد

سل مخبرات الشعر عني هل رأت

في قدح نار الفهم مثل زنادي

لم تبق حلبة منطق إلا وقد

سبقت سوابقها إليك جيادي

لله در خفاجة أبرزتها

من خدر فكرك في حلى الإنشاد

حظ من النظم البديع أفادني

حظ الكرام وخطة الأمجاد

وقال :

خليلي في تلبان هل أنتما ليا

على العهد أم غدا العهد باليا

وهل ذرفت يوم النوى مقلتاكما

على كما أمسى وأصبح باكيا

وهل أنا مذكور بخير لديكما

إذا ما جرى ذكر من كان نائيا

ودون الذي رام العواذل صبوة

رمت بي في شعب الغرام المراميا

وقلب إذا ما البرق أومض موهنا

قدحت به زندا من الشوق واريا

خليلي إني يوم طارقة النوى

شقيت بمن لو شاء أنعم باليا

ولا تيأسا أن يجمع الله بيننا

كأحسن ما كنا عليه تصافيا

أعد الليالي ليلة بعد ليلة

وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا

خليلي لا والله لا أملك الذي

قضى الله في ليلي ولا ما قضى ليا


وما لهم لا أحسن الله حالهم

من الحظ في تصريم ليلى حباليا

وبعد فشعر نافع الخفاجي كثير جيد رائع وهو في الصف الأول من شعراء عصره ، وإنما لم تسر شاعريته ولا فضله لأنه آثر الحياة في هذه القرية النائية بعيدا عن القاهرة الصاخبة ، ولو أقام في العاصمة لكان العلم المفرد في عصره في كل ناحية من نواحي حياته العظيمة.

وبعد فهذا هو نافع الخفاجي في شبابه وطموحه ، في دراسته الطويلة المستقصية ، وفي تآليفه الجيدة الممتعة ، وفي أدبه الساحر وشعره الرائع.

وقد رثاه ابنه العالم الكبير نافع الخفاجي بمرثية طويلة جدا قال منها :

لو دام عيش بدنيا لما ذهبت

منها مصابيح جود قد جلت ظلما

أو كان شهم بها يبقى لما حزنت

لفقد شهم تناهى جوده وسما

المحسن العارف البحر الذي اغتزفت

منه العفاة وعادت لا تخاف ظما

من كان في ذروة الإحسان ذا شرف

وكم حوى من كمال واحتوى كرما

وكان ركنا له يهدي المقال إذا

ما الأمر من مشكلات الدهر قد عظما

ومجلس الحكم منه فوقه هتفت

هواتف البين إذ سر الندى هدما

ما للزمان أراع المجد أجمعه

وبدل الدمع من تلك العيون دما

ما للزمان نراعي حسن معهده

وما رعى قط في أحسابنا ذمما

استل من غمده بالقهر سيف علا

ماضي الغرارين مرهوبا إذا انتقما

هو اللبيب الذي طابت مآثره

كالروض حياه نوء المزن منسجما

وذو عزة لو بأيدي الناس مقودها

ما زال فيه كريم النفس واهتضما

مضى وأبقى لنا الذكر الجميل على

أيدي الزمان كتابا طاهرا رقما

ولي شريفا عفيف النفس طاهرها

مهذب الخلق من عيب الورى سلما

يا ويح تلبانة من بعد ما وخدت

به المنون تقل الفضل والكرما

لو كنت شاهده والنعش يحمله

رأيت رضوي على أيدي الرجال سما


من للسياسة فينا بعد ما خسفت

بدور رأي تنير الظلم والظلما

من للألي شيدوا من عزمه نعما

واستوطنوا من علاه الصدر والقمما

إلى آخر هذه المرثية الخالدة الطويلة البليغة (١).

__________________

(١) المقامة الخفاجية.


هو نافع الخفاجي (١)

حفيد العلامة نافع الخفاجي الكبير

العالم الشاعر الأديب نافع بن محمد بن نافع الخفاجي بن سليمان الخفاجي حفيد العالم الكبير الشيخ نافع الخفاجي الذي مرت ترجمته ، وابن خالي الشيخ محمد بن نافع الخفاجي من أعيان الأسرة وأظهر شخصياتها ، والدته آمنة طرباي من أقاربنا أسرة الطرباهية.

ولد في يوم الجمعة ٢ شوال سنة ١٣٢٢ ، الموافق ٩ ديسمبر سنة ١٦٠٤.

ثم تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم وعكف على قراءة سير الأبطال كأبي زيد الهلال وعنترة وغيرها فنشأ بطبعه شاعرا ناضج ملكات القريض.

وذهب إلى المعهد الأحمدي بطنا سنة ١٩١٩ ليتعلم فيه وأخذ منه

__________________

(١) ولد يوم الجمعة ٢ شوال ١٣٢٢ ه‍ ـ ٩ ديسمبر سنة ١٩٠٤.

وطلب للقرعة عام ١٩٢٣ وأعفى لأنه طالب علم ، وفي عام ١٣٤٤ ه‍ ـ ١٩٢٦ ، نجح في امتحان النقل من السنة الأولى إلى الثانية الثانوية بمعهد الزقازيق وترتيبه ٣٠ من ٥٩.

وفي عام ١٩٣٠ م ـ ١٣٤٩ ه‍ نجح في امتحان النقل من الثانية إلى الثالثة بالقسم العالي وترتيبه ٨٩ من ٢٢٢ ، وفي عام ١٩٣١ ـ ١٣٥٠ ه‍ نجح في امتحان النقل من الثالثة إلى الرابعة بالقسم العالي وترتيبه ٥٤ من ١٣٨ ـ وفي صيف عام ١٩٣٢ نال العالمية من الأزهر.

وشيعت جنازته يوم الثلاثاء ٩ رجب ١٣٥٩ ه‍ ١٣ أغسطس ١٩٤٠.


الابتدائية عام ١٩٣٢ ، ثم كان قد أنشىء في ذلك الحين معهد الزقازيق فالتحق به واستمر في دراسته إلى أن أصيب بمرض عصبي عضال كان يحول بينه وبين المشي وحده فأخذ يعالج نفسه منه ولكن العلاج لم يجد شيئا ، اللهم إلا في تأخير زحف المرض على صحته ، ثم أخذ الثانوية من الخارج من معهد الزقازيق عام سنة ١٩٢٨ الموافق سنة ١٣٤٦ ه‍ ثم التحق بالقسم العالي بالأزهر ونال منه شهادة العالمية في يونيو سنة ١٩٣٢ الموافق سنة ١٣٥١ ه‍.

وعاد العالم بعد ذلك فأقام بالقرية يطالع في أسفار الأدب وينظم القريض ويعالج نفسه من مرضه العضال ، ثم تزوج في سبتمبر سنة ١٩٣٩ ووافاه أجله المحتوم في ١٣ أغسطس سنة ١٩٤٠ ـ الثلاثاء ٩ رجب سنة ١٣٥٩ ه‍ ، فعليه رحمة الله ورضوانه.

شاعريته :

إذا تركنا الجانب العلمي لشخصية المغفور له الخالد نافع الخفاجي ، وجدنا أهم مظهر في شخصيته هو الشاعرية الفذة الناضجة القوية الأسباب الوطيدة الملكات.

نماها في نفسه أثر الوراثة عن جده نافع الخفاجي الكبير ، وقراءته وهو صغير لهذه القصص الحماسية الكبيرة كسيرة أبو زيد وعنترة ، ثم عكوفه على كتب الأدب ومصادره الأولى ودواوين فحول الشعراء ، نظم الشعر طفلا ، وكانت كل حياته مظهرا لهذه الشاعرية الناضجة. كان مرضه يحول بينه وبين كل شيء إلا الشعر ، رسم فيه صورة لحياته التي كان يحياها ، وعواطفه التي كانت تجيش بها نفسه ، عبراته التي كان يسكبها على آماله المحطمة ، وصحته المكدودة. وسنتحدث عن شعره في تفصيل بعد قليل.


شخصيته :

كان الفقيد المغفور له قوي الملكات ، ناضج العقلية ، واسع الثقافة ، لا يغلب على رأي ، ولا تتلعثم في لسانه حجة ، وكان قوي الحجاج شديد الجدل ، كما كان جذاب الشخصية ، وديع النفس ، بعيد التفكير ، معتدا بنفسه ورأيه ، يأبى أن تهأن كرامته ، ويقف في سبيل ذلك مواقف العناد واللجاج.

وكانت حياته كلها آلاما وأحزانا ، بكى لمرضه ، وبكى لآماله الذاوية ، وبكى لجسده المحطم ، ويئس من الحياة ، وأخذت أشباح الموت ترتسم في ذهنه وأمام بصره ، حتى هدت قوته وحطمت كيان صحته ، وخر صريعا بيد الأمل.

شعره :

جمعت معه شعره الضخم كله في ديوان ، ثم عرض عليه ناظر المدرسة تلبانة الإلزامية ـ وكان اسمه الشيخ عبد الباسط ـ أن يأخذ ديوانه لطبعه فأعطاه له ، وظل لديه أكثر من ثلاث سنين ، ثم مات الفقيد ، فأنكره وادعى أنه فقد من المطبعة التي سلمه إليها.

وعلى أية حال ففقدان هذا الديوان الثمين لم يحل بيني وبين جمع كثير من أصول قصائده الشعرية ، مما نشرته في كتابي «بنو خفاجة» .. ومن شعره قوله يهنىء ابن عمه محمود عصر خفاجي بالليسانس :

أهلا وسهلا طالع ميمون

فليهنأ التشريع والقانون

فخر لمدرسة الحقوق وعزة

وفخارها بنجاحه مقرون

أوتيت سؤلك والعدالة ترتجى

قسا بشخصك للحقوق يبين

يا عبقريا للطروس يساره

ترجى وللأقلام منه يمين

فخر لأصل أنت بعض فروعه

دنياك وافت واطمأن الدين


شيدت مجدا في ذرا الأهرام لم

يدركه رمسيس ولا أخناتون

لسواهم الأهرام والذكرى لهم

لكن جهدك بالخلود قمين

سر في سبيل المجد فالتاريخ في

صفحاته لك موضع مرهون

إن رمت تهنئة فإني عاجز

من ذا أهنىء لا أكاد أبين

أأهنىء الليسانس أن فازت به

أم رب حق حقه مكنون

ومن شعره كذلك هذه القصيدة :

إلى الله شكواي لا للبشر

فمنه له المبتدأ والخبر

هو المرسل الضر وهو الذي

بقدرته أن يميط الضرر

وما الناس؟ والناس كل له

لهيب شكاة تذيب الحجر

وما بلغ الناس ما أملوا

من الدهر والدهر جم الغير

يموت الفتى دون آماله

وكم أمل في ثنايا الحفر

وما الأدباء وما الأغنياء

وكل له أمل ينتظر

ولكن أولئك قد صرحوا

وعي سواهم لهم قد ستر

وفرقهما أن آمال ذا

عظام وآمال ذا تحتقر

فذاك يرى الشمس من تحته

وذا لا يجاوز سطح النهر

وليس مصابي سوى أنني

فقدت السعادة حتى الأثر

مصابي شبابي وعهد الصبا

وقد كان لي باسما فاكفهر

شباب يضيع كزهر الربيع

هوى حين يبسم غض الزهر

كأن المحلق أصاب الهلال

ولم يكتمل ليلة اثنى عشر

وقد كان مستقبلي زاهرا

فجف ولم يؤت بعض الثمر

وما بي سوى مرض في الفقار

تغلغل في الجسم حتى انفطر

فأفقدني كل مستمتع

من السير فالجسم إن قام جر

مناطق مخي منهوكة

من الداء والنطق قد خور

سألت الطبيب فلم يغنني

وعى وقد نال منه الحصر

وقال (انكسيك) موروثة

وقد ينقل الداء ممن غبر


فقلت العلاج فقال الدواء

إلى الآن عند القضا والقدر

فلو شاء ربك تم الشفاء

وعند المشيئة ليس خطر

فيا رب لم يبق لي ملجأ

سوى لطف رحمتك المدخر

سئمت المحاقن والكهرباء

ومر الدواء ووخز الأبر

وعفت التجارب والفحص في

دمي ونخاعي وقاع النظر

وها وقف الداء عن سيره

ففي كل يوم عن الأمس ظهر

ومن شعره قصيدته في شكوى الزمان ، وها هي ذي :

أواه من عثرات الحظ أواه

والحظ ما شاءه قد شاءه الله

لا الحزن يجدي ولا حظي يساعفني

ولا الزمان رفيق في سجاياه

أرزاء شتى إذا ما خلت أصغرها

مضى أرى ضعفه يحتل مأواه

تترى دراكا كطير طاب موردها

فزاد وارده شوقا لمرعاه

يلج صرف الليالي في معاكستي

كأنما أنا وحدي كل أعداه

خطوب دهري لا تتفك تذكرني

بعطفها ذكر مجنون لليلاه

فالحزن والسهل في سيري سواسية

والليل والبوم في الظلماء أشباه

كلما قلت لما استحكمت فرجت

أرى قشيب شقاء كنت أنساه

إن غاب عني شقاء جاء مصطحبا

إخوانه ليقيموا في رعاياه

ما حيلتي وهي الدنيا وسلطتها

أي امري نال منها ما تمناه

نصيب كل امرىء في عكس همته

ورفع كفة وزن خفض أخراه

ورب ذي عزمة تنبو مضاربه

وطائش السهم أصمى الحظ مرماه

ونابه النفس سوء الحظ أخمده

وخامل القدر حسن الحظ رقاه

وكم حريص له من علمه صفة

وكم كسول له من جهله جاه

هي المقادير لا سعي ولا كسل

وكل ذي قدر لا بد يلقاه

انظر إلى قطع الشطرنج إذ نحتت

ماذا أتى الشاه حتى إنه شاه

كم بيدق مات لم يذنب وصاحبه

سما مسوقا ولم يعمل لمرقاه

كذلك الكون لم تعلم عواقبه

وليس يعلم ساع غب مسعاه


الدهر علمني الشكوى فقمت بها

طوعا وكرها وخير العلم أفشاه

أشكو الزمان وفي الشكوى رفاهية

وما علاج شقي غير شكواه

تنفس الصعد تفريج ذي حرج

والضيق يفتح من ذي ضيقة فاه

القدر منفجر لو لا تبخره

والقلب منفطر لو لا شكاواه

فالقلب من حطب والبؤس من لهب

وفي الشكاة لنار الهم أمواه

الهم يثقل والشكوى تخففه

فقد ترى سامعا يؤتيك جدواه

إن لم أجد صاحبا فالليل يؤنسني

نجومه ودياجيه وإصغاه

ورب سامع شكوى شامت فرح

وذي ملال يريني غير نجواه

ولا أرى مخلصا في الضيق يسعدني

ولا غنى لي عمن لست أهواه

طبائع الناس شر لا يفارقهم

والخير كسب لبان الفكر غذاه

لو نالني الشر منهم كنت عاذرهم

وإن أتى الخير قلت للطرف هياه

إن يجهلوا خاصموا أو يعلموا نقدوا

ويبطنون بلؤم ضد ما فاهوا

فالكل للكل أعداء وعنصرهم

به أنانية في بدء مبناه

مهما أحبوا فحب الذات رائدهم

وعبرة الحب برهان بمغزاه

وهكذا الناس عباد لأنفسهم

كل يرى الغير عبدا وهو مولاه

لو لا حوائجهم ما ألهوا أحدا

أدنى الأنام من الإلحاد أغناه

هم والوحوش سواء لا يميزهم

إلا عقول وتقديم وأفواه

مع التمدين والقانون أنفسهم

شتى وكل له في العيش أهواه

كل له غرض تحفيه طينته

ولو درى خلد ما فيه جافاه

الخير يخدع في معسول منطقه

والشر يكمن في داجي حناياه

لو شف صدر جميل عن دخائله

لشوهت نفسه ما في محياه

لو أخطأ الشر إنسانا ولم يره

فسله وحيا فما جبريل إلا هو

وما أبرىء نفسي إنني بشر

النفس تأمره والروح تنهاه

صدري لضدين من جيشين معترض

ما يرض هذا فهذا ليس يرضاه

لكن نفسي صفت من طول ما رزقت

حتى رأت كل ما يسطاع مرآه


وما رأيت كمثل الصبر عاقبة

فالمر أوله والحلو عقباه

لسوف أصبر حتى لا أعي أملا

وليبق لي أملي وليرحم الله

كلمة أخيرة :

وبعد فهذا بعض من نتاج شاعرية هذا العالم الفذ والشاعر المبدع ، وإنتاجه الشعري كله سحر وروعة وإبداع ، وفيه عاطفة وقوة إلهام وحسن تصوير وعمق فكرة ، وهو بين الأدب العربي أدب خالد سائر ، وسيجيء اليوم الذي ينشر فيه ديوان الشاعر كاملا ليضعه شعره في مكانته الخليق بها بين شعراء العربية الخالدين.

لقد نقلت من شعره بعضا مما يصور لنا جوانب حياته ونواحي شخصيته ، ومما يرسم لنا صورة واضحة عن شاعريته وفنه الأدبي.

وأكتفي بهذا على أن أعود في المستقبل القريب للكتابة عن هذا الشاعر الفذ في كتاب مستقل بعد أن ننشر على جمهور العربية ما بقي لدينا من شعره ومحاسن قريضه.

ولقد كان الفقيد زميل الشاعر البليغ الأستاذ محمد الأسمر في الدراسة ، واطلعت على عدة خطابات أرسلها الأستاذ الأسمر له توضح ما كان بينهما من صداقة وزمالة (١).

فرحمه الله وخلد ذكره ، ولقاه في الآخرة من الثواب وحسن الجزاء ما هو أهل له ، وفي الدنيا من الذكر والخلود ما هو به جدير.

__________________

(١) من هذه الخطابات خطاب من الأستاذ الأسمر يقول له : عزيزي الأستاذ الشاعر الشيخ نافع الخفاجي.

«يسرني أن يكون في الأزهر بين أديب مثلك ، لست أهلا لهذا الثناء الذي صنعته قلائد لا أرى جيدي جديرا بها ، متعك الله بكل ما تحب وترضى ومهد لك سهيل سعادتك» ، الأسمر.


وهذه هي نص كلمة الرثاء التي ألقيتها على قبره يوم وفاته.

عقد الخطب اللسان ، وعيّ لهول المصاب البيان ، وارتاع لهذا الرزء الفادح الجنان ، وأي رزء هو!!

لقد انطفأ المصباح الهادي ، وخبا النبراس المنير ، وذهب بالرجل أجله ، ولقد كان يسير به أمله ، إلى ضيق القبر ، وفسحة الأجر والنعيم.

ذهبنا به في ربيع الحياة إلى أرض حافلة بالعبر والعبرات ، آهلة بالعظات والذكريات ، فأودعناه في حمى آمن ، يستبشر به المتقون ، وييأس فيه من رحمة الله القانطون ، ثم عدنا بالدموع والذكرى ، فاجتمعنا في هذا الجمع نحيي ذكرى الفقيد ، وبأي شيء نحيي ذكراه؟

لقد كان شاعرا وأديبا وشاعرا ، فحرى بنا أن نستمد من ذكراه العظة البالغة ، وخليق بنا أن نذكره لعلمه وأدبه إن لم نذكره لحسبه ونسبه.

لقد عاش الفقيد مجاهدا فشقى بعذاب الجهاد في حياته ، جاهد أول شبابه في سبيل آماله الواسعة ، وأمانيه الكبيرة ، ثم جاهد بعد ذلك آلام الحياة التي لاحقته وحالفته وسارت به إلى أجله المحتوم ، فما أروعه جهادا وما أعظمه مجاهدا ، وما أسعده بأجر الجهاد.

لقد كان الفقيد يستمد علمه وأدبه من عقلية واسعة ، وذهن ثاقب ، أكثر مما كان يستمده من اطلاع واسع ، ودراسة مضينة ، وكان ينظم الشعر بملكة صناع ، وروح مبدعة ، ويعرضه في أسلوب جميل وديباجة مشرقة ، ظلت تلازم أدبه. حتى وهنت صحته ، ووهى أمله ، فدبت إليها روح الضعف ، كما دبت في نفسه روح اليأس والقنوط ، وعلى حين غفلة سكت الشاعر البليغ ، وذهب العالم العبقري إلى عالم الأبدية ، ودنيا الخلود. فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.

وهذه قصيدة من غر قصائده نثبتها هنا ، قال :


ذهبت ومن رام المعالي يذهب

وأبت ولم أظفر بما أتطلب

سعيت إلى العلياء غاية طاقتي

ورحت إلى أفلاكها أتوثب

سبحت على بحر المجرة ماخرا

عبابا من الآمال أطفو وأرسب

رصدت السهي حينا فأبصرت طالعي

جميلا ولكن فيه سر محجب

فيا طالعي بالله هل من هناءة

تألق لي أم أن برقك خلب

وهل مطمئن أنت أم أنت خائف

تفر من النحس البغيض وتهرب

وهل لي إلى النعمي سبيل موصل

وهل لي من البؤسي مناص ومهرب

أتسعدني الآمال بعد مطالها

ويدنو من الآمال ما أترقب

إزاء شقائي مطعم الصاب كالجنى

ونور نهاري من مشاكيه غيهب

ولو لم أصادف سوء حظي وشؤمه

لعشت سعيدا لم يضق بي مذهب

يسمونه حظا وجدا وطالعا

وأما المسمى فالقضاء المغيب

مقادير شتى والمقدر واحد

مشيئته كالسيف بل هي أثقب

له المثل الأعلى وفي كل ذرة

من الكون سر بالتأله يعرب

هنالك شيء كل فكر يمسه

ويلمسه الوحشي والمتهذب

هو الله سماه الطبيعي قوة

وطبعا وفي علم الأثير تربب

ومن شأنه فينا الظهور بفيضه

وآثاره والشأن فينا التعجب

أأجهل روحي ثم أعلم ربها

ضلال غريب والتشبث أغرب

سننظر وجه الله في الخلد ظاهرا

كما هو يجلوه الجلال فنطرب

نراه بإحساس بديع مخصص

يطيب خيالا والتحقق أطيب

هنالك يبدو كل حسن مذمما

وكل ارتياح غير ذلك متعب

عن المثل والأضداد جل جلاله

وراجى سوى التوفيق منه مخيب

وما الكون إلا ذرة فوق ذرة

سماء وأفلاك وأرض وكوكب

فكل بكل في نظام مدبر

جماد وحي كل شيء مرتب

بدائع إحكام وإتقان صانع

فسبحانك اللهم أنت المحجب

تمنيت موتا ليس فيه جهنم

وإلا فعيشا لست فيه أعذب


وكيف حياة المرء ناء بعبثه

وجمر الأسى في صدره يتلهب

وكيف حياة المرء عي طبيبه

وأعضله الداء العقام العصوصب

برمت بآمالي وعفت تجلدي

ومل جليسي ما أقول وأكتب

ولو نلت من عين العناية نظرة

فما مر بي عذب وما بعد أعذب


الأزهر في صور























الفهرس

الباب السابع : حول الأزهر ورسالته.............................................. ٥

الباب الثامن : آراء للأزهر في مشكلاتنا الفكرية................................. ٧٣

الباب التاسع : ألوان ثقافية في حياة الأزهر العلمية............................. ١٠٧

الباب العاشر : شخصيات أزهرية معاصرة...................................... ١٦١

الباب الحادي عشر : من تاريخ الأزهر

الأزهر جامعا وجامعة....................................................... ٢٠٥

الجامع الأزهر.............................................................. ٢١٥

بين الأزهر وجامعة القرويين.................................................. ٢٣١

بين الزيتونة والأزهر......................................................... ٢٤١

الباب الثاني عشر : شخصيات ومواقف

إبن السبكي............................................................... ٢٧١

الشيخ محمد الحنفي شيخ الأزهر.............................................. ٢٧٧

أزهريون خالدون........................................................... ٢٨٥

الأزهري الشيخ سليمان الجوسقي............................................. ٢٩١

رفاعة رافع الطهطاوي....................................................... ٢٩٩


صورة عن الإمام الشيخ محمد عبده........................................... ٣٠٥

الشيخ مصطفى عبد الرازق.................................................. ٣١٧

أزهري يرد على إسماعيل باشا................................................ ٣٢١

مفتي قبرص................................................................ ٣٢٥

مسيرة الألف عام.......................................................... ٣٢٧

حوار بين العلماء والوالي..................................................... ٣٣١

الأزهر .. أكسفورد الشرق.................................................. ٣٣٥

الأزهر .. وأثره في الحياة الإسلامية............................................ ٣٤٥

قرارات المؤتمر البحوث الإسلامية.............................................. ٣٥١

قصة الأزهري الجامعي بعد عشرين عاما....................................... ٣٥٥

الأزهر .. حصن العربية..................................................... ٣٥٩

الأزهر .. من بعيد ومن قريب................................................ ٣٧٧

الأزهر الخالد.............................................................. ٣٨١

الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي........................................... ٤٠١

نشاط ازهري.............................................................. ٤٠٩

المرأة في الأزهر............................................................. ٤٠٩

عميد الأدب العربي في الأزهر................................................ ٤١١

محمد عبد المنعم خفاجي أديبا................................................ ٤١٧

لو أن للدين رجالا......................................................... ٤٣٧

الشيخ محمد شلتوت........................................................ ٤٤٣

أعلام معاصرون

الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد

رائد مدرسة التحقيق العلمي................................................. ٤٤٥

الشيخ عبد السميع شبانة................................................... ٤٥١

الشيخ محمد الطنطاوي...................................................... ٤٥٣

الشيخ عبد الجليل عيسى.................................................... ٤٥٧

الشيخ سعاد جلال......................................................... ٤٦١


الدكتور أحمد الشرباصي..................................................... ٤٦٣

الدكتور الخفاجي ـ محمد عبد المنعم خفاجي عالما................................ ٤٧٧

الأزهر .. أبو الجامعات في الشرق والغرب

قلعة حضارية في تاريخ مصر الإسلامية........................................ ٤٩١

ترجمة القرآن الكريم......................................................... ٥٠١

الشيخ المراغي.............................................................. ٥٠٣

شيخ جامعة الأزهر الحالي

الدكتور محمد السعودي عوض فرهود......................................... ٥٠٩

الإمام نافع الخفاجي الكبير.................................................. ٥١٣

نافع الخفاجي ، حفيد العلامة نافع الخفاجي الكبير............................. ٥٣٣

الأزهر في صور............................................................. ٥٤٣

الأزهر في الف عام - ٣

المؤلف:
الصفحات: 567