بسم الله الرحمن الرحيم

( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) البقره : ١٢٠.



المقدمة

ان تطور صحة الافراد في عالمنا المعاصر خلال العقود القليلة الماضية لم يكن نتيجة الاكتشافات الطبية الحديثة ، بل كان نتيجة التغير الذي حصل في البيئة الانسانية بفضل جهود الانسان. فتزويد المدن الحديثة بالماء الصافي الخالي من الجراثيم ، وتصميم نظام ازالة الفضلات والمجاري العامة ، وجمع القمامة وطرحها خارج المدن بشكل منتظم ، والسيطره على الحشرات الناقلة لمختلف الامراض ، واتباع سياسة صحيحة في المطاعم والتجمعات العامة ، كلها ادت الى تطوير صحة الافراد وتقليل عدد الوفيات. وهذا الشكل الصحي يعكس جانبا من جوانب النظام الوقائي ، يضاف الى ذالك ان تحسن نوعية المواد الغذائية التي يتناولها الافراد ساهم هو الآخر في تطوير صحتهم وتقويه مناعتهم ضد الامراض. وهذا الجانب الثاني يعكس جوهر النظام الغذائي لا يمحو مشكلة المرض او يلغي قضية الموت ؛ بل ان قضية الموت ، بل ان قضية المرض والموت تبقي على الارض. ولا شك ان الطبيعه ، والوضع الاجتماعي ، وعمل الفرد كلها تساهم هي الاخرى في تصميم طبيعة المرض الذي


يتعرض له الانسان.

فالشمس والمطر والهواء النقي مثلا لها تأثير على صحة الافراد. فالتعرض المستمر للشمس يصيب الجلدة البيضاء بمرض سرطان الجلد. ولذلك فان الاوروبيين البيض الذين هاجروا من بريطانيا وهولندا الى استراليا وجنوب افريقيا تعرضوا لذلك المرض الذي لم يألفوه في بلادهم. والتعرض للبرودة الشديدة يعرّض الفرد لمرض ( هايپوثرميا ) الذي يؤدي الى الموت عند الشيوخ. والتعرض للبرد والرطوبة معا يسبب امراضا صدرية مختلفة. والمطر الشديد المتواصل خلال فصول السنة قد يؤدي الى الجلطة الدموية التاجية. والهواء الجاف النقي يفضي بالفرد الى الشفاء من مرض السل ، وهكذا كان يفعل سكان اوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي حينما كانوا يتسلقون جبال سويسرا حيث الهواء الجبلي الجاف النقي للتشافي من مرض السل وامراض الربو التي تصيب الاطفال. الا ان الافراد الذين يعيشون على سطح اليابسة وبمستوى سطح البحر لا يستطيعون العيش في المناطق الجبلية التي ترتفع اكثر من خمسة آلاف متر عن مستوى سطح البحر ، لان ذلك يسبب اثقال الرئتين بالماء.

ولا شك ان الامراض التي تصيب الفرد تختلف بحسب طبيعة الاجواء التي يعيش فيها. فالملاريا تنشر في الاجواء التي يكثر فيها بعوض الانوفيلس. والبلهارزيا تنتشر في الاماكن المائية التي يتواجد فيها نوع معين من الحلزونيات. ومرض النوم ينتقل فقط عن طريق اتصال ذباب مرض النوم ( الشذّاة ) الافريقي بجسد الانسان. والدزنتري ، والتيفوئيد ، والكوليرا تنتشر عن طريق عدوى بكتريا تصيب الجهاز الهضمي في


المناطق الحارة الرطبة.

وبطبيعة الحال ، فان للامراض ابعاداً اجتماعية ايضا. فالطبقة الاجتماعية احيانا تشخّص مرض الفرد. فافراد الطبقة العليا في النظام الطبقي غالبا ما يتمتعون بصحة جيدة ، مع حمل وولادة طبيعية فيما يتعلق بنسائهم. والمسكن الذي تسكن فيه العائلة يشخّص بعض الامراض ، فالبيوت القديمة الرطبة تكون مرتعا لمرض السل والامراض الصدرية الاخرى ، والبيوت القريبة من مناطق التلوث الصناعي تكون سببا لمرض التهاب القصبات. وطبيعة عمل الفرد تشخّص بعض الامراض ايضا. فعمال المناجم يعانون من الامراض الرئوية الناشئة من فرط استنشاق الدقائق المعدنية ، وعمال الصناعات الكيميائية قد يتعرضون لسرطان الكبد والمثانة.

الا ان اخطر الامراض التي يعاني منها انسان اليوم هي الامراض التي جلبتها الحضارة الغربية الحديثة بما فيها من صناعات وتطور تقني. ويقع على صدر قائمة هذه الامراض مرض تصلب الشرايين الذي يسبب الجلطة الدموية التاجية ، وامراض السكتة القلبية او الدماغية ، وامراض السرطان. وقد دلّت كل البحوث الطبية على ان نوع الغذاء والعادات الانسانية المضرة كالتدخين والكحول ، وعدم ممارسة التمارين الرياضية ، والكآبة النفسية ، والمنافسة على اصعدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، كلها لها دور مهم في انشاء هذه الامراض. ولعل اهم تغيير صحي مضر حصل مع تطور الحضارة الغربية خلال المائة سنة الماضية هو تصنيع المواد الغذائية ، ومحاولة الانسان الغربي ـ بجهل غير متعمد ـ حذف الالياف النباتية من المواد الغذائية. فاصبحت الحنطة والشعير التي هي من اغنى المصادر الغذائية


بالسعرات الحرارية التي ينبغي ان نتناولها كما تناولها اجدادنا من قبل بشكل طبيعي بعيد عن تدخل الانسان ، تصفّى وتنظّف تدريجيا من الالياف النباتية ، بحيث اصبح غذاؤنا الرئيسي خبزاً ابيض لا يبني اجسامنا بالشكل الطبيعي الذي بناه الخبز الاسمر الحاوي على كل الالياف النباتية. وجلَب السكر المطحون الذي اصبح جزءا رئيسيا من حياتنا الغذائية ظاهرة تسوس الاسنان ، بحيث قيل ان اجدادنا لم يكونوا يعرفوا شيئا اسمه تنخر الانسان ، بل كانت اسنانهم تواصل عملها بسلامة ولحد الموت بسبب تناولهم طعاما طبيعيا لا يحوي سكراً مطحوناً اولاً ، وبسبب استعمالهم المسواك ثانياً. ولا شك ان هذا الطعام المصنّع الذي عرضته الحضارة الغربية الحاوي على كمية كبيرة من السكريات ، كمية قليلة من الالياف ، وكمية اكبر من الدهنيات الحيوانية هو احد اسباب امراض القلب تصلب الشرايين الحديثة العهد بالانسان.

ان هذا العرض المختصر حول الامراض التي يواجهها الانسان المعاصر تجعلنا ارسخ ايمانا بان النظرية الصحية التي جاء بها الاسلام فيما يتعلق بالنظامين الوقائي والغذائي هي اسلم الطرق لحفظ صحة الافراد في النظام الاجتماعي ؛ ولذلك فاننا لا نملك خياراً آخر غير الخيار الاسلامي اذا حاولنا صياغة سياسه طبية للدولة الاسلامية.

وقد بحثنا في هذا الكتاب مقدمات السياسة الطبية الاسلامية. فقد تطرقنا في القسم الاول من الكتاب الى عرض ونقد آراء النظرية الرأسمالية فيما يتعلق بالصحة والمرض السياسة الطبية بمدارسها الفكرية الموسومة بالمدرسة التوفيقية ، ومدرسة الصراع الاجتماعي ، والمدرسة الامريكية التي


سميت ايضا بمدرسة ( جامعة شيكاغو ) وروادها علماء اجتماع امريكان امثال ( جورج ميد ) ، و ( روبرت پارك ) و ( ارنست بيرجيس ) الذين كانوا جميعا اما ابناء قساوسة بروتستانت او انفسهم قساوسة بروتستانت ، فتكون النظرة الاجتماعية الامريكية اقرب الى النظرة النصرانية البروتستانتية. وتطرقنا في القسم الثاني من الكتاب الى عرض مجمل للآراء الفقهية الاسلامية الخاصة بالصحة والمرض والموت. وخرجنا بنتيجة مهمة وهي ان النظام الصحي والسياسة الطبية الاسلامية ينبغي ان تطرح كنموذج عملي يستحق ـ على اقل تقدير ـ انزاله الى الساحة الاجتماعية الاسلامية ، وضرورة تبنيه بكل قوة حتى يتحقق تكامل نظام الدولة والحكم في الاسلام.

ان التفصيلات المذكورة في طيات الكتاب ، والخاصة بتطبيق افكار المدرسة التوفيقية والافكار الرأسمالية في النظام الصحي الغربي عموما والامريكي بالخصوص ، تنتهي الى نتيجة على درجة كبيرة من الخطورة وهي ان المؤسسة الصيحة الغربية اصبحت السياسة الطبية الغربية دون ادنى شك مرتبطة بالسياسة الاستعمارية لدول الاستكبار.

ان اطباء العالم الاسلامي اليوم يتحملون اكبر المسؤوليات الاجتماعية فيما يتعلق بتطوير النظام الطبي في المجتمع الاسلامي. ويتحمل فقهاء الامة ايضا مسؤولية رسم السياسة الطبية الاسلامية واكتشاف كل ما من شأنه الوقاية من الامراض والعناية بصحة الفرد من خلال الكتاب المجيد الروايات الواردة عن رسول الله (ص) وائمة اهل البيت (ع). وينبغي ان يكون حمل همّ هذه القضية من اولويات السياسة الاسلامية. لان


الاستعمار الطبي يخدم السياسة الاستكبارية على مستويين ؛ الاول : الاستنزاف طاقات وموارد العالم الاسلامي والدولة الاسلامية بالخصوص من خلال تصدير الادوية والمعاجين الكيميائية او موادها الاساسية. الثاني : حرمان الاسلام من فرص عرض نظامه الصحي المتميز والمستند على الانظمة الوقائية والغذائية والعلاجية ، التي هي ارخص الطرق واسلمها الى السعادة الصحية ، وبالتالي الابقاء على حالة التخلف الحضاري التي يشهدها المسلمون اليوم. ولا شك ان صياغة سياسة طبية مستندة تماما على اطار الافكار الاسلامية يتطلب فهما استثنائيا لدور الطب في الحياة الاجتماعية ودور الفقه الاجتماعي في معالجة المشاكل الاجتماعية التي تواجهها الدولة الاسلامية. وقد حاولنا بكل جهد ان نضع قدمنا على الخطوة الاولى لهذا الطريق الطويل.

وهو المستعمان ، وله الحمد في الاولى والاخرة ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

زهير الاعرجي

مدينة قم المشرفة / ذوالحجة ١٤١٣ ه‍.


( اطروحة الكتاب )

تربط النظريات الاجتماعية الغربية الصحة والمرض بصميم فعاليات النظام الاجتماعي. ففي الوقت الذي تعتقد فيه النظرية التوفيقية على لسان ( تالكوت بارسن ) و ( جورج ميد ) بضرورة ربط المرض بالدور الاجتماعي الذي يشغله الفرد ترتب على ذلك استنتاجا مهمّا يصرّح بان للنظام الاجتماعي مصلحة حقيقية في انشاء المؤسسة الطبية للحفاظ على سلامة الافراد وصيانة انتاجهم الاجتماعي ، فانها لا تمانع من ربط النظام الصحي بالفلسفة الرأسمالية التي تؤمن بتقييم العمل من زاوية الربح والخسارة لا الخدمات الانسانية. بينما تقوم نظرية الصراع الاجتماعي على لسان ( كارل ماركس ) والمتأخرين من انصارها باتهام النظام الرأسمالي بضلوعه في انشاء المؤسسة الطبية التي لا تعدو كونها مجرد صنيعة من صنائع الطبقة الرأسمالية ، لان صياغة شكل سياسة تلك المؤسسة الطبية يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.

ويتلخص نقدنا لكلا المدرستين ، بان للطب وظيفة خطيرة في المحافظة على صحة الافراد وزيادة انتاجهم الاجتماعي وليس بالضرورة ان يكون النظام الصحي وليد الطبقة الرأسمالية ، لان المجتمع الانساني يحتاج الى تلك المؤسسة بل لا يشك عاقل انها من اولويات مسؤولية الدولة الحديثة. الا ان الخبرة الطبية والتقدم التقني وحدهما لا يستطيعان تطوير انسانية النظام الصحي ما لم تستند فلسفة ذلك النظام على رسالة الدين الاخلاقية في التعامل مع الصحة والمرض والموت.

فرسالة الدين تولي اهتماما خاصا بالفرد ومصلحتة الشخصية والاجتماعية.


فتَبني اولا في شخصيات الافراد حب التعفف عن المال ، وهو ما يساهم في تربية الطبيب على الخدمة الانسانية في عمله المهني ويجنبه حب تكديس المال على حساب دخل المريض ومعاناته الانسانية. وتحاول الرسالة الدينية ايضا تثقيف المريض من خلال حثه على معرفة اساليب الوقاية وتناول الغذاء الصحيح. وتقوم تلك الرسالة ايضا في تحميل النظام الاجتماعي الاسلامي المسؤوليته الشرعية في علاج المريض وتعويضه ماليا بشكل يحفظ كرامته ويسد حاجته وحاجة عائلته الاساسية.

ويتخلص جوهر النظرية الاسلامية في الطب والصحة العامة في نظامين هما : النظام الوقائي ، والنظام الغذائي. فالنظام الوقائي يعالج الحالة المرضية قبل وقوعها. وقد تعاملت الشرعية مع هذا النظام باسلوب التحريم ، فمنعت العديد من المأكولات التي اثبت العلم التجريبي الحديث ضررها القطعي على الجسد الانساني كالميتة والدم ولحم الخنزير الخمر نحوها استنادا على قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) ، بينما أحلّت الكثير من اللحوم والثمار. وقد جاء الاسلام بنظام وقائي فريد فيه الكثير من التفصيلات فيما يتعلق بطهارة الجسد الانساني ، خصوصا تنظيف الاسنان عن طريق السواك ، وتنظيف الجسد بالطهارة المائية ، وطهارة الشمس الخاصة بالارض وهي بيئة الفرد ، الطهارة الطبية الباطنية عن طريق الصيام. والنظام الغذائي هو الآخر يمثل قسما واسعا من الدائرة الفقهية الخاصة بصحة الفرد. واعمدته وجوب التذكية الشرعية ، وآداب المائدة ، الاعتدال في تناول اللحوم ، والنظام الشفائي في العسل ونحوها.

وفي الحالات الاستثنائية يتعين الطب العلاجي الذي يؤيده الاسلام ويضع له الضوابط الاخلاقية ومنها ضمان الطبيب بشروطه الشرعية ، الارتكاز العقلائي ، ومسؤولية الدولة في تطبيب الافراد ومعالجتهم وقت الطوارئ.

ومن هذا البحث نستنتج ان للنظام الطبي الاسلامي اخلاقية دينية وادبية عظيمة تميزه عن بقية الانظمة الصحية في العالم وخصوصا النظام الطبي الرأسمالي الغربي. وهذا الكتاب مقدمة على طريق اكتشاف النظام الصحي للدولة الاسلامية من مصادره ومنابعه الاصيلة.




الطب في النظرية التوفيقية

يقول ( تالكوت بارسن ) ، احد رواد النظرية التوفيقية في الطب بان « المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضا » (١) ، لان المجتمع الانساني يتطور تطوراً طبيعياً ما لم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات. فاذا تعرض فرد ما لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لا يستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعيا. وكنتيجة لهذا الخلل ، اصبح ذلك الدور معرضاً الى احتمالين ، الاول : ان يحال الى فرد آخر سليم من الناحية الصحية ، والثاني : ان يبقى ذلك الدور معطلاً دون شاغل يشغله. وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكا ضد الحركة الطبيعية للنظام الاجتماعي.

ولا شك ان للنظام الاجتماعي ـ مهما كان لونه وشكله ـ مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم ذلك النظام وقابلياته. وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من

__________________

(١) ( تالكوت بارسن ) : بحوث في النظرية الاجتماعية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٥٤ م.


يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يتهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به. فلو نظرنا الى قائمة الامراض التي تصيب الافراد في اي مجتمع انساني ، وابتدأنا من الصداع وانتهينا بامراض القلب مروراً بامراض الكبد والجهاز الهضمي والدماغ والاعصاب ، لتبين لنا ان المؤسسات الصحية التي اسسها النظام الاجتماعي هي التي تحدد طبيعة المرض خطورته. فالمجتمع مثلاً لا يعتبر الصداع مرضاً لان المؤسسة الصحية لم تعتبره حالة مرضية تستوجب دخول المستشفى او عيادة الطبيب الا في حالات استثنائية نادرة ، ولكنه يعتبر قرحة الامعاء ، مرضاً يتوجب معالجته عن طريق الطبيب او المستشفى ، مع ان الصداع والقرحة معا قد يعطلان الفرد عن الانتاج. وعلى هذه القاعدة يمكن تطبيق كل الحالات المرضية التي يتم تحديدها عن طريق مؤسسات النظام الصحية.

ولا يتوقف النظام الاجتماعي عند تحديد المرض وتشخيصه ، بل يتوقع من الفرد سلوكاً معينا يتناسب مع ذلك المرض. فسلوك المريض مثلاً ، يعتبر من الناحية الاجتماعية مناقضاً للسلوك الطبيعي للافراد الاصحاء. فما ان يعلن المريض اعراضه المرضية حتى يخلد الى الفراش ، باحثاً عن المساعدة الطبية ، باذلاً ماله لتحصيل الدواء الموصوف. وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض. ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي


بشكل عام.

وتعْتَبِر هذه النظرية ، المرض لونا من الوان الانحراف الاجتماعي ؛ لان المريض يسلك خلال مرضه سلوكاً مناقضاً للسلوك الطبيعي الذي يقره الاصحاء. فالخلود الى الفراش ، وتناول الدواء ، وتسخير الآخرين لخدمة المريض ، كلها تصرفات لا يقوم بها الاصحاء غالباً. ولكن هذا الانحراف الصحي يعتبر انحرافاً استثنائيا ، لاسباب عدة منها ، اولا : ان هذا السلوك يستغرق فترة قصيرة محدودة ، وثانياً : انه يعبّر عن قوة لا ارادية داخل جسم الانسان. فالمريض مجبر على قبول حالته الاستثنائية ، وملزم بالاستسلام لواقعه الانحرافي الجديد. ولذلك فهو غير مُلام على تركه العمل الانتاجي ، وغير مسؤول عن التقصير في اداء دوره الاجتماعي الذي اصبح شاغراً بسبب مرضه. وما على المجتمع ونظامه الاجتماعي الا الاذعان والتسليم لحق المريض ومعاملته معاملة خاصة ، عن طريق منحه اجازة التخلي عن دوره ومسؤولياته الاجتماعية الى موعد الشفاء التام. فالعامل المريض مثلا يستطيع ترك العمل والتوقف عن الانتاج والخلود للراحة فور ظهور اعراضه المرضية. والطالب المريض يستطيع تأجيل موعد امتحانه النهائي لاسباب مرضية. والتاجر المريض يعطل تجارته بسبب عجزه عن ممارسة العمل الطبيعي الذي تعارف افراد المجتمع عليه.

ولا شك ان المريض الصادق ينبغي ان يطلب علاجاً سريعاً لحالته المرضية الاستثنائية. لان تباطؤه في العلاج يعني ان ذلك الفرد يهوى البقاء عالة على الآخرين ، ويود التخلي عن عمله الانتاجي في الحقل الاجتماعي ؛ وهو بذلك لا يعطل دوره الاجتماعي فحسب ، بل يستهلك


موارد الآخرين الاقتصادية ايضاً. وهذا التمارض يعطل الطاقات الانتاجية للافراد ويسبب خللا في الميزان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع.

وعلى الاغلب ، فان النظام الاجتماعي يتوقع من المريض قبول المساعدة الطبية الممنوحة له من قبل المؤسسة الصحية المعترف بها اجتماعياً. فالفرد المصاب بمرض حقيقي لا يستطيع رفض استشارة الطبيب ، او تعليماته الخاصة بالفحص الشعاعي او الكيميائي ، او اخذ الدواء ؛ لان ذلك كله يعرضه الى الشكوك والشبهات التي تتهمه بالتمارض تهربا من المسؤوليات الاجتماعية المناطة به.


نقد النظرية التوفيقية

ومع ان اهتمام النظرية التوفيقية منصبّ على ربط الادوار الاجتماعية التي يقوم بها الافراد بالسلوك الطبيعي للاصحاء ، وان النظام الاجتماعي ملزم بمعالجة الامراض ، لان اهمال معالجتها يؤدي الى تقليل الانتاج الاجتماعي ؛ الا ان هذه النظرية لا تخلو من مفارقات واخطاء نستعرض بعضاً منها.

اولا : ان النظرية تصب جلّ اهتمامها على الامراض غير المزمنة كامراض الجهاز الهضمي والبولي والتنفسي. وهذه الامراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً. ولكن النظرية تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كامراض تضخم الانسجة المعروفة ب‍ ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ؛ حيث لا يستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه ، بل ان الشفاء في هذه الحالات يستهلك وقتاً طويلاً يعطل فيه الانسان طاقته الانتاجية ومسؤوليته الاجتماعية. وعلى ضوء ذلك ، فان المريض يحاول في هذه الحالات اعادة تنظيم وترتيب مسؤولياته الاجتماعية والاسرية بشكل لم تتناوله النظرية التوفيقية في تحليلها.

ثانياً : ان النظرية التوفيقية تركز على الطب العلاجي تهمل فرضية الوقاية بكل الوانها وتوجهاتها. ويعدُّ هذا الاهمال من اكبر اخطاء هذه النظرية. فلو انصبّ جهد المؤسسات الصحية على فكرة الوقاية لجنّب تلك المؤسسات الكثير من الاموال والجهود. فاشباع الطفل اشباعاً يتناسب مع


سنه من الحليب ، والبيض ، والخبز ، وعصير الفواكه يخلق منه رجلا منتجا سليماً من الامراض. وكل درهم يصرف في هذا المنحى على طفل ما ، سيدر على المجتمع لاحقاً خمسة اضعاف هذا المبلغ ، حيث ينمو الطفل سليماً من الامراض فيوفر عندئذ ، مصاريف الطب والعلاج ، ويصبح عند البلوغ عضواً نافعاً منتجاً في النظام الاجتماعي. ويبقى يؤدي دوره الاجتماعي فترة اطول من ذلك الطفل المريض الذي يشبّ وهو يفتقر الى ما يسند عظامه ويقوي لحمته من املاح ، وفيتامينات ، وادهان ، وكاربوهيدرات.

ثالثاً : ان الطب النفسي والروحي قد اهملته النظرية التوفيقية اهمالاً تاماً. ولا شك ان بعض الامراض العقلية تستدعي علاجا نفسيا. وبعض الجروح العضلية والغضروفية تستدعي علاجاً طبيعياً. وفي حالات معينة يعتقد المريض بضرورة العلاج الغيبي ، فلا يشفى الا بذلك. وفي كل هذه الحالات المرضية لم تتطرق النظرية الى تفسير العلاج والمعالج والمعالج ، لم تحدد موقف النظام الاجتماعي من تعطيل دور ذلك المريض اجتماعياً.

رابعاً : ان بعض الامراض والاضطرابات العقلية تعكس انحرافاً حقيقياً عن السلوك الطبيعي. فلا يتهاون النظام الاجتماعي في تصنيف ذلك الانحراف ضمن التصانيف الاجرامية والجنائية ، حتى لو اعلن المريض اعراضه المرضية واخلد الى الفراش ، وبحث عن المساعدة الطبية ، وبذل ماله في تحصيل الدواء. ولم تميز النظرية التوفيقية بين الامراض العقلية التي تؤدي الى جنون مطبق ، وبين الاضطرابات الاخرى التي يستطيع فيها الفرد ان يجد علاجاً شافياً ، يدفعه مرة اخرى الى عجلة النشاط الاجتماعي الانتاجي.


واهمال هذه الحالات المرضية في تفسير النظرية التوفيقية للطب ، يعكس ضعف هذه النظرية في تحليل الامراض وعلاجها في المجتمع الانساني تحليلاً جامعاً لكل اركانها وشاملاً لجميع حقولها ومراتبها.

وهذه المؤاخذات على النظرية التوفيقية تقلل من اهميتها في تفسير المرض باعتباره ظاهرة اجتماعية ، علاوة على كونه ظاهرة طبية ، لانها لم تتناول جميع الامراض التي يتعرض لها الافراد ، بل اخذت بعضاً منها بما يساند آراءها ، وتركت البقية دون تحليل.


وظيفة الطب

ولا نشك في ان مساندة النظام الاجتماعي للمؤسسة الصحية يعكس خطورة وظيفة الطب في الحياة الانسانية ؛ فتنبع اهمية الطب في المجتمع الرأسمالي مثلاً من علاقة المؤسسة الصحية بانتاجية الفرد ، حيث يقاس النجاح الاقتصادي للنظام الرأسمالي من خلال النسب الانتاجية الاجمالية لمجموع الافراد.

ولا ريب ان الوظيفة الاساسية للطب تدور حول المحافظة على صحة الافراد ، حتى يبقي النظام الاجتماعي نظاماً انتاجياً يدر على اعضائه اقصى ما يمكن اعتصاره من الخيرات. ومع ان الصحة الشخصية مسؤولية فردية ، الا ان المؤسسة الصحية مسؤولة عنها مسؤولية مباشرة. فهي التي تقوم بتقديم حقن المناعة وقت انتشار الاوبئة والامراض المعدية ، وبالفحص الطبي السنوي للعاملين في المصانع وحقول الانتاج المختلفة ، وبتقديم المعلومات والثقافة الطبية لجميع الافراد ، وبتنقية المياه من الشوائب الجراثيم ، وبالسيطرة على انظمة المجاري العامة ، حتى يتمّ تفادي انتشار الامراض وتقليل كل ما من شأنه خفض المستوى الانتاجي للعاملين.

وفي سبيل المحافظة على صحة الافراد ، فان النظام الصحي يقوم بمعالجة الامراض. فمن واجبات المؤسسة الصحية التعامل مع الامراض المختلفة وتقديم العلاج الشافي للافراد المصابين بتلك الامراض. وهذا يتطلب تدريب عدد كبير من العاملين والخبراء وانشاء مؤسسات ضخمة من المصانع والمعاهد التعليمية. فالاطباء والممرضون والصيادلة


والاداريون يتولون امور المستشفيات ؛ والشركات الكيميائية تتولى انتاج الادوية والمراهم الطبية ، والمؤسسات الهندسية والكهربائية تتولى تصنيع الاجهزة الطبية وتصميم المستشفيات ، والكليات الطبية والصيدلية تتولى تخريج الاطباء والصيادلة. وهذا كله يحمّل النظام الاجتماعي اعباءً كبيرة ، واموالاً طائلة.

وحتى تتفادى المؤسسة الطبية الخسارة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تكرار حدوث المرض ، فانها تبحث عن اسبابه وطرق انتشاره ، وتحاول الكشف عن افضل الوسائل التقنية للعلاج ، ومن ذلك الطب الوقائي والعمليات الجراحية وطرق التخدير ، وتصنيع الادوية. وهذا يتطلب جهدا بشرياً فائقاً لان البحوث الطبية تبدأ بالتحري لاكتشاف اصغر الكائنات الحية في المختبرات الطبية ، وهي الفيروسات ، وتنتهي في البحث على النطاق الحقلي بدراسة الامراض دراسة ميدانية واسعة ، قد تستوعب شعوباً وبلدانا باكملها. وتتم اغلب الاكتشافات عادة ، عن طريق مؤسسات البحوث الطبية المتصلة بالجامعات ، او المستشفيات التعليمية ، او الوكالات الحكومية او المختبرات الاهلية. وهذه المؤسسات الصحية تهتم اهتماماً خاصاً بمعالجة الامراض التي يبتلى بها الافراد في ذلك الاقليم.

ومن وظائف النظام الطبي ايضاً ، السيطرة الاجتماعية على سلوك الافراد لخدمة النظام الاجتماعي. فعن طريق الطب ومؤسساته يتم تحديد حقيقة المريض عن المتمارض ، حيث يترتب على ذلك اعفاء المريض من واجباته المهنية وحرمان المتمارض من تعطيل دوره الاجتماعي. وعن طريق المؤسسة الطبية يتم تسجيل شهادات الميلاد وشهادات الوفاة ، ويترتب


على ذلك منح الوافدين الى الحياة جنسيات الدولة ، واعفاء المغادرين من مهامهم الاجتماعية. ويتم عن طريقها امضاء شهادات التلقيح ، واثبات احقّية العاطلين عن العمل لاسباب صحية ، وتعويضات شركات التأمين للافراد في حالات الحوادث والاعتداءات ، والصاق تهمة الاضطراب العقلي على بعض المنحرفين. وبالجملة فان المؤسسة الطبية تسلك مسلك الشرطي المراقب لحركة الدخول والخروج من العالم الدنيوي الى العالم الاخروي ، والقاضي الذي يبتّ باحقية هذا ومظلومية ذاك ، وصمام امان النظام الاجتماعي في ضبط انتاجية العمل ونشاط العمال.


الطب في نظرية الصراع الاجتماعي

وترى نظرية الصراع ان المعافاة الصحية تعتبر مصدراً من المصادر التي يحسب لها حساب عند الرأسماليين (١). فكما حازت الطبقة الرأسمالية على قصب السبق في الثروة ، والقوة السياسية ، والمنزلة الاجتماعية ، فقد اعتبرت المعافاة الشخصية مصدراً من مصادر القوة التي ينبغي ان يسيطر عليها الاغنياء في المجتمع الرأسمالي. ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنيّاً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية ؛ لان النظام الصحي يدرّ على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة ، ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية. واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات ـ سيكون حتما في قبضة اليد الرأسمالية.

بطبيعة الحال ، فان من حقّ الفرد في المجتمع الرأسمالي التمتع بصحة جيدة ؛ ولكن لتحقيق ذلك يجب الالتفات الى مسألتين ، الاولى : حالته المعيشية والسكنية. والثانية : المستشفى الذى يعالج فيه وقت المرض. فاذا كان ذلك الفرد عضواً في الطبقة الرأسمالية ، فان السكن الذي يسكنه ونوعية

__________________

(١) ( هاورد ويتكن ) : المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٦ م.


الطعام الذي يتناوله يساهمان مساهمة كبيرة في المحافظة على صحته وعافيته. وحين المرض ، فان الاموال التي يمتلكها تستطيع ان تفتح له ابواب افضل المستشفيات وتضع في خدمته امهر الاطباء. اما الفقراء فان ظروف معيشتهم وسكناهم ، ونوعية غذائهم تعرضهم لشتى انواع الجراثيم والفيروسات ، وفي النهاية تنهار مناعتهم الجسدية ضد الامراض ، وتضعف مقاومتهم. ولا شك ان وضعهم المادي الذي لا يساعدهم على دفع اجور المستشفى والطبيب والدواء يؤدي الى حرمانهم من الخدمات الطبية. وكما كان متوقعاً فان التوزيع غير العادل للخدمات الصحية ، هو النتيجة الاساسية لانعدام العدالة في توزيع الثروة الاجتماعية وما يترتب عليها من انشاء نظام طبقي ينا في مفاهيم المساواة الانسانية.

ونتيجة لهذا التفاوت الصحي بين الطبقتين الغنية والفقيرة ، الرأسمالية والمعدمة ، يعمّر الاغنياء في النظام الرأسمالي ، في حياتهم الدنيوية ، اكثر من الفقراء ، لان هؤلاء الاغنياء تتوفر لهم مصادر الثقافة الطبية العامة ، وطرق التغذية الصحيحة ، وتوفر لهم اموالهم سبل العلم عن الامراض ، مما يؤدي الى اهتمامهم بالاعراض المرضية ، وسرعة التحرك طلباً لمعاينة الطبيب ، على عكس الفقراء الذين لا يعيرون اهتماماً للاعراض المرضية ، ويتمنون الشفاء دون معاينة طبيب مختص.

وتزعم نظرية الصراع ان دورات المياه في المساكن الفقيرة تعتبر مصدراً من مصادر انتشار الاوبئة والامراض المعدية عن طريق الطفيليات والجراثيم ، وتعتبر اماكن عمل الفقراء اكثر خطراً من الاماكن التي يعمل فيها الاغنياء ؛ وبسبب هموم المعيشة والاضطرابات النفسية التي تصاحب


الفقر والحاجة عادة ، تزداد نسبة الامراض العقلية بين افراد الطبقة الفقيرة. وهذه الاضطرابات النفسية والعقلية تسبب نقصانا في اعمار الفقراء على الاغلب. ولا شك ان هذا الوضع الصحي للفقراء يخدم الطبقة الرأسمالية الغنية خدمة عظمى ، لان المرض والتخلف العقلي ونقصان عمر الفرد يساعد على سحق الطبقة الدنيا من الافراد ، بحيث يؤدي الى غلق ابواب التغيير الاجتماعي المأمول. والنتيجة النهائية ، بقاء سيطرة الطبقة الرأسمالية على مقدرات النظام الاجتماعي بكل ابعادها السياسية والاقتصادية.

وطالما كان القوي افضل من الضعيف ، وكان المعافى افضل من المريض ، كان النظام الصحي الرأسمالي حتماً صنيعة الطبقة الرأسمالية ، كما تعتقد نظرية الصراع ، لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.


الطب في النظام الرأسمالي البريطاني

ويتمتع افراد المجتمع البريطاني بنظام صحي يجمع بين الفكرة الاشتراكية والنظرة الرأسمالية ، على خلاف نظيره في المجتمع الامريكي (١). فالنظام الصحي البريطاني يسمح للاطباء بممارسة مهنتهم في العيادات الخاصة ، ويسمح للمستشفيات الاهلية بفرض اجور معينة يدفعها المرضى لقاء الخدمات المقدمة لهم. ولكن الاطباء والمستشفيات عموماً تشارك في النظام الصحي الحكومي العام الذي يقدم الخدمات الصحية المجانية لكل الافراد ، بغض النظر عن دخلهم السنوي. ويعين هذا النظام للطبيب راتباً محدداً من قبل الادارة المحلية مع نسبة سنوية ثابتة من ضرائب الافراد الذين يعالجهم ذلك الطبيب. ولذلك فان الاطباء الماهرين يجذبون عدداً اكبر من المرضى. وكلما ازداد عدد المرضى الذين يعالجهم الطبيب ازداد دخله السنوي. وهذا النظام يخفف العبء المالي عن المريض ، وذلك بالتزام الحكومة بدفع تكاليف الفحوص والتجارب المختبرية والعمليات الجراحية التي تجري في المستشفيات ، وما يعقبها من مكوث فترة زمنية للتشافي ، وتحديد الدواء من قبل النظام بسعر رمزي ثابت يدفعه الفرد ، حتى لو كان الثمن الواقعي لذلك الدواء باهضاً.

ولكنّ مناصري النظرية الرأسمالية يعترضون على النظام الصحي

__________________

(١) ( ميلتون رومير ) : دراسة مقارنة بين السياسات القومية للعناية الصحية. نيويورك : مارسيل ديكر ، ١٩٧٧ م.


البريطاني ، ويتهمونه بالقصور عن مواكبة النظرية الرأسمالية ، ويزعمون ان الطلب المتزايد على خدمات النظام الصحي ، ومحدودية الاموال المقدمة له من قبل الضريبة تجرده عن المنفعة المادية المتوخاة في كل عمل رأسمالي ؛ ويدعون بان النظام الصحي البريطاني لا يفتقر الى المال فحسب ، بل يفتقر ايضاً الى الدقة والاتقان في تقديم الخدمات الطبية.

ومع ان هذه الادعاءات صحيحة ظاهرا ، الا ان هذا النظام الصحي اعدل نسبياً من نظيره في الولايات المتحدة. فهو اولاً : يمثل عدالة نسبية في توزيع الخدمات الصحية. وثانياً : تمثل تكاليف النظام الصحي البريطاني نصف تكاليف نظيره في الولايات المتحدة. وثالثاً : مع ان النظام البريطاني متهم بالتقصير في تقديم الخدمات الطبية ، الا ان نسبة وفيات المواليد في المجتمع البريطاني اقل من نظيرها في المجتمع الامريكي. والنظام الصحي البريطاني يمثل استثناءً في الفكرة الرأسمالية ، لانه يؤمن ـ خلافاً للعقيدة الرأسمالية في ضرورة جني الارباح من كل عمل تجاري ـ ان العلاج الصحي يجب ان يقدم للمرضى الذين يحتاجون العلاج بغض النظر عن قدرتهم على دفع الاجور.


الطب في النظام الرأسمالي الامريكي

ولا شك ان دراسة النظام الصحي الرأسمالي الامريكي تجعلنا نصدق ـ دون تحفظ ـ الفكرة القائلة بأن اغنى دولة رأسمالية في العالم اليوم ـ وهي الولايات المتحدة ـ ليس لديها تأمين صحي عام يشمل جميع الافراد ؛ حيث نلاحظ ، في نهاية القرن العشرين ، ان فرداً واحدا من كل ستة افراد في الولايات المتحدة لا يستطيع دفع اجور معالجته الطبية وقت المرض. واذا استمر مرضه لفترة طويلة نسبياً فانه قد يضطر لبيع سكناه وممتلكاته طلباً للشفاء. واذا ما تم الشفاء بعد تلك الفترة ، ولكنه لا يزال عاطلاً عن العمل ، فان مصيره التشرد مع اسرته (١). وهذه الحالات المأساوية المنتشرة في طول البلاد وعرضها تدحض الفكرة القائلة بأحقية النظام الرأسمالي في قيادة البشرية نحو شاطئ السعادة والامان. فأية سعادة هذه التي يبشر بها النظام الرأسمالي افراده ؟ أليس التطبيب والعلاج حقاً من حقوق الفرد مهما كان لونه وجنسه ؟ اوليس للفرد الفقير حق على المجتمع في تطبيبه اذا مرض ، وتعويضه اذا فقد القدرة على العمل والانتاج ؟ ولماذا يعتبر النظام الرأسمالي الطب بضاعة يتاجر بها كما يتاجر بالمواد التجارية الاخرى ؟ الا ينبغي للخدمات الصحية العلاجية التي يقدمها الطبيب والمرض والصيدلي وصاحب المستشفى للمريض ، ان تكون في مدار الخدمة الانسانية البعيدة عن الطمع والجشع الرأسمالي ؟

__________________

(١) ( بول ستار ) : التغير الاجتماعي للطب الامريكي. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨٢ م.


ولكن النظام الرأسمالي لا يقدم اذنا صاغية لصرخات المستضعفين ، بل يزعم ان المدار في النظام الصحي هو جني الارباح التي يدرها على المستثمرين ، دون الاخذ بالنظرة الانسانية في معالجة المريض باعتباره انسانا يستحق كل مستلزمات العلاج والرعاية وقت المرض. فالمريض الذي يستحق العلاج الحقيقي هو القادر على دفع القائمة المالية اكثر من غيره. اما المريض الفقير فهو لا يستحق علاجاً لانه لا يساهم في تحقيق المفهوم الرأسمالي في الانتاج وجني الارباح.

ويأخذ ناقدو الرأسمالية على النظام الامريكي انه لم يشرّع لحد اليوم قانوناً واحدا يحدد فيه اسعار العلاج الطبي ، بل انه ترك الامر الى المنافسة الاقتصادية ؛ فالاطباء هم الذين يحددون اسعار علاجهم ، وعلى ضوء ذلك فانهم يقبضون اجورهم العالية ، عن طريق المرضى الاثرياء مباشرة ، او عن طريق شركات التأمين الصحية ، او عن طريق البرامج الحكومية ؛ ومن كل ذلك تتراكم مبالغ هائلة من الاموال لدى هؤلاء المحترفين الذين يفترض فيهم التعفف عن جمع المال لقربهم من آلام الانسان وموته وحياته.

والنتيجة من تطبيق هذا النظام الصحي ان ارقى المستشفيات وافضلها من ناحية التقنية العلمية والخدمات تعالج افراد الطبقة الرأسمالية العليا فقط لانهم وحدهم القادرون على دفع اجور خدمات تلك المستشفيات. اما الطبقات الاخرى فانها تستخدم مؤسسات صحية متوسطة المستوى للعلاج ، ما عدا الطبقة الفقيرة التي تعاني من الحرمان لأبسط قواعد العلاج الصحي. ولا شك ان هذا النظام الصحي الطبقي ساعد على انتاج افضل انظمة الصحة والعلاج التقني في العالم ، خصيصاً للاغنياء.


ولا ريب ان هذا النظام ساعد ايضا على تكوين اغنى الاطباء في العالم.

ويرجع سبب نمو هذا النظام الصحي غير العادل وثباته ، الى ان مؤسسة الطب الامريكية وهي التي تضم في عضويتها اكثر من نصف اطباء امريكا ، تغدق على اعضاء الكونغرس ورجال الحكومة اموالاً كي تصرفهم عن المصادقة على قوانين اصلاح النظام الطبي في الولايات المتحدة.

ولتبرير هذا الواقع الصحي الظالم الذي انشأته الفكرة الطبقية الامريكية ، ينتقد مناصر والنظام الامريكي فكرة سيطرة الدولة على النظام الصحي ، واشراك الفقراء في العلاج ، ويزعمون ان ذلك يؤدي الى ( اشتراكية الطب ) التي تناقض النظرية الرأسمالية من الصميم. ولكن هؤلاء يتناسون ان بعض المؤسسات الرأسمالية نفسها اشتراكية الطبع. فجهاز الشرطة تديره الحكومة وهو بطبيعته اشتراكي المنشأ. فالمعتدى عليه لا يذهب الى شركة اهلية خاصة لاستئجار الشرطي الذي يحميه ، بل ان جهاز الشرطة جهاز فيدرالي تسيطر عليه الدولة لحماية الافراد ضد الاعتداءات المختلفة ، فكيف يتقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية البوليس » ويرفض « اشتراكية الطب » ؟ وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية القضاء » الحكومي ويرفض « اشتراكية الطب » ؟ وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية المطافئ » ويرفض « اشتراكية الطب » ؟

ومع ان النظام الصحي الرأسمالي الامريكي اليوم ، يفتخر بتقدم علومه الطبية الحديثة ، ويرجعها الى اصل الفكرة التجارية القائمة على اساس الربح والخسارة ، الا انه يستنكر في الوقت نفسه ان يكون الجانب الانساني المدار في تقديم الخدمات العلاجية ، لان المؤسسة الطبية ـ كما


يعتقد ـ يجب ان تكون مؤسسة للتجارة لا للخدمات !

واذا كانت المؤسسة الطبية في المجتمع الرأسمالي الامريكي تنتج عشرة بالمائة من ارباح الانتاج الكلي للنظام الاجتماعي ، فان حرمان خمسة عشر بالمائة من افراده من العلاج الطبي الاساسي يعتبر ظلماً بحق المعذبين والمعدمين ، الذين يعيشون دون علاج ، تحت نظام يدعي لنفسه كمال العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين الافراد.


اسباب انعدام عدالة النظام الصحي الامريكي

وترجع اسباب فشل النظام الطبي الامريكي في توزيع العلاج بشكل عادل بين الافراد الى قضايا عديدة ؛ منها : عوامل الربح ، وفشل البرامج الحكومية ، وتكاليف المؤسسة الطبية ، والطب الدفاعي ، وزيادة عدد الاطباء (١).

فعلى صعيد الارباح ، فان الروح الرأسمالية للنظام الطبي تدفع افراده الى تحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه من الارباح على حساب المريض. فالطبيب يعين سعراً للعلاج ، فيتعين على الشركة التي يعمل فيها « المريض » دفعه كليا ؛ ولما كانت اجور علاج عمالها مرتفعة ، فان الشركة تضطر لاضافة اجور العلاج على الاجور النهائية للبضاعة التي شارك العامل في صناعتها ، وبالتالي فان المستهلك يدفع جزءاً من الاجور الطبية التي تذهب في النهاية الى جيب النظام الصحي الرأسمالي. والمحصل ، ان جزءاً كبيراً من الثروة الاجتماعية سوف يتحرك بشكل تراكمي باتجاه الطبقة الرأسمالية الطبية. ولما كانت الثروة محدودة بحدود النظام الاجتماعي فان انتقالها الى تلك الطبقة سيحرم افراداً آخرين من تحصيلها والاستفادة منها في سد حاجاتهم الاساسية.

وعلى صعيد البرامج الحكومية ، فان الدولة تصرف على علاج الفقراء

__________________

(١) ( وليم كوكرهام ) : علم الاجتماع الطبي. نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٨٦.


قدراً معيناً من المال ؛ فاذا نفد ذلك القدر من المال ، حرم بقية الفقراء من العلاج ، واغلقت المستشفيات ابوابها بوجوههم. ولما كانت الحكومة المحلية تدفع مبلغاً اقل للسعر الذي يحدده الطبيب ، فان العديد من الاطباء لا يقبلون علاج مرضى الفقراء المعتمدين على المساعدة الحكومية ، وليس هناك قانون يلزم هؤلاء الاطباء بعلاج الفقراء بالخصوص. ولما كانت الرقابة الحكومية على الاطباء ضعيفة ـ لان هذه الرقابة ذاتها تكلف اموالاً اضافية غير متوفرة ـ يختلق البعض من الاطباء اسماءً وهمية يعالجها ويبعث بقوائم علاجها الى الحكومة ليقبض على اساسها اموالاً اضافية اخرى. وهذا الفساد والغش له ما يبرره في النظام الرأسمالي ، لان هذا النظام لا يربي في الطبيب انسانيته ولا ينشئ في ضميره الوازع الاخلاقي ، بل يترك لغرائزه الجشعة العبث بمقدرات الآخرين.

وعلى صعيد تكاليف المؤسسة الطبية ، فان ثلاثة ارباع تكاليف النظام الصحي الاجمالي تذهب الى دخل المستشفيات وموظفيها من اداريين وفنيين واطباء وصيادلة وممرضين. ولا شك ان الثروة المتراكمة لدى المستشفيات ـ باعتبارها مؤسسات تجارية ـ تشجعها على الحصول على اغلى وارقى الاجهزة الطبية في جراحة القلب ونقل الاعضاء ، والاجهزة التشخيصية التي تعمل بالاشعة السينية والصوتية ونحوها. وكل هذه الاجهزة تكلف النظام الصحي اموالاً طائلة ، ولكن انحصارها بالمستشفيات الخاصة بالطبقات الرأسمالية والمتوسطة ، وحرمان الطبقة الفقيرة منها دليل واضح يثبت بان استخدام التقنية الحديثة ينفع افراد الطبقات الغنية دون الفقيرة.


وعلى صعيد الطب الدفاعي ، فان القانون الرأسمالي يستطيع ، نظريا ، ان يضع الطبيب المخطئ في معالجته المريض ، امام المحكمة ليدفع تعويضاً مالياً للضحية. وهذا القانون يطبّق اذا كان الخطأ الذي ارتكبه الطبيب معتبراً في انزال الاذى بالمريض. فلو قطع الطبيب بطريق الخطأ مجموعة من الاعصاب لمريض مصاب بمرضٍ في الكلية مثلاً ، فان على الطبيب دفع تعويض مالي معين لذلك المريض. وقد شجع هذا الاصرار القضائي على تغريم الطبيب ، على انشاء شركات تأمين خاصة بالاطباء ، حيث تتولى دفع التعويضات للمريض المَجنِيِّ عليه ـ خطأً ـ من قبل الطبيب ؛ وهذا التأمين الطبي يتم لقاء اجر سنوي محدد يدفعه الاطباء. ولكن دفعاً لمشكلة الخطأ الطبي وما يترتب عليها من تعويض ، فان الاطباء لا يتركون تجربة او تحليلاً مختبريا يخص المريض بطريق مباشر او غير مباشر الا واستخدموه للتشخيص. وفي هذه الحالة فان اجور التشخص بكافة الوانها وانواعها تقع كلياً على كاهل المريض دون ان يخسر الطبيب شيئاً من جيبه الخاص.

وعلى صعيد زيادة عدد الاطباء ، فان زيادة الاجور وارتباط مهنة الطب بالقوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يدفع الكثير من الطلبة الى الدخول في كليات الطب. وفي نهاية القرن العشرين يمثل الحقل الطبي الامريكي اكثر من نصف مليون طبيب يتزاحمون على جني اقصى الارباح من زبائنهم. وامام هذا العدد الهائل من الاطباء ، اي طبيب واحد لكل خمسمائة فرد امريكي ، اخذت المشكلة الاجتماعية ابعادا جديدة. فاصبح الطب يتدخل في حياة الفرد تدخلا سافرا ، واصبحت الاعراض البسيطة التي لا تحتاج الى علاج طبي امراضا يتحتم على الافراد علاجها طبيا.


فالارق ، والصداع ، وتخفيف الوزن ، والسمنة ، والشره ، اصبحت امراضاً ينبغي علاجها بمختلف انواع الادوية الكيميائية. اما قبح الوجه وكبر السن فاصبحتا قضيتين طبيتين لمن اراد علاجهما بعمليات جراحية. وازدادت عمليات الولادة القيصرية بنسبة الربع ، بمعنى ان لكل اربعة ولادات تحصل في الولايات المتحدة ثلاث منها طبيعية والرابعة قيصرية. وفي هذا دليل على ان كثرة عدد الاطباء وشره النظام الصحي المستند على اساس التجارة الحرة يدفع الخبراء في مجال الطب ، في النظام الرأسمالي الامريكي ، الى التفتيش عن امراض جديدة تلصق بزبائن يستطيعون دفع اعلى الاجور.

وهذا الفشل في تطوير انسانية النظام الصحي الامريكي يدفعنا الى الاعتقاد بان الخبرة الطبية وحدها ليست المدار في تقدم النظام الصحي في المجتمع ، بل ان المدار ـ اضافة الى الخبرة ـ الثقة والصدق والايمان. فاذا كان الخبير جشعا يبذل جهده في جمع المال ، فكيف نستطيع الاطمئنان الى صحة عمله ؟ واذا كان الخبير مجردا من انسانيته فكيف نستطيع ان نضع ارواح الفقراء ـ الذين لا يملكون ما يشبع غريزته من الاموال ـ بين يديه يقلبها كيفما شاء ؟ اليس الاولى للنظام الصحي الامريكي ، الذي يدعي تطور تقنية الفنية ، جعل المؤسسة الصحية مؤسسة انسانية تهتم بكل الافراد بدل جعلها مؤسسة تجارية تبحث عن جني الارباح ؟ او ليست خسارة الاموال افضل واولى من خسارة ارواح الفقراء ؟


المرض والنظام الحياتي للفرد

ولا ريب ان التقدم العلمي في مختلف المجالات الطبية كان قد اثمر في تقليل نسب الامراض بشكل كبير ؛ وذلك من خلال تلقيح الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، واستخدام المضادات الحيوية في السيطرة على مختلف الامراض. ولكن هذا التقدم العلمي الجبار ليس له تأثير يذكر على نسب الوفيات في المجتمعات الانسانية المعاصرة ، بل ان نسب الوفيات في المجتمع الصناعي قد انخفضت قبل اكتشاف الامصال والمضادات الحيوية. ويعود انخفاض نسب الوفيات في المجتمعات المعاصرة الى سببين ، الاول : التحسن الظاهر في نوعية المواد الغذائية التي بدأ الناس بتناولها منذ القرن الماضي. والثاني : تنظيم قوانين الصحة العامة ، كتعقيم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة من قبل المؤسسة الصحية ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمّل. ولم يقلل التقدم العلمي في الطب عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الرأسمالي المعاصر ، حتى ان « النظرية الجرثومية » التي ابهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة ، بل اصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة.

ومجمل القول ، ان اغلب الامراض التى تصيب الافراد ، تعزى الى


البيئة الاجتماعية والطبيعية التي يعيش فيها الانسان. فالغذاء ونوعيته وطريقة تحضيره تلعب دوراً مهماً في صحة او سقم الانسان ، وكذلك العامل الوراثي ، والجو وما يترتب عليه من برودة ، او حرارة ، والكآبة ، والضغط النفسي ، ونشاط الفرد او خموله ، وتناوله الخمر والمسكرات ، واستعماله السجائر والمخدرات ، وتلوث البيئة الطبيعية بالاشعاع والكيميائيات. وبالتأكيد فان البيئة الحضارية الحديثة تساعد على انتشار امراض مثل الصداع النصفي ، وقرحة المعدة والامعاء ، والكآبة النفسية ، والشلل ، والسرطان بكافة انواعه ، والامراض العقلية التي تنتهي بالجنون او الانتحار. وهذه النهاية المحزنة في رحلة الحياة الانسانية المختومة بالانتحار تعكس الصفحة الاخيرة من مصير الحضارة الرأسمالية ؛ فهذه الحضارة جلبت للانسانية امراضاً واوجاعاً لم تأت بها اية حضارة انسانية اخرى على مر التاريخ.

وهذه الامراض الخطيره التي يعاني منها الفرد الرأسمالي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وامكانياته الجبارة. وعلاج امراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً اوفر ، وتتطلب وقتاً اطول. ومن المؤكد ان امراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الارض بشكل جنوني لاعتصار اقصى قدر ممكن من الخيرات. فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الانسانية ، مسببة امراضاً بشرية لم يعرف لها الانسان القديم اسماً ولا شكلاً.

وهذه المشاكل الصحية في النظام الغربي يرجع ظهورها وبروزها بهذا الحجم الى قضيتين مهمتين اهملهما ذلك النظام والتفت اليهما الاسلام


وأكد عليهما منذ خمسة عشر قرناً ، ونحن نكتشفهما اليوم من جديد ، وهما اولاً : النظام الوقائي ، وثانياً : النظام الغذائي. فعلى صعيد الوقاية ، فقد ورد في المأثور : ( الوقاية خير من العلاج ). فلو امتثل المجتمع الرأسمالي لهذه المقولة العظيمة لأنقذ حياة الملايين من الافراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعة الصحية. ففي العقد الاخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة فقط بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ، وهي التدخين وما يترتب عليها من امراض ، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ، اكثرمن ٣٥٠ الف فرد سنويا. ويكلف هؤلاء النظام الصحي الامريكي ، من ادوية وعناية طبية قبل موتهم ، مبلغاً يقدر باكثر من عشرين بليون دولار. ولو طُبِّقَ نظام الوقاية لوفر على المجتمع الرأسمالي هذا المبلغ الكبير من المال ، وارجع قسماً من هؤلاء الى اعمالهم وانتاجهم. واذا اضفنا نتائج عادات سيئة اخرى الى عادة التدخين ، كشرب الخمور ، واستعمال المخدرات ، واكل اللحوم والدهنيات بشراهة ، والادمان على شرب السوائل الغازية الحاوية على شتى المواد الكيميائية ، لتبين لنا حجم المشكلة الصحية التي يعاني منها النظام الطبي الرأسمالي.

وعلى صعيد النظام الغذائي ، فان امراض القلب مثلاً تعتبر من امراض الحضارة الحديثة ، وسببها كثرة تناول اللحوم الحمراء ، وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية. وشره الافراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي اوقانوني ، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية ، التي هي بزعمهم اساس المبدأ الرأسمالي. فلا يحق للجهة الطبية التدخل قانونيا لتنظيم حرية


الافراد الشخصية. ولذلك فان امراض القلب التي تؤدي الى الوفاة ، تعتبر من اكثر الامراض انتشارا في اوروبا الغربية وامريكا في القرن العشرين.

والخلاصة ، ان المؤسسة الطبية الرأسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الامراض ، ولكنها لا تستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية الى الوفاة. ولا نشك ان الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم ان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء اسلم وارخص الطرق لتكامل المجتمع الانساني صحيا ، الا انها لا ترى تغيير نظامها الصحي ، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لا تدرّ عليها ارباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم. اضف الى ذلك ان انصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ، فيما يتعلق باشباع الشهوات الفردية ، حتى لو كانت اضرار ممارسة تلك الشهوات طبياً واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.


العلاقة بين الطبيب والمريض

ويختلف تفسير المرض من مريض الى آخر ، ويتنوع ـ على اثر ذلك ـ اندفاع المريض نحو العلاج. فبعض الافراد في المجتمعات الصناعية يفضل العلاج الروحي مثلاً عن طريق رجال الكنيسة ، والبعض الآخر يفضل العلاج الطبيعي الصيني لبعض المراض. والثالث يفضل علاج الهنود الحمر ، القائم على اساس ربط الاسباب الطبيعية بالغيب. والرابع يفضّل العلاج الطبي الذي تقدمه المؤسسة الطبية ، وهو القائم على اساس العلوم والاجهزة الطبية الحديثة.

وطريقة الطبيب في وضع العلاج هو ربط الاعراض المرضية باسم طبي لاتيني غالباً ، مترجما آلام المريض ومعاناته الى مرض معروف ؛ فيتم على ضوئه تشخيص المرض والعلاج ، لأن المرض المجهول يصعب علاجه. ولا شك ان دور الطبيب حاسم في تشخيص الحالة المرضية حتى يتم التعامل معها اجتماعيا. فقد يشعر الفرد باضطراب ولكن لا يعرف هل انه مريض ام لا ، فدور الطبيب هنا هو تحديد وجود الحالة المرضية ، كمن يشعر بعدم ارتياح نتيجة تضخم في الانسجة الداخلية ، ولكن ظاهره الخارجي لا يوحي بانه مريض. وكمن يدعي التمارض ولكن باطنه سليم. فدور الطبيب في هذه الحالات جميعاً هو فحص الحالة المرضية التي يدعيها ذلك الفرد. ولذلك فقد شبّه دور الطبيب بدور الحاكم الشرعي في الفصل بين المتخاصمين ، وهما المريض والنظام الاجتماعي. وعلى ضوء حكم الطبيب يتعامل المجتمع ونظامه مع المريض. فاذا حكم الطبيب بوجود المرض ،


اقتنع النظام الاجتماعي بمرض ذلك الفرد ورتب على ذلك حكماً معيناً ، كاعفائه من دوره ومسوؤلياته الاجتماعية. واذا حكم الطبيب بعدم وجود المرض تصرف النظام الاجتماعي تصرفاً مغايراً للتصرف الاول ، وانكر على المتمارض اسلوبه في التهرب من المسؤوليات الاجتماعية.

وللطبيب دور مهم في التمييز بين علامات المرض واعراضه. فالطبيب يشخص علامات المرض من خلال فحص دقات القلب ، ومستوى الدهون في الدم ، ومستوى السكر في البول. اما الاعراض فيفحصها الطبيب من خلال شكوى المريض ، امثال التقيؤ ، واوجاع البطن ، وضعف الجسد ونحوله. وهذا التمييز بين الاعراض والعلامات مهم في تشخيص المرض ، لان المريض قد يأخذ الاعراض مأخذاً مغايراً لمأخذ الطبيب ويرتب عليها اموراً تخالف الواقع.

ولا شك ان الفجوة بين الطبيب والمريض تتسع ، اذا كان المريض جاهلاً بالعلوم الانسانية والطبيعية. فالمريض الذي لا يستطيع القراءة والكتابة ، ولا يفهم طبيعة عمل اعضائه الحيوية لا يفهم مجمل كلام الطبيب ، مهما اوتي ذلك الطبيب من قدرة على التبسيط والتعبير والتفاهم. وهذه الفجوة تخلق مشكلة اجتماعية في فصل الطبيب عن المريض فصلاً اجتماعيا طبقياً ، وهو ما يؤدي الى حرمان المريض من الحصول على مراده في العلاج الكامل.

وقد يلعب الطبيب في المجتمعات الصناعية دوراً في اخفاء المعلومات الاساسية عن زبونه ، مما يجعل الطبيب شخصا بعيد الوصول ، عميق العلم ، صاحب السلطة ، في عين المريض. وهذا الدور النفسي الذي


يلعبه الطبيب ليس وليد صدفة ، بل سببه ان مشاركة المريض لمعلومات الطبيب بقدر متساوٍ قد يهدد المنزلة الاجتماعية والسلطة النفسية التي يصنعها الطبيب لنفسه امام المريض المعالج. وهذا يترجَم في النظام الرأسمالي الى خسارة مالية لا يريدها ذلك الخبير لنفسه. وعلى صعيد ثان ، فقد يعجز الطبيب عن تشخيص الحالة المرضية ، فيصف لزبونه علاجاً كاذباً حتى لا يُتهم بالقصور العلمي ، وعندها يخسر زبوناً مستعداً لبذل المال (١).

وبالاجمال فان العلاقة بين الطبيب والمريض في المجتمع الامريكي تعكس علاقة التاجر بالمستهلك ، او البائع بالمشتري ؛ فالاستشارة الطبية حالها حال البضاعة التجارية التي تنتظر من يشتريها من السوق الطبي.

__________________

(١) ( صموئيل ايبشتاين ) : سياسة السرطان. سان فرانسسكو : كتب نادي سيرا ، ١٩٧٨ م.


الخبرة الطبية وروادها في النظام الرأسمالي

ومع تطور الطب وتقدم العلوم الصحية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي اخذت المهنة الطبية ـ تاريخياً ـ تتجه نحو الاندماج بالنظام الطبقي الرأسمالي. فاصبح الاطباء المتخصصون يتمعتون بالمنزلة الاجتماعية التي تضعهم على قدم المساواة مع افراد الطبقة الرأسمالية. وللحفاظ على هذه المنزلة الرفيعة ، فقد سعى النظام الصحي الى تطويع القانون لصالحه (١) ، فاصبح الطب محصوراً من الناحية القانونية بالاطباء المجازين لممارسة المهنة فقط دون غيرهم. وبعد ذلك ، اصبح الاطباء لا يخضعون لمجالس ادارات المستشفيات ، بل امسى لهم استقلال ذاتي ضمن النظام الصحي. وهكذا اتخذ الطب اولى الخطوات للوصول الى الطبقة العليا حيث الثروة والقوة السياسية والمنزلة الاجتماعية ، على عكس المهن الاخرى ، كالتعليم مثلاً ، حيث يخضع المعلم لسيطرة اعضاء مجلس ادارة المدرسة من وجهاء المحلة ، في تعيين راتبه ، ووضع منهاج عمله في التدريس ، وطرق معاملته الطلبة في الصف المدرسي ، وبقية شروط العمل.

ومهما بلغت قدرتهم العلاجية الواقعية ، حقيقية كانت ام وهمية ، فان الاطباء وضعوا انفسهم في موضع اجتماعي وعلمي خاص ؛ فهم ـ في اعتقاد الناس ـ وحدهم القادرون على انقاذ المرضى من السقم والمرض والموت. وخبراء بهذه الدرجة العليا من العلوم الطبية النافعة قادرون على الدخول

__________________

(١) ( اليوت فريدسون ) : المهنة الطبية. نيويورك : دود وميد ، ١٩٧٠.


للطبقة الاجتماعية العليا من اوسع الابواب ، وقادرون على التحكم بقدر معين من القوة السياسية للنظام الاجتماعي. ولما كان النظام الطبقي يعكس لب الفكرة الرأسمالية ، فان انتظام الاطباء ضمن صفوف الطبقة العليا لم ينتهك حرمة النظام الرأسمالي بالمرة ، لان النظام الصحي الرأسمالي قائم على اساس المنافسة الاقتصادية. وهذه المنزلة العليا لا يجدها اطباء النظام الشيوعي المندثر في روسيا والجمهوريات الاشتراكية المحيطة بها ؛ لان الطبيب في النظام الاشتراكي اجير للدولة ، حيث تحدد الدولة اجرته ـ تماما ـ كما تحدد اجور بقية الموظفين والعمال. وترجع القوة السياسية للاطباء في النظام الرأسمالي الامريكي الى دور الجمعية الطبية الامريكية في تنظيم الاطباء ضمن اتحاد فيدرالي قوي يمتلك ثروة تؤثر على قرارات السياسيين بمختلف الوانهم وتوجهاتهم. ولكي تستجمع هذه المنظمة قوتها ، قامت في البداية باستحصال تشريع دستوري يعتبر الطبيب من اهل الخبرة ، وبذلك سدت الباب بوجه المشعوذين ، واولئك الذين يدعون قدرتهم على العلاج الروحي والغيبي ، وحصرت تعليم الطب بكليات وجامعات ذات مستوى تعليمي معين. ثم منعت بعد ذلك اي طبيب ، من امتهان الطب مالم يحصل على اجازة رسمية موثقة تسمح له امتهان العلاج. وعن هذا الطريق رفع الاطباء اجور علاجهم تدريجيا ، واصبح لهم استقلال ذاتي مهني ضمن المؤسسة الرأسمالية.

وبطبيعة الحال ، فان وجود هذه الجمعية الطبية يناقض اصل الفكرة الرأسمالية القائلة بوجوب تعدد المؤسسات في حقل واحد من الاعمال ؛ بمعنى انه من اجل تحقيق عملية التنافس الاقتصادي لابد ان يكون هناك


متنافسان على الاقل في ساحة واحدة ، حيث تتنافس في كل حقل مؤسستان تجاريتان او اكثر حتى يصح مفهوم التنافس ويصبح حقيقة واقعة. فلا تستطيع شركة طيران واحدة مثلاً ، احتكار سوق النقل الجوي التجاري ، بل يجب تواجد شركتي طيران على الاقل. ولكن الامر يختلف مع منظمة الاطباء الامريكية ، حيث ان الاموال التي تغدقها هذه المنظمة على السياسيين تجعلها تفلت من كل قانون مضاد يصدر لتنظيم واصلاح مهنة الطب في تلك الدولة الرأسمالية ، منذ منتصف القرن التاسع عشر ولحد اليوم.

واستقلال الاطباء ذاتياً يترجم من الناحية العملية الى ان اعمالهم لا تقيّم الا عن طريق زملائهم الاطباء. فالمريض ومدير المستشفى الاداري والقاضي لا يستطيعون تقييم اعمال الطبيب ونقدها ما لم ينقدها طبيب آخر. ومع ان هذا المنطق سليم بطبيعته باعتبار ان الطبيب اقدر الافراد من حيث الخبرة على نقد زميله اذا اخطأ لانهما يشتركان معاً في فهم طرفي علم واحد ؛ الا ان نتيجة هذا التوجه قيام المؤسسة الصحية ببناء نظام طبي تجاري قائم على اساس تحديد العلاج ، وتعيين الاجور ، وتصنيع الدواء بشكل لا يتدخل فيه الا الكادر الطبي. فمدير المستشفى الاداري والقاضي مثلاً لا يستطيعان الاعتراض على عمل الطبيب او انتقاده باستخدام ادوية او اجهزة طبية لها دور ثانوي في العلاج. وبذلك ، يصبح المدار والهدف من التقييم الطبي نفع النظام الصحي بالدرجة الاولى ، دون النظر الى مصلحة المريض. ولو جمعنا الخصوصيات التي تتمتع بها المهنة الطبية وهي المنزلة الاجتماعية والاستقلال الذاتي والمورد المالي لتبين لنا ان الطب ، كخبرة ،


اصبح من اقوى العوامل الاجتماعية في الدخول الى الطبقة العليا في المجتمع الرأسمالي. ولكن هذا التغير في طبيعة المهنة الطبية يواجه اليوم تحدياً من قبل العديد من التيارات الاجتماعية. فالمعركة لا زالت قائمة بين السياسيين الذين تدعمهم الجمعية الطبية الامريكية وبين معارضي النظام الصحي القائم ، من اجل تحديد دور المؤسسة الطبية في المجتمع الرأسمالي. ولئن كانت المعركة بين اطراف الطبقة الرأسمالية والاطباء ونظامهم الصحي الرأسمالي والطبقة المتوسطة والفقيرة في اوجها اليوم ، فان معارك اخرى قد تفتح في المستقبل بين افراد النظام وبين قادة النظام السياسي والاجتماعي لاسترجاع حقوق الطبقات المستضعفة التي نهبها النظام بعنوان التقنية الصحية والتقدم العلمي. وهذا كله يعكس فشل النظام الرأسمالي في تأسيس نظام طبي مبني على اساس انساني ، لا على اساس المنفعة التجارية البحتة.

ومع ان المهنة الطبية مفتوحة نظريا لكل من يرغب الدخول فيها ، الا ان الدراسات تبين ان النسبة العظمى من الاطباء في النظام الامريكي هم من الافراد البيض البروتستانت من ذوي الخلفية الطبقية العليا. فالمال والواضع العائلي ولون البشرة لها دخل اساسي في تشكيل مستقبل الفرد منذ نعومة اظفاره. اما الفقير من ذوي البشرة السوداء او غير السوداء فليس له نصيب في الدخول الى كليات الطب. ولا شك ان هناك حالات استثنائية قد تسمح لبعض الافراد من الزنوج بالتسجيل في المعاهد الطبية ، الا اننا نتحدث عن السياسة العامة والاسلوب المتبع في تسيير النظام الصحي الرأسمالي الامريكي.

ولا شك ان لارتفاع اجور العلاج الطبي الرأسمالي تبريراً عاماً ، وهو


ان الاطباء يتعاملون يومياً مع المرض والالم والموت ، ومهنة كهذه يستحق عاملها اجورا عالية. بل ان الخطأ والاهمال والتقصير في المعالجة يرجع سببه الى انهماك الطبيب في التعامل مع الجسم الانساني ، بما فيه من تغيرات لا يمكن التنبؤ بها. وهذا التبرير مناقض للواقع. فكما ان الاطباء يتعاملون مع المرض والموت ، فكذلك الممرضين والممرضات المجازين ، فلماذا لا يتعمعتون بنسبة معقولة من الاموال التي يقبضها الاطباء ؟ واذا كان انهماك الطبيب يستدعي ارتكاب الخطأ ، فلماذا لا يدفع الطبيب ثمن خطئه من ماله الخاص ؟ اليس من الظلم تحميل المريض ثمن التجارب المختبرية العديدة التي يأمر بها الطبيب ؟ علماً بان هذه التجارب الزائدة تنفع الطبيب اصلا لا المريض ، لان الخبير ينبغي ان يكون ملمّا بعلمه ، فاين العدالة في ذلك ؟

وهكذا اصبحت المعركة الطبية الرأسمالية معركة ضد النظام المالي بدل ان تكون معركة ضد الامراض والاوبئة. فقد افرزت هذه المعركة نتائج عديدة منها ان النظام الصحي بات يحاول تطبيب المجتمع الانساني ، بمعنى انه يحاول اقحام الطب في مجالات جديدة كان لا يحق له الدخول فيها سابقاً. ولتوضيح ذلك نقول ان المؤسسة الطبية قد اصبحت ثاني اكبر صناعة في الولايات المتحدة ، حيث تستهلك اكثر من عشرة بالمائة من انتاج البلاد وتوظف حوالي عشرة بالمائة من القوى الانتاجية العاملة في صفوفها. واصبحت صناعة الادوية والاجهزة الطبية من اكبر المصالح في النظام الرأسمالي ، واصبحت شركات التأمين الصحية من اكبر الشركات التي تدر على اصحابها اكبر قدر من الاموال. وهذا الاتساع والتضخم له تأثيره السياسي والاقتصادي على النظام الاجتماعي العالمي ، حيث اخذت


المؤسسة الطبية تبحث عن اسواق جديدة وتطلب مستهلكين جدد لزيادة ارباحها وبسط نفوذها.

فالولادة مثلاً ، طبيعية بذاتها تحصل في كل ارجاء العالم منذ خلق الله البشرية على وجه الارض ، وهي لا تحتاج الى تلك العناية الفائقة التي تحاول المؤسسة الصحية الرأسمالية فرضها على الام ، خصوصا اذا كان غذاء الام غنياً بالمواد الطبيعية ؛ الا اللهم في الحالات الاضطرارية فيتحتم عندئذ العلاج الطبي. ولكن المؤسسة الطبية الامريكية جعلت الحمل والولادة قضية طبية تكلف الابوين اجوراً عالية من بداية التخصيب وحتى لحظة الولادة. واصبحت العمليات المختبرية والشعاعية ، بفضل جهود المؤسسة الامريكية ، تتجاوز حدود العناية الصحية للوالدة والمولود ، بل اضحت قضية التخصيب ، والحمل ، وحركة الجنين ، والاجهاض قضايا طبية تصرف من اجلها كميات كبيرة من الاموال. واصبحت السمنة داءً يحتاج الى علاج ، وكذلك الارق وعدم النوم مثلاً. وهذه حالات لو استخدمت فيها وسائل الوقاية والغذاء الطبيعي والنشاط الجسدي لما استدعى تدخل الطب العلاجي في ذلك. الا ان المؤسسة الطبية الرأسمالية ألزمت الرأي العام بتطبيب القضايا الاجتماعية ، حتى ان الموت الذي كان يعدّ قضية اجتماعية اصبح اليوم قضية طبية ، بحيث ان الطبيب الرأسمالي يقوم مقام الحاكم الشرعي المطلق في الموت والحياة ، فيقرر تعجيل وفاة بعض المرضى ، او يحكم بابقائهم على قيد الحياة اعتماداً على الاجهزة الطبية. وحاولت المؤسسة الطبية اقحام نفسها في بحوث استرجاع سن الشباب ، واكتشاف طرق لوقف الموت. ومع ان هذه المحاولات لم ولن يكتب لها النجاح ، الا ان


اعلانها يوحي للاخرين بان العلم قادر على خلق المعجز وفعل المستحيل. وهذا الاعلان يدر ارباحاً اضافية على هذه المؤسسة الطبية التجارية لانه يساهم في سرعة تطبيب النظام الاجتماعي.

ولم يتوقف نشاط المؤسسة الطبية الرأسمالية عند هذا الحد ، بل انها اقتحمت النظام القضائي الرأسمالي ايضا عن طريق تحديد سلوك الافراد وتشخيص الاضطراب العقلي ، لان الجريمة والانحراف اصبحت ، بنظر المؤسسة الصحية ، قضية طبية تستدعي علاجاً طبياً. بل ان الجميعة الطبية الامريكية اليوم تنادي بالعلاج الطبي بدل العقاب القانوني للمجرمين في جرائم القتل والسلب والاعتداء على اعراض الناس. واصبحت الجرائم الناتجة عن الادمان على الكحول والمخدرات ، والاعتداء على الاطفال ، والاعتداء على اعراض النساء ، والسرقة ، امراضاً نفسية تحتاج الى تدخل طبي. وهذا التدخل الطبي في المجال القضائي وضع الطب ومؤسسته في اعلى سلم المؤسسات الاجتماعية.

ولا شك ان نجاح المؤسسة الطبية في تطبيب المجتمع ساهم في تغيير النظام الحياتي للافراد ، فبدلاً من الاعتماد على الطبيعة في رفد الانسان بما يحتاج اليه في نشاطه اليومي ، اصبح الطب عاملاً اساسياً في الحياة اليومية للفرد. فعرضت المؤسسة الطبية ادوية لكل نشاطات الحياة ، فوفرت حبوباً للنوم وحبوباً للايقاظ ، وحبوباً لوقف شهية الطعام وحبوباً لانشاء الجوع ، وحبوباً لتهدئة الجسم وحبوباً لتنشيطه ، واجهزة لفحص الكلام الصادق واجهزة لفحص الكلام الكاذب. وامام هذا النشاط المحموم الذي تقوم به المؤسسة التجارية الطبية تبرز اسئلة عديدة دون جواب وهي : هل يحق


للدولة التحقيق في جدوى هذه الادوية ومدى حاجة الناس الحقيقية لها ؟ وهل يحق للدولة التدخل في المؤسسة الصحية لضمان تقديم انزه الخدمات للافراد دون النظر الى الارباح التي تدرها المهنة الطبية ؟ وهل يحق للمريض الحصول على كل المعلومات المتعلقة بحالته الصحية ؟

ولعل الجواب على كل هذه التساؤلات يرتبط اساسا بمفهوم العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة بين الافراد. ولما كان النظام الرأسمالي يؤمن باحقية تسلط الطبقة العليا على شؤون النظام الاجتماعي ، لامتلاكها رأس المال ووسائل الانتاج ، بقى النظام الصحي عندئذ متخلفاً في جوهره عن العدالة والمساواة الانسانية. وبذلك فان التقنية الحديثة والتقدم العلمي لا يستطيعان تغطية فساد جوهر الفكرة الرأسمالية في التعامل مع الافراد وانكار حق الفقراء والمستضعفين في العلاج الطبي وتوفير سبل المعافاة لهم.




اهمية النظام الصحي

لما كان المرض مشكلة انسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الانتاجية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بايجاد نظام صحي متكامل يحافظ فيه على صحة الافراد ، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم الى الشفاء الكامل ، ثم ارجاعهم مرة اخرى الى عجلة الانتاج والخدمات الاجتماعية. واذا لم يؤدي العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية الى شفاء الفرد شفاءً كاملاً ، فان النظام الصحي ملزم باعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع ، مشيراً الى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤوليته في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجة عائلته الاساسية.

ولا نقصد حينما نتحدث عن النظام الصحي هنا مجرد وجود المعُالج ، طبيباً كان او نحوه ؛ بل نقصد به المؤسسة التي تضم ادواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء ، كالاطباء المتخصصين بالجراحة والباطنية والتخدير ، والصيادلة ، ومدراء المستشفيات وعمالها ، وشركات التأمين الصحية ، ومصانع الادوية والعقاقير ، وكليات الطب ، ومعاهد التمريض.

ومع ان المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب ؛ فهو وحده الذي يتألم لمرضه ويعاني من اوجاعه ، فيعجز الآخرون عن تخفيف تلك الآلام الا اللّهم ان يظهروا تعاطفهم مع المريض ويقدموا له المساعدة المادية والمعنوية ويظهروا له مشاعر الحزن ، الاّ ان الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية ،


لانه لا يمكننا ان نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.

فانتشار الامراض يهزّ الكيان السياسي ، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الافراد في العمل والاستثمار والانتاج. ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم ما بناه الانسان. فالزلزال المدمّر ، والجفاف المؤدي الى المجاعة ، والحرب المؤدية الى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الامراض. وهذه الامراض التي تحتاج في معالجتها الى تدخّل المؤسسة الصحية ، تقسم الى نوعين ؛ الاول : الامراض الحادة ، وهي التي تحتاج الى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالانسان اما الى الشفاء واما الى الموت مثل مرض الحصبة. والثاني : الامراض المزمنة ، وهي التي يحتاج العلاج فيها الى فترة طويلة ، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً امثال مرض السكري والتهاب المفاصل.

ويتعدى تأثير المرض الى عائلة المريض ومحبيه. فمع ان المريض يمر بتجربة مريرة من الألم والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه ، الاّ ان عائلته تعاني ايضاً من حالته الاستثنائية. فقلق العائلة على معيلها ، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الواضع العائلي ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل. وعلى صعيد آخر ، فان انتشار الامراض ، يساهم ايضاً في اضطراب النظام الاجتماعي وإضعاف قواه الانتاجية ، خصوصاً اذا انتشرت الامراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا ، فانها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والانتاجية للدولة ؛ وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية الاهتمام


بالنظام الصحي ومعالجة الامراض والاوبئة الفتاكة في البلدان المُستَعمَرة معالجة جدية ؛ لأن هذه الامراض تفتح ابواباً لتدمير طاقة المجتمع الانتاجية واستهلاك مصادره وخيراته. واذا ضعف المجتمع انتاجياً تكاثر الرأسماليون على اقتسام خيراته ونهبها. وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر الى استخدام عملية نشر الامراض كسلاح ضد العدو ، مستفيدة من تجربتها التاريخية في واقعتين ؛ الاولى في القرن الرابع عشر ، والثانية في بداية القرن العشرين الميلادي ، حيث اكتسح الطاعون اوروبا في القرن الرابع عشر ، وسمي في وقته بالموت الاسود لإفنائه اكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدمير البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الاوروبية. وفي سنة ١٩١٨ م قتلت الانفلونزا الاوروبية اكثر من عشرين مليون فرد (١).

ولا شك ان الامراض لا تصيب كل الافراد في النظام الاجتماعي ، بل تصيب افراداً دون آخرين في نفس المجتمع لاختلاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل فرد. ولذلك ، فعندما يدرس الطبيب مرض فرد ما ، فانه يبدأ بدراسة تاريخ المريض الصحي ووضعه الاجتماعي ، فيبحث عن عمره ، وجنسه ، ولون بشرته ، وحالته الزوجية ، ووظيفته وطبقته الاجتماعية. وهذا مهم في تشخيص الحالة المرضية لان غذاء الغني وسكنه وعمله افضل من الناحية الصحية من غذاء الفقير وسكنه وعمله. والفرد المتزوج اصح من الاعزب لان للزواج اثراً نفسياً على صحة الفرد ، والمسلم الملتزم باحكام الشريعة اصح من النصراني لانه لا يتناول الخمر ولا الخنزير.

__________________

(١) ( روبرت غوتفراد ) : الموت الاسود : الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٨٣ م.


وفي حين يعرض الاسلام نظريته الصحية في اطار دقيق متكامل ، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنّى لاكثر من الف سنة النظرية الاغريقية في الطب ؛ حيث تزعم هذه النظرية ان سوائل الجسم الانساني التي تتكون من اربعة انواع وهي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ، هي سبب نشوء الامراض (١). فاذا نقص مستوى احد هذه السوائل الاربعة واختل توازنها ، نشأ المرض. ولم تسمح الكنيسة النصرانية الاوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية ، بل انكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة ان الانسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى. وكانت غاية الكنيسة من ذلك ، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الاجور. ولكن اكتشاف لويس باستور نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر ، ادى الى قلب نظرية الكنيسة النصرانية ، وتطور العلوم الطبية تدريجيا ووصولها الى ما وصلت اليه اليوم.

__________________

(١) ( جون دوفي ) : الذين بيدهم الشفاء : بروز المؤسسة الطبية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٧٦ م.


نظرية الاسلام في الطب

واستنادا على الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع المقدس ، فان الاسلام يعلن اول بنود نظامه الصحي واهمها ، وهو ان النظام الطبي والعلاجي ينبغي ان يُبتنى على اساس الخدمة الانسانية لا المنفعة التجارية ؛ لان هدف الطب اولاً واخيراً علاج الآلام التي يعاني منها المريض ، وليس تحويل المريض الى بضاعة في مؤسسة هدفها الربح التجاري. وهذا الاختلاف في النظرة الى المؤسسة الطبية هو أهم الاختلافات بين النظام الصحي الاسلامي ونظيره الرأسمالي.

ولا ريب ان الاسلام بحثّه على العمل ، ومباركته للجهد الانساني ، وربطه العمل الانتاجي في الارض بالثواب والاجر في الاحياة الآخرة ، اراد لكل الافراد في النظام الاجتماعي اداء ادوارهم المرسومة بكل جدية ونشاط ؛ لان الانسانية لا يتكامل نظامها الاجتماعي ولا يتطور بناؤها الفكري والفلسفي ما لم يساهم جميع الافراد بالعمل الانتاجي المؤدي الى اشباع حاجاتهم الاساسية. ونزول المرض بفرد ما ، يعطل جهده الطبيعي في تأدية الدور الاجتماعي المناط به ، مما يؤدي الى تحرك النظام الاجتماعي للتعامل مع ذلك الاستثناء حتى يتم اصلاحه وعلاجه طبياً واجتماعياً.

فاذا كان المرض مؤقتاً ويمكن علاجه بالطرق الطبية المعروفة ، خلد المريض الى الراحة ، وتدخل النظام الاجتماعي الاسلامي لمساعدته على ثلاثة محاور. المحور الاول : العلاج ، فيقدم له كل اسباب التطبيب والعلاج


دون النظر لدخله السنوي او طبقته الاجتماعية. والمحور الثاني : المساعدة المادية له ولعائلته اذا كان فقيراً ، فيحتسب مقدار حاجته وحاجة عائلته فيدفع له ذلك المقدار حتى يحين وقت الشفاء. والمحور الثالث : تدخل النظام الاجتماعي لسد دور المريض الشاغر في الحقل العملي ، فاذا كان المريض عاملاً في شركة صناعية مثلا ، فان الشركة ملزمة باستئجار عامل آخر يحل محل العامل المريض. وهذا يتم عادة في الامراض التي يستلزم علاجها فترة زمنية قصيرة كالانفلونزا والجروح والكسور وامراض الجهاز الهضمي والبولي.

اما اذا كان المرض مزمناً ، كالشلل التام ، وامراض السرطان ، وامراض نقص المناعة الحادة ، والامراض القلبية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بالتدخل ايضاً لمساعدة المريض طبياً ومالياً وايجاد من يسد دور المريض الشاغر في الحقل الاجتماعي بصورة دائمية. ولا يختلف تدخل النظام الاجتماعي في المرض المزمن عن المرض المؤقت الاّ بفرق الزمن ، حيث يتعين على النظام الاجتماعي تخصيص معاش ثابت للمريض وعائلته يستقطع من بيت المال ، كما في الرواية المروية عن الامام امير المؤمنين (ع) مع الشيخ النصراني ، وتعيين برنامج علاجي مستمر للمريض. وينبغي ان يستمر هذا المعاش والعلاج حتى آخر لحظة من حياة المريض. اما النظرية الرأسمالية فتعتبر المريض في هذه الحالة عنصراً مستهلكاً ليست له القدرة على الانتاج ، بمعنى ان المريض بمرض مزمن يعتبر في النظرية الرأسمالية عنصراً ضاراً على النظام الاجتماعي لانه قادر على الاستهلاك فقط ، وليست له القابلية على العمل الانتاجي. ولكن نظرة الاسلام الشمولية واحترامها


للحياة الانسانية اوجبت اكرام الانسان المعاق جسدياً ، حتى لو كان عاجزاً عن الانتاج ، حيث ورد ان الامام علياً (ع) عندما صادف النصراني الذي كان يمد يده استجداءً لعدم قدرته على العمل ولكبر سنه ، انكر على عمّاله ذلك وقال : ( استعملتموه ، حتى اذا كبر وعجز منعتموه ) ، وامران يصرف له من بيت المال (١).

ويجعل الاسلام الولاية الشرعية مصدر المسؤوليات الاجتماعية ؛ فولي الاسرة مسؤول عن رعاية من يتولاهم من القاصرين ونحوهم. وفي انعدامه ، يتحمل الامام او نائبه ( اي الدولة ) مسئوولية الولاية لمن لا ولي له. وعليه ، فان القاصر عن التحصيل ـ لمرض ونحوه ـ يُضمن اما من قبل الولي العام او الولي الخاص. بمعنى ان الانسان القادر على الانتاج يستطيع ان يسد حاجته الاساسية وحاجة الافراد الذين يتولاهم اصحاء كانوا ام مرضى. واذا عجز الولي بسبب المرض عن اعاشة عائلته ، وجب على الامام اعالتهم لحد الكفاية. وهذا الاسلوب يضمن تكامل النظام المعيشي لكل الافراد في المجتمع الاسلامي. وقد جاء هذا الايمان بكرامة الفرد وصيانته من الاهمال ضمن اطار المسؤولية الجماعية والاخوة الانسانية التي دعا اليها الاسلام.

ولا ريب ان تأكيد الاسلام على ربط العمل الانتاجي في الحياة الدنيوية بالثواب الاُخروي ، وحثه على التزام الصدق والثقة المتبادلة والاعتدال ونهيه عن الكذب وشهادة الزور والجشع ، وجزمه في تثبيت اسس العدالة الاجتماعية ، سهّل دور المؤسسة الصحية في تحديد ( من هو

__________________

(١) التهذيب : ج ٢ ص ٨٨.


المريض ؟ ). فمع تضافر هذه العوامل ، تجد من الصعوبة بمكان ان يجد المتمارضون ساحة لكسلهم ومجالاً لعيشهم عبئا على بيت المال ؛ لان المؤسسة الصحية تستطيع تحديد ( من هو المريض ؟ ) عن طريق علامات المرض واعراضه ، وعن طريق دراسة شخصية المريض وتاريخه والتزامه بالاخلاق الدينية وتمسكه بالصدق والنزاهة والاستعفاف.

واغلب الامراض التي يتعرض لها الافراد في المجتمع الاسلامي تنتج من حوادث طارئة او حالات غير متوقعة كحوادث السيارات والحافلات ، وجروح العمل ، والكسور المختلفة التي تحصل لسبب من الاسباب ، او امراض التعرض لبعض الفيروسات كالزكام وغيره. والمهم ان امراض الحضارة الحديثة يفترض ان لا تجد لها مكاناً في المجتمع الاسلامي ؛ لان الاسلام حرم شرب الخمر ، واكل الميتة والدم والخنزير ، وهذه هي اساس امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب. وحرم تناول كل ما يضر بالجسد ومنها التدخين المضر واستعمال المخدرات التي هي المصدر الاساس في امراض سرطان الرئة والبلعوم والاضطراب العقلي. واوصى بالاعتدال باكل اللحوم الحمراء ، خصوصاً لحوم البقر والضأن ، وهذه هي مصدر امراض القلب وتصلب الشرايين. واوصى باستعمال المسواك لتنظيف الاسنان وتطهير الفم لان معالجة امراض الفم والاسنان اساسية الى درجة افرد لها الطب الحديث علماً خاصاً هو طب الاسنان ، وهو اختصاص يعادل اختصاص الطب العام من حيث الكيفية لا الكمية. ولا شك ان للدولة الاسلامية مبدأ حق التدخل للحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث الصناعي ، لان التلوث احد مصادر امراض السرطان وامراض الرئة


بانواعهما المختلفة. وحرم الاسلام الاجهاض والانتحار وقتل النفس البريئة فاكفى الطب الدخول في هذا الحقل الذي يستنزف طاقات المؤسسة الصحية. واوجب الاسلام التذكية الشرعية ووضع شروطاً للصيد والذباحة ، وهذا الوجوب جنّب النظام الصحي العديد من الامراض المتعلقة بالقلب وجريان الدورة الدموية. ولا ريب ان الاطمئنان النفسي والراحة الشعورية التي ينزلها النظام الاسلامي على قلوب الافراد ، من حيث محو نسبة الجرائم والاعتداءات والسرقات ، يساهم بشكل فعال في ازالة الارق والضغط النفسي والقرحة والامراض العقلية التي يعاني منها افراد الحضارة الحديثة.

وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاسلامية في الطب تهتم بشكل استثنائي بنظامين في غايتي الاهمية وهما : ١ ـ النظام الوقائي ٢ ـ النظام الغذائي ، وسنتعرض لاحقاً بالتفصيل لهذين النظامين. ولكن لابد لنا ان نذكر هنا ، من نافلة القول ، ان صحة المتقدمين وتعميرهم تلك السنين الطويلة لم يكن نتيجةً لمعاينة طبية او فهم للنظرية الجرثومية ، اواستخدام للعقاقير الطبية ، بل ان الوقاية وتنظيم النظام الغذائي كانا من اهم اسباب العيش السليم من الامراض. وقد ورد في بعض الكتب التاريخية ان سلمان الفارسي (رض) عاش اكثر من ثلاثمائة سنة. ولو صحت هذه الرواية لكان الاجدر بالجهاز الطبي دراسة هذه الظاهرة الطبيعية وفهم منشأها واسبابها.

ولا يمكننا الاعتماد على العلاج الكيميائي والشعاعي في جميع الحالات المرضية ، بل لابد ان نترك فسحة لتقدم العلاج الطبيعي والروحي ؛ لان الكثير من الامراض النفسية لا يتم علاجها الاّ بالعلاج الغيبي. ولا شك


ان النفس الانسانية عميقة الغور ، بعيدة المنال ، فلا يستطيع امهر الجراحين او اقدر علماء النفس على معالجة بعض الامراض التي يستعصي على الطب الحديث فهمها والتعامل معها ، كالكآبة النفسية وما يترتب عليها من اقدام الفرد على الانتحار مثلاً. والعلاج الطبيعي مهم في شفاء الجروح العضلية والغضروفية. وطالما كان الاسلام ولا يزال يهاجم النظام الطبقي ويدعو الى توزيع عادل للثروة الاجتماعية ، فان النظام الصحي الاسلامي سيجعل الانشطة الطبية جميعاً انشطة يهمها العلاج الحقيقي للافراد ، لا تجارة تجني ارباحاً على حساب الفقراء والمستضعفين ، ويجعلها ايضاً تزدهر في بحوثها وتجاربها وانتاجها ؛ فلا يحدها الجشع المادي ولا يلزمها سيطرة طبقة دون أخرى ، بل ان العقل الطبي المسلم ارحم وانزه من العقل الطبي الرأسمالي ؛ لان الطبيب المؤمن بقدر ما تهمه الخدمات الانسانية لتخفيف الآلام ، يهمه بناء النظام الاجتماعي النظيف عن المطامع الفردية المحضة.

ولا تتوقف وظيفة الطب على تحديد ( من هو المريض ؟ ) بل تتعداه الى قاعدة المحافظة على صحة الافراد عموماً ، حتى يستطيع النظام الاجتماعي تنشيط منهجه الاقتصادي في الانتاج وعدالة التوزيع. وبطبيعة الحال فان المؤسسة الصحية الاسلامية مسؤولة عن صحة الافراد في المجتمع الاسلامي على مستويين ، المستوى الاول : تثقيف افراد المجتمع تثقيفاً عاماً فيما يتعلق بفهم منشأ الامراض وسببها ، والتركيز على نظامي الوقاية والغذاء في تنمية الجسم البشري ، حيث يتم ذلك من خلال النشر والاعلام والتبليغ الفردي والجماعي. والمستوى الثاني : معالجة الافراد معالجة فردية في الظروف الطبيعية ، ومعالجة جماعية في الظروف الاستثنائية ؛ ومن ذلك


توفير الحقن المضادة للاوبئة المعدية ، وتنقية مياه الشرب من الجراثيم ، والسيطرة على انظمة المجاري العامة ، والتدقيق في الفحص الصحي للاسواق ومراكز بيع اللحوم والمواد الغذائية الاُخرى ، والمطاعم ، والفنادق. والسيطرة على الكائنات الناقلة للجراثيم كالذباب والبعوض والقمّل.

ولعل اهم عوامل تقدم الطب الانساني قيام الحكومة الاسلامية والجامعات والمؤسسات الاجتماعية الخيرية بمساندة مراكز البحوث الطبية ، لان البحث عن اسباب المرض وطرق انتشاره واكتشاف الدواء المناسب تعد من افضل الوسائل لعلاج الامراض واذا كانت الامراض متباينة بتباين المناطق الاسلامية ، فان من مهمات حكومات المناطق المحلية قيام المؤسسة الطبية التجريبية بالتركيز على معالجة الامراض المبتلى بها ذلك الاقليم. فالامراض المنتشرة في الاقاليم الصحراوية الحارة تختلف عن تلك التي تنتشر في الاقاليم الجبلية الباردة. والامراض المنتشرة في البلدان الفقيرة نسبياً تختلف عن امراض البلدان الموسرة. والمدار ان المؤسسات الخيرية وبيت المال بالخصوص ينبغي ان يتحملا جزءاً كبيراً من مصاريف النظام الصحي وبحوثه الاساسية.

ولما كان الطب مرتبطاً وثيقاً بالاحكام الشرعية التي تخص حالة المكلف البدنية في امور الولادة والنفاس والحيض والاستحاضة ، والحالات الاستثنائية كسلس البول ، والبطنة ، والوسوسة ، والنسيان ، والحالات المرضية التي لها علاقة بتعليق جزء من العبادات كالصلاة والصيام والحج ، والموت ومس الميت واحكامهما ، أصبح من الاهمية بمكان ان توثق المؤسسة التعليمية الدينية ـ المتمثلة بالحوزة العلمية ـ علاقتها


بالمؤسسة الطبية من خلال انشاء مراكز مشتركة تساهم في اغناء الفقهاء بالآراء الطبية المرتبطة بالحياة العامة للمكلف ، واغناء الاطباء والمؤسسة الطبية بالاحكام الشرعية المتعلقة بمختلف الحالات المرضية التي يجد فيها الطبيب نفسه حائراً في التعامل معها.

وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الطبية تساهم بشكل حاسم في تنظيم الحالة الاجتماعية من حيث منح شهادات الميلاد والوفيات حتى يتم توزيع الثروة الاجتماعية ، وتساعد في فصل التخاصم في الارث والحقوق بين الافراد من خلال تشخيص الجينات الوراثية. وكذلك تساعد في السيطرة على الامراض ، واثبات أحقية المعوقين باستلام المساعدة المالية ، ودراسة الساحة الصحية الميدانية حتى يتم تحديد الطاقة الانتاجية للنظام الاجتماعية الاسلامي. ولذلك ، فان المؤسسة الطبية تعتبر ركنا هاماً من اركان النظام الاجتماعي ، والنظام الديني والاخلاقي ايضاً.

ولما كانت المنافسة الاقتصادية في الاسلام مرتبطة بالمعنى العبادي وبمفهوم تعمير الارض ، على عكس المبدأ الرأسمالي الذي اقحم المؤسسة الطبية في المعركة الاقتصادية فأفقدها مفهومها الانساني ، اصبحت الرعاية البدنية مرتبطة بالثواب والعقاب ايضاً ، لانها من الضروريات العقلية التي يحتاجها الفرد بالخصوص ، والنظام الاجتماعي عموماً. ولا شك ان الدولة مكلّفة بسد هذه الحاجة الاساسية من شتى المصادر المتوفرة لها ، حتى تقوي في الفرد روح الانتاج والعبادة ، وحتى تبعد النظام الصحي عن المنافسة الاقتصادية الرأسمالية وما تجر معها من ويلات ومظالم بحق الفقراء.

ولكي تضمن الدولة عدم انجرار المؤسسة الطبية واعضائها الى انشاء


طبقة عليا خاصة تتحكم بمقاليد النظام الصحي وتشكل خطراً كامناً لانشاء طبقة رأسمالية مستقبلية ، فان لها طريقين في تحقيق ذلك ؛ الاول : ان تشرع في برنامج ترشح فيه دخول الطلبة على اساس المستوى الدراسي والايماني للطالب دون النظر للدخل السنوي. والثاني : فيما لو تساوى طالب فقير مع طالب غني في الدرجات وفي المستوى الايماني ، يقرع بينهما. ويدخل الفائز بالقرعة كلية الطب. واذا ارتأت الدولة أن من المصلحة العليا تفضيل الطالب الفقير على الطالب الغني مع التساوي في المستوى الدراسي ، فانها تستطيع ان تسمح للفقير الانضمام لكلية الطب حتى ينكسر الحاجز الطبقي الذي حرم الفقراء من التمتع بخيرات النظام الاجتماعي. وسبب الترجيح هنا ، تقديم الأهم على المهم. وهذا مجرد مثال نستطيع على ضوئه التفتيش عن امثلة اخرى تساهم في حل المشاكل الناتجة عن ظلم النظام الطبقي الذي انشأه الحاكم المستعمر في بلاد المسلمين.

واهم عمل ينبغي ان تنظر اليه الدولة في ترشيحها خريجي الدراسة الاعدادية للدخول الى الكليات الطبية هو حسن ايمان الفرد ونزاهته وصدقه. ولا ريب ان عامل الايمان يعتبر اهم من عوامل الدخل السنوي والطبقة الاجتماعية والدرجات. فالايمان بالله وبالنظام الاخلاقي للرسالة الدينية يبعد الطبيب عن شهوة حب المال وما يترتب عليها من انعدام النظرة الانسانية تجاه المرض والمريض. فالطبيب المؤمن يتحسس لآلام المريض ويعيش مشاعره المجروحة ، ويترحم ببذل اقصى الجهد لايجاد علاج ناجع يصلح وضعه الاستثنائي المرضي ، على عكس الطبيب الرأسمالي الذي لا يفكر الا بمحصوله المادي ومنفعة الشخصية. والطبيب


المؤمن صادق ثقة فهو لا يصف علاجاً كاذباً للمريض ، بل لو افترضنا استعصاء تشخيص الحالة المرضية على ذلك المريض فانه ـ بسبب صدقه وايمانه ـ يحيل المريض الى طبيب آخر اكثر خبرة واعمق علماً ؛ ولا يضيره ذلك في شيء حتى لو خسر اجور معالجة ذلك المريض ، لانه يعلم ان الحفاظ على حياة الفرد اهم واولى من المكسب المالي.

ولا شك ان مناداة الاسلام بالعدالة الاجتماعية لها نتائج عديدة على المستوى الصحي. فاذا كان الافراد متساوين في الحقوق والواجبات ، فان من حقهم نظرياً التمتع بصحة جيدة بعيداً عن الامراض والنحول الجسدي ، بغض النظر عن دخلهم المادي ومستوى معيشتهم. ومن اجل ذلك علينا ملاحظة مسألتين مهمتين للغاية. الاولى : رفع الحالة المعيشة والسكنية لكل الافراد في المجتمع الاسلامي الى مستويات متقاربة. ويلاحظ في هذه المسألة جهود الدولة في بناء وحدات سكنية على نطاق واسع بحيث يؤمّن ولو نظريا ، انشاء مسكن واحد تراعى فيه القضايا الصحية من التهوية وتعقيم المياه ونظام المجاري لكل عائلة تسكن ارض الاسلام. فمن حق العائلة المسلمة ان يكون لها مسكن صحي وغذاء متوفر حتى تستطيع ان تقوم بدورها الاساسي في العملية الانتاجية للمجتمع. والثانية : رفع المستوى الاداري والمهني والتقني للمستشفيات العامة بحيث لا تساهم تلك المؤسسات في حرمان الفقراء من العلاج الطبي الذي يتمتع به اقرانهم من الاغنياء. فمع ان المال يشجع الاطباء على الاهتمام بدقة عملهم وخدمة زبائنهم ، الاّ أن ايمان الطبيب بان علاجه للمرضى مرتبط بجزائه الاخروي ، وان عدالته في عملية الفحص والتشخيص والعلاج بين جميع الافراد واجب


شرعي ، كل ذلك سيساهم في رفع مستوى العلاج الطبي العام ، وتوطيد الثقة بين افراد المجتمع وافراد المؤسسة الطبية.

ولا شك ان مناداة الاسلام ايضاً بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوارق الطبقية بين الافراد ـ سيساعد على ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء ، فيشترك الفقراء حينئذ مع اقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي ، وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد.

ويمكن تخفيف الضغط على المستشفيات بتصميم نظام صحي يقوم على اساس فصل المستشفى عن عيادة الطبيب. وكمثال على ذلك ، فلنفترض ان المستشفيات مصمّمة بالاصل للحالات المرضية الطارئة كالكسور والجروح الشديدة والعمليات الجراحية وسحب الدم ، والفحوصات المختبرية. اما العيادات الطبية فانها تستقبل المرضى الاقل خطورة كامراض الجهاز الهضمي والعصبي والعظمي التي لا تستدعي اجراء عمليات جراحية فورية ، وتستقبل ايضا حالات الفحص الطبي السنوي. بمعنى ان العيادة الطبية ينبغي ان تستخدم العلاج الوقائي ، وهو فحص الافراد بشكل دوري سنوي منتظم حتى يتم معالجة المرض منذ بداية نشوئه وقبل استفحاله وتعذر معالجته. وينبغي ان تتوزع العيادات الطبية على مختلف انحاء المدينة الواحدة ، بحيث يكون مسؤولية كل طبيب معالجة عدد محدد من الافراد في محلة واحدة ، ولنفترض ان عددهم الف فرد على الاكثر ، حيث يحتفظ بملفاتهم للاستفادة منها وقت الحاجة. فاذا كان المرض يصيب عشرة بالمائة من الافراد على سبيل المثال ، فان الطبيب سيعاين مائة فرد شهرياً. ولو


افترضنا ان الدولة تزود كل عائلة ، حسب دخلها ، ببطاقة شهرية للعلاج الطبي ، فان الطبيب الماهر المجتهد في عمله سيستقبل عدداً اكبر من المرضى ، ويترتب على ذلك ان دخله السنوي سيزداد. ولو علمنا ان الحاكم الشرعي او الدولة تفرض على الاغنياء دفع الحقوق الشرعية وهي عشرين بالمائة من فائض المؤونة السنوية وحقوقاً اخرى تتجمع في بيت المال ، تبين لنا ان الدولة الاسلامية قادرة على توفير العلاج الصحي لجميع الافراد ، علاوة على توفير الغذاء والسكن الكريم للجميع. وهذا النظام الاسلامي العادل يتفوق على النظام الرأسمالي الامريكي الذي يضطر سدس افراده سنوياً الى بيع ممتلكاتهم لدفع اجور العلاج الصحي.


العلاقة بين الطبيب والمريض

وتستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية واجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى روح النظام الاخلاقي الاسلامي. فهذا النظام الاخلاقي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة : هي الخبرة والثقة والاستعفاف عن المال. فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين. والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيصه المرض. اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافية في التعامل مع المرض والموت ؛ بمعني ان دور الطبيب ينبغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تاجراً يتصيّد الحالات الاستثنائية لتجميع الثروة على حساب الآخرين. والفارق بين الطبيب والمريض في المجتمع الاسلامي هو الفارق بين امتلاك الخبرة وعدمها. فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعه الصحي. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان المريض ينبغي ان يتمتع بصفة الثقة ايضاً ، فيفترض ان يكون صادقاً في عرضه لاعراض المرض على الطبيب ، فالتحايل واخفاء الحقيقة ليست علامة من علامات الثقة ، ونتيجتها ارباك المؤسسة الطبية اولاً ، والنظام الاجتماعي ثانياً. وايمان المريض بالدين عامل آخر مهم ، لان المريض الملحد مثلاً لا يؤمن بالغيب


ولا بالقدرة الالهية على شفاء بعض الامراض التي يعجز عن شفائها الطب الحديث ، فيعرض مرضه على الطبيب بصورة تختلف عن عرض المريض المؤمن الواثق بقدرة الله عزوجل على شفاء المرض. فتصبح صورة التعامل الاجتماعي والعلاقة الاستشارية بين الخبير والمريض مشوشة باطار القلق والاضطراب النفسي.

ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كمقدمات العبادة وهي الطهارة كالوضوء والغسل ، وقضايا العبادات مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشوون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية. فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض. وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيزه على الغسل للصلاة الواجبة. وقد ينهاه عن السفر بقصد الحج ولكن يجيزه على الصيام. وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة. وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخبير ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعته له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين. فخبير له هذا الدور يجب ان يكون ثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.

ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول ادق شؤونه الحياتية. وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض


ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض او ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات. والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.

وينبغي على النظام الاجتماعي ايضا تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين ؛ قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة. وقسم يتعلق بالرجال وامراضهم. فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص اجنحة او مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض. وفي هذا تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية ؛ وهو ادعى للعفة في تجنب بعض المشاكل الاخلاقية التي تحصل في المستشفيات المعمول بها اليوم.

واذا ارادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الاّ ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ، عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب او اختصاصه. ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لا يقلل من قيمته العلمية او المهنية ، بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله. فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال


في تقليل آثار الألم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على صعيد افراد الاُمة الاسلامية جميعاً.


اهل الخبرة الطبية

ودفعاً للاشكلات التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها ، اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية. ولا شك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية والواقع الاجتماعي المتبدل يوما بيوم ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب أن ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات. ولابد من التأكيد على الجانب الفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة آثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، وآثار التدخين والمخدرات وتلويث البيئة ، وآثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل. وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة. ولا شك ان فكرة الوقاية تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي اُبتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها.

ولابد في تقييم العمل الطبي قضائياً من اشتراك الحاكم الشرعي ، والبينة ، والقرائن الموضوعية. فاذا اخطأ شرعاً الزَمَهُ القاضي الشرعي العادل بالضمان. ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ، ضمن اطار النظام القضائي ، يُحفظ فيه حق المريض


اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.

وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لا يتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة لانشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي. واذا كان الطبيب يتعامل مع المرض والموت ، فان هناك ، من غير الاطباء ، ممن يتعاملون مع المرض والموت ايضاً. فالممرض والممرضة يتعاملان مع نفس الحالة المرضية ، وهناك من يقوم بتغسيل الميت وتكفينه ، وعالم الدين يقوم بالصلاة عليه ، ويقوم آخر بدفنه. نعم ان الطبيب له الكلمة الفصل في تحديد العلاج وعليه يتم الأجر ، ولكن يجب ان يكون الأجر عادلاً للجميع ، عدا عالم الدين الذي ينبغي ان لا يأخذ اجراً على الاعمال الكفائية التي يقوم بها. ومع ان تحديد الاجر يتم من خلال نوعية العمل المنجر الاّ ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف آخر منه لا يمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية. وامام هذه المشكلة يقف الاسلام موقف الحكم. فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية بل الخدمة الانسانية ؛ وعليه فان أجر الطبيب في النظام الاسلامي يتناسب مع نوعية العمل وكمية الجهد المبذول ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء والمعدمين. وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة أجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي.

ولا ريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية


امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعيه الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات. ولا يستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن اسباب الجريمة ومنشأها. ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا أن وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي اصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.


ضمان الطبيب

ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة. ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفه بالعلاج. فقد ذكر الفقهاء ان الطبيب يضمن لو مات المريض بسبب العلاج. وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك. ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الطبيب ، فان الضامن في الشبيه في العمد ، الفاعل وهو الطبيب نفسه ، « لحصول التلف المستند الى فعله ، ولا يُطل دم امرئ مسلم ، ولأنه قاصد الى الفعل مخطئ في القصد. فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض ، لان ذلك لا دخل له في عدم الضمان هنا ، لتحقق الضمان مع الخطأ المحض. فهنا اولى وان اختلف الضامن » (١).

وذهب ابن ادريس في كتاب السرائر الى عدم ضمان الطبيب اذا كان عالماً مجتهدا في تشخيص المرض ، واستدل على ذلك بثلاثة اُمور ، اولها : اصالة البراءة من الضمان. وثانيها : اذن المريض للطبيب في العلاج وهو مسقط للضمان فيما لو حصل التلف في الأثناء. وثالثها : ان العلاج فعل سائغ شرعاً ، فلا يستعقب ضماناً.

ورده الشهيد الثاني بقوله : « ان اصالة البراءة تنقطع بدليل الشغل. والأذن في العلاج لا في الأتلاف. ولا منافاة بين الجواز والضمان ، كالضارب

__________________

(١) شرح اللمعة الدمشقية : ج ١٠ ص ١٠٨.


للتأديب. وقد روي ان امير المؤمنين 7 ضمّن ختّاناً قطع حشفة غلام (١). والاولى الاعتماد على الاجماع فقد نقله المصنّف في الشرح وجماعة ، لا على الرواية لضعف سندها بالسكوني »(٢).

وأجمع فقهاء السنة على « ان الطبيب اذا اخطأ لزمته الدية ، مثل ان يقطع الحشفة في الختان وما اشبه ذلك ، لانه في معنى الجاني خطأ. وعن مالك رواية انه ليس عليه شيء ، وذلك عنده اذا كان من اهل الطب ، ولا خلاف انه اذا لم يكن من اهل الطب انه يضمن لأنه متعدّ ، وقد ورد في ذلك مع الاجماع حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده ان رسول الله (ص) قال : ( من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب هو ضامن ) والدية فيما اخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة » (٣). فالطبيب اذن « يضمن في ماله من يتلف بعلاجه. ولو ابرأه المريض او الولي ، فالوجه : الصحة لإمساس الضرورة الى العلاج » (٤).

ونستلخص من هذا الرأي فوائد :

« الاولى : انه يجوز العلاج للامراض ؛ اما اولاً فلوجوب دفع الضرر عن النفس عقلاً وشرعاً. واما ثانياً فلقوله (ص) : ( تداووا فان الذي انزل الداء انزل الدواء ) (٥) ، وقوله (ص) : [ شفاء اُمتي في ثلاث : آية من كتاب الله [ الطب الايماني ] ، ولعقة من عسل [ الطب الغذائي ] ، ومشراط حجام

__________________

(١) التهذيب : ج ١٠ ص ٢٣٤.

(٢) شرح اللمعة : ج ١٠ ص ١١٠.

(٣) بداية المجتهد لابن رشد : ج ٢ ص ٤٥٤.

(٤) شرائع الاسلام : ج ٤ ص ٢٤٨.

(٥) قرب الاسناد : ص ٥٢.


( الطب التجريبي / الجراحي ) (١). واما ثالثاً فللا جماع على ذلك.

الثانية : الطبيب القاصر المعرفة ضامن لما يتلف بعلاجه اجماعاً ، وكذا العارف اذا عالج صبياً او مجنوناً او مملوكاً من غير اذن من الولي والمالك ، او عالج عاقلاً حراً من غير اذن منه.

الثالثة : العارف اذا عالج حراً عاقلاً آذنا ، او احد الثلاثة مع اذن الولي فيخطئ هل يضمن ام لا ؟ قال الشيخان والتقي وسلار : نعم ، لحصول التلف مستنداً الى فعله ولا يبطل دم امرئ مسلم (٢). قال المصنف في النكت : الاصحاب مجمعون على ان الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه ، وهو الاصل في الحجة ، والاجماع المنقول بالواحد حجة عند الاكثر.

الرابعة : لو اخذ الطبيب البراءة من المريض الحر العاقل او من ولي غيره هل يكون ذلك مسقطاً للضمان ام لا ؟ قال الشيخان واتباعهما : نعم ، لان الضرورة ماسة الى العلاج لما يتعقبه من الضمان ، وللرواية المذكورة عن الصادق (ع) عن على (ع) انه قال : ( من تطبب او تبيطر فليأخذ البراءة من وليه والاّ فهو ضامن ) (٣) ، وانما ذكر الولي لانه هو المطالب على تقدير التلف. فلما شرع الابرام قبل الاستقرار لمكان الضرورة صرف الى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما تقع البراءة منه. قال المصنف في النكت : لا استبعد ابراء المريض لانه فعل مأذون فيه والمجنيّ عليه اذا اذن في الجناية

__________________

(١) العوالي : ج ٢ ص ١٤٨.

(٢) التهذيب : ج ١٠ ص ٢٠٥.

(٣) الكافي : ج ٧ ص ٣٦٤.


سقط الضمان فكيف بأذنه في المباح المأذون في فعله.

الخامسة : الضمان المذكور في مال الطبيب لانه شبيه عمد لتحقق القصد الى الفعل لا الى القتل » (١).

والخلاصة ، ان الطبيب مسؤول عما يتلفه بعلاجه اذا لم يكن خبيراً بالاجماع ، او كان المريض طفلاً او مجنوناً اذا لم يحصل على الاذن من وليهما ، او كان المريض بالغاً لم يأذن له بالعلاج ، ولكن يسقط ضمان الطبيب اذا اخذت البراءة من المريض.

__________________

(١) التنقيح الرائع للسيوري الحلي : ج ٤ ص ٤٦٩.


النظام الصحي في الاسلام

استمر الانسان في حياته الاجتماعية منذ بداية الخليقة يتساءل ماذا اتناول من طعام حتى احافظ على حيوتي الجسمية ؟ وايهما افضل لصحتي : كثرة الطعام ام كفاية الغذاء ؟ ولو ترك الامر للناس في اختيار نوعية الطعام على اساس انه شهي او على اساس انه نافع ، لاختار للناس الطعام الشهي على اساس انه شهي او على الطعام النافعة لان الرغبة الشخصية للفرد هي التي تحدد نوعية الطعام الذي يأكله. فاذا اصبحت شهوة الفرد الحَكَم في اختيار الطعام اضحى الفرد عبداً لشهيته. ولا يختلف الحيوان في ذلك عن الانسان. فيخضع الحيوان لنفس المنهج المذكور لان شهوته هي التي تحدد كمية الطعام التي يستهلكها حتى لو كان ذلك مضراً لجسمه. ولكن العلم الحديث والنظام الرأسمالي اخضعا الحيوان لطعام مصنّع يحتوي على نسبة محدّدة من الكاربوهيدرات والبروتينات والدهنيات ، حتى يستطيع المستثمر ، الذي يمتلك قطيعاً من الاغنام مثلاً جني أقصى الارباح عند بيعه تلك الحيوانات الصحيحة المتعافية ، على عكس النتيجة فيما لو باع الحيوانات المريضة ، او الحيوانات التي تستهلك علفاً لا تنفع اجسامها ، فتقل عندئذ الارباح التي يفترض جنيها من تلك الثروة الحيوانية.

ولكن هنا يبرز سؤال مهم ، وهو كيف يستطيع الانسان اختيار طعامه الصحيح وهو جاهل بمحتويات المواد الغذائية التي يتناولها ؟ وللجواب على هذا السؤال يمكن ان يقال ان للانسان طريقين ، اما ان يختار العلم التجريبي ليدليه على المواد الغذائية التي تنفع الجسم ، وهذا ما لم يحصل


في تاريخ البشرية الاّ في القرن الأخير. واما ان يفتش عن نظام غيبي يدليه على اسرار الوقاية والغذاء حتى يتجنب الامراض النازلة بالافراد. والنظام الغيبي الذي نقصده هو الاسلام ، حيث جاء بنظام وقائي ونظام غذائي في غاية الدقة والكمال. ولو ان المائة سنة الأخيرة التي بحث العلم التجريبي فيها عن اسرار الطعام ومحتويات المواد الغذائية وعلاقتها بصحة الانسان ، صرفت على احكام الاطعمة والأشربة في الاسلام لدفعت العلم البشري اشواطاً عديدة الى الامام ، ولاستغنت اوروبا وامريكا وروسيا واليابان عن ملايين الاطنان من الادوية والحقن والامصال ، التي اريد لها ان تشفي الامراض ، ولكنها لم تحقق الشفاء التام لحد اليوم.

ولو استطرد السائل الآنف الذكر مستفسراً عمّا يعمله الغذاء الجيد بجسم الانسان ؟ لأجبناه بان الفرد الذي يتبع النظام الوقائي والغذائي الذي دعا اليه الاسلام سيكون فرداً سليماً من الناحية الصحية ؛ حيث ان المفترض طبياً ان يتمتع الفرد السليم بالصفات التالية:

١ ـ ان ظهوره العام ظهور صحي مصحوب بحيوية فائقة ، وان تعبيرات الوجه ووضوح العينين ، وسرعة حركتها ، وقوة ملاحظتهما تعكس الحالة الصحية الطبيعية لذلك الفرد.

٢ ـ تركيبة العظام تركيبة جيدة. فيلاحظ ان السواعد والسيقان مستقيمة ، وان الرأس والصدور والاسنان ذات بناء قوي في المادة واعتدال في الاتجاه.

٣ ـ ان عضلات الجسم قوية ونامية بشكل صحيح. ويظهر ذلك في القيام والجلوس والمشي ، والحركة الرياضية.


٤ ـ ان الانسجة الشحمية تحت الجلد تغطي العظام والعضلات بشكل كاف بحيث يكون مظهر جسم الانسان مظهراً طبيعياً.

٥ ـ ان وظائف الجسم تعمل بكفاءة ، فيؤدي الجهاز الهضمي وظيفته في الهضم وامتصاص المواد الغذائية واخراج الفضلات ، وكذلك الجهاز التنفسي ، وان الفرد ينام باطمئنان ويستيقظ بنشاط.

وانسان بهذه الصفات يعتبر من الناحية الطبية كائنا طبيعياً وصحياً. فالفرد لا يحتاج الى كمية كبيرة من الطعام حتى يكون قادراً على تأدية دوره الحياتي ، بل انه ـ اذا وضع الشهوة الجامحة بأكل اللذيذ من الطعام جانباً ـ يحتاج الى الاساسيات حتى يستطيع القيام بدوره الفعال في الحياة الاجتماعية ؛ فهو يحتاج الى كمية كافية من البروتينات لاصلاح انسجة الجسم ، وكمية كافية من المعادن والاملاح لتنمية العظام والاسنان ، وكمية كافية من الكاربوهيدرات للطاقة ، وكمية كافية من الفيتامينات لاعطاء حيوية للاعصاب والدماغ وحفظ بقية الانسجة ، وكمية قليلة من الدهنيات للحفاظ على ظاهر الجسم. وعندما يتم اكتمال بناء الجسم في العشرينات من عمر الانسان ، تصبح كثرة الطعام من هذه المواد بمثابة حقْن الجسم بالسموم. ولذلك فان الرسل (ص) والائمة (ع) كانوا يكتفون بالخبز والتمر واللبن احياناً في وجباتهم الغذائية ، لان الخبز ـ وهو يحتوي على الكاربوهيدرات ـ يمنح الجسم الطاقة. والتمر ـ وهو يحتوي على سكر واملاح وفيتامينات ـ يحفظ حيوية الدماغ والاعصاب. واللبن ـ وهو يحتوي على بروتينات وفيتامينات ـ يصلح الانسجة ويحافظ على حيويتها. وهذا المقدار من الطعام يكفي لتنشيط الجسم الانساني ودفعه


لاداء اعماله الحياتية الطبيعية. اما بقية الحبوب والفاكهة والخضار فقد ورد استحباب اكلها ؛ لانها تحوي على كل هذه المواد النافعة لجسم الانسان. وورد التأكيد على الاعتدال في اكل اللحوم ، خصوصاً الحمراء. وهذه المواد الغذائية البسيطة ، هي الاساس في تقوية الجسم وتحريكه ، وما عداها زائد ليست له قيمة حقيقية في بناء جسم الفرد صحياً.

ومن اعظم الاخطار الصحية التي جلبها التطور الصناعي في الدول الرأسمالية على الافراد هو تبديل النظام الغذائي الذي واكب التقدم الصناعي والزراعي في القرنين الماضيين. فاصبح الفرد سجين نظام غذائي فد يجلب له الضرر او المرض ؛ حيث يستند هذا النظام الغذائي على عوامل خمسة معارضة تماما للنظام الصحي الاسلامي في الاصل ، وهي :

١ ـ ازدياد كمية الطعام المتناول من قبل الافراد ؛ لان كثرة الخيرات وعدم وجود نظام اخلاقي يهذب طريقة الفرد في التعامل مع الغذاء ، ادت الى زيادة شره الافراد نحو تناول الطعام. فمن نتائج هذه الزيادة ان الفرد اصبح يخزن الشحوم الزائدة عن حاجته ، مما يسبب عطلاً في الوظائف البيولوجية للخلايا الجسمية. وقد ورد عن الامام امير المؤمنين (ع) قوله : ( لو ان الناس قصدوا في الطعام لاعتدلت ابدانهم ) (١).

٢ ـ تناول الطعام بين الواجبات الغذائية. وهو يسبب زيادة في خزن الشحوم ايضاً وارباكاً لنظام الجهاز الهضمي الذي صمم على اساس الوجبات الاساسية. وقد ورد في الرواية عن الامام الصادق (ع) : ( تغدّ وتعش ولا تأكلن بينهما شيئاً فان فيه فساد البدن ، اما سمعت الله تبارك

__________________

(١) المحاسن : ص٤٣٩.


وتعالى يقول : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (١) (٢).

٣ ـ كثرة تناول السكّريات والمنتجات المتعلقة بها ، التي تحرم جسم الانسان من توازن الكمية الداخلة في الانسجة والخارجة منها ، فيما لو تناول الفرد الحبوب والفاكهة والخضار. وكثرة السكريات تسبب سرعة تسوّس الاسنان ايضاً. والاصل هنا هو قاعدة الاعتدال ، المتسالم بين العقلاء ، في تناول المواد الغذائية.

٤ ـ تناول الاطمعة المحفوظة ؛ حيث يحفظ الطعام في علب معدنية ، ثم تضاف اليه بعض المواد الكيميائية لحفظ خلال فترة النقل ، والخزن ، والبيع. ولما كان الماء وبعض الاملاح والفيتامينات الموجودة طبيعياً في داخل هذه الاطعمة ، تعجّل في تلف هذه المواد فانها تسحب خلال عملية التعليب ويعوض عنها بمواد كيميائية غير غذائية هدفها حفظ المادة المعلّبة من التفسخ. وهذا يؤدي الى انخفاض النسبة الغذائية في هذه المواد. وقد ورد في الروايات ما يشير الى اهمية الاطمعة الطازجة ، منها قوله (ع) : ( عليكم بالفواكه في اقبالها ، فانها مصحة للابدان ).

٥ ـ اهمال تناول الفطور في الصباح ؛ لان الفرد في المجتمع الصناعي يفضل ـ تحت ضغط الاقتصادية ـ الاسراع للعمل ، فيهمل تناول الفطور. وتناول الافطار الصباحي مهم لان الجسم يستهلك طاقته الحيوية خلال الليل ، ومع مجيء يوم جديد فان حاجات الجسم ينبغي ان تلبى قبل ان يتحرك من جديد لتأدية عمله اليومي الشاقّ. ولم يقتصر الاسلام على

__________________

(١) مريم : ٦٢.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٢٨٨.


التأكيد على تناول الفطور ، بل اكد على ضرورة تناول العشاء ايضا على نفس مبدأ تناول الفطور لقوله تعالى : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (١) ، وقوله (ص) : ( لا تدعوا العشاء ولو على حشفة. اني اخشى على اُمتي من ترك العشاء الهرم. فان العشاء قوة الشيخ والشاب ) (٢).

والاخطار الصحية الناتجة عن اتباع وممارسة النظام الغذائي الرأسمالي تستهلك من واردات النظام الاجتماعي الكثير على المستوى الصحي والانتاجي للافراد. ولكن نظاماً كالنظام الاسلامي عالج هذه المشكلة الانسانية من الصميم ، فأحدث نظاميه الوقائي والغذائي للحفاظ على حيوية الافراد.

__________________

(١) مريم : ٦٢.

(٢) المحاسن : ص ٤٢١.


اولاً : النظام الوقائي

ويعالج النظام الوقائي الحالة المرضية قبل وقوعها. فاذا كانت كثرة الطعام تسبب آلاماً في الجهاز الهضمي مثلاً ، فمن الوقاية ان يجتنب الفرد كثرة الاكل. وهذه القاعدة الصحية البسيطة لها تأثير فعّال على صحة الافراد ، لان كمية الطعام ونوعيته مرتبطة بعدد كبير من الامراض التي تصيب الانسان. واذا نظرنا من وجهة نظر طبية ونفسية للتحريم الذي اوجبه الشارع على المأكولات تبين لنا ان للتحريم ، اضافة الى المعنى التعبدي ، نتائج وقائية على مستوىً عظيم من الاهمية.

فقد حرّمت الشريعة اصنافاً عديدة من المأكولات ومنها ، اولاً : الحيوانات المحرم اكلها بالذات كالدم ، والميتة ، ولحم الخنزير ، وما اهلّ لغير الله. ثانياً : التحريم بالواسطة كالمغصوب والمتنجس. ثالثاً : التحريم بالذات ولكنه احلّ بالواسطة كأكل الميتة للمضطر. يقول تعالى : ( قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١). وفي المشروبات حرمت الشريعة الخمور ، والدماء ، والاعيان النجسة والمتنجسة ، وألبان الحيوانات المحرم اكلها.

وأحلّت اكل البهائم الاهلية كالغنم والبقر ، والبهائم البرية كالغزلان ، والطيور غير المخالبية ذات الدفيف التي لها حواصل وقوانص وصيص ،

__________________

(١) الانعام : ١٤٥.


والاسماك ذات القشور ، والطيبات من الثمار والحبوب والخضار. وقد حثَّ القرآن الكريم على الاكل من الطيبات ، كما ورد في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً ) (١).

وللطهارة المائية من وضوء واغسال وتطهير للفم جوانب وقائية عظيمة ايضاً. وكذلك الصيام واحكامه ، والنوم وآدابه.

١ ـ ما يؤكل من الأطعمة :

أ ـ الحيوانات المحرم أكلها بالذات :

وقد افرد الفقهاء تحت باب الاطعمة والاشربة اسماء العديد من الحيوانات التي حرم الشرع اكلها. فقد وردت حرمة اكل الحيوانات البحرية ، والاسماك التي لا تمتلك قشوراً ، والخنازير ، والدماء ، والميتة ، وما اهل لغير الله ، والكلاب ، والسباع ، والمسوخ ، والحشرات السامة ، والطيور التي لها مخالب والتي يكوي صفيفها اكثر من دفيفها وتنعدم فيها القانصة والحوصلة والصيصة ( وهي شوكة خلف رجل الطير خارجة عن الكف ) ، وبيض الطيور الحرام ، وبعض محتويات الذبيحة كالطحال والقضيب والبيضتين والفرث وغيرها.

وقد اتفق الفقهاء على حرمة اكل كل حيوان بحري ( ما عدا السمك ) حتى لو اكتسى جلده قشوراً ، اوكان على صورة الحيوان البري الذي يحل

__________________

(١) البقرة : ٢٨.


أكله (١). وذهب اكثرهم الى تحريم السمك الذي لا فلس له بدليل رواية محمد بن مسلم الذي سأل الامام الصادق (ع) : عن السمك الذي لا قشر له ؟ فقال : ( كُل ما له قشر من السمك ، وما كان ليس له قشر فلا تأكله ) (٢). ورواية عبد الله بن سنان عن الامام الصادق (ع) : ( كان علي (ع) : بالكوفة يركب بغلة رسول الله (ص) : ثم يمر بسوق الحيتان فيقول : لا تأكلوا ولا تبيعوا ما لم يكن له قشر من السمك ) (٣). والبيض الذي يستقر في جوف السمكة يتبعها في التحليل والترحيم ، فان حرم اكلها فالذي في جوفها حرام.

وورد تحريم اكل لحم الخنزير في القرآن (٤) ، وحرم اكل الكلب ايضاً لنجاستهما. وحرم من البهائم البرية السبع ، وهو الحيوان الذي له ظفر ، او ناب يفترس به ، قوياً كان كالاسد والفهد والذئب والنمر ، او ضعيفاً كأبن آوى. و « الاجماع على ذلك مضافاً الى السيرة المستمرة ، وقول الامام (ع) : لا تأكل من السباع ومخلب من الطير ، حرام ) (٦) ، فيحرم للنص عليه بخصوصه ، ولانه سبع في نصوص اخرى.

وحرمت لحوم المسوخ ، وهي ثلاثة عشر صنفاً : الفيل ، والدب ،

__________________

(١) المسالك ـ كتاب الاطعمة والاشربة.

(٢) التهذيب : ج ٩ ص ٢.

(٣) الكافي : ج ٦ ص ٢٢٠.

(٤) الانعام : ١٤٥.

(٥) الجواهر : ج ٣٦ ص ١٩٩.

(٦) الكافي : ج ٦ ص ٢٤٥.


والخنزير ، والقرد ، والجريت ( نوع من السمك ) ، والضب ، والوطواط ، والدعموص ، والعقرب ، والعنكبوت ، والارنب ، وسهيل والزهرة .... قال الصدوق : سهيل والزهرة دابتان من دواب البحر (١).

ولم يرد نص على تحريم اكل الحشرات ، الا ان السام منها حرام اكله لمكان الضرر.

وحرمت الطيور التي علامات لها ثلاث وهي : المخلبية ، واكثرية الصفيف ، وانتفاء القانصة والحوصلة والصيصة. فالطير المفترس ذو المخالب يحرم اكله لانه يقتات على غيره من الطيور. وهو على انواع منها البازي ، والصقر ، والعقاب ، والشاهين ، والباشق ، والنسر. ويحرم اكل كل طير صفيفه اكثر من دفيفه. والصفيف بسط الجناحين من غير تحريك عند الطيران ، ويقابله الدفيف وهو تحريك الجناحين. ولو تساوى الصفيف والدفيف ، او كان الدفيف اكثر من الصفيف حل أكله. و « الاجماع على ذلك مضافاً الى النصوص. قال زرارة : ( سألت ابا جعفر (ع) عما يؤكل من الطير ؟ فقال : كُلْ ما دف ، ولا تأكل ما صف ). وفي موثق سماعة : ( كُلّ ما صف وهو ذو مخلب فهو حرام ، والصفيف كما يطير البازي والحدأة والصقر وما اشبه ذلك ، وكل ما دف فهو حلال ). وفي حديث آخر : ان كان الطير يصف ويدف ، فكان دفيفه اكثر من صفيفه اُكل ، وان كان صفيفه اكثر من دفيفه فلا يؤكل » (٢). ويحرم اكل الطير البري او البحري الذي ليس له قانصة ، او ليس له حوصلة ، او ليس له صيصة كالطاووس. اما الوطواط فهو من اللبائن

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق : ج ٢ ص ٨٨.

(٢) الجواهر : ج ٣٦ ص ٣٠٤.


ويحرم اكله لانه من المسوخ ، و « قد توافق النص والفتوى على عدم الفرق بين طير البر والماء في العلامات المذكورة ، فيؤكل من طير الماء ما وجدت علامة من علامات الحل ، حتى ولو كان يأكل السمك ، لاطلاق الادلة ، وخصوص خبر نجية بن الحارث ( سألت ابا الحسن (ع) عن طير الماء ما يأكل السمك منه يحل ؟ قال : لا بأس به ، كله » (١). وبيض الطير يتبعه في التحريم ، فبيض الطير الحرام حرام اكله ، « بلا خلاف ، لما ورد في خبر ابي الخطاب ( سألت ابا عبد الله (ع) عن رجل يدخل الاجمة ( الشجر الكثير ) فيجد فيها بيضاً مختلفاً ، لا يدري بيض ما هو ؟ أبيض ما يكره من الطير ، او يستحب ؟ فقال (ع) : ان فيه علماً لا يخفى ، انظر الى كل بيضة تعرض رأسها من أسفلها فكل ، وما سوى ذلك فدعه ). وفي رواية ثانية : ( ما كان مثل بيض الدجاج ، وعلى خلقته ، احدى رأسيه مفرطح ، والاّ فلا تأكل ) ، والمفرطح : العريض » (٢).

وحرمت الميتة نصاً واجماعاً ، ومنه قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) (٣) ، ولكن الفقهاء اختلفوا في لبن الشاة الميتة هل هو طاهر ام لا ؟ ف‍ « ذهب الشيخ واكثر المتقدمين وجماعة من المتأخرين على انه طاهر ، للنص على طهارته في الروايات الصحيحة ، ومنها صحيحة زرارة ، قلت للامام الصادق (ع) : اللبن يكون في ضرع الشاة ، وقد ماتت ؟ قال : لابأس به » (٤).

__________________

(١) الجواهر : ج ٣٦ ص ٣٠٩.

(٢) الجواهر : ج ٣٦ ص ٣٣٥.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) المسالك ـ باب الاطعمة والاشربة.


واجمع الفقهاء على تحريم اكل بعض محتويات الذبيحة مثل الدم والطحال والقضيب والانثيين ( البيضتين ) والفرث. وقال الشهيد الاول بحرمة اكل المثانة والمرارة والمشيمة والفرج والعلباء ( وهما عرقان عريضان ممدودان من الرقبة الى الذنب ) والنخاع والغدد وذات الاشاجع ( وهي اصول الاصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف ) وخرزة الدماغ وحدقة العين (١). ولكن الشهيد الثاني علق على ذلك بقوله : « ومستند الجميع غير واضحة ، لانه روايات يتلفق من جميعها ذلك. بعض رجالها ضعيف وبعضها مجهول والمتيقن منها تحريم ما دل عليه دليل خارج كالدم. وفي معناه الطحال وتحريمهما ظاهر من الآية ، وكذا ما استخبث منها كالفرث ، والفرج ، والقضيب ، والانثيين ، والمثانة ، والمرارة ، والمشيمة. وتحريم الباقي يحتاج الى دليل ، والاصل يقتضي عدمه ، والروايات يمكن الاستدلال بهل على الكراهة لسهولة خطبها » (٢).

ب ـ الاشربة والحبوب والثمار المحرمة بالذات :

وحرمت الشريعة أكل ما يضر ببدن الانسان أو عقله ، وكفى قوله (ص) : ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) دليلاً حاكماً على ادلة التكاليف الشرعية. ويؤيد ذلك ايضاً ما ورد عن الامام الصادق (ع) : ( كل شيء يكون فيه المضرة على الانسان في بدنه وقوته فحرام أكله الا في

__________________

(١) اللمعة الدمشقية للشهيد الاول : ج ٧ ص ٣١٠.

(٢) شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني : ج ٧ ص ٣١٠.


الضرورة ) (١). ومنها فطائر الصحراء والاثمار السامة ونحوها.

اما الاشربة التي حرمتها الشريعة الاسلامية فهي على خمسة انواع :

الاول : الدم ، والمراد به مطلق الدم ، ان كان من الحيوانات التي احل الشرع أكلها او من التي حرم أكلها.

الثاني : كل سائل يتنجس بمماسته للنجاسة يحرم شربه فاذا وقعت قطرة من خمر في قدح ماء حرم شرب الماء.

الثالث : الاعيان النجسة كالابوال ونحوها.

الرابع : لبن الحيوان الذي يحرم اكله يحرم شربه ايضاً ، فلبن الذئبة واللبوة والدبة حرام ، « بلا خلاف اجد فيه » (٢).

الخامس : الخمر ، وندرسه من الناحيتين الشرعية والتجريبية.

اولا ـ الخمر : الناحية الشرعية :

والمراد به مطلق المسكرات ، وتناوله من الكبائر لانه يعدُّ انحرافا كانحرافات السرقة ، والزنا ، ونحوها. فقد جاء في حديث رسول الله (ص) : ( كل مسكر حرام وما اسكر كثيره فقليله حرام ) (٣) ، وعن ابي عبد الله (ع) : ( ... وما يجوز من الاشربة من جميع صنوفها فمالم يغير العقل كثيره فلا بأس بشربه وكل شيء منها يغير العقل كثيره فالقليل منه حرام ) (٤). وفي حديث آخر سئل الامام الرضا (ع) لم حرم الله الخمر ؟ قال :

__________________

(١) تحف العقول : ص ٣٣٧.

(٢) الجواهر : ج ٣٦ ـ باب الاطعمة والاشربة.

(٣) التهذيب : ج ٩ ص ١١١.

(٤) تحف العقول : ص ٣٣٧.


( حرم الله الخمر لفعلها وفسادها. ومدمن الخمر كعابد وثن يورثه الارتعاش ويذهب بنوره ، ويهدم مروءته ، ويحمله على أن يجسر على المحارم من سفك الدماء ، وركوب الزنا ... ) (١). وقد ورد النهي عن تناول الخمر في قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) (٢) ، وقوله : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (٣) ، وقوله : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ ) (٤). والاثم ، في عرف المفسرين ، هو الخمر. و « تحريم الخمر من ضروريات الدين حتى ورد انه اكبر الكبائر ، وانه لو صب في اصل شجرة ما أكل من ثمرها ، ولو وقع في بئر قد بنيت علنه منارة ما اُذِّنَ عليها ، ونحو ذلك من الاخبار الدالة على المبالغة في تحريمها لكثرة مفاسدها » (٥).

ثانيا ـ الخمر : الناحية التجريبية :

ويعتبر الادمان على تناول اثيل الكحول او الايثانول من المواد العشر التي تساهم في رفع نسبة الموت في المجتمع الصناعي النصراني. ولا ينحصر ضرر الكحول النهائي بالموت فقط ، بل له تأثيرات اجتماعية واسعة منها ارتباط الادمان على الكحول بالعنف الشخصي ، والصراع مع افراد العائلة الواحدة ، والاعمال الاجرامية ، والامراض العقلية ، والمصاعب

__________________

(١) علل الشرائع : ج ٢ ص ١٦٩.

(٢) البقرة : ٢١٠.

(٣) المائدة : ٩١.

(٤) الاعراف : ٣٢.

(٥) قلائد الدرر في بيان ايات الاحكام بالاثر للشيخ احمد الجزائري ص ٣٠٠.


المالية التي يختبرها المدمن مع عائلته. فالايثانول تعتبر المادة الكيميائية الاساسية في الخمرة والبيرة والعرق ونحوها. ولكي نفهم تأثير الكحول على جسم وعقل الفرد لابد من معرفة اقسامه وطريقة تصنيعه :

اولاً : البيرة او الفقاع ، وهو عصير ناتج من اخضاع حبوب مختلفة للحرارة على طريقة التهدير والتخمير ، تماماً كتهدير الشاي. وتحتوي على نسبة ٣ ـ ٦% من الايثانول.

ثانياً : الخمرة ، وهي تصنّع بتخمير عصير العنب او فاكهة اخرى ، وتحتوي على ٩ ـ ١٢% من الايثانول.

ثالثاً : المشروبات الروحية ، وهي تصنّع عن طريق تقطير المواد الكحولية المخمرة ، مما يرفع نسبته الايثانول فيها الى ٣٥ ـ ٥٠%. ولذلك ، فان هذا النوع من الكحول اشد خطراً واعظم تأثيراً على صحة الفرد من الانواع الاُخرى.

ولا يحتوي الكحول على اي مادة غذائية ( كالفيتامينات ، والاملاح ، والبروتينات ، والدهون ) ، بل انه يحتوي على سعرات حرارية فقط تحترق بسرعة في الجسم.

وعندما يدخل الخمر فم الانسان المنحرف فانه ينتقل الى المعدة والامعاء الدقيقة ، حيث يمتص هناك بسرعة الى مجرى الدم. وعندما يجري الدم المثقل بالخمر في انحاء الجسم ، فان ذلك الكحول ينتشر بين جميع خلاياه وانسجته الحيوية. وكلما ازدادت الكمية المتناولة من الكحول ازداد تشبع الخلايا الجسمية بالمادة الكحولية. ولما كان الكبد الجهاز المسؤول عن تصفية المواد السامة التي يجب طردها من الجسم عن طريق الجهاز البولي ،


فان المادة الكحولية ينبغي ان تذهب الى الكبد للتصفية ثم الخروج من الجسم. ولكن هنا تبرز مشكلة جديدة وهي انه لما كان الكحول محتوياً على ذرات الاوكسجين والهيدروجين والكاربون ، فان هذه الذرات تتفاعل مع المواد الكيميائية الموجودة في الكبد ، وتتحول بعدها الى ماء ، وسكريات ، ومادة ( ثاني اوكسيد الكاربون ) التي تبقى مستقرة في الكبد ، الى اجل غير محدود. وبعد هذه العمليات يصل الكحول الى الدماغ من خلال الدورة الدموية ، ويبقى هناك حتى ينتهي الكبد من تحليلة للمواد الثلاث المذكورة سابقاً.

ويبدأ الفرد ـ بعد ان يصل مستوى الكحول الى دمه الى حد قُدِّرَ بثلاثة اجزاء من الكحول لكل عشرة آلاف جزء من الدم ـ بالتصرف الغريب. وسبب هذا السلوك هو الشعور بخفة العقل ، وتغير المزاج ، والبطء في الاستجابة للاشياء الخارجية. واذا استمر الفرد في تناوله ذلك الشراب ، فانه سيؤدي به الى فقدان الوعي وتهييج المعدة مسبباً التقيؤ ، وربما الموت في بعض الحالات.

واهم ضرر للكحول هو تأثيره على الجهاز العصبي المركزي للجسم ، خصوصاً الدماغ ، لان كثرة تناوله تسبب فقداناً للتناسق الموجود بين الحواس الخمس في الحالة الطبيعية ، وخصوصاً البصر. ويسبب الكحول ضرراً آخر على جهاز الدورة الدموية ، فيزيد من سرعة دقات القلب ويساهم في توسيع الاوعية الدموية قرب الجلد ، مما يسبب فقداناً لحرارة الجسم ، فيشعر عندها الفرد بحرارة تنبعث من جسده. ويسبب الكحول ايضاً ضرراً بالحامل وجنينها ، فالكحول يؤدي الى التخلف العقلي للجنين


بعد الولادة بالاضافة الى تشوهات جسدية قبلها. وللكحول ايضاً تأثيرات نفسية على الفرد ، حيث يفقد ذلك الفرد السرعة الطبيعية في التحرك ، ومن تأثيراته فقدان اللمس ، وغشاوة البصر ، وقلة السمع ، وانعدام النباهة. ولما كان الكحول مادة كيميائية تؤدي الى ايقاع الكآبة النفسية في الفرد ، فان تناولها يؤدي الى نشوة سرعان ما تنتهي بضيق نفسي ؛ بمعنى ان تناولها لا يؤدي في النهاية الى شعور الفرد بالسعادة ، بل يؤدي الى شعوره بالانقباض ، والعجز عن تأدية المهام الملقاة على عاتقه. واخطر نتيجة للمواد الكيميائية التي تسبب الكآبة النفسية ان تناولها يؤدي بالفرد الى ممارسة سلوك عدواني عنفي خطير. فنصف السجناء في امريكا الذين ارتكبوا جرائم عنف متنوعة يعترفون بانهم ارتكبوها تحت تأثير تناول الكحول. ونصف حوادث السيارات المؤدية الى الموت ناتجة من تأثير الكحول ايضاً (١).

ويرتبط تناول الكحول بصورة مستمرة بامراض وتأثيرات خطيرة تدمر اعضاء الجسم المهمة. ومنها :

اولاً : ان الكحول يساعد على تحفيز افراز الحوامض المعدية المخصصة لهضم الطعام ، فتمزق هذه الحوامض بطانة المعدة والامعاء ، مما يؤدي الى قرحة شديدة في المعدة او الامعاء. وقد تؤدي الى منع البنكرياس من انتاج الانزيمات الخاصة بهضم المواد الغذائية ، فتكون النتيجة التهاب البنكرياس ايضاً.

__________________

(١) المعهد القومي للشرطة والعدالة القضائية : الكحول والجريمة. واشنطن دي سي : وزارة العدل الامريكية ، ١٩٧٦ م.


ثانياً : ان الكحول ليس مادة غذائية تبني الجسم ؛ بل انها في الواقع مادة تحرم الجسم من المواد الغذائية الاساسية. فالكحول يحتوي على سعرات حرارية لانتاج الطاقة فقط ، فيؤدي تناوله الى نقص كمية الفيتامينات التي ينبغي تناولها في الحالة الطبيعية ؛ ويساهم ايضاً في اضطراب الجهاز الهضمي ، لان الجسم يصبح عاجزاً الى درجة ما في هضم المواد الغذائية المتناولة ، ويساهم ايضاً في الاخلال في التوازن الطبيعي بين الغذاء المتناول والمهضوم بسبب التقيؤ والاسهال وفقدان الشهية.

ثالثاً : ويعتبر الكبد هدفاً رئيسياً لتأثير المادة الكحولية ؛ لان الكبد جهاز خاص مصممّ لطرد السموم من الجسم الانساني ، فاذا تعطل عمل هذا الجهاز بسبب الادمان تحطمت مناعة الجسم الطبيعية وقابلية على طرد السموم. ولذلك فان ( تشمع الكبد ) وهو من الامراض المزمنة يعتبر من اخطر تأثيرات تناول الكحول على ذلك الجهاز ، حيث تتبدل خلايا الكبد الطبيعية بخلايا اخرى متقرّحة. وربما يؤدي تأثير الكحول الى تورم خلايا الكبد والتهابها. وكل هذه الامراض تؤدي في النهاية الى الموت.

رابعاً : تاثير الكحول على القلب والدورة الدموية واضح. ونتيجة لتناوله فانه يسبب امراضاً يصعب الشفاء منها كامراض الشرايين التاجية ، والسكتة القلبية ونحوها.

خامساً : ان هناك تأثيراً للكحول على نظام الغدد الجسمية التي تنظم حالات المزاج والنشاط الجنسي للفرد. فالادمان على الكحول يؤدي الى العنن وهو عدم القدرة على الجماع ، ويقلل من افراز كمية الهورمونات الجنسية في جسم الرجل ، والى تبكير سن اليأس عند المرأة.


سادساً : وللكحول تأثير خطير على الجهاز العصبي المركزي ، وخصوصاً على الذاكرة الشخصية ، وعلى تناسق عمل الحواس الخمس ، وعلى الاستجابة للحوافز الخارجية. ويولد تناوله ايضاً اضطرابات شديدة في الجانب العاطفي للانسان ، مما يؤدي الى الضيق والكآبة النفسية التي ذكرناها سابقاً. بل ان نسبة الانتحار بين المدمنين على الخمر ، اكثر ثلاثين مرة من نسبتها بين الافراد الاصحاء الذين لا يقربون المادة الكحولية اصلاً.

وبالاجماع ، فان تناول قطرة من الكحول يفتح فرصاً واسعة للادمان. واذا ادمن الفرد على تناولها ، فقد اوقع نفسه في وضع تترتب عليه نتائج خطيرة على صعيد العمل الانتاجي ، والحياة العائلية ، والحياة الاجتماعية بشكل عام. فالفرد لا يحتاج الى ان يصبح مدمناً الاّ الى كمية قليلة من الكحول في البداية ، والى ظروف واجواء مناسبة تشجعه على التناول دون رادع قانوني او شرعي. وليس غريبا ان نلاحظ ردع الشريعة القطعي على تناول القليل منه ، لانه يؤدي الى الادمان الذي لاحظنا اثره الروحي والاجتماعي السلبي على الافراد.

ولذلك ، كان لتحريم الاسلام للخمر بالاضافة الى جانبه التعبدي ، ابعاده الاجتماعية الخطيرة تجاه استقرار النظام الاجتماعي على الاصعدة الشخصية والعائلية والاقتصاية والاخلاقية.

ج ـ الحيوانات المحرم اكلها بالواسطة :

وهي الحيوانات التي كانت حلالاً بالاصل ولكن طرأ عليها طارئ


حرّم اكلها. ومنها الحيوان الجلاّل ، وهو الذي يتغذى على عذرة الانسان خاصة دون أن يشرك معهما غيرها من العلف لفترة كافية حتى ينبت عليها لحمه. وقد ورد تحريم اكلها. ويُزال الجلل بالاستبراء وذلك بمنع الحيوان عن اكل النجاسة واعلافه علفاً طاهراً لفترة حتى ينبت اللحم الطاهر. ومنها : وطء انسان منحرف دابة. والحكم في هذه الحالة ، جلد الفاعل دون الحد ، وتغريمه قيمتها لصاحبها ، لانه افسدها عليه ، وتذبح الدابة وتحرق. ومنها : شرب الحيوان من لبن الخنزيرة ، حتى نبت لحمه وقوى عظمه ، فيحرم هنا اكل لحم الحيوان الشارب ولحم نسله.

والمدار في كل هذه الحالات ان النجس بالاصل والنجس بالواسطة ( المتنجس ) حرام اكله وهو من القطعيات بالاجماع ، ان لم يكن من الضرورات.

د ـ الحيوانات المحرم اكلها بالذات المحلل اكلها بالواسطة :

وهو اكل الميتة وقت الاضطرار ، لقاعدة ان الضرورات تبيح المحظورات. فقد اعلن الاسلام ان الاصل في احكام الشريعة ، اليسر والسعة وعدم الضرر ونفي الحرج ، لقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١). وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ) (٢). وقوله : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٨٥.


رَحِيمٌ ) (١). والمروي عن رسول الله (ص) : ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) (٢). وما ورد في رواية علي بن مهزيار عن الامام ابي الحسن العسكري (ع) : ( ... وكلما غلب الله عليه فهو اولى بالعذر ) (٣).

والمضطر ، حسب تعبير الفقهاء هو « الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم او يخشى حدوث المرض او زيادته ، او انه يؤدي الى الضعف والانهيار ، او يخاف الضرر والاذى على نفس اخرى محترمة ، كالحامل تخاف على حملها ، والمرضعة على رضيعها ، او اكرهه قوي على أكل او شرب المحرم ، بحيث اذا لم يفعل آذاه في نفسه ، او في ماله ، او في عرضه وشرفه » (٤). وقد اشتهر بين الفقهاء بان « الضرورة تقدر بقدرها » ويدل عليه قوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥). وورد ايضاً في خبر المفضل عنه (ع) بان الله اباح للمضطر من الحرام في الوقت الذي لا يقوم بدنه الاّ به ، ( فأمره ان ينال منه بقدر البلغة لا غير ) (٦). وعلى صعيد آخر ، فان المضطر يستطيع التناول من مال غيره لدفع الهلاك ، لان الاضطرار يسقط الخطاب التكليفي لا الخطاب الوضعي. و « لو اضطر الى طعام الغير وليس له الثمن ، وجب على صاحبه الحاضر غير المضطر اليه بذله ، لان في الامتناع اعانة على قتل المسلم ، وقد قال (ع) : ( من اعان على

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٢٤٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٢٠.

(٤) المسالك ـ باب الاطعمة والاشربة.

(٥) البقرة : ١٧٣.

(٦) الوسائل ـ باب ١ من ابواب الاطعمة المحرمة حديث ١.


قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينه آيس من رحمة الله ) ولانه يجب عليه حفظ النفس المحترمة ولو لغيره » (١).

٢ ـ التدخين والمخدّرات

وندرسها على الصعيدين الشرعي والتجريبي.

اولا ـ التدخين والمخدرات : الناحية الشرعية :

ولا يوجد في النص دليل على تحريم التدخين بوجه عام ، ولكن القواعد تبين بان كل ما كان ساما فهو حرام لمكان الضرر ، وما عداه يندرج تحت القاعدة الفقهية التي تقول « كل شيء لك حلال حتى تعلم حرمته ». والمعتد به عند العقلاء ان التدخين الشديد بكل انواعه مضر بالجسم ، وعليه فان الحرمة مرتبطة بالضرر.

اما المخدرات فان العلوم الحديثة قد قطعت باضرارها على عقل وجسم الانسان ، بل لا يستبعد درجها علمياً تحت عنوان السموم. ولا شك ان تحريمها واضح لمكان الضرر الحتمي على الفرد جسمياً وعقلياً. وقد بينا سابقاً ان قول الرسول (ص) : ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) (٢) يعتبر دليلاً قاطعاً على حرمة تناول اي شيء يضر بالانسان ، ويعضد ذلك قول الامام الصادق (ع) : ( كل شيء يكون فيه المضرة على الانسان في بدنه وقوته

__________________

(١) الجواهر : ج ٣٦ ص ٤٣٣.

(٢) من لا يحضر الفقيه : ج ٤ ص ٢٤٣.


فحرام اكله الاّ في حال الضرورة ) (١). وبطبيعة الحال ، فان قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢) هو الفصل في تحريم تناول كل ما يسبب ضرراً معتداً به على جسم الانسان. فالاصل اذن ، ان كل ما يعد فعله ضرراً وتهلكة في نظر العرف فهو حرام ، حتى لو كان الضرر محتملا ًعند العقلاء.

ثانيا ـ التدخين : الناحية التجريبية :

ولا يشك احد ان التدخين عادة غربية جاءت من اوروبا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كجزء مهم من العادات الغربية التي حاولت الرأسمالية نشرها في العالم. فمع بداية التصنيع الحديث الذي انتشر في اوروبا في القرن التاسع عشر ، اصبحت صناعة السجائر من الصناعات الرئيسية التي تدر ارباحاً هائلة على المؤسسات الرأسمالية. ففي بداية القرن العشرين كان التدخين منحصراً بالطبقة المتوسطة من رجال النظام الاجتماعي ، ثم انتشر في العشرينات من نفس القرن بين المثقفين ورجال الاعمال ، واصبح التدخين في الاربعينيات جزاءًا مهماً من الشخصية الحضارية الغربية ؛ بمعنى ان شركات التدخين نجحت في خلق انطباع عام لدى الافراد يعكس فكرة تقول بان الذي يشعل سيجارة بيديه ويدخنها يعتبر فرداً متحضراً ، مثقفاً ، ومن طبقة معتبرة في النظام الاجتماعي.

ومن اجل استدرار اكبر كمية من المال ، بدأت الشركات الصناعية التي تنتج وتصنّع التبوغ باضفاء صورة لامعة وبراقة على التدخين ، فاصبحت الصحافة ووسائل الاعلام المطية التي تنفذ اهداف هذه الشركات

__________________

(١) تحف العقول : ص ٣٣٧.

(٢) البقرة : ١٩٥.


الرأسمالية في تسويق التبوغ والسجائر. فاصبح المدخّن الرجل المثالي او المرأة المثالية في النظام الاجتماعي ، كقائد الطائرة ، والطبيب ، والممرضة ذات الوجه الحسن ، وسائق الدبابة ، ورجل الفن ونحوهم. وامام هذا التشويق الاعلامي نحو التدخين جنح اكثر من نصف افراد النظام الرأسمالي في منتصف الستينيات من القرن العشرين نحو ممارسة التدخين. ولكن بسبب الامراض الخطيرة التي احدثتها هذه العادة الخطيرة ، وتأثير ذلك على الطاقة الانتاجية للافراد ، بدأت الحكومات الرأسمالية بالتلويح بمخاطر هذه العادة السيئة فاعتبرتها من اكثر الاسباب المؤدية الى الموت في المجتمع الصناعي.

والسبب في ذلك ، ان التبغ يحتوي على مادة سامة تدعى النيكوتين. فعندما يبتلع المدخن دخان سيجارته ، ينتقل النيكوتين خلال الاغشية الرقيقة للرئة الى مجرى الدم. وبواسطة جريان الدم في شرايين الجسم ، تنتقل حوالي ربع كمية النيكوتين الموجودة في الدم الى الدماغ ، فتتحفز خلاياه للاستجابة لهذه الكمية الواردة من النيكوتين. وعندها يفرز الدماغ مواداً كيميائية جديدة تساهم في ازدياد دقات القلب وزيادة ضغط الدم. وتذهب بقية المادة النيكوتينية الى بقية خلايا الجسم ، ومنها الجهاز الهضمي والامعاء والغدة الادرينالية ، مسببة افراز مواد كيميائية اُخرى مضرة بالخلايا الجسمية.

ويرجع سبب الادمان على التدخين ، الى ان خلايا الدماغ تتعود على استلام كمية النيكوتين المخصصة في عملية التدخين. فاذا توقف الفرد عن ممارستها ، انخفضت نسبة الكيميائيات المحفزة في الدماغ ، وهذا يحفر الدافع الذاتي للفرد للتدخين مرة اُخرى حتى يستطيع الدماغ رفع كمية


المادة الكيميائية الى مستواها الجديد مرة اُخرى.

ولا شك ان الاصل في ضرر التبغ هو المواد السامة فيه ، والتي تدخل جسم الانسان عن طريق الاغشية الموصلة الى جهاز الدورة الدموية ، كما ذكرنا ذلك سابقاً. واهم هذه المواد السامة بعد النيكوتين هو غاز ( اول اوكسيد الكاربون ) الذى يزاحم الكريات الدموية ، عند ابتلاع الدخان ، على حمل الاوكسجين ، مما يسبب ضرراً على الدورة الدموية وما فيها من قلب وشرايين. وقيل ايضاً ان ( اول اوكسيد الكاربون ) يساعد على احتمال تعرض الفرد للسكتة القلبية والشلل في الدماغ. والمادة السامة الاخيرة هي المادة الصلبة التي تحوي على كمية قليلة من مادة القطران والبينزبرين وهي المسؤولة عن تسبيب سرطان الرئة.

ويمكن تلخيص ضرر التدخين الشديد على الفرد بعبارة تقول ان التدخين يربط الانسان بالموت. فهو احد اهم المسببات العشرة للموت الذي جلبته الحضارة الصناعية الحديثة. فهو يؤثر على المرأة الحامل وعلى جنينها في الاسقاط وفي تشويه خلقة الجنين ؛ ذلك ان ( اول اوكسيد الكاربون ) يقلل من فرص وصول الاوكسجين الى الجنين ، وبالتالي يقلل من حجم ووزن ذلك الكائن الصغير مما يسبب تأثيراً فيزيائياً على النمو العقلي والسلوكي للطفل لاحقاً.

ومع ان ضرر التدخين واستخدام السجائر واضح طبياً خصوصاً منذ اختراع ماكنة تصنيع التبغ سنة ١٨٨١م ، ومع ان الحملة الاعلامية ضد التدخين في الانظمة الاجتماعية الرأسمالية اصبحت اكثر شراسة ، الا ان شركات التبغ العملاقة لاتزال تنتج ٦٠٠ بليون سيجارة في السنة ، اكثرها


يصدر الى دول العالم الثالث ؛ لان النظام الرأسمالي ، عن طريق تشجيع التدخين بين دول العالم الاسلامي ، يحاول جاهداً قطف ثلاث ثمار لصالحه. : الاولى : ان الاموال الواردة من بيع هذه الكمية الضخمة من التبوغ المصنّعة تدخل جيب الطبقة الرأسمالية الغربية. الثانية : تقليل انتاجية افراد العالم الثالث عموماً ، وافراد العالم الاسلامي بالخصوص عن طريق نشر الامراض الناتجة عن التدخين ، كامراض السرطان ونحوها. الثالثة : تخريب المستوى الصحي العام فيها حتى تكون تلك المجتمعات مسرحاً لاستيراد الادوية المصنعة في الدول الرأسمالية الغربية نفسها.

٣ ـ السواك وتطهير الفم

والسواك من المستحبات الاكيدة التي امر بها الشرع ولكن لم يوجبها خشية ان يشق على الاُمة. وقد وردت فيه احاديث كثيرة تحبيباً لتلك العملية وتشجيعاً على ممارستها مراراً في اليوم والليلة. وكيفية ان يستاك بخشب الاراك او غيره من قضبان الاشجار مما يخشن ، ووقته عند كل صلاة وعند كل وضوء وعند تغير نكهة الفم بالنوم ، او أكل ما يكره رائحته. ومن الاحاديث الواردة فيه ، حديث رسول الله (ص) : ( ان افواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك ) (١) ، و ( لولا ان اشق على اُمتي لامرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة ) (٢) ، و ( مالي اراكم تدخلون علي قلّحاً استاكوا ) (٣) ،

__________________

(١) المحاسن للبرقي : ص ٥٥٨.

(٢) الكافي : ج ٣ ص ٢٢.

(٣) الكافي : ج ٦ ص ٤٩٦.


والقلح صفرة تعلو الاسنان. وقوله (ص) : ( لكل شيء طهور وطهور الفم السواك ) (١) ومن طرق اهل السنة : « ان السواك سنة مؤكدة لمواظبته (ص) عليه ليلاً ونهاراً وقام الاجماع على كونه مندوباً حتى قال الاوزاعي هو شطر الوضوء. وقد جاءت احاديث كثيرة تدل على مواظبته (ص) عليه ولكن اكثرها فيه كلام ، واقوى ما يدل على المواظبة وأصحّه محافظة (ص) له حتى عند وفاته » (٢). وفي الرواية عن ابن عباس « قال : ( بت عند النبي (ص) فاستن ). وقوله فاستنّ من الاستنان وهو الاستياك وهو دلك الاسنان وحكها بما يجلوها مأخوذة من السن وهو امرار الشيء الذي فيه خشونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به الحديد ونحوه » (٣).

وبطبيعة الحال ، فان الهدف من السواك واضح ، وهو تطهير الفم عموماً ، والاسنان بالخصوص. ولا ريب ان تأكيد العلم الحديث على تنظيف الاسنان بالفرشاة مأخوذ بالاصل من التعليمات الاسلامية. ولكن الطريقة الحديثة في تنظيف الاسنان باستخدام الفرشاة تعجز عن مواكبة نظام المسواك الاسلامي الطبية لسببين. الاول : ان مادة الفرشاة غالباً ما تصنع من المواد البلاستيكية وهي مادة صناعية تخدش طلاء الاسنان وتضر بخلايا اللثة المتصلة بها. والثاني : ان معاجين السنان الحديثة لا تستطيع قتل البكتريا المرضية المتراكمة على الاسنان ، بل ان هذه المعاجين لا تستطيع في احيان كثيرة تبديل لون الاسنان من القلح او الصفرة نحو

__________________

(١) علل الشرائع للصدوق : ج ١ ص ٢٢٧.

(٢) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني الحنفي : ج ١ ص ٩٥٤.

(٣) عمدة القاري : ج ١ ص ٩٥٣.


البياض. ولكن من المؤكد انها تعطي الفم رائحة عطرة وطعماً محبباً للنفس. على الجانب الآخر ، فان اخشاب السواك مادة طبيعية تتعامل معها خلايا الجسم الانساني تعاملاً رقيقاً كما تتعامل مع الاغذية الطبيعية في الهضم والامتصاص. اما من الناحية العملية فهي اقدر على تبييض الاسنان وتطهير الفم تطهيراً طبيعياً ، فتجنب الفرد المشاكل الصحية التي يبتلى بها لاحقاً في حياته العملية.

ولو كانت الفرشاة الحديثة قادرة على قتل الجراثيم كلياً في الفم ، لما خصص العلم الحديث جهوداً جبارة لتطوير علم طب الاسنان الذي يتعامل بالدرجة الاولى مع الاسنان من خلال التنظيف واملاء الفجوات والتجاويف التي يتركها تناول الطعام والبقايا التي تعلق بالاسنان ، ويقوم ايضاً بقلع الاسنان المنخورة وعمل الجسور الصناعية.

ولم يتوقف الاسلام في الحث على تنظيف الاسنان على السواك ، بل حبب التخلل ايضاً. فقد وردت احاديث عديدة في التخلل بعد تناول الطعام والتخلل غير السواك. فعن طريق التخلل يزيل الفرد بقايا الطعام العالقة بين الاسنان. فقد جاء في الحديث عنه (ص) : ( تخللوا على اثر الطعام فانه مصحة للفم والنواجذ ) (١) ، والنواجذ هي آخر الاضراس. ولعل ثمرة هذا الحديث تظهر عمليا باجتناب الفرد امراض اللثة وتنخر الاسنان. ولا شك ان انتباه العلم الحديث للتخلل جاء متأخراً ، حيث نشط الحث الطبي على استعمال الخيوط المشمعة لتنظيف الاسنان في النصف الاخير من القرن العشرين.

__________________

(١) مكارم الاخلاق : ص ١٧٥.


والخلاصة ان استعمال السواك والتخلل من الناحية الوقائية يوفر على النظام الصحي جهوداً جبارة في اجتناب امراض الفم عند الافراد. فلو تم تدريب الاطفال على استعمال المسواك والتخليل منذ الصغر لجنب ذلك ، العلم الطبي ، العديد من الامراض المذكورة التي لا يعالجها استعمال الفرشاة البلاستيكية والمعاجين الكيميائية. ولكن النظام الصحي المعمول به اليوم ، خصوصاً فيما يتعلق بصحة الاسنان ، يدر على المؤسسة الصناعية الكثير من الثروات لان تجارة طب الاسنان مع ما فيها من اطباء وادوية ومعاجين كيميائية تعد من انجح الصناعات في النظام الصناعي الحديث.

وخير خاتمة نختم بها الحديث حول المسواك ، ما روي عن الامام الصادق (ع) قوله : ( ان المسواك نبات لطيف نظيف وغصن شجر عذب مبارك ، والاسنان خلق الله تعالى في الفم ، آلة للاكل واداة للمضغ وسبباً لاشتهاء الطعام واصلاح المعدة ، وهي جوهرة صافية تتلوث بصحبة تمضيغ الطعام وتتغير بها رائحة الفم ويتولد منها الفساد في الدماغ ، فاذا استاك المؤمن الفطن بالنبات اللطيف ومسحها على الجوهرة الصافية ازال عنها الفساد والتغير وعادت الى اصلها ) (١) ولابد من التأكيد مرة اخرى على ان الدولة الاسلامية مكلًّفة بان تقدم للعالم نموذجا رائعا من نماذج الطب الوقائي الاسلامي الخاص بالاسنان وتحاول تطويره بشتى الوسائل الحديثة.

__________________

(١) مصباح الشريعة ـ الباب الثامن والخمسين ص ١٢٣.


٤ ـ النوم وآدابه

ذكرنا آنفاً ان الارق والقلق النفسي يعتبران في النظام الصحي الرأسمالي ، مشكلة طبية تستدعي علاجاً يقوم على اساس الدواء الكيميائي. ولما كانت الحياة المبنية على التنافس الاقتصادي مصحوبة دائماً بالصراع النفسي والصخب والكدح المستند على حيازة اكبر قدر ممكن من المادة ، فان الارق يصبح داء الفرد الرأسمالي لان الاثارة التي تجلبها الحياة الصناعية لبعض الافراد تسلب عن اعينهم النوم. واذا ادخلنا عملية تطبيب النظام الاجتماعي التي يسعى نظامه الصحي فرضها على المجتمع ، اصبح واضحاً لدينا ان الارق في الحضارة الحديثة يعتبر اليوم مرضاً توليه المؤسسة الرأسمالية اهتماماً واسعاً ، وتزعم ان علاجه لا يتم الاّ عن الطريق الكيميائي.

اما في الاسلام ، فان النوم وآدابه جاء ضمن اطار الحديث عن القضايا التعبدية. فقد حببت الشريعة للمكلفين السكن والخلود من ضجيج النهار واتعابه ، كما جاء في النص المجيد : ( وَجَعَلنا نَومَكُم سُباتاً ، وَجَعَلنا اللَّيلَ لِباساً ) (١) ، وخصصت جزءاً من الليل للعبادة وجزءاً آخر للنوم كي يسترد الجسم عافية ، واعتبرت النوم عبادة يجازى عليها المكلف ايضا ، ولكن بشرطين ، الاول : ان يكون الفرد على طهارة قبل الخلود للنوم. والثاني : ان يذكر الله تعالى في كلّ موضع يتقلب فيه في مخدعه.

وقد ذكر الفقهاء آداباً للنوم ننتخب منها ما يناسب هذا الكتاب.

اولاً : الطهارة والسواك ، فقد ورد عن ابي عبد الله (ع) : ( من تطهر ثم

__________________

(١) النبأ : ٩ ـ ١٠.


اوى الى فراشه بات وفراشه كمسجده فان ذكر انه على غير وضوء فليتيمّم من دثاره وكائنا ما كان لم يزل في صلاة ما ذكر الله تعالى ) (١). وقد « كان رسول الله (ص) اذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. قال الخطابي : الشوص دلك الاسنان عرضاً بالسواك. وفي حديث آخر عن احدى زوجاته : كنا نعد لرسول الله (ص) سواكه وطهوره فيبعثه الله ما يشاء ان يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي » (٢).

ثانياً : ان لا ينام ما لم يغلبه النوم ، وفي الخبر : « لا تكابدوا الليل » اي لا تغالبوا انفسكم على النوم.

ثالثاً : التعود على عدم الاطالة في النوم ، كما ورد في خطبة أمير المؤمنين (ع) في وصف المتقين انهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون.

رابعاً : الدعاء عند النوم ، كما يستفاد من صحيحة محمد بن مسلم قال : قال لي ابو جعفر (ع) : ( اذا توسد الرجل بيمينه فليقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم اني اسلمت نفسي اليك ، ووجهت وجهي اليك ، وفوضت امري اليك ، وألجأت ظهري اليك ، وتوكلت عليك رهبة منك ورغبة اليك ، لا ملجأ ولا منجا منك الاّ اليك ، آمنت بكتابك الذي انزلت وبرسولك الذي ارسلت ) (٣). وما يستفاد من الرواية ما كان يقوله رسول الله (ص) عند النوم : ( لا اله الاّ الله الواحد القهار رب السموات والارض وما بينهما العزيز الغفار ).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٢٣.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ج ١ ص ٣٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٢٣.


خامساً : ان لا يبيت الاّ ووصيته مكتوبة عنده ، كما هو المنقول عن الامام الصادق (ع) : ( الوصية حق على كل مسلم ) (١).

سادساً : ان ينام تائباً من كل ذنب.

ولا ريب ان هذا العلاج النفسي الذي تفتر اليه النظرية الغربية يشجع الفرد على الخلود للنوم مستغنياً عن كل الادوية الكيميائية. وعند الصباح ، يقوم هذا الفرد منطلقاً الى عمله الدنيوي وهو اشد نشاطاً واقوى تصميماً على تفجير طاقاته الجسدية والفكرية لخدمة الاُمة والدين والنظام الاجتماعي.

ملحق : دعاء الامام علي بن الحسين (ع) وقت صلاه الليل

وتأدية صلاة الليل بخشوع واطمئنان اضافة الى شكلها التعبدي ، تساعد على اطمئنان الفرد ، نفسياً ، وتساهم في خلوده للنوم. واليك جزءاً من دعائه (ع) في جوف الليل اذا هدأت العيون :

« إلهي غارت نجوم سمائك ، ونامت عيون انامك ، وهدأت اصوات عبادك وانعامك ، وغلقت ملوك بني اُمية عليها ابوابها ، وطاف عليها حراسها ، واحتجبوا عمن يسألهم حاجة ، او ينتجع منهم فائدة ، وانت الهي حي قيوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، ولا يشغلك شيء عن شيء ، ابواب سمائك لمن دعاك مفتّحات ، وخزائنك غير مغلقات ، وابواب رحمتك غير محجوبات ، وفوائدك لمن سألكها غير محظورات بل هي مبذولات. وانت

__________________

(١) الكافي : ج ٧ ص ٣.


الهي الكريم الذي لا ترد سائلاً من المؤمنين سألك ، ولا تحتجب عن احد منهم ارادك ، لا وعزتك وجلالك ، لا تختزل حوائجهم دونك ، ولا يقضيها احد غيرك ، اللّهم وقد ترى وقوفي وذل مقامي بين يديك وتعلم سريرتي وتطلع على ما في قلبي ، وما يصلح به أمر آخرتي ودنياي ... ».

وكان (ع) يسجد بعد هذا الدعاء ويلصق خده بالتراب وهو يقول : « اسألك الروح والراحة عند الموت والعفو عني حين القاك » (١).

٥ ـ الطهارة المائية

ولا ريب ان الطهارة المائية التي امرت الشريعة بتأديتها على الصعيد الفردي تعتبر اضافة الى صورتها التعبدية ، وسيلة من وسائل الوقاية الصحية ، فقد ورد عن رسول الله (ص) : ( بني الدين على النظافة ) ، وان ( الطهور شطر الايمان ) (٢). فطهارة الخبث وما يتعلق بها من ازالة البول والغائط والدم والمني بالماء المطلق ، مهمة من الناحية الوقائية. وتفصيلها ان النجاسة اذا كانت حكيمة ، وهي التي ليس لها جرم محسوس ، يكفي اجراء الماء على جميع مواردها. وان كانت عينية فلابد من ازالة العين.

وفي طهارة الحدث ، ثلاثة اعمال واجبة هي الوضوء والغسل والتيمم. فموجبات الوضوء البول ، والغائط ، والريح ، والنوم ، والاستحاضة القليلة. وموجبات الغسل انزال المني ، وايلاج الحشفة ، والحيض ، والنفاس ،

__________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : ص ١١٤.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ج ١ ص ٤٢.


والاستحاضة المتوسطة والكثيرة ، ومس الميت بعد البرد وقبل الغسل. وموجبات التيمم فقدان الماء بعد طلبه لمانع ، او كونه مريضاً ، او في ضيق من الوقت لاداء واجب.

وفي الشريعة تفاصيل آداب قضاء الحاجة ، وكيفية الاستنجاء وآدابه ، وكيفية الوضوء وآدابه وسننه ، وكيفية الغسل والتيمم ، كيفية دخول الحمام وآدابه. ولا شك ان تأكيد الاسلام على الطهارة المائية كقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) (١) ، لها صورتان الاولى : الصورة التعبدية. والثانية صورة من صور الطب الوقائي الذي اكدت عليه الشريعة بشتى الطرق وبمختلف الاساليب.

٦ ـ الطهارة العامة

واجمع الفقهاء على ان الشمس تطهر الارض وما عليها. والارض تطهر باطن النعل بدليل ما ورد عن الامام الصادق (ع) : ( الارض يطهر بعضها بعضاً ) (٢) ، وذلك لاستحالة النجاسة بالوطء مرات عديدة. وعملية ( الاستحالة ) تطهر الاعيان النجسة ومثالها استحالة الميتة الى تراب. وعملية ( الانقلاب ) تطهر الاعيان النجسة ايضاً ومثالها انقلاب الخمر الى خل.

__________________

(١) الاعراف : ٥٧.

(٢) الكافي : ج ٣ ص ٣٨.


ولم يقتصر تأكيد الاسلام على التطهير من الخبث بل تعدى الى النظافة عن الفضلات الطاهرة مثل الاوساخ والرطوبة المترشحة من جسم الانسان كتنظيف شعر الرأس ودهنه ، وتنظيف الاذنين ، وما يجتمع في داخل الانف ، وما يتجمع على الاسنان ، وتنظيف اللحية والاستحداد بالنسبة للرجل ، والختان بقطع غلفة الحشفة للمولود الذكر. والتمشيط والاختضاب ، وتقليم الاظفار بالنسبة للرجل والمرأة.

٧ ـ الصيام واحكامه

والصيام شرعاً هو الامساك عن الاكل والشرب والوطء في زمن مخصوص ، يبتدئ بطلوع الفجر وينتهي بالغروب ، مشروطاً بنية التقرب الى الله وطاعة وامتثال امره. وليس هناك ادنى شك من ان الصورة التعبدية للصيام الاسلامي مرتبطة بالصورة الصحية والعلاجية ؛ لان الصيام الطبي المشابه للصيام الاسلامي ، يعالج معالجة وقائية العديد من الامراض المختصة بالجهاز الهضمي وجهاز الدورة الدموية وجهاز العصبي. وما احكام الصيام الشرعية التي سنتناولها بشيء من التفصيل ، الاّ اطار قانوني لنظام محكم نحاول بكل جهد فهم ابعاده الطبية.

وينقسم الصوم الى اربعة اقسام : واجب ، كصوم شهر رمضان وقضائه ، ومحرم كصوم العيدين وايام التشريق لمن كان في منى وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث من ذي الحجة ، ومندوب كصوم الايام البيض من كل شهر وهي من الثالث عشر وحتى الخامس عشر ، ومكروه


كصوم ثلاثة ايام بعد العيد.

والنية ، وهي الاستعداد النفسي للقيام بالعمل ، شرط في صحة الصوم ووقتها من اول الفجر او قبله ، وحتى نهية الصيام وقت المغرب الشرعي ، لاشتهار قول النبي (ص) : ( لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل ). واستثى الفقهاء ـ لروايات اخرى ـ صحة الصوم ـ مع تأخر النية فيها عن الفجر ـ في بعض الموارد الاخرى ، الخارجة عن نطاق هذا الكتاب.

وحددت الشريعة وقت الصوم من الفجر حتى الليل لقوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١).

ووضعت شروطاً لصحة الصوم من المكلف وهي العقل ، والخلود من الحيض والنفاس ، وعدم المرض وعدم السفر. واستثنت المسافر اذا كان سفره لمعصية ، او كانت مهنته السفر ، او نوى الاقامة عشرة ايام ، او بعد ان تردد ثلاثين يوماً في مكان واحد او غير ذلك. فعلية الصوم في كل هذه الاحوال.

ويجب على الصائم الامساك عن المفطرات وهي : الاكل ، والشرب ، والوطء ، والاستمناء ، وغمس الرأس في الماء ، وايصال الغبار الغليظ الى الحلق ، والاحتقان بالمائع ، وتعمد القيء ، والبقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر.

واذا تناول الصائم شيئأً من المفطرات في شهر رمضان ، ينظر فاذا كان سهواً او اكراهاً فلا شيء عليه ؛ لان وجوب الامساك عن المفطرات انما هو

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.


الامساك عن ارادة واختيار ؛ والمكره مسلوب الارادة والاختيار. اما الناسي فلا شيء عليه لانه غير مسؤول. واذا تناول المفطر عمداً وبدون اكراه فعليه الكفارة المخيرة بين عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو اطعام ستين مسكيناً ، وقضاء ذلك اليوم. واذا افطر على الحرام في النهار فعليه كفارة الجمع.

وتجب الكفارة دون القضاء في موارد :

١ ـ اذا كان الصوم مشقة للشيخ والشيخة الطاعنين في السن ، فلهما الافطار وعليهما الكفارة فقط ، وهو اطعام مسكين لكل يوم.

٢ ـ اذا مرض المكلف في شهر رمضان ، واستمر به المرض الى شهر رمضان القادم فلا قضاء عليه ، ولكن يكفر بمد عن كل يوم. ومن به داء العطاش وهو احد اعراض مرض السكري ، فانه يفطر ويكفّر بمُد.

ويجب القضاء دون الكفارة بامور :

١ ـ اذا نسي غسل الجنابة بعض ايام شهر رمضان ، ثم تذكر فعليه قضاء الصلاة والصوم. واذا اجنب في ليلة من رمضان ، ونام على نية الغسل ، ثم انتبه قبل الفجر ، ونام للمرة الثانية ، فعلية القضاء دون الكفارة.

٢ ـ اذا بطل صومه بنية الافطار ، حتى ولم يتناول شيئاً من المفطرات.

٣ ـ اذا تناول المفطر ليلة الصيام دون البحث والنظر بطلوع الفجر ، ثم تبين الطلوع فلابد « من القضاء دون الكفارة ، ويدل عليه ان سائلاً سأل الامام الصادق (ع) عن رجل اكل وشرب بعدما طلع الفجر في شهر رمضان ؟ قال : ( ان كان قد قام فنظر فلم يَرَ الفجر ، فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتم صومه ، ولا اعادة عليه ، وان قام فاكل وشرب ، ثم نظر الى الفجر


فرأى انه قد طلع ، فليتم صومه ، ويقضي يوماً آخر ، لانه بدأ بالاكل قبل النظر فعليه القضاء ) » (١).

٤ ـ اذا تمضمض لغير الوضوء فسبقه الماء ودخل في جوفه ، فانه يقضي ولا يكفّر. واذا تعمد الصائم القيء فانه يوجب القضاء دون الكفارة. واذا سبقه قهراً فلا شيء عليه.

٥ ـ الحائض والنفساء تقضيان الصوم دون الصلاة.

ولا يصوم المريض للنصوص والاجماع والعقل ، لقوله تعالى : ( وَاِن كُنتُم مَرضى اَو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن اَيّامٍ اُخَر ) (٢). وما ورد عن علي بن جعفر في كتابه عن اخيه موسى بن جعفر (ع) قال : سألته عن حد ما يجب على المريض ترك الصوم ، قال : ( كل شيء من المرض اضر به الصوم فهو يسعه ترك الصوم ) (٣). واذا صام المريض معتقداً عدم الضرر فبان العكس فسد صومه ، وعليه القضاء لقوله تعالى : ( وَإِن كُنتُم مَرْضَىٰ ... ) (٤). وفي الرواية عنه (ع) : ( فان صام في حال السفر او في حال المرض فعليه القضاء فان الله عزوجل يقول : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (٥) ) (٦).

واشتهر عن امير المؤمنين (ع) : ( ليس من البر الصوم في السفر ) (٧).

__________________

(١) الجواهر ـ كتاب الصوم.

(٢) النساء : ٤٢.

(٣) التهذيب : ج ١ ص ٤٤٤.

(٤) النساء : ٤٢.

(٥) البقرة : ١٨٤.

(٦) الكافي : ج ١ ص ١٨٥.

(٧) التهذيب : ج ١ ص ٤١٣.


وعن الرضا (ع) في كتابه الى المأمون : ( واذا قصرت افطرت ومن لم يفطر لم يجز عنه صومه في السفر وعليه القضاء ) (١). وذكر الفقهاء « ان كل سفر يوجب قصر الصلاة فانه يوجب الافطار وبالعكس ، باستثناء اربعة موارد : ١ ـ من سافر بقصد الصيد للتجارة ، فانه يتم الصلاة ، ويصوم. ٢ ـ من خرج من بيته مسافراً بعد الزوال يبقى على الصيام ، ويؤدي الصلاة قصراً ، وان لم يؤدها قبل سفره. ٣ ـ من دخل بيته بعد الزوال ، فانه يتم الصلاة ، ان لم يكن قد ادّاها في سفره ، مع العلم بانه مفطر. ٤ ـ من كان في حرم الله ، او حرم الرسول (ص) ، او مسجد الكوفة ، او الحائر الحسيني ، فانه مخير بين القصر والتمام ، ويتعين عليه الافطار » (٢).

ولا شك ان مجرد عرض هذه الاحكام الشرعية للصيام لا يقدم لنا تحليلاً للمعنى الطبي الوقائي ولكنه يقّدم لنا نظاماً شرعياً لهذه العبادة الواجبة التي لها اربعة اشكال متضافرة. الاول : الشكل العبادي ، وهو ارتباط الفرد الصائم بالله سبحانه وتعالى. الثاني : الشكل الطبي وهو الوقاية من الامراض الخاصة بالدورة الدموية والجهاز الهضمي والعصبي. الثالث : الشكل الاجتماعي ، وهو التعاون على الاطعام وصلة الارحام والقربى ، والعبادات الجماعية. الرابع : الشكل الفردي او الشخصي ، وهو تقوية الارادة الداخلية لدى الفرد في مواجهة المشاق المحتمل مواجهتها لاحقاً في حياته العملية.

__________________

(١) عيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق : ص ٢٤٦.

(٢) المسالك ـ كتاب الصوم.


الاستنتاج

ولابد في ختام الحديث عن النظام الوقائي في الاسلام ودوره في منع نشوء الامراض ، من ترتيب النقاط التالية :

اولاً : لما كان الفم الطريق الرئيسي لدخول الطعام الى جسم الانسان حيث تجرى عليه مختلف العمليات الكيميائية من هضم وامتصاص وتمثيل وبناء خلايا ، فان نوعية الطعام الداخل لابد وان تؤثر على سير عمليات الجسم البيولوجية. ولا شك ان بعض المأكولات قد تسبب بشكل مباشر او غير مباشر ، امراضاً تختلف شدّتها وقوة تأثيرها على الاجهزة المختلفة التي تتحد في تسيير دفة حركة الجسم. وعلى ضوء ذلك ، فقد نظم الاسلام نوعية المواد الغذائية المأكولة فحرّم تناول لحوم الخنازير ، والدماء ، والميتة ، ما اُهلَّ لغير الله ، والكلاب ، والسباع ، والمسوخ ، والحشرات السامة ، والطيور المخلبية وغيرها في التفصيل المذكور سابقاً والحيوانات البحرية ، والاسماك التي ليس لها قشور. وحرّم الخمر ، وهو مطلق ما يسكر ، والاعيان النجسة كالابوال ، والسوائل المتنجسة ، وألبان الحيوانات المحرمة. وحرمّ ايضاً كل الحيوانات المحرّم اكلها بالواسطة. والمدار في التحريم قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) ، بمعنى ان اي طعام ينزل ضرراً معتداً به على الفرد يحرم تناوله الا في حالة الاضطرار.

ثانياً : ولم يتوقف الاسلام على تحديد الاطعمة المحرمة ، بل اشار الى حلية الاطعمة المباحة كلحوم البهائم الاهلية مثل البقر والغنم والماعز والابل ، ولحوم البهائم البرية كالغزلان والابقار والماعز والحمير المتوحشة ،


والاسماك ذات القشور وبيوضها ، والطيور بمختلف انواعها شرط ان لا تكون مخلبية وان يكون دفيفها اكثر من صفيفها وان تكون لها حواصل وقوانص وصيص كالحمام والدجاج والدراج والبط والكروان والعصافير ونحوها. ولما كانت اللحوم من اهم مصادر البروتينات التي لها علاقة مهمة ببناء الخلايا الجسمية ، فان حليتها قضية حتمية ، لان الفرد يصعب عليه ان يحيا على النباتات فقط دون مصدر بروتيني غني كاللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء. ولا شك ان حلية تناول الخضار والثمار وكل ما ينفع الجسم الانساني من مواد غذائية ، واضحة ولا تحتاج الى مزيد من التفصيل.

ثالثاً : الاعتدال في تناول الاطعمة المحللة ، وضرورة التركيز على نوعية الطعام لا كمية. فقد اوصى الاسلام بتقليل كمية الاطعمة الداخلة الى جسم الانسان ، والاقتصار منها على ما يقيم صلب الانسان. وأوصى بالاعتدال في تناول اللحوم ، وضرورة طبخها جيداً. واهتم بضرورة تناول الخبز بسبب احتوائه على المواد الكاربوهيدراتية التي تمنح الجسم الطاقة ، والخضار المطبوخة ، والفاكهة وخصوصاً التمور ، ومنتوجات الالبان بكافة انواعها واشكالها. وكل هذه المواد الغذائية ، اذا تناولها الفرد باعتدال ، فانها تساعد جسمه على القيام بوظائفه الطبيعية وتساهم في تنظيم الجهاز الهضمي وتنشيط الدورة الدموية وتجنب الفرد امراض المعدة والامعاء وتصلب الشرايين وامراض الكلية والجهاز البولي.

رابعاً : ان الاصل في القاعدة الوقائية الاسلامية ، ان كل ما يعدّ فعله في العرف الاجتماعي ضرراً فهو حرام. فالمخدرات الطبيعية والصناعية التي تسبب ضرراً جسيماً بعقل الانسان ، والسموم الطبيعية ، وما يقطع العلم


بكونه سُمّا يحرم تناوله باي شكل من الاشكال الا في حالة الضرورة.

خامساً : ان قاعدة الاضطرار ، وهي ان الضرورات تبيح المحظورات ، هي من اكمل القواعد الصحية التي استهدفت التيسير والسعة وعدم الضرر ونفي الحرج على الفرد المضطر. ولا شك ان الخوف على تلف نفس الانسان او زيادة المرض او الخشية عليه من الضعف والانهيار ، هو الذي دعا الى تشريع هذه القاعدة العظمية. ولذلك ، فان الشريعة قد اقرت بان الضرورة يجب ان تقدر بقدرها ، بمعنى ان على الفرد وقت الاضطرار تناول المواد الغذائية المحرمة بشكل يؤدي الى اجتناب الضرر فقط ولا يتعدى الى ما دون ذلك. لان الاصل في الاضطرار هو اصلاح الضرر او الفساد المحتمل حدوثه على جسم الفرد ، وليس بناء الجسم على المادة الغذائية الفاسدة المحرمة شرعاً.

سادساً : ومن الواضح ان تأكيد الاسلام على السواك والتخلل ينسجم منطقياً مع دعوته الصحية في الوقاية من الامراض ، خصوصاً ما يتعلق بالفم كامراض اللثة وتسوس الاسنان. ويمتاز خشب الاراك ، المنصوص باستحبابه في السواك ، على احتوائه على رائحة طيبة تطهر الفم من النكهة المتغيرة بالنوم او بالطعام. ولا شك ان السواك والتخلل وتأثيرهما على الاسنان واللثة يعتبران اساس طب الاسنان الوقائي الاسلامي ؛ وما عداهما اساس طب الاسنان العلاجي.

سابعاً : ولا شك ان النوم وآدابه في الاسلام ، يعتبران شكلاً من اشكال التكامل النفسي الذي ينعم به الفرد في المجتمع الاسلامي. فبالاضافة الى اطمئنان الفرد على حياته وعرضه وماله بسبب قانون


العقوبات الاسلامي ، فان الاسلام يتحدث عن النوم باعتباره قضية من القضايا التعبدية. فالطهارة الشخصية وذكر الله والطمأنينة التي تصحب الايمان بالخالق عزوجل تعتبر من اهم ميزات خلود الفرد للنوم ، دون الحاجة الى المواد الكيميائية التي يتناولها الفرد في النظام الرأسمالي لمساعدته على النوم.

ثامناً : وتعتبر الطهارة المائية والطهارة العامة ـ بالاضافة الى صورتهما التعبدية ـ من وسائل الوقاية الصحية ؛ حيث تأمر الشريعة في الطهارة من الخبث كازالة البول والغائط والدم والمني بالماء المطلق ، حكمية كانت النجاسة او عينية. وفي الطهارة من الحدث يجب الوضوء او الغسل او التيمم بالتفصيل المذكور سابقاً. وتعتبر الشمس من المطهرات ايضاً للأرض وما عليها. ولا شك ان تأكيد الاسلام على نظافة الشعر والاذنين والانف والاسنان والاظفار ، وآداب دخول الحمام ونحوه ، والكثير من المستحبات الخاصة بالتنظيف تعتبر من أهم اشكال الطلب الوقائي التي تجنب الفرد الكثير من الامراض المنقولة في الاوسط التي تفتقد الى النظافة والتطهير.

تاسعاً : وبطبيعة الحال ، فان صيام شهر كامل من اشهر السنة القمرية من طلوع الفجر حتى الغروب يومياً ، يعتبر بالاضافة الى صورته التعبدية شكلاً من اشكال الطب الوقائي في معالجة الامراض المختصة بالجهاز الهضمي والدورة الدموية ، وشكلاً من اشكال الطب النفسي في الصبر وتقوية العزيمة والارادة. ويتضافر الشكل الطبي للصيام بالشكل الاجتماعي الذي يشجع الافراد على التآزر والمؤاخاة والتعاون على اطعام الآخرين ، فيضيف بعدا آخراً للاطمئنان الاجتماعي بين الافراد في المجتمع الاسلامي.


ثانياً : النظام الغذائي

ولا يمكن المواظبة على العمل والانتاج وطلب العلم ما لم يقم الفرد باتباع نظام غذائي يبعث فيه كل الوان الطاقة والنشاط والتفكير ، وعليه نبّه رب العزة بقوله : ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) (١) ، وقوله ايضاً : ( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (٢). ومع ان تناول الطعام في نفسه يعدّ امراً ضرورياً ، الا ان الاحاديث الواردة في اهمية تناوله ، اكدت جميعاً على ضرورة تقليل كمية المتناول منه ، واشارت الى اهمية اقتصاره على الاساسيات التي تقوي صلب الفرد وتمنحه النشاط المطلوب ، فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد (ع) قوله : ( قلة الاكل محمودة في كل حال وعند كل قوم لأن فيه مصلحة للظاهر والباطن ) (٣).

وبطبيعة الحال ، فان الاسلام اهتم باخلاقية تناول الطعام ، واعتبر الاسلوب الجمعي في الاكل افضل من الناحية الصحية والاجتماعية من الاسلوب الفردي. فقد ورد في الروايات استحباب تكثير الايدي على الطعام عائلياً او مع ضيوف ، فعن رسول الله (ص) ورد قوله عندما سألوه « انا نأكل ولا نشبع ؟ » : ( اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) (٤) ، وقوله (ص) ايضاً : ( الطعام اذا جمع اربع خصال فقد تم : اذا كان

__________________

(١) المؤمنون : ٥١.

(٢) البقرة : ١٧٢.

(٣) مصباح الشريعة ـ الباب الرابع والثلاثين : ص ٧٧.

(٤) سنن ابن ماجة : رقم ٣٢٨٦.


من حلال ، وكثرت الايدي ، وسمي في اوله ، وحمد الله في اخره ) (١). ولا شك ان العامل الجماعي في تناول الطعام يساعد الفرد نفسياً على حسن هضمه والاستفادة الصحيحة منه.

وورد ايضاً استحباب الدعاء قبل الأكل ، كما جاء عن امير المؤمنين (ع) في قوله لابنه الحسن : ( يا بني لا تطعمن لقمة من حار ولا بارد ، ولا تشربن شربة وجرعة الا وانت تقول قبل ان تأكله وقبل ان تشربه : « اللهم اني اسألك في اكلي وشربي السلامة من وعكه والقوة به على طاعتك وان تلهمني حسن التحرز من معصيتك فانك ان فعلت ذلك أمنت وعكه وغائله » (٢).

وان يأكل باليمين ويبدأ بالملح ويختم به.

ومن آداب الشرب أن يأخذ القدح بيمينه ويقول ( بسم الله ) ويشربه مصّاً ( كما يفعل بالقصبة ) لا عبّاً للروايات. ومص الماء بالقصبة انفع من الناحية الطبية من شرب الماء بالقدح عبّاً.

وورد عن امير المؤمنين (ع) ما يلخص اهمية الالتزام بالنظام الغذائي قوله : ( لا تجلس على الطعام الا وانت جائع ، ولا تقم عن الطعام الا وانت تشتهيه ، وجوّد المضغ ، واذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء فاذا استعملت هذا استغنيت عن الطب ) (٣).

وعن رسول الله (ص) قول في تنظيم كمية الطعام : ( ما ملأ آدمي

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ص ٢٧٣.

(٢) مكارم الاخلاق : ص ١٦٤.

(٣) الخصال : ج ١ ص ١٠٩.


وعاءً شراً من بطن ، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه فان غلبت الآدمي نفسه ، فثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس ) (١).

اذن فان قلة الطعام ، ودرجة حرارته ، وتقديم الملح ، ومص الماء ، والأكل مجتمعاً مع الآخرين ، واطالة الجلوس ، كلها تساهم في تنظيم الجهاز الهضمي ، وتنشيط القلب ، وتجنب امراض المعدة والامعاء وما يتعلق بالجهاز الهضمي والقلب والشرايين وامراض الكلية والجهاز البولي.

ومن أجل فهم مقاصد الشريعة في رسم صورة النظام الغذائي الاسلامي ، لابد لنا من دراسة آداب المائدة ، واستحباب تناول الحبوب والفاكهة والخضار ، والاعتدال في تناول اللحوم المحلل أكلها ، والتذكية الشرعية ، والنظام الشفائي في العسل.

١ ـ اداب المائدة

فقد ورد الى ما يشير تنظيم الاسلام للمائدة الغذائية والتأكيد على آدابها ، كما في الرواية المنقولة عن الامام الحسن بن علي (ع) : ( في المائدة اثنتا عشرة خصلة يجب على كل مسلم ان يعرفها ؛ اربع منها فرض واربع منها سنّة واربع تأديب ، فاما الفرض فالمعرفة والرضا والتسمية والشكر ، واما السّنة فالوضوء قبل الطعام والجلوس على الجانب الايسر والأكل بثلاث اصابع ولعق الاصابع ، واما التأديب فالاكل مما يليك وتصغير

__________________

(١) سنن ابن ماجة القزويني : رقم ٣٣٤٩.


اللقمة ، والمضغ الشديد وقلة النظر في وجوه الناس ) (١).

ولا شك ان نظافة اليدين عنصر مهم آخر في اجتناب المرض ، فورد استحباب غسل اليدين قبل تناول الطعام ، فعن الامام الصادق (ع) : ( من غسل يده قبل الطعام وبعده بورك له في اوله وآخره ، وعاش ما عاش في سعة وعوفي من بلوى في جسده ) (٢). ومما يستحب ايضاً ان يوضع الطعام على سفرة موضوعة على الارض فهو اقرب الى فعل رسول الله (ص). وان يحسن الجلوس على السفرة ويستديمها. وان ينوي بأكله التقوية على طاعة الله وليس التلذّذ والتنعّم. وان لا يمد يده الى الطعام الاّ وهو جائع ، وان يرفع يده قبل الشبع ، ومن يفعل ذلك فقد استغنى عن الطبيب ، كما في الروايات.

ومن الآداب الاخرى التي مرّ ذكرها ، اطالة الجلوس على المائدة ، كما جاء في قوله (ع) : ( اطيلوا الجلوس على الموائد فانها ساعة لا تحسب من اعماركم ) (٣).

٢ ـ استحباب تناول الحبوب والفاكهة والخضار

وبطبيعة الحلال ، فان المواد الغذائية المأكولة بعد اقتطافها ، دون تعليب ، انفع للجسم من المواد المعلّبة. ولا شك ان المواد الغذائية المعلبة تعتبر احدى اهم المشاكل التي يواجهها المجتمع الصناعي على الصعيدين الغذائي والصحي على عكس النظرية الاسلامية التي اوردت جملة من

__________________

(١) المحاسن للبرقي : ص ٤٥٩.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٢٩٠.

(٣) مكارم الاخلاق : ص ١٦١.


الاحاديث والروايات في الترغيب على تناول الفاكهة الطازجة ، فعن الرسول (ص) : ( عليكم بالفواكه في اقبالها ، فانها مصحة للابدان ). ووردت روايات عديدة في الحث على تناول مختلف الخضار والفواكه ، فعن الامام الصادق (ع) : ( خمس من فاكهة الجنة في الدنيا : الرمان والتفاح والسفرجل والعنب والرطب ) (١). وعنه ايضاً : ( الهندباء سيدة البقول ) (٢). وعن الامام الرضا (ع) : ( السلق شفاء من الادواء ، وهو يغلظ العظم وينبت اللحم ) (٣) ، و ( كان فيما اوصى به آدم ان كُل الزيتون ، فانه شجرة مباركة ) (٤) ، وعن الامام الصادق (ع) : ( اما علمت ان امير المؤمنين (ع) لم يؤت بطبق الاّ وعليه بقل ) (٥).

ووردت اهمية الخبز باعتباره اساس الوجبة الغذائية ؛ ومادته الكاربوهيدراتية هي التي تمنح الجسم الطاقة التي يتحرك بها ، فعن رسول الله (ص) ورد قوله : ( اللهم بارك لنا في الخبز ، ولا تفرق بيننا وبينه ، فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا ادينا فرائض ربنا ) (٦).

واحل الاسلام الاكل مما يمر به الفرد عادة من فاكهة او خضار في البساتين ، وهو ما يعرف بحق المارة ؛ على شرط ان لا ينوي المرور من اجل أن يأكل ، وان لا يعبث بشيء حين مروره بالحقل او البستان ، وان لا يحمل

__________________

(١) الخصال : ص ١٣٩.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٣٦٣.

(٣) المحاسن : ص ٥١٩.

(٤) الكافي : ج ٦ ص ٣٣١.

(٥) المحاسن : ص ٥٠٧.

(٦) الكافي : ج ٦ ص ٢٨٧.


معه شيئاً من ذلك الثمر ، وان لا يعلم بعدم رضا المالك ، والاّ فانه مأثوم وضامن.

واجمع الفقهاء على حلية عصير الفاكهة التي يشم منها رائحة المسكر. فالخل وهو حامض الاستيك لا يعتبر خمراً لان حالته الكيميائية استحالت من الكحول الى السائل الحامضي ، فتناوله مع الطعام حلال ، حسب تعليمات الشريعة. وقد ورد الاجماع على ذلك و« لا خلاف معتد به في انه لا يحرم شيء من الاشربة التي يشم التي منها رائحة المسكر كرب الرمان والتفاح والسفرجل والتوت وغيرها ، لان كثيره لا يسكر » (١).

٣ ـ الاعتدال في تناول اللحوم المحلل اكلها

واجمع الفقهاء على أن كل الاشياء الماكولة او المشروبة مباحة كتاباً وسنة ، عقلاً واجماعاً الاّ ما ورد النص بتحريمه بالخصوص. لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً ) (٢). وقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (٣).

وقد احلت الشريعة أكل البهائم الاهلية مثل البقر والجاموس والغنم والمعز والابل ، وحمّلت اكل الخيل والبغال والحمير على الكراهية. وأحلت اكل البهائم البرية ايضاً كالغزلان والبقر والغنم والمعز والحمير المتوحشة. واحلّت السمك الذي له قشر فقط. واحلّت ما في جوفها من بيض

__________________

(١) الجواهر : ج ٣٦ ـ باب الاطعمة والاشربة.

(٢) البقرة : ٢٨.

(٣) الاعراف : ٣٢.


كالكفيار. واحلّت أكل الطيور بمختلف انواعها شرط ان لا يكون لها مخالب ، وان يكون دفيفها اكثر من صفيفها ، وان تكون لها حواصل وقوانص وصيص. ومن ذلك الحمام والدجاج بشتى اصنافهما ، والدراج والحجل والقبج والقطا والبط والكروان والحباري والكركي والعصافير جميعاً. وبيض الطير الحلال حلال اكله. وعلامة الحل ان يكون احد طرفي البيضة عريضاً مفرطحاً كبيض الدجاج. وقد تعرضنا لذلك مفصّلا في النظام الوقائي.

وورد ما يشير الى الاعتدال في اكل اللحوم المطبوخة جيداً. وفي ذلك مجموعة روايات واردة عن اهل بيت النبوة (ع) ، منها الرواية الواردة عن امير المومنين (ع) : ( لا تجعلوا بطونكم قبوراً للحيوانات ). ومنها : ( لحوم البقر داء ) (١) ، و ( ألبان البقر دواء ، وسمونها شفاءْ [ والسمن هو الزبدة ] ، ولحومها داء ) (٢) ، و ( من اكل لقمة شحم اخرجت مثلها من الداء ) (٣) ، و ( كان علي (ع) يكره ادمان اللحم ويقول : ان له ضراوة كضراوة الخمر ) (٤) ، ورواية عمار الساباطي قال : سألت ابا عبد الله (ع) عن شراء اللحم فقال : في كل ثلاث [ ايام ]. قلت : لنا اضياف وقوم ينزلون بنا وليس يقع منهم موقع اللحم شيء ، فقال : في كلّ ثلاث ، قلت : لا نجد شيئاً احضر منه ولو ايتدموا بغيره لم يعدوه شيئاً ، فقال : في كلّ ثلاث ) (٥). ومنها : ( اللحم

__________________

(١) المحاسن : ص ٤٦٣.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٣١١.

(٣) المحاسن : ص ٤٦٥.

(٤) المحاسن : ص ٤٦٩.

(٥) المحاسن : ص ٤٧٠.


ينبت اللحم ، ومن تركه اربعين يوماً ساء خلقه ) (١). ويدل قول الامام (ع) في الرواية الاخيرة بان السائل ربما كان ينوي ترك تناول اللحم ، ولذلك فانه (ع) اوصاه بعدم ترك اكله اكثر من اربعين يوماً. ويفهم من مقتضى الحديث ، الاعتدال في تناول اللحوم. وقد اشارت الروايات الى استحباب اكرام الضيف بتقديم اللحم المطبوخ له. ويدل على ذلك ، قوله تعالى في ضيف ابراهيم : ( فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) (٢) ، اي محنوذ وهو الذي اجيد طبخه ونضجه ، وقال تعالى في وصف الطيبات : ( وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ) (٣) ، والمن هو العسل ، والسلوى يعني اللحم ، سمي سلوى لانه يسلى به على جميع الادام ولا يقوم غيره مقامه ، والى ذلك اشار رسول الله (ص) : ( سيد الادام اللحم ) (٤). ثم قال تعالى بعد ذكر المن والسلوى : ( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (٥) فاعتبر اللحم والعسل من طيبات ما رزقهم.

٤ ـ التذكية الشرعية :

وهو قتل الحيوان الذي احل اكله بمراعاة الشروط التي وضعتها الشريعة الاسلامية ؛ فتذكية الحيوان البري المتوحش يتحقق بآلة الصيد ، والحيوان الاهلي ـ عدا الابل ـ بالذبح ، والابل بالنحر ، والسمك بالاخراج

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ص ٣٠٩.

(٢) هود : ٦٩.

(٣) البقرة : ٥٧.

(٤) الكافي : ج ٦ ص ٣٠٨.

(٥) البقرة : ٥٧.


حياً من الماء ، والجنين بتذكية امّه ، وما يتعذر ذبحه بالجرح والعقر.

فيقسم الفقهاء ، الحيوانات الى قسمين : قسم قابل للتذكية فيؤكل لحمه ، او يستفاد من جلده. وقسم آخر غير قابل للتذكية. ويندرج تحت القسم الاول كل الحيوانات التي حلل الشرع اكلها كالاغنام والابقار والدواجن والاسماك والطيور بالشروط المذكورة سابقاً. ويندرج تحت القسم الثاني الحيوانات التي لا تقبل التذكية الشرعية ، وهي التي لا تطهر بالذبح ، كالحيوانات نجسه العين مثل الكلاب والخنازير ، والحيوانات التي تسكن باطن الارض كالفئران والجرذان. اما سباع الحيوانات كالاسود والنمور والذئاب ، والطيور التي تفترس الاضعف وتتغذي باللحم كالصقور ، فلا يجوز اكلها ولكن المشهور انها تقبل التذكية ويطهر لحمها وجلدها بالذبح او بالصيد. ولحوم المسوخ محرّمة ايضاً ولكنها طاهرة ، وقد اختلف في قبولها التذكية. و « ان شك في حيوان من جهة الشك في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة لاصالة عدم التذكية ، لان من شرائطها قابلية المحل ، وهي مشكوك فيحكم بعدمها ، وان الحيوان ميتة » (١).

أ ـ الصيد :

ولما كانت عملية الصيد من الوسائل التي يتم عن طريقها توفير لون من الوان المواد الغذائية للافراد ، فقد ورد جوازه في الاسلام اجماعاً ونصاً. ومنه قوله تعالى : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (٢). وهو سبب للتملك بالحيازة والاستيلاء. وطريقته زهق روح الحيوان بآلة الصيد ، وهي على

__________________

(١) الرسائل للشيخ الانصاري باب البراءة.

(٢) المائدة : ٣.


نوعين. الاول : ما كان من الحيوانات كالكلاب الخاصة بالصيد. والثاني : ما كان من الآلات كالرماح والسهام ، بل مطلق السلاح.

واجمع الفقهاء على تحقق التذكية الشرعية بصيد الكلب المعلّم المدرب على ذلك ، كما ورد في النص الشريف : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ) (١). والمراد بمكلبين ، الكلاب المعلمة المدربة على عملية الصيد ، فاذا قتل الكلاب والمدرب صيداً حلّ اكله تماماً كالمذكى بالذبح. اما في صيد غير الكلب من الحيوانات ، كالفهود والصقور ، فالمشهور ان صيدها ميتة لا يحل اكله. فقد « روى علي بن ابراهيم في تفسيره ، باسناده عن ابي بكر الحضرمي عن ابي عبد الله (ع) قال : سألته عن صيد البزاة ، والصقور والفهود ، والكلب ، فقال : لا تأكل الاّ ما ذكيت ، الاّ الكلاب ، فقلت : فان قتله ؟ قال : كُلْ ، فان الله يقول : ( وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الجَوَارِحِ ... ) الآية ، ثم قال (ع) : كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها الاّ الكلاب المعلّمة فانها تمسك على صاحبها ، وقال : اذا ارسلت الكلب المعلَّم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته ، وهو ان تقول : بسم الله ، والله اكبر » (٢).

ومن اجل يكون صيد الكلب حلالاً ، فقد اشترط الاسلام اموراً ، منها :

اولاً : ان يكون الكلب معلّماً ، ويتحقق ذلك بانصياع الكلب لأوامر

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) مجمع البيان للطبرسي : ج ٣ ص ٣٢٤.


سيده بالارسال والزجر ، وبعدم الاعتياد على اكل ما يمسك من الصيد.

ثانياً : ان يرسله صاحبه بقصد الصيد باجماع الفقهاء ، فقد « سُئِلَ الامام الصادق (ع) عن كلب افلت ، وان يرسله صاحبه فصاد ، فادركه صاحبه ، وقد قتله ، أيأكل منه ؟ قال : لا » (١).

ثالثاً : أن يكون الصائد الذي ارسل الكلب مسلماً ، لان الارسال نوع من التذكية ومن شروطها الاسلام.

رابعاً : ان يسمي الصائد عند الارسال ، فيقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، او اذهب على اسم الله. فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد (ع) : ( من ارسل كلبه ، ولم يسمّ فلا يأكله ) (٢).

خامساً : ان يدرك الكلب الصيد حياً ، وان يكون استناد الموت الى جرح الكلب نفسه.

سادساً : ان لا يدرك الصائد الصيد حيّاً مع الكلب ، اما اذا ادركه حياً فعليه القيام بالذبح.

ولابد من غسل ما عضه الكلب تطهيراً للنجاسة.

اما الصيد بالآلات فيحل بالآلة الذابحة كالسكين والسيف ، وبالآلة التي ينطلق منها سهم ، و « يحل مقتوله ، سواء أمات بجرحه ام لا ، كما لو اصاب معترضاً عند فقهائنا ، لصحيحة الحلبي ، قال : سألت الامام الصادق (ع) عن الصيد يضربه بالسيف ، او يطعنه برمح ، او يرميه بسهم فيقتله ، قد سمى حين رماه ، ولم تصبه الحديدة ؟ قال : فان كان السهم الذي

__________________

(١) الجواهر : ج ٣٦ ص ٢٨.

(٢) التهذيب : ج ٩ ص ٢٧.


رماه هو قتله ، فلن اراد فليأكله ، وغيرها من الاخبار الكثيرة » (١). وكذلك العصا المحددة الرأس ، او السهم الذي لم ينطلق من آلة فان خرقا اللحم جاز اكل المقتول به. اذا قتل بالثقل كالحجر والعامود ، فان مقتوله ميتة لا يحل اكلها. واحل الفقهاء المتأخرون الصيد بالآلات النارية كبنادق الصيد الحديثة.

اما في حلية صيد الآلات فهناك شروط ايضاً ، ومنها ، اولاً : شرط الآلة المذكور آنفاً. ثانياً : اسلام الصائد. ثالثاً : العقل والتمييز. رابعاً : قصد الصيد ، فاذا اصاب طائراً من دون قصد الصيد فقتل فلا يحل اكله.

وبطبيعة الحال ، فان الحيوان الذي يحل صيده لابد وان تتوفر فيه الشروط الشرعية ايضاً. وهي اولاً : ان يقبل التذكية الشرعية ، فلا يتحقق الصيد بالمسوخ ، وانجاس العين. ثانياً : ان يكون برّياً متوحشاً ، فالحيوانات الاهلية كالابقار والاغنام تذبح ولا تعتبر موضوعاً للصيد. ثالثاً : ان يكون الحيوان قادراً على الامتناع ، فيحرم صيد اطفال الحيوانات التي تعجز عن العدو. وقد ورد عن رسول الله (ص) قوله : ( لا تأتوا الفراخ في اعشاشها ولا الطير في منامه حتى يصبح ، فقيل : ما منامه يا رسول الله ؟ قال : الليل منامه ، فلا تطرقه في منامه حتى يصبح ولا تأتوا الفراخ في عشه حتى يريش ويطير فاذا طار فاوتر له قوسك ، وانصب له فخك ) (٢). وورد في احاديث اهل البيت (ع) : ( لو ان رجلاً رمى صيداً في وكره ، فاصاب الطير والفراخ جميعاً فانه يأكل الطير ، ولا يأكل الفراخ ، وذلك ان الفراخ ليس بصيد ما لم يطر ،

__________________

(١) المسالك : ج ٢ ـ باب الصيد.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٢١٦.


وانما تؤخذ باليد ، وانما يكون صيداً اذا طار ) (١).

ب ـ الذباحة :

وفي تفصيل حكمها لابد من ملاحظة ثلاثة عناصر : الذابح ، وآلة الذبح وطريقته. فيشترط في الذابح ، ذكراً كان ام انثى ، ان يكون مسلماً قاصداً الى الذبح فلا « تجوز ذبيحة الصبي غير المميّز والمجنون حين الذبح وان اجتمعت صورة الشرائط فيهما لعدم العبرة بفعلهما شرعاً » (٢). ولكن « ربما اختلف صنف الجنون ، اذ ربما كان لبعضهم تمييز ، فلا مانع حينئذٍ من حل ذبيحته » (٣).

ويشترط ان يكون الذبح بسكين من حديد. واستدل الفقهاء على ذلك بالحديث الوارد عن أمير المؤمنين (ع) بخصوص هذا اللون من التذكية الشرعية : ( لا يصلح الاّ بالحديدة ) (٤). واذا لم يوجد الحديد ، وخيف فوت الذبيحة جاز الذبح بما يفري اعضاءها ، ولو كان ليطة (٥) او خشبة محددة ، او مروة (٦) او نحوها. فقد روي في الصحيح عن زيد الشحام عن الامام الصادق (ع) قال سألته عن رجل لم يكن بحضرته سكين ، أيذبح بقصبة ؟ فقال : ( اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة وبالعود اذا لم تصب الحديدة. اذا قطع

__________________

(١) التهذيب : ج ٩ ص ٢٠.

(٢) الجواهر : ج ٣٦ ص ٩٧.

(٣) المسالك ـ كتاب الصيد والذباحة.

(٤) الاستبصار : ج ٤ ص ٨٠.

(٥) الليطة : قشر القصبة.

(٦) المروة : الحجر.


الحلقوم ، وخرج الدم فلا بأس به ) (١). وفي الحسن عن عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم (ع) قال سألته عن المروة والقصبة والعود يذبح بها اذا لم يجد سكيناً ، قال : ( اذا فرى الاوداج فلا بأس بذلك ) (٢).

ويشترط في تحقيق الذبح ان تكون الطريقة شرعية ، وهي على النمط التالي :

اولاً : استقبال القبلة مع الامكان نصاً واجماعاً ، ومنه حديث عن أهل البيت (ع) : ( اذا اردت ان تذبح فاستقبل بذبيحتك القبلة ) (٣). ويجب استقبال الذبيحة بمقاديم البدن بكاملها.

ثانياً : يجب قطع الاوداج الاربعة دفعة واحدة ، وهي الحلقوم والمريء والعرقان الغليظان المحيطان بالبلعوم.

ثالثاً : التسمية بقصد ان تكون على الذبيحة ويكفي فيها قول : الله اكبر ، ولا اله الاّ الله ، والحمد لله ، وبسم الله.

وقال بعض الفقهاء يكفي في حلية الذبيحة تحرك بعض اطرافها بعد الذبح.

ويستحب في الذبح التقليل من عذاب المذبوح ، كتحديد الشفرة ، وتعجيل الذبح ، وسقي المذبوح بالماء قبل الذبح.

ج ـ النحر :

وهو مختص بالابل فقط ، فلا تحل بالذبح ، للرواية المروية عن الامام

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ص ٢٢٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٢٠٨.

(٣) ـ الكافي : ج ٦ ص ٢٣٣.


الصادق (ع) : ( كل منحور مذبوح حرام ، وكل مذبوح منحور حرام ) (١).

وصورة النحر ان يدخل الناحر سكيناً في اللبة ( وهي المكان المنخفض الكائن بين اصل العنق والصدر ). ويجوز نحر البعير قائماً ، وباركاً ، ومضطجعاً على جنبه بشرط ان يكون متجها بنحره وجميع مقاديم بدنه ، الى القبلة.

ويجب توفر جميع الشروط المذكورة في الذبح بالنسبة للناحر وآلة النحر وطريقة النحر.

د ـ الاخراج من الماء :

وهو تذكية السمك شرعاً شرط ان يخرج من الماء حياً ، ويموت في خارجه. وقد احل الله صيد البحر بقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ) (٢) ، وقوله : ( وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ) (٣). ولا يشترط في صيد السمك التسمية ، ولا ان يكون الصائد مسلماً. و« المعتبر اصابتها باليد او الآلة واخراجها بأخذها من الماء حية وموتها خارج الماء. ومن حيث ان المعتبر عند بعضهم خروج من الماء حياً وموته خارج الماء والمحرم انما هو موته في الماء واختاره نجم الدين بن سعيد في نكت النهاية لما رواه سلمة ابو حفص عن ابي عبد الله (ع) ان علياً (ع) كان يقول في السمك والصيد اذا ادركها وهي تضطرب وتضرب بذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها ، فعلى هذا القول يكفي النظر اليها تضطرب ويكون النظر كاشفاً لا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٢١٠.

(٢) النحل : ١٤.

(٣) فاطر : ١٢.


سبباً » (١). فالمدار اذن ، ان تذكيته هو « اثبات اليد عليه على ان لا يموت في الماء فهو كحيازة المباح الذي هو بمعنى الصيد الموافق له » (٢).

* * *

ولا يستطيع الفرد ، مهما اوتي من قوة على التحليل ، ادراك حجم المنافع الصحية للتذكية الشرعية والزعم بانه وصل الكمال في فهم ابعادها ، لان الاصل في التكليف هو التعبد بالنصوص اولاً ، ولان مهمة الفقهاء في الاصل استنباط الاحكام الشرعية دون تحليلها ، ثانياً. ولكن العقل يحكم بان دقة هذه الاحكام في الصيد والذباحة والنحر والاخراج من الماء لها نتائج على المستوى الصحي العام لكل الافراد. ومن نافلة القول ان نذكر ، ان اخطر ما يواجه النظام الطبي اليوم من مشاكل صحية هي مشكلة اللحوم وما يتبعها من تذكية وحفظ وطهي. فهي مصدر الكثير من الامراض المنتشرة في العالم المتحضر كامراض القلب والدورة الدموية والجهاز الهضمي والبولي. ولا شك ان استبدال الاجهزة الحديثة في التبريد لحفظ اللحوم عن الطريقة القديمة السابقة التي كانت تستعمل التوابل ، لم يساعد على تقليل عدد الامراض التي تنتشر عادة عن طريق تناول اللحوم ، بل غيّر نوعها وشدتها فقط. فبدل تعرض الفرد للتسمم بتناوله لحماً متفسخاً ، بالطريقة القديمة ، اصبح نفس الفرد يتعرض لامراض القلب وتصلب الشرايين جراء تناوله لحماً محفوظاً في الاجهزة الحديثة.

وليس لدينا ادنى شك من ان مشكلة اللحوم ستبقى اخطر المشاكل التي يواجهها النظام الطبي في تعامله مع اسباب نشوء المرض ، لان

__________________

(١) ايضاح الفوائد : ج ٤ ص ١٤٠.

(٢) الجواهر : ج ٣٦ ص ١٦٥.


الحيوانات بكافة اشكالها وانواعها تعتبر من اهم عناصر نقل الامراض الى خلايا الجسم البشري. ولعل الطريقة الاسلامية في التذكية الشرعية ، تعتبر من انشط العوامل الوقائية في تجنب الامراض الناشئة عن تناول اللحوم.

٥ ـ النظام الشفائي في العسل

وهو من اهم الانظمة الشفائية للمؤمنين بالرسالة الاسلامية ، لان فيه ضماناً الهياً بالشفاء ، كما ورد في النص المجيد : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١). و « هنا فوائد منها ان في الآية دلالة على اباحة العسل واباحة التداوي به اما بنفسه واما مع التركيب مع غيره كالحمضيات ونحوها » (٢). وورد في الأثر انه : « ما استشفى مريض بمثل العسل فان لعقة منه كل داء. وكان يعجب رسول الله (ص) وأكله حكمة. قال الله تعالى : ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) (٣) » (٤).

وبسبب احتوائه على نسبة كبيرة من الكلوكوز والفركتوز ، وهما نتاج آخر مراحل هضم المواد النشوية والسكرية التي تمتص في الدم ، فان العسل يعتبر طبياً من افضل المواد الغذائية التي تساهم في شفاء الامراض الخاصة بالامعاء والمفاصل والعضلات ونحوها. ولما كان سكر الفاكهة

__________________

(١) النحل : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) قلائد الدرر : ص ٣١٤.

(٣) النحل : ٦٩.

(٤) الجواهر : ج ٣٦ ص ٥٠٣.


( الفركتوز ) احد اهم نسب المواد السكرية في العسل ، اصبح تناول الفرد السليم او المريض معا للعسل امراً شفائياً ، لانه لا يزيد من نسبة السكر في الدورة الدموية للانسان. هذا على الصعيد التجريبي ؛ اما على الصعيد التعبدي ، فان الضمان الالهي بالشفاء يضع العسل على قمة المواد الغذائية التي تساهم في شفاء المؤمنين من مختلف الامراض.

ملحق بعض الروايات الواردة في

النظام الصحي ( الغذائي ) الاسلامي

١ ـ ورد عن الامام امير المؤمنين (ع) قوله : ( لو ان الناس قصدوا في الطعم لاعتدلت ابدانهم ) (١).

٢ ـ وعن الامام الصادق (ع) : ( ان الله يبغض كثرة الاكل ) (٢).

٣ ـ وعن الامام الرضا (ع) في حديث عن امير المؤمنين علي (ع) : ( وكان خفيف الاكل ، خفيف الطعم ) (٣).

٤ ـ وعن الامام الصادق (ع) : ( ما أكل رسول الله (ص) خبز بر ( شعير ) قط ولا من خبز شعير قط ) (٤).

٥ ـ وورد عن رسول الله (ص) : ( طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الاربعة ) (٥).

٦ ـ وورد عن ابي عبد الله (ع) قال : ( أتي النبي (ص) بطعام حار فقال :

__________________

(١) المحاسن : ص ٤٣٩.

(٢) المحاسن : ص ٤٣٩.

(٣) عيون الاخبار : ج ٢ ص ١٣٧.

(٤) امالي الامام الصادق : ص ١٩٢.

(٥) الكافي : ج ٦ ص ٢٧٣.


ان الله لم يطعمنا النار ، نحّوه حتى يبرد ) (١).

٧ ـ وورد عن رسول الله (ص) انه نهى عن ان ينفخ في طعام او شراب (٢).

٨ ـ وفي وصية النبي (ص) لعلي (ع) : انه قال : ( يا علي افتتح بالملح واختتم بالملح فان فيه شفاء ) (٣).

٩ ـ وفي رواية ابي بصير عن ابي عبد الله (ع) قال نقلاً عن امير المؤمنين (ع) : ( احدى وعشرون زبيبة حمراء في كل يوم على الريق تدفع جميع الامراض الا مرض الموت ) (٤).

١٠ ـ وورد عن ابي جعفر (ع) قال : ( من اراد ان لا يضره طعام فلا يأكل طعاماً حتى يجوع وتنقي معدته ، فاذا أكل فليسمّ الله وليجد المضغ وليكف عن الطعام وهو يشتهيه ويحتاج اليه ) (٥).

_________________

(١) المحاسن : ص ٤٠٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٢٦٦.

(٤) الكافي : ج ٦ ص ٣٥١.

(٥) الوسائل : ج ١٦ ص ٦٤٩.


الاستنتاج

وخلاصة القول في النظام الغذائي الاسلامي ، ان الاسلام ـ في معرض عرضه للنظرية الصحية ـ لم يتطرق للنظام الوقائي بالتفصيل فحسب ، بل شجع الافراد في المجتمع الاسلامي على ممارسة منهج غذائي واضح المعالم يؤدي بهم في النهاية الى شاطئ السعادة الصحية والامن النفسي. ومن اجل توضيح هذا المنهج الاسلامي في التغذية ، لابد من ترتيب النقاط التالية :

اولاً : التأكيد على آداب الشيء المأكول ؛ بمعنى ان الشريعة حببت للمكلفين تقليل كمية الطعام الذي يتناوله الفرد ، واعتدال درجة حرارته وقت التناول ، وتقديم الملح على الطعام ، ومص الماء مصّاً ، والاعتدال في أكل اللحوم المطبوخة جيداً ، والاهتمام بتناول الفاكهة والخضروات والخبز ، ومنتوجات الالبان بكافة انواعها.

ثانياً : التأكيد على آداب المائدة ، وهو تأكيد الشريعة على استحباب غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده ، والأكل بثلاث اصابع واطالة الجلوس على المائدة ، والتأكيد على المضغ الشديد ، وتصغير اللقمة المأكولة ، والأكل مجتمعاً مع الآخرين.

ثالثاً : التأكيد على آداب الآكل ، وهو تأكيد الشريعة على استحباب تناول الطعام وقت الاحساس بالجوع ، واكماله قبل الشبع ، وتفريغ البدن من الفضلات قبل النوم.

رابعاً : وجوب التذكية الشرعية ، وهو دليل قوي على ارتباط حلية المأكولات اللحمية بالقضايا التعبدية من جهة ، والصحية من جهة اخرى ،


لثبوت المصلحة الشرعية للفرد والنظام الاجتماعي. فلا يؤكل من الحيوانات الاّ ما كان قابلاً للتذكية الشرعية بالذبح للحيوانات الاهلية ، والصيد للحيوانات المتوحشة ، والنحر للابل ، والاخراج حياً من الماء لللاسماك ، كما ذكرنا ذلك سابقاً.

وهذا التأكيد الشديد على ضرورة التدقيق في نوعية المادة الغذائية التي يتناولها الفرد وآداب تناولها ، يؤدي دون شك الى تقليل عدد الامراض التي تصيب افراد المجتمع ، والى تبديل شكل وتوجهات المؤسسة الصحية. ومن اجل تفصيل ذلك ، نورد هذه الاشارات في فوائد النظام الغذائي الاسلامي :

١ ـ ان تطبيق النظام الغذائي الاسلامي يساهم في تقليل عدد وشدة الامراض التي تصيب الافراد ، وهي الامراض الناتجة من سوء العادات الغذائية ، خصوصاً فيما يتعلق بالمضغ وحجم اللقمة والسرعة في تناول الوجبة الغذائية او كمية الطعام المتناول ونحوها.

٢ ـ ان اهتمام المؤسسة الطبية بنوعية الغذاء الذي يتناوله الافراد انفع للنظام الاجتماعي على الصعيد الانتاجي ، واكثر اقتصاداً من علاج الافراد عن طريق الادوية المصنّعة.

٣ ـ ان الاهتمام بالمواد الغذائية يشجع الاقتصاد الزراعي على النمو والتطور مما يفتح فرصاً اخرى لا شباع حاجات الافراد الغذائية ؛ فبدلاً من تطبيب النظام الاجتماعي كما هو الحاصل اليوم في النظام الغربي ، يحاول النظام الاسلامي تقوية صحة الافراد من خلال اتباع اسلوب غذائي سليم يتمثل في وجبات غذائية معتدلة كاملة يتناولها الافراد من سن الطفولة


وحتى الشيخوخة والهرم.

٤ ـ ان تقليل كمية الطعام المستهلك من قبل الفرد سيوفر للافراد الآخرين طعاماً يشبع حاجاتهم الاساسية. فبدلاً من تخمة البعض وجوع الآخر ، يحاول النظام الغذائي الاسلامي اشباع جميع الافراد بكمية معقولة من الطعام تساعدهم على العمل والانتاج ، وفي الوقت نفسه تحافظ على حيوية اجسامهم ونشاطها الاساسي.

٥ ـ ان ارتباط العادات الغذائية بالجانب العبادي ، يهذب الفرد ويجعله اكثر استعداداً لاحترام النظام الصحي ، والتعاون مع المؤسسة الطبية لايجاد نظام غذائي متكامل لجميع الافراد. والدفع الاساسي في هذا التوجه هو الدافع التعبدي المتجسد بالامتثال للاوامر الشرعية ، هادفا مرضاة الله سبحانه وتعالى ، ومساندة النظام الاجتماعي العادل الذي جاء به الاسلام.


ثالثاً : النظام العلاجي

ولا شك ان نجاح النظرية التجريبية في علاج الامراض يرجع فضله الى تراكم الخبرة الانسانية لآلاف السنين. فقد حاول الانسان معرفة فسلجة الجسم البشري باعضائه الدقيقة ، ولمعت في افق الطب التجريبي اسماء جديرة بالاحترام من مختلف شعوب العالم ، امثال ( هپوكراتيس ) و ( كيلن ) الاغريقيين ، والرازي ( ت ٩٢٣ م ) وابن سينا ( ت ١٠٣٧ م ) الاسلاميين ، واطباء اوروبا امثال ( اندرياس فيساليوس ) ـ ١٥٣٨م ، و ( وليم هارفي ) ـ ١٦٠٢ م ، و ( لويس باستور ) و ( روبرت كخ ) ـ ١٨٧٦ م. وقد تطور الطب الحديث بعد اكتشاف النظرية الجرثومية ، وما اتبعها من اكتشاف اسباب المرض ، والعدوى ، واستخدم اساليب التعقيم ، والتخدير في العمليات الجراحية. وقد جلب القرن العشرين تطورين مهمين على صعيد الطب العلاجي ، وهما استخدام المضادات الحيوية ، وفن نقل الاعضاء كالكلية والقلب. ولا شك ان اكتشاف البنسلين كان من اهم الاكتشافات التي حصلت في هذا القرن. وكل الادوية التي اكتشفت لاحقاً وساعدت اما على شفاء الامراض او على اجراء العمليات الجراحية ، ساهمت في تطوير النظام الطبي العلاجي للامراض. ولا شك ان الاسلام شجع الطب الحديث على معالجة الامراض لسببين. الاول : الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشرع. والثاني : احترام القرآن للحياة الانسانية ، كما ورد اطلاق قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ


جَمِيعاً ) (١) ولذلك ، فان النظام العلاجي سيكون البديل الطبيعي لمعالجة الامراض التي يعجز عن معالجتها النظام الوقائي او الغذائي ، كالكسور والجروح الناتجة من الحوادث الطارئة التي تصيب الانسان.

__________________

(١) المائدة : ٣٢.


تصرفات المريض

والمقصود بالمريض هنا ، من اتصل مرضه بموته. والمراد بتصرفاته ، قيامه بعمل من الاعمال التي تؤثر بشكل ما على كمية الاموال التي يمتلكها وقت المرض.

ولا شك ان تصرفات الفرد الصحيح بامواله ، تنفذ من الاصل ، سواء اكان التصرف واجباً كوفاء الدين ، او محاباة كالهبة والوقف ، وسواء كان التصرف مطلقاً او منجزاً اي غير معلق على الموت. واذا علق الصحيح تصرفاته على الموت كان التصرف وصية.

اما تصرفات المريض ، فان كانت معلقة على الموت فهي وصية ، وحكمها حكم وصية الصحيح. ولكن اذا تصرف المريض تصرفاً منجزاً غير معلق على الموت ، وكان فيه محاباة تستدعي ضرراً مالياً بالوارث ، كما لو تصدق ، او باع باقل من قيمة المثل ، او وهب مالاً فانه يخرج من الثلث فقط ، والزائد على الثلث لا يعد نافذاً. بمعنى ان الشريعة الاسلامية توقف تنفيذ عمل المريض الى ما بعد الموت. اما اذا مات في مرضه ، واستوعبت الاموال المنجزة الثلث ، تكون تلك الاموال التي تصرف بها نافذة من البداية. وان ضاق الثلث عنها تبين فساد التصرف بمقدار الزائد عن الثلث ، هذا اذا امتنع الورثة عن اجازتها. ف‍ « قد ورد في رواية علي بن عقبة عن الامام الصادق (ع) في رجل حضره الموت ، فاعتق مملوكاً ليس له غيره ، فابى الورثة ان يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه ؟ قال : ما يعتق منه الاّ ثلثه. ولهم


ما بقي » (١). و « قال الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد والصدوق هي من الثلث واختاره المصنف والعلامة ، لوجوه :

١ ـ ان حكمة حصر الوصية في الثلث موجودة هنا وهو الاضرار بالورثة فوجب اتحاد الحكم فيها لئلا تختل الحكمة.

٢ ـ لولا ذلك لالتجأ كل من يريد اضرار ورثته الى المنجزات في مرضه فتفوت فائدة حصر الوصية في الثلث.

٣ ـ الروايات. ومنها عن ابي ولاد قال : سألت الصادق (ع) عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرئة منه في مرضها. قال : بل تهبه له فيجوز هبتها له ويحتسب ذلك من ثلثها كانت تركت شيئاً » (٢).

وتشترك المنجزات مع الوصية في الامور التالية :

١ ـ ان كلا منها يقف نفوذها على الخروج من الثلث ، او اجازة الورثة.

٢ ـ ان المنجزات تصح للوارث.

٣ ـ ان كلا منهما اقل ثواباً عند الله من الصدقة في حال الصحة.

٤ ـ ان المنجزات يزاحم بها الوصايا في الثلث.

٥ ـ ان خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ، ولا بعده » (٣).

وهناك فروق مفصّلة بين المنجزات والوصية ايضاً تخرج عن اطار

__________________

(١) التهذيب : ج ٩ ص ١٩٤.

(٢) التنقيح الرائع : ج ٢ ص ٤٢٤.

(٣) المختلف للعلامة الحلي : ج ٢ ص ٦٦.


هذا الكتاب.

واذا اقرّ المريض ، وهو في مرض الموت لوارث او لاجنبي بدين او عين ، فينظر الى امانة المقر ، وعدم تحيزه في اقراره. وهو شرط لنفاذ اقراره من اصل التركة ، ولابد من اثبات الشرط بطريق من طرق الاثبات ، والا تعين الاخراج من الثلث.

وبطبيعة الحال ، فان تصرفات المريض وما يقوم به من اعمال ، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام الصحي ؛ لان النظام الصحي هو الذي يقرر نوعية المرض المتصل بالموت ، كالحالات المتأخرة من السرطان ، وفقدان المناعة المكتسبة للجسم ، ونحوها. ولذلك ، فان النظام الصحي ، ومن يمثله من اهل الخبرة من الاطباء ، هو الذي يشخص ويعين نوعية المرض المتصل بالموت ، مقدماً بذلك للفقيه اكبر الخدمات في الحكم على صحة التصرف الواجب والمستحب بمال المريض وقت مرضه المتصل بالموت.


الميت واحكامه

ومن اهم المؤاخذات على النظام الطبي الغربي ، هو ان المؤسسة الطبية الرأسمالية حصرت الموت في المستشفيات وابعدته عن البيوت والحياة العامة ، حتى تبعد المجتمع عن التأثيرات النفسية للاحتضار. فاصبحت مهمة المستشفى غير مقصورة على علاج المرضى فحسب ، بل اصبح من واجباتها تهيئة الميؤوس من حالاتهم للاحتضار. وابعاد الموت والاحتضار عن الحياة العامة له فوائد على المستوى الرأسمالي. فحصر الموت في المستشفيات يساهم في المحافظة على انتاجية الافراد ، لان التذكير بالموت بشكل مستمر يؤدي الى تقليل حجم التنافس الاقتصادي بين الافراد ، وهو يؤدي في النهاية الى تقليل انتاجية العمال في النظام الاجتماعي. ولكن هذه النظرة الرأسمالية تناقض بشكل اساسي نظرة الدين للموت والاحتضار ، خصوصاً في النظرية الاجتماعية الاسلامية.

فقد اهتم الاسلام بتكريم الفرد قبيل موته وخلال احتضارة ، فوضع آداباً للاحتضار والغسل والتكفين والصلاة والدفن. ومع ان المؤسسة الصحية الرأسمالية تسمح لرجل الدين باقامة الصلاة على الميت ودفنه على الطريقة المتبعة في ديانته ، الاّ انها تتحمل مسؤولية احتضاره لحد الموت. وهذا مخالف للنظرة الاسلامية التي تحبب احتضار الميت بين اهله وذويه ، كي يعتبر الناس بالموت ، وبه تتهذب اخلاقهم ويستقيم سلوكهم ، ويكون ادعى لتعاونهم وتآزرهم ومساعدتهم للافراد في النظام الاجتماعي.

ويعتبر الاحتضار والغسل والكفن والحنوط والصلاة والدفن من


الواجبات الكفائية في الاسلام ، فاذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، واذا تركوها كانوا محاسبين على تركها جميعاً.

وطريقة الاحتضار ، هو ان يلقى الميت على ظهره حين النزع وباطن قدميه الى القبلة. ويستحب اغماض عينيه ، وشد لحييه ، ومد ساقيه ، ويديه الى جنبيه ، وتليين مفاصله ، وتجريده من ثيابه ، ووضعه على سرير ، وتغطيته بثوب. والتعجيل بتجهيزه كما ورد في الحديث عن رسول الله (ص) : ( يا معشر الناس لا الفين رجلاً مات له ميت ليلاً فانتظر به الصبح ولا رجلاً مات له ميت نهاراً فانتظر به الليل ، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ، ولا غروبها ، عجّلوا بهم الى مضاجعهم يرحمكم الله ) (١).

ويغسل الميت ثلاث مرات. الاولى بالماء مع قليل من السدر. والثانية بالماء يطرح فيه الكافور ، ويستثنى من ذلك الميت المحرم. والثالثة بالماء القراح وهو الماء الخالص دون اضافة شيء اليه. وينبغي الترتيب بين الاغسال الثلاثة ، كما ينبغي الترتيب بين الاعضاء فيبدأ بالرأس مع الرقبة ، ثم الجانب الايمن ، ثم الجانب الايسر كما في غسل الجنابة والحيض والاستحاضة المتوسطة والكثيرة والنفاس. ويشترط في التغسيل نية القربى الى الله كما هو الحال في سائر الاعمال التعبدية الاخرى ، واطلاق الماء وطهارته واباحته ، وازالة النجاسة عن بدن الميت ، ثم ازالة الحاجب المانع من وصول الماء الى البشرة. والواجب في التغسيل وجود المماثل المسلم ، ومع عدمه فالمماثل الكتابي. هذا كله اذا كان الميت قد مات موتاً طبيعياً.

اما الشهيد في المعركة فيدفن بثيابه ودمائه بعد ان يصلى عليه دون

__________________

(١) التهذيب : ج ١ ص ١٢١.


تغسيل ، بشرط ان تخرج روحه في المعركة او خارجها والحرب قائمة. واذا مات بعد انتهاء القاتل وجب تغسيله حينئذٍ ، كمن مات موتاً طبيعياً.

ويجب التحنيط بعد الغسل ، وهو مسح الكافور على الاعضاء السبعة التي يسجد عليها المصلي ، وهي الجبهة ، والكفان ، والركبتان ، وابهاما الرجلين.

ويكفن الميت وجوباً بثلاث قطع. الاولى : المئزر يلفه من السرة الى الركبة ، والافضل من الصدر الى القدم. والثالثة : الازار وينبغي ان يغطي كل البدن. ويشترط في الكفن ما يشترط في الساتر الواجب في الصلاة من كونه طاهراً ومباحاً.

وتجب الصلاة على مسلم ، عادلاً كان او فاسقاً ، للحديث المروي عن الرسول (ص) : ( صلوا على المرجوم من امتي ، وعلى القاتل نفسه من امتي ، لا تدعوا احداً من امتي بلا صلاة ) (١). والمروي عن الامام الباقر (ع) : ( صلّ على من مات من اهل القبلة وحسابه على الله ) (٢). وتقام الصلاة وجوباً قبل الدفن.

والواجبات ايضاً دفن الميت في الارض ، للنص المجيد : ( اَلَم نَجعَل الاَرضَ كِفاتاً اَحياءً وَامواتاً ) (٣) ، ( مِنها خَلَقناكُم وفيها نُعِيدُكُم ) (٤). واحاديث أئمة أهل البيت (ع) : ( انما امر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على

__________________

(١) التهذيب : ج ١ ص ٣٤٥.

(٢) المجالس : ص ١٣١.

(٣) المرسلات : ٢٥.

(٤) طه : ٥٥.


فساد جسده ، وقبح منظره ، وتغير رائحته ، ولا يتأذى الاحياء بريحه ، وما يدخل عليه من الآفة والفساد ، وليكن مستوراً عن الاولياء والاعداء ، فلا يشمت عدوه ولا يحزن صديقه ) (١). يجب وان يوضع الميت على جنبه الايمن مستقبل القبلة ، ورأسه الى المغرب ورجليه الى المشرق ؛ لان الاصل في هذا الحكم التأسي بالنبي (ص) والائمة الاطهار (ع) ، كما قال الكثير من الفقهاء.

وعلى صعيد آخر ، فانه ينبغي شرعاً على من مس ميتاً ـ بعد أن برد جسده وقبل ان يغسّل ـ الاغتسال من مس الميت. وفي حالة مسه بعد موته مباشرة قبل ان يبرد الجسد فلا غسل عليه , وكذلك اذا مسه بعد انتهاء غسل الميت الشرعي. وصورة الغسل ، من مس الميت كصورة غسل الجنابة والحيض والاستحاضة المتوسطة والكثيرة والنفاس.

ولا شك ان مسؤولية المؤسسة الطبية تنتهي عند موت الفرد ، فتتكفل المؤسسة الدينية والاجتماعية القيام باحكام الميت من الغسل والتكفين والحنوط والصلاة عليه ودفنه. وبطبيعة الحال ، فان اهتمام الافراد في النظام الاجتماعي الاسلامي باكرام الميت اجتماعياً يتناسب مع مضمون الاسلام في احترام الانسان ، باعتباره اكرم المخلوقات واجلّها عند الخالق عزوجل ، بخلاف النظرية الغربية ، التي تؤمن باحقيّة « المذهب الفردي » في الحياة الاجتماعية ، وما يترتب على ذلك من مسؤولية الفرد تجاه حياته الشخصية دون توقع مساعدة بقية الافراد له ، حتى في الشيخوخة والعجز والموت.

__________________

(١) عيون اخبار الرضا للصدوق : ص ٢٥٩.



المصادر المقترحة التي لها علاقة بمواضيع الكتاب

هذه جملة من المصادر العلمية للطلبة الاعزاء على صعيدي الحوزة والجامعة الذين يرغبون في مواصلة الكتابة والنقد والبحث العلمي في هذا الباب من العلوم الاجتماعية :

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ ابن الاثير ، مجد الدين الجزري ( ت ٦٠٦ ه‍ ). النهاية في غريب الحديث والاثر مخطوط.

٣ ـ ابن جمهور ، محمد بن علي بن ابراهيم الاحسائي ( ت ٩٠١ ه‍ ). العوالي اللئالي العزيزية في الاحاديث الدينية. قم : سيد الشهداء ، ١٩٨٣ م.

٤ ـ ابن رشد ، محمد بن احمد بن محمد القرطبي. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. القاهرة : دار الاستقامة ، ١٩٢٨ م.

٥ ـ ابن شهر آشوب ، عز الدين ابي جعفر محمد بن علي. المناقب. طهران : طبعة حجرية ، ١٣١٧ ه‍.

٦ ـ ابن قتيبة ، ابو محمد عبد الله بن مسلم ( ت ٢٧٦ ه‍ ). عيون الاخبار. القاهرة : دار الكتب ، ١٩٢٨ م.

٧ ـ ابن قيم الجوزية ، شمس الدين محمد بن ابي بكر. الطب النبوي. بيروت : دار احياء التراث العربي ، ١٩٨٥ م.

٨ ـ ابن ماجة ، ابو عبد الله محمد يزيد القزويني ( ت ٢٧٥ ه‍ ). سنن ابن ماجة. مصر : دار


احياء الكتب العربية ـ بدون تاريخ.

٩ ـ الاشعث الكوفي ، ابو علي محمد بن محمد ( القرن الرابع الهجري ). الاشعثيات ـ الجعفريات. طهران : الاسلامية ، ١٣٦٩ م.

١٠ ـ الاصفهاني الغروي ، محمد حسين ( ت ١٢٥٠ ه‍ ). الفصول الغروية في الاصول الفقهية طهران : طبعة حجرية ، ١٢٨٦ ه‍.

١١ ـ الانصاري ، الشيخ المرتضى ( ت ١٢٨١ ه‍ ). الرسائل او فرائد الاصول. طبعة حجرية. قم : مطبعة وجداني. زمان الطبع غير مذكور.

١٢ ـ البحراني ، يوسف ( ت ١١٨٦ ه‍ ). الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة. قم : جماعة المدرسين ، ١٤١٠ ه‍.

١٣ ـ البخاري ، محمد بن اسماعيل ( ت ٢٥٦ ه‍ ). صحيح البخاري. مخطوط.

١٤ ـ البرقي ، ابو جعفر احمد بن محمد خالد ( ت ٢٨٠ ه‍ ). المحاسن. النجف الاشرف : النعمان ، ١٣٨٤ ه‍.

١٥ ـ البهائي ، بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد ( ت ١٠٣١ ه‍ ). الاربعين. مخطوط.

١٦ ـ البيهقي ، ابوبكر احمد بن الحسين بن علي ( ت ٤٥٨ ه‍ ). السنن الكبرى. حيدرآباد : دائرة المعارف النظامية ، ١٣٤٤ ه‍.

١٧ ـ الجواهري ، اسماعيل بن حماد ( ت ٤٠٠ ه‍ ). الصحاح ـ تاج اللغة وصحاح العربية. بيروت : دار العلم للملايين ، ١٩٧٩ م.

١٨ ـ الجزائري ، احمد. قلائد الدر في بيان آيات الاحكام بالاثر. النجف الاشرف : النعمان ، ١٩٥٤ م.

١٩ ـ الجزيري ، عبدالرحمن. الفقه على المذهب الاربعة. مصر : المكتبة التجارية ، بدون تاريخ.

٢٠ ـ الحر العاملي ، محمد بن الحسن ( ت ١١٠٤ ه‍ ). وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل


الشريعة. بيروت : دار احياء التراث العربي ـ بدون تاريخ.

٢١ ـ الحراني ، ابو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن شعبة ( ت ٣٨١ ه‍ ). تحف العقول عن آل الرسول. النجف الاشرف : الحيدرية ، ١٣٨٥ ه‍.

٢٢ ـ الحكيم ، محسن الطباطبائي ( ت ١٣٩٠ ه‍ ). مستمسك العروة الوثقى. النجف الاشرف : الاداب ، ١٣٨٩ ه‍.

٢٣ ـ الحلبي ، ابو الصلاح. الكافي في الفقه ( ت ٤٤٧ ه‍ ). تحقيق رضا استادي. اصفهان : مكتبة امير المؤمنين العامة ، ١٤٠٠ه‍.

٢٤ ـ العلامة الحلي ، جمال الدين ابو منصور الحسن بن يوسف ( ت ٧٢٦ ه‍ ). مختلف الشيعة. قم : جماعة المدرسين ، ١٤١٢ ه‍.

٢٥ ـ ــــ. منتهى الطلب. طبعة حجرية. بدون مكان وتاريخ الطبع.

٢٦ ـ الحميري القمي ، ابو العباس عبد الله بن جعفر ( القرن الرابع الهجري ). قرب الاسناد. طبعة حجرية. طهران : بدون تاريخ.

٢٧ ـ الخوئي ، ابو القاسم ( ت ١٤١٢ ه‍ ). معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة. بيروت : دار الزهراء ، ١٤٠٣ ه‍.

٢٨ ـ الامام الرضا (ع) ، علي بن موسى ( ت ٢٠٣ ه‍ ). الرسالة الذهبية الى الخليفة المأمون العباسي. النجف الاشرف : الحيدرية ، ١٣٨٥ ه‍.

٢٩ ـ الزبيدي ، محمد مرتضى ( ت ١١٩٤ ه‍ ). تاج العروس من جواهر القاموس. بيروت : مكتبة الحياة ، بدون تاريخ.

٣٠ ـ السجستاني ، ابو داود سليمان بن الاشعث بن اسحاق الازدي ( ت ٢٧٥ ه‍ ). سنن ابي داود. مصر : مكتبة الحلبي ، ١٩٥٢ م.

٣١ ـ السيوري الحلي ، جمال الدين مقداد بن عبد الله ( ت ٨٢٦ ه‍ ). التنقيح الرائع لمختصر


الشرائع. قم المقدسة : آية الله المرعشي ، ١٤٠٤ ه‍.

٣٢ ـ السيوطي ، جلال الدين. سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي. بيروت : دار احياء التراث العربي ـ بدون تاريخ.

٣٣ ـ الشهيد الاول ، محمد بن جمال الدين مكي العاملي ( ت ٧٨٦ ه‍ ). اللمعة الدمشقية. قم المقدسة : دار الناصر ، ١٤٠٦ ه‍.

٣٤ ـ الشهيد الثاني ، زين الدين الجبعي العاملي ( ت ٩٦٥ ه‍ ). الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية. قم : دارالهادي ، ١٤٠٣ ه‍.

٣٥ ـ ــــ. مسالك الافهام في شرح شرائع الاسلام. طبعة حجرية. قم : دار الهدى ـ بدون تاريخ.

٣٦ ـ الصدوق ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( ت ٣٨١ ه‍ ). الخصال. طهران : دار الكتب الاسلامية ، ١٣٧٦ ه‍.

٣٧ ـ ــــ. علل الشرائع. النجف الاشرف : النعمان ، ١٣٨٥ ه‍.

٣٨ ـ ــــ. عيون اخبار الرضا. طهران : دار الكتب الاسلامية ، ١٣٧٧ ه‍.

٣٩ ـ ــــ. معاني الاخبار. طهران : دار الكتب الاسلامية ، ١٣٩٧ ه‍.

٤٠ ـ ــــ. المقنع. طبعة حجرية. قم : ١٣٧٧ ه‍.

٤١ ـ ــــ. من لا يحضره الفقيه. بيروت : الاعلمي ، ١٤٠٨ ه‍.

٤٢ ـ الطبرسي ، ابو علي الفضل بن الحسن ( ت ٥٤٨ ه‍ ). اعلام الورى. النجف الاشرف : الاداب ، ١٣٩٠ ه‍.

٤٣ ـ ــــ. مجمع البيان. صيدا : مطبعة العرفان ، ١٣٣٣ ه‍.

٤٤ ـ ــــ. مكارم الاخلاق. الطبعة السادسة. بيروت : الاعلمي ، ١٩٨٢ م.

٤٥ ـ الطوسي ، ابو جعفر محمد بن الحسن ( ت ٤٦٠ ه‍ ). الاستبصار. طهران : دار الكتب


الاسلامية ، ١٣٩٠ ه‍.

٤٦ ـ ــــ. الامالي. طبعة حجرية. طهران : ١٣٠٠ ه‍.

٤٧ ـ ــــ. تهذيب الاحكام في شرح المقنعة للمفيد. طهران : دار الكتب الاسلامية ، ١٣٩٠ ه‍.

٤٨ ـ ــــ. مصباح المتهجد وسلاح المتعبد. طبعة حجرية عن نسخة خطية بتاريخ ١٠٨٢ ه‍.

٤٩ ـ فخر المحققين ، ابو طالب محمد بن الحسن بن يوسف ( ت ٧٧١ ه‍ ). ايضاح الفوائد في شرح القواعد. قم : المطبعة العلمية ، ١٣٨٧ ه‍.

٥٠ ـ الفيروز آبادى ، ابو طاهر محمد بن يعقوب. تنوير المقابس من تفسير ابن عباس. مصر : التجارية ، ١٣٨٠ ه‍.

٥١ ـ القسطلاني ، ابو العباس شهاب الدين احمد بن محمد ( ت ٩٢٣ ه‍ ). ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري. بيروت : دار احياء التراث العربي.

٥٢ ـ الكليني ، ابو جعفر محمد بن يعقوب ( ت ٣٢٩ ه‍ ). فروع الكافي. طهران : دار الكتب الاسلامية ، ١٣٧٩.

٥٣ ـ المجلسي ، محمد باقر بن محمد تقي ( ت ١١١١ ه‍ ). بحار الانوار. طهران : المطبعة الكمبانية ، ١٣٧٦ ه‍.

٥٤ ـ المحقق الحلي ، نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى ( ت ٦٧٦ ه‍ ). شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام. طبعة حجرية. تبريز : ١٢٨٤ ه‍.

٥٥ ـ المتقي الهندي ، علاء الدين ( ت ٩٧٥ ه‍ ). كنز العمال من سنن الاقوال والافعال. الطبعة الثانية. حيدر آباد : جمعية دائرة المعارف العثمانية ، ١٣٦٩ ه‍.

٥٦ ـ المفيد ، ابو عبد الله محمد بن محمد النعمان ( ت ٤١٣ ه‍ ). الاختصاص. طهران : مكتبة


الصدوق ، ١٣٧٩ ه‍.

٥٧ ـ ــــ. الارشاد. بيروت : الاعلمي ، ١٣٩٩ ه‍.

٥٨ ـ ــــ. المجالس او العيون والمحاسن. طهران : الكتب الاسلامية ، ١٣٨٠ ه‍.

٥٩ ـ النجفي ، محمد حسن ( ت ١٢٦٦ ه‍ ). جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام. تحقيق محمود القوچاني. طهران : دار الكتب الاسلامية.

٦٠ ـ ادلر ، ادرائيل وجوديث شوفال : الضغوط المتداخلة خلال عملية نشر الطب اجتماعيا. مقالة علمية فى مجلة ( النشرة الاجتماعية الامريكية النقدية ). مجلد ٤٣ ، سنة ١٩٧٨ م. ص ٦٩٣ ـ ٧٠٤.

٦١ ـ ارلوك ، ارنولد واخرون. اعادة النظر في فكرة دور المرض : تقييم تجريبي. مقالة علمية فى مجلة ( الصحة والسلوك الاجتماعي ). مجلد ٢٠ ، سنة ١٩٧٩ م. ص ٤٣٢ ـ ٤٣٩.

٦٢ ـ اندرسون ، تومثي وديفيد هيلم. العلاقة بين الطبيب والمريض : عملية مفاوضة حقيقية. مقالة علمية في كتاب ( المرضى ، الاطباء ، والمرض ). تحرير كارتلي جيكو. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٧٩ م.

٦٣ ـ اليچ ، ايفان. اللعنة الطبية : مصادرة الصحة. نيويورك : بانثيون ، ١٩٧٦ م.

٦٤ ـ الينك ، ري. دراسة قومية حول الانظمة الصحية. نيوجرسي : الكتب التجارية ، ١٩٨٠ م.

٦٥ ـ ايبشتاين ، صموئيل. سياسة السرطان. سان فرانسسكو : كتب نادي سيرا ، ١٩٧٨ م.

٦٦ ـ بارسن ، تالكوت. اعادة النظر في دور المريض ودور الطبيب. مقالة علمية فى مجلة ( الصحة والمجتمع ) الامريكية ، صيف ١٩٧٥ م. ص ٢٥٧ ـ ٢٧٨.

٦٧ ـ ــــ. بحوث في النظرية الاجتماعية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٥٤ م.

٦٨ ـ ــــ. تعريفات الصحة والمرض على ضوء القيم الامريكية والتركيب الاجتماعي.


مقالة علمية في كتاب ( المرضى ، الاطباء ، والمرض ). تحرير كارتلي جيكو. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٥٨ م.

٦٩ ـ بلوم ، صموئيل. القوة والمعارضة في المدرسة الطبية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٧٣.

٧٠ ـ بيكر ، هارود واخرون. الاولاد في الملابس البيضاء : ثقافة الطلبة في المدرس الطبية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٦١ م.

٧١ ـ توري ، اي. اف .. موت الطب النفسي. نيويورك : نينكوين ، ١٩٧٤ م.

٧٢ ـ تويدل ، اندريو. السلوك المرضي ودور المرض. كامبردج ، ماساشوست : مطبعة شينكمان ، ١٩٧٩ م.

٧٣ ـ ــــ. المرض والانحراف. مقالة علمية في مجلة ( العلوم الاجتماعية والطب ) الامريكية. المجلد ٧ ، ١٩٧٣ م. ص ٧٥١ ـ ٧٦٢.

٧٤ ـ تويدل ، اندريو وريجارد هسلر. علم اجتماع الصحة. الطبعة الثانية. نيويورك : ما كميلان ، ١٩٨٦ م.

٧٥ ـ چاچ ، توماس. خرافة الاضطراب العقلي. نيويورك : هاربر ورو ، ١٩٧٤ م.

٧٦ ـ ــــ. صناعة الجنون. نيويورك : دل ، ١٩٧٠ م.

٧٧ ـ ــــ. الفكر والجنون. نيويورك : انكر ، ١٩٧٠ م.

٧٨ ـ جوناس ، ستيفن. الغموض الطبي : تدريب الاطباء في الولايات المتحدة ، نيويرك : نورتن ، ١٩٧٨ م.

٧٩ ـ چيفيان ، اريك وآخرون. المساعدة الاخيرة : الابعاد الطبية للحرب النووية. سان فرانسسكو : فريمان ، ١٩٨٢ م.

٨٠ ـ جيكو ، كارتلي. المرض ، الاطباء ، والامرض. نيويرك : المطبعة الحرة ، ١٩٧٩ م.

٨١ ـ دنيسون ، دارون وآخرون. الكحول والسلوك. مقدمة تعليمية فعالة. سانت لويس :


موزبي ، ١٩٨٠ م.

٨٢ ـ دوبس ، رينيه. ما الصحة الا سراب ! نيويورك : دبل دي ، ١٩٥٩ م.

٨٣ ـ ــــ. الانسان ، الطب والبيئة. نيويورك : مونتور ، ١٩٦٩.

٨٤ ـ دوفي ، جون. الذين بيدهم الشفاء : بروز المؤسسة الطبية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٧٦ م.

٨٥ ـ ديفس ، فراد. مهنة التمريض. نيويورك : وايلي ، ١٩٦٦ م.

٨٦ ـ ديفس ، كارين. التأمين الصحي القومي. واشنطن دي سي : معهد بروكنكس ، ١٩٧٥ م.

٨٧ ـ رومير ، ميلتون. دراسة مقارنة بين السياسات القومية للعناية الصحية. نيويورك : مارسيل ديكر ، ١٩٧٧ م.

٨٨ ـ ريلمان ، ارنولد. مجمع الصناعة الطبية الحديث. مقالة علمية في مجلة ( نيوانكلاند الطبية ) ، مجلد ٣٠٣ ، سنة ١٩٨٠ م. ص ٩٦٣ ـ ٩٧٠.

٨٩ ـ زبوروسكي ، مارك الناس في ألم. سان فرانسسكو : جوسي ـ باس ، ١٩٦٩ م.

٩٠ ـ زولا ، ارفينك. الطب كمؤسسة للسيطرة الاجتماعية. مقالة علمية في مجلة ( نشرة النقد الاجتماعي ) ، مجلد ٢٠. سنة ١٩٧٢ م. ص ٤٨٠ ـ ٥٠٤.

٩١ ـ ستار ، بول. التغير الاجتماعي للطب الامريكي. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨٢ م.

٩٢ ـ سترونك ، بي أم. الاستعمار الاجتماعي ومهنة الطب : فحص لاطروحة الطب الاستعماري. مقالة علمية في مجلة ( العلوم الاجتماعية والطب ) الامريكية ، مجلد ١٣ أ ، الجزء الثاني ، سنة ١٩٧٩ م. ص ١٩٩ ـ ٢١٥.

٩٣ ـ سلاف ، جيمس وجون بروبيكر. مرض الايدز المعدي. نيويورك : ورنرر ، ١٩٨٥ م.

٩٤ ـ سيغال ، الكسندر. فكرة التمارض : فهم للسلوك المرضي. مقالة علمية فى مجلة ( الصحة والسلوك الاجتماعي ) ، مجلد ١٧ ، سنة ١٩٧٦ م. ص ١٦٢ ـ ١٦٩.


٩٥ ـ شورتر ، ادوارد. اخلاقية فراش المرض : التاريخ المضطرب للاطباء والمرضى. نيويورك : سايمون وشوستر ، ١٩٨٦ م.

٩٦ ـ غوتفرايد ، روبرت. الموت الاسود : الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٨٣ م.

٩٧ ـ فتنر ، ان كوديسي ووليام چك. الحقيقة حول مرض الايدز : تطور المرض المعدي. نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، ١٩٨٤ م.

٩٨ ـ فريدسون ، اليوت. السيطرة المهنية. شيكاغو : الداين ، ١٩٧٠ م.

٩٩ ـ ــــ. المهنة الطبية. نيويورك : دود وميد ، ١٩٧٠.

١٠٠ ـ ــــ. نطبب معا. نيويورك : السفاير ، ١٩٧٥ م.

١٠١ ـ ــــ. نطبب معا : دراسة في السيطرة الاجتماعية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٠ م.

١٠٢ ـ فريمان ، هاورد وآخرون ( محررون ). كتاب الجيب : علم الاجتماع الطبي. الطبعة الثانية. انجلوود كلفس ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٢ م.

١٠٣ ـ فوجيل ، فيرجيل. طب الهنود الحمر الامريكان. نيويورك : بالانتاين ، ١٩٧٠ م.

١٠٤ ـ فوكس ، رينيه. التدريب نحو المجهول. فصل علمي في كتاب ( الطبيب الطالب ) تحرير روبرت ميرتون وآخرون. كامبردج ، ماساشوست : مطبعة جامعة هارفرد ، ١٩٥٧ م.

١٠٥ ـ ــــ. تطبيب وعدم تطبيب المجتمع الامريكي. مقالة علمية في مجلة ( ديدالس ) الامريكية ، شتاء ١٩٧٧ م.

١٠٦ ـ فيشباك ، ميوري. مشاكل النظام الصحي السوفيتي. مقالة علمية في مجلة ( المجتمع ) الامريكية. مارس ـ ابريل ، ١٩٨٤ م. ص ٨٠ ـ ٨٩.

١٠٧ ـ فيلانت ، جورج. التاريخ الطبيعي للادمان على الكحول : اسبابه ، اشكاله ، وطرق


معالجته. كامبردج ، ماساشوست : مطبعة جامعة هارفرد ، ١٩٨٣ م.

١٠٨ ـ فيوكس ، فيكتور. اقتصاد النظام الصحي. كامبردج ، ماساشوست : مطبعة جامعة هارفرد ، ١٩٨٦ م.

١٠٩ ـ ــــ. كيف نعيش : بعد اقتصادي حول حياة الامريكان من الولادة وحتى الموت. كامبردج ، ماساشوست : مطبعة جامعة هارفرد ، ١٩٨٣ م.

١١٠ ـ كاتز ، جي. العالم الصامب للطبيب والمريض. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٦ م.

١١١ ـ كارلسن ، ريك. نهاية الطب. نيويورك : وايلي ، ١٩٧٦ م.

١١٢ ـ كاليفانو ، جوزيف. ثورة النظام الصحي في امريكا. نيويورك : راندم هاوس ، ١٩٨٥ م.

١١٣ ـ كراس ، اليوت. السلطة والمرض : علم الاجتماع السياسي للصحة والعناية الطبية. نيويورك : السفاير ، ١٩٧٧ م.

١١٤ ـ كلارك ، دبليو جي وجي ديل كايدس. مبادئ علم الصيدلة. الطبعة الثانية. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٨٢ م.

١١٥ ـ كلارك ، كانداس. المرض والسيطرة الاجتماعية. مقالة علمية في كتاب ( التدخل الاجتماعي : قراءات في علم الاجتماع ). تحرير هاورد روبي وكانداس كلارك. الطبعة الثانية. نيويورك : سانت مارتن ، ١٩٨٣ م.

١١٦ ـ كلندنج ، لوكان. مصادر التاريخ الطبي. نيويورك : مطبوعات دوفر ، ١٩٤٢ م.

١١٧ ـ كو ، رودني. علم اجتماع الطب. الطبعة الثانية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٧٨ م.

١١٨ ـ كوفمان ، دي دبليو وآخرون. النيكوتين واول اوكسيد الكاربون من محتويات السجائر ، وخطورة الامراض القلبية للشباب المدخنين. مقالة علمية في مجلة ( نيوانكلاند الطبية ) ، مجلد ٣٠٨ ، عدد ٨ ، ٢٤ شباط ١٩٨٣ م. ص ٤٠٩ ـ ٤١٣.


١١٩ ـ كوكرهام ، وليم. علم اجتماع الاضطراب العقلي. نيوجرسي : مطبعة برنتس ـ هول ، ١٩٨١ م.

١٢٠ ـ ــــ. علم الاجتماع الطبي. نيوجرسي : هول ، ١٩٨٦ م.

١٢١ ـ كومبس ، روبرت. الكفاءة في الطب : الممارسة الاجتماعية في المدرسة الطبية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٧٨ م.

١٢٢ ـ كونراد ، بيتر وجوزيف شنابدر. الانحراف والتطبيب : من الوضع السيء الى المرض. سانت لويس : موزبي ، ١٩٨٠ م.

١٢٣ ـ كونراد ، بيتر وروچلي كيرن ( محررون ). علم اجتماع الصحة والمرض : ابعاد حاسمة. نيويورك : سانت مارتن ، ١٩٨١ م.

١٢٤ ـ كيرتز ، ريتشارد وبول چالفانت. علم اجتماع الطب والمرض. بوستن : ألن وبيكون ، ١٩٨٤ م.

١٢٥ ـ كيسر ، ميشيل. العناية الصحية في الاتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية. بولدر ، كولورادو : المطبعة الغربية ، ١٩٧٦ م.

١٢٦ ـ لارسن ، دونلاد وايفرنك روتمان. دور الطبيب في الاداء وقناعة المريض. مقالة علمية فى مجلة ( العلوم الاجتماعية والطب ) الامريكية ، مجلد ١٠ ، سنة ١٩٧٦ م. ص ٢٩ ـ ٣٢.

١٢٧ ـ لايم ، ليونارد وليسا بيركمان. الطبقة الاجتماعية ، قابلية التأثر ، والمرض. مقالة علمية في ( المجلة الامريكية لعلم الامراض المعدية ) ، المجلد ١٠٤ ، ١٩٧٦ م. ص ١ ـ ٨.

١٢٨ ـ لوربر ، جوديث. المرضى ذوالسلوك الجيد والمرضى ذوالسلوك المضطرب : الانسجام والانحراف في المستشفى. مقالة علمية في مجلة ( الصحة والسلوك الاجتماعي ) الامريكية ، مجلد ١٦ ، ١٩٧٥ م. ص ٢١٣ ـ ٢٢٥.

١٢٩ ـ ليونز ، البرت وجوزيف بيتروسلي. الطب : تاريخ مصور. سانت لويس : موزبي /


تايمز ـ مرر ١٩٧٨ م.

١٣٠ ـ المعهد القومي للشرطة والعدالة القضائية. الكحول والجريمة. واشنطن دي سي : وزارة العدل الامريكية ، ١٩٧٦ م.

١٣١ ـ مور ، لورنا وآخرون. القاعدة الثقافية البيولوجية للصحة : توسيع الاراء حول الانثروبولوجيا الطبية. سانت لويس : موزبي ، ١٩٨٠ م.

١٣٢ ـ ميكانك ، ديفيد. الاضطراب العقلي والسياسة الاجتماعية. الطبعة الثانية. نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٨٠ م.

١٣٣ ـ ــــ. الاعراض ، السلوك المرضي ، والبحث عن الصحة. نيوجرسي : مطبعة جامعة روتجرز ، ١٩٨٢ م.

١٣٤ ـ ــــ. علم الاجتماع الطبي. الطبعة الثانية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٧٨ م.

١٣٥ ـ ــــ. قراءات في علم الاجتماع الطبي. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٨٠ م.

١٣٦ ـ ــــ. النمو في البيروقراطية الطبية. نيويورك : وايلي ، ١٩٧٦ م.

١٣٧ ـ ميكنلي ، جون وسونيا ميكنلي. المساهمة المريبة للنظام الطبي في انخفاض عدد الموتى في الولايات المتحدة في القرن العشرين. مقالة علمية في مجلة ( الصحة والمجتمع ) ، مجلد ٥٣ ، عدد ٣ ، ١٩٧٧ م.

١٣٨ ـ نافارو ، فيسنت. الطب تحت ظل الرأسمالية. نيويورك : بروديست ، ١٩٧٦ م.

١٣٩ ـ ناي ، ريتشارد. تأثير التدخين خلال الحمل على موت الجنين. مقالة علمية في مجلة ( الامراض النسائية ) الامريكية ، مجلد ٥٧ ، عدد ١ كانون الثاني ١٩٨١م. ص ١٨ ـ ٢١.

١٤٠ ـ نولز ، جون. المسؤولية الفردية. مقالة علمية في مجلة ( ديدلس ) ، مجلد ١٠٦ ، شتاء ١٩٧٧ م. ص ٥٧ ـ ٨٠.

١٤١ ـ هول ، ستانلي. المجتمع الطبي الصناعي. نيويورك : كتب هارموني ، ١٩٨٤ م.


١٤٢ ـ وستن ، جيمس. تأثير الكحول على فعالية الانسان : دور الكحول في الموت غير الطبيعي. مقالة علمية في نشرة ( المجلة الامريكية للامراض السريرية ) ، مجلد ٧٤ ، عدد ١٥ ، نوفمبر ١٩٨٠. ص ٧٥٥ ـ ٧٥٨.

١٤٣ ـ وسلجر ، سي أي. الطب الغيبي للهنود الحمر. نيوجرسي : اتلانتك الوسطى ، ١٩٧٣ م.

١٤٤ ـ ويتكن ، هاورد. المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٦ م.

١٤٥ ـ ويتكن ، هاورد وباربرا وترمان. استغلال المرض في المجتمع الرأسمالي. انديانبلس : بوبس ـ ميريل ، ١٩٧٤ م.



هذه القائمة الاضافية بالمصادر الاجنبية خاصة بالطبعة الجامعية لهذا الكتاب. وهي موجهة لمساعدة كل الذين يبذلون جهدا استثنائيا في ملاحقة بحوث الكتاب من مصادرها الاجنبية وبنفس اللغة التي كتبت بها ، وتطوير بحوث ونظريات ونقديات علم الاجتماع الاسلامي بما يناسب الوضع الاجتماعي المتغير للعالم الاسلامي.

ADLER, ITRAEL, and JUDITH T. SCHUVAL. " Cross pressures during socialization for medicine. "American Sociological Review, ٤٣, ١٩٧٨, pp.

٦٩٣ – ٧٠٤.

ANDERSON, W. TIMOTHY, and DAVID T. HELM. " The physician - patient encounter : A process of reality negotiation." in E. Gartly Jago ( ed. ), Patients, Physicians, and Illness. New York : Free press, ١٩٧٩.

ARLUKE, ARNOLD, LOUANNE KENNEDY, and RONALD C. KESSLER.

" Reexamining the sick role concept : An empirical assessment. " Journal of Health and Social Behavior, ٢٠, ١٩٧٩, pp. ٤٣٢ – ٤٣٩.

BECKER, HOWARD S. , et al. Boys in the White: Student culture in Medical School. Chicago : Univrsity of Chicago press, ١٩٦١.

BLOOM, SAMUEL W. POWER and Dissent in the Medical School. New York : Free Press, ١٩٧٣.

CARLON, RICK. THE End of Medicine. New york : wiley, ١٩٧٦.

CALIFANO, JOSEPH A. America's Health Care Revolution. New York

Random House, ١٩٨٥.

CHAVIAN, ERIC, et al. LAST Aid : The Medical Dimensions of Nuclear War.

San Francisco: Freeman, ١٩٨٢.

CLARK, CANDACE. " Sickness and Social Control, " in Howard Robby and Candace Clark ( eds. ), Social Interaction : Readings in Sociology. ٢nd ed.

New York : St. Martin's Press, ١٩٨٣.

CLENDENING, LOGAN ( ed. ) Sourcebook of Medical History. New York : Dover Publications, ١٩٤٢.

COCKERHAM, WILLIAM C. Sociology of Mental Disorder. Englewood Cliffs,N.J. : Prentice - Hall, ١٩٨١.

----. Medical Sociology. ٣rd ed. Englewood cliffs, N. J. : Prentice – Hall,


١٩٨٦.

COE, RODNEY M. Sociology of Medicine. ٢nd ed. New York : McGraw – Hill, ١٩٧٨.

CONRAD, PETER, and JOSEPH W. SCHNEIDER. Deviance and Medicalization : From Badness to Sickness. St. Louis : Mosby,١٩٨٠.

----. and ROCHELLE KERN ( eds. ). The Sociology of Health and Illness: critical Perspectives. New York : St. Martin's Press, ١٩٨١.

COOMBS, ROBERTH. Mastering Medicin: Professional Socialization in Medical School. New York: Free Press, ١٩٧٨.

DAVIS, FRED ( ed. ) The Nursing Prefession. New York : Willy, ١٩٦٦.

DAVIS, KAREN. National Health Insurance. washington, D. C. : Brookings Institution, ١٩٧٥.

DENNISON. DARWIN D. et al. Alcohol and Behavior : An Aetivated Education Approach. St. louis : Mosby, ١٩٨٠.

DUBOS, RENE. Health as Mirage. New York : Doubleday,١٩٥٩.

----. Man , Medicine, and Environment. New York : Mentor, ١٩٦٩.

DUFFY, JOHN. The Healers : The Rise of the Medical Establishment. New York : McGraw –Hill, ١٩٧٦.

ELLING, RAY H. Cross - National Study of Health Systems. New Brunswick, N. J. Transaction Books,١٩٨٠.

EPSTEIN, SAMUEL S. The Politics of cancer. San Francisco: Sierra Club Books Sierra,١٩٧٨.

FESHBACK, MURRAY. " soviet health problems, " Socity, March / April ١٩٨٤, pp. ٨٠- ٨٩.

FETTNER, ANN GUIDICI and WILLIAM A. CHECK. The Truth about AIDS:

Evolution of an epidemic. New York: Holt, Rinehart and Winston, ١٩٨٤.

FOX, RENEE. "Trainig for uncertainty, "in Robert K. Merton, George C. Reader and Patricia Kendall ( eds. ) The Student Physician. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, ١٩٥٧.

----. The medicalization and demedicalization of American Society. " Daedalus, Winter ١٩٧٧.

FREEMAN , HOWARD E, SOL LEVINE, and LEO G. REEDER ( eds. )

Handbook of medical sociology. ٢nd ed.Englewood Cliffs, N , J.: Prentice - hall, ١٩٧٢.

FREIDSON, ELIOT. Professional Dominance. Chicago: Aldine, ١٩٧٠.

----. Profession of Medicine. New York: Dodd, Mead, ١٩٧٠.

----. Doctoring Together. New York: Elsevier, ١٩٧٥.

----. Doctoring Together : A Study of Professional Social Control.

chicago: University of Chicago Press, ١٩٨٠.


FUCHS, VICTOR R. How We Live: An Economic Perspective on Americans from Birth to Death. Cambridge, Mass.: harvard University Press, ١٩٨٣.

The Health Economy. Cambridge, Mass.: Harvard Unversity Press, ١٩٨٦.

GOTTFIED, ROBERT S. The Black Death: Natural and Human Disaster in Medieval Europe. New York: Free Press, ١٩٨٣.

ILLICH, IVAAN. Medical Nemesis: The Expropriation of Health. New York: Pantheon, ١٩٧٦.

JACO, E. GARTLY ( ed. ). Patients, physicians, and Illness. ٣rd er. New York: Free Press, ١٩٧٩.

JONAS, STEPHEN. Medical Mystery: The Trainig of Doctors in the United States. New York: Norton, ١٩٧٨.

KASER, MICHAEL. Health Care in the Soviet Union and Eastern Europe.

Boulder, Col: Westview Press, ١٩٧٦.

KATZ, JAY. The Silent Word of Doctor and Patient. Chicago: University of Chicago Press, ١٩٨٦.

KAUFMAN, D. W. et al." Nicotine and Carbon Monoxide content of cigarette Smoke and the Risk of Myocardial Infarction in Young Men." New ENGLAND Journal of Medicine. ٣٠٨, no. ٨, Feb. ٢٤ ١٩٨٣. pp. ٤٠٩ - ٤١٣.

KNOWLES, JOHN H. "The responsibility of the individual." Daedalus, ١٠٦, Winter ١٩٧٧, pp. ٥٧ - ٨٠.

KRAUSE, ELLIOT A. Power and Illness: The Political Sociology of Health and Medical Care. New York: Elsevier, ١٩٧٧.

KURTZ, RICHARD A. and, H. PAUL CHALFANT. Sociology of Medicine and Illness. Boston: Allyn and Bacon, ١٩٨٤.

LARSON, DONALD E., and IRVING ROOTMAN. "Physician role performance and patient satisfaction." Social Science and Medicine, ١٠, ١٩٧٦, pp. ٢٩ - ٣٢.

LORBERT, JUDITH. "Good patients and problem patients: Conformity and deviance in a general hospital." Journal of Health and Social Behavior,١٦, ١٩٧٥, pp. ٢١٣ - ٢٢٥.

LYME, S. LEONARD, and LISA F. BERKMAN. "Social class, susceptibility, and sickness." American Jornal of Epidemiology,١٠٤, ١٩٧٦, pp. ١ - ٨.

LYONS, ALBERT S., and R. JOSEPH PETRUCELLI. Medicine : An Illustrated History. St. loius: Mosby / Times Mirror, ١٩٧٨.

MCKINLAY, JOHN B., and SONIA M. MCKINLAY. "The questionable contribution of medical measures to the decline of mortality in the United States in the twentieth century." Health and Society,٥٣:٣, ١٩٧٧.

MECHANIC, DAVID. The Growth of Bureaucratic Medicine. New York: Willey, ١٩٧٦.


Medical Sociology. ٢nd ed. New York: Free Press, ١٩٧٨.

Mental Health and Social. Policy. ٢nd ed. Englewood Cliffs, N.J.: prentice - Hall, ١٩٨٠.

Readings in Medical Sociology. New York : Free Press, ١٩٨٠.

( ed. ). Symptoms, Illness, Behavior, and Health - Seeking. New Brunswick, N. J. : Rutgers University Press, ١٩٨٢.

MOORE, LORNA G., et al. The Biocultural Basis of Health: Expanding

views of Medical Anthropology. St, louis: Mosby,١٩٨٠.

NAEYE, RICHARD L. "Influence of Maternal Cigarette Smoking During Pregnancy on Fetal and Childhood Growth." Obstetrics & Gynecology.٥٧, no. ١, Jan, ١٩٨١. pp ١٨ - ٢١.

National Institute of Law Enforcement and Criminal Justice, Law Enforcement Assistance Administration. Alcohol and Crime: Reference Services Statistics. Washington, D.C.: U.S. Dept. of Justice, ١٩٧٦.

NAVARRO, VICENT. Medicine under Capitalism. New York, Prodist, ١٩٧٦.

PARSONS, TALCOTT. "The professions and social structure, "in Talcott Parsons ( ed. ), Essays in Sociological Theory. New York: Free Press,١٩٥٤.

" Definitions of health and illnes in the light of American values and social structure." in E. Garthy Jaco, Patientes, Physicians, and Illness. New York: Free Press, ١٩٨٥.

"The sick role and the role of the physician reconsidered." Health and Society, Summer ١٩٧٥, pp. ٢٥٧ – ٢٧٨.

RELMAN, ARNOLD S. "The new medical industrial complex." New England Journal, of medicine, ٣٠٣, ١٩٨٠, pp. ٩٦٣ – ٩٧٠.

ROEMER, MILTON I. Comparative Natioal Policieis on Health Care. New York: Marcel Dekker, ١٩٧٧.

SEGAL, ALEXANDER. "The sick role concept: Understanding illness behavior." Journal of Health and Social Behavior, ١٧, ١٩٧٦, pp. ١٦٢ - ١٦٩.

SHORTER, EDWARD. Bedside Manners: The Troubled History of Doctors and Patientes. New York: Simon and Schuster, ١٩٨٦.

SLAFF, JAMES, and JOHAN K. BRUBAKER. The AIDS Epidemic. New York: Warner, ١٩٨٥.

STARR, PAUL. The Social Transformation of American Medicine. New York: Basic BooKs, ١٩٨٢.

STRONG, P. M. "Sociological imperialism and the profession of medicine: critical examination of the thesis of medical imperialism." Social Science and Medicine, ١٣A:٢, ١٩٧٩, pp. ١٩٩ - ٢١٥.

SZASZ, THOMAS. The Manufacture of Madness. New York: Dell, ١٩٧٠.

Ideology and Insanity. New York: Anchor, ١٩٧٠.


----. The Myth of Mental Illness. Rev. ed. New York: Harper & Row,١٩٧٤.

TORREY, E.F. The Death of Psychiatry. New York: Penguin, ١٩٧٤.

TWADDLE, ANDREW. " Illness and deviance." Social Science and Medicine, ٧, ١٩٧٣, pp. ٧٥١ - ٧٦٢.

Sikness Behavior and the Sick Role. Cambridge, Mass.: Schenkman,١٩٧٩.

----. and RICHARD HESSLER. A Sociology of Health.٢nd ed. New York Macmillan, ١٩٨٦.

VAILLANT, GEORGE. The Natural History of Alcoholism: Causes, Patterns, and Paths to Recovery. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, ١٩٨٣.

VOGEL, VIRGIL. American Indian Medicine Man. New York: Ballantine, ١٩٧٠.

WAITZKIN, HAWARD, and BARBARA WATERMAN. The Exploitation of Illness in Capitalist Society. Indianapolis : Bobbs – Merill, ١٩٧٤.

----. The Second Sickness : Contradictions of Capitalist Health Care. Chicago : University of Chicago, ١٩٨٦.

WESLAGER, C. A. Magic Medicine of the Indians. Somerset, N. J.: Middle Atlantic Press, ١٩٧٣.

WESTON, JAMES T. "Alcohol's Impact on Man's Activities: Its Role in Unnatural Death." American Journal of Clinical Pathology, ٧٤, no. ١٥, Nov. ١٩٨٠. pp. ٧٥٥ - ٧٥٨.

WOHL, STANLY. The Medical Industrial Complex. New York: Harmony Books, ١٩٨٤.

ZBOROWSKI, MARK. People in Pain. San Francisco: Jossey - Bass, ١٩٦٩.

ZOLA, IRVING K. "Medicine as an institution of social control." Sociological Review, ٢٠, ١٩٧٢, pp. ٤٨٠ - ٥٠٤.



الفهرست

المقدمة ........................................................................ ٧

اطروحة الكتاب .............................................................. ١٣

القسم الاول : النظام الصحي في النظرية الرأسمالية ............................... ١٥

الطب في النظرية التوفيقية ..................................................... ١٧

نقد النظرية التوفيقية .......................................................... ٢١

وظيفة الطب ................................................................. ٢٤

الطب في نظرية الصراع الاجتماعي ............................................ ٢٧

الطب في النظام الرأسمالي البريطاني .............................................. ٣٠

الطب في النظام الرأسمالي الامريكي ............................................. ٣٢

اسباب انعدام عدالة النظام الصحي الامريكي .................................... ٣٦

المرض والنظام الحياتي للفرد .................................................... ٤٠

العلاقة بين الطبيب والمريض ................................................... ٤٤

الخبرة الطبية وروادها في النظام الرأسمالي ......................................... ٤٧

القسم الثاني : النظام الصحي في النظرية الاسلامية ............................... ٥٥

أهمية النظام الصحي .......................................................... ٥٧


نظرية الاسلام في الطب ....................................................... ٦١

العلاقة بين الطبيب والمريض ................................................... ٧٣

اهل الخبرة الطبية ............................................................. ٧٧

ضمان الطبيب ............................................................... ٨٠

النظام الصحي في الاسلام ..................................................... ٨٤

اولاً : النظام الوقائي .......................................................... ٩٠

١ ـ ما يؤكل من الأطعمة ................................................. ٩١

أ ـ الحيوانات المحرم أكلها بالذات ........................................... ٩١

ب ـ الاشربة والحبوب والثمار المحرمة بالذات ................................ ٩٥

الخمر : الناحية الشرعية : ................................................ ٩٦

الخمر : الناحية التجريبية : ............................................... ٩٧

ج ـ الحيوانات المحرم اكلها بالواسطة ...................................... ١٠٢

د ـ الحيوانات المحرم اكلها بالذات المحلل اكلها بالواسطة ..................... ١٠٣

٢ ـ التدخين والمخدّرات ................................................. ١٠٥

التدخين والمخدرات : الناحة الشرعية .................................... ١٠٥

التدخين : الناحية التجريبية ............................................. ١٠٦

٣ ـ السواك وتطهير الفم ................................................. ١٠٩

٤ ـ النوم وآدابه ........................................................ ١١٢

٥ ـ الطهارة المائية ....................................................... ١١٦

٦ ـ الطهارة العامة ...................................................... ١١٧

٧ ـ الصيام واحكامه .................................................... ١١٨


الاستنتاج .................................................................. ١٢٣

ثانياً : النظام الغذائي ........................................................ ١٢٧

١ ـ آداب المائدة ........................................................ ١٢٩

٢ ـ استحباب تناول الحبوب والفاكهة والخضار ............................ ١٣٠

٣ ـ الاعتدال في تناول اللحوم المحلل اكلها ................................. ١٣٢

٤ ـ التذكية الشرعية .................................................... ١٣٤

أ ـ الصيد .............................................................. ١٣٥

ب ـ الذباحة ........................................................... ١٣٩

ج ـ النحر ............................................................. ١٤٠

د ـ الاخراج من الماء .................................................... ١٤١

٥ ـ النظام الشفائي في العسل ............................................ ١٤٣

ملحق : بعض الروايات في النظام الغذائي ................................... ١٤٤

الاستنتاج .................................................................. ١٤٦

ثالثاً : النظام العلاجي ....................................................... ١٤٩

تصرفات المريض ............................................................ ١٥١

الميت واحكامه ............................................................. ١٥٤

المصادر المقترحة ............................................................ ١٥٩

الفهرست .................................................................. ١٧٩

النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام

المؤلف: الدكتور زهير الاعرجي
الصفحات: 181