

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
يتبوأ القرآن العظيم مقعد صدقٍ في
الضمائر المؤمنة الحيّة ، تستلهم هدايته ، وتستطلع إفاضته ، وتستوحي إشارته.
والقرآن نصّ إلهي تفرد بجمال الأسلوب ،
ودقة العبارة ، وعمق العطاء ، وهو كتاب الله الذي نصبه مناراً للإعجاز في شتىٰ
عوالمه التشريعية والبلاغية والأسلوبية والتأريخية وسواها ، فليس هناك غرابة أن
يجتمع فيه تأصيل الغرض الديني بإعتباره كتاب العربية الأكبر.
إنطوت أربعة عشر قرناً أو تزيد على
ميلاد هذا الكتاب المجيد ، وما زال جديداً في عطائه ، وجديداً في أفكاره ، وجديداً
في ملامحه البيانية الفذّة ، تحدى الله به الأمم والشعوب والقبائل فوجموا أمام
بلاغته العربية ، ونازل به عالم العلماء والعباقرة فانحنت الرؤوس ، وشخصت الأبصار
، وعنت العقول ، وطاول به النصوص الأدبية والتشريعية فانهزمت بين يديه ، كل هذا
وفوق هذا مما إمتاز به القرآن الكريم ، فلا غرابة إن حديث المشاعر الإنسانية على
مدارسته ، ونصب الفكر البشري في إستكناهه ، فما زال الزمان والتقدم الحضاري معاً
يوليان هذا المنبع الثّر أهمية خاصة ، فهو الرافد الذي واكب حياة الأجيال ، وهو
الشعاع الذي رافق مسيرة الحضارة.
وقد قدّر لي أن أرافق طبقة مختارة في
الجامعات والمجامع العلمية ، والجماهير المثقفة ، وأرى الجميع يتطلعون إلى شذرات
من معارف القرآن ، بل ويسألون بألحاف وإلحاح عن طائفة كبيرة من خصائصه وتعليماته ،
ويتشوفون شوقاً إلى الإجابة المعاصرة بعيداً عن الأفق التقليدي المتزمت ،
وكنت مغتبط النفس
لهذا التوجه ، مطمئن الضمير لصحة المنطلق ، أجيل فكراً نابضاً في إستقراء المجهول
، وأقدم عرضاً متواضعاً في ضوء ما أحسن ، ومن خلال هذه المناظرات والطرح المعاصر
لفكر القرآن ، تولدت جملة من الأفكار الصالحة التي يفيد منها الراهب في صومعته ،
والمفكّر في مكتبته ، والمثقف في جامعته ، والجمهور في حدود معرفته ، وإستحضرت
لذلك المؤتمرات العلمية والندوات المتخصصة ، فكانت ميداناً متسعاً لهذه الأفكار
تقابلها بالرضا حيناً ، وبالمناقشة الحرّة حيناً آخر ، وقد تسجل بأجهزة الاعلام ،
وقد تصوّر كاملة بأشرطة الفيديو ، فكانت هذا الكتاب.
هذا الكتاب عبارة عن محاضرات علمية في
نظرات معاصرة للقرآن الكريم ، ألقيت في المؤتمرات والندوات المتخصصة ، وهي خاضعة
للردّ والقبول والنقاش ، ولكنها بأية حال صورة عما أفهم ، وأطروحة لما أؤمن به ،
ليس فيها تنطعّ المتزمتين ، ولا إغلاق المتفلسفين ، جاءت كما هي عليه تعبيراً
واضحاً مفهوماً بمنأى عن الالتواء والتعنت ، وكانت حصة هذا الكتاب منها سبع
محاضرات ، ودّونت بعد عنوانها مكان وزمان إلغائها ، وهي كالآتي :
١ ـ ملامح الإعجاز في القرآن العظيم.
٢ ـ البعد العالمي في القرآن.
٣ ـ مدرسة الكوفة في تفسير القرآن
العظيم.
٤ ـ أثر القرآن الكريم في الحفاظ على
أصالة اللغة العربية.
٥ ـ الأسلوب النفسي لمكافحة الجريمة في
القرآن الكريم.
٦ ـ تحريم الخمر في القرآن الكريم.
٧ ـ مسيرة الكائن الإنساني ورسالة
السماء في القرآن العظيم.
وقد أسميتها مجتمعة « نظرات معاصرة في
القرآن الكريم » أرجو أن يلتمس بها القارئ شيئاً جديداً ، وأن يتطلع لها الشباب
بأفق متفتح ، وأن يفيد منها الباحث الموضوعي ، عسىٰ أن تكون لنا ذخراً يوم
الدين ، نعدّ فيه
من حَمَلَة القرآن ،
ونعتبر في بركته من خَدَمَتِهِ ، فيوردنا مورد الكرامة ، ويطلّ بنا على ساحة القدس
، وهذا أكبر رجائنا وأعظم أملنا.
وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه
توكلت ، وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
|
النجف الأشرف
الدكتور محمد حسين علي الصغير
أستاذ في جامعة الكوفة
|
ملامح
الإعجاز في القرآن العظيم
ألقيت في الحرم الحيدري الشريف عند
الرواق في مؤتمر الاعجاز القرآني في النجف الاشرف ليلة ٢٣ رمضان ١٤١٠ ه ١٨ نيسان
١٩٩٠ بحضور وفود علماء العرب والاسلام وبحشد حافل من علماء وأدباء النجف الاشرف ،
وقد حصل البحث على التقييم الأول ونشر في وقائع المؤتمر. وأردف البحث بمحاضرة
مرتجلة استمرت زهاء الساعة عن « إنسانية القرآن » ألقيت في الندوة العلمية لآل محي
الدين في النجف الأشرف مساء يوم ١٥ رمضان ١٤١٧ ه / الموافق ٢٥ / ١ / ١٩٩٧ م.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ
الرَّحِيمِ
الاعجاز بمفهوم بديهي : عبارة عن خرق
لنواميس الكون ، وتغيير في قوانين الطبيعة ، وقلب للنظام الثابت في الموازين إلى
نظام متحول جديد.
فالثابت هو الأصل الجاري على سنن الحياة
، والمتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة. هناك إذن
مَعْلَمات : معلم طبيعي بسيط ، ومعلم خارق معقد ، والمعلم الطبيعي لا تجد عنه
متحولاً ، فهو سنة الله في الإبداع والمعلم الخارق ما تجد فيه قلباً لتك السنن ،
ومجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة ، بأخرى إعجازية. فزوجية الكائنات هي الأصل في
بعث حقائق الأشياء ، والطريق إلى تسيير حياة الكائنات في العوالم المرئية
والمسموعة والمدركة والمتخيلة بدليل قوله تعالى :
(
سُبْحَانَ
الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) )
.
وفي هذا الضوء يكون الايجاد الطبيعي
للإنسان منسجماً مع نظام الزوجية العام في حالة متأصلة إعتيادية ، ويكون الأصل
التكويني للبشرية في خلق آدم من التراب دون الطريق الطبيعي في التناسل هو الحالة
الفريدة ، وهي الاعجاز ، ويحمل عليها كلما قابل العادة ، ولم يخضع إلى التجربة كما
في إيجاد عيسى 7
بما مثله القرآن : (
إِنَّ
مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) )
.
وليس السبق في العلم إعجازاً بل هو من
مفردات إكتشاف المجهول ،
__________________
وتحقيق الزيادة في
أولية الاستقراء والاستنباط. إذ قد يتوصل الكثيرون إلى ذلك فيما بعد بنظام أفضل ،
ومواصفات متكاملة ، فيكون الرائد في الاكتشاف أو الاختراع قد سبق الآخرين وحقق ما
لم يحققوه دون إعجاز كما هي الحال في التقنيات الحديثة ؛ وإنما الإعجاز هي التفرد
بالشيء في محور إلهي على يد الأنبياء بين يدي رسالاتهم على سبيل التحدي ، فالسبق
إلى الاكتشاف كيفية مشتركة بين فرد أو جماعات على نحو الإبتكار ، لا على سبيل
التحدي ، والمعجزة مختصة بالنبي على سبيله ، فالمبتكر ـ إذن ـ يحقق سبقاً علمياً ،
والمتحدي يحقق إعجازاً إلهياً ، وفرق بين الأمرين.
والمعجزة الالهية في هذا الملحظ على
نوعين : وقتية ودائمية ، وجميع معاجز الأنبياء وقتية ـ كما يدل عليه الاستقراء ـ ذهبت
بذهابهم ، إلا معجزة محمد وهي القرآن فإنها باقية ما بقي الدهر ؛ على أن النبي قد
شارك سائر الأنبياء في معاجزهم الموقوتة ، فكان له انشقاق القمر وتسبيح الحصى ،
وسعي الأشجار ، وشهادة الغيب ... الخ.
ومعجزة كل نبي شيء ورسالته شيء آخر ،
فمعجزة موسى 7 في العصا
واليد البيضاء والآيات البينات ، ولكن رسالته هي التوراة. ومعجزة عيسى في إبراء
الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى ، ولكن رسالته هي الانجيل ، إلا
نبينا محمد فإن معجزته عين رسالته ، ورسالته هي معجزته ، وهما معاً القرآن .
وبراعة الإعجاز تتجلى في ملائمة قضية
الإعجاز لكل نبي بما يلائم عصره ، وينسجم مع فنون جيله ، ويعزى إلى حياة قومه فيما
هو طبيعي أو خارق دون تحد.
وكان الامام علي بن موسى الرضا 7 أول من نبه إلى هذه الحقيقة العالية
فيما رواه ابن السكيت ( ت : ٢٤٤ ه ) قال ابن السكيت للإمام الرضا 7 : « لماذا بعث الله موسى بن عمران 7 بالعصا ويده البيضاء ، وآلة السحر ؟
وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً 6
بالكلام والخطب ؟ فقال الإمام الرضا : إن الله لمّا بعث موسى 7 كان الغالب على أهل
__________________
عصره السحر ، فأتاهم
من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم
، وأن الله بعث عيسى 7
في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم
يكن عندهم مثله ، وبما أحيا به الموتى ، وأبرأ الاكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت
به الحجة عليهم.
وأن الله بعث محمداً 6 في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب
والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به
قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم ؛ قال : فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثلك قط ،
فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال 7
: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه ؛ فقال ابن
السكيت : هذا والله هو الجواب .
ولم يكن الأنبياء ليستعملوا الطريق
الطبيعي في المعجز ، وإنما كانوا يتحدون هذا الطريق ، فموسى تحدى سحر السحرة ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
(١٢٠)
قَالُوا
آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(١٢١)
رَبِّ
مُوسَىٰ وَهَارُونَ (١٢٢) )
فكان إعترافهم بصحة دعوى موسى دليلاً على إعجازه ، لأن ما جاء به ليس من سنخ ما
يعرفون.
وعيسى لم يستعمل مضادات الأمراض ،
وإعطاء الدواء ، فيحقق سبقاً طبياً ، وإنما كان يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى
بإذن الله دون وسائل الأطباء والرسول الأعظم لم يصك العرب ببلاغة القرآن ، إلا
لأنهم أئمة البلاغة وأرباب البيان ، ولكنه من الله : (
وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ
(٤٤) لأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ
(٤٦) ) .
فكله من عند الله ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ
(٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَىٰ (٤) )
قال الجاحظ ( ت : ٢٥٥ ه ) « ولأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من
__________________
خطبائهم وبلغائهم
سورة واحدة طويلة أو قصيرة ـ لتبين له في نظامها ومخرجها ، وفي لفظها وطبعها أنه
عاجز عن مثلها ، ولو تجدي بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها » .
فعبارة القرآن إذن من سنخ ما يعرفون ويدركون ، ولكنها ليس من جنس ما يحسنون لا
كمّاً ولا كيفاً ، فطلب إليهم الأتيان بمثله فما أستطاعوا ، وتنزل على عشر سورة
فما أطاقوا ، فتحداهم بسورة واحدة فقال : (
وَإِن
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(٢٣) )
وقد دل الاستقراء أن أقصر سور القرآن هي الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
(١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (٢)
إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (٣) )
.
فما بال الأمم لا تأتي بسطر واحد من هذا
الجنس ؟ وإذا كان القرآن قد أعجز العرب ، فغير العرب أشد عجزاً لأمرين :
الأول
: أن العرب هم أهل اللسان ، وقد عجزوا عن
مجاراة القرآن ، فغير أهل اللسان عاجزون من باب أولى.
الثاني
: أن اللغة العربية الشريفة ليست لغزاً
من الألغاز ، وهي قابلة للتعلم ، وقد نبغ فيها كثير من مسلمي غير العرب ، وأتقنها
حملة من المستعربين والمستشرقين حتى ترجموا القرآن إلى لغاتهم وقدموا أفضل
الدراسات القرآنية ، وإنما التحدي أو يتحدى الإعجاز القرآني من كل أمة علماءها ،
وعلماء الأمم يتمكنون من العربية ، فتوجه إليهم التحدي وعجزوا عن ذلك في كل زمان
ومكان.
(
قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) )
.
وقد يقال بأن الله قد صرف قلوب الناس ،
وحبس ألسنتهم عن أن
__________________
يأتوا بمثل هذا
القرآن ، فيسمى ذلك إعجازاً بالصرفة ، وهو رأي المعتزلة .
ولكن الرأي الأمثل ، أن الله قد يسر
جميع القدرات البيانية ، ووهب مستلزمات البلاغة للناس وتحداهم فلم يتمكنوا من
الأتيان بمثل لهذا القرآن ، وذلك أبلغ في الإعجاز.
فما هي وجوه هذا الإعجاز في القرآن وما
هي مظاهره ؟ أحاول فيما يلي أن أضع ملخصاً بأبرز وجوه الاعجاز ومظاهره على نحو
الإجمال.
١ ـ الإعجاز الغيبي ، ويتمثل بما تحدث
عنه القرآن الكريم بضرس قاطع في الأنباء عن الغيب الماضي والمستقبلي :
أ ـ عرض القرآن سيرة الأمم السالفة
وجزئيات أحداثها ، وكبريات أنبائها بلهجة الجزم واليقين ، فأخبر عن آدم ونوح وإبراهيم
وموسى وعيسى وذي القرنين وأهل الكهف ، وقوم عاد وثمود ولوط وشعيب ، وجمهرة عظيمة
ممن أصابهم عذاب الاستئصال بمجريات أحوالهم بما يعتبر كشفاً لأدق التفصيلات
التأريخية بما لا علم لأحد به على وجه الكمال ، وهي حالة لا عهد بها للمجتمع
العربي في مكة ، مما كعلهم يتهافتون على هذه الأخبار ، ويتمثلون وقائعها بالمقياس
التأريخي للإفادة من عبرها وأحداثها ومواردها.
ب ـ وتحدث القرآن عن الأحداث المستقبلية
بلغة التأكيد بعدة مناسبات أبرزها ، وقعة بدر (
سَيُهْزَمُ
الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
(٤٥) )
وغلبة الروم وانتصارها فيما بعد (
الم
(١) غُلِبَتِ الرُّومُ
(٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ
وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
(٣) ) .
وعن فتح مكة ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ
اللهُ آمِنِينَ )
وهزمت قريش بعليائها وجبروتها في معركة بدر الكبرى ، وانتصر الروم على
__________________
الفرس بعد سنين من
غلبة الفرس
، ودخل النبي مكة فاتحاً ، وقد كان فتح مكة غير وارد في الحساب التخطيطي ، إذ كيف
يمكن لهذا المهاجر مع طائفة قليلة من أهل بيته وأصحابه وهو ضعيف مستضعف ، أن يقتحم
جبروت قريش ويغزوها في عقر دارها ، وكان ذلك دليلاً واضحاً ومنتشراً في البلاد على
الاعجاز الغيبي ..
٢ ـ الإعجاز التشريعي : ويتمثل بما فصله
القرآن بآيات الأحكام وفقه القرآن بما لا عهد لمناخُ الجزيرة بتفصيلاته الدقيقة ،
فقد نظم حياة الفرد والأمة بأحكام لا مزيد على إبرامها برباط الحرية دون فوضى
وبريقة الامتثال دون إستعباد ، فالأحوال الشخصية قد نظمت بأحكامها الجديدة في
الزواج والطلاق والعدة والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح
والقصاص والديون والعقود بما لم تسبق إليه أعرق الأمم تشريعاً ، وأعمقها تفقهاً ،
بل كانت مفردات حياة جديدة متأطرة باطار التطوير الإنساني ثم تكفل القرآن ببيان
فروض وواجبات وطقوس منظمة ضمن الحياة اليومية كالصلاة بفرائضها ونوافلها ، وفي
جملة من الشهور كالصوم والحج والعمرة ، وفي خلال السنة كالزكاة والخمس في المحاصيل
والغنائم.
إن هذه الأبعاد المترامية الأطراف في
التشريع لا يمكن أن يصدر تعاليمها إلا خالق هذا الكون ومنظم شؤونه ، إذ لم تعرف
الحضارة البشرية هذا التفصيل الدقيق في نوعية الاحكام وجزئيتها.
٣ ـ الإعجاز العلمي : ونريد به ما أورده
القرآن من نظريات وقوانين توصل إليها العلم الحديث فيما بعد في مسار الأرض وإنشطار
النجوم ، وتعدد الأفلاك ، وابعاد السماوات ، وزوجية الكائنات ، دون إستعمال القرآن
لقوانين الحس والتجربة والمعادلة وإنما جاء ذلك ابتداء ، وما ورد فيه كان دون سابق
معرفة بشرية بالحيثيات المتناثرة فيه حتى ثبت أن القرآن لا يعارض ما يتوصل إليه
العلم بل هو الأساس في ذلك فيما أفاده جملة من المتخصصين ، ولا يراد بهذا الاعجاز
الاتساع الفضفاض
__________________
الذي يخرج بالقرآن
عن مهمته الأولى والأساسية ؛ فهو كتاب هداية وتشريع لا كتاب صناعة وتقنيات ، مع
دعوته للتفكر والتدبر في بدائع السماوات والأرض .
٤ ـ الإعجاز الصوتي : ويتمثل في جزء منه
في الحروف المقطعة بفواتح بعض السور القرآنية ، فهي حالة فريدة من الاستعمال وقف
عندها العرب موقف المتحير ، ولا سابق عهد لهم بأصدائها الصوتية ، مما قطعوا به أن
هذه الأصوات المركبة من جنس حروفهم هي نفسها التي تركب منها القرآن ولكن لا
يستطيعون أن يأتوا بمثله. وهو ما أفردنا بعمل مستقل .
٥ ـ الإعجاز العددي ، وقد وفق الأستاذ
عبد الرزاق نوفل إلى اشتعراء الإعجاز العددي في القرآن ، في مقارنات سليمة ،
وموازنات حسابية دقيقة ، فقد قام بعمليات إحصائية لورود الألفاظ المتناظرة ،
والمتقابلة ، والمتضادة ، والمتناقضة ، وقابلها بعضها ببعض بالعدد نفسه ، أو نصيفه
، أو شطره ، أو ما يقاربه ، مما شكل ثروة عددية تنبئ بالضرورة أن القرآن لم
يستعملها صدفة ، بل بميزان ، وذلك الميزان لا يمكن أن يكون من صنع البشر ، فهو إذن
من أدلة إعجازه .
٦ ـ الإعجاز الاجتماعي : إن المتمرس
بتأريخ الجزيرة العربية ، في بدء الرسالة الاسلامية ليبهر ـ حقاً ـ بهذا التوحيد
المفاجئ ، والتغيير الاجتماعي العاجل ، والتسخير لطاقات العرب في ظل القرآن حتى
جعل منهم أمة تحمل هذه الرسالة للأجيال ، فتتناسى حروبها وشحنائها ، وتضرب صفحاً
عن عرقيتها وعشائريتها ، لتنتظم في ظل الاسلام وتهتدي بشعلة القرآن ، فيفتح الله
على يديها شرق الأرض وغربها ، وتتسلم مقاليد الاسلام بعد الوثنية ، وأولية التوحيد
بعد الإشراك وإذا بكيانها ينصهر بتعاليم القرآن فجأة ، وهو ما يحقق
__________________
الاعجاز الاجتماعي
في جملة التغيير الجذري للأعراف والتقاليد والمخلفات.
٧ ـ الإعجاز البياني : ويتمثل بالتركيبة
الخاصة المتميزة لألفاظ القرآن ومعانيه ، وفي مجموعة العلاقات المجازية
والاستعارية والتشبيهية والكنائية والرمزية والايحائية بين المعاني والألفاظ ،
وذلك السر الأكبر في إعجاز القرآن ، فالعرب أمة بيان ، ورجال بلاغة ، تطربهم
الكلمة ، وتهزهم الخطبة ، ويستهويهم الشعر ، وقد وقفوا عند بلاغة القرآن باهتين بما
عبر عنه الوليد ( والله
لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ،
وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه
، وما يقول هذا بشر ) .
والحديث عن الاعجاز البياني مستفيض ينهض
بعمل مثقل مستقل ، ويكفي في عظمته أن الإمام علياً 7
من أوائل رواده في الافادة والاستفادة ، وأن ما ورد في نهج البلاغة كان إمتداداً
طبيعياً للاعجاز البياني في القرآن لتأثر الامام في القرآن وهذا المنهج مدين إلى
علماء الاعجاز كعلي بن عيسى الرماني ( ت : ٣٨٦ )
وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : ٣٨٨ )
والشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه )
حتى تسلمه جار الله الزمخشري ( ت : ٥٣٨ ه ) فجعل تفسيره الكشاف مضماراً للاعجاز
البياني ، وفتح فيه عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية التي إعتمدت
التسلسل المصحفي ، إذ فسر القرآن كاملاً ناظراً فيه الوجوه البيانية ، ومستلهماً
المناخ الفني حتى عاد تفسيره كنزاً بيانياً لا تنتهي فرائده ، وقد تجلى فيه ما
أضافه من دلالات جمالية في نظم
__________________
المعاني ، وما بحثه
من المعاني الثانوية في تقديم العبارة ، وعائدية الضمائر ومعنى المعنى ، وتعلق
البيان بعضه ببعض .
إن الحضارة الانسانية اليوم بحاجة إلى
هذا المنهج في استجلاء جمال القرآن ، وإستقراء خفايا مكنوناته ، أما التعدي على
مقام القرآن ووحدته الفنية بالإيغال في النزاعات التقليدية ، والاصحار بمتاهات
الخصومات ، فأمر ترفضه عقلية المثقف العصري ، وتلفظه روحية البحث الموضوعي ، وحسبك
في كتب الكلام ومصنفات الاحتجاج وصنوف المقالات غنية عن ذلك.
وللتاريخ فإن صاحب هذا المنهج في القرن
العشرين هو أستاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي ( ت : ١٩٦٦ م ) حينما أنيط به تدريس
التفسير والأدب معاً في الجامعة المصرية ، فأتى على درس التفسير وجعله كاشفاً عن
إعجاز القرآن البياني ، وأوضح منهجه بذلك في مناهج تجديد ، وترجمه بمحاضراته في
أمثال القرآن .
فالقرآن كما يقول : « كتاب العربية الأكبر ، وأثرها الأدبي الأعظم ، فهو الكتاب
الذي أخلد العربية ، وحمى كيانها ، وخلد معها ، فصار فخرها ، وزينة تراثها ... إن
التفسير اليوم هو : الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج ، الكاملة المناحي ، المتسقة
التوزيع ، والمقصد الأول للتفسير أدبي محض صرف » .
وإتجه لهذا المنهج كوكبة من أساتذة
الجامعات في الوطن العربي غيرة منهم على القرآن وترسيخ مبادئ إعجازه ، ومن أبرزهم
في هذا المضمار الدكتورة بنت الشاطيء فأصدرت الاعجاز البياني للقرآن الكريم
والتفسير البياني للقرآن الكريم.
وهناك ملحظ مهم يتعلق بهذا المنهج ، وهو
الحفاظ على سلامة اللغة العربية من التدهور والضياع فهي لغة كتاب مقدس ، والحفاظ
عليها يرتبط
__________________
بالحفاظ على هذا
الكتاب تأريخياً ، وهذا التأريخ المشترك يمثل مظهراً اجتماعياً مركزياً متلازماً ،
فالتقصير في جانب يطبع أثره على الجانب الآخر ، وقد مرت اللغة العربية بظروف
وبيئات مختلفة ، خضعت معها إلى عوامل اللهجات المتباينة ، وأمتزجت بها ثقافة اللغة
الأخرى ، وتطور من مفرداتها ما تطور ، وبقي ما بقي ، وهذه عوامل كان من الممكن أن
تخضع اللغة معها إلى كثير من التبدل والتغيير ، وأن تتعرض مفرداتها للنسخ أو
التجوز ، ومع هذا فقد بقيت هذه اللغة سليمة لم تتأثر بعوامل الانحطاط والضعف ، ولم
تتلكأ مسيرتها التأريخية بوهن أو خور ، وسبب هذا البقاء والسيرورة يرجع إلى بيان
القرآن ، والدفاع عن القرآن ، وصيانة لغة القرآن ، ففي الوقت الذي تتجاوز فيه هذه
اللغة موطنها الأصلي ، ويمتد سلطانها إلى أرجاء فسيحة من العالم فإنها تبقى متميزة
بمناخ الصحراء لهجة ، وبطابع البداوة مصدراً ، لأنها اللغة الرسمية للقرآن ، وهو
لا يتهاون في قدسية لغته ، ولا يجد عنها منصرفاً ، فارتبط وجودها بوجوده ،
وإستمرار رقيّها بإستمراره ، ولم يداهمها الفناء أو الاضمحلال أو التقلب ، في حين
تنطوي به الأمم ولغاتها ، وتتلاشى الشعوب وتراثها ، بينما تطوي العربية أمدها
الطويل سليمة متناسقة تتسنم مدارج الخلود ، وتناطح هجمات الدهر ، ولما كان القرآن
الكريم معجزة محمد 6
الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود ملازم لهما رغم عادية الزمن ،
وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها ، وهنا يتجلى أثر
تيسير القرآن وفهمه بيانياً بالكشف عن الأسرار ، فهو يشد إليه الباحث شداً ، دون
عسر أو عناء ، وبكل يسر وسماح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
البعد
العالمي في القرآن
« ألقي البحث في الندوة المتخصصة تحت
شعار « عالمية القرآن » التي أقامها قسم علوم القرآن في كلية التربية / جامعة الكوفة
/ النجف الأشرف بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الجامعة وذلك مساء يوم الاثنين ٦
رمضان المبارك ١٤١٨ ه = ٥ / ١ / ١٩٩٨.
ما برح القرآن العظيم يتبوأ القمة
الشامخة في حياة الانسانية ، وما زالت تعليماته الهادفة تنطلق مع الانسان في
مسيرته الواعية ، فهو نبع ثرٌّ من المعارف لا يغور ، وهو ألقٌ حيٌّ من الفضائل لا
يخبو ، وهو يجمع إلى عمق النهج الديني أروع مظاهر النهج الفني ، فيلتقي هذان
الملحظان بقدر يعجز معه فقه البشر على أن يأتي بشيء من مثله ، وكلما تقدمت الحضارة
شوطاً في المعرفة والوعي أدركت في القرآن ما لا يدرك في سواه ، ذلك أنه كلام الله
المنزل على نبيه المرسل.
والمتخصصون في علوم القرآن وعوالم
التأويل وحقائق التفسير أولئك وحدهم الذي يصح لهم فنياً خوض غمار هذا البحر
المتلاطم الأمواج ، فيغوصون إلى أعماقه الرهيبة ملتقطين غرر جواهره ، ومكتشفين
كنوزه الثمينة ومع مسيرة الاجيال المتحررة يتبلور الجديد النابض من عطاء القرآن ،
ويتمحور المجهول في كشوفه الابداعية ، فتتـقاطر الأسرار الالهية زاخرة بالمثل
العليا.
القرآن كتاب هداية وتشريع لا شك في هذا
، ولكنه كتاب استقراء لمجاهيل الكون ، وأثباج الطبيعة ، ومفاوز الفضاء ، ومسالك ما
تحت الأرض ، وهو أيضاً المصدر الحقيقي الدقيق لتأريخ الديانات السماوية ، وحياة
الرسل والأنبياء والشهداء والصديقين ، وهو كذلك النموذج الأرقى في استيعاب مشكلات
الأزمنة المتناقضة بين السلب والايجاب ، يجد حلولها ، ويوفر علاجها.
هذا المنظور الرائع للقرآن يوحي بعالمية
القرآن ، وهذا الفهم الرصين لمناخ القرآن يقضي بإنسانية رسالته بعيداً عن النظرة
الاقليمية الضيقة ، وهذا
الواقع المعاصر في
تقييم القرآن هو الذي يؤكد حقيقة الصيغ العالمية في مفاهيم القرآن.
في ضوء هذا المنطلق الرحيب نقول مطمئنين
:
إن القرآن وإن كان عربي النص إلا أنه
عالمي الدلالية ، وهو وإن إنساني الرسالة إلا أنه عربي العبارة. وهو مع هذين
الملحظين التكوينيين يبقى شامخاً بلمح من عربيته المحضة الفصحى ، لأن عربيته
الخالصة يمكن فيها الكثير من معالم إعجازه بل الاعجاز البلاغي فيه هو الوجه الناصع
لملامح الاعجاز المتعددة الظواهر ، وبإنضمامه إلى إعجازه التشريعي والغيبي
والاجتماعي والعلمي والاحصائي والصوتي والكوني والاقناعي يترشح نظام الاعجاز الكلي
في القرآن.
ولما كان الاعجاز بهذا المستوى التكاملي
في شتى المجالات كان القرآن بالمستوى العالمي في بعده الموضوعي.
والبعد العالمي في القرآن محور مستفيض
من محاور البحث العلمي المتجدد ، والخوض في مشتقاته الفعلية يستدعي التفرغ إلى عمل
أكاديمي متطور ينهض بمؤلف ضخم يلم شتاته ، ويجمع متفرقاته ، ويستقرئ جزئياته.
والخطوط الأولية للموضوع قد تعطي ثمارها
التوفيقية ضمن إطار أولي محدد يعنى بالتركيز على ظواهر عالمية القرآن ضمن الاشارة
الموحية ، والادراك الفاحص في جملة من المحاور الآتية :
أولاً
: إن عالمية الاسلام تعني بالضرورة
عالمية القرآن ، وذلك أن القرآن هو رسالة الاسلام ، وهذه العالمية المبرمجة قد خطط
لها القرآن نفسه بما لا يقبل الشك في كل آياته التي تشير إلى عالمية الرسول 6 في رسالته للبشرية جمعاء. قال تعالىٰ
:
(
قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
) الأعراف /
١٥٨ ، والآية في مقام الأمر للنبي 6
في إشعار الناس كافة بالقول لهم أنه رسول الله إليهم ، ومعنى هذا عالمية رسالته ،
وإستقطابها شعوب الأرض ومختلف الأمم ، فمحمد بهذا رسول الله إلى الأبيض والأسود
والأحمر والأصفر ،
وهؤلاء هم الناس
ورسالته شاملة لأفرادهم ، مستغرقة لأجناسهم دون اختصاص بقوم عن قوم ، ولا أمة دون
أمة ، يعضده قوله تعالى : (
وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
) سبأ / ٢٨.
فإذا جمعنا له قوله تعالى : (
وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
(١٠٧)
) الأنبياء /
١٠٧ ، خلص لنا أنه رسول البشرية ، وما إرساله إلا رحمة للعالمين ، وهذا الارسال
يحمل في طياته ملامح البشارة الرضية المرضية ، وصرخة النذارة الهادرة المدوية ،
ذلك ما يعلنه قوله تعالىٰ : (
إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
) البقرة /
١١٩. ويؤكده قوله تعالى : (
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
(٤٥) ) الأحزاب / ٤٥. وهنا تضاف الشهادة إلى
البشارة والنذارة لتتم حلقة الوصل العالمية في التدرج البياني ليصل إلى ذروته في
التبليغ بقوله تعالى : (
وَأَرْسَلْنَاكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا
) النساء / ٧٩.
وقد وضع الله تعالى على الناس ذاته القدسية شهيداً على هذا الارسال العالمي.
ثـانياً
: والمنطلق البارز في تشخيص عالمية
القرآن نصاً ومضموناً تأكيد القرآن على خطاب الناس ـ كل الناس ـ في تعليماته
الالهية ؛ وهذا المنطلق يتحدث فيه القرآن إلى الناس في مختلف شؤونهم ، ويدعوهم
بعامة إلى الأخذ بالأصلح من الأنظمة ازاء تدوير الواقع البشري المتقلب ليقف به على
مرفأ الأمان ، ويستقر مستوياً بشاطيء الخلاص ، وأول ما يدعوهم إليه سنن التوحيد
المطلق في ظلال ملكوته قال تعالى : (
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
) البقرة / ٢١
، يدعم ذلك الملحظ بالكتاب الذي أخرج كل الناس إلى النور .. ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ
النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
) إبراهيم / ١.
ويوجه هؤلاء الناس نحو الله بإعتبارهم مضطرين له ، فقراء إليه ، وهو في غنى وعز
ومنعة عنهم ، يُحمد بغناه ، ويعبد لآياته : (
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الحَمِيدُ (١٥)
) فاطر / ١٥.
وإذا كان الناس بهذه الفاقة ، محتاجين ولا يحتاج إليهم ، فحريُ بهم أن يتجهوا نحو
الله في الشؤون والشجون والآمال ، ولا يتكلوا على الأحلام والأماني ، فوعد الله حق
، ووعد غيره الغرور. قال تعالى : (
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ
الدُّنْيَا ) فاطر / ٥ ، ولا يقف القرآن عند هذا
الحد في تذكير الناس وتحذيرهم ، وتقويمهم ومتابعتهم ، بل يتسع في
الحديث إليهم ، بما
خولهم به الحياة الدنيا ، وما أسبغه عليهم من نعم ظاهرة وباطنة ، وما سخره لهم من
أكوان وأديان وظواهر تصب في محيط واحد هو سعادة الناس في دنياهم ، وسلامتهم من
الأهوال في آخراهم ، كل أولئك يتمثل في مراصد قرآنية أبرزها :
١ ـ الايحاء بإدراك نعم الله التي لا
تحصى ، والتذكير بآلائه التي لا تستقصى ، بما في ذلك النعم المادية والمعنوية.
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ عَلَيْكُمْ ) فاطر / ٣.
وقال تعالى : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ
) البقرة /
٢٣١.
وقال تعالىٰ : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
) آل عمران /
١٠٣.
وقال تعالى : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ
) المائدة / ٧.
وقال تعالى : ( وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) النحل / ١١٤. وقال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا
إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
(١٨) ) النحل / ١٨. وقال تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً
وَبَاطِنَةً ) لقمان / ٢٠ ، حتى قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسلام دِينًا
) المائدة / ٣.
هذا الحشد الهائل من التأكيد على النعمة يوحي بعظمة قدرها ، وسبوغ رحمتها ، وشيوع
مفرداتها ، وشمول ظلالها للناس كافة.
٢ ـ الأمر على نحو الاباحة بالتمتع بما
خلق الله من الأرزاق الكائنة فيما تنبت الأرض ، وما يخرج منها ، وما يربو فيها ،
وما باركه من ثمرها وشجرها ومرافقها وأنهارها ومناخها مما جعله مسخراً للانسان
لتيسير مرافق الحياة ، وهو الذي يسره وسخره وفجره وجعله سائغاً هنيئاً مريئاً.
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا ) البقرة / ١٦٨.
وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ
)
البقرة / ٦٠. وقال
تعالى : ( أَنفِقُوا مِن
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ
) البقرة /
٢٦٧. وقال تعالى : (
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ
) الأعراف /
١٠. وقال تعالى : (
وَمَا
أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا )
الجاثية / ٥. وقال تعالى : (
وَمَا مِن
دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا
) هود / ٦.
وقال تعالى ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ
الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ
) هود / ٦١. وقال
تعالى : ( وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ
مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
) الرعد / ٤.
وقال تعالى : (
وَمَا
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ
) النحل / ١٣.
إن هذا التأكيد على الأرض وما أخرج منها إنما يكون للبشر كافة فهو الذي أنشأهم
منها ، وهو الذي رزقهم فيها ، وهو الذي سخرها لهم.
٣ ـ بعد ما سيره القرآن من النعم
وإستثمار الأرض ، وما أظهره له من التوسع وبحبوحة النعيم حذرهم الله ظلمهم في
الحياة الدنيا ، وأنذرهم العذاب في الحياة الأخرى ، ووجه العناية بهذا الملحظ ليكف
الناس عن الباطل ، وليتوجه الجمع نحو الحق.
قال تعالى : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم
مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ
) النحل / ٦١.
وقال تعالى : (
وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) )
الفرقان / ٢٧. وقال تعالى : (
وَكَمْ
قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً
) الأنبياء /
١١. وقال تعالى : (
وَكَذَٰلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ
) هود / ١٠٢
وقال تعالى : (
وَلَوْ
تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ
) الأنعام /
٩٣. وقال تعالى : (
وَلا
تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
) إبراهيم /
٤٢. وقال تعالى : (
وَمَا
كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
) القصص / ٥٩.
وقال تعالى : (
وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
) البقرة /
٢٧٠. وقال تعالى : (
وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
) آل عمران /
٨٦. وقال تعالى : (
فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
) الأعراف /
٤٤. وقال تعالى : (
فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
) يونس / ٣٩.
وهذا التقريع على الظلم ، والوصف له ، والتحدث عن مآله لا يخص مجتمعاً دون آخر ،
ولا يختص بأمة دون أمة ، فهو موجه للناس كل الناس للابتعاد عن معالمه ومهالكه.
٤ ـ ويتحدث القرآن عن الظواهر الكونية ،
والآيات السماوية ويجعل من ذلك مناراً لأولى النهىٰ ، وحديثاً للتدبر والتفكر
والتبصر والاعتبار
لذوي الألباب
والعقول :قال تعالى : (
الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ
هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
(١٩١)
) آل عمران /
١٩١. وقال تعالى : (
اللهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ
عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى
) الرعد / ٢.
وقال تعالى : (
وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(٣) ) الرعد / ٣. وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ
(١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ
بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ
(١٣) ) الرعد / ١٢ ـ ١٣. وقال تعالى : ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
(١٠١)
) يونس / ١٠١.
وقال تعالى : (
وَآيَةٌ
لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ
(٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(٣٨) وَالْقَمَرَ
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
(٣٩) لا الشَّمْسُ يَنبَغِي
لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) )
يس / ٣٧ ـ ٤٠. قال تعالى : (
يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ
) البقرة /
١٨٩.
إن هذه الإرهاصات في عالم السموات
والأرض والعرش والشمس والقمر ومدّ الأرض وخلق الرواسي واصطفاق الأنها وزوجية
الكائنات والثمرات وحياة الشمس والقمر والأهلة ، كل أولئك ما سخره الله للناس
بعامة ، وللمؤمنين بخاصة بقصد الاعتبار والاستبصار.
٥ ـ وأخيراً أمر القرآن الناس بدرء
الفساد والمكر في الأرض ، ونعى جريمة القتل ، فاعتبر قتل النفس قتلاً للناس ، وعدّ
إحياء الفرد الانساني إحياء للناس أيضاً ، وبذلك تتكامل الصورة العالمية للقرآن في
أرسخ حدودها الأفقية : قال تعالى : (
مِنْ
أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا
) المائدة /
٣٢. وقد يكون هذا القتل وذلك الإحياء مادياً أو معنوياً ، وكلاهما واردان
في مقام التفصيل ،
والتعليل ليس هذا موقعه.
٦ ـ ولك أن تعجب كل العجب لترى القرآن
يجعل أهم شعيرة من شعائره وهو الحج ، والبيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس ،
والأذان إلى الحج كل أولئك للناس كافة لا للمسلمين وحدهم قال تعالى : ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )
آل عمران / ٩٧. والحج كما يجب على المسلمين ، فإنه واجب على الكافرين ، إلا أن
الكافر يجب عليه الحج ولا يصح منه لا شتراط الايمان في الأداء ، وقال تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا ) البقرة / ١٢٥. وقال تعالى : ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ
) التوبة / ٣.
ثـالثاً
: وتتأكد عالمية القرآن في اطار
إهتماماته القصوى بالانسان ، فهو يتابعه ويلاحقه منذ خلقته وتكوينه وولادته حتى
حياته ومعاشه إلى حين وفاته ومدفنه ونشره وحشره وعاقبته ، ومعنى هذا أن القرآن ذو
عناية خاصة بمسيرة الكائن الانساني منذ البداية وهو معنيٌّ أيضاً بمصير الانسان الجماعي
حتى النهاية.
ففي خلق الانسان وإيجاده خليفة في الأرض
، هناك مدركان بارزان : المدرك الابداعي في التكوين الخلقي من الأرض ، كخلق آدم 7 ؛ والمدرك الرتيب في الخلق عن طريق
التزاوج فالتناسل ، وفي هذه المسافة المتباعدة بين الخلقين قد اختصرت الحقيقة
التكوينية كلها.
وقال تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (٧١) )
ص / ٧١. وقال تعالى متحدثاً عما تحقق : (
وَلَوْ
تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ
(١٢) ) المؤمنون / ١٢. فبين تعالى الأصل في
الخلق من الطين ، وهو عنصر أرضي يحمل بين طياته عناصر أرضية أخرى ، فهو مجموعة
عناصر تتمثل فيها الأرض بمركباتها ، وهو البداية الابتداعية لهذا الايجاد المتباعد
الأطراف في التركيب والتكوين والتأسيس بما يستوعبه هذا الكلي العام من ملايين
الجزيئات المعقدة في العدد والكمية والوزن والمدارك جسمياً وعقلياً ونفسياً
وتصويراً وتخييلاً وقابليات ومعدات وأجهرةٌ وتجاويف وعصيات وحفيات وأقواس وجينات
وخلايا وأعصاب وعضلات ما ظهر من ذلك وما خفي
مما لا يحيط به
الادراك الحسّيّ كثيراً. والذي أجمله تعالى بقوله : (
الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ
(٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ
مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ
(٨) ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
(٩) ) السجدة / ٧ ـ ٩. ولنقف قليلاً عند
الآية الأولى التي تتحدث عن الملحظ الإيجادي في الخلق لا على نحو المثال ، ولا على
صيغة من وجود سابق ، إذ لا وجود هناك لهذا المخلوق الجديد لأنه بعد لم يوجد ، فلما
وجد قيل له بأنه الانسان. قال تعالى : (
هَلْ
أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا
مَّذْكُورًا (١) )
الانسان / ١. والتفسير الأولي أن الانسان جسد وروح ، أي أنه مركب من حقيقتين
متغايرتين ، وحينما إتحدا كان الانسان كائناً حياً ، فإذا افترقا كان هذا الانسان
نفسه ميتاً وعاد جثماناً ، وهذا وإن كان صحيحاً في حد ذاته ، ومقدماته تبني عن
نتائجه ، إلا أن القرآن العظيم يومي إلى أبعد من هذا تحديداً حينما جعل الانسان
حقيقة واحدة ، فهو إنسان بروحه وبدنه ، وهو أنسان حين مفارقة روحه لبدنه ، فمثله
كمثل الماء والتراب حينما يكوّنان حقيقة واحدة عند التماسك أو عند الانحلال. وقوله
تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
) السجدة / ١١.
فيه دلالة على أن الانسان هو نفس الانسان ، فإذا اتصلت الروح بجسده فهو حيٌّ ،
وإذا انفصلت عنه فهو ميت ، إذن هو إنسان في الحالين ، والنص القرآني في مجموعة
دلالاته « يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها
بلفظة « كم » وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع » .
ويصور هذا الملحظ « لم يكن شيئاً مذكوراً ». فهذا الانسان بالطريق الاعجازي في
الخلق إنما كان طيناً لازباً يندك في طول هذه الأرض وعرضها ، فلم يكن ذا ذكر فهو
غير متعين ولا محدد ، وهو حينما صور هذا التصوير البديع ، في خلقه الأول ، وولجته
الروح بأمره تعالى ، عاد إنساناً معلوماً وموجوداً فكان مذكوراً ، فهو باللحاظ الأول
شيء غير مذكور ، وهو باللحاظ الثاني كيان مذكور ، وهذا ما تفسره رواية الإمام
الباقر 7 : قال : «
كان مذكوراً في العلم ، ولم يكن
__________________
مذكوراً في الخلق » .
وفي رواية أخرى عنه 7
رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية ، يقول الباقر 7 : « كان شيئاً ولم يكن مذكوراً » .
فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره ، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد ، ثم صار
شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه ، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في
الخلق ، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في قوله تعالىٰ
: ( لَقَدْ خَلَقْنَا
الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ
أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) )
التين / ٤ ـ ٥. وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً
متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة ، وصورة مترفة ، وروعة نادرة ، حتى عاد
مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً ، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة ، وورد مورد العجز
والكبر ، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف ، ومن نضارة إلى إنهدام ، ومن جمال الفتوة
إلى تلاشي القوة ، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء
والخور.
ولكن الشذرات الثمينة المتناثرة في
القرآن الكريم ، تقتضي الاضافة لهذا الفهم ـ وإن كان حقاً في واقعه ـ وتريد منا أن
نرتفع إلى المستوى الأعظم الذي يحدب على تبليغه القرآن بياناً إلهياً شمولياً لا
يغادر شيئاً ، وذلك : أن الانسان قد خلق بإرادة الله تعالى ولطف عنايته خلقاً
خاصاً فكان نموذجاً راقياً للتقويم والثبات والكمال ، وهذا كله يقتضي له ان يتصاعد
بروحه وتفكيره وتقدير إلى أعلى عليين ، وهو ما قدره له الله تعالى لو تمثل الشكر
لنعمه المتواترة ، اعتداداً بهذا العطاء الفياض في الخلق صورة وعلماً وإرادة
وتفكيراً واختياراً وإبداعاً وفلسفة ، فهو بهذا حريّ بأن يعرج بمستواه الخلقي في
كل وجوه الخلق الظاهرة والباطنة ، المعروفة لديه والمجهولة إلى حيث يصبح من أهل
السعادة والنّعيم السرمدي الخالد. ولكن هذا الانسان ـ إلا القليل من جنسه ـ قد إنحط
بنزعانه اللاإنسانية وسلوكه المنحرف إلى سلخ معنى الانسانية عن نفسه فردّ إلى أسفل
سافلين ، وهو نهاية ما يمكن أن يردّ به الله إنساناً بإنحطاطه إلى الدرجات السفلىٰ
المخصصة لأهل العذاب والشقاء والانهيار التام ، فكتب على نفسه
__________________
الانحدار والانزلاق
في الهوة السحيقة التي كان ينبغي له أن يتجنبها ويكون في أمن من مزلقتها وتدهورها.
هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي
يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في قوله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
(٦) ) التين / ٦. بدليل أن حكم الخلق
التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر ، الموحد والملحد ، الصادق والمنافق ،
بدليل قوله تعالى : (
وَمَن
نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ
(٦٨) ) يس / ٦٨. و « من » من أدوات العموم ،
فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق.
هذه هي الحقيقة الأولى ؛ والحقيقة
الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين ، وليس من طريق التزاوج التلقيحي
، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة ، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن
مريم 7 ، قال تعالى
: ( إِنَّ مَثَلَ
عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ
كُن فَيَكُونُ (٥٩) )
آل عمران / ٥٩. قال ابن عباس والحسن وقتادة : « هذه الآية نزلت في وفد نجران :
السيد والعاقب ، قالا للنبي 6
: هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ » .
فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب ، وبالأب
الأكبر للبشر وهو آدم ، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل
الحجة الصغرى بالحجة الكبرى ، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق
الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل ، فالأصل التركيبي للبشر هو
التراب ، وهذا ما يقاس عليه عيسى 7
في التكوين ، فآدم : نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى ،
وكلاهما خاضعان للارادة التكوينية من قبل الله تعالى « كن فيكون » ، وهذا سر
الحياة الذي لا يعلمه إلا الله ، دون التقاء ذكر بأنثى ، أو تلاقح خلية ببيضة ،
وذلك طريق الأخصاب ، وسنن الانجاب .
والقرآن يكاد يستقطب الحديث عن المدرك
الطبيعي والاعجازي في
__________________
خلق الانسان في
جزئيات دقيقة تغوص في عمق الموضوع جذباً وإستئناساً ووقوفاً عند أمثل مظاهر ،
وأبرز جوانبه الكلية ، مشيراً بادئ ذي بدء إلى الأصلين معاً كما في قوله تعالى
حاكياً : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً
) الكهف
/ ٣٧. ومفرعاً على ذلك في تأكيد
مراحل الحقيقتين معاً بقوله تعالىٰ : (
هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) ) المؤمن / ٦٧. ويتبلور هذا الملحظ شيوعاً
بالاستدلال على البعث يوم القيامة من جهة ، والاعتبار بتقلبات الخلقة وتطويرها من
حقيقة إلى حقيقة أخرى ، حتى تنتهي مراحل العمر بالعودة إلى أرذله أو بالوفاة ،
يتمثل ذلك في قوله تعالىٰ : (
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ
مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ
مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ
إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا
وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
(٥) ) الحج / ٥. أرأيت هذه الحيثيات المنوعة
في مراحل الانشاء المتعددة ، ثم قف عندها قليلاً لتجدها عالمية الايجاد لأبناء
البشر كافة ، فهي حقيقة فوق الحقائق ، ومنظور إنساني لم يتأقلم ، وقاعدة عامة في
الاسترسال التكويني بكل مقوماته لهذا الانسان المخلوق كما هو عليه في قوله تعالىٰ : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ
مِّن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَّكِينٍ (١٣)
ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ
(١٤) ) المؤمنون / ١٢ ـ ١٤. ويتابع القرآن
مطلق الانسان في الحياة فيذكره بضعفه الواهن فيقول : (
وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) النساء / ٢٨.
ويقيمه وهو يتعرض للبلاء فيلتجئ إلى الله مخلصاً له الدين كما في
قوله تعالىٰ : (
وَإِذَا
مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا
) يونس / ١٢.
ويمثل غطرسته في ضد هذا فيصوره وقد أنعم الله عليه معرضاً ، قال تعالى : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ
وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ) الإسراء / ٨٣. ثم بعد هذا يجعله
ميزاناً فيما بينه
وبين نفسه كما فيقوله تعالىٰ : (
بَلِ
الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(١٤) ) القيامة / ١٤. ثم يشير إلى طبيعته في
التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في قوله (
إِنَّ
الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
) إبراهيم /
٣٤. ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما قال تعالى
: ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا
أَكْفَرَهُ (١٧) )
عبس / ١٧. وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته
الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل فقال : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَىٰ (٣٩) )
النجم / ٣٩. أشار أنه سوف يتذكر ذلك (
يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىٰ
(٥٣) ) النازعات / ٣٥. ومع كل هذا التقويم لا
يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم :(
أَيَحْسَبُ
الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
(٣٦) ) القيامة / ٣٦. فيهزه من الأعماق ليقف
به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه قوله تعالى : (
يَا
أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ
(٦) ) الانفطار / ٦. وقد يقال في جواب هذا
أنه ألهمه الجواب الناجع : غرني يا رب كرمك. وهذا فضلٌ جديد يضاف للأفضال السابقة
، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين ، ليكبح من جماح نفسه ،
ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى بقوله : (
فَلْيَنظُرِ
الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ
(٦) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
(٨) ) الطارق / ٥ ـ ٨. فإذا رجع إلى الله ،
ووقف للحساب الجديد ، هنالك : (
يَقُولُ
الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ
(١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ
(١١) إِلَىٰ رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ
وَأَخَّرَ (١٣)
) القيامة /
١٠ ـ ١٣.
هنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل
المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه
، لا ستار ولا حجاب ، ولا إستقالة :(
وَكُلَّ
إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا
(١٣) ) الإسراء / ١٣.
هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين
يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير ، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله
متجسدة في قوالبها لديه ، والشاهد هو الحاكم ، والحاكم هو الله ، وكفىٰ في
ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً ، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم
ومشاهده ، قال تعالىٰ : (
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ
(١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ
وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ
(٢) ) الحج / ١ ـ ٢. إنها الواقعة والراجفة
والطامة والنازلة الكبرى ، تصدق في كل جزئياتها ، وتجد في كل ساعاتها ، فلا كذب
ولا لعب :( إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
(٢) ) الواقعة / ١ ـ ٢. هنالك يمتاز الناس
إلى أزواج ثلاثة كما ينص القرآن العظيم :(
وَكُنتُمْ
أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
المَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ
المَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
(١٠) أُولَٰئِكَ
المُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(١٢) ثُلَّةٌ مِّنَ
الأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ
(١٤) ) الواقعة /٧ ـ ١٤. وذلك أن الناس يوم
الحشر بهذا الاعتبار يصنفون إلى : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين. فأهل
الجنة هم أصحاب اليمين ، وأهل النار هم أصحاب الشمال ، والسابقون هم تلك الطبقة
العليا التي اهتبلت فرصة الحياة الدنيا فقفزت باتجاه واحد نحو الله وحده ، سبقوا
إلى الايمان ، وسبقوا إلى الخيرات ، وسبقوا إلى العبادة بأنصع مظاهرها فتسنموا
الدرجة الراقية في الزلفىٰ. وفي هذا الضوء تنقسم ساحة المحشر للعباد إلى
منحنيات متميزة حينئذ : أصحاب الجنة / أصحاب النار / رجال الأعراف ، وحينئذ تصدر
النداءات المتداولة بين هذه الأصناف النازلة في الساحة ، بعد عرفان كل شيء ، ورفع
الحجب والأستار ، والوقوف عند الحقيقة الهائلة.
قال تعالى : ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن
لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
(٤٤) ) الاعراف / ٤٤. وفي قبال هذا النداء
الضخم المشتمل على كثير من الاستظهار والتحدي والتشفي والاطمئنان المتكامل يصدر
النداء الآخر : (
وَنَادَىٰ
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ
أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى
الْكَافِرِينَ (٥٠) )
الاعراف / ٥٠. فكل أماني هؤلاء الطغاة شيء من الماء أو قليل من الرزق ، ويجبهون
يأساً وحرماناً وبعداً بأن الله حرمهما على الكافرين.
وهنا يتجلى دور رجال الاعراف الريادي في
المنزلة والحجة وقرع الدليل بالدليل ، وتتحقق تلك المنزلة الرفيعة لهؤلاء الرجال «
وبينهما حجاب
وعلى الاعراف رجال
يعرفون كلاً بسيماهم ». فهؤلاء في حالة وجود الحجاب الحاجز بين أهل الجنة وأهل
النار ، وهناك السماك المرتفع الذي يطل منه أصحاب الأعراف على الجمع ، وهؤلاء
أنفسهم لهم صلاحية متميزة خاصة عرفوا بها ، إنهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم ، وأهل
النار بسيماهم ، فهي خاصية كبرى فريدة ، لا تقاربها خاصية أخرى يومئذ ، تلك
الخاصية تنبئ عن القرب الملكوتي من الله تعالى ، وتتحدث عن التصرف بأمره تعالى ،
فهم يشرفون على الجمع في ساحة البعث ، فيعرفون كل ذات بالسمة المجردة لها ، والمعرفة
بها من الأولين والآخرين ، سواء في ذلك من كان منهم في أعلى عليين ، ومن هبط منهم
وانحدر أسفل سافلين.
وهنا يتحدّد الوعد الالهي الحق بأنهم
المنصورون ، وأنهم المقربون ، وأنهم الشفعاء ، وأنهم الشهداء ، وذلك في تمام الآية
مباشرة : ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ
الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
) الاعراف /
٤٦.
فهذا النداء بهذا الامر إنما تحصل قبل
أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وهم يطمعون بدخولها ، وصيغة النداء سلام عليكم. ولا
تنفس يومئذ ولا تكلم « هذا يوم لا ينطقون ». وحين إعتلاء هذه الحالة آفاق المحشر ،
تنحدر الأبصار للطرف الآخر : (
* وَإِذَا صُرِفَتْ
أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) )
الأعراف / ٤٧. وقد يقال بأن هذا دعاء أصحاب الأعراف ولا مانع من ذلك أن يتعوذ المؤمن
من الكون مع الظالمين ؛ ولكن التدبر في السياق ، وهو يريد أن يتحدث عن منزلة رجال
الأعراف وموقعهم في ذلك اليوم يوحي بأن الضمير في « أبصارهم » و « قالوا » يعود
إلى أهل الجنة ، لأنهم في تلك الحال يدعون ويتضرعون كما هو شأن الأبرار ، والتوقيت
قبل دخول أهل الجنة الجنة ، وقبل دخول أهل النار النار أيضاً.
وهنا تبدو الحقيقة الأخرى في خطاب أصحاب
الأعراف رجالاً من أهل النار : (
وَنَادَىٰ
أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا
أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
(٤٨) ) الأعراف / ٤٨.
هذا النداء الصادر من أصحاب الأعراف
للجمع المتكبر من الجبابرة .. فيه تقريع لهم ، وشماتة بهم ، وسخرية بواقعهم ،
وتأنيب على
ظنهم ، وقد تقطعت
بهم الأسباب بعد ذاك التطاول والشموخ والاستعلاء ، فما أغنى عنهم ما جمعوا من
العدة والعدد ، والخول والخدم ، والمال والعقار ، كلها ذهبت هباءً ، وتطايرت في
مهب الاحلام ، فلا جمع ولا استكبار ، بل خنوع وخضوع ، وذل وإذلال ، وليت الأمر وقف
بهم عند هذا الملحظ بل صكهم الاستفهام التقريري بالاشارة إلى أهل الجنة بما أفاضه
أهل الأعراف : (
أَهَٰؤُلاءِ
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ
) الأعراف /
٤٩. « أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولاً أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق
العبودية خير ، وإصابة الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ، ووقوع النكرة ـ برحمة ـ في
حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس ، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير » .
ثم تعالى صوت أهل الاعراف لأولئك
المستضعفين من المؤمنين ، بتفويض خاص ، وبأمر خاص من الله دون ريب قائلين لهم ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا
أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) الأعراف / ٤٩. وهو أمر من رجال الأعراف
لأصحاب الجنة بدخول الجنة بعد تقرير حالهم عند الكفرة بالاستفهام ، وكان الأمر
نهائياً بتخويل نهائي لا يجزأ ولا ينشطر ، ولا يرد ولا يبدل ، لأنه إقترن بإشاءة
الله وإرادته ، ولا رادّ لذلك.
إذن من هم رجال الأعراف ، وأصحاب
الاعراف في سورة الأعراف ؟
المروي عن الامام الباقر أنه قال : « هم
أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى » .
وهذا إجمال يفصله الامام الباقر نفسه ويبينه في رواية أخرى وقد سئل ما يعني بقوله
تعالى ( وَعَلَى الأَعْرَافِ
رِجَالٌ )
، قال الباقر 7
: « ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح ، قلت
بلى : فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلاً بسيماهم » .
وهم لدى المفسرين : إما أن يكونوا
رجالاً مخصوصين بالحباء
__________________
الكامل لأنهم في
أعلى درجات السابقين ، فكانوا في أرقى درجات القربى من الله تعالى ، وهم النبي
وأهل البيت :. وإما أن
يكونوا من تساوت حسناتهم وسيئاتهم في قول ساذج ، وهذا الملحظ لا يقع أصلاً فليس
هناك من تتساوى سيئاته وحسناته يوم القيامة قطعاً ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ،
فالحسنات جديرة برفع المسيء إلى درجة المحسن ، إذا أحسن بعد توبة نصوح ، والسيئات
العظمىٰ قد تحبط الحسنات ، فيدنو المحسن من الهاوية لو كانت لديه حسنات إذا
حبطت أعماله ، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا
سيئة مثلها ، هذا كله وغير هذا يقوي النظر والقول بعدم تساوي الحسنات والسيئات وهو
الذي يحكم به العقل والشرع والعرف.
فإذا أضفنا إلى هذه المدارك ثقل
الموازين وخفة الموازين يوم القيامة ، علمنا أن هناك قسمين لا ثالث لهما ، وهذان
القسيمان هما أهل الحسنات فيما تثقل به الموازين وهم أهل الجنة ، وأهل السيئات
فيما تخف به الموازين وهم أهل النار ، كما تصرح بذلك الآيات : قال تعالىٰ :
(
وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَظْلِمُونَ (٩) )
الأعراف / ٨ ـ ٩.
وقال تعالىٰ : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ
(١٠٢)
وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) )
المؤمنون / ١٠٢ ـ ١٠٣. وقال تعالى :
(
فَأَمَّا
مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
(٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
(٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
هِيَهْ (١٠)
نَارٌ
حَامِيَةٌ (١١)
) القارعة / ٦
ـ ١١. وهذا من أقطع الأدلة على رفض القول بتساوي الحسنات والسئيات.
وهناك قول للمفسرين بأن رجال الأعراف هم
الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنة والنار ، ويكونون خزنة الجنة والنار ،
أو يكونون
حفظة الأعمال
الشاهدين بها في الآخرة .
ويرد هذا القول بأمور :
الأول
: أنه صرف لظاهر القرآن بدون قرينة تدل
على التجوز في تسمية الملائكة رجالاً.
الثاني
: لم يجر في القرآن ، والقرآن يفسر بعضه
بعضاً ، ولا عند العرب إعتبار الملائكة رجالاً ، ولو بالاشارة.
الثالث
: القرآن يتحدث عن واجبات الملائكة يوم
القيامة بالتنفيذ وإطاعة الأوامر ، ولم يتحدث عن مثل هذه الصلاحيات المطلقة لهم ،
بل هم يفعلون ما يؤمرون.
بقي الاحتمال الأول أنهم الرجال
المقربون ذوو المنزلة العظمىٰ جزاءً وفاقاً بما كانوا يعملون ، وهو ما يساعد
عليه السياق القرآني في إبانة فضلهم وبيان قيمتهم وقدرهم ذلك اليوم ، وهو أيضاً ما
يدل عليه الاعتبار والقبول للروايات الصحيحة المسندة ، وهما معاً ـ السياق القرآني
والرواية الصحيحة ـ السبيل إلى فهم القرآن فهماً بعيداً عن التحمل في مثل هذه
المقامات.
ففي صحيحة أبي بصير عن الامام جعفر بن
محمد الصادق أنه قال في تفسير الآية « نحن أصحاب الاعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة
، ومن أنكرنا فمآله إلى النار » .
وعن النبي 6
أنه قال لأمير المؤمنين : « يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوماً
إلى الجنة وآخرين إلى النار » .
ويؤيده ما رواه أبو القاسم الحسكاني عن
علي 7 ، وقد سأله
ابن الكوا عن الآية ، فقال أمير المؤمنين : « ويحك يا ابن الكوا نحن نقف يوم
القيامة بين الجنة والنار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ، ومن أبغضنا
عرفناه بسيماه فأدخلناه النار » .
__________________
وهذا بحد ذاته يشكل بعداً عالمياً
لقيادة أهل البيت :
، إذ يتحدث بها القرآن في بعده العالمي عن الناس كافة لدى الجمع الاستيعابي
للبشرية على صعيد القيامة.
المحور
الرابع : بقي أن نبتعد بك عن المناخ الجدلي
والاحتجاجي في عالمية القرآن إلى المناخ الكوني العام في عالميته التي لا تحد ولا
تحتجز بل تمتد وتتسع لتشمل الأفاق والمشارق والمغارب ، والأبعاد الفضائية ،
والمسافات الكونية الهائلة التي قد يعجز البشر عن الاحاطة بكثير من معاييرها
الدقيقة.
١ ـ فحينما يريد أن يقرب القرآن تصور
البعد بين الحقيقتين المحسوستين إدراكاً يحدد ذلك بأطول مسافة يدركها الحدس العلمي
فيقول : ( حَتَّىٰ إِذَا
جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ (٣٨) )
الزخرف / ٣٨. فالمراد هنا أما أن يكون بعد مشرقي الشمس والقمر ، أو بعد مشرقي
الشمس في الصيف والشتاء ، وكلاهما مقاس في الفضاء ، ولكنه غير معروف لدى أهل الأرض
جميعاً ، وإنما هو معروف لدى المتخصصين بالبعد الفلكي أو المسح الأرضي ، أما إذا
أعتبرنا تلك المسافة إنما تقاس على سطح الأرض ، فيقتضي الأمر أن يراد بها جزئَي
الكرة الأرضية ليلاً ونهاراً ، فالمشرق يكوّن بعده نصف المسافة والمغرب يكوّن
النصف الآخر ، بمعنى حدوث المشرق في نصف الكرة الأرضي وحدوث غروبها في النصف الآخر
، وهو ما يعتبر لكل منهما نصف محيط الأرض ، فما كان ليلاً كان النصف الأول وما كان
نهاراً كان النصف الثاني.
٢ ـ وحينما يريد القرآن أن يعطي القوة
غير المحدودة في تفصيلات الأبعاد الهائلة غير المحسوبة فإنه يقول : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ
وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ
(٤٠) ) المعارج / ٤٠. فالشمولية بهذا القسم
العظيم تمتد لتتسع لمشارق الأرض ومغاربها ، ومشارق القمر ومغاربه ، ومشارق الشمس
ومغاربها ، ومشارق الكواكب ومغاربها ، ومشارق النجوم ومغاربها ، وكلما يمكن تصوره
في الوجدان مما له مشارق ومغارب في كل الأفلاك مما يقتضي عالمية التصوير للعوالم
كافة في أبعادها الحسابية
التي لا يتحقق حصرها
ولا تخمينها مسافات ومساحات وأبعاداً. فإذا علمنا أن أقرب نجم منا يبعد حوالي ( ٤١.٨
) مليون مليون كيلومتر عن الشمس ، فما هو رأيك في أبعد نجم عنا ، وكيف يتم رصد ذلك
زمنياً وحسابياً ورياضياً ، لذلك عمدوا إلى قياس ذلك بالسنوات الضوئية ، والمراد
بها ما يقطعه الضوء في السنة ، فإذا عرفت أن سرعة الضوء هي ( ٣٠٠ ) ألف كيلومتر في
الثانية ، كانت سرعته في السنة ( ٩.٤٦٠ ) مليون مليون كيلومتر. وهي السنة الضوئية.
٣ ـ وحينما يريد القرآن منك أن تتأمل
بعض الظواهر الكونية في الرعد والبرق والظلمات والأمواج والسراب والالتماع في
المفاوز ، تندفع في ظلاله العجيبة وأنت أكثر إندهاشاً مما ترى ، وأنت أكثر
إبتهاجاً فيما تتوصل إليه من المشاهد العالمية المجردة عن الطلاء والتزويق بل هي
حقائق هائلة مدركة بالحس والوجدان دون حاجة إلى إستدلال أو برهان أو شواهد قال
تعالىٰ : (
أَوْ
كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ
كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(٢٠) ) البقرة / ١٩ ـ ٢٠.
وهذا المثل القرآني ، وهو في سياق
التعبير عن حيرة المنافقين ، يستقطب إستعمال ما هو شائع ومعروف في بقاع الأرض
المختلفة وآفاق السماء ، مما يفهمه أهل المعمورة ، ويترصدون مخاوفه وأهواله ،
فالمثل هنا عالمي الدلالة غنيٌّ بضمامة التصوير ، ورعب الأضواء الكاشفة والغامضة ،
والانهمار الانصبابي للمطر تدفعه ظلمات عاصفة بأصوات الرعد ، وأمواج البرق ، وعصف
الرياح ، وظلمة المناخ ، فانحجب الضياء وتلاشى الأمان حتى بالغوا في إدخال أصابعهم
في آذانهم نتيجة لاصطكاك الصواعق بأجرام السحاب ، وما يحدثه ذلك من هزات وأصوات ،
والله محيط بهم من كل جانب إحاطة تحصى عليهم كل شيء فوق حقيقة الاحاطة الزمانية
والمكانية والكتلة وسرعة الضوء ، فأين يذهبون ؟ والبرق يأخذ بأبصارهم ، ويستلب
نورها كلمح البصر ، وهم في حيرة وتردد لا يملكون من الأمر
شيئاً .
هذا المناخ المتلاطم عالمي المصداق والمفهوم ، إنساني الفهم والتصور.
٤ ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده
متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع ، وتصور
أشمل ، وتدقيق أروع ، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية ، أنت الآن إزاء
مثلين متراصفين في سورة واحدة ، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع
فيها ، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته ، ويتمرسه
البدوي في حياته. قال تعالىٰ : (
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ
فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ
(٣٩) ) النور / ٣٩.
فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي
لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء ، يتخيله الظامئ ماءً ،
ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً ، وهو بأمس الحاجة إلى الماء ، ولا ماء ، فهو
لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة ، ولك أن تتصور هذا السراب
في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام. هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ
يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي ،
وتتجلىٰ صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب
الجاثم ، مما لا عهد به للعرب ، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب. قال تعالىٰ
: ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ
(٤٠) ) النور / ٤٠.
هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا
ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال ، وتملؤه
الظلمات المرعبة ، ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الغمام ، حتى ليخطئ الانسان
فيه تشخيص يديه ، فلا يرى ذلك أصلاً .
__________________
هذا المثل إذن ليس كسابقه فهو يتحدث عن
تراث خاص متميز ، في مناخ خاص متميز ، يغوص إلى أعماق البحار ، ويتأمل في جغرافية
المحيطات ، وتمرس في ظواهر إمتصاص الضوء وخفاء الأنوار.
المثل
الأول : بدوي بطبيعته العربية المحضة.
المثل
الثاني : غربي بطبيعته المناخية الخالصة.
ألا تخشع عند هذه الظاهرة الكبرى لتفيد
منها : أن القرآن يتحدث إلى كل جيل في كل الأرض ، ليتجاوز الحدود الاقليمية إلى
البعد العالمي الرحيب.
أما أنا فلا أعتقد
غير هذا ، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين.
مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم
ألقي في المؤتمر العلمي الثالث لكلية
الفقه في النجف الاشرف / جامعة الكوفة المنعقد في ١٤ رمضان ١٤٠٨ ه ٣ ـ ٤ / ٥ /
١٩٨٨ م في قاعة الإدراة المحلية ، ونشر في العدد الممتاز المتخصص بدراسات القرآن
لمجلة المورد الصادر بتأريخ ١٩٨٨.
وكان شعار المؤتمر « دور الكوفة في
التراث العربي والاسلامي ».
هبط القرآن الكريم في جزيرة العرب ،
والأمة العربية تمثل ذروة قدراتها الإبداعية في فن القول.
والقرآن العظيم ، وهو إنساني الرسالة ،
إلا أنه عربي النص ، مستشرف العبارة ، مشرق الديباجة بوجه من عروبته الناطقة ،
وتبقى هذه العربية أصلاً قويماً في دلائل إعجازه ، بل الأصل الأول ، وما تبقى من
دلائل فروع هذا الأصل العريق.
القرآن من وجه ثروة بلاغية لا تنفد ،
ومعين تراثي لا ينضب ، وهو كتاب هداية وإرشاد وتشريع من وجه آخر.
هذا التقييم الطبيعي للقرآن مختص به ،
لا يشاركه في أبعاده أي كتاب إلهي أو بشري.
إذن : إجتمع في القرآن أصل من عربيته
الفصحى ، وقيمتان : بلاغية وتشريعية متميزتان ، ذلك ما دعا علماء العرب ، وجهابذة
المسلمين ، وفحول المستشرقين ، وجملة من الأوربيين ، أن ينهلوا من روافده حيناً ،
وأن يحدبوا على فهمه الحقيقي بعض الأحايين ، وقد نتج عن هذا المنطلق الأثير إمتداد
يد الباحثين الأمينة للقرآن ، فعالجت شتى علومه ، وأستخرجت جملة من كنوز أسراره ،
فأضفت على البحث الموضوعي برداً من الجدة لا يبلىٰ ، وأفاضت سبيلاً من
المعارف لا يفنى. وكان دور العرب والمسلمين في هذا المجال بارزاً غير خفي ، وقِدحهم
المعلىٰ في الميادين كافة.
نشأت المدارس الحضارية التي تعنى
بالتراث في ظل حضارة الاسلام في الحواضر العربية في كل من :
مكة المكرمة ، المدينة المنورة ، البصرة
، الكوفة ، بغداد ، الموصل ، النجف الأشرف ، القاهرة ، الشام ، إشبيلية ، غرناطة ،
القيروان وتونس.
كان بعض هذه المدارس كياناً مستقلاً ،
وبعضها كان أمتداداً للمدارس الأم. إذ كانت النشأة مختلفة في جملة من المجالات ،
فالأصل دون نزاع المدرستان العراقيتان العريقتان في البصرة ، تأسست في العام
الخامس عشر الهجري ، وفي الكوفة تأسست في العام السابع عشر الهجري ، وبدأ العطاء
العلمي فيهما مع التأسيس حتى البناء المتكامل.
مدرسة مكة أندر عطاء ، ومدرسة المدينة
أكثر حيوية ، ومدرسة البصرة أوسع مادة ، ومدرسة الكوفة أغلى قيمة ، وأعظم شهرة ،
فمولد الاسلام في مكة ، وترعرعه في المدينة ، ونشأته الحضارية المتحفزة في كل من
البصرة والكوفة.
حقاً لقد كانت نصيب العراق العلمي
والتأسيسي غنياً في هذه المسيرة الأكاديمية المتطورة ، فبعد البصرة في إزدهارها ،
والكوفة في عطائها ، زهت مدرسة بغداد التراثية على يد ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه ) ،
في العصر العباسي الأول ، وتأسست مدرسة النجف الأشرف على يد الشيخ الاكبر أبي جعفر
الطوسي ( ت : ٤٦٠ ه ) في العصر العباسي الثاني ، وتبلورت مدرسة الموصل الحدباء
بجهود ابنا الأثير مجتمعين لا سيما ضياء الدين ( ت : ٦٣٧ ه ) في أواخر الدولة
العباسية. وأعطت كل مدرسة ثمرات أوراقها في النحو وعلوم القرآن والتفسير واللغة
والنقد والأدب والفقه والأصول والبلاغة والفلسفة والترجمة ، والتأريخ والجغرافيا ،
والببلوغرافيا ، والكيمياء ، والجبر والفلك والهندسة والطب وعلم الأصوات والايقاع
الموسيقي وغيرها.
وهذه مفردات علمية هائلة يحتاج النهوض
فيها إلى جمهرة من العلماء والباحثين والمهرة والطلاب وشيوخ الصناعة في كل فنّ ،
رؤساء الجامعات في العصر الحديث أدرى بحجم هذه المفردات وأوعى لمشكلاتها ، وأعلم
بدلائلها الموسوعية.
وكان الأزهر في القاهرة ، والشام في كل
من : بيت المقدس ودمشق وحلب الشهباء ، وجامع الزيتونة في تونس ، والقرويين في
المغرب ، مدارس سيارة لفنون العرب والاسلام.
وكانت الدولة العربية في الأندلس تحتضن
الحواضر العلمية في كل من إشبيلية وغرناطة وطليطلة وقرطبة ، فانتشرت الثقافة وكثر
التصنيف ، وحملت المجامع والجوامع برؤوس التراثيّين الاعلام.
وكان المشرق الاسلامي في حواضره العلمية
يغذي الحركة الثقافية بأمداد من فيضه المتدفق في الفقه والحديث والأصول والأدب
وعلوم القرآن والتفسير فكان اقليم خوارزم ، وخراسان ، وجرجان وطبرستان والري حواضر
علم ، ومحافل شعر ، ومقرّات تصنيف وتأليف ، ومجامع الفحول من علماء العربية
والاسلام.
وكان القرآن الكريم في جميع ما ذكرنا من
مدارس وأقاليم ودول ومشاهد هو المتصدر لحلقات الدرس والبحث والاستكشاف العلمي ،
وكانت الريادة فيه تعني سبر ما في أغواره من عمق ، وبيانه من إتساق ، وأبعاده من
بلاغة ، وسوره من إعجاز ، وآياته من تأويل وكشف وتفسير.
وتبقى مدارسة القرآن في جدية ، واستيعاب
جزئياته بنهم ، تكويناً وأصالة من نصيب مكة والمدينة في مرحلة البداية ، ومدرستي
البصرة والكوفة في مرحلة التأصيل لهذا الفن ، وامتد فيما بعد ذلك الشعاع الهادي
إلى الحواضر العربية تدريجياً حتى إستقطبها جميعاً في أبعاد متفاوتة ، وكان ما
قدمته هذه الحواضر من جهود قرآنية ، يصل بها إلى الذروة الصاعدة من بين الجهود
الانسانية المبدعة.
ولا غرابة أن تكون مرحلة التكوين لعلم
التفسير وقد رسخت النواة الصالحة التي انبثقت عنها مدونات علم التفسير في مرحلة
التأصيل ، ويمكننا إلقاء الضوء عليها بما يلي :
١ ـ مدرسة مكة ، وكان قوامها بعد النبي
وآله وأصحابه : النخبة الرائدة من أصحاب ابن عباس ( ت : ٦٨ ه ) وابن عباس رأسها.
وقد نبغ فيها كنموذج أرقى : مجاهد بن جبر المكي ( ت : ١٠٠ ـ ١٠٣ ه ) وعكرمة مولى
ابن عباس ( ت : ١٠٤ ه ) وأمثالهما من الرواد الأوائل ، ممن أخذ عن ابن عباس أخذاً
حثيثاً متواصلاً.
وكان ابن عباس قد أخذ لباب هذا العلم
وطريقته عن الامام علي كما هو منصوص عليه .
٢ ـ مدرسة المدينة : وكان قوامها في
مرحلة التكوين ثلاثة من أئمة أهل البيت هم : الامام علي بن الحسين زين العابدين (
ت : ٩٥ ه ) والامام محمد الباقر ( ت : ١١٤ ه ) والامام جعفر الصادق ( ت : ١٤٨ ه
) كما اعتمدت هذه المدرسة طائفة من تلامذة أبي بن كعب ( ت : ) وأصحاب زيد بن أسلم
( ت : ١٣٦ ه ).
وقد امتازت هذه المدرسة بالتجرد
والموضوعية ، والكشف عن مراد الله من كتابه ، فيما أثر عنها من روايات محددة.
٣ ـ مدرسة البصرة ، وكان على رأسها
الحسن البصري ( ت : ١١٤ ه ) وأبو عمرو بن العلاء ( ت : ١٤٥ ه ) وهو أحد القراء
السبعة ، وعيسى بن عمر الثقفي ( ت : ١٤٩ ه ) وكان من مشاهير القراء ، والخليل بن
أحمد الفراهيدي ( ت : ١٧٥ ه ) فيما آثر عنه من دروس ، وكان قد كتب في جملة العلوم
العربية المتخصصة ، وفي كتابه ( العين ) شذرات قرآنية أملتها طبيعة البحث اللغوي
في الاستشهاد والاستنباط على حد سواء .
وكان أبو عبيدة ، معمر بن المثنى الليثي
( ت : ٢١٠ ه ) في كتابه « مجاز القرآن » قد قفز بالتفسير اللغوي للقرآن عند
البصريين إلى مرحلة التأصيل مستفيداً من تجربة الفراء ( ت : ٢٠٧ ه ) أو موازياً
له في المنهج بحدود كثيرة .
هذه خلاصة موجزة إقتضها طبيعة البحث في
التمهيد لنقف عند مدرسة الكوفة وجهودها في تفسير القرآن العظيم.
إذا استعرضنا حياة مدرسة الكوفة التفسيرية
، وجدناها تمثل إتجاهيين
__________________
رئيسين في مرحلة
التكوين والتدوين معاً وهما :
أ ـ الاتجاه التدريسي ؛ ويمثلها بن
مسعود ( ت : ٣٢ ه ) فقد كان صاحب مصحف معروف ، وكان مفسراً للقرآن ، وحافظاً له ،
ومقرناً فيه ، وجملة تابعة له من تلامذته ، وفي طليعتهم مسروق بن الاجدع ( ت : ٦٣
ه ) والاسود بن يزيد ( ت : ٧٥ ه ) والربيع بن خثيم ، وعامر الشعبي ( ت : ١٠٥ ه )
وأمثالهم من المفسرين الأول لنتفٍ من آيات القرآن سائرة في ركاب علم الحديث تجدها
في مظانها من كتب التفسير ، وكان ذلك بهدف تعليم القرآن استناداً إلى قول الرسول 6 « من أحب أن يسمع القرآن غضاً فليسمعه
من ابن أم عبد »
، يعني ابن مسعود ، وكان ذلك حثاً على تلقي القرآن منه ، مضافاً إلى توجيهاته له ،
مما عنى تشكيل مدرسة الكوفة التفسيرية والقراءتية والتعليمية بوقت واحد في شكلها
الأولي.
ب ـ الاتجاه النصي ، ويمثله تلامذة
الامامين محمد الباقر وجعفر الصادق 8
، وقد نشأت عنه طبقتان تقيدت بنقل النصوص رواية وكتابة ، وإن إجتهدت الطبقة
الثانية في حدود لا تتعدى توضيح النص وشرحه :
أ ـ طبقة الرواة ، وفي طليعتهم : زرارة
بن أعين الكوفي ، وعلي بن الحسن الوشا الكوفي ، ومحمد بن مسلم الكوفي ، ومعروف بن
خربوذ الكوفي ، وحريز بن عبد الله الأزدي الكوفي .
وقد امتازت روايات هؤلاء بالدقة والضبط
والأمانة ، وهم معروفون بالوثاقة والدراية وحفظ الرواية.
ب ـ طبقة المؤلفين ؛ وهم الذين أبقوا
لنا أثراً تفسيرياً معتمداً قيماً ، وفي طليعتهم : فرات بن إبراهيم الكوفي ، وأبو
حمزة الثمالي الكوفي ،
__________________
ومحمد بن إبراهيم
النعماني الكوفي وأضرابهم
، وألف أبان بن تغلب ( ت : ١٤١ ه ) كتاب الغريب في القرآن ، وذكر شواهده من الشعر
.
وقد ألف محمد بن السائب الكلبي الكوفي (
ت : ١٤٦ ه ) تفسيراً للقرآن .
وبحدود هذا التأريخ نسب الاستاذ
بروكلمان للامام جعفر الصادق ( ت : ١٤٨ ه ) كتاباً يسمىٰ ( تفسير القرآن ) .
وأبو النضر ، محمد بن مسعود بن محمد
السلمي الكوفي المعروف بالعياشي ( ت : ٣٠٠ ه ) لم يصلنا من كتاباته الكثيرة إلا
كتابه في التفسير الذي نقحه علي بن إبراهيم الكوفي ، وهو المعروف اليوم ب ( تفسير
العياشي ).
ومن أبرز علماء التفسير في القرن الرابع
في الكوفة : علي بن إبراهيم بن هاشم الأشعري نسباً ، والكوفي مولداً ونشأة ،
والقمي هجرة وشهرة ، وله تفسير القرآن ، مطبوع عدة مرات.
وطبقة المؤلفين الأوائل هذه ، لم يصلنا
من تآليفهم التفسيرية إلا النزر القليل ، مما هو مطبوع طبعاً رديئاً ، أو مما هو
مخطوط لم تمتد له يد التحقيق ، ومما علمنا به من خلال النقل عنه في كتب التراث ولم
نره.
بيد أن ما وقفنا عليه من سرد لأسماء
المصنفين والاعلام ، والمؤلفات التفسيرية في الفهارس ، وما شاهدناه فيما بعد فترة
التكوين من جهود تفسيرية بناءة ، جعلنا نتجه إلى واقع المذهب الكوفي في التفسير
بعناية إكتشافه والتحقق من منهجيته فرأيناه بايجاز يميل إلى ظاهرة الاستعمال
اللغوي ، والتبادر الذهني عند العرب لدى إطلاق الألفاظ في مداليلها ، والتوجه إلى
فروق اللغة وخصائص العربية ، والاهتمام بالتعبير
__________________
البدوي في الشعر
الجاهلي ونحو ذلك ، فضلاً عن العناية المركزية بالمأثور ، وما يتعلق فيه من روايات
ومقارنات ودراسات وملخصات.
فإذا قارنا بين هذا وذاك وجدنا ، الأثر
الروائي والأثر اللغوي ، بكل تشعباتهما ، يشكلان مدرسة الكوفة التفسيرية ، ويمثلان
معلماً بارزاً من معالم التفسير ، فإذا ضغطنا العلاقات التراثية بين الأثرين ،
اقتضى ذلك كشف الجهد المشترك بين هذين الأصلين من أجل الوصول إلى القاعدة التي
ترسو عليها مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم.
كان علي بن حمزة الكسائي ( ت : ١٨٩ ه )
شيخ مدرسة الكوفة النحوية دون منازع ، وهو التلميذ الوفي لمؤسس هذه المدرسة أبي
جعفر الرؤاسي الكوفي. وكان الرؤاسي معاصراً للخليل بن أحمد الفراهيدي ، وكتابه «
الفيصل » في النحو يأخذ عنه سيبويه ( ت : ١٨٠ ه ) فإذا ذكر في الكتاب : الكوفي ،
فإنما يعني أبا جعفر الرؤاسي .
ولقد إختار الكسائي لنفسه طريقة خاصة في
القراءة وعدّ بها من القراء السبعة ، وكان قد أخذ القراءة مذاكرة عن حمزة الزيات ،
وسمع من الامام جعفر الصادق .
ولقد أثنى ابن جني ( ت : ٣٩٢ ه ) على
دقة الكسائي في النحو وضبطه في العربية .
وللكسائي كتابان في القرآن هما :
كتاب المشتبه في القرآن .
كتاب ما إشتبه من لفظ القرآن ، وتناظر
من كلمات الفرقان .
وتجد في منهج الكسائي التأليفي في هذا
النمط مزجاً كلياً بين تفسير
__________________
مفردات القرآن ،
ومدارك اللغة ، وقضايا الصرف والموازين ، ومذاهب القراء ، ومصادر النّحو العربي.
على أن الفراء أشهر تلاميذ الكسائي ،
وهو يحيى بن زياد الكوفي ( ت : ٢٠٧ ه ) هو أول من تناول مسائل النحو ، ومصادر
اللغة ، وفلسفة العربية الفصحى في كتابه الجليل : « معاني القرآن » .
وقد بدأ الفراء بإملاء هذا الكتاب على
تلامذته استقراءً من فاتحة الكتاب حتى استوفى القرآن العظيم ، فكان الرجل من
تلامذته يقرأ الآية ، والفراء يفسر ، وهكذا حتى أتم الكتاب إملاءً من غير نسخة .
وإنتشر الكتاب في بغداد إنتشار النار في
الهشيم ، ولا أحسب الخطيب البغدادي مبالغاً فيما رواه عن أبي بديل الوضاحي في هذا
الصدد ، قال : فأردنا أن نعد الناس الذين إجتمعوا لإملاء كتاب المعاني ، فلم يضبط
قال : فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضياً » .
وقد ذهب ثعلب ( ت : ٢٩١ ه ) مذهباً
إفتائيًّا في الثناء عليه فقال : « لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحداً
يزيد عليه » .
وقد إعتبر الاستاذ بروكلمان : الفراء :
أول من قعد لدرس تفسير القرآن في مسجد من مساجد بغداد ، ونقل قول ثعلب : « ولولا
الفرّاء لما كانت اللغة ، لأنه خلصها وضبطها ، ولولا الفرّاء لسقطت العربية ،
لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم
فتذهب » .
والدقة تقتضي : أن يقال : إن الفراء هو
أول منظم لدرس التفسير أسبوعياً من ناحية الزمن ، وتسلسلياً من ناحية ترتيب المصحف
، وتكاملياً من حيث استقطب كل سور القرآن ، وليس هو أول من ألقى دروساً مستقلة
__________________
في التفسير ، بل هو
أول من ألقى دورساً منظمة في التفسير. ولمدة سنتين لم ينقطع خلالها فيما رتبه
لنفسه على النحو الذي يشير إليه بدقة ميدانية : أبو عبد الله محمد بن الجهم بن
هارون السمري ( ت : ٢٦٨ ه ) بقوله لدى تدوينه معاني القرآن ، « هذا كتاب فيه «
معاني القرآن » أملاه علينا أبو زكريا : يحيى بن زياد الفراء يرحمه الله ، عن حفظه
من غير نسخة ، في مجالسه : أول النهار ، من أيام : الثلاثاوات والجمع ، في شهر
رمضان ، وما بعده من سنة إثنتين ، وفي شهور سنة ثلاث ، وشهور من سنة أربع ومائتين
» .
وتشوق الناس إلى كتب الفراء ، بعد
إنتشار المعاني. وكان أبو العباس ، أحمد بن يحيى المعروف بثعلب ( ت : ٢٩١ ه )
إمام الكوفيين في زمانه ، قد نسب له الحريري في ( درة الغواص ) كتاباً إسمه (
معاني القرآن ) .
ويبدو أنه يدور في فلك الفراء من حيث
العرض والأسلوب ، لأن هذا هو الشائع في العصر آنذاك.
وأبو بكر بن الأنباري ( ت : ٣٢٨ ه )
يعد من أبرز تلامذة ثعلب ، وأكثرهم أخذاً عنه ، وقد أتقن اللغة وتفسير القرآن ،
فألف كتاب : الوقف والابتداء في القرآن الكريم ، وهو المعروف ب « كتاب الايضاح في
الوقف والابتداء » وقد لمحت له طبعة حديثة جيدة ، ومنه عدة نسخ خطية في مكتبات
العالم .
وكان أبو بكر السجستاني ( ت : ٣٣٠ ه )
تلميذ أبي بكر بن الانباري ، وله كتاب طريف اسمه : « اشتقاق أسماء نطق بها القرآن
، وجاءت بها السنن والاخبار » وهذا العنوان والكتاب ، هو المحفوظ خطياً في
الأسكوريال : ثاني / ١٣٢٦.
ويذهب بروكلمان أن عنوان الكتاب هو :
نزعة القلوب أو ( المكروب ) في غريب القرآن أو في ( تفسير كلام علاّم الغيوب ) وهو
لا يذكر مواد
__________________
المفردات اللغوية من
حيث اشتقاقها ، بل يرتب المفردات على حروف المعجم .
بعد هذا العرض الموجز لمصاقبه مدرسة
النحو واللغة والاعراب ، لمدرسة التفسير القرآني في الكوفة ، وسير الأولى بركاب
الثانية ، وإستناد الثانية على حصيلة الأولى ، نستطيع أن نقطع حازمين أن إرساء قواعد
هذه المدرسة يعود إلى سببين :
الأول
: الأثر التدويني فيما أثر من روايات
وأحاديث تفسيرية للقرآن أو لبعض القرآن في القرن الأول والثاني من الهجرة ، في
جهود طبقة الرواة الثقات ، وطبقة المؤلفين الروّاد.
الثاني
: الأثر اللغوي المستند في أغلبه إلى
آراء شيوخ مدرسة الكوفة : ابتداء من أبي جعفر الرؤاسي مؤسس هذه المدرسة ، ومروراً
بنفحات الكسائي ومؤلفاته وقراءته ، ووقوفاً عند جهود الفراء المشتركة بين القرآن
واللغة ، لا سيما في : « معاني القرآن » ، واستئناساً بما أداه ثعلب في : ( معاني
القرآن ) من إستشراف أستاذه الفراء فيه ، وما أبداه ابن الانباري من نضج لغوي في
إطار قرآني بالوقف والابتداء ، وما أورده أبو بكر السجستاني من شذرات لغوية مرتّبة
ترتيباً عصرياً مزج فيها مفردات القرآن باللغة ، وفقه اللغة.
وهذا العرض تقريبي وزمني بوقت واحد ،
وقد لا يكشف عن تمام العمق الدلالي للمدرسة الكوفية المقارنة بهذا الملحظ ، ولكنه
يكشف عن أصالة الجهود المتميزة على سبيل الانموذج الاصلح ، كما يحيط المتتبع علماً
بأن الأصل الموضوعي لمدرسة النحو واللغة الصرف في الكوفة ما هو إلا خدمة القرآن
العظيم ليس غير ، حتى أن من أعطى جهداً لغوياً خالصاً ، أو تراثياً محضياً لا يمزج
معه ألقاً من القرآن ، قد يعمد بإزائه إلى ابتكار طريقة مثلى لخدمة القرآن بشكل يتصوره
ويخطط له فينفذه.
ولعل من طريف ما ذكره ابن النديم ( ت :
٣٨٠ ه ) في هذا المدرك :
__________________
أن أبا عمرو إسحاق
بن مرار الشيباني الكوفي ( ت : ٢٠٦ ه ) وهو تلميذ المفضل الضبي الكوفي ( ت : ١٧٠
ه ) كان راوية للشعر ، ولكنه كان متحرجاً من كتابته ، فأخذ عهداً على نفسه ، إذ
كتب شعراً لقبيلة من العرب كتب بإزائه مصحفاً يضعه في المسجد ، فعدّ ما كتب من
مصاحف فوجد نيفاً وثمانين مصحفاً بخط يده ، لأنه كتب أشعار نيف وثمانين قبيلة من
قبائل العرب .
وفي هذا دلالة على مدى العناية بالقرآن
، حتى كأن الجهد الذي يبذل في غيره ضياع ، فلا بد والحال هذه من تقديم جهدنا في
القرآن ، إن لم يكن تأليف أو مدارسة ، فهو استنساخ على الأقل كما فعل الشيباني ،
وأضرابه كثير.
وهذا الملحظ هو الذي إمتد به فضل الكوفة
، وريادتها الأولى إلى بغداد ، فأدى إلى تأسيس مدرسة بغداد في اللغة والتفسير
والبيان العربي. إذ كان رئيس هذه المدرسة ومؤسسها الحقيقي هو ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦
ه ). وقد ولد أبو عبد الله بن مسلم ابن قتيبة في الكوفة عام ( ٢١٣ ه ) وانتقل
إلى بغداد ، وظل يزاول التدريس والتعليم : تفسيراً ونحواً وبلاغة إلى أن توفي في
أول رجب عام ٢٧٦ ه / ٣٠ اكتوبر ٨٨٩ م.
وهناك ألف كتبه القيمة الثمينة السيّارة
مع كل جيل
، وكان كتابه « تأويل مشكل القرآن »
من عجائب المصنفات جودةً وإتقاناً وتبويباً ، وهو ـ وإلى اليوم ـ أصل من أصول
البحث التفسيري واللغوي والبلاغي في سياق متناسق.
وقد نشأ في ظلال ابن قتيبة وجهوده
المبتكرة ـ وامتد من بعده ـ كيان مستقل عظيم للقرّاء في مدرسة بغداد ، حتى نشأ أبو
بكر بن مجاهد التميمي ( ت : ٣٢٤ ه ) فكان إمام القراء ـ دون منازع ـ وكبير
المتنفذين دينياً
__________________
وسياسياً في بغداد ،
وهو أول من سبع القراءات القرآنية في كتابه : « القراءات السبع »
وقد حقّقه ونشره أستاذنا الدكتور شوقي ضيف.
لقد كان المنهج الموضوعي الذي اختطته
مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم ، منهجاً يواكب أحدث المداليل العصرية للبحث
المبتكر ، وكان نموذج هذا المنهج ـ فيما بعد عصري التكوين والتأصيل ـ هو أبو زكريا
الفرّاء ( ت : ٢٠٧ ه ) في « معاني القرآن » ، فقد كان إمتداداً تراثياً متطوراً
لما سبق ، وممثلاً جامعياً للتدوين المنظم والمتسلسل ، فقد فسر القرآن الكريم سورة
سورة حتى أتى عليه ، وهو يبحث في هذا النوع من التفسير اللغوي المتميز ، المفردات
العلمية التالية في الأعم الاغلب ؛ وهي : تراكيب الجمل والاعراب والاشتقاق ،
القراءات أصولها وموقفه الاجتهادي منها ، فقدم وأخر وأفتى وأستنبط ، ورجح وقوم
بذائقة فنية. وقد عني بالايقاع السمعي للألفاظ ، والجرس الناغم في الكلمات ،
واسترسل في بيان الميزان الصرفي للمفردات ، وملاحظة النسق الصوتي في الفواصل ،
وأظهر القيمة الصوتية في العبارات ، وقد قارن بين وزن الشعر ووزن القرآن ، وتحدث
عن مراعاة السياق ، وترتيب السجع ، وعرض لجملة من أصناف البديع ، وترشحت من خاطره
مباحث بلاغية معدودة من نظراته الثاقبة ، وفكره النير أملتها عليه طبيعة البحث
اللغوي ، فكان للتشبيه نصيب مما كتب ، وللتمثيل إطار خاص ، وللمجاز مجال جميل ،
وللأستعاره معانٍ قرآنية متأصلة ، وهو في كل ذلك لم يخرج عن المنهج اللغوي للتفسير
، وإن استعان على فهم الآية بأختها ، وعلى كشف النص بالرواية ، وعلى تدوين اللغة
من الأثر.
لقد أثر هذا المنهج للمدرسة الكوفية
بعامة ، كما أثر غيره من إفاضات مدرسة الكوفة في المناحي الانسانية ، في ثلاثة من
عمالقة التفسير القرآني ، هم :
١ ـ أبو جعفر ، محمد بن جرير الطبري ( ت
: ٣١٠ ه ) في تفسيره الكبير « جامع البيان في تفسير آي القرآن ». فالطبري وإن
اعتمد على التفسير بالمأثور بدقّة متناهية ، فلا تكاد تجد رأياً في تفسيره إلا قد
أسند برواية
__________________
إلى النبي أو السلف
الصالح ، فالآية وجزؤها : كالعبارة القرآنية التي تحمل رأياً واحداً ـ يثبته لها ،
ثم يذكر منشأ هذا الرأي ، ومصدر ذلك التأويل في رواية متسلسلة السند أو محذوفته ،
وإن كان في ذلك عدة آراء فهو يبسطها رأياً رأياً ، ويصوغها تفسيراً تفسيراً ، ثم
يعقب على كل رأي بالروايات القائلة به ، ثم يرجح ويوازن ويقارن. هذا هو منهجه
الأصل. ولكنك تحده في مسائل الاعراب ، واختلاف القراءات ، وأسباب النزول ، وعدد
الآي ، والميزان الصرفي ، والبعد النحوي ، طالما يستند إلى مدرسة الكوفة ، ويحقق
القول فيما تقتضيه. والدراسة الاحصائية لترجيحاته اللغوية نحواً وصرفاً ، أو
اشتقاقاً ، أو تركيباً تثبت صحة هذه الدعوى ، وهو من عمل المتخصصين بالدراسات
النحوية ، وإن كان لا يهمل آراء البصريين بل ويسرد كثيراً منها في حدود بدت لها
أضيق دائرة من ريادته في مدرسة الكوفة.
٢ ـ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت
: ٤٦٠ ه ) في تفسيره المعروف « التبيان في تفسير القرآن » ، وهذا التفسير الكريم
قائم على أساس الدفاع عن بيضة الاسلام ، والنضال المستميت عن كلمة التوحيد من أجل
توحيد الكلمة ، لذلك جعله مقارناً بين كل المذاهب الاسلامية وأهل الكلام فهو عارض
بأمانة ، ومقرّب بصدق ، وموضوعي بحق ، وقد يرجح رأى الامامية باعتباره مرجعها
الاعلى آنذاك ، ولكنه لا يقدح برأي صادر عن مسلم قط ، بل يورده وإن لم يمثل وجهة
نظره ، عسى أن يستفيد به غيره ، وهذا معنى الغيرة والحمية الصادقة على العروبة
والاسلام.
وطريقة الشيخ الطوسي في تفسيره طريقة
الطبري في الرواية ، ولكنه يؤكد مباحث الاعراب والنحو والحجة واللغة ، ويضيف أسباب
النزول وعدد الآي وتأريختها مدنية أو مكية ، كما يتناول القراءات ويناقش مصادرها ،
وفي خلال ذلك تلمس المدرسة الكوفية متمثلة بشخصيته الأخاذة ، وإن ذكر جملة من آراء
المدرسة البصرية.
هذا التفسير ـ من خلال وجهة نظري القاصر
ـ تفسير جامع مانع كما
يقول أهل المنطق ،
لم يكتب مثله بمستواه دراية ورواية وإجتهاداً للملاحظ الآنفة.
وكان الهدف الرئيسي فيه ـ كما يبدو من
مباحثه ـ ردّ شبهات الملحدين ، وتوحيد صفوف المسلمين ، بعد أن نزغ الشيطان بينهم ،
وتشتّتت الآراء وغلبت الأهواء ، وذلك حينما ظهر التصوف مقارناً للمذهب الفلسفي ،
فألقى كل منهما بجرانه في ساحة الوطن العربي ، وأقطار العالم الاسلامي ، فأولى كل
منهما للرياضة النفسية والمجاهدة ما أولاها ، وقدمها على ما سواها من البحث
الموضوعي ، فأستخدمت الفلسفة في تفسير النص ، والحكمة في إثبات المراد والمسالك
الصوفية في تأويل القرآن ، وبقي أهل الحديث على قدمهم متعبدين بالظواهر المحضة
للرواية ، وإن خالفت الكتاب أحياناً ، واصطدمت بنزاهة الرواة ، وتشعب الاسانيد ،
وتابعهم على هذا جملة من المحدثين ، فقبعوا على الاختلاف والاسفاف بين وثاقة
الرواة والاختلاف ، وغزت العزلة المسلمين ، فقنعوا بترهات الحياة عن الواقع ،
ولجأوا بالابتعاد ـ عن الناس ـ إلى الفرار ، فتذرعوا بتفسير الباطن حيناً ، وحجب
الظواهر الدلالية في اللغة حيناً آخر ، كما تعلقوا بالتأويل الاشاري والمنهج
الصوفي بعض الأحايين.
وأناخت فلسفة المتكلمين بكلكلها ، وحطت
مذاهب الاحتجاج بثقلها ، فتعصب كل لقضيته ، ونصر كل كلامي مذهبه ، فتشتت الحقائق
بيد النزعات ، وخلد قوم إلى الفلسفة الاغريقية ، فأخضعوا القرآن لرياضات مفترضة ،
فتأولوا كثيراً من مسلمات الاعتقاد في القرآن : كالحياة بعد الموت ، والبعث
والنشور ، والجنة والنار ، وحدوث السماوات والأرض ، تأويلاً يلائم عناصر الفلك ،
وحساب النجوم ، وتعدد البروج ؛ وهي ـ بجملتها ـ مقاييس فجة تتجافى مع طبيعة القرآن
التشريعية .
وهنا يبرز دور الشيخ الطوسي في تسخير
طاقاته التفسيرية والبيانية والاصولية والفقهية والكلامية في ارساء الاسس
التفسيرية المقارنة ، وهو بذلك قد أفاد من تجارب المؤصلين ، وأضاف من معالم
التجديد اللمسات
__________________
الأخيرة ، جاعلاً من
مدرسة الكوفة القرآنية والتشريعية واللغوية مضماراً لآرائه الثاقبة ، ومقارنته
الفريدة.
وقد يتصور كثير من الباحثين أن منهجه
المتطور هذا مقدمة للعمل بالرأي ، وهذا غير وارد على الاطلاق في حق الشيخ الطوسي
لأنه لم يعمل بالرأي طرفة عين أبداً بالمعنى الدقيق للرأي في الاصطلاح التشريعي .
وذلك أن النظر المقترن بالتحكيم
الموضوعي بعد الجهد والتمحيص ، والقائم على أساس الاستنباط ، عملية اجتهادية محضة
، والاجتهاد ليس تفسيراً بالرأي أو عملاً به ، وهو الذي يقول به الامامية لأن باب
الاجتهاد لديهم مفتوح.
ومن هذه الزاوية الاجتهادية ـ وان كان
مجالها الحقيقي في تطبيقات علمي الفقه والأصول ـ كان استناد الشيخ الأكبر إلى
مدرسة الكوفة في اللغة والنحو من خلال ظاهرتين :
الأولى
: اختياره مذهب الكوفيين في جملة مسائل
الخلاف في النحو ، ومواطن الافتراق في اللغة ، ومظاهر التمايز في القراءة ،
وتنصيصه على ذلك في كل الكتاب.
الثانية
: استعماله المصطلحات الدقيقة عند
الكوفيين كالتعبير : عن النفي بالجحد ، وعن الكسر بالخفض ، وعن العطف بالنسق ، وعن
الحروف بالأدوات ، وعن الصفة بالنعت ، مما هو مطروح في مباحث الحجة واللغة
والاعراب في تفسيره التبيان.
٣ ـ أبو علي ، الفضل بن الحسن الطبرسي (
ت : ٥٤٨ ه ) في تفسيره الشهير : « مجمع البيان في تفسير القرآن » .
وأصل شهرة هذا التفسير مضافاً إلى النية الصادقة أنه طبع عدة مرات قبل تفسير الشيخ
الطوسي ، ومع ما للطبرسي من المكانة العلمية ، والاضطلاع بتصريف شؤون البيان ، إلا
أنه استند إلى تفسير الطوسي استناداً حقيقياً ، إن لم
__________________
يكن قد استنسخه
نسخاً فعلياً ، وهذا جارٍ في سيرة السلف الصالح أن ينشر اللاحق علم السابق ، ولكن
بإضافات قيمة ، توسع فيها خصوصاً في المقارنة ، ولا أدل على ذلك من إجماع هيأة
كبار العلماء في القاهرة على اختياره تفسيراً يجمع آراء المسلمين كافة ، فقرروا
طبعه ببادرة من دار التقريب لهذا الملحظ طبعة جديدة غير طبعة صيدا : ١٣٣٣ ه.
ولما كان هذا التفسير حاوياً لعلم الشيخ
المؤسس الطوسي ، وجامعاً لتفسيره بكل جزئياته ، مع الاضافات الجوهرية الثمينة ،
فما قيل عن « التبيان » فيما سبق ، يقال عن « مجمع البيان » جملة وتفصيلاً.
وبعد هذا العرض
التلميحي لمدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم ، يجب أن نضع بين أعيننا جادين ، أن
هذه المدرسة هي خلاصة تجارب الامام علي الريادية في التشريع والتفسير والبلاغة
والفلسفة وعلم الكلام والفقه والاصول والنحو واللغة ، فهو المؤسس الحقيقي لميادين
هذه المدرسة ، جزءاً من إعداده القيادي من قبل الرسول الاعظم 6 القائل بإيجاز : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ».
أثرُ القرآنِ الكريمِ في الحِفاظِ
عَلَى
أَصَالَةِ اللغةِ العربيةِ
ألقي في المؤتمر العلمي الخامس المنعقد
في كلية الفقه في النجف الأشرف / جامعة الكوفة للفترة ٥ ـ ٧ جمادى الأولى ١٤١٠ ه =
٣ ـ ٥ / ١٢ / ١٩٨٩ م ، تحت شعار « العروبة والاسلام من منظور معاصر » وانعقد
المؤتمر في قاعة الإدارة المحلية المجاورة للكلية في النجف الأشرف.
القدرة البيانية في نصوص القرآن الكريم
، تجاوزت حدود المعرفة الانسانية العجلى ، حتى عادت ضرباً من الاعجاز ، وسنخاً
جديداً من البيان العربي الذي لا يدانيه نصٌ أدبي.
الفن القولي في كلام العرب ، ذو أصناف
ثلاثة : شعر ونثر وقرآن ، الشعر بما تدرج عنه من قصائد ومقطّعات وأبيات وأراجيز
وشواهد ، والنثر بما تفرع عنه من قصص وحكايات وأساطير وأمثال وخطب وأسجاع ورسائل ،
والقرآن وإن اشتمل على بحور الشعر كافة ، وتمثلت به أرقى نماذج النثر الفني بعامة
، إلا أننا لا نستطيع أن نسميه شعراً ، كما لا نستطيع أن نسميه نثراً ، لأنه ليس
هذا وذاك ، بل هو قرآن وكفىٰ.
والقرآن اسم علم غير مشتق خاص بكلام
الله تعالى كما يراه الشافعي ويرجحه السيوطي وعليه أئمة الأصوليين .
وقد يكون مشتقاً من القراءة ومرادفاً
لها باعتباره مصدراً .
وقد يكون مشتقاً من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضاً ، ويشبه بعضها بعضاً
كما يراه الفراء .
وقد يكون معناه القراءة في الأصل ، أو
مصدر قرأت بمعنى تلوت ، وهو المروي عن ابن عباس
ومنه قوله تعالى : (
إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(١٧)
__________________
فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(١٨) )
ثم نقل من هذا المعنى وأصبح إسماً لكلام الله تعالى ، ولا نميل إلى ما رجحه بعض
المحدثين من أن العرب عرفوا القراءة لا بمعنى التلاوة ، بل أخذوها عن أصل آرامي
لذلك ، وكان ذلك كافياً لتعريبه ، وإستعمال الاسلام له في تسميته كتابه الكريم
: بل الله سماه بذلك : (
إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
(٧٨) ) وعلى ذلك لغة العرب دون أصل أجنبي .
وقد سبق في لوح الغيب أن اللغة العربية
أشرف اللغات وأنصعها ، فأختارها الله تعالى لأشرف كتبه ، حتى أثبتت الدراسات
المعاصرة إمتياز العربية وأولويتها في سلامتها وفصاحتها وأصالتها ، وهي تنطلق من
صحارى الجزيرة ، ومفاوز الحجاز ، مخترقة مناخها الاقليمي ، وبقعتها الجغرافية إلى
بقاع العالم ، ضاربة بأطنابها صوب المغرب والمشرق ، مما عجزت عن تحقيقه اللغات
الحية ، وقصرت عن تناوله فصائل اللغات السامية ، حتى هجر جملة من علماء الاسلام ألسنة
لغاتهم الأصلية ، تمحّضوا للغة القرآن فاحصين وباحثين ، فذاع صيتهم في الآفاق ،
واشتهروا باسم العربية.
وكان القرآن الكريم أصل إفتتانهم بلغة
العرب ، وأسلوبه مصدر حياتهم اللغوية المتنوعة ، فتعددت المعارف ، وتفتحت المدارك
، فكانت الإسهامات الحضارية ، والنقلة الثقافية تغزو المجتمعات والامم والشعوب
والقبائل ، وتحرر العقول والذهنيات والألباب ، قال ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه ) : «
إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وإفتنانها في
الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات » .
وكانت لغة قريش هي الأصل الذي نزل به
القرآن على أفصح قريش
__________________
فيما نسب إليه « أنا
أفصح العرب بيد أني من قريش »
فكانت هذه اللغة مصونة بالقرآن ، ومحفوظة به ، نتيجة تضافر جهود علماء العروبة
والاسلام في نفي الشوائب ، ودرئ الأخطار حتى سلمت هذه اللغة من التدهور والانحطاط
اللذين عرضا لجملة من لغات العالم ، وعلى العكس من ذلك فقد إرتفعت لغة القرآن عن
مستوى الانصهار في غيرها من اللغات ، وإعتصمت بمخزونها عن الدخيل من الألفاظ ، وهي
بين هذه وذاك تصارع حركات العامية ، وتدحض شُبه الانقضاض على التراث ، وتسمو عن
مسيرة الإذابة بالرطانات الأعجمية واللهجات الاقليمية ، حتى كتب لها الخلود ببركة
القرآن العظيم ، وظلت رمز الشموخ الوضاء.
لا أريد التوسع في هذا الملحظ ، ولا
التأكيد على هذا الجانب ، فهما من البداهة بمكان ، بل أحاول الاشارة من خلال ثلاث
ظواهر جديرة بلفت النظر العلمي ، كانت أساساً صلباً لحفاظ القرآن المجيد على أصالة
العربية :
الظاهرة الأولى :
وتتجلى في تسيير القرآن الكريم لعلومه
المثلى ، وفنون معارفه العليا ، مما أعطى ظاهرة ذات ذائقة جديدة ، ولجت أبواب
الوعي العربي في التصنيف والتأليف والبحث الجدي والمتابعة الفذة من قبل فحول
العلماء وعلية القوم ، وكان تفسير القرآن يمثل الشطر الاكبر من هذه الظاهرة ،
فبدأت مصادره تتألق ، وموارده تتواكب ، فكانت مدرسة مكة المكرمة ، ومدرسة المدينة
المنورة ، ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن الكريم ، معلماً بارزاً من معالم رفد
العربية بكل ما هو أصيل ومبتكر ، فكانت مدرسة مكة ، وهي أندر عطاء ، وأغلى قيمة ،
تستمد قوامها من النبي وآله وأصحابه ، وكان قوامها النخبة الرائدة من أصحاب ابن
عباس ( ت : ٦٨ ه ) وابن عباس نفسه ، ومولاه عكرمة ( ت : ١٠٤ ه ) ومجاهد بن جبر (
ت : ١٠٣ ه ) وأمثالهما من الرواد الأوائل
__________________
وكانت مدرسة المدينة
المنورة ، قد إمتازت بالتجرد والموضوعية ، والكشف عن مراد الله من كتابه ، فيما
أثر عنها من روايات محددة ، وكان قوامها ثلاثة من أئمة أهل البيت هم : الامام علي
بن الحسين زين العابدين ( ت : ٩٥ ه ) والامام محمد الباقر ( ت : ١١٤ ه ) والامام
جعفر الصادق ( ت : ١٤٨ ه ) كما اعتمدت طائفة من تلامذة أبي بن كعب ( ت : ١٠٥ ه )
وأصحاب زيد بن أسلم ( ت : ١٣٦ ه ).
وكانت مدرسة الكوفة غنية بعطائها الثّر
في إتجاه تدريسي يمثله ابن مسعود ( ت : ٣٢ ه ) وجملة من تلامذته ، وفي طليعتهم
مسروق بن الأجدع ( ت : ٦٣ ه ) والأسود بن يزيد ( ت : ٧٥ ه ) والربيع بن خثيم ،
وعامر الشعبي ( ت : ١٠٥ ه ) وأمثالهم.
وقد برز في الكوفة إتجاه نصّي يمثله
تلامذة الامامين محمد الباقر وجعفر الصادق 8
نشأت عنه طبقتان تقيدت بنقل النصوص رواية وكتابة ، وكان في طليعة الرواة : زرارة
بن أعين الكوفي ، وفي طليعة المؤلفين فرات بن إبراهيم الكوفي.
ولا ينسى دور مدرسة البصرة فيما أثر عن
أبي عمرو بن العلاء ( ت : ١٤٥ ه ) وعيسى بن عمر الثقفي ( ت : ١٤٩ ه ) وقبلهما
الحسن البصري ( ت : ١١٤ ه ) فيما أُصّلَ عنده من جهود تفسيرية منتشرة في أمهات
التفاسير.
كانت هذه المدارس بما أبقت لنا من تراث
تفسيري ضخم يعتمد الرواية حيناً ، والاستنباط العقلي حيناً آخر سبيلاً إلى نشوء
حركة التفسير التسلسلي المنظم عند العرب والمسلمين فبدأ ذلك متكاملاً في محتوياته
عند أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( ت : ٣١٠ ه ) في تفسيره الشهير ( جامع البيان
) واستمر العطاء الجزل إلى اليوم حافلاً بتفسير القرآن بالقرآن ، والتفسير البياني
، والتفسير التشريعي ، والتفسير المعجمي ، والتفسير الموضوعي ، وكان البعد
الاحتجاجي متوافراً في التفسير الكلامي والوعي الفلسفي ، والأثر العرفاني ،
والمنهج الاشاري ، وكان المناخ العقلي يتقلب بين شؤون الجدل المنطقي ، وسمات الروح
الصوفي ، فصقلت الحياة
العقلية بمزيج من
الآراء الكلامية يتخير من ثمارها العربي ما أراد.
وكان هذا الزخم الحضاري حرياً بطرح كل
الفروض الفكرية في رحاب العربية ولغتها الفياضة ، فأنت معه في معين مترافد لا ينضب
، وشعاع متألق لا يخبو ، هذا كله إلى جنب علوم القرآن وما أورثته للعربية من
التفتح على آفاق جديدة في ظاهرة الوحي ، وأسباب النزول ، وجمع القرآن ، وخضم
القراءات ، وحياة النسخ ، ومجال الامثال ، وطرق التشريع ، وإرساء المصطلح في المحكم
والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، وما أضاف ذلك من
تنظير فجائي في لغة الجدل ، وعالم الحجاج ، مما كانت معه العربية حافلة بقيّم
خلاقة جديدة ، نوّرها القرآن في علومه حتى قال ابن مسعود :
« من أراد علم الأولين والآخرين فليثور
القرآن » .
وتثوير القرآن يعني التدبر فيه ، والبحث عن جزئياته ، والعكوف على حيثياته الكبرى
، وفي هذا دعوة واضحة إلى الاجتهاد ، وإعمال الفكر مما تتسع له دائرة علوم القرآن
في ميادينها عند رد الأصول إلى الفروع ، والنظم إلى متعلقات التركيب ، واللغة إلى
جذورها في التصريف والاشتقاق.
وهكذا ظهر لنا التأريخ الحضاري المشترك
بين اللغة العربية والقرآن الكريم مما شكل مظهراً إجتماعياً متلازماً ، فالحفاظ
على اللغة يعني الحفاظ على القرآن ، وصيانة لغة القرآن يقتضي صيانة لغة العرب ،
لارتباط وجودها التأريخي بوجوده التشريعي ، واستمرار رقيها بلمح من إستمراره ،
ولما كان القرآن الكريم ، معجزة محمد 6
الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود متصل بينهما رغم عادية الزمن ،
وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها. وهنا يتجلىٰ
أثر تيسير القرآن في تفسيره وعلومه بالكشف عن أسرار العربية وكنوزها دون عناء
ومشقة .
__________________
الظاهرة الثانية :
وتبرز ملامحها في تيسير القرآن العظيم ،
لمعالم اللغة ، ومعاني النحو ، ودلالة الألفاظ ، مما أوجد حركة لغوية دائبة ،
وأصالة إعرابية متجددة ، نشأت عنهما مناهج اللغة من جهة ، ومدارس النحو من جهة
أخرىٰ.
فالمنهج اللغوي عند العرب مدين بإرساء
قواعده لأصالة القرآن ، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : ١٨٠ ه ) وسيبويه ( ت
: ١٨٠ ه ) والفراء ( ت : ٢٠٧ ه ) وأبو عبيدة ( ت : ٢١٠ ه ) وابن قتيبة ( ت :
٢٧٦ ه ) إنما كتبوا العين ، الكتاب ، معاني القرآن ، مجاز القرآن ، غريب القرآن ،
فلأن رائدهم الحثيث إلى هذا التوجه هو العناية بلغة القرآن ، فكان مددهم بمعين
المفردات والصيغ والتراكيب في اللغة والحجة والنحو والصرف والقراءات ، ألم يكن
مضمارهم في الإبانة عن إستعمالات العرب ، وطرق بيانهم ، فابتنى الأصل اللغوي عندهم
بكثير من أبعاده على الغريب والشكل والأوابد والشوارد في الألفاظ والكلمات
والمشتقات مما كان أصلاً للبناء اللغوي والنحوي والصرفي ، فكان القرآن عندهم مظنة
إستنباط القواعد لاستلهام الحجة إثر الحجة في ميدان المعرفة اللغوية ، وجلاء معاني
مفردات العربية ، وكانت إستعمالات القرآن أساس الدربة في البحث عند تتبع غريب
العربية ، وإستقصاء معجم ألفاظها اللغوية.
قال الراغب ( ت : ٥٠٢ ه ) : « فألفاظ
القرآن هي لب كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها إعتماد الفقهاء في
أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم » .
وكان إستئناس أعلام العرب بمفردات
القرآن دليلاً حافزاً لأعلام الأوروبيين في فهرسة ألفاظ القرآن بإطارها العلمي ،
المنظّم ، فحينما تأصلت الفكرة عند المستشرق الألماني الأستاذ جوستاف فلوجل ( ١٨٠٢
م ـ ١٨٧٠ م ) ألف أول معجم مفهرس للقرآن في اللغة العربية عني بألفاظ القرآن
ومفرداته ، وأسماه : « نجوم الفرقان في أطراف القرآن » وطبع لأول مرة عام
__________________
١٨٤٢ م في لا يبزج ،
وكان هذا العمل الجليل أساساً محكماً لما إعتمده الاستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في
وضع : ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ) .
وقد إستأنس مجمع اللغة العربية في
القاهرة بهذا المنهج الرائد ، فأصدر معجم ألفاظ القرآن الكريم في مجلدين ضخمين ،
قام بإعداده جماعة من الأساتيذ والعلماء والمتخصصين ، فعرضوا لمفردات القرآن كافة
، فكان العمل أوسع ، والدائرة أشمل ، والأحصاء أكثر ، فكل كلمة ترد في القرآن تشرح
شرحاً لغوياً ، ويحصر تردد ورودها في القرآن ، وينص على المعاني المختلفة للكلمة
الواحدة ، ويشار إلى مجازية بعض المفردات ، كما يشار إلى مواطن الاستعمال الحقيقي.
أما مدارس النحو العربي فكان سعيها وراء
ضبط قراءة القرآن وأدائه سليماً على النحو العربي الفصيح ، دون الوقوع في طائلة
اللحن ، وتساهل العامة في القراءة ، ليسلم النص القرآني من التحريف والايهام
معرباً بإبانة ، ومشرقاً بوضوح ، فبداية الضبط في نقط المصحف من قبل أبي الأسود
الدؤلي ، أو يحيى بن يعمر العدواني ، أو نصر بن عاصم
إنما كان صيانة للقرآن من اللحن على حد تعبير النووي : « ونقط المصحف وشكله مستحبٌ
لأنه صيانة من اللحن والتحريف » .
وبدأ التحوط على القرآن فيما وضعه أمير المؤمنين الإمام علي 7 من معالم النحو على روايات منها :
أ ـ حينما سمع إعرابياً يقرأ ( لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخَاطِئُونَ
(٣٧) )
، فوضع النحو.
ب ـ حينما دخل عليه أبو الأسود على
الامام علي 7 فوجد في يده
رقعة ، يقول أبو الأسود ، فقلت : ما هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني
__________________
تأملت كلام العرب
فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الاعاجم ، فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه
، ويعتمدون عليه ، وإذا الرقعة فيها :
الكلام كله : اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما
أنبأ عن المسمىٰ ، والفعل ما أنبئ به ، والحرف ما أفاد معنى. وقال لي : أنحُ
هذا النحو ، وأضف إليه ما وقع إليك » .
ومهما يكن من أمر فإن الاستاذ أحمد أمين
يميل إلى أن شكل المصحف في نقطه وإعجامه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون
النشوء ، يمكن أن تأتي من أبي الأسود .
والحقيقة أن اللحن في قراءة القرآن ـ بعد
أن اتسعت رقعة الاسلام ـ كان سبباً مباشراً في تأسيس النحو العربي ، حتى روي لنا
لحن الحجاج والحسن البصري .
وكانت البداية التأسيسية ـ بالاضافة إلى
ما سبق ـ على يد البصريين حينما ألف عبد الله بن أبي إسحاق ( ت : ١١٧ ه ) كتاباً
في الهمز .
وتبعه عيسى بن عمر الثقفي ( ت : ١٤٩ ه )
فألف كتابين هما : الأكمال والجامع .
حتى إذا نبغ الخليل ( ت : ١٧٥ ه ) وأخذ
بزمام الدرس النحوي ، قامت مدرسة البصرة في النحو على يديه ، ونشأ مترعرعاً في
ظلال توجيهه تلميذه سيبويه ( ت : ١٨٠ ه ) فأتسمت ملامح المدرسة بمناهجه ، وتأصلت
مسائلها بفضله ، فكان « الكتاب » أول أصل مدرسي جمع مادة النحو العربي ، وكان
منهجه متأثراً بالقرآن الكريم جزئياً في توجيه الاعراب حيناً ، وتيسير القواعد
حيناً آخر ، لأن القياس هو الأولى عند البصريين ، وإن كان
__________________
الهدف تقويم اللسان
العربي عن اللحن والخطأ ، للحفاظ على سلامة القرآن الأدائية.
حتى إذا نشأت مدرسة الكوفة على يد أبي
جعفر الرؤاسي ( ت : ١٤٨ ه ) وتلميذه النابه علي بن حمزة الكسائي ( ت : ١٨٩ ه )
وأشهر تلاميذ الكسائي : يحيى بن زياد الفراء ( ت : ٢٠٧ ه ) ، كان الاستناد إلى
القرآن أكثر شيوعاً والاستدلال بشواهد من آياته أرحب مجالاً ، لأن الكوفيين «
يؤمنون أن القرآن جاء بلغات فصيحة ، فهو أحق بالقبول ، وأجدر بالأخذ ، حينما تبنى
قاعدة ، أو يقرر حكم ، أو يصحح أسلوب » .
فكان عمل الكوفة في ظواهر الكتاب حيناً
، وفي القياس النحوي حيناً آخر ، وليتهم إكتفوا بالشاهد القرآني وحده ، ولم يخضعوا
لسلطان القياس ، لكان القرآن هو المرجع ليس غير.
إن نشوء هاتين المدرستين في ظل العلم
العراقي الفياض ، كان هو الأساس لسلامة اللغة العربية ، وعليه سار المتأخرون من
النحاة ، فكان الثروة الطائلة في كل زمان ومكان ، لأن مصادر الدرس النحوي في تفتقت
عنهما ، وهما وحدهما موارد هذا العلم لمن أراد الإستزادة ، وكان الدافع الحقيقي
وراء هذه الجهود المترامية الأطراف هو الدفاع عن القرآن ، وصيانة التراث من
الهجمات المضادة ، وإبقاء العربية علماً شامخاً في حياة اللغات.
الظاهرة الثالثة :
وتتجلى مظاهرها في حياة البلاغة العربية
، فقد نشأت البلاغة العربية في أحضان الاعجاز القرآني ، وتلألأ نجمها في قضايا
البيان في القرآن ، فكان الجاحظ ( ت : ٢٥٥ ه ) من أوائل من أكدوا هذا الجانب في
جملة من أسراره الجمالية ، فخصص كثيراً من مباحثه في « نظم القرآن » لاستيفاء كنوز
العبارة القرآنية ، وإستخراج ما فيها من مجاز وتشبيه بمعانيهما الواسعة ، وكذلك
صنع في « البيان والتبيين » فتجد المجاز إلى جنب الكناية القرآنية ،
__________________
والاستعارة مستقاة
من تشبيهات القرآن ، وعمله هذا وإن كان مفرقاً ومجزءاً إلا أنه كان مناراً لمعالم
الطريق.
حتى إذا جاء ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه )
وجدناه يؤكد دلائل مادة علمي المعاني والبيان في صدر كتابه « تأويل مشكل القرآن »
مستنداً إلى التنظيرات البلاغية من القرآن في ضوء طرق القول ومأخذه عند العرب في
الاستعارة والتمثيل والقلب التقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار
والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ، مما أورده مستنيراً بآيات القرآن ودلائله
في أبواب المجاز .
وكان علي بن عيسى الرماني ( ت : ٣٨٦ ه )
في « النكت في إعجاز القرآن » وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : ٣٨٨ ه ) في « بيان
القرآن » وأبو هلال العسكري ( ت : ٣٩٥ ه ) في « الصناعتين » وأبو بكر الباقلاني (
ت : ٤٠٣ ه ) في « إعجاز القرآن » والسيد الشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ ه ) في « تلخيص
البيان في مجازات القرآن » قد استمدوا من كتاب العربية الأكبر روافد الاعجاز
البياني ، وروائع الفن البلاغي ، فتلمس آثار قضايا الاعجاز ، وتلمح بصمات كتاب
الله في ثنيات جوهر البلاغة وأساسها ، والتدوين المشترك بين أصول البلاغة وشواهد
الآيات يعطيك نماذج التطبيق.
فإذا استقريت جهود عبد القاهر الجرجاني
( ت : ٤٧١ ه ) تجده بحقٍّ مؤسس الفن البلاغي ، ومشيد أركانه في ضوء القرآن العظيم
، فالفاحص لكتاب « دلائل الاعجاز » يلحظ مباحثه منصبَّة بسيولها المتشعبة حول علم
المعاني بكل تفريعاته الجمالية والاسلوبية ، والمستقري لكتاب : « أسرار البلاغة »
يجده متخصصاً بعلم البيان وصوره كافة ، باستثناء الكناية التي قدم عنها بحثاً
مفصلاً في الدلائل.
إن الجزئيات التي أثارها عبد القاهر ،
والأبواب التي أستوفى الحديث عنها ؛ تعدّ بحق الحجر التأسيسي لمفاهيم علم البلاغة
مستمدة من القرآن ؛ في المستوى التطبيقي والنظري ، وهو بذلك الفكر المخطط الرائد
لجملة هذه الأفكار ، والمنظّر المتمكن من هذا الفن.
__________________
من خلال هذا الاختصار فيما قدمت ، تجد
التفاعل الحضاري قائماً بين كتاب الله وعلم البلاغة العربية الذي هو جزء متسلسل عن
القرآن ، ويتعرف الباحث بتأكيد بالغ أن هذا العلم إنما قام ونهض وترعرع ـ فضلاً عن
نشوئه ـ من أجل إثبات بلاغة القرآن ، فكل بلاغة دونها ، وكل بليغ لا يصل إليه ولا
يواكب تلاطم أمواجه ، مما يدفع ما وسم به هذا التراث العربي الاسلامي المحض من
سمات لا أساس لها ، فلا الأصل اليوناني ينطلق من واقع علمي ، ولا الأثر الاعجمي
بحقيقة تأريخية ، بل البلاغة في أصولها وفروعها وتضاعيفها مستندة إلى القرآن في
ينابيعه الأولى ، فالعربي على فطرته البدوية الصافية تهزه الكلمة العذبة ، وتطربه
العبارة الفصيحة ، وتمتلك نفسه الاستعارة الهادفة ، وتسترعيه الكناية المهذبة ،
ويستهويه التشبيه المعبر ، ويقف عند المجاز السيّار ، وكان ذلك من بركات القرآن
وجليل آثاره البيانية ، وسبق فنه القولي فنون العرب في الأداء والاسلوب والنظم
ورصانة التأليف.
لقد بهر العرب بجمال القرآن وروعه ،
ونظروا إلى التغيير الجذري الذي أحدثه هذا الوحي الهادر ليس في العادات المفاهيم
والتقاليد فحسب ، بل في القول وفنون الكلام والنظم البياني ، فقد نظروا إلى لغتهم
وهي تتجه ـ فجأة ـ نحو الاستقامة والاستقرار والصعود ، فحدبوا على عطاء هذه اللغة
يختزنونه ، وعمدوا إلى مرونتها يستغلونها إستغلال يسر وسماح ، فكان هذا المخزون جمالاً
بلاغيَّا لا يبلى ، وكان ذلك الاستغلال موروثاً بيانياً لا ينفد ، وما ذاك إلا
نتيجة إستجلائهم دلالات القرآن الادبية ، وتغلغلهم بأعماق فنونه البلاغية ،
فالقرآن إلى جانب عطائه اللغوي والاسلوبي قد خلص اللغة من فجاجة الوحشي والغريب ،
وهذّب طبع ألفاظها من التنافر والتعقيد ، فلم يعد العربي بعد بحاجة إلى إقصاء ذلك
وإستبعاده ، فكأنه لم يكن ، فقد تكفل القرآن بتذليل الصعاب.
العرب اليوم مدعوون إلى تأكيد هذا
التلاحم الفاعل بين كتاب الله تعالى وبين الفن البلاغي ، وذلك بالكشف عن خبايا هذا
الكتاب وكنوزه ، وإستكناه وجوه الاعجاز البياني في ظلال آياته ، إذ لا شوائب في
لغة القرآن وألفاظه ، ولا معاناة في تحسس جماله العام ، والجهد الكبير المتواصل
كفيل بالوصول إلى
الأمثلة النادرة ، ففيها وحدها يتقوم الأصل البلاغي الموروث ، بعد أن كان الطبع
السليم عند العرب يكشف عن هذا الملحظ بذائقته الخالصة.
وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ،
عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الأسلوب
النفسي لمكافحة الجريمة في
القرآن
الكريم
ألقي في المؤتمر العلمي الرابع المنعقد
في كلية الفقه في النجف بشعار « دور العقيدة والتشريع الاسلامي في مكافحة الجريمة
بتأريخ ١٧ ـ ١٨ مايس ١٩٨٩ ، ونشر في وقائع مؤتمر اعجاز القرآن نيسان ١٩٩٠ / بغداد
».
بسم الله الرحمن الرحيم
الاسلوب النفسي لمكافحة
الجريمة في القرآن
الجريمة ما يقترفه الجاني من جرم في حق
نفسه أو أسرته أو مجتمعه ، أو وطنه أو قومه.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : ١٧٥
ه ) : فلان له جريمة ، أي : جرم ، وهو مصدر الجارم الذي يجرم على نفسه وقومه شراً.
والجرم الذنب ، وفعله الاجرام ، والمجرم
المذنب ، والجارم : الجاني
وكذا في لسان العرب ، فالجريمة هي الجرم مصدر الجارم ، ويأتي بما أورد الخليل لا
يزيد عليه .
وقد وردت الجريمة ـ مادة ـ في القرآن
الكريم أكثر من ستين مرة ، ولم ترد بلفظها ولا مرة واحدة .
وردت الألفاظ الآتية : الاجرام ، أجرمنا
، أجرموا ، تجرمون ، مجرمون ، مجرمين ، مجرميها ، من هذه المادة للدلالة على اسم
المصدر : الجريمة.
في هذه الالفاظ عرض القرآن الكريم
لسيماء المجرمين ، وأوصافهم ، وحالاتهم وأعمالهم ، وحسراتهم ، ومفارقاتهم ، وصورهم
، وانذارهم ،
__________________
وتحذيرهم ، وارشادهم
عن غيهم ، ووازنهم بسواهم من الصالحين والمسالمين والبررة.
هذا الحشد الهائل من المفردات يتسع
لأكثر من بحث موضوعي ، وهنا نستطيع أن نلمس فيه صورة متميزة أخاذة للاسلوب النفسي
الذي اعتمده القرآن العظيم لمكافحة الجريمة من خلال التأثر والتأثير في الوعد
والوعيد والترغيب والترهيب والاصلاح.
الاجرام كما يصوره لنا
القرآن الكريم ذو ظاهرتين :
الأولى : الاجرام الفردي وهو الذي يتحدث
به عن المجرم ذاته ، ويراد به كل جنس المجرم أنّى كان جرمه ، ويمثله قوله تعالى :
أ ـ (
يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
(١١) وَصَاحِبَتِهِ
وَأَخِيهِ (١٢)
) .
ب ـ (
إِنَّهُ
مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا
يَحْيَىٰ (٧٤) )
.
وقد يبرز الاجرام الفردي في هذا الملحظ مزعوماً ، دون جريمة كقوله تعالى : ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي
وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
) .
فليس هناك افتراء ، وليس هناك اجرام ، ولو ثبت الافتراء افتراضاً لتحقق الاجرام ،
ولو تحقق الاجرام ، فلا تؤخذون بجرمي ولا أؤخذ بجرمكم ، وفيه تأكيد على اجرام
الكافرين فيما يبدو.
الظاهرة
الثانية : الاجرام الجماعي ، وهو الذي يتحدث به
القرآن عن الجماعات المجرمة في مقارفتها الجريمة ومعايشتها ، ويمثله قوله تعالى :
أ ـ (
سَيُصِيبُ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا
يَمْكُرُونَ ) .
ب ـ (
إِنَّ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ
(٢٩) ) .
__________________
ج ـ (
وَكَذَٰلِكَ
جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا
) .
بعد تشخيص هاتين الظاهرتين نجد القرآن
متحدياً عن سمات المجرمين وأوصافهم في كل من النشأتين الحياة الأولى ، والحياة
الآخرة.
وتبدأ مشخصات الجريمة في القرآن بالقتل
المتعمد ، وبقطع الطريق ، وبالسرقة ، وبالزنا ، وكبائر المحرمات ، وأحاول فيما يلي
القاء الضوء على بعض هذه المفردات ، ومعالجتها في القرآن نفسياً ، دون الدخول في
التفصيلات المضنية.
١ ـ القتل : يعتبر القتل من أبشع
الجرائم في القوانين السماوية ، وهو كذلك في القوانين الوضعية ، وقد حدد الله
تعالى هذا المعلم بأسبابه ودوافعه ونتائجه ، وهو نوعان : قتل العمد ، وقتل الخطأ ،
ولهما في الشريعة الاسلامية حدود في القصاص والديات ، ولا يتعلق حديثنا لمثل هذه
الحدود وإنما بالمشخصات الجرمية فحسب.
أ ـ قال تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا
(٣٣) ) .
فقد حددت هذه الآية عدة معالم لحالة
القتل :
الأولى
: عدم جواز قتل النفس التي حرم الله الا
بالحق.
الثانية
: من قتل مظلوماً فلوليه الحق بالقصاص.
الثالثة
: الاكتفاء في المقاصة الشرعية عن
الاسراف.
وقد كرّر تعالى الملحظ الأولى في آية
أخرى فقال : ( وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
ب ـ وفيما اقتص الله تعالى من خير ابني
آدم حددت معالم أخرى لجواز القتل وحرمته مع الارشاد الموحي ، قال تعالى :
__________________
(
مِنْ
أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا
) .
وتحدد استنباطات الفقهاء ان القتل يجب
في مواضع الكفر بعد الايمان على تفصيل به في مسألة الارتداد ، والزنا بعد الاحصان
، والفساد في الأرض كالعصابات المسلحة ، وقطاع الطرق ، وفي حالة القصاص.
والأول والثاني مستفادان من السنة
الشريفة ، والثالث والرابع من النص القرآني السابق.
وقد عالج القرآن ظاهرة القتل المتعمد
نفسيًّا في عدة ملامح تحذيرية وترغيبية وإصلاحية.
أولاً
: حذر القرآن الكريم من قتل الأولاد خشية
الفقر بأن ربط الرزق بالله ، فنهى عن القتل لهذا الملحظ فقال في آيتين :
أ ـ (
وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
) .
ب ـ (
وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
) .
ويلاحظ هنا الذوق البلاغي في القرآن إذ
استعمل في آية الأنعام (
مِّنْ
إِمْلاقٍ )
وفي آية الإسراء (
خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ )
وفي الأولى قدم ضمير الخطاب (
نَرْزُقُكُمْ
) على ضمير
الغائب ( إِيَّاهُمْ
) وفي الثانية
عكس الامر فاستعمل مكان المخاطب الغائب (
نَرْزُقُهُمْ
) ومكان
الغائب المخاطب (
إِيَّاكُمْ
) وهو ملحظ
دقيق تفصيله في غير هذا البحث.
ثانياً
: الانكار الشديد بصيغة الاستفهام ، قال
تعالى : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنبٍ
قُتِلَتْ (٩)
) .
ثالثاً
: الوعيد بالخلود في النار ، وغضب الله
تعالى ولعنه وهو أشد ،
__________________
وإعداد العذاب
العظيم وهو أقطع ، ويمثل هذا الاتجاه قوله تعالى :
(
وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
(٩٣) ) .
رابعاً
: الثناء المطلق والوعد الجميل مع الوعيد
باعتبار الذين يتصفون بعدم القتل من عباد الرحمن ، قال تعالى في صفتهم : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ
بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا
(٦٨) ) .
خامساً
: التبكيت والتسفيه والخسران فيما قال
تعالى : ( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ
) .
وهكذا نجد القرآن العظيم قد استقطب
مختلف الاساليب لدرء جريمة القتل بين الوعد والوعيد وتهيأة المناخ النفسي ليطمئن
المجتمع وتصان الأرواح.
٢ ـ السرقة : لقد حدد القرآن حكم السرقة
؛ واعتبرها من الجرائم التي يعاقب عليها بقطع اليد بنص قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (٣٨)
) .
هذا الحكم له حدود وله قيود في تعيّن
مبلغ السرقة ، وهوية السارق ، ومكان القطع ، وللفقهاء فيه كلام طويل ، وكذلك الحال
في نوعية السرقة غصباً أو سلباً أو أغار سراً أو علانية ، لكن المهم هو وقع الحكم
على الاسماع وشدته لدى التنفيذ ، وهذا ما دفع بحملة من الأوربيين والمستشرقين إلى
تصوير الاسلام بأنه دين وحشي ، وليس الأمر كذلك ، لأن الظروف المعيشية التي سخرها
الله لعباده ، هي أكبر وأكثر من ظروف الاعتداء على أموال الآخرين ، ولأن الامانة
سر من أسرار الخليقة ، يعود الانسان بدونها متردياً للحضيض الاوهد ، ويحضرني في
ردّ هذه الشبهة ، ما أبانه أبو العلاء المعري ، متسائلاً عن حكمة قطع اليد بقوله :
__________________
يد بخمس مئين عسجد فديت
|
|
ما بالها قطعت في ربع دينار
|
فأجابه السيد المرتضى علم الهدى ( ت :
٤٣٦ ه ) :
عز الامانة أغلاها وأرخصها
|
|
ذل الخيانة فأنظر حكمة الباري
|
٣ ـ الزنا ، وهو جريمة يقاربها من لا عائلة له يحافظ على شرفها ،
ولا زوجة يصون حرمتها ، ولا بنت يغار عليها ، ولا أخت يثأر لكرامتها لأن الزنا دين
كما يقول العرب و « كما تدين تدان » ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى في الزواج غنى
عن هذه الجريمة الخلقية في أمراضها وأضرارها ونتائجها. قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (٣٢) )
.
وقد عالج القرآن هذه الظاهرة عملياً
بالطرق الشرعية المسنونة ، وشدد عليها عقاباً في البكر فقال تعالى :
(
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ
(٢) ) .
ثم هز القرآن الكريم الحمية والغيرة
والكرامة ، وأنه ليربأ بالنفس الانسانية عن هذا المسلك الوخيم فقال تعالى :
(
الزَّانِي
لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ
زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ
(٣) ) .
لهذا كان قذف المحصنات والتشهير بالنساء
البريئات من المحرمات التي يعاقب عليها الله تعالى ، وانظر إلى قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
(٤) ) .
ولنبتعد قليلاً عن هذا المناخ إلى عظمة
قوله تعالى في صد هذا
__________________
المناخ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(٢١) ) .
اثرى الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي مهيئاً
بالزنا وبالمحرمات الاخرى كاللواط والسحاق والعادة السرية ، إنها لموبقات حقاً.
(
وَلا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا
) .
ألا تنظر إلى قوله تعالى وهو يرغب بنعيم
الجنة في ملذاتها الحسية : (
وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
) .
وإلى قوله تعالى :( وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
) .
إنني أدعو الشباب المثقف إلى الزواج بسن مبكرة من أجل مكافحة جريمة الزنا ، فالزواج
المبكر سنّة سار عليها سلفنا الصالح ، وأدعو الآباء والامهات إلى التخفيف من غلاء
المهور وشروط الزواج ، فالمسلم كفء المسلمة ، قال تعالى :
(
وَأَنكِحُوا
الأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(٣٢) ) .
والزواج حاجة يحتاج إليها الشباب بخاصة
كالاحتياج إلى الاكل والشرب بالضبط ، ولا حياء في الدين .
٤ ـ كبائر المحرمات : وهي عبارة عن
المحرمات التي ذكرها الكتاب العزيز ونص عليها علماء التشريع الاسلامي مما يعتبر
الوقوع فيها منافياً لعدالة المسلم ووصفه بالفسق حيناً ، وبالكفر حيناً آخر ، ولنا
في صدد عدها ، فمنها : عقوق الوالدين ، أكل مال اليتيم ، أكل الربا ،
__________________
شهادة الزور ، كتمان
الشهادة ، شرب الخمر ، ترك ما فرض الله تعمداً ، ما تقدم من قتل النفس المحترمة
والزنا والسرقة ، قطيعة الرحم ، الكذب ، أكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما
أهل به لغير الله ، والقمار ، وأكل السحت ، والرشوة ، والبخس في المكيال والميزان
، والغيبة ، والنميمة والبهتان ، وغش المسلمين ، وأمثال ذلك مما يعتبره القرآن
جريمة يعاقب عليها في الدنيا أو الاخرة ، وهنا نلقي نظرة فاحصة لسبيل مكافحة
الجرائم بتلميح موجز يتعلق بإصلاح المجتمع والنفس الانسانية والعودة بها إلى
الفطرة الخالصة النقية من كل وضر وشائبة وذلك أننا في كثير من الدول النامية نعيش
أزمة أخلاقية تأثرت بمفاهيم الغرب غير الدقيقة ، هذه المفاهيم هي التي تؤدي إلى
الجريمة ، فالخروج عن التقاليد العربية الاصيلة ، والابتعاد عن واقع الرسالة
الاسلامية المقدسة ، والتهور ضد الاعراف الانسانية النبيلة كل أولئك مما يوقع في
هذه الجرائم آنفة الذكر ، الولد مثلاً لا يعرف قيمة والديه والطالب لا يقدر جهود
مربيه ، والصديق يعامل صديقه بالاثرة لا الايثار والاخ يضرب صفحاً عن أخيه ، والجار
يطوي كشحاً عن جاره ، والكذب والبهتان والنميمة ديدن الكثيرين ، وأفضل الناس من
شغلته عيوبه عن عيوب الآخرين فلسنا معصومين ، والتفاهم في لغة المحبة والاخوة
الصادقة عاد ضرباً من الهذيان ، وحب لأخيك ما تحب لنفسك ليست من أخلاقنا ، والكلمة
الطيبة صدقة نسخت من معجمات الحديث الشريف و (
وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ )
كأنها ليست من كتاب الله.
وقوله تعالى :
(
ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ )
لا نجد مفهوماً لها في تعاملنا مع الناس.
وقوله تعالى :
__________________
(
فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )
، كأنه ليس من أخلاق رسولنا العربي الامين.
حتى عاد التواضع ضعة واللين ضعفاً ،
والاخلاق تملقاً ، والحديث ثرثرة والادب عدم اتزان.
أن درء المفاهيم الخاطئة ، وهذه
المتخلفات الذهينية ، هو الذي أن نحارب الجريمة ، ونكافح انتشارها والا فنحن في
عداد المجرمين (
إِلاَّ
أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ
(٤٠) عَنِ المُجْرِمِينَ
(٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ (٤٢)
) .
قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ ه ) :
« ما سلككم في سقر ليس ببيان للتساؤل
عنهم ، وإنما حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى
بينهم وبين المجرمين ، فيقولون ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار كما هو
نهج التنزيل في غرابة نظمه » .
وإذا لم يكافح كل منا الجريمة من موقعه
، والانانية الذاتية في داخله ، والقوقعة على النفس ، كان ما قدمناه كلاماً فارغاً
لا يسمن ولا يغني من جوع.
ومما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ،
عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.
__________________
تحريم الخمر في القرآن الكريم
ألقي في المؤتمر الطبي المنعقد في
القاعة الكبرى لجامعة الكوفة بشعار « الخمرة وأضرارها الاجتماعية والصحية » في ٢٨
شعبان ١٤١٨ ه = ٢٩ / ١٢ / ١٩٩٧ وقد نظمت المؤتمر نقابة الأطباء بالتعاون مع كلية
الطب في جامعة الكوفة في النجف الأشرف.
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ
الرَّحِيمِ
الخمر لغةً : ما أسكر من عصير العنب
لأنها خامرت العقل.
قال ابن الاعرابي : وسميت الخمر خمراً
لأنها تركت فاختمرت ، وإختمارها تغير ريحها.
والخمر : ما خمر العقل ، وهو المسكر من
الشراب.
وهي : خمرة وخمر وخمور بزنةِ : تمرة
وتمر وتمور .
والعرب تسمي العنب خمراً باعتبار ما
يؤول إليه ، فالتسمية مجازية ، وعليه حمل قوله تعالى : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا
) .
فهو يعصر العنب الذي سيصير خمراً.
والخمرة محرمة شرعاً ، وحرمتها ثابتة
تشريعاً في نصوص قرآنية غير قابلة للتأويل ، ومنصوص عليها ، روائياً في أحاديث غير
خاضعة للاجتهاد ، فلا إجتهاد مقابل النص.
ليس لنا بعد هذا أن نبيح ما حرّم الله ،
وليس لنا أيضاً أن نحرم ما أباح الله ، سواءً أكان ذلك صادراً عن الله في كتابه ،
أو عن النبي 6 في سنته ،
أو عن الائمة الطاهرين في صحاح ما روي عنهم.
كل أولئك لما ورد أن : حلال محمد حلال
إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة. « متّفقٌ عليه ».
هذا التحديد الصارم في المنظور لأحكام
الشريعة بعامة ، له منطلق
__________________
واحد ، واعتبار واحد
: إنه قانون السماء الذي لا يصح التحكم في ثوابته المطلقة حساً وعقلاً وتجربة
وشرعاً وعرفاً ، ذلك أن قانون السماء مصدر غيبي عتيد لا يخضع للعلم التجريبي ، ولا
يقوم على أسس الدساتير الفيزياوية والرياضية ، ولا يكون نتيجة للفرز المختبري ،
ولا يصح حيثية للاختيار البشري ، كما هو القانون الوضعي من جهة ، والكشف العلمي من
جهة أخرى ، لأن الأنظمة السماوية لها منظورها الخاص الصادر من وراء الغيب ،
وطبيعتها الملكوتية النازلة بتعليمات الوحي وإذا كان الامر كذلك ، وهو كذلك فليس
لنا أن نقول : لم ؟ وكيف ؟ ولو ؟ فهذه اعتبارات أرضية لا ترتبط بالبعد الالهي الذي
قدّر فهدى.
وليس للانسان المحدود التعقل والتفكير
والاستنتاج أن يتدخل في شؤون ذلك النظام الدقيق الذي تديرهُ القوة الغيبية المدبرة
، لأنه عاجز عن تدبير نفسه إلا باذن من الله مرتبط بالإشاءة ، فكيف به لهذا العالم
الفسيح الهائل.
في هذا الضوء من الاستقرار يمكننا
التحدث عن تحريم الخمر في القرآن الكريم ضمن نصوصه التي لا تقبل الردّ أو الاجتهاد
لأنها نصوص مقدسة أملاها الوحي من كلام الله على رسوله الأمين. ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(١٩٢)
نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (١٩٣) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ
(١٩٥)
) .
ويتكفل البحث في معالجة هذا الموضوع
إنطلاقاً من تلك النصوص بحسب أسبقيتها في النزول ـ مكّيها ومدنيّها ـ لنصل إلى
رؤية معاصرة تتولى رعاية هذا الملحظ الجدير بالأهمية.
أولاً
: الذي يبدو للبحث أن أول ما نزل في
الموضوع : قوله تعالى : (
قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ
) .
والفواحش في تصوّر أولي هي تلك المعاصي
الكبيرة التي يبالغ في سَوءَتِها إلى درجة التشنيع ، والأثم هو الذنب الذي يورث
المرء هواناً
__________________
وإنحداراً عن
الاسراع في تحصيل الثواب. قال الراغب ( ت : ٥٠٢ ه ) : « الاثم اسم للأفعال
المبطئة عن الثواب » .
هذا في معناه العام ، ولكنه ، قد يخصص بالخمر وحده ، وذلك لاشتهار الخمر عند العرب
وفي الشرع باسم الإثم.
ففي الوسائل : عن علي بن يقطين عن
الامام موسى بن جعفر 7
، وهو يتحدث عن الآية أعلاه ، قال : « وأما الاثم فإنها الخمر بعينها » .
قال أبو علي الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه ) :
« والأثم : قيل هو الذنوب والمعاصي عن
الجبائي ، وقيل : الاثم ما دون الحد عن الفراء. وقيل : الاثم الخمر ، وأنشد الأخفش
:
شربتُ الأثمَ حتى ضلَّ عقلي
|
|
كذاكَ الأثمُ يَذهَبُ بالعقول
|
وقال الآخر :
نهانا رسول الله
أن نقرب الخفا
|
|
وأن نشربَ الأثمَ
الذي يوجب الوزرا
|
وقد ظهر مما تقدم : أن الاثم لا يخلو من
معنيين ، فإما أن يكون هو المعاصي والذنوب ، والخمر أحد مفرداته ، وأبرز مصاديقه
وإما أن يكون هو الخمر بعينها كما تسنده الرواية ، ويؤيده لغة الشاهدان الشعريان
المتقدمان ، وعلى كلا المذهبين في المعنى ، فالخمر محرمة بهذه الآية ، إما لكونها
أحد مصاديق الاثم ، وإما لأنها الاثم بذاته ، وإما بهما معاً كما هو واضح.
ثانياً
: وفي مجال إحصاء ما يتخذه الناس من
ثمرات النخيل والاعناب قال تعالى : (
وَمِن
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا
حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(٦٧) ) .
قال الراغب : « والسُكرُ حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل ذلك في
الشراب ... والسَكَر ـ
__________________
بفتحتين ـ اسم لما
يكون منه السكر » .
وفي الآية ـ وهي مكية أيضاً كسابقتها ـ تفصيل
لما يتّخذه الناس بعامة ـ دون الخواص ـ من النخيل والأعناب ، وذلك على نوعين : ما
هو مسكر كالخمر ومشتقاتها ، وما هو من الرزق الحسن كالتمر والخل والزبيب والدبس
وسواها.
وتقييد الرزق بكونه حسناً ، إشارة دقيقة
يلمحها البلاغي في تحقيقه ، والمتشرع في إستنباطه ، إلى أن هناك ما ليس بحسن وهو
السَكَر ، فكأن هناك رزقين رزقاً طيباً وصف بالحسن ، وهو المباح من ثمرات النخيل
والأعناب كالتمر والزبيب وسواهما ، ورزقاً غير طيب ، وهو المحرم مما تتخذ منه
المسكرات ، فكان بين الاثنين مقابلة في البين. وليس في ذلك أدنى إشارة إلى تحليل
المسكرات.
قال الطباطبائي في الميزان « ولا دلة في
الآية على إباحة استعمال المسكر ، ولا على تحسين استعماله ، إن لم تدل على نوع من
تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن ، وإنما الآية تعد ما ينتفعون به من ثمرات
النخيل والأعناب ، وهي مكية بخاطب المشركين ، وتدعوهم إلى التوحيد » .
ثالثاً
: وفي عملية لفرز مضار الخمر عن منافعها
المتصورة قال تعالى : (
يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا
) .
فبيّن سبحانه وتعالى أن في الخمر
والميسر إثماً كبيراً ، والإثم هو الوزر العظيم ، وفيهما أيضاً « منافع للناس »
بما يتخيلونه نفعاً من أثمانها في بيعها وشرائها ، وما يتوهمونه من النشوة في شرب
الخمر ومعاقرتها ، وما يأخذونه من السحت في لعب القمار ، وما يجدونه من الغلبة
حيناً فيها ، وما
__________________
يتمتعون به من اللهو
واللعب والعربدة في الاجتماع عليهما.
إلا أن الله عز وجل عقب على ذلك بقوله
تعالى فرقاناً بين الآمرين « وإثمهما أكبر من نفعهما » إذن : ما فيهما من الإثم
أكبر مما فيهما من النفع ، وعبر تعالى بأكبر دون أكثر مع العلم أن الكبر يستعمل في
قياس الاحجام ، كما أن الكثرة تستعمل في المعدودات ، فإن الملحظ غير هذا
باعتبارهما وصفين يتعلقان بالقياس النظري أو التطبيقي « فهما وصفان إضافيان بمعنى
أن الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه ، وهو بعينه صغير بالنسبة
إلى آخر أكبر منه ، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولا صغر ، كما لا يكون
كثرة ولا قلة ، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في
الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية ، ثم إنتقلوا من الصور إلى
المعاني ، فاطّردوا معنى الكبر والصّغر فيها » .
وهذا النفع المتصور ينحصر بالمضاربات
المالية وما يترتب عليها في البيع والشراء ، وما يصاحب ذلك من العبث واللهو
والاسراف في كل من الخمر والميسر ، وكل أولئك منافع على سبيل الحياة الدنيا فهي من
المعاني الاعتبارية الزائلة ؛ ولكن الاثم بهما مما يوجب الغضب المطبق في الآخرة ،
ويستنزل سخط الباري ، وهذا مما لا يقوم له شيء ، فالأثم إذن أكبر من النفع.
قال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه ) وفي الآية
تحريم الخمر من وجهتين : ( أحدهما ) قوله : (
وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ )
فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته إقتضى العقل الامتناع عنه.
( الثاني ) أنه بيّن أن فيهما الاثم ،
وقد حرم في آية أخرى الأثم فقال : (
إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ
)
إنتهىٰ كلام الطبرسي أعلىٰ الله مقامه .
__________________
وآية الأعراف مكية سبقت هذه الآية
المدنية ، والإثم هناك منصوص عليه إما بإعتباره خمراً ، وإما بإعتبار الآية تحرم
مطلق الاثم ، والخمر أجد مصاديق هذا الاثم. وفي هذه الآية على إقتراف الاثم ،
وإقتراف الاثم من المحرمات ، فالخمر حرام بدلالة الآيتين معاً. وهذا مَعلَمٌ دقيق
المسلك.
رابعاً
: ولدى تجاوز المسلمين ـ بعضهم بالطبع ـ بعض
هذه التعليمات الصريحة في دلالتها نزل قوله تعالى : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ
حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
)
وفي الآية نهي صريح عن مقاربة الصلاة حال السكر متلبسين بذلك ، وفيه إشارة إلى تحريم
السكر قبل الصلاة لأن الاتجاه بالصلاة إلى الله ينافيه ابطال العمل بالسكر ،
فالمعنى ليس لكم أن تسكروا وتتجهوا إلى الصلاة ، فللصلاة مقام عظيم في نهج المرء
التعبدي ، وهذا المقام ينبغي أن يضل ملازماً للطهارة الروحية والبدنية ، والسيطرة
في تخليص النفس من الرجس العارض لتلك الطهارة إنما يتم بالعقل المسيطر في إدراك
علماً يقينياً بعيداً عن التلوث والتدرن بسكر الخمر ، فإذا لم يعلم ما يقول ، وقد
فقد أعز ما يملك وهو العقل الدال على إرادة فعل الصلاة إمتثالاً للأمر المولوي فلا
معنى لتلك العبادة الفاقدة لشرائطها في الانتهاء عن الخمر ، فإذا هم انتهوا عن ذلك
، وطهروا نفوسهم عن شربها ، ولا معنى لامتثال أمره تعالى مع عبادة غيره ، لا سيما
وأن هذه العبادة بالذات تقتضي حضور القلب ، ولا حضور لغائب العقل حتى يعلم ما يقول
، وكيف له أن يعلم ما يقول وهو يعاقر الخمرة التي تذهب بالعقول.
وليس المراد أن الصلاة قد تصح من
السكران لو علم ما قال ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين بل على العكس.
قال الطبرسي « وفي الآية دلالة على أن
السكران لا تصح صلاته ، وقد حصل الاجماع على أنه يلزمه القضاء » .
وقد تأتي سكارى بالمعنى
__________________
المجازي ، أو أنها
تحمل على المعنى المجازي ، بمعنى إتيان الصلاة متكاسلاً أو متثاقلاً ، أو مستغرقاً
بالانصراف عنها بأثار النوم والنعاس كما في تفسير العياشي عن الامام محمد الباقر 7 أنه قال : « لا تقم إلى الصلاة
متكاسلاً ولا متقاعساً ولا متثاقلاً فإنها من خلل النفاق ، فإن الله نهىٰ
المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى » .
فقد يكون هذا من باب التشبيه التمثيلي
للمتكاسل والمتقاعس والمتثاقل بحال السكران ، والله أعلم. ولا يصح لنا علمياً
القول بأن هذه الآية قد نزلت قبل تحريم الخمر كما عن بعض المفسرين ، لأن آية
التحريم المكية قد سبقت إلى ذلك ، والآية مدنية بالأجماع. وقد سبقتها آية البقرة
وهي مدنيّة أيضاً.
خامساً
: وكان آخر ما نزل بتحريم الخمر قوله
تعالىٰ : (
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ
(٩١) ) .
هاتان الآيتان بالانضمام للآيات السابقة
الناطقة بتحريم الخمر ، قد توحي جميعاً بدلالة تدرج الشارع المقدس بتحريم الخمر ،
ولكن ليس التدرج القائل بالسكوت عن حرمة الخمر ، بل ببيان أنها إثم فحسب دون
التعقيب على ذلك بالحرمة ، ومن ثم حرّم الاقتراب من الصلاة في حالة السكر ، وحينما
إستجابت النفوس ، وتحسست المدارك بضرورة تنفيذ الأوامر الالهية جاء النهي المطلق
العام بجميع الحدود والأبعاد في آيتي سورة المائدة.
هذا التدرج التشريعي لما يأتِ بمعنىٰ
المرحلية التدرجية من بيان للإثم فحسب ، أو كراهة للاستعمال للضرر ، إلى تحريم
نهائي ، إذ لم يكن هناك إيهام فيحتاج إلى بيان ، ولا إبهام فيحتاج إلى تصريح « بل
بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله « والاثم »
ثم
__________________
بالتحريم الخاص في
صورة النصيحة : (
قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا ). وقوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ
سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
) إن كانت
الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم ، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ
في آيتي المائدة » .
والآية الأولى من سورة المائدة إعتبرت
الخمر رجساً من عمل الشيطان الخاص به ، وعمل الشيطان يدعو إلى الضلال ، وأكدت ذلك
« بإنما » حصراً ، وطلبت الاجتناب أمراً ، وعلقت على هذا الاجتناب رجاء الفلاح
والسعادة الأبدية ، وعقبت ذلك بأن الشيطان في رجسه هذا يريد إيقاع العداوة
والبغضاء بين بني البشر ، ويصد الناس عن ذكر الله ، وختم ذلك بقوله : ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ
) دلالة على
أن طائفة من المسلمين لم ينتهوا عن شرب الخمر وسواها حتى قرعوا بهذا الإستفهام
الإنكاري تأنيباً وتوبيخاً.
والحق أن تحريم الخمر على هذا النمط من
التدرج تقتضيه طبيعة المناخ الجاهلي والبيئة العربية لارتباطهما بالخمرة أدبياً
وإجتماعياً وتجارياً مما يقتضي التدرج من الصعب إلى الأصعب فقد كان شعر الخمر
شائعاً في العصر الجاهلي يتغنىٰ به وتحيا به الأندية والمحافل ، وكانت
المقدمة الخمرية متعارفة في التناول والتدوال والايقاع الفني ، ولا أدل على ذلك من
مطلع معلقة عمرو بن كلثوم :
ألا هبي بصحنك فأصبحينا
|
|
ولا تبقي خمور الأندرينا
|
على أن النماذج المروية لنا في الخمرة
قليلة بالنسبة لغيرها ، والتعليل لهذه الظاهرة أن الاسلام حينما حرم الخمر إمتنع
الرواة من رواية الشعر المتمثل لها وبها.
ومن جهة أخرى فإن الخمرة مرتبطة بالسلوك
الاجتماعي والمسيرة العرفية في المحفل الجاهلي لدى التشريفات والسهرات تقديماً
ومعاقرة وإستئناساً ، ولذا كان الاقلاع عنها ـ والإسلام قريب عهد بالجاهلية ـ يدعو
__________________
إلى تغيير العادات
والتقاليد الموروثة مما يقتضي جهداً مضاعفاً ، وعملاً مرناً في معالجة الموضوع ،
فكان التدرج في التحريم وسيلة لذلك.
وهناك عامل مهم يرتبط بالمناخ الاقتصادي
لقريش ، فلقريش رحلتان مهمتان للتجارة صيفاً وشتاءً ، وكان الخمر إحدى مفردات هذه
التجارة ، فهو مرتبط بأرزاق القوم إرتباطاً وثيقاً ، وكل أمر يصطدم بالرزق يستدعي
الرفض والمجابهة ، قال تعالىٰ : (
لإِيلافِ
قُرَيْشٍ (١)
إِيلافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ
(٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هَٰذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم
مِّنْ خَوْفٍ (٤) )
.
لذلك كان التدرج في التحريم ضرورةً
تقتضيه مرحلية هذا المناخ ، فكان التحريم متدرجاً من الشديد إلى الأشد.
وقد ظهر ممّا تقدم حرمة الخمر حرمة
تشريعية قد بدأت في مكة حينما حرم الاثم في آية الأعراف. وفي آية النحل وهي مكية
أيضاً إيماء إلى أن السَكَر ليس من الرزق الحسن ، إذ هي لا تتضمن حكماً تكليفياً
بل هي في مقام تعداد ما يتخذ من مشتقات النخيل والأعناب طيباً أو غير طيّب ، حسناً
أو غير حسن ، سواء أكان ذلك المتخذ من الطيبات أو من الخبائث.
وفي آية البقرة ـ وهي أول سورة مدنية ـ ظهر
أن في الخمر إثماً ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، وأن التشديد في أداء الصلاة بطهارة
نفسية وروحية متكاملة يقتضي الاستمرار في عدم تناول المسكر كما في آية النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
) .
وفيها إشارة إلى أن بعض المسلمين لم
يكونوا قد إنتهوا من شرب الخمر ، فهم يعاقرونها مع أدائهم الصلاة.
وقد إنتهىٰ هذا الأمر بالتشديد في
التحريم مع التوبيخ والزجر والتعنيف في آيتي المائدة.
__________________
ومن خلال هذه الآيات البينات يخلص لنا
أن الخمر كما في بعض الروايات « أم الكبائر » وذلك لضررها الفادح الذي يعيث في
كيان الفرد والمجتمع معاً ، ويجعل كلاً منهما مترهلاً كسيحاً لا ينتفع منه بشيء.
وإذا تجاوزنا القرآن العظيم إلى الحديث
الشريف ، رأيتَ الأمر هائلاً في تحريم الخمر ، وبيان السلبيات ، والنذير الصارخ
بإعتبارها من أفظع المآثم ، وقد أحصيت في كتاب الوسائل وحدها أكثر من مئتين وخمسين
حديثاً تعالج تحريمها وبيعها وشرائها وأحكامها وأقسامها ومتعلقاتها مما تقف معه
أكثر إندهاشاً وأعمق تعجباً .
١ ـ ففي وصية النبي 6 لأمير المؤمنين 7 ، قال : « يا علي شارب الخمر كعابد وثن
» .
٢ ـ وعن الإمام الصادق 7 ، قال : قال رسول الله 6 : « مدمن الخمر يلقىٰ الله كعابد
وثن » .
٣ ـ وقيل لأمير المؤمنين 7 : إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا
والسرقة !! قال : نعم.
« إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره
، وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا وسرق ، وقتل النفس التي حرم الله ، وترك
الصلاة » .
٤ ـ وعن الإمام الصادق 7 ، قال ، قال رسول الله 6 : « من شرب خمراً حتى يسكر لم يقبل منه
صلاته أربعين يوماً » .
٥ ـ وعن الإمام محمد الباقر 7 : « أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا
أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره ، فقليله حرام »
، رداً على من اعتبر قليل الخمر حلال ، كما فعل وعّاظ السلاطين لطواغيت العصور.
__________________
٦ ـ وقد تحدث الإمام الصادق في مقام
إكمال الشرائع فاعتبر تحريم الخمر أصلاً فيها ، وقال : « ما بعث الله نبياً قط ،
إلا وقد علم الله أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم تزل الخمر
حراماً » .
٧ ـ وعن الإمام الصادق 7 : « إن الله حرّم الخمر بعينها ،
فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير » .
٨ ـ وقد وردت البشارة العظمىٰ على
لسان الإمام الصادق 7
لمن ترك المسكر في ذات الله ، فقال : « من ترك المسكر صيانة لنفسه سقاه الله من
الرحيق المختوم » .
إن السنة الشريفة شارحة للقرآن ، ومفصلة
لمجمله ، ومبينة لإبهامه ، وفيما تقدم من الأحاديث غنية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
بعد هذا يمكننا أن نتحدث عن بعض أضرار
الخمر في ضوء قوله تعالى : (
وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) على الوجه الآتي : الضرر فيما يبدو على
أنواع ، نوجز الكلام حولها :
١ ـ الضرر الاجتماعي ، وذلك أن شارب
الخمر هو عضو في الهيئة الانسانية ويمثل جزءاً من هذه البنية القائمة على أساس
التعارف والإجتماع ، إلا أن هذا الجزء قد أصبح مشلولاً في الفكر والحركة ، بعيداً
عن الأحساس والعقل السليم ، همته ملذاته وشهواته ، ووكده نشوته وإنفعالاته ،
والمجتمع الإنساني متكافل في الحقوق والواجبات ، وشارب الخمر لا يعطي من نفسه الحق
، ولا يقوم بواجبه تجاه الآخرين ، وما ذاك إلا أنه انحرف عن المسرى الصحيح ، وأتخذ
له طريقاً يبتعد به عن مجتمع الطهر والشرف ، وإقترب من مجتمع الرجس والآثام ، وإذا
توافر هذا النموذج المنحرف في هذا الكيان الإجتماعي ، ذاب المجتمع ، وتهرأت أوصاله
في خضم الشهوات الموبقة والذنوب المهلكة.
__________________
٢ ـ الضرر الأسري : شارب الخمر في أسرته
يرشح هذه الأسرة لاقتراف هذه الكبيرة الموبقة ، ورب الأسرة هو الشاخص الماثل في
كيان الأسرة ، يقتدى به ، وينظر إلى تصرفاته ، وفي الأسرة الزوج والولد والأخ ،
فأما أن يقتدوا بعمله ، وذلك ما يفتت جسم هذه الأسرة وينذرها بالفناء ، وإما أن
يتمردوا عليه ، فيصبح شريداً منبوذاً ، وبذلك أيضاً يتفكك التركيب الأسري ، ويركب
كل طريقه دون توجيه ، والحديث يقول : « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » فأين هي
المسؤولية هنا ، ورب الأسرة في الهوة الدنيا من الانحراف الاخلاقي ، والأسرة
متشرذمة في هذا الجو القاتم.
٣ ـ الضرر الفردي : ويتمثل في جناية
المرء على نفسه ، وتدهوره صحياً وخلقياً وعقلياً ونفسياً ومالياً ، وهذا مما سنقف
عنده قليلاً :
أ ـ الضرر الصحي ، وأطباؤنا أعرف بهذا
الضرر على المرء في أمراض شتى ، لعل من أبرزها : أمراض المعدة والكبد والطحال
والعيون والأعصاب ؛ أضف إلى ذلك ما تتأثر به الجينات الوراثية ، وما يورثه الأب
للأبناء من الاصابات الخطيرة ، حيث ثبت أن ذرية معاقري الخمرة أكثر تعرضاً للأمراض
، والأمراض تشيع فيهم تأصلاً دون غيرهم من الأبناء من ذرية غير المدنيين.
ب ـ الضرر الخلقي ، هناك إنحراف في
أخلاقية المتناول للخمر ، فالفحش والبذاء وهما محرمان في الشريعة الإسلامية ملازمان
له في الأغلب ، والتطاول على الآخرين بالكلم النابي ، والحديث الفج ، والسليقة
المعوجة ، والترهل في التصرفات ، والامبالاة في القول والعمل ، وكل أولئك مما
تتقاصر معه الأخلاق ، وتتدانى به التقاليد والأعراف ، وتتآكل فيه بنية الهرم
الإنساني فيسود الغضب والاعتداء ، وتتحكم الأنانية والأثرة بأسوأ صورهما.
ج ـ الضّرر العقلي : لا ريب أن معاقرة
الخمر مما يفتقد معها العقل كلاً أو جزءاً ، فإذا فقد كلاً فقد خرج المرء عن دائرة
بشريته ، وإذا فقد جزءاً ، فهو تضييع للجوهرة الانسانية الفريدة التي وهبها الله
لهذا المخلوق دون سائر مخلوقاته « ولقد كرّمنا بني آدم ».
وإضاعة هذا التكريم إضاعة لأغلى هبة
منحها الله لعبده ، والعقل هو مناط التكليف ، وبه تتقدم البشرية ، وتتفاضل
المجتمعات الراقية ، وضياع هذا العقل في قارعة الطريق بين موائد الخمر ومباذل
الشهوات إجهاز فعلي على إبراز مقومات الروح الانساني.
د ـ الضرر النفسي : وتبدو الآثار
النفسية بأبشع صورها عند شاربي الخمور ، وأبرزها الخمول الذهني ، والوهن العصبي ،
والتقوقع على الذات ، وفقدان السيطرة على الإرادة ، يلوح عليه التردد ، ويصاحبه
الفشل والخذلان ، يتوقع التهرب من الواقع السيء ليقع في واقع أسوأ ، كمن يطفىء
النار بالحطب.
لقد صورت الحضارة الغربية للشبان أن
التخلص من مشكلات الحياة مقترن بشرب الخمور ، وأن التغلب على مكاره الدهر يكمن في
حب الشهوات ، وكلا العلاجيْن المزعومين لا نصيب لهما من الصحة ، بل على العكس
تماماً ، فهو يفرّ من الهموم ليقع في الغموم ، وهو ينفس عن الكربات بأسوأ منها من
الموبقات.
ه ـ الضرر المالي ، ويتمثل بهذا النوع
من العبث والاسراف بالمال دونما وضعه في موقعه المشروع الذي يراد منه وله ، والمرء
يسأل غداً عن ماله ممّ إكتسبه ، وفيم أنفقه ، فلا يجوز التكسب بالحرام بيعاً وشراء
، والتصرف ببيع الخمور وشرائها من الحرام ، وهو محرم حرمة تشريعية ، وتترتب عليها
أحكام فقهية. يقول الشيخ الأنصاري ( ت : ١٢٨١ ه ).
« يحرم التكسب بالخمر مسكر مائع إجماعاً
نصاً وفتوى » .
ويقول السيد السيستاني مدّ ظله العالي : « لا يجوز التكسب بالخمر ، وباقي المسكرات
المائعة ... ولا فرق بين أنواع التكسب من البيع والشراء وجعلها ثمناً في البيع ،
وأجرة في الإجارة ، وعوضاً عن العمل في الجعالة ، وغير ذلك من أنحاء المعاوضة عليها
، وفي حكم ذلك جعلها مهراً في
__________________
النكاح ، وعوضاً في
الطلاق الخلعي ، وكذا هبتها والصلح بلا عوض على الأظهر » .
ومع هذا التفصيل عند السيد السيستاني
فقد ذهب إلى أكثر من هذا كله ، فقال « يحرم بيع العنب ليعمل خمراً ، وكذا تحرم ولا
تصح إجارة المساكن لتباع فيها الخمر ، أو تحرز فيها ، وكذا تحرم ولا تصح إجارة
السفن أو الدواب وغيرها لحمل الخمر ، والأجرة في ذلك محرمة » .
وهذه الفتاوى المدويّة في تحريم بيع
وشراء الخمور ومتفرعاتها ، مستنبطة من أدلتها الشرعية في ضوء الروايات الصحيحة
متناً وسنداً كما في الكافي للكليني ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ، والتهذيب
والاستبصار للطوسي ، والوسائل للحر العاملي في باب المكاسب المحرمة ، وهي مناقشة
علمية رصينة في كتب الفقه الاستدلالي.
بقي أن نقول : إن الخمر قد حرمت
لإسكارها ، فما كان مسكراً فهو حرام ، كالويسكي والبراندي والبيرة وبقية المشروبات
المادية التي تسمى جزافاً بالمشروبات الروحية لأنها ترتبط بالمادة ، ولا علاقة لها
بالصفاء الروحي على الإطلاق ، ولكنها المفاهيم الغربية التي فرضت شهرتها على الشرق.
هذه الحرمة مبتنية على قاعدة أصولية
يذهب بها الإمامية ، وهي القول بقياس منصوص العلة ، فإن علة تحريم الخمر هو
الاسكار ، فكل مسكر إذن حرام ، مهما تعددت أسماؤه ، واختلفت تركيباته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|
النجف الأشرف / ٢٨ شعبان المعظم ١٤١٨ ه ٢٩ / ١٢ / ١٩٩٧ م
الدكتور محمد حسين علي الصغير
|
__________________
مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في
القرآن
العظيم
ألقيت في الندوة العلمية المتخصصة التي
عقدها الاستاذ سامي محي الدين وأخوته في ديوانهم العامر في النجف الاشرف مساء يوم
السبت ١٨ رمضان ١٤١٨ ه ١٧ / ١ / ١٩٩٨ م. وعقبّت بالاجابة عن الأسئلة التي تخص
البحث في مناقشة مكثفة. حضرها العلماء الأعلام وأساتذة الجامعات وجمهور كبير من
النجفيين والمثقفين.
حياة الكائن الانساني في القرآن تستدعي
تأملاً كثيراً في كل منحنياتها ، وتستدعي إنتباه الباحث الموضوعي في تناثر
جزئياتها ، فهذا الكائن دون سواه قد حضي بالتكريم الالهي ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
(٧٠) ) .
والعلة في هذا التكريم إعتباره الخلق الأول في حياة الأرض ، كما هو ظاهر القرآن ،
وهذا الخلق يمتاز بالدقة في التركيب ، والحسن بالتقويم ، والابداع في التصوير.
هذا الخلق الجديد ذو طابعين : طابع
إعجازي لا عن مثيل ، وطابع فطري في سنة الحياة يقترن بالتزاوج والتناسل بين الذكر
والأنثىٰ بتلاقح الحويمن المنوي المذكّر بالبيضة المخصبة الأنثوية ، لينتج
ذلك كائناً ناطقاً عاقلاً مفكراً من جماد ، لا أهلية له من نطق أو عقل أو إرادة أو
تفكير ، وهذا ما جلب إنتباه فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعري فقال :
والذي حارث البريةُ فيهِ
|
|
حَيَوانٌ مستحدثٌ من جماد
|
ولكل من هذين الملحظين المهمين في تكوين
الإنسان حديث يتناول أبعاده الأولىٰ والمتطورة على حد سواء ، حتى لحظات
الموت وحياة البرزخ وقيام الساعة.
وقد بدأ هذا الإبداع الالهي بما حكاه
الله تعالى في كتابه : (
وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
__________________
وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) )
.
هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني
المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من
الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
) ولا يمكن أن
يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله ، لأن
الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون ، لا تبيح لهم
الإعتراض والانكار ، فهم أعرف بجلالة المقام الالهي ، وسمو الحضرة القدسية ، وقد
يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً
بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا
الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح ، لأنهم طلاب معرفة ، وهم
يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه ، فعلىٰ هذا يكون الباعث على
ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين : حالة الملائكة وهم بين التسبيح
والتقديس لله في السماء ، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض ، فكان
الجواب : إنه يعلم ما لا يعلمون ، فسلّموا للأمر تسليماً.
هذا الانقداح الذهني في التصور الملائكي
قد يكون للشفافية التي جبلوا عليها في الخلق ، فهم يتفرسون بما سيحدث لو وُجد هذا
المخلوق البشري ، وهو ظاهر السياق القرآني ، وقد يقال : بأنّ الله خلق خلقاً قبل
آدم ، وقد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، وكأنهم قاسوا هؤلاء على أولئك ، وهذا
مما لم ينطق به القرآن ، وهو من القياس الباطل.
القضية الثانية : بعد أن خلق الله آدم
حكى الله ما حدث بقوله : (
وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ
أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(٣٤) ) .
وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود ،
فزجره الله تعالىٰ : (
قَالَ مَا
مَنَعَكَ
__________________
أَلاَّ
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) .
فأجاب إبليس بصيغة واحدة ، وأخرىٰ ، أما الصيغة الواحدة : ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ )
، والصيغة الأخرى في سورة أخرى ، فيما حكاه تعالى عنه : ( قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
(٣٣) ) .
والتعليل في الإجابة واحد أن الله خلق
آدم من عنصر الطين ، وهو من عنصر النار ، والنار في زعمه أشرف عنصراً من الطين.
وهنا يتضح أن الله تعالت قدرته قد خلق
آدم من طين ، كما نصّ عليه : (
إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ
(٧١) ) .
وفي هذا الضوء نجد خلق عيسى بن مريم
عليه في كيفية خرق بها الله النواميس الطبيعية للكون ، فكان عيسى 7 كمثل آدم كما قال : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
(٥٩) ) .
وهذا الخلق الاعجازي العظيم هزّ
العالمين في الحديث عن قدرة الله تعالى ، وقد تحدث القرآن عن بداية هذا الخلق
وإرهاصات تكوينه الإبداعي ، ببيان ظروفه كافة ، وشرح أبعاده ، فقال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ
انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
(١٦) فَاتَّخَذَتْ مِن
دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا
سَوِيًّا (١٧)
قَالَتْ
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا
(١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
(١٩) قَالَتْ أَنَّىٰ
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
(٢٠) ) .
وهنا الإرهاص التوقعي أن مريم 3 ستلد غلاماً زكياً ، بعد أن إنتبذت من
أهلها مكاناً شرقياً ، وأتخذت لها من دونهم ستراً وحجاباً ، فأرسل الله الروح
الأمين جبرئيل 7
متمثلاً بشراً سوياً متكاملاً ، فأستعاذت به من الله تعالىٰ إن كان تقياً ،
فأخبرها بأنه رسول الله ليهب لها هذا
__________________
الغلام ، فأنكرت ذلك
لأنها لم يمسسها بشر ولم تك بغيّاً ، وهنا يتجلىٰ البعد الاعجازي الجديد ،
في بيان هوان الأمر على الله ، وفي جعله آية للعالمين : ( قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ
أَمْرًا مَّقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا
قَصِيًّا (٢٢)
فَأَجَاءَهَا
المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ
هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا
(٢٣) فَنَادَاهَا مِن
تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
(٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
(٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا
(٢٦) ) .
فالأمر هين على الله ليجعل عيسى آية للناس ورحمة ، وكان ذلك أمراً إلهياً تكوينياً
، فحملتهُ وإبتعدت به ، فأجاءها المخاض مباشرة إلى جذع النخلة ، وتحسست بفداحة ما
حملت به ، فتمنت الموت فناداها الملك أو عيسى ألا تحزني ، وتحدث إليها ، وأمرها
بهز الجذع فتساقط الرطب ، وأمرت بالأكل والشرب وقرة العين ، وأن تقول لمن تراه من
الناس أني نذرت لله صوم الصمت ، وإنتهىٰ هذا الفصل ، وقد ولد عيسى دون أب ،
وكان حقيقة واقعة لا تجحد ، وتختتم القصة بمثولها أمام قومها ، ليتجلى المحور
الإعجازي لهم ، ويخشعوا صامتين ، وهكذا كان ، قال تعالى : ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا
يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
(٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
(٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا
(٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
(٣٠) وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ
حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا
بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
(٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
(٣٣) ) .
ويستخلص من هذا أن مريم حينما جاءت به قومها ، جوبهت مباشرة بالاستنكار الشديد ،
وهذا ديدن الناس في إستعجال الأمر وقالة السوء ، وقلق الوضين ، فأشارت إليه بحرارة
وعزم وإصرار ، فأستغربوا إشارتها وعجبوا لها ، وصرخوا بفظاعة تكليم الطفل في مهده
، وهنا تبدو الآية الالهية الناطقة ، لتحسم الأمر في حركة إرادية غير متوقعة وليست
بالحسبان ، قال إني عبد الله ،
__________________
أتاني الكتاب ،
وجعلني نبياً ... إلى آخر ما قال ، فأسقط بأيديهم ، وأخذتهم الدهشة ، وانحلّ كل
إغلاق وإبهام ، فآمن من آمن عن دليل ، وأشرك من قال أنه ابن الله.
هذا النحو من الايجاد هو الخلق الاعجازي
دون مثال أو سبيل طبيعي ، والخلق الاعجازي الآخر هو الخلق الفطري في التناسل
البشري الذي أصبح فيما بعد طبيعياً ، وإن كان في أصل الايجاد إعجازياً ، لأنه عاد
متعارفاً عن طريق التناسل ، أما حقيقة هذا التناسل وكيفيته ، وجعل الإرادة التكوينية
متعلقة بها ، فهو مما لا تصل إليه يد الطبيعة ، وإنما هو من صنع أحسن الخالقين ،
وقد أشار الله تعالى إلى الخلقين معاً بقوله تعالىٰ : ( وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن
نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلا
تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(١١) ) .
هذه العوالم الهائلة كلها يسيرة عند
الله ، فهو الخالق من التراب ، وهو الخالق من النطفة ، وهو جاعل الزوجية ، وهو العالم
بما تحمل كل أنثى ، وما تضع ، يضاف إلى هذا كله إحصاء هذه العوالم في كتاب مبين :
المعمر وغير المعمر ، وما فوقهما وما دونهما ، ولكن الإنسان يطغىٰ : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ
قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
(٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
(٧٩) ) .
فكيف بدأ هذا الخلق على النحو الطبيعي
كما هي الحال اليوم ، وإلى انقضاء أجل الدنيا ، وقيام الساعة ، هذا ما يجيب عليه
القرآن الكريم مستدلاً فيه على البعث والنشور ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ
مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ
لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن
يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا
) .
__________________
فالتراب هو الأصل التركيبي والانشائي
للانسان ، والنطفة هي الأصل الفطري للتناسل ، والعلقة : القطعة من الدم الجامد ،
والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة ، المخلّقة على ما قبل تامة الخلقة ، وغير
المخلّقة غير تامة الخلقة ، وينطبق ذلك على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه ،
وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق هو التصوير .
هذا السرد التدريجي في تركيبة النسل
الرحمي مما يرفع التشكيك في البعث والنشور ، فإن من تدرج بالانسان من التراب إلى
النطفة ، ومن النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، إلى التخليق في الصورة
، إلى الكائن الحي الناطق ، وهي مجموعة من التقلبات المختلفة حتى تصل إلى حين قبول
الحياة ، لقادرٌ على إمكانية تمتع الانسان بعد الموت بالحياة ، نشراً وحشراً ،
ذاتاً وعيناً ، روحاً وبدناً.
والقرآن الكريم يؤكد حقيقة الخلق
الاعجازي والطبيعي لا في التركيب بل في الانفصال الأولي والالتقاء الثانوي ،
فالانسان ترابي الأصل ، منويّ التفريع في التكوين ، فله تعالى وحده الحديث عن دقة
الصنع وعظمة الخلق ، ومساحة المصنع التكويني الذي لا يتجاوز الرحم في صغره ،
ليتولد منه هذا الانسان ، يقول تعالىٰ : (
وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ
(١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
(١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ
عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ
(١٤) ) .
وفي الآية ردٌّ على نظرية الأستاذ (
دارون ) في النشوء والارتقاء ، فالانسان خُلِقَ متطوراً بعد هذه الأطوار.
وفي هذه الآيات تتجلىٰ القدرة
الباهرة في تطويع السلالة الانسانية حيث التدرج التكويني من البسيط إلى المركب ،
ومن الصعب إلى الأصعب ، فهذه المواد الأولية في التركيب للكيان الانساني : تراب ،
نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ، لحم ، تكوّن جسماً ما ولكن ذلك يترتب عليه خلقٌ
__________________
آخر في الانشاء ،
ذلك الخلق الآخر هو الانسان ، فهو شيء إذن ، والمراحل التكوينية شيء آخر ، فهو ليس
من جنس تلك المراحل بل هو إمتداد لها ، وإبداع حادث فيه العلم والقدرة والحياة
والنطق والإرادة ، وهي معالم تختلف تماماً عن جنس المواد التي ركب منها ، وهذا
ملحظ دقيق للغاية.
وتناسل هذا الانسان الأول « آدم » فكانت
ثمرته « قابيل وهابيل » ولمّا كان التعليل الكوني في خلق الانسان وسواه هو توحيد
الله وعبادته : (
وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
(٥٦) )
والعبادة تشمل كل الفروض والسنن التي نادىٰ بها شعار الخلق بما فيها التقرب
إلى الله في مراسم القرابين ، فقرّب قابيل قربانه فلم يتقبل منه ، وتقبل من أخيه
هابيل ، فأخذته الأنانية ، وتمكن منه الغيظ وربما الحسد ، فأقدم على قتله دون
تورّع ، أما كيف علما بتقبل القربان وعدمه « فإنه كان من المعهود عند الأمم
السابقة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه ، قال تعالى : ( حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ )
.. فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضاً على هذا النحو .. وكيف
ما كان فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وردّه من الآخر » .
ذلك ما يقرره القرآن في سورة المائدة الآيات ( ٢٧ ـ ٣١ ) والتي تبدأ بقوله تعالى :
( * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ
(٢٧) ) .
ومن هنا بدأ الصراع الدموي عند الانسان
متمثلاً بالكفر والايمان ، ومرت البشرية بأدوار وأطوار لا يعرض القرآن لتفصيلها
دون الاجمال ، حتى بعث أبو البشر الثاني نوح 7
في العراق ، وفي الكوفة على وجه التحديد ، ذلك ما يحكيه القرآن في خطابه للنبي
محمد 6 ، قال تعالىٰ
: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا
__________________
إِلَيْكَ
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ
) .
فهذا الوحي النازل على محمد 6
له سابقة تأريخية بما أوحاه الله إلى نوح والأنبياء من بعد نوح ، فالقرآن إذن يبدأ
حديثه عن وحي الأنبياء إعتباراً من نوح إلى نبينا محمد 6 ، ولهذا كان نوح 7 هو المقدم في الذكر بعد آدم مباشرة ،
قال تعالىٰ : (
* إِنَّ
اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ (٣٣) )
.
وكانت رسالة نوح واضحة المعالم بالدعوة
إلى التوحيد ، قال تعالىٰ : (
لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ )
.
ولم تجد رسالة نوح آذاناً واعية ، ولا أسماعاً صاغيةً ، بل كان قومه من العتاة
الطغاة المتكبرين ، لذلك فقد صرح القرآن الكريم بقلة من آمن مع نوح : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
)
، وسلك العديد الأكثر طرق الضلال وعبادة الأوثان والأصنام في معزل عن الدعوة
الالهية إلى التوحيد ، وتواصوا بالأبقاء على الأوثان : ( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
(٢٣) ) .
والملاحظ هنا أن أسماء هذه الأصنام
أسماء عربية ، فهل كان نوح عربياً وهل كانت المنطقة عربية ، وهل ورثوها من قوم عرب
، إن لم يكونوا هم عرباً ، هذا ما يجيب عليه علماء الآثار واللغات والحفريات.
وكان قوم نوح بحيث أتعبوا نوحاً تعباً
مضنياً ، فلم يستمعوا له ، ولم يستجيبوا لدعوته ، بل قابلوه بما حكاه القرآن
الكريم عنه : (
وَإِنِّي
كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا
(٧) ) .
بل ذهبوا إلى أكثر من هذا مع سماحة
النبي ، وبرّه في الدعاء ، ولين
__________________
الجانب ، وتكرار
الدعوة ، فعبّر عنهم نوح : (
وَمَكَرُوا
مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) )
، حتى ضاق بهم ذرعاً طيلة هذه المدّة الطويلة التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عاماً ،
فما أجدى معهم الوعظ ولا الارشاد ولا حسن التأني الذي جبل عليه نوح 7 : (
فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ
(١٠) )
، فأمره تعالى بصنع السفينة ، وضرب له موعداً فيها بمجيء الأمر لدى فوران التنور ،
فكان ذلك علامة له ، وفيه توجيه وإخبار ، توجيه فيمن يحمل معه في السفينة ، وإخبار
بهلاك الذين سبق عليهم القول ، قال تعالى : (
فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ
أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ
(٢٧) ) .
وكان صنع الفلك بعناية من الله ،
وبمرئىً منه ، وفي ظل مراقبته القصوى ، ورعايته الالهية المعهودة مع الأنبياء ،
وكان قومه يعجبون من هذا الصنع وبهذه السعة الكبيرة ، ويبدو أنهم بمنأى عن الحياة
البحرية ، وإستقرارهم في مناخ بدوي لا يعدو القوافل الساذجة البدائية : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ
عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
(٣٨) ) .
ونفّذ نوح ما أوحى الله به إليه ، فأسلك فيها من كل زوجيْن إثنين ومعه القلّة من
المؤمنين ، وأخبرهم بمصيرهم ، وهذا الأسلاك كما هو ظاهر القرآن ينبىء أن الطوفان
شامل للكرة الأرضية آنذاك ، فأراد الله إستمرارية الحياة للكائنات ومسيرة الحضارة
في الحياة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة باقية في جزء من الأرض ، كما هي
فانية في جزء آخر ، لهذا فذهب بأن الطوفان كان عالمياً ، وصدر الأمر الالهي الصّارم
: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
(١١) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ
عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
(١٢) ) .
__________________
ودلالة السماء ظاهرة في السماء الدنيا ،
ودلالة الأرض ظاهرة على هذه الأرض جميعاً ، ولا دليل من القرآن على غير هذا ، ولا
يدفع الظاهر بالمؤوّل دون أمارة ، ودعاء نوح يوحي بهذا بل يصرح بعموم الطوفان : ( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) .
وكون رسالة نوح عالمية تؤكد ذلك : (
شَرَعَ
لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا
)
، مؤيداً بقوله تعالى : (
فَبَعَثَ
اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
) .
والكتاب إنما ينزل على أصحاب الرسالات العالمية ونوح أولهم بإعتباره من أولي العزم
الخمسة وهو الأول منهم. قال الطباطبائي : « فالحق أن ظاهر القرآن ـ ظهوراً لا ينكر
ـ يدل أن الطوفان كان عاماً للأرض ، وأن من كان عليها من البشر قد أغرقوا جميعاً ،
ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور » .
وغرق الملأ ، وانتهىٰ الأمر ونجا
نوح والمؤمنون ، (
فَأَنجَيْنَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
(١٥) ) .
وحصر الله ذرية البشر في نوح وحده ، وهو أيضاً مما يدلل صراحة على هلاك البشرية
إلا نوح والذين معه : (
وَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
(٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ
هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ
(٧٨) سَلامٌ عَلَىٰ
نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ
(٨٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ
(٨٢) ) .
وتغلبت القرون الأخرى في العالم ،
وتعاقبت الأجيال على الكرة الأرضية حتى قوم هود 7
، وهو من أنبياء العرب فبعثه الله إليهم : (
وَإِلَىٰ
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ
) .
الدعوة نفسها ، والغرض واحد ، وهو التوحيد ، فكفروا به بعد أن
__________________
أبلى هود بلاءً
حسناً ، حتى قالوا عنه كما حكى القرآن ذلك : (
إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
) .
وجادلهم هود في الله ، وأبلغ في الدعوة والدعاء ، وذكّرهم بآلاء الله : ( لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
) .
وحذرهم هود ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ،
ولكنهم ركبوا رؤوسهم ، واتبعوا أهواءهم ، وتركوا العقل جانباً ، واستعجلوا العذاب
، فأنبئهم بما حكاه سبحانه وتعالى : (
قَالَ قَدْ
وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ
) .
فقطع دابرهم ، واستئصلت شأفتهم ، ونجا هود والمؤمنون : ( فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا
مُؤْمِنِينَ (٧٢) )
.
وأرسل الله صالحاً بالرسالة إلى ثمود
وهم من العرب البائدة في معجزة بينّة ـ بناء على طلبهم ـ وهي الناقة آية لهم من
الله ، قال تعالى : (
وَإِلَىٰ
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَٰذِهِ
نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ) .
فكذبوه بعد أن أعذر إليهم ، وأقدموا على عقر الناقة ، وقد كانت لهم غذاء ورواءً ،
ولكنه الطغيان الكامن في نفوس القوم الظالمين ، (
فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
(٧٨) ) .
وهكذا تتوالى الرسالات بالتوحيد ،
ويتوالى الاستكبار والتكذيب ، ولم تكن للناس على الله الحجة ، فقد تابع الرسل
والنبيين ، يوقظون الغافل ، ويحركون روح الحياة في النفوس ، فأرسل لوطاً وشعيباً ،
فكذبوا ذلك ، وكان عذاب الاستئصال يسوّي آثارهم ، وينسف ديارهم ، فبالنسبة
__________________
لقوم لوط قال تعالى
: ( وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ
(٨٤) ) .
وكان العبد الصالح شعيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويذكرهم
بأنعم الله المتواترة عليهم ، وبما منّ عليهم من خيرات فكذبوه : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ
يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ
(٩٢) ) .
هؤلاء الأنبياء قصصت عليك نبأهم مع
أقوامهم من خلال مرور سريع في سورة الأعراف وحدها ، لأن البحث مبنيٌّ على سبيل
الاشارة والنموذج والمثال ، والاطالة تعني الخروج من أصول البحث.
وما زالت البشرية تتمتع بنعم الله
الطائلة ، وتتقلب في ألطافه العميمة ، وهي تكذب بآيات الله ، وتجحد آلاء الله
فيمسهم العذاب الأليم ، حتى أنعم الله على الانسانية بالرسالة الحنيفية الغراء على
يد إبراهيم الخليل وكان الكلدانيون وسواهم عبدة أصنام وسدنة أوثان وحضنة تماثيل ، فدعاهم
إلى عبادة الله وتوحيده ، فأبوا واستكبروا ، وظلوا على أوثانهم عاكفين ، فأقسم
إبراهيم أن سيكيدها : (
وَتَاللهِ
لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
(٥٧) )
، وهكذا كان فقد هجم عليها وهم في منأى عنه وعنها : (
فَجَعَلَهُمْ
جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
(٥٨) ) .
وأحيطوا به خبراً ، وجاء يهرعون إليه ، بعد أن نذروا به : ( قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
(٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
(٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ
عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
(٦١) قَالُوا أَأَنتَ
فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
(٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ
(٦٣) ) .
وسقط في أيديهم ، وألزمهم الحجة ،
وأحرجهم بداهة ، فلا نطق ولا جواب ولا تفكير للأصنام ، ولجأوا إلى منطق القوة
والجبروت والطغيان :
__________________
(
قَالُوا
حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
(٦٨) قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
(٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ
كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ
(٧٠) وَنَجَّيْنَاهُ
وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
(٧١) )
، وغادر إبراهيم العراق إلى فلسطين ، وبلي هناك بالهجرة إلى مصر ، وأخرى إلى حيث
وضع ولده وزوجته عند بيت الله الحرام ، وهنا فوجىء بالامتحان القاسي بذبح ولده ـ وهو
اسماعيل في أشهر الروايات ـ على سبيل الايحاء الالهي في المنام : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا
تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ
مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
(١٠٣)
وَنَادَيْنَاهُ
أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا
كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ
(١٠٥)
إِنَّ
هَٰذَا لَهُوَ الْبَلاءُ المُبِينُ
(١٠٦)
وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) )
.
فكان من الأب أن امتثل الأمر المولوي ،
وكان من الابن أن استجاب لهذا الأمر بطلب فعله ، وتدارك الله عبديه ، وشكر لهما
صنعهما ، ونوّه بذكرهما ، وإعتبرهما من المحسنين المستحقين للجزاء والثواب ، على
هذا البلاء والامتحان ، وفداه بذبح عظيم.
ولم يزل إبراهيم 7 مناراً في الاختبار السرمدي ، وهو في
أواخر حياته ، وقد منّ الله عليه بالذريّة ، فذكر الله على ذلك وحمده : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ
(٤١) ) .
وكان إبراهيم عبداً منيباً ، ورجلاً
كريماً سمحاً ، وممتثلاً لأوامر الله تعالى ينفّذها حرفياً ، فأقام القواعد من البيت يساعده عليه اسماعيل ،
واستقبل الأضياف ، وحاجج الملائكة في قضية قوم لوط ، ودعا إلى الله بكل ما استطاع
، وقابل الهجرتين وسواهما بقلب سليم ، ودعا الله وأناب إليه ، كل ذلك مما لا شك
فيه ، وعليه ظواهر الكتاب ، والذي يبدو أنه أختبر من قبل الله تعالى أواخر أيامه
بكلمات فأتمهن : (
وَإِذِ
ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
__________________
بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي
قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
(١٢٤)
)
، فقد جعله الله للناس إماماً لا ريب في ذلك ، إلا أنه طلب الامامة لذريته بعد
تواجد هذه الذرية ، فما هو هذا الابتلاء العسير الذي ستظهر به قابلياته النفسية ،
وملكاته الكامنة بالعمل والجد والسعي دون القول وحده ، هذا الابتلاء كان متعلقاً
بالكلمات ، والكلمات جمع كلمة ، والكلمة قد يراد بها الشخص في القرآن ، الشخص
بذاته ، والانسان المعهود نفسه ، أي أنها قد تطلق على الوجود العيني كما في قوله
تعالى بالنسبة لعيسى 7
: ( إِذْ قَالَتِ
المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ
المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ
المُقَرَّبِينَ (٤٥) )
.
وبهذا يتجلىٰ أن كلمة الله هنا هي فعله ، كما هي في غيرها قوله ، قال تعالى
: ( وَلا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ
) .
وقد ابتلى ابراهيم 7 قبلها بأوامر إلهية صارمة كالهجرة وذبح
الولد ، وبناء البيت وإبعاد الأهل وسواها ، وهنا لم يذكر شيئاً منها لعدم تعلق
المقام فيها ، إلا أن الغرض قد يكون واضحاً في هذه الكلمات بمقارنة قوله تعالىٰ
: ( إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، فهو حديث خاص يتعلق باقتداء الناس به
، يستضيئون بنور علمه ، ويهتدون بما يفيض عليهم من كمالات الائتمام إستكمالاً
للفيض الالهي عليه بعد أن كان نبياً ورسولاً وخليلاً ، فأضاف إليها الإمامة وهي
الولاية العامة على الناس ، ويبدو أنه قبلها ، بل وطلبها إلى ذريته ، فكان الجواب ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
) تعبيراً عن
إبعاد الظالمين عن ولاية العهد الالهي ؛ وبهذا يتجلّىٰ أن الظالم لا يصلح
للإمامة لأنه لا يكون هادياً إلى الحق ، وأن الامام يجب أن يكون معصوماً لأنه ليس
بظالم ، وجميع الذنوب من الظلم النفسي أو الغيري أو كلاهما معاً ، ومن لم يذنب لا
يعدّ ظالماً ، فاقتضى القول بالعصمة ، وهذا ما تؤيده النظرية العلمية الدقيقة في
شؤون القرآن بعيداً عن المذهب الكلامي
__________________
ومقالات الاسلاميين.
وكانت رسالة إبراهيم عالمية ، كما هو شأن رسالة نوح 7
، فهما موسى وعيسى ومحمد :
ـ فيما بعد ـ أولو العزم من الرسل ، وكان بين إبراهيم 7 وخلفه من أولي العزم قرون كثيرة ، كان
فيها أسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف :
، وجمهرة أنبياء بني إسرائيل حتى موسى 7
الذي ولد في عصر ذبح المواليد من قبل فرعون مصر ، وكانت سلامته بعناية من الله
بايحاء لأمه : (
وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ
(٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ ) .
ونشأ موسى 7
في بحبوحة القصر الفرعوني من بعد أن بصرت به أخته وهم لا يشعرون ، فاسترجعته لأمه
: ( فَرَدَدْنَاهُ
إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ
) .
وبغل موسى 7
أشده وهو في قصر فرعون وبرعاية امرأته الصدّيقة ، فآتاه الله الحكم والعلم ، وجرت
على يديه قوة وبطولة في مصر ، وغادرها خائفاً ، وتوجه تلقاء « مدين » وسقىٰ
الماء الأمتين ، وأستضافه أبوهما ، وكان نبيّ الله شعيب ، وتزوج إحدى ابنتيه ،
وقضى أبعد الاجلين في خدمته : (
* فَلَمَّا
قَضَىٰ مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
(٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
(٣٠) ) .
وآتاه الله الآيات البينات ، وابتعثه
رسولاً ، وشد عضده بهارون أخيه ، وذهبا إلى فرعون ، فرمي بالسحر ، وجمع له السحرة
، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وألقى موسى عصاه ، وإذا بها تلقف ما يأفكون : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
(٤٦) قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
(٤٨) ) .
__________________
وانتصر موسى 7 بعد خطوب وخطوب ، وأُغرق فرعون وقومه
في البحر ، وذهب موسى لميقات ربه ، وأضل السامري من بعده قومه ، واختار موسى من
قومه سبعين رجلاً فأخذتهم الرجفة بما جعل موسى في حيرة بما أضربه القرآن العظيم : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ
شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ
) .
وجرت الملاحم الكبرى على يد موسى بما
يستوعب مساحة مثلى متميزة في القرآن العظيم ، وابتلى بشعب خائر متردد جبان إنتهىٰ
أمره أن يقول لموسى : (
فَاذْهَبْ
أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
) .
وفي هذا كشف عن مناخ الشعب اليهودي في صفحات كثيرة من شذرات القرآن الكريم مرتبطة
بالفساد والافساد والخور والطغيان وقتل الأنبياء ، (
وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
(٨٧) ) .
وكانت نبوة عيسى 7 فيصلاً بين الحق والباطل في مولده
العجيب وسلوكه الانساني وصدره الرحيب ، وما أيّده به الله تعالى من الآيات
الباهرات والمعجزات الخوالد بما أقتصه في كتابه العزيز : ( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ
الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ
الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
(١١٠)
) .
ومع هذه الدلائل الناصعة فقد انقسم
الناس تجاهه إلى : كفرة به ،
__________________
ومشركين بالله ،
وقلة من المؤمنين ، وآخرين قالوا هو ابن الله تعالى ، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة
، وتلاشت رسالته في المحبة والسلام إلا عند الحواريين وجملة من الصالحين ، وأخيراً
إجتمعوا على قتله صلباً ، فشبه لهم في أمره ، ورفع إلى السماء بأمر الله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا (١٥٨)
بَل
رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(١٥٨)
) .
وأعطاه الله خصيصةً جديرة بالعناية ،
ومنحةً كبرى ينبغي الوقوف عندها بكثير من الرصد الخاص ، لأنها ذات دلائل خاصة ،
يقول تعالى : (
وَإِن مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
(١٥٩)
) .
وهذه الخاصيّة الكبرى أن سيؤمن به أهل
الكتاب جميعاً بعد نزوله إلى الأرض ، لا شك لهم في ذلك ، ومن ثم تترتب على هذا
النزول ومشاهده وعوالمه وبركاته خصوصية أخرى بأن يكون عليهم شهيداً يوم القيامة ،
ويتحقّق ذلك إن شاء الله بعد صلاته خلف القائم من آل محمد عجل الله فرجه ، في
المسجد الأقصىٰ كما عليه روايات المسلمين كافة.
وتضيء الدنيا بخاتم النبيين محمد 6 ، وهو رسول رب العالمين ، وآخر أولي
العزم من المرسلين ، قال تعالى : (
وَنَذِيرًا
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
) .
وكان أول ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى : (
اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
(١) خَلَقَ الإِنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ
(٣) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
(٥) ) .
ولهذه البداية سر عظيم نشير إلى بعض
نفحاته ، فالمجتمع الجاهلي مجتمع وثني ، فلا بد أن ينبه إلى خالقه العظيم في
دلالية موحية إلى التوحيد وطرح الصنمية الشائعة ، والقرآن أنزل على أمي لا عهد له
بالقراءة ، ليبلغه
__________________
إلى أميّين لا عهد
لهم بالتعلم ، فكان الجهل أول طوق يجب أن يكسر ، وكان الجمود الفكري أول حاجز يجب
أن يتجاوز ، وكان التقوقع على الأوهام أول ما يجب التحرر منه ، فكانت البداية هذا
الافتتاح الرفيع الذي يتناسب مع هذه الثورة الجديدة ، إنها الدعوة الفطرية إلى
الايمان والعلم بعرض واحد ، فهو إرهاص بإيمان سينتشر ، وإشعار بإفاضات علمية ستضيء
، مصدرها الله تعالى ، وأدائها العلم ، لارتياد المجهول واكتشاف المكنون .
وتداعت قريش إلى افتراضات متناقضة تجاه
القرآن ، وضلّت في متاهات حائرة من أمره ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا
بصحوة النبي ويقظته ، وعزوه إلى الكذب والاختلاق ، وقد وصفوه هم أنفسهم بالصادق
الامين ، ونسبوه إلى الشعر ، وقد علموا أن النبي 6
أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما استقامت لهم الدعوى بشيء ، فوصموه
بسلاح العاجر ، وقالوا أنه مجنون ، قال تعالى : (
وَقَالُوا
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
(٦) ) .
وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة
التجريبية للنبي 6
على رجاحة عقله ، وإتزانه الدقيق في تصرفاته كافة ، فرددوا قول الكهانة والجنون
فرد إفتراءهم القرآن : (
فَذَكِّرْ
فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ
(٢٩) )
وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد 6 معلماً من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن
صناعة السيوف بمكة ، ولا يعرف العربية فردهم القرآن رداً بديهياً حاسماً ، قال
تعالىٰ : (
وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ
(١٠٣)
) .
وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق
السليم ، وتداعت الأوهام المتناثرة هنا وهناك إنطلقوا إلى القول : ( فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ )
، وما كان
__________________
لمحمد أن يتداول
السحر ، ولا رصدوا عليه مأخذاً في ذلك ، ولكنها تهمة الأنبياء في كل زمان ومكان ،
كما وصف ذلك القرآن : (
كَذَٰلِكَ
مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (٥٢)
) .
وأرجف بهؤلاء وأولئك القرآن العظيم ،
فصكهم بهذه الايمان العظمى ، ليقطع دابر القول ، ويكشف الحقيقة كما هي : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ
(١٥) الجَوَارِ الْكُنَّسِ
(١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ (١٧)
وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
(١٩) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
(٢١) وَمَا صَاحِبُكُم
بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ
(٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
(٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
(٢٦) ) .
وأعيتهم السبل ، وبان عجزهم ، فنهىٰ
بعضهم بعضاً عن سماع القرآن ، وأمر بعضهم بعضاً باصطناع الضوضاء عند قراءة النبي
للقرآن ، قال تعالى : (
وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) )
.
فما غلبوا بل انتكسوا ، وما انتصروا بل انهزموا ، وصكهم القرآن بالإنذار النهائي :
( فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
(١٣) ) .
فحدثني أستاذي المعظم آية الله السيد محمد علي الحكيم مد الله في عمره الشريف ،
قال : فلما تلا محمد 6
هذه الآية قف لها شعر قريش.
وإنتهت هذه الملحمة في الآخذ والرد
والتفنيد ، ويئس الكفار من جميع المناورات التكذيبية الباهتة وطار هباء تكذيبهم
الواهن للقرآن ، وحجهم الله تعالى في كل ذلك إحتجاجاً بليغاً ، أخذوا يقترحون
معجزة غيره ، وآية سواه : (
وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ
)
، وكأن القرآن ليس آية ، فردهم الله رداً مفحماً ، وبين عظمة هذا القرآن : ( وَلَوْ أَنَّ
__________________
قُرْآنًا
سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ
المَوْتَىٰ بَل للهِ الأَمْرُ جَمِيعًا
) .
فأبان تعالى أن هدايتهم لا أمل في تحقيقها
، لأن أمر الآيات بيده تعالى ، والأمر له جميعاً وبين أيديهم الآية الكبرى وهو
القرآن ، فلو أن قرآنا كانت هذه صفته ، لكان هذا القرآن ، ومع ذلك فلم يكن لهم أن
يهتدوا به إلا بإذنه تعالى.
وحينما جوبهوا بهذا الردّ المتين ،
تسللوا من طرف خفيّ لانكار أصل الرسالة في صلف وغرور لا مثيل لهما : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً
قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ (٤٣) )
، فلقن الله نبيه الحجة عليهم لرسالته بشهادته وشهادة من عنده علم الكتاب ، وفي
الآية إسناد الشهادة إلى الله تعالى ، وشهادة الله عندهم كبيرة : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ
اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
) .
فهم يشهدون أن أكبر الشهادات هي شهادة الله تعالى ، وحينما أخذ هذا الاقرار منهم ،
وسجله عليهم ، اعتبر ذلك كافياً بينه وبينهم ، وأضاف له ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
) في شهادته ،
وهنا يبرز دور في بنائه قواعد الاسلام جنباً إلى جنب النبي ، وعليه الروايات
الدالة أن الآية نزلت في علي 7
، ويؤيده أنه أعلم الامة بالكتاب ممن آمن بالنبي بإجماع المسلمين ، عن أبي سعيد
الخدري (رض). قال سألت رسول الله 6
عن قول الله جل ثناؤه (
قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ
). قال ذاك
وصي أخي سليمان بن داود ، فقلت يا رسول الله فقول الله : ( قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
) قال ذاك أخي
علي بن أبي طالب .
وعن الامام محمد الباقر والامام جعفر
الصادق والامام موسى بن جعفر والامام علي بن موسى الرضا : ، وزيد بن علي ، ومحمد بن
__________________
الحنفية وسلمان
الفارسي ، وأبي سعيد الخدري ، وإسماعيل السدي ، قالوا جميعاً : ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
) هو علي بن
أبي طالب .
وهنا نقف مقارنين بين من عنده علم من
الكتاب وهو وصي سليمان في قوله تعالى : (
قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن
فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
) .
وعند أهل العربية أن من للتبعيض كما هو
معروف ، أي أن وصي سليمان عنده جزء وشيء من كليّ علم الكتاب ، وبلمحة عين جاء بعرش
بلقيس من اليمن إلى حيث مجلس سليمان من الأرض المقدسة. فما هو رأيك بمن عنده علم
الكتاب كله ، وما هي قدرته الخارقة التي خولها الله إياه فيما لديه من إمكانات
وطاقات سخرها جميعاً في إعلاء كلمة الله في الأرض ، وترسيخ الكيان الاسلامي الوليد
، ووحدة الأمة المتفرقة ، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد ليس غير يكفي أن نشير إلى
فدائه رسول الله 6
بنفسه ليلة الهجرة ، وقتله نصف المشركين ببدر ، وكانوا سبعين ، قتل منهم بسيفه
خمسة وثلاثين فارساً ، وشارك في النصف الثاني ، وقتله حملة الألوية جميعاً في أحد
من بني عبد الدار ، وقتله عمرو بن ودّ العامري في الخندق ، وقد برز الايمان كله
إلى الشرك كله ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكانت ضربته تلك تعادل عبادة الثقلين
كما قال رسول الله 6
، وقلع باب خيبر وقتل مرحب ، وقد أعطاه الراية رسول الله 6 قائلاً : والله لأعطين الراية غداً
رجلاً يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، كراراً غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح
الله على يديه. وحضوره كل مشاهد رسول الله عدا غزوة تبوك التي كان فيها بمنزلة
هارون من موسى ، وقد إستخلفه النبي على المدينة ، وأهم من هذا كله تمثل الاسلام متكاملاً
في شخصيته بمبادئه كافة ، فهو النموذج الأرقى الذي حمل الاسلام فكراً ورأياً
وعقيدة ونظاماً حتى ذهب شهيد عظمته في مثل هذه الليلة نتيجة مؤامرة ثلاثية خطيرة
بين الخوارج ومعاوية ورتل المنافقين في الكوفة متمثلاً بالاشعث بن قيس ، وماذا عسى
__________________
أن أقول في علي 7 وقد قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
(١٠) أُولَٰئِكَ
المُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(١٢) ثُلَّةٌ مِّنَ
الأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ
(١٤) عَلَىٰ سُرُرٍ
مَّوْضُونَةٍ (١٥) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
(١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن
مَّعِينٍ (١٨)
لاَّ
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ
(١٩) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
(٢١) وَحُورٌ عِينٌ
(٢٢) كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا
لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلَامًا سَلَامًا
(٢٦) ) .
وكان عليٌّ أول السابقين للاسلام في
تأريخ الاسلام ، وأفضل السابقين للايمان في العالم ، فقد أخرج العلامة السيوطي في
الدار المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (
وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ ) قال نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ،
وحبيب التجار الذي ذكر في ياسين ، وعلي بن أبي طالب ، كل رجل منهم سابق أمته ،
وعليٌّ أفضلهم سبقاً .
عاش عليٌّ 7
تأريخاً إنسانياً مليئاً بالاحاسيس الكونية ، والأسرار الالهية ، واستشهد عملاقاً
أزلياً لم تكتشف الحضارة الانسانية مرافئ وشواطئ عالميته ، فضلاً عن الأعماق
البعيدة ، وقد اتسع للبشرية جمعاء ، ولم تسعه البشرية جمعاء ، فسلام عليه يوم ولد
ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.
وكانت مسيرة الكائن الانساني مرتبطة
الوجود الحقيقي الناصع برسالته نبينا محمد 6
وخلافة أوصيائه الائمة المهديين ، فقد كمل بذلك الدين ، وتمت النعمة وأرتضي
الاسلام ديناً ، فعالجت هذه الرسالة قضية الانسان في كل أبعادها المعقدة ، وأوجدت
لها الحلول الشاملة ، وتابعت مراحل هذا الكائن الكريم عند الله في أدواره الزمنية
الفعلية ابتداء من الحضانة حتى الميراث ، وسارت معه سيراً سجحاً أوقفه على ساحل
الأمن والاطمئنان ، فأهتدى من إهتدى عن بصيرة وبينّة ، وضل من ضل عن عناد وإصرار ،
حتى إنتهت به إلى العالم الآخر.
والمتفحص للسياق القرآني العظيم ، يجد
الحياة الدنيا ويجد الحياة الآخرة بجلاء ووضوح ، ويلمس بينهما حياة البرزخ بعد
التبصر والامعان.
__________________
الحياة الدنيا في النشأة والترعرع
والكيان والاكتمال في التزاوج والرعاية والحقوق والواجبات في الصلاة والصيام والحج
والزكاة والخمس ، والفقه والفرائض والوصايا والجروح والقصاص والديّات ، والحياة
الآخرة في الوعد والوعيد ، والبشارة والنذارة كما سيأتي.
وحياة البرزخ بأهوالها المجهولة بحدود ،
والمعلومة بحدود أخرى ، حياة فاصلة بين الدنيا والآخرة ، فالدنيا بعد لم تنته ،
والآخرة بعد لم تقم ، ولكن الروايات تؤكد : إذا مات المرء قامت قيامته ، والامام
علي 7 يؤكد هذا
الملحظ ويقول : الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا. والقرآن العظيم يصرح ، وتصريحه الحق
، ويقول وقوله الفصل : (
وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ
عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) )
، والمتدبر في سياق الآيات القرآنية لدى المقارنة الحيّة يستهدي إلى هذا اللون من
الحياة البرزخية.
إن إنفصال الروح عن الجسد لا تعني أكثر
من الانتقال بالكائن الحيّ إلى عوالم رتيبة أخرى ، قد تدخل في حساباتنا الداخلية
وقد تنحسر عنها ، وقد تدخل في أعماقها ولكنها قد لا تستقرّ ، وقد تستقر عند ذوي
الصفاء الروحي استقراراً ثابتاً لا يتزلزل ، وقد ورد أن القبر إما أن يكون روضة من
رياض الجنان ، أو حفرة من حفر النيران ، والذي تؤكد الاخبار ، أو الذي يبدو من قسم
كبير منها ، أن الانسان عندما يوضع في قبره يحاسب حساباً إجمالياً يلزم فيه
الانسان طائره في عنقه فيما عمل ، فإذا قامت القيامة ، وكان الحساب الجزائي
التفصيلي وضع كتابه بين يديه ، وعليه قوله تعالى : (
وَكُلَّ
إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا
(١٣) )
، وقد ورد أن سؤال القبر حق على الملكين ، وإذا كان الأمر كذلك فهناك نوع من
الحياة مجهولة في جملة من حيثياتها قد يعلم بعضها في الآيات كقوله تعالى : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ )
، والمعنى يوحي بإثبات البرزخ فتكون إماتة في الدنيا وأخرى في البرزخ ، وإحياء في
__________________
البرزخ وإحياء في
يوم القيامة.
واستحباب تلقين الميت ثلاث مرات عند
الموت وعند القبر وبعد الانصراف عنه يوحي بذلك إيحاء كبيراً ، لأنه مقترن بفتاوى
علماء المسلمين ومنشأ ذلك الروايات الصحيحة الثابتة التي تفيد هذه الاحكام.
ومن خلال ما سلف يتضح بكثير من الوضوح
مناخ الحياة البرزخية بأنه العالم المثالي الذي يحياه الانسان في القبر بعد موته
إلى يوم القيامة ، ويدل على هذا الفهم ما يستفاد من قوله تعالىٰ : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ
قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ
يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) )
.
فهذا الطلب التذللي الاستكاني من الظالم أو الفاسق أو الكافر أو الضال : ( رَبِّ ارْجِعُونِ
) عند الموت ،
وقد شاهد الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يلتفت إليه حينئذ ، فهي كلمة عابرة
يقولها عند الموت ، بل سيموت ولا يرجع ، (
وَمِن
وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
) ، فالبعث
يوم القيامة وراءهم يطلبهم حثيثاً ، وهم الآن في عالم القبر البرزخي ، فلا رجوع
إلى الدنيا. ويمكن استنباط حياة البرزخ من قوله تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ
(٤٦) النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
(٤٦) ) .
فالعرض على النار في الحياة البرزخية في القبر إذ لا غد وعشياً يوم القيامة ، أما
في القيامة فالدخول في أشد الحساب ، فسوء العذاب في البرزخ العرض على النار صباحاً
ومساءً ، وفي القيامة سوء الحساب بدخول النار. وفي قوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ
اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
(١٥٤)
) .
دلالة أن هناك نوعاً من الحياة الخاصة
بالشهداء عند الله بعد الموت مباشرة ، فهم ليسوا بأموات بمعنىٰ فنائهم ، بل
هم أحياء بأعيانهم ، ولكن الحواسّ القاصرة لا تدرك هذا النوع من الأحياء.
يقول السيد الطباطبائي « إن الآية دالة
على الحياة البرزخية ، وهي
__________________
المسماة بعالم القبر
، العالم المتوسط بين الموت والقيامة ، ينعم فيه الميت أو يعذّب تقوم والقيامة » .
وفي هذا الضوء فإنّا نرى الحياة
البرزخية حقيقة قرآنية واقعة لا محالة ، لهذا ورد أن من خصائص الدفن في النجف عند
أمير المؤمنين 7
، أو من آثاره ، رفع عذاب البرزخ ، فتأمل : (
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
(٥١) ) .
وهذه نفخة البعث والاحياء وهي النفخة
الثانية ، أما النفخة الأولى فهي والثانية تتمثل في قوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
(٦٨) ) .
وبهذا نظهر أن النفخ نفختان ؛ الأولى للإماتة الشاملة إلا من شاء الله ، والثانية
للاحياء والنشور ، وهو ظاهر القرآن وتدل عليه روايات الائمة :.
هنالك يصدر نداء الملكوت الجبروتي
المطلق من قبل الله تعالى : (
لِّمَنِ
المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
) .
وهما سؤال وجواب منه تعالى في آن واحد ، إذ لا مجيب في الكون فقد انطمسوا في ظل
الفناء والموت ، وبقي الحيّ القيوم وحده لبيان حقيقة الملك السرمدي.
عند ذلك ينفرج الجمع في المحشر إلى
فريقين أهل النار وأهل الجنة : (
وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(٧١) قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ
(٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) )
.
ويصف القرآن حياة أهل الجنة في مئات من
الآيات البيّنات ، ويصف
__________________
أيضاً حياة أهل
النار في مئاتٍ من الآياتِ البينات ، وفي سورة الواقعة عرضٌ تفصيل للملذّات الحسية
والنعيم المادي السرمدي لاصحاب اليمين وهم أهل الجنة .
وفيها دليل على تواجد اللذائذ بمختلف أصنافها المعددة هناك وهو ردّ على من قال بأن
النعيم روحي فقط ، أو قال بأن البعث روحاني لا جسماني روحاني ، فالنعيم كالبعث
روحي مادي بأبرز صوره ، والحياة الروحية هناك تتجلى أيضاً بقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ
(٢٧) ارْجِعِي إِلَىٰ
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
(٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي
(٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي
(٣٠) ) .
فهذه النفس قد إطمأنت لله تعالى فوصفت
بأنها راضية ، وإذا رضي العبد عن ربه عمل له عملاً صالحاً مستقلاً لا شائبة معه ،
ولا رياء فيه ، وإذا كان كذلك رضي الله عنه ، وما بعد رضى الله تعالى من درجة ،
وحينئذٍ يصدر الأمر الالهي لتلك النفس بالدخول في عباده ، وهي منزلة عليا إذ
إستعمال لفظ العبد في القرآن يوحي بأنهم الطبقة العليا الحائزة على مقام العبودية
الخالصة ، وعادة ما يستعمل هذا اللفظ صفة وإسماً لمن بلغوا أقصى مراتب الزلفىٰ
عند الله ، فلا أمر ولا نهي عندهم إلا أمر الله ونهيه ، فالدخول في هذه الصفوة
مقدم على الدخول في الجنة ، فهو مقام روحي كبير فيه من الشرف والرفعة والعزة ما لا
يدانيه أي ملحظ آخر في السمو والارتقاء والمنزلة ، إذ الحشر مع محمد وآل محمد
والأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين ، وهم العباد المنتقون حقاً فيه من القرب
لله عز وجل ما فيه من المعاني الروحية البهيجة ، وإذا تم هذا فقد تعيّن الدخول إلى
الجنة ، وهذه الجنة مضافة إليه سبحانه وتعالى تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها ، إذ لم
تضف الجنة لله في القرآن إلا في هذا الموضع.
وكما تضمنت سورة الواقعة تفصيل حياة أهل
الجنة ، فقد تضمنت حديث أهل النار ، وهم أصحاب الشمال في لوحة قاتمة فظيعة في
مناخها ، وسمومها ، وظلها ، وأكلها ، وشربها ، وصفتهم وخصائصهم بالترف
__________________
والاصرار على كبائر
الذنوب ، والتكذيب بيوم الدين والحشر والنشر .
أعاذنا الله وإياكم من هذا العذاب
الأليم ، ووقانا شر ذلك اليوم ، ورزقنا خيره وسروره وحبوره ، بقي علينا أن نتذكر
قول الامام العظيم علي بن أبي طالب 7
: « إِعمَلُوا لِلجَنَّةِ عَمَلَها فإنّ اللهَ لا يُخْدعُ عن جَنَتِهِ ». كتبنا
الله وإياكم في أهل الجنة إنه سميع الدعاء.
__________________
مصادر ومراجع
١ ـ خير ما نبتدئ له
: القرآن الكريم.
٢ ـ ابن الاثير ،
أبو السعادات ، مبارك بن محمد الجزري (ت: ٦٠٦ ه ) ، النهاية في غريب الحديث / قاهرة / د.
ت.
٣ ـ ابن الجزري ،
محمد بن محمد المعروف بابن الجزري ( ت : ٨٣٣ ه ) ، غاية النهاية في طبقات القراء
، تحقيق البروفيسور براجشتراسر ، مطبعة الخانجي / القاهرة / ١٩٣٢ م.
٤ ـ ابن جني ، أبو
الفتح ، عثمان بن جني ( ت : ٣٩٢ ه ) ، الخصائص ، دار الكتب المصرية / القاهرة /
١٩٥٣ م.
٥ ـ ابن خلدون ، عبد
الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، المطبعة الشرقية ، القاهرة ، ١٣٢٧ ه.
٦ ـ ابن عطية ، عبد
الحق بن أبي بكر الغرناطي ( ت: ٩٧٢ ه ) ، مقدمتان في علوم القرآن ، تحقيق : آرثر
جفري / مطبعة السنة المحمدية / القاهرة / ١٩٥٤ م.
٧ ـ ابن قتيبة / أبو
محمد ، عبد الله بن مسلم ( ت : ٢٧٦ ه ) ، تأويل مشكل القرآن ، تحقيق : أحمد صقر /
مطبعة البابي الحلبي / القاهرة / ١٣٧٣ ه.
٨ ـ ابن منظور ،
جمال الدين ، محمد بن مكرم الأنصاري ( ت : ٧١١ ه ) ، لسان العرب ، طبعة مصورة عن
طبعة بولاق / القاهرة / د. ت.
٩ ـ ابن النديم ، أبو
الفرج ، محمد بن اسحاق البغدادي ( ت : ٣٨٥ ه ) الفهرست / المطبعة الرحمانية /
القاهرة / ١٣٤٨ ه.
١٠ ـ الألوسي ، أبو
الفضل ، محمود الألوسي البغدادي ( ت : ١٢٧٠ ه ).
روح المعاني في
تفسير القرآن والسبع المثاني / الطبعة المنيرية / القاهرة / د. ت.
١١ ـ الانباري ، عبد
الرحمٰن بن محمد الانباري ، نزهة الالبا / مطبعة بولاق / القاهرة / ١٢٩٤ ه.
١٢ ـ الجاحظ ، أبو
عثمان ، عمرو بن بحر ( ت : ٢٥٥ ه ) البيان والتبيين. تحقيق : حسن السندوبي /
المطبعة الرحمانية / القاهرة / ١٩٣٢ م.
١٣ ـ الخطابي ، حمد
بن سليمان ( ت : ٣٨٨ ه ) ، بيان القرآن.
١٤ ـ الخفاجي ، أبو
محمد ، عبد الله بن محمد بن سنان ( ت : ٤٦٦ ه ) سر الفصاحة ، تحقيق : عبد المتعال
الصعيدي / مطبعة صبيح / القاهرة / ١٣٧٢ ه.
١٥ ـ الراغب
الأصبهاني ، الحسين بن محمد بن الفضل ( ت : ٥٠٢ ه ) المفردات في غريب القرآن /
تحقيق : محمد سيد كيلاني مطبعة مصطفى البابي الحلبي / القاهرة / ١٩٦١ م.
١٦ ـ الرماني ، علي
بن عيسى ( ت : ٣٨٦ ه ) ، النكت في إعجاز القرآن.
١٧ ـ الزركشي ، بدر
الدين ، محمد بن عبد الله ( ت : ٧٩٤ ه ) ، البرهان في علوم القرآن ، تحقيق : محمد
أبو الفضل إبراهيم / دار إحياء الكتب العربية / القاهرة / ١٩٥٧.
١٨ ـ الزوزني ، أبو
عبدالله ، الحسين بن علي بن أحمد ( ت : ٤٨٦ ه ) ، شرح المعلقات السبع / دار الجيل
/ بيروت / الطبعة الثانية / ١٩٧٢.
١٩ ـ الزمخشري ،
محمود بن عمر ( ت : ٥٣٨ ه ) ، الكشاف عن حقائق التأويل.
٢٠ ـ السيوطي ، جلال
الدين ، عبد الرحمٰن بن أبي بكر ( ت : ٩١١ ه ) ، الاتقان في علوم القرآن.
تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، مطبعة المشهد الحسيني / القاهرة / ١٩٦٧ م.
٢١ ـ السيوطي ، جلال
الدين ، عبد الرحمٰن بن أبي بكر ( ت : ٩١١ ه ). الدر المنثور في التفسير
بالمأثور. مطبعة بولاق / القاهرة / د. ت.
٢٢ ـ السيوطي ،
المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، تحقيق : محمد أحمد جاد
المولى وآخرين /
مطبعة البابي الحلي / القاهرة.
٢٣ ـ الشريف الرضي (
ت : ٤٠٦ ) ، تلخيص البيان في مجازات القرآن.
٢٤ ـ الطبرسي ، أبو
علي ، الفضل بن الحسين ( ت : ٥٤٨ ه ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن / مطبعة
العرفان / صيدا / ١٣٣٣ ه.
٢٥ ـ الطبري ، محمد
بن جرير ( ت : ٣١٠ ه ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن / مطبعة الحلبي /
القاهرة / ١٩٥٤ م.
٢٦ ـ الطوسي ، أبو
جعفر ، محمد بن الحسن ( ت : ٤٦٠ ه ) ، التبيان في تفسير القرآن ، تحقيق : أحمد
شوقي الأمين + أحمد حبيب القصير / المطبعة العلمية / النجف الاشرف / ١٩٥٧ م.
٢٧ ـ عبد القاهر
الجرجاني ، أسرار البلاغة + دلائل الاعجاز.
٢٨ ـ العياشي ، أبو
النضر ، محمد بن مسعود بن عياش السلمي ( ت : ٣٠٠ ه ) ، تفسير العياشي ، تحقيق :
هاشم الرسولي المحلاتي / المطبعة العلمية / ١٣٧١ ه.
٢٩ ـ الفراء ، أبو
زكريا ، يحيى بن زياد ( ت : ٢٠٧ ه ) ، معاني القرآن ، تحقيق : أحمد يوسف نجاتي ،
محمد علي النجار ، مطبعة دار الكتب المصرية / القاهرة / ١٩٥٥ م.
٣٠ ـ القرطبي ،
الجامع لأحكام القرآن.
٣١ ـ الكليني ، محمد
بن يعقوب ( ت : ٣٢٩ ه ) ، الأصول من الكافي.
٣٢ ـ ياقوت ، أبو
عبد الله ، ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي ( ت : ٦٢٦ ه ) ، معجم الأدباء ( إرشاد
الأديب ) ، تحقيق : البروفيسور مرجليوث / القاهرة / ١٩٢٣ م.
المصادر الحديثة :
٣٣ ـ أحمد أمين ( الدكتور
) ، ضحى الاسلام / مطبعة لجنة النشر والتأليف / الطبعة الثانية / القاهرة.
٣٤ ـ الأنصاري ،
مرتضى بن محمد أمين الأنصاري ( ت : ١٢٨١ ه ) ،
المكاسب / تحقيق
السيد محمد كلانتر / مطبع الآداب / النجف الأشرف / ١٣٩٢ ه.
٣٥ ـ بروكلمان ،
البروفيسور كارل بروكلمان ( ١٨٦٨ م ـ ١٩٥٦ م ) ، تأريخ الأدب العربي ، ترجمة : عبد
الحليم النجار وجماعته ، القاهرة / ١٩٧٧ م.
٣٦ ـ بنت الشاطئ ( الدكتورة
) عائشة عبد الرحمن ، الاعجاز البياني للقرآن + التفسير البياني للقرآن الكريم.
٣٧ ـ الحر العاملي ،
محمد بن الحسن العاملي ( ت : ١١٠٤ ه ). وسائل الشيعة ، إلى تحصيل مسائل الشريعة.
٣٨ ـ الخطيب ، عبد
الكريم الخطيب ، الاعجاز في دراسات السابقين.
٣٩ ـ الخوئي ، أبو
القاسم الموسوي الخوئي ، البيان في تفسير القرآن / الكويت / ١٩٧٩ م.
٤٠ ـ الخوئي ، أبو
القاسم الموسوي الخوئي ، معجم رجال الحديث : ج ٣ ، مطبعة الآداب / النجف الاشرف /
١٩٧٣ م.
٤١ ـ الخولي ، أمين
الخولي ، مادة تفسير في دائرة المعارف الاسلامية.
٤٢ ـ الخولي ، أمين
الخولي ، محاضرات في أمثال القرآن.
٤٣ ـ الخولي ، أمين
الخولي ، مناهج تجديد في التفسير والأدب والنحو والبلاغة.
٤٤ ـ السيستاني ،
علي الحسيني السيستاني «المرجع الديني المعاصر» ، منهاج الصالحين / دار المؤرخ
العربي / بيروت / ١٤١٤ ه.
٤٥ ـ صبحي الصالح ( الدكتور
) ، مباحث في علوم القرآن ، الجامعة السورية / دمشق / ١٩٥٨ م.
٤٦ ـ الصغير / محمد
حسين علي الصغير ( المؤلف ) ، تأريخ القرآن ، الدار العالمية للدراسات والنشر والتوزيع
/ بيروت / ١٩٨٣ م.
٤٧ ـ الصغير ، محمد
حسين علي الصغير ( المؤلف ) الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية.
٤٨ ـ الصغير ، محمد
حسين علي الصغير ( المؤلف ) ، الصورة الفنية في
المثل القرآني / دار
الرشيد / بغداد / ١٩٨١ م.
٤٩ ـ الصغير ، محمد
حسين علي الصغير ( المؤلف ) المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم ، المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع / بيروت / ١٩٨٣.
٥٠ ـ الصغير ، محمد
حسين علي الصغير ( الدكتور ) / المستشرقون والدراسات القرآنية ، المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع / بيروت / ١٩٨٣ م.
٥١ ـ الطباطبائي ،
السيد محمد حسين الطباطبائي ( صاحب الميزان ) ، ( ت : ١٤٠٢ ه ) القرآن في الاسلام
، دار الزهراء / بيروت / ١٩٧٣ م.
٥٢ ـ الطباطبائي ،
السيد محمد حسين الطباطبائي ( ت : ١٤٠٢ ه ) الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة
الأعلمي للمطبوعات / بيروت / ١٩٧٣.
٥٣ ـ طنطاوي جوهري ،
تفسير الجواهر.
٥٤ ـ طه حسين ( عميد
الأدب العربي الراحل ) ( ت : ١٩٧٣ م ). تجديد ذكرى أبي العلاء / دار المعارف بمصر
/ القاهرة / ١٩٢٢ م.
٥٥ ـ عبد الرزاق
نوفل ، الاعجاز العددي في القرآن الكريم.
٥٦ ـ عبد العال سالم
مكرم ( الدكتور ) ، القرآن وأثره في الدراسات النحوية / دار المعارف بمصر /
القاهرة / ١٩٦٨ م.
٥٧ ـ مالك بن نبي ( معاصر
) ، الظاهرة القرآنية / ترجمة : عبد الصبور شاهين / الطبعة الثالثة / دار الفكر /
بيروت / ١٩٦٨ م.
٥٨ ـ محمد عبد الله
دراز ( الدكتور ) ، النبأ العظيم / مطبعة السعادة / القاهرة / ١٩٦٠ م.
٥٩ ـ محمد فؤاد عبد
الباقي ( معاصر ) ، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / دار إحياء التراث
العربي / بيروت / د. ت.
« فهرس
المواضيع »
المقدمة : ...................................................................... ٥
ملامح الإعجاز في
القرآن العظيم : ............................................... ٩
البُعد العالمي في
القرآن : ....................................................... ٢١
مدرسة الكوفة في تفسير
القرآن العظيم : ........................................ ٤٥
أثر القرآن الكريم في
الحفاظ علىٰ أصالة اللّغة العربية : ............................ ٦٣
الأسلوب النفسي
لمكافحة الجريمة في القرآن الكريم : ............................. ٧٧
تحريم الخمر في القرآن
الكريم : ................................................. ٨٩
مسيرة الكائن الإنساني
ورسالة السماء في القرآن العظيم : ....................... ١٠٥
مصادر ومراجع : ........................................................... ١٣٥
فهرس المواضيع ............................................................. ١٤١
|