الفن الثاني

علم البيان

من كتاب التلخيص

فى علوم البلاغة

للخطيب القزويني

وبعده

شرح مواهب الفتاح

على تلخيص المفتاح

لابن يعقوب المغربى



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الفنّ الثاني

علم البيان

(٦٨) وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد ، بطرق مختلفة ، في وضوح الدّلالة عليه.

(٧١) ودلالة اللفظ : إما على تمام ما وضع له ، أو على جزئه ، أو على خارج عنه. وتسمى الأولى وضعية ، وكل من الأخيرتين عقليّة. وتختصّ (١) الأولى بالمطابقة ، والثانية بالتضمّن ، والثالثة بالالتزام. وشرطه اللزوم الذهنى ولو لاعتقاد المخاطب بعرف عامّ أو غيره.

(٧٩) والإيراد المذكور لا يتأتّى بالوضعية ؛ لأن السامع إذا كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح ؛ وإلا لم يكن كل واحد منها دالّا عليه. ويتأتى بالعقلية ؛ لجواز أن تختلف مراتب اللزوم فى الوضوح.

(٨٥) ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له : إن دلّت (٢) قرينة على عدم إرادته ، فمجاز ؛ وإلّا فكناية. وقدّم عليها ؛ لأنّ معناه كجزء معناها ، ثم منه ما يبنى على التشبيه ، فتعيّن التعرّض له ، فانحصر المقصود فى الثلاثة : التشبيه ، والمجاز ، والكناية.

التشبيه

(٩٠) الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى ، والمراد ـ ههنا ـ (٣) ما لم تكن على وجه الاستعارة التحقيقية ، والاستعارة بالكناية ، والتجريد ؛ فدخل نحو : «زيد أسد» وقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(٤)

__________________

(١) وفى بعض النسخ (وتقيد).

(٢) وفى بعض النسخ (قامت).

(٣) أى بالتشبيه المصطلح عليه فى علم البيان.

(٤) البقرة : ١٨٠.


(٩٣) والنظر ـ ههنا ـ فى أركانه ـ وهى : طرفاه ، ووجهه ، وأداته ـ وفى الغرض منه ، وفى أقسامه :

أركان التشبيه

(٩٤) طرفاه : إما حسّيان ؛ كالخدّ والورد ، والصوت الضعيف والهمس ، والنّكهة والعنبر ، والرّيق والخمر ، والجلد الناعم والحرير ، أو عقليّان ؛ كالعلم والحياة ، أو مختلفان ؛ كالمنية والسّبع ، والعطر وخلق كريم.

(١٠٠) والمراد بالحسى : المدرك هو أو مادّته ـ بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة ؛ فدخل فيه الخياليّ ؛ كما فى قوله (١) [من مجزوء الكامل] :

وكأنّ محمرّ الشّقي

ق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

(١٠١) وبالعقلىّ : ما عدا ذلك ؛ فدخل فيه الوهمى ، أى : ما هو غير مدرك بها (٢) ، ولو أدرك لكان مدركا بها ؛ كما فى قوله (٣) [من الطويل]

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وما يدرك بالوجدان ؛ كاللذة والألم.

(١٠٦) ووجهه : ما يشتر كان فيه تحقيقا أو تخييلا ؛ والمراد بالتخييل : نحو ما فى قوله [من الخفيف](٤) :

وكأنّ النّجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

__________________

(١) البيت للصنوبرى ، المصباح ص ١١٦ ، أسرار البلاغة ص ١٥٨ ، والطراز ١ / ٢٧٥.

(٢) أى بإحدى الحواس الخمس الظاهرة المذكورة.

(٣) شطر بيت لامرئ القيس ديوانه ص ١٥٠ ، والإيضاح ص ٣٣٦ صدره :

أيقتلنى والمشرفى مضاجعي

(٤) البيت للقاضى التنوخى ، المصباح ص ١١٠ ، والإيضاح ص ٣٤٣ ، ونهاية الإيجاز ص ١٩٠.


فإنّ وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض فى جوانب شيء مظلم أسود ، فهى غير موجودة فى المشبّه به إلا على طريق التخييل ، وذلك أنه لما كانت البدعة ـ وكل ما هو جهل ـ تجعل صاحبها كمن يمشى فى الظلمة ، فلا يهتدى للطريق ، ولا يأمن أن ينال مكروها شبّهت بها ، ولزم بطريق العكس : أن تشبه السنة ـ وكل ما هو علم ـ بالنور ، وشاع ذلك حتى تخيّل أن الثانى مما له بياض وإشراق ؛ نحو : (أتيتكم بالحنفيّة البيضاء) (١).

(١١٠) والأول على خلاف ذلك ؛ كقولك : شاهدت سواد الكفر من جبين فلان ؛ فصار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع ، كتشبيهها ببياض الشّيب فى سواد الشباب ، أو بالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة ؛ (١١٢) فعلم فساد جعله فى قول القائل : «النّحو فى الكلام كالملح فى الطعام» كون القليل مصلحا والكثير مفسدا ؛ لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة ؛ بخلاف الملح.

(١١٣) وهو إما غير خارج عن حقيقتهما ؛ كما فى تشبيه ثوب بآخر فى نوعهما ، أو جنسهما أو فصلهما. أو خارج صفة ؛ إما حقيقة ، وهى إما حسية كالكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر : من الألوان ، والأشكال ، والمقادير ، والحركات ، وما يتصل بها ، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة ، والقوية ، والتى بين بين ، أو بالذّوق من الطعوم ، أو بالشمّ من الروائح ، أو باللمس من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، واللّين والصلابة ، والخفة والثقل ، وما يتصل بها ، أو عقلية ، كالكيفيات النفسانية : من الذكاء والعلم ، والغضب والحلم ، وسائر الغرائز. وإما إضافية ؛ كإزالة الحجاب فى تشبيه الحجة بالشمس.

(١٢٨) وأيضا (٢) : إما واحد ، أو بمنزلة الواحد ؛ لكونه مركّبا من متعدد ، وكلّ منهما حسى ، أو عقلى ، وإما متعدد كذلك ، أو مختلف :

__________________

(١) أخرجه أحمد بنحوه فى المسند ٥ / ٢٦٦ / ولفظه إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكننى بعثت بالحنيفية السمحة وأورد الشيخ الألبانى نحوه فى الصحيحة ح (١٧٨٢).

(٢) أى وجه التشبيه.


والحسى طرفاه حسيان لا غير ؛ لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسى شيء. والعقلى أعم ؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحسى شيء ؛ ولذلك يقال : التشبيه بالوجه العقلى أعم.

فإن قيل : «هو مشترك فيه ؛ فهو كلىّ ، والحسى ليس بكليّ» :

قلنا : المراد أنّ أفراده مدركة بالحسّ.

(١٣٤) فالواحد الحسىّ : كالحمرة ، والخفاء ، وطيب الرائحة ، ولذّة الطّعم ، ولين الملمس فيما مرّ.

والعقلىّ : كالعراء عن الفائدة ، والجرأة ، والهداية ، واستطابة النفس فى تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه ، والرجل الشجاع بالأسد ، والعلم بالنور ، والعطر بخلق كريم.

(١٣٦) والمركّب الحسى فيما طرفاه مفردان : كما فى قوله (١) [من الطويل] :

وقد لاح فى الصّبح الثريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا

من الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير فى المرأى ، على الكيفية المخصوصة ، إلى المقدار المخصوص.

(١٤٠) وفيما طرفاه مركّبان ؛ كما فى قول بشّار (٢) [من الطويل] :

كأنّ مثار النّقع فوق رعوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

من الهيئة الحاصلة من هوىّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرّقة ، فى جوانب شيء مظلم.

(١٤٣) وفيما طرفاه مختلفان ؛ كما مرّ فى تشبيه الشقيق (٣).

(١٤٤) ومن بديع المركّب الحسىّ : ما يجيء من الهيئات التى تقع عليها الحركة ، ويكون على وجهين :

__________________

(١) البيت لأبى قيس بن الأسلت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ١٨٠. والملاحية : عنب أبيض. ونور : تفتح.

(٢) ديوانه ١ / ٣١٨ ، والمصباح ١٠٦ ، ويروى (رءوسهم) بدل (رءوسنا).

(٣) وكتشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل القمر.


أحدهما : أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم ؛ كالشّكل واللون ؛ كما فى قوله (١) [من الرجز] :

والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشلّ

من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتّصلة مع تّموج الإشراق ، حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ، ثم يبدو له ، فيرجع إلى الانقباض.

والثانى : أن تجرّد الحركة عن غيرها ؛ فهناك ـ أيضا ـ لا بد من اختلاط حركات إلى جهات مختلفة الحركة له ؛ فحركة الرحى والسهم لا تركيب فيها ، بخلاف حركة المصحف فى قوله [من المديد] :

وكأنّ البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة وانفتاحا (٢)

(١٥٠) وقد يقع التركيب فى هيئة السكون ؛ كما فى قوله (٣) فى صفة كلب [من الرجز] :

يقعى جلوس البدوىّ المصطلى

من الهيئة الحاصلة من موقع كلّ عضو منه فى إقعائه.

(١٥١) والعقلىّ : كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب فى استصحابه ، فى قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٤)

(١٥٣) واعلم أنه قد ينتزع من متعدّد ، فيقع الخطأ ؛ لوجوب انتزاعه من أكثر ؛ إذا انتزع من الشطر الأول من قوله [من الطويل] :

__________________

(١) من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ ؛ وبعده :

لمّا رأيتها بدت فوق الجبل

أورده وهو فى الإشارات للجرجانى ص ١٨٠ والأسرار ص ٢٠٧.

(٢) البيت لابن المعتز.

(٣) البيت للمتنبى ، وبعده : بأربع مجدولة لم تجدل

(٤) الجمعة : ٥.


كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت (١)

لوجوب انتزاعه من الجميع ؛ فإنّ المراد التشبيه باتصال اتبداء مطمع بانتهاء مؤيس.

والمتعدّد الحسىّ : كاللون ، والطّعم ، والرائحة ، فى تشبيه فاكهة بأخرى.

والعقلىّ : كحدّة النظر ، وكمال الحذر ، وإخفاء السّفاد ، فى تشبيه طائر بالغراب.

والمختلف : كحسن الطلعة ، ونباهة الشأن ، فى تشبيه إنسان بالشمس.

(١٥٧) واعلم : أنه قد ينتزع الشبه من نفس التضادّ ؛ لاشتراك الضدّين فيه (٢) ، ثم ينزل منزلة التناسب بواسطة تلميح ، أو تهكّم ؛ فيقال للجبان : ما أشبهه بالأسد ، وللبخيل : هو حاتم.

(١٦٠) وأداته : (الكاف) ، و (كأنّ) ، و (مثل) وما فى معناها. والأصل فى نحو (الكاف) : أن يليه المشبّه به ؛ وقد يليه غيره ؛ نحو : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ)(٣) ، وقد يذكر فعل ينبئ عنه ؛ كما فى : «علمت زيدا أسدا إن قرب ، و:» حسبت ... إن بعد.

(الغرض من التشبيه)

(١٦٦) والغرض من التشبيه ـ فى الأغلب ـ أن يعود إلى المشبّه ، وهو : بيان إمكانه ؛ كما فى قوله (٤) [من الوافر] :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال

أو حاله ؛ كما فى تشبيه ثوب بآخر فى السواد ، أو مقدارها ؛ كما فى تشبيهه بالغراب فى شدّته ، أو تقريرها ؛ كما فى تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل بمن يرقم على الماء.

__________________

(١) أورده القزوينى فى الإيضاح ص ٣٥٤ ، والطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى ١ / ١٠٧.

(٢) أى فى التضاد.

(٣) الكهف : ٤٥.

(٤) البيت للمتنبى من قصيدة يرثى فيها والد سيف الدولة ، ديوانه ٣ / ١٥١ ، والإشارات ص ١٨٧.


(١٧٠) وهذه الأربعة تقتضى أن يكون وجه الشّبه فى المشبّه به أتمّ ، وهو به أشهر.

أو تزيينه ؛ كما فى تشبيه وجه أسود بمقلة الظبى ، أو تشويهه ؛ كما فى تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الدّيكة.

أو استظرافه ؛ كما فى تشبيه فحم فيه جمر موقد ، ببحر من المسك موجه الذهب ، لإبرازه فى صورة الممتنع عادة.

(١٧٥) وللاستظراف وجه آخر ، وهو : أن يكون المشبّه به نادر الحضور فى الذهن : إما مطلقا ؛ كما مر.

وإما عند حضور المشبه ؛ كما فى قوله [من البسيط](١) :

ولا زورديّة تزهو بزرقتها

بين الرّياض على حمر اليواقيت

كأنّها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النّار فى أطراف كبريت

(١٧٧) وقد يعود إلى المشبّه به ، وهو ضربان :

أحدهما : إيهام أنه أتم من المشبه ؛ وذلك فى التشبيه المقلوب ؛ كقوله (٢) [من الكامل] :

وبدا الصّباح كأنّ غرّته

وجه الخليفة حين يمتدح

والثانى : بيان الاهتمام به ؛ كتشبيه الجائع وجها كالبدر فى الإشراق ، والاستدارة بالرغيف ؛ ويسمّى هذا إظهار المطلوب.

(١٨٠) هذا إذا أريد إلحاق الناقص ـ حقيقة أو ادعاء ـ بالزائد ، فإن أريد الجمع بين شيئين فى أمر : فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه ؛ احترازا من ترجيح أحد المتساويين ؛ كقوله [من الطويل] :

تشابه دمعى إذ جرى ومدامتى

فمن مثل ما فى الكأس عينى تسكب

فو الله ، ما أدرى أبالخمر أسبلت

جفونى أم من عبرتى كنت أشرب (٣)

__________________

(١) البيتان لابن المعتز ، أوردهما الطيى فى التبيان ١ / ٢٧٣ بتحقيقى ، والعلوى فى الطراز ١ / ٢٦٧. واللازوردية : البنفسجية ، نسبة إلى اللازورد ، وهو حجر نفيس.

(٢) البيت لمحمد بن وهيب ، الإشارات ص ١٩١ ، والطيى فى شرح المشكاة ١ / ١٠٨ بتحقيقى.

(٣) البيتان لأبى إسحاق الصابى فى الإشارات ص ١٩٠ ، الأسرار ص ١٥٦.


(١٨٢) ويجوز التشبيه ـ أيضا ـ كتشبيه غرّة الفرس بالصبح ، وعكسه ، متى أريد ظهور منير فى مظلم أكثر منه.

(١٨٤) وهو باعتبار طرفيه :

إمّا تشبيه مفرد بمفرد ، وهما غير مقيّدين ؛ كتشبيه الخد بالورد. أو مقيّدان ؛ كقولهم : هو كالراقم على الماء. أو مختلفان ؛ كقولهم [من الرجز] :

والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشلّ (١)

وعكسه (٢).

وإمّا تشبيه مركّب بمركب ؛ كما فى بيت بشّار (٣).

وإما تشبيه مفرد بمركّب ؛ كما مرّ فى تشبيه الشقيق.

وإما تشبيه مركّب بمفرد ؛ كقوله [من الكامل] :

يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر (٤)

(١٩٢) وأيضا : إن تعدّد طرفاه :

فإما ملفوف ؛ كقوله (٥) [من الطويل] :

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

أو مفروق ؛ كقوله (٦) [من السريع :]

النّشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) كتشبيه المرآة فى كف الأشلّ بالشمس.

(٣) يعنى قوله :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا*

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

(٤) البيتان لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها المعتصم ، ديوانه ٢ / ١٩٤ ، والإشارات ص ١٨٣.

(٥) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص ٣٨ ، والإشارات ص ١٨٢.

(٦) البيت للمرقش الأكبر ربيعة بن سعد بن مالك ، والعنم : شجر لين الأغصان. الإشارات ص ١٨٢ ، والأسرار ص ١٢٣.


(١٩٤) وإن تعدّد طرفه الأول : فتشبيه التسوية ؛ كقوله [من المجتث] :

صدغ الحبيب وحالى

كلاهما كالّليالى

(١٩٤) وإن تعدّد طرفه الثانى : فتشبيه الجمع ؛ كقوله (١) [من السريع] :

كأنّما يبسم عن لؤلؤ

منضّد أو برد أو أقاح

(١٩٦) وباعتبار وجهه :

إمّا تمثيل (٢) ، وهو ما وجهه منتزع من متعدّد ؛ كما مر (٣) ، وقيده السكاكى بكونه غير حقيقي ؛ كما فى تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار.

(١٩٨) وإمّا غير تمثيل ، وهو بخلافه.

وأيضا : إمّا مجمل ، وهو ما لم يذكر وجهه : فمنه : ما هو ظاهر يفهمه كلّ أحد ؛ نحو : «زيد كالأسد ، ومنه : خفى لا يدركه إلا الخاصّة ؛ كقول بعضهم :» هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؟! أى : هم متناسبون فى الشرف كما أنها متناسبة الأجزاء فى الصورة.

(٢٠٠) وأيضا : منه : ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين ، ومنه : ما ذكر فيه وصف المشبّه به وحده ، ومنه : ما ذكر فيه وصفهما ؛ كقوله (٤) [من البسيط] :

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عنّى وعاوده ظنّى فلم يخب

كالغيث إن جئته وافاك ريّقه

وإن ترحّلت عنه لجّ فى الطّلب

__________________

(١) البيت للبحترى ، وفى ديوانه : (كأنما يضحك) بدلا من (كأنما يبسم) ، والبيت من قصيدة يمدح فيها عيسى بن إبراهيم ، ديوانه ١ / ٤٣٥ ، والإشارات ص ١٨٣.

(٢) السيد يعتبر التركيب فى طرفيه أيضا ، والسعد لا يعتبر ذلك ، والزمخشرىّ يجعل التمثيل مرادفا للتشبيه ، وعبد القاهر يقيد التشبيه بالعقلى.

(٣) من تشبيه الثريا ، وتشبيه مثار النقع مع الأسياف ، وتشبيه الشمس بالمرآة فى كف الأشل.

(٤) البيت لأبى تمام فى ديوانه ١ / ١١٣ من قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل ، ريّقه : أفضله.


(٢٠٢) وإما مفصّل ، وهو ما ذكر فيه وجهه ؛ كقوله [من المجتث] :

وثغره فى صفاء

وأدمعى كالّلآلي

(٢٠٢) وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه ؛ كقولهم للكلام الفصيح : «هو كالعسل فى الحلاوة» ؛ فإنّ الجامع فيه لازمها ، وهو ميل الطبع.

(٢٠٣) وأيضا : إما قريب مبتذل ، وهو ما ينتقل من المشبّه إلى المشبّه به من غير تدقيق نظر ؛ لظهور وجهه فى بادئ الرأي ؛ لكونه أمرا جمليّا ؛ فإنّ الجملة أسبق إلى النفس. أو قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبّه به فى الذهن : إما عند حضور المشبّه ؛ لقرب المناسبة ؛ كتشبيه الجرّة الصغيرة بالكوز ، فى المقدار والشكل. أو مطلقا ؛ لتكرّره على الحس ؛ كالشمس بالمرآة المجلوّة فى الاستدارة والاستنارة ؛ لمعارضة كلّ من القرب والتفصيل.

(٢١٠) وإما بعيد غريب ، وهو بخلافه ؛ لعدم الظهور : إما لكثرة التفصيل ؛ كقوله : والشمس كالمرآة ، أو ندور حضور المشبّه به : إمّا عند حضور المشبّه ؛ لبعد المناسبة ؛ كما مر. وإمّا مطلقا ؛ لكونه وهميّا ، أو مركبا خياليّا ، أو عقليّا ؛ كما مر. أو لقلّة تكرّره (١) على الحس ؛ كقوله : والشمس كالمرآة ؛ فالغرابة فيه من وجهين (٢).

(٢١٥) والمراد بالتفصيل : أن تنظر فى أكثر من وصف ، ويقع على وجوه ، أعرفها : أن تأخذ بعضا ، وتدع بعضا ؛ كما فى قوله (٣) [من الطويل] :

حملت ردينيّا كأنّ سنانه

سنا لهب لم يختلط بدخان

(٢١٧) وأن تعتبر الجميع ؛ كما مرّ من تشبيه الثريا. وكلّما كان التركيب من أمور أكثر ، كان التشبيه أبعد. والبليغ : ما كان من هذا الضّرب لغرابته ، ولأنّ نيل الشيء بعد طلبه ألذّ.

__________________

(١) أى المشبه به.

(٢) أحدهما كثرة التفصيل فى وجه الشبه ، والثانى قلة التكرر على الحس.

(٣) البيت لامرئ القيس وليس فى ديوانه ، الإشارات ص ١٩٦ ، ويروى (يتصل) بدلا من (يختلط). الردينى : الرمح منسوب لامرأة تسمى ردينة اشتهرت بصناعة الرماح.


وقد يتصرف فى القريب بما يجعله غريبا ؛ كقوله (١) [من الكامل] :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلّا بوجه ليس فيه حياء

وقوله (٢) [من الكامل] :

عزماته مثل النّجوم ثواقبا

لو لم يكن للثّاقبات أفول

ويسمّى هذا : التشبيه المشروط.

(٢٢٥) وباعتبار أداته : إما مؤكّد ، وهو ما حذفت أداته ؛ مثل قوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(٣) ، ومنه نحو [الكامل] :

والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء

أو مرسل ، وهو بخلافه ؛ كما مر.

(٢٢٨) وباعتبار الغرض :

إما مقبول ، وهو الوافى بإفادته ؛ كأن يكون المشبّه به أعرف شيء بوجه الشبه فى بيان الحال. أو أتمّ شيء فيه فى إلحاق الناقص بالكامل. أو مسلّم الحكم فيه معروفه عند المخاطب فى بيان الإمكان.

أو مردود ؛ وهو بخلافه.

خاتمة

(٢٣٢) أعلى مراتب التشبيه فى قوّة المبالغة باعتبار ذكر أركانه أو بعضها : حذف وجهه وأداته فقط ، أو مع حذف المشبّه ، ثم حذف أحدهما كذلك (٤) ، ولا قوّة لغيرهما (٥).

__________________

(١) البيت للمتنبى.

(٢) البيت للوطواط ، فى الإشارات ص ١٩٨ ، والثواقب : السواطع ، والأفول : الغروب.

(٣) النمل : ٨٨.

(٤) أى فقط أو مع حذف المشبه به.

(٥) وهما الاثنان الباقيان ، أعنى ذكر الأداة والوجه جميعا ، إما مع ذكر المشبه أو بدونه.


الحقيقة والمجاز

وقد يقيدان باللغويّين :

(٢٣٨) الحقيقة : «الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، فى اصطلاح التخاطب» ؛ والوضع : تعيين اللفظ للدّلالة على معنى بنفسه ؛ فخرج المجاز ؛ لأنّ دلالته بقرينة ، دون المشترك (١) ، والقول بدلالة اللفظ لذاته (٢) ظاهره فاسد ، وقد تأوّله السكاكي (٣).

(٢٥٢) والمجاز : مفرد ، ومركّب :

أما المفرد : فهو الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له فى اصطلاح التخاطب ، على وجه يصحّ ، مع قرينة عدم إرادته ، ولا بدّ من العلاقة ؛ ليخرج الغلط والكناية. وكلّ منهما (٤) : لغوىّ ، وشرعىّ ، وعرفى خاصّ أو عامّ ؛ ك «أسد» للسّبع والرجل الشجاع ؛ و «صلاة» : للعبادة المخصوصة والدّعاء ، و «فعل» للفظ والحدث ، و «دابّة» لذى الأربع والإنسان.

__________________

(١) فإنه لم يخرج لأنه قد عين للدلالة على كل من المعنيين بنفسه ، وعدم فهم أحدهما بالتعيين لعارض الاشتراك لا ينافى ذلك به.

(٢) وهو قول عباد بن سليمان الصيمرى ، وأتباعه.

(٣) ذكر الخطيب فى إيضاحه" تأويل السكاكى لهذا القول ، حيث ذكر هناك تفسيرا له ، قال الخطيب ـ بعد ردّه لهذا القول من وجوه ـ : وتأوّله السكاكى ـ رحمه‌الله ـ على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمى الاشتقاق والتصريف ، من أن للحروف فى أنفسها خواصّ بها تختلف ، كالجهر والهمس ، والشدة والرخاوة والتوسّط بينها ، وغير ذلك ؛ مستدعية أنّ العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما ، قضاء لحق الحكمة ، ك الفصم" ـ بالفاء الذى هو حرف رخو ـ : لكسر الشيء من غير أن يبين ، والقصم" بالقاف الذى هو حرف شديد ـ : لكسر الشيء حتى يبين وأنّ للتركيبات ـ ك الفعلان والفعلي بالتحريك ؛ كالنّزوان والحيدى ، وفعل مثل : شرف ، وغير ذلك ـ : خواصّ أيضا ، فيلزم فيها ما يلزم فى الحروف ، وفى ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم فى اختصاصها بالمعاني أه. انظر الإيضاح : (ص ٢٤٤ بتحقيقنا).

(٤) أى من الحقيقة والمجاز.


(٢٦١) والمجاز : مرسل إن كانت العلاقة غير المشابهة ؛ وإلّا فاستعارة.

(٢٦١) وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به فى المشبّه ؛ فهما (١) : مستعار منه ، ومستعار له ، واللفظ مستعار.

المجاز والمرسل

(٢٦٣) والمرسل ك «اليد» : فى النّعمة والقدرة ، و «الراوية» : فى المزادة.

ومنه : تسمية الشيء باسم جزئه ؛ كالعين فى الربيئة (٢) ، وعكسه ؛ كالأصابع فى الأنامل.

وتسميته (٣) باسم سببه ؛ نحو : رعينا الغيث ، أو مسبّبه ؛ نحو : أمطرت السماء نباتا ، أو ما كان عليه ؛ نحو : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(٤) ، أو ما يئول إليه ؛ نحو : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(٥) ، أو محلّه ؛ نحو : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ)(٦) ، أو حالّه ؛ نحو : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ)(٧) أى : فى الجنة. أو آلته ؛ نحو : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٨) أى : ذكرا حسنا.

__________________

(١) أى المشبه والمشبه به.

(٢) وهى الشخص الرقيب.

(٣) أى : تسمية الشيء.

(٤) النساء : ٢.

(٥) يوسف : ٣٦.

(٦) العلق : ١٧.

(٧) آل عمران : ١٠٧.

(٨) الشعراء : ٨٤.


الاستعارة

(٢٦٩) والاستعارة قد تقيد بالتحقيقيّة ؛ لتحقق معناها (١) حسّا أو عقلا ؛ كقوله [من الطويل] :

لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف (٢)

أى : رجل شجاع ، وقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٣) أى : الدّين الحقّ.

(٢٨٠) ودليل أنها مجاز لغوىّ : كونها موضوعة للمشبّه به ، لا للمشبّه ، ولا للأعمّ منهما.

وقيل : إنها مجاز عقلى بمعنى : أن التصرّف فى أمر عقلىّ لا لغوى ؛ لأنها لما لم تطلق على المشبّه ، إلا بعد ادّعاء دخوله فى جنس المشبّه به. كان استعمالها فيما وضعت له ؛ ولهذا صحّ التعجّب فى قوله (٤) [من الكامل] :

قامت تظلّلنى من الشّمس

نفس أعزّ علىّ من نفسي

قامت تظلّلنى ومن عجب

شمس تظلّلنى من الشّمس

والنهى عنه قوله [من المنسرح] :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر (٥)

وردّ : بأن الادعاء لا يقتضى كونها مستعملة فيما وضعت له ، وأمّا التعجّب ، والنهى عنه : فللبناء على تناسى التشبيه ؛ قضاء لحقّ المبالغة.

__________________

(١) أى المشبه.

(٢) لزهير فى ديوانه ص ٢٣ ، من معلقته المشهورة التى يمتدح فيها الحارث بن عوف ، وهرم بن سنان وتمام البيت : له لبد أظفاره لم تقلم وفى المصباح ١٣٧ ، والطراز ١ / ٢٣٢.

(٣) الفاتحة : ٥.

(٤) البيتان لابن العميد ، نهاية الإيجاز ص ٢٥٢ ، والطراز ١ / ٢٠٣ ، والمصباح ص ١٢٩.

(٥) البيت لابن طباطبا العلوى ، وهو أبو الحسن محمد بن أحمد ، الطراز ٢ / ٢٠٣ ، نهاية الإيجاز ص ٢٥٣ ، والمصباح ص ١٢٩.


(٢٩٠) والاستعارة : تفارق الكذب : بالبناء على التأويل ، ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر.

(٢٩١) ولا تكون علما ؛ لمنافاته الجنسيّة ، إلا إذا تضمّن نوع وصفيّة ؛ كحاتم.

(٢٩٣) وقرينتها : إما أمر واحد ؛ كما فى قولك : «رأيت أسدا يرمى» ، أو أكثر ؛ كقوله (١) [من الرجز] :

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ فى أيماننا نيرانا

أو معان ملتئمة ، كقوله [من الطويل] :

وصاعقة من نصله تنكفى بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب (٢)

(٢٩٦) وهي (٣) باعتبار الطرفين قسمان ؛ لأنّ اجتماعهما فى شيء : إمّا ممكن ؛ نحو : (أحييناه) فى قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(٤) أى : ضالّا فهديناه ، ولتسمّ وفاقيّة. وإما ممتنع ؛ كاستعارة اسم المعدوم للموجود ؛ لعدم غنائه ، ولتسمّ عناديّة ، ومنها (٥) التهكّمية والتمليحيّة ، وهما ما استعمل فى ضدّه أو نقيضه ؛ لما مر ؛ نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٦).

__________________

(١) تعافوا : تكرهوا. نيرانا ؛ أى سيوفنا تلمع كأنها النيران.

(٢) البيت للبحترى ديوانه ١ / ١٧٩ ، الطراز ١٣ / ١ / ٢٣١ ، ورواية الديوان : وصاعقة من كفه ينكفى بها على أرؤس الأعداء خمس سحائب. ويريد بخمس سحائب : الأنامل.

(٣) أى الاستعارة.

(٤) الأنعام : ١٢٢.

(٥) أى من العنادية.

(٦) التوبة : ٣٤.


(٢٩٩) وباعتبار الجامع قسمان ؛ لأنه : إما داخل فى مفهوم الطرفين ؛ نحو : (كلّما سمع هيعة ، طار إليها (١)) ؛ فإن الجامع بين العدو والطيران : هو قطع المسافة بسرعة (٢) ، وهو داخل فيهما ؛ وإما غير داخل ، كما مر (٣).

وأيضا : إمّا عاميّة ، وهى المبتذلة ؛ لظهور الجامع فيها ؛ نحو : رأيت أسدا يرمى ،

أو خاصّيّة ، وهى الغريبة ، والغرابة قد تكون فى نفس المشبّه ؛ كقوله (٤) [من الكامل] :

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر

(٣٠٦) وقد تحصل بتصرف فى العامّيّة ؛ كما فى قوله [من الطويل] :

وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (٥)

إذ أسند الفعل إلى الأباطح دون المطى أو أعناقها ، وأدخل الأعناق فى السير.

(٣٠٨) وباعتبار الثلاثة (٦) ستة أقسام ؛ لأن الطرفين إن كانا حسيّين ، فالجامع إمّا حسيّ ؛ نحو : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً)(٧) ؛ فإنّ المستعار منه ولد البقرة ، والمستعار له الحيوان الذى خلقه الله تعالى من حلى القبط ، والجامع لها الشكل ؛ والجميع حسىّ.

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب : فضل الجهاد والرباط (٤ / ٥٥٣) ، ط. الشعب ، وأوله : من خير معاش الناس لهم رجل ....

(٢) سقطت من المطبوع من (متن التلخيص) واستدركناها من شروح التلخيص (٤ / ٨١) ط دار السرور ـ بيروت لبنان.

(٣) من استعارة الأسد للرجل الشجاع.

(٤) البيت لمحمد بن يزيد بن مسلمة. فى الإشارات ص ٢١٦. القربوس : مقدم السرج. علك : مضغ. الشكيم : الحديدة المعترضة فى فم الفرس.

(٥) البيت لكثير عزة الإشارات ص ٢١٧ ، وصدره : أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا.

(٦) أى المستعار منه والمستعار والجامع.

(٧) طه : ٨٨.


(٣١٠) وإما عقليّ ؛ نحو : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(١) ؛ فإنّ المستعار منه كشط الجلد عن نحو الشاة ، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل ، وهما حسّيّان ، والجامع ما يعقل من ترتّب أمر على آخر.

(٣١٦) وإما مختلف ؛ كقولك : " رأيت شمسا" وأنت تريد إنسانا كالشمس فى حسن الطلعة ، ونباهة الشأن.

(٣١٦) وإلا (٢) فهما إمّا عقليان ؛ نحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٣) ؛ فإنّ المستعار منه الرقاد ، والمستعار له الموت ، والجامع عدم ظهور الفعل ؛ والجميع عقلىّ.

(٣١٨) وإمّا مختلفان ، والحسى هو المستعار منه ، نحو : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٤) ؛ فإنّ المستعار منه كسر الزجاجة ، وهو حسىّ ، والمستعار له التبليغ ، والجامع التأثير ؛ وهما عقليان ، وإمّا عكس ذلك ؛ نحو : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)(٥) ؛ فإن المستعار له كثرة الماء ؛ وهو حسىّ ، والمستعار منه التكبّر ، والجامع الاستعلاء المفرط ؛ وهما عقليان.

(٣٢١) وباعتبار اللفظ قسمان ؛ لأنه إن كان اسم جنس فأصليّة ؛ كأسد وقتل ؛ وإلا فتبعيّة (٦) ؛ كالفعل ، وما اشتقّ (٧) منه ، والحرف :

__________________

(١) يس : ٣٧.

(٢) أى : وإن لم يكن الطرفان حسيين.

(٣) يس : ٥٢.

(٤) الحجر : ٩٤.

(٥) الحاقة : ١١.

(٦) أى : وإن لم يكن اللفظ المستعار اسم جنس فالاستعارة تبعية.

(٧) وفى نسخة : (وما يشتق منه) ، والمراد به اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة.


فالتشبيه فى الأولين (١) لمعنى المصدر ، وفى الثالث (٢) لمتعلّق معناه (٣) ؛ كالمجرور فى : (زيد فى نعمة) ؛ فيقدّر فى : (نطقت الحال) و: (الحال ناطقة بكذا) : للدّلالة بالنّطق ، وفى لام التعليل ؛ نحو : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٤) : للعداوة والحزن بعد الالتقاط ، بعلّته الغائية.

(٣٣٤) ومدار قرينتها فى الأولين على الفاعل ؛ نحو : " نطقت الحال بكذا" ، أو المفعول ؛ نحو : [من الرمل] :

قتل البخل وأحيا السّماحا

ونحو (٥) [من البسيط] :

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

أو المجرور ؛ نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٦).

(٣٣٦) وباعتبار آخر ثلاثة أقسام :

مطلقة : وهى ما لم تقرن بصفة ولا تفريغ ، والمراد (٧) : المعنوية ، لا النعت النحوىّ.

ومجرّدة : وهى ما قرن بما يلائم المستعار له ؛ كقوله (٨) [من الكامل] :

غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

__________________

(١) أى : الفعل وما يشتق منه.

(٢) أى : الحرف.

(٣) وهو مثلا الابتداء فى من.

(٤) القصص : ٨.

(٥) البيت للقطامي. اللهذم : السنان القاطع. القد : القطع. وعجز البيت : ما كان خاط عليهم كل زراد. سرد الدرع وزردها : نسجها.

(٦) التوبة : ٣٤.

(٧) أى : المراد بالصفة.

(٨) البيت لكثير.


ومرشّحة : وهى ما قرن بما يلائم المستعار منه ؛ نحو : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(١).

(٣٣٩) وقد يجتمعان فى قوله (٢) [من الطويل] :

لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم

(٣٤٠) والترشيح أبلغ ؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة ، ومبناه على تناسى التشبيه ، حتّى إنه يبنى على علوّ القدر ما يبنى على علوّ المكان ؛ كقوله (٣) [من المتقارب] :

ويصعد حتّى يظنّ الجهول

بأنّ له حاجة فى السّماء

(٣٤٣) ونحوه : ما مرّ من التعجّب والنهى عنه ؛ وإذا جاز البناء على الفرع مع الاعتراف بالأصل ـ كما فى قوله (٤) [من المتقارب] :

هى الشّمس مسكنها فى السّماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع إليها الصّعودا

ولن تستطيع إليك النزولا

فمع جحده (٥) أولى.

المجاز المركّب

(٣٤٧) وأما المركّب : فهو اللفظ المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلّى تشبيه التمثيل ؛ للمبالغة ؛ كما يقال للمتردّد فى أمر : " إنّى أراك تقدّم رجلا ، وتؤخّر أخرى" ، وهذا التمثيل على سبيل الاستعارة ، وقد يسمّى التمثيل مطلقا ، ومتى فشا استعماله كذلك ، سمّى مثلا ؛ ولهذا لا تغيّر الأمثال.

__________________

(١) البقرة : ١٦.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) البيت لأبى تمام ، ديوانه ص ٣٢٠ ، والمصباح ١٣٨ ، والإشارات ص ٢٢٥.

(٤) البيتان لعباس بن الأحنف ديوانه ص ٢٢١ ، والمصباح ١٣٩ ، وأسرار البلاغة ٢ / ١٦٨.

(٥) أى المشبه.


[فصل](١)

(٣٥٤) قد يضمر التشبيه فى النفس ؛ فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى المشبّه ، ويدلّ عليه : بأن يثبت للمشبّه أمر يختصّ بالمشبّه به ، فيسمّى التشبيه استعارة بالكناية ، أو مكنيّا عنها ، وإثبات ذلك الأمر للمشبّه استعارة تخييلية ؛ كما فى قول الهذليّ (٢) [من الكامل] :

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

(٣٥٧) شبّه المنيّة بالسبع فى اغتيال النفوس بالقهر والغلبة ، من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ، فأثبت لها الأظفار التى لا يحمل ذلك فيه بدونها ، وكما فى قول الآخر (٣) :

ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا

فلسان حالى بالشّكاية أنطق

شبّه الحال بإنسان متكلّم فى الدّلالة على المقصود ؛ فأثبت لها اللسان الذى به قوامها فيه. وكذا قول زهير (٤) [من الطويل] :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّى أفراس الصّبا ورواحله

أراد أن يبيّن أنه ترك ما كان يرتكبه زمن المحبّة من الجهل ، وأعرض عن معاودته فبطلت آلاته ، فشبّه الصّبا بجهة من جهات المسير ؛ كالحجّ والتجارة ، قضى منها الوطر ؛ فأهملت آلاتها ، فأثبت لها الأفراس والرواحل ، فالصّبا من الصّبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة ؛ ويحتمل أنه أراد بالأفراس والرواحل : دواعى النفوس ، وشهواتها ، والقوى

__________________

(١) فى بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية.

(٢) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٢٨ ، والهذلى هو أبو ذؤيب ، خويلد بن خالد بن محرث شاعر مخضرم ، والبيت من قصيدة له يرثى فيها بنيه ، وقد هلكوا فى عام واحد ، مطلعها :

أمن المنون وريبها تتوقّع*

والدهر ليس بمعتب من يجزع

(٣) البيت لمحمد بن عبد الله العتبى ، وقيل : لأبى النضر بن عبد الجبار ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٢٨.

(٤) لزهير فى ديوانه ص ١٢٤ ، والطراز ١ / ٢٣٣ ، والمصباح ١٣٢.


الحاصلة لها فى استيفاء اللذات ، أو الأسباب التى قلّما تتآخذ (١) فى اتباع الغى ، إلا أوان الصّبا ؛ فتكون الاستعارة تحقيقية.

فصل

(٣٦٧) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له ، من غير تأويل فى الوضع ؛ واحترز بالقيد الأخير عن الاستعارة ، على أصح القولين ؛ فإنها مستعملة فيما وضعت له بتأويل.

(٣٦٩) وعرّف المجاز اللّغوى بالكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق ، فى اصطلاح به التخاطب ، مع قرينة مانعة عن إرادته ، وأتى بقيد «التحقيق» ؛ لتدخل الاستعارة ؛ على ما مرّ.

وردّ : بأن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل ، وبأنّ التقييد باصطلاح التخاطب لا بدّ منه فى تعريف الحقيقة.

(٣٨٣) وقسّم المجاز اللغوى إلى الاستعارة وغيرها. وعرّف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفى التشبيه ، وتريد به الآخر ، مدّعيا دخول المشبّه فى جنس المشبّه به. وقسّمها إلى المصرّح بها ، والمكنى عنها.

وعنى بالمصرّح بها : أن يكون المذكور هو المشبّه به ، وجعل منها تحقيقيّة ، وتخييليّة : وفسّر التحقيقيّة بما مرّ ، وعدّ التمثيل منها : وردّ : بأنه (٢) مستلزم للتركيب المنافى للإفراد.

(٣٩٦) وفسّر التخييلية بما لا تحقّق لمعناه حسّا ولا عقلا ، بل هو صورة وهميّة محضة ؛ كلفظ" الأظفار" فى قول الهذليّ (٣) ؛ فإنه لما شبّه المنيّة بالسّبع فى الاغتيال ، أخذ

__________________

(١) فى (متن التلخيص) و (ط) الحلبى : (تأخذ).

(٢) أى التمثيل.

(٣) يشير إلى قول أبى ذؤيب الهذلى فى عينيّته المشهورة :

وإذا المنية أنشبت أظفارها*

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع


الوهم فى تصويرها بصورته واختراع لوازمه لها ، فاخترع لها صورة مثل الأظفار ، ثم أطلق عليها لفظ الأظفار : وفيه تعسّف ، ويخالف تفسير غيره لها بجعل الشيء للشيء ، ويقتضى أن يكون الترشيح تخييليّة ؛ للزوم مثل ما ذكره فيه.

(٤٠٤) وعنى بالمكنّى عنها : أن يكون المذكور هو المشبّه ، على أن المراد «لمنيّة» السبع ؛ بادّعاء السّبعية لها ؛ بقرينة إضافة الأظفار إليها.

وردّ : بأن لفظ المشبّه فيها مستعمل فيما وضع له تحقيقا ، والاستعارة ليست كذلك ، وإضافة نحو (الأظفار) قرينة التشبيه.

(٤١١) واختار ردّ التبعيّة إلى المكنّى عنها ، بجعل قرينتها مكنيّا عنها ، والتبعيّة قرينتها ، على نحو قوله فى المنية وأظفارها.

وردّ : بأنه إن قدّر التبعية حقيقة ، لم تكن تخييلية ؛ لأنها مجاز عنده ، فلم تكن المكنّى عنها مستلزمة للتخييلية ؛ وذلك باطل بالاتفاق ؛ وإلّا فتكون استعارة ، فلم يكن ما ذهب إليه مغنيا عما ذكره غيره.

فصل

(٤٢٢) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل : برعاية جهات حسن التشبيه ، وألّا يشمّ رائحته لفظا ؛ ولذلك يوصّى أن يكون الشبه بين الطرفين جليّا ؛ لئلا يصير إلغازا ؛ كما لو قيل : «رأيت أسدا» وأريد إنسان أبخر ، و «رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة» (١) ، وأريد الناس.

(٤٢٩) وبهذا ظهر : أن التشبيه أعمّ محلّا ، ويتصل به أنه إذا قوى الشبه بين الطرفين حتى اتحدا ـ كالعلم والنور ، والشّبهة والظلمة ـ لم يحسن التشبيه ، وتعيّنت الاستعارة.

والمكنى عنها ـ كالحقيقية ، والتخييلية ـ حسنها بحسب حسن المكنى عنها.

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة أخرجه البخارى عن ابن عمر ، كتاب الرقاق باب رفع الأمانة ، ومسلم ك فضائل الصحابة وابن ماجه وأحمد.


فصل

(٤٣٣) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ ؛ كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ)(١) ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) ، وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٣) أى : أمر ربّك ، وأهل القرية ، وليس مثله شيء.

(الكناية)

(٤٣٩) الكناية : لفظ أريد به لازم معناه ، مع جواز إرادته معه ؛ فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقى للّفظ مع إرادة لازمه. وفرّق : بأن الانتقال فيها من اللازم ، وفيه من الملزوم : وردّ : بأنّ اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه ؛ وحينئذ : يكون الانتقال من الملزوم [إلى اللازم](٤).

(٤٤٨) وهى ثلاثة أقسام :

الأولى : المطلوب بها غير صفة ولا نسبة :

فمنها : ما هى معنى واحد ؛ كقوله [من الكامل] :

والطّاعنين مجامع الأضغان (٥)

ومنها : ما هو مجموع معان ؛ كقولنا ـ كناية عن الإنسان ـ : " حى مستوى القامة ، عريض الأظفار".

وشرطهما الاختصاص بالمكنّى عنه.

__________________

(١) الفجر : ٢٢.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) من شروح التلخيص.

(٥) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٤٠ ، وصدره : الضاربين بكل أبيض مخذم.


(٤٥١) والثانية : المطلوب بها صفة :

فإن لم يكن الانتقال بواسطة : فقريبة واضحة ؛ كقولهم ـ كناية عن طول القامة : «طويل نجاده» ، و «طويل النجاد» ، والأولى ساذجة ، وفى الثانية تصريح مّا ، لتضمّن الصفة الضمير ، أو خفية ؛ كقولهم ـ كناية عن الأبله ـ : «عريض القفا».

وإن كان بواسطة : فبعيدة ؛ كقولهم : «كثير الرماد» كناية عن المضياف ؛ فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ، ومنها إلى كثرة الطبائخ ، ومنها إلى كثرة الأكلة ، ومنها إلى كثرة الضّيفان ، ومنها إلى المقصود.

(٤٥٨) الثالثة : المطلوب بها نسبة ؛ كقولهم [من الكامل] :

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

فى قبّة ضربت على ابن الحشرج (١)

فإنه أراد أن يثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات ؛ فترك التصريح بأن يقول : «إنه مختصّ بها ، أو نحوه» ، إلى الكناية ، بأن جعلها فى قبة مضروبة عليه. ونحو قولهم : «المجد بين ثوبيه ، والكرم بين برديه».

(٤٦٢) والموصوف فى هذين القسمين قد يكون غير مذكور ؛ كما يقال فى عرض من يؤذى المسلمين : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (٢).

أما القسم الأول ـ وهو ما يكون المطلوب بالكناية نفس الصفة ، وتكون النسبة مصرحا بها ـ : فلا يخفى أن الموصوف بها (٣) يكون مذكورا لا محالة ، لفظا أو تقديرا.

(٤٦٤) قال (٤) السكاكيّ : «الكناية تتفاوت إلى تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء وإشارة ، والمناسب للعرضية : التعريض ، ولغيرها ـ إن كثرت الوسائط ـ : التلويح ، وإن قلّت ـ مع خفاء ـ : الرمز ، وبلا خفاء : الإيماء والإشارة».

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم. المصباح ص ١٥٢ ، والطراز ص ١٧٨ ، والإيضاح ص ٤٦٢.

(٢) حديث صحيح أخرجه الشيخان فى الإيمان وغيرهما.

(٣) من (شروح التلخيص) وفى (متنه): (فيها).

(٤) من شروح التلخيص.


ثم قال : «والتعريض قد يكون مجازا ؛ كقولك : «آذيتنى فستعرف» وأنت تريد إنسانا مع المخاطب دونه ، وإن أردتهما جميعا كان كناية ، ولا بدّ فيهما من قرينة».

فصل

(٤٧٣) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح ؛ لأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم ، فهو كدعوى الشيء ببيّنة ، وأنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه ؛ لأنها نوع من المجاز.

الفنّ الثالث : علم البديع

(٤٨٣) وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام ، بعد رعاية المطابقة ، ووضوح الدّلالة : وهي (١) ضربان : معنوىّ ، ولفظى :

المحسّنات المعنويّة

أما المعنوىّ : فمنه :

(٤٨٦) المطابقة : وتسمّى الطباق ، والتضادّ أيضا ، وهى الجمع بين متضادّين ، أى : معنيين متقابلين فى الجملة ، ويكون بلفظين : من نوع : اسمين ؛ نحو : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٢) ، أو فعلين ؛ نحو : (يُحْيِي وَيُمِيتُ)(٣) ، أو حرفين ؛ نحو : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٤)

__________________

(١) من (شروح التلخيص) وفى المتن (هو).

(٢) الكهف : ١٨.

(٣) آل عمران : ١٥٦.

(٤) البقرة : ٢٨٦.


أو من نوعين ؛ نحو : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١).

(٤٨٨) وهو ضربان : طباق الإيجاب ؛ كما مر.

وطباق السلب : نحو : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ)(٢) ، ونحو : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٣).

(٤٨٩) ومن الطباق نحو قوله [من الطويل] :

تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى

لها اللّيل إلّا وهى من سندس خضر (٤)

(٤٩١) ويلحق به نحو : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٥) ؛ فإن الرحمة مسبّبة عن اللين ، ونحو قوله [من الكامل] :

لا تعجبى يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى (٦)

ويسمى الثانى إيهام التضادّ.

المقابلة

(٤٩٤) ودخل فيه ما يختصّ باسم المقابلة ؛ وهى أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر ، بما يقابل ذلك على الترتيب ، والمراد بالتوافق خلاف التقابل ؛ نحو : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)(٧) ، ونحو قوله (٨) [من البسيط] :

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

(٢) الروم : ٦ ـ ٧ ، وتمام الآية السابعة(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وبين لا يعلمون ويعلمون طباق سلب بالنفى وعدمه.

(٣) المائدة : ٤٤.

(٤) البيت لأبى تمام.

(٥) الفتح : ٢٩.

(٦) البيت لدعبل.

(٧) التوبة : ٨٢.

(٨) البيت لأبى دلامة ، وقيل أبو لأمة ، فى المصباح ص ١٩٣ ، الإيضاح ص ٤٨٦ ، والإشارات ص ٦٣.


ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرّجل

ونحو : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(١) ، المراد باستغنى : أنه زهد فيما عند الله تعالى كأنه مستغن عنه ؛ فلم يتّق ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ؛ فلم يتّق.

(٤٩٦) وزاد السكاكى : وإذا شرط هنا أمر ، شرط ثمّة ضدّه ؛ كهاتين الآيتين ؛ فإنه لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق ، جعل ضدّه مشتركا بين أضدادها.

مراعاة النظير

(٤٩٨) ومنه : مراعاة النظير ، ويسمّى التناسب والتوفيق ، وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد ؛ نحو : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(٢) ، وقوله [من الخفيف] :

كالقسىّ المعطّفات بل الأس

هم مبريّة بل الأوتار (٣)

(٤٩٩) ومنها (٤) : ما يسمّيه بعضهم : تشابه الأطراف ؛ وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه فى المعنى ؛ نحو : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٥) ، ويلحق بها نحو : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(٦) ، ويسمّى إيهام التناسب.

__________________

(١) الليل : ٥ ـ ١٠.

(٢) الرحمن : ٥.

(٣) البيت للبحترى.

(٤) أى من مراعاة النظير.

(٥) الأنعام : ١٠٣.

(٦) الرحمن : ٥ ـ ٦.


الإرصاد

(٥٠١) ومنه : الإرصاد ، ويسميه بعضهم : التّسهيم ؛ وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو من البيت ما يدل عليه إذا عرف الروىّ ، نحو : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١) ، وقوله [الوافر] :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (٢)

المشاكلة

(٥٠٤) ومنه : المشاكلة ؛ وهى ذكر الشيء بلفظ غيره ؛ لوقوعه فى صحبته ، تحقيقا أو تقديرا :

فالأول : نحو قوله (٣) [من الكامل] :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت : اطبخوا لى جبّة وقميصا

ونحو : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(٤).

(٥٠٨) والثانى : نحو : (صِبْغَةَ اللهِ)(٥) ، وهو مصدر مؤكّد ل (آمَنَّا بِاللهِ*) أى : تطهير الله ؛ لأنّ الإيمان يطهّر النفوس ، والأصل فيه : أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمّونه : (المعموديّة) ، ويقولون : إنّه تطهير لهم ؛ فعبّر عن الإيمان بالله ب «صبغة الله» للمشاكلة بهذه القرينة.

__________________

(١) العنكبوت : ٤٠.

(٢) البيت لعمرو بن معد يكرب.

(٣) البيت لأبى الرقعمق الأنطاكى ، المصباح ص ١٩٦ ، والإيضاح ص ٤٩٤.

(٤) المائدة : ١١٦.

(٥) البقرة : ١٣٨.


المزاوجة

(٥١١) ومنه : المزاوجة ؛ وهى أن يزاوج بين معنيين فى الشرط والجزاء ؛ كقوله (١) [من الطويل] :

إذا ما نهى النّاهى فلجّ بى الهوى

أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر

العكس

(٥١٤) ومنه : العكس ؛ وهو أن يقدّم جزء فى الكلام على جزء ، ثم يؤخّر ، ويقع على وجوه :

منها : أن يقع بين أحد طرفى جملة وما أضيف إليه ؛ نحو : عادات السادات سادات العادات.

ومنها : أن يقع بين متعلقى فعلين فى جملتين ؛ نحو : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)(٢).

ومنها : أن يقع بين لفظين فى طرفى جملة نحو : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ)(٣).

الرجوع

(٥١٧) ومنه : الرجوع ؛ وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة ؛ كقوله [من البسيط] :

قف بالدّيار الّتى لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم (٤)

__________________

(١) البيت للبحترى ، ديوانه ص ٨٤٤ ، التبيان للطيى ٢ / ٤٠٠ بتحقيقى ويروى (أصاخ) بدل (أصاخت).

(٢) يونس : ٣١.

(٣) الممتحنة : ١٠.

(٤) البيت لزهير ديوانه ص ١٤٥ ، الجرجانى فى الإشارات ص ٢٧١.


التورية

(٥١٨) ومنه : التورية ، وتسمّى الإيهام أيضا ؛ وهى أن يطلق لفظ له معنيان ، قريب وبعيد ، ويراد البعيد ؛ وهى ضربان :

مجرّدة : وهى التى لا تجامع شيئا مما يلائم القريب ؛ نحو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١).

ومرشّحة ؛ نحو : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(٢).

الاستخدام

(٥٢١) ومنه : الاستخدام ؛ وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ، ثمّ بالآخر الآخر ، أو يراد بأحد ضميرين أحدهما ، ثم بالآخر الآخر :

فالأوّل : كقوله (٣) [من الوافر] :

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

والثانى : كقوله (٤) [من الكامل] :

فسقى الغضى والسّاكنيه وإن هم

شبّوه بين جوانحى وضلوعي

اللف والنشر

(٥٢٣) ومنه : اللف والنشر ؛ وهو ذكر متعدّد على التفصيل أو الإجمال ، ثم ما لكلّ واحد من غير تعيين ؛ ثقة بأن السامع يردّه إليه.

__________________

(١) طه : ٥.

(٢) الذاريات : ٤٧.

(٣) البيت لجرير أو لمعاوية بن مالك.

(٤) البيت للبحترى.


(٥٢٣) فالأول : ضربان ؛ لأن النشر إمّا على ترتيب اللف ؛ نحو : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١). وإما على غير ترتيبه ؛ كقوله (٢) [من الخفيف] :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدّا وردفا

(٥٢٦) والثاني : كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٣) أى : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ؛ فلفّ لعدم الالتباس ؛ للعلم بتضليل كل فريق صاحبه.

الجمع

(٥٢٨) ومنه : الجمع ؛ وهو أن يجمع بين متعدّد فى حكم واحد (٤) ؛ كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٥) ، ونحو (٦) [من الرجز] :

إنّ الشّباب (٧) والفراغ والجده

مفسدة للمرء أى مفسده

__________________

(١) القصص : ٧٣.

(٢) البيت لابن حيوس ديوانه ٢ / ٤٧ ، والإيضاح ص ٥٠٤ ، والمصباح ص ٢٤٧. والحقف : الجملة من الرمل.

(٣) البقرة : ١١١.

(٤) من (شرح التلخيص).

(٥) الكهف : ٤٦.

(٦) البيت لأبى العتاهية ، ديوانه ص ٤٤٨ من أرجوزته ذات الأمثال ، والطراز ٣ / ١٤٢ ، والمصباح ٢٤٧.

(٧) تصحفت فى (ط) إلى (الشاب).


التفريق

ومنه : التفريق ؛ وهو إيقاع تباين بين أمرين من نوع ، فى المدح أو غيره ، كقوله (١) [من الخفيف] :

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير وقت سخاء

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء

التقسيم

(٥٢٨) ومنه : التقسيم ؛ وهو ذكر متعدد ، ثم إضافة ما لكلّ إليه على التّعيين ؛ كقوله (٢) [من البسيط] :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلّان عير الحى والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثى له أحد

الجمع مع التفريق

(٥٢٨) ومنه : الجمع مع التفريق ؛ وهو أن يدخل شيئان فى معنى ، ويفرق بين جهتى الإدخال ؛ كقوله (٣) [من المتقارب] :

فوجهك كالنّار فى ضوئها

وقلبى كالنّار فى حرّها

الجمع مع التقسيم

ومنه : الجمع مع التقسيم ؛ وهو جمع بين متعدّد تحت حكم ، ثم تقسيمه ، أو العكس :

__________________

(١) البيتان للوطواط ، الإشارات ص ٢٧٤ ، والطراز ٣ / ١٤١ ، المصباح ٢٤٧ بلا عزو.

(٢) للمتلمس. عير : حمار.

(٣) البيت لرشيد الدين الوطواط ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٣٧٤.


فالأول : كقوله (١) [من البسيط] :

حتّى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع

للسّبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنّهب ما جمعوا ، والنّار ما زرعوا

والثانى : كقوله (٢) [من البسيط] :

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شرّها البدع

الجمع مع التفريق والتقسيم

(٥٢٨) ومنه : الجمع مع التفريق والتقسيم ؛ كقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(٣) ، (٥٣٣) وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين :

أحدهما : أن تذكر أحوال الشيء مضافا إلى كلّ ما يليق به ؛ كقوله (٤) [من الطويل] :

سأطلب حقّى بالقنا ومشايخ

كأنّهم ومن طول ما التثموا مرد

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدّوا قليل إذا عدّوا

والثانى : استيفاء أقسام الشيء ؛ كقوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً)(٥).

__________________

(١) البيتان للمتنبى ، ديوانه ٢ / ٢٢٤ ، والإيضاح ص ٥٠٥ ، والمصباح ٢٤٨ ، خرشنة : اسم بلد.

(٢) البيتان لحسان بن ثابت فى ديوانه ص ٢٣٨ ، والطراز ٣ / ١٤٤ ، والمصباح ص ٢٤٩.

(٣) هود : ١٠٥ ـ ١٠٨.

(٤) البيتان للمتنبى.

(٥) الشورى : ٤٩ ـ ٥٠.


التجريد

(٥٣٦) ومنه : التجريد ؛ وهو أن ينتزع من أمر ذى صفة آخر مثله فيها ؛ مبالغة لكمالها فيه ، وهو أقسام :

منها : نحو قولهم : لى من فلان صديق حميم ، أى : بلغ فلان من الصداقة حدّا صحّ معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها.

ومنها : نحو قولهم : لئن سألت فلانا ، لتسألنّ به البحر.

ومنها : نحو قوله [من الطويل] :

وشوهاء تغدو بى إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحّل (١)

ومنها : نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(٢) أى : فى جهنم ، وهى دار الخلد.

ومنها : نحو قوله [من الكامل] :

ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوى الغنائم أو يموت كريم (٣)

وقيل : تقديره : أو يموت منى كريم. وفيه نظر.

ومنها : نحو قوله [من المنسرح] :

يا خير من يركب المطىّ ولا

يشرب كأسا بكفّ من بخلا (٤)

ومنها : مخاطبة الإنسان نفسه ؛ كقوله [من البسيط] :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال (٥)

__________________

(١) البيت لأبى لأمة ، الإيضاح ص ٢ / ٥ ، والمصباح ص ٢٣٧. الشوهاء : الفرس القبيح المنظر. تعدو : تسرع. صارخ : مستغيث. مستلئم : لابس لأمة ؛ وهى الدرع. الفنيق : الفحل المكرم. المرحل : من : رحل البعير : أشخصه عن مكانه وأرسله.

(٢) فصلت : ٢١.

(٣) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٧٨ وعزاه للحماسى.

(٤) البيت للأعشى.

(٥) البيت للمتنبى.


المبالغة

(٥٤٦) ومنه : المبالغة المقبولة ، والمبالغة : أن يدّعى لوصف بلوغه فى الشدّة أو الضعف حدّا مستحيلا أو مستبعدا ؛ لئلا يظنّ أنه غير متناه فيه (١).

(٥٤٧) وتنحصر فى : التبليغ ، والإغراق ، والغلوّ ؛ لأن المدّعى : إن كان ممكنا عقلا وعادة : فتبليغ ؛ كقوله (٢) [من الطويل] :

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل

وإن كان ممكنا عقلا لا عادة : فإغراق ؛ كقوله (٣) [من الوافر] :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

وهما مقبولان ؛ وإلا (٤) فغلوّ ؛ كقوله (٥) [من الكامل] :

وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّه

لتخافك النّطف الّتى لم تخلق

والمقبول منه أصناف ؛ منها : ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة ؛ نحو : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٦).

ومنها : ما تضمّن نوعا حسنا من التخييل ؛ كقوله (٧) [من الكامل] :

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا

__________________

(١) أى فى الشدة أو الضعف.

(٢) البيت لامرئ القيس ديوانه (١) ص ١٥٦ ، (ب) ص ٨٨ ، والإشارات ص ٢٧٨ ، والمصباح ص ٢٢٤.

(٣) البيت لعمرو بن الأيهم التغلبى ، الإشارات ص ٢٧٩ ، والمصباح ص ٢٢٤.

(٤) بأن كان غير ممكن عقلا ولا عادة.

(٥) البيت لأبى نواس ديوانه ص ٤٥٢ ، والطراز ٢ / ٣١٤ ، والمصباح ص ٢٢٩.

(٦) النور : ٣٥.

(٧) البيت للمتنبى فى ديوانه ، الإشارات ص ٢٧٩ السنابك : حوافر الخيل. العثير : الغبار. العنق : نوع من السير.


(٥٥٤) وقد اجتمعا فى قوله (١) [من الطويل] :

يخيل لى أن سمر الشهب فى الدجى

وشدت بأهدابى إليهن أجفاني

ومنها : ما خرج مخرج الهزل والخلاعة ؛ كقوله (٢) [من المنسرح] :

أسكر بالأمس إن عزمت على الش

رب غدا إن ذا من العجب

المذهب الكلامي

(٥٥٩) ومنه : المذهب الكلامي ؛ وهو إيراد حجة للمطلوب على طريق أهل الكلام ؛ نحو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٣) ، وقوله (٤) [من الطويل] :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مطلب

لئن كنت قد بلغت عنى جناية

لمبلغك الواشى أغش وأكذب

ولكننى كنت امرءا لى جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم

أحكم فى أموالهم وأقرب

كفعلك فى قوم أراك اصطفيتهم

فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا

__________________

(١) وهو للقاضى الأرجانى ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٢٨٠.

(٢) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٧٩ بلا عزو.

(٣) الأنبياء : ٢٢.

(٤) الأبيات للنابغة يعتذر إلى النعمان. ديوانه ص ٧٢ ، والمصباح ص ٢٠٧ ، والإيضاح ص ٥١٧.


حسن التعليل

(٥٦٢) ومنه : حسن التعليل ؛ وهو أن يدّعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقىّ ، وهو أربعة أضرب ؛ لأنّ الصفة إمّا ثابتة قصد بيان علّتها ، أو غير ثابتة أريد إثباتها :

(٥٦٤) والأولى : إما ألّا يظهر لها فى العادة علة ؛ كقوله (١) [من الكامل] :

لم يحك نائلك السّحاب وإنّما

حمّت به فصبيبها الرّحضاء

أو يظهر لها علة غير المذكورة ؛ كقوله (٢) [من الرمل] :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتّقى إخلاف ما ترجو الذّئاب

فإنّ قتل الأعداء فى العادة لدفع مضرّتهم ، لا لما ذكره.

(٥٦٦) والثانية : إما ممكنة ؛ كقوله [من البسيط] :

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجّى حذارك إنسانى من الغرق (٣)

فإنّ استحسان إساءة الواشى ممكن ؛ لكن لمّا خالف الناس فيه ، عقّبه بأنّ حذاره منه نجّى إنسانه من الغرق فى الدموع.

(٥٦٧) أو غير ممكنة ؛ كقوله [من البسيط] :

لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

وألحق به ما يبنى على الشك ؛ كقوله (٤) [من الطويل] :

كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها

حبيبا فما ترقأ لهنّ مدامع

__________________

(١) البيت للمتنبى. الرخصاء : عرق الحمى.

(٢) البيت للمتنبي ، شرح ديوانه ١ / ١٤٤ ، والأسرار ص ٣٣٧ ، والإشارات ص ٢٨١.

(٣) البيت لمسلم بن الوليد ، ديوانه ص ٣٢٨ ، الطراز ٣ / ١٤٠ ، والمصباح ص ٢٤١.

(٤) لأبى تمام. ديوانه ص ٤٢٥ ، والإيضاح ص ٥٢٣ ، والمصباح ص ٢٤٢.


التفريع

(٥٧١) ومنه : التفريع ؛ وهو أن يثبت لمتعلّق أمر حكم بعد إثباته لمتعلّق له آخر ؛ كقوله (١) [من البسيط] :

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفى من الكلب

تأكيد المدح بما يشبه الذم

(٥٧٣) ومنه : تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ، وهو ضربان : أفضلهما : أن يستثنى من صفة ذمّ منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها ؛ كقوله [من الطويل] :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٢)

أى : إن كان فلول السيف عيبا ، فأثبت شيئا منه على تقدير كونه منه ، وهو محال ، فهو فى المعنى تعليق بالمحال ، فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشيء ببيّنة ، وأنّ الأصل فى الاستثناء هو الاتصال ؛ فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شيء ممّا قبلها ، فإذا وليها صفة مدح ، جاء التأكيد.

(٥٧٨) والثانى : أن يثبت لشيء صفة مدح ، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له ؛ نحو : «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» (٣) وأصل الاستثناء فيه ـ أيضا ـ أن يكون متصلا كالضّرب الأوّل ؛ لكنّه لم يقدّر متصلا ؛ فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني ؛ ولهذا كان الأول أفضل.

__________________

(١) البيت للكميت ، الإيضاح ص ٥٢٣ ، والطراز ٣ / ١٣٥ ، والمصباح ٢٣٨.

(٢) البيت للنابغة الذبيانى ، ديوانه ص ٤٤ ، والإشارات ص ١١١ ، والتبيان للطيى ، والمصباح ص ٢٣٩.

(٣) أورده العجلونى بنحوه فى كشف الخفاء وقال : قال فى اللآلئ : معناه صحيح ، وانظر كشف الخفاء للعجلونى (١ / ٢٠٠ ، ٢٠١).


(٥٨٢) ومنه ضرب آخر ؛ وهو نحو : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا)(١) والاستدراك فى هذا الباب كالاستثناء ؛ كما فى قوله (٢) [من الطويل] :

هو البدر إلّا أنّه البحر زاخرا

سوى أنّه الضّرغام لكنّه الوبل

تأكيد الذم بما يشبه المدح

(٥٨٤) ومنه : تأكيد الذم بما يشبه المدح ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذمّ له ، بتقدير دخولها فيها ؛ كقولك : فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من أحسن إليه.

وثانيهما : أن يثبت لشيء صفة ذمّ ، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذمّ أخرى له ؛ كقوله : فلان فاسق إلا أنه جاهل.

وتحقيقهما على قياس ما مرّ.

الاستتباع

(٥٨٥) ومنه : الاستتباع ؛ وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر ؛ كقوله [من الطويل] :

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنّئت الدّنيا بأنّك خالد (٣)

مدحه بالنهاية فى الشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها ، وفيه أنه نهب الأعمار دون الأموال ، وأنه لم يكن ظالما فى قتلهم.

__________________

(١) الأعراف : ١٢٦.

(٢) البيت لبديع الزمان الهمذانى يمدح خلف بن أحمد الصفار ، أمير سجستان وكرمان ، وأورده الرازي فى نهاية الإيجاز ص ٢٩٣.

(٣) البيت للمتنبى من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ، ديوانه ١ / ٢٧٧ ، والإشارات ص ٢٨٤.


الإدماج

(٥٨٦) ومنه : الإدماج ؛ وهو أن يضمّن كلام سيق لمعنى معنى آخر ؛ فهو أعمّ من الاستتباع ؛ كقوله [من الوافر] :

أقلّب فيه أجفانى كأنّى

أعدّ بها على الدّهر الذّنوبا (١)

فإنه ضمّن وصف الليل بالطّول الشكاية من الدهر.

التوجيه

(٥٨٨) ومنه : التوجيه ؛ وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين ؛ كقول من قال لأعور [من مجزوء الرمل] :

ليت عينيه سواء (٢)

السكاكى : ومنه متشابهات القرآن باعتبار.

الهزل يراد به الجد

(٥٩٠) ومنه : الهزل الذى يراد به الجدّ ؛ كقوله (٣) [من الطويل] :

إذا ما تميمى أتاك مفاخرا فقل

عدّ عن ذا ، كيف أكلك للضّبّ؟!

تجاهل العارف

(٥٩٠) ومنه : تجاهل العارف ؛ وهو ـ كما سماه السكاكي ـ : سوق المعلوم مساق غيره لنكتة : كالتوبيخ فى قول الخارجيّة [من الطويل] :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف (٤)

__________________

(١) البيت للمتنبى ، ديوانه ١ / ١٤٠ ، والإشارات ص ٢٨٥.

(٢) هو لبشار. وصدره :

خاط لى عمرو قباء

(٣) البيت لأبى نواس.

(٤) البيت للمتنبى ، ديوانه ١ / ١٤٠ ، والإشارات ص ٢٨٥.


(٥٩١) والمبالغة فى المدح ؛ كقوله (١) [من البسيط] :

ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضّاحى

أو فى الذم ؛ كقوله (٢) [من الوافر] :

وما أدرى ولست إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء؟!

والتدلّه فى الحبّ فى قوله [من البسيط] :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر (٣)

القول بالموجب

(٥٩٣) ومنه : القول بالموجب ؛ وهو ضربان :

أحدهما : أن تقع صفة فى كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم ، فتثبتها لغيره من غير تعرّض لثبوته له أو انتفائه عنه ؛ نحو : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(٤).

(٥٩٤) والثانى : حمل لفظ وقع فى كلام الغير على خلاف مراده ، ممّا يحتمله بذكر متعلّقه ؛ كقوله (٥) [من الخفيف] :

قلت : ثقّلت إذ أتيت مرارا

قال : ثقّلت كاهلى بالأيادي

__________________

(١) البيت للبحترى ، من قصيدة يمدح فيها الفتح بن خاقان ، ديوانه ١ / ٤٤٢.

(٢) البيت لزهير ، ديوانه ص ٧٣.

(٣) البيت للحسين بن عبد الله أو العرجى الطراز ٣ / ٨١ ، والمصباح ص ٨٨.

(٤) المنافقون : ٨.

(٥) البيت للحسن بن أحمد المعروف بابن حجاج ، وقيل : لمحمد بن إبراهيم الأسدى. أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٨٧.


الاطراد

(٥٩٦) ومنه : الاطّراد ؛ وهو أن تأتى بأسماء الممدوح أو غيره وأسماء آبائه ، على ترتيب الولادة ، من غير تكلّف ؛ كقوله (١) [من الكامل] :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

المحسنات اللفظية

وأما اللفظىّ :

فمنه :

(٥٩٧) الجناس بين اللفظين ، وهو تشابههما فى اللفظ :

(٥٩٨) والتامّ منه : أن يتفقا فى أنواع الحروف ، وفى أعدادها ، وفى هيئاتها ، وفى ترتيبها : فإن كانا من نوع ؛ كاسمين ، سمى مماثلا ؛ نحو : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)(٢).

وإن كانا من نوعين ، سمى مستوفى ؛ كقوله [من الكامل] :

ما مات من كرم الزّمان فإنّه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله (٣)

(٦٠٢) وأيضا : إن كان أحد لفظيه مركّبا ، سمى جناس التركيب ، فإن اتفقا فى الخطّ ، خصّ باسم المتشابه ؛ كقوله [من المتقارب] :

إذا ملك لم يكن ذا هبه

فدعه فدولته ذاهبه (٤)

__________________

(١) البيت لربيعة بن سعد وقيل : لداود بن ربيعة الأسدى ، الإشارات ص ٢٨٨.

(٢) الروم : ٥٥.

(٣) البيت لأبى تمام ، من قصيدة يمدح فيها يحيى بن عبد الله ، ديوانه ٣ / ٣٤٧ ، التبيان ص ١٦٦ ، والإشارات ص ٢٩٠.

(٤) البيت لأبى الفتح البستي على بن محمد ، الطراز ٢ / ٣٦٠ ، والإشارات ص ٢٩٠.


وإلا خصّ باسم المفروق ؛ كقوله (١) [من المديد] :

كلّكم قد أخذ الجا

م ولا جام لنا

ما الّذى ضرّ مدير ال

جام لو جاملنا

(٦٠٣) وإن اختلفا فى هيئات (٢) الحروف فقط ، يسمّى محرّفا ، كقولهم : (جبّة البرد جنّة البرد) ، ونحوه : (الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط) ، والحرف المشدّد فى حكم المخفّف ؛ كقولهم : (البدعة شرك الشّرك).

(٦٠٤) وإن اختلفا فى أعدادها ، يسمّى ناقصا ؛ وذلك إمّا بحرف فى الأول ؛ مثل : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(٣) ، أو فى الوسط ؛ نحو : «جدّى جهدي» ، أو فى الآخر ؛ كقوله [من الطويل] :

يمدّون من أيد عواص عواصم (٤)

وربّما سمّى هذا مطرّفا.

وإمّا بأكثر ؛ كقولها [من الكامل] :

إنّ البكاء هو الشّفا

ء من الجوى بين الجوانح (٥)

وربّما سمى هذا مذيّلا.

(٦٠٨) وإن اختلفا فى أنواعها ، فيشترط ألّا يقع بأكثر من حرف : ثمّ الحرفان : إن كانا متقاربين سمّى مضارعا ، وهو إمّا فى الأوّل ؛ نحو : «بينى وبين كنّى (٦) ليل دامس وطريق طامس» ، أو فى الوسط ؛ نحو : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ

__________________

(١) البيتان لأبى الفتح البستى ، أوردهما محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٩١. والجام : الكأس ، ومدير الجام : الساقى.

(٢) من (شروح التلخيص) وفى المتن (هيئة).

(٣) القيامة : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) لأبى تمام ، ديوانه ١ / ٢٠٦ ، والطراز ٢ / ٣٦٢ وعجزه : تصول بأسياف قواض قواضب.

(٥) للخنساء ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٩٢.

(٦) الكن : المترل. وهذا من كلام الحريرى ، والدامس : الشديد الظلمة.


عَنْهُ)(١) ، أو فى الآخر ؛ نحو : «الخيل معقود بنواصيها الخير» (٢).

وإلا سمّى لاحقا ، وهو ـ أيضا ـ إمّا فى الأوّل ؛ نحو : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(٣) ، أو فى الوسط ؛ نحو : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)(٤) ، أو فى الآخر ؛ نحو : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ)(٥).

(٦١٠) وإن اختلفا فى ترتيبها ، سمى تجنيس القلب ؛ نحو : «حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه» ، ويسمّى قلب كلّ ، ونحو : «اللهمّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا» (٦) ، ويسمى قلب بعض.

(٦١٢) وإذا وقع أحدهما (٧) فى أوّل البيت ، والآخر فى آخره ، سمّى مقلوبا مجنّحا.

وإذا ولى أحد المتجانسين (٨) الآخر ، سمّى مزدوجا ومكرّرا ومردّدا ؛ نحو : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٩).

(٦١٣) ويلحق بالجناس شيئان :

أحدهما : أن يجمع اللفظين الاشتقاق ؛ نحو : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(١٠).

والثانى : أن يجمعهما المشابهة ؛ وهى ما يشبه الاشتقاق ؛ نحو : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١١).

__________________

(١) الأنعام : ٢٦.

(٢) الحديث متفق عليه رواه البخارى فى الجهاد ، ومسلم فى الإمارة.

(٣) الهمزة : ١.

(٤) غافر : ٧٥.

(٥) النساء : ٨٣.

(٦) صحيح ، أخرجه أحمد فى المسند ، وأورده الشيخ الألبانى فى صحيح أبى داود ، وصحيح ابن ماجة.

(٧) أى أحد اللفظين المتجانسين تجانس القلب.

(٨) أى تجانس كان.

(٩) النمل : ٢٢.

(١٠) الروم : ٣٠.

(١١) الشعراء : ١٦٨.


رد العجز على الصدر

(٦١٤) ومنه : ردّ العجز على الصّدر :

وهو فى النّثر : أن يجعل أحد اللفظين المكرّرين أو المتجانسين أو الملحقين بهما فى أوّل الفقرة ، والآخر فى آخرها ؛ نحو : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(١) ، ونحو : (سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل) ، ونحو : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)(٢).

ونحو : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ.

(٦١٦) وفى النّظم : أن يكون أحدهما فى آخر البيت ، والآخر فى صدر المصراع الأول ، أو حشوه ، أو آخره ، أو صدر المصراع الثانى ؛ كقوله [من الطويل] :

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعى النّدى بسريع (٣)

وقوله [من الوافر] :

تمتّع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار (٤)

وقوله [من الطويل] :

من كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما (٥)

وقوله [من الطويل] :

وإن لم يكن إلّا معرّج ساعة

قليلا فإنّى نافع لى قليلها (٦)

__________________

(١) الأحزاب : ٢٧.

(٢) نوح : ١٠.

(٣) البيت للأقيشر ، الإشارات ص ٢٣٤ ، والمصباح ص ١٦٥.

(٤) هو للصمة بن عبد الله القشيرى. والعرار : وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة ، الإشارات ص ٢٩٦.

(٥) لأبى تمام القواضب : السيوف القاطعة. البيض : السيوف والنساء الجميلات. والبيت من قصيدة يمدح فهيا أبا سعيد محمد بن يوسف ، ديوانه ٣ / ٣٣٦ ، والإشارات ص ٢٩٦.

(٦) هو لذى الرمة غيلان بن عقبة ، وفى الديوان إلا تعلل ساعة ديوانه ٢ / ٩١٢ ط دمشق ، والإشارات ص ٢٩٦.


وقوله [من الوافر] :

دعانى من ملامكما سفاها

فداعى الشّوق قبلكما دعاني (١)

وقوله [من الكامل] :

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل (٢)

وقوله [من الوافر] :

فمشغوف بآيات المثانى

ومفتون برنّات المثاني (٣)

وقوله [من السريع] :

أمّلتهم ثم تأمّلتهم

فلاح لى أن ليس فيهم فلاح (٤)

وقوله [من المتقارب] :

ضرائب أبدعتها فى السّماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا (٥)

وقوله [من الطويل] :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان (٦)

وقوله [من البسيط] :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط فى الخصر (٧)

__________________

(١) البيت للقاضى الأرجانى.

(٢) هو للثعالبى. البلابل الأولى : الطيور المعروفة. والثانية الهموم. والثالثة : أباريق الخمر. أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٩٦.

(٣) آيات المثانى : القرآن ، ورنات المثانى : المزامير ، والبيت للحريرى من مقاماته ص ٥٢١ ، أورده الجرجانى.

(٤) البيت للأرجانى من قصيدة يمدح فيها شمس الملك بن نظام الملك ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٢٩٧.

(٥) البيت للسرى الرفاء أخذه من قول البحترى :

بلونا ضرائب من قد نرى*

فما أن رأينا لفتح ضريبا.

ديوانه ١ / ١٥١ ، والتبيان ١٧٩.

(٦) لامرئ القيس ، ديوانه ص ٩٠ ، والإشارات ص ٢٩٧.

(٧) للمعرّى ، سر الفصاحة ص ٢٦٧ ، والمصباح ص ١١٤.


وقوله [من الكامل] :

فدع الوعيد فما وعيدك ضائرى

أطنين أجنحة الذّباب يضير؟! (١)

وقوله [من الطويل] :

وقد كانت البيض القواضب فى الوغى

بواتر فهى الآن من بعده بتر (٢)

السجع

(٦٢٤) ومنه : السجع ؛ قيل : وهو تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد ، وهو معنى قول السكاكى : هو فى النّثر كالقافية فى الشعر.

(٦٢٦) وهو ثلاثة أضرب :

مطرّف إن اختلفا فى الوزن ، نحو : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(٣).

(٦٢٦) وإلّا ، فإن كان ما فى إحدى القرينتين أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى فى الوزن والتقفية : فترصيع ؛ نحو : (فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه).

وإلّا فمتواز ؛ نحو : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٤).

(٦٢٨) وقيل : وأحسن السجع ما تساوت قرائنه ؛ نحو : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٥) ، ثمّ ما طالت قرينته الثانية ؛ نحو : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى

__________________

(١) هو لابن أبى عينية ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٢٩٧.

(٢) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها محمد بن حميد الطائى ، فى ديوانه ٤ / ٨٣ ، والإشارات ص ٢٩٨ ، بواتر : قاطعات. بتر : جمع أبتر ، إذا لم يبق من بعده من يستعملها استعماله.

(٣) نوح : ١٣ ، ١٤.

(٤) الغاشية : ١٣ ـ ١٦.

(٥) الواقعة : ٢٨ ـ ٣٠.


ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(١) ، أو الثالثة ؛ نحو : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(٢). ولا يحسن أن يؤتى بقرينة أقصر منها كثيرا.

(٦٢٩) والأسجاع مبنيّة على سكون الأعجاز ؛ كقولهم : ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت.

قيل : ولا يقال : فى القرآن أسجاع ، بل يقال : فواصل.

وقيل : السّجع غير مختصّ بالنثر ، ومثاله فى النّظم قوله [من الطويل] :

تجلّى به رشدى وأثرت به يدى

وفاض به ثمدى وأورى به زندي (٣)

(٦٣٢) ومن السجع على هذا القول ما يسمّى التشطير ؛ وهو جعل كلّ من شطرى البيت سجعة مخالفة لأختها ؛ كقوله [من البسيط] :

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب فى الله مرتقب

الموازنة

(٦٣٣) ومنه : الموازنة ؛ وهى تساوى الفاصلتين فى الوزن دون التقفية ؛ نحو : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(٤).

(٦٣٤) وإذا تساوى الفاصلتان : فإن كان ما فى إحدى القرينتين أو أكثره مثل ما يقابله من القرينة الأخرى فى الوزن ، خصّ باسم المماثلة ؛ نحو : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٥) ، وقوله [من الطويل] :

مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس

قنا الخطّ إلّا أنّ تلك ذوابل (٦)

__________________

(١) النجم : ١ ـ ٢.

(٢) الحاقة : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) هو لأبى تمام ، ديوانه ص ١٠٣ ، الإشارات ص ٣٠١ ، والمصباح ١٦٩.

(٤) الغاشية : ١٥ ـ ١٦.

(٥) الصافات : ١٧ ـ ١٨.

(٦) لأبى تمام ، ديوانه ص ٢٢٦ ، التبيان ص ١٧١.


القلب

(٦٣٦) ومنه : القلب ؛ كقوله (١) [من الوافر] :

مودّته تدوم لكلّ هول

وهل كلّ مودّته تدوم

وفى التنزيل : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)(٢) ، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٣).

التشريع

(٦٣٨) ومنه : التشريع ؛ وهو بناء البيت على قافيتين يصحّ المعنى عند الوقوف على كلّ منهما ؛ كقوله (٤) [من الكامل] :

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

لزوم ما لا يلزم

(٦٤٠) ومنه : لزوم ما لا يلزم ؛ وهو أن يجيء قبل حرف الرّوىّ ـ أو ما فى معناه من الفاصلة ـ ما ليس بلازم فى السجع ؛ نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٥) وقوله (٦) [من الطويل] :

__________________

(١) للأرجانى.

(٢) يس : ٤٠.

(٣) المدثر : ٣.

(٤) للحريرى فى مقاماته ص ١٩٢ ، والمصباح ص ١٧٦.

(٥) الضحى : ٩ ـ ١٠.


سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى

أيادى لم تمنن وإن هى جلّت

فتى غير محجوب (١) الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت

رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت

(٦٤٤) وأصل الحسن فى ذلك كلّه : أن تكون الألفاظ تابعة للمعانى ، دون العكس.

خاتمة : فى السّرقات الشّعريّة ، وما يتّصل بها ، وغير ذلك

(٦٤٧) اتفاق القائلين إن كان فى الغرض على العموم ـ كالوصف بالشجاعة ، والسخاء ، ونحو ذلك ـ فلا يعدّ سرقة ؛ لتقرّره فى العقول والعادات. وإن كان فى وجه الدّلالة ؛ كالتشبيه ، والمجاز ، والكناية ، وكذكر هيئات تدلّ على الصفة ؛ لاختصاصها بمن هى له ـ كوصف الجواد بالتهلّل عند ورود العفاة ، والبخيل بالعبوس مع سعة ذات اليد ـ : فإن اشترك الناس فى معرفته لاستقراره فيهما (٢) ؛ كتشبيه الشجاع بالأسد ، والجواد بالبحر ، فهو كالأول ؛ وإلّا جاز أن يدّعى فيه السبق والزيادة.

وهو (٣) ضربان ؛ خاصّىّ فى نفسه غريب ، وعامى تصرّف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة ؛ كما مر.

(٦٥٣) فالسرقة والأخذ نوعان : ظاهر ، وغير ظاهر.

(٦٥٣) أما الظاهر : فهو أن يؤخذ المعنى كلّه ، إمّا مع اللفظ كلّه ، أو بعضه ، أو وحده :

__________________

(١) للأرجانى.

(٢) تصحفت فى المتن إلى (محبوب).

(٣) أى فى العقول والعادات ، وقد تصفحت إلى (فيها).

(٤) يعنى النوع الذى لم يشترك الناس فى معرفته.


فإن اخذ اللفظ كلّه من غير تغيير لنظمه : فهو مذموم ؛ لأنه سرقة محضة ، ويسمى نسخا وانتحالا ؛ كما حكى عن عبد الله بن الزبير أنه فعل ذلك بقول معن بن أوس (١) [من الطويل] :

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل

ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه

إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل

وفى معناه : أن يبدل بالكلمات كلّها أو بعضها ما يرادفها.

(٦٥٧) وإن كان مع تغيير لنظمه أو أخذ بعض اللفظ ، سمّى : إغارة ومسخا.

(٦٥٨) فإن كان الثانى أبلغ ؛ لاختصاصه بفضيلة : فممدوح ؛ كقول بشّار [من البسيط] :

من راقب النّاس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج (٢)

وقول سلم [من مخلّع البسيط] :

من راقب النّاس مات غمّا (٣)

وفاز بالّلذة الجسور (٤)

(٦٥٩) وإن كان دونه : فمذموم ، كقول أبى تمّام [من الكامل] :

هيهات لا يأتى الزّمان بمثله

إنّ الزّمان بمثله لبخيل (٥)

__________________

(١) حكى أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده هذين البيتين ، فقال له معاوية : لقد شعرت بعدى يا أبا بكر ، ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزنى ، فأنشد قصيدته التى أولها :

لعمرك وما أدرى وإنى ولأجل

على أينا تعدو المنية أول

حتى أتمها ، وفيها هذان البيتان ، فأقبل معاوية على ابن الزبير وقال : ألم تخبرنى أنهما لك فقال :

ـ اللفظ له والمعنى لى ، وبعد فهو أخى من الرضاعة ، وأنا أحق بشعره.

(٢) لبشار فى ديوانه ص ٦٠ ، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٣٠٩.

(٣) فى المتن (همّا).

(٤) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٣٠٩ وعزاه لسلم الخاسر.

(٥) البيت لأبى تمام فى مدح محمد بن حميد ، ديوانه ص ٢٢٦ ، والإشارات ص ٣٠٩.


وقول أبى الطيب [من الكامل] :

أعدى الزّمان سخاؤه فسخا به

ولقد يكون به الزّمان بخيلا (١)

(٦٦٢) وإن كان مثله : فأبعد عن الذمّ ، والفضل للأوّل ؛ كقول أبى تمام [من الكامل] :

لو حار مرتاد المنيّة لم يجد

إلّا الفراق على النّفوس دليلا

وقول أبى الطيب [من البسيط] :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

(٦٦٤) وإن أخذ المعنى وحده سمى : إلماما وسلخا ، وهو ثلاثة أقسام كذلك :

أولها : كقول أبى تمام [من الطويل] :

هو الصّنع إن يعجل فخير وإن يرث

فللرّيث فى بعض المواضع أنفع

وقول أبى الطيب [من الخفيف] :

ومن الخير بطء سيبك عنّى

أسرع السّحب فى المسير الجهام

(٦٦٦) وثانيها : كقول البحترى [من الكامل] :

وإذا تألّق فى النّدىّ كلامه ال

مصقول خلت لسانه من عضبه (٢)

وقول أبى الطيب [من البسيط] :

كأنّ ألسنهم فى النّطق قد جعلت

على رماحهم فى الطّعن خرصانا (٣)

(٦٦٧) وثالثها : كقول الأعرابي (٤) [من الوافر] :

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا

وقول أشجع [من المتقارب] :

وليس بأوسعهم فى الغنى

ولكن معروفه أوسع (٥)

__________________

(١) البيت للمتنبى فى مدح بدر بن عمار ، ديوانه ٣ / ٣٣٦.

(٢) العضب : السيف القاطع.

(٣) جمع خرص بالضم والكسر ، وهو السنان.

(٤) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٣١٢ ، وفيه الشطر الأول : وما إن كان أكثرهم سواما.


(٦٦٨) وأما غير الظاهر : فمنه أن يتشابه المعنيان ؛ كقول جرير [من الوافر] :

فلا يمنعك من أرب لحاهم

سواء ذو العمامة والخمار

وقول أبى الطيب [من الوافر] :

ومن فى كفّه منهم قناة

كمن فى كفّه منهم خضاب (١)

(٦٧٠) ومنه : النقل ؛ وهو : أن ينقل المعنى إلى معنى آخر ؛ كقول البحترى [من الكامل]

سلبوا وأشرقت الدّماء عليهم

محمرّة فكأنّهم لم يسلبوا (٢)

وقول أبى الطيب [من الكامل] :

يبس النّجيع عليه وهو مجرّد

من غمده فكأنّما هو مغمد (٣)

(٦٧١) ومنه : أن يكون الثانى أشمل ؛ كقول جرير [من الوافر] :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت النّاس كلّهم غضابا (٤)

وقول أبى نواس [من السريع] :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم فى واحد (٥)

(٦٧٢) ومنه : القلب ؛ وهو أن يكون معنى الثانى نقيض معنى الأوّل ؛ كقول أبى الشّيص [من الكامل] :

__________________

(١) البيت للمتنبى فى مدح بدر بن عمار ، ديوانه ٣ / ٣٣٦.

(٢) القناة : الرمح.

(٣) البيت للبحترى ، ديوانه ١ / ٧٦ ، والإشارات ص ٧١٣.

(٤) البيت للمتنبى من قصيدة يمدح فيها شجاع بن محمد الطائى ، ديوانه ١ / ٣٣٧ ، والإشارات ص ٣١٣. والنجيع : الدم.

(٥) البيت لجرير من قصيدة يهجو فيها الراعى النميرى ، ديوانه ص ٧٨ ، والإشارات ص ٣١٣ ، وفى المتن (على) بدلا من (عليك).

(٦) البيت لأبى نواس من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع ، ديوانه ص ١٤٦ والإشارات ص ٣١٤.


أجد الملامة فى هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمنى اللّوّم (١)

وقول أبى الطيب [من الكامل] :

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة

إنّ الملامة فيه من أعدائه (٢)

(٦٧٤) ومنه : أن يؤخذ بعض المعنى ، ويضاف إليه ما يحسّنه ؛ كقول الأفوه [من الرمل] :

وترى الطّير على آثارنا

رأى عين ثقة أن ستمار (٣)

وقول أبي تمام (٤) [من الطويل] :

وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير فى الدّماء نواهل

أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها

من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل

فإنّ أبا تمّام لم يلمّ بشيء من معنى قول الأفوه : «رأى عين» ، وقوله : «ثقة أن ستمار» ، ولكن زاد عليه بقوله : «إلا أنها لم تقاتل» ، وبقوله : «فى الدماء نواهل» ، وبإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش ، وبها يتمّ حسن الأول.

وأكثر هذه الأنواع ونحوها مقبولة ، بل منها ما يخرجه حسن التصرّف من قبيل الاتّباع إلى حيّز الابتداع ، وكلّما كان أشدّ خفاء كان أقرب إلى القبول.

(٦٨٠) هذا كلّه إذا علم أن الثانى أخذ من الأوّل ؛ لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخواطر ، أى : مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد للأخذ.

فإذا لم يعلم ، قيل : قال فلان كذا ، وسبقه إليه فلان ، فقال كذا.

(٦٨٢) وما يتصل بهذا : القول فى الاقتباس ، والتضمين ، والعقد ، والحلّ ، والتلميح :

__________________

(١) أبو الشيص : هو محمد بن رزين الخزاعى ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٣١٤.

(٢) لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه ١ / ١ ، الإشارات ص ٣١٤.

(٣) الأفوه : هو صلاءة بن عمرو ، فى ديوانه ص ١٣٠ ، الإشارات ص ٣١٤. وستمار : ستطعم.

(٤) البيتان لأبى تمام فى قصيدة يمدح فيها المعتصم ، ديوانه ٣ / ٨٢ ، والإشارات ص ٣١٤.


الاقتباس

(٦٨٣) أما الاقتباس : فهو أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث ، لا على أنه منه ؛ كقول الحريرىّ : «فلم يكن إلّا (كلمح البصر أو هو أقرب) (١) ، حتى أنشد فأغرب» ، وقول الآخر [من السريع] :

إن كنت أزمعت على هجرنا

من غير ما جرم فصبر جميل (٢)

وإن تبدّلت بنا غيرنا

فحسبنا الله ونعم الوكيل (٣)

وقول الحريرىّ : «قلنا شاهت الوجوه» (٤) وقبّح الّلكع ومن يرجوه ، وقول ابن عباد (٥) [من مجزوء الرمل] :

قال لى : إنّ رقيبى

سيّئ الخلق فداره

قلت : دعنى وجهك الج

نّة حفّت بالمكاره (٦)

(٦٨٥) وهو ضربان ؛ ما ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلى كما تقدّم ، وخلافه كقوله (٧) [من الهزج] :

لئن أخطأت فى مدحي

ك ما أخطأت فى منعي

لقد أنزلت حاجاتى

بواد غير ذى زرع

__________________

(١) اقتباس من النحل : ٧٧.

(٢) اقتباس من يوسف : ١٨.

(٣) اقتباس من آل عمران : ١٧٣.

(٤) هذا من قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين يوم حنين ، وهو حديث طويل رواه مسلم فى صحيحه كتاب الجهاد باب ٨١ (غزوة حنين). وأخرجه أحمد وغيره.

(٥) أوردهما الطيى فى التبيان ٢ / ٤٥٥ بتحقيقى ، وعزاهما للصاحب.

(٦) جزء من حديث صحيح رواه البخارى فى الفتن باب ٢ ، والأحكام ٤٣ ، ومسلم فى الإمارة ٣٤ ، ٤١ ، ٤٢ وغيرهما.

(٧) أوردهما الجرجانى فى الإشارات ص ٣١٦ ، وهما لابن الرومى. وقوله : بواد غير ذى زرع اقتباس من سورة إبراهيم آية ٣٧.


(٦٨٦) ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره ؛ كقوله (١) [من مخلّع البسيط] :

قد كان ما خفت أن يكونا

إنّا إلى الله راجعونا

التضمين

(٦٨٧) وأمّا التضمين : فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير ، مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء ؛ كقوله [من الوافر] :

على أنّى سأنشد عند بيعى

أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا؟ (٢)

(٦٩١) وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة ؛ كالتورية والتشبيه فى قوله (٣) [من الطويل] :

إذا الوهم أبدى لى لماها وثغرها

تذكّرت ما بين العذيب وبارق

ويذكرنى من قدّها ومدامعى

مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق

(٦٩٣) ولا يضرّ التغيير اليسير. وربّما سمى تضمين البيت فما زاد : استعانة ، وتضمين المصراع فما دونه : إيداعا ورفوا.

العقد

(٦٩٤) وأما العقد : فهو أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس ؛ كقوله (أبى العتاهية) :

ما بال من أوّله نطفة

وجيفة آخره يفخر؟

عقد قول على ـ رضى الله عنه ـ : (وما لابن آدم والفخر ، وإنّما أوّله نطفة ، وآخره جيفة).

__________________

(١) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٣١٦ ، وعزاه لبعض المغاربة ، وفيه اقتباس من سورة البقرة ١٥٦.

(٢) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص ٣١٨ ، والبيت للحريرى ، وعجزه للعرجى.

(٣) هو صاحب التحبير ، والعجز الأخير للمتنبى. وصاحب التحبير هو ابن أبى الإصبع المصرى ، ولماها : سمرة شفتيها ، ومجر عوالينا : جر الرماح ، الإشارات ص ٣١٨.


الحلّ

(٦٩٦) وأما الحلّ : فهو أن ينثر نظم ؛ كقول بعض المغاربة : (فإنّه لّما قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ، لم يزل سوء الظنّ يقتاده ، ويصدّق توهّمه الذى يعتاده) ؛ حلّ قول أبى الطيب [من الطويل] :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم

التلميح

(٦٩٨) وأما التلميح : فهو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره ؛ كقوله (أبى تمام) (١) [من الطويل] :

فو الله ما أدرى أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان فى الرّكب يوشع؟!

أشار : إلى قصة يوشع ـ عليه‌السلام ـ واستيقافه الشمس (٢) ، وكقوله [من الطويل] :

لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظى

أرقّ وأحفى منك فى ساعة الكرب

أشار إلى البيت المشهور [من البسيط] :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنّار

فصل

(٧٠١) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه ؛ حتى يكون أعذب لفظا ، وأحسن سبكا ، وأصحّ معنى :

أحدها : الابتداء ؛ كقوله (٣) [من الطويل] :

__________________

(١) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى.

(٢) يشير إلى حديث أبى هريرة الذى أخرجه البخارى فى ك : (فرض الخمس) ، ومسلم فى ك (الجهاد) ، وفيه غزا نبى من الأنبياء ... إلى قوله ، فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه ...


قفا نبك من ذكرى حبيب

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وكقوله (أشجع) (١) [من الكامل] :

قصر عليه تحيّة وسلام

خلعت عليه جمالها الأيّام

(٧٠٥) وينبغى أن يجتنب فى المديح ما يتطيّر به ؛ كقوله (٢) [من الرجز] :

موعد أحبابك بالفرقة غد

(٧٠٦) وأحسنه ما يناسب المقصود ، ويسمى : براعة الاستهلال ؛ كقوله فى التهنئة (٣) [من البسيط] :

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وقوله فى المرثيّة (الساوى) [من الوافر] :

هى الدّنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشى وفتكي

(٧٠٧) وثانيها : التخلّص ممّا شيب الكلام به من نسيب أو غيره إلى المقصود ، مع رعاية الملاءمة بينهما ؛ كقوله (أبى تمام) (٤) [من البسيط] :

تقول فى قومس قومى وقد أخذت

منّا السّرى وخطا المهريّة القود

أمطلع الشّمس تبغى أن تؤمّ بنا

فقلت كلّا ولكن مطلع الجود

(٧١٠) وقد ينتقل منه إلى ما لا يلائمه ، ويسمّى : الاقتضاب ، وهو مذهب العرب الجاهلية (٥) ومن يليهم من المخضرمين ؛ كقوله (أبى تمام) [من الخفيف] :

لو رأى الله أنّ فى الشّيب خيرا

جاورته الأبرار فى الخلد شيبا

كلّ يوم تبدى صروف اللّيالى

خلقا من أبى سعيد غريبا

__________________

(١) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى.

(٢) البيت من قصيدة له يمدح فيها هارون الرشيد ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص ٣٢٢.

(٣) أنشده ابن مقاتل لمحمد بن زيد الحسينى الداعى العلوى صاحب طبرستان فقال له الداعى : بل موعد أحبابك ولك المثل السوء.

(٤) هو لأبى محمد الخازن.

(٥) البيتان لأبى تمام ، ديوانه (أ) ص ١٢٠ ، (ب) ٢ / ١٣٢ ، والمصباح ص ٢٧٢ ، وقومس : بلد بالقرب من أصفهان.

(٦) فى نسخة الدكتور خفاجى : الأولى والمثبت من شروح التلخيص.


ومنه : ما يقرب من التخلّص ؛ كقولك بعد حمد الله : «أمّا بعد» قيل : وهو فصل الخطاب ، وكقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)(١) أى : الأمر هذا ، أو هذا كما ذكر. وقوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)(٢) ومنه قول الكاتب : (هذا باب).

(٧١٤) وثالثهما : الانتهاء ؛ كقوله (أبى نواس) [من الطويل] :

وإنّى جدير إذ بلغتك بالمنى

وأنت بما أمّلت منك جدير

فإن تولنى منك الجميل فأهله

وإلّا فإنّى عاذر وشكور

(٧١٦) وأحسنه مأ آذن بانتهاء الكلام ؛ كقوله (المعرى) [من الطويل] :

بقيت بقاء الدّهر يا كهف أهله

وهذا دعاء للبريّة شامل

(٧١٦) وجميع فواتح السّور وخواتمها ، واردة على أحسن الوجوه وأكملها ؛ يظهر ذلك بالتأمّل ، مع التذكّر لما تقدّم.

وصلّى الله على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلّم ، اللهمّ اغفر لى بفضلك ولمن دعا لى بخير ، واغفر لوالدى ولكلّ المسلمين. آمين ، وصلّ وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى آلهم وأصحابهم والتابعين ، خصوصا النبى المصطفى ، والحبيب المجتبى ، وآله وأصحابه. آمين.

انتهى كتاب متن التلخيص للقزويني

بحمد الله وعونه وتوفيقه

وما توفيقى إلا بالله

__________________

(١) ص : ٥٥.

(٢) ص : ٤٩.



شرح مواهب الفتاح

لابن يعقوب المغربى

على كتاب التلخيص

الفن الثاني

علم البيان



الفن الثاني علم البيان

قد تقدم أنه أخره عن علم المعانى ؛ لأن مفاد علم المعانى من مفاد البيان بمنزلة المفرد من المركب ، وإن شئت قلت : لأنه بالنسبة إليه ككيفية مع المكيف أو كخاص بعد عام.

وبيان الأول أن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة الذى هو مرجع علم البيان إنما يعتبر بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال التى هى مرجع علم المعانى ، وتوقف المراد من البيان على المراد من المعانى كتوقف الكل على الجزء ، وفيه نظر تقدمت الإشارة إليه ؛ لأن إيراد المعنى الواحد بطريق من الطرق التى يقبلها لا يستلزم المطابقة لذاته ، فلا توقف وإن أريد أن الإيراد لا عبرة به فى باب البلاغة إلا أن تكون معه مطابقة لمقتضى الحال بمراعاة أحوال الكلام المذكورة فى علم المعانى ، وإلا أن تكون فيه مطابقة بمراعاة كون ذلك الطريق نفسه مطابقا بأن يؤتى بالطريق الأوضح عند مناسبة الأوضح مثلا وبما دونه عند مناسبته مثلا ، فهذا لا يستفاد.

من البيان بل المعانى هو المفيد أن كل حال مناسب للمقام تجب مراعاته ، سواء كان طريق وضوح أو خفاء أو غير ذلك ، ولو استفيد منه كان من المعانى ، وعلى تقدير استفادة كون الطريق المأتى به لا بد أن يكون مطابقا من هذا الفن ، فمطابقته المذكورة فى المعانى حينئذ غير المطابقة المستفادة من البيان ، ولا توقف لأحدهما على الآخر ، بل المتبادر أن مفاد علم البيان هو الذى يتنزل من مفاد المعانى منزلة الجزء من الكل ؛ لأنه هو للاحتراز عن التعقيد المعنوى الذى تتحقق به الفصاحة التى هى جزء من البلاغة فليفهم.

وأما الثانى ؛ وهو كونه كيفية من المكيف ، فإن الدلالة على أصل المعنى بكلام مطابق لمقتضى الحال بأن يراعى فيها الأحوال المناسبة المذكورة فى علم المعانى يعرض فى تلك الدلالة مفاد علم البيان ، وهو كونها بطريق مخصوص دون آخر مما ليس فيه التعقيد ، وهذا قريب ، غير أن تلك الكيفية لا تتميز ، فى الحقيقة عن المطابقة لأنها لا بد


من مراعاة المطابقة فيها فليس للمطابقة تحقق بدونها حتى تكون كالمعروض لها ؛ لأن كونها بطريق مخصوص متى كان ذلك الطريق غير مطابق بطل عروضه لها لمضادته لها حينئذ. نعم هو غيرها من حيث إنه طريق مخصوص ، وإن لزم اعتبار أن يكون مطابقا ، فالأقرب إليه أن يكون معروضا للمطابقة لا عارضا لها ؛ إذ هو موصوفها فتأمل.

وأما الثالث ، وهو أن مفاده كذكر خاص بعد عام ؛ فلأن الإيراد بطريق مخصوص دون غيره لا بد فيه من المطابقة والمطابقة توجد بدونه ، وهو أيضا قريب ، غير أنه يرد عليه ما ورد على ما قبله ؛ لأن مطلق الإيراد لا يستلزم المطابقة ، وكونه لا بد فيه من المطابقة لا يستفاد من هذا الفن ، فتأمل حتى تعلم أن ما أطبق عليه المحققون هنا من هذا التعليل الموجب للتأخير ضعيف ، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

تعريف علم البيان

(وهو) أي : البيان (علم) ، ويعنى بالعلم هنا الملكة الحاصلة من طول ممارسة قواعد الفن ، بمعنى أن من حصلت له تلك الممارسة حصلت له حالة بسيطة بها ، ويكون صاحبها بحيث يتمكن من إدراك حكم أى جزئى من جزئيات هذا الفن ، بمعنى أن أى معنى يريد إيراده بطرق مختلفة فى الوضوح والخفاء يتمكن له بتلك الملكة إيراده بما يناسب من تلك الطرق ، وعلى هذا تكون جزئيات هذا الفن هى المعانى التى يراده التعبير عنها وأحكامها كون هذا الطريق مثلا أنسب من هذا ، بحيث يورد كل معنى يدخل تحت القصد بما يناسبه من الطرق المختلفة فى الوضوح والخفاء ، ويحتمل أن تكون الأحكام مجرد كونه ، بحيث يورده بذلك أو بهذا من غير رعاية المناسبة ، وسيأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ما فى ذلك ، ويحتمل أن يريد بالجزئيات التراكيب التى يورد بها المعانى ، وهو الأقرب ، ويراد بأحكامها كون هذا التركيب صالحا لهذا المعنى ، أى : لا يراده مع ذلك التركيب ، وكون هذا أنسب مثلا دون ذلك. هذا إذا أريد بالعلم الملكة ، ويحتمل أن يريد بالعلم القواعد والأصول المعلومة إذ بها تعرف أحكام المعانى المؤداة ، ولا يصح أن يريد بالعلم اعتقاد مسائل الفن ؛ لأن مجرد اعتقادها لا يعرف به أحكام الجزئيات ،


كما سيذكره ، ما لم تحصل الملكة ، وإلى أن هذا العلم يدرك به ما أشرنا إليه من أحكام جزئياته.

أشار بقوله (يعرف به) ، أى يعرف بذلك العلم ، (إيراد المعنى الواحد) ، أى : كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم ، كما أشرنا إليه ؛ لأن اللام للاستغراق العرفى ، وخرج به إيراد المعانى المتعددة بطرق تتوزع على تلك المعانى ، مختلفة في الوضوح ؛ بأن يكون هذا الطريق مثلا فى معناه أوضح من الطريق الآخر فى معناه ، فلا تكون معرفة إيرادها كذلك من علم البيان ، وقد تقدم أن الحكم المعروف هنا إما الإيراد من حيث المناسبة لمقتضى الحال ، أو مجرد الإيراد بلا مناسبة ، (بطرق) أى : بتراكيب (مختلفة فى وضوح الدلالة) خرج به معرفة إيراد المعنى الواحد بتراكيب متماثلة فى الوضوح ، وذلك بأن يكون اختلافها فى ألفاظ مترادفة ؛ إذ التفاوت فى الوضوح لا يتصور فى الألفاظ المترادفة ؛ لأن الدلالة فيها وضعية على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ فإن عرف وضعها تماثلت ، وإلا لم يعرف منها أو من بعضها شيء ، والتوقف فى تصور معنى بعضها ليس اختلافا فى الوضوح ؛ إذ لا وضوح قبل تذكر الوضع ومعرفته ضرورة أنه لا يدرك شيئا ، حتى يتذكر الوضع ، وبعد تذكره لا تفاوت ، وذلك كالتعبير عن الحيوان المعلوم بالأسد والغضنفر ، وما أشبه ذلك فى تراكيب ، والاختلاف فى الوضوح يقتضى أن بعضها أوضح دلالة من بعض مع وجود الوضوح فى الكل ، ومعلوم أن الواضح بالنسبة إلى الأوضح خفى ، فلا حاجة إلى أن يزاد بعد قوله فى الوضوح والخفاء مع أن إسقاط لفظ الخفاء فيه فائدة ، وهى الإيماء إلى أن الخفاء الحقيقى ، وهو الذى ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق لا بد من انتفائه عن تلك الطرق ، وإلا كان فيما وجد فيه تعقيد معنوى ، وجعلنا الألف واللام فى الواحد للاستغراق إشارة إلى أن معرفة المتكلم إيراد معنى كقولنا : " زيد جواد" بطرق مختلفة ، ولو كانت له الملكة فى ذلك ، لا يكون بذلك عالما بعلم البيان. وتفسير العلم بالملكة أو القواعد تصوير ؛ لأنه لا يمكن الإيراد عادة لكل معنى إلا بالملكة أو تلك القواعد. فمثال إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى باب الكناية أن يقال فى وصف زيد مثلا بالجود : زيد مهزول الفصيل ، وزيد جبان الكلب ، وزيد


كثير الرماد ، فهذه التراكيب تفيد وصفه بالجود على طريق الكتابة ؛ لأن هزال الفصيل إنما يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف ، وجبن الكلب لإلفه الإنسان الأجنبى بكثرة الواردين من الأضياف ، فلا يعادى أحدا أو لا يتجاسر عليه ، وهو معنى جبنه ، وكثرة الرماد من كثرة الإحراق للطبائخ من كثرة الأضياف ، وهى مختلفة وضوحا ، وكثرة الرماد أوضحها فيخاطب به عند المناسبة ، كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك ، ومثال إيراده بطرق مختلفة فى باب الاستعارة أن يقال فى وصفه مثلا به أيضا" رأيت بحرا فى الدار" فى الاستعارة التحقيقية ، " وطم زيد بالإنعام جميع الأنام" فى الاستعارة بالكناية ؛ لأن الطموم وهو الغمر بالماء وصف البحر فدل على أنه أضمر تشبيهه بالبحر فى النفس ، وهو الاستعارة بالكناية على ما يأتى ولجة زيد تتلاطم أمواجها ؛ لأن اللجة والتلاطم للأمواج من لوازم البحر ، وذلك مما يدل على إضمار التشبيه فى النفس أيضا ، وأوضح هذه الطرق الأول ، وأخفاها الوسط ، ومثال إيراده فى باب التشبيه أن يقال : زيد كالبحر فى السخاء ، وزيد كالبحر ، وزيد بحر ؛ وأظهرها ما صرح فيه بالوجه وأخفاها ، وهو أو كدها ما حذف فيه الوجه والأداة معا ، فيخاطب بكل من هذه الأوجه فى هذه الأبواب بما يناسب المقام من الخفاء والوضوح ، ويعرف ذلك بهذا الفن ، ويأتى ما فيه ، ولا يضر فى التشبيه كونه حقيقة ؛ لأن الغرض فيه الإيماء بالتشبيه إلى الوجه ، والإيماء إلى معنى من المعانى لا يستلزم كون اللفظ مجازا ، والمصرح به فيه أوضح ؛ لأن الدلالة فيه تصريحية ، وصح إدخاله فى هذا الباب باعتبار ما لم يصرح به ، وها هنا بحث وهو أن ما ذكر من كون هذا الفن يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى الوضوح إن أريد به أن هذا الفن لما ذكرت فيه شروط المقبول من التشبيه والمجاز والكناية وحقيقة كل منهما وأقسامه كان فى ذلك تنبيه على فائدته ، وهو أن يطلب من تراكيب البلغاء واستعمالات العرب ما وقع ليقاس عليه غيره مما يراد استعماله ، ويعرف المقبول من ذلك من غيره ، فيصح للإنسان أن يحذو حذوهم وينسج على منوالهم ، فلا يقتضى أن هذا الفن يعرف به ما ذكر ، بل يقتضى أن معرفة هذا الفن ربما كانت سببا لتتبع تراكيب البلغاء الذى يحصل العلم بكيفية الإيراد ، إذ بممارسة ذلك


يكتسب الإنسان قوة لاستعمال ما يريد كما يصع البلغاء ، فلا معنى لتعريفه بما ذكر ؛ إذ هو تعريف بلازم غير محقق اللزوم خفى ، ولو جاز لجاز تعريف النحو بعلم اللغة ، إذ ربما حمل على طلب معانى الألفاظ اللغوية من الأفعال وغيرها ، وهو فاسد ، وإن أريد أن هذا الفن يذكر فيه كل معنى يدخل تحت القصد وبين أنه يورد بهذه التراكيب المختلفة مثلا ، فهذا لا يصح ، إذ غاية ما ذكر فى الفن ـ كما أشرنا إليه ـ حقيقة التشبيه وأقسامه والمقبول منه وغيره ، وكذا المجاز والكناية تذكر حقيقة كل منهما وشروطه والمقبول وغيره ؛ ليحترز بذلك عن التعقيد المعنوى الذى يشتمل عليه غير المقبول ، وهذا البحث مما لم يظهر جوابه بعد فليتأمل ، ثم لما اشتمل التعريف على ما يفيد أن التراكيب اللفظية تختلف دلالتها على المعنى وضوحا وخفاء أراد أن ينبه على أن الدلالة اللفظية الوضعية لا تحتمل كلها للوضوح والخفاء ، حتى يجرى الإيراد المذكور فى جميعها ، بل منها ما يقبل ذلك الاختلاف ، ومنها ما لا يقبله ؛ تحريرا لمحمل البحث وتحقيقا لمحل ذلك الإيراد لئلا يتوهم جريانه فى جميع أقسام الدلالة الوضعية ، فمهد لذلك تقسيمها فقال : (ودلالة اللفظ) ، يعنى دلالته الوضعية وذلك بأن يكون للوضع مدخل فيها ؛ سواء كان نفس العلم بالوضع كافيا فيها ، أو لا بد معه من انتقال عقلى ؛ لأن الدلالة هى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والأول الدال ، والثانى المدلول ، ثم الدال إن كان لفظا ؛ فالدلالة لفظية ، وإلا فغير لفظية كدلالة الخطوط والعقد والإشارات والنصب ، ثم الدلالة اللفظية إما أن يكون للوضع مدخل فيها أو لا ، فالأولى هى المقصودة بالنظر ههنا ، وهى كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى عند الإطلاق بالنسبة إلى العالم بوضعه ، وهذه الدالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام ؛ لأنها (إما) دلالة (على تمام) ، أى : مجموع (ما وضع له) اللفظ كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق ، فإن لفظ الإنسان وضع لمجموع الجزأين ، أعنى الحيوان الناطق (أو) دلالة (على جزئه) ، أى : جزء تمام ما وضع له اللفظ كدلالة لفظ الإنسان على الحيوان فقط ، أو على الناطق فقط ، فإن كلا منهما جزء من الموضوع له (أو) دلالة (على) معنى (خارج عنه) ، أى : خارج عن تمام ما وضع له اللفظ كدلالة لفظ الإنسان على معنى الضاحك ، فإنها دلالة على


معنى خارج عن المسمى الذى هو الحيوان الناطق ؛ إذ هو لازم لهذا المعنى ، لا جزء منه ، كما لا يخفى (وتسمى) الأولى من هذه الأقسام الثلاثة ، وهى الدلالة على تمام ما وضع له اللفظ (وضعية) ؛ لأن السبب فى حصولها ـ بشرط سماع اللفظ أو تذكره ـ هو معرفة الوضع فقط دون حاجة لشيء آخر وراء الوضع ، والذى كان الوضع سببا له هو تمام ما وضع له جميعا ، إذ الواضع إنما وضع لذلك التمام لا للجزء ولا للازم ، (و) تسمى (كل واحدة من الأخيرتين) ـ وهما الدلالة على الجزء والدلالة على اللازم ـ (عقلية) ؛ لأن حصولهما بانتقال العقل إلى الجزء أو اللازم من الكل أو الملزوم ، وهذا الانتقال تصرف عقلى لا يتوقف فيه العقل الأعلى بمجرد حصول المعنى لا على شيء آخر وراءه ، وهذا معلوم لا يتوقف فى تحققه ضرورة حكم العقل بأن حصول الكل أو الملزوم يستلزم حصول الجزء أو اللازم ، فسميتا عقلية لذلك ، فإن قيل استلزام المعنى للازمه ربما يتصور فيه الانتقال ، وأما استلزامه لجزئه فهو حصول مع حصول لا يتصور فيه الانتقال ، وكذا اللازم فى اللزوم الذهنى ؛ لأنه دفعى. قلنا : أما إذا حصل الكل تفصيلا أو حصل الملزوم الذهنى مع اللازم للزوم الذهنى إن توسط الكل والملزوم فى الجزء أو اللازم صارا به فى الرتبة الثانية كالمنتقل إليه ، وأما إذا حصل الكل إجمالا أو اللزوم بلا لزوم ذهنى ، فالانتقال إلى الجزء تفصيلا أو اللازم الغير الذهنى واضح لا يقال لا يصح الانتقال باعتبار الأخير لصحة الغفلة عن التفصيل وعن الإلزام الغير البين ؛ لأنا نقول : لا بد من الانتقال عند القرينة عادة ، وذلك كاف فى اللزوم العقلى فى هذا الفن ، كما يأتى ، ولا يقال الانتقال من الجملة إلى التفصيل انتقال فى الحقيقة من وجه من أوجه الكل إلى غيره ، فيكون انتقالا إلى اللازم لا إلى الجزء ، فلا يتصور الانتقال الثانى فى التضمن ؛ لأنا نقول : التضمن فهم جزء مدلول اللفظ بأى وجه ، وقد حصل ، واللفظ لم يوضع لذلك الوجه الذى تصور به الكل إجمالا فافهم. وتخصيص اسم الوضعية بالدلالة على تمام الموضوع له دون الدلالة على الجزء ، واللازم اصطلاح غير المناطقة ، وأما المناطقة فالوضعية إذا كانت لفظية عندهم فللوضع فيها مدخل ، فتدخل ذات الجزء ، واللازم كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وهى مقابلة عندهم للعقلية المحضة أو الطبيعية


لا لذات الجزء واللازم ، وذلك أن الدلالة التى هى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر كحال التغير مع الحدوث ؛ فإنه يلزم من العلم بثبوت التغير للجرم العلم بحدوثه ، كالرجل فإنه يلزم من العلم به العلم بمعناه ، سواء كان هذا اللزوم بوسط.

أو لا تنقسم عندهم ستة أقسام اللفظية وغيرها وغير اللفظية إما عقلية بأن لا يمكن تغيرها كدلالة التغير على الحدوث ، وإما طبيعية بأن يكون الربط بين الدال والمدلول يقتضيه الطبع كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل ، وإما وضعية بأن تحصل بالاختيار كدلالة الإشارة المخصوصة مثلا على معنى نعم أو لا ، واللفظية أيضا إما عقلية بأن يمكن تغيرها كدلالة اللفظ على لافظ به ، وإما طبيعية بأن يكون الربط بين اللفظ الدال والمدلول يقتضيه الطبع كدلالة أخ على وجع ، وإما وضعية بأن تكون بالاختيار والوضع ، وتعرف بأنها فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع ، وعنى بالفهم الكائن عن الوضع الفهم المسند إلى مطلق الوضع من غير شرط ، كون ذلك المفهوم تمام الموضوع أو لازمه أو جزأه لتدخل الأقسام الثلاثة المنسوبة إلى الوضع ، واحترزوا بالقيد الأخير ، وهو قولهما بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع من العقلية والطبيعية ؛ لأنهما تحصلان بالنسبة لمن لا معرفة له بالوضع ، ورد على هذا التفسير أن الفهم إن جعل مصدرا منسوبا للفاعل ، فلا يكون وصفا للفظ ؛ إذ هو وصف للإنسان الفاهم ، وإن جعل منسوبا للمفعول كان وصفا للمعنى المفهوم ، وعلى التقديرين لا يكون وصفا للفظ ، فلا يشتق له منه ، وتعريف وصف اللفظ به يقتضى كونه بحيث يشتق منه للفظ ما يحمل عليه على قاعدة أن من قام به وصف حمل عليه بالاشتقاق ، وأجيب بأن ما ذكر إنما هو حيث لم يعتبر تعلقه بالمجرور ، فإن اعتبر من حيث تعلقه بالمجرور صار وصفا للفظ على أنه للمفعول ، فالفهم من اللفظ وصف له فيشتق له منه ، فيقال : هذا اللفظ مفهوم منه المعنى ، فقد عرفت الدلالة التى هى وصف اللفظ بما هو وصف له بهذا الاعتبار ، وهو واضح ، ثم هذه الدلالة إن كانت على تمام ما وضع له اللفظ سميت مطابقة ، وإن كانت على جزئه سميت تضمنا ، وإن كانت على لازمه سميت التزاما ، وهذا الاصطلاح فى التسمية متفق عليه ، وإليه أشار بقوله :


(وتختص الأولى) من الدلالات الثلاث ، وهى الدلالة على تمام ما وضع له اللفظ (ب) اسم (المطابقة) بمعنى أنها تسمى دلالة المطابقة دون غيرها ، وإنما سميت بذلك لتطابق اللفظ والمعنى ، أى : توافقهما ؛ فلم يزد اللفظ بالدلالة على الغير ، ولا زاد المعنى بالمدلولية للغير ، أو لتطابق الفهم والوضع ، بمعنى أن ما فهم هو ما وضع له اللفظ ، (و) تختص (الثانية) ، وهى الدلالة على جزء ما وضع له اللفظ (ب) اسم (التضمن) ، أى تسمى دون غيرها دلالة تضمن ، وإنما سميت بذلك لكون المدلول فيها جزءا متضمنا للمعنى الموضوع له اللفظ ، (و) تختص (الثالثة) ، وهى الدلالة على لازم ما وضع له اللفظ (ب) اسم (الالتزام) بمعنى أنها تسمى دون غيرها بدلالة الالتزام ، وإنما سميت بذلك ؛ لأن المدلول فيها لازم للمعنى الموضوع له اللفظ خارج عنه ، فتحصل من هذا أن المطابقة تعرف بأنها دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، والتضمن دلالته على جزء ما وضع له ، والالتزام دلالته على خارج عن مسماه لازم ، ويرد على تعريفها البحث المشهور ، وهو أن هذه التعاريف ينخرم طرد كل واحد منها بالآخر لدخول فرد من أفراد كل منها فى الآخر إذا فرضنا أن لفظا وضع على طريق الاشتراك للكل والجزء والملزوم واللازم كلفظ الشمس الموضوع كما قيل لمجموع القرص والضوء وللقرص الذى هو أحد الجزأين وللضوء الذى هو أحد الجزأين أيضا ولازم للقرص. قلنا : إذا أطلقناه على مجموعهما وفهم منه أحد الجزأين ففهم الجزأ منه حينئذ تضمن لأنه دلالة على جزء ما وضع له اللفظ ، ويصدق عليه أنه مطابقة ؛ لأنه دلالة على ما وضع له اللفظ ، أعنى بوضع آخر غير هذا الوضع الموجود فى هذا الإطلاق ، فقد دخل هذا الفرد من المطابقة فى حد التضمن ، وكذا إذا أطلق على الجرم وحده ؛ لأنه وضع له وفهم منه لازم الجرم وهو الضوء كان التزاما ؛ لأنه دلالة على لازم ما وضع له اللفظ بوضع آخر ، ويصدق عليه أنه مطابقة ؛ لأنه دلالة على ما وضع له اللفظ بوضع آخر ، فقد دخل هذا الفرد من المطابقة فى الالتزام أيضا ، فقد انخرم كل من التضمن والالتزام بدلالة المطابقة لدخول فرد منها فى حد كل منهما ، وكذا إذا أطلق على الجرم وهو القرص لوضعه له وفهم منه كان هذا الفهم مطابقة ؛ لأنه دلالة على تمام ما وضع له اللفظ ، ويصدق عليه أنه


تضمن ؛ لأنه دلالة على جزء الموضوع له بوضع آخر ، فتنخرم المطابقة بالتضمن لدخول هذا الفرد من التضمن فى المطابقة ، أو أطلق على الضوء لوضعه له كان مطابقة ، ويصدق عليه أنه إلتزام ؛ لأنه دلالة على لازم ما وضع له ؛ لأنه كان موضوعا للجرم الذى كان الضوء لازما له ، فينخرم حد المطابقة بالالتزام أيضا ، كما انخرم بالتضمن ، وكذا ينخرم كل من التضمن والالتزام بالآخر ، فإنه إذا أطلق على الجرم وفهم الضوء كان التزاما ، ويصدق عليه أنه تضمن ؛ لأنه فهم الجزء ، إذ الضوء كان جزءا من مجموع ما وضع له ، حيث فرض وضعه أيضا لمجموع القرص والضوء ، وإذا أطلق على المجموع وفهم الضوء فى ضمنه كان هذا الفهم تضمنا ؛ لأنه فهم الجزء ويصدق عليه أنه فهم اللازم لما وضع له ، لأنا فرضنا أنه موضوع للجرم أيضا والضوء لازمه ، فقد تبين أن المطابقة تنخرم بكل من التضمن والالتزام ، والالتزام والتضمن ينخرم كل منهما بالمطابقة ، وينخرم كل منهما بالآخر ، فتفسد حد كل بحد الآخر ، وأجيب بأن الأمور التى تصدق فى شيء واحد وتجتمع فيه حقائقها إنما تتميز فيه بحيثيات صادقة عليه تراعى تلك الحيثيات فى تعريفها ، ولكن مع ذكر ما يشعر بتلك الحيثيات ، وذلك كالمطابقة واللزوم والتضمن فإنها تجتمع فى دلالة الشمس مثلا على الضوء ، فهى مطابقة من حيث الوضع الموجود فيها ، وتضمن من حيث الجزئية الموجودة فيها والتزام من حيث اللزوم الموجود فيها ولكن باعتبارات مختلفة وإضافات مرعية بخلاف الأمور المختلفة المتباينة لذواتها لأمور لا تجتمع كالإنسان مع الفرس فإنهما لا يتصادقان لاختصاص الأول بالناطقية المباينة لذاتها للصاهلية المختصة بالثانى ، فلا يحتاج إلى الحيثيات فى تعاريفها لكفاية تلك المتباينات عن رعاية الحيثية فى تعاريفها ، وإنما تحتاج فى تعاريف الأمور المتصادقة المختلفة بالاعتبار ، فالحيثية مراعاة فى الحدود للأمور التى بتلك الصفة ، ويستغنى كثيرا عن ذكرها لإشعار اللفظ بها ، كما أشعرت الدلالة هاهنا ؛ حيث علقت فى كل تعريف بما يناسبها أنها من حيثيته ؛ لأن تعليق الشيء بما يناسبه يشعر بالعلية ، فالدلالة علقت فى حد المطابقة بالوضع ، ففهم أنها من جهته ؛ لأن الوضع معلوم أنه يكون سببا لها فكأنه قيل : هى دلالة اللفظ على تمام ما وضع له من حيث إنه وضع له ،


أى بسبب الوضع ، فإذا أطلق لفظ الشمس على الجرم لوضعه له أو على الضوء لوضعه له لم يرد أنه دلالة على الجزء اللازم ؛ لأن الدلالة من حيثية الوضع لا من حيث الجزئية واللزوم ، فلا تنخرم المطابقة بهما ، وعلقت فى حد التضمن بالجزئية المناسبة لكونها من حيثيتها وسببها للعلم بأن الجزء يفهم من الكل ، علقت فى حد الالتزام باللازم ففهم أنها من حيثية اللزوم وسببه للعلم بأن اللازم يفهم من فهم الملزوم ، فكأنه قيل : التضمن الدلالة على الجزء ، الحاصلة من حيث إنه جزء وبسبب كونه جزءا والالتزام الدلالة على اللازم من حيث إنه لازم وبسبب كونه لازما ، فإذا أطلق اللفظ على المجموع وفهم الجزء الذى هو الضوء لم يرد أنها مطابقة ؛ لأن الفهم من حيث الجزئية لا من حيث الوضع ، ولا أنها التزام لأنها من حيث الجزئية لا من حيث اللزوم ، وكذا إذا أطلق على الجرم وفهم الضوء لزوما لم يرد أنها مطابقة ؛ إذ ليست من حيث الوضع ، بل من حيث اللزوم ، ولا أنها تضمن ؛ إذ ليست من حيث الجزئية ، بل من حيث اللزوم ، فقد انفك كل حد عن الآخر بمراعاة الحيثية المستغنى عن ذكرها ، وذلك ظاهر ، ولا يستغنى فى دفع البحث عن مراعاة الحيثية المشار إليها فى كل حد بجعل الدلالة بالإرادة بناء على أن الدلالة الوضعية موقوفة على الإرادة الجارية على قانون الوضع ، بمعنى أن اللفظ المشترك الذى ورد البحث لسبب فرد من أفراده لا بد فى دلالته على أن يراد به المعنى الواحد مما وضع له لأنه إنما وضع ليراد به كل معنى على حدة ، فإذا شرط فى الدلالة أن يراد المعنى على قانون الوضع ، فإذا أطلق لفظ الشمس مثلا على الجرم وحده أو الضوء وحده وأريد به كل منهما على حدة لم ينخرم حد المطابقة فى هذا الإطلاق بحد التضمن والالتزام ؛ لأنها دلالة على ما وضع مرادا إرادة جارية على قانون الوضع بإرادة المعنى وحده ، ولا يصدق عليها أنها تضمن أو التزام ؛ لأنهما إنما يكونان بإرادة الكل أو الملزوم ، كما وضع اللفظ لهما فينتقل من الكل إلى الجزء ومن الملزوم إلى اللازم وكذا إذا أريد بلفظ الشمس المجموع على قانون الوضع وفهم الجزء أو ما هو لازم للجرم وهو الضوء لم يصدق عليهما حد المطابقة ؛ لأن الإرادة الجارية على قانون الوضع فى المطابقة لم توجد فيهما ، فلا ينخرم كل من حد المطابقة وحدهما بالآخر ، وإنما قلنا : لا


يستغنى فى دفع البحث بما ذكر ؛ لأن توقيف الدلالة على تلك الإرادة غير مسلم ؛ لأن الفهم من اللفظ كاف فى تحقق الدلالة من غير رعاية الإرادة ، وعلى تقدير تسليمه لا يغنى ذلك عن رعاية الحيثية ، حيث يراد البيان لأن الإحالة على الإرادة ، ولو كانت الدلالة تنتفى بانتفائهما على هذا ؛ إحالة على خفى ، فليفهم.

(وشرطه) أى : وشرط الالتزام ، بمعنى أن كون فهم اللازم دلالة الالتزام إنما يشترط فيه (اللزوم الذهنى) فقط لا لزومه خارجا أيضا ، فإنه لا يشترط ، ففهم البصر من العمى الذى هو عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا دلالة الالتزام ، مع أنه إنما يلازم فى الذهن فقط لا فى الخارج لتنافيهما ، كما أن فهم الزوجية من الأربعة اللازمة لها ذهنا وخارجا معا دلالة الالتزام ، والمراد باللزوم الذهنى هنا أن يكون المعنى الملزوم إذا حصل فى الذهن ترتب عليه حصول لازمه مطلق الترتب بأن يوجد ، ولو بعد التأمل فى القرائن والعلامات وليس المراد به أن يكون الملزوم كلما فهم فهم لازمه الذى هو اللزوم البين عند المناطقة ، ولا أن يكون إذا تصور الملزوم وتصور اللازم حكم بثبوت اللزوم بينهما ، فإنه لو أريد خصوص الأول أو الثانى خرج عن دلالة الالتزام هنا كثير من المجازات والكنايات وهى المفتقرة إلى مطلق التأمل فى القرائن ، وخرجت التى لا يحكم بالربط بين طرفيها عقلا بعد تصورهما ، وأيضا لو أريد ذلك لما تأتى الاختلاف فى الوضوح المبنى على دلالة الالتزام هنا ، كما يترتب على دلالة التضمن ؛ لأن اللازم إن كان بحيث يفهم متى فهم ملزومه أو كان بحيث يحكم باللزوم بينهما بعد التصور من غير توقف على تأمل أصلا لم يوجد خفاء ووضوح فى ذلك اللزوم ، وهو واضح ، وبعض الناس فهم من كلامهم أن المراد باللزوم الذهنى المشترط هنا اللزوم البين عند المناطقة فنازع فى اشتراطه ؛ لأن المشترط ـ كما تقدم ـ مطلق الترتيب ، ولو مع التأمل فى القرائن. ومما يدل على أن ليس المراد اللزوم البين المشترط فى دلالة الالتزام عند المناطقة قول المصنف : (و) يشترط فى دلالة الالتزام كون اللزوم ذهنيا ، لا بشرط كون الربط عقليا فقط ؛ سواء كان بينا أو لا ، بل يكون ذهنيا (ولو) كان الربط (ل) أجل (اعتقاد المخاطب) اللزوم بين ذلك الملزوم واللازم (ب) سبب إثبات (عرف) عام ذلك الربط


وهو أن يكون اللفظ يفهم منه أهل العرف لزوما بين معناه وبين معنى آخر كلفظ الأسد ، فإن أهل العرف العام قاطبة يفهمون من معناه لازما هو الجراءة والشجاعة ، ولو كان لا لزوم عقلا بين تلك الجثة والجراءة ، وقد يمثل له كما قيل بالطنين فى الأذن فإنه يفهم منه أهل العرف أن صاحب ذلك الطنين قد ذكر ، فيجوز أن يقال : " إن لفلان طنينا فى أذنه" ليفهم منه أنه مذكور ، وكالخلجان فى العين فإنه يلزمه عرفا لقاء الحبيب ، وفيه شيء ؛ لأن عرف هذا الفاهم لا يسلم أو لا يخلو من خصوص وفهم من قوله اعتقاد المخاطب أن المعتبر فى تحقق اللزوم ما عند المخاطب من الربط لا ما عند المتكلم ، وهو كذلك ، وإلا فربما خلا الخطاب عن الفائدة ، (أو) بسبب إثبات (غيره) ، أى : غير العرف العام ذلك الربط ، ويدخل فى غير العرف الخاص كالشرع كما يقال مثلا بلغ الماء قلتين والقلة من الماء مقدار منه مخصوص ليفهم منه لازمه فى عرف الشرع ، وهو أنه لا يحتمل الخبث أى لا يقبل التنجس بقليل النجاسة ويدخل فيه اصطلاح أرباب الصناعات كإطلاق التسلسل ليفهم منه البطلان اللازم له فى عرف أهل صنعة الكلام ، ولو كان لا يستلزم البطلان مطلقا عند الحكماء ، وإنما يستلزم بشرط الترتب ، وأما وجوده معيا فلا ، ويدخل فيه الربط لاعتقاد المخاطب لخصوصه كأن تقول لمخاطب يعتقد أن فلانا يؤذيه سكنى هذا البلد : اسكن هذا البلد ؛ قصدا لإفهامه الأمر بإذاية فلان ، ونحو هذا كثير كما تقدم فيمن اعتقد أن خلجان العين يدل على لقاء الحبيب ، فإذا أردت إفهامه هذا المعنى قلت : تختلج عينك ، وكذا إذا كان يعتقد أن أكل كف اليد يستلزم قبض الدراهم مثلا فتقول له : تأكلك يدك غدا قصدا لإفهامه قبض الدراهم إلى غير ذلك ، ويحتمل أن يراد بالعرف مطلقه ، كما هو ظاهر العبارة الشامل للخاص والعام ، ويراد لغيره الربط الحاصل باعتقاد المخاطب الخاص به للزوم تقرره عنده ، ولو بقرائن الأحوال ، وذلك ظاهر ، ثم ظاهر ما تقرر هنا أن دلالة المجاز من باب دلالة الالتزام ، وقيل : إنها مطابقة ، ويأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيق ذلك ، ولما بين أن هذا العلم به يعرف إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة ، وقد تقدم أن الدلالة اللفظية ثلاثة أقسام بين ما يتأتى به ذلك الإيراد من أقسام تلك الدلالات فقال :


(والإيراد المذكور) وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة (لا يتأتى) ، أى : لا يمكن حصوله (فى) الدلالة (الوضعية) أى : التى سميت فيما تقدم وضعية ، وهى المطابقة ، وإنما لم يتأت فيها ، (لأن السامع) وهو الذى يعتبر بالنسبة إليه الخفاء والوضوح غالبا (إذا كان عالما بوضع الألفاظ) أى : جميع الألفاظ التى تستعمل فى التراكيب التى يخاطب بها لإفهامه معنى من المعانى ، وكان عالما بمدلول هيئة التركيب بناء على وضع هيئة التركيب (لم يكن بعضها) أى : إن كان السامع عارفا بما ذكر لم يكن بعض الألفاظ التى تستعمل فى ذلك المعنى وبعض الهيئات (أوضح) فى دلالته على ذلك المعنى من بعض ضرورة تساويها فى العلم بالوضع المقتضى لفهم المعنى عند سماع الموضوع ، وإذا تساوت فلا يتأتى الاختلاف فى دلالتها وضوحا وخفاء ، (وإلا) أى : وإن لم يكن عارفا بوضع جميع تلك الألفاظ وهيئاتها إما بأن لا يعلم شيئا منها أصلا ، أو يعلم البعض دون البعض (لم يكن) أى : إن لم يعلم الجميع ، لم يكن (كل واحد) من الألفاظ وهيئاتها (دالا) على ذلك المعنى ، وما انتفت دلالته على ذلك المعنى منها لا يوصف بخفاء الدلالة ، ولا بوضوحها ، كما لا يوصف بهما من ثبتت دلالته مع العلم بالوضع السابق ، وإنما قلنا : إن لم يكن عالما بالوضع لم يدل ما لم يعلم وضعه على شيء بالنسبة لذلك السامع لما علم بالضرورة من توقف وجود الدلالة الوضعية على العلم بالوضع ، فإذا انتفى العلم بالوضع انتفت مثلا إذا قيل : خد فلان يشبه الورد ، وفرضنا أن السامع يعلم هذه الهيئة ويعلم موضوعات ألفاظها الإفرادية ، فهم المعنى منها بتمامه ، وإذا بدل له كل لفظ بمرادفه والهيئة المعلومة له بحالها كأن يقال وجنته تماثل الورد وهو عالم بوضع كل رديف كالأول فهم المعنى أيضا بتمامه من غير حاجة لتأمل كما لم يحتج أولا وكذا إذا قلنا فلان يشبه البحر فى السخاء وبدلنا كل لفظ برديف مساو فى العلم بالوضع لم يختلف الفهم أيضا ، فلا خفاء ولا وضوح فى الدلالة بخلاف ما إذا دللنا على معنى الكرم مثلا بمستلزمه كفلان مهزول الفصيل وجبان الكلب وكثير الرماد ، فإنه يجوز أن يكون استلزام بعض هذه المعانى لمعنى الكرم أوضح من بعض ، فتختلف الدلالة فيها وضوحا وخفاء كما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ فى الدلالة العقلية ،


فإن لم يعلم ببعض المرادفات من الألفاظ لم يحصل من ذلك البعض فهم أصلا فلا يتصور الخفاء والوضوح فى الفهم الذى هو الدلالة لانتفائه رأسا ، وإنما قال لم يكن كل واحد دالا ، ولم يقل لم يدل شيء منها أصلا ؛ لأن المراد بعلم السامع بوضع الألفاظ علمه بوضع جميعها كما تقدم ؛ لأنه لا يفهم المعنى المراد بتمامه إلا بفهم الجميع واللازم المحقق عن نفى دلالة كل واحد هو نفى دلالة الكل الصادق بنفى دلالة البعض ، وكل لفظ انتفت دلالته انتفى عنه الخفاء والوضوح ، وكل لفظ ثبتت دلالته انتفى عنه الخفاء والوضوح أيضا ، فالغرض حاصل بتقدير العموم فى الإثبات ومقابلته بما يصدق من النفى بالعموم أو الجزئية ، وأيضا لو قوبل بعموم السلب لم يحصل تناقض بين الإثبات العام الذى أراده أولا ، وبين النفى المقابل له فى قوله : وإلا فيتوهم أن الغرض لا يحصل وهو انتفاء الخفاء والوضوح فى الوضعية إلا إذا لم يعلم شيئا من وضع الألفاظ أو علم جميعها ، وليس كذلك لما أشرنا إليه من أن كل لفظ ثبت علم وضعه ، فلا خفاء فيه ولا وضوح ، وكذلك ما لم يثبت ، وورد على كون الدلالة الوضعية لا يتصور فيها الخفاء والوضوح أنا نجد فى أنفسنا ألفاظا محفوظة لدينا فى خزانة الخيال معلومة الوضع جميعا ، ومع ذلك يحضر لنا معنى بعضها بنفس الالتفات إلى معناه لكثرة ممارسة لمعناه أو لقرب العهد باستعماله فى معناه أو لقرب العهد بعلم وضعه ، وبعضها لا يحضر معناه إلا بعد التوقف ومراجعات الإحضار مرة بعد أخرى لطول العهد بعلم وضعه وعدم ممارسة استعماله فى معناه ، فقد تحقق الخفاء والوضوح فى دلالة المطابقة مع العلم بالوضع ، والدليل على العلم بالوضع فى الكل أنها لا تحتاج فى دلالتها إلى تفسير ، بل إلى تأمل وتوقف ، وأجيب بأن التوقف والمراجعة لطلب تذكر الوضع المنسى لا لخفاء الدلالة بعد العلم بالوضع بدليل أنا بنفس ما نتذكر الوضع نعلم المعنى من غير توقف ، وورد أيضا على ذلك أن التركيب الذى فيه التعقيد اللفظى لا يفهم معناه إلا بعد التأمل بعد العلم بجميع الألفاظ وضعا ، فقد تصور الخفاء والوضوح فى الألفاظ الوضعية بعد العلم بوضعها من غير طلب تذكر الوضع المنسى ، وأجيب بأن الهيئة مختلفة والكلام عند اتفاق الهيئة ؛ لأن لها دخلا فى الفهم الوضعى ، كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وورد أيضا


على ذلك اختلاف الحد والمحدود فى الدلالة ، فإن دلالة الحد أخفى عند تعرف المحدود لاحتياجها إلى استخراج الأجزاء وتمييز ألفاظها الدالة عليها تفصيلا مع العلم بالوضع فى الكل ، وكون الدلالة فى الكل مطابقة. وأجيب بأن المعنى مختلف إجمالا وتفصيلا ، والكلام عند اتحاد المعنى من كل وجه ؛ حتى لا يبقى إلا نفس الدلالة ، فإذا اختلف حينئذ تحقق ما ذكر ، وذلك موجود هنا ، وورد أيضا أن المعنى قد يخفى لنقصان لفظ ويبدو لزيادته مع العلم بوضع جميع الألفاظ. وأجيب بأن المعنى مختلف إن دل المزيد على معنى زائد على ما صرح به ، وإن كان تفسيرا فلعدم العلم بالوضع حينئذ ، وورد أيضا أن ذلك الوضع لا يشترط فيه القطع ، بل الظن كاف ، وهو قابل للشدة والضعف ، فيتأتى الاختلاف فى الوضعية باعتبار ذلك. ويجاب بأن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة باعتبار ظنون المخاطب مما لا ينضبط ولا يرتكب أصلا على أن تصور المعنى الموضوع له اللفظ يحصل مع كل ظن ، ولو كان ضعيفا فلم يختلف الموضوع وضوحا وخفاء ، وإنما اختلف كون ما فهم هل هو كذلك فى الوضع العربى أو لا ، والكلام فى تصور المعنى لا فى تحقق كون ما تصور منه هو الموضوع له أو لا ، فليتأمل.

(ويتأتى) الإيراد المذكور ، وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة (ب) الدلالة (العقلية) من تلك الدلالات الثلاث ، وتقدم أن العقلية هى دلالة اللفظ على جزء معناه ، وهى التضمن أو على لازمه وهى الالتزام ، وإنما تأتى إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة بالعقلية (لجواز أن تختلف مراتب اللزوم) أى لزوم الجزء للكل فى التضمن ولزوم اللازم للمزوم فى الالتزام ؛ ولذلك عبر بالزوم ليشمل التضمن والالتزام معا ؛ لأن فى كل منهما لزوم الفهم للفهم ، ولو أراد خصوص دلالة الالتزام لعبر باللازم (فى الوضوح) أى : يجوز أن يكون اللزوم فى مرتبة ، أى فى مادة أوضح منه فى أخرى ، وذلك بسبب كون العلاقة والربط بين المنتقل منه الذى هو الكل أو الملزوم وبين المنتقل إليه الذى هو الجزء أو اللازم خفية ، فتخفى دلالة لفظ المنتقل منه على الجزء المنتقل إليه أو واضحة ، فتظهر ، وسبب الوضوح فى دلالة الالتزام إما كون اللزوم ذهنيا بينا ، تستوى فيه العقول ، وإما قلة الوسائط مع ضميمة الاستعمال العربى


أو مع ضميمة ظهور القرينة جدا ؛ حتى كأنها المشهود ، وقد يكون الوضوح مع كثرة الوسائط عند ضميمة كثرة الاستعمال وسبب الخفاء ما يوجب الحاجة إلى مزيد التأمل ، وأكثر ما يكون ذلك عند كثرة الوسائط ، أما اختلاف مراتب اللزوم فى دلالة الالتزام بما ذكر من السبب فواضح ؛ لأنه إن استعمل لفظ اللازم لينتقل منه إلى الملزوم فيجوز أن يكون ثم لازم آخر أو أكثر يكون الانتقال منه إلى ذلك الملزوم أخفى من غيره كالوصف بالوجود ، فإن له لوازم : كالوصف بهزال الفصيل ، والوصف بجبن الكلب ، والوصف بكثرة الرماد. وليس الانتقال من هذه اللوازم إلى الملزوم الذى هو الاتصاف بالوجود مستويا ، فإن الانتقال من كثرة الرماد إليه أوضحها لكثرة الاستعمال ، ولو كثرت وسائطه على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد تقدم التمثيل بهذا وإنما صح الانتقال من اللازم إلى الملزوم مع أن اللازم قد يكون أعم من الملزوم ؛ لأن المراد باللازم هنا التابع الفرع ، والمراد بالملزوم المتبوع الذى هو الأصل ، فإن الوصف بالجود عنه تتفرع هذه الأشياء ، فيصح أن يكون هذا الذى سميناه لازما هنا ملزوما ، كما فى المثال ، لا اللازم الأعم ؛ إذ لا ينتقل منه ، وإن استعمل لفظ الملزوم لينتقل منه إلى اللازم فيجوز أن يكون ثم ملزوم آخر أو أكثر أيضا يكون الانتقال منه إلى ذلك اللازم أوضح ، فإن الحرارة لها ملزومات كالشمس والنار والحركة والانتقال من الملزوم ، الذى هو النار ، إليها أوضح ، كما لا يخفى. وأما اختلافها فى دلالة التضمن ؛ فلأن استعمال لفظ الكل لينتقل منه إلى الجزء أقرب من استعماله لينتقل منه إلى جزء جزئه فتكون دلالة اللفظ الموضوع للجزء الذى هو كل باعتبار جزء الجزء أقرب من دلالة لفظ الكل الأول عليه ، مثلا : دلالة الحيوان على الجسمية التى هى جزؤه أقرب من دلالة الإنسان عليه الذى معنى الجسمية جزء جزئه ؛ إذ هى جزء الحيوان والحيوان جزء الإنسان فتكون دلالة الإنسان على الجسمية أخفى من دلالة الحيوان عليه ، وكذا دلالة البيت على التراب أخفى من دلالة الجدار عليه ؛ لأن التراب جزء الجدار والجدار جزء البيت فتكون دلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة البيت عليه وورد على ما تقرر فى التضمن من أن الانتقال من الكل إلى الجزء ، ثم إلى جزء الجزء فتكون دلالة لفظ الكل على الجزء


أقرب من دلالته على جزء الجزء أن لفظ الكل كالإنسان مثلا إذا سمع وتوجه العقل إلى فهم المراد منه ، فأول ما يفهم منه الأجزاء الأصلية ، ومنها الجسمية ، ثم ينتقل إلى ما يجمع الجسمية مع سائر الأجزاء الأصلية ، وهو ما تكون الجسمية جزءا له ، الذى هو الحيوانية ، إلى ما يجمع تلك الحيوانية مع غيرها ، وهو ما تكون الحيوانية جزءا له ، وهو الإنسانية ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأنه إذا طلب فهم مدلول اللفظ وكان كلا وجب فهم أجزائه أولا ؛ لأن فهم الجزء سابق على فهم الكل ، فعلى هذا تكون دلالة لفظ الإنسان على الجسمية التى هى جزء الجزء أقرب من دلالته على الحيوانية التى هى جزؤه ؛ لأنها كل ، وفهم الجزء سابق على فهم الكل. وأجيب بأن الأمر عند قصدهم ما يراد من اللفظ كذلك ، لكن مقصود أهل الفن من دلالة التضمن أن يفهم الجزء على حدة ، ويلتفت إليه بخصوصه بعد فهم الكل لا فهمه فى ضمن الكل الذى يقتضيه كون الجزء سابقا على فهم الكل ، وإنما قلنا يقتضيه ؛ لأن إدراك الموضوع له أولا متوقف على تصور جميع أجزائه قبل تعريفه ، فإذا خوطب العارف بالوضع والفرض أنه سبق فهم جميع أجزاء الموضوع له فهم المجموع دفعة واحدة ، وفى ضمن ذلك فهم كل جزء ، والدليل على أنهم قصدوا أن يفهم الجزء بعد الكل بأن يلتفت إليه على حدة أنهم قالوا : دلالة التضمن تترتب على المطابقة ، وتنبنى عليها بأن ينتقل من المفهوم مطابقة إلى جزء من أجزائه ، وهذا لا يمكن إلا بما ذكر ، كما لا يخفى ، وغاية ما يعرض أن يقال : كيف يفهم الجزء ثانيا ، وقد فهم أولا فى ضمن الكل ، وأى ثمرة فى ذلك ، وأى انتقال هنالك.

ويجاب بأن هذا الاعتبار يظهر عند قصد إحضار الجزء على حدة لغرض من الأغراض ، فإن فهم الشيء على حدة خلاف فهمه مع الغير ، لا سيما وحضور الكل دون أجزائه ممكن ، كما نص عليه فى الشفاء ، وأنه يجوز أن يحضر النوع دون الجنس الذى هو جزؤه ، فيفتقر إلى الالتفات إليه فتظهر فائدة دلالة التضمن الكائنة بهذا الاعتبار.

وهكذا قررنا هذا المحل وبسطناه بهذا الإطناب ليتضح على عادتنا فى بسط مسائل الشرح والكتاب ، ويلزم عليه أن دلالة التضمن لا تلزم فى الألفاظ الموضوعة للمركبات ضرورة عدم لزوم الالتفات إلى جزء من الأجزاء على حدة لصحة الغفلة عن


ذلك الجزء ، وقد نصوا على أن التضمن فى المركبات لازم للمطابقة ، وقد يجاب عن هذا بأن المراد بلزوم التضمن صلاحية اللزوم بمعنى أنه يمكن اللزوم بالالتفات إلى الأجزاء على حدة ، ويلزم عليه أيضا أن يكون ذلك قد يبنى على جواز حضور الكل ، كالنوع دون جزئه الذى هو الجنس ، فتصير دلالة التضمن التزاما ضرورة أن حضور الكل من جميع أوجهه مقتض لحضور جميع الأجزاء ، فإذا لم تحضر جميع الأجزاء فلم يحضر من الكل الأوجه من أوجهه ، فالانتقال منه إلى وجه آخر انتقال من ملزوم إلى لازم فى التحقيق ، وإن كان جزءا لموضوع اللفظ فى الأصل ، وقد تقدم الجواب عن هذا بأن المقصود من التضمن هو فهم الجزء من موضوع اللفظ ، ومما أطلق عليه بأى وجه ، وفيه ضعف ؛ إذ لا يصدق أنه انتقل من الكل إلى الجزء ، بل من جهة الكل فى الجملة إلى الجزء ، وهو خلاف ظاهر الاصطلاح ـ فافهم ـ ثم إن مما يجب أن يعلم هنا أن دلالة التضمن فى هذا الفن ودلالة الالتزام يتعين أن يكون كل منهما مقصودا من اللفظ ، أما فى المجاز فيتعين أن يراد باللفظ نفس الجزء أو اللازم فقط بأن توجد القرينة الصارفة عن إرادة المعنى المطابقى على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وأما الكناية فيتعين أيضا أن يراد اللازم أو الجزء ، لكن مع صحة إرادة المعنى المطابقى بأن لا توجد قرينة مانعة من إرادته كما يأتى أيضا ، وأما إذا أطلق لفظ الكل أو الملزوم على معنى كل منها ، واتفق أن فهم من الأول جزؤه ومن الثانى لازمه فليس من المجاز ولا من الكناية المبنيين على التضمن والالتزام هنا ، فلا يكون ذلك من التضمن والالتزام المراد فى هذا الفن ، وإنما يكون كذلك عند المناطقة ، وحيث وجب فى التضمن والالتزام هنا قصد الدلالة على الجزء أو اللازم فعند قصد استعمال اللفظ فى أحدهما لا بد أن يلتفت المستعمل إلى التفصيل فى الأجزاء واللوازم ليستعمل فى أيها أراد.

ومعلوم أن أول ما يسبق إليه عند الالتفات إلى أحد أجزاء المعنى ولوازمه الأجزاء القريبة ، وهى الأجزاء الحقيقية دون أجزاء أجزائها واللوازم القريبة ، فإن استعمل اللفظ فى بعضها مع القرينة الصارفة أو مع القرينة المصححة لإرادة الأصل ، وكان ذلك البعض أو اللازم قريبا ، كان انتقال السامع من سماع اللفظ قريبا تبعا لقصد


المستعمل ، وإنما قلنا بوجود الانتقال ؛ لأنه كما انتقل المستعمل عند قصد التفصيل وإخراج اللوازم إلى الأقرب فالأقرب بعد تصور الأصل ، كذلك السامع أول ما يحتاج له الأصل باعتبار الدلالة الظاهرية لنفس اللفظ ، ثم يلتفت إلى فهم المراد باعتبار القرينة فيقرب عليه الفهم بقرب المراد ، ويبعد ببعده. فعلى هذا يكون الجواب عما تقدم أن يقال إنما يرد أن فهم الجزء سابق على فهم الكل ، فتكون الدلالة على جزء الجزء أقرب منها على الجزء إن أريد باللفظ معناه فيكون فهمه موقوفا على فهم أجزائه ، وأما إن أريد نفس الأجزاء بعد تحويله من مجموعه فكون الجزء أقرب ما يستعمل فيه اللفظ ، ويفهم منه عند الاستعمال دون جزء الجزء ظاهر ؛ إذ ليس فيه بهذا الاعتبار إلا طلب أقرب الأجزاء وأقرب اللوازم ليستعمل له اللفظ ، ويتبع ذلك سهولة الفهم على السامع ، بمعنى أن انتقال السامع إلى فهم الجزء من لفظ الأصل تبعا لإرادة المستعمل قريب أو طلب أبعدها ، فيتبع ذلك صعوبته على السامع فيصعب ، فليتأمل. فإنه من نفائس هذا المحل ، ويمكن تأويل الجواب السابق بهذا المعنى ، ثم ما ذكرنا فيما تقدم مما يقتضى أن الانتقال فى المفردات فى قولنا : زيد كثير الرماد ، ومهزول الفصيل ، وجبان الكلب ؛ لا ينافى ما تقدم من أن الانتقال لا بد معه من المطابقة لمقتضى الحال التى لا تكون إلا فى النسب التامة ؛ لأن تلك المفردات لا بد معها من نسبة تامة تصح فيها المطابقة ، وينبغى أن يعلم أن من سمى المجاز مطابقة أو الكناية كذلك لا يريد بذلك المطابقة التى تمنع من الاختلاف فى الدلالة ، وهى الأصلية ، كما ذكر المصنف ، وإنما يعنى ما يصح معه ما قررناه من صحة الاختلاف ، ومما ينظر فيه دلالة التركيب على مناسبة الخواص للمقامات : كدلالة اللفظ المؤكد فى مقام الإنكار على مناسبة التأكيد هل هى عقلية أو لا ، والصواب أنها عقلية وإلا لم تفتقر إلى الذوق ، وأنها من باب الكناية ؛ لأن اللفظ لم ينتقل للمناسبة.

(ثم اللفظ المراد به) أى : الذى أريد به (لازم ما) أى لازم المعنى الذى (وضع له) ذلك اللفظ ، وأراد باللازم هنا ما يلزم من وجود الشيء وجوده فى الجملة ليدخل


الجزء ؛ لأنه لازم للكل ، كما فى دلالة التضمن ، وغير الجزء وهو اللازم الخارج عن المعنى كما فى دلالة الالتزام.

(إن قامت قرينة) أى : إن وجدت ثم قرينة دالة (على عدم إرادته) أى : على أن المعنى الذى وضع له ذلك اللفظ لم يرد بذلك اللفظ (ف) ذلك اللفظ الذى أريد به اللازم دون الملزم لصرف القرينة (مجاز) أى : يسمى مجازا أخذا من جاز يجوز من الشيء إلى الشيء ؛ لأن ذلك اللفظ جعل مجازا يتجاوز منه إلى ذلك اللازم ، وذلك كقولك : رأيت أسدا بيده سيف. فقولك : بيده سيف ، قرينة دالة على أن الأسد لم يرد به ما وضع له ، وإنما أريد به لازمه المشهور ، وهو الشجاع ، وظاهره أن المجاز يراد به اللازم دائما ، وفيه بحث ؛ لأنه قد يكون اسم الجزء ويراد به الكل على ما سيأتى ، فإن مجاز الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها لا تردان إلى اللازم إلا بتكلف ، فإن الأسد أريد به الرجل الشجاع والمنية فى قول القائل : أنشبت المنية أظفارها بفلان ؛ أريد بها الأسد ادعاء ، وليس الرجل الشجاع لازما للأسد الحقيقى ، ولا الأسد الادعائى لازما لمدلول المنية ، وإنما يردان إلى اللازم باعتبار مطلق الجراءة فى الأول ومطلق اغتيال النفوس فى الثانى ، وهو تكلف مخرج للكلام عما تحقق فيه وتقرر من أن كلا من اللفظين له معنيان متعارف وغيره على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ثم لا يخفى كما بيناه أن وجود دلالة التضمن والالتزام فى المجاز الذى تقرر فيه ما بنى عليهما من وجود الخفاء والوضوح ليستا على معناهما المعلوم ، وهو أن يفهم من اللفظ جزء معناه أو لازمه فى ضمن إرادة الكل أو الملزوم ، ولكن هما كانتا منشأ استعمال المجاز ؛ وإنما قلنا ليستا كذلك ؛ لأن اللفظ الآن أريد به نفس الجزء أو اللازم ، واختلاف الدلالة فيه تقدم وجهها ، حيث أشرنا لهذا المعنى فيما مر ليتقرر فى الأذهان (وإلا) تقم قرينة على عدم إرادة ما وضع له بأن صح إرادة ما وضع له مع إرادة اللازم (ف) ذلك اللفظ المراد به اللازم مع صحة إرادة بالملزوم الذى وضع له اللفظ (كناية) أى : يسمى كناية من كنى عنه بكذا إذا لم يصرح باسمه ؛ لأنه لم يصرح باسم اللازم مع إرادته وقد تقدم أن اللازم هنا يشمل الجزء واللازم الخارج ، وذلك كقولك : فلان طويل النجاد ، مرادا به لازم طول النجاد ، وهو


طول القامة ، فإنه كناية ؛ إذ لا قرينة تمنع من إرادة طول النجاد مع طول القامة ، وقد تبين من كلام المصنف أنه سوى بين المجاز والكناية فى أن الانتقال فى كليهما فى الملزوم إلى اللازم وإنما فرق بينهما بوجود القرينة الصارفة فى المجاز عن إرادة الملزوم وعدم وجودها فى الكناية ، وعند السكاكى أن الانتقال فى الكناية من اللازم إلى الملزوم ، والمصنف يرى ـ كما يأتى ـ أن اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم ، فلا ينتقل منه إلى الملزوم ، إذ لا إشعار للأعم بالأخص ، وقد تقدم ما يفيد الجواب عن السكاكى ، وأن اللازم إنما ينتقل منه لا من حيث إنه لازم ، بل من حيث إنه ملزوم ، وإنما سماه لازما من حيث إنه تابع مستند إلى الغير ، وإلا فهو ملزوم من جهة المعنى ، ومما يقع فيه الالتباس الفرق بين الكناية وبين اللفظ الذى أريد به معناه الأصلى ليفهم به بعض لوازم معناه تضمنا والتزاما ، فإنه حقيقة قطعا ، والكناية عند المصنف ليست حقيقة ولا مجازا ، وعلى تقدير كونها حقيقة فمن الجائز أن يراد باللفظ حقيقته ، ويقصد مع ذلك إفهام ما يفهم منه ، كما يقول المناطقة فى دلالة التضمن والالتزام على وجه الكناية. وقد أجيب بأن الفرق بينهما أن الكناية إنما المقصود بها بالذات اللازم وإرادة الملزوم تبع ، والحقيقة إنما المقصود بها الملزوم وإرادة اللازم تبع ، ولو قال قائل بأنه كلما أريد اللازم مع الملزوم كان كناية ، وإنما يكون حقيقة إذا لم يرد اللازم فهم اتفاقا ما بعد ، لكن يعكر عليه ما ذكر بعض الفضلاء من أنك إذا قلت : وجهه كالبدر مثلا : فمدلوله المطابقى أن الوجه يشبه البدر فى الاستدارة والاستنارة ، وهو المراد مع إرادة لازم ذلك ، وهو أنه نهاية فى الحسن ، وليس من الكناية فى شيء ، ولصحة أن يراد فى التشبيه المعنى المطابقى وهو اتصاف المشبه بوجه الشبه على وجه الكمال أو لازمه صح وجود الخفاء والوضوح فيه مع أنه ليس من الكناية ولا من المجاز ، بل من المطابقة اتفاقا ، وعلى هذا ينبغى أن يجعل من الحقيقة أيضا فهم خواص التراكيب ومناسبتها لمقتضى الحال الذى تقدم التنبيه عليه ، فلا يكون من المجاز ولا من الكناية أيضا ، وكل ذلك مما يقدح فى حصر وجود دلالة الخفاء والوضوح فى التضمن والالتزام اللتين هما العقليتان وأصل للمجاز والكناية دون المطابقة تأمل ، ثم لما أراد الشروع فى أبواب الفن وهى


ثلاثة أراد أن يبين وجه ترتيبها وضعا ووجه كونها ثلاثة فقال : (و) لما تبين أن الإيراد المذكور الذى هو مرجع هذا الفن إنما يتأتى بالدلالة العقلية المنحصرة هنا فى دلالة المجاز والكناية انحصر المقصود من هذا الفن فى المجاز والكناية فهما مستويان فى الوصف بالقصد ، ولكن (قدم المجاز عليها) أى : على الكناية وضعا ؛ (لأن معناه) أى : لأن معنى المجاز (كجزء معناه) أى : كجزء معنى الكناية ؛ وذلك لأن معنى المجاز على ما تقدم هو اللازم فقط من حيث ذاته لا من حيث الإشعار بوصفه باللزوم ، وقد تقدم التمثيل له بما نبين به ما ذكر ، ومعنى الكناية يجوز أن يكون هو اللازم والملزوم معا من حيث ذاتهما أيضا ، ولو كان القصد الأصلى فيها اللازم على ما قررنا آنفا ، وإذا كان معناه كالجزء من معناها ، فالجزء مقدم طبعا على الكل لتوقف الكل على الجزء فى الوجود ، بمعنى أنه لا يوجد الكل إلا مع وجود طبيعة الجزء لا على وجه التأثير كتوقف المعلول على العلة ، والجزء يجوز أن يوجد بدون الكل لصحة كونه أعم ، ولما توقف الكل على الجزء بالوجه المذكور حكم العقل بأن الجزء من شأنه أن يتقدم فى نفس الأمر على الكل ، وذلك هو معنى التقدم الطبيعى ، أى من جهة الذات ونفس الحقيقية التى هى الطبيعة لتركب الكل من حقيقة الجزء وطبيعته بخلاف تقدم العلة بلا تأثير ؛ فلا يسمى تقدمها طبيعيا بهذا الاعتبار ناسب أن يقدم وضعا محاكاة للطبع بالوضع ، ولم يقل معناه نفس جزء معناها جزما ؛ لأن الكناية لا يراد بها اللازم والملزوم على وجه الجزم ، وإنما المجزوم به فيها إرادة اللازم ، وأما الملزوم فيجوز أن يراد لا أنه أريد قطعا ؛ ولذلك قلنا : يجوز أن يكون معناها اللازم والملزوم معا ، ولم يعتبر وقوع هذا الجائز فى بعض الأحيان حتى يكون جزء حقيقة ؛ لأن الكناية من حيث هى كناية لا تقتضى إرادتهما ؛ فلم يعتبر ما يعرض من وقوع ذلك الجائز ، ثم أشار إلى وجه زيادة باب آخر ثالث وإلى وجه تقديمه على البابين ، فقال : (ثم) لما انحصر المقصود من هذا الفن فى بابا المجاز والكناية ، قد استحق المجاز التقديم وضعا لما ذكر ، وكان (منه) أى : من المجاز (ما يبنى على التشبيه) وهو الاستعارة بقسميها ، أعنى


التحقيقية والمكنى عنها ، ويأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ تفسيرهما ، وذلك لأن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة فى التشبيه وإدخال المشبه فى جنس المشبه به.

وجب ضم التشبيه لهذا الفن لنوقف باب منه عليه ، (فتعين التعرض له) أى : للتشبيه المتوقف عليه على أنه باب زائد على البابين قبل التعرض للمجاز ؛ لأن المتوقف عليه متقدم على المتوقف طبعا إن لم يكن للتأثير كما تقدم فى توقف الكل على الجزء ، وإنما قدم على جميع المجاز مع أن المتوقف على التشبيه قسم منه ، وهو الاستعارة لينضم غير المتوقف ، وهو المجاز المرسل ، لما يشاكله فى المجاز ، ولما توقف قسم منه وهو ملابس للقسم الآخر صار توقفه كتوقف القسم الآخر ، نعم يرد أن يقال التشبيه على هذا ليس من مقاصد الفن بل من وسائله ؛ فكيف عد بابا ، ولم لم يجعل مقدمة للمجاز ، فإن التوقف عليه الموجب للتعرض له لا يوجب جعله بابا مستقلا.

والجواب أن كثرة أبحاثه وجموع فوائده أوجب جعله بابا مستقلا ، وعلى هذا فهو مقدمة فى المعنى ؛ وإنما جعل بابا تشبيها له بالمقصود فى كثرة الأبحاث ، وقيل : إنه باب مستقل لذاته ؛ لأن الاختلاف فى وضوح الدلالة وخفائها موجود فيه كما تقدم فهو من هذا الفن قصدا ، ولو توقف عليه بعض أبوابه ؛ لأن توقف بعض الأبواب على بعض لا يوجب كون المتوقف مقدمة للفن وعروض وجه تقديمه على المجاز بمثل ما قرر فى تقديم المجاز على الكناية ؛ لأن التشبيه مشتمل على الطرفين معا ، والاستعارة معناها أحد الطرفين فهى له كالجزء من الكل ، لكن رجحت فى التقديم علة التوقف ؛ لأنها أنفع فى الإدراك والتعليل الآخر مناسبة تمليحية فقط ، (فقد انحصر) علم البيان على ما ذكرنا (فى) الأبواب (الثلاثة) لانحصار المقصود منه على ما يتوقف عليه البعض منه فيها ، وهى : التشبيه ، والمجاز ، والكناية وقيل : إنها أربعة : الاستعارة ، والتشبيه الذى تتوقف هى عليه وجرت له كالجزء ، والمجاز المرسل ، والكناية التى جرت لها المرسل كالجزء من الكل ، والخطب فى مثل هذا سهل ، وبالله تعالى التوفيق.


التشبيه

الخلاف فى الإظهار أقوى من إرادته فى الإضمار ؛ ولذلك أعاد التشبيه بلفظ الإظهار (الدلالة) أى : التشبيه هو الدلالة ، وهى فى الأصل مأخوذة من دللته على كذا إذا هديته له وأريته إياه ، ومنه الدلالة على الطريق ، والمراد به هنا أن يأتى المتكلم بما يدل (على مشاركة أمر لأمر فى معنى) ، الأمر الأول المشبه ، والأمر الثانى المشبه به ، والمعنى هو وجه الشبه ، كقولك : زيد كالأسد فى الشجاعة ، فقد دللت على مشاركة زيد للأسد فى الشجاعة ، وبهذا التفسير تكون وصفا للمتكلم ، وتطابق التشبيه الذى هو وصف المتكلم ، وهذا الذى فسر به التشبيه يشمل بظاهره ، مثل قول القائل : قاتل زيد عمرا ، وجاء زيد وعمرو ، فإن الأول يدل على مشاركة زيد عمرا فى المقاتلة ، والثانى يدل على مشاركته إياه فى المجيء ، ولكن إنما يشمل نحو المثالين إن لم نشترط فى الدلالة بالصراحة والقصد ، وهو الظاهر ؛ لأن دلالة اللزوم معتبرة والقصد غير مشروط على الأصح فى الدلالة مطلقا ، وإلا لم يشملها ؛ لأن مدلول الأول صراحة وجود المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو ، ويلزم من ذلك مشاركتهما فيها ، ومدلول الثانى صراحة وجود المجيء لزيد ووجوده لعمرو ، ويلزم من ذلك أيضا مشاركتهما فى المجيء ، والمتكلم قد يقصد وقوع المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو غافلا من مشاركتهما فيها ، وقد يقصد وقوع المجيء من كل واحد منهما غافلا عن المشاركة فيه أيضا ، ولو كانت المشاركة لازمة لكلا مدلولى التركيبين فعلى شرط كون الدلالة صريحة لا يشملها ، وكذا على شرط قصدنا ، والغرض غفلته عنها ، فإن قصدها على هذا التزمنا كونهما تشبيها فلا يرد الاعتراض ، ولأجل ورود الاعتراض بشمول نحو المثالين مع أنهما ليسا منه بناء على ما تقدم زاد فى التعريف لإخراج ذلك بكاف ونحوها ، إذ لم توجد فيهما ، وقد يدعى خروج نحو المثالين بما تقرر فيما يأتى من أن المعنى المشترك فيه فى التشبيه يجب أن يكون له نوع خصوصية ، والمجيء والتقاتل ليسا كذلك لعمومهما ، ولكن شرط الخصوصية فى الوجه إنما هو فى حسن التشبيه لا فى مطلقه ، على أن الاتكال فى التعريف على أمر خارج عنه ليس من دأب التعريف ، فالجواب هو ما تقدم ، ثم التشبيه المفسر بما ذكر هو


مطلق التشبيه الشامل للاستعارة والتجريد ، كما تقدم ، وليس ذلك مرادا فى الاصطلاح ، (و) إنما (المراد) بالتشبيه فى الاصطلاح (ههنا) يعنى فى علم البيان (ما) أى : الدلالة على المشاركة المذكورة بشرط أن معنى تلك الدلالة المفادة بالكلام (لم تكن على وجه الاستعارة التحقيقية) ، فإن كان معنى تلك الدلالة على وجه الاستعارة المذكورة بأن يطوى ذكر المشبه ، ويذكر لفظ المشبه به مع قرينة دلت على إرادة المشبه بذلك اللفظ لم يكن تشبيها فى الاصطلاح ، وذلك كقولك : رأيت أسدا فى الحمام ، (ولا) كان (على وجه الاستعارة بالكناية) ، وهى عند المصنف إضمار التشبيه فى النفس ، وعند غيره نفس لفظ المشبه المستعمل فى المشبه به ادعاء ، وعلى الأول يكون التمثيل لها بقول القائل : أنشبت المنية أظفارها بفلان ، تمثيلا لما تستفاد منه ، وعلى الثانى يكون تمثيلا لما وجدت فيه ، (ولا) كان (على وجه التجريد) المذكور فى علم البديع ، وهو أن يبالغ فى تشبيه الشيء ، حتى يصير المشبه بحيث يكون أصلا تتفرع عنه وتنفصل عنه وبسببه أفراد المشبه به كقولك : لقيت بزيد أسدا ، ولقينى منه أسد ؛ وإنما خرجت هذه الثلاثة ، أعنى الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها والتجريد مع اشتمالها كما يظهر من معناها ؛ نظرا لأصله على مشاركة أمر لأمر فى وجه ؛ لأنه لا يسمى تشبيها فى الاصطلاح إلا ما كان بالأداة لفظا أو تقديرا كما تقدم ، وسيشير إليه ، وقيد الاستعارة بالتحقيقية والمكنى عنها لنخرج التخييلية ؛ لأنها حقيقة عند المصنف ، فلفظ الأظفار مثلا عند المصنف التى أثبتها تخييل أريد به معناه حقيقة وليس مجازا أصلا ، وإنما التجوز فى نسبتها إلى المنية على ما يأتى ، ومثلنا للتجريد بما يكون فيه تجريد المشبه به من المشبه ليخرج ما فيه تجريد الشيء من نفسه كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) فلا يقدر فيه التشبيه وإخراج التجريد إنما هو بناء على أنه لا يسمى تشبيها اصطلاحا ، وهو الأقرب ؛ إذ لم يذكر فيه الطرفان على وجه ينبئ عن التشبيه ، وقيل : إنه تشبيه حقيقة لذكر الطرفين ، فيمكن التحويل فيهما إلى هيئة التشبيه لو لا قصد التجريد ، وعليه فلا يحتاج لإخراجه ، فالتشبيه الاصطلاحى على هذا هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى لا على وجه

__________________

(١) فصلت : ٢٨.


الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها والتجريد ، وذلك بأن يكون بالكاف ونحوها لفظا أو تقديرا ، (فدخل فيه) ما ذكرت فيه أداة التشبيه من الكاف ونحوها ، كقولك : زيد كالأسد ، أو مثله ، ودخل فيه ما لم تذكر فيه أداة التشبيه ، وذلك (نحو قولنا : زيد أسد) بخلاف تلك الأداة ، لكن مع ذكر الطرفين معا ، (و) دخل فيه ما حذف فيه الأداة والمشبه نحو : (قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(١)) فقد حذفت فيه الأداة والمشبه معا ؛ إذ الأصل : هم كصم الخ ، فحذف" هم" الذى هو المشبه والكاف ، وهذا بناء على أن ما حذفت فيه الأداة من التشبيه البليغ ، وهو مذهب المحققين ؛ لأن التركيب يشعر بالتشبيه ، إذ لا يصح الحمل إلا بتقدير الأداة ؛ وأنه ليس من الاستعارة ؛ إذ الاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له بالكلية ، ويجعل الكلام الذى حذف فيه لفظ المستعار له خاليا عن ذكر المستعار له صالحا لأن يراد به المنقول عنه ، وهو المستعار منه ، دون المنقول إليه ، وهو المستعار له لو لا القرينة الحالية ، كقولنا : رأيت الأسد الآن فى موضع لا يرى فيه الأسد الحقيقى ، فإن هذا الكلام لو لا القرينة الحالية وجب حمل الأسد على ما تتعين إرادته على الراجح ، وهو الأسد الحقيقى أو قرينة الفحوى ، وهى القرينة اللفظية كقولنا : رأيت أسدا فى يده سيف ، فلو لا فى يده سيف تعينت إرادة ما يحمل عليه اللفظ وهو الأسد الحقيقى ؛ وإنما سميت فحوى ؛ لأن الفحوى فى الأصل ما يفهم من الكلام على وجه القوة ، والذى يفهم من القرينة اللفظية فهم من بعض أجزاء الكلام على وجه القوة ؛ وإنما قلنا : صالحا لأن يراد المنقول عنه دون المنقول له ، ولم نقل : صالحا لأن يراد هذا أو هذا ؛ لأن إرادة المنقول له ـ ولو صح عقلا أو نقلا باعتبار قصد الإفهام بناء على جواز المجاز بلا قرينة ـ خارجة عن الإرادة المعتبرة على الراجح ، فبنينا الكلام على الراجح ، وأما إذا بنينا على أن ما حذفت فيه الأداة كقولك : زيد أسد من الاستعارة بناء على أن حمل الأسدية على زيد لا يصح إلا بإدخاله فى جنس الأسد المعلوم ، كما فى الاستعارة ، فلا يدخل فى التشبيه وهو ظاهر.

__________________

(١) البقرة : ١٨.


أركان التشبيه

(والنظر) أى : البحث (ههنا) أعنى فى هذا الباب الذى هو باب التشبيه المصطلح عليه (فى أركانه) أى : فى أركان التشبيه المصطلح عليه ، إذ هو له كما تقدم ، وإطلاق النظر على البحث توسعا واضح ؛ لأن البحث إنما يقع عن النظر والتأمل فى أحوال المنظور فيه ، ويحتمل أن يراد بالنظر معناه لاستلزامه البحث فى المنظور فيه إذا أريد بالنظر توجيه العقل لأحوال المنظور ، وأريد بالبحث إثبات ما اقتضى النظر إثباته ، ونفى ما اقتضى نفيه ، وأما إن أريد بالبحث التأمل فى أحواله اتحد هو والنظر حينئذ ، (و) الأركان هى المقصود بالتأمل هنا (هى) أربعة : اثنان من تلك الأربعة (طرفاه) وهما المشبه والمتشبه به ، (و) ثالثها (وجهه) وهو المشترك الجامع بين الطرفين ، (و) رابعها (أداته) الدالة على التشبيه كالكاف وشبهه ، (و) النظر أيضا إنما هو زيادة على النظر فى الأركان (فى الغرض منه) الحامل على إيجاده ، (وفى أقسامه) أى أقسام التشبيه الحاصلة بكونه تشبيه مفرد بمفرد أو مركب بمفرد أو مركب بمركب ، وبكونه ملفوفا أو مجموعا أو مفروقا أو بغير ذلك ، والأقرب أن المراد بالطرفين وبالوجه معنى كل واحد منهما لا اللفظ الدال عليه ؛ لأن المشترك فيه فى الحقيقة هو معنى الجامع لا لفظه والمشتركان فيه هما معنيا الطرفين لا لفظهما ، وأما الأداة فالأقرب أن المراد بها اللفظ بدليل التمثيل بالكاف وشبهها ، ويردها هنا أن يقال : لم سمى هذه الأربعة أركانا للتشبيه ، وركن الشيء جزء حقيقته ، وليست هذه الأشياء أجزاء حقيقة التشبيه ضرورة أن معنى المشبه والمشبه به اللذين هما مثلا ذات زيد والأسد فى قولنا : زيد كالأسد فى الشجاعة ليس نفس التشبيه ، بل متعلقان له ؛ لأن الجزء الداخل فى الماهية لا بد أن يصدق عليها ، وكذا الوجه الذى هو الشجاعة فى المثال والأداة التى هى الكاف ؛ إذ لا يخفى أن واحدا لا يصدق على التشبيه ، وأما ذكر هذه الأشياء فى تعريفه فليس على وجه كونها أجزاء المعرف ، بل ذكرها لتقييد المعرف به بها ، نظير ذلك البصر فى تعريف العمى ؛ حيث يقال : هو عدم البصر عما من شأنه الإبصار ، فالبصر للتقييد لا جزء للعمى ؛ إذ ليس هو عدم وبصر ، ونظيره قولهم فى البيع : هو نقل ملك المعقود عليه لأحد المتعاقدين عوضا


عن نقل ملك مقابله للآخر ، فليست هذه أجزاء حقيقة البيع ، ولو كانت تسمى أركانا تجوزا أيضا ، فيرد عليها ما ورد على هذا ، ولا يقال : لم لا تكون أجزاء مادية كاليد والرجل من الإنسان فتكون أركانا باعتبار أنها أجزاء أفراد الحقيقة ، وذلك أن الأفراد الخارجية للتشبيه لا تخلو من هذه الأجزاء كما لا تخلو أفراد حقيقة الإنسان من الأجزاء المادية من يد ورجل ورأس وغير ذلك من مشخصات حقيقة الإنسان ؛ لأنا نقول : فرد التشبيه الخارجى الذى هو الدلالة الواقعة من هذا الشخص الخاص مثلا ليست هذه أجزاءه المادية ، بل متعلقاته كحقيقته ، وعلى تقدير تسليمه ، فالذى توقف عليه الوقوع الخارجى هو الألفاظ ، وقد تقدم أن المراد بالأركان المعانى إلا فى الأداة نعم يمكن جعلها أجزاء مادية إن أطلق التشبيه على نفس الكلام ، وأريد بالأركان الألفاظ ، ولكن المعرف هو المعنى كما دل عليه ما تقدم.

وأجيب عن هذا البحث بتسليمه وأن تسميتها أركانا توسع باعتبار ذكرها فى تعريفه وإن لم تذكر على أنها أجزاء المعرف ، بل على أنها متعلقة له لتقييده بها ، فأشبهت حيث توقف التعريف عليها أجزاء المحدود الصادقة عليه أو باعتبار أن التشبيه قد يطلق على نفس الكلام المشتمل على ألفاظ هذه الأركان ، فلما كانت تلك الألفاظ أجزاء الكلام المادية له فصارت لتوقف المفرد عليها فى الوجود كما توقف الفهم عليها باعتبار التعلق كالأركان للحقيقة العقلية التى تصدق عليها سميت أركانا للتشبيه الصادق على الكلام فى الجملة ، وقد تقدمت الإشارة إلى معنى هذا الوجه فى أثناء البحث فليتأمل.

طرفا التشبيه

ولما كان الطرفان من هذه الأركان هما الأصل والعمدة لقوتهما فى التركيب وفى الخارج ، أما قوتهما على الوجه فلأنهما معروضان للوجه القائم بهما ، والمعروض أقوى من العارض ؛ لأنه موصوف والوصف تابعه ؛ ولأنه لا بد من ذكرهما أو أحدهما بخلاف الوجه ، وأما قوتهما على الأداة فظاهر لأنها آلة لبيان التشبيه ، وكثيرا ما يستغنى عنها فى التركيب ، قدم البحث عنهما فقال : (طرفاه) اللذان هما المشبه والمشبه به ينقسمان إلى أقسام ؛ لأنهما :


طرفا التشبيه حسيان

(إما حسيان) كأن يدركا بإحدى الحواس الخمس ، وهى : البصر ، والسمع ، والشم ، والذوق ، واللمس ، وسيأتى مقابل هذا ، ثم شرع فى تقسيم الحسيين فقال : فالمحسوسات بحاسة البصر (كالخد والورد) ؛ حيث شبه الأول بالثانى فى الحمرة ، والمراد بكون حقيقة الخد وحقيقة الورد حسيين أن جزئيات كل منهما محسوسة ، وكذا ما سواهما ، وهذا على مذهب المتكلمين من أن الأجرام تدرك بحاسة البصر ، وادعى فيه بعض المحققين الضرورة ، وأما على مذهب الحكماء من أن المدرك هو اللون فكونهما حسيين باعتبار ما جرى عليه اللسان عرفا ؛ حيث يقال : أبصرت الخد والورد ، فبذلك العرف أطلق عليهما أنهما حسيان ، وعلى كل حال فلا حاجة إلى تقدير اللون لكون محل التشبيه فيهما لحظة تشبيه نفس كل منهما بالآخر ، وانصراف النفس إلى ذلك عند السماع مع إطلاق اللفظ عرفا ، فلا يفتقر إلى التأويل ، (و) المحسوسات بحاسة السمع ك (لصوت الضعيف والهمس) حيث يشبه الأول بالثانى منهما ، والمراد بالضعيف ضعيف مخصوص ، وهو الذى لا يبلغ إلى حد الهمس ، والهمس هو الصوت الذى أخفى حتى لا يكاد يسمع ، فكأنه لم يخرج عن فضاء الفم أى : سعة الفم ووسطه ؛ وإنما قلنا المراد بالضعيف إلخ ؛ لأنه لو أريد مطلق الضعيف الصادق بالهمس لكان من تشبيه الأعم بالأخص ، ولا يصح بدون التعسف ، (و) المحسوسات بحاسة الشم ك (النكهة) ، وهى ريح الفم ، (و) ريح (العنبر) ؛ حيث شبه الأول بالثانى منهما ، وإنما قدرنا ريح العنبر ؛ لأن المشبه به ريح الفم الذى هو النكهة إنما هو ريح العنبر قطعا فى الاستطابة لا نفسه ، كما لا يخفى إذ لو شبه بالعنبر لم يتم إلا باعتبار ريحه جزما ، فيعود إلى ذلك المقدر ، (و) المحسوسات بحاسة الذوق ك (الريق) ، وهو ماء الفم ، (والخمر) حيث شبه الأول بالثانى منهما ، وهو أيضا بناء على أن الجرم المدرك طعمه بالذوق أدركت جرميته وخاصتها بالذوق أيضا ، وإلا فالمدرك بحاسة الذوق إنما هو الطعم ، فإطلاق كون الريق والخمر حسيين مراعاة لما جرى به عرف التخاطب ، ولا حاجة أيضا إلى جعل التشبيه بطعميهما ، فيقدر مضاف إليهما لتمام التشبيه فى أنفسهما مع صحة إطلاق الإحساس


عليهما عرفا ، كما تقدم فى الخد والورد ، (و) المحسوسات بحاسة اللمس ك (الجلد الناعم والحرير) ؛ حيث شبه الأول بالثانى ، وهذا بناء أيضا على إدراكهما مع إدراك لينهما باللمس ، وإلا فعند الحكماء إنما يدرك اللين ، فإطلاق الإحساس عليهما نظرا للعرف ، ولا حاجة أيضا إلى تقدير اللين ليقع التشبيه فيه لتمامه فيهما مع صحة الإطلاق عليهما عرفا ، وقد علم مما قررنا أن كون الطرفين حسيين فى غير النكهة على مذهب الحكماء إنما هو على وجه التوسع والإطلاق العرفى ، حيث يقال : أبصرت الورد ، وشممت العنبر ، وذقت الخمر ، ولمست الحرير. وأما على مذهب غيرهم وإياه اعتمد المصنف فالكلام على ظاهره من غير توسع ، وذلك واضح.

طرفا التشبيه عقليان

(أو عقليان) هذا مقابل قوله : إما حسيان يعنى أن الطرفين إما أن يكونا حسيين ، ـ كما تقدم ـ وإما أن يكونا عقليين بأن لا تدرك مفرداتهما بالحس ، بل بالعقل ، وذلك (كالعلم) ، فإنهما ليسا حسيين وإنما يدركان بالعقل ، فإذا قيل العلم كالحياة والجهل كالموت فقد شبه معقول بمعقول ، ووجه الشبه بين الأولين كون كل منهما جهتى إدراك ، وبين الثانيين كونهما ليسا جهة إدراك ، ولا يقال : العلم نفس الإدراك ، فكيف يجعل جهته لأنا نقول المراد بالعلم هنا الملكة وهى حالة بسيطة ، أعنى قوة تحصل من ممارسة فن من الفنون بحيث يكون صاحبها يمكنه إدراك أحكام جزئيات ذلك الفن ، وإحضار أحكامها عند ورودها كالملكة الفقهية فإنها قوة يمكن لعارف أصوله ودلائله أن يعرف حكم أى جزء من جزئياته فيعرف حكم هذا الفعل المخصوص مثلا عند إرادة ذلك الحكم ، وأنه حرام أو مكروه أو مباح أو مندوب ؛ وإنما قلنا : بسيطة ؛ لأنها ليست هيئة حاصلة من عدة أمور لا تتصور إلا باعتبارها ، ولا نسبية يتوقف تعقلها على تعقل غيرها ، ولا شك أن العلم إذا أريد به هذا المعنى كان جهة للإدراك لا نفسه وقد تقدمت الإشارة لهذا المعنى ، وكذلك الجهل هو ملكة مانعة من الإدراك ، ولو جعل وجه الشبه بين العلم والحياة حصول الانتفاع والآثار والمآثر الحسية والمعنوية كان صحيحا أيضا ، وكذا إذا جعل الوجه بين الجهل والموت عكس ذلك وأما


جعل وجه الشبه بين العلم والحياة كون العلم إدراكا وكون الحياة معها إدراك فيكون الوجه على هذا داخلا فى حقيقة العلم ، فلا يتم بل لا يصح لوجهين أحدهما أن وجه الشبه لا بد أن يقوم بالطرفين معا والحال القائم بالعلم ، وهو كونه إدراكا لم يقم بالحياة ، وإنما وجد معها فى محل واحد ، والثانى أنه على تقدير التأويل وجعل المشترك فيه ملابسة الإدراك فى الجملة يكون المعنى أن العلم ملابس لمطلق الإدراك كما أن الحياة ملابسة لمطلق الإدراك فيكون التشبيه على هذا عديم الفائدة المقصودة ، وهى إظهار شرف العلم ؛ لأن وجود مطلق الإدراك لا شرف فيه قطعا ، إذ مطلق التمييز لا يمدح به جزما فإنا لو قلنا العلم كالإحساس فى مطلق الإدراك كان حطا لمرتبة العلم وغضا لمعناه ، وإنما قلنا : مقتضى التشبيه على هذا وجود مطلق الإدراك ؛ لأن الحياة إنما مقتضاها مطلق الإحساس ، فإن أريد ما يأتى من قبلها من حيث إنها شرط فيه وهو الإدراك التام عاد إلى الأول ، فإن قيل : فعلى الأول المختار يكون المعنى أن العلم الذى هو ملكة هو جهة الإدراك كالحياة فى كونها جهة له ، وليس فى ذلك ما يدل على الإدراك التام العام الذى يتحقق به الشرف. قلنا : المقام يقتضى قصر الإدراك العام التام والحياة جهة له ، فألحق بها العلم الذى هو الملكة ، فإن قيل : إلحاق العلم بالحياة فى ذلك إلحاق للأكمل بالأنقص ، فلا يفيد الغرض من مدحه ، بل العكس ، وبيانه أن الحياة شرط فى الإدراك ، والملكة سبب أو كالسبب المحصل له ؛ فالإدراك أقرب للعلم منه للحياة ، فالواجب أن يكون الوجه الانتفاع التام والشرف لا كون كل جهة إدراك ، قلنا : كون الحياة جهة الإدراك أشهر عند النفوس ؛ لأنها أشد ما يحتاج إليه فيه ؛ لأن بانتفائها ينعدم رأسا ، وبتلك الشهرة والحاجة إليها عدت أقوى من غيرها فى ملابسة الإدراك من جهة كونها جهة له ، وهذا أمر ذوقى ، والحق أن جعل الوجه حصول الآثار والانتفاع أولى. من هذا لا يقال : الآثار فى العالم أقوى ، والانتفاعات منه أكثر من مطلق الحى ، فيعود التشبيه معكوسا ؛ لأنا نقول : آثار الحى وانتفاعه أول ما يسبق إلى البديهة لعمومها وظهورها فى مقابلة الميت بخلاف العالم ففيها باعتباره خفاء ما ، وإن كانت فيه أتم باعتبار الحى


الجاهل ، وهذا أمر ذوقى ، ثم ظهور الآثار فى الحى أقوى من ظهور الإدراك فيه ، ولذلك اخترنا كون الوجه الآثار والانتفاع ، فليتأمل.

(أو مختلفان) هذا مقابل كل من القسمين السابقين ، يعنى أن الطرفين إما حسيان معا وإما عقليان معا ، وإما مختلفان بأن يكون أحدهما حسيا ويكون الآخر عقليا ، وتقدم معنى الحسى والعقلى هنا ، وأن الأول هو ما تدرك جزئياته بإحدى الحواس الخمس ، والثانى ما يدرك بمجرد العقل ، وإذا اختلف الطرفان فالعقلى إما أن يكون هو المشبه ، والحسى هو المشبه به (كالمنية والسبع) ، حيث شبهت به ، فإن المنية وهى الموت عقلية ؛ إذ هى عدم الحياة عمن اتصف بها وأما نفيها عما من شأنه أن يتصف بها ولو لم يتصف بها بالفعل كنفيها عن الحيوان قبل وجوده ، فالأقرب أن تسمية ذلك النفى موتا توسع ، ولو كان شائعا كوصف الأرض بالموت عند ذهاب خضرتها ، ولا شك أن هذا العدم أمر عقلى لا يدرك بالحواس ، والسبع حسى لشهوده بالعين ، فالمشبه حينئذ ـ وهو المنية ـ عقلى ، والمشبه به حسى ، وإما أن يكون العقلى هو المشبه به والحسى هو المشبه ، (و) ذلك (كالعطر وخلق) رجل (كريم) ؛ حيث شبه الأول بالثانى ، فإن العطر وهو ما يتعطر به من كل طيب الرائحة كالمسك والعود الهندى لا شك أنه حسى لشهوده إن قصد كون ذاته مشبهة وإن قصد كون رائحته مشبهة فهى محسوسة بالشم أيضا ، وخلق الرجل الكريم ، وهى كيفية نفسانية ، أى : راسخة فى النفس ، تصدر عنها الأفعال الاختيارية الممدوح بها بسهولة بحيث لا يتكلف فى إيجاد تلك الأفعال كالإعطاء والصفح عن الزلة ومقابلة الإساءة بالإحسان عقلى ضرورة عدم إدراكه بغير العقل ، فأما تشبيه العقلى بالحسى كما فى المثال الأول فواضح ؛ لأن الحسى أقرب إلى الإدراك وأحق بظهور الوجه فيه وشهرته به ، فهو الأحق أن يشبه به العقلى الذى ليس فى تلك المنزلة فى وجه الشبه ، وأما تشبيه الحسى بالعقلى فلا يتم حيث يجرى التشبيه على أصله من كون الملحق به ـ وهو المشبه به ـ أقوى فى الوجه ، وكون الملحق ـ وهو المشبه ـ أضعف ، وذلك لما أشرنا إليه من أن إدراك الحسى أقرب ؛ لأن علم المحسوس وعلم أحواله أقرب من علم المعقول ، وإدراك أحواله ضرورة ، بل أصل


العلم العقلى هو العلم الحسى غالبا ، ولهذا يقال : من فاته حس فإنه علم ، ويعنى علم ذلك الحس الفائت ، اللهم إلا أن يكون من عكس التشبيه مبالغة ، كما سيأتى ، بأن يجعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا بادعاء أن الفرع أقوى مبالغة والأصل أضعف ، وهذا المعنى موجود فى التشبيه كثيرا ، كما فى قوله فيما يأتى :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح (١)

فإن وجه الخليفة أضعف فى نفس الأمر فى الضياء من الصباح ، ولكن جعل أقوى ادعاء مبالغة فى مدحه ، فجعل مشبها به.

قيل : ولقائل أن يقول : لا شك أن الإدراك العقلى مستند للإدراك الحسى فى غالب الأمر ، ولكن لا يلزم من ذلك كون المحسوس أقوى أبدا فى وجه الشبه ، وأشهر به ، وإنما يكون كذلك حيث يكون الوجه أصله الحسى ، ونحن نجوز أن يكون أصله العقلى فيكون العقلى به أشهر وأظهر ، فتشبيه العطر بالخلق مثلا فى استطابة النفس يكون من عكس التشبيه كما قيل لأن استطابة النفس للمشموم المحسوس أقرب من استطابة المعقول ؛ وإنما نثبت له الاستطابة من طريق التوهم والقياس على الحس ، وإنما تشبيهه به فى الشرف عند العقول وفى الارتفاع والتلذذ الروحانى فالخلق به أظهر وعلى هذا فلا حاجة إلى جعل تشبيه الحسى بالعقلى من عكس التشبيه دائما ، وهو ظاهر ، ولما جعل المشبهين محصورين فى العقلى والحسى حيث لم يذكر غيرهما أراد أن يبين أن ما يدرك بغير القوة العاقلة وبغير الحواس الخمس داخل فيهما كالخياليات والوهميات والوجدانيات ، ويأتى الآن ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان المراد بالخيالى والوهمى هنا لئلا يتوهم عدم الحصر فى التقسيم ، وأن يبين أن هذه لم تجعل أقساما على حدة ، بل أدخلت فى العقلى والحسى ؛ تقليلا للتقسيم ، وتسهيلا للضبط ، فقال :

__________________

(١) البيت لمحمد بن وهيب فى الإشارات ص (١٩١) ، والطيى فى شرح المشكاة (١ / ١٠٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي.


المراد بالحسى

(والمراد بالحسى) هنا (المدرك هو) بنفسه كالخد والورد فيما تقدم (أو) لم يدرك هو بحالته المخصوصة ، ولكن أدركت (مادته) أى : أصله الذى يحصل منه ، وتحققت به حقيقته التركيبية ، كما سيأتى فى المثال.

(بإحدى الحواس الخمس الظاهرة) متعلق بقوله المدرك يعنى أن المدرك بإحدى الحواس بنفسه أو بمادته هو المراد بالحسى ، والحواس الخمس هى البصر والشم والسمع والذوق واللمس ، ويأتى تفسيرها ـ إن شاء الله تعالى.

(فدخل فيه) أى : فى الحسى (الخيالى) ، وإنما دخل حيث لم يشترط كونه مدركا بالحواس الخمس بنفسه ، بل الشرط أن يدرك هو أو تدرك مادته ولو لم يدرك هو بها قط فبسبب زيادته أو مادته دخل الخيالى وهو المركب من أمور وهى مادته كل واحد على حدة موجود يدرك بالحواس ، لكن هيئته التركيبية لم توجد وذلك (كما فى قوله) كالمشبه به الموجود فى قول الشاعر (وكأن محمر الشقيق) (١) المحمر وصف الشقيق فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل : وكأن الشقيق المحمر على حد قولهم جرد قطيفة أى : القطيفة الجرداء ، وهى التى ذهب خملها من طول البلى أو صنعت كذلك من أصلها ، والشقيق نور ينفتح كالورد أوراقه حمر ، وفيما بين تلك الأوراق وهو وسطه سواد ، وكثيرا ما ينبت فى الأراضى الجبلية ، وإضافته إلى النعمان فى قولهم شقائق النعمان ؛ لأنه كان كثيرا فى أرض كان يحميها النعمان وهو ملك من ملوك الحيرة ، وقيل : والنعمان يسمى به كل ملك فى ذلك البلد ، وأشهرهم النعمان بن المنذر.

(إذا تصوب) متعلق بمقتضى كأن أى : يشبه الشقائق حين تصوب أى مال إلى أسفل (أو تصعد) أى مال إلى أعلى ، وميله إلى العلو والسفل بتحريك الريح له (أعلام) خبر كأن (ياقوت) وعنى بالياقوت الحجر النفيس المعلوم بشرط أن يكون أحمر وهو أغلب الياقوت (نشرن على رماح من زبرجد) الرماح معلوم والزبرجد حجر نفيس

__________________

(١) البيت للصنوبرى ، فى المصباح ص (١١٦) ، وأسرار البلاغة ص (١٥٨) ، والطراز (١ / ٢٧٥) ، وهو فى شرح عقود الجمان بلا نسبة (٢ / ١٥) ، وفي الإشارات والتنبيهات (١٧٥) ، وبلا نسبة كذلك.


أخضر ، فالهيئة التركيبية التى قصد التشبيه بها وهى هيئة نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط لعدم وجودها ، ولكن هذه الأشياء التى اعتبر التركيب معها التى هى مادة ، أى أصل تلك الهيئة ، وهى العلم والياقوت والزبرجد ، وشوهد كل واحد منها لوجوده فهو محسوس ، وقد علم من هذا أن ليس المراد بالخيالى هنا ما تقدم وهى الصورة المدركة بالحواس ، ثم تبقى فى خزانة الخيال بعد غيبتها عن الحس المشترك ؛ لأن هذا المركب المسمى بالخيالى هنا ليس صورة مشاهدة قط لعدم وجودها ؛ وإنما أحست مادته ، فالمراد بالخيالى هنا المركب من مادة مشاهدة ، وهو بنفسه معدوم ، واختار إلحاقه بالحسى دون العقلى مع أن صورته الكلية تدرك بالعقل نظرا لمادته المحسوسة ، فلما كانت مادته صورا خيالية بعد شهودها وغيبتها عن الحس المشترك ناسب جعله حسيا خياليا مع أنه لو جعل الحسى ما يدرك بالحواس حقيقة والعقلى ما سوى ذلك انضبط التقسيم أيضا ، وأحاط مع قلته.

المراد بالعقلى

(و) المراد (بالعقلى ما عدا ذلك) ، وهو ما لا يكون هو ولا مادته مدركا بأحد الحواس الخمس الظاهرة ، (فدخل فيه) أى فى العقلى على هذا (الوهمى) ، وليس المراد بالوهمى هنا ما تقدم فى باب الفصل والوصل ، وهو المعنى الجزئى المحقق خارجا فى المحسوس بشرط أن لا تتوصل النفس إليه من طريق الحواس كعداوة وصداقة فى عمرو وإذاية فى ذئب تدركها الشاة مثلا ؛ وإنما المراد به الذى لا يكون للحس مدخل فيه ، أى باعتبار نفسه ومادته ، ولكن يكون له مدخل فيه بأن يكون شيئا آخر (أى ما هو) معدوم (غير مدرك بها) ، أى بإحدى الحواس الخمس المذكورة ، (و) لكنه بحيث (لو) وجد ف (أدرك لكان مدركا بها) ، أى : بتلك الحواس ، فهو يتميز عن الخيال السابق بأن لا وجود لمادته ولا لنفسه حتى يدرك هو أو مادته بالحواس ، ويتميز عن العقلى الصرف بأنه لو وجد وأدرك لأدرك بالحواس بخلاف العقلى المحض فإنه يوجد ويدرك بغير الحواس كالعلم والحياة ؛ وإنما جعل هذا الوهمى من قبيل العقلى هنا مع أنه لو وجد وأدرك أدرك بالحواس ؛ لأنه معدوم فصار إدراكه إدراك ما لا يحس فى الحالة الراهنة ،


فألحق بالمعقول الذى لا يحس ، وذلك الوهمى ، (كما) أى : كالمشبه به (فى قوله) أى : فى قول امرئ القيس : (أيقتلنى) (١) والاستفهام للإنكار أى : كيف يقتلنى زوج سلمى (والمشرفى) أى والحال أن : السيف المشرفى ، أى : المنسوب إلى مشارف ، ومشارف الأرض أعاليها ، قيل : إن المقصود بها هنا قرى من أعلى أرض العرب تقرب من الريف ، وهى أرض المياه والخضر والزرع ، كما فى القاموس ، فالمشارف جمع ، والنسبة إليه إفرادية ، فلا يقال : والمشارفى (مضاجعى) خبر المشرفى أو مبتدأ ، ومضاجعته السيف عبارة عن ملازمته ؛ لأن لزومه حال الاضطجاع يستلزم لزومه فى غير ذلك من باب أحرى ، ويحتمل أن يكون المقصود نفس مضاجعته إشارة إلى أنه لا يحاول قتله ولا يطمع فيه إلا فى حال اضطجاعه ، وفى حال الاضطجاع معه المشرفى فلا يوصل إليه (ومسنونة زرق) عطف على المشرفى ، أى كيف يقتلنى والسيف والسهام المسنونة ، أى : المحدودة تضاجعنى ، ووصفها بالزرقة إشارة إلى أنها مجلوة مصقولة معدة لتناولها واستعمالها وجمعها ، كما دل عليه قوله : زرق ، دليل على إرادة السهام لا الرماح ، كما قيل ؛ لأن العادة جرت بعدم استصحاب الجماعة من الرماح بخلاف السهام ، ثم شبه المسنونة فقال : وهى (كأنياب أغوال) ، ولا شك أن المشبه به هنا وهو أنياب الأغوال ليس وهميا بالاعتبار السابق فى الفصل والوصل ؛ إذ ليس معنى جزئيا موجودا فى المحسوس يدرك من غير طرق الحواس كالعداوة فى زيد ، وإنما هو صورة مفردة منعدمة خارجا ، ولو وجدت وأدركت لأدركت بالحواس فإن الغول (منعدم) وأنيابه وصفتها منعدمة تبعا له ، ولذلك لم يكن خياليا ؛ لأن مادة الخيالى موجودة كما تقدم فى أعلام ياقوت إلخ ، ويرد ههنا أن يقال : إن اعتبرت الأنياب على حدة فهى موجودة ، وإنما انتفت باعتبار نسبتها إلى الأغوال ، وكذا أعلام الياقوت ورماح الزبرجد إنما وجد كل منهما باعتبار قطعه عما نسب إليه ، وإلا فالأعلام المنسوبة إلى الياقوت لا وجود لها أيضا ، وكذا الرماح المنسوبة للزبرجد فيكونان على هذا وهميين لعدم وجودهما تبعا لما

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٣٣) ، ولسان العرب (غول) (شطن) وتهذيب اللغة (٨ / ١٩٣) ، وجمهرة اللغة (٩٦١) ، وتاج العروس (زرق) وبلا نسبة فى المخصص.


نسبا إليه كأنياب الأغوال. والجواب : أن المنسوب إليه هنا منعدم ، فتبعه المنسوب والمنسوب إليه فيما تقدم ، وهو الياقوت والزبرجد موجود ، ولا يقال : موجود هنا أيضا باعتبار ما صور بصورته كالسبع ؛ لأنا نقول : فرق بين وجود الشيء بنفسه ووجود ما صور بصورته ، وهما على أنا نقول : لا نسلم تعين تصويره بصورة السبع ، بل نقول : صور بصورة وهمية هى أفجع وأطول وأهول ، فيكون التشبيه بالأنياب فى الحدة لا فى القدر ، فإنه أعظم مما يقدر ، ثم إن هذه الصورة الوهمية المنعدمة ينبغى أن يبين أصل اختراعها ، ومن أين صح فى النفس إنشاؤها ، وبيان ذلك أن يعلم كما أشرنا إليه فيما تقدم أن من القوى الباطنية قوة تسمى مخيلة ، وتسمى مفكرة ، وهى الأصل فى اختراعها وإنشائها ، وهى قوة لا ينتظم عملها ، بل تتصرف بها النفس كيف شاءت ، فإن استعملتها بواسطة الوهم سميت متخيلة أو بواسطة العقل سميت عاقلة ومفكرة ، وهى أبدا لا تسكن يقظة ولا مناما ، ومن شأنها تركيب الصور المحسوسة وتفصيلها كتركيب رأس الحمار على جثة الإنسان ، وإثبات إنسان له جناحان وتفصيل أجزاء الإنسان عنه حتى يكون إنسانا بلا يد ولا رجل ولا رأس ، ومن شأنها أيضا تركيب المعانى مع الصور بإثباتها لها ، ولو على وجه لا يصح كإثبات العداوة للحمار والعشق للحجر والضحك للشجر ، وتفصيلها عنها لنفيها ولو على وجه لا يصح كنفى الجمود عن الحجر والمائعية عن الماء ، ومن أجل ذلك تخترع أمورا لا حقيقة لها حتى أنها تصور المعنى بصورة الجسم والعكس ، فإن اخترعتها بواسطة تركيب صور مدركة بالحس سمى ما اخترعته خياليا ، كما تقدم فى أعلام الياقوت ، وإن اخترعتها بما لم يحس كما إذا سمع أن الغول شيء يهلك فانتقل من الإهلاك إلى ملزومه حسا كالأسد فيصوره من ذلك بصورة مخترعة بخصوصها مركبة مع أنياب مخترعة بخصوصها أيضا سمى وهميا ، وقد تقدم وجه تحقق الفرق بينه وبين الخيالى ، (و) دخل فى العقلى أيضا (ما يدرك بالوجدان) ، والذى يدرك بالوجدان هو الذى يدرك بالقوى الباطنية ، مثل : القوة التى يدرك بها الشبع ، والتى يدرك بها الجوع ، وكالقوة الغضبية التى يدرك بها الغضب ، وكذا التى يدرك بها الغم والفرح والخوف ونحو ذلك ، فهذه الأشياء توجد بقوى باطنية بسبب تكيف تلك القوى بها


فتدركها النفس بها ، وتسمى تلك القوى وجدانا ، والمدركات بها وجدانيات ، وسميت عقلية لخفائها وعدم إدراكها بالحواس الظاهرة كالطعم المدرك بالذوق واللون والمدركات بالعين ، وليست من العقلية الصرفة ؛ لأنها جزئيات موجودة فى الخارج لا كلية تدرك بالعقل كالعلم والحياة ، فإن اعتبرت من حيث إنها كلية تتصور بالعقل خرجت عن معنى كونها وجدانية ، لكن تسمى بذلك باعتبار أصل إدراكها ، ثم مثل للوجدانيات بقوله : (كاللذة) ، وعرفوها بأنها هى إدراك ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، فقولهم : إدراك جنس يدخل فيه سائر الإدراكات الحسية والعقلية وعطف النيل عليه إشارة إلى أن مجرد الإدراك ـ أعنى تصور المدرك ـ لا يكون من باب اللذة حتى يكون معه نيل المدرك واتصال به والتكيف بصفته تكيفا حسيا كنيل النفس من القوة الذائقة للمذوق ، أو عقليا كنيل النفس لشرف علمها القائم بها والتذاذها بذلك ، ولم يكتف بالنيل عن الإدراك ؛ لأن مجرد النيل من غير إحساس وشعور بالمدرك لا يكون التذاذا والنيل الذى يكون بعد الشعور بالمدرك وهو المراد هنا إنما يدل على الإدراك بالالتزام فعبر بهما معا لعدم حضور عبارة تجمعهما صراحة ، وخرج بقولهم : لما هو كمال وخير الألم ؛ لأنه إدراك لما هو شر وزاد قوله من حيث هو كذلك ليخرج إدراك لما هو خير من حيث إنه شر كإدراك لدواء نافع مع اعتقاد أنه مهلك فإدراكه ألم ؛ لأنه إدراك من حيث أنه شر فيكون إدراكه ألما ، (و) ك (الألم) وهو إدراك ونيل لما هو شر عند المدرك من حيث هو كذلك ، ولا يخفى مفاد قيود الألم من مفاد قيود اللذة ، ثم إن حد كل من اللذة والألم يشمل عقلى كل منهما ، وهو ما يكون إدراكه بمجرد العقل ، والمدرك عقلى محض كاللذة التى هى إدراك الإنسان شرف علمه المحض والتألم الذى هو إدراكه نقصان جهله الخالص ، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ، ولكن المقصود اللذة والألم الحسيان ؛ لأنهما هما المحتاج لإدخالهما فى العقلى ، وذلك كاللذة الحاصلة للنفس بنيل الذائقة لمذوقها الحلو أو المر ، كما تقدم ، وبنيل الباصرة لمبصرها الجميل أو الخبيث ، وبنيل اللامسة لملموسها اللين أو الخشن ، وبنيل السامعة لمسموعها المطرب أو المنكر ، وبنيل الشامة لمشمومها الطيب أو المنفر ، وفهم من


قولنا كاللذة الحاصلة للنفس وجه كونها باطنية ، ولو كانت أسبابها حسية فالذوق مثلا إنما يدرك به حلاوة الحلو ، وليست الحلاوة نفس اللذة ، بل هى معنى حصل عن إدراك الحلاوة فى قوة باطنية نفسانية ، وقد تكون اللذة وهمية كما يوجد من استطابة صورة المرجو عند توهم الاتصاف به ، وعلى هذا لا يقال : الحسية كسائر المحسوسات ، فما معنى كونها وجدانية باطنية ؛ لأنا نقول معناها قائم بالنفس ، ولو كان سببه الحس ، وأيضا حيث فسرت اللذة والألم بالإدراك فليسا مما يدرك بالحواس ، ثم وجود القوى الباطنية إنما هو عند الحكماء ، وأما المتكلمون من أهل السنة فالنفس هى المدركة بالقوة الواحدة ، وهى العقل إما بواسطة حس ظاهرى أو باطنى ناشئ عن ظاهرى أو لا ، ويسمى وجدانا ، أو بدون واسطة أصلا وليس ثم قوة زائدة على الإحساس ، فالغضب مثلا عندهم معنى قائم بالإنسان يوجب إرادة الانتقام لو لا المانع يدركه الإنسان من نفسه بالعقل بعد الإحساس الباطنى ، ولا يفتقر فيه إلى قوة أخرى ، وهكذا سائر الوجدانيات ، ويمكن حمل القوى فى كلام الحكماء على الإحساس الباطنى ، أعنى اتصاف محل تلك المعانى بها ، فيتفق المذهبان ، وتفسير اللذة بما ذكر تبعا لهم لا يوجب كون ذلك معناها الحقيقى ، وكذا الألم فإن إذا راجعنا وجداننا كدنا أن نجزم بأن اللذة لازمة لذلك الإدراك وذلك النيل ، وهى معنى آخر يوجد بالضرورة عند ذلك النيل وذلك الإدراك ، ويعسر التعبير عن كنهه ، فإدراكه ضرورى عند الوجدان ، وتحقيق كنهه يمكن ادعاء صعوبته ، وكذا الألم ، وهذا فى لذة المذوق مثلا ظاهر إذا أريد إدراك النفس طيب الملتذ به أو قبح ضده ، وأما إذا أريد نفس المدرك عند اتصال الذائقة به وكثيرا ما تطلق اللذة على ذلك فيقال : وجد لذة المأكول اللسان والتذ به لسانى أو تألم بكذا لسانى ، فالأقرب أنها حينئذ حسية محضة لا وجدانية لعود معناها حينئذ إلى نفس الحلاوة أو المرارة ، بل إن بنينا على أن القوى الباطنية المسماة بالوجدان لا تدرك إلا المحسوس بواسطة تكيفها بما أدرك الحس ، وإلا الأمور القائمة بها نقول : اللذة ليست من هذا المعنى لعدم إدراكها بالحواس وعدم قيامها بتلك القوى إلا أن يراد بالوجدان ما يتعلق بالنفس مطلقا ، وهو ظاهر ما تقدم ، تأمل.


وجه التشبيه

(ووجهه) أى : ووجه التشبيه بين المشبهين الذى هو من جملة الأركان السابقة هو (ما) أى : المعنى الذى (يشتركان فيه) بأن يوجد فيهما معا ، والمراد بالمشترك فيه فى باب التشبيه الأمر الذى يختص به المشبهان فى قصد المتكلم فيقصده للتشبيه لتحقيق الفائدة به بخلاف ما ليس كذلك فلا يقصد لعدم تحقق الفائدة فيه فقولنا مثلا : زيد كالأسد ، ووجهه كالشمس ، يكون الوجه فى الأول الجراءة المختصة بهما وبما ضاهاهما المشهورة بالأسد ، وفى الثانى الحسن والبهاء ، فلا يصح أن يكون الوجه فيهما الجسمية ونحوها ككونهما ذاتين أو حيوانين أو موجودين أو غير ذلك لعمومه وعدم فائدته ، اللهم إلا أن تعرض الفائدة لقصد المتكلم كالتعريض بمن لا يفهم المشابهة فى وجه من الوجوه فيكون كالمختص فى الإفادة ثم المراد بوجود الوجه المذكور فى المشبهين أن يثبت فيهما (تحقيقا) بأن يتقرر فى كل منهما على وجه التحقق ، كما تقدم فى تشبيه زيد بالأسد (أو) يثبت فيهما (تخييلا) أى : على وجه التخيل والتوهم بأن لا يكون ثابتا فيهما وفى أحدهما حقيقة ، ولكن يثبته الوهم ويقرره بتأويل غير المحقق محققا كعادة الوهم فى أحكامه الغير الواقعة فى نفس الأمر ، وذلك كاف فى التشبيه والإلحاق هنا ، وإلى هذا أشار بقوله : (والمراد بالوجه التخييلى) هنا أى : المنسوب إلى التخييل والتوهم هو أن لا يوجد ذلك المعنى المجعول وجه الشبه فى أحد الطرفين أو فى كليهما ، ولكن يثبته الوهم فيهما على طريقه المعلوم ، وهو تخيل ما ليس بالواقع فى نفس الأمر واقعا لسبب من الأسباب ، وذلك (نحو ما) أى : الوجه الذى (فى قوله) أى : فى قول القاضى التنوخى (وكأن النجوم) (١) حال كونها لائحة (بين دجاه) أى : دجى الليل ، والدجى جمع دجية كغرفة وغرف ، والدجية الظلمة وجمعها مضافة لليل باعتبار قطعها الموجودة فى النواحى المتقاربة والمتباعدة ، وإلا فهى واحدة لعدم تميز أفراد مستقلة لها ، هذا على أن الضمير فى دجاه مذكر كما فى هذه الرواية ، وروى بين دجاها بتأنيث الضمير فيعود على النجوم ،

__________________

(١) البيت للقاضى التنوخى ، والمصباح ص (١١٠) ، ونهاية الإيجاز ص (١٩٠).


وهو واضح ؛ لأن الإضافة بأدنى سبب (سنن) خبر كأن أى : كأن النجوم بين ظلم الليل سنن فى وصفها أنها (لاح) أى : ظهر (بينهن) أى : بين تلك السنن (ابتداع) أى : بدعة ، وهى الأمر الذى اتخذ مأمورا به شرعا ، وليس كذلك ، كما أن السنة ما تقرر كونه مأمورا به شرعا بقول الشارع أو بفعله أو ما يجرى مجرى ذلك من تقريره صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ثم إن المشبه هنا ، وهى النجوم ، وصفها بكونها ظهرت بين أجزاء ظلمة الليل ، ومعلوم أن اللائح بين أجزاء الشيء من مقتضى كونه لائحا كذلك كونه أضعف وأقل من الذى أحاطت به أجزاؤه ، وأن الذى وقع اللوحان فى جنبه كان باديا ظاهرا لا يفتقر إلى إثبات ظهوره ، وإنما يفتقر إلى إثبات ظهور ذلك اللائح ؛ ولذلك وصف النجوم هنا بأنها لاحت لقلتها وضعفها بالنسبة إلى قوة الظلمة فى جميع النواحى ، وإن كانت أحق بالوصف بذلك لذاتها ؛ لأن الموصوف باللوحان والظهور هو المضيء لا المظلم ، كالهواء عند عدم إشراقه ، لما اعتبر اللوحان فى النجوم لما ذكر كان المطابق لهذا الاعتبار فى المشبه به أن يكون اللائح هو السنن المقابلة للنجوم والملوح فى جنبه هو البدع المقابلة للظلمة ، لكنه عكس وأوقع القلب فى المشبه به فجعل اللائح هو الابتداع والملوح فى جنبيه هو السنن ، وكأن السر فى ذلك الإيماء إلى أن كون السنن أكثر والابتداع باعتبارها أقل ، وإنما أفرد الابتداع مع أن المطابق لمقابله وهو الدجى الجمعية لما أشرنا إليه وهو المطابق لقوله فى جنب شيء إلخ ، من كون الأصل الإفراد ؛ إذ ظلمة الليل واحدة ، وإنما جمعها باعتبار القطع من الظلمة فى النواحى وأجزائها ، ثم بين وجه الشبه هنا مع بيان سبب كونه غير متحقق فى أحد الطرفين ، فقال : (فإن وجه الشبه) أى : إنما قلنا : إن الوجه هنا غير متحقق ؛ لأن وجه الشبه (فيه) فى هذا التشبيه (هو الهيئة الحاصلة) أى : المتحققة والمتقررة (من حصول أشياء مشرقة) أى : مضيئة (فى جنب) أى : فى جهة (شيء مظلم أسود) بأن تبدو تلك الأشياء فى خلل ذلك المظلم الأسود ، وقولنا : فى تفسير الحاصلة ، أى : المتحققة إلخ ، إشارة إلى أن تلك الهيئة هى نفس الحصول إلى آخره ، فحصول الهيئة بذلك الحصول كحصول الجنس بالنوع ، بمعنى أن الهيئة تتحقق خارجا بهذا الحصول ، كما تتحقق وتتقرر بغيره لأن هذا الحصول سبب


بيان لها مجمل لها على حدة ، ويحتمل أن يراد بالهيئة الحالة اللازمة لذلك الحصول ، أعنى كون أشياء حصلت فى جنب شيء أسود ، فيظهر التباين بين الحصول والهيئة ، ومثل هذا يتقرر فى كل ما كان مثل هذا الكلام ، فليفهم.

وإذا علم أن وجه الشبه هو الهيئة المذكورة (فهى) أى : فتلك الهيئة معلوم أنها (غير موجودة فى المشبه به) الذى هو السنن الكائنة بين البدع ، ضرورة أن الإشراق لكونه حسيا لا تتصف به السنة لكونها عقلية محضة ؛ إذ هى عائدة إلى كون الشيء مأمورا به شرعا ، وهو كذلك فى نفس الأمر ، والحكم بذلك أصله العلم الموجب للهدى والإظلام لكونه حسيا أيضا ، لا تتصف به البدعة لكونها عقلية محضة ، إذ هى عائدة إلى الحكم بكون الشيء مأمورا به مع أنه ليس كذلك فى نفس الأمر ، وأصله الجهل الموجب للغى والضلال ؛ وإنما وجدت تلك الهيئة حقيقة فى المشبه وهو ظاهر ، ولا يقال الحصول إلى آخره ليس بحسى ؛ لأنا نقول : المراد بالحسى ـ كما تقدم ـ ما يعم ما تعلق بحسى فتحقق بهذا أن الوجه لم يوجد فى المشبه به (إلا على طريق التخييل) أى : إلا على السبيل الذى هو تخيل الوهم كون الشيء حاصلا مع أنه ليس كذلك فى نفس الأمر ، ثم أشار إلى بيان سبب التخييل المذكور فقال : (وذلك) أى : وكون وجود الهيئة المذكورة فى المشبه به حاصلا على سبيل التخييل سببه (أنه) أى : أن الشأن هو هذا ، وهو قوله : (لما كانت البدعة) التى إنما ترتكب بسبب الجهل بموجب تركها (و) كذا (كل ما) أى : كل فعل (هو جهل) أى : ارتكابه يسمى جهالة لحصوله عن الجهل بموجب تركه (يجعل صاحبها) أى : صاحب تلك البدعة ، يعنى وكل ما هو جهالة (كمن يمشى فى الظلمة) وإذا كان صاحب الفعل الذى لا يرتكبه إلا الجاهل يجعل كالماشي فى الظلمة فالجهل نفسه أحرى أن يجعل صاحبه كذلك ؛ لأنه السبب فى كون صاحب الفعل كذلك ، وإنما حملنا الكلام على ما ذكر ، ولم نحمله على ظاهره للعلم بأن البدعة اصطلاحا ليست هى نفس الجهل ، ولو كان ارتكابها عن جهالة ، وإذا كانت كذلك فالمعطوف عليها ينبغى أن يكون من جنسها ، ومثل هذا يتقرر فى السنة فيعلم أيضا حكم محض العلم فى التشبيه من باب أحرى (فلا يهتدى) أى : وحيث كان كمن


يمشى فى الظلمة فلا يهتدى ، أى : فلا يتوصل (للطريق) الذى تقع له به النجاة (ولا يأمن) فى مشيه فى تلك الظلمة (أن ينال) أى : أن يلقى (مكروها) يتأذى به (شبهت) جواب لما أى : لما كان صاحب البدعة كالماشي فى الظلمة شبهت البدعة (بها) أى : بالظلمة فى عدم الأمن من لقاء المكروه وفى عدم الاهتداء لطريق النجاة ، ولا يخفى ما فى الكلام من شبه اتحاد الجواب بالشرط ، إذ حاصله أن صاحب البدعة لما كان شبيها بصاحب الظلمة شبهت البدعة بالظلمة ومعلوم أن العلم بتشبيه الصاحب بالصاحب علم بتشبيه المصاحب بالمصاحب ، والخطب فى مثل ذلك سهل لظهور المراد ، (ولزم) من ذلك (بطريق العكس أن تشبه السنة) أى : أن يصح تشبيه السنة (وكل ما هو علم بالنور) ، وإذا صح هذا لزم وقوعه إذا أريد ، وقد أريد ووقع ؛ ولذا قلنا بطريق العكس أى : بالطريق الذى هو مراعاة المعاكسة والمخالفة الضدية ؛ لأن ما يترتب على الشيء من جهة أنه ضد يترتب عكسه ، أى : خلافه ، على مقابله ، وإلا انتفت الضدية ، ويحتمل أن يراد بطريق العكس العكس المتقرر فيما ذكروا فى التعليل ، وهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ، فإذا كانت الضدية الخاصة علة فى صحة التشبيه بشيء كان انتفاؤه فى ضده علة لخلافه أى لصحة التشبيه بمقابله وإلا لزم كون لازم الضد ثابتا لمقابله فينتفى التضاد والاحتمالان متلازمان ، وبهذا يندفع ما يقال من أن تشبيه الضد بشيء لا يستلزم صحة تشبيه ضده بمقابل ذلك الشيء ، وقد تقدم أن السنة ليست هى نفس العلم ، كما أن البدعة ليست هى نفس الجهل ، لكن ارتكاب الأولى بالعلم والثانية بالجهل ، فلما كان الإظلام من لازمه عدم الإبصار ، ومن لازم عدم الإبصار عدم تحقق الاهتداء للطريق ، ومن لازم ذلك عدم الأمن من لقاء مكروه ناسب تشبيهه بالبدعة والجهل الملزومين لعدم الأمن ، ولما كان النور بالعكس أى : من لازمه الإبصار الملزوم لتحرى المكاره ، وبذلك صار كالضد للظلمة ناسب تشبيهه بالسنة والعلم الملزومين لتوقى المكاره فتبين أن ما تقرر فى أحد الضدين من حيث إنه ضد وجه شبه مع شيء يتقرر خلافه فى ضده مع مقابل ذلك الشيء ، وقد جعل المصنف الأصل فى التشبيهين المذكورين هو تشبيه البدعة والجهل بالظلمة ، والفرع تشبيه السنة والعلم بالنور ، ولو


جعل كل منهما أصلا أو عكس فى التأصيل والتفريع صح ، ومرجع ذلك إلى الاستعمال القديم والحادث فإن لم يثبت فالأقرب أن كلا منهما أصل وقد يوجه ما ذكر على تقدير عدم تحقق للسابقية بأن الأصل أى : الكثير الجهل والظلمة والخطب فى مثل هذه الاعتبارات سهل بعد تقرر تشبيه السنة ، والعلم بالنور ، والبدعة والجهل بالظلمة ، (وشاع ذلك) التشبيه على ألسنة الناس أى : كثر تداوله فيما بينهم (حتى تخيل) أى : إلى أن تخيل الوهم على قاعدته من إثبات الأحكام على خلاف ما هى بكثرة التقارن والمجاورة (أن الثانى) أى : المذكور فى كلام المصنف ثانيا ، وهو السنة وكل ما هو علم (مما له بياض وإشراق) لكثرة تقارنه فى التشبيه بالنور الحسى ، فتوهم ثبوت وصف المقارن الذى هو النور لذلك الثانى الذى هو السنة والعلم ، فإذا كان الوهم يثبت أحكاما غير متحققة بدون اقتران كثيرا بل مجرد خطور شيء مع غيره يكفيه إثبات أحكام أحدهما للآخر ، فإثباتها مع كثرة المقارنة أحرى ، وهذا الحكم الوهمى يصح البناء عليه والخطاب به لغة وشرعا لظهور المراد ، ويصح أن يكون الاستعمال فيما يمثل به لما فيه من التجوز البليغ (نحو) قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (أتيتكم بالحنيفية) (١) أى : بالطريقة الحنيفية ، وهى دين الإسلام ، والحنيفية نسبة للحنيف ، والحنيف هو المائل عن كل دين سوى دين الحق ، وعنى به إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (البيضاء) ولا شك أن وصف الطريقة الدينية بالبياض ليس على طريق التحقيق الحسى ، بل لاقترانها بما له بياض فى التشبيه أعطى حكمه وهما ؛ فصح أن يجعل البياض وجه الشبه بينها وبين ما له البياض الحسى لاتصافها به وهما. (و) تخيل (أن الأول) فى كلام المصنف وهو البدعة وكل ما هو جهل كائن (على خلاف ذلك) الثانى بأن يكون هذا الأول مما له سواد وإظلام بالطريق المذكور ، فصح وصفه به لذلك الحكم الوهمى أو لقصد المبالغة فى التشابه ؛ ولذلك يقع فى الكلام (كقولك : شاهدت سواد الكفر من جبين فلان) مع أن الكفر لا سواد له حقيقة ، بل تخيلا ، والجبين ما بين العين والأذن إلى جهة الرأس ، ولكل

__________________

(١) الحديث أخرجه أحمد بنحوه فى المسند (٥ / ٢٦٦) ، وفيه" إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ، ولكننى بعثت بالحنيفية السمحة" وأورده الألبانى بنحوه فى الصحيحة ح (١٧٨٢).


إنسان جبينان يكتنفان الجبهة ، وخص بشهود سواد الكفر منه مع أن المراد شهوده من الوجه ، إذ هو الذى يدعى ظهور أمارة الكفر عليه ، إذ هو الذى يظهر فيه الغبرة والسواد المنبئان عن الكفر ؛ لأنه أول ما يبدو عند الالتفات ، حيث يقصد تتبع الشخص ليظهر وجهه ، ويحتمل على بعد أن يكون المعنى : شاهدت مثل سواد الكفر من جبين فلان ، أى : من سواد شعر ذلك الجبين ، والخطب فى مثل ذلك سهل ، وأشرت بقولى أولا ، ويصح أن يكون الاستعمال لما فيه من التجوز البليغ ، وبقولى ثانيا أو لقصد المبالغة فى التشابه إلى أنه يصح أن يعتبر فى مثل وصف الكفر بالسواد ووصف الحنيفية بالبياض كون الإطلاق حقيقة بلا تشبيه بناء على أن ذلك الإطلاق إنما هو لتوهم وجود المعنى فى المطلق عليه كما قرر المصنف ، أو كونه مجازا مرسلا من إطلاق ما للمجاور على مجاوره فى التشبيه ، أو كونه تشبيها بناء على تقدير حرف التشبيه فى نحو ذلك ، فيكون التقدير فى نحو ذلك الحنيفية التى هى كحقيقة بيضاء ، أو كونه استعارة بناء على نقل اللفظ بعد التشبيه ، وأن ذكر المشبه على هذا الوجه لا ينافى الاستعارة على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ولكن على أنه مجاز أو تشبيه لا يخفى أنه لا تخييل حينئذ ، تأمل.

(فصار) أى : فبسبب تخيل البدعة مما له سواد والسنة مما له بياض ، وإعطاء حكم المتخيل حكم المحقق صار (تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع) صحيحا ، وإن كان وجود وجه الشبه فى أحدهما تخييلا ؛ لأن حكم المتخيل فى باب التشبيه حكم المحقق ، فيكون تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع (كتشبيهها) أى : النجوم كذلك (ببياض الشيب) أى : بما تحقق فيه وجه الشبه حسا كالشعر الأبيض وقت المشيب الكائن (فى سواد الشباب) أى : فى الشعر الذى كان أسود وقت الشباب ، يعنى فيما استمر منه على سواده ؛ وإنما قلنا : كالشعر إلخ ، ضرورة أن النجوم لم تشبه بنفس البياض فى السواد ، بل بالأبيض الكائن فى الأسود ، فإنك إذا أردت تشبيه النجوم كذلك قلت : النجوم فى الدجى كالشعر الأبيض فى الشعر الأسود ، حالة ابتداء المشيب ، (أو) كتشبيهها (بالأنوار) أى : بما تحقق فيه الوجه أيضا كالأنوار جمع نور بفتح النون وهو الزهر حال تلك الأنوار (مؤتلقة) بالقاف أى : لامعة ظاهرة التلون (بين) أجزاء


(النبات الشديد الخضرة) حتى مال بشدة اخضراره إلى السواد ، وقد اشترك التشبيهان فى كون الوجه محققا فيهما فى الطرفين ، لكن وجه الشبه فى التشبيه الأول ـ أعنى تشبيه النجوم بين الدجى بالشعر الأبيض فى الأسود ـ الهيئة الحاصلة من حصول أشياء بيض فى جنب شيء أسود ، والوجه فى الثانى ـ أعنى تشبيهها بالأنوار ـ فيه مخالفة ما لذلك ؛ إذ الأنوار لا يشترط بياضها ، فهو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء متلونة بلون مخالف للون ما حصلت فى جانبه مما فيه إظلام ما ، وذلك ظاهر ، فتحقق بما قرر أن تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع صحيح ـ كما بينا ـ لوجود وجه الشبه فى الطرفين ، وإن كان فى السنن بين الابتداع ؛ إنما هو بطريق التأويل وتخييل أن ما ليس بمتلون متلونا ببياض فى إظلام على ما قررناه فيما تقدم ، فإذا قيل : النجوم فى الدجى كالسنن فى الابتداع صح أن يقال فى تفسير الوجه فى كون كل منهما شيئا ذا بياض بين أجزاء شيء ذى سواد ، وإن كان فى الثانى تخييلا ، وتحقق أيضا أن قوله : سنن لاح بينهن ابتداع فيه قلب كما قررنا فيما تقدم ، وأشرنا إلى الاعتذار عنه ، وأن الأصل سنن لحن بين الابتداع ، ف (إذا) حقق وجوب اشتراك الطرفين فى الوجه ، وأنه لا بد من وجوده فيهما تحقيقا أو تخييلا (علم) أن التشبيه إذا اعتبر فيه وجه لم يوجد فى الطرفين تحقيقا ولا تخييلا ، فذلك الاعتبار فاسد ، فعلم بذلك (فساد جعله) أى : جعل وجه الشبه (فى قول القائل : النحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل) ، أى : جعل وجه الشبه فى ذلك كون القليل من كل من النحو والملح (مصلحا) لما وجد فيه ، وهو الكلام فى الأول والطعام فى الثانى ، (والكثير) منهما (مفسدا) لما وجد فيه ، وإنما فسد جعل الوجه بين النحو والملح ما ذكر لعدم وجود الوجه المذكور فى النحو ، وهو المشبه ، فلم يشترك الطرفان فى الوجه ؛ وإنما قلنا : لم يوجد ذلك الوجه فى المشبه الذى هو النحو (لأن النحو لا يحتمل) أى : لا يقبل (القلة والكثرة) فيما يعتبر فيه من الكلام ، وإن قبلها فى نفسه بكثرة جزئياته ، لكن لا غرض لنا فى كثرة جزئياته ، وإنما الغرض ما يستعمل منه ، ويراعى فى الكلام وهو الذى اعتبر فى التشبيه ، وبذلك الاعتبار لا تعدد له حتى يحتمل القلة والكثرة ، وبيان ذلك أن النحو قواعد معلومة ، فكل كلام اعتبرته فيه ، فإن راعيت


فيه ما يجب من النحو صح وصلح لفهم المراد ، وإن لم تراع ما يجب فيه فسد ، ولم يصلح لفهم المراد كما ينبغى ، بل يكون فهمه كفهم المعنى من غير العربية ، وليس فى هذا النحو المخصوص المراعى فى الكلام المخصوص جزئيات يمكن اعتبار بعضها دون بعض ، فيكون اعتبار الكثير منها مفسدا والقليل مصلحا ، بل تجب رعاية كل ما يتعلق به وما لا يتعلق به ليس بنحو. مثلا إذا قلنا : ما قام زيد ، فالواجب من النحو فى هذا الكلام أن يكون هكذا من تقديم الفعل وتأخير الفاعل ، وبناء ذلك الفعل الماضى على الفتح ، ورفع ذلك الفاعل ، وهذا القدر واجب ، ومتى سقط شيء منه فسد الكلام ، وإذا اعتبر صح ، فلا قلة تصلح ولا كثرة تفسد ، بل كله واجب مصلح ، وإسقاط شيء منه مفسد ، اللهم إلا أن يحمل الكلام على معنى أن رعاية الشواذ فيه هو المعنى بالكثرة كنصب الفاعل فى المثال ، وهو بعيد ؛ لأن رعاية الشواذ إسقاط لبعض الواجب ، فليست ثم كثرة زائدة على الواجب فافهم ، فتبين أن القلة والكثرة المعتبرة وجها لم توجد فى المشبه الذى هو النحو (بخلاف الملح) الذى هو المشبه به ، فإنه يقبل القلة والكثرة باعتبار ما يجعل فيه من الطعام بأن يجعل فيه المقدار الكافى ، فيصلح أو أقل أو أكثر فيفسد ، وعلى هذا يفسد جعل الوجه ما ذكر لعدم صحة وجوده فى أحد الوجهين ، وهو النحو ، وإن صح وجوده فى الآخر ، على أن القلة فى الملح ليست مصلحة للطعام دائما ، بل ربما كانت مفسدة ، فلا يتحقق صحة وجود الوجه حتى فى الطرف الآخر ، فإن أريد بالقلة المقدار الكافى وأريد بالكثرة التعدى لما سوى ذلك كان الواجب تحويل العبارة إلى ما يدل عليه فافهم ، وإذ فسد هذا الوجه وجب أن يجعل الوجه ما يعم الطرفين ، ويصح اعتباره فى الإفادة فيقال : وجه الشبه بين النحو والملح فيما ذكر الصلاح بإعمالهما والفساد بإهمالهما.

الوجه الداخل فى الطرفين والخارج عنهما

(وهو) أى : ووجه الشبه (إما غير خارج) أى إما أن يكون غير خارج (عن حقيقتهما) أى : عن حقيقة الطرفين ، أعنى المشبه والمشبه به وغير الخارج يشمل الداخل


فى الحقيقة ، وهو الجنس والفصل ، ويشمل ما ليس بداخل ولا خارج ، وهو نفس الحقيقة التى هو النوع ؛ ولذا قابل قوله بعد أو خارج بغير الخارج لا بالداخل ليدخل ما ذكر وهو ثلاثة أشياء كما ذكرنا : النوع والجنس والفصل ، وذلك (كما فى تشبيه ثوب بآخر فى نوعهما) ؛ حيث يتعلق الغرض بذلك ؛ لأن ما يتعلق به الغرض مفيد كقولك : هذا الملبوس كهذا فى كونهما قميصا ، وهذا الثوب كهذا فى كونهما ثوبى كتان ، وإنما لم نقتصر فى المثال الثانى على قولنا فى كونهما كتانا ؛ لأنه يعود إلى التشبيه بالفصل كما يأتى مثاله على أنه لا يخلو من بحث ؛ لأن الثوب مذكور ، فكونه كتانا هو المقصود فى التشبيه ، وذكر الثوب توطئة إلا أن البحث فى المثال أمره خفيف ، ومثل هذا أن يقال : زيد كعمرو فى كون كل منهما إنسانا ، ومثل هذا الكلام يفيد حيث يقصد مثلا تقريع من نزلهما منزلة المتباينين ، وأن عمرا مثلا منهما جعله من نوع الفرس والحمار فى إعداده لمشاق الخدمة والاستنكاف عن صحبته ، (أو) تشبيه ثوب بآخر فى (جنسهما) الذى هو جزء الحقيقة الأعم منها ، كما يقال : هذا الثوب كذاك فى كون كل منهما ثوبا ، ومثل هذا الكلام أيضا يفيد عند التعريض مثلا بمن استنكف عن لبس أحدهما أو تشبيه ثوب بآخر فى فصلهما ، كقولك : هذا الثوب كهذا فى كون كل منهما قطنا أو كتانا ، وقد علم بما أشرنا إليه أن التشبيه بالنوع والجنس والفصل لا ينافى ما تقرر من كون وجه الشبه لا بد له من نوع خصوصية ، وإلا لم يفد ؛ لأنا بينا أن معنى الخصوصية كونه فى قصد المتكلم مما ينبغى أن يشبه به لإفادته بخصوصه ، ولو باعتبار ما يعرض فى الاستعمال كما قررنا ، وعلم أيضا من قوله كتشبيه ثوب بآخر إلخ أن ليس المراد بالنوعية والجنسية والفصلية هنا ما يقصده الحكماء بكل منها ، بل ما يقصد عرفا وهو ظاهر ، (أو خارج) هذا مقابل قوله : إما غير خارج عن حقيقتهما ، أى : وإما أن يكون خارجا عن حقيقة الطرفين ، وإذا كان خارجا فهو (صفة) أى : معنى قائم بالطرفين ؛ لأنه يجب اشتراكهما فيه ، ومعنى الاشتراك أن يكون قائما بهما ، وإلا لم يشتركا فيه ، وإذا كان الاشتراك يستلزم القيام وجب أن يكون معنى وصفة لاستحالة قيام ذات بغيرهما ، وإذا كان الوجه الخارج لا بد أن يكون صفة فتلك الصفة تنقسم إلى أقسام ؛


أنها هيئة متمكنة فى الذات متقررة فيها خارجا تقررا استقلت معه فى ذلك الموصوف بالمفهومية ، واحترز بذلك عن النسبية ، فإن النسبية لا تعقل إلا بين شيئين ، فليست مستقلة المفهومية فى الموصوف على ما يأتى تحقيق ذلك فى تفسير مقابل الحقيقة ، وهى ـ أعنى تلك الحقيقة قسمان ـ لأنها :

قسما الحقيقة :

الحسية

(إما حسية) أى مدركة بإحدى الحواس الخمس التى هى البصر والشم والسمع والذوق واللمس ، وذلك (كالكيفيات الجسمية) أى : المختصة بالوجود فى الجسم والكيفية عرض لا يقتضى قسمة ولا عدمها لذاته اقتضاء أوليا ، ولا يتوقف تعقله على تعقل الغير ، وقد تقدمت محترزات هذه القيود فى صدر الكتاب عند تفسير الملكة ، ثم الكيفية الجسمية حيث كانت حسية تدرك بإحدى الحواس ، فهى حينئذ إما أن تكون (مما يدرك بالبصر) وهى معنى قائم بالحدقة يتعلق بالألوان ، والأكوان التى هى الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ويفسر عند الحكماء على ما اقتضاه التشريح بأنه قوة مترتبة أى : متمكنة فى العصبتين المجوفتين اللتين هما متلاقيتان ، فتفترقان إلى العينين ، وذلك أن الطرف الأول من الدماغ قامت من جهته اليسرى عصبة مجوفة كالقصبة الصغيرة ، ومن جهته اليمنى عصبة كذلك ، فذهبت اليسارية إلى العين اليمنى واليمنية إلى العين اليسرى ، فتلاقت العصبتان قبل الوصول إلى العينين على التقاطع فصارتا على هيئة الصليب ، وقام معنى البصر فى العصبتين وظاهر هذا التفسير أن البصر لا يختص بما اتصل منهما بالعينين ولا بما اتصل بالدماغ ولا بوسطهما ، بل هو مبثوث فى الجميع ، وليس فى ذلك قيام المعنى بمحلين ؛ لأن ذلك محمول على أن فى كل محل مثل ما فى الآخر ، ويحتمل اختصاصها بمحل مخصوص منها ، ولكن جرت العادة مطلقا بأن العصبة إذا أصابتها آفة فى موضع منها ذهب البصر عن جميعها ، ثم بين ما يدرك بالبصر بقوله : (من الألوان) كبياض وسواد وحمرة وصفرة وغير ذلك ، فيقال مثلا عند التشبيه فى اللون : خده كالورد فى حمرته ، وشعره كالغراب فى سواده ، (و) من (الأشكال) والشكل عبارة


عن الهيئة الحاصلة للجسم باعتبار وضع أجزائه الاتصالية بعضها مع بعض ، فيحدث من ذلك فى ظاهره طول مخصوص وعرض مخصوص ودورة مخصوصة ، وما يرجع لذلك ، فكون أجزائه على ذلك الوضع الموجب لتلك الحالة من طول وعرض إلخ ، هو الشكل ، ويفسر عند الحكماء بما يرجع لهذا ويستلزمه ، وهو أنه هو هيئة إحاطة نهاية واحدة أو أكثر من نهاية واحدة فالجسم كالدائرة ونصف الدائرة والمثلث والمربع وغير ذلك كالمخمس والمسدس والمثمن ونحوها ، ولكن التمثيل للشكل بالدائرة إلى آخرها يقتضى أن المراد بالشكل الشكل المقدارى لا الجسمى المعلوم ، وعلى هذا فذكر الجسم فى تعريف الشكل مستدرك ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن هذه الأشياء ، وهى كون الشيء دائرة ونصفا ومثلثا ومربعا إلى آخر ما ذكر كلها من عوارض المقدار ؛ إذ المقدار الذى هو كم متصل قار الذات مبدؤه النقطة ، وهى شيء ما لا جزء له ، فذلك المقدار إن اجتمع فيه من النقط ما يقتضى صحة قسمته من الأوجه الثلاثة أعنى الطول والعرض والعمق ، فهو الجسم التعليمى أو ما يقتضى قبوله القسمة فى الطول فقط فهو الخط ، أو ما يقتضى قبوله لها فى الطول والعرض فقط ، فهو السطح ، وكل ما ذكر من المقدار ومبدئه وعوارضه كلها أمور وهمية مفروضة لا حقيقة لها خارجا ونزلها الحكماء منزلة الأمور المحققة وسموا الأول من المقدار جسما تعليميا ؛ لأنه يوضع فرضا لتعليم المسائل الهندسية هو وما يناسبه ، فالمتصف بهذه الأمور فى الأصل هو الشكل المقدارى ؛ لأن الدائرة سطح أو خط ، وكذا نصفها والمثلث والمربع باعتبار خطوطهما كل منهما جسم تعليمى ، وكلها أمور اعتبارية عند المتكلمين ، لكن يتصف بها الجسم تبعا لاتصافه بالمقدار الوهمى على قاعدة اتصاف الأمر الخارجى بالاعتبار العقلى ، ولعل هذا هو الذى اعتبر حتى صح ذكر الجسم فى تعريف الشكل وجعله موصوفا بكونه دائرة ونصفها ، وغير ذلك ، وكون الشكل محسوسا بناء على إرادة المقدار ؛ إنما هو تبعا للإحساس الجسمى المعلوم عند المتكلمين ، وإذا تمهد هذا فالمراد بالنهاية فى قولهم إحاطة نهاية واحدة هو الخط المحيط بالشكل المقدارى المفروض أو بالشكل الجسمى المتصف بالمقدار ، فالدائرة شكل أحاطت به نهاية واحدة أى : خط واحد ويحققها كون ما أحاط


به الخط فيه مكان لو وضعت فيه نقطة وفرض خروج خطوط مستقيمة للخط المحيط استوت تلك الخطوط ، ويسمى موضع تلك النقطة مركز الدائرة ، فإن اعتبرت فرضية فهى من الأشكال الهندسية التعليمية وإن وجد جسم كذلك كانت حسية موصوفة بالاعتبارية ، وإنما قيل فى الخط المحيط بها واحد لاتحاد وضع نقطته واستوائه فى تناهى خطوط الدائرة الذاهبة إليه من كل وجه بخلاف نصفها فله نهايتان المقوس والجامع لطرفى القوس كالوتر ، وإذا فرضت نقطة فى وسط النصف لم تتساو الخطوط الخارجة منه إلى النهايتين والمثلث له ثلاث نهايات تجتمع فيه نهايتان فى زاوية حادة أو منفرجة ، وتجمع النهاية الثالثة طرفى المجتمعتين ، والمربع له أربع نهايات تجتمع فيه كل نهاية باثنين وتسمى كل نهاية ضلعا وهو والمثلث وغيرهما إما متساوى الأضلاع أو لا فشكل الدائرة كونها ذات إحاطة بنهاية واحدة وشكل المثلث كونه ذا إحاطة بثلاث نهايات ، وقس على هذا ، فإذا أردت التشبيه فى شكل قلت مثلا : رأسه كالبطيخ الشامى فى شكله ، (و) من (المقادير) جمع مقدار وهو كون أجزاء الشيء على كثرة مخصوصة أو قلة كذلك متصلة أو منفصلة ، ويعرف عند الحكماء بأنه كم أى : صفة يسأل عنها بكم متصل قار الذات ، وتقدم أنه يشمل الجسم التعليمى والسطح والخط ، وتقدم بيانها فخرج بالاتصال العدد ؛ لأنه كم منفصل الأجزاء ، إذ لا تجامع الوحدة الاثنينية ولا الاثنينية الثلاثية ، وكذا غيرها ، والمراد بالاتصال أن يكون لأجزائه حد يتلاقى فيه عند التجزئة ، بمعنى أن المقدار الموصوف بالطول مثلا إذا جزأته وهما وجعلته طرفين كان بين طرفيه حد موهوم يتلاقى فيه الطرفان ، وقد علمت أن المقدار وهمى فى أصله ولا يستحيل فرض التجزئة والتلاقى الذى هو من خواص الأجسام فى الأمور الوهمية التى لا حاصل لها ، وعلمت أيضا أن كونه حسيا باعتبار الجسم الذى يفرض متصفا به هذا إذا أريد به المقدار الحكمى ، وأما إن أريد به كونه أجزاء الجسم على وضع مخصوص واتصال أو انفصال لأجزائه مع كم مخصوص فحسيته واضحة ، وخرج بقار الذات الزمان فإن أجزاءه سيالة أى : لا تجتمع فى الوجود بمعنى أن أى جزء يوجد منه فلم يوجد حتى انعدم ما قبله ، ولا يخفى أيضا أن هذا الاعتبار إنما صح فى الزمن باعتبار


الوهم ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأنه على هذا عرض لا يصح فيه السيلان ، فإذا أردت التشبيه فى المقدار قلت : " جهنم ترمى بشرر كالقصر" فى مقداره أعاذنا الله تعالى منها برحمته ، (و) من (الحركات) ، والحركة هى حصول الجسم حصولا أولا فى الحيز الثانى ، ويسمى النقلة ، وهذا معناها عند المتكلمين ، وتفسر عند الحكماء بأنها هى الخروج من القوة إلى الفعل على سبيل التدريج كخروج الخضرة بالتدريج أى : وقتا فوقتا إلى اليبوسة التى كانت الخضرة فى قوتها أى : قابلة لأن تؤول إليها وخرج بالتدريج خروج الهواء من صورته الخاصة إلى صورة الماء دفعة فلا يسمى حركة ، والمعنى الأول هو المناسب لما يذكر بعد من حركة السهم والدولاب والرحى ، فإذا أردت التشبيه بها قلت : كأن فلانا فى ذهابه السهم السريع ، وإن أردت التشبيه بالمعنى الثانى قلت كأن الإنسان فى حركته من شبابه إلى الهرم الزرع الأخضر فى حركته من الخضرة إلى اليبوسة ، ثم إن الكلام مفروض فى الصفة الحقيقية وفى الكيفيات ، وقد علم إن المقدار من الكميات لا من الكيفيات والحركة على ما فسرت به من الخروج من القوة إلى الفعل اعتبارية لا حقيقية ؛ لأن الخروج أمر معتبر مثلا بين حال الاخضرار واليبوسة لا تحقق له خارجا ، فعد الحركة على هذا التفسير ، وكذلك المقدار من الكيفيات الحقيقية تسامح ، وما قيل من أن المصنف كأنه أراد صفة الحركة من سرعة وبطء وتوسط فهى حقيقية ، وصفة المقدار من طول وقصر وبينهما فهى كيف يرد بأن السرعة وما يقابلها صفات اعتباريات ؛ لأن الشيء يكون باعتبار سريعا وبآخر بطيئا مع أن ذلك من صفات النقلة ، ولم تفسر الحركة هنا بها ، وكذا الطول وما يقابله صفات اعتباريات ؛ ولذلك يكون الشيء طويلا باعتبار قصيرا بآخر ، (و) من (ما يتصل بها) أى : بما ذكر من مدركات البصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات ، والذى يتصل بها هو ما يحصل من اجتماع اثنين فأكثر منها أو باعتبار واحد مخصوص منها بخصوصه بدون اجتماع كالحسن والقبح اللذين يتصف بهما الجسم فى خلقته وحاصلهما هيئة حاصلة من شكل مخصوص ولون مخصوص ، فالحسن مأخوذ من الشكل واللون وكذا القبح ، وقد يوصف بهما الجسم باعتبار أحدهما فقط فيقال : قبيح فى شكله حسن فى لونه ، أو العكس فتقول


فى التشبيه فى الحسن وجهه كالشمس فى الإشراق والاستدارة اللذين هما مرجع الحسن وفى القبح وجهه كالقرمود الأخضر فى شكله ولونه اللذين هما مرجع القبح فيه ، وكالضحك والبكاء الراجعين إلى مجموع الحركة ، والشكل فى الفم فيقال عند التشبيه فى الضحك على وجه المدح : فمه فى ضحكه كالأقحوان عند انفتاحه ، وفى البكاء على وجه الذم : فمه فى بكائه كفم الكلب عند حتفه ومعالجته سكرات الموت ، ولا تخفى كيفية التشبيه فيهما عند قصد الذم فى الأول والرحمة والمدح فى الثانى ، (أو بالسمع) عطف على قوله بالبصر يعنى أن الكيفيات الحسية إما أن تكون مما يدرك بالبصر ـ كما تقدم ـ أو مما يدرك بالسمع ، والسمع صفة تدرك بها الأصوات قائمة بالباطن من الصماخ ، ويفسر عند الحكماء بأنه قوة مترتبة أى متمكنة فى العصب المفروش على سطح باطن الصماخين ـ وهما ثقبتان معلومتان فى الأذن ـ وفى الطرف الأسفل من الأذن عصبة جلدت عليه كالطبل ، فالسمع قوة متمكنة فى تلك العصبة تدرك بها الأصوات ، (من الأصوات القوية والضعيفة والتى بين بين) هذا بيان لما يدرك بالسمع يعنى والثقيلة والحادة والتى بين بين ، والفرق بين الصوت القوى والثقيل أن مرجع الأول إلى العلو والارتفاع بحيث يسمع عن بعد ، والثانى إلى التمهل وعدم النفوذ سريعا فى السمع ، والحدة فيه راجعة إلى النفوذ فى السمع بسرعة ، ويتصور ذلك فى أوتار المزامير ، والصوت معنى قائم بالمصوت ، وعند الحكماء معنى قائم بالهواء سببه التموج فى ذلك الهواء ومدافعة بعضه بعضا كتموج الماء ومصادمة بعضه بعضا ، والتموج المذكور يشتمل على سكون بعد سكون ؛ لأن أحد المصطدمين انتقل عن سكون كان قبل الصدم ثم عراه سكون بعد الصدم والآخر باعتبار مصادمة الثالث كذلك ، وسبب هذا التموج فى الهواء القرع العنيف أو القلع العنيف ، والقرع عبارة عن ملاقاة جرمين ، والقلع عبارة عن تفريق أحدهما عن الآخر. فأما الأول وهو القرع الذى هو إمساس عنيف أى : ملاقاة عنيفة فكإلقاء حجر على آخر فإذا لاقاه تموج الهواء متكيفا بالصوت فإذا صادم هواء آخر تموج الآخر متكيفا به أيضا ثم لا يزال التموج كذلك إلى أن يصل إلى الهواء الراكد فى الصماخ فيقرع الجلدة فيدرك السمع الصوت ، وعلى هذا فالصوت


قائم بالهواء ، إذ لو قام بالقارع والمقروع لزم كونه نسبيا ، وبحث فى هذا بأنه يلزم فيه أن لا تدرك جهة الصوت ، وأجيب بما ذكره فى محله ، وإنما شرط فى القرع كونه عنيفا أى : شديد الأنك لو وضعت حجرا على آخر بمهل لم يحصل تموج ولا صوت ، ويشترط فيه أيضا مقاومة بين المقروع والقارع أى : الملاقى بفتح القاف والملاقى بكسرها بأن يكون كل منهما قويا صلبا ، إذ لو كان ضعيفا غير صلب كالصوف المندوف المتراكم يقع عليه حجر أو خشب لم يحصل صوت ، وبحسب القوة والضعف فى المتقارعين يقوى الصوت ويضعف ، وأما الثانى وهو القلع الذى هو تفريق عنيف فهو على وجهين تفريق متصلين بالأصالة كتقطيع الخيط الصحيح ، وتفريق قطعة خشبة عن أخرى ، وتفريق متصلين اتصالا عارضا كجذب رجل غائص فى الطين منه ، فإذا وقع التفريق فيهما بعنف تموج الهواء أيضا على الوجه السابق ، وإنما شرط فيه العنف أى كونه بشدة ؛ لأنه لو وقع بتمهل بأن قطع الخيط شيئا فشيئا وجذب الرجل بتدريج لم يحصل تموج ولا صوت ، ويشترط فيه مقاومة المقلوع للقالع أى المقلوع عنه للمقتلع فى القوة مع شدة الاتصال ، فلذلك لو قلعت ريشة خفيفة من طائر ولو مع الاتصال وعنف القلع لم يحصل صوت ، وبحسب تلك المقاومة وضعفها يقوى الصوت ويضعف ، فإن قلع رجل الصبى الغائص من الطين ليس كقلع الكبير وإن اتحد القلع عنفا ، بل إذا ضعف المتقاومان ولو استويا ضعف الصوت أيضا كقطع خيط ضعيف ، وقولنا : إن التموج سبب الصوت لا ينافى ما عند أهل السنة من أن الأصوات بخلق الله تعالى ؛ لأن التسبب عادى (أو بالذوق) أى : ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة الذوق وهى صفة قائمة باللسان تدرك بها النفس طعم المطعومات ، ويعرف عنه الحكماء بما يرجع لذلك وهو أنه قوة أى صفة إدراك منبثة أى منبسطة فى العصب المفروش على جرم اللسان ووصفها بالانبثاث ، وإن كان الانبثاث فى أصله مخصوصا بأجزاء الجرم ؛ إذ هو جعل الشيء منبسطا عاما لأماكن إشارة إلى أن تلك القوى موجودة فى كل جزء من أجزاء العصب المفروش على جرم اللسان ؛ وإنما لم يقل المنبثة فى جرم اللسان ؛ لأن الواقع فى التشريح على جرم اللسان عصبا هو محل تلك القوة ، ثم بين ما يدرك


بالذوق بقوله (من الطعوم) يعنى الكيفيات الموجودة فى المطعومات ، ولها أوائل ثمانية منها الحلاوة ، وهى أقوى البواقى ملاءمة للذائقة وأشهاها لديها ، ومنها الدسومة وتليها فى الملاءمة ، وذلك كطعم اللحم والشحم والأدهان الملائمة ، ومنها المرارة ، وهى أقواها منافرة للذائقة ، ومنها الحرافة وفيها أيضا منافرة للذائقة ، إذ هى طعم فيه لذع ما ، ومنها الملوحة وهى فى رتبة التنفير بين المرارة والحرافة ، ولذلك تارة توجد مائلة للمرارة وتارة توجد مائلة للحرافة ، ومنها العفوصة وهى منافرة أيضا للذائقة وهى قريبة من المرارة ، بل هى نوع منها كطعم العفص المعلوم ، ولهذا قال فى القاموس : العفص : المرارة والقبض ، ومنها الحموضة وفيها تنفير أيضا وهى معلومة ، ومنها القبض وهو فى منافرة الذائقة فوق الحموضة وتحت العفوصة ، ولهذا يقال : إن العفوصة تقبض ظاهر اللسان وباطنه والقبض يقبض ظاهره فقط ، فهذه ثمانية هى أوائل المطعومات ، وقد تبين أن غير الحلاوة والدسومة منها تشترك فى مطلق المنافرة للذائقة ولو تفاوتت فيها ، ومتى لم تنافر فلفساد المزاج ، وأما عد التفاهة منها فغير مرضى إذ هو عدم الإحساس بطعم المذوق لبعض الأجسام فإنها عند اتصال الذائقة بها لا يحس منها بطعم ، وكل ما سوى هذه من المطعومات وهى أنواع لا تنتهى فمركبة من هذه المزازت المركبة من الحلاوة والحموضة وكلما خلط مطعوم بآخر حدث طعم آخر ، وفيما أشير إليه من المطعومات أبحاث موكولة لمحالها ، فإذا أريد التشبيه فى المذوق قيل : هذا الطعام كالعسل فى الحلاوة ، وهذا كالصبر فى المرارة ، وقس على هذا (أو بالشم) أى ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة الشم ، وهو معنى قائم بباطن الأنف تدرك به الروائح ، وهذا هو المتبادر الجارى على الألسن من معناه ، ويفسر عند الحكماء ـ بناء على ما اقتضاه التشريح ـ بأنه هو قوة أى : صفة إدراك كائنة فى زائدتى مقدم الدماغ حلمتين زائدتين هنالك شبيهتين بحلمتى الثديين فهما بالنسبة لمجموع الدماغ بخريطته كالحلمتين بالنسبة إلى الثديين ، فالقوة الشمية قائمة بتينك الزائدتين كل منهما يقابل ثقبة من ثقبتى الأنف ، وعلى هذا فلا إدراك فى الأنف وإنما هو واسطة ، بدليل أنه إذا انسد من داخل انقطع إدراك المشموم ولو سلم نفس الأنف من الآفات ، ثم بين المدرك بهذه الحاسة بقوله (من


الروائح) الطيبة والمنافرة ولا تمييز بينها إلا بالإضافة كرائحة المسك ورائحة الزبل وغير ذلك ، ولا تنضبط بزمام فإذا أريد التشبيه فى المشموم قيل هذا النبات كالورد فى رائحته ، وهذا الدهن كالقطران فيها وعلى هذا فقس ، (أو باللمس) أى : ومن جملة الكيفيات الحسية الجسمية ما يدرك بحاسة اللمس ، وهو فى الأصل مصدر لمسه إذا اتصل به شيء من جسده ، وأطلق هنا على قوة سارية أى عامة فى ظاهر البدن بها تدرك الملموسات ، ولا يضر تفاوت أجزاء ظاهر البدن فى الإحساس لاشتراكها فى مطلق الإدراك ، ثم بين بعض المدرك باللمس بقوله : (من الحرارة) وهى قوة من شأنها تفريق المختلفات وجمع المؤتلفات ، ولهذا إذا أوقد على حطب ذهب الجزء الهوائى وهو المتكيف بصورة الدخان صاعدا لأصله من الهواء ، والجزء الترابى وهو المتكيف بصورة الرماد متراكما إلى الأرض والعزل المائى والنارى وكل ذلك بالمعاينة ، وكذا إذا أوقد على معدن حتى ذاب انعزل زبده وخبثه عن صفيه (والبرودة) وهى قوة من شأنها جمع المؤتلفات وغيرها ، ولذلك إذا برد المعدن المذاب التصق خبثه بصفيه ، ولأجل كونهما فى أصلهما لهذا التأثير سميتا فعليتين وإن كان يقع منهما انفعال أى : تأثر عند تأثر الأجسام العنصرية بهما والتقاء أصولها ؛ لأنهما عند ذلك تنكسر سورة كل منهما بالأخرى فتحدث هيئة اتحاد فى الأجسام المركبة العنصرية ، وتسمى تلك الهيئة مزاجا لحصولها عن مزج الأجزاء البسيطة ، وبتلك الهيئة عند الاعتدال يصلح لكونه نباتا أو حيوانا بالفعل على حسب الاستعداد ، وكذا إذا ألقى الماء الحار على البارد انفعلت كيفية كل منهما بكسر الأخرى ؛ ولكن اعتبرت فيهما الحالة الأولى الأصلية فسميتا فعليتين ، (و) من (الرطوبة) وهى كيفية تقتضى سهولة التشكل والالتصاق والتفريق فى الجسم القائمة هى به ، (و) من (اليبوسة) وهى بعكسها أى كيفية تقتضى صعوبة التفريق والالتصاق والتشكل ، ولأجل اقتضائهما تأثر موصوفهما سميتا انفعاليتين ، وإن كانت الثانية منهما بتأويل الصعوبة أثرا ؛ وإنما هو فى الحقيقة نفى الأثر ومن عادتهم عد ما يمنع التأثر انفعالا ، وتسمى هذه الأربع أوائل الملموسات لأنها تدرك بمجرد اللمس من غير حاجة إلى توسط شيء آخر ، فإن الملموس تدرك حرارته أو برودته أو رطوبته أو يبوسته فى


أول اللمس ، بخلاف غيرها مما يأتى فإنها إنما تدرك باللمس مع زيادة خصوصية أخرى فى اللمس ، فإن اللزوجة مثلا يحتاج فى إدراكها إلى التشكل والجذب الزائدين على مجرد اللمس لتعلم سهولة الأول وصعوبة التفريق بالثانى ، وكذا الخفة والثقل يحتاج إلى زيادة الاندفاع ليعلما باللمس ، وأما الخشونة والملاسة فهما من صفات الوضع المدركة بالبصر فلم يعدا من أوائل هذه مع إدراكهما بأول اللمس ، وبهما يعلم أن الكيفية قد تكون منسوبة لحسيين والكلام فيما يختص باللمس ، وأيضا تسمى أوائل لأنها فى الأجسام البسيطة التى هى أوائل المركبات ، (و) من (الخشونة) وهى كيفية حاصلة من كون بعض الأجزاء أى : أجزاء الجسم أخفض وبعضها أرفع ، وتلك الكيفية خروشة تدرك عند اللمس ، ويدرك بالبصر ملزوم تلك الخشونة ، وهى كون الأجزاء على الوضع المخصوص من نتوء البعض وانخفاض الآخر على وجه مشاهد مخصوص ، وبذلك الاعتبار تسمى وضعية ، (و) من (الملاسة) وهى كيفية حاصلة عن استواء الأجزاء ، أى : أجزاء الجسم فى الوضع مع الالتصاق فهى أيضا باعتبار كونها على ذلك الوضع المخصوص الذى له مراتب وضعية مشهودة بالبصر ، وباعتبار الإحساس عند اللمس بسلاسة فى مرور الماس على سطح الممسوس بحيث لا يلتذع بما يمر به تسمى ملموسة ، (و) من (اللين) وهى كيفية تقتضى قبول الغمز أى التداخل إلى الباطن ويكون للشيء القائمة هى به قوم ، أى : جواهر فيها تماسك غير سيال ، فالماء على هذا ليس له لين ؛ لأن قوامه أى : جواهره فيها تماسك مع السيلان ، فيدخل فى الصلابة وهو بعيد. (و) من (الصلابة) وهى تقابل اللين ، فهى كيفية تقتضى قبول الانغماز أى : التداخل إلى الباطن ، فالأولى ككيفية العجين ، والثانية ككيفية الحجر والخبز اليابس ، (و) من (الخفة) ، وهى كيفية تقتضى فى الجسم أن يتحرك إلى صوب ، أى : جهة المحيط لو لم يعقه عائق كالريش الخفيف مثلا ، فإنه لو لا العائق لارتفع إلى العلو ، (و) من (الثقل) ، وهى كيفية تقتضى فى الجسم أن يتحرك إلى صوب المركز لو لم يعقه عائق كالرصاص المحمول ، فإنه لو لا حمله لتنزل إلى السفل ، وشبهوا العلو بمحيط الدائرة والسفل بمركزها لارتفاع المحيط عن المركز فى الجملة ، ولذلك قالوا فى الأول لصوب المحيط ،


أى : إلى جهة العلو ، وفى الثانى لصوب المركز ، أى : إلى السفل ، وأيضا السماء للأرض كالدائرة وهى فى جهة العلو ، والأرض كالمركز ، وهو بالنسبة إلى ما يظهر من السماء منخفض ، فإذا فرض الثقيل والخفيف بينهما اندفع الأول إلى الأرض التى هى كالمركز ، واندفع الثانى إلى السماء التى هى كالدائرة لو لا العائق فى كل منهما ، ولذلك عبروا بالمحيط والمركز (وما يتصل بها) ، أى : ما يلحق المذكورات فى كونه يدرك باللمس ، كالبلة وهى اتصال المائع بسطح الجسم ، فإن داخله فهو انتفاع ، وهذه فى الحقيقة ترجع إلى إدراكه المائعية فى سطح جسم ما ، والجفاف وهو عدم اتصال المائع بسطح غير مائع ، واللزوجة وهى من اللزج الذى هو اللزوم ، وهى كيفية تقتضى سهولة التشكل وعسر التفرق ، بل يمتد عند محاولة التفرق كبعض أنواع الصمغ الممضوغ وكالمصطكى ، والهشاشة تقابلها ، فهى كيفية تقتضى سهولة التفرق وعسر الاتصال بعد التفرق كالخبز اليابس المعجون بالسمن ، واللطافة وهى رقة القوام أى : الأجزاء المتصلة كالماء ، وقيل هى كون الشيء بحيث لا يحجب ما وراءه ، والكثافة ضدها وهى غلظ القوام أو حجب الجسم ما وراءه ، ولكن المعنى الثانى فيهما لا يناسب المس ، وتطلقان على معان أخرى وغير ذلك مما ذكر فى غير هذا المحل كاللذع الذى هو كيفية سارية فى الأجزاء يحس بها عند مس اللاذع توجب تفرقا موجعا ، فإذا أردت التشبيه بالكيفية المتعلقة بحاسة اللمس قلت مثلا فى الحرارة أو البرودة : هواء اليوم كالنار فى حرارته ، أو كالثلج فى برودته ، وفى الرطوبة أو اليبوسة : هذا الطعام كالزبد عند انفصاله عن اللبن فى رطوبته ، أو هذا الخبز كالحجر فى يبوسته وعلى هذا فقس وقد أطنبت قليلا فيما يتعلق بهذه الكيفيات على حسب ما فسرها به الشارح مما هو من تدقيقات الحكماء بعد تفسير بعضها بما هو أقرب إلى الفهم قصد الإيضاح وزيادة فى الفائدة ، وإن كان تفسيره كما قيل لا يناسب هذا الفن ولا يسهل على المتعلم ، بل يزيده حيرة ، ولكن حيث ارتكب ذلك وجب مجاراته مع زيادة ما يوضح الغرض من بيان اصطلاحهم إزالة للحيرة عن المتعلم ، قيل ولعل ذلك من الشارح صدر منه قصدا للافتخار باطلاعه على تدقيقات الحكماء. وأنا أقول : بل لعله لما كان معنى تلك الكيفيات فى متفاهم العرب


ظاهرا لم يبق ما يقال فيها إلا أن يؤتى فى تفسيرها بما يعلم به معناها فى تدقيقات الحكماء قصدا التمرين قريحة المتعلم وزيادة لافادته ، وأما الحيرة فالغالب أنها إنما تكون من البليد فيلزمه طلب الفهم فيما ذكر فيها ، وأما غيره فالمعانى المذكورة فيها غالبها يفهمه إذا راجع فكره ووجدانه والله وأعلم.

الحقيقة العقلية

(أو عقلية) هذا هو القسم الثانى من قسمى الحقيقة ، يعنى أن الصفة الخارجية الحقيقية إما أن تكون حسية كما مر وإما أن تكون عقلية فهو معطوف على حسية ، والعقلية (كالكيفيات النفسانية) أى : المختصة بذوات الأنفس الناطقة المتعلقة بالباطن ، وإنما أثرت فى الظاهر ثم أشار لبيانها بقوله : (من الذكاء) ، والذكاء شدة قوة العقل المعدة لاكتساب النفس بها الآراء الدقيقة ، فتقول فى التشبيه به هو كأبى حنيفة فى الذكاء ، (و) من (العلم) وهو الإدراك المفسر بحصول صورة الشيء عند العقل ، وتفسير العلم بالحصول يقتضى كونه نسبيا أى اعتباريا ؛ لأن الحصول من الأحوال الاعتبارية بين الحاصل والمحصول فيه فى التحقيق ، والمنهج المشهور فيه أنه معنى ينكشف به الشيء كما هو ، ولذلك قيل : إن الصورة بقيد حصولها فى العقل هى العلم ، وبقيد كونها فى الخارج هى المعلوم ، ورام هذه القائل بهذا أن يجعل العلم وجوديا لا نسبيا ، ولا يخفى أنه لا معنى لكون الصورة علما إلا باعتبار إدراكها وحصولها فيعود لأحد الأولين ، وإن الصورة العلمية على هذا اعتبارية وإلا لزم أن الصور والأمثال وجودية خارجية والبديهة تدفع ذلك ، وقد يطلق العلم على معان أخر ، فيطلق على الملكة كما تقدم أول الكتاب ، وعلى إدراك الكلى فيقابل المعرفة المتعلقة بإدراك الجزئى ، وعلى إدراك المركب فيقابل المعرفة المتعلقة بالبسيط ، فيقال فى التشبيه بالعلم هو كمالك فى علم الفقه وكسيبويه فى علم النحو ، (و) من (الغضب) وهو تغيظ على ما يكره وتكره فى الشيء يوجب غليان دم القلب وتنشأ عنه حركة النفس أى : انبعاثها للانتقام لو لا الحلم ،


فجعل إرادة الانتقام مبدأ لهذه الحركة كجعل الشيء مبدأ لنفسه ؛ إلا أن يراد بالإرادة أول الانبعاث تأمل فيقال : هو كعنترة فى غضبه ، (و) من (الحلم) وهو اطمئنان النفس عند وجود أسباب الغضب ، بحيث لا يحركها ذلك الغضب بسهولة ولا يضطرب للانتقام عند إصابة المكروه الذى هو من أسباب الغضب ، ومعلوم أن الانتقام على قدر الغضب ، ومطلق الغضب لا يحرك الحليم ، وإنما يحركه القوى جدا فيكون الانتقام على قدره ، ولذلك يقال : انتقام الحليم أشد ، فيقال فى التشبيه به : هو فى حلمه معاوية.

(و) من (سائر) أى : باقى (الغرائز) مما سوى الذكاء والحلم ، وملكة العلم أى : العقل ، والغرائز جمع غريزة وهى الطبيعة التى لتمكنها فى النفس كأنها مغروزة فيها ، وهى ملكة متمكنة فى النفس تصدر عنها الأفعال الملائمة لها بسهولة مثل الكرم النفسي أى : الذاتى لا العارض لغرض فيصدر عنه الإعطاء ، ومثل القدرة فتصدر عنها الأفعال الاختيارية من العقوبة وغيرها ، ومثل الشجاعة الذاتية لا العارضة فيصدر عنها بسهولة اقتحام الشدائد وغير ذلك مثل أضدادها فالبخل يصدر عنه المنع مما يطلب وهو فعل ، والعجز يصدر عنه تعذر الفعل عند المحاولة وهو فعل يسند لصاحب العجز ، والجبن يصدر عنه الفرار من الشدائد المتلفة ونحو ذلك ، فيقال عند التشبيه بها مثلا هو حاتم فى الكرم ، وعنترة فى الشجاعة ، ومعتصم فى القدرة ، وظاهره أن الغريزة تختص بما تصدر عنه الأفعال أو ما يجرى مجرى الأفعال ، فلو فرضت طبيعة لا فعل لها لم تكن غريزة كالبلادة ، إلا أن يلتزم أن الغريزة لا تخلو من فعل أو ما يجرى مجراه كعدم العلم بالدقائق فى البليد ، تأمل.

(وإما إضافية) هذا مقابل قوله : إما حقيقية فهو معطوف عليه ، يعنى أن الصفة الخارجية إما أن تكون حقيقية ، وهى التى لها تقرر فى الموصوف الواحد حال كونها مستقلة بالمفهومية ، وقد تقدم أنها قسمان حسية ومعنوية ، وإما أن تكون إضافية أى : نسبية يتوقف تعقلها على تعقل الغير ، فلم تستقل بالمفهومية ، وإذا قوبلت الحقيقية بالنسبية دخل فى الحقيقية الصفة التى لها تحقق حسا كالبياض والسواد ، سواء كان لها وجود كهذه أو لا وجود لها ، ولكن لو وجد موصوفها وجدت كصورة الأنياب للأغوال


كما تقدم ، ودخل فيه ما له تحقق عقلا بدون نسبة وإضافة ، سواء كان لها وجود فى الخارج كالحياة أو لا وجود لها إلا فى الاعتبار العقلى ، ولو وصف بها الموجود كالإمكان ، وعلى هذا يكون المقابل للحقيقى هو الإضافى النسبى ووجه المقابلة أن هذه الأقسام لها تحقق فى استقلال المفهومية ، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدم ، وإليه أشار بقوله : وإما إضافية ، ثم مثل لهذه الإضافية بقوله : (كإزالة الحجاب) المعتبرة هى (فى تشبيه الحجة) الواضحة (بالشمس) ، فإن هذه الإزالة أمر إضافى يتعقل فيما بين المزيل والمزال وليس هيئة متقررة فى الحجة ولا فى الحجاب ، كما لم يتقرر فى الشمس ولا فى الحجاب المزال لها ، فإذا قلت : هذه الحجة كالشمس كان الوجه بينهما أن كلا منهما أزال الحجاب عما من شأنه أن يخفى ؛ إلا أن الشمس أزالته عن المحسوسات والحجة عن المدارك المعقولات ، وإذا زال الحجاب ظهر المزال عنه ، قيل : وجه الشبه فى الحقيقة هو ظهور ما خفى بكل منهما والإزالة تستلزمه ؛ وذلك لأن المقصود بالذات الظهور والإزالة واسطة والخطب فى مثل هذا الاعتبار سهل ، وقد ظهر بهذا التقرير أن بعض أقسام الاعتبارى داخل فى الحقيقى ولم يخرج عنه منها إلا النسبى إن قلنا إن النسبة إضافية ، وإن قلنا إن الأمور النسبية وجودية كما هو مذهب الحكماء دخل الاعتباري كله فى الحقيقى فتكون مقابلة الإضافى بالحقيقي مقابلة بما يشمل الاعتبارى والوجودى مما سوى ذلك الإضافى ، وقد أدخلنا نحن فى الحسى ما لم يوجد ولكن لو وجد موصوفه صار محسوسا كصورة أنياب الأغوال بناء على أن الصورة حسية لرجوعها إلى هيئة الوضع ، وبعض الناس يجعله اعتباريا بناء على أنه لما كان وهميا محضلا فلا وجود له فلا يكون حسيا كما دل عليه كلام السكاكى فيما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وعلى كل حال فلم يخرج عن الحقيقى إلا النسبى أى الإضافى المقابل له ، وقد يطلق الحقيقي على ما يقابل الاعتبارى الذى لا تحقق له إلا فى اعتبار العقل دون الخارج ، فعلى مذهب الحكماء يدخل النسبى فى الحقيقى لوجود النسبة عندهم وعلى مذهب المتكلمين من أن النسب والإضافات أمور اعتبارية وهو الحق تدخل النسبة فى الاعتبارى ، ومما يدل على هذا الإطلاق ـ أعنى إطلاق الحقيقى فى مقابلة الاعتبارى مطلقا ـ كلام للسكاكى فى


المفتاح فإنه قال : الوصف العقلى منحصر ـ أى : متردد على وجه الحصر ـ بين حقيقى كالكيفيات النفسانية وبين اعتبارى ونسبى ، ثم مثل للنسبى بقوله : كاتصاف الشيء بكونه مطلوب الوجود أو العدم عند العقل أى : لأن كون الشيء مطلوب الوجود عند العقل ، يعنى إن كان محبوبا أمر نسبى يتعقل بين المطلوب والطالب الذى هو العقل فكان إضافيا ، وكذا اتصاف الشيء بكونه مطلوب العدم عند العقل ، يعنى إن كان مكروها أمر نسبى أيضا ، وذلك كقولك فى التشبيه : هذا الأمر كأشد ما يتمنى أو كأشد ما يكره ومثل للاعتبارى الوهمى بقوله : أو كاتصافه بشيء تصورى وهمى محض ، يعنى كصورة أنياب الأغوال التى لا وجود لها إلا فى الوهم كما تقدم ، فتقول فى التشبيه : هذا السنان كناب الغول ، فإن هذا الكلام من السكاكى إن بنى على ما هو المشهور عند المتكلمين ـ من أن الأمور النسبية اعتبارية ـ يكون عطف النسبى فى قوله : ونسبى على الاعتبارى من عطف الخاص على العام ، ويكون التمثيل الأول كما أشرنا إليه لهذا الاعتبارى المخصوص ، والتمثيل الثانى لقسم آخر من الاعتبارى وهو الوهمى لا يتوهم عده من الحسى كما تقدم. ويلزم على هذا البناء كون الحقيقى فى مقابلة الاعتبارى ، ويدخل فى الاعتبارى جميع أنواعه وإن كان لم يمثل إلا لنوعين ، وأما إن بنى على أن النسبى موجود لم يدل على أن الحقيقى قوبل بالاعتبارى فقط ، بل على أنه قوبل بالاعتبارى والنسبى ؛ لأن النسبى ليس من قبيل الاعتبارى على هذا البناء ، فلم يدل كلامه على أن الحقيقى أطلق فى مقابلة الاعتبارى فقط ، بل نقول : يحتمل كلامه كما يدل عليه المثال أن يختص الاعتبارى بالوهمى فيندرج فى الحقيقى بعض أنواع الاعتبارى كالإمكان فلا يدل على ما قيل على وجه الإطلاق ، فتأمل ههنا حتى تعلم أن هذا البسط والتحرير محتاج إليه فى هذا المقام.

تقسيم آخر لوجه الشبه

وجه الشبه الواحد

(و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر فى الوجه فنقول : (إما واحد) أي : إما أن يكون واحدا ، ونعنى بالواحد ما يعد فى العرف واحدا لا الذي لا جزء له أصلا ، وذلك


كقولك : خده كالورد فى الحمرة ، فهذا واحد وإن اشتملت الحمرة على مطلق اللونية ومطلق القبض للبصر.

وجه الشبه المنزل منزلة الواحد

(وإما بمنزلة الواحد) أي : وإما أن يكون بمنزلة الواحد (لكونه) اعتبر في التشبيه مجموعه بحيث لا يكفي فيه بعضه وإن كان هو بنفسه (مركبا من متعدد) وهذا الذي بمنزلة الواحد لكونه ركب من متعدد واعتبر في التشبيه مجموعه على قسمين أحدهما أن يكون تركيبه تركيبا حقيقيا وهو الذي يكون فيه كل جزء صحيح الصدق على الآخر أي : صحيح المعروضية والعارضية بحيث يصيران في الخارج شيئا واحدا ، وتلتئم من أجزاء التركيب حقيقة واحدة كقولك : زيد كعمرو في أن كلا منهما حيوان ناطق ، فإن الناطق والحيوان يصح أن يصدق كل منهما على الآخر ، فيقال : الحيوان ناطق والناطق حيوان ، وذلك عند التئامهما على أنهما حقيقة واحدة هي الحقيقة المسماة بالإنسان ؛ وإنما كان هذا التركيب حقيقيا ؛ لأن الجزأين صارا به شيئا واحدا في الخارج ، فتأثير هذا التركيب في تقريب المركب من الوحدة أحق وأقوى ، والغرض من التركيب إفادة هذا المعنى فكان باسم التركيب أحق وأولى ، وقد يقال : المراد بكونه حقيقيا كونه يجعل المركبين حقيقة واحدة وهما متقاربان والوجه الأول أقرب ، وقد تقدم وجه صحة نحو هذا التشبيه ، والآخر أن يكون تركيبه لا حقيقيا ، وذلك بأن يعتبر هيئة اجتماع أمور بحيث لا يصح التشبيه إلا باعتبار تعلقها بمجموع الأجزاء أيضا ؛ ولكن ليس تركيب تلك الأجزاء بحيث يصدق كل منهما على الآخر فيلتئم من الكل حقيقة واحدة كما في القسم الأول وذلك كالوجه في قوله :

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

فإن الوجه على ما يأتي هو الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة على وجه مخصوص في جنب شيء مظلم ، ومعلوم أن تلك الأجرام المخصوصة لا يصدق عليها ذلك الشيء المظلم ، وأنه لا تلتئم من المجموع حقيقة واحدة ؛ ولكن تلك الهيئة ولو اعتبر

__________________

(١) البيت لبشار بن برد ، ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ويروى (رؤوسهم) بدل" رؤوسنا".


فيها متعدد كالشيء الواحد في عدم استقلال كل جزء منها في التشبيه (وكل منهما) أي : وكل من الواحد والذي بمنزلة الواحد ينقسم إلى قسمين ؛ لأن الواحد إما (حسي) كالحمرة (أو عقلي) كالعلم ، والذي بمنزلته أيضا إما حسي كالهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة على وجه مخصوص في جنب شيء مظلم فيما تقدم وسيأتي ، وإما عقلي كعدم الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه كما يأتي أيضا فى الأمثلة ، ودخل فى العقل المنسوب للمركب الذى هو بمنزلة الواحد ما بعضه عقلى وبعضه حسى كما يأتى ، إذ يصدق عليه أن مجموعه ليس بحسي ، ولك أن تدخله فى الحسى لمثل هذا التعليل مع أن له مزيد اختصاص بالإحساس من حيث إن طرفيه يجب أن يكونا حسيين ؛ إذ لا يقوم الحسي بالعقلي ، والمصنف لم يعتبره قسما ثالثا في المركب ؛ لأن حسيته أو عقليته باعتبار بعض الأجزاء ، والمعتبر في التشبيه به هو الهيئة الاجتماعية لا بعض الأجزاء بخصوصها.

وجه الشبه المتعدد

(وإما متعدد) هذا مقابل قوله : وإما واحد أو بمنزلته فهو معطوف عليه ، يعني أن وجه الشبه إما أن يكون واحدا أو بمنزلته ـ كما تقدم ـ وإما أن يكون متعددا ، والمراد بالتعدد أن يذكر في التشبيه عدد من أوجه الشبه بين شيئين أو أشياء على وجه صحة الاستقلال ، بمعنى أن كل واحد مما ذكر لو اقتصر عليه كفى في التشبيه بخلاف المركب ، فإنه يجب أن يكون بحيث لو أسقط جزء مما اعتبرت فيه الهيئة أو مما اعتبر جميعها حقيقة واحدة بطل التشبيه في قصد المتكلم كما تقدم في تشبيه مثار النقع .. إلخ. في الهيئة السابقة وفي تشبيه زيد بعمرو في الحيوانية والناطقية. مثال المتعدد أن يقال : هذه الفاكهة كهذه في لونها وفي شكلها وفي حلاوتها ، فلو أسقط اثنان من هذه لكفى الباقي في التشبيه في قصد المتكلم ، وهذا المتعدد (كذلك) السابق وهو الواحد أو بمنزلته في أنه ينقسم إلى كونه إما حسي أو عقلي وقوله : (أو مختلف) عطف على ما تضمنه كذلك ، والتقدير : المتعدد إما حسي كله أو عقلي كله أو مختلف أي : بعضه


حسي وبعضه عقلي. مثال الحسي كله ما تقدم في تشبيه الفاكهة بأخرى ، ومثال العقلي كله أن يقال : زيد كعمرو في علمه وصحبته وإيمانه ، ومثال المختلف أن يقال : زيد كعمرو في علمه وشكله وكلامه ، ثم أشار إلى ما يقتضيه كون الوجه حسيا أو عقليا في الطرفين بقوله : (والحسي) من وجه الشبه ؛ سواء كان حسيّا كله ، أو كان بعضه حسيا وبعضه عقليا (طرفاه حسيان لا غير) أي : يجب أن يكون كل من طرفي التشبيه حيث تحققت حسيته في الوجه حسيا ، فلا يجوز أن يكونا معا عقليين أو أحدهما ؛ وإنما وجب كون الطرفين عند وجود الحسية في الوجه حسيين معا (لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء) يعني أن وجه التشبيه يجب أن يقوم بالطرفين ، ولا بد من إدراكه فيهما ليتحقق التشارك فيه ، فإذا كان ذلك الوجه حسيّا أدرك بإحدى الحواس ؛ إذ لا معنى للحسي إلا ما يدرك بالحواس حال وجوده خارجا فلو صح أن يكون أحد الطرفين عقليا مع كون الوجه حسيّا لصح أن يدرك الوجه الحسى فى ذلك الطرف العقلى ؛ لأن الوجه الحسى عند وجوده يدرك بإحدى الحواس ، وإلا لم يكن حسيا لكن إدراك الأمر العقلي بالحواس محال ، فإدراك أوصافه بالحواس محال ؛ لأن أوصاف العقلي لا تكون إلا عقلية ؛ إذ لا يصح اتصاف العقلي بالحسي ضرورة أن الأوصاف المدركة بالحواس أوصاف الجسم ولا يصح أن تكون لغيره ، والجسم حسي لا عقلي ، وهذا المعنى أعني كون الحسي لا يكون قائما بالعقلي يكفي في التعليل ، بل هو أوضح ، لكن لما كان يستلزم عدم إدراك الحس من العقلي شيئا علل به إشارة إلى تأخر إدراك الوجه على إدراك الطرفين ؛ إذ هو المطلوب إفادة في التشبيه ، فهو المجهول المطلوب بعد تصور الطرفين ، فإن قلت : كيف يصح أن يجعل الجسم الموصوف بالمحسوس محسوسا حتى لا يصح أن يقوم الحسي بالعقلي مع ما تقرر من أن المدرك بالبصر مثلا اللون لا الجسم ، فقد صح اتصاف العقلي وهو الجسم بالحسي وهو اللون ، قلت : هذا تقرير فيلسوفي وليس على مذهب المحققين ، فإن الضرورة حاكمة بإدراك الجسم بحاسة البصر ، فلا يصح قيام الحسي بغير الجسم المحسوس ، فالمحسوس إما جسم أو قائم به وهو ظاهر ، (و) أما (العقلي) من وجه الشبه فيجوز أن يكون طرفاه عقليين


معا ، وأن يكون حسيين معا ، وأن يكون أحدهما حسيا والآخر عقليّا ، فمحل العقلي (أعم) من محل الحسي ؛ وذلك (لجواز أن يدرك بالعقل من) الأمر (الحسي شيء) معقول يقع التشبيه به ، وإدراك المعقول من المحسوس يتوقف على صحة اتصاف المحسوس بالمعقول ، وهو محقق كاتصاف الإنسان بالعلم والإيمان والجهل وغير ذلك (ولذلك) أي : لأجل كون وجه التشبيه العقلي أعم محلا (يقال) موافقة لذلك : (التشبيه بالوجه العقلي أعم) محلا من التشبيه بالوجه الحسي ؛ وذلك لأن صحة التشبيه تابعة لوجود وجه الشبه في الطرفين ، فإذا كان يوجد في العقليين والحسيين والمختلفين ، والحسي لا يوجد إلا في الحسيين كان محل الأول أعم لعمومه الأقسام الثلاثة واختصاص الحسي بواحد منها ؛ وإنما جعلنا العموم والخصوص في المحلين أعني محل الوجه الحسي ومحل الوجه العقلي لأن نفس التشبيهين متباينان ؛ إذ معنى التشبيه بالوجه الحسي التشبيه بالوجه الذي لا يدرك أولا إلا بالحس ، ومعنى التشبيه بالوجه العقلي التشبيه بالوجه الذي لا يدرك أولا إلا بالعقل ؛ وذلك لأنه لو أريد بالعقلي مطلق المدرك بالعقل لم تصح مقابلته بالحسي في التقسيم ضرورة أن كل مدرك بالحس مدرك بالعقل ولا ينعكس ، فيكون العقلي على هذا أعم فلا يقابله الحسي ـ فافهم ـ ثم أورد بحثا على كون وجه الشبه قد يكون حسيّا ، فقال : (فإن قيل هو) ، أي : وجه الشبه لأجل اشتراط وجوده في الطرفين معا (مشترك) فيه ضرورة ؛ لأن غير المشترك فيه لا يوجد في الطرفين معا وإنما يوجد في أحدهما ، وإذا كان مشتركا بين الطرفين (فهو كلي) لصدقه على الوصفين المعينين الموجودين في الطرفين ، وما يصدق على اثنين فأكثر كلى لاشتراكهما في وجود معناه فيهما بخلاف الجزئي فإنه لا يصح صدقه على اثنين فأكثر بوضع واحد ، فلا يقع التشارك فيه ؛ وذلك لأن المراد بالاشتراك ههنا ما ذكره من صحة الصدق على المتعدد بوضع واحد ؛ لأن ذلك شأن وجه الشبه لا التشارك في مطلق نسبة شيئين إلى شيء واحد كاشتراك زيد وعمرو فى أيهما فإنه يصح في الجزأين ، وإذا كان وجه الشبه كله كليّا صحت لنا هنا قضية صادقة كلية ، وهي قولنا : " كل وجه شبه كلي" فتضم إلى قضية أخرى كلية مسلمة الصدق ، وإليها أشار بقوله : (والحسي ليس بكلي) ؛ إذ


هي في قوة قولنا لا شيء من الحسي بكلي ، ودليل صدقها أن ما يدرك بإحدى الحواس الخمس إنما يدرك في مادة معينة ، أي : في جسم معين فيكون جزئيات ضرورة أن كل معين خارجا جزئي ، وذلك ظاهر لأنه لا تدرك الكليات بالحواس فينتظم لنا من القضيتين قياس من الشكل الثاني ، هكذا كل وجه شبه كلي ولا شيء من الحسي بكلي ينتج كلية لكلية مقدمتيه ، وهي قولنا : لا شيء من وجه شبه بحسي ، وهذا يناقض ما تقرر من أن وجه الشبه يكون حسيّا ثم أجاب عن ذلك بقوله : (قلنا : المراد) بكون وجه الشبه حسيّا (أن أفراده) أي : جزئيات وجه الشبه (تدرك بالحواس) الخمس الظاهرة ، فالحمرة مثلا في تشبيه الخد بالورد حسية لا بمعنى أن المعنى الكلي المفهوم منها الصادق على الجزئيات حسي ، بل بمعنى أن أفراد ذلك الكلي الذي وقعت فيه الشركة حسية ، فنسبة الحسية إلى الوجه إنما هي باعتبار نسبتها إلى أفراده ، ففي الكلام على هذا بعض التسامح ، وأما العقلي كالعلم فلا يدرك شيء من أفراده بالحس أصلا ، فلذلك سمي عقليّا ، وحاصل السؤال أن الاشتراك المشترط في الوجه يقتضي نفي الإحساس لاقتضائه كونه كليّا والكلي لا يتعلق به الحس ، وحاصل الجواب تسليم البحث وتأويل أن إطلاق الإحساس على المعنى الكلي ليس على ظاهره ، بل إنما أطلق عليه ، نظرا لأفراده فسمي بما يعرض لأفراده ؛ لأنها هي الموجودة خارجا في الطرفين حقيقة لا الكلي ، وإن كان هو المشترك فيه ، والذي يتحصل من أقسام الوجه بالنظر إلى الطرفين ثمانية وعشرون قسما ؛ وذلك لأن الوجه إما واحد ، وإما بمنزلة الواحد ، وإما متعدد ، والواحد والذي بمنزلته إما أن يكونا حسيين أو عقليين فهذه أربعة ، والمتعدد إما أن يكون حسيا أو يكون عقليا أو يكون بعضه عقليا ، وبعضه حسيا ، فهذه ثلاثة في المتعدد إلى الأربعة التي في الواحد والذي بمنزلته مجموعها سبعة ، وكل من هذه السبعة إما أن يكون طرفاه عقليين أو حسيين أو المشبه حسيا والمشبه به عقليا والعكس مجموع ذلك ثمانية وعشرون من ضرب سبعة أحوال الوجه في أربعة أحوال الطرفين ، ثم إن الثلاثة أعني الواحد والذي بمنزلته والمتعدد إذا كانت عقلية فهي تجري في أربعة أحوال الطرفين لما تقدم أن الوجه العقلي يجري في المحسوسين والمعقولين والمختلفين


فتكون أقسام العقلي الاثنا عشر صحيحة ، وأما الأربعة الباقية أعني الواحد والذي بمنزلته إذا كانا حسيين والمتعدد إذا كان كله حسيا أو بعضه فلا يجري واحد منهما في غير الحسيين وإنما تجري هذه الأربعة في الطرفين الحسيين فقط لما تقدم أن الحسي طرفاه حسيان فهذه أربعة تضم إلى اثنى عشر التي للعقلي فتكون ستة عشر ، والباقي لتكميل الثمانية والعشرين ساقطة وهي اثنا عشر لتحصل أن الأقسام التي أشار المنصنف إلى إثباتها ستة عشر فشرع في التمثيل لبعض هذه الأقسام مع ما يتعلق بها فقال :

أمثلة الواحد الحسى

(الواحد الحسي) من وجه الشبه هو (كالحمرة) فيما مرّ من تشبيه الخد بالورد فإنها محسوسة بحاسة البصر ، (و) ك (الخفاء) أي : خفاء الصوت فيما مرّ من تشبيه الصوت الضعيف بالهمس فإنه محسوس بحاسة السمع ، ومما يتأمل فيه كون الخفاء مسموعا ، والذي يتبادر أن الخفاء من حيث إنه عدم الجهر لا يحس وإنما يدرك بالعقل عند سماع الصوت بحالته الخاصة به من الضعف ، لكن عبر به عن حالة الصوت الخفى لا من حيث مجرد الخفاء ، بل من حيث إنه حالة لا ينفك الصوت عن إدراكه (و) ك (لذة الطعم) فيما مر تشبيه الريق بالخمر فإنها مدركة بحاسة الذوق وفيه أيضا أن المدرك هو الطعم بحالته واللذة لكونها إدراكا عقلية كما مر ، ولكن عبر باللذة عن ملزومها وهو الطعم بحالته الخاصة من الحلاوة ، وعليه يراد بالطعم المضاف إليه الطعوم ، (و) ك (طيب الرائحة) فيما مر من تشبيه النكهة وهي ريح الفم بريح العنبر فإنه مدرك بحاسة الشم ، وفي جعل الطيب مدركا بالشم أيضا شيء فإن المدرك بالشم هو نفس الرائحة بحالتها الخاصة ، وأما الطيب فمدرك بالعقل ، ولكن إنما يظهر هذا إن فسر طيب الرائحة باستطابة النفس إياها في إدراكها للطيب من حيث هو طيب ، وإن فسر بالحالة الذاتية للرائحة التي بها تستطيبه النفس هو مدرك بالحاسة ؛ إذ إدراك الشيء يقتضي إدراك خاصته النفسية ، (و) ك (لين الملمس فيما مر) من تشبيه الجلد الناعم


بالحرير ، وقد علم بما ذكرنا أن قوله فيما مر مقدر مع جميع المذكورات كما قررنا ، وأن المصنف تسامح في جعل الخفاء والطيب واللذة من المحسوسات بالحواس التي هي السمع في الأول والشم في الثاني والذوق في الثالث إلا إن حمل على ما أشرنا إليه ، والله أعلم.

هذه أمثلة الواحد الحسي.

أمثلة الواحد العقلى

(و) أما الواحد (العقلي) فأمثلته (كالعراء) أي : الخلو (عن الفائدة و) ك (الجرأة) أي : الشجاعة بمعنى التجاسر ، والعداء على ما يراد قتله ؛ وإنما لم يعبر بالشجاعة في مكان الجرأة لأن الحكماء فسروا الشجاعة بما يقتضي اختصاصها بذوات الأنفس الناطقة ، وهي أنها هي الجرأة الصادرة عن روية وبصيرة بخلاف الجرأة فهي أعم ، وفيها لغات الجرأة على وزن الجرعة ، كما مثل المصنف ، والجرأة كالكراهة ، والجرائية كالكراهية ، والجرة كالكرة ، وفعلها جرؤ بضم الراء (و) ك (الهداية) وهي الدلالة على الطريق الموصل إلى المقصود حسا أو معنى (و) ك (استطابة النفس) أي : ملاءمتها لشيء واستحسانها له ؛ فهذه أربعة أمثلة للواحد العقلي وعددها باعتبار تعدد الطرفين ، لأنهما إما عقليان أو حسيان أو المشبه عقلي والمشبه به حسي أو العكس ، فأما الأول وهو العراء عن الفائدة فهو وجه شبه فيما طرفاه عقليان ، وذلك (في تشبيه وجود الشيء العديم النفع) أي : الذي لا نفع له يعني ولا ضرر (بعدمه) كرجل هرم ولا عقل له فيقال وجود هذا كعدمه في العراء عن الفائدة ، ولا شك أن الوجود والعدم عقليان ؛ إذ المراد بالوجود الحال النفسي لا الذات ونفعه أو عدمه باعتبار متعلقه ، فتبين بهذا صحة تشبيه الوجود بالعدم فيما ذكر ، وأن ما قيل من أنا إذا قلنا : زيد كالمعدوم ليس من باب التشبيه ، بل هو من باب نفي الوجود ليس بظاهر لإمكان الظاهر من التشبيه بالوجه المذكور ، (و) أما الثاني وهو الجراءة فهو وجه شبه فيما طرفاه حسيان ، وذلك في (تشبيه الرجل الشجاع بالأسد) ؛ حيث يقال مثلا : " زيد كالأسد في الشجاعة".


(و) أما الثالث وهو الهداية فهو وجه شبه فيما طرفه الأول وهو المشبه عقلي ، والثاني وهو المشبه به حسي ، وذلك في تشبيه (العلم بالنور) حيث يقال : " العلم كالنور والجهل كالظلمة" فإن وجه الشبه بين العلم والنور الهداية إلى المقصود ؛ فإن العلم يفصل بين الحق والباطل ، فقد دل على الطريق الذي هو الحق ليتبع فيتوصل به إلى المقصود من السلامة في الدنيا والآخرة ، والنور يفصل بين طريق الهلاك وطريق السلامة ليركب الثاني دون الأول ، فقد دل أي : هدى كل منهما إلى طريق السلامة والانتفاع فوجه الشبه بينهما ما اشتركا فيه وهو الهداية ، وإن كانت في الأول معنوية وفي الثاني حسية باعتبار المتعلق (و) أما الرابع وهو استطابة النفس فهو وجه شبه فيما طرفه الأول وهو المشبه حسي ، والثاني وهو المشبه به عقلي ، وذلك في تشبيه (العطر) وهو ما يتعطر به مما له رائحة طيبة كالمسك (بخلق) أي : طبائع رجل (كريم) ، ولا يخفى كما قررنا أن قوله في تشبيه الرجل إلخ هو مع ما قبله من باب اللف والنشر المرتب ؛ إذ تشبيه وجود العديم النفع بعدمه يتعلق بالعراء عن الفائدة ، وتشبيه الرجل الشجاع بالأسد يتعلق بالجراءة ، وتشبيه العلم بالنور يتعلق بالهداية ، وتشبيه العطر بخلق الرجل الكريم يتعلق باستطابة النفس ، ثم لا يخفى أيضا أن العراء عن الفائدة واستطابة النفس من باب المقيد ، وقد علم أن المقيد من قبيل المفرد ، فما قيل من أن عدها من المفرد فيه تسامح لما فيها من شائبة التركيب إنما يتم لو كان الكلام في المفرد المقيد بكونه محضا في الإفراد ، وليس كلامنا فيه ، بل في مطلق المفرد ، فصح عدها منه ، فلا تسامح ، وسيأتي البحث في التفريق بين المقيد والمركب ، ثم شرع في بيان أمثلة المركب فقال :

وجه الشبه المركب الحسى

(والمركب الحسي) الذي هو من جملة أوجه الشبه لا ينقسم باعتبار الطرفين إلى ما طرفاه عقليان أو حسيان أو مختلفان ؛ لأن الحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين كما تقدم ، ولكن ينقسم باعتبار آخر وهو أن طرفيه إما مفردان أو مركبان أو المشبه مركب والمشبه به مفرد أو العكس ، والمراد بالمركب هنا أحد قسمي ما هو بمنزلة المفرد ، وهو


القسم الذي تركيبه أن يعتبر اجتماع عدة أشياء مختلفة لا يصدق كل واحد فيها على غيره فينتزع منها هيئة تكون هي المشبه به أو المشبه كما تقدم ، وسيأتي في بيت" بشار" ، وقد صرح صاحب المفتاح بذلك ، وكذا المراد بتركيب وجه الشبه أن يؤخذ من عدة أوصاف ذلك المركب هيئة اجتماعية تكون هي الجامع بين الطرفين لا القسم الذي تركيبه أن تجمع بين شيئين أو أشياء على أن يكون المجموع حقيقة واحدة معبرا عنها بلفظ واحد ، ويدل على أن المراد ما ذكر أنهم جعلوا المشبه به في قولنا : " زيد كالأسد" من قبيل المفرد مع أن زيدا فيه حيوانية وناطقية وغيرهما ، والأسد فيه حيوانية ومفترسية وغيرهما ، وجعلوا أيضا وجه الشبه في قولنا : " زيد كعمرو في الإنسانية" واحدا مع اشتمال الإنسانية على الحيوانية والناطقية ، ولم يجعلوا الإنسانية وجها منزلا منزلة الواحد حتى يمكن فيه التركيب مع ما في ضمنه من التركيب المعنوي ، وقولنا معبرا عنها بلفظ واحد احترازا مما لو قيل مثلا : " زيد كعمرو في الحيوانية والناطقية معا" ، وقصد اشتراكهما في المجموع فإنه منزل منزلة الواحد كما تقدم ، ولكن التفريق بين ما عبر عنه بلفظ واحد وما لم يعبر به لا يخلو من ضعف ؛ لأنه أمر لفظي ؛ إذ المعنى متحد ، ثم هذا القسم ـ أعني المنزل منزلة الواحد للتعبير فيه بمتعدد عن حقيقة واحدة ـ يتدافع فيه مفهوم تخصيصهم المركب بذي الأجزاء التي لا تلتئم منها حقيقة واحدة ، وتخصيصهم الخارج عن ذلك بالذي لا ينزل منزلة الواحد وهو المركب المعبر عنه بلفظ واحد على أنه حقيقة واحدة لاقتضاء الأول كونه غير مركب والثاني كونه مركبا ، والأقرب إخراج ذلك القسم هنا عن التركيب فالواجب أن يقال بدليل أنهم لم يجعلوا من المركب قولنا : " زيد كعمرو في الحيوانية والناطقية" ، إذ ليس هنا هيئة منتزعة من عدة أشياء ، بل حقيقة واحدة ملتئمة من شيئين ، وإنما لم يجر هذا التقسيم ، أعني تقسيم الطرفين إلى أفرادهما أو تركيبهما معا أو مختلفين في المفرد المراد هنا وهو المفرد حقيقة أو المنزل منزلته الذي هو المركب مما جعل مجموعه حقيقة واحدة ؛ لأنه لما أريد بالمركب الهيئة المنتزعة من عدة أشياء وجب أن يكون وجه الشبه معتبرا فيه تلك الأشياء المختلفة التي لها دخل في التشبيه ، فلم يتصور إفراد الوجه فيما


طرفاه مركبان بهذا الاعتبار فلم يجر فيه التقسيم ، وإنما يجري في الوجه المركب الحسي كما تقدم ، فطرفاه إما مفردان أو مركبان ، أو المشبه مفرد والمشبه به مركب أو العكس ، فالمركب الحسي (فيما) أي : في التشبيه الذي

طرفا المركب الحسى المفردان

(طرفاه مفردان) معا (كما) أي : كالوجه (في قوله) أي : في قول أحيحة بن الجلاح ، أو قول قيس بن الأسلت (وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى) (١) أي : حل كون الثريا على الحالة التي تراها فهي حينئذ (كعنقود ملاحية) بضم الميم وتشديد اللام وهي عنب أبيض في حبه طول وتخفيف اللام أكثر ، لكن ارتكب التشديد مع قلته لاستقامة الوزن ، ثم قيد المشبه به بقوله : (حين نورا) إشارة إلى أن المشابهة بين الثريا والعنقود إنما هي في حال التنوير ، أي : إخراج النور ، ويأتي الآن ما فيه ، فالثريا وعنقود الملاحية مفردان لأن كلا منهما اسم لمسمى واحد ، وإضافة العنقود إلى الملاحية تصيره مقيدا ، والتقييد لا ينافي الإفراد ، ولما كان كل منهما اسما لمسمى واحد صارت أجزاء كل منهما كاليد من زيد ، ولما كانت تلك الأجزاء لها وضع مخصوص ولون مخصوص ومقدار مخصوص وكل منها كالمستقل عن الآخر ؛ إذ هي أجرام مفترقة تأتي اعتبار هيئة مأخوذة من تلك الأجرام تكون وجه شبه فتأتي التركيب بهذا الاعتبار في الوجه ، ولو وجد الإفراد في الطرفين وإلى تلك الهيئة أشار بقوله : (من الهيئة) هو بيان لما في قوله كما في قوله : وقد لاح .. إلخ أي : كالوجه الذي هو الهيئة (الحاصلة) أي : المتحققة (من تقارن) أي : اجتماع (الصور البيض) ، وهي النجوم المتعددة في الثريا وأفراد النور المتعددة في العنقود (المستديرة) استدارة مصاحبة للتساهل في تحققها (الصغار المقادير في المرأى) أي : في مرأى العين باعتبار ما يبدو ، وإن كانت النجوم من الكبر بحيث يقال إنها أعظم من جميع الأرض بكثير ؛ إذ المعتبر في التشبيه ما يبدو لا في نفس الأمر إذ الخطاب بما يتبادر حال كون تلك الصور البيض المستديرة كائنة (على الكيفية

__________________

(١) البيت لأبى قيس بن الأسلت ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (١٨٠).


المخصوصة) ، وهي كونها لا مجتمعة اجتماع الانضمام والتلاصق كما في أجزاء عنقود غير الملاحية ، أعني العنقود المتراكم الأجزاء ، وكما في حب الرمان ، ولا شديدة الافتراق أي : متباعدة ، ثم وصف الكيفية بقوله : (إلى المقدار المخصوص) يعني أن أجزاء الطرفين كائنة على الكيفية المخصوص المنضمة تلك الكيفية إلى المقدار المخصوص في مجموع الطرفين ، بمعنى أن الثريا كما لكل جزء من أجزائه مقدار مخصوص في الصغر روعي في التشبيه كذلك لمجموعه مقدار مخصوص ، فإن لم يكن ذلك المجموع كبيرا جدا ولا قليلا جدا ، وكذا في عنقود الملاحية ، فالمراد بالمقدار الأخير هذا المعنى ، ثم إن في هذا التشبيه شيئا ، وهو أنا إن اعتبرنا تشابه أجزاء الطرفين في المقدار باعتبار المرأى بحيث لم تكن صغيرة جدا كحب الخردل ، بل وحب الحمص والقصبور مثلا فإنما يتحقق ذلك في العنب بعد كبر حبه ، ويلزم عليه أمران أحدهما لغو البياض في التشبيه ، وقد اعتبره لأن حب العنب ولو سمى أبيض لكن ليس بياضه كبياض نجوم الثريا ، إذ معنى بياضه أنه ليس بأخضر جدا ولا أسود ولا أحمر ولا أصفر مثلا ، والآخر كون التقييد بقوله حين نور ضائعا ؛ لأن كبر الحب ليس حال التنوير ، وإن لم نعتبر التشابه في المقدار بعد مقدار النجوم عن حال النور حينئذ على أن تنوير العنب إن كان كما يعتاد لا بياض فيه والأقرب أن المراد بالتنوير كمال خلقته المستلزمة لوجود التنوير قبلها فالمراد حين قارب النفع وعبر عن ذلك بنور أي : تفتح لأن انفتاح النور يحصل معه ويلابسه الانتفاع في الجملة ، ويراد بالبياض مطلق الصفاء الذي لا تشوبه حمرة ولا اسوداد ، وشبه ذلك ، وبهذا يعلم أن التشبيه هنا مبني على التساهل ، وفسرنا الحاصلة بالمتحققة إشارة إلى حقيقة الهيئة متحققة خارجا بالتقارن كتحقق الأعم بالأخص ، وأنها نفس ذلك التقارن ، ويحتمل أن يحمل الكلام على ظاهره من كون التقارن سببا لحصول هيئة أخرى وهي كون تلك الأجرام متقاربة على الوجه المخصوص على قاعدة حصول الحال بموجبها ، وكون تلك الهيئة على الوجهين حسية إنما هو [أي](١) : في التشبيه الذي هو باعتبار محلها ، وكذا يقال في مثلها وقد تقدم مثل ذلك فليفهم.

__________________

(١) ولعل أي زائدة من الناسخ. كتبه مصححه.


طرفا المركب الحسى المركبان

(و) المركب الحسي (فيما) أي : الذي (طرفاه مركبان) هو (كما في) أي : كالوجه في (قول بشار : كأن مثار النقع) (١) النقع الغبار ، ومثار على صيغة اسم المفعول ، فإضافته إلى النقع من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل كأن النقع المثار ، وهو من آثار الغبار إذا حركه وهيجه ، ويحتمل أن يراعى في الإضافة معنى البيان أي : كأن المثار الذي هو النقع الكائن (فوق رءوسنا. وأسيافنا) منصوب على المعية أي : كأن مثار النقع مع أسيافنا قيل رواية فوق رءوسهم أولى ؛ لأن السيوف إنما تتساقط وتنزل على رءوسهم فهي مع الغبار فوق رءوسهم لا على رءوس أصحاب السيوف المناسب لرواية رءوسنا ، وفيه أن السيوف فيما بين الصعود والنزول هي من رءوس أصحابها إلى رءوس الأعداء ، فالرءوس من الفريقين مشتركة في فوقية السيوف ، وضمير نا يدل على المشاركة فرواية رءوسنا التي هي المشهورة أولى فليتأمل. (ليل تهاوى كواكبه) أي : تتساقط كواكبه شيئا فشيئا بأن يتبع بعضها بعضا في التساقط من غير انقطاع ، ومن لازم ذلك بقاء الكواكب في السماء ليستمر تساقطها ، فتهاوى مضارع حذفت منه إحدى التاءتين : تاء المضارعة أو التاء الموجودة في الماضي على المذهبين المقررين في النحو ، وأما حمله على الماضي ليفيد أن التهاوي قد وقع وانقطع وبقى الليل بلا كواكب ، فشبه به مثار النقع مع السيوف فلا يناسب ما وجد في الشبه من هيئة حركة السيوف ، ويفوت بذلك دقة وجه الشبه التي يقتضيها اختلاف حركة السيوف كحركة الكواكب المستمرة ، كما سيأتي بيانه. نعم يمكن أن يراد هذا الوجه أيضا لهذا المعنى بمراعاة حال التهاوي الفارغ ، ولكن الدال على الحال بالأصالة هو المضارع فالحمل عليه أبين ، وإنما قلنا إن أسيافنا منصوب على المعية ولم نجعله منصوبا بكأن لئلا يتوهم أنهما تشبيهان مستقلان ؛ إذ يتوهم حينئذ التغاير ، وأن المعنى كأن مثار النقع ليل ، وكأن أسيافنا نجومه ، وهذا لا يصح الحمل عليه ؛ لأنه تفوت معه الدقة التركيبة المرعية للشاعر في وجه الشبه ، ولأن قوله : " تهاوى كواكبه" تابع لليل فهو غير مستقل في

__________________

(١) البيت لبشار بن برد ، ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ، ويروى (رؤوسهم) بدل (رؤوسنا) ، تهاوى : تتساقط ، خفف بحذف إحدى التائين.


في وجه الشبه ، ولأن قوله : " تهاوى كواكبه" تابع لليل فهو غير مستقل في التشبيه باعتبار الصناعة قطعا فكان مقابله الذي يتوهم كونه مستقلا بالتشبيه تبعا لغيره أيضا كمقابلة ثم بين التركيب في وجه الشبه المقتضي للدقة فيه التي تناسب بلاغة الشاعر قصدها كما اقتضاها صنيعه ، وأن المقصود إما تشبيه هيئة السيوف بأوصافها المخصوصة مع الغبار فوق الرءوس بهيئة الكواكب المتهاوية مع الليل بناء على أن الطرفين في التركيب هيئة المجموع ، كما قيل ، وإما تشبيه مجموع السيوف بحالتها ، والغبار بمجموع النجوم بحالتها ، والليل كما قيل أيضا ، وهو يرجع في التحقيق إلى الهيئة ؛ لأن المجموع مرعى من حيث الاجتماع ، وحالة الاجتماع هي الهيئة ، وإنما يفترقان في أن المقصود بالذات الأجزاء المجتمعة أو هيئتها ، ولو كان كل منهما لا ينفك عن الآخر ، وأنه ليس المقصود تشبيه كل مفرد من طرف بما يناسبه من الطرف الآخر لما بينا فقال : (من الهيئة الحاصلة) بيان لما في قوله كما في قول الشاعر ، يعني أن الوجه فيما ذكر هو الهيئة الحاصلة (من هوى) ، وقد تقدم معنى حصول الهيئة من الشيء ، والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط ، وأما بضمها فهو بمعنى الصعود وليس مرادا هنا ، وقيل : هو بضمها ؛ إذ هو الذي يكون بمعنى السقوط خاصة ، وأما الهوى بفتح الهاء فقد يكون بمعنى الصعود ، أي : الوجه هو الهيئة الحاصلة من سقوط (أجرام مشرقة) ، أي : مضيئة لامعة ، هي السيوف في جانب المشبه والنجوم في جانب المشبه به (مستطيلة) ، أي : لتلك الأجرام الساقطة طول ، أما الطول في السيوف فموجود حقيقة في ذواتها وتخيلا في لمعانها عند حركتها فإنه يتخيل عند ذهابها على استقامة أو بدونها ، ثم جرما لامعا طويلا كما يتخيل ذلك في الشهاب عند تحركه في الهواء بسرعة ، وأما في النجوم فيوجد تخيلا عند تركها في مكان ذهابها في الهواء أشعة متصلة ، وبدون تركها كما في الشهاب فيتخيل هناك جرما واحدا مستطيلا وليس كذلك ، وأما قبل الهوى في النجوم فهي على الاستدارة حسا (متناسبة المقدار) ، أما التناسب في مقدار أجرام كل طرف باعتبار ذلك الطرف فواضح ؛ لأن السيوف متناسبة فيما بينها ، وكذا النجوم فيما


بينها فيما يتخيل في الغلاب ، وأما تناسب طول النجوم مع طول السيوف أو العرض مع العرض فمبني على التساهل ؛ لأن الطول في النجوم أكثر منه في السيوف فيما يظهر ويكفي في التشبيه التناسب في الجملة (مفترقة) ضرورة أن لكل نجم مكانا ، ولكل سيف مكانا على حدة ، فعلى تقدير ورود الغير في ذلك المكان فبعد ذهاب الأول (في جنب) متعلق بهوى ، يعني أن هوى تلك الأجرام الكائنة على تلك الصفات إنما هو في جنب (شيء مظلم) ، هو الغبار في المشبه ، والليل في المشبه به ، فقد ظهر كون وجه الشبه مركبا ؛ لأن الهيئة المذكورة تعلقت بأشياء عديدة باعتبار الموصوفين والصفات كما ترى ، وكذا الطرفان مركبان أيضا لظهور أن ليس المراد تشبيه فرد في هذا الطرف بفرد مقابل في ذلك الطرف وإلا فاتت الدقة على ما نبينه ، ولم يلائم صنيع الشاعر ولا بلاغته كما تقدم ، وإنما المراد تشبيه مجموع هذا الطرف بمجموع ذلك الطرف أو تشبيه هيئة المجموع بهيئة المجموع ، وهما متقاربان كما تقدم ، فليس المراد تشبيه النقع بالليل والسيوف بالنجوم ، بل المراد كما أشرنا إليه تشبيه هيئة السيوف مع الغبار ، والحال أن السيوف في ذلك الجانب لها أحوال كثيرة راعاها الشاعر ، وبرعايتها مع كثرتها دق التشبيه وتقرر الوجه ، وتلك الأحوال هي أنها تعلو وترسب ، أي : تنخفض وتجيء عند ردها عن المضروب رفعا أو نزعا ، وتذهب عند إرسالها أو صبها عليه ، وتضطرب اضطرابا شديدا بمعنى أنها تتحرك بسرعة في ذلك العلو والرسوب والذهاب والمجيء إلى جهات مختلفة من العلو عند رفعها والسفل عند صبها واليمين والشمال والأمام والوراء عند قصد قطع أو وخز ما في تلك الجهات أو وقايته ، وعند تحركها في تلك الجهات تكون على أحوال تنقسم تلك الأحوال بين الاعوجاج ، أي : ترجع إلى الاعوجاج في ذهابها أو ردها لقصد إجرائها في مكان يوصل إلى الغرض فيكون في سلوكها له اعوجاج ، وإلى الاستقامة كذلك ، وإلى الارتفاع والانخفاض ذكر العلو والرسوب ، وإلى التلاقي مع مقابلها من الجهة الأخرى في استقامة أو اعوجاج في الذهاب للتلاقي ، وإلى التداخل عند تعاكس الحركتين بذهاب كل منهما إلى جهة ابتداء الأخرى ، وقد يكون التداخل نفس التلاقي ، وإلى التصادم والتلاحق ، والتصادم هو التلاقي ، وكذا التلاحق ،


وقد يكون التلاحق بمعنى التتابع كتتابع سيفين في ذهابهما لمضروب واحد ، ونحو هذا الكلام الذي فسرناه عند الشيخ عبد القاهر ، ولا يخفى ما فيه من التداخل باعتبار العلو والانخفاض والذهاب والمجيء وغير ذلك كما في الحركة إلى جهات مختلفة مع ما قبله ، وكما في التداخل والتلاقي والتصادم والتلاحق ، وقد علم أن الاعوجاج والاستقامة يجريان مع جميع الحركات ، والغرض منه المبالغة في بيان ما يراعى في الطرفين فتكون هيئة الوجه المتعلقة بذلك غاية في الدقة ، فإن كل ما ذكر في الطرفين يجب أن يراعى مثله في الوجه ، وبه يعلم أنه ينبغي أن يزيد في الوجه بعد قوله متناسبة المقدار مضطربة إلى جهات مختلفة في أحوال متباينة من الاعوجاج والاستقامة إلى آخر ما ذكر في تركيب الطرفين ، ومثل ما ذكر يتقرر في الكواكب عند تهاويها في الليل فإن للكواكب عند تهاويها تداخلا وتواقعا بأن يذهب اثنان مثلا إلى جهة واحدة كما قد يكون ذلك في السيوف أيضا واستطالة متخيلة في أشكالها المتخيلة على ما حررنا ، وغير ذلك مما ذكر في السيوف ، إلا أن الارتفاع في النجوم لا ينتهي إليه كما قد يكون في السيوف ، بل يبتدأ منه فذكره في السيوف تساهل إلا أن يكون المعنى بتعلو تكون عالية ، ثم ترسب لا أنها تعلو بعد الرسوب فيوجد في النجوم أيضا والمجيء والذهاب في النجوم باعتبار تعاكسها في الجهة على وجه الترتيب من غير تصادم ولا تلاحق فتأمل هذا.

طرفا المركب الحسى المختلفان

(و) المركب الحسي (فيما) أي : في التشبيه الذي (طرفاه مختلفان) أحدهما مفرد والآخر مركب قسمان ؛ لأنه إما أن يكون معه المفرد هو المشبه والمركب هو المشبه به وإما العكس ؛ فالأول (كما مر) أي : كالوجه الذي (في) ضمن ما ذكر من (تشبيه الشقيق) بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، وإنما قلنا في ضمن ما ذكر إعلاما بأن الوجه لم يذكر في المتن وإنما وجد في ضمن ما ذكر من تشبيه الشقيق والوجه المتضمن لما ذكر هو الهيئة الحاصلة من نشر أجرام حمر معقودة في نشرها وبسطها على رءوس أجرام خضر مستطيلة ، وقد علم أن متعلق هذه الهيئة في الشقيق محسوس حقيقة


وفي المشبه به متخيل ، وكون الشقيق وهو المشبه مفردا ظاهر ؛ لأن الشقيق اسم لمسمى واحد ، فأجزاؤه التي اعتبر اجتماعها هيئة كاليد من زيد ، وأما كون أعلام ياقوت مركبا لا مفردا مقيدا فلأن القصد إلى التشبيه بالمجموع ، وليس للأعلام قصد ذاتي حتى يكون مقيدا بدليل أن المشبه لم يعتبر فيه الجزء المناسب للأعلام فقط ، بل المعتبر المجموع ؛ إذ الهيئة متعلقة بالمراد بالشقيق الذي هو مجموع الأصل وفروعه ، ويأتي الفرق بين المركب والمقيد قريبا بنحو هذا ، وأما الثاني وهو العكس ، أي : أن يكون المشبه مركبا والمشبه به مفردا فلما يأتي في تشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل مقمر على ما سيجيء في أقسام التشبيه بيانه عند التمثيل به ، وهذا المركب لكثرة اعتباراته غالبا لا يخلو من دقة وحسن ، (ومن بديع المركب الحسي) ، أي : ومن جملة ما يعد بديعا ، أي : عجيبا ، قليل المثل من الوجه المركب الحسي ، فإضافة البديع للمركب من إضافة الصفة إلى الموصوف (ما) أي : من البديع في ذلك المركب وجه الشبه الذي (يجيء) أي : يأتي ويحصل (في الهيئات) أي : في الحالات من أوجه الشبه (التي تقع عليها الحركة) ، يعني أن الوجه هو الهيئة التي تقع عليها الحركة ، وهيئة الحركة التي تقع هي عليها إما استقامة كحركة السهم وتركيبها بوجود حركتين متعاكستين مثلا ، وإما استدارة كحركة الدولاب وتركيبها بوجود دولابين مثلا ، متعاكسين أحدهما محيط والآخر محاط به ، وإما غير ذلك كالاعوجاج ، وحركة الاعوجاج كطائف بالمثلث مثلا ، وتركيبها بوجود حركة تعاكسها أيضا ، ولا يخفى أن المثالين الآتيين ليس فيهما حركة الدورة المحضة ، بل المعوجة مع غيرها كحركة الشعاع ، لأنه عند الانبعاث عن وسط الشمس كأنه مضطرب كالذهاب مع الارتعاش فذهابه كالاستقامة وارتعاشه كالاعوجاج في الاستقامة ، وعند الرجوع من الجوانب لا يخلو من نقصان ، فحركته كحركة الراجع من جهات متفاوتة فكأنها معوجة باعتبار مجموع الراجع وأطرافه أو المستقيمة مع معاكستها كحركة المصحف فيما يبدو. نعم لا تخلو حركته في التحقيق عن اعوجاج فافهم ، ثم مجيء الوجه في الهيئة مع أنها نفس وجه الشبه هنا كمجيء الجنس في النوع وحصوله به كما يقال : يأتي الحيوان في الإنسان ، ويحصل خارجا به ؛ لأن مطلق الوجه


أعم من الهيئة الموصوفة ، ووقوع الحركة على الهيئة كوقوع الجزء على الكل ، فمعنى وقوع الحركة على الهيئة وجود مطلق الحركة في متعلق تلك الهيئة ، أي : في فرد من أفراد ما تعلقت به تلك الهيئة واتصف بها ، وهو كون أشياء تفاوت أو تقارن أشياء ، وإنما قلنا كذلك لأنها إن كانت نفسه هيئة الحركة فقط كما يأتي في الوجه الثاني فالمراد حالة حركة مخصوصة ، وإن كانت هيئة روعي فيها الشكل واللون والحركة المخصوصة ، فمطلق الحركة في ضمنها أيضا وكأن في الكلام قلبا ، والأصل ما يجيء في الهيئة التي تقع على الحركة ، لأن المحقق أن تلك الحالة عرضت للحركة مع غيرها في الوجه الأول ، ولها وحدها في الثاني ، (ويكون) الوجه الذي يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة (على وجهين) أي : يرد ذلك الوجه على حالتين يتحقق بهما كونه على نوعين : (أحدهما أن يقرن بالحركة غيرها) أي : أحد الوجهين اللذين يكون عليهما الوجه هو أن يقرن بالحركة غيرها ، وكون الوجه أيضا على اقتران الحركة بغيرها ككون الشيء على نفسه ؛ لأن الاقتران المذكور هو الهيئة ، أو كون تلك الأشياء مقترنة ، وهو قريب منه ، فهو من كون الجنس في النوع أيضا ، وذلك الغير المقترن بالحركة (من أوصاف الجسم كالشكل) الذي هو كما تقدم إحاطة نهاية واحدة أو أكثر بالجسم (واللون) وهو معلوم ، ولأجل الاحتياج في تصحيح عبارة المصنف إلى تأويل مجيء الوجه في الهيئة ، يكون ذلك كمجيء الجنس في النوع ؛ إذ لا يجيء الشيء في نفسه ، وإنما الجائي في هذا الوجه التشبيه ؛ لأن الوجه كالظرف للتشبيه ، كان الأوضح عبارة عن أسرار البلاغة المفيدة لمجيء التشبيه في هذا الوجه الخاص ؛ حيث يقول : اعلم أنه أن الشأن هو هذا ، وهو قوله مما يزداد به التشبيه دقة أي : لطافة مستحسنة وسحرا أي : إمالة للألباب كما يميل المسحور به الألباب أن يجيء ذلك التشبيه في الهيئات التي تقع عليها الحركات فتدق تلك الهيئة ، وبدقتها يدق التشبيه الجائي فيه ؛ لأن التشبيه يتبع حسنه حسن الوجه المرعى فيه كما يأتي ، ثم قال : والهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين بهما تصير نوعا مخالفا للآخر ، أحدهما أن يقترن بالحركة غيرها من الأوصاف ، والثاني أن تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها ، فهذه


العبارة أوضح من عبارة المصنف لقلة التسامح فيها ، المحوج إلى التأويل ؛ إذ لا تسامح فيها إلا في قوله : " تقع عليها الحركة" لإيهامه أن الهيئة متحققة في نفسها ووقعت عليها الحركة ، وقد علم أن الهيئة هي هيئة تقارن الحركة مع غيرها أو هيئة اختلاف الحركة ، والحركة مما تتعلق بها الهيئة فهي العارضة للحركة مع غيرها أو وحدها ، بل هي جزء ما اعتبرت فيه الهيئة ، فهي فيما يتبادر في الهيئة أي : في متعلقها لا عليها ، وقد تقدم بيانه فإن قلت فقوله أيضا ، ويكون ذلك على وجهين من باب كون الشيء على نفسه ، فيحوج إلى التأويل بكونه ككون الجنس على النوع فهو كقوله : " ويكون ما يجيء في تلك الهيئات على وجهين" قلت : لا شك أنه كهو ، لكن مجيء الجنس في النوع الذي اشتملت عليه العبارة الأولى ليس ككون الجنس على نوعين الذي اشتملت عليه الثانية كالأولى فإنه معهود في العبارات ، فكلام الأسرار أوضح فافهم ، ثم أشار إلى مثال الوجه الأول ، وهو أن يقترن بالحركة غيرها بقوله : وذلك (كما) أي كالوجه (في قوله والشمس) (١) عند طلوعها (كالمرآة في كف الأشل) والشلل يبس اليد أو الشق كله ، والمراد هنا الارتعاش ، وذلك أن الشمس إذا نظر الإنسان إليها فوق الأفق وأحد النظر إليها يجدها شديدة الاضطراب والتحرك وشكلها استدارة ، ثم يظهر شعاعها كأنه يفيض إلى جوانب الدائرة حتى إذا كاد أن يتعدى تلك الجوانب رجع إلى وسط الدائرة ، ففي جرم الشمس المستدير حركة خيالية ، وفي شعاعها أيضا حركة خيالية ، وإنما قلنا : " خيالية" للقطع بأن حركة الشمس ليست على الاضطراب ، بل هي من الجنوب إلى الشمال بالسوق المتمهل ؛ حتى إنها لو لا ذلك التخيل لرئيت كالثابتة والشعاع أجرام لطيفة مضيئة ، وهي المعبر عنها بالإشراق وهي منبسطة على ما يقابل الشمس ، وهذا هو المحقق في نفس الأمر فاضطراب التموج خيالي ، لكن التشبيه بالوجه الثابت بالتخيل صحيح كما تقدم ، ومثل هذا يبدو في المرآة في كف المرتعش إلا أن حركتها حقيقية وإشراقها متصل بها من شعاع الشمس لا يتحقق في الشعاع المتصل بها اضطراب إلى

__________________

(١) شطر البيت من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ ، وعجزه : لما رأيتها فوق الجبل. والبيت فى الأسرار ص (٢٠٧) ، والإشارات ص (١٨٠).


الجوانب والرجوع إلى الوسط ، بل ثبوت واتصال في مضطرب ، فتحقيق وجه الشبه في المرآة على الوجه المذكور في الشمس مبني على التساهل ، وإلى تلك الهيئة أشار بقوله (من الهيئة) بيان لما في قوله : (الحاصلة من الاستدارة) الكائنة في جرم الشمس والمرآة (مع الإشراق) الذي هو كاللون لهما.

(و) مع (الحركة السريعة المتصلة) القائمة بهما فيما يبدو (مع تموج) أي : اندفاع (الإشراق) كالماء ، والمراد بالإشراق الشعاع بنفسه لا المصدر (حتى يرى) ذلك (الشعاع) الذي هو الإشراق (كأنه يهم بأن ينبسط) يقال" هم بكذا" إذا قصد فعله ، فإسناد الهم إلى الشعاع تجوز ، والمراد القرب إلى الانبساط (حتى يفيض) بذلك الانبساط (على) جوانب (الدائرة) الكائنة للشمس والمرآة ، (ثم يبدو له) أي : يظهر لذلك الشعاع أن يرجع (فيرجع) عن الانبساط الذي هم به (إلى الانقباض) الذي بدا له الرجوع إليه.

يقال : بدا له إذا ندم ، والمعنى ظهر له رأي غير الأول ، فندم على الأول ، وقد علم أن إسناد البداء إليه تجوز ، والمراد عروض الرجوع إلى الوسط بعد قرب الفيضان عن الدائرة ، وقد تقدم أن هذا المعنى غير متحقق في المرآة ، وإنما يتحقق في الشمس عند إحداد النظر إليها فإنها تؤدي هذه الهيئة كلها عند ذلك ، والمرآة تؤدي إلى ما يقرب من هذه الهيئة في كف المرتعش ، ولا شك أن هذا التشبيه في غاية الدقة كما سيأتي بيانه ، (و) الوجه (الثاني) الذي يكون عليه بديع المركب الحسي ، وهو الذي تعتبر فيه الحركة (أن تجرد) الحركة (عن غيرها) الموجودة في الطرفين ، (فهناك) أي : ففي هذا الوجه (أيضا) ، وأشار إليه بصيغة البعد ؛ لأنه معنى والمعنى يحكم له بحكم البعد (لا بد من اختلاط حركات) أي : لا بد أن يوجد في ذلك الوجه حركات مختلطة اعتبرت هيئتها وكثرة حركات ذلك الجسم في أجزائه أو في كله هي التي تزداد به الدقة فيه ، وإن كان التعدد كافيا على مقتضى ظاهر ما تقدم من أن وجود التركيب في الهيئة مناط الدقة ، فالتعبير بالحركات الكثيرة لإفادة الوجه الذي لا يتطرق فيه مقال ، وقوله أيضا إشارة إلى أنه كما اعتبر التعدد الكثير في الوجه السابق يعتبر هنا كذلك وإن كان التعدد هنا باعتبار اختلاف في الحركة نفسها ، وهنالك باعتبار اختلاف بين الحركة وغيرها ، وإنما


قلنا كذلك لأن الأيضية تقتضي الرجوع لشيء تقدم ، ولا يتأتى إلا بهذا الاعتبار ، ثم الوجه الذي يكون عليه الوجه هنا خلاف الوجه فيما تقدم ؛ إذ هو الاقتران فيما تقدم والمتبادر أنه نفس الهيئة المعتبرة في التشبيه ؛ ولذلك احتجنا إلى تأويله بما تقدم ، وهو هنا التجريد عن غير الحركة ، وليس نفي الهيئة ، بل الهيئة تقارن الحركات المختلفة لكونها (إلى الجهات مختلفة) ، وإنما شرط اختلافها باختلاف الجهات كأن يتحرك بعض محل التشبيه إلى اليمين وبعضه إلى الشمال وبعضه إلى العلو وبعضه إلى السفل ليتحقق التركيب في الهيئة المتعلقة بتلك الحركات ؛ إذ لو اعتبر هيئة حركة واحدة كالاستقامة فيها واعوجاج كان وجه الشبه مفردا ، وهو هيئة تلك الحركة والكلام في المركب ، وقد علمت أن اجتماع الكثرة أكملى لا واجب على مقتضى ظاهر ما تقدم ، وإذا اشترط وجود حركات مختلطة ، ويحقق ذلك غالبا وجود اختلاف الجهات (ف) هيئة حركات الرحا) والدولاب (والسهم) لا تكون من بديع المركب الحسي ؛ إذ (لا تركيب فيها) جميعا ، وإن كان لحركة الرحا والدولاب هيئة الاستدارة ولحركة السهم هيئة الاستقامة ، وإنما قلنا : ويحقق ذلك غالبا وجود اختلاف الجهات ، لأن التركيب قد يحققه كثرة الحركة في أجزاء محل التشبيه وإن كانت الجهة واحدة كأن تشبه أرجل بعض الحيوانات الكثيرة الأرجل بصفى الخبا المتتابع أفراده في هيئة تتابع الحركات وإن كانت إلى جهة واحدة ، وإذا لم تكن حركة السهم والرحا والدولاب من بديع المركب الحسي لم يعد التشبيه بها من هذا الباب لعدم تركيبها (بخلاف) التشبيه بهيئة (حركة المصحف) حيث شبه به البرق (في قوله) ، أي : في ابن المعتز : (وكأن البرق مصحف قار) (١) ، ثم أشار إلى أن وجه الشبه بينهما هو حركة الانطباق والانفتاح بقوله : (ف) ينطبق المصحف (انطباقا مرة) ، وذلك في حال جمع طرفيه لتقليب الورقة المقروءة صفحتها ليقرأ ما في الصفحة الأخرى مع ما في مواليها ، (و) ينفتح (انفتاحا) مرة أخرى ، وذلك عند رد تلك الورقة إلى الجهة المقروءة مضمومة مع الطرف المقروءة ، وكثيرا ما تكون قراءة المصحف بهذه الهيئة إن كان خفيفا يحرك طرفاه لما ذكر وأما إن كان ثقيلا فالغالب أنه

__________________

(١) البيت لابن المعتز فى كتاب الإيضاح تحقيق د / عبد الحميد هنداوى ص (٦٥).


ليس فيه إلا انفتاح أولا والطباق آخرا ؛ وإنما يوجد في أثناء القراءة تقليب الورقات ، والمقصود في التشبيه المعنى الأول ؛ لأن تكرر ما يفنى بالانطباق والانفتاح في البرق هو الموجود كثيرا ، فههنا في المصحف حركات لأن طرفيه يتحركان عند الانفتاح إلى جهتي اليمين والشمال فالطرف الأيمن إلى اليمين والأيسر إلى الشمال ، وأعلى كل من الطرفين يتحرك من علو إلى سفل وعند الانطباق يتحرك كل طرف إلى جهة الآخر فيتحرك الأيمن إلى الشمال والأيسر إلى اليمين فيلتقيان في الوسط ، وأعلى كل من الطرفين يتحرك حينئذ من سفل إلى علو فتقرر بهذا أن الحركة في كل حالة إلى جهة واحدة باعتبار العلو والسفل وإلى جهتين باعتبار اليمين والشمال ، فمن عبر بإفراد الجهة أو تثنيتها فبالاعتبارين ، فافهم ووجه الشبه هو هيئة تقارن هذه الحركات مع تكررها وهي حسية حقيقية في المصحف وفي البرق تخييلية ؛ وذلك لأن الواقع فيه ظهور بالوجود وخفاء بالانعدام ، فإذا وجد وظهر تخيل فيه أن إشراقه لانفتاح فيه أظهر باطنه.

ووجه الشبه هو هيئة تقارن هذه الحركات مع تكررها وهى حسية حقيقية فى المصحف وفى البرق تخييلية ؛ وذلك ؛ لأن الواقع فيه ظهور بالوجود وخفاء بالانعدام ، فإذا وجد وظهر تخيل فيه أن إشراقه لانفتاح فيه أظهر باطنه كإظهاره باطن المصحف من لون الأوراق وإشراقها ، وإذا انعدم وخفى تخيل فيه أن ثم باطنا خفى لانطباق فيه كما في المصحف ، وقد تقدم أن وجه الشبه يكفى فيه تخيل الوجود ولإعانة ظهور الإشراق الذى هو في معنى اللون فى هذا التشبيه ورد أن الحركة هنا أيضا روعى معها غيرها من أوصاف الجسم وهو الإشراق والتلون ، وقد يجاب بأن قوله : فانطباقا مرة وانفتاحا أشار به إلى وجه الشبه كما ذكرنا ، ولم يدل صراحة إلا على الحركات ، وإن لزم مع ذلك ظهور الإشراق فلا يعد داخلا لعدم اعتباره ، إذ لم يدل عليه صراحة ، ولا يخلو الجواب من ضعف ؛ لأن دلالة الالتزام غير مهجورة ، لا سيما كمال الوجه في أحد الطرفين ، إنما هو بالتخيل المبنى على الإشراق الظاهر ، فكيف لا يعتبر بما لولاه لم يدرك الوجه في أحد الطرفين مع وجود الاشتراك فيه ، ويزداد الوجه به تركيبا موجبا للدقة المطلوبة ، تأمل.


قيل يمكن أن يدعى أن الوجه هنا اختلاف الحركات فيتحد ، وفيه أن ذلك الادعاء رد إلى الجملة مع إمكان التفصيل المناسب اعتباره لبلاغة الشاعر مع ظهور إرادته بالإشارة إلى اختلاف مخصوص فى الحركة ، وذلك يشعر بأن المعتبر التفصيل ، ثم لو فتح هذا الباب ، أعنى كون إمكان الجملة يسقط التفصيل ، انحلت عرى ذنب التشبيه المركب الوجه وكره وسقط اعتباره دفعة ، إذ ما من تفصيل وتركيب إلا ويمكن وجود جملة مشتركة فيه فتقول في عنقود الملاحية مع الثريا الوجه بينهما هو المناسبة في مطلق التشكل واللون وفى محمر الشقيق مع أعلام الياقوت المنشورة على رماح من زبرجد ، الوجه بينهما وجود حمرة متصلة بخضرة والذهاب لمثل هذا مما يسقط وجود الدقائق فى التشبيه العربى رأسا ، ولا سبيل إليه ، فليفهم.

ثم لما بين أن التركيب يقع باعتبار الحركة على الوجهين السابقين وأن ذلك من بديع المركب الحسى أشار إلى أن السكون كذلك ، وربما تشعر مقارنته بالحركة بأن التركيب باعتباره من البديع أيضا فقال : (وقد يقع التركيب فى هيئة السكون) ، وهو أيضا على وجهين :

أحدهما : أن تكون الهيئة التركيبية التى هى وجه الشبه معتبرة فى السكون وحده مجردا عن غيره من أوصاف الجسم ، ولا بد حينئذ من تعدد أفراد السكون ، والآخر أن يعتبر فى تلك الهيئة مع السكون غيره. فالأول (كما) أى : كالوجه (فى قوله) أى : فى قول أبى الطيب : فى صفة كلب (يقعى) (١) ، أى : يجلس على أليتيه (جلوس البدوى) أى : يجلس جلوسا فى إقعائه كجلوس الشخص المنسوب إلى البادية (المصطلى) بالنار ، وخص البدوى بذلك ؛ لأنه فى الغالب هو الذى يقع منه الاصطلاء على ذلك الوجه فإنه إذا أوقد النار على وجه الأرض لا يتمكن له الاصطلاء الذي تبلغ فيه الحرارة داخلة إلا بإقعائه مادّا ركبتيه إلى السماء مستندا على رجليه ويديه ، فقد شبه إقعاء الكلب على أليتيه بجلوس البدوى المصطلى ، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تقارن سكنات الأعضاء حالة وقوع كل عضو منه موقعه المخصوص به فى إقعائه ، ويريد

__________________

(١) البيت لأبى الطيب المتنبى فى كتاب التلخيص فى علوم البلاغة بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ص (٦٥).


بالوقوع فى الإقعاء الوقوع الثانى ليكون سكونا لا الحصول الأول فيه وهو ابتداؤه فإنه حركة ، ولكن غير محتاج للتنبيه على هذا لأن الإقعاء عرفا هو ما كان معه التمكن لا الحصول الأول منه ، وإليها أشار بقوله : (من الهيئة الحاصلة) هو بيان لما فى قوله : كما أى : الوجه هو الهيئة الحاصلة (من موقع) أى : من وقوع (كل عضو) كائن (منه) أى : من الكلب موقعه الخاص (فى إقعائه) ؛ وإنما قال : كل عضو ، إشارة إلى أنه اعتبر كل عضو ولو غير مجلوس عليه من ظهر ورأس وغير ذلك ، وبذلك كثرت السكنات المقترنة ، فاعتبرت هيئة اقترانها الموجودة فى الجلوسين ، وقد يقال : الطرفان هما الكلب والبدوى فى حالة الإقعاء ، فيكون وجه الشبه هيئة السكون الذى اتصف به كل منهما. فالطرفان أما الجلوسان والوجه مجموع هيئة وقوع كل عضو موقعه الخاص ، فإن لكل عضو موقعا خاصا ، ولمجموع المواقع هيئة خاصة ، وهذه الهيئة صفة الجلوسين ، وأما الجالسان وصفة جلوسهما صفة لهما ، والخطب فى مثل ذلك سهل.

والثانى : أعنى : الهيئة التى يضاف إلى السكون فيها غيره من أوصاف الجسم كقول بعضهم يصف مصلوبا :

كأنه عاشق قد مد صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل (١)

فقد اعتبر هيئة سكون عنقه وصفحته فى حال امتدادها ، واعتبر مع ذلك للسكون صفة اصفرار الوجه بالموت ؛ لأن تلك الهيئة موجودة فى العاشق الماد عنقه وصفحته لوداع المعشوق ، ولما فرغ من أمثلة المركب الحسى أشار إلى مثال المركب العقلى كما قدمنا فقال :

المركب العقلى

(و) المركب (العقلى) الذى هو من جملة أنواع وجه الشبه أيضا (كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع من تحمل التعب فى استصحابه) فإنه وجه شبه مركب عقلى (فى) التشبيه الكائن فى (قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها)(٢)) أى :

__________________

(١) البيت للأخطل فى صفة مصلوب وهو فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧).

(٢) الجمعة : ٥.


كلفوا بحمل التوراة علما وعملا ، ثم لم يحملوها لأنهم وإن وقع منهم حملها بدعوى الإيمان بها والعمل ببعضها لكن لما لم يعملوا بجميع ما فيها صار حملهم كالعدم ؛ ولذلك يقال فى تفسير لم يحملوها أى : لم يعملوا بما فيها (كمثل الحمار يحمل أسفارا) أى : يحمل كتبا ، فالأسفار جمع سفر بكسر السين وسكون الفاء ، وهو الكتاب لا جمع سفر بفتح السين والفاء ، فليس المعنى يتحمل مشاق السفر ، والمثل يطلق على القصة ، وقد يطلق على الصفة ، فعلى الأول يكون من تشبيه القصة بالقصة ، وعلى الثانى يكون من تشبيه صفة مركبة بأخرى مثلها فى التركيب ، ففى قصة الحمار المرادة هنا أو صفته المركبة كونه له فعل مخصوص هو الحمل ، وكون المحمول أوعية العلم ، وكون الحمار جاهلا بما فيها أى : ليس عالما بما فيها ، وإلا فالجهل مخصوص بذوات العقل ، ويلزم من عدم علمه عدم انتفاعه. ومثل هذا فى قصة أو فى صفة اليهود فإنه روعى فى قصتهم أو فى صفتهم أنهم فعلوا فعلا مخصوصا هو الحمل المعنوى ، وكون المحمول أوعية العلم ، وكونهم جاهلين أى : غير عالمين بما فيها علما نافعا ، وقد علم أن الطرفين إذا كان فيهما تركيب جاء وجه الشبه مركبا مرعيا فيه ما يشير إلى ما اعتبر فى الطرفين فأخذ من الطرفين هنا ما يجمع بينهما ، وتحمل اليهود لما كان معنويا ، واعتبر فى حمل الحمار الحمل الفعلى وجب أن يكون وجه الشبه معنويا جامعا للطرفين ، فأخذ حرمان الانتفاع الذى اشترك فيه الطرفان لاقتضاء عدم العلم وجوده فيهما ، وكون ما حرم الانتفاع به أبلغ نافع لاقتضاء وجوده فيهما كون المحمول فيهما أوعية العلم التى هى أولى ما ينتفع به ، وكون من حرم الانتفاع تحمل التعب فى الاستصحاب لما حرم الانتفاع به لاقتضاء وجوده فيهما كون المحمول غير خفيف التحمل فيهما ، ويجب أن يؤخذ التعب عقليا بمعنى مطلق المشقة على القوة الحيوانية الصادقة بالمحسوسة كما فى مشقة الحمار ، والمعقولة أو مع المحسوسة كما فى مشقة اليهود ، فالطرفان إن اعتبر كونهما صفتين أو قصتين لم يخلوا عن اعتبار العقلية فيهما كما أشرنا إليه ، ويمكن أن يراد بالطرفين الحمار واليهود موصوفا كل منهما بصفته المخصوصة فيمكن حينئذ أن يدعى حسية الطرفين معا ، ويكون ذكر المثل للتأكيد فى التشبيه ، ولا يخلو هذا التقدير عن بعد وتكلف ، وإذا


فهمت ما قررنا ظهر لك أن الكلام هنا محتاج لهذا التحقيق ، وقد اتضح بما ذكر بحمد الله تعالى ، والله الموفق بمنه وكرمه ، ثم أشار إلى أن وجه الشبه قد يقتضى تمام التشبيه أو حسنه انتزاعه من مجموع أشياء بحيث يكون هيئة مركبة ترعى فيها جميع تلك الأشياء فيقع الخطأ من السامع بانتزاعه إياه فى اعتقاده من أقل من مجموع تلك الأشياء أو من المتكلم بأن يصرح به مأخوذا من بعض تلك الأشياء فقط فقال :

دقيقة فى الوجه المركب

(واعلم أنه) أى : أن وجه الشبه (قد ينتزع) عند السامع أو المتكلم (من متعدد) ، ولكن لا يكفى انتزاعه من ذلك المتعدد فى حصول الغرض الذى يجب قصده ليحصل المعنى الذى ينبغى أن يراد أو الذى أريد (فيقع الخطأ) من المتكلم حيث لم يأت بما يجب أو من السامع حيث لم يتحقق ما قصده المتكلم مما يجب ، وذلك (لوجوب انتزاعه من أكثر) من ذلك المتعدد ؛ لأن الاقتصار على ذلك المتعدد فى الأخذ يبطل به المعنى الذى يجب أن يراد أو أريد ، وذلك (كما إذا انتزع) وجه الشبه (من الشطر الأول) أى : انتزع مما اشتمل عليه الشطر الأول (من قوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت) (١)

أى : كإبراق غمامة لقوم أى : تعرضها لهم فما فى كما مصدرية وقوما منصوب بإسقاط الخافض يقال : أبرقت لى فلانة ، إذا تزينت وتعرضت ، وأما أبرق بمعنى صار ذا برق أو أبرق بسيفه إذا ألمع به أو غير ذلك ، فلا يناسب هنا شيء منها ، فلما رأوها أقشعت أى : اضمحلت وذهبت ، وهو معنى تجلت يقال : قشعت الريح السحاب فأقشع أى : صار ذا قشع أو ذهاب أو طاوع فيه ، فالشاعر شبه الحالة المذكورة فيما قبل هذا البيت وهى كون الشاعر أو كون من هو فى وصفه ظهر له شيء هو فى غاية الحاجة إلى ما فيه ، وذلك الظاهر هو بصفة الإطماع فى حصول المراد ، وبنفس ظهور ذلك الشيء وإطماعه انعدم وذهب ذهابا أوجب الإياس مما رجى منه بحالة قوم

__________________

(١) أورده الطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ص (١ / ١٠٧) ، وأورده القزوينى فى الإيضاح ص (٣٥٤).


تعرضت لهم غمامة وهم فى غاية الحاجة إلى مارجوا فيها من الماء لعطشهم ، وبنفس ما طمعوا فى نيل الشرب منها تفرقت وذهبت.

فإذا سمع السامع كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فربما يتوهم أن ما يؤخذ منه يكفى فى التشبيه لطوله ؛ إذ فيه أن قوما ظهرت لهم غمامة وكون تلك الغمامة رجوا منها ما يشرب وكونهم فى غاية الحاجة لذلك الماء الموجود لعطشهم ، فإذا انتزعه من هذا الشطر وحده كان حاصل التشبيه أن الحالة الأولى كالحالة التى هى إبراق الغمامة لقوم إلخ فى كون كل حالة فيها ظهور شيء لمن هو فى غاية الحاجة إلى ما فيه مع كون ذلك الظاهر مطمعا فى حصول المراد ، فيقع الخطأ من ذلك السامع ، وكذا المتكلم لو فرض تصريحه بهذا القدر ؛ لأن المعنى المراد أو الذى يناسب أن يراد فى التشبيه لم يتم ؛ إذ تشبيه المجموع بالمجموع يقتضى كما تقدم أن يؤخذ الوجه من كل ماله دخل فى التشبيه ؛ لأن كل جزء من طرف له نظير من الطرف الآخر فإذا أسقط ما يؤخذ منه فى ذلك الوجه بطل اعتبار المجموع.

(ف) وجب أن يؤخذ من المجموع ، ل (أن المراد) من هذا التشبيه كما قررنا (التشبيه) أى : تشبيه الحالة بجميع ما اعتبر فيها كما أشرنا إليه بالحالة الثانية بجميع ما اعتبر فيها وهى كون القوم ظهرت لهم غمامة وهم عطاش فأطمعتهم فى حصول الماء للشرب ، وبنفس الإطماع ذهبت ، فأيسوا من حصول المراد فبقوا متحيرين ، ولا يتم التشبيه المحصل لدخول جميع ما اعتبر فى الحالتين إلا (ب) اعتبار (اتصال) أى : إلا بكون الوجه هو اتصال (ابتداء مطمع) أى : ابتداء شيء مطمع هو ظهور السحاب فى المشبه به وظهور المرغوب فى المشبه ، وهذا على أن ابتداء مضاف لمطمع ، ويحتمل أن ينون ويكون مطمع وصفا له ، وعلى كل حال فقوله : (بانتهاء مؤيس) متعلق باتصال وإعراب الانتهاء كإعراب الابتداء ، والمعنى أن وجه الشبه كون ابتداء الشيء الظاهر المطمع متصلا بانتهائه واضمحلاله المؤيس ، ويراد فيه مع شدة الحاجة إلى ذلك المطمع ، فإذا انتزع الوجه هكذا تحقق به تشبيه الحالة الاجتماعية بالأخرى ، وانتفى الخطأ اللازم على الأخذ الأول القاصر ، فالباء فى قوله : باتصال داخلة على الوجه ؛ إذ هو المشترك فيه


كهى في قولهم التشبيه بالوجه العقلى أعم ، وليست داخلة على المشبه به ، إذ هو كما تقدم حالة القوم المعتبر فيها ما تقدم ، وقولنا : الوجه هو اتصال الابتداء الموصوف بالانتهاء الموصوف ، ليس كقولنا : هو اتصال الابتداء واتصال الانتهاء بالعطف ؛ لأن حرف العطف إن كان واوا لا يقتضى إلا مجرد الجمعية من غير توقف ولا توقف ، وبهذا يعلم الفرق بين التشبيه المركب الوجه والتشبيه المتعدد الوجه ، وذلك لأن الأول لا يصح فيه حذف بعض ما اعتبر ، وإلا اختل المعنى كما تقدم بيانه فى هذا المثال ولا تقديم بعض ما اعتبر على بعض وإلا انعكس القصد ، إذ لو قيل الوجه اتصال ابتداء مطمع كان مختلا ، ولو قيل اتصال انتهاء مؤيس بابتداء مطمع اختل الواقع ، والقصد وإن كان المعنى فى نفسه صحيحا ؛ لأن الواقع المقصود هو وجود الإطماع بالابتداء أولا ، ثم الإياس بالانتهاء ثانيا ، ونظيره فى العطف ما لو قيل الوجه هو الابتداء ثم الانتهاء ؛ لأن ثم تقتضى الترتيب فلا يتقدم ما بعدها على ما قبلها ، فالمتعاطفان بها ـ ولو صح الاستغناء بأحدهما عن الآخر بحسب الظاهر ـ لا يصح فيهما تقدم المتأخر ولا إسقاط أحدهما لفوات إفادة المعنى الذى هو ترتيب أحدهما على الآخر بخلاف ما إذا قيل : زيد كعمرو فى الشجاعة والكرم ، فيصح التقديم والتأخير فيهما من غير تبدل فى المعنى ولو حذف أحدهما تم المعنى فإن قيل : إذا قصد الاستقلال فى العطف بالواو ظهر الفرق بين تعدد الوجه وتركبه وكان من التشبيهات المتعددة ، وأما إذا قصد اجتماعهما فلا يظهر الفرق بين العطف بثم الذى جعلت الوجه فيه من باب التركيب والاتصال والعطف بالواو لوجود اعتبار الاتصال فيهما ، بل لا يتقرر الفرق بين العطف بالواو حينئذ وبين التركيب بدون عطف أصلا قلت : مدلول الواو ولو قصد هو مطلق الاجتماع فى الوجود والاتصاف ، وهو أمر جملى عام ليس فيه خصوصية تترجح فى الاعتبارين على الاستقلال ، فعاد المعنى إلى الاستقلال والتعدد ؛ لأن مطلق الجمعية فى الوجود والاتصاف تجرى حتى فى غير العطف ، ولذلك شرط فى العطف بالواو وجود جامع زائد على مفادها فتقرر بذلك الفرق بين تركب الوجه وتعدده ، وبمثله يتقرر الفرق بين تركب الطرفين وتعددهما ، فإذا قلت : حال زيد فى لقاء عمرو وقد وعده بقضاء دينه ، وبنفس


لقائه اعتذر له بموجب إياسه كحال قوم عطاش أبرقت لهم غمامة فلما رأوها أقشعت فى أن كلا من الحالتين اتصل فيها ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس كان الطرفان مركبين كالوجه لعدم صحة الاقتصار على البعض من كل وعدم تمام المعنى إلا بالمجموع.

وإذا قلت : زيد كالأسد فى الشجاعة والبحر فى الكرم والسيف فى القطع ، كان من التعدد فى الكل ، وكان من التشبيهات المجتمعة لا تشبيه واحد فى المركب لصحة الاقتصار على كل واحد واستقلاله مع تمام المعنى ، ولصحة التقديم والتأخير بلا تبدل المعنى ؛ فالأول من تشبيه المجموع بالمجموع فى مجموع ، والثانى من مجموع تشبيهات فى أوجه مجموعة ، والفرق بين مفاد العبارتين واضح ، وقد أطنبت فى هذا الموضوع قصدا لإفادة الإيضاح ، فليفهم.

ولما فرغ من أمثلة المركب ، وقد تبين الفرق بينه وبين المتعدد ، شرع فى أمثلة المتعدد ، وقد تقدم أنه إما حسى كله أو عقلى كله أو بعضه حسى وبعضه عقلى ، فقال : (و) الوجه (المتعدد الحسى) كله (كاللون والطعم والرائحة فى تشبيه فاكهة بأخرى) ، ولا شك أن هذه الثلاثة إنما تدرك بالحواس المعلومة الثلاثة ، فاللون بالبصر ، والطعم بالذوق ، والرائحة بالشم ، وذلك كتشبيه التفاح الحامض بالسفرجل ، (و) الوجه المتعدد (العقلى) كله (كحدة النظر) الموجب لكونه يدرك به الخفيات ، (وكمال الحذر) الموجب لكونه لا يؤخذ عن غرة ، (وإخفاء السفاد) أى : إخفاء الذكر نزوه على الأنثى بحيث لا يرى فى تلك الحالة ، ولا شك أن حدة النظر وصف عقلى للنظر ؛ إذ النظر فى نفسه عقلى ؛ إذ لا يرى ، وكمال الحذر عقلى ؛ إذ الحذر فى نفسه عقلى أيضا ، وإنما تظهر آثاره وإخفاء السفاد لا يخفى كونه عقليا ، وذلك (فى تشبيه طائر بالغراب) ، وإنما قال : " طائر" ؛ لأن الإنسان أخفى منه سفادا ، كذا قيل ، وفيه بعد لأن الإنسان قد يرى فى تلك الحالة والغراب ، قيل : إنه لم ير عليها قط حتى قيل إنه لا سفاد له معتاد ، وإنما له إدخال منقره فى منقر الأنثى ، وأما حدة نظر الغراب فإنه يرى تحرك أى طرف من الإنسان ولو كان بغاية السرعة وذلك من كمال حذره حتى إن مما اشتهر فى كمال حذر الغراب ، ما يقال من أنه أوصى ابنه فقال له : إذا رأيت إنسانا أهوى إلى الأرض


فطر ؛ إذ لعله يأخذ حجرا يضربك به ، فقال له ابنه : بل أطير إذا رأيته مقبلا ، ومن يؤمننى أن يكون أتى بالحجر معه ، وهذا من مبالغة الناس فى وصفه بالحذر.

(و) الوجه المتعدد (المختلف) الذى بعضه عقلى وبعضه حسى (كحسن الطلعة) أى : حسن الوجه ، وقد تقدم أن الحسن يرجع إلى الشكل واللون وهما محسوسان ، فحسن الطلعة حسى (ونباهة الشأن) أى : شرف الشأن واشتهاره وعلوه ، ولا شك أن الشرف والاشتهار لا يحدان بالبصر ولا بغيره ، وإنما الشرف والاشتهار فى العقول ، ولو كان سبب كل منهما قد يكون حسيا ، فنباهة الشأن عقلى ، وذلك (فى تشبيه إنسان بالشمس) فى حسن الطلعة والنباهة ، وقد تقدم أى : المتعدد يقصد فيه إلى اشتراك الطرفين فى كل واحد ، والمركب يقصد فيه إلى الهيئة الاجتماعية العقلية أو الحسية ، فالمتعدد من التشبيه فى الجمع والمركب من التشبيه فى المجموع ، ثم أشار إلى أن المشبه قد يكون من إثبات ما ليس بثابت على وجه التخيل ، بل على وجه القصد فقال : (واعلم أنه) أى : أن الشأن (قد ينتزع الشبه) بفتح الشين والباء بمعنى التشابه والتماثل ، والمراد به هنا ما يقع به التشابه وهو وجه الشبه من إطلاق المصدر على المفعول ؛ إذ هو الذى يتعلق به الانتزاع ، ويحتمل أن يراد به معناه الأصلى الذى هو نفس التشابه والتماثل فى وجه ما ؛ لأنه إذا انتزع ، أى : استخرج ما وقع به التشابه بعد استخراج وصف التشابه فيلابس الانتزاع التشابه أيضا ، وهو ظاهر (من نفس التضاد) الكائن بين شيئين ، ومعنى الانتزاع من نفس التضاد أن يجعل التضاد وسيلة لجعل الشيء وجه شبه ، لا أن يعتبر ما يتعلق بالتضاد كما تعتبر الهيئة المنتزعة من أشياء فيما تقدم ، فإن هذا لا يصح هنا ؛ وإنما صح أن يجعل التضاد وسيلة لوجه الشبه (لاشتراك الضدين فيه) ، أى : فى التضاد ، فإن كلا من الضدين موصوف بتضاده للآخر ، وإذا كان التضاد مشتركا فيه ناسب أن يعتبر ذلك الاشتراك فى التضاد الذى لم يقصد أن يكون وجه الشبه كالاشتراك فى الوجه المشترك فيه المقتضى للتشبيه فى غير الضدين اللذين هما الطرفان المرادان هنا ، والمقصود بالضدين المتنافيان فى الجملة ، فيصح أن يتخيل التضاد كالتناسب ، فينزل منزلته بواسطة أن كلا منهما مشترك فيه ، وإلى هذا أشار بقوله : (ثم ينزل) ذلك


التضاد المشترك فيه (منزلة التناسب) والتماثل فى جامع يرفع الضدية الكائنة بين الطرفين ، وهذا التنزيل أعان عليه الاشتراك ، فذكر الاشتراك على هذا للبيان ؛ إذ لا بعد فى هذا التنزيل المؤدى إلى أخذ الوجه من التضاد ، فإن قلت : إذا كان الاشتراك فى التضاد كافيا فى أخذ الوجه المقتضى لنفى الضدية بواسطة تنزيل ذلك التضاد منزلة التناسب فى وجه يرفع التضاد لتصحيح الاشتراك ذلك التنزيل ضرورة اتصاف التضاد والتناسب بالاشتراك فى كل منهما صح أن يقال : السماء كالأرض فى الانخفاض ، والأرض كالسماء فى الارتفاع ، والسواد كالبياض فى تفريق البصر ، والبياض كالسواد فى عدمه ، ونحو هذا مما لم يصح وروده عن البلغاء ، وإنما قلنا بصحته ضرورة أن كل ذلك وجد فيه الاشتراك فى التضاد المصحح لتنزيله منزلة التناسب على ما قررت.

(قلت) اعتبار الاشتراك لتصحيح أخذ الوجه المقتضى للمناسبة إنما هو لزيادة توجيه الصحة ، دفعا لاستغراب أخذ المناسبة من التضاد ، وإلا فلا تكفى مجرد الاشتراك وإلا لزم ما ذكر ، بل لا بد فى صحة الأخذ من زيادة وجود تمليح أو تهكم ، وإلى ذلك أشار بقوله : (بواسطة تمليح أو تهكم) ، أى : إنما صح تنزيل التضاد منزلة التناسب فى الوجه الرافع للتضاد فيجعل ذلك الرافع للتضاد هو الوجه لأجل وجود الاشتراك فى التضاد والتناسب فى الجملة بواسطة التمليح والتهكم ، أى : إنما أعان على صحته وقبوله قصد التمليح أو التهكم أو قصدهما معا (فيقال) مثلا (للجبان) ، أى : للشخص المعلوم بالجبن : (ما أشبهه بالأسد) فى الشجاعة ، (وللبخيل) ، أى : الشخص المعلوم بالبخل : (هو حاتم) فى الكرم ، وكلا المثالين صالح لقصد التمليح ولقصد التهكم ولقصدهما معا ، فإذا قامت القرائن على عدم قصد الاستهزاء بالمشبه لصداقة له مثلا ، وإنما قصد التمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح يستبدع ويستظرف عند السامع ، كانت الواسطة تملحيا ، وإذا قامت على قصد الاستهزاء بالمخاطب لعداوة وغضب من غير أن يكون ، ثم من تقصد ظرافة الكلام معه كانت الواسطة التهكم ، وإذا قامت على قصدهما معا لعداوة المشبه فقصدت إهانته وإذايته مع وجود سامع يقصد إيجاد الكلام فى غاية الظرافة والملاحة


معه كان كلاهما واسطة. أما التمليح فيما ذكر فلأن إفادة نهاية الذم المقصودة فى طى ما يفيد نهاية المدح مما يستملح ، وأما التهكم فلأن الإتيان بعكس ما يطلب فى طيه معروف لتلك الإهانة كمناولة حجر عند طلب خبز مثلا ، ولهذا يقال عند مناولته استهزاء : خذ الخبز ، ولأجل قصد نهاية الإهانة ناسب التعبير فى هذا التشبيه بصيغة التعجب والمبالغة كما فى المثالين ، وإنما زدنا ذكر الوجه نحن لقصد إيضاح المراد من الوجه ، ثم لا يخفى أن انتزاع الوجه من التضاد مؤخر عن تنزيله منزلة التناسب على ما قررنا ، فالتعبير بثم فى التنزيل للترتب الذكرى ، إلا أن يراد بالانتزاع قصده ، ويراعى فى التنزيل نهايته فيوجد حينئذ الترتب والمهلة ، فتكون ثم على بابها تأمل.

فتبين بما قررنا أن التمليح مصدر ملح الشاعر إذا أتى بشيء مليح وقصد التمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح فى طى التعبير بما يدل فى الأصل على خلاف المراد موجود فى كلام العرب كما بينه الإمام المرزوقى فى قول الشاعر الحماسى ، أى : المنسوب إلى الحماسة وهى الشجاعة كما دل عليه شعره :

أتانى من أبى أنس وعيد

فسل لغيظة الضحاك جسمى (١)

فإنه قال هذا البيت قصد قائله التهكم بأبى أنس والتمليح ، أى : الإتيان بشيء مليح يستظرفه السامعون ، والإمام المرزوقى قدوة فيما يفهم من أشعار العرب لتدربه بها وممارسته لمقتضياتها ، ومعنى سل ذاب وهو بصيغة المبنى للمجهول ، والجسم هو النائب ، وفى بعض الروايات بدل لغيظة تغيظ فيكون بصيغة المبنى للفاعل ، والتغيظ فاعله ، والجسم مفعول ، والمراد بالضحاك أبو أنس نفسه ، وعبر بالظاهر موضع الإضمار بيانا لعين المستهزأ به بذكر الاسم العلم تحقيرا لشأنه ، وقيل : الضحاك اسم لملك من الملوك سماه به زيادة فى التهكم لتضمنه تشبيهه به على وجه الهزؤ والسخرية ، فكأنه قال : فسل جسمى تغيظ هذا الذى هو كالملك الفلانى ، ولا يخفى ما فيه من الاستهزاء فالتمليح بتقديم الميم معناه ما ذكر من الإتيان بالمليح ، وليس مرادفا للتلميح بتقديم اللام الذى هو الإشارة إلى قصة كما فى قوله :

__________________

(١) البيت لشاعر حماسى فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٨).


ألمت بنا أم كان فى الركب يوشع

أو شعر كما فى قوله :

لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظى

على ما سيأتى بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ومن سوى بينهما وجعل قوله : هو حاتم إشارة إلى قصة حاتم ، فقد وهم ؛ لأن حاتما لا يشعر بقصة ، وإنما يشعر بالجواد الذى هو كاللازم له الذى قصد ليجعل وجه الشبه هنا ، وتبين أيضا بما قررنا أن وجه الشبه فى هذا التشبيه هو الوجه الرافع للتضاد الموجب للمناسبة ، لا نفس التضاد المشترك للضدين ، فإنا إذا قلنا : هذا ـ مشيرين إلى جبان ـ كالأسد ، وقصدنا أن الذى كان فى وصفيهما لم يفد تمليحا ولا تهكما ، بل بمنزلة قولنا : البياض كالسواد فى تقابلهما وتضادهما وجه التضاد أو فى اللونية الكائنة فيهما ، والكلام هنا فيما يفيد تمليحا أو تهكما ؛ وإنما يفيده إذا قصد أن يكون الوجه هو الأمر الذى تقتضيه المناسبة الرافع للضدية وهو الشجاعة فى المثال حتى إنا لو صرحنا به لقلنا فى الشجاعة ، وكذا إذا قلنا فى بخيل هو كحاتم ، وإنما نجعل الوجه هو الكرم لا الاتصاف بضد ما فى كل ، ولكن لما كان الحاصل فى نفس الأمر فى المشبهين ضد ما ذكر ؛ لأن الحاصل فى المشبه فى الأول الجبن وفى الثانى البخل نزلنا التضاد بين الوصفين كالمناسبة والمماثلة على ما قررنا آنفا ، فتوصلنا بذلك إلى جعل الحاصل فى المشبه هو الشجاعة فى الأول والكرم فى الثانى على وجه التمليح بإظهار المقصود فى نقيضه أو التهكم بإعطاء الأذى فى عكسه ، ومن جعل الوجه هنا هو التضاد المشترك فيه حقيقة فقدسها لما ذكرنا ؛ ولأنه لا معنى حينئذ لكون الوجه منتزعا من التضاد ، إذ هو نفس التضاد ، ولا معنى لانتزاع الشيء من نفسه ، فليفهم.

أداة التشبيه

ولما فرغ من ثلاثة أركان التشبيه شرع فى الرابع منها ، وهو أداته فقال : (وأداته) ، أى : وآلة التشبيه الدالة عليه (هى الكاف) ، وهى الأصل لبساطتها (وكأن) قيل : هى بسيطة ، وقيل : إنها مركبة من الكاف ومن أن المشددة ، والأقرب الأول لجمود الحروف مع وقوعها فيما لا يصح فيه التأويل بالمصدر المناسب لأن المفتوحة ، وإن كان الثانى أشبه بحسب ما يبدو من صورة كأن ، وإذا دخلت الكاف على أن فصل بينها


وبينها بما ، فيقال مثلا : زيد قائم كما أن عمرا قائم لئلا يقع اللبس بينها وبين كأن التى هى من أخوات إن ، وكأن هذه قيل : إنها تكون مع الخبر المشتق للشك وتكون مع غيره للتشبيه على أصلها ، فإذا قلت : كأن زيدا أسد فهو لتشبيه زيد بالأسد ، وإذا قلت : كأن زيدا قائم فالمعنى على أنك تشك فى قيامه ؛ لأن قائم صادق على زيد ، وهو نفسه خارجا ، ولا معنى لتشبيه الشيء بنفسه ، وقيل : إنها فى مثل ذلك للتشبيه أيضا بتقدير موصوف ، أى : كأن زيدا شخص قائم ، ولما استغنى عن الموصوف روعى فى الخبر الذى هو وصف فى الأصل ما يناسب اسم كأن لجريانه عليه بحسب الظاهر ؛ ولذلك إذا اتصل به الضمير روعى فيه الاسم فيقال : كأنك قمت وكأن زيدا قام ولا يخفى ما فى هذا التقدير من التكلف المخرج للكلام عما يفهم منه بداهة ، وأيضا إن أريد بالشخص نفس زيد كان من تشبيه الشيء بنفسه كما قال ذلك القائل ، وإن أريد شخص آخر لم يفد وصف زيد بالقيام ، لا على وجه الشك ولا على وجه آخر بمنزلة ما لو قلت : كأن زيدا عمرو الواقف فإنه لا يفيد إلا أن زيدا يشبه عمرا الموصوف بالقيام ، ويحتمل أن يشبهه فى حال جلوسه لطول قامته ، والكلام لا يراد به إلا وصف زيد بالقيام من غير تحقق ، فالحق أن كأن تكون للظن القريب من الشك فى المشتق ، بل وفى الجامد كقولك : كأن زيدا أخوك ، وكأنه قائم ، وهذا المعنى كثير وروده فى كلام المولدين.

(و) من جملة أداة التشبيه لفظ (مثل) كقولك : زيد مثل عمرو (وما فى معناه) ، أى : معنى مثل مما يشتق من المماثلة ، وما يؤدى هذا المعنى كالمضاهاة والمحاكاة ونحو ذلك كقولك : زيد يضاهى ، أو يشبه ، أو يحاكى ، أو يماثل ، أو مضاه ، أو مشبه ، أو محاك عمرا فكل ذلك يفيد التشبيه ، والمتبادر أن هذه المشتقات إنما تفيد الإخبار بمعناها.

فقولك : زيد يشبه عمرا إخبار بالمشابهة كقولك : زيد يقوم ، فإنه إخبار بالقيام ، وليس هنا أداة داخلة على المشبه به ، ومثل هذا يلزم فى لفظ مثل فعدها من الأداة لا يخلو من تسامح ، (والأصل) ، أى : الكثير الشائع (فى نحو الكاف) أى : الأصل فيما هو مثل : الكاف مما يدخل على المفرد كلفظ مثل ، ونحو ، وشبه ، ومشابه ، ومماثل ، ونحو ذلك


بخلاف ما يدخل على الجملة مثل : كأن ، أو يكون جملة بنفسه مثل يشابه ويماثل ويضاهى ، ونحو ذلك ، (أن يليها المشبه به) ، أى : الأصل فى نحو الكاف أن يليها المشبه به بخلاف كأن فتدخل على الجملة ، وكذا نحو : يشابه زيد عمرا ؛ وإذا اعتبر الضمير المرفوع وليه أبدا لكن يلزم مثله فى المشتق ، وإذ كان ذلك هو الأصل فى مثل الكاف كان هو الأصل فى الكاف أيضا ؛ لأن الحكم إذا ثبت لمماثل الشيء ولما هو على أخص وصفه كان ثابتا له ، فثبوت ما ذكر لنحو الكاف يدل بطريق الكناية على ثبوته للكاف كما تقدم فى قولهم : مثلك لا يبخل وموالاة المشبه به للكاف ونحوها إما لفظا كقولك : زيد كالأسد ، وإما تقديرا كقوله تعالى"(مَثَلُهُمْ) ـ أى : صفتهم وقصتهم ـ (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ* أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)(١) فالكاف فى كصيب لم تدخل على المشبه به لفظا ، بل تقديرا ؛ إذ المراد : أو كمثل ذوى صيب من السماء ، وإنما قدر المشبه به ولم يكتف عنه بجعل المشبه به القصة المأخوذة من مجموع الكلام بحيث لا يحتاج إلى تقدير كما فى الخارج عن الأصل على ما سيأتى فى قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(٢) وإن أمكن ذلك بحسب المعنى فى هذا أيضا ؛ لأن الضمائر فى قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أحوجت إلى تقدير المعاد ، وهو ذوى ، فلما فتح باب التقدير قدر المثل قبله المعبر به عما يستفاد من مجموع الكلام ليناسب قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ،) وبهذا فارق هذا الكلام ما يأتى فكانت فيه الكاف مما وليها المشبه به تقديرا بخلاف ما يأتى مما لا يحتاج إلى تقدير فتدخل فيه على غير المشبه به فلا يليها لفظا ولا تقديرا ، وإليه أشار بقوله : (وقد يليه) ، أى : وقد يلى نحو الكاف (غيره) ، أى : غير المشبه به بحيث لا يكون ثمة لفظ مفرد هو المشبه به أصلا ، وذلك حيث يكون المشبه به حالة تركيبية ولم يعبر عنها بمفرد لعدم اقتضاء المقام لذلك

__________________

(١) البقرة : ١٧ ، ١٨.

(٢) الكهف : ٤٥.


التعبير فيستغنى عن ذلك المفرد بأخذ الحالة التركيبية من مجموع ما فى اللفظ المركب فلا يكون ثم لفظ هو المشبه به محقق ولا مقدر ، واحترزنا بقولنا ولم يعبر عنه بمفرد عن مثل قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(١) فإن المشبه به فيه مركب عبر عنه بلفظ المثل فولى المشبه به الكاف بخلاف ما لم يعبر عنه بالمفرد ، ولا اقتضى الحال تقديره ، بل استغنى عنه بما فى ضمن مجموع اللفظ فلا يلى الكاف فيه المشبه به (نحو) قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) مِنَ السَّماءِ)(٢) الآية ، أى : بين لهم صفة الحياة الدنيا أو صير لهم صفة الحياة الدنيا ، فعلى التقدير الأول يكون كماء فى موضع الخبر لمبتدأ محذوف ، أى : هى كماء ؛ لأن اضرب لم تتعد إليه ، وعلى الثانى يكون فى موضع المفعول وعلى كل تقدير فليس المراد تشبيه حال الحياة بماء موصوف بما ذكر ولا بمفرد آخر يتمحل تقديره ؛ لأن تكلف التقدير إنما يرتكب لموجب ، وحيث وجد فى الكلام ما يغنى عنه ألغى ، وههنا الحالة المفهومة من مجموع اللفظ أغنت عن التقدير وهى كون النبات بعد نزول الماء من السماء شديد الاخضرار والنضارة ، ثم بإثر ذلك الاخضرار ييبس فتطيره الرياح فيصير المكان خاليا منه ، ويكون منعدما كأن لم يكن ، وهذه الحالة المفهومة من مجموع اللفظ من غير حاجة لتقدير ، أعنى حال النبات المضمحل بعد النضارة والاخضرار هى التى شبهت بها حالة الدنيا فى بهجتها ، وإمالة القلوب لها ، ثم يعقبها الهلاك ، ووجه الشبه وجود التلف ، والهلاك بإثر الإعجاب والاستحسان والانتفاع ، والعاقل من لا يغتر بما كان بتلك الصفة ، وإذا كانت هذه الحالة هى المشبه بها ، وقد استفيدت من مجموع اللفظ صح التشبيه باعتبارها من غير مبالاة بأى لفظ يلى الكاف من مجموع اللفظ المفيد مجموعه لها ، ومن زعم أن هناك تقدير المثل أيضا ، أى : كمثل ماء أنزلناه الآية ، وأن الكاف مع ذلك التقدير مما لم يلها المشبه به فقد سها ؛ لأن المصنف فى الإيضاح صرح بأن الموالاة ، أعنى موالاة المشبه به للكاف ، أعم من أن تكون لفظا أو تقديرا ،

__________________

(١) الجمعة : ٥.

(٢) الكهف : ٤٥.


ويؤيد ذلك ما تقرر فى عرف الناس من أن المقدر كالمذكور ، وإنما القسم الذى لا يوالى فيه الكاف مشبه به ما لم يقدر فيه ولا لفظ به نعم إن ذهب الزاعم إلى تخصيص الموالاة باللفظية صح كلامه ؛ إذ لا حجر فى الاصطلاح ، ولا يقال تقدير المثل هنا لا بد منه كما فى قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ)(١) أى : كمثل ذوى صيب ، فإنهم قدروه به لأنا نقول : قد تقدم أن إعادة الضمائر هنالك أحوجت لتقدير لفظ ذوى ، ولما فتح باب التقدير قدر المثل أيضا ليطابق قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(٢) ولو لا ذلك استغنى عن التقدير الذى عدمه هو الأصل فيرتكب ما أمكن ، وههنا لم يفتح باب التقدير المرجوع عن عدمه فأبقى اللفظ على ظاهره لاستفادة المشبه به منه بلا تقدير ، كما قررنا ، فليفهم.

(وقد يذكر فعل) غير الأفعال الموضوعة من أصلها للدلالة على التشبيه لاشتقاقها مما يدل عليه كالمشابهة والمماثلة كما تقدم (ينبئ) ذاك الفعل (عنه) ، أى : عن التشبيه بأن يستعمل فيما يفيد فيه (كما) ، أى : كالفعل (فى) قولك : (علمت زيدا أسدا) ؛ وإنما يستعمل علمت لإفادة التشبيه (إن قرب) ذلك التشبيه بأن يكون وجه الشبه قريب الإدراك فيتحقق بأدنى التفات إليه ؛ وذلك لأن العلم معناه التحقق ، وذلك يناسب الأمور الظاهرة البعيدة عن الخفاء ؛ فلذلك أفاد علمت حال تشبيه زيد بالأسد ، وأنه على وجه قرب المشابهة ، (و) كذا الفعل فى قولك : (حسبت) زيدا أسدا فإنه يستعمل لإفادة التشبيه بين زيد والأسد (أن بعد) ذلك التشبيه لبعد الوجه عن التحقق وخفائه عن الإدراك العلمى ؛ وذلك لأن الحسبان ليس فيه إلا الرجحان والإدراك على وجه الاحتمال ، ومن شأن البعيد عن الإدراك أن يكون إدراكه كذلك دون التحقق المشعر بالظهور وقرب الإدراك فأفاد حسبت حال التشبيه وأن فيه بعدا ، والتشبيه الموجود فى نحو هذين التركيبين لم يظهر كونه من الفعلين كما هو ظاهر عبارة المصنف ؛ لأن مدلول العلم والحسبان لا يشعر بالتشبيه أصلا فلو لا حمل الأسد على زيد

__________________

(١) البقرة : ١٩.

(٢) البقرة : ١٧.


بعدهما ما فهم التشبيه منهما. نعم بعد تحقق التشبيه بحمل الأسد على زيد يفيد تعلق العلم به كونه أمرا واضحا ومن لازم ذلك غالبا قوة الشبه بحيث يدرك إدراكا علميا ، ويفيد تعلق الحسبان به العكس على ما قررنا ، فلو جعل الفعلان منبئين عن حال التشبيه فى قربه وظهوره وفى بعده وخفائه كما أشرنا إليه بتقدير لفظ الحال قبل التشبيه فيهما كان أظهر من جعلهما ينبئان عن أصل التشبيه الذى هو ظاهر عبارة المصنف ، بل نقول : لا يصح إنباؤهما عن أصل التشبيه أصلا ، ولكن المنبئ عن حال الشيء كالمنبئ عنه فيمكن حمله على معنى إنبائهما عن حاله كما قدمنا ، وفى التعبير عن هذا المعنى بما ذكر خفاء لا يخفى ، ولا يقال يتعلق العلم والحسبان بالشبه الضعيف والقوى فمن أين يختص الأول بالقرب والثانى بالبعد ؛ لأنا نقول : قد بنينا على ما هو شأن المدرك وعلى الغالب فيه وإن أمكن فيه ما ذكر ، فليفهم.


غرض التشبيه بعوده إلى المشبه والمشبه به

أولا : غرض التشبيه بعوده إلى المشبه

ولما فرغ من أركان التشبه شرع فى الغرض منه وهو الأمر الحامل على الإتيان به فقال : (والغرض منه) ، أى : من التشبيه (فى) استعماله (الأغلب يعود إلى المشبه) ؛ لأنه هو المحكوم عليه وهو المقيس الذى يطلب فى التركيب ما يتعلق به ، فإنك إذا قلت هذا كذلك فعرف الاستعمال فى الغالب يقتضى أن الذى أريد بيان حكمه وما يتعلق به هو المشار إليه بهذا وهو المحكوم عليه بخلاف المشار إليه بذلك وأشار بقوله فى الأغلب إلى أنه قد يعود للمشبه به فى غير الأغلب كما يأتى (وهو) ، أى : وذلك الغرض الذى يعود إلى المشبه أقسام ؛ لأنه إما :

بيان إمكان المشبه

(بيان إمكانه) ، أى : إمكان المشبه كما إذا كان حالة غريبة ربما تدعى الاستحالة فيها فتلحق بحالة مسلمة الإمكان لوقوعها فى وجه جامع لهما ، وهو منشأ تلك الغرابة فيسلم إمكان المدعى ، إذ لو استحال انتفى معناه الكلى عن كل فرد فيلزم انتفاء ذلك الواقع وهو محال فيثبت المدعى ، وذلك (كما) أى : كالبيان الكائن (فى قوله) أى : فى قول أبى الطيب : (فإن تفق الأنام) (١) جميعا ، وهم الإنس والجن يعنى أهل زمانه ومن تعميم الأنام يستفاد أنه صار بكونه فائقا لهم جنسا آخر بواسطة أن الداخل فى الجنس لا بد أن يساويه فرد منه غالبا ، (و) الحالة أنك (أنت منهم) ؛ لأنك آدمى بالأصالة ، وجواب أن محذوف أقيم مقامه علته وهو ما أشار إليه بقوله : (فإن المسك) فى أصله (بعض دم الغزال) ، وقد صار بأوصافه الذاتية له خارجا عن جنسه مثلك ، والجواب الذى قلنا إنه أقيمت العلة مقامه قولنا فلا بعد ، أى : إن خرجت عن جنسك بكمال أوصافك فلا يستغرب ذلك ؛ لأن المسك بعض دم الغزال ، وقد خرج عن جنسه بكمال أوصافه فأنت مثله ، فالشاعر لما ادعى أن الممدوح فاق الناس فوقانا صار به جنسا آخر بنفسه وأصلا مستقلا برأسه كما حققناه ، وكان فوقانه الأنام على الوجه

__________________

(١) البيت للمتنبى من قصيدة يرثى فيها والدة سيف الدولة ، وهى فى ديوانه (٣ / ١٥١) ، والإشارات ص (١٨٧).


المذكور مما يمكن أن تدعى استحالته ، احتج لمدعاه بأن ألحق حالته بحالة مسلمة الإمكان لوقوعها فشبه حالة الممدوح بتلك الحالة فتبين أن حالته ممكنة وهو المشبه ، والحالة التى هى المشبه هى ما أشار إليها بقوله : " فإن تفق الأنام إلخ" فهى كون الممدوح من أصل هو الأنام مع خروجه عنهم فصار جنسا آخر كما قدمنا والمشبه بها وهى الحالة المسلمة هى كون المسك من أصل هو الدم مع كونه صار شيئا آخر خارجا عن جنسه ، والوجه الجامع اللازم للحالتين وهو منشأ الغرابة فى الحالة الأولى قبل التفطن للثانية كون الشيء من أصل وكونه مباينا له بذاته لكماله ، فهذا تشبيه من باب تشبيه مركب بمركب كما رأيت ، ولما كان هذا الوجه مستفادا مما أشير إليه من الطرفين كان فى ذلك إشعار بالوجه المشعر بالتشبيه بين الحالتين المربوطة إحداهما بالأخرى ، وإنما قال المصنف بيان إمكانه ولم يقل بيان وقوعه مع أن الملحق به واقع للإشارة إلى أن الحالة المدعاة أمر غريب أعظم فى النفوس من أن يدعى عدم وقوعه ، بل الأليق به أن ينفى إمكانه فبين بالوقوع المستلزم للإمكان ، وأشار بذكر إثبات كون المسك من دم الغزال دون أن يقول وقد فاق أصله الذى يتم به الاستدلال بذكر مجموع المشبه به إلى أن الذى ينبغى أن يقع النزاع فيه بالنسبة للمستدل عليه هو كونه من الأنام بأن ينظر هل هو منهم أم لا ؛ وأنه هو الذى ينبغى أن يشك فيه ، وأما كونه خارجا عن جنس الأنام فأمر معلوم لا ينبغى التعرض لما يناسبه فى المستدل به ، وفى هذا الاعتبار من المبالغة والدقة ما لا يخفى ، وقد علم بما بسطناه أن الذى بين إمكانه هو وجه الشبه ليتوصل به إلى إمكان المشبه ، فليفهم.

بيان حال المشبه

(أو) بيان (حاله) فهو معطوف على إمكانه لا على بيان ؛ ولذلك قدرنا قبله بيان ومعنى بيان حال المشبه أن يبين الوصف الذى هو عليه للجهل به عند السامع من لون أو غيره بأن يقرر بذلك التشبيه أى حالة وصفة كان عليها المشبه عند سؤال المخاطب ذلك بلفظه أو بحاله ، وذلك (كما) أى : كالبيان الكائن (فى تشبيه ثوب) مجهول اللون (بآخر فى السواد) ، فإذا علم السامع لون الثوب الحاضر مثلا وهو المشبه به


وجهل حال المشبه وهو الثوب الغائب مثلا فقال ما لونه فإنك تقول لبيان الحالة المسئول عنها ذلك الثوب الذى تسأل عن لونه كهذا فى لونه الذى هو السواد مثلا ، فالسواد فى هذا التشبيه من حيث إنه حصل العلم بوجوده فى المشبه الذى أفاده إلحاقه بهذا المعلوم يصح أن يكون غرضا ، ويسمى حينئذ حال المشبه ولا منافاة بين كون الشيء وجها باعتبار وغرضا حينئذ بعد التشبيه باعتبار آخر ، وإن شئت قلت بذاته وجه شبه ، وبيانه للسامع وعلمه به غرض ، فلا تداخل بين الغرض والوجه ، فحينئذ لا يرد أن يقال حاصله أن الغرض بيان وجه الشبه وقد تقدم ذكر وجه الشبه فافهم.

بيان مقدار حال المشبه فى القوة والضعف

(أو) بيان (مقدارها) ، أى : مقدار حال المشبه ، أى : صفته كما إذا عرفت صفته ولكن جهلت مرتبة تلك الصفة من قوة وضعف وزيد ونقص ، والزيد والنقص أعم من القوة والضعف ، فإذا عرف الإنسان لون ثوب مثلا وأنه سواد ولكن جهل مرتبة ذلك السواد فلم يدر هل هو شديد أم لا ؛ لأنه مما يقبل الشدة والضعف ، إذ هو من قبيل المشكك فقال : كيف لون ذلك الثوب المشترى مثلا ، فإنك تبين له ذلك بإلحاقه بذى سواد هو فى مرتبة معلوم له ، وذلك (كما) أى : كالبيان الكائن (فى تشبيهه) أى : تشبيه الثوب المجهول مرتبة سواده (بالغراب فى شدته) ، أى : فى شدة السواد حيث تقول هو ، أى : ذاك الثوب المسئول عن حال سواده ومقدارها فى الشدة أو الضعف ، كالغراب فى سواده ، فالسواد الشديد من حيث وجوده فى الطرفين أيضا جامعا مصححا للتشبيه يسمى وجها ، ومن حيث إنه بعد وجود التشبيه فيه تحقق به مقدار ما فى المشبه من جنسه يسمى غرضا أو تقول هو نفسه وجه وبيانه بخصوصيته المجهولة هو المسمى غرضا حاصلا عن التشبيه لوجود العلم بتلك الخصوصية بعده فلا تداخل هنا أيضا بين الوجه والغرض كما تقدم.

تقرير حال المشبه فى نفس السامع

(أو تقريرها) هو بالرفع معطوفا على قوله بيان ، أى : الغرض إما بيان ما ذكر وإما تقرير حال المشبه فى ذهن السامع وتقوية شأنها عنده بتحقيق تمكينها فى نفسه


بسبب إظهارها فيما هى فيه أظهر وأقوى ، وإنما لم يعطف بالجر على مدخول البيان فيكون التقدير أو بيان تقريرها ؛ لأن التقرير أخص من مطلق البيان ، إذ هو بيان على وجه التمكن فلو كان التقدير كذلك كان المعنى أو بيان البيان الخاص وتلزم فيه عجزفة ؛ لأن مدخول البيان أولا مفعول به ، وهذا لا يكون مفعولا به إلا بتمحل والرفع يغنى عن ذلك فارتكب ، وذلك (كما) أى : كالتقرير الكائن (فى تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل) أى : على فائدة وفضل وهو من طال طولا فهو طائل ، أى : صار له فضل وامتنان وفائدة ثم أطلق على مطلق الفائدة والفضل (بمن يرقم) ، أى : يخطط كتبا أو تزويقا (على الماء) ، فإن حال الساعى من غير حصول فائدة واضح ، ولكن إذا أردت تقريرها فى نفسه والتأثير الموجب لتصبيره أو تنفيره عما هو فيه شبهتها بالراقم على الماء فى عدم حصول فائدة فإن عدم الحصول على شيء فى الراقم أمر حسى متحقق بالشهود ، ويقوى ذلك كونك تريه الرقم حسا بأن ترقم بيدك على الماء بحضرته ثم نقول له أنت فى عدم حصولك على طائل مثلى فى هذا الرقم ؛ لأن النفس بالحسى أكثر إلفا منها بغيره ، ومن هذا المعنى أعنى ظهور المعقول فى المحسوس فيتمكن فى النفس لإلفها المحسوس قول الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ـ : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى)(١) فقد طلب شهود أثر الإحياء ؛ لأن النفس فى الاطمئنان إلى المحسوس أقوى منها فى الاطمئنان لغيره قيل : إنما طلب ذلك لحق من يتبعه لا لنفسه ، وهذا فيما بين المحسوس والمعقول ظاهر فإنك لو قلت هذا اليوم مثلا أطول من كل ما يقدر لم يكن فى تأثيره فى النفس طول ذلك اليوم مثل قوله حيث شبهه فى المحسوس :

ويوم كظل الرمح قصر طوله

دم الزق عنا واصطكاك المزاهر (٢)

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) البيت لابن الطثرية فى ديوانه ص (٨١) ، ولسان العرب (صفق) وأساس البلاغة (رمح) وورد (واصطفاق) مكان (واصطكاك).


وقد يوجد هذا التقرير فيما بين محسوسين إذا كان أحدهما أقوى فى ظهور الوجه كما لو قلت لكاتب بمداد أحمر فى قرطاس أحمر : " أنت فى كتابتك كالراقم على الماء" ؛ لأن عدم ظهور الفائدة فى الراقم على الماء أقوى ظهورا منه فى الكاتب المذكور ، ويحتمل أن يكون هذا المثال ، أعنى تشبيه من لا يحصل على طائل بالراقم على الماء ، من باب بيان المقدار ؛ لأن عدم الفائدة مما يقبل الشدة والضعف والتوسط باعتبار المتعلق فبين مقدار عدم حصوله ، وأنه بلغ إلى حيث لا يحصل منه ما يتوهم فيه أن فيه نفعا أصلا ، وبه يعرف أن ما فيه بيان المقدار إن قصد من حيث التقرير لما فيه من قوة الظهور والتمام كان من التقرير ، وإن قصد من حيث مجرد فهم الكيفية كان من بيان المقدار ، تأمل.

والوجه هنا أيضا الذى هو عدم حصول الفائدة من العمل من حيث تقريره فى ذهن السامع بالإتيان بما هو فيه فى غاية القوة يكون غرضا حاصلا عن التشبيه ومن حيث إنه موجود فى الطرفين جامع لهما يكون وجها أو نفسه جامع وتقريره فى النفس غرض ، فلا تداخل أيضا على ما تقدم ، ولما كانت هذه الأغراض متعلقة بالجامع كما أن جميع الأغراض كذلك أشار إلى ما يحق أن يكون عليه الجامع لتحصل تلك الأغراض معه حيث كان له دخل فيها بالتعلق المذكور ولو كان التعلق لا من حيث إنه وجه جامع على ما تقدم فقال : (وهذه) الأغراض (الأربعة) ، وهى بيان الإمكان وبيان الحال وبيان مقدار الحال والتقرير للحال (تقتضى أن يكون وجه الشبه فى المشبه به أتم) ، أى : أكمل وأقوى منه فى المشبه (وهو به أشهر) يعنى : وتقتضى أيضا أن يكون المشبه به أشهر وأعرف بوجه الشبه من المشبه ؛ لأن حاصل تلك الأغراض كما تقدم تعريف حال المشبه الذى هو وجه الشبه وتعريف مقداره وتعريف إمكانه وتقرير ثبوته فى الذهن بواسطة إلحاقه بالمشبه به ، فلو لم يكن المشبه به أعرف بالوجه لزم أن يكون فى التشبيه تعريف مجهول بمجهول ، وكون هذه الأغراض تقتضى الأعرفية جميعا ظاهر لما ذكر ، وأما كونها تقتضى أن يكون الوجه فى المشبه به أتم فليس بظاهر فى الجميع وإنما يظهر فى التقرير فقط ؛ وذلك لأن بيان الإمكان إنما المطلوب فيه مجرد وقوع وجه الشبه


فى الخارج فى ضمن المشبه به ليفيد عدم الاستحالة ، وغاية ما يقتضيه ذلك مجرد العلم بالوجود الخارجى ليسلم الإمكان ، إذ لا يتوقف الإمكان على الأتمية بل مطلق وقوع الحقيقة فى فرد ما يكفى فى إمكانها فإذا قلت أنت فى خروجك عن أهل جنسك كالمسك فالمراد يكفى فيه العلم بخروج المسك من جنسه ولا يطلب كونه أتم منك فى الخروج ، بل ربما يوجب ذلك تقصيرا فى المدح فيصح التشبيه ، ولو كنت أتم فى الخروج ، وأما بيان الحال فالفرض كما تقدم أن المخاطب جاهل به طالب لمجرد تصوره وذلك يكفى فيه كونه معروفا فى المشبه به ليفيد معرفته فى المشبه كما تقدم ، فإذا قيل : " ما لون ثوبك المشترى" قلت : " كهذا" ، فيحصل الغرض بمجرد العلم يكون هذا له سواد ؛ لأن ذلك هو المطلوب ولا يتوقف على كون هذا أتم فى السواد ؛ لأنه زائد على مطلق التصور والزائد على مطلق التصور لم يطلب بعد وهو ظاهر ، وأما بيان المقدار فالمخاطب قد عرف الحال فى المشبه وهو طالب أو كالطالب لمقدار تلك الحال ، فلا بد أن يكون الوجه الذى هو الحال المطلوب مقداره فى المشبه به على قدره فى المشبه من غير زيادة ولا نقصان ، وإلا لزم الكذب والخلل فى الكلام فإنه إذا قيل : كيف كان بياض الثوب الذى اشتريت وهو فى مرتبة التوسط فى البياض أو مرتبة التسفل ، وقلت : " هو كالثلج" ليكون وجه الشبه فى المشبه به أتم كان الكلام كذبا ، ولا يخفى ما فى ذكر المقدار فى الحال من التسامح ؛ لأنه فى الأصل صفة الجسم ، والمراد مرتبته من القوة أو الضعف كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وأما التقرير فيقتضى الأتمية والأشهرية معا ، لأن المراد تمكين ذلك الوجه فى النفس وتقريره عندها جتى تطمئن إليه ، ولا يمكن لها مدافعة فيه بالوهم لغرض من الأغراض كالتنفير عن السعى بلا فائدة فإن صاحبه ربما يدافع بوهمه عدم حصول الفائدة بتوهم الحصول ، فإذا ألحق له بالرقم على الماء الذى لا يمكن مدافعة عدم الحصول فيه لقوته فيه وظهوره تحقق عند النفس فى الأول كما تحقق فى الثانى فتقع نفرته عن ذلك السعى ، وقد تقرر أن تحقق الشيء بالأقوى الأظهر مع قصد ذلك التحقق واجب ؛ لأنه بالأضعف بسبيل التساهل فيه والتغافل عن مقتضاه ودفاعه عن النفس بإثبات ضده وهما ، وبالأخفى كذلك وكالترغيب فى الموعظة كما فى


قولك : عظنا فإن موعظتك فى غسل أدران القلوب كغسل هذا الوسخ بالماء ، مشيرا إلى وسخ هشيش فى زاج أو حجر أملس فتقع الرغبة فى تلك الموعظة لتمام فائدتها حيث ألحقت بذلك الأتم المشاهد الأظهر ، فالأتم الأشهر هو أمكن فى النفس من غيره لإلفها له وميلها له وعدم إمكان دفاعه بالوهم والتساهل والغفلة ، فالتشبيه بالوجه الذى لا يكون كذلك أجدر وأحق وأوجب بالزيادة التى هى التقرير للمقصود لغرض من الأغراض ، ولا يخفى أن المراد بالأشهرية هنا مطلق المعرفة والشهرة ، وإلا فلو أريد معنى اسم التفضيل لزم أن يكون الحال والإمكان والمقدار مشهورة فى المشبه ، لكن هى فى المشبه به أشهر وهو فاسد ، وأن المراد بقولنا : أجدر مطلق الوجوب ، ليفيد توقف التقرير على الأتمية والأشهرية به لا كونهما أولى به معا من أحدهما فقط مثلا ، وإلا أفاد صحته مع كل واحد منهما ؛ وذلك فاسد لأنه لو كان فى المشبه به أتم فى نفس الأمر فلا ظهور ، ولم يتقرر قطعا ولو كان أظهر مع ضعفه لم يحصل الغرض الذى هو التقرر على وجه لزومه للنفس بلا دفاع له وهما للرغبة أو النفرة اللتين هما المقصودان مثلا ، وقد تبين أن فى عبارة المصنف فسادا إن حملت على ظاهرها من اشتراك الوجوه فى الأتمية والأشهرية ويمكن تصحيحها بجعل الكلام على التوزيع فتعود الأشهرية لما يقتضيها وهو الجميع والأتمية لما يقتضيها وهو التقرير ، فافهم.

تزيين المشبه فى عين السامع

(أو تزيينه) ، أى : تحسينه بمعنى إيقاع زينته وحسنه فى ذهن السامع فيتخيل أنه كذلك ترغيبا فيه ، ولو لم يكن فى نفس الأمر كذلك ، وذلك بسبب قرانه مع صورة حسن فيها وجه الشبه لعارض فيتخيل حسن المشبه فقوله : " تزيينه" هو بالرفع معطوف على بيان لا على مدخوله حتى يكون مخفوضا ؛ لأن المراد إيقاع زينته بالتخيل لا بيان الزين الكائن فيه ، وذلك (كما) ، أى : كالتزيين الكائن (فى تشبيه وجه أسود بمقلة الظبى) ، فإن السواد الكائن فى مقلة الظبى أوجب لها حسنا ؛ لأن السواد فى العين حسن بالجبلة ، وذلك لما يلازمه من الصفاء العجيب والاستدارة مع إحاطة لون مخالف له غالبا من نفس العين أو من خارجها ، فإذا قصد التشبيه فى مجرد السواد لتخييل الحسن على


ما قررنا لم يلزم كون المشبه به ، وهو المقلة ، أشهر بالوجه وهو السواد ، ولا أقوى ، فإن وجه الحبشى أشهر منه وأقوى ، وإذا قصد الإلحاق فى السواد الخاص وهو المقارن للصفاء والاستدارة ليكون الزين حقيقيا كان المشبه به أعرف من المشبه ، فالمصنف راعى الاعتبار الأول ، ولذلك لم يدخله فى الأغراض التى تقتضى أن يكون الوجه أعرف ، ومن راعى الاعتبار الثانى أمكنه إدخاله فيه ، تأمل.

تشيين المشبه فى نفس السامع

(أو تشيينه) هو معطوف على ما عطف عليه تزيينه وهو بيان ، والمراد بالتشيين : إيقاع شين المشبه ، أى : قبحه فى ذهن السامع لتنفيره عنه بإلحاقه بذى صورة اقترنت بقبح فيه فيتخيل شين المشبه ، حيث ألحق بما تحقق فيه الشين ، وذلك (كما) ، أى : كتشيين المشبه الكائن (فى تشبيه وجه مجدور) ، أى : مصاب بالجدرى ، وهو حب يخرج فى الإنسان أو فى غيره يمرضه ويبرأ غالبا على حفر يتركها فى الوجه أو فى البدن (بسلحة) أى : عذرة (جامدة) أى يابسة (قد نقرتها الديكة) فى حال رطوبتها ، والديكة بكسر الدال جمع ديك بكسرها أيضا ، كقرد وقردة ، وإنما وصفها بالجمود لتحقق الشبه بلزوم تلك الحفر وتقررها كما فى الوجه المجدور ، فالمشبه به هنا وهو السلحة قام به وجه الشبه وهو الهيئة من شكل الحفر وما أحاط بها ، فإن قصد ههنا أيضا مجرد الهيئة المقترنة فى المشبه به بغاية الاستقذار وقبح الرائحة ليتخيل قبح الوجه المجدور ولو كان معه حسن باستقامة رسومه وأعضائه حيث ألحق بالمستقبح لم يقتض كون المشبه به أعرف ، فإن تلك الهيئة فى الوجه أكثر دورانا وأكثر شهودا ، وإن روعيت تلك الهيئة مع ما أوجب القبح من اللون القبيح وفوات استقامة السطح فى الطرفين الموجب للقبح وغيره من موجبات القبح كالحروشة فهى فى المشبه به أعرف ، فالمصنف راعى أيضا هنا الاعتبار الأول ، فلم يعد التشيين مما يقتضى الأعرفية فى الوجه ، ومن راعى الثانى أمكنه خرطه فى سلك ما يقتضى الأعرفية ، وقد تبين بهذا البسط أن التزيين والتشيين منشؤهما أيضا إما وجه الشبه أو هو وما يلازمه فنفس الوصف من حيث إنه موجود فى الطرفين وجه شبه والتزيين أو التشيين به غرض فلا تداخل أيضا هنا كما تقدم.


استطراف المشبه

(أو استطرافه) هو بالرفع أيضا معطوف على ما عطف عليه تزيينه وهو بيان أى الغرض ، إما بيان ما تقدم وإما التقرير وإما التزيين وإما التشيين وإما استطراف المشبه ، وهو بالطاء المهملة من استطرفت الشيء اتخذته طريفا أى جديدا ، والمال الطريف هو المقابل للقديم ، وذلك أن لكل جديد لذة ، فالمراد جعل المشبه مستحسنا لكونه أظهر فى وصف أمر غريب مستحدث لا يعهد على ما يأتى فى المثال ، ويحتمل أن يكون بالظاء المشالة ، فالمراد باستظرافه جعله ظريفا أى : جميلا حسنا بالوجه المذكور ، وذلك (كما) أى : كالاستطراف الكائن فى المشبه (فى تشبيه فحم فيه جمر موقد) أى : سرت النار فيه سريانا يتوهم فيه الاضطراب كاضطراب الموج (ببحر من مسك موجه الذهب) وإنما استطرف المشبه فى هذا التشبيه (لإبرازه) ، أى : لإظهار المشبه (فى صورة الممتنع) ، وذلك أن المشبه به وهو البحر من المسك الذائب وأمواجه الذهب الذائب ممتنع عادة ، وإن أمكن عقلا ، وقد أبرز المشبه فى صورته أى : فى وصفه حيث ألحقه به ، ولا شك أن إبراز الشيء المبتذل فى صورة الممنوع بتخييل أنه كهو يوجب غاية الاستطراف ، وإنما كان كذلك ؛ لأن الفحم تتخيل فيه صورة المسك ولو لم يكن ذائبا ، والجمر ولو لم يكن ذائبا تتخيل فيه صورة الذهب الذائب المتموج فصار مجموع صورة الفحم والجمر باعتبار مقدار كل منهما وتلونه يتخيل فيه مجموع صورة البحر من المسك وصورة ذهب هو موجه ، وإنما قلنا : المسك الذائب والذهب الذائب ؛ لأن البحر لا يتصور فى صورة الجامد ، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة ، من وجود شيء مضطرب مائل للحمرة فى وسط شيء أسود ، ومما ازداد به استطراف المشبه هنا كونه شيئا تافها محتقرا أظهر فى صورة أى : فى وصف شيء رفيع لا تصل إليه الأثمان ، وهذا الاستطراف لما كان وجه الشبه فيه هيئة اعتبرت فى الممتنع عادة لم يقتض كون الوجه أظهر وأعرف ؛ لأن هذه الهيئة فى المشبه أعرف ؛ إذ هو بنفسه أظهر وأقرب إدراكا من المشبه به ، ولكن لما كان المشبه به أخفى ومعلوم أنه يلزم من خفائه خفاء وصفه كان التشبيه


أشد استطرافا على ما تقرر فى جميع الغرائب وليس وجه الشبه هنا هو منشأ المنع عادة كما كان منشأ الاستغراب فى بيان الإمكان ، بل منشأ المنع ذات المشبه به ، فتأمل.

ثم إن كون الشيء قد أظهر فى صورة الممتنع وكونه نادر الحضور فى الذهن مفهومان مختلفان ، والثانى أعم من الأول ، وكلما خطر أحدهما للسامع من حيث هو حصل الاستطراف أشار إلى أن الاستطراف قد يكون بحضور الوجه الثانى عند السامع وقصده عند المتكلم أيضا ، وإن كان الامتناع العادى يستلزم ندرة الحضور خارجا لا تصور فقال :

وجه آخر للاستطراف

(وللاستطراف وجه آخر) يوجبه فى المشبه غير الوجه السابق وهو الإبراز فى صورة الممتنع عادة (وهو) أى : وذلك الوجه الآخر (أن يكون المشبه به نادر الحضور فى الذهن) ، فإن ندرة الحضور مما يستطرف لغرابته ؛ لأن لكل غريب لذة ، فإذا كان المشبه به كذلك فإبراز المشبه فى صورة أى : فى وصف الغريب المستطرف يجر الاستطراف إليه ، ثم ندرة الحضور الذى تقدم أن مفهومهما مخالف لمفهوم الامتناع العادى ، وأن حضور كل منهما يوجب الاستطراف ، (إما) أن تكون تلك الندرة حاصلة فى المشبه به (مطلقا) أى : من غير تقييد بحالة حضور المشبه ، بل يندر ، سواء حضر المشبه أو لا ، (كما مر) فى تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب ، فإن البحر الموصوف لما امتنع عادة صار حضوره نادرا لا يكاد يحصل إلا لنادر ممن له اتساع فى تقدير المفروضات فيحصل الاستطراف فيه للسامع من جهة الامتناع العادى ، وتكفى تلك الجهة فى الاستطراف إن خطرت وحدها ، ومن جهة الندور إن خطرت وحدها أيضا ومن جهة الندور منفكة عن الأخرى ، وإن استلزمت الثانية الأولى خارجا كما تقدم (وإما) أن تكون تلك الندرة حاصلة فى المشبه به (عند حضور المشبه) لا مطلقا لكون المشبه به مشاهدا معتادا لا ممتنعا ، ولكن مواطنه غير مواطن المشبه لكون كل منهما من واد غير وادى الآخر ، ويبعد حضور أحدهما عند حضور الآخر ، وذلك (كما) أى كندرة المشبه به عند ذكر المشبه الكائن (فى قوله : ولا


زوردية) (١) بكسر الزاى المعجمة وفتح الواو وسكون الراء المهملة معرب لا زوردية بكسر الراء المهملة والموجود بكتابة القلم مد اللام ، وكأن اللفظ كذلك معرب ، ولم يتعرض له فى القاموس ، والمراد به البنفسج وهو منون مجرور بتقدير رب أى ورب بنفسجة (تزهو) بصيغة المبنى للفاعل أخذا من زها كمنع إذا تكبر ، وفيه لغة أخرى وهو أن يكون بصيغة المبنى للمفعول والمضارع منه يزهى فهو مزهو ، ولا يخفى أن نسبة التكبر للبنفسج تجوز ، والمراد أن لها علوا وارتفاعا فى نفسها (ببهجتها بين الرياض) جمع روض وهو البستان كثوب وثياب (على حمر اليواقيت) متعلق بتزهو أى : تتكبر على اليواقيت الحمر ، واليواقيت يحتمل أن يراد بها اليواقيت المعلومة ، ويحتمل أن يراد بها الأزهار المخصوصة وهى شقائق النعمان وسماها يواقيت لتشبيهه لها فى الحمرة بالياقوت المعلوم وهو المناسب للبنفسج ، لكن لا يناسبه قوله بين الرياض ؛ لأن الشقائق إنما يكون غالبا فى الجبال ، كذا أشير إليه وفيه ضعف لكثرة وجوده فى غير الجبال أيضا وفى رياض الجبال والخطب سهل (كأنها) أى : كأن البنفسجية ، وعنى بها رأسها من الأوراق وما أحاطت به لامع الساق ، بدليل قوله : (فوق قامات) أى : فوق ساقاتها ، وجمعها باعتبار الأفراد (ضعفن بها) أى : ضعفن عن تحملها ؛ لأن ساقها فى غاية الضعف واللين (أوائل النار فى أطراف كبريت) ، فقد شبه نور البنفسج بأوائل النار عند أخذها بأطراف الكبريت فى الهيئة الحاصلة من تعلق أجرام صغيرة لطيفة على شكل مخصوص ولون الزرقة بجرم أصغر ، وتعلق أوائل النار بأطراف الكبريت موجود كثيرا عند الناس وقت الحاجة إلى ذلك والهيئة المذكورة واضحة فى ذلك ؛ لأن نار الكبريت زرقاء ، وإنما قال : " أوائل" لتحقيق إحاطتها بالصفرة ؛ لأنها عند تمكنها واستعمالها بمجموع الكبريت لا تبقى صفرة لكن أغرب فى إلحاق البنفسج بها ؛ لأن البنفسج جسم ندى ونور رياضى ، وإنما ينتقل منه عند إرادة ما يضاهيه للتشبيه لما هو من جنس الأزهار الرياضية دون النار ، لا سيما فى أطراف الكبريت فإنها جرم حار يابس ديارى متعلق بوقود

__________________

(١) البيتان لابن المعتز ، أوردهما الطيبى فى التبيان (١ / ٢٧٣) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى والعلوى فى الطراز (١ / ٢٦٧) ، واللازوردية : البنفسجة نسبة إلى اللازورد وهو حجر نفيس.


الاشتعال فيه نادر باعتبار وقود آخر ، فبينهما غاية البعد ، فعند حضور البنفسج يبعد حضور النار المذكورة ، فإحضارها معها غاية فى الندور ، ولو لم يمتنع وجودها كما فى بحر المسك موجه الذهب ، فثبت الاستطراف فى التشبيه حيث حقق فيه العناق بين صورتين بينهما غاية المباعدة مع تشابههما هيئة ، والعناق بكسر العين من عانق عناقا ومعانقة كقاتل قتالا ومقاتلة ، وسبب الاستطراف فى المشبه إظهاره فى صورة أى : فى وصف النادر وإن كان ندوره مقيدا بوجود المشبه ، والنادر يستغرب ويستطرف كما تقدم ، ولك أن تقول : المستطرف حينئذ فى الحقيقة هو القران بين صورتين متباعدتين لا المشبه ، اللهم إلا أن يقال لما تعلق بالمشبه كالمشبه به نسب إليه ، تأمل.

غرض التشبيه بعوده إلى المشبه به

ثم لما ذكر أن الغرض يعود إلى المشبه فى الأغلب أشار إلى أن الغرض قد يعود إلى المشبه به ، ونعنى به مدخول الكاف ونحوها ، سواء كان مشبها فى نفس الأمر أو مشبها به فقال : (وقد يعود) الغرض من التشبيه (إلى المشبه) لفظا ، وإن كان مشبها معنى كما فى الضرب الأول من الضربين المشار إليهما بقوله : (وهو) أى : الغرض العائد إلى المشبه به (ضربان : أحدهما) أى : أحد الضربين.

إيهام أن المشبه به أتم من المشبه فى وجه الشبه

(إيهام) أى : أن يوقع المتكلم فى وهم السامع (أنه) أى : أن المشبه به لفظا (أتم) فى وجه الشبه (من المشبه) لفظا ، وإن كان مشبها به معنى ، (وذلك) الإيهام الذى هو الغرض إنما يوجد (فى التشبيه المقلوب) ، وهو الذى يجعل فيه المشبه الذى هو الناقص بالأصالة مشبها به ، ويجعل فيه المشبه به الذى هو الكامل بالأصالة مشبها ، وإذا جعل كذلك صار بمقتضى أصل تركيب التشبيه الناقص كاملا وهو المشبه به لفظا والكامل ناقصا وهو المشبه لفظا وذلك (كقوله) أى : محمد بن وهيب (وبدا) (١) أى : ظهر (الصباح) يحتمل أن يراد به الضياء التام عند الإسفار ، ويحتمل أن يراد به ما كان قبل

__________________

(١) البيت لمحمد بن وهب الحميرى فى مدح الخليفة المأمون الإشارات ص (١٩١) ، والطيبى فى شرح المشكاة (١ / ١٠٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى.


ذلك من الضياء والظلمة المخلوطة به ، وذلك قبل الإسفار ، فعلى الأول تكون الإضافة فى قوله : (كأن غرته) إضافة البيان ، أى : كأن الغرة التى هى الصباح ، وذلك أن الغرة فى الأصل هى بياض فى وجه الفرس فوق الدرهم ، واستعيرت للإشراق فى ذلك الوقت ، فإذا أريد بالصباح الإسفار فهو كله بياض فيكون المراد بالغرة نفس الصباح ، وعلى الثانى تكون الإضافة على أصلها لإحاطة الظلمة فى ذلك الوقت بإشراق هو كالغرة بالنسبة لذلك الإظلام ، والخطب فى مثل هذا سهل ، وإنما تنزلنا له على عادتنا فى قصد بيان ما قد يتعلق ببيانه غرض الناظر فيه (وجه الخليفة حين يمتدح) هذا هو المشبه بالأصالة ضرورة أن إشراق الصباح أقوى ضياء وأظهر من إشراق وجه الخليفة ، لكن عكس التشبيه فجعله مشبها به ليوهم أن هذا المشبه به لفظا وهو وجه الخليفة أقوى من المشبه لفظا وهو الصباح ، أو غرته على قاعدة ما يفيده التشبيه بالأصالة من أن المشبه به أقوى من المشبه فى الوجه ؛ إذ قد اشتهر أن المشبه لا يقوى قوة المشبه به ، وقد عرفت أن هذه القوة أن حملت على كون الوجه أتم فى المشبه به على ما قررنا لم تطرد ، وإنما تلزم فى غرض التقرير كما تقدم ، وإن حملت على كونه أقوى فى المعلومية اطردت فى غالب الأغراض أو فى كلها على ما نبينه بعد ، وإذا أريد كما قررنا بالمشبه به ما كان كذلك لفظا ، وإن كان مشبها فى المعنى صح قوله قد يعود الغرض إلى المشبه به فلا يقال الغرض هنا عائد إلى المشبه فى المعنى فى التشبيه المقلوب ، وذلك لما قلنا من أنا نريد بالمشبه به ما كان كذلك لفظا ، والغرض هنا تقرير إشراق وجه الممدوح فى الذهن حتى لا يتوهم فيه نقصان زيادة فى مدحه ، فناسب هذا القلب الذى هو آكد تقريرا لإيهامه أنه أقوى من الصباح ، ولو شبه وجهه بالصباح أفاد الغرض ، لكن العكس أقوى ، وقيد إشراق وجه الممدوح على وجه يقتضى أكمليته على الصباح بحين الامتداح ليدل على معرفة حق المادح وعلى كرم الممدوح ؛ وذلك لأن من المعلوم أن إشراق الوجه حال الامتداح يدل على شيئين أحدهما قبول المدح ، وذلك يستلزم معرفة حق صاحبه لمقابلته بالسرور التام الواضح ، وإلا كان مقتضى الحال مقابلته بالعبوس والإعضاء ، ولو بأن يستر حملا إن كان الممدوح كريما ، والآخر كون الممدوح طبعه الكرم ؛ لأن الكريم هو


الذى تهزه الأريحية ، أى : الانبساط حال المدح حتى يظهر أثرها على وجهه ، وإلا كان المناسب لحاله حيث كان لئيما العبوس الذى هو مقتضى طبعه ، فأفاد الشاعر بذلك معرفة الممدوح حق المادح وتعظيمه بين يدى الحاضرين بالإصغاء إليه والارتياح ، أى : الاطمئنان إليه وإلى مدحه ، وأفاد كمال كرم الممدوح حيث يتصف بالبشر والطلاقة حالة المدح وإلا فاللآمة تقتضى العبوس والكلح ولو مع إظهار القبول للمدح والانبساط له ، وليس من التشبيه المقلوب كما فى هذا المثال قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ)(١) وإن كان النور لا مناسبة بينه وبين المشكاة فى قوته ؛ لأن المشكاة هى المعلومة عند المخاطبين بإحساسها فالتشبيه فى ذلك من باب الإلحاق بما تقرر علمه عند المخاطبين لا من باب القلب وهو ظاهر.

بيان الاهتمام بالمشبه به

(و) الضرب (الثانى) من الغرض العائد إلى المشبه به (بيان الاهتمام به) ، أى : إظهار المتكلم للسامع أنه مهتم بالمشبه به ، ولا بد فى نحو هذا من وجود قرينة تدل على القصد (ك) أمارة العدول عما يناسب إلى غيره مع قرينة الحال فى (تشبيه) الإنسان (الجائع وجها) مفعول تشبيه ، أى : كأن يشبه الجائع وجها ، وهو (كالبدر فى الإشراق) أى : فى التلون (والاستدارة) أى : فى الشكل (بالرغيف) متعلق بتشبيه ، أى : كأن يشبه الوجه المذكور بالرغيف فإن المشبه لما عدل عن تشبيهه بالبدر الذى هو المناسب دل كلامه مع مصاحبة بعض القرائن الحالية أيضا على أنه جائع جوعا أوجب له كونه بحيث إذا التفت إلى ما يشبه به هذا الوجه لم يجد أقرب من الرغيف لشدة الرغبة الموجبة لعدم زواله عن الخاطر ، (ويسمى) هذا التشبيه الذى فيه هذا الغرض الخاص وهو بيان الاهتمام بالمشبه به (إظهار المطلوب) ، وذلك لإتيان صاحبه بما يدل على أنه جائع ، وأن الرغيف مطلوب عنده حتى لا يجد فى خاطره عند قصد التشبيه غيره كما بينا ؛ وإنما يحسن المصير إلى هذا وشبهه مما فيه إظهار المطلوب فى مقام الطمع فى حصول المطلوب كما روى أن بعض الملوك قال لبعض ندمائه كمثل قولنا وعالم يعرف

__________________

(١) النور : ٣٥.


بالسجزى فقال ذلك النديم أشهى إلى النفس من الخبز ففهم مراده فقدم إليه مائدة وقد تبين من قولنا بحيث إذا التفت إلى ما يشبه به هذا الوجه لم يجد أقرب من الرغيف أن ذلك الرغيف فى ادعاء الجائع أظهر فى وجه الشبه من المشبه فاندفع ما قيل من أن إظهار المطلوب لا أعرفية فيه للوجه ، بل لا وجود له حقيقة أصلا ، وذلك لأن الجائع زعم أنه أشرق وأجمل شكلا للحاجة إليه من الوجه المشبه ، فعلى هذا قوله : (هذا إذا أريد إلحاق الناقص بالزائد حقيقة أو ادعاء) يتناول ما فيه غرض إظهار المقصود كما يتناول غيره مما تقدم ، فإلحاق الناقص بالزائد حقيقة يتناول ما فيه غرض التقرير لما تقدم أن الوجه يجب أن يكون فيه أتم ، ويتناول ما فيه بيان الحال أو مقدارها وما فيه غرض التزيين أو التشيين بناء على ما قدمناه فيهما ، وإن كان الظاهر من كلام المصنف عدم اعتباره كما أشرنا إليه ووجه الزيادة فى الجميع أن الوجه فى الكل أعرف من المشبه به منه فى المشبه فقد زاد المشبه به على المشبه بالأعرفية فى الوجه وإلحاقه بالزائد الدعاء يتناول التشبيه المقلوب كما تقدم أن المشبه به لفظا جعل على سبيل الادعاء أقوى ، ويتناول إظهار المقصود بالوجه الذى قررنا ، وأما ما فيه غرض الاستطراف فقد قدمنا أن الوجه فيه أخفى لندرة حضوره ، وعليه فلا يتناوله هذا الكلام ، ويكون هذا الحكم للأغلب باعتبار ما يتبادر من التشبيه ، يعنى وما لم يكن كذلك فملحق به لضرب من التأويل والتسامح ، ويحتمل أن يتناوله باعتبار الغرض ؛ لأن منشأ الاستطراف ندرة حضوره وامتناعه عادة ، وتلك الندرة إنما كانت فى المشبه به فيكون الاستطراف الناشئ عنها بالمشبه به ألزم وأولى ، وعلى هذا يكون المراد بالأكملية والزيادة الأكملية فيما يتعلق بالتشبيه من غرض أو وجه ، ولما كان فى تناول هذا الكلام لجميع ما تقدم خفاء كما أشرنا إليه ورد البحث عليه بأن التشبيه ليس من مقتضيات إلحاق الناقص بالكامل دائما حتى إنه إذا لم يرد لزم العدول إلى التشابه كما اقتضاه كلام المصنف على ما يذكره بعد ، والجواب ما تقدم فتأمل هنا ، وإلى ما ذكر وهو أنه إذا لم يرد إلحاق الناقص بالكامل عدل عن التشبيه إلى التشابه ، أشار بقوله : (فإن) لم يرد إلحاق الناقص بالزائد كما هو أصل التشبيه والمتبادر منه ، بل (أريد الجمع بين شيئين فى أمر) ما من


الأمور وقصد من ذلك الأمر القدر الذى اشتركا فيه واستويا فيه ، ولم يقصد ما ازداد به أحدهما على الآخر فى ذلك الأمر وإن كانت تلك الزيادة موجودة فى نفس الأمر ، إما لاقتضاء المقام المبالغة فى ادعاء التساوى ، وإما لأن الغرض وجود أصل الاشتراك فيلغى الزائد إن كان فتحقق التساوى فى المراد بين الطرفين (فالأحسن) حيث كان القصد الجمع المذكور (ترك التشبيه) بأن يعدل عن صيغته (إلى الحكم بالتشابه) بأن يؤتى بما يدل على التشابه والتساوى ، وذلك بأن يعبر بالتفاعل المقتضى لحصول مدلوله من الجانبين فيكون كل من الأمرين مشبها ومشبها به ، فلا يكون من التشبيه السابق المقتضى لتعين المشبه من المشبه به ، قيل : وشرط ذلك كون الفعل لازما كتشابها وتماثلا ، وأما إن كان متعديا أفاد التشبيه كيشبه كذا أو يماثل كذا ، وإنما يعدل إلى الحكم بما يدل على التماثل لكونه هو المدعى ، والمراد (احترازا من ترجيح أحد المتساويين) فى ذلك الأمر المشترك فيه حتى صار به كل منهما مشبها ومشبها به فلا مرجح وهو باطل ، والاحتراز عن الترجيح الباطل يقتضى ترك صيغة التشبيه كما ذكرنا ، إذ لو أتى بصيغة التشبيه أفاد ترجيح أحدهما فيه وهو ينافى المدعى المقصود فلذلك يعدل إلى ما يدل على التساوى والتشابه (كقوله : تشابه دمعى إذ جرى (١)) أى : وقت جريانه من عينى (ومدامتى) والمدامة الخمر (فمن مثل ما) أى : الخمر الذى (فى الكأس) ، وهو إناء يشرب فيه الخمر ، (عيناى تسكب) ، وسكب الدمع إرساله وإرسال العين من مثل ما فى الكأس يحتمل أن يكون على معنى التماثل الحقيقى فيطابق قوله : تشابه دمعى ومدامتى وقوله : (فو الله ما أدرى أبا لخمر أسبلت جفونى) ، أى : هطلت (أم) من (عبرتى) أى : دمعى (كنت أشرب) ، ويحتمل أن يكون على معنى تشبيه الدمع بالخمر ؛ لأن العدول إلى التشابه بعد قصد التسامح لا يجب كما دل عليه قوله ، فالأحسن ترك التشبيه ، وسيأتى وجه ارتكاب التشبيه فيما كان كذلك ، فالشاعر هنا لما اعتقد التساوى بين الدمع والخمر لادعائه كثرة الدمع حين قصد الشرب وصفاء الخمر

__________________

(١) البيت لأبى إسحاق الصابى فى الإشارات ص (١٩٠) ، الأسرار ص (١٥٦) ، والتبيان ص (٢٧٦) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى.


عدل عن التشبيه المقتضى للترجيح ونفى الالتباس إلى التشابه المفيد للالتباس المدعى من كثرة الدمع وصفاء الخمر ، وقوله : " بالخمر" متعلق بأسبلت ، والباء فيه للتعدية ؛ لأن أسبل يكون لازما فيفتقر إلى التعدية ، يقال : أسبل الدمع والمطر إذا هطل ، أى سال كثيرا ، وأسبلت السماء كذلك ، ومن قال إنها زائدة جعل أسبل بمعنى أرسل ، فإن أراد أنها تجب زيادتها فهو وهم ، وإن أراد احتمال زيادتها فارتكاب زيادتها مع إمكان جعل الفعل لازما فتكون للتعدية مما لا ينبغى أيضا ، ولكن بيان كونها للتعدية بمجرد لزوم الفعل لا يخلو من بحث لأن نسبة الإسبال إلى غير السابل من المطر والدمع مجاز ، فإذا قيل : " سالت العين" فالمراد سيلان دمعها ، فينبغى نصب الدمع على التمييز الذى هو الأصل ، فإدخال الباء عليه زيادة أيضا ، اللهم إلا أن يضمن الفعل معنى امتلأ مثلا أو يحقق فيه السيلان مبالغة ، وتكون الباء للاستعانة عليه ، تأمل.

(ويجوز التشبيه أيضا) فى الطرفين اللذين أريد الجمع بينهما فى أمر قصد تساويهما فيه بأن لا يراد الزائد منه فى أحدهما إن كان ، بل أريد نفس القدر الذى اشتركا فيه وحصل فى كل منهما ، وإنما جاز الجمع بينهما بطريق التشبيه مع هذا القصد المفضى للعدول إلى التشابه كما تقدم لأن العدول لا يجب كما أشار إليه بقوله فالأحسن ترك التشبيه ، وإنما لم يجب لأن المتكلم قد يكون أحد الطرفين عنده أهم إما لكونه أول خاطر لمحبته فيه أو لكونه هو المخبر عنه فيقدم لكونه يجب أن يكون مبتدأ حينئذ فيخبر عنه بكونه كالآخر ، وذلك كمن لقى فرسه أو سئل عن حاله فى الجملة أو شغف به فأراد الإخبار عنه فيقول : " غرة فرسى كياقوتة فى كف ملك" ، وليس غرضه تزيينه ولا تقرير كمال الغرة ؛ لأنها عنده أعظم من أن تزين أو تقرر ، بل الغرض مطلق تمييزه بما ذكر ، وإنما قدمه للاهتمام به محبة أو ذكرا فإن كان ثم شيء آخر فهو غير مقصود ، وقد يكون حديثه أولا فى أحد الطرفين فانجر الكلام إلى وصفه فيناسب تقديمه ، وجعله مشبها ؛ لأن أصل تركيب الكلام أن يكون كذلك ، وهذا من معنى الاهتمام ؛ لأن إجراء الشيء على المناسب الأصلى من التقديم مما يقتضى الاهتمام بذلك التقديم فيكون المقدم أهم باعتبار ذلك التقديم ، وذلك كما إذا كان يصف ليلا سرى


فيه أو فرسا سرى عليه فانتهى به الحديث إلى وصف ما تعلق بكل منهما فيجعل غرة الثانى كالصبح أو صبح الأول كالغرة فى مجرد ظهور إشراق فى ذى سواد من غير قصد قوة ولا ضعف لغرض من الأغراض كإظهار الواقع فى نفسه وإظهار قوة العارضة على إيراد التشبيه ، فإنه مما يتفاوت فيه البلغاء فيقول إذا انتهى فى وصف الليل إلى الفجر وكأنه غرة فرس ، وفيما إذا كان وصفه فى الفرس حتى انتهى إلى غرته وكأنه ضياء الفجر ، وإلى هذا أشار بقوله : (كتشبيه غرة الفرس بالصبح) يعنى فيما إذا اقتضى الحال تقديمها ، وجعلها مشبهة لكون الكلام انجر إليها أو للاهتمام بها ، (و) ك (عكسه) يعنى تشبيه الصبح بالغرة لمثل ما ذكر من الاهتمام أو كون الكلام انتهى إليه ، وإنما يكون تشبيه أحد هذين بالآخر من هذا القبيل أعنى من التشبيه الذى لا يقصد فيه إلحاق الناقص بالكامل (متى) أى : حيث (أريد) أن وجه الشبه (ظهور منير فى مظلم أكثر منه) فى كل من الطرفين ، ولا شك أنهما استويا فى هذا المعنى ، وأما لو أريد إظهار قوته فى المشبه بإلحاقه بما هو أقوى حقيقة فيما إذا كانت الغرة مشبهة أو ادعاء فى العكس كان من التشبيه السابق ، ولهذا قال : " متى أريد ظهور منير فى مظلم أكثر" إشارة إلى أنه لو قصد إلحاق ناقص بكامل فى الوجه حقيقة هنا لزم جعل الغرة مشبها والصبح مشبها به ، فيقتضى ذلك وصف غرة الفرس بالضياء والانبساط ، أى : اتساعها وفرط تألقها ، أى : لمعانها كما فى الصبح ؛ لأنه فى هذا المعنى أقوى ، يعنى ولو قصد المبالغة فى الادعاء عكس التشبيه كما قررنا فإن قيل التشبيه فيما ذكر لرعاية الاهتمام والمناسبة ينافى الجواز ؛ لأنه يقتضى الوجوب ويناقض أحسنية العدول إلى التشابه ، قلت : المراد بالجواز هنا نفى الامتناع الصادق بالوجوب ، ولا ينافى الأحسنية ، لأنها أيضا للوجوب لأن الأحسن فى باب البلاغة للوجوب ، وعلى هذا فما تقدم من دلالة الأحسنية على الجواز فى مقابله لا يخلو من تسامح ، وقد يقال : يحتمل أن يبقى الكلام على ظاهره فيكون العدول إلى التشابه هو الأولى مطلقا ، والغرض المذكور مجوز لا موجب ، وذلك لأن السبب فى الشيء لا يقتضى الوجوب دائما لصحة أن يكون للأرجحية أو للجواز ، وهو هنا للجواز ، وفيه ضعف لمنافاة ذلك لما تقرر فى علم البلاغة من أن رعاية مقتضى


وهو هنا للجواز ، وفيه ضعف لمنافاة ذلك لما تقرر فى علم البلاغة من أن رعاية مقتضى الحال واجب والحسن فيها من قبيل الواجب ، ولا يقال المراد الحسن البديعى لأنا نقول هذه الأغراض المقررة هنا معنوية مناسبة للحال تأمل.

ولما فرغ من ذكر أقسام الغرض من التشبيه شرع فى تقسيم التشبيه وهو إما باعتبار الطرفين أو باعتبار الوجه أو باعتبار الغرض أو باعتبار الأداة ، وقد أتى بها المصنف على هذا الترتيب فقال :

أقسام التشبيه باعتبار طرفيه :

(وهو) أى : التشبيه ينقسم (باعتبار طرفيه) إلى أقسام ، وذلك أن طرفيه وهما المشبه والمشبه به إما أن يكونا مفردين معا أو مقيدين معا أو المشبه مفرد والآخر مقيد أو العكس ، أو مركبين معا أو المشبه مركب والثانى مفرد أو العكس ، أو المشبه مركب والثانى مقيد أو العكس ، فهذه تسعة أقسام من ضرب ثلاثة أحوال : الإفراد والتركيب والتقييد فى نفسها ، فإن المشبه إن كان مركبا فالمشبه به إما مركب أو مفرد أو مقيد ، فهذه ثلاثة إن كان مركبا ومثلها إن كان مقيدا ومثلها إن كان مفردا المجموع تسعة ، وقد تقدم قوله طرفاه إما حسيان إلى آخره ، وذلك تقسيم فيه باعتبار طرفيه أيضا فلم يعده هنا على أن بعض أقسام الإفراد والتركيب مأخوذة من قوله فيما تقدم والمركب الحسى فيما طرفاه مفردان إلى آخره إلا أن الأخذ هنالك لزومى فصرح به هنا فى محله ، ثم هذه التسعة صيرها المصنف أربعة بأن جعل التقييد من حيز الإفراد فجعل أقسام المقيد والمفرد فى مقابلة ما فيه التركيب وجعل ما فيه التركيب ثلاثة أقسام ما انفرد فيه التركيب وما اجتمع فيه مع مفرد ، سواء كان المفرد مقيدا أم لا ، وجعل ما اجتمع فيه مع مفرد قسمين ما تقدم فيه المركب وما تأخر فيه ، وإلى ذلك أشار بقوله :

الأول : تشبيه مفرد بمفرد

(إما تشبيه مفرد بمفرد) أى : التشبيه باعتبار الطرفين أربعة أقسام لأنه إما تشبيه مفرد بمفرد (وهما) أى : والحال أنهما (غير مقيدين) بمجرور وحال ووصف وغيره مما يكون له تعلق بوجه الشبه ، واحترزنا بقولنا مما يكون له تعلق بوجه مما ما يذكر من القيود لأحد الطرفين ، لكن لا تعلق له بوجه الشبه فلا يكون به الطرف مقيدا كما


سننبه عليه عند إثباتنا بقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(١) تمثيلا للمفردين بلا تقييد ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى فى التركيب (كتشبيه) أى : ومثال التشبيه فى المفردين غير المقيدين تشبيه (الخد بالورد) فى الحمرة ، والحمرة وجه مفرد ، وقد تقدم أن المفرد طرفاه مفردان ؛ إذ لا يمكن تعلقه بمتعدد ما دام مفردا حقيقة ، والخد والورد لا يخفى إفرادهما ، ومن تشبيه المفرد بالمفرد بلا تقييد قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) أى : كاللباس لكم ، " وأنتم لباس لهن" أى : كاللباس لهن ، ووجه الشبه بين اللباس والرجل والمرأة أن كلا منهما يلاصق صاحبه ويشتمل عليه عند المعانقة والمضاجعة كما يلاصق اللباس صاحبه ويشتمل عليه ، وقيل كون كل منهما يستر صاحبه بالتزوج عما يكره من الفواحش كما يستر الثوب العورة ، وحيث اعتبر فى الوجه كونه اشتمالا أو سترا عما لا ينبغى استقل به اللباس ؛ لأن كل لباس موصوف بكونه بحيث يشتمل ويستتر به من غير توقف على كونه للرجال ولا على كونه للنساء ، فما أفاده المجرور وهو كونه للنساء أو للرجال لا يتوقف عليه الوجه ، وما لا يتوقف عليه الوجه لا يعد فى التقييد ولا فى التركيب ، إذ لا دخل فى التشبيه إلا لما يتوقف عليه ، ويؤخذ باعتباره ، فلهذا قلنا : إن هذا التشبيه من تشبيه المفرد بالمفرد بلا تقييد ، ولم نعد المجرور فى الطرف الذى هو اللباس قيدا وهو لكم ولهن فليفهم.

(أو) هما أعنى المفردين (مقيدان) بمجرور أو غيره مما يتعلق به وجه الشبه كما تقدم ، وقد جعل المصنف المقيد من المفرد كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وذلك (كقولهم) فيمن لا يحصل من سعيه على طائل أى : على فائدة (هو كالراقم على الماء) ، وقد تقدم بيان هذا المثال ووجه الشبه بينهما استواء وجود الفعل وعدمه فى عدم الفائدة ، ولا شك أن هذا الوجه لا يستقل بأخذه مجرد معنى الراقم بدون نسبة رقمه إلى كونه على الماء ، وكذا لا يمكن أخذه من مجرد الساعى ما لم يعتبر كونه لا يحصل من سعيه على طائل ، فعدم حصوله على طائل من سعيه قيد فيه ، وبقولنا : فى الوجه هو استواء الفعل وعدمه فى نفى الفائدة ، يعلم أن ما تقدم من أن الوجه هو عدم الفائدة تسامح من

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.


التعبير عن الشيء بما يستلزمه ويعتبر فيه ، فعلى هذا الإيراد أن يقال عدم الفائدة هو الوجه ، وقد جعل قيدا ، ولو صح كون الطرف مقيدا باعتبار الوجه لم يوجد طرف مفرد غير مقيدا ، فليفهم.

(أو) هما أى : المفردان (مختلفان) فى التقييد وعدمه ، وذلك بأن يكون أحدهما مقيدا ، والآخر غير مقيد وغير المقيد منهما حينئذ إما أن يكون هو المشبه والمقيد هو المشبه به (كقوله) كما تقدم (والشمس كالمرآة) (١) فى كف الأشل فإن الشمس وهو المشبه لا تقييد فيها وما اعتبر معها من الحركة والشكل ، وتموج الإشراق على الوجه السابق إنما ذلك فى الوجه وتقييدها بزمن الطلوع وقرب الغروب طردى ؛ لأن التشبيه صحيح فيها دون ذلك الاعتبار والمرآة وهو المشبه بها مقيدة بكونها فى كف الأشل ، إذ الهيئة الحاصلة من الاستدارة والحركة وتموج الإشراق على الوجه السابق التى هى الوجه لا تتحقق إلا باعتبار قيد كونها فى كف المرتعش وما يتوقف عليه قيد ، والتوقف هنا ضرورى ، إذ المرآة فى كف الثابت اليد لا يتصور فيها ما ذكر ، وإما أن يكون ، أعنى غير المقيد هو المشبه به ، والمقيد هو المشبه وهو العكس المشار إليه بقوله : (وعكسه) أى : أن يشبه المقيد بغيره كما لو قيل المرآة فى كف الأشل كالشمس عند قصد التشبيه المقلوب مثلا وقد بينا أن المرآة مقيدة والشمس غير مقيدة ، وذلك واضح.

الثانى : تشبيه مركب بمركب

(وإما تشبيه مركب بمركب) هو معطوف على قوله : إما مفرد بمفرد ، يعنى أن التشبيه إما مفرد بمفرد وهو ثلاثة أقسام كما تقدم وإما تشبيه مركب بمركب وقد تقدم أن المركب هو الهيئة الحاصلة من أشياء تضامت وتلاصقت فى اعتبار المتكلم حتى صارت شيئا واحدا بحيث إذا انتزع الوجه من بعضهما اختل التشبيه فى قصد المتكلم وهو ـ أعنى تشبيه المركب بالمركب ـ ثلاثة أقسام ما لا يظهر فيه لكل جزء من الأجزاء المنضمة نظير يصح تشبيهه به فى المقابل إلا بتكلف ، بل يراد المجموع وهيئته من غير

__________________

(١) البيت من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار بن الشماخ ، وعجزه : لما رأيتها فوق الجبل. والبيت فى الأسرار ص (٢٠٧) ، والإشارات ص (١٨٠).


ظهور المقابلة من الأجزاء ، وذلك كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) الآية ، فإن المراد تشبيه قصة المنافقين بقصة من استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم فى وجود ما يكون نافعا فى الحين ويطمع فى حصول المراد بمباشرته ثم يعقبه الانقطاع الموجب للهلاك والإياس من كل نفع ، ولم يقصد فيه مفرد يقابله مفرد من تلك الجهة الأخرى ، فإن أريد أن يتكلف فى ذلك جعل المنافق كالمستوقد نارا ، وإظهاره للإيمان الذى انتفع به فى الدنيا كوجود ضوء النار المنتفع به حينئذ وانقطاع انتفاع المنافق بالإيمان الذى أظهره بسبب الموت مع عقوبة الهلاك فى النار والحجاب كانطفاء النار للمستوقد ووقوعه فى ظلمة لا يبصر ، ولكن هذه تكلفات ، والمنهج فى مثل تشبيه الهيئة بالهيئة والقصة بالقصة كما دل عليه ذلك هنا وأوجبه صريح ذكر المثل وما يظهر فيه المقابل من كل طرف ، لكن عند التجريد لا يصح التشبيه لعدم صحة المعنى كما فى المثال السابق عند اعتبار المقابلة التكليفية وذلك عند إلغاء لفظ المثل فى غير القرآن العظيم مثلا فإنه لا معنى لتشبيه المنافق وحده بمستوقد النار وحده ومثاله من غيره قوله :

كأنما المريخ والمشترى

قدامه فى شامخ الرفعه

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدامه شمعه (٢)

فإن تشبيه المريخ وهو النجم المعلوم بالرجل المنصرف عن الدعوة إلى الطعام فى وليمة مثلا لا معنى له منفردا ، وما يصح تشبيه كل مقابل بأخيه حتى يكون من تشبيه المتعدد ، ولكن منع منه وجود الحسن فى التركيب الذى لا يوجد فى المتعدد وذلك كقوله :

__________________

(١) البقرة : ١٧.

(٢) البيتان قالهما القاضى التنوخى على بن داود أبو فهم فى الإيضاح ص (٢٢٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ، وهما فى عقود الجمان (٢ / ٢٤).


وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق (١)

فإن مقابل النجوم من الطرف الآخر هو الدر ، ومقابل السماء المفهومة من ذكر النجوم بساط أزرق ، وذلك ظاهر ، ويصح التشبيه فى كل منهما على الانفراد بأن يقال : النجوم كالدرر ، والسماء كبساط أزرق ، ولكن يفوت الحسن الذى اقتضاه التركيب المقصود للشاعر فإن إلحاق هيئة ظهور النجوم على السماء الأزرق بهيئة الدرر على البساط الأزرق أحسن وأرق ذوقا من إلحاق النجوم المجردة بالدرر والسماء بالبساط على انفراد كل بصاحبه عند قصد تعدد التشبيه ، والذوق السليم شاهد بذلك ، ومما ظهر فيه المقابل ، لكن قصدت فيه الهيئة ، لأنها أرق ، ولأن فيه مانعا من التجريد كما قدمناه ما أشار إليه المصنف بقوله : (كما فى بيت بشار) أى : كالتشبيه الكائن فى بيت بشار السابق وهو قوله :

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٢)

فإنه شبه هيئة السيوف المسلولة المقاتل بها مع الغبار المثار فوق رءوسهم بهيئة النجوم مع الكواكب ، والمقابل للسيوف هنا الكواكب ، والمقابل للغبار الليل ، ولكن المقصود الهيئة فإن قوله : تهاوى كواكبه ساقه مساق الوصف لليل فلا يستقل فى التشبيه كما تقدم مع أن فى اعتبار الهيئة الاجتماعية من الحسن ما لا يوجد فى التجريد ، وقد تقدم بيان ذلك وسبق هنالك تحقيقه فليراجع.

الثالث : تشبيه مفرد بمركب

(وإما تشبيه مفرد بمركب) هو معطوف على ما عطف عليه ما قبله ، أى : التشبيه إما مفرد بمفرد بأقسامه وإما مركب بمركب وإما مفرد بمركب ، وأريد بالمفرد هنا ما يقابل المركب الشامل للمقيد لا ما يقابل المقيد لما تقدم أن المصنف أدخل المقيد فى المفرد وتشبيه المفرد بالمركب (كما مر من تشبيه الشقيق) الذى هو مفرد لعدم

__________________

(١) البيت لأبى طالب الرقى فى شرح عقود الجمان ص (٢ / ٢٤) ، والإيضاح ص (٢٢٨).

(٢) البيت لبشار بن برد فى ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ويروى" رؤوسهم" بدل" رؤوسنا" تهاوى : تتساقط. خفف بحذف إحدى التاءين.


تقييده بوصف أو غيره بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، وهو مركب من عدة أمور ، فهيئة تلك الأمور الاجتماعية هى المعتبرة فى التشبيه ؛ لأن وجه الشبه فى المشبه كونه ذا أجرام حمر مبسوطة على ساق طويل أخضر ، ولا يتم هذا الوجه فى تلك الأمور إلا باعتبار مجموعها ، ويدل على اعتبارها مجموعة ، وأنه لم يعتبر أوراق الشقيق مع الأعلام ذكره لوصف الأعلام على وجه لا يصح أن يكون مشبها به وحده ، فإن قيل هذا مقيد لأن الأعلام قيدت بالإضافة المقتضية لكونها من الياقوت ووصفت بكونها نشرت على رماح من زبرجد فليس هذا من تشبيه مفرد بمركب ، بل بمقيد (قلت) لو كان التقييد النحوى يخرج عن التركيب لعدم التركيب أو لقل فإن قوله فيما تقدم" ليل تهاوى كواكبه" هذا من المركب مع أنه غاية ما فيه وصف الليل بتهاوى الكواكب ، ولكن إذا قيد بشيء من المقيدات النحوية من مفعول أو وصف أو ظرف أو مجرور أو غير ذلك فإن كان المقصود بالذات فى قصد المتكلم هو المقيد تبع كان من باب المقيد وإن كان المقصود الهيئة الاجتماعية وتوصل إليها بتلك القيود ، ولا ترجيح لما يوجد من أجزاء ذلك الطرف بعضها على بعض كان من قبيل المركب ، فالفرق بين المقيد والمركب القصد الراجح فى شيء مخصوص وعدمه ، أما الرجحان باعتبار المتكلم أو عدمه فيكون باعتبار ذوقه المقتضى للاهتمام بشيء أكثر من غيره أو لعدم الاهتمام إلا بالمجموع وأما الرجحان باعتبار السامع فيكون باعتبار القرائن الدالة على قصد المتكلم أو باعتبار أنه لو استعمل ذلك التشبيه لم يطابق ذوقه وطبعه إلا لذلك الرجحان المقتضى للتقييد أو عدمه المقتضى للتركيب ، والحاصل أن التفريق بين المقيد والمركب لا يكون باعتبار التركيب اللفظى لاستوائه فى الكل غالبا ، وإنما يكون باعتبار قصد الهيئة بالذات ، والأجزاء تبع أو باعتبار قصد جزء من الأجزاء ، والربط بغيره تبع والحامل على أحد القصدين وجود الحسن فيه دون الآخر ، وهذا الاعتبار ، أعنى إدراك وجود الحسن المقتضى لأحد الأمرين ، إنما الحاكم فيه الذوق الجارى على استعمال البلغاء سليقة أو تطبعا ؛ ولهذا قيل : إن هذا الفن إذا التبس فيه باب بباب لم يفصل بينهما إلا الذوق ، فهو أحوج كل فن إلى الذوق والأذواق تختلف ولا تنضبط فلا تجرى على نسق واحد


فى كثير من الأمور بخلاف المعقولات الصرفة ، ومن ثم قيل : إن الفرق بين المقيد والمركب أحوج شيء إلى التأمل ، يعنى فى تفسيره والتعبير عنه وفى إدراكه وأخذ حقيقته من كلام البلغاء مع اسم التقييد والتركيب ، وأما إدراك كنهه فى نفس الأمر لا بقيد اسم التقييد والتركيب وهو منشأ الصعوبة فهو أحوج شيء إلى الذوق ، وإنما صعب فى التعبير لأن التعبير عن الذوقيات أصعب شيء وإدراكها من التعبير كذلك ، ولذلك يقال من وصف له البلوغ قبل الاحتلام لم يفهمه إلا بعده ، وكذلك هو أصعب شيء فى الإدراك حيث يدعى التركيب أو التقييد ، ولم يطابق الذوق ذلك المدعى تأمله.

الرابع : تشبيه مركب بمفرد

(وإما تشبيه مركب بمفرد) ، يعنى بمفرد مقيد بدليل المثال وهو معطوف أيضا على ما عطف عليه ما قبله ، يعنى أن التشبيه إما تشبيه مفرد بمفرد ، وقد تقدمت أقسامه ، وإما تشبيه مركب بمركب ، وإما تشبيه مفرد بمركب ، وإما تشبيه مركب بمفرد مقيد كقوله : (يا صاحبى تقصيا نظريكما) (١) أى : ابلغا أقصى نظريكما بالمبالغة فى تحديق النظر ، يقال تقصيته بلغت أقصاه ، وإذا تقصيتما نظريكما واجتهدتما فيه ولم تقصرا فيه فانظرا ما قابلكما من الأرض بأن تلاحظا ملاحظة لا تقتضى المطالعة على مخبر الشيء فكأنما (تريا وجوه الأرض) أى : الأماكن البادية منها كالوجه (كيف تصور) أى : تريا كيف تبدو صورتها ، أى : تريا كيفية صورتها بثبوت الإشراق لها كما دل عليه ما بعد ، فقوله : " كيف تصور" بدل من وجوه مضارع سقطت منه تاء المضارعة ، يقال : صوره الله فتصور ، أى : فقبل التصوير ، وبدت صورته فى الوجود ، (تريا نهارا) أى : تريا ضوء نهار وإلا فالنهار لا يرى من حيث إنه زمان (مشمسا) أى : ذا شمس لم تستر بغيم ، ولهذا وصف النهار بكونه مشمسا وأراد بالشمس ضوءها الظاهر (قد شابه) أى : خالط ذلك النهار ، أى : ضوءه (زهر) أى : لون زهر (الربا) جمع ربوة وهى المكان المرتفع ، وأراد بالزهر النبات مطلقا ، وأطلق عليه الزهر ؛ لأنه أحسن ما فيه مجازا (فكأنما هو) أى : النهار بمعنى الضوء المشوب بلون النبات (مقمر) أى : ليل ذو قمر ، أى : ذو ضوء

__________________

(١) البيتان لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها المعتصم ، ديوانه (٢ / ١٩٤) ، والإشارات ص (١٨٣).


قمر ، فقد شبه النهار المشمس الذى شابه زهر الربا وهو مركب بالقمر أى : الليل المقمر وهو مفرد مقيد ؛ لأن المقمر وصف فى التقدير لليل للعلم بأن الموصوف بالمقمر هو الليل ، وسبب ذلك أن الضوء لما وقع على اخضرار النبات كسر ذلك الاخضرار منه فكأنه ضعف حتى صار كأنه ضوء مخلوط بالسواد حتى لا تبدو فيه الأشياء البادية فى النهار فصار كحال الليل المقمر فى ضعف إشراقه حتى لا تبدو فيه الأشياء الخفية بسبب مخالطة السواد ، وقوله : " تريا نهارا" هو تفسير لكيفية وجوه الأرض فهو بدل أو عطف بيان ، فكأنه يقول : تريا كيفية تلك الوجوه وهى كونها ذات إشراق مغلوب باسوداد ، وخص الربا بالرؤية ، لأنها أظهر ما يتحقق فيها تلك الكيفية ، فكأنها أشد خضرة لظهورها فيها أكثر أو لأنها أول ما تطلع عليه الشمس ، وذلك مناسب لأن الضوء فى ابتداء الطلوع ضعيف يناسب نقصانه بالاخضرار ، أو لأنها أنضر وأجمل من الأغوار لارتفاعها وطهارتها وتحرك حسن النسيم فيها ، أو لأنها أنضر وأجمل من الأغوار لارتفاعها وطهارتها وتحرك حسن النسيم فيها ، أو لأنها هى المقصودة بالنظر غالبا لنضارتها وعلوها وبدوها ، وهذا الوجه يرجع إلى الوجوه السابقة ؛ لأن قصدها باعتبارها ، وقيل المراد بالأزهار الأشجار التى لها أزهار إذا التفت فى الربا فلا يبدو ما تحتها إلا كما يبدو فى الليل وهو بعيد ، وقد مثل المصنف لسبعة أقسام مما ذكرنا المفردان والمقيدان ، والمفرد مع المقيد وعكسه ، والمركبان والمفرد مع المركب ، والمركب مع المقيد بناء على أن المقمر من المقيد كما تقدم ، وبقى مثالان مثال المقيد مع المركب ، ومثال المركب مع المفرد ؛ فالأول كتشبيه الليل المقمر بالنهار المشمس الذى شابه زهر الربا ، والثانى كتشبيه أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد بالشقيق وأسقطهما لظهورهما ، ولإدخال الإفراد فى التقييد ، ثم أشار أيضا إلى تقسيم آخر فى مطلق التشبيه فقسمه إلى ملفوف ومفروق إن تعدد طرفاه معا ، وإلى تسوية وجمع إن تعدد أحدهما ، وهذه الأشياء أعنى اللف والتفريق والجمع والتسوية ولو كان الأقرب فيها أنها من البديع على ما يأتى فى اللف والنشر وغير ذلك ساقها فى التشبيه تكميلا لأقسامه مع أن فى بعضها شبه تركيب مفرد بمركب والعكس ، فناسب بعض أقسام التشبيه فقال :

تقسيم آخر للتشبيه باعتبار طرفيه :


(و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر فى مطلق التشبيه وهو تقسيم يعتريه باعتبار وجود التعدد فى طرفيه أو فى أحدهما فنقول :

إن تعدد طرفاه فالتشبيه الملفوف والمفروق

(إن تعدد طرفاه) معا فصار تشبيهات لا تشبيها واحدا (ف) ذلك المتعدد الطرفين الذى هو تشبيهات (إما ملفوف) أى : إما أن يكون هو المسمى بالملفوف اصطلاحا وهو الذى يؤتى فيه بمشبهات متعددة منفصلة أو بمشبهين على طريق العطف المفرق بين الأشياء أو غيره مما يقتضى الانفصال والتباين ، ثم يؤتى بالمشبهات بها أو المشبهين بهما كذلك ، وذلك (كقوله) أى : امرئ القيس يصف عقابا بكثرة اصطيادها للطيور (كأن قلوب الطير) (١) أراد بالطير الجنس الصادق بالكثير بدليل جمع القلوب (رطبا ويابسا) هما حالان من القلوب والعامل هو كأن لتضمنها معنى التشبيه أى : أشبه قلوب الطير فى حال كونها رطبا ويابسا ، ولما كانت الرطوبة واليبوسة لا تجتمعان فى محل واحد علم أن كلا منهما وصف لغير ما ثبت له الآخر فلزم كونهما حالين على التوزيع ، فالضمير فى كل منهما يعود إلى موصوفه وهو البعض المشمول للقلوب ، فلهذا فسر الضميران بأن قيل يابسا بعضها ورطبا بعضها ، ولم يرد قائل ذلك أن لفظ البعض فيهما هو الفاعل حتى يلزم حذف الفاعل الظاهر ، ولم يوجد فى الكلام الفصيح ، وإنما أراد تفسير الضميرين العائدين إلى ما تضمنه الجمع المتقدم ، فليفهم.

ولما تنافى الوصفان أفاد أن هنا قسمين منفصلين فى جانب المشبه وهما الرطب واليابس ، فقد أتى فيه بمتعدد من هذه الحيثية (لدى) أى : عند (وكرها) أى : عش العقاب (العناب) هذا أحد المشبه بهما وهو المقابل للقلب الرطب ، وهو حب أحمر مائل للكدورة على قدر قلوب الطير بثمرة السدر البستانى ، وهو المسمى فى العرف بالزقزوق (والحشف البالى) هذا هو المشبه به الآخر ، وهو المقابل للقلب اليابس ، والحشف أردأ التمر ، ووصفه بالبلى تأكيدا لهيئة التشبيه ، فإنه أشبه بالقلب اليابس فى شكله ولونه وتكاميشه من الجديد ، وأما العناب مع القلب الرطب فلا يخفى تشابههما فى القدر

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٣٨) ، والإشارات ص (١٨٢) ، وفى عقود الجمان (٢ / ٢٥).


واللون والشكل ، وقد ظهر أن العناب للرطب والحشف للبالى ؛ فالأول للأول والثانى للثانى ، وهذا معنى اللف والنشر المرتب ولو عكس سمى ملفوفا أيضا لوجود اللف فيه ، وإنما جزم بكون هذا التشبيه من المتعدد ، لأنه ليس لوجود الرطب واليابس هيئة يعتد بها ويستحسنها الذوق أو يستطرفها السامع وإن اجتمعا فى الوكر حتى يكون من المركب ؛ وإنما الفضيلة فى اختصار ما تعلق به هذا التشبيه المتعدد وترتيبه ، ولا فضيلة له باعتبار الهيئة لانتفاء حسنها فلم تعتبر ، وقولنا : " وإن اجتمعا فى الوكر" إشارة إلى أن المتعدد وإن اجتمع أطرافه فى شيء لا يقتضى ذلك كون التشبيه تركيبا ؛ إذ لو أوجب الاجتماع تركيبا لم يوجد متعدد ضرورة أنه لا بد من الاجتماع فيه ولو فى إرادة سوقه فى مجموع لفظ منطوق به فى آن واحد ليفيد ما فيه للسامع دفعة واحدة ؛ تأمل.

(أو مفروق) أى : إذا تعدد الطرفان معا فإما أن يكون التشبيه فى ذلك ملفوفا أو يكون مفروقا ، بمعنى أنه يسمى بذلك أما تسمية الأول بالملفوف فلأنه لف أى : جمع فيه المشبهات فى جهة ثم المشبه به فى أخرى ، وأما تسمية الثانى بالمفروق فلأنه هو الذى يؤتى فيه مع كل مشبه بمقابله من غير أن يتصل أحد المشبهين بالآخر ، بل يفرق بين المشبهين بالمشبه به فيؤتى بالمشبه ثم المشبه به ثم بمشبه آخر مع مشبه به آخر ثم كذلك (كقوله) أى : المرقش الأكبر فى وصف نساء (النشر) (١) منهن (مسك) أى : الرائحة الطيبة منهن كرائحة المسك فى الاستطابة ، ويحتمل أن يريد بالنشر الشعر المنشور الطيب فيكون تشبيهه بالمسك فى الرائحة الطيبة ولون السواد (والوجوه) منهن (دنانير) أى : كالدنانير من الذهب فى الاستدارة والاستنارة مع مخالطة الصفرة ؛ لأن الصفرة مما يستحسن فى ألوان النساء (وأطراف) أى : أصابع (الأكف عنم) ، والعنم شجر لين الأغصان محمر تشبه بأغصانه أصابع الجوارى المخضبة ، فقد شبه النشر بالمسك والوجوه بالدنانير وأصابع الأكف بالعنم ، جاعلا كل مشبه مع مقابله ، فافترقت المشبهات ، ولذلك سمى مفروقا كما تقدم ، ثم أشار إلى ما إذا تعدد أحد الطرفين دون الآخر بقوله :

__________________

(١) البيت للمرقش الأكبر ربيعة بن سعد بن مالك والبيت فى الإشارات ص (١٨٢) ، والأسرار ص (١٢٣) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٦).


إن تعدد طرفه الأول فتشبيه التسوية

(وإن تعدد طرفه) أى طرف التشبيه (الأول) وأراد بالطرف الأول المشبه ؛ لأنه هو المقدم فى التركيب ، ولو كان المشبه به مقدما فى الأعرفية كما تقدم ، يعنى إذا تقدم المشبه دون المشبه به (ف) ذلك التشبيه الذى وجد فيه هذا التعدد هو (تشبيه التسوية) أى : يسمى بذلك لوجود التسوية فيه بين المشبهين فيما ألحقا به وهو المشبه به مع تساويهما فى الوجه أيضا ، وذلك (كقوله صدغ الحبيب) (١) أى : الشعر البادى من رأسه فيما بين الأذن والعين وهو المسمى بالصدغ (وحالى كلاهما) أى : كل منهما (كالليالى) وبعده :

وثغره فى صفاء

وأدمعى كاللآلى

ففى البيت الأول شبه شعر الصدغ بالليالى وشبه حاله بها ، فقد تعدد المشبه وهو الصدغ وحاله ، واتحد المشبه به وهو الليالى ، وإنما قلنا باتحاده ؛ لأن المراد بالتعدد هنا وجود معنيين مختلفى المفهوم والمصدوق لا وجود أجزاء للشيء مع تساويهما كما فى الليالى فسوى بين المشبهين فى إلحاقهما بالليالى فى الاسوداد إلا أن السواد فى حاله تخييلى لا حقيقى ، ويحتمل مع ذلك أن يراد فى الوجه اقتضاء كل منهما التفريق بين الأحبة كما هو اقتضاء الليالى بناء منه على أن حاله موسومة بشؤم اقتضائها البعد عن الحبيب وصدغ الحبيب من تيه صاحبه يقتضى المجانبة ، وشبه فى البيت الثانى ثغر الحبيب أى : فمه يعنى الأسنان ودموعه باللآلى ، أى : الدرر فى القدر والصفاء والإشراق ، وإنما كان التشبيه من المتعدد لصحة المعنى بإلحاق كل من المشبهين وحده بالمشبه به فى هذا الوجه ، وليس لاجتماع المشبهين هنا أيضا هيئة تعتبر فى الاستحسان حتى يكون من المركب ، وإنما الفضيلة فى الاختصار والجمع فى شيء واحد مع تباينهما.

وإن تعدد طرفه الثانى فتشبيه الجمع

(وإن تعدد طرفه الثانى) وهو المشبه به دون الأول الذى هو المشبه كما تقدم (ف) ذلك التشبيه الذى تعدد طرفه الثانى هو (تشبيه الجمع) أى : يسمى بذلك لوجود

__________________

(١) البيت بلا نسبة فى عقود الجمان (٢ / ٢٦) ، وبلا نسبة فى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (٢٢٩).


اجتماع بين شيئين أو أشياء فى مشابهة شيء واحد والتفريق بين الجمع والتسوية اصطلاح وإلا فيمكن أن يعتبر فى كل منهما ما اعتبر فى الآخر كما لا يخفى ، وذلك (كقوله : بات نديما لى) (١) أى : مؤنسا لى بالليل (حتى) أى : إلى (الصباح أغيد) فاعل بات ، والأغيد هو الناعم البدن (مجدول مكان الوشاح) أى : ضامر الخاصرتين والبطن ؛ لأن ذلك موضع الوشاح ، وهو جلدة ترصع بالجواهر أو ما يشبهها ، تشد فى الوسط أو تجعل على المنكب الأيسر معقودة تحت الإبط الأيمن للتزين ، (كأنما يبسم) (٢) أى : كأن ذلك الأغيد متبسم ، ولما اتصلت ما الكافة بكأن صلحت للدخول على الفعل أو كأن تبسمه تبسم عن لؤلؤ ، والمعنى فى الحالين واحد ، (عن لؤلؤ) وهو الجوهر الصافى (منضد) أى : منظم ، (أو) يبسم عن (برد) وهو حب الغمام ، (أو) يبسم عن (أقاح) جمع أقحوان بضم الهمزة ، وهو نور يتفتح كالورد ، وأوراقه فى شكلها أشبه شيء بالأسنان فى اعتدالها ، ومنه الأبيض الأوراق وهو المراد هنا ، ومنه الأصفر ، وتلك الأوراق البيض المشكلة بشكل الأسنان المعتدلة هى المعتبرة فى التشبيه ، ولا عبرة بما أحاطت به من الصفرة ؛ لأن المراد تشبيه الأسنان لا مجموع الثغر ، حتى يقال مما يستقبح كون منبت الأسنان أصفر الذى هو هيئة كالأقحوان ؛ لأن الأوراق فيه نابتة فى صفرة ، فلا يحسن التشبيه به ، فافهم.

فقد تضمن هذا الكلام تشبيه أسنان ثغره بثلاثة أشياء اللؤلؤ المنضد ، والبرد ، والأقاح ، فقد اجتمعت هذه الثلاثة فى تشبيه الأسنان بها فى الشكل ، أو قربه فى بعضها ، وفى اللون ، ولا هيئة لمجموعها تعتبر هنا أيضا ؛ حتى يكون من التركيب ، بل الفضيلة ، فى اجتماعها فى مشبه واحد على وجه الاختصار ، ولو شبه كل واحد به على حدة صح ، فلذلك كان من المتعدد ، وإنما قلنا تضمن هذا الكلام تشبيه أسنانه ؛ لأن التشبيه هنا ضمنى لا صريح ، إذ صريح اللفظ إن جعلت كأن للتشبيه ، أنه شبه الأغيد بمن يتبسم

__________________

(١) البيت للبحترى من قصيدة مطلعها هذا البيت.

(٢) البيت للبحترى فى ديوانه (كأنما يضحك) بدلا من (كأنما يبسم) والبيت من قصيدة يمدح فيها عيسى بن إبراهيم ، ديوانه (١ / ٤٣٥) ، والإشارات ص (١٨٣).


عن نفس اللؤلؤ ، والبرد ، والأقاح ، مجازا أو حقيقة ، وإن جعلت للظن فالمعنى تظنه متبسما عن هذه الأشياء ؛ لكن الغرض تشبيه أسنانه بما ذكر على كل حال ، وعبر عن ذلك بتلك العبارة المتضمنة لإفادة الغرض ، ويدل على قصد التشبيه وجود كأن ؛ لأن المجاز يجب فيه ـ كما يأتى ـ أن لا يشم فيه رائحة التشبيه لفظا ، ولو لا وجود لفظ كأن لأمكن أن يكون مجازا ، كقوله : يفتر أى : يتبسم عن لؤلؤ رطب ، وعن برد ، وعن أقاح ، وعن طلع وهو جمار النخل ، وعن حبب وهو ما يطلع على الماء عند إفراغه على ماء آخر مما يشبه الزجاج فى الإشراق لا فى القدر ، وقوله : يفتر لا يدل على التشبيه ، بل هو قرينة المجاز ، ويتضمن هذا المجاز أيضا تشبيه الجمع لصحته ، حيث صح المجاز فلا يبعد التمثيل به له ، ثم أشار إلى تقسيم التشبيه باعتبار الوجه ، وهو أنه إما تمثيل أو غيره ، وإما مجمل ، أو مفصل ، وإما قريب ، أو بعيد ، فقال :

تقسيم التشبيه باعتبار وجهه

(وباعتبار الوجه) معطوف على قوله : باعتبار الطرفين ، أى : التشبيه باعتبار الوجه ينقسم انقساما آخر ، وهو أنه :

تشبيه التمثيل

(إما تمثيل) أى : إما أن يكون مسمى بالتمثيل (وهو) أى : التمثيل (ما) أى : التشبيه الذى (وجهه) وصف منتزع أى : مأخوذ (من متعدد) أى : مما له تعدد فى الجملة سواء كان ذلك التعدد متعلقا بأجزاء الشيء الواحد أو لا فدخل فيه على هذا أربعة أقسام ، ما كان طرفاه مفردين ، وما كانا مركبين ، وما كان الأول مفردا والثانى غير مفرد والعكس ، وذلك (كما) أى : كالوجه فيما (مر) من تشبيه الثريا بعنقود الملاحية ، فإنهما مفردان ، والوجه هيئة انتزعت من أجزاء كل ومن وصفه ووصف جزئه ـ كما تقدم تحقيقه ـ ومر تشبيه مثار النقع من الأسياف بالليل مع الكواكب ، فإنهما مركبان ، إذ ليس ما اعتبر فى كل طرف جزءا أو كالجزء لمجموع مسمى باسم واحد كما فى الثريا والعنقود حتى يكونا مفردين ، والوجه هى الهيئة المنتزعة مما اعتبر فى كل طرف من السيوف والغبار فى الأول ، والليل والكواكب فى الثانى ، ومن أوصاف


ذلك ، وقد تقدم تحقيق ذلك أيضا ، ومن تشبيه الشمس بالمرآة فى كف الأشل ، فإن الأول مفرد ، والثانى غير مفرد ، والوجه هو الهيئة المنتزعة من عدة أوصاف كل منهما التى هى بمنزلة الأجزاء ، وقد تقدم بيان ذلك أيضا ، ومن تشبيه المرآة فى كف الأشل بالشمس ، فإن الأول غير مفرد ، والثانى مفرد ، وعلى ما ذكر من دخول تشبيه الأفراد فى التمثيل يكون التشبيه أعم محلا من مجاز التمثيل بناء على ما اقتضاه ما يأتى للمصنف ، وفسر كلامه هنالك من أن الاستعارة فى المفرد لا يوجد فيها تمثيل ، ويحتمل أن يراد بالمنتزع من المتعدد ما لا أفراد فى طرفيه ، فيطابق ما سيأتى ـ والله أعلم ـ وعلى كل حال فالتشبيه التمثيلى عند الجمهور أعم مما كان الوجه فيه حقيقيا ، بأن يكون حسيا ، كما فى تشبيه مثار النقع مع الأسياف بالليل مع الكواكب فإنهما مركبان ، ومما كان غير حقيقى كما فى تشبيه حال المنافقين بحال الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، فى قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) الآية ، وأما السكاكى فخص التمثيل بغير الحقيقى ، وإلى هذا أشار بقوله : (وقيده) أى : وقيد (السكاكى) الوجه المنتزع من متعدد الذى يسمى تشبيهه تمثيلا (بكونه) أى : بكون ذلك الوجه (غير حقيقى) حيث قال التشبيه به متى كان وجهه وصفا غير حقيقى ، وكان منتزعا من عدة أمور ، خص ذلك التشبيه الذى وجهه على الوصف المذكور باسم التمثيل ، وذلك (كما) أى : كالوجه الموجود (فى تشبيه مثل اليهود) أى : حال اليهود وقصتهم (بمثل الحمار) يحمل أسفارا ، فإن وجه الشبه فى ذلك ـ كما تقدم ـ حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكد والتعب فى استصحابه ، ولا شك أن هذا وصف منتزع من متعدد وهو عائد إلى التوهم ، ولا يخفى أن الكد المرعى فى الوجه هنا إن أريد به الكد الحسى لم يكن مجموع الوجه غير حقيقى ، وعليه يكون المراد بغير الحقيقى ما هو هيئة تتعلق بما ليس مجموعه حقيقيا ، ولك أن تحمله على الكد المعنوى ، وعليه فلا يفتقر لما ذكر ، والتقسيم العقلى فى الوصف هو أنه إما أن يكون حسيا خارجيا أو يكون عقليا وجوديا ، وكلاهما حقيقيان ، أو يكون اعتباريا محضا لا وجود له إلا فى

__________________

(١) البقرة : ١٧.


الأذهان والأوهام ، والهيئة فى المركب من حيث إنها هيئة اعتبارية محضة ، كما يؤخذ مما حررنا فيما مضى ، فيجب أن يراد بكونها حسية هنا تعلقها بالمحسوس كهى فى بيت بشار ـ كما أشرنا إليه فيما تقدم ، ويراد بالوهمى هنا ما تعلق بمعقول مطلقا لا ما تعلق بالاعتبارات المحضة ؛ لأن ما مثلوا به للوهمى ليس كذلك كما لا يخفى ، ولذلك فسرنا الحقيقى بالحسى هنا ، وقد تقدم التمثيل بهذا الوجه ، أعنى حرمان الانتفاع بأبلغ نافع إلى آخره للعقلى ، فعلى تقييد السكاكى لا يكون من التمثيل تشبيه الثريا بالعنقود بناء على دخوله فى كلام المصنف ، كما لا يدخل فيه بيت بشار ، فقول المصنف :

التشبيه غير التمثيلى

(وإما غير تمثيلى وهو بخلافه) يكون معناه بالنسبة إلى مذهب الجمهور أن غير التمثيل هو ما كان بخلافه ، بأن لا يكون منتزعا من متعدد ، بل مفرد محض فلا يخرج عنه إلا نحو تشبيه العلم بالنور ، والخد بالورد ، ويكون معناه بالنسبة إلى مذهب السكاكى وغير التمثيل هو ما كان بخلافه ، بأن لا ينتزع من متعدد كالمثالين ، أو من متعدد لكنه حسى كما فى بيت بشار ، وقد ظهر بذلك أن التمثيل عند الجمهور أعم مطلقا منه عند السكاكى ، ثم أشار إلى التقسيم الثانى فى التشبيه بالنسبة إلى الوجه ، فقال : (و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر باعتبار الوجه ، فنقول التشبيه باعتباره أيضا :

التشبيه المجمل

(إما مجمل و) ليس المراد بالمجمل هنا ما يحتمل شيئين أو أشياء على التساوى ، بل المراد (هو ما) أى : التشبيه الذى (لم يذكر وجهه) فهو من الإجمال ، الذى هو عدم ذكر الشيء صريحا ولو فهم معنى ، ثم هذا المجمل أقسام ، (فمنه) أى : فمن ذلك المجمل (ظاهر) أى : ما هو ظاهر الوجه ، فنسب الظهور إليه تجوزا ؛ لأن هذا التقسيم باعتبار الوجه الملابس له ، ويحتمل أن يكون وصفا للوجه على الأصل أى : فمن الوجه الذى لم يذكر وباعتبار عدم ذكره يسمى التشبيه مجملا ما هو ظاهر (يفهمه كل أحد) ممن له دخل فى استعمال التشبيه ، سواء كان عاما فى المستعملين ، أو خاصا ، وذلك (مثل) قول القائل : (زيد كالأسد) ، فإن كل أحد ممن يفهم معنى هذا الكلام يدرك أن وجه الشبه


هو الجراءة ، (ومنه) أى : ومن التشبيه المجمل (خفى) أى : ما خفى وجهه ، أو من الوجه الذى لم يذكر وجه خفى على ما تقدم فى الظاهر ، حتى لا يدركه إلا الخواص الذين أوتوا ذهنا ارتقوا به عن العامة ، يدركون به الدقائق والأسرار ، ويتوسعون فى الموصوفات وأوصافها ، وذلك (كقول بعضهم) قيل : هو كعب بن معدان الأشعرى سأله الحجاج ، فقال له : كيف تركت جماعة الناس ، فقال له كعب : بخير ، أدركوا ما أملوا ، وأمنوا مما خافوا ، ثم قال له : فكيف بنو المهلب فيهم ، قال : حماة السرح نهارا ، وإذا أليلوا ففرسان البيات ، ومعنى أليلوا دخلوا فى الليل ، كأصبحوا دخلوا فى الصباح ، ثم قال له : فأيهم كان أنجد ، فقال : (هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) ، وقيل : إنه قول فاطمة بنت خرشب الأنمارية ، لما سئلت عن بنيها أولاد زياد العبسى ، وهم عمارة الوهاب ، وقيس الحفاظ ، وأنس الفوارس ، وربيع الكامل ، أيهم أفضل ، فقالت : عمارة ، ثم قالت : لا ، بل فلان ، ثم قالت : لا ، بل ، فلان ، ثم قالت : لا ، بل فلان ، ثم قالت : ثكلتهم أى : عدمتهم بالموت إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة إلى آخره ، ثم أشار إلى الوصف المتضمن لوجه الشبه فى الطرفين معا بقوله : (أى : هم متناسبون فى الشرف) ، بمعنى : أنهم متشاكلون فيه تشاكلا يمنع تعيين بعضهم بالأفضلية وبعضهم بالمفضولية ؛ لاستواء ما يقتضى الشرف فيهم ، (كما أنها) أى : الحلقة المفرغة (متناسبة الأجزاء) أى : متناسبة القطع المفروضة فيها (فى الصورة) الشكلية واللصوقية تناسبا يمنع تعيين بعض تلك القطع طرفا ، وبعضها وسطا ، والحلقة المفرغة هى التى أذيب أصلها من فضة ، أو ذهب ، أو نحاس ، أو حديد ، أو نحو ذلك ، ثم أفرغ فى القالب ، فيصير فيه كالماء المنحصر ، فإذا جمد لم يظهر فى الحلقة الناشئة عنه طرف ، بل تكون مصمتة الجوانب ، أى : لا تفريج فيها ، ولا يلزم من نفى التفريج نفى التربيع والتثليث مثلا ، ولكن المراد ما كان كالدائرة ليتحقق التناسب فى أجزائها فى الشكل والوضع ، فتصير بذلك ذات إحاطة نهاية واحدة كالدائرة ، وبهذا علم أن ليس المراد بكونها مصمتة كونها لا جوف لها خال ، ثم نفى دراية طرفيها لا يستلزم وجود الطرفين ، بل نفيها لنفيهما ؛ لأن القضية السالبة لا تقتضى وجود الموضوع ؛ وإنما قلنا أشار إلى الوصف


المتضمن لوجه الشبه ؛ لأن الوجه يجب أن يكون فى الطرفين معا ، والتناسب فى الشرف مختص بالمشبه ، والتناسب فى الأجزاء مختص بالمشبه به ، ولكن تضمن وصف كل منهما التناسب المانع من وجود التفاوت ، وهو محقق فى الطرفين ، وهو الوجه المشترك ، ولا يخفى على ذى ذوق سليم أن الانتقال من تناسبهم فى الشرف إلى تناسب أجزاء الحلقة غاية فى الدقة ، فالوجه بين الطرفين لا يدركه إلا الخواص ، ثم أشار إلى تقسيم آخر فى المجمل ، فقال : (ومنه) أى : ومن المجمل ما فيه تقسيم آخر باعتبار وجود الوصف المشعر بالوجه وعدمه ، وفيه أربعة أقسام ما يوجد فيه الوصف فى الطرفين ، وما لا يوجد فيه فيهما ، وما يوجد فيه فى الأول دون الثانى والعكس ، فجملة قوله : " ومنه إلخ" معطوفة على جملة قوله : " ومنه ظاهر" ، وإنما لم يقل : وأيضا إما كذا ، وإما كذا ؛ للإشارة إلى زيادة تأكيد فى بيان أن هذا تقسيم فى المجمل لا تقسيم فى مطلق التشبيه ، وإنما قلنا : إلى زيادة تأكيد فى بيان إلخ ؛ لأنه يعلم كون التقسيم فى المجمل بالنظر إلى المعنى أيضا ؛ إذ المقابل للمجمل هو المفصل ، فتغيير أسلوب أصل التقسيم لا يتوقف عليه فهم المراد ولكن يزيد وضوحا ، فمن هذا القسم الذى قلنا : إن فيه أربعة أقسام (ما لم يذكر فيه) أى : التشبيه الذى لم يذكر فيه (وصف أحد الطرفين) وذلك بأن يؤتى فيه بالطرفين مجردين عن الوصف الدال على الوجه ، كما كانا مجردين عن نفس ذكر الوجه ، وليس المراد الوصف مطلقا بل الوصف الدال على الوجه ـ كما قلنا ـ فإذا قلنا : " زيد الفاضل كالأسد" كان مما لم يذكر فيه الوصف ؛ لأن الفاضل لا يشعر بالوجه الذى هو الجراءة وإن كان وصفا لأحد الطرفين.

(ومنه) أى : ومن هذا القسم من المجمل (ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده) دون وصف المشبه ، وقد تقدم الآن أن الوصف المراد هنا هو الوصف المشعر بوجه الشبه لا مطلق الوصف ، ومثال التشبيه الذى فيه وصف المشبه به فقط قول القائل : هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، فقوله : لا يدرى أين طرفاها مضمونه وصف المشبه به ، وهو نفى دراية الطرفين الملتقيين ، وهو يستلزم التناسب المانع من تمييز يصح معه التفاوت الذى هو وجه الشبه ـ كما تقدم بيانه ـ وأما وصفها بالفراغ فلتحقيق ما


أريد من المشبه به ؛ لأن المشبه به هو الحلقة المفرغة لا مطلق الحلقة ، والانتقال من الإفراغ إلى التناسب الذى هو الوجه فيه خفاء ، فلم يعتبر فى الوصف المشعر بالوجه ، ولو اعتبر مثل هذا في هذا القسم كان ذكر المشبه به بمثابة الوصف المشعر دائما ، إذ لا يخلو المشبه به عن مطلق الإشعار ، ولم يذكر أحد أنه بمثابته ، وقد تقدم أن المفرغة لا طرفين لها ، وإنما يتصور الطرفان الملتقيان فى المصنوعة بلا إفراغ ، فذكر الطرفين لإشعار مطلق الحلقة بهما ، وقد نبهنا على أن نفى درايتهما لا يستلزم وجودهما ؛ لأن القضية السالبة لا تقتضى وجود الموضوع.

(ومنه) أى : ومن هذا القسم من المجمل (ما ذكر فيه وصفهما) أى : وصف المشبه به والمشبه معا (كقوله) أى : كقول أبى تمام يمدح الحسن بن سهل : ستصبح العيس (١) ، أى : الإبل بى ، والليل يعنى وسير الليل عند فتى. كثير ذكر الرضا فى حالة الغضب (صدفت عنه) أى : أعرضت عنه ، تجريبا لشأنه ، أو خطأ منى وقلة وفاء بحقه (فلم تصدف) أى : لم تعرض عنى بمعنى لم تنقطع (مواهبه) أى : عطاياه (عنى وعاوده ظنى) أى : عاودته بمواصلته طلبا لإحسانه ؛ ظنا منى أنى أجد فيه المراد ، فنسبه المعاودة إلى الظن تجوز (فلم يخب) ظنى فيه بل وجدته عند معاودته طلبا للإحسان كما أظن ، وكيف يخيب فيه الظن وهو يهب عند الإعراض فيهب عند الإقبال من باب أحرى ، فهو فى إفاضته فى الإقبال والإدبار (كالغيث) أى : كالمطر الواسع المقبل الذى يغيث أهل الأرض ، (أن جئته) أى : إن جئت الغيث حالة إقباله (وافاك) أى جاءك ولاقاك (ريقه) أى : أوله وأحسنه ، يقال : فعل فلان هذا الأمر فى روق أو ريق شبابه أى : أوله وأحسنه ، ويقال : أصابه ريق المطر أى : أوله وأحسنه ، وريق كل شيء أفضله ، وجعل أول المطر أحسنه للأمن معه من الفساد ، وإنما يخشى الفساد بدوامه ، (وإن ترحلت عنه) أى : فررت من الغيث (لج) بالجيم المعجمة أى : بالغ (فى الطلب) وأدركك مع فرارك منه ، وأصل اللجاج المبالغة فى الكلام ، والاشتغال به بقوة ، فاستعمل فى إسراع المطر وإدراكه من فر منه بقوة ، فالمشبه وهو الممدوح وصفه بأنه يعطى المعرض والمقبل ،

__________________

(١) الأبيات لأبى تمام فى ديوانه (١ / ١١٣) من قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).


ويفيض على الحالتين ـ أعنى حالتى الإعراض والإقبال ـ ولكن لعمرى إن هذا الوصف لا يصلح إلا لله تعالى الذى يعطى بلا عوض ، ويجود بلا غرض ، وهو أكرم الأكرمين ، والمشبه به أيضا وصفه بأنه يصيبك جئته ، أو ترحلت عنه ، وإعطاء المعرض والمقبل الذى هو وصف المشبه يتضمن الوجه الذى هو الإفاضة فى الحالتين أيضا ، وبقى مثال ما ذكر فيه وصف المشبه دون المشبه به ، وكأن المصنف لم يجده فى كلامهم ، ومثاله ما لو قيل فى عكس قوله :

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب (١)

فإن الشمس التى إذا طلعت لم يبد كوكب مثلك ويعنى بالنسبة إلى الملوك.

التشبيه المفصل

(وإما مفصل) هذا هو المقابل لقوله : إما مجمل فهو معطوف عليه ، يعنى أن التشبيه المجمل هو ما لم يذكر فيه الوجه ، سواء ذكر فيه ما يشعر به أو لا كما تقدم ، (و) المفصل (هو ما ذكر) فيه (وجهه) أى : وجه الشبه ، وقد علم من هذا ـ كما بيناه فيما تقدم ـ أن المراد بالإجمال هنا عدم الصراحة بالوجه والتفصيل أن يذكر الوجه صراحة ، وذلك المفصل (كقوله : وثغره) (٢) أى : أسنان ثغره أى : فمه (فى صفاء وأدمعى) فى صفاء أيضا (كاللآلى) أى : كالجواهر الصافية ، وقد مثلنا بهذا لتشبيه التسوية لتعدد طرفه الأول ، ومثل به هنا للتصريح فيه بالوجه فناسب المحلين بالاعتبارين ، وهكذا كل ما فيه اعتباران أو أكثر يصح التمثيل به ، لذلك وهو ظاهر ووصف الدموع بالصفاء ؛ إشعارا بكثرتها لاقتضاء الكثرة تغسيل المنبع ، وتنقيته من الأوساخ ، ومن لازم ذلك صفاء الدمع ، بخلاف القليل فيصح معه بقاء تكدر المنبع بالأوساخ ، فلا يصفو (وقد يتسامح) أى : يتساهل فى ذكر نفس الوجه فيستغنى عنه (ب) سبب (ذكر ما يستتبعه) أى : يستلزمه (مكانه) متعلق بذكر أى : يتسامح بأن يذكر فى مكانه ما يستتبعه ويستلزمه ، والمراد بالاستلزام هنا الحصول مع الحصول فى الجملة ، وإن كان

__________________

(١) البيت للنابغة الذبيانى فى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (٢٣١) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).

(٢) البيت فى الإيضاح ص (٢٢٩) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٨).


عاديا لا عقليا ، ومعنى ذكره فى مكانه أن يؤتى به على طريقة التركيب ، وأخرج بذلك ذكر الوصف المشعر بالوجه لأحد الطرفين أو لكليهما ـ كما تقدم ، فإنه لا يذكر على طريق ذكر وجه الشبه ، بأن يقال : كذا مثل كذا مثلا فى كذا ، بخلاف المستتبع هنا فيذكر على هذا الطريق ، (كقولهم فى الكلام الفصيح : هو كالعسل فى الحلاوة) وفى الحجة الواضحة هى كالشمس فى الإشراق ، (فإن الجامع فيه) أى : فى قولهم هو كالعسل فى الحلاوة (لازمها) أى : لازم الحلاوة ، بمعنى أن الوجه المشترك فيه فى هذا التشبيه لازم الحلاوة ، (وهو) أى : لازم الحلاوة (ميل الطبع) واستحسانه للكلام لا نفس الحلاوة ، كما أن الوجه المشترك فى قولهم : الحجة كالشمس فى الإشراق لازم الإشراق ، وهو إزالة الحجاب ، فإن أريد بميل الطبع عدم المنافرة كان اعتباريا كما قيل ، وإن أريد به محبته واشتهاره والفرح به كان حقيقيا ، ثم ما ذكر من أن المذكور هنا ما يستتبع الوجه هو المتبادر بحسب الظاهر ، ويحتمل أن يكون مما ذكر فيه الوجه بنفسه ، ويكون وجود الحلاوة فى الكلام على وجه التخيل ، ووجود الإشراق فى الحجة كذلك وهو الأقرب ، فإن الوجه الأول يرد عليه أن يقال : إن كان ذكر الحلاوة مثلا من التعبير عن الملزوم باللازم ـ كما هو ظاهر كلامهم ـ كان من المجاز ، ولا تسامح فيه ؛ لأنه قد ذكر الوجه ، إلا أنه عبر عنه بلفظ ملزومه ، وإن كان غير ذلك فهو خطأ ، إذ لا واسطة بين المجاز والحقيقة إلا الخطأ ، ولا ينبغى حمل الكلام الفصيح على الخطأ ـ فافهم.

تقسيم آخر للتشبيه باعتبار وجهه :

(و) نعود (أيضا) إلى تقسيم آخر فى التشبيه باعتبار الوجه ، وقد تقدم أن فيه ثلاثة تقسيمات ، وهذا هو الثالث منها ، فنقول التشبيه باعتبار الوجه أيضا :

التشبيه القريب المبتذل

(إما قريب مبتذل) ، والابتذال هو الامتهان ، وذلك يقتضى كثرة الاستعمال ، ويتصور هنا ـ باعتبار التصرف العقلى ـ أن يكون الوجه قريب التناول بحيث يمكن لكل أحد التشبيه به ، ولكن اتفق أنه لم يكثر استعماله فلا يكون مبتذلا ، وأن يكون قريب التناول ، وكثر استعماله فيكون مبتذلا ، وأن يكون بعيدا عن كثير من الإدراكات بحيث


لا يفوز بالتشبيه به إلا القليل من الأذكياء والبلغاء ، وهذا يتصور فيه هذا المعنى ابتداء ودواما بمعنى أنه كذلك هو فى جميع الأوقات ، ويتصور فيه أن يكون فى أصله كذلك ، ولكن جرى استعماله كثيرا حتى صار ظاهرا عند المستعملين ، مبتذلا عند من له مخالطة لكلام الناس ، وهذا يستلزم كون ابتذاله مخصوصا ببعض الناس دون بعض ؛ لأن ابتذاله ليس من ظهوره حتى يستوى الناس فيه ، بل من ممارسة كلام البلغاء ، وهذا لا يخرج عن الغرابة المقابلة للابتذال على ما نحرره بعد ، ودخل فى البعيد الغريب الذى أصله أن لا يدركه إلا الخواص ، الوجه الذى إذا حضر الطرفان ظهر الوجه بينهما ، وإذا غاب أحدهما وأريد التشبيه لم يدركه إلا الخواص ، كتشبيه إبرة روق الغزال بالقلم الذى أصاب من الدواة مدادا ، فإنه لا يدركه ـ عند غيبة أحد الطرفين ـ إلا الأذكياء ، وعند حضورهما يكون مدركا بسهولة ، فإذا تمهد هذا فنقول : ينبغى أن يدخل فى الابتذال القسمين الأولين ، وهما ما سهل فيهما الانتقال ؛ لأن الغالب فى الذى يتوهم فيه عدم الابتذال ـ وهو الذى يسهل الانتقال فيه ولم يتفق استعماله كثيرا ـ عدم وجوده ؛ إذ كل ما صح التشبيه فيه لا يخلو من أن يقع فيه بالفعل فيكثر إن ظهر ، وعلى تقدير صحة عدم الاستعمال فمن شأنه ذلك الاستعمال فهو فى حكم المبتذل ، فعلى هذا يكون الوصف بالابتذال ليس للإخراج ، ويكون المقابل له وهو البعيد مدخلا لما سوى القسمين ، فتكون القسمة حاصرة ، ويدل على هذا قوله فى تفسير المبتذل : (وهو) أى : التشبيه القريب المبتذل (ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به) ، والمنتقل هو مريد التشبيه ، ويلزم من قرب انتقاله إلى المشبه به عند روم التشبيه به (من غير تدقيق نظر لظهور وجهه فى بادى الرأى) فهم السامع الوجه أيضا عند سماع الكلام ، وقوله : فى بادى الرأى يحتمل أن يكون من البدو وهو الظهور ، فيكون المعنى لظهوره فى جملة الأمور التى تبدو للرأى ، ويحتمل أن يكون من البدء ، فيكون المعنى لظهوره فى أول ما يبدأ الرأى ، أى : يأتيه أولا ، ومعنى تدقيق النظر إمعانه ومعاودة التأمل فى استخراج ما يكمل به القصد ، وهو يشمل معنيين ، أحدهما أن يكون بعد إحضار الطرفين يحتاج إلى التأمل فى الوجه ما مقداره ، وما هو ، وهل تم وحسن فيهما أو لا ، وهذا يستلزم غالبا الحاجة عند


إحضار أحدهما إلى التأمل والتصفح لما يشبه به الحاضر منهما ؛ إذ لو كان كثير الحضور مخالط المعنى ظهر ما فيه ، والآخر أن يحتاج إلى استعمال الفكر فى استخراج ما يصلح للتشبيه من المعانى المخزونة فى الخيال ، وبعد استحضار ما يشبه به يكون الوجه ظاهرا كما تقدم فى تشبيه إبر الروق بالقلم الذى أصاب المداد ، وقد علم أن الأول أخص من الثانى على حسب الغالب ، فإن مشبه بنى المهلب بالحلقة يحتاج إلى التأمل فى إحضار الحلقة المفرغة ، ثم إلى التأمل فى استخراج وجه الشبه بينهما بعد حضورهما كما لا يخفى ، فإن قلت الشاعر البليغ أو الكاتب الفصيح تتدفق على لسانه التشبيهات الغريبة ، بل الاستعارة بلا تأمل قلت على تقدير تسليم أن ذلك التدفق لم يسبق بتأمل ، فالمعانى التى أبداها من شأنها الحاجة إلى التأمل ، وذلك يكفى فى نفى الابتذال ، ويدل على كونها تحتاج إلى التأمل عدم تسامح الناس فيها ، وأيضا قد يسمع تشبيه فيطلب السامع استخراج الوجه التام فلا يجده إن لم يصرح به إلا بعد إمعان النظر وذلك مشاهد ، فالتأمل موجود فى بعض المعانى دون بعض ، فليفهم.

فإن قيل فما الفرق حينئذ بين الظاهر والمبتذل ، وبين مقابله الآتى وهو الغريب البعيد وبين الخفى الذى هو المقابل للظاهر ؛ لأنك أدخلت فى المبتذل ما يقدر كل أحد على استعماله بسهولة ولو لم يقع كثرة استعماله بالفعل ، فإن كان الظاهر هو المبتذل والبعيد هو الخفى وجب إسقاط أحد البابين ، قلت : لا شك أنه يمكن إدخال أحد البابين فى الآخر ـ كما قلت ـ لكن حيث ذكر كل منهما على حدة وجب التفريق بينهما ، وذلك بأن يعتبر أن الظاهر أعم من المبتذل ؛ لأن الظاهر هو ما قرب إدراكه لكل أحد عند قصد التشبيه ، أو قرب بعد إحضار الطرفين ـ ولو كان إحضار أحدهما يحتاج إلى تأمل ـ وإذا علم الفرق بين الظاهر والمبتذل علم بين مقابليهما تأمله ، ثم علل ظهور الوجه الموجب للابتذال بعلتين فقال : وظهور الوجه (إما لكونه أمرا جمليا) نسبة إلى جملة بسكون الميم ، ومعنى كونه جمليا أنه لا تفصيل فيه ، والتفصيل هنا إدراك الخصوصيات ، وإدراك كثرة الاعتبارات ، وإدراك الجملة إدراك العمومات ، وقلة الاعتبارات ، (فإن الجملة) أى : إنما قلنا : إن الأمر الجملى أظهر من التفصيلى ؛ لأن


الجملة (أسبق إلى النفس) عند توجهها للإدراك من التفصيل ؛ وذلك لأن إدراك الجملة كما تقدم إدراك للعمومات مع قلة الاعتبارات ، والأمر العام يكثر وجوده فى الأفراد فيكثر التلبس به فيسهل إدراكه ، ولذا يقال الأعم أظهر من الأخص ، ومن ثم يقال تقديمه فى التعريف أوجب ، ويقال التعريف بالأخص تعريف بالأخفى ، ويقرر لك خفاء التفصيل وظهور الجملة أنك لو توجهت إلى إدراك الإنسان وجدت أسبق ما يدرك منه وأسهله إدراكه من حيث إنه شيء ، ثم من حيث إنه جسم ، ثم من حيث إنه حيوان ؛ لأن هذه عمومات يكثر وجود أفرادها ، فتبدو معانيها فى الإنسان وغيره ، فالأعم منها أسبق من الأخص ، وهو الذى يليه ، بخلاف إدراكه من حيث إنه جسم حساس متحرك بالإرادة ناطق فإنه خفى ؛ لأنه أقل وجودا مما قبله ، فإذا تحقق أن الجملة أسهل على النفس من التفصيل ، فالوجه إن كان أمرا جمليا كان ظاهرا سهل التناول فيلزم كون التشبيه به مبتذلا على ما تقدم ، فإذا فرضت إنسانا شبه زيدا بعمرو فى الإنسانية ، وآخر شبهه به فى الإنسانية الموصوفة بشرف الحسب وكرم الطبع وحسن العشرة ودقة النظر فى الأمور ونجاح المسعى فيها ، كان نظر الثانى أخفى من نظر الأول وأدق ، وبهذا يعلم أن التشبيه الواحد يجوز أن يكون مبتذلا بما اعتبر فيه من جملة الوجه ، وغير مبتذل بما اعتبر فيه من تفصيله ، وكون الجملة أسبق من التفصيل متقرر حتى بالنسبة للحواس ، فإن من نظر فى شيء أدرك منه جملة ربما يتوهم منها ذلك المنظر على خلاف ما هو ، فإذا أمعن النظر أدرك فيه تفصيلا يظهر به ما فيه ، ولهذا يقال النظرة الأولى حمقاء ، وكذا فى السمع فإن أول ما يقرع السمع قبل تمكن الحاسة من المسموع الجملة التى تصبح معها الغلط ، ولذلك يقال اختطف سمع فلان كذا فظنه كذا ، وإنما كثر الغلط مع الجملة لإدخالها ما لا يوجد فى المدرك لعمومها ، ولكن إنما تكون الجملة أظهر من التفصيل إن اعتبرا فى محل واحد فتسبق الجملة فيه ، ثم إذا أمعن النظر ظهر ما خفى من التفصيل فيه ، وأما إن اختلف المحل جاز أن يكون التفصيل أظهر لتكرره عند المدرك فى ذلك المحل دون الجملة فى محل آخر لعدم تكرره ؛ لكن هذا لا يرد فيما نحن بصدده ؛ لأن المراد الإلحاق بشيء وجد بجملة أو تفصيل كائنين فيه ، (أو لكونه قليل التفصيل) هذا


معطوف على قوله إما لكونه أمرا جمليا وهو العلة الثانية لظهور الوجه ، يعنى أن ظهور الوجه إما لكونه أمرا جمليا ، وإما لكونه ليس جمليا بل فيه تفصيل ولكنه قليل التفصيل ، ثم قلة التفصيل لا تكفى فى ظهور الوجه ، بل لا بد أن تكون (مع غلبة حضور المشبه به فى الذهن) ثم غلبة حضور المشبه به أى : كثرة حضوره إما (عند حضور المشبه) وذلك (لقرب المناسبة) بين المشبه والمشبه به ، فإن من المعلوم أن الأشياء المتناسبة التى هى من واحد تحضر كثيرا مجتمعة ، كالأوانى والأزهار فتقترن فى الخيال ، فإذا حضر بعضها فى الخيال حضر غيره ، فيسهل الانتقال فى التشبيه لظهور الوجه غالبا مما يحضر كثيرا مع غيره ؛ لأن ما يدرك من أحدهما يدرك غالبا من الآخر لتقارنهما ، وإنما قلنا غالبا لأنه يمكن أن يكثر حضور الشيء ويخفى الوجه المعتبر فيه لتحصيله بدقة النظر ، كما أشرنا إليه فى تشبيه زيد بعمرو فى الإنسانية ، وهذا التقارن الذى أوجبه كثرة الاجتماع فى الوجود هو الجامع الخيالى ـ كما تقدم ـ والمراد بغلبة الحضور الموجبة لظهور الوجه غلبته قبل روم التشبيه ، وليس المراد أنا إذا رمنا التشبيه غلب حضور المشبه به فيغلب حضور الوجه ، فإنه يؤول المعنى لو أريد هذا إلى أن الوجه ظاهر ، لأنا إذا أردنا التشبيه غلب ظهوره ، وإنما المعنى أن الغلبة السابقة على التشبيه أوجبت ممارسة الوجه ، فإذا أريد التشبيه ظهر الوجه حينئذ بسبب ما كان فى الأصل فليس من تعليل الشيء بنفسه كما قيل ، ثم مثل لهذا القسم ، وهو ما يغلب حضوره فيما مضى لكن مع حضور الطرف الآخر فيما مضى أيضا كما قررنا ، ذلك يوجب ظهور الوجه فى التشبيه بقوله : (كتشبيه الجرة الصغيرة) وهى إناء من خزف أى : طين مخصوص على شكل مخصوص (بالكوز) هو إناء يشرب منه (فى المقدار والشكل) ، ومثل ذلك تشبيه الإجاصة بالسفرجلة فى اللون والشكل والطعم فى بعض الأحيان ، والعنبة الكبيرة بالبرقوقة فى الشكل واللون والطعم ، فإن الوجه فى هذه الأشياء فيه تفصيل أى : اعتبار أشياء ، لكن تلك الأشياء ظاهرة لكثرة تكرر موصوفاتها على الحس عند إحضار ما أريد تشبيهه بها ، فيلزم ظهور أوصافها ، ولكن قيل إن الجرة لا مناسبة بينها وبين الكوز فى الشكل ، وقد يجاب بأن المراد مطلق الشكل مع مطلق التجويف والانفتاح لجهة مخصوصة ، وورد


أيضا أن الكوز غالب الحضور مطلقا لا بقيد حضور الجرة ، وأجيب بأن الذى يغلب مطلقا حضوره هو كوز العرب ؛ لأنهم يشربون من الخشب والأدم ، والمراد بهذا الكوز الخزف ، وهو نادر الحضور عند العرب إلا مع حضور الجرة ، وهذا تكلف ، وأجيب أيضا بأن فيه غلبة الحضور مع الجرة وعلى الإطلاق فمثل به باعتبار الأول وفيه ضعف ؛ لأن علة الحضور المطلق كما سيذكره تغنى عن المعنى ، فيجب أن يؤتى بمثل يختص به الأول ، وقد فهم من أمثلة التفصيل أنه لا يشترط فى التفصيل مع الغرابة أو بدونها كون الوجه هيئة مركبة ، بل إذا اعتبر أشياء ، ولو صح أن يستقل كل واحد بالتشبيه كان من التفصيل ، فافهم.

(أو مطلقا) هذا معطوف على قوله عند حضور المشبه ، يعنى أن غلبة حضور المشبه به الموجب لظهور الوجه إما أن تكون عند حضور المشبه ، وإما أن تكون مطلقا أى : لا بقيد حضور المشبه ، وإنما تحصل غلبة حضور المشبه به فى الذهن مطلقا (ل) أجل (تكرره) أى : المشبه به (على الحس) الذى هو البصر أو السمع أو الذوق أو الشم فيستغنى بتكرره على الحس فى غلبة حضوره عن غيره ، فلا تتوقف تلك الغلبة على حضور المشبه ، وإذا غلب حضوره مطلقا تحققت سرعة الانتقال إليه عند روم التشبيه ؛ وذلك لأن المتكرر على الحس كثرت مباشرته وكثر إدراكه فيعلم ما فيه من الأوصاف غالبا ، فإذا أريد تشبيه شيء فى وجه فيه انتقلت النفس بسرعة إلى ما ألفت ذلك الوجه فيه فيكون مبتذلا بسرعة الانتقال ، ومما يدل على أن النفس تنتقل بسرعة إلى المألوف المعتاد قبل غيره أنا لو فرضنا اسما لمسمى واحد له حالتان كثر إحساس إحداهما ، وقل الإحساس بالأخرى ، وسمع ذلك الاسم فإن أول ما تنتقل إليه النفس ويتسارع إليها من ذلك الاسم الحالة الكثيرة ، ألا ترى إلى القمر فإنه اسم لمسمى واحد كثر الإحساس به بصورة كونه تاما غير منخسف وقل الإحساس به بصورة الانخساف ، فإذا سمع لفظ القمر فأول ما يتسارع إلى الفهم الصورة الكثيرة ، فكذلك المشبه به الكثير الدوران على الحس إذا استحضر المشبه بوصف أريد الإلحاق بسبب ذلك الوصف تسارعت النفس إلى المألوف فيه ذلك الوصف ، وإنما قلنا غالبا لما تقدم أن


الكثير الإحساس إذا استخرج منه وجه دقيق لم يكن مبتذلا لتوقفه على التأمل ؛ ولكن قد يقال لا يحتاج إلى التقييد بالغالب ؛ لأن المراد التكرر على الحس من حيثية مخصوصة ـ كما يدل عليه المثال بعد ـ فإنه إذا دقق النظر فى شيء واستخرج منه وجه مفتقر لتأمل فلم يتكرر المشبه على الحس من ذلك الوجه ثم مثل لما كثر فيه التكرر على الحس مطلقا فكان المبتذل ، فقال : وذلك (كتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة) أى : المصقولة (فى الاستدارة والاستنارة) فإن وجه الشبه بين الشمس والمرآة فيه تفصيل ما لاعتبار شيئين فيه وهما الشكل والاستنارة ، ولكن لما كثر شهود المرآة وتكررت على الحس ، واستنارتها واستدارتها حسيان لزم ابتذالهما بسرعة الانتقال إلى التشبيه بهما فيها لظهورهما كما قررنا ، وبهذا يستشعر أن التكرار على الحس لا يكفى فى الابتذال حتى يكون الوصف مدركا به بلا تأمل ، وأنه متى كان الوصف فى المشبه به المتكرر على الحس يحتاج إلى تدقيق النظر كان غريبا كالمركب العقلى والوهمى والخيالى كما يأتى ، وادعاء أن المتكرر على الحس يمتنع وجود أوصاف فيه يصح التشبيه بها ، ومع ذلك فلا يحتاج فيها إلى التأمل مما يفتقر إلى الدليل ولم يقم بعد ، اللهم إلا أن يدعى أن المرآة الحسية أى المتكرر من حيث إنه مشبه به ؛ لأن ذلك يستلزم تكرر الوجه وظهوره كما أشرنا إليه قبل ، فحينئذ يتقوى بذلك عدم الحاجة إلى ما زدناه وهو قولنا غالبا إلا أن يكون لتأكيد البيان ، فافهم.

ثم أشار إلى علة الابتذال فى القسمين وهى ما بيناه من أن قرب الشيء مناسبة تقتضى سرعة الانتقال وتكرر الشيء على الحس كذلك فيقع الابتذال ، وأنه لا يمنع الابتذال معهما وجود مطلق التفصيل ؛ لأن الابتذال من لازمهما البين فيسقط حكم التفصيل الذى هو الغرابة عند تعارضهما ؛ لأنه لا يستلزم الغرابة إلا عند انتفائهما فقال : (لمعارضة كل من القرب) يعنى قرب المناسبة كما فى الجرة والكوز (والتكرار) أى : تكرار ذكر المشبه به على الحس مطلقا كما فى الشمس والمرآة المجلوة (التفصيل) معمول قوله معارضة يعنى أن قرب المسافة والتكرر على الحس يعارضان مقتضى التفصيل بمقتضاهما ، وذلك أنهما يقتضيان كما بيناه آنفا سرعة الانتقال من المشبه إلى


المشبه به عند روم التشبيه دائما ، فالتفصيل ، وإن كان يقتضى الغرابة فى أصله للاحتياج فيه إلى التأمل يسقط مقتضاه عند قلته بوجودهما فتقرر بهذا أنهما ـ أى : قرب المسافة والتكرر إذا تعارضا مع التفصيل القليل بأن يوجدا معه فى محل واحد سقط مقتضاه ، وأن كون التفصيل من أسباب الغرابة إنما هو عند عدم وجود قرب المناسبة أو التكرر على الحس مع قلته ، وفهم من هذا الكلام أن التفصيل القليل عند انتفاء قرب المناسبة والتكرر العارضين له يكون من أسباب الغرابة وهو ظاهر.

التشبيه البعيد الغريب

(وإما بعيد غريب) تقدم أن القريب المبتذل يقابله البعيد الغريب تقابلا حقيقيا وعليه يكون العطف بالغريب لا للإحراج كما تقدم فى وصف القريب بالمبتذل ، فقوله : وإما بعيد معطوف على قوله : إما قريب مبتذل (وهو) أى : البعيد الغريب (بخلافه) أى : جار على خلاف المبتذل ، فإذا كان المبتذل ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير نظر فالغريب هو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر ونظر دقيق ، ونعنى بالانتقال إلى المشبه به الانتقال إليه من حيث إنه مشبه به فلا ينافى ذلك أن تحصل الغرابة فى تشبيه الملزوم باللازم البين ، حيث يحتاج فى استخراج الوجه بينهما إلى دقة نظر وإن كان الانتقال إلى اللازم بسرعة ؛ وذلك لأنه لم ينتقل إليه بتلك السرعة من حيث التشبيه بل من حيث اللزوم ، وذلك كتشبيه الرجل الأعمى عماه بالبصر فى كون كل منهما معاقبا للآخر فى محل مخصوص هو الحادث القابل لهما عند قصده دفع النقص بما أمكن ، فإن العمى ينتقل منه إلى فهم البصر سريعا ، إذ هو نفى البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا ، لكن لا من حيث التشبيه بل من حيث المعنى فقط ، ثم بين علة الحاجة فى الغريب إلى التأمل ـ وإن كانت ظاهرة ـ ليقع التفصيل فيها بقوله (لعدم الظهور) أى : وإنما افتقر إلى التأمل عند إرادة التشبيه فيما يخالف المبتذل لعدم ظهور الوجه فيه بين الطرفين أى : لخفائه ، ومعلوم أن الظاهر فى بادئ الرأى لا يفتقر إلى التأمل ، ويكون عدم الظهور للوجه (إما لكثرة التفصيل فيه) أى : لكثرة الاعتبارات فيه فإن كثرة الاعتبارات فى الشيء تزيد خصوصا ، وكلما كثر التخصيص للشئ قلت أفراده فتقل


ملابسة وجوده فيكون غريبا لبعده عن الجملة التى تسبق إلى النفس لعمومها وكثرة أفرادها ، والتكرار على الحس إنما ينفى الحاجة إلى التأمل إن كان الوجه فيه باديا قليلا ، ليكون كلما لوحظ أدرك فيه الوجه أو قد تقدم ، ما يفهم منه أن بذلك يكون الابتذال فى المحسوس ، وأن النظر بالعين يكون فيه إدراك الجملة ، أو إنما يكون فيه ما هو كتصور الجملة بالقلة والظهور ، وأما عند وجود الكثرة فلا ، ولذلك لو رأيت المرآة فى كف المرتعش دائمة الاضطراب وتكرر عليك إحساسها لم يوجب النظر المتكرر ابتذالا فيها ، لما يبدو من الاستدارة والاستنارة ما هو مثلها ، وأما ما سوى ذلك من الحركة وتموج الإشراق فيهم للفيضان على أطراف الدائرة ثم يبدو له فيرجع ، وإنما يدرك بمزيد تكرر اللفظ وإحداده مرة بعد أخرى مع مصاحبة التأمل فى هيئة اجتماعهما ، وهل كانت كذلك فى الطرفين معا أم لا ، فلهذا مثل لهذا بقوله : وذلك (كقوله والشمس كالمرآة فى كف الأشل) ولا يخفى ما فيه من التفصيل فى وجه الشبه الذى لا يدرك إلا بعد إمعان النظر والتأمل فى تحقق مجموع الكيفية فى الطرفين ، وقد تقدم بيانها كما أشرنا إليها آنفا فيكون بالحاجة إلى الإمعان والتأمل غريبا ؛ لأن الإمعان والتأمل ليس إلا للخواص دون العامة أهل المجازفة ، فإن قيل الحاجة إلى إمعان النظر فى مثل هذا ظاهرة ؛ لأن النظر الأول أو ما يجرى مجراه مما لا إمعان فيه ، ولو تكرر إنما يدرك الجملة أو ما هو كالجملة فى الوضوح كما تقدم ، وأما الحاجة إلى التأمل فإنما هو فى العقليات لا فى الحسيات (قلت) يكفى فى نفى الابتذال الحاجة إلى تدقيق النظر وزيادة ذكر التأمل فى مثل ما ذكر ؛ لأن تحقيق تلك الهيئة الاجتماعية فى الطرفين ونفي احتمال أن تكون فى أحدهما أنقص أمر عقلى وإن أسند إلى الحاسة ، فيسمى الحكم به تاما لتوقفه على الإمعان بالحاسة كتوقف غيره على نظر فليتأمل.

(أو ندور) عطف على قوله : لكثرة أى : خفاء الوجه الموجب للغرابة إما لما فيه من كثرة التفصيل ، وإما لندور أى : قلة (حضور المشبه به) فى ذهن المتكلم ، فإن ندورة الحضور تستلزم عدم إدراك تقرر الوجه فى المشبه به على وجه الكثرة ، بمعنى أن اتصاف المشبه به لا يتصور حيث ندر حضوره إلا نادرا إن أدرك فيه ، وإذا لم يتصور اتصافه


بالوجه إلا نادرا أو لم يتصور أصلا امتنع الانتقال بسرعة عند روم التشبيه بذلك الوجه إلى المشبه به ، وإذا امتنع الانتقال بسرعة لم يكن التشبيه مبتذلا ، وذلك لما هو ظاهر من أن ما يحصل الانتقال فيه بسرعة لظهوره لذاته تشارك فيه العامة والخاصة ، وما لا سرعة فيه لعدم ظهوره لذاته تختص به الخاصة فلا يكون مبتذلا ، وقد تقدم نحو هذا غير ما مرة ، ثم ندرة حضور المشبه به (إما) أن تحصل (عند حضور المشبه) وذلك (لبعد المناسبة) بين المشبه والمشبه به لكونهما من جنسين بعيدى الالتقاء فى مكان واحد ، فإنه أخص فى الذهن من معنى تسارعت النفس إلى استحضار ما يعتاد تلاقيه معه فى المعانى وما تألف اجتماعه معه فى المتخيلة لتقارنهما فيها كما تقارنا خارجه ، أو يزاحم ذلك الحاضر المعتاد غيره فلا ينتقل الذهن إلى ذلك الغير إلا بعد الاتساع فى الأفكار فتنتفى سرعة الانتقال الموجبة للابتذال فيكون التشبيه غريبا ، وذلك (كما مر) أى : كالتشبيه الذى مر فى قوله (١) :

ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار فى أطراف كبريت

فإن لا زوردية وهى البنفسجة شبهت بالنار فى أطراف الكبريت ، ومعلوم أن الذى ينتقل إليه بسرعة عند حضورها هى الأزهار والرياحين التى هى من جنسها لا النار فى أطراف الكبريت وإن كانت بنفسها كثيرة الوقوع ، وقد تقدم تحقيق ما فى هذا التشبيه ، ولما كان الانتقال من البنفسج إلى النار المذكورة بعد التأمل والاتساع فى المدارك كان التشبيه غريبا ، فإن قيل لعل الشاعر حضرا عنده حال التشبيه فلا يكون الانتقال غير سريع ، فيكون التشبيه غير غريب بالنسبة إليه ، (قلت) المراد ببعد الانتقال الموجب للغرابة أن يكون الشأن كذلك فى الشيء ولو اتفق الانتقال بسرعة لعارض ،

__________________

(١) البيتان لابن المعتز ، أوردهما في التبيان (١ / ٢٧٣) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ، والعلوى فى الطراز (١ / ٢٦٧) ، واللازوردية : البنفسجة نسبة إلى اللازورد ، وهو حجر نفيس ، وعقود الجمان (٢ / ٢١).


فيمدح التشبيه لذلك لأنه لا يصح الانتقال فيه ممن لم يعرض له ذلك العارض إلا بروية وبصيرة ، وقد تقدم ما يشبه هذا ، فافهم.

(وإما) أن تحصل تلك الندرة أعنى ندرة المشبه به حصولا (مطلقا) أى : من غير تقييد بوقت حضور المشبه ، وتحصل الندرة على وجه الإطلاق (لكونه) أى : المشبه به أمرا (وهميا) كما تقدم فى تشبيه السهام المسنونة الزرق بأنياب الأغوال ، فإن أنياب الأغوال كما تقدم وهمية أى : يفرضها الوهم ، إذ لا وجود لها خارجا ، ومعلوم أن ما لا وجود له خارجا لا يستحضره إلا المتسع فى المدارك فى بعض الأحيان ، فيكون إدراك تعلق وجه الشبه نادرا غير مألوف فلا ينتقل عند روم التشبيه إليه بسرعة ، وإن كان تعلقه بالمشبه ظاهرا ؛ لأن العبرة فى الغرابة وعدمها إنما هو بسرعة الانتقال إلى المشبه به وعدمها لا العلم بالوجه فى المشبه ، فإذا كان تعلقه بالمشبه به نادر الإدراك لندرة إدراكه بنفسه جاء التشبيه غريبا لعدم سرعة الانتقال من كل أحد أو لعدمها أصلا ، (أو) لكون المشبه به (مركبا خياليا) كما مر أيضا فى تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، فإن التركيب الخيالى لا وجود لصورته خارجا فلا يعهد ، فيكون الشأن فى إدراكه الندور ، ويلزم منه ندرة إدراك تعلق الوجه به أو عدمها قبل التشبيه ، فيكون الانتقال بعد الاتساع واستعمال الفكرة ، فيكون غريبا على ما قررناه فى الوهم ، (أو) لكون المشبه به (مركبا عقليا) كما مر فى تشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا فإن المراد بالمثل القصة كما تقدم ، والقصة اعتبر فيها ـ كما تقدم ـ كون الحمار حاملا لشيء وكون المحمول أبلغ ما ينتفع به ، وكونه مع ذلك محروم الانتفاع به ، وكون الحمل بمشقة وتعب ، وهذه الاعتبارات المدلولات للقصة عقلية وإن كان متعلقها حسيا ، ويحتمل أن يكون سماه مركبا عقليا باعتبار الوجه ـ كما تقدم ـ وإنما ندر حضور المركب مطلقا ؛ لأن الاعتبارات المشار إليها فيه لا يكاد يستحضرها مجموعة إلا الخواص ، فيجرى فى تعلق الوجه ما ذكر مما يوجب عدم سرعة الانتقال فيكون غريبا وقوله : (كما مر) عائد إلى الوهمى والخيالى والعقلى ـ كما قررنا ـ وأشار بذلك إلى الأمثلة التى ذكرناها ، وقد جعل المصنف ندرة حضور المشبه به موجبا للغرابة على


الإطلاق ظاهره ولو كان الوجه جمليا لا تفصيل فيه وهو كذلك ، وإلا لم يكن علة مستقلة للغرابة ، وبهذا يعلم أن قوله فيما تقدم فى الابتذال لكونه أمرا جمليا أكثرى لا كلى ، ولكن ينبغى تقييد غرابته بأن يكون الوجه مخصوصا بنادر الحضور مع المشبه ، وأما إن كان يوجد فى غيره لم تفد ندرة حضوره غرابة كما لا يخفى ، (أو لقلة) عطف على قوله : لكونه وهميا ، يعنى أن ندرة الحضور إما لكونه وهميا إلى آخر ما تقدم ، وإما لقلة (تكرره) أى : تكرر المشبه به (على الحس) المتعلق به من بصر أو غيره ، ولم يقل لعدم تكرره على الحس ؛ لأن المشبه به فيما مثل به لا دليل على عدم تكرره على الحس ، وهو المشار إليه بقوله : (كقوله والشمس كالمرآة) فى كف الأشل ، فإن المشبه به وهو المرآة فى كف المرتعش يجوز أن لا ترى أصلا ، وعلى تقدير رؤيتها فى كفه فلا تتكرر ، وعلى تقدير تكررها فالمحقق هو قلة التكرار لا عدمه ، ويحتمل أن يريد بقلة التكرار على الحس عدمه ، بمعنى أنه على تقدير وجودها لا يوجد لها تكرر أصلا ، ولكن المحقق نفى الكثرة لا نفى مطلق التكرر ، وإنما قلنا إن ذلك المحقق لأنا نجزم بأن الكثير من الناس تمضى أعمارهم ولا يتفق لهم شهودها فى كفه أصلا ، فضلا عن كثرة التكرار ، فلو كثر التكرار كثر المدركون ، إذ من لازم كثرة التكرار عادة كثرة المدركين للمتكرر ، وهذا بخلاف الوهمى والخيالى والعقلى فإنها لا تحس أصلا ، وبهذا يعلم أن عطفه على ما قبله ليس من عطف الخاص على العام ، وإنما قدم ما قبله عليه لأنها فى الندرة أقوى لعدم إحساسها أصلا ، ف (إذا كان التشبيه المتعلق بالمرآة فى كف الأشل غريبا لوجود التفصيل فى الوجه فيه ـ كما تقدم ـ غريبا لندرة حضور المشبه به فيما ذكر كانت (الغرابة فيه من وجهين) وهما كثرة التفصيل وندرة الحضور ، وذلك ظاهر ، وقد قررنا وجه اقتضاء كثرة التفصيل لغرابة التشبيه ، ووجه اقتضاء ندرة الحضور لها بما أغنى عن إعادته ، وربما يتخيل عند الغفلة عما تقدم أن ندرة الحضور للمشبه به لا تستلزم ندرة حضور الوجه ، لجواز كونه أعم ، ولا يلزم من ندرة الأخص ندرة الأعم حتى يلزم عدم سرعة الانتقال فى التشبيه عند تصور الوجه فى المشبه ، وإذا لم يلزم عدم السرعة لم تلزم الغرابة ندرة الحضور ، والجواب ما قدمناه من أن ندرة حضور المشبه به


إنما تستلزم الغرابة إن اختص بالوجه دون ما يطلب أن يشبه به أو لم يختص به ، ولكن إنما يوجد فى مثله فى الغرابة فلا يقع التشبيه حتى يحصل التأمل ، وأما إن وجد فيما لا يندر حضوره كان العدول إلى نادر الحضور مع ابتذال الوجه ووجوده فى غيره عديم الفائدة ، فلا يكون مما يستحسن ولا يدخل فى جملة الغريب ، فإنك لو قلت : والشمس كالمرآة فى كف الأشل فى كونها جرما وكالجبل فى كونه جرما لم يكن فرق بين التشبيهين فى الابتذال والقبح كما لا يخفى ، وأما الجواب بأن الوجه مؤخر عن الطرفين ؛ لأنه هو الجامع لهما ، ولا يقال ما الجامع بين هذين حتى يتصورا ، فلا يطلب هو حتى يوجدا ويحضرا ، فإذا حضرا وكان المشبه به غريبا منهما كان الإلحاق به بذلك الوجه غريبا أيضا ، لتبعيته للمشبه به فى طلبه ؛ لأن التابع لإدراك الغريب غريب الإدراك ، فلا يتم إلا إذا رد لمثل ما ذكرنا بأن يكون المعنى أنا لما احتجنا إلى المشبه به فلاختصاصه بالوجه دون ما يطلب التشبيه به كانت ندرته ندرة لما يختص به ، أو يختص به مع ما هو مثله فى الغرابة ، وإلا فيرد عليه أن يقال أول ما يخطر بالبال المشبه ويحضر معه الوجه الذى أريد التشبيه بوجوده ، فإذا أحضرنا مشبها به غريبا وطلبنا وجود الوجه فيه بعد وجوده وكان ذلك الوجه موجودا فى غيره مما يبتذل ، لزم قطعا كون التشبيه مبتذلا ، فالحكم بثبوته للطرفين ولو تأخر عنهما لا يوجب الغرابة ، ولو كان أحدهما غريبا وهو المشبه به الذى اشترط فيه ذلك ، إلا إن كان الوجه مختصا به كما مثلنا ، وإلا كان أعم فلا يلزم من غرابته غرابة تابعة ، فلا يكون مما لا فائدة لغرابته ، بل يزيد التشبيه نفرة وبرودة كما بيناه فى المثال السابق ، وليتأمل ولا يقال إدراكه فى المشبه يزيل غرابته ؛ لأنا نقول لا يزيلها من حيث تعلقه بالمشبه به الذى هو مناط الانتقال ، فهو غريب من تلك الحيثية ، (والمراد بالتفصيل) المحكوم عليه هنا بإيجابه حسن التشبيه ونفى الابتذال أن بوجود متعدد انفصلت حقيقة بعضه عن بعض فى نفس الأمر وإن اعتبر المجموع شيئا واحدا ، وذلك يتحقق ب (أن ينظر فى أكثر من وصف) واحد فيجعل وجه شبه ، وذلك الأكثر المجعول وجه شبه يكون وصفا لشيء واحد شبه بغيره كالوجه فى الثريا المشبهة بالعنقود ، فإنه أشياء ـ كما تقدم ـ اعتبر تضامها من شكل أجزائها ولونها ومقدار


مجموعها وهو شيء واحد ، ويكون وصفا متعلقا بأكثر إما اثنان كالوجه فى مثار النقع مع الأسياف ، فقد اعتبرت فيه أوصاف تضامت والتأمت من لون الغبار ، والسيوف ، وحركات السيوف المختلفة ، وشكلها من استقامة ، واعوجاج على ما تقدم ، وإما أكثر من اثنين ثلاثة فما فوق كالوجه فى قوله تعالى : (" كَماءٍ أَنْزَلْناهُ"*) الآية فإنه متعلق بأكثر على ما بينه قريبا ، ثم ذلك التفصيل يقع على أوجه كثيرة ، بمعنى أن لك أن تعتبر فى الأوصاف وجودها كلها كما ذكر فى المثالين ، ولك أن تعتبر عدمها كلها كتشبيه وجود عديم النفع بالعدم فى نفى كل وصف نافع ، ولك أن تعتبر وجود البعض ونفى البعض كما يشبه به فى تشبيه سنان الرماح بسنا لهب ، ثم اعتبار الوجود إما على ما تقدم من اعتبار أوصاف مختلفة من غير رعاية شيء آخر ، وإما على معنى اعتبار جنس فأكثر مع اعتبار خصوصية فى جنس منها كما فى تشبيه عين الديك بشرر النار فى المقدار ، والشكل ، والحمرة ، فإنك لا تريد جنس الحمرة فقط بل تعتبر فيها خصوصية بها حسن التشبيه ، أو جنسين مع خصوصيتين كما فى تشبيه الشمس بالمرآة فى الاستدارة والاستنارة ، فإنك لا تريد مطلق الاستنارة والاستدارة بل مع خصوصية كل منها فى المرآة ، ثم اعتبار العدم إما عدم كل وصف ـ كما تقدم ـ وإما عدم وصفين مخصوصين كتشبيه زيد بعمرو فى عدم الإعطاء ، وعدم النصح ، أو عدم وصف واحد كتشبيهه به فى عدم النصح فقط ، وكذا اعتبار البعض عدما والبعض وجودا إما أن يكون العدم عدم وصف واحد ، أو عدم وصفين إما مع مطلق وجود الوصف أو مع وجوده ووجود خصوصية ما إلى غير هذا مما يقدر فى التفصيل ، وإلى هذا أشار بقوله : (ويقع) ذلك التفصيل (على وجوه كثيرة) ، ثم بين أحسنها بقوله : (أعرفها) أى : أعرف تلك الوجوه ، بمعنى أشدها قبولا عند أولى المعرفة الحسنة (أن تأخذ) فيما تعتبر (بعضا) من الأوصاف (وتدع بعضا) منها ، بمعنى أنك تجعل وجه الشبه وجود بعض الأوصاف مع عدم البعض ، فتدخل العدم فى الوجه ، وذلك (كما) أى : كالوجه (فى قوله : حملت ردينيا) (١) أى : رمحا منسوبا لردينة امرأة كانت تصنع الرماح وتجيد صنعها ، (كأن

__________________

(١) البيت لامرئ القيس ، وليس فى ديوانه وهو فى الإشارات ص (١٩٦) ، ويروى (مختلط) بدلا من (يتصل) الردينى : ـ الرمح المنسوب لامرأة تسمى ردينة اشتهرت بصناعة الرماح ، وعقود الجمان (٢ / ٢٩).


سنانه) أى : حديدته (سنا) أى : ضوء (لهب) وهى النار ، وإضافة السنا إلى النار من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أى : كأنه اللهب المشرق بسنا أى : المضيء ، فأطلق السنا وأراد به معنى المتصف بالإشراق ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن المشبه به هو اللهب باعتبار شكله ، ولونه ، واتصاله بالعود وعدم اتصاله بلون سواه ، ولو قصد التشبيه بالسنا فات اعتبار هذه الأوصاف ، إلا أن تكون تبعا ومع ذلك يحتاج إلى تقدير المضاف فى السنان أى : كأن إشراق سنانه ، والأصل عدم التقدير ، ثم لما تنبه الشاعر لكون الأصل المشبه به لا يتم التشبيه به إلا بإسقاط وصف كان فيه وبه يتحقق التشبيه بينه وبين سنان الرمح ، وهو اتصاله بالدخان شرط عدم اتصاله بالدخان فقال : (لم يتصل) ذلك اللهب (بدخان) وبالحاجة إلى هذا التنبيه كان هذا الاعتبار من أعرف وجوه التفصيل ، فقد اعتبر وجود الشكل ، واللون ، وعدم الاتصال بذى لون الإظلام ، ويزاد هنا لزيادة الطافة ما ذكرناه من اتصاله بالعود ، فإن فيه إشارة إلى أنه فى الطرفين لا يعتد بوجودهما إلا به ، ولو زيد أيضا قوة تأثير كل منهما فى تفريق الأجزاء وإهلاك ما يتصلان به كان زيادة فى الدقة ، وظاهر كلام المصنف أنه إن اعتبر فى الوجه عدم بعض الأوصاف كان أعرف ، حتى إذا قيل مثلا : " زيد كعمرو" فى مجموع الجبن وعدم الكرم كان دقيقا أعرف وليس كذلك ، بل إنما يكون أعرف إن كان فيما قصده الشاعر دقة تحتاج إلى مزيد تنبيه كما قررناه ، وحينئذ يكون معنى الكلام أن التفصيل المعتبر يزداد حسنا واعتبارا عند تدقيق النظر فى إسقاط بعض الأوصاف ، وذلك لأن الأقرب مناسبة اجتماع وجودات لا اجتماع وجود وعدم ، فليتأمل.

(و) من أعرفها أيضا (أن يعتبر الجميع) أى : أن يعتبر الوجود فى جميع الأوصاف ، وذلك (كما) أى : الوجه (فى تشبيه الثريا) بعنقود الملاحية المنور ، فإن المعتبر فيه وجود اللون الكائن فى الأجزاء ، والشكل الكائن فيها ، والوضع لأجزائها ، وكون المجموع على مقدار مخصوص كما تقدم ، وهذا أيضا إنما يكون أعرف إن اعتبر هيئة تحتاج إلى تنبه وتدقيق نظر كما فى المثال ، وإلا فلا أعرفية كما لو قيل زيد كعمرو فى


هيئة اجتماع الحيوانية والوجود والإنسانية ، ولكن هذا القصد يحرزه الباب بالمثال المشعر بأن الكثرة الموجبة للدقة فى التفصيل لا بد أن تكون كما مثل مما يحتاج إلى تأمل ، وزاد غير المصنف فى الأعرفية أن تعتبر الخصوصية فى الجنس إذا كانت دقيقة كما فى تشبيه عين الديك بالشرر باعتبار الحمرة المخصوصة ، وظاهره أن غير ما ذكر لا أعرفية فيه ، والصواب هو أن ينظر فى الدقة فهى المرجع فى الحسن والأعرفية حيث كانت (وكلما كان التركيب) ، سواء كان حسيا نادرا كما فى المرآة فى كف الأشل ، أو كان خياليا كما فى أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، أو عقليا كما فى مثل الحمار يحمل أسفارا ، (من أمور أكثر) أى : وكلما ازداد تركيب وجه شبه فى تشبيه (كان) ذلك (التشبيه أبعد) عن الابتذال لبعد تناوله حينئذ عن مطلق الناس ، وإنما يتفطن الأذكياء ، وذلك بشرط كون التفصيل فيه دقة وغرابة كما تقدم ، فإذا كان بهذا القيد فكلما كثر ازداد غرابة ، كما فى قوله تعالى : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(١) فإن الوجه يؤخذ من هذه الجمل كلها فيحتاج إلى مزيد نظر فى تتبعها وفى كيفية أخذ الوجه منها ، فتكون هيئة تركيبية غاية فى اللطافة والغرابة ، حيث يراعى فيها أن مثل الحياة الدنيا شبهت بحال نبات كان له سبب هو المطر ، وأن ذلك النبات تم إلى حيث اختلط واشتبك من كل نوع مما ينفع الناس والأنعام ، فصار بحيث ينال منه المقصود ويعجب ، وذلك بسبب تمام سببه العادى وهو المطر ، وبلوغ النهاية فى نعيمه وكماله ، وأنه حينئذ تزينت به الأرض وظن أهل الأرض أنهم يبلغون به المرام ، وأعجبهم ، وأنهم بعد تمامه وإعجابه فاجأ أهله أمر الله فيه من ضر أو غيره ، فصار يابسا مضمحلا ذاهبا كأن لم يعجب بالأمس ، فيأخذ الهيئة من مجموع ما ذكر على هذا الترتيب ، وهو كون الشيء يبتدى ضعيفا بسبب عادى ثم لا يزال يزداد حتى يكون معجبا ، بحيث يغتر به من رآه ، ويرى تمكن الانتفاع ثم يطمئن إليه ، وأنه بعد الاطمئنان إليه يصيبه عاجلا ما

__________________

(١) الكهف : ٤٥.


يقطعه ويجتثه عن أصله ، بحيث يكون كالعدم ، فيفهم أن العاقل لا يغتر بما كان مثل ذلك ، (و) التشبيه (البليغ) والمراد به هنا الذى يتخاطب به أذكياء البلغاء ويستحسنونه فيما بينهم ، وليس المراد بالبليغ ما كان مطابقا لمقتضى الحال ، فإن المبتذل قد يطابق مقتضى الحال لسوء فهم السامع (ما كان من هذا الضرب) الذى هو البعيد الغريب وتتفاوت مراتبه فى ذلك البعد لا ما كان من الضرب الذى هو القريب المبتذل ؛ وإنما كان ما هو من هذا الضرب الغريب بليغا (لغرابته) فلا يطلع عليه إلا الأذكياء ، فلا يتخاطب به غيرهم إلا أخذا عنهم تقليدا ، والأمر المختص بالخواص يعد بليغا حسنا لعدم مشاركة العامة فيه ، وكان أيضا ما هو من هذا الضرب بليغا لكمال لذاذته ؛ لأنه لا ينال إلا بعد التأمل والطلب ، بخلاف المبتذل فهو يتمكن كل أحد منه بلا طلب وتأمل فلا يحصل الشوق إليه ، وما لا يطلب بالشوق لا كمال لذة فيه ، (و) إنما قلنا كذلك (ل) ما علم (أن نيل الشيء بعد الطلب ألذ) من نيله بلا طلب ، ووقوعه فى النفس ألطف من وقوع غير المطلوب ، ولذلك يمثل بالماء البارد على الظمأ الذى هو ألذ المحسوسات بجامع الاتصال بعد الشوق ؛ وذلك لأن حصول ما تقوى الشوق إليه فيه لذة حصوله لحسنه لذاته ولذة دفع ألم الشوق إليه ، بخلاف ما يحصل بلا طلب وإن كان شريفا فى نفسه ليس فيه إلا لذته ، وقولهم يستحسن كذا لكونه كحصول نعمة غير مرتقبة لا يتقضى كونه أحسن من الحاصل بعد الشوق ، نعم ، إن كان حصوله بعد الإياس والطلب فهو أعظم لاشتماله على دفع ألم الإياس والطلب ، وهو أعظم من الشوق ، فإن أريد هذا كان أشد فى مقامه من المطلوب ، والتعليلان متلازمان عرفا ؛ لأن الغريب لا ينال عرفا إلا بعد الطلب ، والمنول بعد الطلب لا يكون عرفا إلا غريبا ولو كان مفهومهما مختلفا ، ومتى حضر أحدهما دون الآخر صح تعليل البلاغة المرادة هنا به ، فإن قيل قد قررتم بهذا أن التشبيه كلما كان فيه مزيد حاجة إلى التأمل عند قصد إيجاده من المتكلم ، وإلى التأمل من السامع فى إدراك وجود الوجه فيه حيث ذكر ، أو فى فهمه إن لم يذكر ، ازداد حسنه وترقى فى مراتب القبول ، وقد تقرر أن صعوبة الفهم من التعقيد اللفظى والمعنوى وكلاهما مخل بالفصاحة ، فكيف تعد صعوبة الفهم من باب


الحسن والقبول؟ فالجواب أن الحاجة إلى التأمل التى سميتها صعوبة الفهم إن كان سببها دقة المعنى المراد كالوجه فى تشبيه منقار البازى بالجيم التى وضعها الأعسر ، على شرط أن تكون بحيث لو زيد عليها العين والفاء والراء صار جعفرا ـ كما وقع فى شعر أبى نواس ـ فإنه غاية فى اللطافة ، إذ يفهم من هذا الشرط أن المراد الجيم التى لم تعرق ، مع أن التفطن لوجود الهيئة بما بين منقار البازى وتلك الجيم ، تفطن لأمر دقيق ، فهذا لا يخل بالفصاحة ؛ لأن سلوك العقل سبل الدقائق لفهمها ليس عنده أحلى منه ، فكيف يستقبح ولو كان فيه مشقة ما ودقة المعانى تتصور فى الحقيقة كالتشبيه ، وتتصور فى المجاز على ما يأتى ، وكذا إذا كان سبيلها رعاية الترتيب وفى المرتب بعد ، فيحتاج العقل إلى التمهل فى إدراك المرتب على ما هو ، فيجعل الأول أولا والثانى ثانيا إلى آخرها ، فإذا اجتمعت تلك المعانى على ترتيبها رد اللاحق فيها إلى السابق والثانى إلى الأول إن احتاج إليه لحكمة إما لأخذ الغرض منه كالوجه المركب كما تقدم فى ترتيب جمل الآية الكريمة فى قوله تعالى : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ*) إلى آخر الآية ، فإن الترتيب كذلك ينبغى أن يكون ، فلما رد العقل لاحقها لسابقها أى : اعتبره معه على ترتيبها ، أخذت الهيئة التى هى الوجه على ذلك الترتيب كما تقدم ، ولو لا اعتبار رد معنى بعضها إلى بعض بضرب من المناسبة لاختلت الهيئة ، إذ لو أخذت من البعض لم تكمل الهيئة ، ولو رد بعضها إلى بعض لا على طريق المناسبة كأن تجعل الهيئة مبنية أولا على حالة الماء لا النبات ـ لم تحسن كما لا يخفى ، وترتيب الآية لموافقة الواقع فى غاية الحسن فأحوج ذلك إلى تأمل فى ابتداء الهيئة من جهة النبات لتكمل وذلك ظاهر ، وإما لأن المناسبة بنفسها بين تلك المعانى مطلوبة لذاتها لا لأخذ شيء منها فيرد فيها السابق للاحق ، فإن المعانى الشريفة إذا اجتمعت لا تخلو من حكمة المناسبة ، وانظر إلى قوله (١) :

دان على أيدى العفاة وشاسع

على كل ند فى الندى وضريب

__________________

(١) البيتان للبحترى فى شرح عقود الجمان (٢ / ٦) ، وأوردهما محمد بن على الجرجانى فى كتابه الإشارات والتنبيهات ص (١٧٢) منسوبين للبحترى ، وفى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (١٨٩) والعفاة : جمع عاف وهو طالب الفضل أو سائل الرزق.


كالبدر أفرط فى العلو وضوءه

للعصبة السارين جد قريب

فإنه لما وصفه بنهاية البعد وهو معنى الشسوع وبالقرب ألحقه بما يظهر فيه الأمران ، ويظهر فيه حسنهما لمناسبة بين المحلين وهو البدر ، يظهر شرف شسوعه بإفراط علو البدر ، وشرف دنوه بوصول ضوئه للسارين ، وهذا الحسن إنما أدرك بعد التأمل فى البيتين ، وعرض ما فى الثانى على الأول ، ورد لاحقهما لسابقهما ليعرف مقتضى كل منهما فى الآخر ، وهكذا المعانى الشريفة يعضد بعضها بعضا ، ويلائم أولها آخرها ، فإذا كان سبب الحاجة إلى التأمل رد الآخر لما قبله وعرضه عليه لم يكن ذلك مما يخل بالفصاحة ، فإن الآى القرآنية فيها مناسبة دقيقة ، وليس طلب إدراكها مما يعاب أصلا ، إذ ليس من التعقيد ، وإن كانت تلك الحاجة بسبب سوء الترتيب فى اللفظ أو بسبب خلل فى الانتقال من الملزوم إلى اللازم كان من التعقيد المنهى عن ارتكابه ، فقد تبين بهذا أن الحاجة إلى التأمل فى رد السابق إلى اللاحق والثانى إلى الأول لحكمة إدراك حسن المناسبة مع صحة الترتيب ، أو لحكمة ما يترتب على المناسبة من أخذ هيئة لا تستقيم إلا بفهم تلك المعانى على ترتيبها وتناسبها ورد بعضها إلى بعض ـ ليست من العيب فى شيء ، وكذا لطف المعنى ودقته ، ومن المعلوم أن رعاية المناسبة من جزئيات دقة الإدراك ولو شرط فى الحسن انتفاء الدقة وانتفاء حسن الترتيب المحوج إلى التأمل ما تفاوتت البلغاء ، ومن الدليل على ذلك أنهم عدوا من محاسن الكلام ما فيه اللف والنشر ، مع الحاجة فى فهم المراد منه إلى التأمل فى رد اللاحق للسابق فيه ، ورد الثانى وما يجرى مجراه إلى الأول وما يجرى مجراه فيه ؛ إذ لا يفهم غالبا بلا تأمل ، لكن لما كان الترتيب فيه غير مختل حسن وعد من البديع الذى لا يخل بالفصاحة بل يزيدها حسنا كقوله :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العناب والحشف البالى (١)

وقوله :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدّا وردفا

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٣٨) ، والإشارات ص (١٨٢) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٥).


ولا أعظم شاهدا فى ذلك من قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١) إلى غير ذلك ، وكثيرا ما تكل العرب المعنى إلى تأمل السامع ، فليس كل ما احتيج فيه إلى تأمل كان منهيا عنه ، فافهم.

ولما بين المصنف أن المبتذل هو الذى يكون ظاهر الوجه عند كل أحد ، وأن الغريب هو الذى لا يدركه ابتداء فى الغالب إلا الخواص ؛ أشار إلى أن الابتذال قد يتخلف عن ظهور الوجه فيصير التشبيه فيه غريبا لمانع هو وجود تصرف زائد فيه ، بأن يشترط فى تمام التشبيه وجود وصف لم يكن ، أو انتفاء وصف كان ، ولو كان ادعاء بشرط أن يكون ذلك على وجه دقيق فيصير بذلك التصرف مخصوص الإدراك بالخواص ، فيخرج عن معنى الابتذال إلى الغرابة ، فقال : (وقد يتصرف) فى التشبيه (القريب) المبتذل (بما) أى : بتصرف (يجعله) أى يجعل ذلك المبتذل (غريبا) خارجا عن الابتذال (كقوله (٢) :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيه حياء

فإن مضمون البيت أن وجه المحبوب المشار إليه لا يتصور من الشمس أن تلقاه بحيث يراها وتراه ـ لو كان لها عينان ـ إلا بانتفاء الحياء عنها ، وأما لو كان لها حياء لم تستطع أن تلقاه ، ففى هذا الكلام تنزيل الشمس منزلة من يرى ويستحى ، ولا شك أنه تقرر عرفا أن تغييب الإنسان وجهه عن وجه غيره حياء يكون لأحد أمرين إما لذنب عمله فاستحيا من الملاقاة خوف اللوم ، وإما لظهور قبحه بين أعين الناس عند رؤيتهم لوجه الحاضر ؛ لأنه لا مناسبة بينهما فى الحسن ، فيظهر وجه المستحى كالعورة بالنسبة إلى وجه المستحيا بين يديه ، فيقال : لا تلق فلانا إلا إن لم يكن فى وجهك حياء لإساءتك ، أو لظهور قبح وجهك عند الحاضرين بالنسبة لحسن وجهه ، والمعنى الأول هنا وهو الإساءة منتف فتعين الثانى وهو أن حسن وجه المحبوب فاق وجه الشمس المعلوم بالحسن ، وزاد عليه زيادة أوجبت كون وجه الشمس بين يديه وعند ظهوره

__________________

(١) القصص : ٧٣.

(٢) البيت للمتنبى فى الإيضاح ص (٢٣٨) ، وعقود الجمان (٢ / ٣٠).


كالعورة ، يستحى منه صاحبه بين يدى هذا الوجه ، ولما علم وجود الحسن فى وجه الشمس من العادة لتشبيه الوجوه الحسان به ـ استفيد من الكلام أنه استشعر تشبيهه بالشمس ؛ حيث ذكر حسن الوجه معه على العادة ، لكن منعه من التشبيه شدة البعد عن الشمس حتى صارت لو كانت ممن يستحى لم تظهر بين يديه ، فها هنا تشبيه منع من تمامه مانع الزيادة فى الحسن زيادة بلغت النهاية ، فكأنه يقول : هذا الوجه كالشمس فى أصل الحسن فيصح تشبيهه بها ، لو لا أنه زاد عليها زيادة أوجبت لها كونها بحيث تستحى أن تحضر بين يديه ، ولا شك أن هذا المعنى المستفاد من حديث الحياء غاية فى الدقة ، فالتشبيه على هذا ضمنى ، ويحتمل أن يكون المعنى لم تلقه ملاقاة مقايستها نفسها به ، ومعارضتها إياه فى الحسن بأن تدعى أنه كهى ، أو أنها كهو إلا بعدم الحياء ، فيكون التشبيه كالصريح ، وقد شرط فيه انتفاء هذا المانع الذى هو زيادته عليها زيادة أوجبت كونها بحيث لا يتصور لها ذلك إلا بنفى الحياء إن كانت ممن يستحى ، ومثل ذلك بقوله :

إن السحاب لتستحى إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها (١)

ولو جعل التشبيه فى الوجه معكوسا ـ وهو الأنسب لهذه المبالغة ـ لأفاد مع تلك المبالغة هذا المعنى ، فتحصل من هذا أنه شبه الشمس بالوجه عكسا للتشبيه ، أو شبه الوجه بالشمس على الأصل ، وشرط فى تمامه وصحته انتفاء مانع لهذا التشبيه ، وهو الزيادة الكثيرة الموجبة لكون المزيد عليه بحيث يستحى أى يحضر بين يدى الزائد فى الحسن ، وإذا فهم ما قررناه ظهرت مطابقة هذا الكلام لما قررناه أولا من أن هنا تشبيها ووجها شرط فى صحته وتمامه انتفاء وصف اعتبر فيه وهو بلوغه النهاية ، ولو كان اعتباره ادعاء ، وإدراك الوجه على هذه الحالة غريب ، أى : إدراك الحسن المشترك بين الشمس والوجه ، على شرط أنه إنما يتم التشبيه به لو فرض فيه انتقاص منه فى ذلك الوجه غريب ، فيكون نفس التشبيه غريبا باعتباره وظهرت موافقته لما بعده من أن التصرف فيه يرجع إلى شرط انتفاء وصف كان ، أو ثبوت وصف لم يكن ، فلا يرد أن

__________________

(١) البيت لأبى نواس فى الإيضاح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ص (٢٣٩).


يقال الغرابة إنما تكون من جهة وجه الشبه ، ومعلوم أنه ليس هنا تصرف فى وجه الشبه حتى يكون التشبيه به غريبا ؛ وإنما هنا ادعاء أن هذا الوجه فاق الشمس فى الحسن ، وأنها تستحى منه وغاية ذلك أن يكون من التشبيه المقلوب ، ثم هذا على أن هنا تشبيها ، ونحن لا نسلم أن هنا تشبيها أصلا ؛ إذ لا أداة لفظا ولا تقديرا ؛ وإنما يرد لما بينا من أن التشبيه ضمنى هنا أو كالمصرح به ، وأن الوجه كان ، إلا أنه شرط فى تمام التشبيه به نقصان شيء منه ؛ سواء كان التشبيه المعتبر فى ذلك مقلوبا أو لا ، فتأمله.

فإن الموضع من السهل الممتنع ، ثم أتى بمثال آخر لما فيه تصرف مخرج عن الابتذال ، فقال : (و) ك (قوله : عزماته) (١) أى : عزمات الممدوح بمعنى إراداته المتعلقة بمعالى الأمور (مثل النجوم) حال كون النجوم (ثواقبا) أى : نوافذ فى الظلمات بإشراقها من الثقوب وهو النفوذ ، وسمى لمعان النجوم ثقوبا لظهورها به من وراء الظلمة فكأنها ثقبتها ، ولذلك فسرت الثواقب باللوامع ، وتشبيه العزم بالنجم فى الثقوب الذى هو فى العزم بلوغه المراد أمر مشهور معلوم ؛ ولكن ادعى أن مع ثقوب الإرادة وصفا زائدا وهو عدم الأفول أى : عدم الغيبة ، بل هى دائمة الظهور ، فكأنه قال هذا التشبيه بين الطرفين تام لو لا أن المشبه اختص بشيء آخر عن المشبه به ، وإليه أشار بقوله : (لو لم يكن لل) نجوم ال (ثاقبات أفول) وجواب لو محذوف أى : لتم التشبيه ومن المعلوم أن الثقوب فى الطرفين تخييلى ، وأصله المجاز ، واختل فى أحدهما بانتفاء الوصف اللازم له فى المحل الآخر ، ولا شك أن إدراك هذا الوجه على هذا الشرط غريب ، فالتشبيه به غريب (ويسمى) مثل (هذا التشبيه) التشبيه (المشروط) لتقييد الوجه فى المشبه ، أو المشبه به ، أو كليهما بشرط وجودى أو عدمى يدل عليه بصريح اللفظ أو بسياق الكلام ، ومثال تقييد المشبه به ما ذكر المصنف ، وهو قوله : عزماته مثل النجوم إلخ ، فإنه قيد الوجه فى المشبه به بعدم أفول فلم يتم التشبيه بدونه ، ومثال تقييد المشبه ما لو عكس المثال فقيل : النجوم كعزماته لو لا أنه لا أفول لها ، ومثال تقييدهما معا ما لو قيل زيد فى علمه بالأمور إذا كان غافلا كعمرو فى علمه إذا كان يقظان ، ومثال

__________________

(١) البيت للوطواط فى الإشارات ص (١٩٨) ، والثواقب : السواطع ، والأفول : الغروب.


الشرط الصريح ما ذكر ، وغير الصريح ما لو قيل هذه القبة كالفلك فى الأرض ؛ لأن المعنى كالفلك لو كان بالأرض ، وكقولهم : هى بدر يسكن الأرض أى : كان البدر يسكن الأرض ، ولا يخفى أن المثال قبل هذا البيت قررناه بما ينخرط به فى سلك المشروط كهذا ، إذ كأنه على ذلك التقدير يقول : الشمس كهذا الوجه لو لا أن فيه زيادة خارجة عما يعتاد من الحسن بحيث تستحى أن تقاس به ، فافهم.

تقسيم التشبيه باعتبار الأداة

ولما فرغ من تقسيم التشبيه باعتبار الوجه أشار إلى تقسيمه باعتبار الأداة ، فقال : (و) التشبيه ينقسم أيضا (باعتبار أداته) انقساما آخر وهو أنه :

المؤكد

(إما مؤكد وهو) أى : المؤكد (ما حذفت أداته) أى : وهو المقيد بحذف أداته حذفا يعتبر معه تناسى التقدير ، وأما لو اعتبر معه التقدير كان المقدر كالمذكور ، فيكون فى الكلام تجوز الحذف ، فلا يفيد الكلام أن المشبه به جعل نفس المشبه صادقا عليه ، وإذا لم يفد ذلك لم يتحقق التأكيد ، فإن منشأ التأكيد جعل المشبه به نفس المشبه بالصدق عليه ، كقوله تعالى (١) : (وهى) أى : الجبال (تمر) أى : تذهب (مر السحاب) أى : مثل ذهاب السحاب ، فحذف المثل الذى هو المراد بالأداة هنا وجعل الكلام كالخالى عن تقديره ، ليفيد أن مرها نفس مر السحاب ، فأفاد التأكيد فى التشبيه ، حيث اعتبر فيه ما أوجب كون الملحق الذى هو الأضعف أصالة نفس الملحق به حتى صار صادقا عليه ، ولا يقال إذا اعتبر أنه أطلق عليه كان مجازا على ما يأتى ؛ لأنا نقول : شرط المجاز أن لا يكون الكلام على وجه يمكن معه التقدير وينبئ عن التشبيه ، وههنا يمكن التقدير إلا أنه جعل كالمتناسى ، والمجاز لا يتأتى فيه التقدير فتحقق فيه التناسى ، ومن يعتبر أن ما فيه إطلاق المشبه به على المشبه لا فرق فيه بين ما يمكن فيه التقدير وما لا يمكن فى تناسى الإلحاق وفى جعل المشبه به عين المشبه ادعاء يجعل هذا من قبيل المجاز ، ويمكن أن يقال : يكفى فى التأكيد كونه فى صورة المطلق على المشبه وكونه فى صورة

__________________

(١) النمل : ٨٨.


الذى جعل نفسه ، فإن لكون الشيء فى صورة الشيء تأثيرا فى كونه كهو فصيح التشبيه المؤكد ما حذفت فيه الأداة وجعل فيه المشبه نفس المشبه به ادعاء حتى صح إطلاقه عليه كالأول فأضيف إليه ، بل هو أوكد ؛ لأن الإضافة فيه تجعل بيانية وهى تقتضى الاتحاد فى المفهوم والمصدوق معا بخلاف مطلق الإطلاق فلا يقتضى الاتحاد فى المصدوق ، وذلك نحو قوله (١) : (والريح تعبث) أى : تلعب (بالغصون) أى : تميل الغصون المخضرة يمينا وشمالا وأعلى وأسفل ، (و) الحال أنه (قد جرى ذهب الأصيل) أى : الأصيل الذى هو كالذهب فى الصفرة (على لجين الماء) ، واللجين بضم اللام وفتح الجيم هو الفضة ، والتقدير على الماء الذى هو كاللجين فى الصفاء والإشراق ، وقد بينا أن التأكيد هنا مستفاد من جعل أحدهما نفس الآخر بحيث يطلق عليه ويضاف إليه إضافة البيان ، ونفى المجازية عنه لعدم وجود لمزيد تأكد ، ادعاء لدخوله فى جنس المشبه به ، ولصحة تقدير الأداة هنا دون المجاز ، ولكن يقال فى هذا لا يتأتى تقدير الأداة إلا بقلب التركيب ، فلو قيل فى نحو هذا أنه من المجاز لكان قريبا ، إذ لم يذكر المشبه به هنا على وجه ينبىء عن التشبيه ، وقد يجاب بأن معنى الإضافة على اللجين المنسوب للماء وقد جرى الذهب المنسوب إلى الأصيل ، ونسبة المشبه به إلى المشبه تشعر بالتشبيه للعلم بأن النسبة تشبيهية ، فيكون التأكيد من جهة كونه فى صورة المطلق على المشبه كما بيناه فى الاحتمال الثانى ، وتشبيه الأصيل بالذهب ظاهر ؛ لأن المراد بالأصيل الوقت بعد العصر إلى الغروب ، وهو من الأوقات المستحسنة ، ويوصف بالصفرة ، كقوله :

ورب نهار للفراق أصيله

ووجهى كلا لونيهما متناسب

فإن وجه مفارق الأحبة معلوم أن لونه الصفرة من الدهش والحيرة ، ووصفه بالصفرة لاصفرار شعاع الشمس فيه ، فيكون وجود وجه الشبه فيه بينه وبين الذهب من حيث إنه زمان أى : مقدار يتحقق فيه وجود الحوادث تخييليا ، ويكون من إضافة المشبه به إلى المشبه كما فى قوله : على لجين الماء كما قررناه آنفا ، ولما وصف بالصفرة

__________________

(١) البيت لابن خفاجة الأندلسى إبراهيم بن عبد الله الشاعر الوصاف ، فى الإيضاح ص (٢٤٠) ، وبلا نسبة فى التلخيص بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى وعقود الجمان (٢ / ٣٢).


نسب الجريان إليه ، وإن كان الجارى فى الحقيقة هو الشعاع المصفر الواقع فيه ، ويحتمل أن يكون فى الكلام استعارة ، بأن يستعار الذهب لنفس الشعاع المصفر ، وتكون إضافته إلى الأصيل من إضافة المظروف للظرف ، وعلى كل فقد أفهم التركيب أن الشعاع يكسو وجه الماء ويجرى عليه ، ولا شك أن جريانه على الماء يستشعر منه حالة جريان الذهب على الفضة التى سقيت به ، فيكون فى الكلام ظرافة فى تضمنه تشبيها آخر لطيفا ، وبحمل هذا البيت على هذا الذى هو المتبادر منه يكون من لجين الكلام بضم اللام وفتح الجيم وهو حسنه وشريفه ، لا من لجينه بفتح اللام وكسر الجيم وهو خسيسه وقبيحه ، ويكون من هجانه بكسر الهاء وهو عليه ، وشريفه لا من هجينه بفتح الهاء وهو رديه ووضيعه ، ومن الناس من ذهب إلى أن اللجين فى البيت بفتح اللام وكسر الجيم ، وأن المراد به ورق الشجر الساقط ، وأن الشاعر شبه بذلك وجه الماء ، ومنهم من ذهب إلى أن المراد بالأصيل الشجر الذى له أصل وعرق ، فالمراد بالذهب الورق الساقط منه على وجه الماء واصفر ببرد الخريف ، ولا يخفى أن كلا الوجهين فاسد ، ويكفى فى فسادهما ما يشهد به كل طبع سليم من أن كلا منهما غاية فى البرودة المنافية لما اشتمل عليه البيت من الظرافة التى تتبادر لوائحها منه ، والبرودة مع وجود منافيها من أنواع الفساد ، على أن تشبيه وجه الماء بالورق الساقط إن أراد به الورق المصفر فلا يصح ، لانتفاء الجامع المعتبر بينه وبين مطلق وجه الماء وإن أراد به مطلق الورق الساقط فكذلك ، إذ يصير كتشبيهه بمطلق النبات فى الاخضرار ، ولو جوزنا مثل هذا لجوزنا تشبيهه بالجبل الأجرع (١) ونحو ذلك ، ونحو هذا التشبيه غير معدود فى الكلام ، وأما الوجه الثانى فيلزم فيه زيادة على البرودة المفسدة انتفاء كونه من إضافة المشبه به إلى المشبه الذى هو المقصود أن يستشهد له فى الإضافتين ، وأيضا إطلاق اللجين على الورق فى الوجه الأول ، والأصيل على الشجر فى الثانى مما لا يعرف ولا يعهد لغة ولا عرفا ، فلأجل هذا كان فساد هذين الوجهين غنيا عن البيان ، وفى المطول أن كلا منهما أبرد من الآخر وذلك كاف فى فسادهما كما ذكرنا.

__________________

(١) هو الجبل له جانبان أحدهما رمل والآخر حجارة.


التشبيه المرسل

(أو مرسل) هو مقابل قوله : إما مؤكد وهو معطوف عليه أى : التشبيه باعتبار الأداة إما مقيد بحذفها ويسمى مؤكدا كما تقدم ، وإما مرسل أى : يسمى بذلك لإرساله من التقييد بحذف الأداة الموجب للتوكيد ، وإن شئت قلت : لإرساله من التوكيد (وهو) أى : والمرسل هو الكائن (بخلافه) أى : على خلاف المؤكد فيقال فيه : هو ما ذكرت فيه أداة التشبيه كقولك : " زيد كالأسد" وحيث ذكرت صار مرسلا من موجب التأكيد الذى هو الحذف ، وقد تقدم أن الحذف كقولك : " زيد أسد" يشعر بحسب ظاهره من غير رعاية مقتضى الأصل من تقدير الأداة أن المشبه به صار نفس المشبه صدقا ، وبذلك صار مؤكدا ، وقد بينا ذلك فيما مر من الأمثلة مع ما فيه بما أغنى عن الإعادة ، ثم أشار إلى تقسيم آخر فى التشبيه باعتبار الغرض بعد الفراغ من التقاسيم السابقة بقوله :

أقسام التشبيه باعتبار الغرض :

(و) ينقسم التشبيه (باعتبار الغرض) منه إلى قسمين ، وذلك أنه :

المقبول

(إما مقبول) عند القوم (وهو) أى : المقبول عند القوم هو (الوافى بإفادته) أى : بإفادة الغرض المطلوب منه ، وذلك بأن يكون محله مشتملا على ما يفيد ذلك الغرض ، وقد تقدم أن الغرض مرجعه إلى وجه الشبه ، وأن كونه غرضا يكون باعتبار ، وكونه وجها يكون باعتبار آخر ، فمن حيث كونه وصفا موجودا فى الطرفين يكون وجها ، ومن حيث كونه مبينا لإمكان المشبه ، أو لحاله ، أو لمقدارها ، أو مثبتا لتقريرها ، أو لزينه ، أو شينه ، أو استطرافه يكون غرضا بنفسه ، أو تقول نفس بيانه ، أو تقريره لما ذكر هو الغرض على ما تقدم فى بيان الغرض (بأن يكون) أى : ويحصل إفادته الغرض مثلا بأن يكون (المشبه به أعرف) من المشبه عند السامع (بوجه الشبه فى بيان الحال) أى : فى التشبيه الذى يكون الغرض منه بيان الحال ، ولا يشترط فى إفادة هذا الغرض أن يكون المشبه به أعرف من كل شيء عند كل أحد ، وإن كان ذلك إن أمكن أوكد ، ولذلك


قدرنا بعد قوله أعرف قولنا من المشبه عند السامع ، فإذا جهل السامع حال ثوب من سواد أو غيره وعرف حال آخر قلت لبيان حال المجهول ذلك الثوب كهذا فى سواده مثلا ، وكذا بيان المقدار فتقول لجاهل مقدار قامة زيد هو كعمرو فى قامته حيث يعلم مقدار قامة عمرو ، وكذا فى التزيين والتشيين إذا بنينا كما تقدم على أن الوجه هو الحالة المخصوصة ، فتقول فى الأول وجهه كمقلة الظبى ؛ لأن مقلة الظبى أعرف بالحالة المخصوصة من الوجه لا بمطلق السواد ، وفى الثانى وجهه كالسلحة الجامدة المنقورة للديكة ؛ لأن المشبه به أيضا أعرف بالهيئة المخصوصة الموجبة للقبح من المشبه لا بمطلق الهيئة ، وقد تقدم تحقيق هذا ، وأما الاستطراف فالوفاء فيه بأن يكون المشبه أندر شيء وجودا ، أو يكون ممتنعا عاديا مع وجود الوجه فيه على تلك الحالة ، ولا يقتضى الأعرفية كما تقدم ، ولو قيل فى بيان الحال ثوبه كثوب فلان المجهول ، أو قيل فى بيان المقدار هو كفلان المجهول فى قامته ، وفى الزين وجهه كالقدر فى سواده ، وفى الشين وجهه كوجه البدر فى قبحه ، وفى الاستطراف هذا الفحم الذى فيه الجمر كقطع الحديد التى أخذت النار فى أطرافها ؛ بطل الغرض وعاد التشبيه فاسدا كما لو شبه الشيء بالشيء من غير جامع أصلا ، فيكون غير مقبول (أو أتم شيء فيه) أى : وتحصل إفادته أيضا بأن يكون المشبه به أتم فى وجه الشبه من كل شيء يقدره السامع فى ذهنه (فى إلحاق الناقص بالكامل) أى : فى بيان الغرض الذى يحصل عند إلحاق الناقص بالكامل وهو التقرير فى ذهن السامع ، حتى لا يتوهم كون المشبه على غير تلك الحال لينزجر مثلا عما هو بصدده كقولك فيمن لا يحصل من سعيه على طائل : " أنت كالراقم على الماء" فإن المشبه به هو أتم فى التسوية بين الفعل وعدمه فى عدم الفائدة الذى هو الوجه ، فلو قيل فى تقرير الحال أنت فى عدم حصولك على طائل كزيد ، والمخاطب لم يتقرر عنده عدم حصول زيد من سعيه على طائل كما فى الراقم على الماء لم يوف التشبيه بالغرض ، فيكون غير مقبول ، (أو) يحصل الغرض أيضا بأن يكون المشبه به (مسلم الحكم فيه) أى : فى وجه الشبه ، بمعنى أن وجوده فى المشبه به مسلم ، ويكون (معروفه) أى معروف الحكم الذى هو ثبوت وجه الشبه (عند السامع) ، بمعنى أن يكون مسلما


معروفا عند المخاطب ، وذلك (فى بيان الإمكان) أى : فى الغرض الذى هو بيان إمكان المشبه ، وقد تقدم أن بيان إمكانه ببيان وجود الوجه فيه ؛ لأن ما يتوهم من الاستحالة أصلها ما يبدو من كون الوجه محالا فبانتفائه ينتفى المشبه ، وذلك كقوله فيما تقدم :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال (١)

فإن حاصله أن المشبه هو فى أصله من الناس ، وهو خارج عن جنسهم ، وهو فى ذلك كالمسك فى كونه من الدم وهو جنس آخر لا مناسبة بينه وبين الدم ، فإن ثبوت الوجه فى المسك وهو كون الشيء من أصل لا مناسبة بينه وبين ذلك الأصل مسلم فى المسك فتنتفى الاستحالة فى المشبه ؛ لأن وجوده على تلك الحالة إنما تتوهم استحالته من توهم استحالة الوجه فيه ، وهو كون الشيء من أصل مع كونه جنسا آخر خارجا عنه ، وقد تقدم تحقيق ذلك ، فلو قيل فى بيان الإمكان مثلا أنت فى كونك من الأنام مع خروجك عن جنسهم كزيد فى كونه كذلك بطل إفادة الغرض لعدم تسليم الحكم الذى هو وجود الوجه فى زيد ، فيكون غير مقبول.

المردود

(أو مردود) هو معطوف على قوله : إما مقبول أى : التشبيه إما مقبول وهو المفيد للغرض المطلوب كما ينبغى ، وإما مردود (وهو) أى : المردود (بخلافه) أى : على خلاف المقبول ، فهو ما يكون قاصرا عن إفادة الغرض وذلك بأن لا يكون على شرط القبول الذى هو إفادة الغرض المطلوب بتمامه وقد تقدمت الآن أمثلته كالمقبول ، ولا يخفى أن انقسام التشبيه إلى المقبول والمردود يدرك بأدنى تنبه مما تقدم من بيان الغرض ؛ لأنه إذا علم الغرض علم أن الوافى به مقبول وغيره مردود ، ولكن ذكره استيفاء للتقسيم وتكميلا له.

__________________

(١) البيت للمتنبى فى قصيدة يرثى فيها والدة سيف الدولة ديوانه (٣ / ١٥١) ، والإشارات ص (١٨٧) ، وعقود الجمان (٢ / ٢٠).


خاتمة

ذكر فيها تقسيما للتشبيه باعتبار ضعفه وقوته مبالغة وتوسطا ، وذلك إذا كانت تلك القوة أو ذلك الضعف بالنظر إلى حذف بعض أركان التشبيه وعد ذلك الحذف ، والأركان تقدم أنها أربعة : المشبه به ، والمشبه ، والأداة ، والوجه ، فالمشبه به منها يجب ذكره متى أريد إفادة نسبة التشبيه وتحقيقها بين الطرفين ؛ لأنه متعلق تلك النسبة وهو الملحق به غيره كالأصل المقيس عليه ، وإلا بطل الإلحاق ، وذلك أن المخاطب فى الخبر التشبيهى يتصور المشبه أولا فيطلب من ينتسب إليه ويتشبه هو به ، فهو كمثبت الأحكام القياسية لا يتمكن له ذلك إلا بذكر الأصل المقيس عليه ، وأما قول القائل زيد فى جواب من قال : من هو مثل الأسد؟ وقوله : فى طول القامة فى جواب من قال : فى أى شيء يشبه زيد عمرا فلا ينتقض به ما ذكر ؛ لأنه عرف فى المقايس نسبة التشبيه فسأل عن الوجه فى المثال الثانى ، وعن الطرف الأول فى المثال الأول ، كذا قيل : وفيه نظر ؛ لأن حذف المشبه أيضا إنما هو إن عرفت النسبة باعتباره وجهلت باعتبار المشبه به ، فلا فرق بين تركيب الذكر لأحد الطرفين وتركيب الذكر للطرف الآخر فى أن المجهول يذكر والمعروف يحذف ، ومتى جهلا معا باعتبار التشبيه ذكرا ، فإيجاب ذكر المشبه به دون المشبه تحكم ، وكذا الوجه إذا تعلق به الغرض وحده دون غيره ذكر وإن لم يتعلق به بل تعلق بحذفه حذف ، وأما الجواب عن ذلك بأن ذلك ، أعنى ذكر المشبه دون المشبه به وذكر الوجه وحده ليس من تراكيب البلغاء فلا يتم أيضا ضرورة أن الحذف والذكر متى تعلق الغرض بأحدهما لاقتضاء المقام إياه ارتكب ، كما تقدم فى الفن الأول ، بل الجواب أن يقال : لما كان اللازم على حذف أحد الطرفين فى القوة والضعف هو اللازم على الآخر جعل المشبه فى التقسيم دون المشبه به ، لكثرة حذف الأول دون الثانى ؛ لأنه بمنزلة الخبر المستفاد من الجملة فجعل كالمذكور دائما ، فإذا تقرر أن المشبه به لا يراعى حذفه فى التقسيم ، فالمشبه إما محذوف أو مذكور وعلى التقديرين ـ أعنى حذفه وذكره ـ إما أن يذكر وجه الشبه أو يحذف ، فهذه أربعة أحوال للجملة التشبيهية حاصلة من ضرب حالى ذكر الوجه وحذفه فى حالى ذكر المشبه


وحذفه ، ثم كل تقدير من هذه التقادير الأربعة للجملة إما أن يذكر فيه أداة التشبيه أو لا يذكر ، فهذه ثمانية أحوال لها من ضرب حالتى ذكر الأداة وحذفها فى أربعة أحوال : ذكر الوجه وحذفه ، وذكر المشبه وحذفه ، فأشار إلى ما يفيد القوة المتناهية فى التشبيه من هذه الأحوال ، وما يفيد التوسط ، وما لا يفيد أحدهما ، فقال :

مراتب التشبيه

(وأعلى مراتب التشبيه) أى : أشدها (فى قوة المبالغة باعتبار ذكر أركانه) كلها (أو بعضها حذف وجهه وأداته) بمعنى أنه إذا شبه الشيء بالشيء فهناك مراتب مختلفة أى : متعددة باعتبار ذكر أركان التشبيه كلها ، كقولك : زيد كالأسد فى الشجاعة ، ويجرى مجراه أن يذكر ما سوى المشبه ؛ لأن حذفه لا يؤثر كما يأتى ، أو ذكر بعضها أى : بعض الأركان دون بعض إما بأن يذكر المشبه به دون غيره ، كقولك : أسد ، حيث دل الدليل على أن المراد زيد ، أو بأن يذكر المشبهان دون غيرهما كقولك : زيد أسد ، أو بأن يذكر المشبهان مع الوجه دون الأداة كقولك : زيد أسد فى الشجاعة ، أو مع الأداة دون الوجه كقولك : زيد كالأسد ، فإذا اعتبرت القوة فى هذه المراتب ولا تأثير فيها لحذف المشبه كما تقدم ، ويأتى ما يدل عليه ، فأعلاها فى القوة بالنسبة لما فيه قوة منها حذف وجهه وأداته (فقط) أى : دون حذف المشبه كقولك : زيد أسد كما تقدم ، (أو) حذف وجهه وأداته (مع حذف المشبه) كقولك كما تقدم : " أسد" حيث دل الدليل على زيد ، فلا فرق فى القوة عند حذف الأداة والوجه بين ذكر الطرفين معا أو ذكر المشبه به فقط ؛ لأن حذف المشبه لا أثر له كما ذكرنا فقوله : حذف وجهه خبر قوله : أعلى ، وقوله : باعتبار ذكر أركانه متعلق بمختلفة كما قررنا ، وخصص كون ما ذكر من حذف الأداة والوجه أعلى المستلزم لكون ما بعده توسطا وأدنى بالمراتب المختلفة أعنى المتعددة باعتبار الذكر والحذف ، حيث ينظر إلى القوة باعتبارها ليخرج ما إذا نظر إلى القوة لا باعتبار المراتب المتعددة بالذكر والحذف بل باعتبار الاختلاف فى المشبه به كقولك : زيد كالأسد ؛ وزيد كالذئب فى الشجاعة ، أو باعتبار الاختلاف فى الأداة


كقولك : زيد كالأسد وكأن زيدا أسد ، فإن القوة موجودة فى اختلاف المشبه به ؛ لأن الشجاعة فى الأسد أقوى وفى اختلاف الأداة لدلالة كأن على القوة والتأكيد فى المماثلة والكاف على ما دون ذلك ، ولكن لا ينسب لذلك الاعتبار كون حذف الوجه والأداة معا أعلى ـ كما لا يخفى ـ لوجودها بدون ذلك الاعتبار ووجوده بدونها ، وحاصله أن القوة وعدمها إن نظر إليهما باعتبار الاختلاف الحاصل بالذكر والحذف فأعلى ما فى تلك المراتب الحاصلة بالذكر والحذف حذف الأداة والوجه معا ، وإن نظر إليهما باعتبار الاختلاف فى المشبه به فالأعلى ما تقوى فيه وجه الشبه كما فى الأسد مع الذئب ، وإن نظر إليهما باعتبار الأداة فالأعلى ما فيه أداة التأكيد المقربة من التماثل ، وقد يوجد الاختلاف قوة وضعفا فى جنس التشبيه بتعدد الوجه كقولك : زيد كعمرو فى العلم ، وكهو فى الديانة إذا كانت ديانته أضعف ، ولكن إذا اختلف الوجه فلا ينظر فى القوة وعدمها ؛ لأنها جنسية ، وهذه الاعتبارات ولو كان فيها قوة وضعف لم يعتبرها ؛ لأن التقسيم فى القوة إنما يناسب أن ينظر إليه باعتبار مجموع الأركان ذكرا وحذفا مع الاتحاد لكونه من نمط النظر فى الأركان المعقود لها الباب ، وأما ما يفيده المشبه به والوجه والأداة فهو أمر معنوى يرجع فيه إلى المدلول لغة لا إلى أن ما يعتبره البلغاء ، فافهم.

ولما فهم بعضهم أن معنى الكلام أن أعلى المراتب فيما تقوى باعتبار ذكر الأركان وحذف بعضها وجعل قوله : باعتبار متعلقا بالقوة اعترض بأن كلامه يقتضى أن ما لم يحذف فيه ركن يصدق عليه أنه تقوى باعتبار الذكر ، وهو فاسد ؛ إذ لا قوة له ، فكان الواجب على هذا أن يقال : أعلى مراتب التشبيه فى القوة الحاصلة باعتبار حذف بعض الأركان ما حذف فيه الوجه والأداة معا ؛ إذ لا قوة لما ذكر فيه الوجه والأداة والجواب ما تقدم من أن قوله باعتبار ذكر الأركان إلخ متعلق بالاختلاف الذى دل عليه بلسانه فى كلامه وهو قوله : أعلى ؛ لأنه يشعر بأن ثم مراتب مختلفة فيها أعلى وأدنى ، فخص الكلام بالمراتب المختلفة باعتبار الذكر والحذف على ما قررناه ؛ ليخرج غير ذلك ، ووجه القوة فيما ذكر أن ذكر الأداة يدل على المباينة بين الملحق والملحق به ،


سواء ذكرا معا أو حذف أحدهما ، وحذفها يشعر بحسب الظاهر بجريان أحدهما على الآخر وصدقه عليه ، فيتقوى الاتحاد بينهما ذكرا أيضا أو حذف أحدهما ، فظهر بهذا أن حذف الطرفين لا تأثير له مع الأداة وجودا وعدما ، وأن حذف الأداة يؤثر الاتحاد بحسب الظاهر ، والوجه أيضا إن ذكر تعين وجه الإلحاق وتبقى حينئذ أوجه الاختلاف على أصلها فيبعد الاتحاد ، فإذا قيل : زيد أسد فى الشجاعة ظهر أن الشجاعة هى الجامعة ويبقى ما سوى ذلك من الأوصاف على أصل الاختلاف ، سواء ذكر الطرفان أيضا أو أحدهما ، وإن حذف أفاد بحسب الظاهر كون جهة الإلحاق كل وصف وذلك يقوى الاتحاد ؛ إذ لا ترجيح لبعض الأوصاف على بعض فى الإلحاق عند الحذف ، ولا فرق فى ذلك أيضا بين ذكر الطرفين أو حذف أحدهما ؛ لأن الأصل بينهما التباين ذكرا أو قدر أحدهما ، وإنما يقوى الاتحاد حذف الأداة أو الوجه ، فإذا تقرر هذا فما جمع فيه بين حذف الأداة والوجه فهو الأعلى لوجود موجبى الاتحاد كما تقدم ، وما وجد فيه أحد الوجهين فقط من حذف الأداة أو الوجه فهو المتوسط ، وما لم يوجد فيه أحدهما فلا قوة له ، وإلى تتميم هذا أشار بقوله : (ثم) الذى يلى الأعلى السابق هو حذف الوجه والأداة معا ، (حذف أحدهما) أى : الوجه فقط أو الأداة فقط ، (كذلك) أى : كما تقدم من أن ذلك الحذف إما مع حذف المشبه أيضا كقولك : فى حذف الوجه مع حذفه كالأسد ، حيث دل الدليل على أن المشبه زيد ، وفى حذف الأداة أسد فى الشجاعة للدليل أيضا ، وإما بدون حذفه كقولك : فى حذف الوجه مع ذكره : زيد كالأسد ، وفى حذف الأداة مع ذكره : زيد أسد.

(ولا قوة لغيرهما) أى : لغير المذكورين ، وهما : ما حذف فيه الأداة والوجه معا ، وما حذف فيه أحدهما ، وغيرهما ما ذكر فيه الوجه والأداة معا إما مع حذف المشبه لما تقدم أن حذفه لا يؤثر كقولك : كأسد فى الشجاعة تعنى زيدا للدليل ، وإما مع ذكره كقولك : زيد كأسد فى الشجاعة ، وقد بينا أن ذكر الأداة يحقق الإلحاق المقتضى للتباين ، وذكر الوجه يعين وجه الإلحاق فتبقى الأوصاف الأخرى على أصل التباين ، سواء ذكر الطرفان فى ذلك أو أحدهما ؛ لأنه إذا تحقق التباين اقتضى وجود المتباين ، ولو


تقديرا : حيث حذف أحدهما ، وأن حذفها يقتضى اتحاد المصدوق لها بحسب الظاهر ، وحذف الوجه يقتضى بحسب الظاهر التماثل فى كل وجه دفعا للتحكم ، فإذا وجد الحذفان تقوى الإلحاق غاية لوصوله إلى هيئة ما يقتضى التماثل من كل وجه بلا معارض ، فلذلك كان فيه الحذفان أعلى ، وإذا وجد أحدهما عارضه مقتضى ذكر الآخر فكان متوسطا ، وإذا انتفى الحذفان معا فلا قوة ، وظاهر هذا أن المتوسطين متساويان ، وقيل : إن حذف الأداة أقوى لظهور جريان أحدهما على الآخر المقتضى للتماثل ، بخلاف حذف الوجه مع بقاء الأداة فإن عموم التماثل مع وجود ما يقتضى التباين ضعيف ؛ لأن المحذوف يحتمل الخصوص ، ولا يخفى أن ما تقدم مما حذفت فيه الأداة يسمى مؤكدا ، وما ذكرت فيه يسمى مرسلا يشتمل هذا التقسيم على معناه ففى الكلام بعض التداخل نظرا للمعنى ، وإنما أفرد ما تقدم عن هذا لبيان الاصطلاح والتسمية ثم التشبيه المسمى فيما تقدم بالمؤكد كقولك : زيد أسد ، أو رأيت زيدا أسدا ، أو جاءنى زيد أسد ، قيل إنه استعارة كما أشرنا إليه فيما تقدم نظرا إلى أنه أجرى المشبه به على غير معناه ، واستعمل باعتبار المبالغة فى التشبيه والاستعارة كذلك ، والمشهور أنه تشبيه مؤكد كما تقدم ؛ لأنه لما ذكر الطرفان وقد علم تباينهما فى الأصل وعلم أن إجراء المشبه به على المشبه على طريق التشبيه إلا أنه حذفت فيه الأداة مبالغة فى التشبيه ، فكان الكلام مسوقا للدلالة على المشاركة بآلة مقدرة فيكون تشبيها بخلاف الاستعارة على ما يأتى فلا إلمام فيه بذكر المشبه به ، فلو لا القرينة لتبادر استعماله فى معناه ، فلما لم يفهم التشبيه إلا بالنظر والتأمل فى القرائن من غير أن يفهم من الطرفين المشتركين سمى استعارة ، والخلف فى نحو هذا لفظى للاتفاق على أن حذف الأداة فيه للمبالغة ، وهل يسمى استعارة نظرا لاستعمال لفظ المشبه به فى المشبه بحسب الظاهر ، وأنه لا يعتبر فى مسمى الاستعارة عدم ذكر الطرف الآخر على وجه ينبئ عن التشبيه ، أو لا يسمى ؛ نظرا إلى أن الاستعارة يعتبر فيها أن لا يذكر المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه فهو اختلاف فى الاصطلاح نظرا للمناسبة مع الاتفاق على المعنى ، وقد أشرنا إلى مزيد بحث فى هذا فيما تقدم عند ذكر التشبيه المؤكد ، ولكن قيل إن تسمية التشبيه


المؤكد استعارة يتقوى ويتجه إذا وصف المشبه به بوصف لا يناسبه فى أصله كقولك : هو بدر يسكن الأرض ، فإن سكنى الأرض ليس وصفا للبدر ، فتقدير الآلة على أن يكون التشبيه لا يصلح لعدم وجود البدر كذلك إلا بتأويل الشرط كما تقدم ، بأن يكون المعنى إلا أنه يسكن الأرض ، فالوجه أن يكون استعارة ، وأنك سميت المشبه بدرا على وجه الاستعارة ، فلما جعلته من جنس البدر أثبت له خصوصية زاد بها على أفراد جنسه وهو سكناه الأرض ، وأما إذا لم يوصف كقولك : زيد الأسد قرب تسميته تشبيها ؛ لأن تقدير الأداة لا يحوج إلى تأمل هذا إذا ذكرت الطرفين وقد جرى أحدهما على الآخر خبرا أو نعتا أو حالا ليتمكن تقدير الأداة بلا تكلف ، وأما إذا ذكرتهما لا على ذلك الوجه فإن لم يكن على وجه التجريد كان استعارة كقوله :

قد زر أزراره على القمر

كما يأتى ، وإن ذكر على وجه التجريد الآتى كقولك : لقيت بزيد بحرا ولقيت منه أسدا فلا يسمى تشبيها مؤكدا ولا استعارة على المشهور ، أما عدم تسميته استعارة فلأنه لم يستعمل المشبه به منهما فى الآخر ـ كما هو شأن الاستعارة ـ وإنما استعمل فى فرد آخر جرد من المشبه وأخرج منه ، وأما عدم تسميته تشبيها فلأنه ليس على طريق الدلالة على المشاركة بين أمرين : وهو أن يذكرا للجمع بينهما وليستفاد التشبيه من ذكرهما مع الآلة حقيقة أو تقديرا ، فإن ذلك شأن التشبيه ولم يوجد فيه ، وإنما استفيد التشبيه منه بالتأمل فى أصل المعنى ، فالتشبيه فيه لا باعتبار الصيغة ، والسكاكى يسميه تشبيها نظرا لما يفهم من أصل المعنى ، وغيره يسميه تجريدا ولا حجر فى الاصطلاح ، ومن ثم كان الخلف لفظيا أيضا للاتفاق على المراد من معناه ، وقد تقدم تسميته نحو : على لجين الماء تشبيها نظرا لما تشعر به نسبة الإضافة ولم يجعل مما يفتقر إلى النظر فى أصل المعنى كما فى الاستعارة والتجريد.

هذا تمام الكلام على باب التشبيه الذى هو أصل مجاز الاستعارة التى هى نوع من المجاز ولما فرغ منه شرع فى مطلق المجاز وأضاف إليه ذكر الحقيقة لكمال تعريفه بها لا لتوقفه عليها كما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى.


(الحقيقة والمجاز)

أي هذا مبحث الحقيقة والمجاز قد تقدم أن فن البيان اعتبرت فيه ثلاث مقاصد ؛ باب التشبيه ، وباب المجاز ، وباب الكناية ، ولما فرغ من باب التشبيه شرع الآن في المجاز ، وقد تقدم وجه عد التشبيه بابا مستقلا ووجه تقديمه على المجاز وإذا كان المقصود في هذا المبحث هو المجاز ؛ لأن مقصد البياني وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة إنما يتأتى بالمجاز والكناية لا بالحقيقة ، وقد تقدم بيان ذلك مع ما يتعلق به ، فذكر الحقيقة مع المجاز لمناسبة بينه وبينها لأنه إذا نظر إلى مفهوميهما يوجد بينهما شبه العدم والملكة ؛ إذ الحقيقة لفظ استعمل فيما وضع له الخ ، والمجاز لفظ استعمل في غير ما وضع له الخ ، فقد اعتبر في حدها ثبوت الموضوع له ، وفي حده نفيه وإذا نظر إلى ذاتهما خارجا فهو كالفرع عنها ؛ لأن غالب المجاز له حقيقة ، وإنما قلنا غالب المجاز ، لأن التحقيق عدم توقفه عليها ؛ كما فى الرحمن ، فإنه استعمل مجازا في المنعم على العموم والإطلاق ، ولم يستعمل في المعنى الأصلي ، والحقيقة يشترط فيها الاستعمال ؛ فهو مجاز لم يتفرع عن حقيقة ؛ فلهذا قلنا كالفرع عنها ويحتمل أن يقال أنه فرع عنها ؛ أي عن صحتها ؛ لأنه لا يوجد إلا فيما تقدم له وضع يصح أن يستعمل فيه حقيقة.

ولما كان كالفرع عنها باعتبار ذاته ، وكالعدم مع الملكة باعتبار المفهوم ، والأصل سابق على الفرع ، والملكة سابقة على عدمها جرت العادة بالبحث عنها أولا (و) الحقيقة والمجاز حيث ذكرا كثيرا ما يذكران مطلقين ؛ كما تقدم ، وربما (يقيدان باللغويين) ويراد بكونهما لغويين ثبوت الحقيقية والمجازية لهما باعتبار الدلالة الوضعية ؛ ليتميزا بذلك عن الحقيقة والمجاز العقليين اللذين ثبتت لهما الحقيقية والمجازية باعتبار الإسناد الذي هو أمر عقلي ؛ كما تقدم في صدر الكتاب وإنما كثر إطلاقهما عن التقييد باللغويين لأمرين : أحدهما : أن ما ذكر من فائدة التقييد وهي الاحتراز عن العقليين حاصل بالإطلاق ؛ لأنهما إذا أطلقا انصرفا إلى غير العقليين ، وإذا أريد العقليان قيدا بالنسبة


للعقل وإذا حصلت الفائدة بالإطلاق فلا حاجة إلى التقييد والآخر أن التقييد يوهم اختصاص المبحث بغير الشرعيين والعرفيين.

ثم إن الحقيقة لما كان المقصود إثبات غيرها ، وإنما ذكرت استطردا لما تقدم اقتصر على تعريف الغالب منها وذكر أقسامه ؛ وهي المفردة دون المركبة ؛ بناء على أن التراكيب موضوعة ؛ فلهذا عرف المفردة وأتبعها بتقسيمها فقال :

تعريف الحقيقة

(الحقيقة) هي في الأصل : فعيلة بمعنى : فاعل ؛ من قولهم حق الشيء ؛ بمعنى : ثبت أو بمعنى مفعول ، من حققت الشيء بتخفيف القاف أي أثبته ، نقلت إلى الكلمة الثابتة في معناها الأصلي بالاعتبار الأول ، أو المثبتة في ذلك المعنى بالاعتبار الثاني ، والتاء فيها إما للنقل عن الوصفية للاسمية ؛ لأن التاء في أصلها تدل على معنى فرعي وهو التأنيث ، فإذا روعي نقل الوصف عن أصله الذي هو التذكير إلى ما كثر فيه استعماله فصار اسما اعتبرت التاء فيه وأتى بها إشعارا بفرعية الاسمية فيه ؛ كما كانت في الوصفية إشعارا بالتأنيث ؛ وذلك كقولهم ذبيحة ؛ فإنها بلا تاء وصف في الأصل لكل مذبوح من إبل أو بقر أو غنم ؛ كثر استعمالها في الشاة ، واعتبر نقلها اسما لها ؛ فجعلت التاء فيها للنقل من الوصفية للاسمية ؛ وكذلك لفظ الحقيقة هنا لما اختص ببعض ما يوصف به ، وصار اسما له ـ جعلت للنقل فيه. وقيل إن التاء فيه للوصفية الأصلية ؛ وإنه نقل من التأنيث كذلك ، أما على الاعتبار الأول : فالتاء في تأنيثه صحيحة ؛ لأن فعيلا إذا كان بمعنى فاعل يؤنث بالتاء ، كظريف وظريفة. وأما على الاعتبار الثاني : فيكون نقله بالتاء عن المؤنث بتقديره غير تابع لموصوفه ؛ لأن التاء إنما تمتنع من المؤنث فيه إن تبع موصوفه ؛ ولا يخلو هذا الاعتبار من التكلف فالحقيقة في الاصطلاح هي (الكلمة المستعملة) خرجت المهملة ، وخرجت الكلمة قبل الاستعمال ؛ فلا تسمى حقيقة ولا مجازا (فيما) أي : في معنى (وضعت) تلك الكلمة (له) أي لذلك المعنى (فى اصطلاح التخاطب) أي : وضعت لذلك المعنى فى الاصطلاح الذى وقع به التخاطب أي المخاطبة بالكلام الذي اشتمل على تلك الكلمة فالمجرور ، وهو قوله : فى اصطلاح التخاطب متعلق بالفعل الموالى هو


له ـ وهو قوله : وضعت وخرج به أعنى قوله : فيما وضعت له الكلمة المستعملة فيما لم يوضع له ، وهي ـ أعنى المستعملة فيما لم توضع له قسمان : أحدهما : الكلمة المستعملة غلطا في التلفظ مع القصد لغير ما استعملت فيه ، كقولك : خذ هذا الكتاب مشيرا لفرس فلا تسمى حقيقة ، لأنه أعنى : بالكتاب لم يوضع للفرس واحترزنا بقولنا مع القصد الخ من الغلط بدون القصد لغير ما استعملت فيه ، كما إذا رأيت عمرا وظننته زيدا فقلت : جاء زيد فإذا هو عمر ؛ فالغلط هنا في القصد ، فقد استعملت فيما وضعت له في زعم المتكلم ، ولو غلط في قصده ؛ فهي حقيقة ، ولا يقال : في الوجه الأول استعمال وضع فيحتاج إلى أن يراد فيما وضعت له قصدا لإخراج الغلط ؛ لأنها وضعت للمعنى الذي وقع الغلط فيه بذلك الاستعمال إلا أنه لم يقصد ؛ لأنا نقول : الوضع إما تعيين اللفظ للمعنى قبل الاستعمال ؛ وإما كثر الاستعمال في الشيء حتى صار حقيقة فيه ؛ وكلاهما منفي عن الغلط بالمعنى الأول.

والآخر من القسمين : المجاز المستعمل في غير ما لم يوضع له مطلقا أعني لم يوضع له في اصطلاح التخاطب ولا في غيره ـ كقولك : رأيت أسدا في الحمام ، فإن استعمل الأسد في الرجل الشجاع استعمال فيما لم يوضع له في اصطلاح ما ولا يقال : الأسد استعارة وسيأتي أنها موضوعة بتأويل دخول الرجل الشجاع في جنس الموضوع ؛ فيصدق أنه كلمة استعملت فيما وضعت له في الجملة ؛ لأنا نقول : إذا أطلق الوضع ولم يقيد بتأويل ولا تحقيق انصرف إلى الوضع بالتحقيق ؛ وهو الذي لا تأويل فيه ، فلا يتوهم دخول هذه الاستعارة.

وخرج بقوله : فى اصطلاح التخاطب المجاز المستعمل فيما وضع له ، لكن لا فى اصطلاح التخاطب ، بل وضع له في اصطلاح آخر ؛ وباعتبار اصطلاح التخاطب صار مجازا ؛ لأنه فيه أعني : اصطلاح التخاطب ـ مستعمل في غير ما وضع له ؛ كالصلاة إذا استعملها الشارع في الدعاء فإنها مجاز ؛ لأنه استعملها في غير ما وضعت له في اصطلاحه ؛ وإن كانت موضوعة له في اصطلاح اللغة ؛ وإنما خرج نحو هذا لأنه لا يصدق عليه أنها كلمة استعملت فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب الذي هو


اصطلاح الشارع ؛ لأنه هو المخاطب ؛ إذا المعنى الذي وضع له لفظ الصلاة هو الأركان المخصوصة من إحرام وركوع وسجود وقراءة ؛ ولم يستعملها فيه ، وإنما استعملها في غيره الذي هو الدعاء ، فهي باعتبار اصطلاحه مجاز ، وباعتبار اصطلاح اللغة حقيقة.

والمراد بنسبة الكلمة لاصطلاح التخاطب كون المتكلم بها كانت في لغته وظهرت على لسانه ، سواء كان هو الواضع لها ، أو كان الواضع لها غيره ؛ كما هو الراجح أن اللغة توقيفية لا اصطلاحية ، فلا يراد أن يقال : نسبة الكلمة للاصطلاح تقتضي اقتصار التعريف على القول بأن الأوضاع اصطلاحية.

وإنما جزمنا بأن قوله : فى اصطلاح التخاطب يتعلق بقوله : فيما وضعت لا بقوله : المستعملة كما قيل ؛ لأنه لا يصح إلا بتكلف ؛ وذلك أن المعهود كون الاصطلاح ظرفا للوضع أو سببا له ، لا للاستعمال ؛ فيقال : وضع هذا اللفظ في اصطلاحهم لكذا ؛ أي : وضع في جملة ما اصطلحوا على وضعه لكذا ؛ أو بسبب اصطلاحهم لكذا ؛ ولا يقال : استعمل في اصطلاحهم لكذا ؛ إلا أن يكون استعمل بمعنى وضع ، وأما إن بقي على أصله وهو التكلم والنطق بالمستعمل فلا معنى له ؛ إذا لا معنى لقولك : نطق فلان بهذا اللفظ في اصطلاحهم ؛ لأن النطق ليس معه اصطلاح ، بل النطق بالقصد أصله اصطلاح على وضع المنطوق به ، وذلك الأصل سابق ، فلا يقال استعمل فيه إلا أن يراد : استعمل بسببه وبرعايته فيعود إلى معنى أن الاستعمال الذي إنما يحصل بحال النطق له تعلق بما وضع بالاصطلاح. وأيضا المتبادر أن اللفظ المستعمل في كذا معناه : أن اللفظ أطلق على ذلك لكذا فيلزم أن الكلمة أطلقت على الاصطلاح ؛ ولا معنى له وأيضا إذا علق قوله : في اصطلاح التخاطب بالمستعملة بقي الوضع عاما فيلزم دخول المجاز المستعمل في اصطلاح التخاطب ؛ أي : في خطاب المتكلم فيما وضع له لكن في اصطلاح آخر ؛ كما في استعمال الشارع الصلاة في الدعاء وإن أريد : المستعملة في اصطلاحه ؛ أي : في المعنى المصطلح عليه عند صاحب الخطاب وهو ما وضعت له باصطلاحه عاد إلى المدعي بتكلف ؛ ولذلك قلنا : لا يصح إلا بتكلف وأيضا إذا علق به في الاصطلاح وهو مجرور


بالباء (١) ، وقد علق به فيما وضعت له وهو مجرور بالباء لزم تعلق حرفين لمعنى واحد بمتعلق واحد ؛ وهو ممنوع وأجيب عن هذا بأنه إنما يمتنع إن لم يعتبر تخصيصه بالمتعلق الأول بأن يعتبر عمومه بالنسبة للمتعلقين ، وأما إن اعتبر خصوصه بالأول فيكون الأول متعلقا به وهو عام فخصصه ، ويتعلق به الثاني بعد خصوصه فتختلف جهة التعلق جاز ؛ كما قيل في قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً)(٢) فإن من ثمرة تعلق به بعد تخصيصه بكونه من الجنة ، ومن الجنة متعلق به وهو عام ؛ وعلى هذا يكون التقدير هنا : الحقيقة : هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ؛ وهذا المقيد باستعماله فيما وضع له استعمل في اصطلاح التخاطب ، فيرد إلى الصحة بأن يراد بالاصطلاح عليه عند المخاطب بكلامه ، أو تجعل في للسببية ؛ أي : استعملت في موضوع لها ؛ وذلك الاستعمال بسبب رعاية اصطلاح لهذا المخاطب ؛ بمعنى أن الاستعمال في ذلك الموضوع له لو لا الاصطلاح الذي للمخاطب بهذا الكلام لم يصح أنها استعملت فيما وضعت له ؛ ولكن هذا التصحيح تكلف كما تقدم ؛ يغني عنه تعلقها بوضعت فتعين العدول إليه ، وقد أطنبت هنا لما في المحل من الحاجة إلى مزيد تدقيق وبسط ؛ فليتأمل.

ولما اشتمل تعريف الحقيقة على الوضع الذي إذا أطلق انصرف إلى الوضع بالتحقيق عرف الوضع بالتحقيق بقوله :

تعريف الوضع

(والوضع) أي : مطلق وضع اللفظ ، وإنما قلنا : مطلق الوضع ؛ ليكون ما بعد مخرجا للوضع بالتأويل ، وقيدنا باللفظ ليعلم كما دل عليه كلامه بعد أن المراد تعريف وضع اللفظ ، لا تعريف الوضع الشامل لوضع الإشارة ، والأمارة ؛ ونحو ذلك.

وهو (تعين اللفظ للدلالة على معنى) خرج بقوله : تعيين اللفظ تعيين نحو الإشارة باليد أو الرأس للدلالة ؛ فلا يراد هنا كما ذكرنا ، ومعنى تعيين اللفظ : أن يخصص من بين سائر الألفاظ بأنه لهذا المعنى الخاص ليفهمه منه عند ذكره العالم

__________________

(١) كذا فى المطبوع والصواب أن يقول : " بفى".

(٢) البقرة : ٢٥.


بالوضع (بنفسه) خرج به التعيين للدلالة بواسطة القرينة ؛ وهو وضع المجاز ؛ كما سيخرجه المصنف وكون الدلالة على المعنى بالنفس لا بالقرينة يفيد أن العلم بوضع ذلك اللفظ كاف في فهم معناه عند إطلاقه عليه ، فيشمل وضع الحرف كالاسم والفعل ؛ لأن وضع الحرف إنما هو على أنه سمع حرف فهم معناه من غير توقف على قرينه ؛ إذ وضعه واحد ولم تصحبه قرينة ، فلا يحتاج في فهم معناه إلى قرينة ، وإنما يحتاج إلى القرينة فيما أريد به غير ما وضع له أولا ؛ كالمجاز لكن يرد أن يقال : فما معنى قولهم إذا : إن دلالة الحرف باعتبار مدخوله ؛ فإن هذا أمر مشهور في الحرف ، فحينئذ يتحقق بذلك توقفه على غيره فلا ينفهم معناه بمجرد العلم بوضعه ، فكيف يصدق عليه الحد ؛ والجواب عن ذلك ـ كما أشرنا إليه أن سماع الحرف كاف بعد العلم بوضعه في فهم المعنى بالنظر إلى نفسه ؛ بمعنى أنه لم تصحب وضعه القرينة ، ولا جعلت شرطا عند الوضع في فهم معناه ؛ وهذا هو المراد بالدلالة بالنفس ، وإنما جاء التوقف بالنظر إلى المعنى لكونه نسبيا لا ينفهم إلا باعتبار ما تعلق به ، ويتمم ذلك بأن يدعي أن معنى كونه نسبيا كونه ملحوظا لغيره ، لا كونه ذا نسبة تتعلق بين شيئين فقط ، وإلا لزم كون نحو البنوة والأبوة حرفا ؛ وبيان ذلك أن يقال : الحرف وضعه الواضع للمعنى الملحوظ ليتوصل به إلى غيره ، فإنه كما يفتقر إلى وضع اللفظ للمعنى الملحوظ لذاته نسبيا كان بأن توقف فهمه على فهم غيره ، أو غير نسبي بأن لم يتوقف ، كذلك يفتقر إلى وضع اللفظ للمعنى النسبي الملحوظ لغيره ؛ فحينئذ يكون الحرف بالنظر إلى نفس وضعه كافيا في الدلالة ؛ لأن الواضع لم يعتبر لذلك المعنى إلا نفس الحرف دون قرينة ، ولا يضر كون نفس المعنى نسبيا لا يفهم إلا باعتبار معنى آخر يدل عليه لفظ سوى الحرف ؛ لأن ذلك أمر عارض انجر إليه الأمر عند الاستعمال ، فعدم كفايته عند الاستعمال لا بالنظر إلى الوضع الأصلي ؛ لأن الحرف لم يوضع مقرونا بالمجرور ، كما لم يضر في وضع الاسم للمعنى النسبي المفتقر إلى ملازمة الإضافة لأنها عارضة تابعة ـ كون الاسم احتاج في الفهم عند الاستعمال إلى المضاف إليه وإنما قلنا : عند الاستعمال لأن لزوم الإضافة لا يقتضي وضع الاسم معها ، إذ غاية ما يقتضيه لزومها أن الاستعمال لا ينفك عنها ، لا


أنه وضع كذلك ، ويكون الفرق بينه وبين الاسم الموضوع للمعنى النسبي الملازم للإضافة حتى صح أن يخبر عن الاسم دون ما ذكر من كون معناه روعي ولو حظ لغيره لا لذاته ، فإن الملاحظ لغيره لا يقدر أن يحكم عليه ، ولا يصلح لذلك ، ويتضح ذلك بما قالوه وهو : أن البصر في إدراك المبصرات كالبصيرة في المعاني المدركات ؛ فكما أن الناظر إلى صورة في المرآة متوجها لتلك الصورة بخصوصها لا يقدر أن يحكم على المرآة حال توجهه إلى الصورة ولو كانت المرآة مدركة في تلك الحالة ، لتوغله في الصورة وإقباله عليها ، وجعله المرآة لتلك الصورة وسيلة إليها ، فلا يستطيع أن يراعي جوانبها وأحوالها ليحكم عليها ، كذلك الناظر في حال الاسم والفعل مقبلا على شأنهما يجعل معنى الحرف الذي هو الابتداء في من مثلا فيما إذا قيل : سرت من الدار وسيلة إليهما وإلى حالهما ليفهم السامع أن مضمون الأول ابتدئ من مضمون الثاني ، ولا يقال : الابتداء هو الوسيلة ، وهو المتوسل إليه ، لأنه وسيلة من حيث إنه ابتداء من شيء ما ، ومتوسل إليه من حيث إنه ابتداء السير من مكان مخصوص ؛ ولهذا لا يستطاع أن يحكم على معنى الحرف حينئذ ، لأنه لوحظ لغيره ، ولو لوحظ لذاته لعبر عنه بالاسم ، ولوجب صحة الحكم عليه ؛ كما يصح الحكم على المرآة إذا لم تجعل وسيلة بل جعلت مقصودة ؛ للإحاطة حينئذ بأحوال كل منهما حيث قصدا بالذات فنقول المرآة مجلوة مثلا وابتداء السير من البصرة أحسن من ابتدائه من الكوفة ؛ ولمثل هذا لا يصح الحكم على الفعل فإذا قلت : قام فهو من حيث دلالته على القيام ملحوظ لذاته ، وبذلك فارق الحرف.

ومن حيث إن فيه نسبه مقصود للفاعل لا لذاتها لا يصح الحكم عليه ، إذ لا يستطاع الحكم على غير ملحوظ لذاته كما فهمته في المرآة. ولما كانت دلالة الحرف الحقيقية هي دلالته على المعنى المتوسل إليه وهو الخاص ، لكون معناه الأصلي نسبيا مقصودا لغيره ، ولا تحصل تلك الدلالة إلا عند ذكر الدال على المعنى المقصودة أحواله وهو الاسم والفعل ـ قيل : إن معنى الحرف مخصوص ، وهو في من مثلا ابتداء سير من البصرة مثلا أفاد الحرف هذا المعنى رد بنوع من الاستلزام ؛ وهو استلزام الأخص للأعم ـ إلى المستقل الذي هو مطلق الابتداء ؛ وفيه يقع التشبيه والاستعارة على ما سيأتي وإنما اعتبر


هذا الخاص الذي لا يستفاد إلا في وقت الاستعمال ، وإن كان الحرف موضوع للكلي ؛ لأنه لما لاحظه الواضع ليكون وسيلة لغيره صار كأنه لغو في البين ؛ لتوغل النفس في طلب المتوسل إليه فسمي معنى الحرف وعاء المعنى الأصلي الموضوع له كاللازم فقولهم : ليس الابتداء في" من" مثلا معنى الحرف وإلا كان اسما وإنما هو لازم ، يعنون بذلك أنه لم يوضع له استقلالا بل مع ملاحظة التوسل به إلى غيره ؛ وهذا أعني : كون الحرف وضع بمعنى نسبي كلي ملحوظ لغيره الذي يقصد لخصوصه ، فعاد المتوسل إليه مسمى معنى الحرف ، وصار هو كاللازم ـ أعدل ما يتكلف في بيان معنى الحرف ، وفي بيان كيفية وضعه ، إذ هو أوفق لقاعدة الوضع ؛ وهي أن الموضوع يدل على الموضوع له كليا أو جزئيا ، وإلا فيقال : الحرف إن جعل لكلي فلا معنى لما يقال من أن الكلي المستقل لازم لمعناه ، وإن وضع لما سمى معناه ، وهو الجزئي لزم كونه في غير ذلك الجزئي مجازا ، أو منقولا ؛ وهو أيضا أبقى للإشكال بأنه إن وضع كليا صح الحكم عليه كالمرادف له من الأسماء ، وكذا إن وضع جزئيا وقيل : إن الحرف يشترط في دلالته على معناه الإفرادى ذكر متعلقه ، بخلاف الاسم فإنه إنما يحتاج إلى غيره في معناه التركيبى ، فإن كون زيد في قولك : قام زيد فاعلا معنى تركيبى لا يستفاد منه إلا بالتركيب مع قام على أن هذا لا يحتاج إلى الاحتراز عنه ؛ لأن كونه فاعلا لم يستفد إلا من نفس التركيب ، فلا دخل لنفس الاسم فيه موقوفا على التركيب حتى يحترز عنه ، إلا أن يقال : له دخل في ذلك ؛ لأنه متعلق التركيب ؛ ويلزم على هذا القول خروج الحرف عن الحد الوضع الحقيقي ؛ لعدم كفايته في الدلالة بالنظر لأصل وضعه ، ويلزم عليه صحة الإخبار عنه عند ضم متعلقه إليه ؛ لأنه دال دلالة كدلالة ملازم الإضافة شرط فيه المضاف إليه لصحة الاستعمال ، لا في أصل الوضع ـ قلنا : فكذا الحرف إذا لم يرد عن الواضع نص في كون الحرف شرط اتصاله بمدخوله في أصل دلالته وملازم الإضافة شرط اتصاله بالمضاف إليه في صحة الاستعمال ، فهذه دعوى بلا موجب ، وبلا دليل عليها ، بخلاف اعتبار مدلوله معنى كليا ليتوصل به لغيره فإنه يدل عليه عدم صحة الحكم عليه ، وقد بينا وجهه المناسب حسا ومعنى ، وبه يفهم ما ذكروا فيما يأتي من عدم صحة الاستعارة


والتشبيه في معنى الحرف ، لأن ذلك من الحكم عليه وهو لا يقبل الحكم لما ذكر وقيل إن معنى قولهم : يدل الحرف على معنى في غيره ـ أنه يدل على معنى كائن في غيره فاللام ـ مثلا ـ تدل على معنى التعريف الكائن في لفظ رجل من قولنا : جاءني الرجل ، وهذا أيضا بظاهره فاسد ، لأنه يلزم عليه أن الاستفهام من قولنا : هل زيد قائم دلت عليه هل في اللفظ الذي هو زيد قائم ، ومعلوم أن الاستفهام قائم بالمتكلم لا باللفظ وإن أريد أنه متعلق به دخل فيه دلالة الفعل ، لأنا إذا قلنا : ضربت دل ضربت على معنى متعلق بزيد مثلا وإن أريد أنه دل على معنى موجود في معنى لفظ آخر لزم كون نحو البياض والسواد من الحروف لأنه دل على صفة موجودة في معنى لفظ آخر وهي ذات زيد ، فلا يتم إلا أن يرد لما ذكر من أنه يدل على معنى ملحوظ لغيره ؛ فتأمل هنا ، فإن البحث في شأن دلالة الحرف من دقائق أبحاث الوضع ، وفيما ذكرنا عند الإنصاف ما فيه كفاية ، والله الموفق بمنه وكرمه.

(فخرج) عن الحد المذكور للوضع (المجاز) بمعنى أنه إذا كان الوضع هو تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه ، فيخرج وضع المجاز ، لأنه موضوع نوعه على الصحيح وإنما خرج (لأنه) تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بواسطة القرينة فحيث جعل الوضع (دلالته) أي : دلالة المجاز على المعنى الموضوع هو له إنما هي (ب) شرط (قرينة) معتبرة في وضعه ، لا بنفسه ـ خرج عن حد وضع الحقيقة وضع المجاز ، وإنما يحتاج إلى إخراجه بناء على أن الدال هو اللفظ ، والقرينة شرط الدلالة كما قررنا ، وأما إن بنينا على أن الدال في المجاز هو اللفظ والقرينة معا فلا يحتاج إلى إخراجه بزيادة قوله : بنفسه لأن اللفظ في المجاز لا يصدق عليه حينئذ أنه دال بل هو جزء الدال وعلى أن المخرج هو وضع المجاز ـ كما قررنا ـ يكون إسناد الخروج إلى المجاز مجازا ، ويحتمل أن يكون معنى : فخرج المجاز عن حد الحقيقة ، لاشتماله على ذكر الوضع الذي لا يشتمل عليه مفهوم المجاز ؛ وعليه يكون إسناد الخروج إلى المجاز حقيقة ، وكذا تخرج الكناية ؛ لأن تعيينها للدلالة على المعنى الذى صار به اللفظ كناية إنما هو بالقرينة.


نعم ، يبقى ما استعمل منها في المعنى الأصلي مع الفرعي بالقرينة يصدق عليها أنها كلمة استعلمت فيما وضعت له ، لأنه لم يشترط الخصوص بأن يقول : فيما وضعت له فقط ، حتى تخرج ، ولعله لكون اللفظ لا يسميه كناية بذلك الاعتبار.

وعلى إخراج الكناية ـ كما ذكرنا ـ يكون المراد بالقرينة المخرجة عن الدلالة بنفس اللفظ القرينة المعينة لإرادة غير الأصل ، لا المانعة من إرادته ؛ وإلا لم يخرج إلا المجاز ؛ لأنه هو المصحوب بالقرينة المانعة عن إرادة الأصل دون الكناية ، فإن قرينتها يبقى معها جواز إرادة المعنى الأصلي مع الفرعي على ما يأتي إن شاء الله تعالى ـ فقد علم بما ذكر : أن المجاز والكناية يخرجان عن الحد (دون المشترك) فلا يخرج ، لأنه وضع وضعين فأكثر على وجه الاستقلال ، بمعنى أنه عين أولا ليدل على المعنى بنفسه ؛ أي : بلا قرينة ، ثم عينه غير الواضع الأول لمعنى آخر ليدل عليه بنفسه أيضا ، أو عينه واضعه أولا نسيانا للأول ، أو بلا نسيان.

فالقرء ـ مثلا ـ موضوع تارة ليدل بالاستقلال على معنى الحيض ، وتارة ليدل كذلك على الطهر ، فإذا استعمل في أحدهما واحتيج إلى القرينة المعينة للمراد لم يضر ذلك في كونه حقيقة ؛ لأن الحاجة إلى القرينة فيه لتعيين المراد ، لا لأجل وجود أصل الدلالة على المراد ، فقرينة المشترك تفارق قرينة المجاز في أن قرينة المشترك لبيان دلالة عين لها اللفظ أولا بدونها فعرضت الحاجة لتعيينها بمزاحمة وضع آخر مستقل ، وقرينة المجاز لبيان دلالة لم يكن اللفظ عين لها أو لا بدون القرينة بل عين لها مع القرينة ؛ هذا في المشترك المستعمل في أحد معنييه ، وأما المستعمل في معنييه معا ، أو أكثر ـ بناء على جوازه ـ فإن قلنا إنه حقيقة فيهما كما قيل فالقرينة أيضا لبيان دلالة كان اعتبر لها أولا بدونها ، وإن قلنا إنه مجاز فيهما فالقرينة لبيان دلالة اعتبر الوضع لها مع القرينة ، وعليه فلا يبقى في الحد جميع أفراد المشترك بل بعضها ، فليفهم.

فتقرر بما ذكر أن الخارج عن الحد هو المجاز والكناية دون المشترك كلا أو بعضا ، وأما ما يوجد في بعض النسخ وهو قوله : فخرج المجاز دون الكناية ـ فهو سهو من التاريخ ، أو من الأصل ؛ لأنه إن أراد أن الكناية يتناول الحد المذكور للوضع وضعها


فيصدق عليها أنها موضوعة وضعا حقيقيا فيتناولها حد الحقيقة المشتمل على الوضع فهي كلمة استعملت فيما وضعت له ، ولكن كونها موضوعة كذلك إنما هو باعتبار معناها الأصلي ؛ فهو فاسد ؛ لأن هذا الاعتبار يصح في المجاز إذ له وضع حقيقي باعتبار معناه الأصلي ، فإن قولك رأيت أسدا يرمي استعملت فيه الأسد مجازا ، ولا شك أن له في الأصل معنى حقيقيا وضع له وهو الحيوان المفترس ، وإن لم يستعمل فيه الآن ؛ فعليه لا يخرج المجاز أيضا ، ومعلوم أنه بذلك الاعتبار لا يسمى مجازا ، فالكناية بذلك الاعتبار أيضا لا تسمى كناية فإذا لم يصح دخوله باعتبار ما هو به مجاز ؛ فالكناية كذلك باعتبار ما هي به كناية ، وإن أريد أن الكناية موضوعة وضعا حقيقيا بالنسبة للمعنى الذي باعتباره كانت كناية وهو لازم معناها الأصلي ـ فهو فاسد ، لأن وضعها باعتباره لا يتناوله الوضع المحدود حتى يدخل ضرورة أن الوضع الحقيقي المحدود وهو تعيين للدلالة بالقرينة وأما التمحل في تصحيح ما ذكر بتفسير قوله : بنفسه بأن يقال : أي : من غير قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ، أو بأن يقال : من غير قرينة لفظية ، فكأنه قال في حد الوضع : هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير قرينة مانعة عن إرادة ما وضع له ، أو من غير قرينة لفظية فيخرج وضع المجاز عن هذا الحد ، لأنه هو الذي يكون بقرينة مانعة على ما يأتي ، أو بقرينة لفظية ولا يخرج وضع الكناية ، لأن قرينتها غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، بل يجوز معها إرادة المعنى الحقيقي ، وعلى هذا يكون حد الحقيقة شاملا لما له وضع يدل به اللفظ بلا قرينة أصلا ، وما له وضع يدل به اللفظ بقرينة غير مانعة من المعنى الأصلي ، أو بقرينة غير لفظية ، لأنا إنما أخرجنا بالنفس ما يكون بقرينة مانعة أو بقرينة لفظية ، فذلك التمحل لا عبرة به لأوجه :

أحدها : أن فيه الدور في التعريف ؛ لأنا أخذنا الموضوع وهو مشتق من الوضع في تعريفه ؛ لأنه آل الأمر إلى أن صار التعريف بذلك التمحل هكذا ، والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى من غير قرينة مانعة من إرادة الموضوع له ، والموضوع المذكور في التعريف لا يفهم إلا بالوضع وقد ذكر ليفهم به الواضع فجاء الدور وهذا الوجه يجاب عنه بأن المراد مصدوقه ، والغرض بيان المعنى في الجملة ، ولا يتعين التعبير بلفظ


الموضوع ، وإنما عبر به لأنه لم يقصد التعريف ، وإذا أريد التعريف عبر عن مصدوقه بعبارة أخرى فيقال مثلا : الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي ، كما قيل : إن الأصلي هو ما وضع له اللفظ أولا ، ولا معنى له غير ذلك ؛ فعاد الدور.

وثانيها : أن المفهوم من قولنا دل اللفظ بنفسه أنه دل بلا شيء آخر وراءه ، وليس فيه ما يشعر بأن المراد بلا شيء هو القرينة المانعة ، وباعتبار ذلك في الحد يحتاج إلى بيان فيه ، ولم يوجد.

وثالثها : أن قوله : من غير قرينة لفظية يقتضي حصر قرينة المجاز في اللفظية ؛ وهو فاسد ؛ فإنك لو قلت : رأيت أسدا ، عند قول القائل لك : ما أرهبك؟ في مكان لا يتحرك فيه الأسد الحقيقي فهم المعنى المجازي بلا قرينة لفظية.

ورابعها : أن غاية تصحيح هذا التمحل أن تكون الكناية حقيقة ، وهو فاسد على مذهب المصنف ، فلا معنى لتمحل ما يبطل مذهبه فحمله على السهو أوجب وبهذا يعلم أن ما يقال : لأنها منها دون المجاز لا يصح ؛ لأنه لا يتم إلا بنحو التمحل المذكور ، وقد تبين فساده وإنما قلنا كذلك ، لأنه إن لم يتمحل بنحو ما ذكر خرجت الكناية ؛ لأنها من حيث معناها الذي صارت به كناية لا تدل بنفسها بل بقرينة ، كما تقدم وعلى تقدير تسليم صحة ذلك التمحل لا يرتكب إلا بثبوت كونها حقيقة ، والمصنف لا يقول بذلك وإن صرح به السكاكي ـ فلا يحمل كلامه على ما يخالف مذهبه ، بل يحمل على السهو منه ، أو من الناسخ ؛ وذلك أن المصنف إنما يقول بأن لفظ الكناية استعمل فيما لم يوضع له وهو لازم معناه مع جواز إرادة الملزوم ، فليس عنده من الحقيقة وسنحقق مذهبه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولما عرف الوضع ـ ومعلوم أن الحاجة إلى تعريفه إنما هي بناء على الحق وهو أن دلالة الألفاظ وضعية يصح تبدلها وتختلف اللغات بحسب أوضاع تلك الدلالة ـ أشار إلى ما يخالف ذلك ، وأن ظاهر ما قيل مما فيه مخالفة لكون الدلالة وضعية فاسد ، فقال :


إنكار الوضع

(والقول بدلالة اللفظ) أي : وقول القائل : ـ وهو عباد الصيمري من المعتزلة ـ إن دلالة اللفظ (لذاته) لا بوضع الواضع ، بل اللفظ بينه وبين معناه ارتباط اقتضته مناسبة ذاتية له بها دل على ذلك المعنى (ظاهره) أي : ظاهر هذا القول (فاسد) بمعنى أن هذا القول مما يتفق على فساده ما دام محمولا على ظاهره ، لأن ظاهره أن اللفظ يفهم منه المعنى بالنظر لذاته ، ويلزم بحصول ذاته عند السامع حصول المعنى لديه ؛ لأن الأمر الذاتي لا يتخلف عن الذات فإذا تصور العقل ذات اللفظ تصور معه مدلوله ؛ فتكون دلالته عقلية كدلالته على وجود اللافظ به ؛ وإذا كانت عقلية استوت فيها العقلاء ؛ فيلزم أن يفهم كل واحد كل لفظ في كل لغة ، فيترتب على ذلك أنه لا يختص بلغة قوم على قوم وإذا فرض نقل لفظ إلى معنى مجازي بقرينة ليفهم منه ذلك المعنى المنقول إليه بالقرينة لم يصح ، وكذا إذا نقل ليدل بالقرينة ؛ لأن النقل عرضي فإذا أطلق ليفهم منه المعنى المنقول إليه دون معناه الأصلي لم يصح ؛ لأنه يقتضي المعنى بذاته وما بالذات لا يتخلف بالعارض من نقل مجرد أو بقرينة ، ويلزم منه أن لا يصح وضعه للضدين ؛ لأنه وإن أمكن أن يناسب الشيء الضدين معا بجهتين مختلفتين يلزم عليه اجتماعهما عند الإخبار باللفظ الموضوع لهما عن شيء واحد ؛ فالجون ـ مثلا ـ الموضوع للأبيض والأسود إذا قيل : هو جون فهم أنه أبيض وأسود معا ، واللوازم كلها فاسدة ؛ هذا إذا كان معنى قوله ؛ يدل بذاته ـ أنه يدل بذاته الظاهرية ؛ أي : من حيث إنه لفظ يدرك عند سماعه بخصوصه.

وأما إن أريد أنه يدل بأمر يرجع إلى حال في ذات اللفظ الخاص فيكون ظاهرا مدركا عند السماع أو خفيا ـ فلا تترتب هذه اللوازم ، ولكن يلزم عليه أن من أدرك ما صارت به ذات اللفظ دالة فهم المعنى فلا يتأتى النقل باعتبار هذه المدارك ؛ وإلى هذا الاعتبار يشير من يقول : إن إدراك الدلالة الذاتية يخص الله به من يشاء ويدركه غيره منه بالتعلم ؛ ويناسب هذا ما يحكى أن بعضهم كان يزعم أنه يفهم معنى اللفظ بطبعه ، فقيل له : ما معنى آدغاغ ؛ فقال : أجد فيه يبسا أظنه الحجر. وهو كذلك في لغة البربر.


قيل : إن هذا المعنى هو الذي صح عن عبادة ، فإن أراد حينئذ أن اللغة على هذا النمط وأن الأصل في الإدراك الطبع بالمناسبة ثم تدرك تلك المناسبة من تعليم المدرك من غير صحة النقل ـ فالمشاهدة تكذبه ، ضرورة صحة نقل الألفاظ ووضعها بحيث لا يفهم منها غير ما وضعت له كما قلنا فى الإلزام الأول ، وإن أراد ذلك مع صحة النقل والوضع باعتبار غير المدرك لها بالطبع لزم ـ صحته أيضا باعتبار ؛ إذا لا فرق بين أفراد الإنسان في أن ما يصح باعتبار فرد منها يصح باعتبار الآخر لصحة جهل الكل لتلك المناسبة ؛ فيلزم بطلان كون الدلالة طبيعية لصحة تخلفها فتخلفها الوضعية ، وغاية ما فيه : تجويز منع النقل لبعض الأفراد لعارض ، ولا حكم للنادر العارض.

وإن أراد أن اللفظ لا بد أن تكون فيه مناسبة ولا تكفي في الدلالة ، ولكن تحمل الواضع على الوضع ، وإلا لم اختص هذا اللفظ بأن يوضع لهذا المعنى دون هذا؟ فحينئذ إن كان مراده مناسبة غير موجبة للوضع بل مرجحة للوضع عند الواضع ولو شاء لأهملها ـ رجع إلى نحو ما تأوله به السكاكي ، كما يأتي ؛ وهو خلاف الظاهر.

وإن أراد مناسبة موجبة للوضع فهو فاسد مما تقرر في الحكمة أن المختار لا يجب عليه شيء وإلا انتفى الاختيار إن كان الواضع هو الله تعالى ؛ وهو الراجح ، وإن كان المخلوق ؛ فمن المعلوم أنه إنما يضع باختيار الله تعالى ؛ على أن المشاهدة تكذبه ؛ فإن المخلوق يضع ألفاظا وينقلها بالاختيار بلا رعاية مناسبة أصلا وإن أراد أن الاختيار من المخلوق محال بلا مناسبة فهو فاسد ؛ فإن اختياره لا يتوقف جزما كأخذ أحد الرغيفين ليكسر سورة الجوع بلا مرجح لأحدهما على الآخر فقد تبين أن هذا القول على ظاهره لا يصح.

(وقد تأوله) أي : القول بأن دلالة اللفظ إنما هي لذاته (السكاكي) أي : حمله السكاكي على غير ظاهره ، وذلك أنه قال : معنى قوله : يدل لذاته : أن فيه وضعا ذاتيا يناسب أن يوضع به لمعنى دون آخر مناسبة لا تؤدي إلى حد الإلجاء وقد تقدمت الإشارة لهذا التأويل آنفا فقول هذا القائل على هذا تنبيه على ما عليه أئمة التصريف المشتمل على الاشتقاق ؛ وهو ما ذكروه من أن للحروف في أنفسها خواص وأوصافا


بها تختلف أجناس الحروف كما اختلفت في مخارجها ؛ وذلك مثل كون الحرف مجهورا المقابل لكونه مهموسا ؛ أي : معه خفاء طبيعي ، ومثل كونه شديدا المقابل لكونه رخوا ، ومثل كونه متوسطا بين الشدة والرخاوة ، وغير ذلك كالتصحيح والإعلال ، والاستعلاء والانخفاض ، وأجناس ذوات هذه الأوصاف معلومة في محلها. وإذا كانت الحروف كذلك فمن مقتضى حكمة الواضع أن لا يهمل المناسبة عند الوضع ولو جاز عقلا تركها ـ فيضع ـ مثلا ـ ما يشتمل على ما فيه رخاوة لمعنى فيه رخاوة ومقاربة وسهولة ؛ كالفصم (بالفاء) الذي هو حرف رخو ؛ وقد وضع لكسر الشيء بلا بينونة ؛ لأنه أسهل مما فيه بينونة ولذلك وضع له القصم (بالقاف) الذي هو حرف شديد ؛ لأن الكسر مع البينونة أشد وكذا يضع ما فيه مستعل لما فيه علو وضده ، وعلى هذا القياس وما ذكروه أيضا من أن لتركيب الحروف في الكلمة هيئة خاصة تناسب معنى فتوضع له تلك الكلمة ؛ كما في النزوان فإنه على هيئة حركات متوالية فيناسب ما هو من جنس الحركة ؛ ولذلك وضع لضراب الذكر ونزوه على الأنثى وهو من جنس الحركة ؛ وكما في الحيدى فإنه على هيئة حركات متوالية فوضع للحمار الذي له نشاط في حركاته وخفته حتى إنه يحيد ويفر من ظله ؛ وكذا هيئة فعل بضم العين للزوم ؛ بمعنى : عدم التعدي للمفعول لأن الانضمام يناسب عدم الانبساط فجعلت دالة على الأفعال الطبيعية اللازمة لذواتها ككرم ، وجبن ، وشرف. ويناسب ما ذكر من رعاية خواص الحروف ما يقوله أرباب علم الحروف من أن لها حرارة وبرودة ، ورطوبة ويبوسة تناسب بها ما وضعت له الألفاظ المركبة منها ، وما يقوله المنجمون من أن حروف الاسم تشتمل على مناسبة تدل بها على أحوال مسماه وما يقع له من الحوادث طول عمره. وعند أهل الحق أن كل ذلك لله تعالى ؛ فعلى تقدير وجود دلالة عادية في شيء من ذلك فهي بالجعل من الله تعالى يمكن تخلفها وكون الحرف ـ مثلا ـ حارا أو باردا حرارة وبرودة تقتضي برودة أو حرارة في طبع مسماه ليس بالذات ، بل بالجعل ، ويمكن أن يجعل ذلك الربط في حرف مضاد له.


أنواع المجاز :

ولما عرف الحقيقة المقابلة للمجاز أشار إلى تقسيم المجاز ، ثم إلى تعريفه فقال : (والمجاز) في الاصطلاح قسمان : (مفرد ، ومركب) وهو في الأصل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه ، فهو مصدر ميمي على وزن مفعل قلبت فيه الواو ألفا بعد نقل حركتها للساكن قبلها ؛ كمقام ، ثم نقل لكلمة اتصفت بمعناه وهي الكلمة المستعملة في غير معناها الأصلي ؛ لأنها متصفة بالجواز ؛ إما على أنها جائزة مكانها الأصلي وهو ما تستعمل فيه بالأصالة إلى غيرها ؛ فتكون متصفة بمعناه على أنه وصف الفاعل ؛ فهو مصدر أطلق على الفاعل. أو على معنى أنها مجوز بها ؛ أي جازوا بها مكانها الأصلي ، وعدوها إياه ، فتكون متصفة بمعناه على أنه وصف المفعول ، فهو مصدر أطلق على المفعول ؛ ونحو هذا ذكره الشيخ عبد القاهر في أسرار البلاغة في وجه تسمية الكلمة بالمجاز. واستظهر المصنف أنه نقل من اسم المكان إلى الكلمة من قولهم : جعلت كذا مجازا لحاجتي ؛ أى : طريقا لحاجتى لأن الكلمة جعلت طريقا لفهم معناها الذي نقلت إليه فلم يعتبر فيها كونه جائزة ولا مجوزا بها ، بل كونها محلا للجواز وإنما استظهره لأن استعمال المجاز في المكان أكثر ، ونقله لما يشبه بالمكان ويتخيل فيه المحلية أنسب ، وعليه فيكون في الأصل من قولهم : جزت المكان ، لا بمعنى : تجاوزته ، بل بمعنى : سلكته ، ووقع جوازي فيه ؛ ولو كان ملزوما للتجاوز أيضا وما ذكره الشيخ عبد القاهر لا ينافي أن ينقل من المكان للفاعل أو المفعول لوجود التلبس بالفعل في كليهما ، لكن نقل المكان إلى ما يؤول بالمكان تأويلا غير بعيد أنسب. ولا يقال : إذا كان المرعي في الكلمة على ما استظهره المصنف أنها جعلت طريقا لفهم المعنى فالحقيقة جعلت طريقا لمعناها أيضا ؛ فلتسم مجازا بهذا الاعتبار ، بخلاف اعتبار أسرار البلاغة إذ لم يتجاوز بالحقيقة عن أصلها ؛ فيلوح من هذا رجحان الاعتبار الأول وإن كان هذا الأخير قريب المناسبة ؛ لأنا نقول : ما ذكر لبيان وجه التسمية ووجه ترجيح هذا الاسم في المعنى على غيره ، ولا يقتضي ذلك اطراد التسمية في كل ما وجد فيه المعنى المعتبر ؛ لأنه إنما اعتبر لإنشاء التسمية على وجه الخصوص بالمسمى كما لا يلزم انتفاؤها عند انتفاء المعنى فإنك إذا


سميت رجلا بخصوصه بأحمر لوجود الحمرة فيه ـ لم يلزم تسمية غيره بالأحمر ؛ لأن التسمية الخاصة لا تتعدى ولو كانت لسبب ، كما لا تنتفي بانتفاء السبب فيسمى أحمر ولو انتفت الحمرة. وإنما يلزم الاطراد والانتفاء بالانتفاء في الأوصاف التي إنما يقصد بها الإشعار بالمعانى دون الذوات بخصوصها ، فتشتق من المعنى وتوضع وضعا كليا ؛ فالقائم والأحمر ـ مثلا ـ إذا كانا وصفين فيما وضعا لمن وصف بالقيام والحمرة من غير رعاية خصوص الموصوف ـ فيتبع وجود المعنى في الشيء صحة الإطلاق عليه ، ويتبع عدمه عدم صحة الإطلاق. فالحقيقة ولو وجد فيها المعنى المذكور لا تسمى مجازا إذ لم يطلق المجاز على معناه ليشعر بالمعنى الذي اشتق منه فيتبعه ثبوتا ونفيا كما في الأوصاف وأسماء الأماكن بل اعتبر المعنى لترجيح الاسم للتسمية من غير قصد وضعه للمعنى الوصفي ، وكذا الحقيقة تختص بمعناها ولا يسمى المجاز باسمها لوجود معنى الحق والثبوت فيه باعتبار المعنى المنقول إليه.

ثم لما كان المجاز قسمين ـ كما ذكر : مفرد ، ومركب ، وهما متباينان ، وجمع المتباينين في حد واحد غير ممكن إلا بما يشعر بواحد منهما بخصوصه ، والمقصود الخصوص ـ عرف كلا منهم على حدة ، وقدم المفرد منهما لبساطته ، فقال : (أما المفرد) أي : المجاز المفرد (فهو الكلمة المستعملة) فالكلمة جنس خرج عنه الكلام بناء على أصل إطلاقها ، والمستعملة فصل خرج به الكلمة الموضوعة قبل الاستعمال فلا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة (في غير ما وضعت له) فصل خرج به الكلمة المستعملة فيما وضعت له على الإطلاق وهي الحقيقة ؛ سواء كان لفظها مرتجلا بأن لا يتقدم له وضع كسعاد وأدد ، أو منقولا بأن تقدم له وضع كزيد علم على شخص ، وسواء كان الارتجال والنقل في العلمية كما مثل ، أو في الجنسية كالعين في المعنى الثاني ؛ إذ لا بد أن يتقدم أحد الوضعين ، وكالأسد في الأول. ودخل في المنقول المشترك مطلقا إذ ليس من شرط النقل وجود المناسبة. نعم ، المشترك إذا تعدد فيه الوضع مع عدم الشعور بالوضع الأول فلا يسمى منقولا ، وهو من الحقيقة كما تقدم ، اللهم إلا أن يعني بالنقل تقدم الوضع ووجود آخر بعده بلا قرينة فلا يخرج ما ذكر عن المنقول ، ولكن


المعروف في النقل هو أن يكثر استعمال الاسم في بعض ما يصلح له حتى يتناسى الأصل ويهجر ويصير لا يفهم منه إلا ذلك الحاصل ، أو ينقل لمناسبة مع هجران الأول وعليه يكون المنقول مباينا للمشترك وإدخال مرتجل الأعلام بناء على أن العلم يسمى حقيقة ، وأما على أنه لا يكون حقيقة كما لا يكون مجازا فيرد دخوله في الحقيقة مع كونه لا يسمى بها ؛ تأمله.

وكذا يدخل ما ليس مرتجلا ولا منقولا ؛ كالمشتقات ؛ فليست مرتجلة محضة لتقدم وضع موادها ، ولا منقولة لعدم وضعها بنفسه قبل ما اشتقت له وقوله : (في اصطلاح التخاطب) متعلق بقوله : وضعت له يعني : أن المعنى الذي وضع له اللفظ في اصطلاح التخاطب بذلك اللفظ إذا استعمل المخاطب ذلك اللفظ في غيره فهو مجاز ، ويحتمل أن يتعلق بالمستعملة بعد تقييده بقوله : في غير ما وضعت له فيكون المعنى أن الكلمة المقيدة بكونها استعملها في غير ما وضعت له إذا استعملت في اصطلاح ؛ أي : بسبب اصطلاح التخاطب ؛ بمعنى أن مصحح استعمالها في ذلك الغير وسبب كونه غبرا هو اصطلاح التخاطب ـ تكون مجازا على ما تقدم في تعريف الحقيقة ـ وقد بينا أن هذا الوجه الثاني لا يخلو من تمحل ، وبكل تقدير إنما زاد هذا القيد لئلا يخرج المجاز المستعمل فيما وضع له في غير اصطلاح المستعمل ، وقد استعمل في اصطلاحه في غير ما وضع له ؛ كلفظ الصلاة إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ؛ فإنه مجاز ، ولو لا هذا القيد لصدق عليه أنه استعمل فيما وضع له ، ولم يصدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له على الإطلاق ؛ لأن الدعاء الذي استعمل فيه كان موضوعا في الجملة ؛ أعني : في اللغة ، ولما قيد باصطلاح التخاطب دخل ؛ لأن الدعاء غير موضوع له في اصطلاح الشرع فهو كلمة استعملت في غير ما وضعت له في اصطلاح المستعمل ؛ وهو ظاهر. ومثله ما إذا استعمله اللغوي في الأركان المخصوصة لعلاقة فإنه مجاز ؛ لأن الأركان غير موضوع لها في عرف اللغة ؛ وزاد هذا القيد أيضا ـ أعني قوله : في اصطلاح التخاطب ـ ليخرج عن التعريف ما هو من أفراد الحقيقة ؛ وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، لكن ليس غيرا في اصطلاح التخاطب وإنما هو غير


باصطلاح آخر ؛ كلفظ الصلاة إذا استعمل بعرف الشرع في الأركان المخصوصة فإنه حقيقة ، ولو لا هذا القيد لدخل في المجاز ؛ لأنه يصدق عليه أنه كلمة استعملت في غير ما وضع له ؛ إذ الأركان غير الموضوع له باعتبار اللغة ، ولما زاد في اصطلاح التخاطب خرج ؛ إذ لا يصدق عليه أنه مستعمل في غير المعنى الذي وضع له في اصطلاح المستعمل ؛ ضرورة أن الأركان وضع لها في اصطلاح المستعمل ، فلا يكون مجازا باعتبار اصطلاحه فيخرج عن التعريف ثم المراد بالوضع ما يصدق عليه مطلق الوضع فى الجملة ؛ الشامل للوضع النوعي ، والشخصي ؛ لأنه لو أريد به الوضع الشخصي لم يصدق الحد على التجوز في المشتقات ، إذ لا يصدق عليه أنه استعمل في غير الموضوع الشخصي لها ؛ وذلك أن المجاز يقتضي تقدم الوضع ، فإذا قيد بالشخصي لم يصدق أن لها وضعا شخصيا استعملت في غيره ؛ ضرورة أن اسم الفاعل ـ مثلا ـ إنما وضع نوعه ؛ لا كل شخص من ألفاظه التي يصح أخذها من الفعل. وكذا إذا أريد به الوضع النوعي لم يدخل نحو الأسد مجازا ، إذ لا يصدق عليه ، أنه استعمل في غير موضوعه النوعي ، لأن تقدم الوضع شرط ؛ فإذا خصص بالنوعي لم يصدق عليه أنه له وضع نوعي استعمل في غيره ، وإذا أطلق الوضع المنفي عمهما فإن قلت : يصدق على كل منهما أنه استعمل في غير ما وضع له ولا يلزم منه تقدم الوضع ، لأن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع فيصدق على كل منهما الحد ، ولو خصص الوضع قلنا : هذا اعتبار عقلي محض ليس كثيرا في العربية ، بل المدلول عرفا في قولنا : استعمل في غير الموضوع هو له ـ أن له موضوعا نوعيا أو شخصيا فيلزم ما ذكر.

ثم لو اعتبر ذلك لم يصح حد المجاز لأنه ذكر فيه ما يقتضي شرط العلاقة بين الموضوع له أولا وثانيا ؛ وذلك يفيد سبق الوضع لو حمل على ما يقتضي وجود وضع سابق كان في الكلام تناقض وتخاذل ؛ إذ يصير التقدير ؛ المجاز كلمة استعملت فيما لم توضع له من غير شرط تقدم الوضع لعلاقة بين الموضوع له أولا وثانيا ، ولا يخفى تخاذله ، فليتأمل.


وقد ورد على هذا الحد أيضا دخول المشترك الذي استعمل في معناه الثاني إذا كان وضعه في اصطلاح واحد ، لأنه كلمة استعملت في غير ما وضعت له أولا في اصطلاح التخاطب. وأجيب بأن المراد استعملت في غير كل ما وضعت له وضعا حقيقيا ، والمشترك بهذا الاعتبار لم يستعمل في غير كل ما وضع له وضع حقيقيا ، بل استعمل في بعض ما وضع له وضعا حقيقيا. ولا يخفى ما في هذا الجواب من اعتبار الغاية الخالي الكلام عن دليلها. وأجيب أيضا برعاية الحيثية ؛ أي : المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له من حيث إنه غير ما وضع له ، والمشترك في المعنى الثاني إنما استعمل من حيثية الوضعية لا من حيثية غير الوضعية ، ولكن هذا الاعتبار إن تم أغنى عن قوله : في اصطلاح التخاطب لأن ما أريد إخراجه وإدخاله به يخرج ويدخل بالحيثية ؛ كما لا يخفى ؛ فافهم.

(على وجه يصح) هذا فصل خرج به الغلط كما يأتي (مع قرينة عدم إرادته) أي : المجاز هو الكلمة المستعملة على الوجه المذكور مع مصاحبة قرينة دالة على عدم إرادة المتكلم للموضوع له وضعا حقيقيا فقرينة المجاز مانعة من إرادة الأصل ، وهو فصل خرج به الكناية كما يأتي.

ولما أعان ذكر قيود الحقيقة على فهم ما يراد إخراجه بغير هذين القيدين الآخرين لم يتعرض لما يخرج بغيرهما وهو أنواع الحقيقة التي تقدم تعريفها ، ولما لم يتقدم ما يدل على ما يخرج بهذين القيدين تعرض لذلك مع بيان ما أفاده قوله : على وجه يصح لإبهامه ، فقال : وحيث شرطنا في المجاز أن يكون على وجه يصح (فلا بد) له أعنى : المجاز. (من العلاقة) وهي ما أوجب المناسبة والمقاربة المقتضية لصحة نقل اللفظ عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي ؛ كالمشابهة في مجاز الاستعارة ، وكالسببية والمسببية في المجاز المرسل ، ليتحقق بتلك العلاقة أن الاستعمال على وجه يصح عند العقلاء ، لجريان اعتبار ذلك الاستعمال لديهم ، وبه يعلم أن العلاقة لا يكفي في المجاز وجودها ؛ بل لا بد مع وجودها من أن يعتبرها المستعمل ويلاحظها ، وتكون هي السبب في الاستعمال ؛ لأن ذلك هو المرعى عند العقلاء في كلامهم ، والمعتبر من العلاقة النوعية ؛ ولذلك صح


إنشاء المجاز في كلام العرب والمولدين ؛ بمعنى : أنا إذا عرفنا أنهم استعملوا لفظا في سبب معناه أو في المسبب عن معناه جاز لنا أن نستعمل لفظا آخر لمثل تلك العلاقة ، أو لعكسها ؛ لوجود الربط في كليهما ، ولا نقتصر على ما استعملوه فقط. فإن لم تكن العلاقة واستعمل اللفظ في غير معناه لانتفاء هذا المعنى خارجا : فإن كان عمدا فهو كذب ، وهو مما لا يلتفت لإخراجه من الحد وإن كان حقيقة ؛ لأن المفهوم منه معناه الأصلي ولو كان غير مطابق. وإن كان غلطا : فإن كان الغلط في الاعتقاد كأن يقول : انظر هذا الأسد مشيرا للفرس معتقدا أنه الرجل الشجاع صدق عليه حد المجاز ؛ لأنه في اعتقاده الذي هو المعتبر استعمله في غير معناه لعلاقة ، وإن لم يصب في ثبوت العلاقة في المشار إليه ؛ ولهذا إذا استعمله في معناه في اعتقاده فقال : انظر إلى الأسد ؛ معتقدا أنه هو الحيوان المعلوم فإذا هو فرس فهو حقيقة ؛ لاستعماله في معناه الأصلي في اعتقاده ؛ وإن لم يصب.

وإن كان الغلط في اللفظ فهو خارج عن الحد ؛ وهذا هو المراد بقوله : واشتراط العلاقة التي اقتضاها كون الاستعمال على وجه يصح بأن يكون لا ينكر عند العقلاء إنما هو ليخرج الغلط عن تعريف المجاز. وأراد بالغلط : اللفظي كما بينا. فإذا قال : خذ هذا الفرس مشيرا لكتاب ومريدا له صدق عليه أنه استعمل في غير معناه لكن لا على وجه يصح ، لأنه بلا علاقة ؛ فيخرج عن حد المجاز. ثم أشار إلى ما يخرج بقوله : مع قرينة عدم إرادته بقوله : (و) اشتراط وجود قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي لتخرج (الكناية) حيث يصدق عليها أنها لفظ استعمل في غير معناه بقرينة لكن ليست مانعة من إرادة المعنى الأصلي ؛ لأنها كما سيأتي لا بد أن يكون استعمالها في غير ما وضعت له مقارنا لتحقق جواز إرادة المعنى الأصلي ؛ والمراد بجواز إرادة المعنى الأصلي أن لا ينصب القرينة على انتفائه ؛ فعلى هذا إذا انتفى المعنى الأصلي عن الكناية ولم ينصب علم المخاطب بانتفائه قرينة لم ينتف عنها اسم الكناية ، وليس المراد أن يوجد المعنى الأصلي معها دائما ، فإنك إذا قلت فلان طويل النجاد ـ كناية عن طول القامة ـ صح على أن اللفظ كناية ولو لم يكن له نجاد ، وذلك حيث لا تقصد جعل علم


المخاطب بأن لا نجاد له قرينة على عدم إرادة المعنى الأصلي لكن إنما تخرج الكناية فقط بالقيد المذكور ويبقى الحد سالما للمجاز إن بنينا على أن لفظ المجاز لا يستعمل في معناه الأصلي والمجازي معا ، وإن جوزنا ذلك لم يشمله الحد ، لأن القرينة فيه لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. ثم إذا أسقط القيد المذكور لإدخاله دخلت الكناية أيضا ؛ وهو ظاهر.

ثم أشار إلى أقسام الحقيقة والمجاز فقال :

أقسام الحقيقة والمجاز

(وكل منهما) أي : من الحقيقة والمجاز أقسام أربعة : (لغوي ، وشرعي ، وعرفي) ثم العرفي إما (خاص ، أو عام) ففي الحقيقة أربعة : اللغوية ، والشرعية ، والعرفية الخاصة ، والعرفية العامة. وفي المجاز مثل ذلك. فالحقيقة اللغوية ما وضعها واضع اللغة ، والشرعية ما وضعها الشارع ، والعرفية الخاصة ما وضعها أهل عرف خاص كالنحويين في لفظ مخصوص ، والعرفية العامة ما وضعها أهل العرف العام ؛ أي : الذي لم يختص بطائفة مخصوصة من الناس. وستأتي أمثلتها. ويقال في الخاص : ما تعين ناقله ، وفي العام : ما لم يتعين والمراد بالتعين : أن يكون غير خارج عن طائفة خاصة ، وليس شرطه أن يعلم الشخص الناقل ، وبه يعلم أن ليس المراد اتفاق جميع أهل العرف أولا لا في العام ، ولا في الخاص. وظاهر هذا أن النقل لا بد منه ، وأن كثرة الاستعمال دليل عليه ، لا أنه نفسه. وقيل : النقل كثرة الاستعمال للفظ في بعض أفراد معناه ، أو في معنى مناسب للمعنى الأصلي.

واشتراط النقل منظور فيه إلى أصل دلالة الألفاظ ، وعدم اشتراطه بأن يجعل هو اتفاق كثرة الاستعمال حتى يصير الأصل مهجورا منظورا فيه إلى أن ذلك هو المحقق في مسمى المنقول ، ولا دليل على وجود نقل مقصود أولا. ثم النقل : قيل : لا بد فيه من المناسبة ، وقيل : لا وقد تبين بهذا أن نسبة الحقيقة إلى اللغة والشرع والعرف عاما وخاصا إنما هي باعتبار الواضع ؛ فإن كان الواضع واضع اللغة فلغوية ، أو الشارع فشرعية ، أو أهل العرف فعرفية خاصة أو عامة. والأقرب أن اختصاص أهل البلد بنقل لفظ دون سائر البلدان لا يسمى اللفظ به خاصة ، وإنما يسماه إن كانوا طائفة منسوبين


لحرفة كأهل الكلام ، وأهل النحو ، لأن الدخول في جملة أهل البلد لا يتوقف على أمر متكلف يضبط أهلها ، ولأن الغالب انتشار عرفهم في الكثير المتقارب لعموم أهل البلدان. وأما نسبة المجاز إلى ما ذكر من الشرع واللغة والعرف عاما وخاصة فتكون باعتبار الاصطلاح المنسوب إليه الشخص المستعمل في غيره ؛ بمعنى أن مستعمل اللفظ إن استعمله في غير ما اصطلح هو أو مقلده على وضعه له : فإن كان ذلك المستعمل في غير اصطلاحه لغويا فالمجاز لغوي ، أو كان شرعيا فالمجاز شرعي ، أو كان من أهل العرف العام فالمجاز عرفي عام ، أو كان من أهل العرف الخاص فالمجاز عرفي خاص. وإن شئت قلت : النسبة فيه باعتبار العلاقة ؛ فإن كان اللفظ باعتبار المعنى الذي نقل عنه إلى هذا لعلاقة ولولاها حينئذ لم يصح إطلاقه لغويا فالمجاز لغوي ، وإن كان شرعيا فشرعي ، أو عرفيا فعرفي خاص ، أو عام.

ثم أشار إلى مثال الحقيقة والمجاز لكل نوع ، وبدأ بمثالهما لغويين ، ثم الشرعيين ، ثم العرفيين خاصين وعامين بقوله : (كأسد) فإنه وضع (للسبع) وهو الحيوان المعروف لغة فهو حقيقة لغوية (و) هو بالنسبة (للرجل الشجاع) مجاز لغوي للعلاقة بينه وبين المعنى الأول ، (و) ك (صلاة) فإنه لفظ وضع (للعبادة) المخصوصة شرعا فهو حقيقة شرعية فيها (و) هو بالنسبة إلى (الدعاء) حيث يستعمل فيه للعلاقة بينه وبين العبادة مجاز شرعي ، (و) ك (فعل) فإنه وضع في عرف النحويين (للفظ) مخصوص وهو ما دل على أحد الأزمنة الثلاثة وحدث وقع أو يقع أو مطلوب الوقوع فيه ، فهو حقيقة عرفية خاصة في ذلك (و) هو بالنسبة (للحدث) الذي هو وصف قائم بالموصوف صادر منه كالضرب أو غير صادر كالحمرة مجاز عرفي خاص حيث يستعمل فيه لعلاقة بينه وبين المعنى الذي وضع له في النحو (و) ك (دابة) فإنه في العرف العام (لذي الأربع) كالحمار فهو حقيقة عرفية عامة فيه (و) هو بالنسبة (للإنسان) مجاز عرفي عام حيث يستعمل فيه لعلاقة بينه وبين ما وضع له في العرف العام. والعلاقة بين السبع والشجاع المشابهة ، وبين العبادة المخصوصة والدعاء اشتمالها عليه ، وبين اللفظ المخصوص والحدث دلالته عليه مع الزمان ، وبين الإنسان وذوات الأربع مشابهته لها في قلة التمييز


حيث تعتبر تلك المشابهة ولفظ الدابة في الأصل لكل ما يدب على الأرض فإن استعمل في ذات الأربع من حيث كونها مما يدب فهو حقيقة ، وإن استعمل فيها لخصوصها وروعي الدبيب لتحقق المناسبة الموجبة لتسميتها بخصوصها وكان ذلك من أهل العرف العام صار حقيقة عرفية عامة ، فنقله بعد ذلك إلى الإنسان للمشابهة مجاز عرفي عام. وإن استعمل فيها لخصوصها باعتبار اشتمالها على الدبيب كإطلاق لفظ الجزء على الكل من غير قصد التسمية لها بخصوصها ، وإنما اعتبر الدبيب للتجوز بحيث يصح أن يطلق على مخصوص آخر باعتباره كان مجازا فاستعمال الدابة في ذات الأربع تصح فيه الاعتبارات الثلاثة وذلك واضح.

نوعا المجاز

ولما فرغ من تعريف الحقيقة والمجاز وذكر أقسام كل منهما باعتبار النسبة إلى منشئه من اللغة ، والشرع ، والعرف العام والخاص شرع في بيان نوعي المجاز الذي هو المقصود بالذات في هذا الباب وهما المرسل والاستعارة ، وفي بيان أقسام كل منهما ، وقدم أقسام المرسل لقلة الكلام عليها فقال : (والمجاز) قسمان :

المرسل

(مرسل) أي : أحد القسمين ما يسمى مرسلا (إن كانت العلاقة) المصححة للتجوز (غير المشابهة) كما إذا كانت سببية ، أو مسببية على ما يأتي ، وذلك بأن يكون معنى اللفظ الأصلي سببا لشيء ، أو مسببا عنه ، فينقل اسمه لذلك الشيء وسمى مرسلا لإرساله ، أي : إطلاقه عن التقييد بعلاقة المشابهة فصح جريانه في عدة من العلاقات كما يتضح ذلك فيما يأتي من أمثلته إن شاء الله تعالى.

(وإلا) بأن لم تكن العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي غير المشابهة ، بل كانت نفس المشابهة كما في إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع (ف) ذلك اللفظ الذي كانت العلاقة بين معناه الأصلي والمجازي المشابهة (استعارة) فالمسمى بالاستعارة على هذا هو نفس اللفظ الذي استعمل في غير معناه الأصلي للمشابهة ، ولذلك تعرف الاستعارة بأنها هي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي للعلاقة التي هي المشابهة


كلفظ الأسد في قولنا : رأيت أسدا يرمي فإنه استعمل في الرجل الشجاع للمشابهة بينه وبين الحيوان المفترس المعلوم في الجرأة ، وإطلاق لفظ الاستعارة على اللفظ المستعار من المعنى الأصلي للمجاز من إطلاق المصدر على المفعول ؛ كالنسج بمعنى المنسوج ، وأصل الإطلاق التجوز ثم صار حقيقة عرفية (وكثيرا ما تطلق الاستعارة) في العرف أيضا على غير اللفظ المستعار الذي هو المفعول ؛ وذلك بأن يطلق لفظها (على استعمال اسم المشبه به في المشبه) وعلى هذا يكون مطلقا على فعل المتكلم الذي هو المصدر وهو الاستعمال ، وذلك هو الأقرب إلى الأصل في الإطلاق ، وبرعاية هذا الإطلاق أعني : إطلاقه على المعنى المصدري يصح الاشتقاق من لفظ الاستعارة كما هو شأن كل مصدر ، بخلاف إطلاق لفظ الاستعارة على نفس اللفظ المستعار ، فإنه لا يصح فيه الاشتقاق ؛ لأن المفعول لا يشتق منه ؛ إذ هو بمثابة الجوامد بخلاف المصدر. وإذا صح الاشتقاق من لفظ الاستعارة على إرادة المعنى المصدري به فيشتق منه لمتعلقاته وهي المشبه به ، والمشبه ، واللفظ والمستعمل للفظ ؛ فيقال : للمشبه : مستعار له ، لأنه هو الذي أتى باللفظ الذي هو لغيره وأطلق عليه ، فصار كالإنسان الذي استعير له الثوب من صاحبه وألبسه ويقال للمشبه به : مستعار منه ، إذ هو كالإنسان الذي استعير منه ثوبه وألبسه غيره ؛ حيث أتى منه بلفظه وأطلق على غيره. يقال للفظ : مستعار ، لأنه أتى به من صاحبه لغيره ، كاللباس المستعار من صاحبه للابسه. وينبغي أن يقال على هذا للإنسان المستعمل للفظ في غير معناه الأصلي : مستعير ، لأنه هو الآتي باللفظ من صاحبه كالآتي باللباس من صاحبه ولكن هذا الاشتقاق ـ أعني : الاشتقاق للمستعمل ـ لم يجر به العرف ، وإلى هذا أشار بقوله : (فهما) ـ أي : المشبه به ، والمشبه. ويقال فيهما : (مستعار منه ، ومستعار له) تشبيها للأول بصاحب الثوب ، وللثاني بلابسه من صاحبه كما بينا (واللفظ) أي : لفظ المشبه به يقال فيه : (مستعار) تشبيها له باللباس المستعار من صاحبه لغيره كما بينا.

وبهذا يعلم أنه في هذا الإطلاق أيضا مجاز صار حقيقة عرفية ، وعلى هذا فهو مشترك عرفي ، والأول أكثر وهو الذي يجري في التعاريف. فإن قيل : ما موجب كون


المعنى المجازي لا بد فيه من علاقة بينه وبين المعنى الأصلي ، ولم لا يصح أن يطلق اللفظ على غير معناه الأصلي بلا علاقة ، ويكتفى فيه بالقرينة الدالة على المراد قلنا : إطلاق اللفظ على غير معناه الأصلي ونقله له على أن يكون الأول أصلا والثاني فرعا تشريك بين المعنيين في اللفظ ، وتفريع لأحد الإطلاقين على الآخر ، وذلك يستدعى وجها لتخصيص المعنى الفرعي بالتشريك والتفريع دون سائر المعاني ، وذلك الوجه هو المناسب ، وإلا فلا حكمة في التخصيص ، فيكون تحكما ينافي حسن التصرف في التأصيل والتفريع. ولا يقال : المشترك لا مناسبة فيه فيكون تحكما ؛ لأنا نقول : لا تفريع فيه ولا تشريك بالقصد الأولى. وأيضا من حكمة الوضع أمران :

أحدهما : الرمز إلى المعنى باللفظ مع ضرب من الخفاء في الدلالة عند الحاجة للإخفاء.

والآخر : الإشارة إليه به مع الوضوح فيها عند اقتضاء المقام للوضوح ، وهذا المقصد إنما يكون في رعاية الانتقال من معنى لآخر ، لأن فيه يتصور الخفاء تارة دون أخرى كما تقدم ، وإنما ينتقل من معنى لما بينه وبينه مناسبة ، والمناسبة هي العلاقة ، فوضع المجاز لاعتبار العلاقة لإفادة هذا المقصد فإن قيل : الانتقال في المجاز من معنى لآخر لمناسبة قد يدعي ظهوره في المرسل ، لأن فيه الانتقال من ملابس لملابسه على ما يأتي ، وذلك بأن يختلج في صدر السامع المعنى الأصلي عند اختطاف اللفظ ثم يتصرف بالقرينة إلى غيره ، ويجد أقرب الأشياء إليه ملابسة المعنى بالقرينة ، فالملابسة صححت الاستعمال وأعانت على الفهم ، لأنه كثيرا ما يلتفت الذهن إلى ما في أطراف الشيء ، والقرينة أعانت أيضا على الفهم وأكدته ، وعينت المراد ، وأما مجاز الاستعارة مما بمعنى الانتقال فيه فإنك إن استعملت الأسد لم ينتقل منه إلى الرجل الشجاع من حيث إنه رجل شجاع ، إذ ليس لازما للأسد وملابسا له ، وإنما ينتقل منه إلى وصف الشجاع ، ولم يقصد ، إذ لا مشابهة بينه وبين معروضه ، ولو قصد كان من المجاز المرسل ـ قلنا : الانتقال من الأسد إلى لازمه الذي هو نفس الشجاع الذي هو عارضه ولازمه ، ولما كان ملابسا أيضا وعارضا للرجل ـ انتقل منه إلى الرجل الموصوف ؛ لأنه لا يراد هنا


اللزوم العقلي ، بل مطلق الملابسة المصححة لمطلق الانتقال ، ولو في أحيان ، وذلك كاف في الإعانة على فهم المراد مع القرينة ، فصار وجه شبه في التشبيه المبني عليه الاستعارة كالآلة للانتقال في مجاز الاستعارة ، فليتأمل.

أمثلة المرسل

ثم أشار إلى أمثلة المرسل ، وإلى أنواع علاقته فقال : (والمرسل) الذي تقدم أنه هو المجاز الذي ليست علاقته المشابهة (كاليد) التي وضعت في الأصل للجارحة المعلومة فإنها تستعمل مجازا مرسلا (في النعمة) والعلاقة كون اليد كالعلة الفاعلية للنعمة في أن العلة الفاعلية يترتب عليها المفعول وجودا كما يترتب وصول النعمة إلى المقصود بها عن حركة اليد ، ويترتب وجودها بوصف كونها نعمة على الغير بالفعل ، ولا شك في تحقق الملابسة بين العلة الفاعلية ومفعولها المقتضية للانتقال ، وكذا ما هو مثلها في الترتب ، فإن المترتب على الشيء ينتقل الذهن منه إليه ، وإنما قلنا : هو كالعلة الفاعلية ، ولم نقل : هي نفس العلة ؛ لأن المرتب عليه وصف اليد وحركتها ، لا نفس اليد ، والمرتب أيضا وصول النعمة واتصافها بكونها نعمة ، لا نفس وجودها في ذاتها ، لكن الملابسة الفهمية موجودة كما لا يخفى في الترتب الوصفي كما في الذاتي.

ويحتمل أن تعتبر اليد للنعمة كالعلة الصورية ، إذ بها تظهر كما يظهر المعلول بصورته ، أو كالعلة المادية لترتبها على اليد كما يترتب الشيء من مادته.

وعلى كل حال فالعلاقة هنا تعود إلى السببية الفاعلية ، أو الصورية ، أو المادية.

قيل : إن التجوز في اليد عن النعمة يشترط فيه الإشارة إلى المنعم ، فيقال : لزيد يد عندي ، ولا يقال : في البلد يد ، وورد عليه أن الإشارة إلى المنعم إن كان لكونه قرينة لم يختص ذكر المنعم بكونه قرينة ، وإن كان لشيء آخر فلا وجه لصحة أن يقال : عندي الأيادي التي لا يقام لها بالشكر من غير ذكر المنعم ويكون مجاز قطعا.

(و) كاليد أيضا إذا استعملت في (القدرة) فإنها فيها مجاز مرسل ؛ وذلك لأن آثار القدرة وسلطانها تظهر باليد غالبا مثل البطش والضرب والقطع والأخذ وغير ذلك كالدفع والمنع فينتقل من اليد إلى الآثار الظاهرة بها ومن الآثار إلى القدرة التي هي


أصلها ، فهي مجاز عن الآثار ، والآثار يصح إطلاقها مجازا عن القدرة ، ولا مانع من انبناء تجوز على آخر تقديرا.

فالعلاقة كون اليد كالعلة الصورية للقدرة وآثارها ؛ إذ لا تظهر إلا بها ، كما لا يظهر المصور إلا بصورته ، أو كون القدرة كالعلة المادية لآثار اليد ؛ لأنها أصلها كالمادة للصورة ، ولا شك أن العلة تستلزم معلولها في الجملة ، ويفهم منها أو تفهم منه ، فكذا ما هو بمنزلة أحدهما في الترتب المقتضي للانتقال والفهم ، وإن لم تكن هنا علة مادية ولا صورية لاستقلال كل من القدرة واليد والآثار في حقيقة ذاته فقد عادت العلاقة هنا أيضا إلى معنى السببية (و) ك (الرواية) التي وضعت في الأصل للبعير الذي يحمل المزادة ؛ وهي سقاء من ثلاثة جلود تجمع أطرافها طلبا لتحملها كثرة الماء ، فإنها مجاز مرسل إذا استعملت (في المزادة) التي هي سقاء الماء ولا تستعمل الرواية إلا فيه ، والجمع : مزايد ، كسطيحة وسطائح وزنا ومعنى ، وأما المزود الذي هو إناء الطعام للسفر ، وجمعه : مزاود فلا يستعمل فيه الرواية الذي هو اسم البعير الحامل للماء والعلاقة كون البعير حاملا مجاورا لها عند الحمل ، والمتجاوران ينتقل من أحدهما إلى الآخر ، ويحتمل أن ترد هذه العلاقة إلى مطلق السببية كما قبلها بأن يجعل البعير بمنزلة العلة المادية للمزادة ؛ لأن المزادة لا وجود لها بوصف كونها مزادة في العادة إلا بحمل البعير لها ؛ فصار توقفها بهذا الوصف على البعير كتوقف الصورة على المادة في أن لا وجود لأحدهما إلا مع مصاحبه.

والتوقف في الجملة يصحح الانتقال والفهم. ولما أشار بالمثال إلى بعض أنواع العلاقة ؛ وهي ما يكون كالعلاقة السببية في التوقف والانباء على ما قررناه شرع في التصريح ببعض أنواع العلاقة البيانية فقال :

علاقة الجزئية والكلية

(ومنه) أي : ومن المجاز المرسل ما كانت علاقته ملابسة الجزء للكل ؛ وهو قسمان :

أحدهما : (تسمية الشيء باسم جزئه).


وثانيهما العكس أعني : تسمية الجزء باسم الكل ولا يخفى ما في العبارة من التسامح ، لأن ظاهرها أن المجاز نفسه هو تسمية الشيء باسم الجزء ، وقد علمت أن المجاز هو اللفظ الذي كان للجزء وأطلق على الكل للملابسة ، ولكن لما كان سبب كونه مجازا معتبرا تسمية الكل به لكونه اسما لجزئه تجوز في جعل التسمية نفس المجاز ، فالأول وهو الذي صحة كونه مجازا إنما هي باعتبار كونه اسما للكل لكونه اسما لجزئه (كالعين) التي هي الجارحة المخصوصة في أصلها فإنها تستعمل مجازا مرسلا (في الربيئة) والربيئة : اسم الشخص الرقيب ، والعين جزء منه ، وقد أطلق اسم جزئه عليه ، ولكن لا يصح إطلاق كل اسم جزء على الكل وإنما يطلق اسم الجزء الذي له مزيد اختصاص بتحقق ما صار به ذلك الكل حاصلا بوصفه الخاص ، فإن الربيئة إنما تحقق كونه شخصا رقيبا بالعين ؛ إذ لولاها انتفت عنه الرقيبية ، فلذلك يقال فيه : يجب قتل العين واتخاذ الحذر منه ، ولا يقال : يقتل يد ، ولا يقتل رجل مرادا بهما الرقيب وقيل : إن الإسناد إلى العين لهذا المعنى من المجاز العقلي وإن جعل الكل ينسب إلى الجزء لكثرة الملابسة ؛ وفيه بعد.

(و) أما (عكسه) أي : عكس ما كان في تسمية الشيء باسم جزئه ؛ وهو ما كان في تسمية الجزء باسم الكل ف (كالأصابع) الموضوعة للأعضاء المعلومة ، فإنها تستعمل (في) أجزائها التي هي (الأنامل) مجازا مرسلا ، كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ)(١) أي : أنامل أصابعهم ، للعلم بأن جعل الأصابع بتمامها في الآذان غير واقع ، وقيل : إن هذا من باب نسبة الفعل الذي في نفس الأمر للكل لجزئه ، ولا يسمى مجازا ؛ كقولك : ضربت زيدا ، ومسحت بالمنديل ، فلا يكون مجازا ولو لم تضرب كلا ، ولا مسحت بالكل ، وفيه تعسف ؛ لأن نسبة مطلق الجعل إلى الأصابع كثيرا ما يراد به الكل ، فلو لا الآذان لجرى على الأصل. وأما نحو الضرب فلا يخلو من تصوره على الكل فجعل من باب الحقيقة ، وإلا لم يخل كلام عن مجاز غالبا ، وهو مذهب مردود ، ولا يخفى صحة الانتقال بعلاقة الجزئية والكلية.

__________________

(١) البقرة : ١٩.


علاقة السببية

(وتسمية) أي : ومن المجاز تسمية (الشيء باسم مسببه) والتسامح هنا وفيما بعده كما تقدم وذلك (نحو) قولهم : (أمطرت السماء نباتا) أي : أمطرت غيثا ، ولما كان النبات مسببا عن الغيث سموا الغيث بالنبات الذي هو اسم مسببه. وقد ذكر في الإيضاح من أمثلة تسمية السبب باسم المسبب قولهم : أكل فلان الدم. وهو بحسب الظاهر سهو ؛ إذ الدم اسم السبب وأطلق على مسببه الذي هو الدية الحاصلة عن الدم ، وزاده إشكالا بقوله في تفسيره : أي : الدية المسببة عن الدم ؛ فبين أن الدية التي أطلق عليها الدم مسببة ، والكلام في العكس ؛ أي : في إطلاق اسم المسبب على السبب ؛ كما في : أمطرت السماء نباتا ، لا في إطلاق اسم السبب على المسبب كما ذكر في أكل الدم. وأجيب بأن المعنى على اعتبار العلة الحاملة وهي سبب فأطلق عليها اسم المسبب ؛ لأن الدية رجاؤها هو السبب في الإقدام على الدم ، فأطلق الدم الذي هو المسبب باعتبار العلة الحاملة على السبب الذي هو الدية ، وإن كان الواقع في الخارج ترتب الدية على الدم ؛ لأن العلة الغائية يتأخر وجودها عن مسببها. ولا يخفى ما فيه من التعسف ؛ لأنه اعتبار عقلي بين الرجاء والإقدام ، وهو خلاف مدلول اللفظ ، مع ما فيه من الخروج إلى الاعتبارات العقلية المحضة التي لا يراعيها البلغاء. وأجيب أيضا بأن المعتبر هو الأكل وأخذ الدية ، ولا شك أن الأكل مسبب أطلق على السبب الذي هو الأخذ وهو في التعسف كالأول ، مع زيادة أن الدم لم يتعرض لوجه إطلاقه حينئذ على الدية مع أن الكلام في ذلك ، لا في الأخذ والأكل.

اعتبار ما كان

(أو ما كان عليه) أي : ومن المجاز المرسل عند الجمهور خلافا لمن جعل وجود المعنى فيما مضى كافيا في الإطلاق الحقيقي تسمية الشيء باسم الذي أطلق على الشيء باعتبار الحال الذي كان عليه أولا ، وليس ذلك الحال الذي باعتباره أطلق اللفظ موجودا الآن وذلك (نحو) قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(١) فقد أطلق اليتامى

__________________

(١) النساء : ٢.


على البالغين ؛ لأن إيتاء المال بعد البلوغ ، وإطلاق ذلك على البالغين إنما هو باعتبار الوصف الذي كانوا عليه قبل البلوغ ، لأنه محل اليتم ، وليس موجودا الآن ، إذ لا يتم بعد البلوغ. ولا يخفى أيضا صحة الانتقال لعلاقة ما كان عليه المسمى كما في السببية ، لأن الوصف مشعر بالموصوف في الجملة ، والموصوف كالسبب المؤدي للشيء ، لأن الصغر يئول إلى البلوغ إلا لعارض.

اعتبار ما سيكون

(أما ما يئول إليه) أي : ومن المجاز المرسل تسمية الشيء بالاسم الذي يطلق على ذلك الشيء باعتبار ما يئول إليه يقينا ، أو ظنا ، لا احتمالا ، وأما في الحال فلم يوجد سبب التسمية ، ولا شك أن الارتباط موجود بين الحال وما يئول إليه صاحبه ، وذلك مصحح للانتقال المصحح للتجوز ، وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) (١) أي : أعصر عنبا يؤول إلى أن يصير خمرا بعد العصر ، فقد سمي العنب باسم الحال الذي سيحدث ويؤول إليه المسمى ، وإنما لم أقدر أعصر عصيرا يصير خمرا ، لأنه يحتاج إلى تكلف في نسبة العصر إلى العصير ، كنسبة القتل إلى القتيل فإنه لا يصح إلا بالتزام أن الفعل يقارن تعلقه وصف المفعول به ، كما يقال في المفعول المطلق ، والتحقيق أن المفعول يتعلق به الفعل قبل وصفه بالمشتق ، ويترتب عليه صحة الاشتقاق ، وعليه يكون التقدير في أعصر خمرا أستخرج عصيرا يصير خمرا والتقدير الأول يغني عن التأويل ، فليتأمل.

ومما يشبه الإطلاق بحسب التأويل إطلاق اللفظ على الشيء لكونه في قوة الاتصاف بمعنى ذلك اللفظ ؛ كقولك : هذا الخمر مسكر في الدن (٢) ، واتصافه بذلك على وجه الاحتمال كاف على ظاهر كلامهم ؛ وفيه مخالفة لما ذكر في العلاقة الآلية.

__________________

(١) يوسف : ٣٦.

(٢) الدّنّ : ما عظم من الرواقيد (ويشبه ما يعرف عندنا بالزير أو ما هو أكبر) والجمع دنان.


الحالية والمحلية

(أو) تسمية الشيء باسم (محله) أي : ومن المجاز المرسل تسمية الشيء باسم المكان الذي يحل فيه ذلك الشيء ؛ ومن ذلك (نحو) قوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١) فإن النادي اسم لمكان الاجتماع ولمجلس القوم ، وقد أطلق على أهله الذين يحلون فيه.

فالمعنى : فليدع أهل نادية ؛ أي : أهل مجلسه لينصروه ؛ فإنهم لا ينصرونه ، والانتقال من النادي إلى أهله موجود كثيرا فصح التجوز بذلك الاعتبار.

(أو) تسمية الشيء باسم (حاله) عكس الذي فرغ منه ؛ بمعنى أن من المرسل تسمية المكان باسم ما يحل فيه ويقع في ضمنه (نحو) قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ)(٢) أي : في الجنة) (هُمْ فِيها خالِدُونَ) والرحمة في الأصل : الرقة والحنانة ؛ والمراد بها في جانب الله تعالى لازمها الذي هو الإنعام ، واستعمل في الجنة لحلوله على أهل الجنة فيها. ثم إن الإنعام أمر اعتباري ؛ إذ هو عبارة عن تعلق القدرة بإيجاد المنعم به وإعطائه للمنعم عليه ، وليس حالا في الجنة حقيقة وإنما الحال بها حقيقة متعلقة ؛ فهذا مجاز مرسل عن مجاز ضمني وهو إرادة المنعم به بالإنعام الذي هو الرحمة.

علاقة الآلية

(أو) تسمية الشيء باسم (آلته نحو) قوله تعالى حكاية عن السيد إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٣)). أي : ذكرا حسنا) فقد أطلق اللسان الذي هو اسم لآلة الكلام والذكر على نفس الذكر ؛ لأن اللسان آلته. ولا يخفى أن الانتقال من الحال إلى المحل ، ومن الآلة إلى ما هي له آلة صحيح ؛ فصح التجوز في هذين أيضا. ولما كان فيهما نوع خفاء ؛ لأن استعمال الرحمة في الجنة واللسان في الذكر ليس من المجاز العرفي العام فسر المراد بهما. فإن قيل : قد ذكر المصنف في مقدمة هذا الفن أن مبني المجاز إنما هو على الانتقال من الملزوم إلى اللازم

__________________

(١) العلق : ١٧.

(٢) آل عمران : ١٠٧.

(٣) الشعراء : ٨٤.


كما أن الكناية بالعكس ، وبعض أنواع علاقته على ما ذكرها المصنف لا يفيد اللزوم بحيث يكون مدلول اللفظ الأصلي لا ينفك عن معناه المجازي ، بل أكثرها لا يفيد ذلك ؛ فإن معنى اليتامى لا يستلزم معناه المجازي الذي هو البالغون ، وكذا العنب لا يستلزم الخمر ، وكذا النادي لا يستلزم أهله لصحة خلوه عنهم ، وكذا الرحمة لا تستلزم الجنة لصحة وقوعها في غيرها كما في الدنيا ، وكذا اللسان لا يستلزم مطلق الذكر لصحة السكوت ، هذا إذا اعتبر اللزوم في الوجود الذي هو الأصل في الفهم ، وإن اعتبر اللزوم فيما لم يتحقق إلا في نحو الكل مع الجزء. قلنا : قد تقدم أيضا أن المعنى باللزوم هنا اللزوم في اعتقاد المخاطب ولو العرف ، ولو في بعض الأحيان ؛ لئلا يقع التنافر والبعد بين المنتقل منه وإليه. ولا شك أن هذا اللزوم حاصل بين كل شيئين بينهما ارتباط ما لصحة الانتقال في بعض الأحيان من أمر لآخر بينهما التصاق ما وارتباط ما ، ولو جزئيا ، ولو لعرف ؛ ولو لآلة ؛ ولذلك يحتاج في الفهم في المجاز غالبا إلى معونة القرينة.

وبقولنا : قد تقدم أيضا أن المعنى باللزوم هنا إلخ يعلم أنه تقدم ما يغني عن هذا السؤال والجواب ؛ فافهم.

ولما فرغ من القسم الأول من قسمي المجاز ، وهو الذي تكون علاقته غير المشابهة ، ويسمى المرسل كما تقدم أشار إلى الثاني وهو الذي تكون علاقته المشابهة ، ويسمى استعارة كما تقدم أيضا ، وهو أكثر القسمين مباحث ؛ ولذلك أخره ليتفرغ لبسطه فقال :

الاستعارة

(والاستعارة) قد تطلق فتعرف بأنها مجاز ، أي : لفظ استعمل في غير معناه الأصلي بشرط أن تكون العلاقة بين ما استعمل فيه الآن وبين ذلك الأصلي المشابهة ، والمراد بكون علاقته المشابهة كون السبب الذي من أجله قصد له مستعمله هذا المعنى الذي ليس بأصلي له هو نفس المشابهة ؛ بمعنى أنه لو لا المشابهة ما نقله مستعمله إلى هذا المعنى الثاني ؛ لأن وجود المشابهة في نفس الأمر إذا لم يقصد الوصل بها لا يكفي في تسمية المجاز استعارة ، ولذلك يكون المجاز مرسلا ولو وجدت المشابهة إذا لم يقصد


جعلها علاقة ، فإن المشفر ـ الذي هو في الأصل شفة البعير ـ إذا نقل عن هذا المعنى الذي هو الشفة المقيدة بكونها للبعير ، وأطلق على شفة أخرى من حيث إنها مطلق شفة كشفة الإنسان ، لا بقيد كونها للإنسان بل من حيث إنها شفة كان مرسلا ، وإن وجدت المشابهة بينها وبين شفة البعير في الغلظ والانحلال عن اللثة مثلا. وهو من باب إطلاق اسم المقيد على المطلق ، والمقيد شفة البعير ، والمطلق شفة الإنسان ، لأن الغرض أن الإطلاق لا من حيث التقييد بكونها للإنسان وإلا كان من إطلاق المقيد على المقيد.

وإذا أطلق المشفر على شفة الإنسان لا من حيث إنها مطلق شفة ، بل من حيث إن شفة هذا الإنسان فيها من الغلظ والانحلال مثلا ما أشبهت به شفة البعير كان استعارة لانبناء الإطلاق على التشبيه ؛ وبهذا يعلم أن اللفظ الواحد يجوز أن يكون باعتبار ما يصدق عليه على وجه التجوز استعارة ؛ لإفادته أن معناه شبه بمعناه الأصلي ، ومجازا مرسلا لإفادته معنى مطلق باعتبار أصله فاللفظ الواحد يكون استعارة ومرسلا باعتبارين ، ومعلوم أن مفهومه مختلف بالاعتبارين ، ومصدوقه هو المتحد ؛ فإن كان المشفر استعارة كان مفهومه شفة تستلزم غلظا وانحلالا هما كنفس غلظ وانحلال شفة البعير ، وإذا كان مرسلا فمفهومه مطلق الشفة المستلزمة لكونها من حيث الإطلاق بعض معنى أصلها ، والمصدوق في الخارج متحد في بعض الأوقات. وإنما قلنا في بعض الأوقات لأن شفة الإنسان يجوز أن لا يكون فيها وجه شبه فيصدق فيها الإرسال دون الاستعارة. لا يقال : المفهوم من الإرسال مطلق الشفة وأما استلزامها لما ذكر فهو رعاية واعتبار للعلاقة ، لأنا نقول متى لم تفهم العلاقة ولو باللزوم صارت حقيقة عرفية ؛ وكذا الاستعارة متى لم تفهم المشابهة صارت حقيقة عرفية ، وإنما قلنا فيهما بالاستلزام لما ذكر ، ولم نقل : إن ما ذكر داخل فيما نقل له اللفظ ؛ لأن المنقول له اللفظ في الاستعارة هو الطرف المشبه وحده ، ولا يدخل فيه وجه الشبه إلا تبعا ؛ حيث يكون داخلا في مفهوم الطرفين ، وسيأتي تحقيقه ، والمنقول إليه في المرسل هو نفس المطلق ، والعلاقة هي السبب.

ومثل المشفر : المرسن ؛ الذي هو في الأصل مكان الرسن من البعير أو الدابة مطلقا ، فإذا استعمل في مطلق الأنف كأنف الإنسان من حيث إنه مطلق باعتبار المقيد الذي هو


أنف الدابة فهو مرسل ، وإذا استعمل في أنف الإنسان للمشابهة كأن يكون فيه اتساع وتسطيح كأنف الدابة فهو استعارة ؛ فيكون لفظا واحدا يصح فيه الإرسال والاستعارة في مصدوق واحد باعتبارين والمفهوم مختلف ، كما تقدم في المشفر ، وذلك ظاهر.

ثم هذا التعريف للاستعارة إنما هو إذا أطلقت ، كما تقدم و (قد تقيد بالتحقيقية) فيكون تعريفها : ما استعمل في غير ما وضعت له لعلاقة المشابهة مع تحقق ما استعملت فيه نفس الأمر ، فتتميز عن المكنى عنها والتخييلية (لتحقق معناها) حينئذ ؛ أي : حين استعملت فيه وعنى بها (حسا أو عقلا) دونهما.

والمراد بالتحقق الحسي : أن يكون معناها مما يدرك بإحدى الحواس الخمس فيصح أن يشار إليه إشارة حسية بأن يقال : نقل اللفظ لهذا المعنى الحسي ، وبالتحقق العقلي : أن لا يدرك بالحواس ولكن يكون متحققا في نفسه بحيث يدركه العقل ثابتا ثبوتا لا يصح للعقل نفيه والحكم ببطلان معناه في نفس الأمر باعتبار نظره ؛ أعني : نظر العقل خاصة ، بخلاف الأمور الوهمية فإن العقل يحكم ببطلانها دون الوهم ؛ فتصح الإشارة إليه إشارة عقلية بأن يقال : هذا الشيء المدرك الثابت عقلا هو الذي نقل له اللفظ.

أما خروج التخييلية بالتحقق فظاهر على مذهب السكاكي كما يأتي إن شاء الله تعالى في قوله :

وإذا المنية أنشبت أظفارها (١)

لأن الأظفار عنده استعيرت لصورة وهمية لا حقيقة لها ، وأما على مذهب المصنف فالمراد بالأظفار حقيقتها ، فلا يصح إخراجها إلا أن يعتبر أن الاستعارة إنما هي باعتبار إثباتها للمنية ؛ فيكون وهميا.

وأما خروج المكني عنها فلأنها عند المصنف هي إضمار التشبيه في النفس ، والإضمار أمر وهمي كما قيل ؛ وفيه بحث ؛ لأن الإضمار وإن كان اعتباريا ؛ لأنه عبارة

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب فى تهذيب اللغة (١١ / ٣٨٠) ، (١٤ / ٢٦٠) ، وكتاب الصناعتين ص (٢٨٤) ، وللهذلى فى لسان العرب (١٢ / ٧٠) (تمم) ، والإيضاح ص (٢٦٤) بتحقيق الدكتور / عبد الحميد هنداوى.


عن عدم الإظهار ، لكن لا يخرج بذلك عن تحققه عقلا ، وإلا خرجت الاعتباريات التي تتصف بها المعقولات والمحسوسات عن صحة الاستعارة التحقيقية فيها ، فتختص بالأمور الوجودية ؛ ولا قائل به ؛ فإنها من جملة ما تجري فيه العدميات.

وأما عند السكاكي : فالمنية أريد بها الطرف الآخر على ما يأتي وهو حقيقي ، بل حسي ؛ فلا يصح إخراجها على مذهبه ، ولكن هذا مبني على الأمر الظاهر في مذهبه ، والتحقيق أنه أراد أن المنية أريد بها الطرف الآخر وهو الأسد ادعاء لا حقيقة ، فتكون المكني عنها على مذهبه وهمية لا حقيقية أيضا ؛ لأن كون المنية أسدا غير محقق عقلا ، وفي كونها غير حقيقية ولو على هذا الاعتبار نظر ، لأن المعنى الذي أطلق عليه اللفظ محقق ، وإدخاله في جنس الأسد لو كان يكون به المعنى وهميا كانت كل استعارة وهمية ، فإن الأسد إذا أطلق على الرجل باعتبار الشجاعة لم يطلق عليه حتى أدخل في جنس الأسد ، فتكون وهمية ، وقد تقدم أنها تحقيقية فافهم.

(كقوله) أي : ومثال المتحقق حسا قوله : (لدى أسد شاكي السلاح) (١) أي : تام السلاح ؛ وهو مأخوذ من الشوكة. يقال رجل ذو شوكة ، أي : ذو إضرار ؛ فأصله : شاوك ، ثم أخرت العين فصار منقوصا ، فقيل : شاكي ، وفسرت شوكة السلاح بتمامه ، لأن تمام السلاح معناه كونه أهلا للإضرار به ، فيكون معنى تمامه : شدة حده ، وجودة أصله ، ونفوذه عند الاستعمال ، ويحتمل أن يكون تفسيرها بالتمام ؛ لأن طول السلاح وتمامه يدل على قوة مستعملة فيفهم منه أنه ذو شوكة ، ونسب إلى السلاح لاستلزامه هذا المعنى في صاحبه ، والخطب في ذلك سهل.

(مقذف) اسم مفعول من قذفه رمى به ؛ وهو يحتمل معنيين :

أحدهما : أنه قذف به في الحروب ورمى به فيها حتى صار عارفا بها فلا تهوله فيوصف بالنبالة في تلك الحروب وجسامة ؛ أي : قوة وعظمة خطر فيها من قولهم : هذا الأمر جسيم ؛ أي : عظيم.

__________________

(١) البيت لزهير بن أبى سلمى من معلقته المشهورة ، فى ديوانه ص (٧٣) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٠ ، ٤٨) ، والإيضاح ص (٢٥٧).


وثانيهما : أنه قذف في تلك الحروب بسبب اللحم الذي فيه الدال على قوته ، وبسبب عقله الدال على أنه أهل لها فصار من جملة من له جسامة بسببها قذف في الحروب ؛ ونبالة بسببها يقوم لها ، وهذا الوجه يخالف الأول في معنى الجسامة ، وفي ترتيب النبالة ، والجسامة في الأول على القذف ، وتقدمهما على الثاني ، ويحتمل أن يكون اسم فاعل ، ويكون المعنى : أن هذا الأسد من الرجال قذف باللحم ورمي به عند تقطيع أجسام الأعداء فصار من جملة المعدودين من أهل الجسامة ؛ أي : القوة الأسدية التي بها توصل وتمكن من تقطيع لحم الحيوانات ، والرمي به عنها ، ومن أهل النبالة التي بها يتوصل إلى ذلك التقطيع ، فإن القوة تحتاج إلى حيلة التوصل ، ألا ترى أن الأسد يحتاج إلى تحيل وتخيل يتمكن بهما من المراد ؛ ولذلك قيل إن الوجه الأول أعني : كون مقذف بصيغة اسم المفعول باحتماليه على ما تقدم ملائم للمستعار له ؛ فيكون تجريدا ، والثاني : أعني : كونه بصيغة اسم الفاعل على ما تقدم ملائم للمستعار منه فيكون ترشيحا ، ولا يخلو كونه ترشيحا من تمحل ما.

وقد علم مما قررنا أن الجسامة والنبالة لا تختص بتقدير كونه اسم فاعل ، ولا بكونه اسم مفعول ، بل تجري في الاحتمالين ؛ تأمله.

ولا شك أن الأسد في المثال مستعار لما يصدق عليه الرجل الشجاع وهو أمر متحقق حسا.

(وقوله) أي : مثال المتحقق عقلا قوله تعالى في تعليم العباد دعاءه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) فإن الصراط المستقيم في الأصل هو الطريق الذي لا اعوجاج به حتى يوصل إلى المطلوب ، واستعير لمعنى متحقق عقلا ؛ وهو القواعد المدلولة بالوحي ليؤخذ بمقتضاها اعتقادا وعملا ، ولا شك أن تلك القواعد أمر معنوي وهو المسمى بالدين الحق ؛ ولهذا فسر : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بقوله : (أي : الدين الحق) ووجه الشبه : التوصل إلى المطلوب بكل منهما.

__________________

(١) الفاتحة : ٦.


قال المصنف في الإيضاح : فالاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له ، ومعنى تضمن اللفظ تشبيه معناه بشيء إفادة ذلك التشبيه بواسطة القرينة ، وبالنظر إلى المعنى من حيث إنه لا يصلح أن يستعمل فيه إلا بعلاقة المشابهة ، وعلى تقدير صلاحية سواه فالقرينة مانعة من ذلك.

ثم قال : والمراد بمعناه ما عنى به اللفظ واستعمل اللفظ فيه ، يعني : لا المعنى الذي وضع له اللفظ وضعا مقيدا بكونه أصليا ، ولا يضر ببيان هذه الإرادة في التعريف ؛ لأن هذا هو المراد عند الإطلاق ، فالتنبيه عليه لزيادة البيان.

ثم قال : فعلى هذا أي : على ما ذكر من أن الاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له يخرج عن تفسيرها ما استعمل فيما وضع له ؛ نحو : زيد أسد ، ورأيت زيدا أسدا ، ومررت بزيد أسدا ؛ لأن لفظ الأسد في هذه الأمثلة وإن تضمن تشبيه معناه بشيء بواسطة إجرائه على غير معناه لا يصدق عليه على وجه يصح أنه ضمن تشبيه معناه بما وضع له ، وإنما قلنا : لا يصدق عليه ما ذكر على وجه يصح فلا يدخل لأن المعتمد في دلالة الكلام ما يصح ؛ وبيان عدم صحته أنه لو دخل والغرض أنه مستعمل في معناه الذي وضع له كان التقدير أن لفظ الأسد فيها تضمن تشبيه معناه الذي وضع له بمعناه الذي وضع له ؛ فيكون معنى الأسد في تلك الأمثلة مشبها بنفسه ، ضرورة أن معناه هو المستعمل فيه اللفظ ، وهو الموضوع له ذلك اللفظ ، وفي ضمن ذلك أنه مشبه ، وهو في نفس الأمر مشبه به ، وحاصله أن قولنا : تضمن هذا اللفظ تشبيه ما وضع له يقتضي ـ إذا حمل على الصحة التي هي أصل العبارة ـ أن هنا معنى استعمل فيه اللفظ وآخر وضع له ليصح تشبيه أحدهما بالآخر ، فإذا كان ما استعمل فيه هو معناه الذي وضع له اتحد المشبه والمشبه به ، وهو فاسد فأخذ من التفسير السابق أن نحو الأسد في هذه الأمثلة خارج بطريق اقتضاء التعبير المغايرة ، فيكون هذا الخارج من التشبيه ، لا من الاستعارة.


ويفهم من تعريف الاستعارة تضمن تشبيه معناه بما وضع له أنه لا يصح تشبيه معناها بالمعنى المجازي ؛ إذ لم يوضع له ، فلا يصح معنى النقل في الاستعارة من المجاز ؛ وهو ظاهر إن لم يصر حقيقة عرفية بالشهرة.

ويرد على ما قرر أن المشترك إذا شبه بعض معانيه ببعض واستعمل في المشبه صدق عليه أنه لفظ استعمل في معناه الذي وضع له متضمنا لشبهه الذي وضع له ؛ ضرورة أنه وضع لهما معا وليس فيه تشبيه الشيء بنفسه فيكون اللفظ مستعملا فيما وضع له مشبها بما وضع له لا يقتضي تشبيه الشيء بنفسه حتى يتكل عليه في إخراج نحو ما تقدم عن التعريف ، وقد أجبت عنه بما هو غير مرضي ، ولكن هذه مناقشة في مجرد اقتضاء ما ذكر لتشبيه الشيء بنفسه ، وإلا فلا يخفى خروج نحو : زيد أسد عن التعريف ، إذ ليس فيه تشبيه معناه بما وضع له ، بل فيه تشبيه غيره بمعناه ؛ ومسألة المشترك داخلة في الاستعارة لصدق حدها عليه ؛ حيث يستعمل بتلك الحيثية ، تأمل.

ثم قال : على أنا لا نحتاج في إخراج تلك الأمثلة إلى اقتضاء التشبيه المغايرة بين المعنى وما وضع له فتخرج تلك الأمثلة ، وإلا لزم تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن ما في قولنا : ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له لا نريد بها لفظ تضمن حتى نحتاج إلى الإخراج لما ذكر ـ وإن صح الإخراج به أيضا ـ وإنما نريد به المجاز بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيره ، فإذا أردنا تعريف الاستعارة من القسمين بعد التقسيم أخذ في حدها الجنس الجامع لقسمي المجاز دون ما هو أبعد ؛ لخروجه عن تعريف مطلق المجاز ، وإذا كان المناسب أن يؤخذ جنس هو المجاز ، لأنه هو الأقرب للنوع الذي أريد تمييزه عن مقابله ، فما تكون عبارة عنه فيخرج نحو : الأسد في الأمثلة السابقة ؛ لأنه حقيقة ؛ إذ هو مستعمل فيما وضع له ، والمجاز مستعمل في غير ما وضع له ويدل على أنه مستعمل فيما وضع له إجراؤه على ما لا يصدق عليه فوجب تقدير أداة التشبيه ليصح الكلام ، وإلا كان كذبا ، وحذف الأداة لإفادة التشبيه البليغ ، وعلى هذا يكون معنى قولنا : زيد أسد أنه كالأسد ، فيكون المحمول كونه شبيها بالأسد ، لا كونه ذاتا هي نفس الأسد مبالغة أو حقيقة ، وفرق بين المعنيين. ا ه كلامه مع بسط ، وفيه بحث ، لأن إخراج تلك


الأمثلة مبني على أن الأسد فيها مستعمل في معناه الذي هو الحيوان المعروف ، وأن الأداة مقدرة قبل الأسد ، ونحن لا نسلم أن الأداة مقدرة حتى يكون المراد بالأسد معناه الحقيقي ؛ لأن المقدر كالمذكور فيلزم انتفاء المبالغة في التشبيه ، وحيث كان المراد بنحو هذا التركيب إجراء الأسدية على زيد قضاء لحق المبالغة المقصودة وجب كون الأسد منقولا لمعنى هو المشبه ثم أجرى على زيد ، فالمراد بالأسد ذات مصدوقة للشجاع ، ثم أخبر بمفهومها عن زيد ، وإذا تحقق هذا صدق أن الأسد لفظ تضمن تشبيه معناه وهو ذات مصدوقة للشجاعة بما وضع له أصالة وهو الحيوان المفترس ، ولا يقال : فقد جمع بين المشبه وهو زيد والمشبه به وهو الأسد المعروف ، والاستعارة يجب فيها جحد المشبه ؛ لأنا نقول : المشبه هو ذات اتصفت بالشجاعة ولم يذكر لفظها وقد ذكر المشبه به مكانها فأخبر بمعناها عن زيد وأما زيد فليس مشبها به إلا من حيث كونه ذاتا صدقت عليها الشجاعة وبتلك الحيثية أخبر عنه ، وأما من حيث إنه شخص عين بهذا العلم فليس مشبها وإنما قلنا : إن المنقول له الأسد هو الذات المصدوقة للشجاعة لا مفهوم الشجاع لأنه بحسب الظاهر فاسد ، ضرورة أن الاستعارة مبنية على تشبيه أحد الطرفين بالآخر في وجه ثم ينقل لفظ المشبه به إلى المشبه ، ومفهوم الشجاع وجه شبه خارج عن الطرف المنقول إليه من طرفي التشبيه ، ولو أدخل مفهوم الشجاعة على المنقول إليه لزم صحة الاستعارة في المشبه مع عدم صحة التشبيه فيه ؛ ضرورة أن التشبيه لا يصح مع إدخال الوجه في الطرف المشبه ، وإلا لزمت الحاجة إلى وجه آخر ؛ وهو باطل ، ولكن هذا إنما هو في جمهور التشبيه وجله ، وإلا فقد يكون الوجه داخلا في مفهوم الطرفين فيلزم دخوله في المستعار له ، لكن تكون الدلالة عليه باللفظ المستعار تبعا ، إذ الأصل في النقل أن يكون للطرف بخصوصه لا من حيث الوجه فافهم.

وإذا تبين هذا ظهر أن الاستدلال على حذف الأداة بكون الأسد أجرى على زيد ومعلوم أن الإنسان لا يكون أسدا فتعين تقدير الأداة مبنى على أساس تبين انهدامه ، وهو أن يراد بالأسد معناه الأصلي ، فعلى هذا إذا قلنا : زيد أسد فهو بمنزلة رأيت أسدا يرمي في كونه استعارة ، وأنه لفظ نقل من المشبه به إلى المشبه ، وإنما يتعين كونه


تشبيها لو كان بحيث لو جعل في مكانه المشبه لم يصح ، فإن إسناد التشبيه هو أن لا يصح إيقاع المشبه موضع لفظ المشبه به ، وسواء حينئذ كان السطح بحيث تأتى في تقدير الأداة ، كقوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(١) أولا يمكن إلا بالتأويل والنظر إلى المعنى كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ)(٢) إذ لو جعل مكان البحرين المؤمن والكافر اللذين هما المشبهان ، أو قلبهما ، وقيل في غير القرآن مثلا وما يستوي المؤمن والكافر لم يصح مع قوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) إلى آخر الآية ؛ فتعين أن يكون تشبيها من جهة المعنى ، لا استعارة ، أي : المؤمن والكافر كالبحرين هذا عذب إلخ ، وههنا إن جعل لفظ المشبه مكان لفظ المشبه به صح أن يكون التقدير زيد ذات صدقت عليها الشجاعة كالأسد ، ويدل على أن الأسد منقول للمشبه وهو المجترئ تعلق المجرور به ؛ لأن المنقول إليه مشتق بخلاف لفظ الأسد في الأصل ، وذلك كقوله :

أسد علي وفي الحروب نعامة (٣).

أي : مجترئ على كاجتراء الأسد ، وفي الحروب هو نعامة ، أي : جبان ؛ لأن النعامة من أجبن الحيوانات ، ومثل هذا قوله :

والطير أغربة عليه (٤).

أي : باكية عليه ؛ فإن الأغربة جمع غراب ، وهو جامد في الأصل ، وإنما صح تعلق المجرور به باعتبار المعنى المنقول إليه وهو باكية ، وإنما نقل لفظ الأغربة إلى معنى الباكية لأن الغراب يشبه الباكي الحزين ؛ إذ يزعمون أن الغراب يعلم بالموت ، ومن لازم ذلك التحزن ، فقد تقرر أن هذا مثل : زيد أسد ليصح أن يكون استعارة ، وقد بينا ـ كما بسطه في المطول ـ أنه لا يرد عليه أن فيه الجمع بين طرفي التشبيه ، لأنا حققنا أن المنقول إليه لفظ الاستعارة هو المعنى المخبر به لا زيد ، وفيما تقرر نظر من وجهين.

__________________

(١) النمل : ٨٨.

(٢) فاطر : ١٢.

(٣) البيت لعمران بن حطان مفتى الخوارج ، شعر الخوارج ص (٦٤).

(٤) بعض بيت لأبى العلاء من قصيدة يرثى بها الشريف الطاهر الموسوى ؛ مطلعها :

أودى فليت الحادثات كفاف

حال المسيف وعنبر المستاف


أحدهما : أن ما ذكر في الاستدلال على أن أسدا في قولنا : زيد أسد استعمل في غير معناه الأصلي ثم حمل على زيد ليكون استعارة ؛ وهو تعلق المجرور به لنقله إلى المشتق وهو المجترئ ؛ إذ لو بقي على أصله كان جامدا فلا يصح التعلق به ـ يرد عليه أن الأسد استعمل في مفهوم المجترئ على أن يكون المجترئ هو المشبه كما هو ظاهر العبارة ، فهو فاسد كما تقدم ، لأن المستعار له هو الطرف المشبه ، والمجترئ وجه شبه ، ولا يدخل في الطرف حيث لا يكون داخلا في المفهوم كما هنا ، وإلا طلب وجه آخر لصحة التشبيه فتتبعه الاستعارة ، ولا وجه سوى الاجتراء ، وإذا بطل التشبيه على هذا الاعتبار بطلت الاستعارة المبنية عليه وإن استعمل في مصدوقه لم يتعلق به المجرور إلا باعتبار وصفه التابع المدلول عليه بالالتزام ، فحينئذ يصح التعلق إذا أريد به المعنى الأصلي لوجود الوصف فيه بالتبع أيضا ، لا يقال : أي مانع من أن يعتبر الوجه ثالثا للطرفين في التشبيه ، ثم يستعار لفظ المشبه به إلى المشبه مع الوصف ، فلا يقال : فهم الوصف بطريق اللزوم ؛ لأنا نقول : هو خلاف ما صرحوا به من أن المنقول له هو الطرف من غير إدخال الوصف في الدلالة إلا على طريق اللزوم أو التبع ؛ حيث يكون داخلا في مفهوم الطرفين ، وأيضا إن نقل اللفظ إلى مفهوم الوصف من غير رعاية الموصوف لزم كونه هو المشبه ؛ وهو فاسد ، وإن نقل له مع الموصوف كما فرض في البحث لم يصح التعلق بالمجموع لمجرد الطرف ، وإنما يصح التعلق حينئذ باعتبار يضمن الوصف ، والأسد في الوصف يتضمنه ، أو يدل عليه بطريق اللزوم الواضح فيصح التعلق به أيضا. وقد يجاب عن هذا بأن المراد بالتعلق التعلق المعنوي لا النحوي ؛ بمعنى أن المجرور إنما يناسب المشبه لا المشبه به ، فإن قوله : أسد علي لا يصح فيه أنه هو الأسد الحقيقي الذي كان مجترئا علي ، بل المعنى : أنه إنسان مجترئ علي.

وثانيهما : أن هذا الاستدلال يفيد أن نحو : زيد أسد يختار فيه كونه استعارة لا تشبيها بليغا ، وقد بين ذلك بأن الأداة إن قدرت لم توجد المبالغة ، وإن لم تقدر فقد وجد نقل اللفظ إلى معنى آخر تحقيقا لحق المبالغة فيقال : هب أن فيه المبالغة فلا يقتضي


ذلك كون اللفظ استعارة إلا لموجب نقل اللفظ ، لكن النقل المدعى غير مسلم وإن أمكن بحسب الظاهر ؛ وذلك أن صورة الذي سميناه تشبيها بليغا من باب ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به وذلك يكفي فيه إجراء اللفظ في الصورة الظاهرة.

وثم مرتبة أخرى وهو سوقه مسلما لا مدعى ، فقولك ـ مثلا ـ زيد أسد فيه ادعاء دخول المشبه في المشبه به ، والصورة الظاهرة كافية في ذلك ، وقولك : رأيت أسدا يرمى فيه إظهار تسليم الدخول بواسطة جحد المشبه في التركيب بالكلية ؛ ولا شك أن المرتبة الثانية أقوى من الأولى فهي أولى بالاستعارة ؛ والأولى ينبغي أن تسمى تشبيها بليغا ؛ ولا يسع المستدل إنكار المرتبتين لذكر المشبه في الأولى على وجه يصح فيه تقدير أداته لفظا ، وذكر المشبه به في الثانية على وجه لا يصح فهم المشبه معه إلا بالتأمل في القرائن فكأنه سلم دخوله في الجنس ولذلك حذف.

ومقصر الاستعارة على المرتبة الثانية لا يجهل معنى الأولى ، ولكن يرى أن الثانية أولى بالاستعارة ؛ وحينئذ يعود الاستدلال إلى البحث في المذهب الاصطلاحي ، ولا حجر في المذاهب الاصطلاحية ، لا سيما وقد ظهر وجهه فكأن المستدل يقول : لم لم يجعل من الاستعارة لإمكانها؟ فيقال : اقتصر على الثانية للأولوية المذكورة فجعل الأسد لمعناه مع إمكان نقله في هذا التركيب ؛ وذلك أن حاصل التشبيه البليغ الادعاء ، والادعاء لا يخرج الشيء عن أصل ، فروعي فيه تقدير الإدارة في نفس الأمر ، واكتفى بالادعاء بالصورة الظاهرة المفيدة لمطلق المبالغة ، فأبقى كل لفظ على معناه كما قدمنا ، بخلاف المرتبة الثانية فقد صير فيها المشبه من مسميات اللفظ فروعي ؛ فجعل اللفظ منقولا. ولا حجر في الاصطلاح.

وإذا تبين أن الأمر اصطلاحي فمن رأى إدخال المرتبة الأولى فله ذلك ؛ ويجب عليه أن يزيد ما يفهم به دخولها ، ومن لم ير ذلك أشار إلى إخراج ما ذكر بأن شرط الاستعارة أن لا يذكر المشبه على وجه يتمكن التشبيه فيه ؛ ومن ثم كان الخلف لفظيا ؛ إذ حاصله أن هنا تركيبا أجرى فيه المشبه على المشبه به وادعى دخول المشبه في جنس المشبه به ؛ وهل يجعل فيه لفظ المشبه به استعارة ويسمى به نظرا للادعاء؟ أو لا يسمى


ولا يقدر النقل ولو أمكن ؛ نظرا إلى أن الأولى بها ما هو أعلى؟ فقد اتفق على المعنى واختلف في التسمية اصطلاحا بتقدير النقل وعدمه ، وأما الحاصل من المعنى في نفس الأمر فمسلم من الفريقين ، فالاستدلال على هذا بحث في أمر اصطلاحي تبين وجهه ؛ وعليه لا يبقى تشبيه بليغ إلا باعتبار الصورة اللفظية كما تقدمت الإشارة إلى نحو ذلك في صدر هذا الفن من غير اعتبار إدعاء دخول المشبه في جنس المشبه به أصلا لما [ذكر](١) فتأمل في هذا المقام والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

هل الاستعارة مجاز لغوى أم عقلى؟

ثم لما اختلفوا في الاستعارة : هل هي مجاز لغوي أو عقلي ؛ أشار إلى ذلك ؛ وإلى توجيه القولين فقال : (ودليل أنها مجاز لغوي) أي : ودليل كون الاستعارة مجازا لغويا (كونها موضوعة) أي : كون اللفظ المسمى بالاستعارة موضوعا (للمشبه به لا) أنه موضوع (للمشبه ولا) أنه موضوع (ل) معنى (أعم منهما) أي : أعم من المشبه والمشبه به ، فإذا لم يوضع للمشبه ، ولا للقدر المشترك بين المشبهين الذي هو أعم منهما المستلزم لكون إطلاقه على كل منهما حقيقة كان استعماله في المشبه مجازا لغويا ؛ إذ يصدق عليه حينئذ أنه لفظ استعمل في غير ما وضع له ؛ وهذا هو معنى المجاز اللغوي ـ مثلا ـ لفظ أسد في قولنا : رأيت أسدا يرمي السهام موضوع للسبع ، وإن استعمل الآن في غيره فليس موضوعا لما استعمل فيه وهو مصدوق الرجل الشجاع ولا لأعم من مصدوق الرجل الشجاع ، والسبع المعروف وهو القدر المشترك بينهما كالحيوان المجترئ.

وإنما قلنا كذلك لأنه لو وضع للقدر المشترك بينهما كان استعماله في كل منهما حقيقة ؛ لاستعمال الحيوان الموضوع للقدر المشترك بينهما وبين غيرهما من أنواع الحيوانات ؛ فإنه حقيقة في كل منها ، حيث يستعمل فيها من حيث الحيوانية بحيث لم يوضع لمصدوق الرجل الشجاع ، ولا للقدر المشترك الأعم من الرجل الشجاع

__________________

(١) ما بين المعكوفتين زيادة من عندنا ليستقيم الكلام.


والأسد ، كان مجازا في الرجل الشجاع ؛ إذ لم يوضع له عموما ولا خصوصا ، وكونه لم يوضع لما ذكر مسلم بالإجماع من أهل اللغة.

وقد تقرر بهذا أن اللفظ الموضوع للمعنى الأعم إذا استعمل فيما يوجد فيه ذلك الأعم من حيث ذلك الأعم ؛ أي : ليشعر فيه ذلك الأعم ويدل عليه فيه كما وضع له فهو حقيقة ، فإذا قلت : رأيت إنسانا وأردت بالإنسان زيدا ؛ ولكن من حيث إنه إنسان ، لا من حيث إنه زيد ؛ أي : شخص مسمى بهذا الاسم مستعمل على الإنسان فإنه يكون حقيقة ، وكذا قولك : رأيت رجلا تريد زيدا من حيث وجود الرجولية فيه فإنه يكون حقيقة ، ولو استعلمت العام في الخاص من حيث خصوصه ؛ أي : للإشعار بخصوصه ، وجعلت ارتباطه بمعنى العام الموجود فيه واسطة للاستعمال ، وجعلت إطلاق اللفظ من استعمال لفظ الأعم في الأخص بسبب ملابسة الأعم للأخص في الجملة كان مجازا ، ومن ثم كان العام الذي أريد به الخصوص مجازا عند الأصوليين قطعا ، فكذا المتواطئ إذا استعمل في الفرد ليدل على خصوصه ؛ أي : من غير قصد إشعار بالأعم فيه ، ولا يضر في التجوز عدم إشعار الأعم بالأخص ، وعدم استلزامه إياه من حيث خصوصه لأنه تقدم أن الملازمة في الجملة تكفي في التجوز ؛ ولذلك يستعان على الفهم بالقرينة ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في بحث التعريف باللام.

والحاصل أن استعمال الأعم في الأخص من حيث العموم ؛ أي : ليفهم منه في ذلك الأخص معناه الأعم حقيقة ؛ إذ لم يستعمل اللفظ إلا في معناه العام الذي وضع له وصدق اللفظ عند الاستعمال على ذلك الخاص المفهوم بالقرينة لا يضر في كونه حقيقة لأن خصوصه لم يقصد نقل اللفظ له للعلاقة والالتباس بينه وبين الأعم وإنما يكون مجازا إذا قصد من حيث خصوصه ودلت القرينة على قصد النقل بخصوصه للعلاقة فتأمله ، ليندفع به ما يتوهم من أن إطلاق لفظ العام على الخاص مشكل إذ منه قولنا مثلا رأيت رجلا تريد به زيدا وقد عدوه في الحقيقة مع أنه استعمل في غير ما وضع له ووجه الدفع ظاهر ؛ لأنه استعمل في زيد ليفهم منه معناه العام الموجود في زيد ، وفهم الخاص بالقرينة من غير قصد نقل اللفظ له لا يضر في كونه حقيقة وذلك ظاهر (وقيل : إنها)


أي الاستعارة بمعنى أن الكلمة المسماة بالاستعارة قيل : إنها (مجاز عقلي) ولما كان في تحقق كونها مجازا عقليا غموض أشار إلى ما يعنيه القائل من سبب التسمية بالعقلي بقوله (بمعنى أن التصرف) الواقع لمن نطق بتلك الاستعارة إنما هو (في أمر عقلي) ويلزم من كون التصرف في أمر عقلي كون التصرف نفسه عقليا ، ولو عبر به كان أظهر ، والأمر العقلي المتصرف فيه هو المعاني العقلية ، والتصرف فيها هو جعل بعضها نفس الآخر ، ولو لم يكن كذلك في نفس الأمر وإدخال بعضها تحت جنس غيرها على وجه التقدير والاعتقاد الباطل وحسنه وجود المشابهة في نفس الأمر (لا) في أمر (لغوي) وهو اللفظ بمعنى أن المتكلم لم ينقل اللفظ إلى غير معناه وإنما استعمله في معناه بعد أن تصرف في تلك المعاني وصير بعضها نفس غيرها كما ذكرنا وبعد تصيير المعنى معنى آخر جيء باللفظ أو أطلق على معناه بالجعل ، ولو لم يكن معناه في الأصل.

وجعل ما ليس بواقع واقعا في التقدير والاعتقاد المبني على مناسبة المشابهة أمر عقلي وإليه أشار بقوله (لأنها) أي : لأن الكلمة المسماة بالاستعارة (لما لم تطلق على المشبه) الذي لم توضع له في الأصل (إلا بعد ادعاء دخوله) أي : دخول ذلك المشبه (في جنس المشبه به) بحيث تصير حقيقة المشبه بها الموضوع لها اللفظ شاملة للمشبه بإدخاله في جملة أفراده بالادعاء العقلي وبالاعتقاد التقديري المبني على المشابهة ؛ فالأسد مثلا لما لم يطلق على الرجل الشجاع حتى جعل فردا من أفراد الأسد بالادعاء (كان استعمالها) أي استعمال الكلمة المسماة بالاستعارة في المشبه (استعمالا فيما وضعت له) ضرورة أن العقل صيره من أفراده التي وضع لحقيقتها ؛ فتصير مستعملة فيما وضعت له كسائر أفراد الحقيقة الواحدة ، لا فيما لم يوضع له ، وقد تقدم أن المجاز اللغوي هو ما يستعمل في غير ما وضع له ، وهي على هذا التقدير مستعملة فيما وضعت له ، فهي حقيقة لغوية لاستعمالها فيما وضعت له بعد الادعاء والإدخال في جنس المشبه به ، فالتجوز في الحقيقة إنما كان في المعاني بجعل بعضها نفس غيرها ، ثم أطلق اللفظ فتسميته مجازا عقليا ظاهر نظرا لسبب إطلاقه ، وأما تسميتها استعارة فبإعطاء حكم المعنى للفظ ؛ لأن المستعار في الحقيقة على هذا هو معنى المشبه به بجعل حقيقته لما ليس حقيقة له ، وهو


المشبه ، ولما تبع ذلك إطلاق اللفظ سمي استعارة ، وقد فهم مما تقرر أن ليس المراد بالمجاز العقلي هنا ما تقدم صدر الكتاب ؛ لأن ذلك تصرف في الإسناد التركيبى بنسبة المعنى لغير من هو له في ذلك التركيب ، وهذا تصرف في التصورات بإدخال بعضها في بعض ، ثم يطلق لفظ التصور على المدخل الذي تصور أيضا.

وإنما قلنا إن التشبيه الذي انبنت عليه الاستعارة إدعاء دخول المشبه في جنس المشبه به وأن اللفظ لم يطلق على المشبه حتى جعل نفس المشبه به ، فأطلق عليه اللفظ على أنه من أفراد المشبه به الذي وضع له حقيقة لأن الإطلاق حقيقة لغوية ، وهو مجاز عقلي باعتبار ما انبنى عليه من التجوز في التصرف العقلي ؛ لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لم يكن فيه إلا مجرد نقل اللفظ من معناه لغيره ، وذلك يقتضي نفي كونه استعارة ؛ إذ مجرد نقل اللفظ من غير مبالغة في التشبيه حتى يصير المشبه نفس المشبه به لو صح أن يكون اللفظ به استعارة لصح أن يكون الأعلام المنقولة استعارة ؛ كزيد يسمى به رجل بعد تسمية آخر به ؛ لوجود مجرد النقل فيه ، ولا قائل به ويلزم أيضا لو لم تراع المبالغة المقتضية لإدخال المشبه في جنس المشبه به الذي بنينا عليه كون الاستعارة مجازا عقليا أن لا تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ إذ لا مبالغة في مجرد إطلاق الاسم عاريا عن معناه ، بمعنى : أن الاسم إذا نقل إلى معنى ولم يصحبه اعتبار معناه الأصلي في ذلك المعنى المنقول إليه لم يكن في إطلاق ذلك الاسم على ذلك المعنى المنقول إليه مبالغة في جعله كصاحب ذلك الاسم كما هو في الحقيقة الذي هو المشترك ـ مثلا ـ فإنه لما لم يصحبه معناه الأصلي ، انتفت المبالغة في إلحاق المعنى المنقول إليه بالغير.

والوجه الأول من هذين ينظر إلى أن عدم الادعاء المذكور يوجب صحة الاستعارة فيما لا تصح فيه ، ومن لازم ذلك مساواة تلك الحقيقة التي لا تصح فيها الاستعارة للاستعارة.

والثاني ينظر إلى التسوية بين الحقيقة والاستعارة في عدم المبالغة عند انتفاء ذلك الادعاء ومن لازم ذلك صحة الاستعارة في تلك الحقيقة المساوية للاستعارة في نفي المبالغة ، وإنما قلنا كذلك لأنه لا يخفى أن صحة كون المنقول حقيقة مبني على نفي


المبالغة التي هي من الخواص التي تفارق به الاستعارة في الحقيقة ، وأن نفي كون الاستعارة أبلغ في التشبيه ، يقتضي التسوية بين الحقيقة والاستعارة ؛ فيصح كون أحدهما نفس الأخرى. فالوجهان متلازمان اختلفا بالاعتبار ، ويرد الأول بأن نفي الادعاء لا يستلزم أن اللفظ لم يبق فيه إلا مجرد الإطلاق حتى يصح كون الأعلام المنقولة التي هي من الحقيقة استعارة ؛ وذلك لأن النقل بواسطة علاقة التشبيه والأعلام لا علاقة فيها أصلا ، فلم يلزم من نفي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به كون الأعلام المنقولة يصح أن تكون استعارة ؛ لعدم وجود أصل التشبيه فيها.

وأما الثاني : وهو أن نفي الادعاء المذكور يلزم منه مساواة الاستعارة للحقيقة في نفي المبالغة ؛ فيرد أيضا بأنه إن أريد بنفي المبالغة نفي المبالغة في التشبيه ، فيصير كأصل التشبيه أو كما لا تشبيه فيه أصلا ، ففاسد من وجهين : أحدهما : أنه مصادرة لأن نفي المبالغة يعود إلى معنى نفي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. والآخر : أن نفي تلك المبالغة لا يستلزم نفي كون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ لأن الأبلغية الموجودة في الاستعارة دون الحقيقة.

نقول : إنها هي الأبلغية الموجودة في سائر أنواع المجاز ، وهي كون المجاز كادعاء الشيء بالدليل على ما سيأتي. وتلك لم توجد في الحقيقة سواء كان تشبيها أو غيره فإن أريد بنفي المبالغة شيء آخر ، فلم يتصور حتى يحكم عليه ، ويلزم أيضا من عدم اعتبار دخول المشبه في جنس المشبه به ، أن من قال : " رأيت أسدا يرمي" أراد بالأسد زيدا. لا يقال فيه : إنه جعله أسدا ، كما لا يقال لمن سمى ولده" أسدا" إنه جعله أسدا ، وذلك لاستواء الإطلاقين في عدم ادعاء دخول ما أطلق عليه اللفظ في جنس صاحب الاسم.

وإنما يقال فيه سماه" أسدا" فثبت المدعى وهو إدخال المشبه في المشبه به ؛ فأطلق عليه لفظه ؛ فكان مجازا عقليا ويرد على هذا الوجه أيضا أن قول القائل فيما إذا قيل : " رأيت أسدا" إنه جعله أسدا بادعاء الأسدية له لو استلزم كونه مجازا عقليا لزم مثله في نحو : زيد أسد إذ يقال فيه جعله أسدا أيضا ، وهو حقيقة وليس بمجاز أصلا فضلا عن كونه عقليا.


وأجيب بأنا نلتزم كونه مجازا كما تقدم ؛ فإن قدرت الأداة لم يقل فيه جعله أسدا ، بل جعله شبيها بالأسد ، فلا يكون حينئذ إلا حقيقة. فإذا تقرر بما ذكر أن زيدا جعل أسدا في قولك : رأيت أسدا يرمي لزم كما قررنا فيما تقدم أن اللفظ حقيقة لغوية لإطلاقه على معناه ، وإنما جعل التجوز في كون الشيء غيره ، وهو أمر عقلي وينبغي أن يعلم أن ما تقدم من الاستدلال على جعل المشبه غيره ، إذ بذلك يصح كون المجاز عقليا يغنى عنه إطباق البلغاء على رعاية المبالغة في التشبيه حتى يجعل المشبه نفس الآخر.

نعم ، يرد أن يقال هذه المبالغة وهذا الإدعاء لا ينكره من جعله لغويا ، وكون اللفظ أطلق على غير معناه الحقيقى لا ينكره من جعله عقليا ، وإنما النزاع في أنه هل يسمى بالأول نظرا للإطباق على غير المعنى الأصلي أو بالثاني نظرا لذلك الادعاء فعاد الخلف لفظيا اصطلاحيا تأمل.

ثم أشار إلى ما يتأكد به كون الاستعارة إنما أطلقت على معناه الأصلي بعد ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فكانت مجازا عقليا لا لغويا كما تقدم فقال (ولهذا) أي ولأجل أن إطلاق الاسم على المسمى بالاستعارة ـ وهو اسم المشبه به ـ إنما هو بعد ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فصح بذلك كونه مجازا عقليا كما قررنا.

(صح التعجب) الذي أصله أن يشاهد وقوع أمر غريب أو يدرك (في قوله) في غلام قام على رأسه يظلله من الشمس (قامت) (١) حال كونها في وقت تمام القيام (تظللني) أي توقع الظل علي (من الشمس) وضمن التظليل المنع من حر الشمس ، ولذلك عداه بمن أي تمنعني من حر الشمس.

(نفس) فاعل قامت ، ولذلك اتصلت به تاء التأنيث ، وإن كان القائم غلاما من وصف تلك النفس أنها (أعز علي من نفسي. قامت) تلك النفس (تظللنى ومن عجب.

شمس تظللني من الشمس) فقد أطلق الشمس على نفس هذا الغلام ، ولو اعتبر أن لفظ

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٠) ، والشعر لأبى الفضل بن العميد ، نهاية الإيجاز ص (٢٥٢) ، والطراز (١ / ٢٠٣) ، والمصباح ص (١٢٩).


الشمس استعير في غير معناه الأصلي ، وذلك الغير هو الغلام الحسن الوجه ، ولم يدع دخول هذه النفس في جنس الشمس ، وإنما اعتبر كون اللفظ أطلق على الغلام وهو لم يوضع لم يكن معنى للعجب ؛ إذ لا غرابة في تظليل إنسان حسن الوجه كالشمس إنسانا آخر بخلاف ما إذا جعل نفس الشمس ، فيستغرب كون الشمس ـ ومن شأنها طي الظل وإذهابه ـ أوجبت ظلا لأنها على تقدير حيلولتها بين الشمس وبين الإنسان المظلل لا يرتسم ظل تحتها على ذلك الإنسان ؛ لأن الفرض أن لا مظلل سواها ، وبه يعلم أن التعجب من كون الشمس توقع عليه ظلا لأنها موجبة لنفيه لا لثبوته ، لا من كون شمس تحول بين إنسان ، وشمس أخرى ، وإن كان يمكن التعجب أيضا من ذلك من جهة أفرادها في الوجود (و) لهذا أيضا (صح النهي عنه) أي عن التعجب (في قوله لا تعجبوا من بلى غلالته) (١) أي : لا تعجبوا من تسارع الفساد والبلى إلى غلالته وهي شعار تلبس تحت الثوب ضيقة الكمين كالقميص ، والشعار ما يلي الجسد ، وتلبس أيضا تحت درع الحديد (قد زر) أي : شد (أزرار) قميص (ه) أي غلالته (على القمر) يقال زررت القميص عليه أزره إذا شددت أزراره عليه ، وبه يعلم أن تعديته إلى الأزرار فيه ضرب من التسامح ؛ لأنه إنما يتعدى إلى القميص ، ويتضمن الدلالة على الأزرار فالقمر في البيت استعارة للشخص صاحب الغلالة بعد أن صيره نفس القمر فنهى عن التعجب من سرعة بلاها لما تقرر أن ثياب الكتان يتسارع إليها البلى عند بروزها للقمر ومباشرة ضوئه لها وذلك أنه لما خشي أن يتوهم أن صاحب الغلالة إنسان تسارع البلى لغلالته فيتعجب من ذلك ؛ لأن العادة أن غلالة الإنسان لا يتسارع إليها البلى قبل الأمد المعتاد لبلاها ، نهى عن ذلك وبين سبب النهى ، وهو أنه لم يبق في الإنسانية بل دخل في جنس القمرية ، والقمر لا يتعجب من بلى ما يباشره ضوؤه ، فلو لا أنه صيره نفس القمر ثم أطلق عليه اللفظ مراعاة لكونه قمرا حقيقة لم يكن معنى للنهى عن التعجب من بلى غلالته ؛ لأن من جملة ما يتعجب منه بلى غلالة الإنسان قبل أمد بلاها المعتاد ، وإنما

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى (٢ / ٤٠) ، وهو لأبى الحسن ابن طباطبا العلوى ، الطراز (٢ / ٢٠٣) ، ونهاية الإيجاز ص (٢٥٣) ، والمصباح (١٢٩).


ينتفى التعجب عن بلى الكتان إذا لابسه القمر الحقيقي لا الإنسان ، وربما يتوهم أن القمر هنا لا يصح أن يكون استعارة لذكر طرفي التشبيه في التركيب الذي وجد فيه ؛ لأن ضمير الغيبة فيه عائد إلى الشخص الذي أطلق عليه القمر ، والجواب أن ذكر الطرفين إنما ينافي الاستعارة بناء على ما تقدم من كون نحو قولك زيد أسد من باب التشبيه ، إن جرى لفظ المشبه به على المشبه على أنه خبر كالمثال أو نعت أو حال ؛ لأن ذلك ينبئ عن التشبيه ضرورة أنه لا يصح صدقه على ما جرى عليه ، فتقدر أداة التشبيه نفيا لما يلزم من فساد الصدق كما تقدم على ما فيه ، وأما إذا ذكر المشبه لا على وجه ينبئ عن التشبيه ، كما في البيت لعدم جريان المشبه به عليه حتى يسهل تقدير الأداة نظرا للمعنى ولما جرى به الخطاب كثيرا من وجودها لفظا فهو استعارة كقولك : سيف زيد في يد أسد وكذا قولك : لقيني زيد رأيت السيف في يد أسد فإن نحو هذا التركيب لا يتأتى فيه تقدير الأداة إلا بزيادة في التركيب ، أو نقص بحيث يتحول الكلام عن ظاهره ؛ كأن يقال رأيت في يد رجل كأسد سيفا وما يكون كذلك لا تقدر الأداة فيه فيكون لفظ المشبه به مطلقا على المشبه فتصدق عليه حقيقة الاستعارة بخلاف ما ينبئ عن التشبيه فتقدر فيه الأداة على الأصل فيبقى كل لفظ على أصله ، فلا يصدق عليه حد الاستعارة ولم يستعمل فيه المشبه به في غير معناه. وقد تقدم أن هذا يقتضى كون نحو على لجين الماء استعارة وهم صرحوا بكونه تشبيها فانظره.

(ورد) هذا الاستدلال الذي حاصله ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به فيلزم استعمال لفظ المشبه به في معناه الأصلى بذلك الادعاء (بأن الادعاء) أى : ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به حاصله المبالغة في التشبيه ، حتى يفرض الأول نفس الثاني وذلك (لا يقتضى كونها مستعملة) أى : كون اللفظ المسمى بالاستعارة مستعملا (فيما وضعت له) حقيقة لأن تقدير الشيء نفس شيء آخر لا يقتضى كونه إياه حقيقة ، فتقدير الرجل الشجاع أسدا بالإصرار على ادعاء كونه أسدا لا يصيره أسدا حقيقة ، فإطلاق الأسد على الرجل الشجاع بعد الادعاء المذكور لا يقتضى أن لفظ الأسد أطلق على السبع الحقيقي ضرورة أنه إنما أطلق على الرجل الشجاع لا على ما


وضع له ، وهو السبع ، ولو ادعى أن الرجل الشجاع صار أسدا وههنا شيء يحتاج إلى تحقيق يندفع به وهو أن ما ذكر من كون لفظ الاستعارة أريد به غير معناه إنما يكون بنصب القرينة ، ونصب القرينة على إرادة ما لم يوضع له اللفظ ينافي ما أشير إليه من الادعاء والإصرار على أن اللفظ أريد به ما وضع له. والتحقيق الذي يندفع به ذلك أن يقال ليس المراد أن الجنس نفسه الذي قد ادعى دخول المشبه فيه ، وأصر على ثبوته للمشبه نصبت القرينة على عدم إرادته ، وإنما المراد أن المدعى بنى ادعاءه على أن الأسد مثلا جعل له بطريق التأويل والمبالغة فردان ، متعارف وهو الذي له الجراءة المتناهية والغاية في القوة فى جثة ذى الأظفار والأنياب والشكل المخصوص ، وغير متعارف وهو فرد آخر له تلك القوة والجراءة بنفسها لكن في جثة الآدمى وكأن اللفظ على هذا موضوع للقدر المشترك بينهما ، كالمتواطئ ، وادعاء وجود حقيقة في ضمن أفراد غيرها موجود في كلامهم كقول المتنبي في عده نفسه وجماعته من جنس الجن وعد جماله من جنس الطير :

نحن جن برزن في زى ناس

فوق طير لها شخوص الجمال (١)

ولما بنى الادعاء على هذا التأويل الذي أشعر به الدخول في الجنسية لا في نفس المستعار منه ، تحقق في محل الاستعارة شيئان :

أحدهما : وهو المتعارف هو الذي وضع له الأسد مثلا في الأصل ، ولو اقتضى هذا التأويل نفى الوضع له بخصوصه.

وثانيهما : وهو غير المتعارف هو الذي لم يوضع له اللفظ بخصوصه ولا بالعموم وإن اقتضى التأويل كونه موضوعا له بالعموم ، فاندفع ما توهم من أن الإصرار على ثبوت الأسدية مثلا للمشبه ينافي نصب القرينة على أنه أريد باللفظ ما ثبتت له الأسدية ، وذلك لأن الذي نصبت القرينة على عدم إرادته هو الفرد الذي ثبتت له الأسدية بشرط أن يكون هذا المتعارف والذي ادعيت له وأصر على ثبوتها له هو الفرد الغير المتعارف ، ولم تنصب القرينة على نفس الجنس الذي ادعى الدخول تحته ، وصدق

__________________

(١) البيت للمتنبى فى ديوانه (١ / ١٦٦) ، والإيضاح ص (٢٦٠) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى.


اللفظ ببقائه. ولا غرابة في أن يدعى أن ما أطلق عليه الأسد مثلا الآن ثبتت له الأسدية الجنسية ، ويعتبر بحسب ما في نفس الأمر نقل اللفظ عن غيره الذي وضع له أولا ، وتنصب القرينة على عدم إرادة ذلك الأصلى الشخصي ، ثم لما كان التأويل السابق حاصله المبالغة المقتضية لكون اللفظ كالموضوع للقدر المشترك الشامل للطرفين ، شمل التأويل الطرفين ؛ لأن المتعارف منهما اقتضى كونه غير مختص بالوضع وغيره اقتضى كونه موضوعا له بالعموم ، فعلى هذا لا يقال التأويل إنما هو في كون الغير المتعارف داخلا في الجنس تأمله.

ثم أشار إلى دفع اعتراض على هذا الرد وهو أن يقال إذا لم يقتض ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به ، كون اللفظ قد استعمل في معناه نظرا إلى أن الادعاء قد لا يطابق في الجملة فالتعجب والنهى عنه فيما تقدم يقتضيانه لإنبائهما عن الاتحاد والتساوي في الحقيقة الجامعة للطرفين فقال : (وأما التعجب والنهى عنه) أى : عن التعجب يعني الموجودين في البيتين السابقين (ف) إنما هما (للبناء على تناسي) أى : لرعاية تناسى (التشبيه) وذلك يرجع فى الحقيقة إلى ادعاء اتحاد المشبه والمشبه به (قضاء) أى : إنما تنوسي التشبيه ، لأجل القضاء أى : الأداء (لحق المبالغة) في التشبيه حيث أبدى الناطق بسبب ذلك التناسي أن ما ينبنى على أحد الطرفين ، ينبنى على الآخر ، فكما أن المشبه به لا يتعجب من ذلك الحكم باعتباره كما في البيت الثاني أو يتعجب من الحكم عليه بذلك الحكم كما في البيت الأول ؛ كذلك المشبه ؛ لأن المبالغة تنتهى إلى الاتحاد وإذا عاد التعجب والنهى عنه إلى المبالغة في التشبيه لم يلزم استعمال لفظ المشبه به في معناه الحقيقي ، كما لم يلزم في الادعاء لعودهما لغرض واحد هو المبالغة والحقيقة التى في نفس الأمر ، لا تتبدل بذلك. لا يقال إذا كان تسليم الادعاء لا يستلزم إطلاق اللفظ على معناه ؛ فالتعجب والنهى عنه لا يستلزمان فلا حاجة إلى الاعتذار عنهما بتقدير البحث فيهما ؛ لأن الادعاء كما تقدم علة فيهما. فإذا لم توجب العلة شيئا لم يوجبه المعلول ؛ لأنا نقول لا يلزم من التعليل بالشىء أن لا علة للمعلول سوى تلك العلة لجواز تعدد العلل للشىء الواحد في محال متعددة ، فالتعجب والنهى يوجبهما الادعاء ،


ويوجبهما تناسي التشبيه ، ويجوز أن يوجبهما غيرهما ؛ كالتساوي الحقيقي. فبين بالجواب أن بناءهما على الادعاء كما لا يوجب المدعى لا يوجب بناءهما على غيره ، حتى يكونا أقوى من الادعاء كما يشعر به لفظ كل منهما ؛ كما أشرنا إليه لصحة بنائهما على التناسي دون ما يكونان به أقوى ، كالتساوى الحقيقي لانتفائه في نفس الأمر.

وقد علم من مضمون الكلام أولا وآخرا أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به مسلم عند القائل بأن الاستعارة مجاز لغوى ومعلوم أن كون اللفظ أطلق على غير معناه الأصلى في نفس الأمر مسلم عند القائل بأنه عقلى ، وبقى النزاع في أن الاستعارة هل تسمى مجازا لغويا نظرا لما في نفس الأمر أو عقليا نظرا للمبالغة ، والادعاء. فالخلاف على هذا عائد إلى اللفظ والتسمية الاصطلاحية ، وقد تقدم ما يفيد ذلك تأمله ولما كان ظاهر الكلام الذي فيه الاستعارة ، يوهم البطلان والفساد فإنك إذا قلت رأيت أسدا في الحمام أوهم أنك تخبر برؤية الأسد المعلوم في الحمام ، وهو فاسد أشار إلى ما يتبين به الفرق بين كلام الاستعارة والكلام الباطل ، وهو مأخوذ مما تقدم وإنما أتى به زيادة في البيان فقال :

مفارقة الاستعارة للكذب

(والاستعارة) أى : والجملة التى فيها الاستعارة (تفارق الكذب) سواء كان ذلك الكلام الذي سميناه كذبا لعدم مطابقته لما في الخارج على وجه الادعاء وقصد الصحة أو على وجه التعمد للباطل (بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر) أى : يفارق كلام الاستعارة الكلام الذي هو كذب بوجهين :

أحدهما : أن الاستعارة في الكلام مبنية كما تقدم على التأويل أى : تأويل دخول المشبه في جنس المشبه به ، ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه ، والكذب أبقى فيه اللفظ على أصله لعدم التأويل ، فكان فاسدا لعدم مطابقته.

وثانيهما : أن الاستعارة لا بد فيها كسائر المجازات من نصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر الذى هو الأصل والكذب لا تنصب فيه القرينة على إرادة خلاف


الظاهر ، بل إن عرف المتكلم عدم مطابقته ، وقصد إظهار صحة الباطل ، فهو مجتهد في ترويج ظاهر الكلام أى : تسويغ صحته عند السامع ، وإن لم يقصد واعتقد الصحة فهو أبعد من نصب القرينة ، وهذا التفريق منظور فيه إلى ما يوهمه ظاهر اللفظ في بادئ الرأى ، ولا يحتاج إليه بعد رعاية وجود النقل الذى هو حاصل الفرق المذكور ، والاستعارة من حيث هى لا وجود لها إلا بالنقل ، فحقيقتها تنفى توهم الكذب كما أشرنا إليه فيما تقدم.

وأما كذب الاستعارة فأن لا يوجد النقل مع إظهاره أو ينتفى الحكم عن المنقول إليه فافهم.

وبقولنا والجملة التى فيها الاستعارة تفارق الكذب ، يندفع ما يقال من أن الاستعارة من قبيل التصور وليس معروضا للكذب حتى يحتاج إلى الفرق وهو ظاهر (ولا تكون علما) أى : لا يكون اللفظ المسمى بالاستعارة علما بمعنى أن حقيقة ذلك اللفظ لا يتصور فيها كونه علما في الأصل ؛ لأن الاستعارة ملزومة للوضع الكلى والعلم ملزوم للوضع الجزئي ، وهما متنافيان ، وتنافي اللوازم يؤذن بتنافي الملزومات ، وذلك لما تقدم وهو أن المشبه يعتبر دخول جنسه أى : حقيقته في جنس المشبه به أى : حقيقته ودخول الشىء تحت الشىء يقتضى عموم المدخول فيه ، فلزم اعتبار شيئين لذلك الأعم تحقيقا لمعنى العموم ولذلك جعل للمشبه به على طريق الدعوى فردان متعارف وغيره ومعلوم أن العموم المعتبر في المشبه به ينافي العلمية فيه وإلى هذا أشار بقوله (لمنافاته) أى : لمنافاة كون الشىء علما (الجنسية) المعتبرة في الاستعارة إذ العلمية تقتضى التشخص والتعين ، والجنسية تقتضى العموم وتناول عدة أفراد وهذا ظاهر في علم الشخص ، وأما علم الجنس فلا لإمكان العموم في معناه لكونه ذهنيا والإشعار بالذهن في معناه كما تقدم لا ينافي تعدد الأفراد له وتخصيص الاستعارة بالذكر في الامتناع ربما يفهم منه أن الامتناع في العلمية مخصوص بها. وأما المجاز المرسل فيجوز في العلمية ، وعبارة السكاكى (ولا يكون أى : المجاز في الأعلام) خلافا للغزالى في متلمح الصفة ، وما اقتضاه كلام المصنف من صحة كون العلم مجازا مرسلا لا مانع منه لصحة أن


يكون للعلم لازم يستعمل فيه العلم ، بل نقول إذا كان مبنى الاستعارة على تأويل ما ليس بالواقع واقعا ، فأى مانع من أن يعتبر في العلم لازم يقع به التشبيه فيقدر وضع العلم له ولو لم يوضع له ، ويكون في الموضوع الأول أقوى فيعتبر له فردان متعارف وغيره فإذا كان التشبيه بمعناه الجزئي ، فكما أن الموضوع كليا إنما كان التشبيه بذلك المعنى الكلى وحول في التقدير إلى ما هو أعم فإن الأسد إنما وضع للحيوان المعروف المشعر بخواصه المعلومة ثم قدر وضعه للحيوان المجترئ ، فكذا العلم كقيار مثلا الموضوع للفرس المعين ثم يشبه به إنسان معين في الجرى مثلا يمكن أن يقدر تحوله إلى ذلك اللازم للفرس فيصير له فردان هذا الإنسان وذلك الفرس ، فتصح الاستعارة فيما هو علم بطريق التأويل ، ولا يقال هذا هو قوله (إلا إذا تضمن نوع وصفية) ؛ لأنا نقول العلم المتضمن نوع وصفية ، معناه أن يكون صاحبه مشهورا بوصف حتى يصير متى أطلق فهم منه الوصف ، وما قررناه أعم من ذلك ، فبالوجه الذي صحت في متضمن الوصفية تصح بالشهرة في غيره بما يلازمه وصف يقع التشبيه به ولو لم يشتهر به ، ولا يقال العلم حينئذ على كلا الاعتبارين من الشهرة وعدمها إذا وقعت فيه الاستعارة صار نكرة ، والعلم إذا صار نكرة كقولك : ما من عمرو إلا وهو شجاع. لم يسم حينئذ علما ، وخرجت المسألة عما نحن بصدده من العلم فلا حاجة إلى استثناء المصنف ذا الشهرة ولا إلى ما ذكرت لأنا نقول التنكير في الأعلام إنما هو باعتبار تعدد الوضع فيراعى فيها مطلق المسمى ويصير نكرة والاستعارة مبنية على التشبيه ، وإذا فرض في الجزأين فتقدير الاسم تحولا بالدعوى لا يصيره نكرة ؛ إذ ليس هنا تنكير حقيقي بل معناه الأصلى معتبر فيه كما أن تقديره في اسم الجنس موضوعا لأعم لا يخرجه عن كونه مستعارا من معناه الأصلى فافهم.

ثم مثل للذى تضمن نوع وصفية بقوله (كحاتم) الموضوع لرجل معين ، ثم اشتهر بوصف الجود حتى صار لازما له بينا ، ومثله مادر في رجل معين مشهور بالبخل ، وسحبان في رجل معين مشهور بالفصاحة ، وباقل في رجل معين مشهور بضد الفصاحة وهو الفهاهة ، فحاتم لما اشتهر بالوصف صار اللفظ ولو كان القصد فيه أولا الشخص


المعين مشعرا بالوصف على طريق الدلالة اللزومية ، فيجوز أن يشبه بالشخص الذي وضع له شخص آخر في ذلك الوصف لاشتهار ما وضع له لفظ حاتم بذلك الوصف وقوته فيه في اعتقاد المخاطبين ، ثم يتأول اللفظ موضوع لصاحب وصف الجود المستعظم ، لا من حيث إنه شخص معين فإن كان الوضع إنما هو أولا فيفرض له بهذا التأويل فردان كما تقدم في الموضوع الكلى أحدهما متعارف ، وهو الشخص الطائي المعلوم المشهور بذلك الوصف والآخر غير متعارف ، وهو ذلك المشبه فيطلق اللفظ على غير المتعارف وهو هذا المشبه بتأويل أنه من أفراده ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل في الاستعارة مطلقا ليصح إطلاق اللفظ على ما لم يوضع له في الأصل ، وإذا كان لا فرق بين التشبيه والاستعارة إن بقى على معناه وكان كالغلط أو الكذب إن نقل بلا ذلك التأويل وقد تقدم أن التحقيق في مستند هذا الادعاء تراكيب البلغاء ، وإلا فيمكن أن يدعى أن مجرد التشبيه كاف فى نقل اللفظ لغير معناه الأصلى من غير إدخاله في جنس المنقول عنه ، ثم وقد تقدم أن التحقيق في مستند هذا الإدعاء تراكيب البلغاء ، وإلا فيمكن أن الذي بين في نحو حاتم يمكن كما تقدم أن يراعى في ذى الوصف الأقوى ولو لم يكن كحاتم في الشهرة ، فعلى ما تقرر إذا قلت : كان حاتم جوادا كان حقيقة حيث أريد الطائي المعروف وإذا قلت رأيت حاتما مريدا شخصا شبه بحاتم كان استعارة ، ويتحقق صحته بما ذكر ، ولما كانت الاستعارة من المجاز ، والمجاز لا بد له من قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له ، أشار إلى تفصيل قرينتها فقال (وقرينتها) أى : وقرينة الاستعارة (إما أمر واحد) أى : إما أن تكون القرينة أمرا واحدا والمراد بالأمر الواحد المعنى المتحد الذي ليس حقائق متعددة ، سواء دل عليه بلفظ التركيب أو بلفظ الإفراد ، وذلك (كما في قولك رأيت أسدا يرمى) بالسهام مثلا ، فإن حقيقة الرمى بالسهام قرينة على أن المراد بالأسد الرجل الشجاع ، إذ منه يمكن الرمى دون الحقيقي.

(أو أكثر) أى : أو تكون تلك القرينة أكثر من أمر واحد أى : معنى واحد بأن تكون أمرين أو ثلاثة أو أكثر بشرط أن يكون كل واحد مستقلا في الدلالة على الاستعارة


وذلك (كقولك فإن تعافوا) (١) أى : تكرهوا (العدل) أى : الذي جاء به شرعنا المطهر وهو ضد الجور (والإيمانا) بشرعنا وجواب الشرط رددتكم وألجأتكم إلى العدل والإيمان كرها. ودل على هذا الجواب قوله : (فإن في أيماننا) أى : في أيدينا اليمنى (نيرانا) أى : سيوفا كالنيران في اللمعان والإهلاك بها نلجئكم إلى الإذعان لجريان أحكامنا العدلية فيكم مع الجزية أو الإيمان بالله تعالى وبشرعنا ، فتعلق الفعل الذي هو تعافوا بالعدل يدل على أن المراد بالنيران السيوف ، وكذا تعلقه بالإيمان وكل منهما يكفي في الدلالة ولو حذف أحدهما لم يحتج للآخر ، وإنما دل كل واحد منهما لما أشرنا إليه من أن إباية العدل إنما يترتب عليه القتال للرجوع إليه.

والقتال للرد إلى العدل إنما يكون بالسيوف ؛ لا بالنيران الحقيقية ولم تحمل على الرماح ؛ لأن القتال غالبا إنما ينسب للسيوف فيقال : قاتلناهم بأسيافنا وغلبناهم بالسيوف ؛ لأنها أعم في القتال وألزم ، فكأنه يقول كما تقدم إن استنكفتم عن العدل ألجأناكم إليه كرها وقاتلناكم عليه بالسيوف ؛ وكذا إباية الإيمان فتعلق الفعل بكل منهما على حدة يشعر بالجواب الدال على أن المراد بالنيران السيوف وذلك الجواب هو قوله : تحاربون أو تقاتلون وتلجأون إلى الطاعة والإذعان للعدل أو إلى الطاعة لله تعالى بالإيمان أو نحو ذلك كما تقدم (أو معان ملتئمة) أى : مربوط بعضها ببعض بحيث يكون المجموع قرينة لا كل واحد منهما على حدة وبوصف المعاني بالالتئام في الدلالة مع تمثيل قوله أو أكثر بقوله تعافوا العدل والإيمان المقتضى لاستقلال كل منهما بالدلالة وتمثيل المعاني في الملتئمة بما كانت فيه الدلالة بالمجموع ، يعلم أن قوله : أو أكثر. لا يدخل فيه قوله أو معان ؛ لأن المراد بالأول كما تقدم ودل عليه ما ذكر أن يكون كل واحد بحيث يستقل بالدلالة والمراد بالمعاني أن يكون المجموع ، هو الدال فعلى هذا تصح المقابلة والعطف بأو المؤذنة بالتغاير ، لتباين المعطوفين (كقوله) (٢) أى : ومثال المعاني

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٦٠) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ، وتعافوا : تكرهوا. نيرانا : أى سيوفنا تلمع كأنها نيران.

(٢) البيت للبحترى فى ديوانه (١ / ١٧٩) ، والطراز (١٣ / ٢٣١) ، ورواية الديوان : " وصاعقة من كفه ينكفى بها .. على أرؤس الأعداء خمس سحائب".


الملتئمة قوله : (وصاعقة) أى : ورب صاعقة ، وهى فى الأصل نار سماوية تهلك ما أصابته تحدث غالبا عند الرعد والبرق (من نصله) أى : تكون تلك الصاعقة من نصل سيف الممدوح والنصل حديدة السيف وحدوث الصاعقة منه إما على طريق التجريد كما يأتي في البديع بأن يجعل نصل السيف أصلا تحدث منه صواعق على حد قولك لقيني منه أسد ، أو على طريق الاستعارة بأن تستعير الصاعقة إلى ضرب السيف الذي يقع به الإهلاك وعلى كل حال فهو يفيد الترشيح باعتبار أصله ؛ لأنه يلائم السحائب المستعارة لأنامل الممدوح في قوله (تنكفى) أى : تنقلب (بها) أى : بتلك الصاعقة والباء في بها للتعدية (على أرؤس الأقران خمس سحائب).

ومعنى البيت أن الممدوح كثيرا ما تحدث نار من حد سيفه يقلبها على أرؤس الأقران ليهلكهم بها ، والمراد بقلب النار قلب السيف الذي هو أصل تلك النار ، وإنما يقلبها بأنامله التى هى كالسحائب في عموم العطايا وكثرة النفع ، فقد استعار السحائب لأنامل الممدوح ثم ذكر الصاعقة على وجه التجريد أو الاستعارة ترشيحا باعتبار أصلها كما تقدم وذكر أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ، وذكر أن تلك الصاعقة يقلبها بقلب أصلها الذي هو السيف على أرؤس الأقران ليهلكهم بها ، وذكر لفظ الخمس عدد الأنامل فدل مجموع ذلك على أن المراد بالسحائب الأنامل ، وإنما لم يقل بدل الأنامل الأصابع للإشارة إلى أن قلب السيف على الأقران لقوة الممدوح يحصل بالأنامل ، والمراد العليا فقط بدليل ذكر ما يدل على أن عددها خمس فقط ، وجمع الأرؤس بصيغة القلة إما لاستعارة صيغة القلة للكثرة ، كما هو موجود في كلامهم وإما للإيماء إلى أن أقران الممدوح في الحرب غاية في القلة وإما للاستخفاف بأمرهم وتقليلهم في مقابلته.

ثم كون مجموع ما ذكر هو الدال فيه أنه لو أسقط بعضها كلفظ الخمس وأرؤس الأقران بأن يراد بالقلب تحريك السيف باليد فهم المراد اللهم إلا أن يراد الدلالة الواضحة البالغة ، ويمكن أن يراد بكونها معاني ملتئمة ، أنها ربطت لا على وجه العطف المؤذن بالاستقلال ، بل على وجه الربط المؤذن بعدم الاستقلال حتى لو حذف بعضها أفاد التركيب تقدير المحذوف.


أنواع الاستعارة باعتبار الطرفين :

(وهى) أى : والاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين وباعتبار آخر غير ما ذكر فهى (باعتبار الطرفين) أعنى المستعار منه والمستعار له (قسمان).

القسم الأول : الوفاقية ، وهى التى يمكن اجتماع طرفيها في شىء واحد.

والثاني العنادية وهى التى لا يمكن اجتماعهما. وإلى هذا أشار بقوله (لأن اجتماعهما) أى : إنما قلنا إنها تنقسم إلى قسمين باعتبار الطرفين ؛ لأن اجتماع طرفيها (في شىء) واحد (إما ممكن) بأن يكون المعنى المنقول إليه ومنه لا تنافي بينهما ، فيصح كونهما وصفين لشىء واحد وذلك (نحو) أى : المصدر المشتق منه (أحييناه فى) قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) أى) كان (ضالا فهديناه) فقوله : أحييناه مأخوذ من الإحياء وهو إيجاد الحياة في الشىء وإعطاؤها له ، وقد استعير لإيجاد الدلالة على الطريق الموصلة إلى المقصود. ووجه الشبه بين إعطاء الحياة وإيجادها لموصوفها ، وبين إيجاد الدلالة على الطريق الموصلة إلى المقصود ترتب الانتفاع والمآثر على كل منهما ، كما أن وجه الشبه بين الإماتة والإضلال ترتب نفى الانتفاع ، ولا شك أن الإحياء والهداية يمكن اجتماعهما في موصوف واحد ، وقد اجتمعا في جانب الله تعالى لأنه أحيا وهدى.

وقولنا الإحياء والهداية يمكن اجتماعهما أولى من قول المصنف فى الإيضاح والحياة والهداية مما يمكن اجتماعهما ؛ وذلك لأن أحيا فعل مأخوذ من الإحياء لا من الحياة فالإحياء هو المستعار حقيقة ، وإن تضمن استعارة الإحياء استعارة الحياة أيضا ، وإنما قلنا نحو المصدر المشتق منه أحييناه ، ولم ندع اللفظ على ظاهره ؛ لأن الاستعارة في أحييناه تبعية لكونه فعلا فجعلها في المصدر أولى لأصالته ، ولم يعتبر المصنف في هذا القسم استعارة الموت للضلال ، ولذلك قال نحو أحييناه ؛ لأن الطرفين أعنى الموت والضلالة لا يمكن اجتماعهما إذ الضلال سلوك طريق تؤدى إلى العطب كالكفر والموت لا يجامع ذلك الضلال أعنى الكفر ، إذ لا يقال في الميت ضال وأما كون الكافر

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.


بعد موته كافرا فذلك باعتبار إعطائه حكم الكافر وتسميته بما مضى وإلا فلا جحود بعد الموت.

(ولتسم) هذه الاستعارة التى يمكن اجتماع طرفيها في شىء واحد (وفاقية) لاتفاق طرفيها أى : لموافقة كل من طرفيها صاحبه في الاجتماع معه في موصوف واحد (وإما ممتنع) معطوف على قوله إما ممكن أى : اجتماع معنى طرفي الاستعارة إما ممكن ، وإما ممتنع لكونهما متنافيين (كاستعارة اسم المعدوم للموجود) أى : كامتناع اجتماع الطرفين في الاستعارة التى هى اسم المعدوم إذا نقل وأطلق على الموجود (لعدم غنائه) بفتح الغين أى : لعدم فائدته فإن الموجود العديم الفائدة هو والمعدوم سواء ، فينقل لذلك الموجود لفظ المعدوم لهذه المشابهة ، ولا شك أن معنى الطرفين أعنى : الموجود والمعدوم.

لا يجتمعان في شىء واحد بأن يكون موجودا معدوما ما في آن واحد ؛ لأن العدم والوجود على طرفي النقيض ، وكذلك عكس ما ذكر أعني : استعارة اسم المعدوم للموجود لعدم فائدته ، وذلك العكس هو أن يستعار اسم الموجود للمعدوم لوجود فائدته وانتشار مآثره فإن ذا المآثر الباقية والأنفاع المستديمة ولو كان مفقودا هو والموجود سواء في وجود الآثار عنهما وإبقائها إذ تحيى في الناس ذكره وتديم فيهم اسمه فتكون حياة ذكره كحياته ، فإذا نقل لفظ الموجود وأطلق على المعدوم المفقود لوجود مآثره حتى كأنه حاضر تحصل عنه الآن لكونه سببا فيها ، كانت استعارة لفظ الموجود لذلك المعدوم عنادية كالعكس ، وإليه أشار بقوله (ولتسم) هذه الاستعارة التى لا يجتمع طرفاها في شىء واحد لتنافيهما (عنادية) ؛ لأن طرفيها يتعاندان ، ولا يجتمعان في شيء واحد ، وإنما نص على العناد في الاستعارة دون التشبيه ؛ لأن العناد في الاستعارة المقتضية للاتحاد أغرب ، بخلاف المتشابهين (ومنها) أى : ومن العنادية وهى التى لا يجتمع مفهوم طرفيها الاستعارة (التهكمية) وهى التى يقصد بها الهزؤ والسخرية بالمستعار له (والتمليحية) وهى التى يقصد بها الظرافة والإتيان بشىء مليح يستظرفه الحاضرون ، وقد تقدم في التشبيه ما يفهم منه صحتهما في مثال واحد ، وإنما يختلفان في القصد ، ثم فسرهما باعتبار صورتهما الاستعمالية بقوله (وهما) أى : التهكمية والتمليحية (ما


استعمل في ضده) أى : هما الاستعارة التى استعملت في ضد معناها الحقيقي (أو نقيضه) أى : أو في نقيض معناها الحقيقي ، ومن تفسيرهما معا بشىء واحد يعلم أيضا كما تقدم أنهما إنما يختلفان بالقصد لا في الصورة الاستعمالية وإنما تتحقق الاستعارة التهكمية والتمليحية (ل) أجل (ما مر) أى : بسبب ما مر في التشبيه من أنه ينزل التضاد أو التناقض منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكم فيقال للجبان : ما أشبهه بالأسد فى تنزيل التضاد ولمنتفى الوجود ما أشبهه بالموجود في أنفاعه ، وقد علم أن اعتبار التضاد والتناقض بحسب الوصف في هذين المثالين إذ لا تضاد ولا تناقض في الموصوف. وبيان ذلك على ما سبق في التشبيه أن إظهار الشىء في صورة ضده مما يستظرف فتحصل به الظرافة عند قصدها ومقابلة السامع بضد ما يتعلق به لا شك أن ذلك مما يفيد عدم المبالاة به وتحقير شأنه وتزداد به إهانته فيحصل بذلك تهكم به عند قصده ، وقد تقدم زيادة تحقيق لذلك هنالك فليراجع.

ثم مثل للتهكم في الاستعارة فقال (نحو) قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١) أى : أنذرهم فقد استعيرت البشارة أى : لفظ البشارة التى هى الإخبار بما يظهر عند الإخبار به سرورا في وجه الشخص المخبر بذلك الشىء الذي يظهر السرور للإنذار أى : استعير لفظ البشارة للإنذار الذي هو ضده أى : ضد ذلك الإخبار فيكون الإنذار هو الإخبار بما يظهر به خوف وعبوس في وجه المخبر ، حيث تضمن الإخبار الوعيد بالهلاك ، وأنه استعير لفظ البشارة للإنذار بواسطة تهكم واستهزاء بالذي أمر بإخباره ، وذلك بأن أدخل جنس الإنذار في جنس البشارة على سبيل عده مناسبا تهكما واستهزاء ، ونحو قولك في التمليح رأيت أسدا وأنت تريد جبانا على سبيل التمليح والظرافة وفهم أن التهكم أو الملاحة بقرائن الأحوال والذوق شاهد صدق على اعتبارهما في عرف البلغاء ، ولا يخفى أن البشارة والإنذار لا يجتمعان في شىء واحد من جهة واحدة بحيث يكون المبشر به هو المنذر به والمبشر هو المنذر ، بخلاف ما إذا اختلفت الجهة كإنذار العدو بما يسر الحبيب أن يقع في عدوه فيكون إنذارا للعدو

__________________

(١) التوبة : ٣٤.


وتبشيرا للحبيب ، وكذا الشجاعة والجبن لا يجتمعان من جهة واحدة بخلاف جهتين كقوله :

أسد على وفي الحروب نعامة

فقد تبين أن التهكمية والتمليحية عنادية ومثال الاستعارة في النقيض أن يقال في انتفاء الحضور لزيد مع وقوع منافع خلفها مع حضور زيد فزنا في يومنا هذا فيستعير الحضور لانتفائه للمشابهة في الانتفاع من غير تهكم ولا ظرافة ولا يخفى مثالها باعتبار وصف المستعار له ، فمطلق العنادية أعم من التهكمية والتمليحية ؛ لأنهما مختصان بالمتنافيين اللذين توصل إلى الاستعارة فيهما ، فجعل التضاد بينهما كالتناسب. ومطلق العنادية تصدق في المتنافيين مع كون الجامع حقيقيا مقررا فيهما ، كما في المعدوم والموجود في الغناء والفائدة.

ثم أشار إلى التقسيم في الاستعارة باعتبار الجامع فقال :

أنواع الاستعارة باعتبار الجامع

(و) الاستعارة (باعتبار الجامع) أى : ما قصد اجتماع الطرفين فيه ويسمى في باب التشبيه وجه شبه ، كما يسمى في باب الاستعارة جامعا (قسمان) وذلك (لأنه) أى : لأن الجامع بين المستعار منه والمستعار إليه (إما داخل في مفهوم) ذينك (الطرفين) أعنى المستعار منه وإليه بأن يكون جنسا لهما ، أو فصل الجنس لهما وذلك (نحو) قوله عليه الصلاة والسّلام (١)." خير الناس رجل أمسك بعنان فرسه (كلما سمع هيعة طار إليها) أو رجل في شعفة في غنيمة حتى يأتيه الموت" قال الزمخشرى : الهيعة الصيحة التى يفزع منها وأصلها من هاع يهيع ، يعني إذا جبن فكأن الصيحة لما أوجبت جبنا سميت باسمه ، والشعفة رأس الجبل ، والغنيمة بدل اشتمال من الشعفة بتقدير في غنيمة له فيها ، والمعنى خير الناس رجل استعد للجهاد ، وكنى عن الاستعداد للجهاد بأخذ عنان الفرس لاستلزامه إياه بقرائن الأحوال أو رجل اعتزل الناس وسكن في رءوس بعض الجبال في غنم له فيها قليلة يرعاها ويكتفى في أمر معاشه بها ويعبد الله تعالى حتى يأتيه الموت

__________________

(١) رواه مسلم فى" الإمارة" (٤ / ٥٥٣) ، وفيه" ممسك" مكان (أمسك).


فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طار إليها استعارة تبعية للطيران وهو مستعار للعدو والجامع بين العدو والطيران داخل في مفهومهما.

(فإن الجامع) أى : وإنما قلنا : إن الجامع داخل في مفهومهما لأن الجامع (بين العدو) أى : الذهاب بسرعة (والطيران) هو (قطع المسافة بسرعة) وهو داخل في مفهومهما ، إذ هو جنس لهما ، فالعدو قطع المسافة بسرعة على وجه الأرض ، والطيران قطعها بسرعة في الهواء ، والقطع في الطيران أقوى منه في العدو ولذلك شبه العدو به ، وإنما فسرنا العدو بالذهاب ليناسب الركوب الذي دل عليه الكلام وإلا فالعدو عرفا إنما يكون على الرجلين ، فلا يناسب الركوب هذا إذا أريد بالطيران مطلق القطع في الهواء بسرعة ، وكثيرا ما يطلق الطيران على ذلك بلا جناح كما يقال : طارت به الرياح ، ولكن الأظهر أن الطيران وصف للطير ، وهو مخصوص بكونه بالجناح ، وإطلاقه على غير ذلك تجوز ، فالطيران على الأظهر هو قطع المسافة بالجناح وليس من شرط إطلاق الطيران على ذى الجناح وجود السرعة ، بل هى لازمة غالبا. فعلى هذا لا يكون القطع بسرعة داخلا في مفهوم الطرفين ؛ لأنه في أحدهما لازم لا جنس وقيل : إن من شرط إطلاق الطيران على الطير كون القطع بسرعة ، وعليه يدخل الجامع في المفهوم ولكن يتوقف ذلك على تحققه لغة ، والأقرب كونها غير شرط إذ يقال : طار الطائر حيث لم ينزل على غصن وشبهه ولو كان متمهلا في طيرانه ، ولأجل إمكان الاشتراط قلنا : الأظهر والأقرب ، ولم نقطع بذلك التفسير المقتضى لعدم دخول الوجه في حقيقة الطرفين ، وعلى الأظهر فالأولى أن يمثل باستعارة التقطيع الموضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام الملتزقة بعضها ببعض ، لتفريق الجماعة أعنى إبعاد بعضها عن بعض وذلك في قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) والجامع إزالة الاجتماع وتلك الإزالة داخلة في مفهومهما ؛ لأن مفهوم التقطيع إزالة الاجتماع بقيد كون الأشياء المجتمعة ملتزمة بعضها ببعض ، ومفهوم تفريق الجماعة وإبعاد بعضها عن بعض إزالة الاجتماع بقيد كون الأشياء المجتمعة ملتزقة ، فقد أخذ الجامع الذي هو إزالة الاجتماع في حد كل منهما على أنه جنس لهما ، وتلك الإزالة في المشبه به أقوى


باعتبار أثرها المترتب عليها ، وهو صعوبة الالتئام بعده وباعتبار السبب الموجب له عادة ؛ لأن التقطيع يفتقر إلى المعاناة والمحاولة في الملتزقات عادة ، بخلاف مجرد التفريق للجماعة وإن كان في الإبعاد صعوبة متعلقة بالأفراد ؛ لأنها لا تتعلق بالمفرق عرفا لصحته عن كلمة أو تخويف ووجه الشبه في الاستعارة يجب أن يكون أقوى في المشبه به ، وإن كانت القوة اعتبارية لا حقيقية لتتحقق الحاجة إلى معنى المبالغة في إدخال المشبه في جنس المشبه به حتى يصح إطلاق لفظه عليه لأن البلغاء استقرئت موارد كلامهم فوجدت جارية على إدخال الأضعف في الجامع في الأقوى فيه بخلاف التشبيه فقد يكون لبيان الحال وشبهه ، ولا يشترط فيه كون أحد الطرفين أقوى ، وقد ورد هنا بحث وهو أن مقتضى ما تقرر أن الجزء الداخل في الماهية يصح أن يكون في بعض أفرادها أقوى منه في بعض آخر لكونه جامعا يجب أن يكون في المستعار منه أقوى وأجزاء الماهية تقرر في علم الحكمة أنها لا تتفاوت ، وأجيب بأن عدم التفاوت إنما تقرر في الماهيات الحقيقية المركبة من الأجناس والفصول التى ظفر بها خارجا ، لا الحقائق النوعية الراجعة إلى حقائق الجواهر فقط أو الأعراض فقط التى أجزاؤها في الذهن مختلفة ، وفي وجودها خارجا متحدة كحقيقة الإنسان والفرس والماهيات التى تفهم من اللفظ لا يجب أن تكون كذلك ، لصحة أن يوضع اللفظ لمفهوم مركب من حقيقتين كالجوهر والعرض مثل الأسود فإنه موضوع لمفهوم مركب من الذات وصفة السواد ، فحيث صح تركيب الماهية المفهومة من اللفظ من حقيقتين جاز أن تكون إحدى الحقيقتين من قبيل المشكك ، وإنما يمتنع كون الجزء الذي لا يستقل في الحقيقة أقوى كجزء الناطقية أو الحيوانية في الإنسان بخلاف الجزء المستقل بكونه حقيقة متقررة خارجا بنفسها ، فيصح أن يكون أقوى في أفراده إذ لا يمتنع تفاوت الحقيقة التامة وإنما يمتنع تفاوت جزئها الذي لا يستقل ، وهذا الجواب قيل إنه على خلاف ما اختاره المحققون من المتأخرين ؛ لأن عدم تفاوت أجزاء الماهية لم يتم دليله ، ولكن هذا القيل لا عبرة به ؛ لأن التحقيق أن تفاوت المشكك لا يصح فكيف بتفاوت الأجزاء ، وذلك لأن ما به التفاوت إن اعتبر في الوضع فاللفظ مشترك وإن لم يعتبر فلا تفاوت فالذي ينبغى أن


يجاب به عن البحث كما أشرنا إليه أن التفاوت في الماهية أو في الجزء يكفى فيه حصوله بأمر يتعلق بالجزء أو بالماهية ، وإن كان خارجيا. والخروج عن هذا دخول في مضيق لا ينفصل عنه إذ مآل الجواب الأول أن التفاوت إنما يقع في الحقائق المشككة إذا دل عليها اللفظ مع غيرها ، وليست حقيقة التقطيع من ذلك ، وإنما فيه التفاوت باعتبار المتعلق كما تقدم فافهم.

ثم ما مثل به من التقطيع إنما يتم إن سلم أن إزالة الاجتماع جنس له وللتفريق كما قررنا ، وأما إن روعى كما يتبادر عرفا أن إزالة الاجتماع لا تقال في الالتزاق ، فلا يتم بل لو قيل في الجامع بين التقطيع وتفريق الجماعة في الأرض إنه هو عدم إمكان الرجوع إلى الحالة الأولى في الالتئام ما بعد ، ويكون الجامع حينئذ خارجا ، وعليه فيكون الأقرب في التمثيل استعارة الخياطة الموضوعة لضم الخرق إلى السرد الموضوع لضم الحلق بجامع ضم أشياء بعضها إلى بعض كما في قوله :

ما كان خاط عليهم كل زراد (١)

فتأمل. ثم إن حاصل ما ذكر نقل اللفظ من نوع إلى نوع آخر يشاركه في الجنس لأجل ذلك الجنس فإن الطيران مثلا نقل على ما تقدم من قطع المسافة بسرعة بالجناح إلى قطعها بسرعة بغيره ، وإن كان الأمر كذلك فلم لا يقال هو مثل نقل المرسن إلى الأنف ؛ لأن المرسن فيه خصوص كونه أنفا غليظا لبهيمة يجعل فيه الرسن ، فنقل إلى أنف الإنسان من حيث وجود مطلق الأنف فيه وإن كان المرسن كالطيران في أن كلا منهما لفظ نقل من أحد المشتركين في الجنس المختلفين في خصوص الوصف فيكون كل منهما مجازا مرسلا لا استعارة ، وإلا فما الفرق؟ وأجيب بأن خصوص وصف كون القطع بالجناح المصحح لقوة الوجه روعى في النقل بمعنى أنا شبهنا العدو به فيما أوجبه من الوصف القوى فنقلنا اللفظ الدال عليه وهو الطيران فكان استعارة والمرسن لم ينقل بعد تشبيه أنف الإنسان به في كونه أنفا واسعا يجعل فيه الرسن (٢) لعدم

__________________

(١) عجز بيت للقطامى فى الإيضاح ص (٢٤٩) ، وصدر البيت : نقريهم لهزميّات نقدّ بها.

(٢) الرسن : الحبل.


وجدان مثل هذا الشبه فيه وهو في أنف الدابة أقوى كان استعارة والحاصل أن خصوص كون القطع بالجناح الموجب للسرعة الشديدة روعى في التشبيه فألحق به العدو لتلك السرعة فكان الطيران استعارة والغلظ والانبطاح مع استعمال المرسن ، لم يراع في نقل لفظ المرسن ، إذ لم يشبه أنف الإنسان به بل نقل لفظ ذلك الخاص إلى ما هو أعم من غير تشبيه فكان مجازا مرسلا وبالجملة فالطيران والتقطيع مثلا فيما نقل إليه من باب تشبيه نوع مخصوص بنوع مخصوص في وجه ، وهو في أحد الحاصلين أقوى ، والمرسن فيما نقل إليه من باب نقل الخاص إلى الأعم بحيث لا يشعر فيه بالخصوص الذي كان في المنقول عنه المقتضى لاعتبار وجه هو فيه أقوى فليتأمل.

وليس من هذا القبيل نقل الأسد للرجل ؛ لأن الشجاعة التى هى الوجه لم تعتبر في حقيقة المنقول إليه إذ هو الرجل المقيد بالشجاعة لا الرجل والشجاعة ولا في المنقول عنه ؛ لأنها فيه قيد أيضا وقد تقدم ما يفيد هذا.

(وإما غير داخل) هو معطوف على قوله إما داخل أى : الجامع بين الطرفين في الاستعارة إما أن يكون داخلا في مفهومهما وإما أن يكون غير داخل ، وغير الداخل يشمل ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما يكون خارجا عنهما (كما مر) في استعارة الأسد للرجل الشجاع في الجراءة فإنها لازمة للطرفين معا ؛ لأن المستعار منه الأسد المقيد بالجراءة والمستعار إليه هو الرجل المقيد بها ، والقيد خارج عن المقيد كما تقدم ومثل ذلك استعارة الشمس للوجه المتهلل في الاستدارة والإشراق لظهور خروج الاستدارة والإشراق عن حقيقة كل منهما ، كما ظهر خروج الجراءة عن الرجل والأسد وذلك لتحقيق كون المستعار منه في الاستدارة والإشراق ليس هو الشمس مع تلك الاستدارة والإشراق. كما أن المستعار إليه فيهما ليس هو الوجه معهما بل المستعار له هو الوجه المقيد بهما والمستعار منه هو الشمس المقيدة بهما ، وذلك ظاهر بيناه زيادة في الإيضاح.

والقسم الثاني : ما يكون خارجا عن المشبه به فقط ، كقطع المسافة بسرعة في استعارة الطيران بناء على دخوله في مسمى العدو ولزومه لمسمى الطيران.


والقسم الثالث : يكون خارجا عن المشبه فقط ، كما لو استعير العدو للطيران في جوف الهواء مباشرة بناء على لزومه العدو ودخوله في الطيران ولا يخلو المثالان عن بحث ولا ضرر فيه ؛ لأن المقصود الإيضاح.

تقسيم آخر للاستعارة باعتبار الجامع

(و) نعود (أيضا) لتقسيم الاستعارة باعتبار الجامع تقسيما آخر وهو أنها (إما عامية) يدركها عامة الناس ويصح منهم استعمالها (وهى المبتذلة) لابتذالها أى : امتهانها بتناول كل أحد لها في كل ما أريدت وذلك (لظهور الجامع) بين الطرفين (فيها نحو رأيت أسدا يرمى) بالسهام فإن الأسد استعارة للرجل الشجاع ، والجامع بينهما وهو الجراءة أمر واضح يدركه كل أحد لاشتهار الأسد به ، فكل ما أدرك في الشجاع انتقل منه إلى وجوده في الأسد فيلزم صحة الاستعارة بسببه لكل أحد فكانت مبتذلة (أو خاصية) عطف على عامية أى : إما أن تكون الاستعارة عامية لوضوح وجهها ، وإما أن تكون خاصية (وهي الغريبة) لغرابة الجامعة فيها فلا يطلع عليه إلا الخواص ، وهم الذين أعطوا أذهانا متسعة في المدارك والدقائق ، وفي التفطن للأمور التى من شأنها الخفاء وبتلك الأذهان ارتقوا عن مرتبة العوام في اعتباراتهم ومداركهم (والغرابة) التي تنسب بها الاستعارة إلى الخواص على قسمين : لأنها (قد تكون) حاصلة (في نفس الشبه) بين الطرفين ، وذلك بأن يكون أصل تلك الاستعارة تشبيها في وجهه غرابة من ذاته لكون الانتقال من المشبه به بعد استحضار المشبه ليس ممكنا من كل أحد لخفاء الجامع بينهما بحيث لا يدركه إلا المتسع في الدقائق والمدارك المحيط علما بما لا يمكن لكل أحد وهذا مراد من قال بأن يكون تشبيها فيه غرابة ، وإلا فلا يخفي أن الوجه إن كان واضحا لم يكن التشبيه غريبا (كما في قوله) أى : التشبيه الغريب كالتشبيه الكائن في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف الفرس بأنه مؤدب أدبا ، كأنه يعلم به ما يراد منه حتى إنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه كالمنتظر لربه لا يبرح عن ذلك المكان كما يريد راكبه حتى يعود إليه.


(وإذا احتبى قربوسه بعنانه) (١) بفتح الراء وربما سكنت للتخفيف وهو مقدم السرج.

علك الشكيم إلى انصراف الزائر

وأراد الشاعر بالزائر نفسه كما دل عليه ما قبله والشكيم بمعنى الشكيمة ، وهى الحديدة المعترضة في فم الفرس المدخلة فيه مجعولا في ثقبتها الحلقة الجامعة لذقن الفرس إلى تلك الحديدة. وقوله قربوسه يحتمل أن يكون هو الفاعل ، باحتبى بتنزيله منزلة الرجل المحتبى فكأن القربوس ضم إليه فم الفرس كما يضم الرجل ركبتيه إلى ظهره بثوب مثلا ، ويحتمل أن يكون مفعولا باحتبى مضمنا معنى جمع. والفاعل على هذا هو الفرس ، فكأنه يقول وإذا جمع الفرس قربوسه بعنانه إليه ، كما يضم المحتبي ركبتيه فعلى الأول ينزل وراء القربوس في هيئة التشبيه منزلة الظهر من المحتبي ، وفم الفرس بمنزلة الركبتين وهذا الوجه ولو كان فيه مناسبة ما من جهة أن الركبتين فيهما شيئان كفكى فم الفرس مع التقارب في المقدار. والقربوس متحدب كوسط الإنسان وخلفه كظهره لكن فيه بعد وبرودة وغموض ، وفيه مخالفة لمقتضى الوجه الثاني الذي يتحقق به قوة المشابهة في الهيئة وظرافة في الاعتبار ؛ وذلك أن الوجه الثاني اقتضى كما أشرنا إليه أن القربوس في الهيئة بمنزلة الركبتين والفم بمنزلة الظهر ومعلوم أن القربوس في الهيئة أعلى ، وكذا الركبتان والفم فيهما أسفل وكذا الظهر. والوجه الثاني لهذا الاعتبار أولى وأسد في تحقق التشابه ، وأوكد في الإلحاق ثم الاحتباء هو المشبه به ، وهو أن يضم الرجل ظهره وساقيه بثوب وشبهه ، والذي نقل إليه لفظ الاحتباء هو إلقاء العنان على القربوس ليضم رأس الفرس إلى جهته. وقد اشتمل كل منهما على هيئة تركيبية ، لاقتضائه محيطا مربعا ومضموما إليه مع كون أحد المضمومين أرفع من الآخر ، ومعلوم أن التركب في الهيئة لا يستلزم تركب الطرفين ، كما تقدم في العنقود والثريا ، ومثل ذلك الاحتباء هنا فلا يرد أن يقال الكلام في الاستعارة الإفرادية والهيئة تقتضي تركيبا في الاستعارة وهذه الهيئة نشأت في التعقل عن إيقاع العنان أو الثوب مثلا في موقعه

__________________

(١) لمحمد بن يزيد بن مسلمة فى الإشارات ص (٢١٦). القربوس : مقدم السرج ، علك : مضغ ، والشكيم : الحديدة المعترضة فى فم الفرس.


الذي هو القربوس ، وفم الفرس فى الأول والساقان والظهر في الثاني فحيث قلنا في بيان الطرفين شبه هيئة وقوع الثوب موقعه من الظهر والساقين ، بهيئة وقوع اللجام موقعه من القربوس ، وفم الفرس فباعتبار التضمن الذي هو الهيئة ؛ لأن بها يظهر التشبيه وأما نفس الإيقاع العام من غير اعتبارها فلا يتضح فيه التشبيه ، وإنما يظهر باعتبار ما تضمنه واقتضاه وحيث قلنا شبه ضم فم الفرس إلى القربوس ، بضم الساقين إلى الظهر فباعتبار أصل الهيئة المتقررة والمعنى المصدرى الناشئة هى عنه ووجه الشبه هو هيئة إحاطة شىء كالمربع لشيئين ضاما أحدهما إلى الآخر ، على أن أحدهما أعلى والآخر أسفل وهو إيقاع شىء محيط إلى آخر ما ذكر ، ووجه الغرابة في هذا التشبيه أن الانتقال إلى الاحتباء الذي هو المشبه به عند استحضار إلقاء العنان على القربوس للفرس في غاية الندور ؛ لأن أحدهما من وادى القعود والآخر من وادى الركوب ، مع ما في الوجه من دقة التركيب وكثرة الاعتبارات الموجبة للغرابة ، ولذلك جاءت الاستعارة غريبة لغرابة إدراك الشبه (وقد تحصل) هو معطوف على قوله قد تكون أى : (الغرابة) قد تكون في نفس الشبه لبعد إدراك ذلك الشبه بين الطرفين ، وقد تحصل تلك الغرابة لا ببعد إدراك الشبه بين الطرفين لذاته بل (بتصرف في) الاستعارة (العامية) بما أوجب أنها على ذلك الوجه لا يدركها إلا الخواص ، وذلك التصرف هو أن يضم إلى تلك الاستعارة تجوز آخر لطيف اقتضاه الحال وصححته المناسبة وذلك (كما في قوله)

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادى الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

(وسالت بأعناق المطى الأباطح) (١)

والدهم جمع دهماء ، وهى الناقة السوداء والمهارى جمع مهرية ، وهى الناقة المنسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة هذا معناه في الأصل ، ثم صار يطلق على كل نجيبة من الإبل والأباطح جمع أبطح وهو مسيل الماء ، فيه دقاق الحصى والدقاق بضم الدال هو الدقيق ، ويحتمل أن يكون بالكسر جمع دقيق يقول : لما فرغنا من أداء

__________________

(١) لكثير عزة فى الإشارات ص (٢١٧) ، وفى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٤).


المناسك في الحج ، ومسحنا أركان البيت لطواف الوداع وغيره وشددنا الرحال وهى ما يحمل على المطايا من الأخبية وغيرها وارتحلنا ارتحال الاستعجال بحيث لا ينتظر السائرون في الغداة السائرين في الرواح للاشتياق إلى البلاد ، أخذنا حينئذ بأطراف الأحاديث بيننا أى : بكرائم الأحاديث أخذا من قولهم فلان من أطراف العرب أى : من كرائمها ويحتمل أن يراد بأطراف الأحاديث فنونها وأنواعها على عادة المتسعين في التحديث ، وفي حال أخذنا بأطراف الأحاديث أخذت المطايا في السرعة في سيرها المعلوم السلسل المتتابع الشبيه بسيل الماء في تتابعه وتداركه وسرعته مع خفاء صوته في الحصباء. وقد استعار لهذا السير السيل الذي هو في الماء أصالة وهذه الاستعارة أعنى استعارة سيل الماء لسير الإبل في الحصباء مبتذلة مطروقة ، كثر استعمالها لكن أضاف إليها في البيت ما أوجب غرابتها ، وهو تجوز آخر وذلك بأن أسند ذلك السيلان الذي هو وصف للإبل في الأصل إلى محله من باب إسناد ما للحال إلى المحل ، إعلاما بكثرته فإن الواقع في المحل إن كثر أسند إلى ذلك المحل لكثرة تلبسه به حتى صار كأنه موصوفه حيث قال : وسالت بأعناق المطى الأباطح. أى : وسالت الأباطح بأعناق المطى وضمن ذلك كون الأعناق في الحقيقة هى السائلة ؛ لأن مقدم تلك الأعناق وهو المسمى بالهوادى فيه تظهر سرعة السير وتثبطه ، وبقية الأعضاء تابعة له وإسناد السير إلى تلك الهوادى الذي تضمنه كلامه تجوز آخر إذ هو من إسناد الشىء إلى ما هو كالسبب فيه إذ الهوادى سبب فهم سرعة السير وعدمها فكأنها سبب لوجوده ، وإنما قلنا ضمن نسبة السير إلى الأعناق ؛ لأن أصل الكلام وسالت الأباطح أعناقا على حد (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) والتمييز في نحو هذا الكلام هو الفاعل. ولكن ربما جر بباء الملابسة ؛ لأن المسند إليه إنما وصف بذلك والوصف بسبب ملابسته لذلك التمييز فإنك تقول : سال الوادي ماء ، وسال بالماء فلما أن أضاف إلى استعارة السيلان هذين التجوزين ، وهما إسناده إلى مكانه لفظا وإسناده إلى سببه ضمنا ، وكل ذلك مناسب تقتضيه حال قصد

__________________

(١) مريم : ٤.


الكثرة ؛ لأن ذلك هو الواقع وقصد الإشعار بما يظهر به ذلك الوصف كانت الاستعارة غريبة إذ لا يأتي بها مع هذين التصرفين إلا من له ذهن ارتقى به عن العامة.

وإلى هذا أشار بقوله (إذ أسند الفعل إلى الأباطح) أى : وإنما قلنا إنه تصرف في العامية بما صارت به غريبة لأجل أنه أسند في البيت إلى الأباطح الفعل الذى هو سالت ، وفيه وقعت الاستعارة العامية حيث تضمن نقل السيلان إلى السير وإسناده إلى الأباطح ، من إسناد ما للحال إلى المحل لكثرة الملابسة كما قررنا (وأدخل) معطوف على أسند أى : لأجل أنه أسند وأدخل (الأعناق في السير) ؛ لأن التركيب يقتضى كونها هى المسند إليها في الحقيقة ، كما قررنا ولو كانت مجرورة لفظا ويحتمل أن يريد من إدخالها في السير جرها بالباء المقتضية لملابسة الفعل لها. وقد تقدم أن تلك الملابسة مرجعها إلى الإسناد وقد تقدم أيضا أن سبب إدخالها في السير كون هواديها أى مقدمها فيه تظهر السرعة وضدها وسائر الأعضاء تابعة لها ، فيكون إدخالها في السير باعتبار كون التركيب اقتضى أصالة الإسناد لها لأجل كونها كالسيف لدلالتها على حال الحركة والدال سبب لفهم المدلول ، فنزل ذلك منزلة السبب في الوجود فبهذه الاعتبارات والمحل اكتسبت الاستعارة الملابسة له دقة وبهذا يعلم أن المراد بالتصرف أن يضم إليها شىء آخر دقيق فيكون استعمالها في صحبة ما دق غريبا.

أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع :

ثم أشار إلى تقسيم الاستعارة باعتبار الثلاثة فقال : (و) الاستعارة تنقسم أيضا (باعتبار الثلاثة) أعنى المستعار منه والمستعار إليه والجامع بينهما انقساما آخر ، وذلك أن المستعار منه والمستعار له إما أن يكون حسيين معا أو يكونا عقليين معا أو يكون المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا ، أو العكس أعنى : أن يكون المستعار له حسيا والمستعار منه عقليا. وقد علم مما تقدم في التشبيه وهو أنه متى كان الطرفان أو أحدهما عقليا ، لم يكن الجامع إلا عقليا لاستحالة قيام الحسى بالعقلى ؛ لأن وجه الشبه المسمى هنا جامعا لا بد أن يقوم بالطرفين ، فإذا كانا أو أحدهما عقليا امتنع قيام الحسى بذلك العقلى منهما أو من أحدهما. والثلاثة الأخيرة من هذه الأقسام الأربعة فيها طرف


عقلى ، فتعين كون الجامع فيها عقليا ، وأما القسم الأول وهو ما يكون طرفاه حسيين معا فيمكن أن يكون الجامع فيه عقليا كله ، أو حسيا كله ، أو يكون بعضه حسيا ويكون بعضه الآخر عقليا ، فتتصور فيه ثلاثة أقسام أخر. وقد تقدمت أمثلتها في التشبيه فإذا كان في القسم الأول باعتبار الجامع ثلاثة أقسام والأقسام بعده ثلاثة ، فالمجموع ستة أقسام وإلى وجه وجود تلك الأقسام كما بينا وإلى أمثلتها أشار بقوله (لأن الطرفين) أى : إنما قلنا إن هنا ستة أقسام ؛ لأن الطرفين (إن كانا حسيين فالجامع إما حسى) أى : إما أن يكون حسيا لما علم أن الحسى يقوم بالحسيين (نحو) قوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) (١) أى لبنى إسرائيل (عجلا) جسدا له خوار (فإن المستعار منه) لفظ العجل (ولد البقرة) المعلومة (والمستعار له) وهو الذي أطلق عليه لفظ العجل في الآية هو (الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلى القبط) وهم قبيلة فرعون والحلى بضم الحاء جمع حلى بفتحها ، وسكون اللام وذلك أن السامرى ، وهو حداد منسوب لسامرة ، وهو اسم قبيلة كشف له عن أثر فرس جبريل عليه‌السلام فسولت له نفسه أن تراب ذلك الأثر يكون روحا فيما ألقى فيه ، وقد كان بنو إسرائيل استعاروا حليا من القبط لعرس لديهم ، فقال لهم ائتوني بالحلى أجعل لكم الإله الذي تطلبون من موسى يعني حيث قالوا له (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)(٢) ، فأتوه بذلك الحلى وصنع منه صورة العجل وألقى في فيه ذلك التراب فصار حيوانا بلحم ودم له خوار كالعجل ، فقال هو وأتباعه لبنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي تطلبون من موسى ، فنسيه هنا وذهب يطلبه وكان ذلك وقت ذهاب موسى ببنى إسرائيل للمناجاة وسبقهم موسى طلبا لرضوان الله تعالى فوقعت هذه الفتنة بأثره كما نص الله تعالى في كتابه العزيز قيل : إن سبب اختصاص السامرى بمعرفة ذلك أن أمه كانت ألقته عام ولد في كهف لينجو من ذبح فرعون إذ كانت ولادته في سنة تذبيح أبناء بنى إسرائيل ، فبعث الله عليه في ذلك الكهف جبريل ليعرفه أثر فرسه وذلك لما قضى الله تعالى عليه من الفتنة ، فالمستعار منه

__________________

(١) طه : ٨٨.

(٢) الأعراف : ١٣٨.


هنا هو ولد البقرة المعلومة ، والمستعار له هو الحيوان المخلوق من الحلى (والجامع) بينهما هو (الشكل) أى الصورة في الحيوان وولد البقرة إذ شكلهما أى : صورتهما المشاهدة واحدة (والجميع) أى : المستعار منه وإليه والجامع بينهما (إما حسى) أى : مدرك بالبصر كما لا يخفى (وإما عقلى) هو معطوف على قوله إما حسى أى : إذا كان الطرفان حسيين فالجامع إما حسى كما تقدم وإما عقلى ، وإنما صح أن يكون عقليا في الحسيين لما علم من جواز اتصاف المحسوس بالمعقول وذلك (نحو) قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)(١) (فإن) لفظ نسلخ مشتق من السلخ وهو مستعار من محسوس لمحسوس ؛ لأن (المستعار منه) لفظ السلخ هو معناه المعلوم وهو (كشط الجلد عن لحم الشاة والمستعار له) أى : والذي استعير له لفظ السلخ المأخوذ منه نسلخ هو (كشف الضوء) أى : إزالته (عن مكان) ظلمة (الليل) والمراد بمكان الظلمة الهواء ، أو المقدار الذي تكون فيه الظلمة من الزمان وإنما قدرنا الظلمة قبل الليل ؛ لأن الليل عبارة عن الزمان المخصوص وهو الذي يتوهم كونه مكانا للظلمة ولا يتوهم له من حيث إنه زمان مكان آخر إلا بتكلف ، ويحتمل أن يكون أطلق الليل على الظلمة نفسها (وهما) أى : المستعار منه وله وهما كشط الجلد وكشف الضوء (حسيان) باعتبار متعلقهما وذلك كاف في حسيتهما وإلا فهما مصدران ، كل منهما عبارة عن تعلق القدرة بالمقدور ، وهو أمر عقلى ثم حسية الضوء والظلمة بناء على أن الأول أجرام لطيفة تتصل بجرم الهواء ، أو بجميع الأجرام الحسية بحيث توجب إبصارها عادة والثاني أجرام كذلك توجب عدم الإبصار لما اتصلت به وعليه يكون المراد بالمكان الهواء كما تقدم أو الأجرام الموجودة في زمن الليل والنهار على وجه التوسع. وأما إن قلنا إن الضوء كون الأجرام بحيث ترى لاتصال الأجرام اللطيفة الإشراقية بها والظلمة رفع ذلك فالظلمة عقلية وإنما حسيتهما باعتبار أن مقابلها المحسوس تدرك عند انتفاء إبصاره فكأنها لما نشأ إدراكها عند انتفاء الإحساس محسوسة ، وما قيل في الظلمة يقال في الظل على أن كون الضوء مبصرا بنفسه لا يخلو من توسع ضرورة. وإنك لا تستطيع أن

__________________

(١) يس : ٣٧.


تزعم أنك أبصرت الأجرام اللطيفة بنفسها ، بل أبصرت بها كما يبصر بأشعة العين في زعم المعتزلة من غير رؤيتها بنفسها (والجامع) بين الطرفين المذكورين الحسيين عقلى ، إذ هو (ما يعقل من ترتب أمر على آخر) فإن في كل منهما ترتب أمر على آخر إذ في الأول ترتب ظهور اللحم على كشط الجلد أى : إزالته عن اللحم ، وفي الثاني ترتب ظهور الليل أى : ظلمته على كشف ضوء النهار عنه. وإنما نسب الكشط إلى الضوء ؛ لأن الظلمة أصل الحادث إذ عدم ظهوره أصل ، وإنما يطرأ الضوء عليه فالضوء ظاهرى طارئ على الظلمة كالجلد طارئ على أصل عظام الشاة ظاهرى ثم الترتب المذكور إذا كان معناه حصول أمر عقب حصول آخر دائما ، وغالبا فلا ينافي أن يكون حسيا ؛ لأن الحاصل إن كان موجودا حسيا كالجرم قبل هذا الحصول ، فحصوله بعد آخر يكون معناه حصول سكونه أو حركته بعد سكون أو حركة آخر ، والسكون والحركة حسيان. وإن كان معدوما فحصوله وجوده والوجود باعتبار متعلقه حسى ، وذلك كاف في الحسية. وكونه عقليا باعتبار كونه كليا لا يوجب الخروج عن الحسية ؛ لأن الجامع بهذا الاعتبار حسى كله وجعله عقليا باعتبار أن الحاصل ظهور اللحم عن الكشط وظهور الظلمة عن كشف الضوء والظهور يرجع إلى الإبصار ، وهو عقلى يرد عليه أن الظهور حسى باعتبار الظاهر فتأمل.

ثم قوله ترتب أمر على آخر إن روعى في الترتب مطلقه من غير رعاية نسبة إلى الجامع بين الكشط والكشف كان قولنا دائما أو غالبا إشارة إلى المذهبين ، في ترتب النتيجة على الدليل إذ قيل إن الترتب فيها عقلى لا يتخلف فيكون ترتبها دائما وقيل ليس ترتبها عقليا فيكون غالبيا ولكن هذا خروج عما يناسب الحالة الراهنة ، مع أن المذهب الثاني لا ينافي الدوام كما لا يخفي وإن روعى فيه الحالة الراهنة كان الدوام والغلبة إشارة إلى أن الكشط لا يستلزم ترتب ظهور اللحم كما إذا أزيل التزاق الجلد بعود مثلا مع بقائه ساترا بناء على أن الكشط إزالة الالتزاق أو كشط ليلا ، ثم إن مقتضى ما ذكر المصنف بل صريحه كما تقدم أن المشبه الذي استعير له السلخ هو كشف الضوء عن الليل والمستعار منه هو كشط الجلد عن الشاة ومقتضاه أن الساتر


هو الضوء ، والمستور ـ الظاهر بعد إزالة الضوء هو ـ الظلمة كما أن الساتر في جانب المشبه به هو الجلد ، والمستور هو اللحم وبيان ذلك التشبيه المقتضى لما ذكر أن الظلمة كما تقدم هى الأصل ؛ لأن مرجعها إلى عدم الظهور وعدم ظهور الحادث سابق على ظهوره والنور طارئ عليها فهو يسترها أى : يزيلها بضوئه أى : بإشراقه ، وهو كونه بحيث يظهر به ما اتصل به والنور سببه العادى هو الشمس فإذا وجدت وجد وطرأ على الظلمة وإذا غربت ذهب النور عن الظلمة ووضحت الظلمة ، فصار ذهابه لاستعقابه ظهور مستور بمنزلة كشط الجلد عن الشاة إذ الجلد ساتر ولحمها مستور يستعقب ظهوره بعد الإخفاء كشط الجلد عنه ، كذهاب الضوء ، وإذا كانت الظلمة هى الآتية عقب ذهاب نور النهار المستعار له كشط الجلد عن الشاة لأنه كهو في استعقاب مستور هو لحم الشاة في الثاني والظلمة في الأول صح بعده فإذا هم مظلمون ، ولا يقال ذهاب الضوء لا يتأخر عنه ظهور الظلمة حتى يكون عقبه ؛ لأنا نقول ذهاب الضوء وظهور الظلمة مفهومان مختلفان. وهب أنهما حصلا في وقت واحد وتحققا معا كتحقق نفى العدم مع وجود الحادث ، لكن لما تعقل أحدهما تعقل الثاني مرتبا عليه في الإدراك نزل ذلك منزلة الترتب الزماني ، ولما لم تكن هناك مهلة صلحت الفاء في المترتب ولا يقال ذهاب الضوء مشعر بوجود الظلمة ، فهب أن بينهما ترتبا عقليا يصح به وجود الفاء ولو اتحد زمانهما في الخارج لكن إشعار الذهاب بالظلمة ينافي المفاجأة ، لاقتضائها عدم خطور المفاجأة كما تقتضى أنه مما له خطر ؛ لأنا نقول فن البلاغة مبنى على تحقق أو نزل منزلة المتحقق فعظمة أمر الليل وعمومه أوجبت تنزيله منزلة ما لا يخطر بالبال ، فإن الشىء إذا عظم خطره يقال بدا لي منه أمر لا يخطر بالبال على وجه المبالغة ، ولو خطر ذلك الأمر بالبال فالمفاجأة نقول على هذا استعملت فيما من شأنه أن يخطر تنزيلا له منزلة ما لا يخطر لعظمته وعزة شأنه. فعبارة المصنف فيما اقتضته على هذا لا يرد عليها شىء ؛ لأن الواقع بعد المستعار له هذا الإظلام وهو صحيح عليها إذ المستعار له عنده هو ذهاب الضوء عن مكان الليل والواقع بعده هو الإظلام على ما قررنا.


وأما عبارة السكاكي حيث قال : إن المستعار له هو ظهور النهار من ظلمة الليل ففيها إشكال ؛ لأن السلخ على هذا وهو المستعار قد أطلق على ظهور النهار من ظلمة الليل ، والواقع بعد ظهور النهار بعد خفائه من ظلمة الليل هو الإبصار لا الإظلام ، وقد يؤول التوفيق بين كلام السكاكي والمصنف بأوجه (أحدها) أن ظهور النهار إنما يحصل بظهور جميع أجزائه ولا يكون ذلك إلا بظهور آخر جزء منه وبوجود لحظته يقع الغروب فيكون الواقع بعد ظهوره جميعا هو الإظلام فيعود كلامه لكلام المصنف وفيه أن النهار هو انتشار جميع أجزاء الضوء المخصوص ، وقد وجد ذلك عند الطلوع ولم يوجد إظلام والمقدر الذي استمر فيه ذلك الضوء كأزمان كل حادث فإن الحادث يوجد بجميع أجزائه ، فإذا انعدم بعد استمراره لا تجعل لحظة عدمه من أجزائه ، فكما تعقل هذا في حادث غير النهار فكذلك النهار وهذا ظاهر على أن المراد بالنهار الضوء وهو الأقرب (وثانيها) أن الكلام على وجه القلب والتقدير ظهور ظلمة الليل من النهار والواقع بعد ظهور الظلمة بعد خفائها من النهار ، وهو الإظلام وفيه أن القلب لم يتضمن اعتبارا لطيفا فهو كالغلط ، ولم يظهر هنا اعتبار لطيف وذلك كاف في قبحه (وثالثها) أن المراد بالظهور التمييز ومن بمعنى عن ، والمعنى أن المستعار له تمييز النهار عن ظلمة الليل والواقع بعد تمييز النهار عن ظلمة الليل هو الإظلام ويرد عليه أنه إن أريد بالتمييز إزالة النهار عن مكان الليل بإعدامه في مرأى العين فهو الوجه الرابع على ما سنذكره ، وإن أريد تمييزه عنه مع بقاء وجوده في مكان الليل فهو فاسد ، إذ لا يجتمعان وتمييزه عن حال كونه موجودا في مكان آخر هو الذي نعنى بعدمه في مكان الليل فلم يبق لهذا الثالث معنى مستقل صحيح تأمله. والوجه الرابع أن المراد بالظهور الزوال كما في قول أبي ذؤيب.

وعيرها الواشون أنى أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (١)

__________________

(١) البيت لأبى ذؤيب الهذلي فى شرح أشعار الهذليين ص (٧٠) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ١٥٩) ولسان العرب (٤ / ٥٢٧) (ظهر).


أى : زائل عنك عارها ، والشكاة الشكية يقال شكى شكية وشكاة إذا توجع بعضو من أعضائه فكأنه يقول وتأذيك بما ذكروا مجرد أذى لا عار عليك فيه ، وكذلك قوله :

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر.

أى : زائل ، وريطة اسم امرأة وإذا كان الظهور بمعنى الزوال فالواقع بعد زوال النهار عن الليل هو الإظلام.

وهذه الوجوه كلها إذا تمت ردت كلام السكاكي إلى كلام المصنف كما لا يخفى ، والشارح العلامة وجه كلام السكاكي بما لا يحتاج به إلى رده لكلام المصنف ، وبما يقتضى أن عدم رده لكلام المصنف أرجح فذكر أن السلخ قد يكون بمعنى النزع مثل قول القائل سلخت الإهاب عن الشاة أى : نزعته عنها وهو الذي اعتبر المصنف النقل عنه ؛ لأنه قال استعير من كشط الجلد أى نزعه ، ومعلوم أن الذي يناسب أن ينقل إليه حينئذ هو إزالة الضوء ولذلك قال استعير لكشف الضوء ، وإنما قلنا هو المناسب ؛ لأن متعلق كل منهما سائر لما يخرج بعد زواله ، ولا يناسب نقله للظهور بعد الخفاء كما لا يخفى. ثم قال وقد يكون بمعنى الإخراج كما يقال سلخت الشاة عن الإهاب والذي يناسب أن ينقل إليه إظهار ما ستر بغيره وهو الذي اعتبره السكاكي في هذه الاستعارة ولا يخفى أنه لا يناسب أن ينقل لإزالة الساتر وإذهابه بل لإخراج المستور وما ذكره العلامة يتم إن صح لغة في كل منهما على الأصل وإلا فيدعى أنه في أحدهما من باب القلب وأنه مثلا للنزع دائما فقول القائل : سلخت الشاة عن الإهاب قلب فعلى الأول يعقبه ظهور الإظلام فناسب الفاء في (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) حقيقة ، وعلى الثاني يحتاج إلى إبداء لطيفة في صحة الفاء ؛ لأن الذي يكون عقب إظهار النهار من الليل وإخراجه منه الذي شبه بإخراج الشاة من الإهاب هو الإبصار ووجه ذلك أن الليل لما كان عمومه جميع الأقطار أمرا مستعظما كان المتبادر أن لا يحصل إلا بعد مضى مقدار النهار بأضعاف ، ولما جاء عقب ظهور النهار ومضى زمانه فقط ولم يحصل بعد ما ينبغي له فيما يتبادر نزل منزلة ما لم يحل بينه وبين ظهور النهار


شىء ؛ لأن وجود ما لا يكون شأنه أن يحول كعدمه بالنسبة لتلك الحياة ، فعبر بالفاء ولا شك أن اعتبار التعاقب كما لم يحصل فيه للإشعار بعظمة أمره وأنه مما ينبغي أن لا يكون إلا بعد أضعاف أوقات ذلك الشىء كما في الليل مع النهار ، مما يستبدع فحسنت الفاء المشعرة بالمعاقبة المشار بها لهذه اللطيفة وقد علم أن هذا الوجه يقتضى أن الإظلام بعد الفعل الذي هو إظهار النهار ، ولا شك أن إظهار النهار لا يشعر بالليل ولا يترتب عليه بلا مهلة لوجود المهلة حسا وإنما انتفت بالاعتبار السابق.

ومعلوم أن المفاجئ هو الآتي من غير ترقب ويستعظم أمره غالبا والإظلام هو الذي أتى بلا ترقب وهذا مستعظم وإنما لم يترقب الليل ؛ لأن إظهار النهار لا يشعر به فحسنت إذا الفجائية هنا على هذا الوجه لاقتضائها أن الإظلام جاء من غير ترقب وحسنت الفاء مع ذلك كما تقدم. وأما الوجه الأول فالفاء فيه ظاهر أمرها باعتبار الترتب العقلى كما تقدم والمفاجأة تحتاج أيضا إلى تأويل وقد بيناه فيما تقدم ، وإنما احتاجت ؛ لأن إزالة الضوء يعلم منه وجود الإظلام فلا يؤتى فيه بما يقتضى المفاجأة ألا ترى إلى قولك كسرت اللبنة لا يصح أو لا يحسن فيه أن يقال فإذا هى منكسرة ؛ لأن الانكسار يشعر بالكسر ؛ لأنه مطاوعة وهو حاصل بحصوله فكذا إذهاب الضوء يشعر بالإظلام ، حتى كأنه مطاوعة ويحصل معه فلا تحسن فيه المفاجأة وإنما لم نقل لا تصح لإمكانها بالتأويل السابق الذي قد يدعى فيه أنه تكلف. فقد ظهرت بهذا صحة كلام السكاكي من غير حاجة للرد إلى كلام المصنف وترجحه بصحة المفاجأة فيه بلا تكلف والفاء فيه للاعتبار اللطيف.

ولقائل أن يقول المفاجأة في الوجه الأول اعتبرت للطيفة السابقة كما قررناها في تفسير كلام المصنف ولا نسلم وجود التكليف فيه أصلا والفاء فيه كذلك والمفاجأة في الثاني تصح بلا تأويل والفاء فيه تحتاج لما تقدم ، فاعتدل الوجهان في وجود الاعتبار اللطيف في الفاء فيهما بأن اعتبر في الأول الترتب العقلى كالحسى وفي الثاني المهلة كعدمها وزاد الأول بالاعتبار اللطيف في المفاجأة ، وعليه فالوجه الأول أرجح تأمله.


(وإما مختلف) عطف على قوله إما حسى أى : إن كان الطرفان حسيين فالجامع إما حسي كله أو عقلى كله ، أو مختلف بعضه حسى وبعضه عقلى ، وإنما يتأتى الاختلاف عند التعدد وذلك (كقولك رأيت شمسا وأنت) أى : والحال أنك (تريد) بلفظ الشمس (إنسانا كالشمس) وتعتبر أنك إنما استعرت الشمس لذلك الإنسان بعد تشبيهه به (في) وصفين (حسن الطلعة) أى : حسن الوجه وسمى الوجه طلعة ؛ لأنه هو المطلع عليه عند الشهود والمواجهة ، وقد تقدم أن الحسن يرجع إلى الشكل واللون وهما حسيان فيكون حسن الطلعة المعتبر في التشبيه حسيا (ونباهة الشأن) أى : ارتفاع الشأن عند النفوس ، وعلو الحال في القلوب وهذه النباهة يحتمل أن يراد بها العزازة التى تحدث في النفوس بسبب حسن الطلعة وجمال المنظر فتكون لازمة للوصف قبلها ، ويحتمل أن يراد بها العزازة الحاصلة بأوصاف أخرى توجب ارتفاع الصيت وشهرة الذكر والوضوح عند العام والخاص ، والارتفاع على الأقران وتلك الأوصاف مثل الكرم والعلم والنسب وشرف القدر فتكون مستقلة عن حسن الطلعة وبكل تقدير فهى عقلية إذ لا يخفى أنها بمعنى استعظام النفوس لصاحبها ، وكونه بحيث يبالى به لرفعته وذلك أمر غير محسوس فمجموع هذا الجامع بعضه الأول حسى وبعضه الثاني عقلى ومن اعتبر أن نقل اللفظ يصح بكل منهما على الانفراد جعل هذا القسم استعارتين أحدهما : بجامع حسى والأخرى بجامع عقلى فأسقط عده في هذه الأقسام لعوده إلى الجامع العقلى أو الحسى. ومن اعتبر صحة النقل باعتبارهما عده كالمصنف وهو الحق كما عد التشبيه (وإلا) يكن الطرفان حسيين فهو وجوابه معطوفان على قوله فإن كانا حسيين عطف الجمل وجوابه قوله (فهما) أى : إذا لم يكن الطرفان حسيين فذانك الطرفان حينئذ (إما عقليان) معا ويلزم أن يكون الجامع بينهما عقليا لعدم صحة قيام المحسوس بالمعقول كما تقدم ثم مثل للمعقولين فقال (نحو) قوله تعالى حكاية عن قول الكافرين يوم القيامة (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (١) والمرقد يحتمل أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الرقاد ، ويحتمل أن يكون اسم مكان أى مكان الرقاد فإن أريد الأول فلا شك أن

__________________

(١) يس : ٥٢.


المستعار منه الرقاد وتكون الاستعارة أصلية ، وإن أريد الثاني فالاستعارة في المشتقات لمصادرها ، وإن كانت أسماء الأماكن ؛ لأن تلك المعاني المشتق من ألفاظها هى القيود المهتم بها في المشتقات ، وأما الذوات الملابسة لها فقد أخذت فيها على وجه العموم وسيأتي زيادة بيان لهذا في المشتقات ، وإذا كانت المصادر هى المقصودة بالذات في المشتقات فالتشبيه فيها ينبغى أن يكون هو المعتبر فعليه أيضا تكون الاستعارة من المصدر أصلا وإن كانت في المرقد الذي هو اسم المكان على وجه التبعية ويشملها قوله (فإن المستعار منه الرقاد) أى : النوم فإن أريد المرقد المصدر فأصلية كما تقدم ، وإن أريد المكان فقد اعتبر أصلها لما تقدم ، ولهذا عبر بالرقاد وإن كانت في المرقد تبعا (والمستعار له الموت) على الأول أصالة وعلى الثاني باعتبار الأصل وباعتبار التبعية القبر الذي هو المكان لتقرر دوام معنى الموت (والجامع) بين الموت والنوم (عدم ظهور الفعل) مع كل منهما (والجميع) من الموت والنوم وعدم ظهور الفعل (عقلى) أما الموت وعدم الظهور فأمرهما واضح ، وأما النوم فالمراد انتفاء الإحساس الذي يكون في اليقظة لا آثار ذلك من الغطيط وانسداد العين مثلا ، ولا شك أن انتفاء الإحساس المذكور عقلى وورد على كون الجامع عدم ظهور الفعل أنه في الموت الذي هو المستعار له أشد ، ومعنى أشدية العدم لزومه للموت وعمومه في الأفعال بحيث لا يظهر فعل معه أصلا ومن لزومه أنكر ضعفاء العقول صحة أصل الأفعال بعد الموت ، وهو الحياة بخلاف النوم فإن الفعل معه موجود في الجملة ، وإنما تسلط العدم فيه على الأفعال التى يعتد بها وهى الاختيارية التى تقصد لأغراضها ، ولم يعتد بغيرها لعدم الفائدة مع قلتها ولذلك صح نفى الأفعال عن النوم ولم يعتبر الفعل الملازم للنوم كالتنفس فإذا علم أن عدم الأفعال في النوم ولو صح باعتبار الاختيارية المذكورة هو في النوم الذي هو المستعار منه أضعف لم يصح أن يكون جامعا لما تقرر ، وتقدم من أن الجامع يجب أن يكون في المستعار منه أقوى وشرط كون الجامع في المستعار منه أقوى هو المشهور نظرا إلى أن الاسم المنقول إنما ينقل بتأويل أن المشبه داخل في جنس المشبه به فيكون هنا فردان متعارف وغيره ، والمعنى المعتبر للإدخال هو الذي يجعل كالجنس لهما وكأن الاسم وضع له والأعرفية في أحد


الفردين تقتضى أن يكون له أقوى ولو في تلك الأعرفية به وعلى هذا يتضح ورود ما ذكر إلا أن يجاب بشهرة عدم الفعل في النوم لكثرة شهوده كذا قيل وفيه ضعف ؛ لأن عدم الفعل في الموت كالضرورى بخلاف النوم ، وقيل : يشترط كونه أقوى نظرا إلى أنه يكفى في أعرفية أحد الفردين كونه بالاسم أشهر ، وإن كان الجامع الذي جعل كالجنس لها متساويا أو أضعف في المشهور بالاسم كما لا يشترط كون الوجه في التشبيه أقوى ، وعليه فينتفى ورود البحث لكن هذا ينافي ما اشتهر أن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه حتى كأن الأول نفس الثاني في المعنى فإن هذا يقتضى أن المعنى الملحق به هو في أحد الطرفين أقوى ليحتاج إلى المبالغة في الإلحاق والتسوية في المعنى ؛ لأنه إنما يقال بالغ في كذا إذا أنهاه إلى ما هو أكمل ، فالمبالغة في التشبيه توجب إبلاغ المشبه لما هو أكمل ولا مبالغة لغير هذا المعنى الذي ذكرنا إذ لا مبالغة تحصل بغير اعتبار المعنى الملحق به وبغير اعتبار كماله في المشبه به ، وأيضا لا يقع نقل الاسم حتى يعتبر الجامع كالعلة في التسمية والعلة في المنقول عنه أقوى وأشهر فتأمله وعلى وروده يجعل الجامع بين الرقاد والموت هو البعث بناء على أنه موضوع للقدر المشترك بين الإيقاظ والنشر بعد الموت ، وذلك القدر هو رد الإحساس المعهود في الحياة وأما إذا قيل إنه مشترك أو هو في الإحياء بعد الموت حقيقة شرعية ، فلا يصح كونه جامعا لعدم وجود معناه في الطرفين معا وعلى أنه هو الجامع بناء على ما ذكر لا يرد فيه البحث السابق ؛ لأنه في النوم أقوى في الشهرة وأظهر إدراكا ولذلك لا ينكره أحد وإن كان معناه في الموت أقوى في المتعلق ؛ لأنه رد الحياة وإحساسها وفي النوم رد الإحساس فقط ، وإذا كان الجامع هو البعث لوجوده في الطرفين ، لم يجعل قرينة على الاستعارة كما قيل بناء على أن الجامع عدم الفعل ؛ لأن الجامع لا يكون قرينة لاشتراكه وإنما القرينة كون هذا كلام الموتى بعد البعث مع قولهم هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ؛ لأن الذي وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون وأنكره القائلون أولا هو البعث من الموت لا الرقاد الحقيقي (وإما مختلفان) عطف على قوله إما عقليان أى : إذا لم يكن الطرفان حسيين فهما إما أن يكونا عقليين معا كما تقدم ، وإما أن يكونا مختلفين بأن يكون أحدهما


عقليا والآخر حسيا ، وهما حينئذ قسمان ؛ لأنهما إذا اختلفا فإما أن يختلفا (والحسى) أى : والحال أن الحسى (هو المستعار منه) والعقلى هو المستعار له (نحو) أى : كالطرفين في الاستعارة في نحو قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(١) ف) إن الصدع استعارة طرفاها مختلفان ، والمستعار منه حسى ل (أن المستعار منه) لفظ الصدع الذي اشتق منه اصدع هو (كسر الزجاجة) ونحوها مما لا يلتئم بعد الكسر (وهو) أى : وذلك الكسر (حسى) باعتبار متعلقه ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن الكسر عبارة عن تعلق القدرة بالفعل الذي هو تفرق الأجزاء على الوجه المذكور والتفرق حسى في موصوفه بخلاف تعلق القدرة به فهو عقلى ، ولكن يعدون الوصف حسيا باعتبار متعلقه (والمستعار له هو التبليغ) أى : تبليغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمر بإبلاغه بإسماعه المبعوث إليهم وبيانه لهم (والجامع) بين الكسر والتبليغ (التأثير) في متعلقهما ، وذلك أن التبليغ في الحقيقة بيان المبلغ والكسر تفريق أجزاء المكسور وهو في الزجاجة مصحوب بمعنى هو عدم صحة الالتئام. وقد اشتركا في التأثير أما في التبليغ فلأن المبلغ أثر في العلوم المبلغة ببيانها ، وأما في الكسر فظاهر والمراد بالتأثير تأثير خاص وهو الموجب لكون المؤثر فيه لا يعود إلى الحالة الأولى ، وهو أمر مشترك بين الطرفين أعنى تأثيرا لا يعود معه المؤثر فيه إلى الحالة الأولى وهو في كسر الزجاجة أقوى وأبين ، وبيانه فيهما أن التبليغ فيه تأثير هو بيان لا يعود المبين معه إلى الخفاء بوجه والكسر فيه تأثير هو كسر لا يعود المكسور معه إلى الالتئام ، ولذلك يقال في تفسير اصدع أبن الأمور إبانة لا تنمحى أى : لا تعود إلى الخفاء كما أن كسر الزجاجة لا يكون معه التئام والأقرب أن هذا الجامع داخل في الماهية لدخول التأثير في مفهوم كل منهما ؛ لأنه في التبليغ تأثير هو البيان المذكور ، وفي الكسر تأثير هو التفريق المذكور فتأمل فإن الموضع سهل دقيق.

(وهما) أى : الطرف الذي هو التبليغ والجامع الذي هو التأثير (عقليان) فإن قيل : التبليغ إسماع فهو حسى باعتبار المتعلق قلت المراد تبليغ المعاني ببيانها والبيان هو الإتيان بما يتبين من غير تقييد بكونه حسيا ، ومعلوم أن ذلك الإتيان عقلى ؛ لأنه عبارة

__________________

(١) الحجر : ٩٤.


عن إيجاد شىء يبين من عبارة أو إشارة أو فعل فهو في أصله عقلى وإن كانت مصادقه حسية ؛ لأن المصادق إذا تعددت وقصد القدر المشترك بينها لا يكون ذلك المقصود بها حسيا إذا لم يقصد القدر المشترك ليتأتى الجمع به من حيث إنه كلى ، كما في سائر الجوامع وإنما قصد لذاته فصار عقليا تأمله ، ثم الصدع بمعنى الشق لا يتعدى بالباء فالباء في اصدع بما تؤمر لا تخلو من تجوز ، بأن يضمن الصدع معنى يتعدى بالباء كالجهر بالشىء والبوح ببيانه والتصريح به وما أشبه ذلك.

(وإما عكس ذلك) أى : إذا اختلفا فإما أن يختلفا ، والحسى هو المستعار منه كما تقدم أو يكون العكس وهو أن يختلفا والحسى المستعار له (نحو) أى : وذلك كالطرفين في الاستعارة في نحو قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ف) (١) إن طغى مشتق من الطغيان ، وهو استعارة أحد طرفيها عقلى وهو المستعار منه والآخر حسى ، وهو المستعار له وذلك ل (أن المستعار له) أى : لأن الذي استعير له لفظ الطغيان وأخذ منه طغى هو (كثرة الماء و) كثرة الماء مرجعها إلى وجود أجزاء كثيرة ، وهى مشاهدة ف (هو) أى : فهذا الطرف الذي هو كثرة الماء (حسى) فإذا كانت الكثرة وجود أجزاء كثيرة للماء فالوجود للأجرام حسى باعتبار ذاتها (والمستعار منه) أى : والذي استعير منه لفظ الطغيان هو (التكبر) والتكبر عبارة عن عد المتكبر نفسه كبيرا ذا رفعة إما مع الإتيان بما يدل عليها أو باعتقادها ولو لم تكن (وهو) بهذا الاعتبار (عقلى) بخلاف ما إذا اعتبرت آثاره (والجامع) بين التكبر وكثرة الماء (الاستعلاء المفرط) أى : الزائد على الحد (وهما) أى : وهذا الطرف الذي هو التكبر والجامع (عقليان) أما عقلية التكبر فظاهرة من تفسيره وأما عقلية الاستعلاء فقيل لأن المراد به طلب العلو وهو عقلى ، وأما لو أريد به العلو فهو حسى في الماء فلا يشترك فيه وفيه نظر ؛ لأن الطلب الحقيقي في الماء فاسد يتعين أن يراد به الذهاب في الارتفاع في الجو وهو حسى بل كونه عقليا من جهة أن المراد به العلو المفرط في الجملة أى : كون الشىء بحيث يعظم في النفوس إما بسبب كثرة كما في الماء وإما بسبب وجود الرفعة

__________________

(١) الحاقة : ١١.


المعنوية ادعاء أو حقيقة ، كما في التكبر. ولا شك أن الاستعلاء بهذا المعنى عقلى مشترك بين الطرفين ، وأما لو أريد العلو المشاهد في الجو فليس قائما بالتكبر ، وكذا إذا أريد به علو النفس في الباطن فليس في الماء تأمل.

أقسام الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار

ثم أشار إلى تقسيم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار فقال (و) الاستعارة (باعتبار اللفظ) المستعار (قسمان) فإن قيل : الاستعارة نفس اللفظ فكيف صح تقسيمها باعتبار اللفظ الذي هو نفسها قلت : يحتمل أن يفرض هذا التقسيم في استعمال اللفظ فيكون الاستعمال أصليا وتبعيا على ما يأتي في التقسيم ، ويحتمل أن يفرض في اللفظ فيكون التقدير أن جنس اللفظ المستعار ينقسم باعتبار ما صدقاته إلى أصلى ، وتبعى. أى : وإلى ما يسمى بذلك باعتبار خصوصه فصح التقسيم على الوجهين تأمل. (لأنه) أى : إنما كان فيها باعتبار اللفظ قسمان ؛ لأن اللفظ المستعار (إن كان اسم جنس) والمراد باسم الجنس هنا ما دل على الذات الصالحة للكثرة بأن كانت كلية كالأسد من غير اعتبار وصف فى الدلالة فخرج المشتق ؛ لأن الأسد إنما دل على الذات والوصف بالجراءة لازم فيطلق على الذات ، ولو انتفى وصف الجراءة بخلاف القاتل يستعمل فى الضارب وبخلاف الفعل ، وأما نحو حاتم فهو من هذا القبيل باعتبار تأويله بكلى يستلزم ، أى : الرجل الذى يلزمه وصف الكرم ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأنه لو دخل فى دلالته وصف الكرم على أنه كالمشتق من الكرم كان كنفس الكريم ، ويكون من قبيل ما يعد من التبعية كما يأتى. فما يقال هنا من أن الجنس إما أن تكون جنسيته حقيقية أو بتأويل كما في الأعلام المشهورة المتضمنة نوع وصفية يراد بذلك جعل الوصف المتضمن وسيلة لاتخاذه كليا بأن يجعل وجه شبه على أنه لازم لا داخل فى مفهوم اللفظ كالمشتق ، فيجعل ملزومه كليا له فردان أحدهما هو المستلزم لذلك الوجه فى غاية وهو متعارف ، والآخر كذلك غير متعارف وقد تقدم تحقيق ذلك ، وما فيه.


الاستعارة الأصلية

(فأصلية) جواب إن أي إن كان اللفظ اسم جنس فتلك الاستعارة أصلية وذلك (ك) لفظ (أسد) إذا استعير للرجل الشجاع فإن ذلك اللفظ اسم جنس ، وهو حقيقة الحيوان المعلوم المشهور باللازم الذي هو الجراءة فهي أصلية. (و) ك (قتل) إذا استعير للضرب الشديد بجامع نهاية الإذاية فإنه اسم جنس لفعل سبب خروج الحياة فنقل للضرب فهذه أصلية وسميت هذه أصلية لجريانها واعتبارها أولا من غير توقف على تقدم أخرى تنبني عليها وأصالة الشيء كونه لا ينبني على غيره بخلاف التبعية كما يأتي لانبنائها على استعارة المصدر أو لكثرتها وكثيرا ما يطلق الأصل على الأكثر فإن التبعية مخصوصة بما يؤخذ من المصدر على ما يأتي وهذه أكثر من ذلك (وإلا) يكن اللفظ المستعار اسم جنس وقد تقدم المراد منه.

التبعية

(ف) تلك (الاستعارة) التي ليس اللفظ فيها اسم جنس (تبعية) وذلك (كالفعل وما) أي وكالوصف الذي (يشتق منه) أي من الفعل مثل اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وغير ذلك كاسم التفضيل واسم المكان واسم الزمان والآلة وإذا علم مما تقدم أن المراد باسم الجنس الذي كانت الاستعارة فيه أصلية ما دل على معنى من غير اعتبار وصف في ذلك في الدلالة على أن الفعل وكل ما يشتق من المصدر تكون الاستعارة فيه تبعية (و) كذا (الحرف) إذ ليس اسما فضلا عن كونه اسم جنس ووجه كونها تبعية في الحرف والفعل وسائر المشتقات أن الاستعارة تعتمد التشبيه ـ أي : تنبني على التشبيه ـ إذ هي إعطاء اسم المشبه به للمشبه بعد إدخال الثاني في جنس الأول وإذا كانت الاستعارة تعتمد التشبيه بين الطرفين لم يصح أن تكون الاستعارة في مفاد الحرف وفي مدلول الفعل أصلية ؛ لأن التشبيه يقتضي الاتصاف بوجه الشبه بحيث يصح الحكم بذلك الاتصاف ويقتضي المشاركة بين الطرفين في وجه الشبه بحيث يصبح الحكم بتلك المشاركة. أما اقتضاؤه ذلك في المشبه فلأنك إذا قلت زيد كعمرو في الشجاعة ، فمدلوله أن زيدا موصوف بالشجاعة ، ووجدت فيه كما وجدت في عمرو


وأنه مشارك لعمرو في تلك الشجاعة ، وأما في المشبه به ؛ فلأجل أنه لو لم توجد فيه الشجاعة لم يصح الحكم على زيد في المثال بأنه ملحق بعمرو الذي هو المشبه في تلك الشجاعة ولم يصح الحكم بمشاركته لعمرو فيها ، وإذا اقتضى ذلك وجود الوجه في المشبه به صح الحكم به عليه فالتشبيه حالة تقتضي وجود وجه الشبه في الطرفين ، بحيث يصح الحكم به عليهما ، إلا أن تلك الصحة في المشبه كالمصرح بها في المشبه به على طريق اللزوم الاقتضائي الضمني الذي هو مثل ما كان كالتنصيص وذلك كاف في الصحة وإن كانت ليست بالاقتضاء في المشبه ، وعلى هذا لا يرد أن يقال التشبيه إنما يقتضي الاتصاف في المشبه ، وأما المشبه به فليس في الجملة حكم بالاتصاف ؛ لأنا نقول هو في المشبه كالصريح وفي المشبه به صحيح بطريق اللزوم ولو لم يكن كالصريح ، وإذا كان التشبيه يقتضي صحة الحكم بثبوت وجه الشبه والمشاركة وصحة الوصف بهما ؛ فمدلول الحرف والفعل لا يصح أن يحكم عليه فلا يصح التشبيه فيه فلا تصح فيه الاستعارة الأصلية المبنية على التشبيه ؛ إذ كون الشيء موصوفا ومحكوما عليه إنما يصح فيه إن كان من الحقائق ـ أي : الأمور الثابتة المتقررة كالجسم والبياض ـ بخلاف ما لا تقرر له لكونه شيئا لا ثبات له كالمشتمل على الزمان ؛ فالجسم ـ مثلا ـ متقرر فيوصف فيقال فيه جسم أبيض أو أسود ، وكذا البياض فيقال فيه بياض صاف وناصع بخلاف الفعل كقام فلدلالته على الزمان السيال الذي لا قرار له لا يصلح مدلوله للموصوفية المصححة للتشبيه المصحح للاستعارة الأصلية ، وبخلاف الوصف كقائم فإنه ولو لم يدل على الزمان بصيغته لكن يعرض اعتباره فيه كثيرا فيمنعه من التقرر ، وكذا الحرف من باب أحرى لأنه لا يستقل بالمفهومية على ما تقدم في وضع الحرف وأنه إنما وضع لمعنى سببى لا ليفهم لذاته بل ليتوصل به لغيره فكون غيره هو المقصود في الإفادة يمنع من الحكم عليه ؛ وإذا كان الفعل لاشتماله على ما لا ثبات له ولا استقلال له في الثبوت يمنع من الموصوفية مع استقلاله بالمفهومية فأحرى الحرف الذي لا يكون معناه إلا غير ثابت الاستقلال بالمفهومية أصلا على ما سنزيده به وضوحا ؛ فلا تصلح الاستعارة في الفعل


والمشتقات والحروف إلا تابعة لما له ثبات واستقلال وهذا الدليل على لزوم التبعية فيما ذكر لا يتم لأوجه ثلاثة :

الوجه الأول : أنه إن أريد أن الذي يستقل بالموصوفية اللازمة للتشبيه هو الذوات دون المعاني ـ لما تقرر أن المعنى لا يقوم بالمعنى ـ لم يصح ، كما اعترف به المستدل في قوله : بياض صاف فإنه معنى وقد وصف وإن أريد أن ما يستقل بالموصوفية هو مجرد ما يصح أن يقوم به وجه الشبه لم يتوقف على كونه ثابتا غير سيال بدليل أنا نشبه مدلول الفعل المضارع بمدلول الماضي في تحقق الثبوت فنطلق اسم الماضي عليه مع أن الزمان موجود فيهما معا وهو سيال ، وكيف يستقيم أن الموصوفية لا تصح فيما لا تقرر له كالزمان والحركة؟ مع صحة أن يقال الزمان ماض والحركة سريعة.

والوجه الثاني : أن مقارنة الحدث بالزمان لا تقتضي تجدد ذلك الحدث بتجدده كقولك : أبيض الجير فعلى تقدير كون عدم الاستقرار والسيالية موجبا لنفي الموصوفية الموجبة لصحة الاستعارة ؛ فيلزم أن لا تصح بنفي تلك الموصوفية لا يلزم عدم صحتها باعتبار الحدث لصحة دوامه مع تجدد أجزاء الزمان المقارن له.

والوجه الثالث : أن هذا الدليل على تقدير تمامه لا يشمل اسم الآلة واسم الزمان والمكان ؛ إذ لا يصح نفي الموصوفية عنها مع الاتفاق على أن الاستعارة فيها تبعية فالدليل لا يشملها لصحة الموصوفية فيها والدعوى أيضا لا تشملها لقولهم : إن المراد بالمشتقات هو الصفات دون أسماء الأماكن والأزمان والآلة فلا يمكن إدخالها في الدليل بتمحل ما بعد هذا التصريح بخروجها عن الدعوى ، فليس لأحد التزام عدم صحة الموصوفية فيها بأي تمحل كان لأمرين : أحدهما : صحة كونها موصوفة في نفس الأمر ، والدليل إنما يعم ما لا يصح فيه الموصوفية ، والآخر : إقرار المستدل بأن المستدل عليه هو المشتق المفسر بالوصف دون الآلة والزمان والمكان ، فإذا كانت الاستعارة في اسم الآلة والزمان والمكان لا يصح أن تكون أصلية للقطع بأنك إذا قلت هذا مقتل فلان للموضع الذي ضرب فيه ضربا شديدا ، أو لزمانه وهذا مرقده لقبره ومضى مرقده لوقت موته ، وهذا مقتاله لآلة ضربه ضربا شديدا ؛ فالتشبيه في ذلك إنما هو في المصدر أولا أعني الموت


والنوم والضرب الشديد والقتل ، ثم تبع ذلك اسم الآلة والزمان والمكان وجب العدول عن الدليل الذي لا يشملها إلى ما يقتضي التبعية في جميع ما يؤخذ من المصدر فعلا كان أو وصفا أو آله أو ظرفا ، ولو بأن يوجه بعضها بغير ما وجه به الآخر. فنقول : إن التحقيق في كون الاستعارة في الفعل تبعية كونه لا تصح فيه الموصوفية اللازمة للتشبيه الذي هو مبني الاستعارة ، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم وتحقيق ذلك ـ على ما أشرنا إليه في مبحث وضع الحرف ـ أن الفعل وإن دل على الحدث الذي يصح أن يحكم به ويوصف به لا يصح أن يحكم عليه ؛ لأن وصفه اعتبر فيه نسبته إلى الفاعل لا لذاتها بل يتوصل بها إلى حال الفاعل المخصوص فلم يمكن الحكم عليه ، كما أن الحرف لما وضعه الواضع ليفيد معنى نسبيا نحو الابتداء في من مثلا ليتوصل به إلى حال متعلقه المخصوص كالكوفة والبصرة في ابتداء السير من أحدهما لا يصح الحكم على مدلوله لقصده لغيره ، وإنما يحكم على الابتداء عند قطعه عما اعتبر في الحرف لأنه لازم للمقصود بالحرف لزوم الأعم للأخص ؛ ولذلك يقال المراد بمعاني الحروف التي تجري الاستعارة فيها ما إذا أفادت الحروف معاني ردت لها بنوع استلزام ، ولو صح الحكم على معاني الحروف عادت أسماء ، وقد تقدم تحرير ذلك في وضع الحرف وأن ذلك بمنزلة المرآة للصورة المقصودة بها ، فإنك ما دمت قاصدا للصورة في المرآة لا تستطيع أن تحكم على تلك المرآة ولو أدركتها حينئذ لشغل النفس بغيره ، وكذا الحرف والفعل لما كان الغرض من معناهما التوصل إلى معنى خاص ؛ لم يحكم على معناهما ولا به ما دام كذلك ؛ لعدم استقلاله بالمفهومية ؛ لأن النظر فيه لغيره ، وهذا يقتضي أن نسبة الفعل إلى الفاعل لما كان القصد بها في أصل الوضع استيضاح حال الفاعل لم يصح الحكم عليها وما لا يصح كذلك لا تجري فيه الاستعارة المقتضية لصحة الحكم بوجه الشبه وهو كذلك ، وكان القياس أن لا يصح الحكم بها أيضا ولكن صح الحكم بها باعتبار الحدث المقصود الدلالة عليه على وجه الاستقلال. وأما قولهم : زيد قام أبوه فهو في تأويل قائم الأب فلم يخبر في الحقيقة بالنسبة الفعلية بل بالموصوفية فلا يتوهم أنه مما أخبر فيه بالنسبة فقط إذ الحدث ليس لزيد فقد تبين بهذا أن الحاجة إلى شيء آخر تجري فيه الاستعارة أولا في


الحرف والفعل ؛ إنما هي لعدم استقلالهما بالمفهومية حيث قصد الواضع معناهما لغيره وقد تقدم هنالك تحقيقه ؛ وذلك لأن عدم الاستقلال يستلزم عدم صحة الحكم والاستعارة تستلزم الصحة فتنافيا.

وأما الوصف فالمقصود بالذات فيه إفادة ذات موصوفة في الجملة وإفادة حدث خاص ، فإذا قلت : قائم فمعناه ذات ما وحدث اتصفت به وهو القيام فمن دلالته على الذات المطلقة بالقصد صح الحكم عليه وعلى الحدث المنسوب صح الحكم به ، وإما نسبته إلى الفاعل فهو عرضي لتتقيد به تلك الذات فلم تمنع من الحكم عليه كما في الفعل ، فالوجه في كون الاستعارة فيه تبعية مع صحة الحكم عليه وبه باعتبار الأمرين المقصودين بالذات في وضعه هو أن الذات فيه في غاية الإبهام ، وإنما المخصوص الحدث فاعتبر التشبيه فيه ؛ لأن التشبيه في المخصوصات أمكن وأسد وذلك لأن الأمور المبهمة العامة لا يطلب التشبيه فيها للجهل بأوصافها كالموصوف وأما أسماء الأماكن والأزمان والآلة فهي ولو دلت على خصوص هو المكان والزمان والآلة لكن المصدر فيها أخص فهو الأولى أن يقصد في التشبيه لأجل خصوصه ؛ لأن المكان والزمان والآلة لا يخلو كل منها من العموم المنافي لطلب الوجه بينه وبين غيره للجهل بوصفه حتى لو أريد المكان أو الزمان أو الآلة من حيث هي لأتى بأسمائها الخاصة وبالجملة ، فأهمية المصدر لو انتفت فإن كانت الذات أهم أتى بلفظها الخاص وإن كانت مساوية في الأهمية فهما تشبيهان فيجب الإتيان بلفظ كل منهما فثبت كون المصدر أهم فانصرف له الاعتبار لما ذكر وأيضا إذا اشتمل الشيء على قيد فالغرض ذلك القيد كما قال عبد القاهر ووصى بالمحافظة عليه. والقيد هنا هو المصدر ففيه ينبغي أن يجري التشبيه ومقتضى ما تقرر أن التبعية تجري في المرسل إذا كان فعلا أو حرفا أو مشتقا ؛ لأنه يستلزم صحة الحكم بالملزومية فما لا يستقل بالحكم لا يتجوز فيه إلا تبعا والمشتق إنما الغرض منه المصدر كما تقدم فيكون المرسل فيه تبعيا قيل : إن هذا لم ينقل عنهم ثم إن هذا في التصريحية وأما المكنى عنها كقولك : دللت بلسان فصيح عند قيام القرينة على أن المراد الحال وأن المراد بالدلالة النطق على وجه الكناية فلم يذكروها أيضا. وإذا لم تصح الأصلية فيما


ذكر (فالتشبيه) الواقع (في الأولين) أعني الفعل وما يشتق منه ينصرف (لمعنى المصدر) أي للحدث المشمول للفعل وغيره دون الزمان في الأول والذات في الثاني وأعني بالذات ملابس الحدث من موصوف أو زمان أو مكان أو آلة وذلك لما تقرر آنفا في الفعل من كونه لا يستقل بالمفهومية باعتبار نسبته للفاعل فلا يصح الحكم عليه وما يقع فيه التشبيه يصح أن يحكم عليه وفي غيره من كون الذات المدلولة له فيها الإبهام فلا ينصرف لها التشبيه المقتضي لإدراك خصوص في المشبه بخلاف المصدر الذي هو الأصل فيهما.

(و) التشبيه (في الثالث) أعني الحرف ينصرف (لمتعلق معناه) أي لما تعلق به معنى الحرف وقد تقدم أن الحرف ينبغي أن يجعل معناه مفاده عند الاستعمال وهو أمر جزئي فيكون المعنى الكلي لازم ذلك المعنى. فمن مثلا لما وضعت لمطلق ابتداء لغاية ما مع اعتبار التوصل بها إلى كل ابتداء مخصوص جعل الابتداء المخصوص كالابتداء من البصرة إلى الكوفة هو معنى الحرف ؛ لأنه هو المآل وجعل المعنى الكلي لازمه مع قطع النظر عما اعتبر فيه من التوصل به إلى غيره ، وإن كان هو الموضوع له لكن على أنه مقصود لغيره ، وتقدم أن قصده لذلك المخصوص هو الذي منع من صحة الحكم عليه أو به ؛ لأن ما يقصد للغير لا يستطاع الحكم عليه أو به كالمرآة عند قصدها للصورة فلا يستطاع الحكم عليها ولا بها في تلك الحالة ، وتقدم أن الحامل على ذلك لزوم أحد الأمرين في غير ذلك الاعتبار ، أما كونه منقولا أو مجازا في غير المخصوص إن وضع له وأما كونه كالأسماء في صحة الحكم عليه إن وضع لكلى حال كونه يقصد به لذاته.

وأما من قال معنى وضعه كونه مرصدا للدلالة وليس دالا بالفعل حتى يستعمل مع مدخوله فيلزمه خروجه عن حقيقة الوضع باعتبار ذاته وصحة الحكم عليه عند ذكر متعلقه فاختير فيه الاعتبار السابق ؛ ولذلك قال صاحب المفتاح : المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر به عنها عند تفسير معانيها مثل قولنا : من معناها ابتداء الغاية وفي معناها الظرفية. وكي معناها الغرض فهذه ليست معاني الحروف يعني ليست معانيها على الاستقلال بحيث لم يعتبر معها حالة في ذاتها بل هي معانيها على أن يتوصل بها إلى


المعاني المخصوصة قال وإلا لما كانت حروفا بل أسماء ، يعني لو وضعت لها لتفيدها استقلال من غير قصد التوسط بها لغيرها وذلك الغير هو المعنى الخاص كما ذكرنا لصح الحكم عليها كالأسماء ؛ لأن الاسمية والحرفية ليستا مختلفتين باعتبار اللفظ فقط لصحة أن يكون اللفظ الواحد حرفا واسما لمعنيين ، وإنما تختلفان باعتبار المعنى أي باعتبار أن معنى كل منهما مغاير لمعنى الآخر ، إذ لو كان ما فسر به أحدهما هو ما فسر به الآخر من كل وجه لزم فيه ما لزم في الآخر لكن يمتنع صحة الحكم على معنى الحرف فعلم أنه اعتبر فيه التوسطية لغيره ؛ لأن ذلك هو المانع من الحكم كما ذكر في مثال المرآة.

قال (وإنما هي) أي تلك الأمور التي تفسر بها الحروف تفسيرا يظهر به أنها موضوعاتها من غير اعتبار حالة أخرى تفارق بها الأسماء في معانيها (متعلقات لمعانيها) أي تلك متعلقات أي ملابسة لمعانيها التي اعتبر التوصل إليها التي هي المخصوصة كتعلق الخاص بالعام بمعنى أن الحروف إذا أفادت معاني عند الاستعمال ، وهي التي قصد التوصل إليها عند الوضع ردت تلك المعاني إلى هذه بنوع من الاستلزام وهو استلزام الأخص للأعم فمن مثلا وضع لمطلق الابتداء من غاية ما ليتوصل بذلك إلى كل ابتداء مخصوص فعند الاستعمال في قولك ـ مثلا ـ : سرت من البصرة إلى الكوفة ؛ يفيد ابتداء سيرك من البصرة إلى الكوفة ؛ لأنه هو المقصود ليتوصل إليه أو إلى مثله من الخصوصيات فيرد هذا المعنى إلى مطلق الابتداء بأن يقال هو لابتداء الغاية ؛ لأن ذلك الأخص يستلزم هذا الأعم وقد تقدم تحقيق هذا غير ما مرة كررناه ليتضح ؛ ولأن هذا محله فعلى هذا فقول المصنف في تمثيل متعلق معنى الحرف (كالمجرور في) نحو قولك (زيد في نعمة) ليس بصحيح ؛ لأن النعمة ليست متعلق معنى الحرف بهذا الاعتبار ضرورة أنه هو الظرفية والنعمة ليست نفس الظرفية وحمله على معنى كمطلق متعلق المجرور في قولك زيد في نعمة ، وذلك أن هذا المجرور له متعلق خاص وهو ملابسه أعني وصف النعمة أي ملابستها زيدا فيكون مطلق المتعلق مطلق ملابسة شيء لشيء ولا شك أن تلك الملابسة هي المشبهة بالظرفية التي هي متعلق معنى الحرف في وجه هو اختصاص شيء بشيء واشتماله عليه في الجملة فيعود الكلام إلى ما تقدم من أن التشبيه


في متعلق معنى الحرف بالمعنى السابق أولا ثم تبع ذلك استعمال الحرف في المعنى الخاص بعد نقله عن المعنى الذي يعتبر له أصالة فيه غاية التكلف وينافيه قوله : للعداوة والحزن وينافيه ظاهر قوله : كالمجرور ؛ لأن المجرور هو نفس النعمة لا متعلقه بهذا الاعتبار ، وإنما جعل متعلق معنى الحرف الذي وقع فيه التشبيه ما ذكر دون المجرور نفسه ، وإن كان يصدق عليه أن معنى الحرف متعلق به بمعنى أن النسبة التي وضع لها الحرف لها تعلق بذلك المجرور واختصاص به لما سنذكره بعد في قوله : وفي لام التعليل إلخ ، وهو أن نفس المجرور لو جعل هو محل التشبيه لكان هو محلا للاستعارة وهذه الاستعارة تصريحية عند المصنف فيقتضي اعتبار الاستعارة في المجرور أولا أن يذكر المشبه به هنا وهو الظرف كالدار مثلا ، ولم يذكر هنا ، وإنما ذكر المشبه فلم يصح جعل الاستعارة الأصلية في المجرور بل في متعلق معنى الحرف بالمعنى السابق وسيأتي تحقيق ما في ذلك من البحث.

نعم لو جعلت الاستعارة مكنيا عنها صح اعتبار الاستعارة في المجرور وتكون استعارة الحرف تخييلية ، ويأتي الآن تحقيق ذلك كما اعتبره السكاكي ، وإذا تحقق بما تقدم أن التشبيه في الفعل وما يشتق منه لمعنى المصدر وفي الحرف لمتعلق معناه. (فيقدر التشبيه) لأجل ذلك (في) نحو قولك (نطقت الحال) بكذا (و) قولك (الحال ناطقة بكذا للدلالة بالنطق) أي يقدر التشبيه فيما ذكر واقعا بين الدلالة والنطق وذلك بأن تجعل دلالة حال إنسان على أمر من الأمور مشبها ويجعل نطق الناطق مشبها به ووجه الشبه بينهما ما لابس كلا منهما ، من اتضاح المدلول والمعنى للذهن بكل منهما ولم يجعل الوجه إيضاح المعنى لأنه نفس الدلالة فلا يصح إلا بتكلف بأن يجعل وجه الشبه داخلا في مفهوم الدلالة وخارجا عن مفهوم النطق فيكون إيضاح المعنى بالحال هو المشبه ووجه الشبه جنسه ، وهو مطلق إيضاح المعنى والنطق الذي هو المشبه به ملزوم للإيضاح وأكثر وجه الشبه ما يكون خارجا عن الطرفين فالحمل عليه مع الإمكان أقرب ، ثم إذا قدر أن التشبيه كان أولا بين الدلالة والنطق قدر أن لفظ النطق استعير أولا للدلالة بذلك التشبيه ثم يشتق من النطق المستعار الفعل وسائر المشتقات ؛ فتكون الاستعارة في المصدر أصلية لأوليتها وفي الفعل وسائر المشتقات تبعية لتأخرها وفرعيتها وإنما قلنا


قدر أن لفظ النطق استعير لأنه لا دليل على أنه لا بد أن يستعار لفظ المصدر أولا فالفعل المحقق هو تقدير الاستعارة لجواز أن لا يسمع إطلاق المصدر على غير معناه مجردا عن الفعل فإن قيل الدلالة كما قررت لازمة للنطق فكيف تجعل الدلالة مشبهة بالنطق مع أنه ملزومها إذ لا فائدة في تشبيه الشيء بملزومه ، ولا في إدخال اللازم في جنس الملزوم الذي هو مبني الاستعارة بل إطلاق النطق على الدلالة من إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا مرسلا فلا يكون من الاستعارة التبعية. قلنا : لا نسلم أن النطق استعمل في لازمه الذي هو الدلالة به بل في دلالة الحال بخصوصها ، ووجه الشبه بينهما متحقق كما تقدم ، وهو اتضاح المعنى بكل منهما وإن كان اتضاحه في النطق بواسطة مطلق الدلالة وفي دلالة الحال بنفس دلالتها فيكون اللفظ استعارة وعلى تقدير تسليم أنه مستعمل في مطلق الدلالة فلا نسلم عدم صحة تشبيه لازم الشيء به عند وجود وجه ملابس لكل منهما يصح به التشبيه فنقول اعتبر التشبيه بين معنى النطق والدلالة في ملابسه الاتضاح لأنه بالنطق أشهر فاستعير اللفظ. وغاية ما في الباب أن لفظ النطق يصح أن يستعمل في الدلالة بطريق التشبيه فيكون الانتقال فيه من الملزوم إلى اللازم بواسطة التشبيه ، وجعل وجه الشبه وسيلة للزوم بين المنتقل عنه وإليه كما تقدم ، فيكون استعارة ، وأن يستعمل فيها برعاية علاقة اللزوم بلا تشبيه ولا جعل وجه الشبيه وسيلة وهو صحيح إذ اللفظ الواحد يجوز أن يكون استعارة ومجازا مرسلا باعتبار علاقتي التشبيه ، ومطلق اللزوم العاري عن التشبيه ، وإذا كان الانتقال باللزوم في كل منهما فلفظ النطق في مطلق الدلالة لكونها لازمة لمدلوله فهو مجاز مرسل ، ويلزم كونه مجازا مرسلا تبعيا في الفعل وما يشتق منه ولو لم يذكروه كما تقدم ، وإن استعمل في الدلالة لكونها تشبيهه في اتضاح المعنى بكل منهما لكون الاتضاح في النطق أشهر كما هو المراد هنا على ما قرر كان استعارة ويلزم كونه استعارة تبعية في المشتقات ، وإذا فهمت ما قررنا اتضح المراد وانكشف الانتقاد والله الموفق بمنه.


(و) كذا يقدر التشبيه حيث وجدت الاستعارة التبعية (في لام التعليل) وذلك (نحو) الاستعارة في قوله : تعالى (فَالْتَقَطَهُ)(١) أي : التقط موسى (آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ) أي ليكون (لَهُمْ) موسى (عَدُوًّا وَحَزَناً) للعداوة والحزن) أي يقدر في استعارة اللام في الآية أن العداوة والحزن الحاصلين (بعد الالتقاط) شبها (بعلته) أي بعلة الالتقاط (الغائية) وعلة الشيء الغائية هي ما يحمل على تحصيله ليحصل بعد حصوله ، وذلك كمحبة موسى لآل فرعون ، وتبنيهم له أي : اتخاذهم له ابنا ، فإنه إنما حملهم على ضمهم له وكفالتهم له بعد الالتقاط ما رجوه في موسى من أنه يحبهم ويكون ابنا لهم يفرحون به ، فلما كان الحاصل بعد فعلهم ضد ذلك من العداوة والحزن شبهت العداوة والحزن بالعلة الغائية المذكورة وهي المحبة والتبني ، إما على طريق التهكم إشارة إلى أن ذلك فعل الجاهل بالعواقب ، ويكون وجه الشبه منتزعا من التضاد بأن يجعل كالتماثل بواسطة التهكم ، وإما على طريق التشبيه الحقيقي ويكون وجه الشبه مطلق الترتب ، وإن كان في العلة الغائية تقديريا ، وفي العداوة والحزن حصوليا بواسطة تخييل أن الحاصل كمقدر الحصول ، وتخييل أن المقدر أقوى في الترتب لكونه أشهر وأكثر وقوعا باعتبار أصله ، ولما قرر تشبيه العداوة والحزن بالمحبة والتبني ـ فيما ذكر ـ استعيرت اللازم من أصلها وهي المحبة والتبني فاستعملت في العداوة والحزن ، وقد كان حقها أن تستعمل في المحبة والتبني اللذين هما العلة الغائية فالاستعارة الأصلية بين المحبة والتبني والعداوة والحزن اللذين حصولهما هو المجرور فكانت الاستعارة في اللام تبعا للاستعارة في المجرور ؛ لأن اللام لا تستقل فيكون ما اعتبر فيها تابعا للمجرور ، وهذا الطريق أعني جعل التشبيه للعداوة والحزن بالعلة الغائية فيما ذكر مأخوذ من كلام صاحب الكشاف ، وفرضه المصنف بناء على مذهبه في الاستعارة التصريحية ؛ لأن التبعية عنده من التصريحية وجعل متعلق معنى الحزن هو المجرور ، ليكون التشبيه فيه موافقة لصاحب المفتاح وذلك حيث قال ـ أعني صاحب الكشاف ـ : معنى التعليل في اللام وأراد على طريق المجاز ؛ لأنه لم تكن داعيتهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ، ولكن المحبة

__________________

(١) القصص : ٨.


والتبني غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، وهو غير مستقيم على ما ذهب إليه المصنف من أن الاستعارة في ذلك تصريحية ؛ وذلك لأن المذكور في التصريحية يجب أن يكون هو المشبه به سواء كانت تبعية أو أصلية إلا أن التبعية لا يكون التشبيه فيها في نفس المفهوم من اللفظ المستعمل بل في ملابسه كالمصدر المشتق منه الفعل والوصف ، ومقتضى ذلك حيث قدر التشبيه في متعلق معنى الحرف وأريد به المجرور أن يذكر المشبه به وهو العلة الغائية في المثال والظرف كالدار في نحو زيد في نعمة ولم يذكر بل هو المتروك هنا نعم يستقيم على مذهب السكاكي الذي يجعل التبعية مكنيا عنها وسواء اعتبر في كونها مكنيا عنها ما اعتبره المصنف في الكناية وهو أن يضمر التشبيه في النفس ثم يذكر لوازم المشبه به أو ما اعتبره السكاكي فيها وهو أن يطلق المشبه على المشبه به ادعاء إذ يصح أن يعتبر أنه أضمر تشبيهه العداوة والحزن بالعلة الغائية في النفس ، ثم ذكر ما هو لازم المشبه به وهو اللام ، أو أنه أطلقت العداوة والحزن على العلة الغائية ادعاء ، ثم ذكر ذلك اللازم ، فالذي ينبغي أن يعتمد في استعارة الحرف والفعل وشبهه أن التشبيه حيث جعل في المجرور تكون به الاستعارة مكنيا عنها كما قررنا ، ولا يستقيم حينئذ جعلها تبعية ؛ لأنها تصريحية على مذهب المصنف وقد علم أنه يجب أن يذكر فيها المشبه به ، وهو متروك في المثالين ، فإن أريد جعلها تبعية على مذهبه وجب أن يجعل التشبيه في متعلق معنى الحرف على ما قررناه في المراد بمتعلق معنى الحرف فيما تقدم ، فيجعل التشبيه في ليكون لهم عدوا وحزنا في متعلق معنى اللام وهو ترتب العلة الغائية بأن يقدر تشبيه ترتب العداوة والحزن بترتب تلك العلة على طريق التهكم بجعل التضاد كالتماثل كما تقدم ، والوجه هو حصول مطلق الترتب وإن كان في العلة الغائية رجائيا ، وفي العداوة والحزن فعليا كما تقدم ، أو هو حصول بعد طلب النفع على التقدير أو الفعل أيضا ، فلما شبه الترتب بالترتب جرت الاستعارة أولا في ذلك الترتب اللازم للعلية أو لكون الشيء علة مع ما يشبهه وتبع ذلك نقل الحرف فيكون نقله واستعماله نظير الأسد حيث نقل إلى الشجاع لنقل الحرف إلى ترتب شبيه بالترتب العلي الذي هو الأصل في الحروف ،


وذلك كما مر في نطقت الحال ، وهو أن الاستعارة جرت في المصدر ثم تبع ذلك استعارة الفعل المأخوذ عنه ، فيظهر بهذا جريان التبعية على طريق التصريحية حيث صرح باللفظ المنقول عن أصله من حرف أو فعل ، ثم استعمل في غير ذلك الأصل وهو ما شبه بمعناه فيجب أن يراد بمتعلق معنى الحرف العلية أي : كون الشيء علة يترتب على غيره ؛ لأن ذلك معنى الحرف الذي إليه يرد بطريق الاستلزام على ما تقدم لا المجرور كما ذكره المصنف سهوا هكذا يقرر هذا المحل ، ولكن يجب أن يتنبه في هذا المقام للفرق بين التبعية في الفعل وشبهه وبين التبعية في الحرف فإن التبعية في الفعل وما يشتق منه هي أن يقدر نقل المصدر ، أو ينقل بالفعل لغير معناه الأصلي ، ثم يشتق منه الفعل وشبهه ، ولا يمكن تصور مثل ذلك في الحرف إذ ليس هناك لفظ استعير أولا وتبعه استعارة الحرف ، وإنما هناك تقدير التشبيه بين شيئين إما أن يكونا معنيين أحدهما الكلى الذي يرد إليه معنى الحرف الجزئي ، والآخر شبه بذلك المعنى على ما اخترناه في متعلق معنى الحرف فيما تقدم ، ومعلوم أن أحد هذين لم ينقل للآخر أو يكونا معنيين أحدهما هو الذي ينبغي أن يجر بالحرف في الأصل والآخر هو المجرور الآن ولم ينقل أحدهما إلى الآخر أيضا فالتبعية في الحرف برعاية أنه لما كان التشبيه في معناه ما دام معنى له متعذرا اعتبر فيما يمكن فيه فتبع ذلك التجوز في الحرف ، وعلى هذا فقد تعذرت الاستعارة التصريحية فيه باعتبار ما وقع فيه التشبيه إذ لا يصح نقل المشبه به إلى المشبه كما لا يخفى وإذا تقرر هذا فجعل الاستعارة في الحرف مكنيا عنها أقرب إذ ليس هنالك إلا إضمار التشبيه في النفس وجعلها في نفس الحرف على ما تقرر آنفا يفضي إذا أجريت الاستعارة على أصلها من بنائها على التشبيه إلى صحة التشبيه في معناه ، وهو متعذر اللهم إلا أن يكون ذلك على طريق التسامح وتسمية مطلق التجوز استعارة وادعاء أن المراد بالاستعارة الأصلية المتبوعة للحرف هنا كون المجرورين مشبهين أو المعنيين كذلك ، فاستحق ملابس الحرف نقل اللفظ فيه وتبع ذلك نقل الحرف لغير أصله لا يجدي في كون الاستعارة تصريحية لا في الحرف ولا في المتبوعين. أما في الحرف فلأن التشبيه لم يقع في معناه ؛ لتعذره ـ كما تقدم ـ ، وأما في المجرورين أو المعنيين فلأن


الحاصل وجود التشبيه وإضماره ، ولا تصريح فيه ثم لا يستقيم بل لا يصح نقل لفظ المجرور أو نقل لفظ أحد المعنيين وإلا خرجت المسألة عن التبعية في الحرف ، وما لا يصح لا تبني التبعية عليه ، فالمستقيم في الحرف كون الاستعارة مكنيا عنها على أن يكون التشبيه في المجرورين فما قيل وقررنا ما يفيده ـ فيما تقدم ـ من أن المشبه إن قدر في متعلق معنى الحرف بالمعنى السابق كانت الاستعارة تصريحية ، وإن قدر في المجرورين كانت مكنيا عنها مستقيم في المجرورين غير واضح في غيرهما ؛ إذ ليس هناك استعارة حقيقية تبعتها استعارة الحرف وإنما هناك تشبيه فقط نعم يفترق حال الاعتبارين في أن متعلق معناه بالاعتبار السابق أقرب لما استعمل فيه من المجرور ، فكان مفيد الأصلي مصرح به إذ الحرف أفاد الأصلي والتابع معا ، وقربت إلى التصريحية بذلك الاعتبار فتأمل في هذا المقام ثم أشار إلى قرينة التبعية فقال (ومدار) أي : ودوران (قرينتها) أي : قرينة الاستعارة التبعية إذا كانت تلك التبعية (في الأولين) أي : في المذكورين أولا وهما الفعل وما يشتق منه (على الفاعل) أي دوران جنس القرينة كائن على فاعل ذلك الفعل أو ما يشتق منه اللذين وقعت فيهما التبعية ومعنى دورانها عليه عودها إلى كونها نفس الفاعل ليكون الإسناد الحقيقي إليه لا يصح وذلك (نحو) قولك (نطقت الحال بكذا) فإن النطق الحقيقي يستحيل إسناده للحال فدل كون المسند إليه وهو الفاعل نفس الحال المستحيل فيها النطق على أن المراد بالنطق ما يصح إسناده لها ، ومعلوم أنه هو الدلالة الشبيهة بالنطق في فهم المراد ولما كان دوران الشيء لا يقتضي الملازمة الأبدية عرفا بل أكثريا لصحة انفكاك الدوران كما يقال مدار عيش بني فلان البر ، ويصح أن يتعيشوا بغيره عبر بالمدار ليفيد أن ما ذكر من القرينة أكثري لصحة كونها حالية كأن يقال : نطق لي ، فالمراد حيث يدل الحال على أن الفاعل المحذوف هو ما لا ينطق بل يدل (أو المفعول) أي : تدور قرينتها على الفاعل أو على المفعول بأن يكون تسليط الفعل أو ما يشتق منه على المفعول غير مناسب فيدل ذلك على أن المراد بمعناهما ما يناسب وذلك (نحو) قوله :


جمع الحق لنا في إمام

(قتل البخل وأحيا السماحا) (١)

فإن تسليط القتل على نفس البخل والإحياء على السماح ، وهو الجود لا يصح فدل ذلك على أن المراد بكل منهما ما يصح تسلطه على متعلقاته مما يناسب والمناسب للأول أن يراد به إزالة البخل والجامع بين الإزالة والقتل اقتضاء كل منهما إعداما فيما تعلق به بحيث لا يظهر ذلك المتعلق ، والمناسب للثاني أن يراد به إكثار السماح ، والجامع بين إكثار السماح وإحياء ما في كل منهما من ظهور متعلقه وانتشار آثاره (ونحو) أي : ومما كانت فيه القرينة هي المفعول قوله : (نقريهم) (٢) أي نجعل قراهم وهو الطعام المقدم للضيف أول نزوله (لهذميات) وتعدى قوله : نقريهم إلى اللهذميات التي هي بمنزلة الطعام يدل على أنه يصح أن يقال : نقريهم الطعام ، ولا يخلو من وجود تأكيد مضمون الفعل ؛ لأن القرى هو الطعام المقدم للضيف ، وفي القاموس قراه أضافه ، وهو يدل على عدم تعديه بنفسه ، وكأنه على إسقاط الجار واللهذميات نسبة إلى اللهذم وهو القاطع من الأسنة والمنسوب إلى اللهذم هو الطعنات أي : نجعل قراهم عند اللقاء الطعنات باللهذم ويحتمل أن يراد باللهذم نفس الأسنة ، وتكون ياء النسبة زائدة للمبالغة كما يقال : رجل أحمري أي : أحمر فزيدت الياء ؛ لإفادة المبالغة في الوصف بالحمرة فيكون المعنى أنا نجعل تقديم الأسنة إليهم قراهم والمآل في المعنى واحد فالمفعول الثاني وهو قوله : لهذميات لا يصح تعلق القرى به على أصله ؛ إذ هو تقديم الطعام فعلم أن المراد به ما يناسب وهو تقديم الطعنات عند اللقاء أو الأسنة ، ووجه الشبه إعطاء ما يصل من خارج لداخل عند أول اللقاء ، فكان نقريهم استعارة تبعية لكونها فعلا ، وقد كانت أصلية للمصدر وتمام البيت قوله : " نقدبها" ما كان خاط عليهم كل زراد والقد القطع وزرد الدرع هو سردها أي : نسجها ، والدرع مثل القميص ينسج من حلقات الحديد (أو المجرور) أي مدار قرينتها على الفاعل والمفعول والمجرور ؛ لكون تعلق ذلك المجرور به

__________________

(١) البيت في الإيضاح ص (٢٦٩) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ، وهو لابن المعتز فى ديوانه (١ / ٤٦٨) ، والمصباح ص (١٣٥).

(٢) البيت للقطامى فى الإيضاح ص (٢٤٩) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى.


لا يناسب (نحو) قوله : تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) فإن التبشير إخبار يسر فلا يناسب تعقله بالعذاب فعلم أن المراد به ضده وهو الإخبار المحزن ووجه الشبه منتزع من التضاد بواسطة التهكم كما تقدم في التشبيه فصار ذكر العذاب الذي هو المجرور قرينة على أنه أريد بالتبشير ضده ، فإن قيل إذا كان التبشير إخبارا بمفروح به والعذاب هنا بمنزلة المفروح به تضمن الكلام نوعا من التكرار ، إذ لو استعمل في المفروح به ، وقيل بشره بقدوم أبيه كان التقدير أخبره بمفروح به بقدوم أبيه ، فيكون كالتكرار أو كالبدل ، وجعل ما بمنزلته قرينة يدل على خروجه عن معنى الفعل قلنا : التبشير إخبار يسر في الجملة والمتعلق وهو المجرور خاص زائد على ذلك فإذا قيل : ـ مثلا ـ بشره فمعناه أوقع له السرور في خبرك وقولك بعده بقدوم أبيه زائد على هذا المعنى فصح كونه خارجا عن معنى الفعل ، فيصح كون ما بمنزلته قرينة زائدة على الفعل ولو سلم فلا مانع من كون المتعلق كالتأكيد للفعل ، وما بمنزلته يكون قرينة ، ولو كان جزءا والأول أظهر ، وقد تقدم أن قوله : مدار يفيد أن القرينة قد تكون غير الفاعل والمفعول والمجرور فلذلك عبر به كالقرينة الحالية كقولك : قتلت زيدا عند دلالة حال التكلم على أن المراد بقتلت ضربت ضربا شديدا.

أقسام الاستعارة باعتبار آخر

ثم أشار إلى تقسيم آخر في الاستعارة فقال (و) الاستعارة ينظر فيها (باعتبار آخر) غير اعتبار الطرفين والوجه الجامع واللفظ المستعار ، وإذا نظر فيها بذلك الاعتبار وهو وجود الملائم لأحد الطرفين وعدمه فهي (ثلاثة أقسام) إما أن لا تقترن بشيء يلائم أحد الطرفين وهما المستعار منه وإليه ، أو تقترن بما يلائم المستعار منه فهذه ثلاثة أقسام أولها :

__________________

(١) التوبة : ٣٤.


المطلقة

(مطلقة) أي : التي تسمى مطلقة لإطلاقها عن وجود قيد الملائم (وهي) أي : المطلقة (ما) أي : الاستعارة التي (لم تقترن بصفة) تلائم أحد الطرفين (ولا تفريع) يلائم أحدهما ولا عبرة بوجود صفة أو تفريع في الكلام لا يلائم أحدهما والمراد بالتفريع ذكر حكم يلائم أحد الطرفين سواء كان بصيغة التفريع والترتب بالفاء أو لا ، مثال ما لم يقترن بأحدهما قولك عندي أسد عند قيام القرينة الحالية على أن المراد بالأسد الذي عندك الرجل الشجاع (والمراد) بالصفة هنا التي قلنا إنها قد لا تقترن الاستعارة بها ولا بتفريع فتكون مطلقة الصفة (المعنوية) أعنى ما دل على معنى من شأنه أن يقوم بالغير (لا) الصفة التي هي (النعت) النحوي فقط الذي هو أحد التوابع وقد تقدم مثل هذا الكلام في باب القصر وتقدم بسطه وبيانه (و) الثاني من أقسام هذه الاستعارة المنظور إليها باعتبار وجود الملائم وعدمه (مجردة) أي : التي تسمى مجردة لتجردها عما يقويها من إطلاق أو ترشيح (وهي) أي المجردة (ما) أي : الاستعارة التي (قرن) لفظها (بما يلائم المستعار له) وهو المشبه سواء كان الملائم تفريعا كقولك رأيت أسدا يرمي فلجأت إلى ظل رمحه أو كان صفة حسية كقولك رأيت أسدا راميا مهلكا أقرانه أو صفة معنوية (كقوله :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا)

غلقت لضحكته رقاب المال (١).

فالرداء وهو الثوب مستعار للعطاء ووجه الشبه صون كل منهما صاحبه عما يكره فالثوب يصون ما يلقي عليه من كل ما يكره حسا والعطاء يصون عرض صاحبه ومطلق الصون عما يكره مشترك بينهما ، وقد أضاف إليه الغمر الملائم للعطاء الذي هو المستعار له إذ الغمر هو المحيط بالشيء المتراكم عليه ، وكونه يلائم العطاء يقتضي كون استعماله في العطاء أرجح ، ولو كان قد يستعمل في الثوب أيضا ، إذ لو كان مشتركا بينهما على السوية لم يكن قسيما لما يلائم المستعار منه ، والأرجحية بكثرة الاستعمال فيه دون الثوب ، وهي تصح مع كونه في الأصل مجازا فيه كالإذاقة في الشدائد ، ولما كان ملائما للعطاء صار تجريدا للاستعارة عما يقويها من ترشيح وإطلاق ، أما التقوية

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٨) ، والإيضاح ص (٢٥٦) وهو لكثير.


في الترشيح فظاهرة ، وأما في الإطلاق فلعدم ظهور ما يشعر بالأصل لفظا ، والقرينة على الاستعارة ما سيق في الكلام وهو قوله :

إذا تبسم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

لأن معناه أنه إذا تبسم شارعا في الضحك عرف السائلون أنهم تمكنوا من أخذ المال كيف أرادوا ؛ لكونه صار من عادته أنه إذا تبسم فقد أذن في ماله بلا تحجير يقال غلق الرهن إذا لم يكن انفكاكه فجعل ضحكه موجبا للتمكن من المال بحيث لا ينفك من أيدي السائلين. وقولنا في تفسير ضاحكا شارعا في الضحك يحتمل أن يراد بالضحك فيه ما زاد على التبسم فتكون الحال مؤسسة ويتوسع في التقارن بين التبسم والضحك ؛ بأن يجعلا متقارني الوقوع في الزمن الواسع ويحتمل أن يراد بالشروع نفس التبسم والأخذ في مبادئ الضحك ، فتكون الحال مؤكدة ، ومعلوم أن الغمر ليست صفة نعتية في التركيب (و) الثالث من هذه الأقسام (مرشحة) بفتح الشين (وهي ما قرن بما يلائم المستعار منه) دون ما يلائم المستعار له وسميت بذلك ؛ لأن الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه حتى كأن الموجود في نفس الأمر هو المشبه به دون المشبه وأن اسمه هو الذي يطلق على معنى الطرفين لكونهما من حقيقة واحدة وذكر ما يلائم المشبه به دون المشبه يزيد في إفادة قوة ذلك التناسي فتقوى الاستعارة بتقوى مبناها لوقوعها على الوجه الأكمل أخذا من قولك رشحت الصبي إذا ربيته باللبن قليلا قليلا حتى يقوى على المص ، ومنه المرشح للوزارة أي : المربى لها حتى تقوى عليها والترشيح أيضا كما تقدم في التجريد إما أن يكون بذكر صفة كقولك رأيت أسدا ذا لبد يرمي ، وإما أن يحصل بتفريع (نحو) قوله : تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١) فإن الاشتراء مستعار من استبدال مال بآخر إلى استبدال الحق بالباطل واختياره عليه بدليل تعلقه بالضلالة والهدى بجامع ترك ما هو أخص بالتارك للاتصال ببدله المرغوب عند التارك ولما استعير الاشتراء للاستبدال المذكور فرع عليه ما يلائم الشراء من نفي الريح في التجارة ، ونفيه يلائم المشبه به ،

__________________

(١) البقرة : ١٦.


وذلك مما يزيد في قوة تناسي التشبيه حتى كأن المشبه به هو الموجود فكان ترشيحا ، أي : تقوية للاستعارة فتكون الاستعارة مرشحة ، ثم إن الريح المنفي عنهم ينبغي أن يعلم أنه استعير للثواب والانتفاع الأخروي ، وأن التجارة استعيرت لاتخاذهم ارتكاب الضلالة بدلا عن الهدى دأبا فكونهما ترشيحا إنما هو باعتبار أصل إطلاقهما لا باعتبار المعنى المراد في التركيب.

وبهذا يعلم أن الترشيح وكذا التجريد قد يكونان باعتبار المعنى المراد في الحين ما في قوله : غمر الرداء بالنسبة للتجريد وقد يكونان باعتبار الأصل كما في هذا المثال بالنسبة للترشيح ثم إن هذا التقسيم إنما هو بعد وجود القرينة الدالة على الاستعارة وإلا لم توجد تجريدية بدون الترشيح ، ويلزم ـ أيضا ـ أن لا توجد مطلقة أصلا ؛ وذلك لأن الاستعارة لا بد لها من القرينة والقرينة تلائم المشبه به فلو لم يعتبر التقسيم بعد وجودها كانت ترشيحية دائما إما مع وجود التجريد أم لا.

ويلزم عدم وجود المطلقة ويحتمل أن يعتبر مطلقا فتكون المطلقة الخالية من التجريد والترشيح هي التي قرينتها غير لفظ ، بأن تكون خالية كما مثلنا لهما بذلك فيما تقدم ولا يشترط كون التفريع بصيغته كما ذكرنا ، فلا يرد أن نحو قولك : اشترى فلان صحبة الظلمة بصحبة المساكين ، ولا ربح له فيها خارج عن التفريع والوصف مع أنها مرشحة ، لأن ذلك تفريع ولو لم يكن بصيغة ثم أشار إلى التجريد والترشيح لا مانع من اجتماعهما بقوله : (وقد يجتمعان) أي التجريد والترشيح في استعارة واحدة بأن يذكر معها ما يلائم المشبه فقط ، وما يلائم المشبه به فقط ، وأما ذكر ما يلائمهما معا فليس مرادا وسنذكره وذلك (كقوله : لدى أسد شاكي) (١) أي : تام (السلاح) ولا شك أن تمام السلاح مما يلائم المشبه وهو المستعار له الذي هو الرجل الشجاع فهو أعني شاكي السلاح تجريد (مقذف) أي : مرمي به في الوقائع والحروب ولا شك أن المقذف بهذا المعنى مخصوص بالمستعار له ، فيكون تجريدا أيضا ويحتمل أن المراد به مجرد الوقوع في المقاتلة أو القذف باللحم والرمي به ، فيكون ملائما لهما معا فلا يكون تجريدا ولا

__________________

(١) سبق تخريجه.


ترشيحا بل هو في معنى الإطلاق (له لبد) جمع لبدة وهي ما تلبد وتضام وتطارح من شعر الأسد على منكبيه ولا شك أنها مما يلائم المستعار منه وهو الأسد الحقيقي فهي ترشيح (أظفاره لم تقلم) أي : ليس ذلك الأسد من الجنس الذي تقلم أظفاره فعلى هذا يكون هذا القيد ترشيحا ؛ لأن الأسد الحقيقي هو الذي ليس من شأنه تقليم الأظفار ويحتمل أن يراد مجرد نفي تقليم الأظفار ، فيكون مشتركا ولا يكون ترشيحا ، وإنما قلنا مشتركا لصحة نفي التقليم في بعض أفراد الأسد المجازي وهو الرجل الشجاع ، والتقليم مبالغة في القلم ونفي المبالغة يرد كثيرا في كلام العرب للمبالغة في النفي الذي لا يبقى معه شيء من النفي كقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١) فإنه للمبالغة في نفي الظلم لاستحالته في حقه تعالى لا لنفي المبالغة فيه الذي يصح معه ثبوت شيء منه ، ثم إن إثبات اللبد للرجل الشجاع إن استعمل في معنى صحيح كان استعارة فيه وكان الترشيح فيه باعتبار الأصل كما تقدم في الربح والتجارة ، وإن لم ينقل لمعنى كان ترشيحا باعتبار معناه بلا نقل ، فيؤخذ منه جواز الترشيح بلا معنى معتبر سوى مجرد المبالغة بذكر لوازم المشبه كما يأتي في الاستعارة التخييلية وتناسي التشبيه يقتضي الاعتبار الثاني كما يأتي في قوله : ويصعد إلخ تأمله.

فقد ظهر أن استعارة الأسد في البيت مقارن للتجريد والترشيح قيل والأقرب أن هذا القسم لا يسمى بأحدهما ولا بهما وأنه في مرتبة الإطلاق لتساقطهما بتعارضهما كالسنتين ؛ لأن كلا منهما يشهد في أمر تناسي التشبيه بخلاف ما يشهد به الآخر والخطب في مثل هذا سهل.

(والترشيح) الذي هو ذكر ما يلائم المستعار منه (أبلغ) أي أقوى في البلاغة وأنسب لمقتضى الحال ، وليس المراد به أقوى في المبالغة في التشبيه لأنه معلوم من ذكر حقيقته وإنما كان أقوى في البلاغة ؛ لأن مقام الاستعارة هو حال إيراد المبالغة في التشبيه والترشيح يقوي تلك المبالغة كما لا يخفى فيكون أنسب لمقتضى حال الاستعارة وأحق

__________________

(١) فصلت : ٤٦.


بذلك المقتضى من التجريد والإطلاق لعدم تأكد مناسبتهما لحال الاستعارة وكذا يكون أبلغ من الجمع بين الترشيح والتجريد لأنه في رتبة الإطلاق كما تقدم.

(ومبناه) أي وبناء الترشيح بمعنى إيجاده وتفريعه إنما يكون (على تناسي) أي : إظهار نسيان (التشبيه) ولو كان موجودا في نفس الأمر ويحصل ذلك التناسي بادعاء أن المستعار له هو نفس المستعار منه لا شيء شبيه به ، فإن هذا الادعاء يقتضي أن الموجود في الخاطر هو المستعار منه فيتفرع على ذلك لوازمه لا لوازم المستعار له المقتضية لبقائه في الخاطر ، وما ذكر المصنف من بناء الترشيح على التناسي لا يقتضي أنه لا يبنى على التناسي غيره بل يبنى عليه أيضا غيره كما تقدم في التعجب والنهي عنه بل نفس الاستعارة مبنية على التناسي ، وإنما خص الترشيح بالذكر في هذا البناء لما فيه من شدة ظهور الدلالة على التناسي كما بينا ، وإن كان التعجب والنهي عنه قريبين منه ثم أشار إلى جزئية من جزئيات ما فيه الترشيح لظهور البناء فيه على تناسي التشبيه بقوله : (حتى إنه) أي : فإن الشأن لأجل ذلك التناسي هو هذا وهو أنه (يبنى على علو القدر) الذي يستعار له لفظ علو المكان (ما يبنى على علو المكان) المستعار منه فحتى هنا ابتدائية وذلك (كقوله : ويصعد) (١) ذلك الممدوح ومعلوم أن ليس المراد بالصعود معناه الأصلي وهو الارتقاء في المدارج الحسية والطلوع في الجو إذ لا معنى له هنا وإنما المراد به العلو في مدارج الكمال والارتقاء في الأوصاف الشريفة فهو استعارة من الطلوع الحسي إلى الطلوع المعنوي والجامع مجرد الارتفاع المستعظم في النفوس ، أي : كون الشيء رفيعا أي بعيد التوصل إليه ثم رتب على هذا العلو المستعار له ما يبنى على الارتفاع الحسي تناسيا لتشبيهه بذلك الحسي وأنه ليس ثم إلا الارتفاع الحسي الذي وجه الشبه به أظهر فقال (حتى يظن الجهول) أي يصعد في تلك المدارج إلى أن يبلغ إلى حيث يظن الجهول (بأن له حاجة في السماء) لبعده عن الأرض وقربه من السماء ولا شك أن القريب من السماء وظن أن له حاجة فيها مما يختص بالصعود الحسى فقد بنى على علو القدر المراد

__________________

(١) البيت لأبى تمام في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٤٩) ، وهو فى ديوانه ص ٣٣٥ ط. دار الكتب العلمية ، وفى المصباح ص ١٣٨ والإشارات ص ٢٢٥.


ما يبنى على علو المكان الحسى المستعار منه لفظ الصعود ، وذلك المبنى هو قربه من السماء وظن الجهول أن سفره نحو السماء ؛ لحاجة ؛ لأن السفر أصله قضاء الأوطار ، ومعلوم أن ظن الجهول أن له حاجة في السماء لم ينقل لمعنى فى المستعار له ، وإنما هو ذكر لازم من لوازم المشبه به ؛ لإظهار أنه الموجود في التركيب لا شيء شبه به وبه علم أن الترشيح قد يكون لا لمعنى حاصل في الحالة الراهنة يكون غير معناه الأصلي وليس ذلك من الكذب ؛ لأن الغرض إفادة المبالغة بذكر اللازم وذلك كاف في نفي الكذب.

وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد بيان بعد هذا الصعود في الجو لا شيء آخر ويكون للرد على من عسى أن يزعم أن الصعود قريب فكأنه يقول له صعود عظيم ولعلوه هو بحيث يظن فيه الجهول القرب من السماء ويرد عليه أيضا أن صيغة الجهول التي هي للمبالغة لا تناسب ؛ لأنه إذا كان بعده يظن فيه الجهول القرب من السماء أفاد أنه قاصر ؛ لأن الصعود حينئذ باعتبار ذي النظر الصحيح ليس بحيث يظن أن له حاجة في السماء لعدم قربه منه فذلك النظر الصحيح ، ويلزم على هذا أن يكون الجهل وعدمه باعتبار الانتهاء في الصعود وعدمه ، فبالجهل يرى الانتهاء في ذلك الصعود والقرب من السماء ، فيظن ما ذكر وذو النظر الصحيح لا يرى ذلك فلا يظن فعليه يكون الصعود قاصرا في نفسه ؛ لأن العبرة بالنظر الصحيح ، وقصره لا يناسب المدعى وهذا هو الذي اعتبره بعضهم فأورد البحث المذكور.

والآخر : أن يكون المراد الإشارة إلى كمال الممدوح واتصاله بجميع ما يحتاج إليه ، ويكون الانتهاء في الصعود مسلما من كل أحد ، وإنما النزاع في أنه هل بقيت له حاجة في السماء أم لا؟ فذكر أن كثير الجهل هو الذي يتوهم بذلك الارتقاء المفرط أن ذلك لحاجة ، وأما ذو النظر الصحيح فهو يعلم أن ذلك الإفراط في العلو لمجرد التعالي على الأقران لا لحاجة له في السماء لكماله فيتضمن جميع الحوائج وهذا هو المراد ، وبه تعلم مناسبة ذكر الجهول بصيغة المبالغة وأن فيه زيادة مدح فلا يرد كون العلو قاصرا لأنه مسلم ، وإنما النزاع في الحاجة وعدمها فبين أنه إنما يتوهم بقاءها له في السماء كثير الجهل ، والمراد بالحاجة هنا المعتادة للطلب في الأرض ، فلا يرد أن نفي حاجة


السماء سوء أدب لما فيه من نفي الحاجة إلى الرحمة السماوية ، والتوجه له بالدعاء على أن المراد المبالغة المجوزة في المستحيلات لا الإخبار بالحقائق حتى يكون هنا سوء أدب أو غيره تأمله.

(ونحوه) أي : ونحو ما ذكر وهو أنه يبني على علو القدر المستعار له ما يبني على علو المكان المستعار منه لأجل تناسي التشبيه حتى كأنه لا يخطر غير المشبه به (ما مر) في صدر هذا الباب (من التعجب في قوله :

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

وإنما كان هذا التعجب نحو ما ذكر من البناء في وجه وهو أن إيجاد هذا التعجب لو لا تناسي التشبيه لم يوجد له مساغ ، كما أن إيجاد ذلك البناء لو لا التناسي لم يكن له معنى كما تقدم بيانه وتحقيقه في التعجب كما تقدم ما علم من أنه لا عجب في تظليل إنسان كالشمس من نفس الشمس الحقيقية وإنما يتحقق التعجب في تظليل الشمس الحقيقية من الشمس المعلومة ؛ لأن الإشراق مانع من الظل فكيف يكون صاحبه موجبا للظل ومعلوم أنه لو لا التناسي ما جعل ذلك الإنسان نفس الشمس ليتعجب من تظلليله بل شبيه بها (و) نحو ما ذكر من البناء أيضا ما مر من (النهي عنه) أي عن التعجب في نحو قوله :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زر أزراره على القمر

فإن القمر الحقيقي هو المعتاد لبلى الغلالة فلا يتعجب من بلاها معه لا الإنسان المشبه بالقمر وكونه جعل المستعار له قمرا حقيقيا إنما هو لتناسي التشبيه حتى كأن الموجود في الخارج والخاطر في القلب هو القمر الحقيقي وإلا فالتشبيه يبقى الأصل المنافي للنهي عن التعجب ؛ لأن من جملة ما يتعجب منه بلى غلالة إنسان كالقمر إن كان ذلك سريعا فلا معنى للنهي عن التعجب ما دام التشبيه متذكرا لانبائه عن الأصل الذي تقرر فيه التعجب ، ثم إن التعجب هنا سببه إثبات ما لا يناسب الفرع الذي هو المستعار منه والنهي عنه سببه كون المثبت مناسبا له فاختلفا في ثبوت المناسبة ونفيها وهو ظاهر ولما كان هذا مظنة أن يقال حاصل ما ذكر بناء ما للفرع على الأصل ، وبناء ما للفرع على الأصل من باب جعل ما ليس بالواقع واقعا وهو كالكذب فما


وجه صحته؟ احتاج إلى مزيد تقرير لما تقرر بهذا الكلام فأشار إلى أن البلغاء اعتبروه لقصد المبالغة وأنه أحروي بالنسبة إلى ما وقع لهم من تفريع ما هو للفرع على الأصل وهو المشبه مع ذكرهما معا على طريق التشبيه رعاية لكون التشبيه روعي فيه الاتحاد بين الطرفين ، فقرر ذلك بذكر بعض ما وقع لهم بقوله : (وإذا جاز البناء على الفرع) أي المشبه به (مع الاعتراف بالأصل) أي : المشبه وأراد بالبناء على الفرع ذكر ما يلائمه ، وإنما سمي المشبه به فرعا مع أنه أقوى من المشبه غالبا في وجه الشبه وأعرف به ، ومع أنه هو الأصل المقيس عليه وسمى المشبه أصلا ؛ لأن المشبه هو المقصود في التركيب وهو المتحدث عنه إذ هو المخبر عنه في المعنى فإن النفي والإثبات في الكلام يعود إليه ، أي : إلى شبهه فإنك إذا قلت زيد كالأسد فقد أثبت للمشبه شبهه بالأسد وهو المقصود بالذات ، وإذ قلت : ليس كالأسد فقد نفيت شبهه به أيضا بالقصد الأول ، وإن كان ثبوت الشبه أو نفيه للمشبه به حاصلا أيضا لكن تبعا وحيث كان هو المقصود لإفادة أحواله في التراكيب عاد الغرض من التشبيه إليه وهو بيان حاله أو مقداره أو إمكانه أو تزيينه أو تشيينه كما تقدم ، وذلك لأنه هو المجهول أمره ولما كان المشبه بهذه المنزلة سماه أصلا وسمي المشبه به فرعا ؛ لأن ما يستفاد له في التركيب تابع لما يستفاد للمشبه كتبعية الفرع للأصل (كما في قوله) أي : ومثال ما بني فيه على الفرع الذي هو المشبه به مع الاعتراف بالأصل الذي هو المشبه قوله : (هي الشمس) (١) أي : هذه المحبوبة نفس الشمس ، فقد اعترف بالأصل وهو الضمير وبنى على الفرع وهو الشمس قوله : (مسكنها في السماء) وإذا كان مسكنها في السماء (فعز الفؤاد) أي فاحمل فؤادك على العزاء وهو الصبر فقوله : عز فعل أمر من عزاه حمله على الصبر (عزاء جميلا) وهو العزاء الذي لا قلق معه ولا تطلب ، وذلك بالتنبه لعدم إمكان الوصول فإن طلب ما لا يمكن ليس من العقل في شيء ثم أكد بيان عدم إمكان الوصول بسبب كونها في السماء بقوله : (فلن تستطيع إليها الصعود) أي : فإنك لا تستطيع أنت الصعود إلى تلك

__________________

(١) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ٤٩) ، وهو لعباس بن الأحنف ، وفى ديوانه ص (٢٢١) ، وفي المصباح ص (١٣٩) ، وأسرار البلاغة (٢ / ١٦٨).


الشمس إذ هي في السماء الممتنع الوصول إليها عادة فقوله : إليها مجرور متعلق بالمصدر (وهو الصعود) بناء على جواز تقديم المجرور على المصدر وإن بنيا على امتناعه فيتعلق بمقدر والتقدير لن تستطيع أن تصعد إليها الصعود ويكون المذكور مفسرا للمحذوف (ولن تستطيع) تلك الشمس (إليك النزولا) والمجرور في تعلقه بالمصدر الذي هو النزول كما قبله وإذا جعل الضمير كما تقدم عائدا على محبوبته ، فقد اعترف بالأصل بأن ذكر وبنى على الفرع ما تقدم ، فإذا جاز البناء على الفرع مع ذكر الأصل المنافي ذكره لتناسي التشبيه الذي يبنى عليه البناء (فمع جحده) أي جحد الأصل الذي هو المشبه بأن يذكر المشبه به فقط وذلك في الاستعارة (أولى) بالجواز لأنه عند الاعتراف بالأصل يبعد التناسي المقتضي لعدم خطوره ، وأن الموجود الفرع فيبنى عليه ما يناسبه ومع جحده يكون قد نقل الكلام للفرع ، وهو المشبه به حيث طوى ذكر المشبه فناسبه التناسي المقتضى أن لا خطور ولا وجود للمشبه في الخارج والعقل ، وذلك مناسب لذكر ما يلائم ذلك الفرع ، فإذا جاز البناء في الأول مع وجود ما يناسب بحسب الظاهر فلأن يجوز في التناسي لعدم المنافي أحرى وأولى فقوله : فمع جحده أولى جواب إذا كما قدرناه بقربه لبعد ما بينه وبين الأول ، فإن قلت إذا كان البناء أعني ذكر ما هو للفرع موقوفا كما تقدم على تناسي التشبيه والتناسي كما قررت ينافيه الاعتراف بالأصل امتنع البناء على الفرع عند ذكر الأصل فكيف يدعي جوازه؟ قلت : تناسي التشبيه عند جحد الأصل ظاهر وأما عند ذكره فنقول المنافي للبناء على الفرع هو ذكر التشبيه مع الإشعار بأنه باق على أصله وهو أنه لا يقوي المشبه قوة المشبه به ومجرد ذكر الطرفين لا إشعار فيه بما ذكر فيتناسى معه تناسي هذا التشبيه الأصلي بأن يجعل الطرفان ولو ذكرا متحدين ويدعى أنهما شيء واحد في الحقيقة وإنما اختلفا بالعوارض التي لا تنافي البناء فههنا تناس لأصل التشبيه أيضا.

أو نقول المشبه به ذكر عند ذكر الطرفين معا مع لازمه ولكن هذا فيه مغمز ؛ لأن ذلك لا يقتضي العراء عن المشبه في المثال إذ يمكن الوصول إليه حينئذ ، وإنما امتنع الوصول إلى المشبه به ، وإن كان يمكن تصحيحه بتكلف لا يقال تقدم ما يقتضى أن


مثل ما ذكر إنما فيه بناء ما للمشبه به على المشبه في قوله : حتى إنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان وهذا الكلام يقتضي أن الواقع بناء ما للفرع وهو المشبه به على نفس ذلك الفرع ؛ لأنا نقول ما تقدم باعتبار ما في نفس الأمر ؛ لأن المراد في الحقيقة هو المشبه وما هنا على الادعاء ؛ لأن المشبه به هو المراد ادعاء فتأمل وهذا الذي تقرر قد ظهر أنه مبني على أن المراد بالضمير هو المحبوبة ، وأما لو أريد به القصة والجملة بعده خبر لم يكن هذا البيت شاهدا على المدعي ، وإنما لم يحمل على إرادة القصة فينتفى الاستشهاد بالبيت بل حمل على إرادة المحبوبة لوجهين.

أحدهما أن قوله : فعز الفؤاد يعين إرادة المحبوبة ؛ لأنها هي المأمور بالعزاء عنها والآخر ما ذكروا من أن ضمير القصة تكون الجملة بعدها مما يشك فيه ليفيد الإخبار تأكيد الإثبات ، والجملة هنا متعينة المعنى لا يجري فيها شك لأحد وهو أن مسكن الشمس السماء ، ثم هذا حيث حذفت أداة التشبيه كما في المثال ؛ لأن الاتحاد الذي ذكرنا أنه منشأ تناسي أصل التشبيه ظاهر فيه ، وأما عند ذكر الأداة ففيه بعد ؛ لأن الأداة تشعر بضعف المشبه عن مرتبة المشبه به ولكن يمكن الاعتبار المذكور فيه أيضا وهو ادعاء الاتحاد ؛ إذ لا مانع من تشبيه أحد المتحدين في الحقيقة بالآخر بآلة التشبيه وقد وقع في كلام العجم النهي عن التعجب بناء على الاتحاد مع التصريح بالأداة وحاصل معناه النهي عن التعجب من قصر ذوائب أي شعر شخص شعره كالليل ووجهه كالربيع والليل في الربيع مائل إلى القصر ومعلوم أن المائل إلى القصر في الربيع هو الليل الحقيقي ، والذي لا يتعجب من قصر ليله هو الربيع الحقيقي وقد غاص هذا الأعجمي على معنى لطيف قل من يتنبه له لغرابته فهو من الحسن والملاحة بمكان كما لا يخفى.

ثم لما كانت المسائل المتقدمة في المجاز وأمثلها جارية على الأفراد أشار إلى مجاز التركيب فقال هذا المجاز المفرد.


المجاز المركب

(وأما) المجاز (المركب فهو اللفظ) خرج العقلي عنه (المستعمل) خرج به اللفظ قبل الاستعمال (فيما شبه بمعناه الأصلي) أي من حيث إنه مشبه بمعناه الأصلي فيخرج المرسل الذي ليس معناه مشبها بمعناه الأصلي قبل الاستعمال ؛ لعدم وجود الشبه بين المعنيين وكذا المرسل الذي استعمل فيما شبه بمعناه قبل ذلك لوجود الشبه لكن إنما استعمل لعلاقة غير الشبه ؛ لأنه لم يستعمل من حيث الشبه وأراد بالمعنى الأصلي المعنى الذي دل ذلك اللفظ عليه بالمطابقة ، ونريد بدلالة المطابقة هنا الدلالة التي لم يتوصل في حصولها باللزوم أصلا لأنها أنسب بالمطابقة فتخرج دلالة المجاز مطلقا ؛ لأن أصلها كما تقدم الانتقال من الملزوم إلى اللازم على الوجه الذي قررناه في أول هذا الفن ولم نرد بالمطابقة ما يستفاد من اللفظ حال الاستعمال ولو بالوضع الثاني المتوصل إليه باللزوم ورعاية القرينة إذ لو أريد ذلك لم يصح اختصاص المطابقة بالمعنى الأصلي ، فإن الدلالة بعد رعاية ذلك يصح أن تكون مطابقة أيضا ؛ لأن المذهب الصحيح أن اللفظ المجاز يدل بالمطابقة أيضا وإنما تنفي عنه باعتبار رعاية سبب دلالته وأصلها ؛ إذ بذلك تكون لزومية بالوضع الثاني فليفهم.

(تشبيه التمثيل) خرج به مجاز الأفراد ؛ لأن تشبيه التمثيل ما يكون وجهه منتزعا من متعدد ومجاز الأفراد كالأسد للرجل الشجاع ليس وجهه وهو الشجاعة منتزعا من متعدد كما تقدم وفي ذلك نظر ؛ لأنه يقتضي أن عنقود الملاحية لو فرض استعارته للثريا لم يكن مجازا مفردا ؛ لأن وجهه منتزع من متعدد فلو كان أصل مجاز التركيب كون الوجه منتزعا من متعدد كان نحو العنقود في الثريا مجاز التركيب ولا قائل به.

فتعريف مجاز التركيب بما ذكر لا يخلو من تسامح ؛ لأنه إن جعل قوله : تشبيه التمثيل ملغي في الإخراج به دخل مجاز الأفراد كله ، وإن اعتبر دخل قسم العنقود وهو مفرد وقد يجاب بأنه معتبر ولكن تشبيه التمثيل لا يسمى ذو اللفظ المفرد به وإن كان الوجه فيه منتزعا من متعدد وفيه نظر لتقديم خلافه.


أو يقال يخرج نحو العنقود بالمثال فكأنه يقال ما وقع فيه تشبيه التمثيل بشرط أن يكون كهذا المثال بأن لا يكون مفردا وفيه تمحل.

وقوله : (للمبالغة) متعلق بقوله : المستعمل أي هو اللفظ المستعمل فيما ذكر لأجل المبالغة في التشبيه بأن يدعى دخول المشبه في جنس المشبه به كما تقدم وهو يؤكد إخراج ما أخرجناه بقوله : شبه بمعناه وهو المجاز المرسل ثم أشار إلى المثال الذي قلنا إنه أخرج به ما فيه تشبيه التمثيل مع إفراد اللفظ بقوله : كما يقال للمتردد (في أمر) فيتوجه إليه ويقدم عليه بالعزم تارة ويحجم بالعزم على غيره أخرى (إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) وأصل هذا الكلام أن بعض ملوك بني مروان بلغه أن بعض من رآه ليس أهلا للبيعة توقف في بيعته وامتنع منها فكتب إليه أما بعد فإني أراك في بيعتنا تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت.

فقول القائل أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى مجاز مركب لابتنائه على تشبيه التمثيل ؛ لأنه شبه الصورة التي هي كون الإنسان مترددا في أمر فيقدم بالعزم عليه تارة ويحجم عنه بالاستخارة مرة أخرى بالصورة التي هي كون الإنسان القائم للذهاب حسا فيقدم رجلا تارة ؛ لإرادة الذهاب ويؤخر أخرى لعدم إرادته ولا شك أن الصورة الأولى عقلية والثانية حسية والجامع بينهما ما يعقل من الصورة التركيبية التي هي كون كل منهما له مطلق الإقدام بالانبعاث لأمر في الجملة تارة والإحجام الحاصل بترك الانبعاث أخرى وهو أمر عقلي قائم في الصورتين مركب كما ترى باعتبار تعلقه بمتعدد ؛ لأنه هيئة اعتبر فيها إقدام متقدم وإحجام مستعقب.

ولما اعتبر التشبيه بين الصورتين في الوجه المذكور نقل اللفظ الذي أصله أن يستعمل في الصورة الحسية واستعمله في الصورة العقلية للمبالغة في التشبيه بأن ادعي المستعمل دخول العقلية في جنس الحسية ، وذلك اللفظ هو قوله : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى وهو الدال على الحسية بالمطابقة وقد تقدم ما يؤخذ منه أن تخصيص الحسية التي وضع لها بالأصالة بالمطابقة إنما هو بالنظر إلى أن وضعها لا يتوصل إليه بواسطة اللزوم بخلاف العقلية التي كان اللفظ فيها مجازا فلم تسم الدلالة فيها مطابقة


نظرا إلى أن أصلها اللزوم الذي به الانتقال من المعنى الأصلي إلى الثاني ، وإن كان مجموع المعنى المدلول عليه بالوضع الثاني مطابقيا عند المحققين أيضا.

وقوله : تقدم رجلا يعني تارة وقوله : وتؤخر مفعول تؤخر محذوف أي تؤخرها يعني تلك الرجل المقدمة وقوله : أخرى نعت لمرة والتقدير أراك تقدم رجلا مرة وتؤخر مرة أخرى إنما لم نجعل أخرى نعتا للرجل ؛ لئلا يفيد الكلام أن الرجل المؤخرة غير المقدمة ، وليس ذلك صورة التردد لأن الواقع أنه إذا أراد الذهاب رمى رجله أماما وإذا أحجم عنه رد تلك الرجل إلى موضعها ، وسمى ردها إلى موضعها تأخيرا باعتبار منتهاها أولا فافهم.

فإن قلت قوله : أراك هل له دخل في التجوز والنقل أم هو حقيقة والتجوز فيما بعده؟ قلت : الظاهر أن لا دخل له ؛ لأنا لو قلنا فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى حصل التمثيل أيضا ويحتمل أن له دخلا في خصوص المثال ؛ لأن أصله الرؤية الحسية ولم توجد في المنقول إليه تأمل.

(ويسمى) المجاز المركب المذكور (التمثيل على سبيل الاستعارة) أما تسميته تمثيلا ؛ فلأن وجهه منتزع من متعدد كما تقدم في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، وأما التقييد بكونه على سبيل الاستعارة فللاحتراز من الالتباس بتشبيه التمثيل إذ من الجائز التساهل بإسقاط لفظ التشبيه ويبقى لفظ التمثيل. وقد يقال زيادة قيد قولنا : على سبيل الاستعارة ليطابق الاسم المسمى ؛ لأن الواقع في هذا المجاز كما قدمنا أن تشبه حالة بأخرى على وجه المبالغة بإدخال جنس الأولى في الثانية ثم يستعمل لفظ الثانية في الأولى وذلك شأن الاستعارة ، فزيد لتبيين مطابقة الاسم للمسمى ، ولكن هذا التوجيه في التسمية إنما يتبين إن ظهر وجه تسمية التشبيه الذي انتزع وجهه من متعدد بتشبيه التمثيل ، ووجهه أن التمثيل في أصله هو التشبيه يقال مثله تمثيلا جعل له مثيلا أي : شبيها ، ثم خص بالتشبيه المنتزع وجهه من متعدد ؛ لأنه أجدر أن يكون صاحبه مثيلا وشبيها لكثرة ما اعتبر فيه إذ كثرة ما اعتبر في الشبه مما يقرب للمماثلة ويصعب تحقيق ما اعتبر لكثرته وتزداد بذلك غرابته فهو أحق بالمماثلة ؛ لأن المماثلة الحقيقية لا تكون


إلا بعد وجود أشياء ووجود أشياء أصعب من وجود الجملة ، وخص المجاز المذكور باسم المثل والتمثيل لتلك الأجدرية ولغرابته بنقل اسم المثل المشعر مصدوقه بالغرابة والإعجاب إلى الصفة الرفيعة كما قال تعالى ولله المثل الأعلى أي : الصفة الرفيعة العجيبة وإلى القصة العجيبة كقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)(١) أي : قصتها العجيبة مما يتلى عليكم وهو قوله تعالى : (" فِيها أَنْهارٌ") الآية وإلى الحالة العجيبة كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) إلى آخر الآية أي حالتهم الغريبة ، ثم أشار إلى أن هذه التسمية قد تختص بقوله : (وقد يسمى) المجاز المركب المذكور (التمثيل) أي يسمى بهذا اللفظ حال كونه (مطلقا) من التقييد بقولنا على سبيل الاستعارة أما التسمية الأولى فلا التباس فيها كما تقدم ، وأما هذه فقد يقال تلتبس بالتشبيه المسمى بالتمثيل ، وأجيب بأن الاصطلاح على أنه إذا أطلق انصرف للاستعارة وإذا أريد التشبيه قيل تشبيه التمثيل ، وبه يعلم أن ما تقدم في التشبيه في قوله : خص باسم التمثيل ينبغي أن يكون على تقدير مضاف أي : خص باسم تشبيه التمثيل ولكن يقال فحينئذ لا يقال إن زيادة قيد قولنا على سبيل الاستعارة للاحتراز لأنه لا يذكر التمثيل في التشبيه إلا مقيدا ويجاب بما أشرنا إليه من أن الاحتراز عن أمر مجوز لا واقع ، والخطب في مثل هذا سهل وإنما تنازلنا للبسط هنا حيث ظهر منهم الاهتمام بهذه التسمية.

وقوله : في تعريف مجاز التركيب هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي يقتضي أن المجاز المركب لا يوجد في غير ما شبه بمعناه ؛ لامتناع صدق المعرف على غير التعريف وفيه بحث ؛ لأن ما تحقق في المفرد باعتبار الوضع الشخصي يتحقق في المركب باعتبار الوضع النوعي فإن مجازية المفرد إنما تتحقق بنقله عما وضع له بالشخص ، فالأسد مثلا وضع للحيوان المعلوم فنقله إلى ما يشبهه يصيره استعارة ، والعين مثلا وضع بالشخص للعين الباصرة فنقلها إلى الربيئة لكون وصفه بها قوامه وكونه كلا والعين جزء يصيره مرسلا ، فإذا تحقق هذا بالوضع الشخصي في المفرد فليتحقق مثله في الوضع

__________________

(١) محمد : ١٥.


النوعي في المركب فقولنا : إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى نقله لما يشبه الحالة التي وضع لها نوعه ، وأعني بنوعه هيئة إن واسمها مع كون خبرها فعلا متعديا لمثل ما ذكر يصيره استعارة وقوله :

هواى مع الركب اليمانين مصعد (١)

نقله عما وضع له نوعه وهو هيئة المبتدأ المخبر عنه باسم يتعلق به الظرف المضاف لمثل ما ذكر إلى التحزن والتحسر اللازم المضمون القول المذكور وهو كون المحبوب مصعدا مع الركب أي مبعدا فإنه يستلزم تحزن المحب وتحسره يصيره مجازا مرسلا مركبا فتخصيص المجاز المركب بما استعمل فيما شبه بمعناه مع ورود ما يصح أن يكون من المرسل في المركب ومع صحة جريان قاعدتي المجازين فيه باعتبار الوضع النوعي كجريانهما في المفرد بالوضع الإفرادي لا يظهر له وجه فيقال ما المانع من أن يقال حيث صح فيه الوضع النوعي الذي يتضمنه الاستعمال الشخصي إن نقل لغير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة تمثيلية ، وإن نقل لغيره لعلاقة أخرى كاللزوم كان مجازا مرسلا تركيبيا وهذا مما أهملوا تسميته والتعرض له مع أن الوجه الذي صح به التمثيل يصح به غيره من المجاز ، فلم يظهر وجه للإهمال نعم لو كان التجوز المذكور لا باعتبار النقل عن المعنى الموضوع هو له نوعا بل باعتبار التركيب العقلي كما في الإسناد العقلي أمكن أن يقال لا يتصور فيه النقل الذي في المرسل بخلاف المفرد لوضعه لكن هذا التجوز باعتبار النقل المستلزم للوضع ، فكما صح بواسطة التشبيه يصح بواسطة غيره كما في المفرد ، فالتخصيص تحكم.

لا يقال المركب المنقول لأجل اللزوم يدخل في باب الكناية ؛ لأنا نقول لا مانع من نصب القرينة المانعة فيما يصح أن يكون كناية فيكون مجازا ، وقد ذكروا أن الكناية قد يتفرع عنها المجاز كما في قوله تعالى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢) فإنه عند

__________________

(١) البيت في الإيضاح ص (٥١) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوى ، وهو لجعفر بن علبة الحارثي من مخضرمى الدولتين الأموية والعباسية ، وهو في معاهد التنصيص (١ / ١٢٠).

(٢) آل عمران : ٧٧.


الزمخشري مجاز متفرع عن الكناية فإن نفى النظر المتضمن لنحو هذا التركيب كناية باعتبار من يصح منه النظر الحسي عن الغضب على الذي لا ينظر إليه ، ومجاز متفرع عنها باعتبار من لا يصح منه النظر الحسي كما في الآية ، وحاصل ذلك أن اللفظ الذي يراد به اللازم مع صحة إرادة الملزوم كناية وإذا عرضت لذلك اللفظ قرينة مانعة عن إرادة الأصل كان مجازا متفرعا عن الكناية فلا يتم ما ذكر حجة في ترك التعرض لما ذكر وقد أجيب عنه بأن كل تركيب نقل إلى غير أصله كنقل الإخبار إلى الإنشاء لا يخلو بالاستقراء من التجوز في مفرده ومنه نشأ التجوز فيه فاكتفى بما في ذلك المفرد من استعارة أو إرسال عن أن يعتبر في المركب بخلاف التمثيل لا يعتبر فيه التجوز في مفرداته بل هي على أصلها وإنما التجوز في المجموع.

ويرد بأن الاستقراء لا يتم وكيف يتم مع صحة نقل ما نسبته خبرية لإنشائية كما سلمه المجيب من غير رعاية شيء من مفرداتها ، لا يقال النسبة من حيث هي متحدة وإنما الاختلاف في المفردات ؛ لأنا نقول معلوم بالضرورة الخلف بين الإنشائية والخبرية وكلاهما لا يستفاد إلا من التركيب لا من المفرد ونعني بالنسبتين ما يحسن السكوت عليه منهما ، ولا نعنيهما من حيث تصورهما حتى يمكن التجوز في المفرد الدال عليهما. نعم النسبة الخبرية التي هي الوقوع وأن لا وقوع متحدة في المفهوم فنقل لفظة معنية منها إلى أخرى ليس إلا باعتبار بعض المفردات لاتحادها تأمل.

(ومتى فشا استعماله) أي : استعمال المجاز المركب حال كونه (كذلك) أي كائنا على حسب الاستعارة (سمي مثلا) فالمثل هو المجاز المركب الفاشي الاستعمال فهو أخص من التمثيل على سبيل الاستعارة وقوله : كذلك إن احترز به عن تشبيه التمثيل لم يكن له معنى ؛ لأن الكلام في المجاز فلا معنى للاحتراز عن التشبيه ويلزم فيه تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المجاز المذكور هو ما كان على حسب الاستعارة وإن احترز به عن مجاز التركيب الذي ليس على حسب الاستعارة فلم يذكروه ولم يعتبروه كما تقدم ، وأيضا الضمير في فشا عائد على المجاز المركب على سبيل الاستعارة فلا معنى لتشبيهه بالمجاز على سبيل الاستعارة ليخرج مجاز آخر إذ هو تشبيه الشيء بنفسه وإخراج ما لم يعتبر


لديهم أو لا وجود له أصلا ، ولو وجد واعتبر أمكن تصحيح الكلام فجعل الضمير في فشا عائدا على مطلق المجاز المركب من باب الاستخدام لكنه لم يعتبر.

فعلى كل حال قوله : كذلك لم يظهر لذكره وجه مستقيم ومثل هذا في عبارة الإيضاح (ولهذا) أي ولأجل أن أصل المثل تمثيل على سبيل الاستعارة يقال (لا تغير الأمثال) وذلك ؛ لأن أصل المثل الذي هو الاستعارة إنما حقيقتها أن ينقل نفس لفظ المشبه به إلى المشبه من غير تغيير إذ الاستعارة مأخوذة من استعارة الثوب من صاحبه ، ولا شك أن الثوب المستعار هو الذي كان عند صاحبه لا غيره ، ومتى غير اللفظ صار غير المستعار ، ولأن الألفاظ تختلف بالتغيير ولو في الهيئة وتعد ألفاظا أخرى فإذا كان هذا طريق الاستعارة ـ والمثل فرد من الاستعارة إلا أنه مخصوص بالفشو ـ وجب أن يكون على سبيلها فلو غير خرج عن كونه لفظ المشبه به فيخرج عن كونه استعارة فيلزم خروجه عن كونه مثلا ؛ لأن رفع الأعم يستلزم رفع الأخص فتغيير اللفظ يستلزم رفع كونه لفظ المشبه به ورفع لفظ المشبه به ، يستلزم رفع الاستعارة ؛ لأنها أخص منه إذ كل استعارة لفظ المشبه به وليس كل لفظ للمشبه به استعارة فيلزم من رفعه رفعها ثم يلزم من رفعها رفع ما هو أخص وهو المثل وذلك ظاهر.

ولما وجب أن لا يغير المثل وجب أن لا يلتفت إلى ما استعمل فيه وهو ما يقتضيه الحال من تذكير وتأنيث وتثنية وإفراد وجمع فيؤنث إن كان كذلك في أصله ، وإن استعمل في مقام التذكير وكذا العكس ، ويفرد إن كان أصله كذلك وإن استعمل في مقام التثنية والجمع وكذا العكس وأصل لفظ المثل هو المسمى بمورد المثل وما استعمل فيه بعد ذلك هو المسمى بمضربه فلا يلتفت إلى مقام المضرب ، وإنما المعتبر المورد للوجه الذي ذكرنا وهو التحافظ على كونه استعارة لا للتحافظ على غرابته ؛ لأن الغرابة فيه قد لا ينافيها بعض التغيير ، ونعني بفشو الاستعمال أن يستعمل كثيرا في مثل ما استعمله فيه القائل الأول مثلا قوله : الصيف ضيعت اللبن كان أصله ومورده أن امرأة تزوجت شيخا كبيرا ذا مال فكرهته فطلبت منه الطلاق فطلقها فتزوجت شابا فقيرا ثم أصابتها سنة (١) فأرسلت إلى الشيخ الأول تطلب منه اللبن فقال للرسول قل لها

__________________

(١) السنة : قحط وفقر.


الصيف ضيعت اللبن أي لما طلبت الطلاق في الصيف أوجب لها ذلك أن لا تعطي لبنا فلما قال لها الرسول ذلك وضعت يدها على زوجها الشاب فقالت : مذق هذا خير أي : لبنه المخلوط بالماء على جماله وشبابه مع فقره خير من الشيخ ولبنه ثم نقله الناقل الأول لمضرب هو قضية تضمنت طلب الشيء بعد تضييعه والتفريط فيه ثم فشا استعماله في مثل تلك القضية مما طلب فيه الشيء بعد التسبب في ضياعه في وقت آخر فصار مثلا لا يغير بل يقال ضيعت بكسر التاء والإفراد ولو خوطب به المذكر أو المثنى أو المجموع.

ثم لما كان قولنا أنشبت المنية أظفارها بفلان قد اتفق على أن فيه الاستعارة المكنى عنها والاستعارة التخييلية.

واختلف في تقرير الاستعارتين وفي تحقيق معناهما فيه على أوجه ثلاثة أحدها ما يفهم من كلام الأقدمين وثانيها ما اعتبره السكاكي وسيأتيان وثالثها ما ذهب إليه المصنف وكان مقتضى مذهب المصنف أنهما ليستا من الاستعارة السابقة إذ هما عنده فعلان من أفعال النفس لا لفظ كما في الاستعارة المتقدمة جعل لهما فصلا على حدة لمخالفتهما ما تقدم عنده فقال.

فصل فى بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية

(فصل) : في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية وقد تقدم أنهما عند المصنف فعلان من أفعال النفس أحدهما إضمار التشبيه والآخر إثبات اللوازم على ما سيذكره المصنف ، ومعلوم أنهما بهذا الاعتبار غير داخلين في تعريف المجاز ، إذ هو لفظ فالاستعارة الداخلة في تعريف المجاز السابقة إنما أطلقت عليهما على سبيل الاشتراك اللفظي ، ولما أراد المصنف استيفاء ما يطلق عليه لفظ الاستعارة ولو كان الإطلاق على سبيل الاشتراك اللفظي أتى بهذا الفصل لبيانهما كما بينا آنفا فأشار إلى بيانهما بقوله : (قد يضمر التشبيه) أي : قد يستحضر المتكلم تشبيه شيء بشيء على وجه المبالغة وادعائه في نفسه أن المشبه داخل في جنس المشبه به ويحتمل أن يراد بالإضمار استحضار أن لفظ المشبه تضمن ما شبه بغيره على وجه المبالغة فيكون الإضمار متعلقا


باللفظ وهو في التحقيق عائد للاحتمال الأول كما لا يخفى ؛ إذ لا معنى للإضمار في اللفظ إلا استحضار أن معناه مشبه بغيره والاستحضار نفسي وإذا أضمر التشبيه في النفس على الوجه المذكور أبقى الكلام على أصله.

(فلا يصرح بشيء من أركانه) أي من أركان التشبيه المضمر في النفس (سوى المشبه) أي لا يصرح من الأركان إلا بالمشبه ؛ لأن الكلام يجري على أصله والمشبه هو الأصل إذ لو صرح مع ذلك بالمشبه به أو بالأداة لم يكن التشبيه مضمرا كما لا يخفى وما تقدم من أنه يجب في التشبيه أن يذكر المشبه به إنما هو في التشبيه المصطلح عليه وهو ما يدل عليه بالأداة ظاهرة أو مقدرة ، وهذا التشبيه المضمر المسمى بالاستعارة بالكناية ليس من قبيل التشبيه المصطلح عليه ؛ لأن الإضمار والدلالة بالأداة الملفوظة أو المقدرة في المشبه به متنافيان مع زيادة أن التشبيه المضمر يعتبر فيه المبالغة ، وادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به بخلاف التشبيه الاصطلاحي.

ولما كان التشبيه المضمر خفيا والكلام يحتاج فيه إلى بيان المقاصد احتيج إلى ما يدل إليه ويسمى إثبات ذلك الدال تخييلية كما يأتي وإلى ذلك أشار بقوله : (ويدل عليه) أي وتقع الدلالة من المتكلم على ذلك التشبيه المضمر (ب) أمر وهو (أن يثبت ل) ذلك ل (لمشبه) الذي لا يذكر من الأطراف غيره (أمر مختص بالمشبه به) بأن يكون من لوازمه المساوية له ، فإذا أضمر تشبيه المنية بالسبع مثلا أثبت للمنية التي هي المشبه ما هو من خواص الأسد الذي هو المشبه به ويجب أن يكون ذلك اللازم مما يكون به كمال وجه الشبه في المشبه به أو قوامه على ما يذكره المصنف ، ومثال ما به الكمال الأظفار في الأسد فإن الشجاعة والجراءة فيه التي هي الوجه لم يكمل مقتضاها الذي هو الافتراس ألا بتلك الأظفار كما قيل :

وما الأسد لو لا البطش إلا بهائم

ولا بطش بدون الأظفار ومعلوم أن الذي أثبت للمشبه على هذا نفس خاصة المشبه به ولم توجد في المشبه فيكون إثباتها لتدل على التشبيه ؛ لأن إثبات خواص الشيء لغيره يدل على أنه ألحق به ونزل منزلته فيفهم التشبيه وإلا كان الكلام تهافتا ، وإذا


كان المثبت نفس الخاصة للدلالة على التشبيه فليس ثم شيء أطلق عليه لفظ الخاصة متحقق حسا أو عقلا ، وإنما وجد ، ثم مجرد إثبات اللازم للدلالة فهنا على ما ذكره المصنف فعلان كما تقدم إضمار التشبيه في النفس على الوجه المذكور والآخر إثبات لازم المشبه به للمشبه وكلاهما يحتاج إلى أن يسمى باسم يخالف الآخر (فيسمى) الأمر الأول وهو (التشبيه) المذكور المضمر في النفس (استعارة بالكناية أو) يسمى استعارة (مكنيا عنها) أما تسميته بالكناية بأن تقيد التسمية بلفظ الكناية أو يقال مكنيا عنها ؛ فلأن التشبيه المذكور لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواص المشبه به المفيدة بنسبتها للمشبه أنا ألحقناه بالمشبه به وجعلناه في مرتبته ، وأما تسميتها بالاستعارة فمجرد تسمية اصطلاحية عارية عن المناسبة وقيل في بيان المناسبة ؛ إنه لما ذكرت اللوازم وأثبتت للمشبه دل ذلك على أن المشبه ادعي دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه وادعاء الدخول شأن الاستعارة ، فسمى ذلك التشبيه لأجل ذلك استعارة (و) يسمى الأمر الثاني وهو (إثبات ذلك الأمر) المختص بالمشبه به كالأظفار في المثال السابق (للمشبه استعارة تخييلية) أي : يسمي إثبات ذلك للمشبه استعارة تخييلية أما تسميته استعارة فلأجل أن متعلقه استعير أي : نقل عما يناسبه ويلائمه واستعمل مع ما شبه بأصله وأما تسميته تخييلية ؛ فلأن متعلقه وهو ذلك المنقول مختص بالمشبه به بحيث لا يوجد في غيره وله معه خصوصية إذ به كمال وجه الشبه فيه أو قوامه على ما أشرنا إليه فيما مر ، وسنحققه في كلام المصنف فكان استعماله مع المشبه مع ذلك الاختصاص وتلك الخصوصية تشعر أنه نفس المشبه به حيث نسب له ما يختص به ، ويخيل للسامع أنه من جنسه حيث لابسه ما يلابسه.

ثم لما كان الأمر المختص بالمشبه الذي يكون إثباته تخييلا لا بد أن يكون به كمال وجه الشبه في المشبه أو قوامه كما ذكرنا احتاج إلى مثالين للاستعارة المكنى عنها باعتبارهما فأشار إلى مثال الأول بقوله : وذلك (كما) أي كإضمار التشبيه وإثبات ما يختص بالمشبه به الكائنين (في قول الهذلي وإذا المنية) (١) وهي الموت (أنشبت أظفارها)

__________________

(١) البيت فى الإشارات ص (٢٢٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٥٢) وهو لأبى ذؤيب الهذلى.


أي علقت أظفارها بهالك ومكنتها منه (ألفيت) أي وجدت عند ذلك الإنشاب (كل تميمة) أي : كل معاذة وهي الخرزة بفتح الراء تعلق على الصبي لتكون له حجابا من العين والهلاك والجنون في زعمهم (لا تنفع) أي : إذا علق الموت مخالبه بشيء ليذهب به ويهلكه بطلت الوقايات والحيل وأسباب النجاة ، ثم أشار إلى بيان التشبيه في ذلك وإلى بيان الوجه وتحقيق أن إثبات ما يختص بالمشبه به في المثال به كمال الوجه فقال (شبه) الهذلي في نفسه (المنية بالسبع في اغتيال النفوس) وإتلافها وأخذها (بالقهر والغلبة) بحيث لا يتصور عند نزوله مقاومته ودفاعه بل تأخذها بسطوة القهر (من غير تفرقة) في الناس (بين نفاع) أي : كثير النفع منهم (وضرار) أي كثير الضرر أي : لا تبالي بأحد ولا ترحمه بل تأخذ من نزلت به أيا كان بلا رقة منها على من يستحق الرحمة ولا بقيا أي رحمة منها على ذي فضيلة يستحق أن يراعى وذلك شأن السبع عند غضبه أو شرهه على الافتراس (ف) لما شبه المنية بالسبع فيما ذكر (أثبت لها) أي لتلك المنية (الأظفار التي لا يكمل ذلك) الاغتيال والأخذ (فيه) أي في السبع (بدونها) أي : لا يكمل بدون تلك الأظفار وإنما قال لا يكمل ؛ لأنه يمكن الاغتيال في السبع بالأنياب ويوجد بها ولكن تمامه بالأظفار التي يقع البطش بها ويضم بها للأنياب وذلك ؛ لأن غيره يشارك السبع في الاغتيال والأخذ بالأنياب لكن مع الضعف عن أفعال الأسد المختص بالأظفار ولهذا قيل كما قدمناه :

وما الأسد لو لا البطش إلا بهائم

والمراد بالأظفار أظفار مخصوصة يقع بها الاغتيال لا مطلق الأظفار كما لا يخفى ، ولما أثبت للمنية الأظفار المخصوصة بالأسد كان في ذلك إشعار بالمبالغة في التشبيه وتحقيق أنه جعلها من جنس الأسد حيث أثبت لها ما هو من خواصه التي لا يثبت إلا له فاقتضى ذلك تشبيه المنية بالسبع في نفسه على وجه المبالغة ، وهو المسمى عند المصنف استعارة بالكناية وصار إثبات الأظفار لها استعارة تخييلية أي يسمى بذلك لما تقدم ثم أشار إلى مثال الثاني ، وهو ما تكون فيه القرينة بها قوام الوجه بقوله : (وكما)


أي وكالتشبيه والتخييل الكائنين (في قول الآخر (١) ولئن نطقت بشكر برك) أي : بشكر إحسانك وعطفك حال كوني (مفصحا) بذلك الشكر ولما صح أن يكون النطق على وجه الإجمال كان قوله : مفصحا حال مؤسسة وجواب الشرط مقدر أي فلا يكون لسان مقالي أقوى في النطق من لسان حالي ، فحذف هذا الجواب وأقام مقامه لازمه وهو قوله : (فلسان حالي بالشكاية أنطق) هذه القضية اتفاقية لدفع ما يتوهم من كون النطق الحسي لا يجامعه كون النطق الحالي أقوى منه فقوله : فلسان حالي أنطق بالشكاية (شبه) فيه (الحال بإنسان متكلم) فأضمر التشبيه في النفس ومعلوم أن التشبيه بين الحال وذلك الإنسان إنما هو (في الدلالة) أي وجه الشبه فيهما هو دلالة الحاضر (على المقصود ف) أضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية كما تقدم ثم (أثبت لها) أي أثبت للحال (اللسان الذي به قوامها) أي به حصل قوام تلك الدلالة وأصل قوام الشيء ما يقوم به ويوجد منه كأجزاء الشيء ولذلك يقال في الخيوط التي يضفر منها الحبل إنها قوامه والمراد به هنا نفس قوام الشيء أي : وجوده وتحققه ، وذلك أن الدلالة في الإنسان المتكلم وهو المشبه به لا تقرر لها من حيث إنه متكلم حقيقة إلا باللسان وأما وجودها من الإنسان بالإشارة فلا يرد ؛ لأن المشبه به على ما ذكر المصنف هو الإنسان من حيث إنه متكلم لا من حيث إنه مشير ، ولما أثبت لها اللسان الذي به القوام كان ذلك الإثبات استعارة تخييلية ، وقد تقدم وجه تسميتها تخييلية فتحصل مما تقرر عند المصنف أن لفظى الأظفار والمنية كل منهما حقيقة لاستعمالهما في معناهما الحقيقي ، وهو ما وضع له في الأصل ، وكذا لفظ الحال واللسان وليس في كلا البيتين ، وكذا كل ما يشبههما مجاز لغوي أصلا ؛ لأنه لفظ والموجود فيهما على ما ذهب إليه المصنف كما تقدم فعلان من أفعال النفس وأحد الفعلين في الأول إضمار تشبيه المنية بالأسد في النفس ، وذلك الإضمار كما تقدم فعل من الأفعال وثانيهما فيه إثبات الأظفار للمنية وأحد الفعلين في الثاني إضمار تشبيه الحال بالإنسان المتكلم وثالثهما فيه إثبات اللسان لها ويسمى الأول وهو الإضمار فيهما استعارة بالكناية ، ويسمى الثاني وهو إثبات ما به كمال الوجه أو قوامه فيهما استعارة تخييلية كما تقدم ، وهذان

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٥٢) وهو للعتبى ، وفى الإشارات ص (٢٢٨).


كمال الوجه أو قوامه فيهما استعارة تخييلية كما تقدم ، وهذان الفعلان متلازمان أعني إضمار التشبيه المسمى بالاستعارة بالكناية وإثبات ما يختص بالمشبه به المسمى بالاستعارة التخييلية ؛ لأن التخييلية قرينة المكنى عنها فلا تخلو المكنى عنها عن قرينتها والتخييلية يجب أن تكون مع المكنى عنها إذ لو صحت في التصريحية أو في مجاز آخر كانت ترشيحا إذ الفرق بين الترشيح والتخييل مع أن كلا منهما لازم المشبه مخصوص به أن الترشيح في غير المكنى عنها ، والتخييل في المكنى عنها فإن قلت فهل يتصور بينهما فرق آخر سوى كون الترشيح للتصريحية أو المجاز المرسل ، وكون التخييل قرينة للمكنى عنها؟ قلت : قد قيل إن التخييل لا بد أن يكون به كمال الوجه أو قوامه كما يؤخذ من كلام المصنف وتمثيله والترشيح يكون بمطلق اللازم المختص وورد على ما ذكر من تلازم التخييل والمكنى عنها أن نحو قولنا أظفار المنية الشبيهة بالسبع نشبت بفلان ليس فيه مكنى عنها للتصريح فيه بالتشبيه والمكنى عنها يجب إضمار التشبيه فيها والأظفار تخييل ؛ لأنها استعملت مع المنية على نحو استعمالها معها عند كون الكلام فيه الاستعارة بالكناية.

وأجيب بأن هذا الكلام على تقدير صحته في كلام البلغاء ووروده تكون الأظفار فيه ترشيحا للتشبيه لا تخييلا ؛ لأن الترشيح لا يختص بالاستعارة التصريحية بل يكون في التشبيه ويكون في المجاز المرسل بل ويكون في المكنى عنها بعد وجود قرينتها التي هي التخييلية ، فضابط الترشيح أن يذكر ما يلائم المشبه به أو المتجوز فيه من غير اشتراط المبالغة في التشبيه ، وإن كانت هي أنسب من غيرها ؛ لأن ذكر ما يلائم الأصل يقوي الاهتمام بمناسبته للفرع ففي الاستعارة يعتبر بعد قرينتها وكذا المجاز المرسل ، وفي التشبيه يعتبر مطلقا أما مثاله في التشبيه فالتركيب المذكور إن صح وأما مثاله في المكنى عنها على هذا فكأن يقال أنشبت المنية أظفارها بفلان ولها لبد وزئير مثلا وأما مثاله في التصريحية فكما تقدم في قوله :


لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

وأما مثاله في المجاز المرسل فكقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأزواجه الطاهرات" أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" (١) فإن اليد مجاز مرسل عن النعمة ؛ لحصولها عن اليد والطول الذي هو الإنعام والتفضل الذي أخذ منه أطول يناسب اليد الأصلية ؛ لأن الإنعام باليد ، ولكن يرد على هذا أن الإنعام يلائم النعمة أيضا لتعلقه بها فيكون مشتركا بين الأصل والفرع فلا يكون ترشيحا ومعنى" أطولكن" أكثركن طولا بفتح الطاء أي : تفضلا وعطاء وحمله على الطول الذي هو ضد القصر ليناسب اليد الأصلية فيكون ترشيحا يؤدي إلى خلو الكلام عن الإخبار بكثرة الجود المقصود ، اللهم إلا أن يقال استعير الطول للاتساع في العطاء فيكون ترشيحا باعتبار أصله على ما تقدم وسنقرره ، ثم ما فسر به المصنف الاستعارة بالكناية وهو إضمار التشبيه في النفس شيء لا مستند له في كلام السلف ولا هو مبني على المناسبة اللغوية ، أما عدم بنائه على المناسبة اللغوية ؛ فلأن إضمار التشبيه ليس فيه نقل لفظ إلى غير معناه فيكون مناسبا ؛ لأن يسمى بالاستعارة كما يناسب نقل اللفظ الذي هو المجاز اللغوي ، وأما كونه لا مستند له في كلام السلف فلأنه لم ينقل عن أحد منهم ما ذكر المصنف.

نعم الشيخ عبد القاهر ذكر فيما سماه المصنف تخييلا ما يناسب ما ذكره المصنف فقال في يد الشمال : إن اليد ثبتت للشمال مع أنها ليست من لوازمه لا لمعنى أطلقت عليه ونقلت له بل لتدل على تشبيه الشمال بمالك له تصرف ويد ولكن لم يسم التشبيه الذي جعلت اليد دليلا عليه استعارة لا بالكناية ولا بغيرها وإنما قال اليد استعارة ولكن لا لشيء يشار إليه إشارة حسية أو عقلية بل استعير ليدل على التشبيه وأما السكاكي فجعل المنية في المثال السابق استعارة بالكناية ؛ لأنها استعيرت للسبع ادعاء وجعل التخييلية هي الأظفار على أنها نقلت لصورة وهمية وسيأتي البحث معه في ذلك للمصنف فهذان مذهبان في تفسير الاستعارة بالكناية في نحو :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

__________________

(١) رواه مسلم.


والمذهب الثالث وهو أقربها وأنسبها بالتسمية اللغوية ما يفهم من كلام السلف وهو أن إيجاد الاستعارة بالكناية بأن يكون ثم لفظ قصد استعارته بعد المبالغة في التشبيه ، ولكن لا يصرح بذلك اللفظ بل بذكر رديفه الدال عليه الملازم له لينتقل منه إلى ذلك المستعار على قاعدة الكناية في أن ينتقل من اللازم المساوي إلى الملزوم فقولنا أظفار المنية نشبت بفلان ، يقصد بالأظفار فيه أن تكون كناية عن السبع المقصود استعارته للمنية كاستعارة أسد للرجل الشجاع ، فإذا استعمل بهذا القصد فقد صح أنا لم نصرح بالمستعار المقصود الذي هو السبع بل كنينا عنه ونبهنا عليه بمرادفه لينتقل منه إلى المقصود استعارته ، فيتحقق بهذا الاعتبار هنا مستعار منه وهو حقيقة الأسد الذي هو الحيوان المفترس ، والمستعار له وهو المنية ، واللفظ المستعار وهو لفظ السبع الذي لم يصرح به ، ولكن كنينا عنه برديفه ، فلفظ السبع يناسب أن يسمى استعارة على هذا لأنه منقول حكما وكونه بالكناية ومكنيا عنه برديفه أمر واضح على هذا أيضا وبنحو هذا صرح صاحب الكشاف كما فهمه عن الأقدمين حيث قال : إن من أسرار البلاغة ولطائفها يعني أن المقام إذا اقتضى الاستعارة دون الحقيقة لقصد التأكيد والمبالغة لمناسبتها لمدح أو ذم أو يكون ذلك خطاب الذكي دون الغبي ، فإن من لطائف تلك البلاغة التي هي أن يؤتي بالاستعارة المناسبة للمقام أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا إليه أي : يشيروا إليه بذكر شيء من روادفه المساوية له ، فينبهوا بذلك الرمز على مكانه ، أي : على ثبوت السبع مثلا وتقرر معناه للمنية ، وبه يعلم أن هذه الكناية من قبيل الكناية في النسبة للعلم بأن الأظفار ليست كناية عما يتصور من السبع بل عن إثباته وأنه كان معناه متحققا بالدعوى للمشبه ، وذلك نحو شجاع يفترس أقرانه ، فإن هذا الكلام فيه تنبيه على أن الشجاع ثبتت له الأسدية ورمز إلى ذلك بشيء من روادفه وهو الافتراس المستعمل في إهلاك الأقران.

لا يقال المكنى عنه على هذا هو ثبوت معنى الأسد لا لفظه فلم يكن عنه حتى يسمى استعارة بالكناية بل نقول إنما كنى في الحقيقة عن تشبيه المنية بالأسد فيعود لما ذكر المصنف من أن التخييلية أتى بها للدلالة على التشبيه ؛ لأنا نقول كون الأظفار


كناية عن ثبوت معنى الأسدية للمنية يستدعي تبعية إطلاق لفظ السبع على المنية فبهذا الاعتبار كانت الأظفار كناية عن اللفظ أيضا ؛ لإشعارها به وأما رد كلام المصنف إلى هذا فهو نهاية التكلف ؛ لأن كون التخييلية دليلا على التشبيه كما هو صريح مذهبه لا يستلزم كونه دليلا على ثبوت معنى المشبه به للمشبه المستلزم لاعتبار نقل اللفظ الذي هو مذهب غيره فظاهر مذهبه ينافي ما ذكرت وإن كانت المبالغة في التشبيه تقتضي النقل لكن تصريح المصنف بالتشبيه يبعد كون التخييلية دليلا على النقل.

لا يقال بعد ذلك كله لا يصدق أنه لفظ استعمل في غير معناه فلا يكون مجازا لغويا أيضا ؛ لأنا نقول المجاز اللغوي هو ما استعمل حقيقة أو تقديرا فهذا المذهب أحق من غيره وأقرب لما تقرر تأمل.

فقد ظهر مما ذكر الزمخشري أنه فهم من كلام الأقدمين أن المستعار في المثال لفظ السبع مثلا وقد ترك تصريحا ورمز إليه ببعض روادفه وهذا الكلام ذكره في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(١) حيث قال شاع استعمال النقض في إبطال العهد بعد تشبيه العهد بالحبل في كونه وصلة بين المتعاهدين كما يصل الحبل بين متعلقيه ثم نظر بشجاع يفترس أقرانه وقد فهم من كلام الزمخشري أن قرينة الاستعارة بالكناية قد تكون استعارة تصريحية فإن النقض على ما ذكره استعير لإبطال العهد ، وكذا الافتراس استعير لإهلاك الأقران ومع ذلك فكل منهما قرينة وذلك حيث يقتضي الحال أن التشبيه في الأصل للمكنى عنه كالحبل هنا فإن استعارة النقض إنما تعتبر بعد تشبيه العهد بالحبل إذ لم يستعمل النقض مستقلا عن العهد فيكون ضابط القرينة على هذا أن يقال : إن كان للمشبه في المكنى عنها لازم يشبه ما يرادف المشبه به كانت تلك القرينة منقولة استعارة تحقيقية كما فى (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وشجاع يفترس أقرانه ، وإن لم يكن للمشبه لازم يشبه الرديف كانت القرينة تخييلية كما في أظفار المنية وإنما صح كون الافتراس والنقض كناية عن الاستعارة المكنى عنها مع استعمالهما في معنى هو لازم المشبه ؛ لأنهما استعملا فيما ادعي أنه نفس أصلهما فكانا كنايتين باعتبار الإشعار

__________________

(١) البقرة : ٢٧.


المشبه ؛ لأنهما استعملا فيما ادعي أنه نفس أصلهما فكانا كنايتين باعتبار الإشعار بالأصل وبه يعلم أن مذهب السلف لا يقتضي ملازمة التخييلية للمكنى عنها لصحة كون قرينتها عندهم استعارة تصريحية إلا أن يدعي أنها تصريحية باعتبار المعنى المقصود في الحالة الراهنة وتخييلية باعتبار الإشعار بالأصل وعلى ظاهر مذهب المصنف من أن التخييلية استعملت في معناها حقيقة يكون نحو شجاع يفترس أقرانه ليس من المكنى عنها في شيء ، وكذا نحو (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) بل يكون الافتراس والنقض تصريحيتين تبعيتين والعهد تجريد في الثانية ، والأقران والشجاع تجريد في الأولى ، وذلك يخالف ما دققه الزمخشري فيهما حتى ادعى أن ذلك من لطائف البلاغة ، وإنما كان ذلك من لطائف البلاغة ، لأن التوصل إلى المجاز بالكناية أغرب وأقوى من ذكر نفس المجاز كما لا يخفى ، ثم أشار إلى مثال آخر فيه الاستعارة بالكناية والتخييلية فيها ، مما يكون به قوام الوجه الذي هو أحد القسمين السابقين ، وإنما أتى به مع تقدم مثال آخر فيه للإشارة إلى أن من أمثلة المكني عنها ما يصح أن يكون من التصريحية على ما يقرره بتأويل سيذكره فيه فقال : (وكذا قول زهير صحا) (١) من الصحو وهو الإفاقة من السكر ، استعير هنا للسلو وارتفاع العشق والرجوع عنه بجامع انتفاء ما يغيب عن المراشد والمصالح فصحا بمعنى سلا (القلب عن (حب) سلمى وأقصر باطله) يقال : أقصر عن الشيء إذا أقلع عنه وتركه مع القدرة عليه ، وقصر عنه إذا تركه مع عدم القدرة عليه ، وباطل القلب ميله إلى الهوى ، ومعنى أقصر باطل القلب امتنع عنه وتركه بحاله الأولى فعلى هذا لا يحتاج إلى أن يجعل الكلام من باب القلب ، وأن الأصل : أقصر القلب عن باطله ، ومعلوم أن الاستناد إلى الباطل مجازي بناء على أن الإقصار ترك الشيء مع القدرة عليه (وعرى) القلب (أفراس الصبا ورواحله) أي رواحل الصبا ومعنى تعرية القلب أفراس الصبا أن يحال بينه وبين تلك الأفراس وتزال عنه ، ويحتمل أن يكون نائب فاعل عرى هو الأفراس فيكون المعنى أن أفراس الصبا ورواحله عريت من سروجها

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٥٢) ، وهو لزهير فى ديوانه ص (١٢٤) ، والمصباح ص (١٣٢).


وآلات ركوبها ، ويكون ذلك كناية عن ترك الانتفاع بها في الأسفار وعلى كل حال فهو مما يلائم المشبه به فيكون تخييلا ، ثم أشار إلى تحقيق معنى الاستعارة بالكناية في البيت وإلى بيان المراد به على تقدير وجود الاستعارة المذكورة فيه بقوله : (أراد) زهير (أن يبين) بهذا الكلام (أنه ترك ما كان يرتكبه) أي : يفعله (زمن) أي في زمن (المحبة) والهوى لسلمى وأضرابها (من الجهل والغي) بيان لما والمراد بالجهل والغي الأفعال التي يعد مرتكبها جاهلا بما ينبغي له في دنياه أو في آخرته ، ويعد بسببها من أهل الغي أي : عدم الرشد لارتكابه ما يعود عليه بالضرر من المعصية وما ينكره العقلاء (وأعرض) عطف على ترك أي : ترك ما تقدم من الجهل والغي وأعرض (عن معاودته) بالعزم على ترك الرجوع إليه (ف) لما أعرض عنه (بطلت آلاته) التي توصل إليه من حيث إنه توصل إليه من الحيل والمنال والمال والإخوان والأعوان ، فالضمير في معاودته وآلاته عائدان على ما في قوله لما كان يرتكبه وهو ظاهر ، وليس قوله : فبطلت آلاته تفسيرا لقوله : وعرى أفراس الصبا وإلا لزام كون الأفراس والرواحل أو تعريتها استعارة حقيقة كما يأتي في الوجه الثاني المقتضي لخروج الكلام عن وجود الاستعارة المكنى عنها فيه ، بل لما كان ترك معاودة الشيء وهجرانه مستلزما لبطلان ما يوصل إليه من حيث إنه يوصل إليه رتب قوله فبطلت آلاته على ذلك الترك ، وأما الأفراس والرواحل وتعريتها أو التعري عنها فعلى حقيقتها ؛ لأنها تخييل ، والتخييل عند المصنف على حقيقته كما تقدم ، فلما أراد زهير ما تقدم لزم كون الصبا بكسر الصاد مع القصر وهو الميل إلى الجهل والفتوة الذي بين أنه أعرض عنه وأهمله فبطلت آلاته بمنزلة جهة من الجهات التي أعرض عنها بعد قضاء الأوطار (فشبه حينئذ) ذلك (الصبا بجهة من جهات المسير) أي من الجهات التي يسار إليها (ك) جهة (الحج و) كجهة (التجارة قضى منها) أي : من تلك الجهة (الوطر) أي : الحاجة الحاملة على ارتكاب الأسفار إليها (ف) لما قضى منها الوطر (أهملت آلاتها) الموصلة إليها طلبا لقضاء الأوطار ؛ لأن اتخاذها لتلك الأوطار وقد قضيت وذلك مثل الأفراس والرواحل والأعوان والأقوات


السفرية ومزادتها ، ووجه الشبه بينهما الشغل التام بسبب كل منهما لاستيفاء مراد الصبا واستيفاء المراد من الجهة وركوب المسالك الصعبة في كل منهما من غير مبالاة في ذلك الشغل بمهلكة تعرض فيه ، ولا احتراز عن معركة تنال فيه ، حتى قضى بذلك الشغل الوطر فأهمل آلات كل منهما ، فوجه الشبه يدخل فيه قضاء الوطر والإهمال ؛ لأن التشبيه إنما هو باعتبار الفراغ والإهمال بعده ، ويحتمل أن يريد بالصبا ما يدعو إليه من الجرائم فيكون الوجه : الشغل ؛ لاستيفاء تلك الجرائم واستيفاء المراد من الجهة إلخ.

وعلى كل فالمشترك فيه كون الشغل لمطلق الاستيفاء فصار التشبيه المذكور استعارة بالكناية لإضماره في النفس (ف) احتاج إلى قرينة من التخييل ولذلك (أثبت له) أي : للصبا بالمعنيين السابقين بعض ما هو مختص بتلك الجهة ، وأثبت له (الأفراس والرواحل) التي بها قوام الوجه في جهة السير والسفر ، وإنما قلنا إنها قوامه بناء على الغالب ؛ لأن الغالب في الجهة البعيدة التي يحتاج فيها إلى مشاق وهي المشبه بها انعدام السفر فيها بانعدام الآلات لينعدم قضاء الوطر فينعدم الوجه ، أو بناء على السير المعتبر المحقق به الوصول بسرعة ، وإلا فالسير يوجد بدونها فيكون المناسب أن بها كماله لا قوامه كما قال ؛ فصار إثبات الأفراس والرواحل بناء على هذا التشبيه تخييلا ؛ لأنها من خواص المشبه به واستعملت على حقيقتها مع المشبه.

(فالصبا) على هذا التقدير وهو أن يكون هو المشبه (من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوة) وقد تقدم بيان ذلك يقال : صبا بالقصر وكسر الصاد وصبوة وصبوا أي : مال إلى الجهل والفتوة ، والمراد بالفتوة : الأفعال المرتكبة في حال الشباب ، وتفسير الصبا بما ذكر موجود في الصحاح للجوهري وليس هو الصباء بفتح الصاد والمد بمعنى اللعب مع الصبيان يقال : صبى صباء بالمد كسمع سماعا إذا لعب مع الصبيان ، وإنما لم يكن كذلك ؛ لأنه لا يتأتى فيه التشبيه المذكور إلا على تكلف ، ولم نحترز بقولنا على هذا التقدير عن الاحتمال الآتي ؛ فإنه لا يتأتى فيه التشبيه بالصباء بمعنى اللعب مع الصبيان إلا بتكلف أيضا كما لا يخفى وسنشير إليه.


(ويحتمل أنه) أي زهيرا (أراد) بالأفراس والرواحل (دواعي النفوس وشهواتها) من عطف المرادف في هذا المحل إذ الدواعي هنا هي الشهوات (والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات) فإن أراد بالقوى الحاصلة في الاستيفاء ما يحمل على الاستيفاء فهي الشهوات والدواعي المذكورة أيضا ، وإن أراد ما تستعين به النفوس من الصحة والفراغ والتدبير والجهد الروحاني والبدني كان من عطف المباين وعلى كل حال فوجه الشبه بين الدواعي وما ذكر وبين الأفراس والرواحل كون كل منهما آلة لتحصيل ما لا يخلو الإنسان عن المشقة في تحصيله.

(أو الأسباب) أي : يحتمل أن يريد زهير ما ذكر ويحتمل أن يريد بالأفراس والرواحل الأسباب الظاهرية (التي قلما تتآخذ) أي تجتمع من قولك : تآخذت هذه الأمور إذا أخذت بعضها بعضد بعض فاجتمعت أي : لا تجتمع غالبا (في اتباع) أي : عند اتباع أفعال (الغى إلا أوان الصبا) وتلك الأشياء التي لا تجتمع غالبا إلا في وقت الصباء عنفوان الشباب هي مثل المال والمنال والأعوان لكثرة المساعدين من الأقران حينئذ ولوجود جهد الاكتساب للمال إذ ذاك ، وإذا أراد زهير هذا التشبيه (ف) حينئذ (تكون الاستعارة) أي : الاستعارة المعتبرة في البيت وهي استعارة الأفراس والرواحل (تحقيقية) لأن المعنى الذي نقل له لفظ الأفراس والرواحل متحقق عقلا إذا أريد الدواعي لأنها وجودية ولو لم تحس ومتحقق حسا إذا أريد به أسباب اتباع الغي من المال والمنال والأعوان والأقران لوجودها حسّا بالسماع والشهود ، وإنما قلنا لا يصح على هذا الاحتمال ولا على الأول أن يراد بالصباء : اللعب مع الصبيان لأن اللعب مع الصبيان لا يناسبه قوله سلا القلب عن سلمى ولا تناسبه الأفراس والرواحل ولا استعارتها إلا أن يراد باللعب فعل أفعال أهل الهوى والشبان فيعود لمعنى التفسير الأول ، وينبغي أن يعلم أن كون الاستعارة تحقيقية لا ينافي وجود المكنى عنها على ما تقدم في مذهب السلف ، وإنما ذلك على مذهب المصنف ، وإنما زاد هذا المثال مع كونه بناه على أن الاستعارة فيه بالكناية داخلة في القسم الثاني للإشارة إلى أن من الأمثلة ما يمكن فيه اعتبار الأمرين أعنى الاستعارة بالكناية والتحقيقية ، ولذلك


سماه بعضهم الاستعارة المحتملة فالأمثلة على هذه ثلاثة :

الأول : ما تكون فيه التخييلية هي إثبات ما به كمال وجه الشبه.

والثاني : ما تكون فيه بها قوامه.

والثالث : ما يحتمل التخييلية على أنها قوام أو كمال ويحتمل التحقيقية.

والذي يقع به تمييز المراد قرائن الأحوال ؛ فإن قلت : ما المانع أن تكون كل تخيلية تحقيقية فيقدر في أظفار المنية تشبيه سكرات الموت وموجعاتها بالأظفار ، ويقدر في نطق الحال تشبيه إفهامها المراد بالنطق وفي يد الشمال تشبيه قوة الشمال باليد وعلى هذا القياس فعليه يقال : ما من مثال إلا ويحتمل ، فيرجع في فهم المراد إلى تنصيص المتكلم على مراده أو قرائن الأحوال قلت : تشبيه المنية والحال والشمال بمقابلاتها وهو الظاهر المشهور الموجود كثيرا واستخراج لوازم يشبه بها بعد تلك الشهرة والظهور فيه خفاء وتعسف فتعينت المكنى عنها في أمثالها فافهم.

فصل : اعتراضات على السكاكى

(فصل) تعرض فيه المصنف لبعض كلام السكاكي في الحقيقة والمجاز والبحث معه في ذلك ، وذلك أنه ذكر الاستعارة بالكناية والتخييلية على خلاف ما ذكر فيهما المصنف وعرف الحقيقة والمجاز بما ترد عليه فيه أبحاث فتعرض المصنف لما ذكر ولما يرد عليه فقال (عرف السكاكي الحقيقة اللغوية) احترز بهذا عن الحقيقة العقلية التي هي إسناد الفعل أو معناه لما هو له فليس غرضنا الآن التكلم عليه.

(بالكلمة) أي : عرفها بالكلمة إلخ وهي جنس خرج اللفظ المهمل عنه وغير اللفظ مطلقا (المستعملة) فصل خرج به اللفظ الموضوع قبل الاستعمال فلا يسمى حقيقة ولا مجازا كما تقدم (فيما) أي في المعنى الذي (وضعت هي) أي تلك الكلمة (له) فصل خرج به الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بكل اصطلاح فإنه مجاز قطعا أو غلط ولما كانت الاستعارة موضوعة قطعا على كل قول وإنما الخلاف في أنها مجاز لغوي أو عقلي على ما


تقدم بيانه فعلى أنها مجاز عقلي فهي حقيقة لغوية لا يصح إخراجها ، وإنما يخرج المجاز المرسل وعلى أنها مجاز لغوي يحتاج إلى إخراجها إذ لا تخرج بالوضع للاتفاق على وضعها ، لكن وضعها للمشبه بتأويل أي ادعاء أنه من جنس المشبه به الذي وضع له اللفظ أصالة احتاج إلى زيادة قيد لإخراجها ، إذ هي مجاز لغوي على هذا ، وذلك القيد هو أن وضع الحقيقة لا تأويل فيه ولا ادعاء ، ووضع الاستعارة فيه تأويل وادعاء ، فلذلك زاد قيد قوله (من غير تأويل في الوضع) الذي استعملت تلك الكلمة بسببه فخرجت الاستعارة بهذا ؛ لأنها كلمة استعملت فيما وضعت له مع التأويل في ذلك الوضع ، ولا يصدق عليها أنها استعملت فيما وضعت له من غير تأويل في الوضع ، وإلى هذا أشار بقوله (واحترز) السكاكي (بالقيد الأخير) وهو قوله من غير تأويل في الوضع.

(عن الاستعارة) وإنما احتيج إلى الاحتراز عنها بهذا القيد بناء (على أصح القولين) وهو القول بأن الاستعارة مجاز لغوي كما ذكرنا لأنها ولو بولغ في التشبيه فيها حتى ادعى دخول المشبه في جنس المشبه به على ما تقدم لا يقتضي ذلك كونها مستعملة فيما وضعت له حقيقة ، وإنما استعملت في غير ما وضعت له بالأصالة ، فاحتيج إلى الاحتراز عنها كما بينا لتخرج ، إذ هي مجاز لغوي ، فلو دخلت في الحقيقة فسد حدها.

وأما إن بنينا على القول بأنها حقيقة لغوية بناء على أنها استعملت فيما وضعت له حقيقة لأن التصرف وقع أولا في أمر عقلي بأن جعل المشبه نفس المشبه به ، فلما جعل نفسه أطلق اللفظ على ذلك المشبه لا على أنه مشبه بل على أنه نفس المشبه به فقد استعملت في معناها الأصلي فكانت حقيقة لغوية ، فلا يصح الاحتراز عنها بل يجب إدخالها ، وقد تقدم بيان ضعف هذا القول ثم بين وجه خروجها كما ذكرنا بقوله : (فإنها) أي إنما خرجت بهذا القيد المحترز به عنها وهو قولنا : من غير تأويل في الوضع ؛ لأن الاستعارة (مستعملة فيما وضعت له) ولكن لا يصدق عليها أنها استعملت فيما وضعت له من غير تأويل بل فيما وضعت له (بتأويل) أي : بواسطة التأويل بمعنى أن المعنى الذي


استعملت له إنما صح كونه موضوعا له بتأويل وهو إدخاله فيما وضع له بالادعاء ، والتأويل في الأصل أن يجعل للشيء مآل يؤول إليه ، وقد يطلق على نفس المآل ، ولما كان تفسير الشيء وحمله على غير ظاهره بدليل حاصله جعل معنى للفظ غير أصله فتعقل فيه أن له مبدأ هو أصله ومآلا هو المعنى المحمول عليه أطلق على ذلك الحمل ، وذلك التفسير لفظ التأويل بجامع ما يعقل في كل منهما من ملابسة كون الشيء جعل له مبدأ واستقرار في غيره ، ثم توسع فيه وأطلق على مطلق العدول بالشيء عن أصله إلى غيره كما هنا فإن معنى التأويل في الوضع أن الوضع عدل به عن كونه تغيير اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه الذي هو الأصل إلى أن جعل هو كون اللفظ بحيث يدل على ما جعل داخلا تحت حقيقة غيره بالادعاء ؛ لأن ذلك يصيره كالمطلق عليه بالوضع الحقيقي فإطلاقه على المعنى الأول من الفرعين وهو حمل اللفظ على غير ظاهره لدليل قد صار حقيقة عرفية عند الأصوليين وعلى المعنى الثاني قد صار مشهورا هنا كذلك أيضا ، وقد تقدم أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به الذي هو حاصل التأويل هنا يتقرر معه كون اللفظ في المشبه مجازا منقولا له بجعل المشبه به له فردان متعارف وغيره فيعتبر نقل اللفظ عن المتعارف إلى غيره وأنه لو لا ذلك الاعتبار لم يتحقق نقل.

تعريف السكاكى للمجاز اللغوى

(وعرف) السكاكي (المجاز اللغوي) الذي هو المقابل للحقيقة اللغوية التي عرفها أولا (بالكلمة المستعملة) أي : عرفه بأنه هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع ، فقوله : بالتحقيق يعني : وضعت له وضعا مصاحبا للتحقيق أي تثبيته وتقريره في أصله بأن يبقى على معناه الذي هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، فخرج بقوله : " في غير ما وضعت له" الكلمة المستعملة فيما وضعت له حقيقة وأدخل بقيد التحقيق الكلمة المستعملة فيما وضعت له بالتأويل ؛ لأنه إنما أخرج المستعملة في الموضوع التحقيقي


لا التأويلي ، ونعني بالتأويلي : أن تكون مستعملة فيما هي موضوعة له وضعا مصاحبا للتأويل الذي هو كون اللفظ بحيث يستعمل فيما أدخل بالادعاء في جنس الموضوع له بالتحقيق ولما كان هذا الكلام يشمل ما هو حقيقة كالصلاة تستعمل في عرف اللغة في الدعاء ؛ لأنها يصدق عليها كلمة استعملت في غير ما وضعت له بالتحقيق ؛ لأنها وضعت بالتحقيق لذات الأركان أيضا فهي في الدعاء استعملت في غير الموضوع له في الجملة وهي ذات الأركان احتيج إلى إخراج مثل ذلك بأن يقيد الوضع المنفي بما يفيد معنى في اصطلاح التخاطب بمعنى أن ما استعملها فيه هذا المتكلم غير المعنى الذي وضعت له في اصطلاحه ، ولا شك حينئذ أن نحو الصلاة إذا استعملها اللغوي في الدعاء لا يصدق عليها أنها مستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح اللغوي ضرورة أنها استعملت فيما وضعت له في هذا الاصطلاح أعني اصطلاح اللغة ، وإنما صدق عليها أنها مستعملة في غير ما وضعت هي له باعتبار اصطلاح آخر وهو اصطلاح الشرع ، ولو لا هذا القيد أيضا لخرج مثل لفظ الصلاة إذا استعمله الشارع في الدعاء ؛ لأنه يصدق عليه أنه كلمة استعملت فيما هي موضوعة له في الجملة أي : في اللغة ولما زاد في اصطلاح التخاطب دخل لأنه استعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب وهو اصطلاح الشرع وللاحتياج إلى إخراج وإدخال مثل ما ذكر بالقيد المشار إليه زاد في الحد بعد ما ذكر ما يفيد ذلك وهو قوله استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، وكان يكفيه في التعبير عما ذكر أن يقتصر على قوله" بالنسبة إلى نوع حقيقتها" ويجعل الباء متعلقة بالغير في قوله : " غير ما وضعت له" لكن زاد لفظة الاستعمال ليتبين أن المجرور وهو قوله : في الغير متعلق به لطول عهد ذكره مع الغير الأول وادعاء الغير ؛ ليتبين أن قوله بالنسبة متعلق بالغير وعرفه باللام للإشارة إلى أن المراد به الغير المذكور لزيادة البيان ولم يحترز بالتعريف عن شيء ، إذ لا يتوهم غير ذلك ضرورة أنه لا معنى لقولنا المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له استعمالا في غير آخر بالنسبة إلى نوع حقيقتها فقوله بالنسبة إلى نوع حقيقتها إشارة لمعنى قولنا في اصطلاح التخاطب ؛ لأن معناه أن المجاز


هو الكلمة المستعملة في غير المعنى الذي هي له موضوعة بشرط أن تكون تلك المغايرة إنما هي بالنسبة إلى النوع الذي كان له حقيقة عند المستعمل لتلك ، فإن كانت حقيقتها النوع الذي هو الشرعية لكون هذا المعنى الذي استعملت فيه غيرا بالنسبة إليه عند المستعمل الذي هو المخاطب بعرف الشرع ـ كان مجازا شرعيا ، وعلى هذا القياس أي : إن كان النوع الذي هو حقيقتها اللغوية كانت مجازا لغويا أو عرفيا كان مجازا عرفيا خاصا أو عاما فأفاد بهذا الكلام أن ثم مغايرة بالنسبة إلى كل نوع فباعتبار كل نوع يثبت التجوز وبالنسبة إلى تلك المغايرة يتم على ما ذكرنا ، ثم لما شمل هذا الحد الكناية ؛ لأنها قد تستعمل في غير معناها بالنسبة إلى نوع حقيقتها زاد في الحد أيضا قوله مع قرينة مانعة عن إرادة الأصل في ذلك النوع من شرعي ولغوي وعرفي ، وقد عرفت بهذا أن ما أفاده قوله استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها حاصله هو ما أفاده قولنا : " في اصطلاح التخاطب" مع كون هذا أوضح وأدل على المراد فلذلك أتى به المصنف بدلا عما ذكر السكاكي كما سنذكره وقولنا إن قوله بالنسبة متعلق بالغير يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون التعلق على ظاهره فيكون التقدير هكذا استعمالا في معنى مغاير للأصل بالنسبة إلى ذلك النوع من الحقيقة.

ثانيهما : أن يكون التعلق معنويا بأن يكون المجرور نعتا للغير فيكون التقدير استعمالا في غير كائنة مغايرته وحاصلة بالنسبة إلى ذلك النوع.

وقولنا : إن التقييد باصطلاح التخاطب عبر به ؛ لأنه أدل وأوضح على المراد لا إشكال فيه إذ لا يخفى ما في قولنا : بالنسبة إلى نوع حقيقتها من الإيهام بل نقول : إن فيه من البحث عند الإنصاف ما يوجب العدول عنه ؛ فإن قوله نوع حقيقتها لا يفيد المراد إلا بتكلف وزيادة تقدير وبيان ذلك أن الصلاة مثلا إذا استعملت في الدعاء فهي فيه حقيقة باعتبار اللغة وهي إذا استعملت في الأركان المخصوصة حقيقة باعتبار الشرع فإذا استعملها الشارع في الأركان فهي نوع من الحقيقة ، وإذا استعملها اللغوي في الدعاء فهي فيه نوع


آخر من الحقيقة ، فاللفظ الواحد هو الموصوف بكونه نوعا من حقيقة باعتبارين فإضافة النوع إلى الحقيقة في قوله بالنسبة إلى نوع حقيقتها يجب أن تكون على معنى بالنسبة إلى نوع هي كونها حقيقة مخصوصة ، وبه يعلم أن الحقيقة أريد بها معنى الحقيقة بزيادة الياء الدالة على المصدرية ، وإضافة الحقيقة يجب أن تكون على معنى إضافة الصفة للموصوف لا على معنى إضافة المغاير ؛ إذ المراد بحقيقتها كونها حقيقة وذلك أن الحقيقة في أصلها لفظ فلو أبقيت الإضافة على أصلها من المغايرة كان المعنى بالنسبة إلى النوع الذي هو لفظ آخر هو حقيقة لهذا اللفظ المجازي ولا معنى له ، لأن اللفظ واحد لكن إذا استعمل في معنى كان فيه حقيقة وفي آخر كان فيه مجازا باعتبار كونه حقيقة في ذلك الآخر في اصطلاح ذلك الاستعمال ، وإذا كان هذا معنى اللفظ لم يفهم منه مجازيته باعتبار كون معناه غير المعنى المخصوص عند المستعمل ، بل غاية ما يدل عليه أنه غير بالنسبة إلى كونه حقيقة في معنى آخر مخصوص ذلك المعنى بكونه كان فيه اللفظ حقيقة عند الشرع أو اللغة أو العرف ، وذلك لا يفيد أنه غير عند المخاطب المستعمل ، فعلى هذا لفظ الصلاة مثلا إذا استعمله اللغوي في الدعاء صدق عليه أنه استعمل فيما يغاير معناه مغايرة كائنة بالنسبة إلى نوع من الحقيقة الثانية له وهي كونه دالا على الأركان عند الشارع فيكون مجازا وهو فاسد فلا بد من زيادة قولنا : عند المستعمل ، فحينئذ لا يصدق عليه أنه غير عند المستعمل فلا يكون مجازا فيخرج عن الحد ، وقولنا : عند المستعمل هو معنى قوله : في اصطلاح التخاطب ، فعبارته لم توف بالمراد إلا بهذه الزيادة التي صرح بها المصنف ، ولا يقال : المعنى أن اللفظ المستعمل في غير ما تحقق أنه معناه في الأصل وعلم أنه مجاز في ذلك الغير يكون باعتبار ذلك المعنى مجازا باعتبار ذلك الأصل ، فإن كان ما كان فيه حقيقة ونقل إلى هذا شرعيا فالمجاز شرعي أو لغويا فلغوي أو عرفيا فعرفي ؛ لأنا نقول هذا يقتضي أن مجازيته معلومة ، وإنما بقي النظر فيما تنسب إليه وكلامنا في تعريف أصل المجاز فلو كان المراد أن اللفظ المقيد بكونه مجازا هو كذا وكذا كان الحد خارجا عن المراد تأمل.


وقد تقرر بهذا أن الصواب في إفادة المراد هو ما أشار إليه المصنف عدولا عن عبارة السكاكي لا تعبيرا عن معناه بقوله (في غير ما وضعت له بالتحقيق في اصطلاح به التخاطب مع قرينة مانعة عن إرادته) أي إرادة معناها الأصلي في ذلك الاصطلاح ، وقد تقدم في بيان كلام السكاكي ما خرج بقوله : في غير ما وضعت له بالتحقيق ، وتقدم أن قولنا : في اصطلاح التخاطب الذي لم توف به عبارة السكاكي على ما ذكرنا لإخراج نحو الصلاة يستعملها اللغوي في الدعاء فإنه حقيقة ولو استعمل في غير ما وضع له في الجملة لأنه ليس غيرا في اصطلاح التخاطب ، إذ هو معناه في اصطلاح التخاطب ثم لما كانت زيادة قوله بالتحقيق لإدخال ما استعمل مصاحبا للوضع بالتأويل كما ذكرنا وذلك المستعمل بمصاحبة الوضع بالتأويل هو الاستعارة وكان في تلك الزيادة لذلك الإدخال بحث نبه على مقصوده بقيد التحقيق ليترتب على ذلك ما ورد عليه من البحث فقال (وأتى) السكاكي في حده للمجاز اللغوي (بقيد التحقيق) حيث قال في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق (ل) يكون المخرج عن الحد هو ما استعمل في الموضوع بالتحقيق لا ما استعمل في الموضوع بالتأويل وهو الاستعارة فحينئذ يجب أن (تدخل الاستعارة) في تعريف المجاز اللغوي إذ هي مجاز لغوي (على) أصح القولين ك (ما مر) من أنها مستعملة في غير ما وضعت له حقيقة وفيما وضعت له بالتأويل وأن ذلك يحقق كونها مجازا لغويا.

وأما على غير الأصح وهي أنها حقيقة لغوية ومجاز عقلي فلا يصح إدخالها في تعريف المجاز فلا يزاد قيد التحقيق لإدخالها ، ووجه إدخالها بزيادة قيد التحقيق هو ما أشرنا إليه من أن الخارج حينئذ هو اللفظ المستعمل في الموضوع له بالتحقيق وهو الحقيقة اللغوية ، وأما الكلمة المستعملة في الموضوع له بالتأويل فلا تخرج ؛ لأن المنفي هو الوضع الحقيقي لا التأويلي ، وأما لو لم يزد قيد التحقيق كان المنفي الاستعمال في مطلق الوضع ، والاستعارة فيها الاستعمال في مطلق الوضع الصادق بالوضع بالتأويل فتخرج عن تعريف المجاز فيفسد الحد ؛ لأنها لا يصدق عليها أنها كلمة استعملت في غير ما وضعت له لصدق أنها استعملت


فيما وضعت له في الجملة فكان زيادة قيد التحقيق لإدخالها حيث خصص الإخراج بالحقيقة اللغوية كما بينا.

وفي عبارة السكاكي هنا ما ظاهره فاسد ، وذلك أنه قال : وقولي : " بالتحقيق" احتراز عن أن لا تخرج الاستعارة فظاهره أن المحترز عنه هو عدم خروجها ، وإذا احترز عن عدم خروجها كان مقتضى القيد خروجها ؛ لأن المحترز عنه منفي عن التعريف ، وإذا كان المنفي عن التعريف عدم خروجها كان الثابت في التعريف خروجها إذ لا واسطة بين النقيضين ، ومن المعلوم أن المطلوب بزيادة التحقيق دخولها لا خروجها كما ينافي ما تقدم ، فقد ظهر فساد ظاهر العبارة إلا أن يجاب بحمل كلامه على أن لا زائدة على حد قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(١) إذ المقصود ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله ، أو يجاب بأن المحترز عنه محذوف وتجعل أن وما بعدها علة للاحتراز عن المحترز عنه ، ويتم هذا بجعل عن بمعنى لام التعليل ويكون المحترز عنه محذوفا دل عليه لفظ الاحتراز ، أو يحذف مجرورها ثم تقدر لام التعليل بعدها فيكون التقدير والمعنى احترازا عن خروجها وعلة الاحتراز عن الخروج والحامل عليه هو طلب عدم خروجها وذلك بإدخالها ، فكأنه يقول أوقعنا الاحتراز عن خروجها بذلك القيد لئلا تخرج ، وفيه من التعسف والتقدير ما لا يخفى.

ثم أشار إلى ما فيه رد مقتضى زيادة التحقيق ومقتضى زيادة قوله من غير تأويل بقوله (ورد) مقتضى ما ذكره السكاكي في التعريفين ، وهو أنه إنما زاد قيد قوله : " بالتحقيق" لتدخل الاستعارة وقيد قوله : " من غير تأويل" لتخرج عن حد الحقيقة ، وذلك أن مقتضى ذلك أن قيد التحقيق محتاج إليه في التعريف وأنه إن لم يزده في تعريف المجاز خرجت عنه الاستعارة مع أنها مجاز لغوي ، وقيد قوله : " من غير تأويل" محتاج إليه في تعريف الحقيقة وإلا دخلت الاستعارة أي رد مقتضى ما ذكر من الحاجة إلى زيادة قيدي التحقيق

__________________

(١) الحديد : ٢٩.


ومن غير تأويل (ب) أنه لا يحتاج إلى زيادة القيدين لإدخال الاستعارة وإخراجها بل ذكر الوضع مطلقا كاف في إدخال الاستعارة وإخراجها ل (أن الوضع) وما يشتق منه كالموضوعة والموضوع له (إذا أطلق) ولم يقيد بالتحقيق ولا بالتأويل (لا يتناول الوضع بالتأويل) حتى يحتاج إلى زيادة التحقيق ليكون المنفي عن التعريف هو التحقيقي فيبقى التأويلي وهو الذي للاستعارة فلا تخرج ولا إلى زيادة قوله : " من غير تأويل" لتخرج الاستعارة عن الحقيقة إذ هي موضوعة لكن بالتأويل إنما قلنا لا يتناول التأويلي عند الإطلاق ؛ لأن السكاكي نفسه قد فسر الوضع المطلق بتعيين اللفظ بإزاء المعنى ليدل عليه بنفسه ، وقال : قولي : في تعريف الوضع المطلق بنفسه احتراز عن وضع المجاز ، فإنه تعيين بإزاء معناه ولكن بقرينة ، ولا شك أن دلالة الأسد على الرجل الشجاع على وجه الاستعارة إنما هي بالقرينة والتأويل فلم يدخل وضع الاستعارة في الوضع إذا أطلق حتى يحتاج إلى تقييده بالتحقيق لئلا تخرج عن التعريف كما لا تدخل في وضع الحقيقة حتى يحتاج إلى زيادة من غير تأويل لئلا تدخل في تعريف الحقيقة فذكر الوضع مطلقا في التعريفين يفيد المراد ؛ لأنه نفس الوضع الحقيقي لا أعم منه حتى يفيد فحينئذ لا حاجة إلى تقييد الوضع في تعريف الحقيقة بعدم التأويل ، وفي تعريف المجاز بالتحقيق.

وقول السكاكي : إن المجاز فيه تعيين اللفظ للدلالة بالقرينة يقتضي ظاهره أن المجاز موضوع وأن وضعه شخصى إذ ظاهره أن كل متكلم بالمجاز وضعه للمعنى المنقول إليه بالقرينة وبواسطة تأويل دخوله في جنس المشبه به إن كان استعارة ، وفيه أن المتكرر أنه موضوع بالنوع وأن التأويل يقتضي أن الموجود هو ادعاء انسحاب الوضع الأول على المعنى المنقول إليه وهو التحقيق لا أن ثم وضعا وتعيينا زائدا بعد الادعاء على إطلاق اللفظ على المعنى المجازي اللهم إلا أن يتسامح في إطلاق الوضع على الانسحاب بالادعاء وعلى النقل بالقرينة فيكون مطابقا لما تقدم من التأويل في الوضع وإلا لزم أن ثم وضعا لا تأويل فيه أي : لم يعدل فيه عن أصله بل هو صحيح ، لكن مع القرينة فتأمله.


وحاصل البحث المشار إليه بالنسبة إلى تعريف المجاز بقوله : ورد إلخ أن الوضع مختص عند الإطلاق بالوضع التحقيقي فلا حاجة إلى زيادة قوله : بالتحقيق فقوله : بالتحقيق زدناه للاحتراز عن الوضع بالتأويل لئلا تخرج الاستعارة ، لا يصح ؛ لأنه إنما يحترز عما تناوله اللفظ ، ولفظ الوضع لم يتناوله ، وأجيب بجوابين :

أحدهما : أن زيادة قوله : بالتحقيق لزيادة الإيضاح ، وذلك أن السكاكي يلاحظ كما ذكر أن الوضع المطلق ليس دالا إلا على الوضع بالتحقيق ولكن زاد لفظ التحقيق ليتضح المراد كل الاتضاح بمنزلة أن يقال : جاء الإنسان الناطق بالتصريح بفصله حتى لا يتطرق إليه إمكان حمله على غير معناه الحقيقي بادعاء قرينة تجوز مثلا ، وعلى هذا يكون قوله للاحتراز معناه لزيادة ظهور الاحتراز الذي كان في لفظ الوضع.

والثاني : أن تلك الزيادة يلاحظ فيها السكاكي أن تكون قرينة على أن اللفظ أريد به أصله ، وهو أن مطلق الوضع المستعمل أريد به الوضع الحقيقي لا الوضع الذي قد يستعمل فيه اللفظ أحيانا حتى صار معروضا للاشتراك بين معنيين أحدهما الأصلي والآخر التأويلي ، فصار قوله : بالتحقيق ليس للإخراج بل ليكون قرينة على أن مطلق الوضع المستعمل أريد به أصله لا لإخراج المعنى الذي عرضت مشاركته ، وهو الذي يؤدي لفساد الحد بمنزلة سائر الألفاظ المشتركة تستعمل في الحد فإنه يحتاج إلى قرينة على أنه أريد المعنى الفلاني لا غيره ، فعلى هذا يكون قوله للاحتراز معناه للاحتراس ، وهو دفع ما تتوهم إرادته لا أن معناه الاحتراز الحقيقي الذي هو لإخراج ما دخل ، والفرق بين الجوابيين أن الأول لوحظ فيه الوضع الحقيقي وأنه هو المراد فزيد لفظ التحقيق كالتفسير لئلا يتوهم نقله إلى المعنى المجازي ، والثاني لوحظ فيه أن مطلق الوضع ربما يصرف لغير أصله من معنى مشارك فزيدت لفظة" بالتحقيق" ليتبين به أن مطلق الوضع أريد به أصله لا ما يعرض له من المعنى المشارك ، ويكون قرينة على المراد كذا قيل.


ومن أنصف جزم بأن الجوابين يرجعان لشيء واحد ؛ لأن الوضع مسلم له أنه ليس موضوعا للقدر المشترك بين الوضعين حتى يكون متواطئا ، وإلا كان الجواب منع تسليم عدم تناول الوضع بالتأويل فحينئذ إن صح فيه الاشتراك فبالتحقيق قرينة على أن المراد بالوضع المطلق في التعريف أحد معنييه وهو التحقيقي فتكون زيادة لفظة بالتحقيق ضرورية ليتضح المراد اتضاحا محتاجا إليه ، فقد استوى الجوابان في هذا المعنى وعادا إلى أن الزيادة المذكورة لدفع الالتباس الموجود حقيقة ، وإن لم يصح فيه الاشتراك فهو في التأويلي مجاز فالزيادة المذكورة لدفع الحمل على المعنى المجازي بادعاء القرينة فتكون الزيادة لزيادة الوضوح والاحتراس لا للاحتراز وتكون غير ضرورية فالجوابان يعودان لشيء واحد على هذا الاعتبار أيضا ، وحمل الأول على تسليم أنه مجاز في التأويل فيكون القيد لزيادة الإيضاح لا للاحتراز ، وحمل الثاني على ادعاء الاشتراك فيكون الإيضاح لدفع الالتباس لا للاحتراز بناء على أن الاحتراز إخراج ما دخل قصور في كل من الجوابين لبقاء أحد الاحتمالين في كل منهما مع صحة العموم فيهما معا ، فينبغي أن تحمل زيادة الإيضاح حيث ذكر على ما يشمل دفع التجوز والاشتراك إن صح ، فيصير ما أجيب به واحدا وإلا كان فيه تطويل بل وقصور في كل على حدته فليتأمل.

قيل : ويخرج من هذا الجواب أعني الجواب بأن الزيادة ليست لدفع ما دخل بل للاحتراس لدفع إرادة التجوز أو لإزالة الالتباس بنفي الاشتراك بالقرينة جواب عن سؤال آخر ومعنى خروج الجواب بهذا عن جواب سؤال آخر ، أنا نجعل ذلك الجواب بعينه جوابا لذلك السؤال ، فهو باعتبار ذلك السؤال جواب آخر وذلك السؤال هو أن يقال : البحث السابق وجوابه مبنيان على أن الوضع المطلق لا يتناول الوضع بالتأويل ، ونحن نقول : لو سلمنا تناوله إياه لم نحتج إلى زيادة قيد التحقيق في تعريف المجاز ؛ وذلك لأن قوله فيه هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له لو اقتصر عليه ولم يزد قوله بالتحقيق لم يتعين أن يراد بالوضع المنفي في تعريف المجاز الوضع بالتأويل بل يقبل اللفظ أن يحمل على الوضع بالتحقيق فيحمل عليه ، ويفيد دخول الاستعارة في المجاز كما قررنا وحمله على الوضع بالتأويل فيكون المعنى أن المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بالتأويل فتخرج


الاستعارة ؛ لأنها مستعملة فيما وضعت له بالتأويل لا فيما لم توضع له بالتأويل تحكم ، وحمل اللفظ على المعنى المرجوح ولا يقال حمله على المعنى الحقيقي لتدخل إذ يصير المعنى أن المجاز : هو الكلمة المستعملة في غير المعنى الحقيقي وهي مستعملة في غير المعنى الحقيقي تحكم أيضا ، فيحتاج إلى زيادة التحقيق ؛ لأنا نقول : المرجح لهذا الحمل موجود وهو كون الوضع إذا أطلق يكون حقيقة في الحقيقي وإذا قبل أن يحمل على ما ذكر ووجد المرجح بأصل الوضع ، وأنه لا وجه لتخصيصه بالوضع التأويلي مع وجود المرجح لتخصيصه بالوضع التحقيقي لم يحتج إلى زيادة لفظ بالتحقيق لئلا تخرج الاستعارة والجواب الخارج مما تقدم أن لفظة بالتحقيق لم تزد لإخراج شيء دخل ، بل نقول : الوضع كم قلت أيها السائل محمول على الوضع بالتحقيق ولو حذف لفظها ، وإنما زيدت لدفع التوهم ولتكون قرينة على أن اللفظ باق على أصله ولم يرد منه المعنى الذي قد يشارك كذا قرر هذا الكلام في هذا المحل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا السؤال هو نفس السؤال الأول كما أن الجواب هو نفس الجواب الأول ، وتحقيق ذلك أن قوله : لو سلمنا أن الوضع يتناول الوضع بالتأويل إذا أراد أنه يتناوله على سبيل التواطئ لم يكن معنى لقوله بل يحمل على المعنى الحقيقي ؛ لأنه الأصل وهو الراجح ، وكذا إن كان المعنى أنه يتناوله بالاشتراك الحقيقي إذ لا وجه لترجيح أحد المتواطئين ولا أحد المشتركين ، فتعين الحمل على إرادة أنه يتناول على طريق المجاز المحتاج إلى القرينة ، وأنه إذا أطلق لا يتناوله وإذا حمل على ذلك فهو السؤال السابق بعينه ، وحاصل الجواب فيه على ما حررنا كما تقدم أن التعبير لدفع توهم التجوز وإن أراد السائل أنه في التواطئ والاشتراك يمكن الحمل على ما يصح ، فهو كلام فاسد ؛ لأن الوضع إذا كان متواطئا وقد نفى في تعريف المجاز وجب نفي جميع أفراد ما يصدق عليه ؛ لأن الألفاظ في التعريف تؤخذ على العموم وتعتبر مفاهيمها على العموم وإلا لم يوثق بتعريف لاحتمال أن يحمل على بعض ما يصدق عليه دون بعض ، وإذا كان مشتركا تكافأ فيه الاحتمالان فيكون التقييد محتاجا إليه أيضا ، ولا نسلم أنه يكون حينئذ للاحتراس إذ يصح هو دفع


التوهم بل هو للاحتراز إذ يصح أن يراد بالمشترك معناه وعلى تقدير أن لا يصح إرادتهما فدفع اللبس واجب فهو للاحتراز أقرب منه للاحتراس إذ لولاه وجد الخلل في التعريف فكون ما ذكر سؤالا مستقلا عما تقدم لم يظهر بعد ، وكذا كون لفظ التحقيق لا يحتاج إليه بعد تسليم الاشتراك غير مسلم وبه يعلم أن رد الجواب الثاني إلى الأول ليطابق السؤال إذ هو مبني على نفي التواطئ والاشتراك واجب فتأمله منصفا.

(و) رد أيضا مقتضي صنيعه في التعريف للمجاز (بأن التقييد باصطلاح التخاطب) الذي ذكر معناه في تعريفه دون الحقيقة (لا بد منه في تعريف الحقيقة) أيضا فما اقتضاه صنيعه في التعريفين من كون القيد الذي هو اصطلاح التخاطب محتاجا إليه في تعريف المجاز ؛ حيث ذكر فيه غير محتاج إليه في تعريف الحقيقة ؛ حيث لم يذكر فيه مردود بأنه محتاج إليه في التعريفين معا ؛ وذلك لأن وجه الحاجة إليه في تعريف المجاز هو أنه لو لم يذكر خرج نحو الصلاة تستعمل باصطلاح الشرع في الدعاء إذ يصدق عليها أنها مستعلمة فيما وضعت له في الجملة مع أنها مجاز ولو لم يذكر أيضا دخل اللفظ المذكور يستعمله اللغوي إذ يصدق عليه أنه استعمل في غير معناه في الجملة أي في اصطلاح الشرع مع أنه حقيقة ، ولو ذكر ذلك القيد لم يصدق عليها بالتقدير الأول أنها مستعملة فيما وضعت له ، بل فيما لم توضع له في ذلك الاصطلاح فدخلت في حد المجاز ، ولم يصدق عليها بالتقدير الثاني أنها استعملت في الغير إذ هي مستعملة في الموضوع في ذلك الاصطلاح وهو اللغة فلم يدخل في حد المجاز بل بقي على أصله من كونه حقيقة ، وإذا كان هو الموجب لذكر ذلك القيد في حد المجاز فكذلك في حد الحقيقة ؛ لأنه إذا لم يذكر دخل في حدها ما أدخل بذكره في حد المجاز وهو الصلاة يستعملها المتكلم باصطلاح الشرع في الدعاء وخرج عن حدها ما أخرج بذكره عن حد المجاز كالصلاة أيضا تستعمل في الدعاء باصطلاح اللغة ، أما دخولها على الأول مع أنها مجاز فلأنه يصدق عليها أنها كلمة استعملت فيما وضعت له باصطلاح التخاطب الذي هو الشرعي ، وأما الثاني فلأنه يصدق عليها أنها كلمة استعملت في غير ما


وضعت له في الجملة فيصح دخولها في المجاز بهذا الاعتبار وخروجها عن حد الحقيقة ، وإذا زيد في اصطلاح التخاطب خرجت عن المجاز ودخلت في الحقيقة جزما ؛ لأنها فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب الذي هو اللغة. فقد تقرر بما بسط أن اصطلاح التخاطب يحتاج التقييد به في التعريفين لئلا يدخل بإسقاطه في أحد التعريفين مع خروج عن الآخر ويخرج عن أحدهما ما دخل في الآخر ، والمطلوب عدم ذلك الدخول والخروج ، وينبغي أن يعلم أن هذا القيد لا يصح بعبارة السكاكي إذ لو قال في تعريف الحقيقة : استعمالا في الموضوع بالنسبة إلى نوع مجازها كان دورا ؛ لأنه عرف المجاز بذكر الحقيقة والحقيقة بذكر المجاز وهو ظاهر ، ويمكن الجواب بأنه استغنى عنه في حد الحقيقة ؛ لأن الحيثية تفيد ما يفيده والحيثية مرعية عرفا ولو لم تذكر في الأمور التي يكون مدلولها واحدا ، وإنما اختلفت فيه بالاعتبار فإذا عرفت تلك الأمور في ذلك الأمر الواحد فإنما يكون نفس أحدها دون الآخر من حيث ما صدق عليه مما عرف به أحد تلك الأمور ، مثلا : اللفظ الواحد يجوز أن يصدق عليه أنه مجاز وحقيقة وكناية ، فكونه مجازا باعتبار كونه موصوفا بما اعتبر في المجاز ، وهو الاستعمال في غير موضوعه الذي هو اللازم فقط ، وكونه حقيقة باعتبار كونه موصوفا بما اعتبر في الحقيقة وهو الاستعمال في نفس الموضوع ، وكونه كناية باعتبار كونه موصوفا بما اعتبر في الكناية وهو الاستعمال في غير الموضوع مع صحة إرادة الموضوع فإذا قيل : المجاز الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له فقط ، كان المراد هو تلك الكلمة من تلك الحيثية وهي كونها في غير الموضوع له فقط ؛ إذ بذلك تخالف نفسها بالاعتبار الآخر وإذا قيل : الحقيقة هي الكلمة المستعملة في الموضوع له كان المراد أنه تلك الكلمة من تلك الحيثية أي : من كونها استعملت في الموضوع له فقط ؛ إذ بذلك يكون غير المجاز والكناية وإن كان واحدا في نفسه ، وإذا قيل : الكناية هي الكلمة المستعملة في غير الموضوع له مع جواز إرادة المعنى الموضوع كان هو تلك الكلمة بعينها من تلك الحيثية أي : من كونه مستعملا في الغير مع صحة الموضوع ؛ إذ بذلك يخالف نفسه موصوفا بمعنى غير الكناية ، فعلى هذا يكون قوله في


تعريف الحقيقة : هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له مفيدا للمراد من غير حاجة لزيادة قيد اصطلاح التخاطب إذ مفاده حينئذ أنها هي المستعملة فيما وضعت له من حيث إنها وضعت له ، ويؤيد ذلك تعليق الاستعمال بما يشعر بكونه علة لذلك الاستعمال ؛ لأن الوضع يناسبه الاستعمال ضرورة أن اللفظ إنما يوضع لمعنى يستعمل فيه ؛ فإن تعليق الحكم على وصف مناسب يشعر بعليته ، كما إذا قلت : الجواد لا يخيب السائل أي : هو من حيث إنه جواد لا يتصف بالتخييب ؛ لأن المنافي للتخييب هو الجود فهو العلة في نفيه ، وأما لو روعي مصدوقه بعد مفارقة الوصف وهو كونه إنسانا صح أن يخيب لعروض البخل ، فتسليم القضية إنما هو باعتبار الوصف ، وكذا إذ قلت : أطعم المسكين كان تعليق الأمر بالإطعام بوصف المسكين يشعر كما لا يخفى بعلية المسكنة ، وإذا تقرر رعاية الحيثية في الأمر الواحد الذي أريد بيان تلك الأمور المختلفة فيه بالاعتبار ، وأكد ذلك في التعريف المذكور تعليق الاستعمال فيه على وصف يناسب كونه علة له وهو الوضع وكان المعنى أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنها وضعت له خرج عن الحد جزما مثل الصلاة تستعمل بعرف الشرع في الدعاء إذ لم تستعمل من حيث الوضع بل من حيث إن المعنى جزء الموضوع أو لازمه وهو غير الموضوع له فكانت مجازا ، ودخل فيها جزما لفظها يستعمل في الدعاء باصطلاح اللغة ؛ لأنها استعملت فيه من حيث الوضع فعلى هذا لا يحتاج إلى اصطلاح التخاطب ؛ لأن الغرض منه الذي هو إخراج وإدخال مثل ما ذكر جزما حاصل بدونه ، وإنما لم يكتف في حد المجاز بالحيثية ؛ لأن مقتضاه على ما ذكر في تعريفه أن الاستعمال فيه في غير الموضوع من حيث إنه غير الموضوع ولم يستعمل في القصد الأول في الغير من حيث إنه غير بل من حيث إنه جزء أو لازم كما تقدم في صدر الفن ، وإن كان الجزء أو اللازم غيرا أيضا لكن الحيثية التي بها وقع التخالف بينه وبين الحقيقة بالمطابقة هو كونه في جزء أو لازم فزيد في اصطلاح التخاطب لإخراج ما ذكر بما هو أصرح وإن كان يمكن الإخراج برعاية الغيرية أيضا ، ولدفع توهم أن الغيرية هي الحيثية المرعية أصالة وذلك


لأن الباب باب المجاز فناسبه ارتكاب ما فيه تأكيد تحصيل المراد من التعريف ودفع توهم أن الغيرية هي الحيثية المقصودة بالذات في المجاز ، وقولنا : إن الحيثية تراعى في الأمور التي تختلف بالاعتبار في الشيء الواحد ليظهر كونه موصوفا بأحدهما بالاعتبار الخاص به وإلا اختلطت فيه بسبب صدقها جميعا فيه من حيث هو وإنما تمايزت فيه بالحيثيات فيجب رعايتها وإنما قلناه احترازا من الأمور المتباينة التي لا تجتمع في الشيء الواحد بلا حاجة فيها لرعاية الحيثية إذ لا التباس فيها لعدم اجتماعها ، فإذا عرفت الإنسان بالناطق ، والفرس بالصاهل مثلا لم يحتج إلى أن يراعى في الإنسان من حيث إنه ناطق لإخراج الإنسان الذي هو فرس من حيث إنه صاهل ولا أن يراعى الفرس من حيث إنه صاهل إذ لا التباس بين الصاهل والناطق في المصدوق ، وذلك ظاهر فإن قلت : رعاية الحيثية في نحو ما ذكر من التعريف إحالة على أمر خفي فإنه بعد تسليم أنه عرفي يراعى ولو لم يذكر يكون خفيا إلا على خواص أهل العرف في الحدود ، والمطلوب في التعريف البيان البليغ فيجب ذكر الحيثية في الحد وإلا كان معيبا بالإجمال ، قلت وإن كان الأمر كذلك لكن الكلام مع من له دخل في العرف وأيضا هذا نهاية ما يمكن من الاعتذار ، ولذلك قلنا : يمكن الجواب ولم نقل هذا هو الجواب جزما ، وأما الجواب بأنه أسقط اصطلاح التخاطب في أحد التعريفين اتكالا على الآخر فهو مردود بأنه لا يتكل في التعريف على كلام مستقل عنه وكذلك الجواب بأن اللام في قوله في تعريف الحقيقة من غير تأويل في الوضع لام العهد والمعهود هو الوضع الذي وقع به التخاطب مردود أيضا بأن المعهود هو الوضع المدلول لقوله : فيما وضعت له ، ولا شك أنه إنما يدل على مطلق الوضع ؛ لأن الاستعمال إنما يفتقر لمطلق الوضع الذي هو أعم من الوضع الذي روعي في اصطلاح التخاطب أو من غيره ، وإذا كان ذلك هو المعهود وهو أعم فلا إشعار له بالأخص الذي هو الوضع المرعى في اصطلاح التخاطب ، فلا يخرج به ما ذكر إذ معنى الكلام حينئذ أن الحقيقة : هي الكلمة المستعملة في مطلق ما وضعت له من غير تأويل في ذلك الوضع المطلق ، ولا شك أن الصلاة إذا استعملت في عرف الشرع في


الدعاء صدق عليها أنها كلمة استعملت في مطلق ما وضعت له وهو اللغة من غير تأويل في ذلك الوضع المطلق الصادق باللغوي في الحالة الراهنة ، فالعهدية التي وجدت في التعريف ليس فيها عهدية الوضع المعتبر في التخاطب فلا بد من التصريح بها ، وإلا فالكلام على أصله إذ لا دليل على غير أصله فيبقى البحث كما هو.

وقد اعترض على تعريف المجاز أيضا بأنه يتناول الغلط إذ لو قيل : خذ هذا الكتاب مشيرا إلى فرس صدق أن الكتاب استعمل في غير ما وضع له مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ، وتلك القرينة هي الإشارة لغير معناه وأجيب بأن قوله مع قرينة على إسقاط المضاف أي : مع نصب القرينة ، ولا شك أن النصب يستدعي تقدم الاختيار في المنصوب والمشعور به ، وذلك مفقود ، نعم إن كان المعنى مع وجود قرينة مانعة دخل الغلط قطعا فى تعريف المجاز فليتأمل.

ثم أشار أيضا إلى تقسيم في المجاز للسكاكي تمهيدا للاعتراض عليه فقال (وقسم) السكاكي (المجاز اللغوي) إلى الراجع إلى حكم الكلمة أي إلى إعرابها كما في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) أي : أهلها ، وسيأتي وإلى الراجع إلى معناها وهو اللفظ المستعمل في غير معناه ثم قسم الراجع إلى المعنى إلى قسمين : أحدهما ما تضمن الفائدة ، والآخر ما لم يتضمنها ، وعنى بما لم يتضمن الفائدة اللفظ الدال على المقيد إذا أطلق على المطلق كالمرسن فإنه أنف البعير يستعمل في أنف الإنسان من حيث إنه مطلق أنف لا من حيث تشبيهه به في الانبطاح ، مثلا قال : فإن إطلاق المقيد على المطلق لا فائدة له وفيه نظر ؛ لأنه إن عني فائدة مخصوصة كالمبالغة في التشبيه عند اقتضاء المقام إياه كما في الاستعارة وكإطلاق اسم الجزء على الكل حيث أريد إقامته مقامه للإشعار بأن لذلك الجزء خصوصية في الكل ، وأنه لا يتم إلا به

__________________

(١) يوسف : ٨٢.


كالعين يطلق مجازا مرسلا على الربيئة (١) فهو مسلم ، ولا يفيد نفي مطلق الفائدة حتى يكون قسيما لكل ما يفيد هاتين الفائدتين أو غيرهما ، وإن أريد أنه لا فائدة فيه أصلا لم يسلم ؛ فإن المجاز مطلقا لا يخلو عن فائدة ولو كانت تلك الفائدة هي أن الدلالة على معناه كدعوى الشيء بالدليل المفيد للتقرر في الذهن حيث تضمن ملاحظة الأصل إذ بذلك يحصل مع القرينة والعلاقة الانتقال منه إلى لازمه ، ثم قسم المعنوي المتضمن للفائدة وقد عرفت أنه يشمل بعض المجاز المرسل وغيره (إلى الاستعارة وغيرها) حيث قال : إن تضمن ذلك المعنوي الذي فيه الفائدة المبالغة في التشبيه كالأسد يستعمل في الرجل الشجاع فهو استعارة وإن لم تضمنها ولكن فيه فائدة أخرى كما تقدم في إطلاق العين على الربيئة فهو غير الاستعارة وهو لبعض أقسام المجاز المرسل.

تعريف السكاكى للاستعارة

(وعرف) السكاكي (الاستعارة) التي هي أحد قسمي ذي الفائدة باعتبار كونها مصدرا ؛ لأن معرفة المشتق منه تغني عن تعريف المشتق الذي إنما يعرف باعتبار المشتق منه فقال الاستعارة (ب) اعتبار أنها مصدر هي (أن تذكر أحد طرفي التشبيه) أي : أن تذكر اسم أحد الطرفين (وتريد به) أي : باسم ذلك الطرف المذكور الطرف (الآخر) أي المعنى الذي هو الطرف الآخر المتروك اسمه وإنما قدرنا الاسم في الطرف المذكور ، وفسرنا الآخر بالمعنى ؛ لأن المذكور هو اللفظ والذي يراد باللفظ هو المعنى (مدعيا) أي : تذكر اسم الطرف مرادا به الآخر حال كونك تدعي بقرينة حالك ؛ حيث سميت المشبه باسم المشبه به أو العكس.

(دخول) أي تدعى دخول ذلك (المشبه في جنس) ذلك (المشبه به) وبتلك الدعوة الحالية صح إطلاق الثاني على الأول وصح إطلاق اسم الأول على الثاني لاشتراكهما

__________________

(١) عين القوم الذي يربأ لهم فوق مربأ من الأرض ، وهو الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه.


بالدعوى في جنس المسمى وبذلك يعلم أن معنى وضع المجاز مع القرينة ادعاء انسحاب حكم الوضع الأول على المشبه به لا أن ثم وضعا أي : تعيينا حسيا زائدا على ذلك الادعاء إذ لا دليل عليه سواء قلنا : إن المجاز موضوع نوعا أو شخصا ؛ لأن النوع لا بد من شخص يتحقق فيه ، والذي حصل بالتحقيق في الشخص الذي حصل به وضع النوع هو ذلك الادعاء وقد تقدم الإشارة إلى هذا فليتأمل.

ولما كان هذا الكلام يشمل ما إذا ذكر اسم المشبه به وأريد به المشبه ، ويشمل ما إذا ذكر اسم المشبه وأريد به المشبه به احتيج إلى مثالين فالأول : هو أن تذكر اسم المشبه به وتريد به المشبه كما تقول في الحمام أسد وأنت تريد به الرجل الشجاع مدعيا أنه من جنس الأسد ، فلما ادعيت دخول المشبه وهو الرجل الشجاع في جنس المشبه به وهو الأسد أثبت له ما يخص المشبه به وهو اسم جنسه أي حقيقته الذي هو لفظ الأسد ، وقد تقدم أنك تجعل لفظ الأسد بذلك الادعاء له فردان متعارف وغيره ، والقرينة إنما هي لنفي المتعارف لا لنفي الحقيقة عن المستعمل فيه وإلا كان ذلك منافيا للإصرار على أن له تلك الحقيقة.

والثاني : وهو أن تذكر لفظ المشبه وتريد به المشبه به كما تقول أنشبت المنية أظفارها بفلان وأنت تريد بالمنية التي هي اسم المشبه معنى السبع الذي هو المشبه به ولكن لا تريد بها السبع الحقيقي بل السبع الادعائي ؛ لأنك تدعي السبعية بمعنى المنية وبهذا يعلم أن قول السكاكي أن تذكر أحد الطرفين وتريد الآخر يعني الآخر حقيقة أو ادعاء فلما أطلقت لفظ المنية على السبع الادعائي وهو معنى المنية المدعي لها السبعية أثبت لها ما يخص السبع المشبه به وهو الأظفار ، ولما أثبت لها الأظفار التي هي للسبع الحقيقي صارت مع الأظفار كالسبع معها في أنها كذلك ينبغي أن تكون لأنه كذلك ينبغي أن يكون ؛ فأبرزت في الأظفار بروز المستعير في العارية كما برز الرجل الشجاع في لفظ الأسد بروز المستعير في العارية فإنه يساوي صاحبها في التلبس ، وإنما اقترنا في أصل التملك نحو هذا الكلام عند


السكاكي ، وهو يشعر بأن الأظفار في المثال الثاني الذي هو مثال الاستعارة بالكناية هي المستعارة ؛ لأنه شبهها مع المنية بالعارية وقوله أعني السكاكي ويسمى المشبه به سواء كان هو المذكور أو المتروك مستعارا منه ، ويسمى اسم المشبه به مستعارا ويسمى المشبه أى : المعنى الذى شبه بالمشبه به مستعارا له يقتضى أن المستعار هو لفظ المشبه به سواء ذكر كما في المثال الأول أو ترك كما في المثال الثاني ، ويكون معنى كونه مستعارا أنه يستحق الاستعارة اللفظية وتركت مكنيا عنها بلوازمه كما فهم عن الأقدمين كما تقدم وسيأتي للسكاكي ما يخالف مقتضى الكلامين وهو أن المستعار في الاستعارة بالكناية هو لفظ المنية المعبر به عن الأسد الادعائي ، وهو مقتضى قوله أولا أن تذكر اسم أحد الطرفين وتريد به الآخر ؛ وذلك لأن الاستعارة فسرها بالذكر فمتعلق الذكر هو المستعار فتقرر بجموع ما ذكر أن في كلامه بالنسبة للاستعارة بالكناية خبطا.

تقسيم السكاكي للاستعارة

(وقسمها) أي وقسم السكاكي الاستعارة (إلى المصرح بها والمكنى عنها) أي : قسمها قسمين أحدهما ما يسمى استعارة مصرحا بها والآخر ما يسمى مكنيا عنها ، وعنى بالمكنى عنها أن يكون اسم الطرف المذكور هو لفظ المشبه به كما تقدم في أنشبت المنية أظفارها (وعنى بالمصرح بها أن يكون الطرف) أي : اسم الطرف المذكور من طرفي التشبيه (هو المشبه به) أي هو اسم المشبه به ولا يخفى ما في تسمية الكون بالمصرحة والمكنى عنها من التسامح ؛ لأن المصرح به والمكنى عنه هو اللفظ لا كونه (وجعل) السكاكي (منها) أي جعل من الاستعارة المصرح بها قسمين (تحقيقية) ويأتي ذكر ما فسرها به (وتخييلية) وسيأتي أيضا ما فسرها به ، ولم يقل المصنف قسمها إلى قسمين المشعر بانحصارها في القسمين ، بل عدل إلى قوله : جعل منها كذا وكذا المشعر ببقاء شيء آخر وراء التخييلية والتحقيقية ، وذلك أن السكاكي ذكر أن للاستعارة المصرح بها قسما آخر سماه المحتملة للتحقيق والتخييل فعبر بما يشعر ببقاء شيء آخر وهو ذلك القسم ، ومثل ذلك المحتمل ببيت زهير


المتقدم وهو قوله :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرى أفراس الصبا ورواحله

فقد وجه فيه وجهين كما تقدم ، أحدهما : أن يكون شبه الصبا بالجهة المقضى منها الوطر وأضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية فعليه تكون الأفراس والرواحل تخييلا وتكون قرينة للمكنى عنها.

والآخر : أن يكون شبه أسباب استيفاء اللذة أوان الصبا بالأفراس والرواحل فتكون الأفراس والرواحل تحقيقية ، وذكر الصبا على هذا تجريد فهذه محتملة للتحقيقية والتخييلية فتكون قسما خارجا عنهما لا يقال هي داخلة في التحقيقية أو التخييلية ؛ لأنا إذا قلنا : تنقسم الاستعارة التصريحية إلى التحقيقية فمعناه إلى التحقيقية جزما أو احتمالا ، وإلى التخييلية جزما أو احتمالا ؛ لأنا نقول : المتبادر من إطلاق لفظ التحقيق والتخييل ما يكون كذلك جزما لا احتمالا ؛ لأن أصل إطلاق اللفظ وجود معناه وتسميته به جزما وإطلاقه على ما يحتمل أن يوجد فيه معناه فتكون التسمية به احتمالا خلاف المتبادر ، فلهذا عدل إلى ما يقتضى أن ثم قسما آخر وهو قسم الاحتمال رعاية لأصل ما يفيده بالتبادر إطلاق اللفظ إذ لا يفهم خلاف ذلك إلا بقرينة أو تصريح فلو لم يقل ما ذكر فات التنبيه على وجود قسم زائد ، نعم يرد ههنا أن يقال هذا التقسم ، أعني قولنا هذه الاستعارة مجزوم بتحقيقيتها وهذه مجزوم بتخييليتها وهذه محتملة للتخييلية والتحقيقية تقسيم في الأمثلة ؛ لأن المحتملة مثال وبيت والمجزومتان كذلك وليس كلامنا في تقسيم الأمثلة إلى ما يجزم فيه بأن استعارته تحقيقية وإلى ما يجزم بأنها تخييلية وإلى ما يحتمل كلا منهما وإنما كلامنا في تنويع نفس الاستعارة التصريحية وهي منحصرة في نوعي التخييل والتحقيق والمثال المحتمل غير خارج عن النوعين فافهم.

ومما ينظر فيه هنا اجتماع التصريحية والمكنى عنها في مثال واحد هل يمكن باعتبارين كما صح وجود التخييلية والتحقيقية باعتبارين قيل : إنه موجود في مثال واحد


كما في قوله تعالى (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ)(١) فإن اللباس نقل لما يلابس الإنسان من الأوجاع فلعمومه البدن شبه باللباس فكان استعارة تصريحية ومن حيث إن تلك الأوجاع فيها أذى شبهت بشيء مر يذاق فأضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية ، وذكر الإذاقة تخييل ، وعلى هذا يكون اجتماع التصريحية بالمكنى عنها أقوى من اجتماع التحقيقية والتخييلية ؛ لأن الحمل على إحداهما ينافي الحمل على الأخرى بخلاف التصريحية والمكنى عنها كما في المثال تأمله.

(وفسر) السكاكي الاستعارة (التحقيقية بما مر) أي : بالاستعارة التي هي لفظ المشبه ينقل للمشبه المتروك لفظه والحال أن معنى المستعار له متحقق حسا كرأيت الأسد في الحمام ، أو متحقق عقلا كوقع في قلبي نور أضاءت به أرجاء الحواس ، فإن المنقول إليه لفظ الأسد وهو الرجل الشجاع محسوس ، والمنقول إليه لفظ النور وهو العلم معقول محقق وذلك ظاهر.

(وعد) السكاكي (التمثيل) أي : الاستعارة التمثيلية ، وقد تقدم أنها تسمى التمثيل على سبيل الاستعارة وذلك كما في قوله أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فإنه تقدم أنه يستعار مجموعه لحال المتردد في أمر وقد تقدم بيان ذلك.

(منها) أي : عد التمثيل من الاستعارة التحقيقية وذلك أنه لما ذكر القسم الذي هو الاستعارة المصرح بها للتحقيقية على سبيل القطع بناء على ما ذكر من أن ثم قسما من التصريحية ليس هو على سبيل القطع قال ومن الأمثلة يعنى من أمثلة التحقيقية على سبيل القطع استعارة وصف إحدى صورتين منتزعتين من أمور لوصف صورة أخرى ، وعنى بالوصف الأول اللفظ ؛ لأنه هو المستعار وبه تتعلق الاستعارة وعنى بالوصف الثاني البيان ؛ لأن الوصف يطلق عليه وهو المناسب هنا ، والتقدير ومن الأمثلة استعارة لفظ إحدى صورتين منتزعتين من أمور لبيان صورة أخرى ومن المعلوم أن الأولى أن يقول لبيان الصورة الأخرى بالتعريف ؛ لأن التنكير يوهم أن المستعار لها غير إحدى الصورتين المنتزعتين

__________________

(١) النحل : ١١٢.


والفرض أن لفظ إحداهما استعير للأخرى لا لغيرها ، وذلك كما تقدم في استعارة اللفظ الدال على حالة الذي يريد الذهاب فيقدم رجلا ثم يريد الرجوع فيؤخرها ، وذلك اللفظ هو قولنا أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى لبيان حالة المتردد بين فعل الأمر وتركه ، ومعنى بيانها الدلالة عليها ، وقد تقدم أن تلك الحالة في الطرفين انتزعت من متعدد وذلك ظاهر.

(ورد) عده التمثيل من الاستعارة التي هي من قسم المجاز المفرد (بأنه) أي رد ما ذكر بأن التمثيل المعدود من الاستعارة (مستلزم للتركيب) إذ التمثيل كما تقدم أن ينقل لفظ حالة تركيبية إلى حالة أخرى مثلها كما في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، وإذا كان التمثيل مستلزما للتركيب (المنافي للأفراد) فلا يصح عده أي التمثيل من الاستعارة كما فعل السكاكي ؛ وذلك لأن الاستعارة من أقسام المجاز المفرد فهي تستلزم الإفراد ؛ إذ هو وصف غير مفارق لها والتمثيل يستلزم التركيب ؛ إذ هو وصفه الذي لا يفارق ، فلو كانت الاستعارة تمثيلا لزم كونها موصوفة بالإفراد والتركيب معا وهما متنافيان فيلزم من تنافي هذين اللازمين تنافي ملزوميهما أعني الاستعارة والتمثيل فلا يجتمعان في شيء واحد بأن يكون استعارة وتمثيلا ، كما اقتضاه عده التمثيل استعارة إذ لو اجتمعا اجتمع لازماهما المتنافيان وذلك ظاهر.

وأجيب عن هذا بأن السكاكي إنما عد التمثيل من مطلق الاستعارة الشاملة للإفرادية والتركيبية ؛ لأن مطلق الاستعارة التصريحية التحقيقية أعم من الاستعارة التي هي مجاز مفرد ، وإذا كان العد إنما هو من مطلق الاستعارة الشاملة لما يوجد فيه التركيب ، فعد التمثيل منها صحيح إذ غايته أن مطلق الاستعارة تكون تمثيلا مستلزما للتركيب وهو صحيح لصحة ملاقاتها حينئذ للتركيب ، وإنما يرد البحث لو عدها من الإفرادية فإن قيل : السكاكي قد قسم المجاز المتضمن للفائدة كما تقدم إلى الاستعارة وغيرها بعد أن سماه لغويا واللغوي عرفه كما تقدم بأنه هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ، ومن المعلوم أن المتضمن للفائدة قسم حينئذ من المفرد ، وإذا كانت الاستعارة قسما من المتضمن ، وقد تقرر


أن قسم الشيء أخص منه ، فيلزم كون الاستعارة أخص من المفرد فتكون كل استعارة مجازا مفردا فحينئذ تستلزم الإفراد لكونها أخص من المفرد ؛ لأن لازم الأعم لازم للأخص فيلزم من عدها تمثيلية عدها وهي مفردة مما يكون مركبا ، وهو فاسد فلا يصح دفع البحث بما ذكر.

قلت : لا يلزم من تقسيم المجاز المفرد إلى الاستعارة وغيرها وجعل الاستعارة قسما من المفرد أن تكون أخص من المفرد فتكون كل استعارة مجازا مفردا ، وذلك أنه يصح تقسيم الشيء إلى ما هو في نفسه ليس أخص من المقسم بل بينه وبين المقسم عموم وخصوص من وجه ، كما إذا قسمت الأبيض إلى الحيوان وغيره فإن الحيوان الذي قسمت إليه الأبيض بينه وبين الأبيض عموم وخصوص من وجه فيجتمعان في الحيوان الأبيض وينفرد الأبيض في نحو الجص وينفرد الحيوان في نحو الزنجي فعلى هذا تقسيم المفرد إلى الاستعارة وغيرها لا يستلزم كون الاستعارة أخص منه بل يجوز أن تؤخذ في التقسيم على أن بينها وبينه عموما من وجه فيجتمعان في نحو : الأسد يطلق على الرجل الشجاع بواسطة المبالغة في التشبيه وينفرد المجاز المفرد في نحو : العين تطلق على الربيئة مجازا مرسلا ، وتنفرد الاستعارة عن المفرد في نحو : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا صح كون الاستعارة ليست أخص من المفرد بل بينها وبينه عموم من وجه صح تقسيمها إلى التمثيل وغيره ، فتستلزم التركيب في التمثيل ، وتستلزم الإفراد في غيره فيكون صدق المجاز المفرد عليها إنما هو في المفرد التي تجتمع معه فيه لا فيما تنفرد عنه فيه ، وإنما قلنا : لا يلزم أن يكون القسم أخص في نفسه أي من حيث ذاته إشارة إلى أنه من حيث إنه قسم لا بد أن يكون أخص لأن الحيوان من حيث إنه قسم إنما يصدق على الحيوان الأبيض ، لكن اللفظ الذي عبر به عنه يجوز أن لا يكون مفهومه أخص كما في المثال ، على أنا إنما نحتاج إلى هذا في دفع البحث أعني : جعل الاستعارة التي انقسم المجاز إليها أعم من الاستعارة في المفرد إذا ارتهنا بأن المجاز اللغوي أراد به السكاكي المجاز المفرد المفسر بالكلمة إلخ.


وأما إن تبين أنه أراد به مطلق المجاز فتقسيمه إلى الاستعارة وغيرها ، ثم تقسيم الاستعارة إلى التمثيلية وغيرها لا يضر ، لأن المقسم حينئذ يصدق بالمركب الذي هو بعض من الاستعارة فلا يلزم اجتماع الأفراد من حيث إن المقسم مفرد والتركيب من حيث كون المقسم مركبا ، وقد تبين من تقسيم السكاكي أنه أراد بالمجاز ما هو أعم حيث قال بعد تعريف المجاز : إن المجاز عند السلف يعني مطلق المجاز لا المعرف قسمان لغوي وعقلي واللغوي قسمان : راجع إلى معنى الكلمة يعني أنه نقل من معنى إلى معنى آخر ، وراجع إلى حكم الكلمة يعني أن إعرابه جعل موضع إعراب آخر بنقصان كلمة أو زيادتها مع بقاء اللفظ على معناه كما يأتي ، والراجع إلى المعنى قسمان خال عن الفائدة وقد تقدم تمثيله بالمقيد يطلق على المطلق ، ومتضمن لها ، والمتضمن للفائدة قسمان : استعارة وغير استعارة فقد ذكر من جملة أقسام المجاز العقلي والراجع إلى حكم الكلمة وبالضرورة أن كلا منهما ليس هو المعرف بالكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ، أما كون العقلي ليس من هذا المجاز المعرف ، فلأنه هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له فليس بداخل في جنس الكلمة أصلا وأما أن الراجع إلى حكم الكلمة ليس من هذا المعرف فلأن الإعراب الذي هو محل التجوز إن قلنا إنه معنوي فليس داخلا في جنس الكلمة قطعا ، وهو ظاهر وإن قلنا : إنه لفظي فلا يصدق عليه لفظ الكلمة أيضا ؛ لأن المراد بالكلمة ما يستقل والإعراب لا يستقل ولو قيل : إنه لفظي ، وإذا كان هذان القسمان أعني الراجع إلى حكم الكلمة والعقلي ليسا داخلين في المجاز المعرف بالكلمة الخ وقد أدخلهما السكاكي في تقسيم المجاز وجب أن يراد بالمجاز ما هو أعم من المفرد المعرف بما ذكر إذ لو أريد المعرف لزم إدخال أقسام في الشيء وليست منه جميعا ، وإذا أريد مطلق المجاز فالجاري على أصل التقسيم ، والذي يحمل عليه التقسيم متى أمكن استيفاء جميع الأقسام بالعموم أو بالخصوص ، ومن جملة أقسام المجاز المركب والذي يناسب إدخاله فيه هو القسم المتضمن للفائدة كما لا يخفى ؛ لأن المركب فيه فائدة المبالغة في التشبيه فيجب أن يراد بالمجاز المتضمن للفائدة ما هو أعم من المركب


لاستيفاء أقسام مطلق المجاز حيث أريد إجراء التقسيم على أصله الممكن إذ لا وجه للعدول عنه ولا يضر في ذلك تعريف ذلك المجاز اللغوي بالكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ، لأن التعريف قصد به ما ينصرف له اللفظ عند الإطلاق كثيرا ، وإلا فالمجاز اللغوي لنا أن نطلقه على ما يعم الحكمي والإفرادي والتركيبى والإسنادي ، لأن ذلك كله مجاز وأصله اللغة إذ فيها اعتبر لا العقل المحض ، وإذا تقرر ما ذكر لم يرد البحث ، لأن المجاز المتضمن للفائدة لا تستوفى أقسامه ، والاستيفاء مطلوب في أصل التقسيم إلا إذا قسم إلى مطلق الاستعارة الشاملة للإفرادية والتركيبية لا إلى الاستعارة المخصوصة بالمفرد ، حتى يرد البحث إذ لو لم يرد مطلق الاستعارة اختل التقسيم إذ هي قسمة الأخص إلى معناه وغيره وهو فاسد مع أن أصل التقسيم يأبى التخصيص. فتحصل من هذا أن الجواب بأحد أمرين إما أن يلتزم أن المراد بالمجاز المتضمن للفائدة الراجع إلى معنى الكلمة هو المجاز المفرد فتجعل الاستعارة مرادا بها مطلق بناء على أنه قد يعبر عن قسم الشيء بما يكون بينه وبين المقسم عموم من وجه وهو الجواب الأول أو نجعل المراد به مطلق المجاز ، كما هو صريح عبارة المفتاح فيجعل التقسيم على أصله من الاستيفاء فيلزم أن يراد بالمجاز المتضمن للفائدة ما يعم المركب فيكون تقسيم الاستعارة إلى التمثيل المركب وغيره لا ينافيه فافهم والله الموفق بمنه وكرمه.

وقد أجيب عن هذا البحث بأجوبة أخرى : أحدها : أن المراد بالكلمة في تعريف المجاز اللفظ الشامل للمفرد والمركب نحو (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا)(١) أي : كلامه ، وإذا أريد اللفظ دخلت الاستعارة التمثيلية في التقسيم ، ورد بأن إطلاق الكلمة على اللفظ من إطلاق الأخص في عرف العربية على الأعم وهو مجاز يحتاج إلى قرينة ولا قرينة.

ثانيها : أنا لا نسلم أن التمثيل يستلزم التركيب بل هو استعارة مبنية على التشبيه التمثيلي فحيثما صح ذلك التشبيه صحت الاستعارة التمثيلية لانبنائها عليه ؛ إذ لا يمنع من

__________________

(١) التوبة : ٤٠.


الاستعارة فيما صح التشبيه إلا الغموض وكونها في ذلك التشبيه كالألغاز ، والأصل عدم ذلك في كل فرد من أفراد التشبيه ، وإذا صحت الاستعارة المذكورة فيما صح فيه التشبيه المذكور بناء على الأصل والتشبيه يجوز أن يكون طرفاه مفردين كما تقدم في تشبيه الثريا بالعنقود وكما في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) لأن المثل لفظ مفرد وقد شبه بالمثل وهو مفرد فيصح في نحو ذلك مما كان طرفاه مفردين والتشبيه فيه تمثيل أن ينقل لفظ المشبه به إلى المشبه فيكون استعارة تمثيلية يكون تشبيهها تمثيلا ، وقد تقدم أن الاستعارة التمثيلية هي ما يكون تشبيهها تمثيلا فعلى هذا يصح عد الاستعارة تمثيلا مع إفرادها إذ لا تستلزم التركيب حينئذ ، ورد بأن غايته أن الاستعارة لا تستلزم أبدا التمثيل المركب لصحة أن تكون تمثيلا مفردا كما لا يصح اتفاقا أن تكون تمثيلا مركبا ، وظاهر التقسيم أن كل تمثيل من أقسام المجاز المفرد ، ولا يصح ذلك في المركب فيختل التقسيم على ظاهره ، وذلك كاف في البحث وحمله على تمثيل المفرد حمل على نادر يحتاج إلى قرينة إذ الأكثر في التمثيل التركيب نعم يصح هذا الجواب دفعا لكلام المصنف ؛ لأنه عند المؤاخذة فظاهره يقتضي أن التمثيل لا ينفك عن التركيب لقوله مستلزم للتركيب والجواب يقتضي انفكاكه عنه ، وإنما قلنا : لأنه عند المؤاخذة فظاهره إشارة إلى أنه يمكن حمله على غير الظاهر بأن يحمل على معنى أنه قد يستلزم التركيب المنافي للإفراد ، فإذا حمل على ذلك لم يندفع بما ذكر بل يبقى البحث كما هو ، وهذا كله إذا سلم أن مجاز التمثيل تابع لتشبيه التمثيل دائما ، وسلم أن ذلك التشبيه يجري في المفردين ، وأما إن ادعى أن مجاز التمثيل أخص من التشبيه المذكور أو أنهما لا يجريان معا في المفردين فلا يصح هذا الجواب أصلا وكونهما لا يجريان في المفردين هو الذي نسب إلى المحققين ، وعليه فما تقدم مما قرر به تشبيه التمثيل وأنه يجري في الثريا مع العنقود ضعيف. قيل : ولم ينقل عن أحد من المحققين أنه تشبيه تمثيل

__________________

(١) البقرة : ١٨.


أما قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) فحيث اتفق على أنه تشبيه تمثيل يحمل على أن القضيتين المخصوصتين المشتملتين على أشياء متعددة اعتبرت هيئتها طرفين فشبهت إحداهما بالأخرى ، ولا يضر في التركيب صحة التعبير عن ذلك بمفرد ؛ لأن مناط التركيب في الطرفين والوجه هو اعتبار أشياء ليست بأجزاء لكنها ضمت وتلاصقت حتى صارت كالأجزاء وهو موجود فيما ذكر ، وعليه يكون المثل ليس أحد الطرفين في الحقيقة ، وإنما دخلت أداة التشبيه عليه توسعا من حيث إنه يصدق على الهيئة ، وإن كان مفهومه مخالفا وفائدة التعبير به الإشعار بالتركيب ، وأن المعتبر هو الهيئة المتضامة ؛ لأنه بنفسه أعني المثل لا يصح فيه التشبيه من حيث المفهوم كما لا يخفى ، إذ لا معنى لقولنا مثلهم كمطلق المثل ، فعلم أن الطرفين هما الهيئتان المعتبرتان في أشياء عديدة مخصوصة ، إذ لو ولى أداة التشبيه لفظا آخر فربما توهم أنه هو المشبه به أو المشبه بخلاف المثل فهو من حيث ذاته ومفهومه لا يصلح لذلك ، فأفاد أن المقصود الهيئة ، والأصل في الهيئة المشبه بها أن ينقل لفظها التركيبى جميعا إلى المشبهة وقد يستغنى ببعض ألفاظ تلك الهيئة لكونه أخص دلالة من غيره ، وذلك كما في قوله تعالى (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)(٢) فإن فيه ثلاثة أوجه من التجوز.

الأول : أن يقدر أن فيه تشبيه الهدى بمركوب يوصل إلى المقصود ، فأضمر التشبيه بالنفس وأتى معه بلوازمه مما يدل على الركوب وهو لفظ" على" وهذا الوجه يصير ما في التركيب من التجوز من باب الاستعارة بالكناية.

والثاني : أن يقدر أن فيه تشبيه تمسكهم بالهدى وأخذهم به بعلو راكب مركوبا له والتصاقه به ثم استعملت فيه" على" التي هي من حروف الجر تبعا لذلك التشبيه ، وعلى هذا تكون الاستعارة فيه تبعية في الحرف.

والثالث : أن يقدر أن فيه تشبيه مجموع هيئة المهتدى والهدى وتمسكه به بهيئة

__________________

(١) البقرة : ١٨.

(٢) البقرة : ٥.


راكب ومركوب وركوب ، فنقل لفظ إحدى الهيئتين للأخرى فيكون من التمثيل ، وكان الأصل أن ينقل مجموع ألفاظ الهيئة المشبه بها كأن يقال في غير القرآن مثلا أولئك على مركوبهم الموصل إلى المقصود أو نحو ذلك ، لكن استغنى عن تلك الألفاظ بعلى ؛ لأنها منبئة عن راكب ومركوب ، وتقدير تلك الألفاظ لا في نظم اللفظ بل في المعنى كما تقدم نظيره في التشبيه وهو أنه يجوز حذف المشبه لا في نظم اللفظ كما في قوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ)(١) فإن التقدير : المؤمن كالبحر العذب والكافر كالبحر المر ، ولا يوجد في نظم التركيب إمكان هذا التقدير ، والفرق بين هذا التشبيه وبين الاستعارة إذ يخلو النظم فيها عن المشبه أيضا أن المشبه به في تشبيه لا يصح جعل المشبه مكانه إذ لا يصح هنا أن يجعل مكان البحرين المؤمن والكافر بدليل قوله تعالى (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) إلى آخر الآية إلا بتكلف ينافي البلاغة بخلاف الاستعارة وإذا تحقق على ما ذكر أن التمثيل يستلزم التركيب دائما لم تتخيل لهذا الجواب صحة أصلا.

والثالث : أنا لا نسلم أن التمثيل فيه استعارة مركب وإنما فيه استعارة مفرد وكلمة واحدة وقولهم" أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى" المستعار فيه هو التقديم والمستعار له هو التردد والتقديم كلمة واحدة فلا تنافي بين الاستعارة التي هي قسم من المجاز المسمى بالكلمة وبين كونه ؛ تمثيلا لأن التمثيل كلمة على هذا أيضا ، وأما إضافة هذا التقديم من جهة المعنى إلى الرجل واقتران ما أضيفت له بكون الرجل تؤخر مرة أخرى وإلف تلك الكلمة بما اقترنت به أي : موافقتها ومقارنتها بما ذكر لا يخرجها عن تسميتها كلمة ؛ فإن اللفظ المقيد لا يخرج بتقييده عن تسميته الأصلية ؛ فأصل التسمية أن التردد كتقديم الرجل مع تأخيرها ثم استعيرت هذه الكلمة المفيدة للتردد وأخذ منها الفعل تبعا ورد هذا بأن فيه سد باب التمثيل الذي هو استعارة مركب لعود مواقعه بهذا الاعتبار إلى استعارة المفرد وكيف يصح هذا

__________________

(١) فاطر : ١٢.


ومواقع كلام العرب في الاستعارة وتراكيب البلغاء فيها دالة بالاستقراء كما فهمه من له ذوق في الفن وهو صحيح النقل عن البلغاء فيه على أن مجموع اللفظ المركب هو المنقول عن الحالة التركيبية إلى حالة أخرى مثلها من غير أن يكون لبعض المفردات اعتبار في الاستعارة دون بعض ، وهذا مما لا يخفى وهو المسمى بالتمثيل فقد تبين أن جميع الوجوه مردودة وهذه الردود هي المذكورة في المطول أوردناها مع زيادة بيان وإضافة ما يحتاج إليه والله الموفق بمنه وكرمه.

تفسير السكاكى للاستعارة التخييلية

ثم أشار إلى ما ذكر السكاكي في الاستعارة التخييلية تمهيدا للاعتراض عليه بما فسرها به فقال (وفسر) أي السكاكي الاستعارة (التخييلية) التي تقدم هي أن تذكر لوازم المشبه به مضافة للمشبه لتدل على أنك أضمرت تشبيهه في النفس (بما) أي : فسرها بأنها لفظ لمعنى (لا تحقق لمعناه) أي لا ثبوت لذلك المعنى الذي نقل إليه اللفظ المسمى بالتخييل (حسا) أي ليس بمعنى محسوس كمعنى لفظ الأسد إذا نقل للرجل الشجاع (ولا عقلا) إذ ليس ذلك المعنى بأمر متحقق عقلا كمعنى لفظ النور ينقل للعلم ، فإنه ثابت في نفس الأمر بالعقل ولم يحس (بل هو) أي بل ذلك المعنى الذي نقل إليه لفظ التخييل (صورة وهمية محضة) أي : معنى صوره الوهم وفرض ثبوته فرضا وهميا محضا أي خالص الفرضية لانتفائه في نفس الأمر ، فمعنى الخلوص أنه لا يشوب ذلك المعنى شيء من الثبوت بالحس أو العقل الذي يثبت الأشياء على وجه الصحة في نفس الأمر بل تلك الصورة ، وثبوتها أمر متوهم توهما محضا في كونه باطلا في نفس الأمر وخالص النسبة إلى الوهم الذي يثبت ما لا ثبات له وتلك الاستعارة التخييلية التي فسرت بما لا تحقق لمعناه (كلفظ الأظفار) المنقول لما يشبه الأظفار من صورة وهمية محضة (في قول الهذلي) :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع


ثم أشار إلى منشأ ثبوت تلك الصور بالوهم وكيفية ذلك التصوير بالوهم بقوله (فإنه) أي السبب في إثبات تلك الصور الوهمية أن الهذلي (لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال) أي : أخذ النفوس وإهلاكها بالقهر والغلبة انعقد بذلك التشبيه ارتباط بين الموت والسبع في ذلك الاغتيال ، فانتقلت النفوس من الشعور بالاغتيال إلى ملزوماته التي بها يتحقق ، وإلى الصورة المعهودة لتلك الملزومات فلأجل ذلك الارتباط الموجب لأن ينتقل ويثبت لأحد المرتبطين ما ثبت للآخر (أخذ الوهم) الذي من شأنه فرض المستحيلات وتقدير الأباطيل (في تصويرها) أي : طفق الوهم يصور المنية (بصورته) أي : بصورة السبع إذ ذلك مقتضى المشابهة والارتباط ولو لم يكن صحيحا في نفس الأمر (و) أخذ في (اختراع لوازمها) أي : لوازم تلك الصورة التي استشعرها وهي ملزومات الاغتيال (لها) أي : للمنية بمعنى أن الوهم انتقل بسبب ذلك الارتباط التشبيهي إلى تصوير المنية بصورة السبع وإعطاء المنية لوازم صورته جميعا واخترع لها بالخصوص ما يكون به قوام أي حصول وجه الشبه الذي هو الاغتيال ؛ لأن هذه اللوازم أنسب بالإثبات من غيرها إذ لها دخل في تقرير وجه الشبه فكأنها هو بخلاف اللوازم الأخرى فإنما اخترعها وأثبتها تبرعا بواسطة شدة الارتباط وإلا فلا يحتاج إليها في التشبيه (ف) لما صور المنية كذلك ثبت لها بالتصوير الوهمي أنه قد (اخترع لها) أي : لتلك المنية صورا وهمية (مثل) صور (الأظفار) المحققة للأسد المشبه به (ثم) لما اخترع لها صورا تشبه في الشكل والقدر أظفار الأسد الحقيقي (أطلق) حينئذ (عليه) أي : أطلق على ذلك المثل أعني مثل تلك الصور التي أشبهت الأظفار الحسية (لفظ الأظفار) أي : أطلق على تلك الأشكال الوهمية لفظ الأظفار الموضوع للصور الحسية بعد رعاية التشبيه فعلى هذا تكون الاستعارة تخييلية تصريحية أما كونها تخييلية ؛ فلأن اللفظ نقل لمعنى متخيل أي : متوهم بلا ثبوت أو لأنه أثبت مدلوله لما لا يثبت له أصله بواسطة تخيل ثبوت ذلك المدلول فالتخيل يفرض في الصورة أو في ثبوتها ، وأما كونها تصريحية فلانتفاء التكنية ؛ لأنه أطلق صراحة لفظ المشبه به وهو الأظفار الموضوع لمعانيه المحققة على المشبه الذي هو الصور


الوهمية الشبيهة بصور الأظفار المحققة حسا وكلما صرح بلفظ المشبه به لمعنى المشبه سواء تحقق أو توهم كانت تلك الاستعارة تصريحية لا مكنيا عنها والقرينة على أن الأظفار نقلت عن معناها وأطلقت على معنى آخر كون معناها لا يوجد فيما أضيفت هذه الأظفار إليه ، وذلك المضاف إليه هو المنية والمعنى الأصلي غير صحيح فيها فوجب أن يعتبر فيها معنى يطلق عليه اللفظ ولا يكون إلا وهما لعدم إمكانه حسا أو عقلا ، ولما فسر التخييلية باللفظ المنقول من معنى محقق إلى معنى متوهم صح عنده أن تستقل هذه التخييلية عن المكني عنها بأن لا تعتبر فيه المبالغة في التشبيه أصلا ، بل يصرح معها بالتشبيه فلهذا مثل السكاكي للتخييلية بنحو أظفار المنية الشبيهة بالأسد فقد صرح بالتشبيه ولا استعارة مكنيا عنها عند التصريح بالتشبيه ، والقرينة على التخييل يكفي فيها إضافة المنقول إلى غير ما لا يصلح له أصله ، بل وتكفي قرينة ما فيتقرر بما ذكر أن التخييلية أعم محلا عند السكاكي من المكني عنها بخلاف المصنف فإنه جعل التخييلية إثبات اللوازم لتدل على التشبيه فإذا صرح بالتشبيه لم يحتج للدلالة فتبطل علة التخييل فيبطل التخييل فلا توجد بدون المكني عنها كالعكس فتقرر بهذا أن نحو لفظ الأظفار قد يكون تخييلا بدون الاستعارة بالكناية كما في المثال المذكور وعند المصنف إذا وجد نحو هذا التركيب تكون الأظفار ترشيحا للتشبيه لا تخييلا وقد تقدم ذلك قال المصنف : إنه أي : ما اقتضاه كلامه من وجود نحو هذا التركيب بعيد جدا لا يوجد له في كلام البلغاء مثال ويحتمل أن يراد ما ذهب إليه من تفسير التخييل هو البعيد ويدل عليه قوله (وفيه) أي : وفي تفسير التخييلية بما ذكره (تعسف) أخذ على غير الطريق السهلة لإدراك المناسبة لما تقرر من القواعد بسهولة لما فيه من كثرة الاعتبارات التي لا يدل عليها دليل ولا تمس الحاجة إليها ، وتلك الاعتبارات هي تقدير الصور الخالية ثم تشبيهها بالمحققة ثم استعارة اللفظ وفيه مع المكني عنها اعتبار مشبهين ووجهين ولفظين وقد لا يتفق إمكان صحة ذلك في كل مادة أو قد لا يحسن. وقيل إن التعسف هو أنه لو كان الأمر كما زعم لوجب أن تسمى هذه الاستعارة توهيمية ؛ لأنها إنما تقررت بالوهم لا


تخييلية ، وهذه في غاية السقوط ؛ لأنه يكفي في التسمية أدنى مناسبة وهي موجودة بين الوهم والتخييل إذ هما قوتان باطنيتان من شأنهما تقرير ما لا يثبت في نفس الأمر فيجوز أن ينسب لإحدى القوتين ما ينسب للأخرى للمناسبة بينهما ، هذا إذا قلنا إن التصوير بالوهم.

وأما إن قلنا إنه للخيال نفسه فالتوسع في قولهم وأخذ الوهم في تصوير المنية إلى آخره لا في التسمية وهذا أيضا إنما يحتاج إليه إن لم يتقرر في الاصطلاح تسمية حكم الوهم تخييلا لكنه تقرر فلا يحتاج إلى الاعتذار عن السكاكي بأنه يكفيه في ارتكاب هذه التسمية أدنى مناسبة ، وإنما يحتاج إلى ذلك في توجيه الاصطلاح ، ويدل على أنه تقرر ذلك قبل السكاكي اصطلاحا قول صاحب الشفاء : إن القوة المسماة بالوهم هي الرئيسة يعني أنها هي الغالبة غالبا كما قيل : " ما قادك شيء مثل الوهم" وهي الحاكمة حكما غير عقلي أي : غير صحيح ولكن حكما تخييليا فقد سمى صاحب الشفاء حكم الوهم تخييلا وهو ولو أمكن أن يكون هو الذي اخترع التسمية أيضا لكن الأقرب أنه في مقام التعريف إنما يتكلم بالاصطلاح أو نقول يثبت بذكره اصطلاح يرتكبه السكاكي بعد فلا اعتراض عليه (و) فيما ذهب إليه السكاكي من تفسير التخييلية بما ذكر وهو أنها نقلت لصورة وهمية وجه آخر يعاب به أيضا وهو أنه (يخالف) في تفسيره التخييلية بما ذكر (تفسير غيره لها) أي : يخالف السكاكي غيره في تفسير ذلك الغير للتخييلية (بجعل الشيء للشيء) أي خالفه حيث قال هي جعل الشيء الذي تقرر ثبوته للغير لشيء آخر غير صاحب ذلك الشيء كجعل اليد للشمال بفتح الشين وهي الريح من الجهة المعلومة واليد إنما هي للحيوان المتصرف جعلت لشيء آخر هو الشمال وهي غير صاحب اليد وكجعل الأظفار للمنية قال الشيخ عبد القاهر لا خلاف أن اليد استعارة يعني اليد المجعولة للشمال قال : ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أن لفظ اليد قد نقل عن شيء إلى شيء شبه بمعناها الأصلي بل اليد لمعناها لكن جعلت لغير صاحبها ، وذلك لأنه ليس المعنى على أنه شبه شيئا بمعنى اليد ثم نقل لفظها إلى ذلك الشيء المشبه إذ ليس ثم شيء شبه باليد بل المعنى على أنه أراد أن يثبت للشمال يدا


ليدل ذلك على أنك شبهت الشمال بالمالك المتصرف باليد في قوة تأثيرها لما تعرض له هذا كلام الشيخ مع زيادة بسط فيه ، وهو دليل على أنه وقع الإجماع على أن نحو اليد للشمال ونحو الأظفار للمنية اتفق على أنها استعارة وقد يقال كيف يحكي الإجماع على أن نحو ذلك استعارة مع أن مذهب المصنف أن نحو ذلك حقيقة؟ والجواب أن ذلك مغالطة لأن محل الإجماع هو في إثبات اليد وتسميته استعارة بالاشتراك اللفظي نظرا إلى أن الأظفار ونحوها برزت المنية فيها وما أشبهها بروز المستعير في العارية وليس إطلاق الاستعارة عليها باعتبار ما فسرت به من أنها كلمة استعملت فيما شبه بمعناها الأصلي ؛ لأن ذلك مخصوص بغير التخييلية والمكنى عنها إذ هما ليسا على مذهب المصنف ، وعلى مقتضى كلام الشيخ من المجاز اللغوي المفسر بالكلمة المستعملة إلى آخر ما تقدم بل التخييل شبيه بالمجاز العقلي ، ولكن إطلاق الاستعارة على الكلمة إلخ أكثر ولذلك يحتاج غيره إلى قرينة ومحل الخلاف إنما هو في إطلاق نحو الأظفار هل هو على معناه؟ فكان إثباته استعارة متفقا عليها ، أو على أمر وهمى؟ فكان إثباته كذلك أيضا ، ولبعضهم كلام ضعيف هنا حاصله : أن مذهب السكاكى القائل بأن التخييلية اعتبر فيها تشبيه ما أطلقت عليه وهو وهمى بالحسى هو الجارى على ما فسرت به الاستعارة ؛ إذ هى كلمة استعملت فيما شبه بمعناه ، ولا يمكن تخصيص هذا التعبير بغير التخييليتين لوجهين :

أحدهما : أنه لو خصص كان النزاع لفظيا ؛ إذ يصير التخييل متفقا على أنه ليس استعارة من جهة المعنى ؛ إذ هى كلمة استعملت إلخ ، والفرض على هذا أن الكلمة إلى آخر التعريف الذي هو للاستعارة لا يصدق على التخييل ، فليس التخييل استعارة قطعا على هذا من جهة المعنى يبقى النزاع فى أنه هل يسمى بها أو لا.

والآخر : أنه لا يتأتى إذ من الواضح أنه تفسير لنوع من المجاز اللغوى الذى هو الاستعارة ، فيشمل كل استعارة تكون من المجاز اللغوى.

والتخييل استعارة ومجاز لغوى بالاتفاق وقد رده في المطول بما حاصله مع البسط أن : المجاز اللغوى المفسر بالكلمة المستعملة إلخ مخصوص بغير التخييلية والمكنى عنها ، ونعنى


بالاختصاص : أن غيرهما مقطوع بدخوله في التعريف ، وأما هما فيحتمل أن يدخلا بناء على أنهما لغويان ، وأن لا يدخلا بناء على أنهما من أفعال النفس. والتخصيص على هذا الوجه لا ينافى وجود الخلاف المعنوى فيهما كما سنبينه.

وأما قولك : اتفق على أن التخييل مجاز لغوى. فباطل إذ لم يتفق على أن التخييلية مجاز لغوى قطعا على معنى أنه كلمة استعملت فيما شبه بمعناها وإلا لما تأتي الخلاف إلا لفظيا وهو معنوى كما سيتبين ، وإنما اتفق على أنه مجاز كالمجاز العقلى ؛ إذ فيه إثبات الشيء لغير أهله ، وأنه استعارة بالمعنى السابق وهو أن اللفظ المسمى بالتخييل منقول لغير معناه وأثبت له ؛ فبرز فيه بروز المستعير فى العارية ، ولما كان هذا محل الوفاق ـ كما تقدم ـ يأتى الاختلاف في أنه : هل شبه بأمر وهمى يفرض هنالك معناه؟ فيكون التخييل أطلق عليه مجازا لغويا أو لا تشبيه فهو حقيقة لغوية ، وهذا الاختلاف معنوى قطعا إذ ما يترتب على كونه حقيقة خلاف ما يترتب على أنه مجاز ، وعلى كل حال فقد اتفق على أن اللفظ قد استعير وأثبت مدلوله لما لا يناسب معناه الأصلى ، فقد تبين أن تزييف كلام المصنف بما ذكر فاسد. نعم ، يقال : اعتراض المصنف على السكاكى بأن تفسيره يخالف تفسير غيره ، حاصله : أنه لم يقلد غيره ، وإذا صح خروجه عن مرتبة التقليد فى هذا الفن فله مخالفة الغير إذا صح ما يقول لا سيما في الأمر الذى يرجع إلى اختلاف فى الاعتبار ، ولم يهدم قاعدة لغوية كما في هذا ؛ إذ حاصله التصرف فيما اتفق على ما له ومعناه إنما زاد بهذا التصرف احتمالا يقبله الوضع ، والمقصود بالذات فإنه قد اتفق على أن الأظفار مثلا ما أثبتت لصاحبها واختلف ، هل يعتبر أمر وهمى ينقل إليه أو لا؟ مع الاتفاق على أن الأمر الوهمى عدم لا حاصل له خارجا ، وذلك لا يهدم قاعدة ولا يفسد حاصل المعنى ، وهو تشبيه ما أضيفت إليه بغيره ، ولو كان الخلف بنفسه معنويا ؛ إذ لا ضرر فيه باعتبار المقصود بالذات ، قيل : ولكن لا يخفى أن مخالفة الاصطلاح القديم من غير ضرورة مما لا ينبغى ، تأمله.

ثم أشار إلى اعتراض آخر على السكاكى فى تفسيره التخييلية فقال (ويقتضى) ما ذكره السكاكى فى التخييلية ، وهو أن يؤتى بلفظ اللازم للمشبه به ، ويستعمل مع المشبه لصورة وهمية تشبه بمعناه الذى هو لازم المشبه به (أن يكون الترشيح) أى : يقتضى صحة كون الترشيح استعارة (تخييلية) بل وصحة كون التخييلية ترشيحا ، والذى عليه المعتبرون من أهل الفن التفريق بينهما ، وإنما قلنا : إن مذهبه يقتضى ما ذكر (للزوم) صحة (مثل ما


ذكره) السكاكى فى التخييلية (فيه) أى : فى الترشيح ، وإذا صح في الترشيح ما ذكر فى التخييل صح في التخييل ما ذكر في الترشيح ، إذ ليس فى أحدهما حينئذ ما ينافى به الآخر ، والذى ذكر فى التخييل هو ـ كما ذكرنا ـ أن ينقل لفظ اللازم للمشبه به إلى صورة وهمية فى المشبه ، وهذا صحيح فى التخييل ، والذى ذكر فى الترشيح هو أن يذكر لفظ اللازم مع المشبه أيضا ، ولا شك أن الوهم لكونه يفرض المستحيلات لا يمتنع أن يفرض صورة وهمية يطلق عليها لفظ اللازم المسمى ترشيحا ، والسبب فى الصورة الوهمية موجود فيما سمى بكل منهما وهو المبالغة في التشبيه ، والربط بين المشبهين ربطا يصح معه أن يكسى الوهم أحدهما ما كسى به الآخر ، وهذا المقدار استويا فيه وهو كاف فى صحة ما اعتبره فى كل منهما ويكفي في الفساد أن يصح في كل منهما ما صح في الآخر ؛ لأن ذلك يحقق الاختلاط بين حقيقة كل منهما مع حقيقة الآخر والتفريق بينهما بأن ما صح في أحدهما اعتبر وقوعه فيه وما صح في الآخر لم يعتبر وقوعه في ذلك الآخر دعوى بلا دليل وتفريق بما يصح ارتفاعه فلا يوثق بوجود الحقيقة المخالفة والناس كلهم على اختلافهما ، ولا يقال الفرق بينهما أن الترشيح عبر فيه عن المشبه باسم المشبه به كما تقدم في قوله :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

أتى باللازم للمشبه به وهو اللبد مع المشبه لكن عبر عنه باسم المشبه به وهو الأسد والتخييل عبر فيه عن المشبه باسمه كما تقدم في قوله :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

فإن الأظفار أتى بها وهو اسم اللازم للمشبه به مع المشبه لكن عبر عن ذلك المشبه باسمه وهو المنية ؛ لأنا نقول هذا تفريق بمجرد التحكم ولا عبرة به ، إذ المعنى الذي صحح اعتبار الصورة الوهمية موجود فيهما معا ـ كما قررناه ـ فكما لا يمنع التعبير عن المشبه المصاحب للصورة الوهمية بنفس لفظه ، فكذا لا يمنع التعبير عنه بلفظ مصاحبه ؛ لأن التعبير ليس ضدا للصورة الوهمية التي اقتضاها وجود المبالغة في التشبيه المقتضية لاختراع اللوازم فالباحث يقول إذا صح اعتبار الصورة الوهمية في التخييل والترشيح ، فليقدر في كل منهما أو يسقط اعتباره في كل منهما ، فإن سلم الخصم المساواة فعليه البيان إذ لا بيان بما ذكر وإن ادعى اعتبارها في كل منهما إلا أن أحدهما يسمى ترشيحا وهو ما يعبر فيه عن المشبه باسم المشبه به والآخر يسمى تخييلا وهو ما يعبر فيه عن المشبه باسمه ، واعترف بأنه لا


تفريق من جهة المعنى وأن التفريق اصطلاحي رد عليه بأن الاصطلاح التحكمي لا عبرة به وبأن الترشيح حقيقة أو مجاز حقيقي فلا صورة وهمية فيه اتفاقا إذ من يجوز في الترشيح المجاز كما تقدم إنما يجعله مما أطلق فيه اللفظ على ما تحقق حسا أو عقلا ، ويجعل إفادة ذلك اللفظ للترشيح باعتبار أصله فإذا تحقق أن ما اعتبر في التخييل يصح في مسمى الترشيح فما تقدم مما اتفق على أنه ترشيح وهو قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١) لقائل أن يجعله من باب التخييل بأن يجعل الربح والتجارة تخييلا فيقول لما استعير الاشتراء لاختيار الضلالة على الهدى أثبت للمشبه وهو اختيار الضلالة على الهدى صورة وهمية هي صورة الربح والتجارة ، اللذين هما من لوازم المشبه به الذي هو الاشتراء الحقيقي فأطلق لفظ اللازم على الصورة الوهمية المثبتة للمشبه ، فيكون في الربح والتجارة تخييلية على حد ما قيل في الأظفار مع المنية ، إذ لا مانع من ذلك فتستوي محال الترشيح والتخييل والناس على اختلافهما.

وقد تقدم أن التعبير عن المشبه بلفظه في الترشيح وعنه بلفظ المشبه به في التخييل لا يمنع من اعتبار الصورة الوهمية فإن قيل الترشيح ليس إلا حقيقة أو مجازا حقيقيا والتخييل لا يمكن فيه إذا أريد أن يكون مجازا لغويا إلا باعتبار الصورة الوهمية فافترقا ، قلت : ما تعين فيه المجاز الحقيقي كما في الآية إذ نفى الربح في التجارة استعير لنفي الانتفاع بالأعمال قطعا كما هو المتبادر وعلى تقدير تسليمه إنما يفيد أن بعض المحال يصلح للترشيح دون التخييل وكل ما صلح فيه التخييل صلح فيه الترشيح والمطلوب المباينة لا العموم بالإطلاق.

على أنا لا نسلم تعيين بعض المحال للتجوز الحقيقي بل نقول : لا مانع من أن نعتبر الصورة الوهمية في الآية كما قررنا ولا نراعي استعارة اللفظ لمعنى حقيقي وأي ضرر فيه ؛ فتحصل مما ذكر أن تفسير السكاكي للتخييلية يفضي إلى استوائها والترشيح والناس على اختلافهما ، وإن وجه الاستواء أن الصورة الوهمية يصح اعتبارها في الاستعارة التصريحية كما صح اعتبارها في المكنى عنها إذ التعبير بلفظ المشبه لا يمنع من اعتبارها كما اعتبرت في التعبير عن المشبه بلفظ المشبه به وقد أجيب بأنا عند التعبير عن المشبه بلفظ وقرانه بما هو من لوازم المشبه به وكان ذلك اللازم منافيا للمشبه ومنافرا للفظه وهو صورة التخييل جعلنا

__________________

(١) البقرة : ١٦.


ظاهرا وباطنا بالتبادر مما يجب اجتنابه ، وعند التعبير عن المشبه بلفظ المشبه به وقرانه بما هو من لوازم ذلك المشبه به وهو صورة الترشيح لم نحتج إلى اعتبار الصورة الوهمية لعدم المنافرة مع إمكان اعتبار نقل لفظ المشبه به مع لازمه ، وهذا هو السر عند من يجعل الفرق بينهما هو كون التخييل مع المكنية والترشيح مع التصريحية مع زيادة أن الترشيح يزيد بكونه مما به القوام أو الكمال بخلاف التخييل.

فإن قيل نقل لفظ اللازم في الترشيح إن كان لدخول معناه في التشبيه فليس ترشيحا لخروج الترشيح عن التشبيه إذ هو تقوية له ، وإن كان مع عدم دخول معناه في التشبيه فنقله مع معناه لا لمعنى آخر يصيره كاللغو لعدم الفائدة وعدم صحته في نفسه بل صورته صورة الكذب حينئذ إذ لا تجوز ينتفي به الكذب ، قلنا : بل يجب خروج معناه عن التشبيه ليكون تقوية وكونه كاللغو لعدم الفائدة غير مسلم بل فيه فائدة التقوية ويكفي في صحته في نفسه تلك الفائدة وفي نفي كونه كذبا ، وذلك ظاهر فعلى هذا قول من قال : إذا قلنا رأيت أسدا يفترس أقرانه فالمشبه به هو الأسد الموصوف ونقل اللفظ مقارنا للوازمه وخواصه إذا كان المجموع هو المشبه به فلا يحتاج إلى اعتبار صورة وهمية بخلاف قولنا : شجاع يفترس أقرانه فإنه يحتاج إلى ذلك ؛ ليصح إثباته للشجاع يجب حمله على معنى أنا شبهنا بذات الأسد من حيث هي ، وتلك اللوازم جعلناها قيودا له لتتبين بها الذات المشبه بها كما يعبر عن الشيء بلازمه من غير أن يدخل في التشبيه أصلا فذكرها لبيان مقارنها الذي هو المشبه به ، واعتبارها للارتباط في نفس الأمر الكائن بينها وبين ملزومها وهو معنى قوله كان المجموع هو المشبه به ويكون إثباتها للترشيح وليس معناه أنا شبهنا بهذا الموصوف من حيث إنه موصوف ، وإلا كان الجواب مخرجا للمسألة عما نحن بصدده من الترشيح ؛ لأنا إذا شبهنا بالمقيد من حيث إنه مقيد كان ذكر القيد من تمام ذكر ما لا بد منه في الاستعارة لا من الترشيح ، فإن قيل ففيه حينئذ إثبات الشيء لغير ما يوافقه في نفس الأمر قلنا : نعم ، وقد تقدم جوابه ، وهو أن ذلك لفائدة التقوية بعد ثبوت المراد.

فإن قيل قولكم : إن التخييل أحوج إليه أنا إن لم نثبت الصورة الوهمية كان فيه إثبات الشيء لغير ما هو له يقتضي أن كل ما كان مثبتا لغير معناه احتيج للصورة الوهمية وذلك ينافي ما ذكر في الترشيح. قلنا : لا منافاة لأنا بينا أن نفس إثبات الشيء لغير ما هو له لم نكتف به في إثبات الصورة الوهمية بل مع زيادة وجود المنافرة ظاهرا كما كانت باطنا حيث صرح بلفظ المشبه.


فإن قيل : قولكم إن الصورة الوهمية يمكن إثباتها للمشبه ينافي ما قررتم فيما تقدم من أن الإثبات استعارة كالمجاز العقلي على كل قول قلنا معنى إمكان الإثبات إمكانه بالتوهم ، وإلا فلا يخفى أن إثبات موهوم منتف في نفس الأمر لما تحقق تجوز ، فإن المنية معنى متحقق وثبوت الأظفار الوهمية ليس بأمر كائن في نفس الأمر ؛ لفرض أنه توهم ، والتوهم لا حقيقة له في نفس الأمر فهو تجوز على كل حال ومع هذا كله فلقائل أن يقول : ما المانع من أن يدعي أن كل محل صح فيه الترشيح صح فيه التخييل والعكس ، ولا يقتضي ذلك اتحاد حقيقتهما. وذلك بأن تقول : إن اعتبر لازم المشبه به مع معنى المشبه حقيقة أو مجازا لتثبت الاستعارة كان تخييلا ؛ لأنه لإثباتها إذ لا تثبت المكنى عنها إلا بالتخييلية ؛ ولذلك اختصت بذكر اسم المشبه ، وإن اعتبر اللازم حقيقة أيضا أو مجازا لتقرير الاستعارة وتقويتها بعد ثبوتها كان ترشيحا فمن مفهومهما يؤخذ اختلافهما ولا يضر احتمال المحال لكل منهما كما تقدم في المكنى عنها مع التصريحية تأمله.

ثم أشار إلى ما أراده السكاكي بالمكنى عنها مبنيا على تفسيره الاستعارة بأن تذكر أحد الطرفين وتريد به الآخر ليكون تمهيدا للاعتراض عليه في ذلك فقال (وعني) أي وأراد السكاكي (ب) الاستعارة (المكنى عنها أن يكون) الطرف (المذكور) من طرفي التشبيه (هو المشبه) أي : لفظ الطرف المشبه ، ويراد الآخر الذي هو المشبه به ولا يخفى أن المكنى عنها هو نفس اللفظ وتسمية كونه هو المذكور استعارة مكنيا عنها إنما هو باعتبار المصدر المتعلق باللفظ ، والخطب في مثل ذلك سهل للزوم علم أحدهما من علم الآخر ويجري كلام السكاكي المذكور ويصح (على أن المراد بالمنية) في مثل وإذا المنية أنشبت أظفارها (هو السبع) وذلك ؛ لأن المشبه هو المنية وهو المذكور فيلزم أن يكون المراد هو الطرف الآخر وهو السبع ولما كان إرادة السبع الحقيقي ـ في نحو المثال ـ لا تصح أشار إلى ما يصح به إرادة الطرف الآخر بقوله : وإنما صح إرادة السبع مع أن المراد الموت قطعا (ب) اعتبار (ادعاء) ثبوت (السبعية لها) وذلك بسبب إنكاره بالدعوى الحالية أن تكون المنية شيئا آخر غير السبع ، وادعاء ثبوت السبع لها كائن ومتحقق (بقرينة إضافة الأظفار) التي هي من خواص السبع (إليها) أي إلى المنية ، فقوله : وإذا المنية ، ثبت فيه على هذا أنه أطلق المنية على السبع الادعائي فصح بذلك أنه أطلق المشبه وهو المنية الذي هو أحد الطرفين وأراد به المشبه به الذي هو السبع في الجملة وهو الطرف الآخر وقوله بقرينة يفيد أنه لا قرينة للمكنى


عنها إلا ما سماه تخييلا ، وإنما أفاده ولو لم تكن هنا صيغة حصر ؛ لأنه معلوم من مذهبه أنه لا قرينة لها إلا التخييل حيث قال لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية فتقرر بذلك ما يتمهد به الاعتراض عليه الآتي وهو أن المكنية لا تنفك عن التخييلية في مذهبه لما هو ضروري من أن إضافة ما هو من خواص المشبه به في الأصل لا بد منه ؛ ليكون قرينة ، والقرينة المذكورة ليست عنده إلا تخييلية حيث قرر أنه لا توجد المكنى عنها بدون التخييلية بخلاف العكس وهو انفكاك التخييلية عن المكنى عنها لما تقدم أن كلامه يقتضي صحته ، وإنما قلنا : لا تنفك في مذهبه لما تقدم أنها تنفك على مذهب السلف كما قرر عن الزمخشري اللهم إلا أن تعلق التخييلية عندهم على ما يدل على المكنى عنها في الجملة ، ولو كان مجازا حقيقيا فيصح أنها لا تنفك عندهم أيضا فتأمله.

وهذا أيضا إنما هو مؤاخذة له ببعض كلامه وإلا فقد صرح بما يقتضي وجود المكنى عنها بدون التخييلية ويأتي التنبيه عليه (ورد) ما ذكره السكاكي من تفسير الاستعارة المكنى عنها وهو أن يطلق لفظ المشبه ويراد به الطرف الآخر الذي هو المشبه به (ب) بما يؤخذ من كلامه الأخير وهو (أن لفظ المشبه) الكائن (فيها) أي : في الاستعارة بالكناية كلفظ المنية في قول الهذلي : وإذا المنية أنشبت أظفارها (مستعمل فيما) أي : في المعنى الذي (وضع له تحقيقا) وهو الموت الحقيقي وهذا مما يقطع به ، فإن السكاكي بنفسه قال المراد بالمنية ـ فيما ذكر ـ الموت بادعاء السبعية لها ، فقد اعترف بأن المراد في نفس الأمر الموت وأما ما ذكر من ادعاء السبعية لها فلا يخرجها عن معناها الحقيقي على ما يأتي تحقيقه.

وجعل لفظ المشبه مظروفا للاستعارة التي هي لفظ المشبه أيضا كما اقتضاه كلامه باعتبار أنه أعم من الاستعارة بالكناية وإن كان مصدوقهما متحدا في المعنى المراد ، وكون الأخص ظرفا للأعم صحيح على وجه التوسع كما يقال الحيوان في الإنسان (و) إذا كان المراد بالمنية ـ في نحو المثال ـ الموت ؛ فلا تكون المنية فيه استعارة على مذهبه إذ (الاستعارة) على مذهبه (ليست كذلك) أي : لا يصح أن تكون لفظ أطلق على معناه الأصلي ، وإنما يصح ؛ لأنه فسرها بأن يذكر لفظ أحد طرفي التشبيه ويراد به معنى الطرف الآخر ، لا يقال : قد تقدم في بيان كلامه حيث فسر الاستعارة أن المراد أن يذكر لفظ أحد الطرفين ويراد معنى الآخر حقيقة أو ادعاء فلا يرد هذا البحث على السكاكي أصلا ؛ لأنا نقول فسرنا ما تقدم بذلك رعاية للواقع في نفس الأمر ، وإلا فعبارته صريحة في إرادة نفس الطرف الآخر ؛


ويدل على ذلك أن الاستعارة التصريحية المشمولة للتعريف إنما أريد باللفظ فيها معنى الطرف الآخر حقيقة ، ولو حمل كلامه على ما ذكر لزم إطلاق الطرف المراد في كلامه على حقيقته ومجازه والجمع بين الحقيقة والمجاز ـ لا سيما في التعريف ـ ممنوع وعلى تقدير جوازه فلا بد من قرينة التعميم وهي منتفية وأيضا لو كان نحو هذا الحمل مقبولا جوابا لم يرد بحث ؛ لدفعه بحمل الكلام على ما لا يحتمله ظاهره إذ كل كلام يمكن فيه ذلك ، ولما كان حاصل هذا منع إرادة السبع بالمنية ـ في المثال ـ وبيان أن المراد بها الموت الحقيقي وكان فيه مظنة أن يقال : إذا كان المراد نفس الموت لا السبع فما بال الأظفار أضيفت لها مع أنها معلومة الانتفاء عنها؟ فلو لا أنه أريد بالمنية معنى السبع لم يكن معنى لذكر الأظفار معها وإضافتها لها ؛ لأن ضم الشيء لغيره معناه هدر ولغو يتحاشى عنه اللفظ البليغ. أجاب عن ذلك بقوله (و) لا منافاة بين إرادة نفس الموت بلفظ المنية وإضافة الأظفار لها إذ (إضافة نحو الأظفار) في الاستعارة المكنى عنها إنما كانت ؛ لأنها (قرينة التشبيه) المضمر في النفس ؛ لأنها تدل على أن المنية ألحقت في النفس بالسبع فاستحقت أن يضاف لها ما يضاف له من لوازمه فإضافة الأظفار حينئذ مناسبة لتدل على التشبيه المضمر وهذا الاعتراض كأنه من أقوى الاعتراضات على السكاكي وقد أجيب عنه بنحو ما أوردناه ودفعناه آنفا وحاصله مع البسط أن المنية في نحو وإذا المنية أنشبت أظفارها مستعملة في غير معناها وهو السبع ادعاء ؛ لأنا جعلنا المنية نفس السبع وأنكرنا أن تكون غيرها فصح لنا بذلك الاعتبار أنا استعملنا أحد الطرفين في الآخر.

ولما كان هنا مظنة أن يقال : جعل المنية نفس السبع بالمبالغة في التشبيه يقتضي إطلاق لفظ السبع عليها لا إطلاق لفظ المنية عليه حتى يصح لنا أن نطلق لفظ المنية الذي هو لأحد الطرفين ونعني به الآخر زاد المجيب بيانا يظهر به الأمران معا أعني وجه إثبات السبعية لها ليتم الإطلاق على السبعية ، وإن تقدم ما يغني عن إعادة هذا الوجه ووجه صحة إطلاق لفظ المنية على السبع أنه لا يتم صحة الإطلاق المذكور إلا بهما معا فقال : وذلك أنا جعلنا اسم المنية مرادفا لاسم السبع ولكن جعلنا إياها مرادفا ليس بإحداث وضع مستقل فيها فيكون من باب إبلاغ الاشتراك اللفظي فيها ، فتخرج عن معنى الاستعارة وإنما ذلك بالتأويل فإنه صح لنا بطريق المبالغة في التشبيه أن يتناول معنى المشبه فردا من أفراد المشبه به إلا أنه غير متعارف فبذلك صح لنا أن نطلق عليه لفظ المشبه به استعارة تصريحية وتجعل


القرينة مانعة من إرادة المتعارف لا مانعة من إرادة الحقيقة المدعاة لغير المتعارف كما تقدم في إطلاق الأسد على الرجل الشجاع الذي هو غير المتعارف مع نصب القرينة على عدم إرادة المتعارف الذي هو الحيوان المعلوم مع اشتراكهما بسبب ذلك الادعاء في تشبيه المنية بالسبع المحقق لها ثبوت السبعية وأن يجعل لفظ المنية الموضوع في الأصل للفرد الغير المتعارف منتقلا للمعنى المشترك بينه وبين الفرد المتعارف الموضوع له لفظ السبع بالادعاء السابق ، إذ كما صح نقل اللفظ الذي هو السبع عن الخصوص إلى العموم فيطلق على الفرد الغير المتعارف بذلك العموم يصح لنا أن ننقل اللفظ الموضوع لغير المتعارف الخاص إلى المعنى العام لمصادفته مع لفظ السبع الممكن نقله بالدعوى ؛ إذ منزلة موضوعه من المعنى العام بمنزلة موضوع السبع من ذلك المعنى فكما عمم لفظ السبع فليعمم لفظ المنية إذ وجه التعميم ادعاء دخول المعنى في غيره ، وذلك يزحزح أصل وضع اللفظيين معا ؛ لأن لفظ المنية مباين في الأصل للفظ السبع وقد صارا غير متباينين الآن بهذه الدعوى ، فكأن الواضع بهذا الاعتبار وضع لفظ المنية ولفظ الأسد لمعنى عام هو المعنى المشترك بين الفردين ، وإذا تخيل وضع اللفظين بعد المبالغة والمزج بين الفردين لمعنى يعمهما بنينا على ذلك تخيل أن ذلك لا يصح إلا بالترادف فأثبتناه فتأتى لنا بهذا الطريق ـ أعني طريق ادعاء دخول المنية في جنس السبع وتأويل أن لفظهما مترادفان ـ إثبات المعنيين المتقدمين معا أحدهما ادعاء ثبوت السبعية للمنية لأن ذلك لازم الإدخال في جنسها فيصح بذلك أن لفظ المنية إذا أطلق عليها إنما أطلق على السبع الادعائي وثانيهما صحة إطلاق لفظ المنية على ذلك السبع الادعائي ؛ لأن ذلك لازم الترادف بين اللفظين فلا يرد أنه لا يناسب ، لأن إدخالها في جنس السبع إنما يناسب إطلاق لفظ السبع عليه فتقرر بادعاء السبعية لها أنا أطلقنا أحد الطرفين وعنينا الآخر في الجملة وبالترادف المؤول صح لنا إطلاق لفظ المنية على المعنى المراد من غير تناف ولا منافرة ولا يخفى أن حاصل ما ذكر أن المنية أطلقت على الطرف الآخر ادعاء وهو ما نقل عن السكاكي آنفا وبعد به عن التحقيق ، وأنه ليس فيه إلا مجرد الدعوى وأجيب عنه بنحو ما ذكر المصنف وزدناه نحن تأكيدا وبيانا فيما تقدم وهو أن غايته أنا أطلقنا لفظ المنية على غير معناها بالادعاء وذلك لا يخرجها عن إطلاقها على معناها حقيقة في نفس الأمر إذ الادعاء لا يخرج الأشياء عن حقائقها وعبارة السكاكي دالة على أن المراد الطرف الآخر حقيقة كما تقدم فلا تدخل الاستعارة بالكناية فيما عرف به الاستعارة وهو أنها هي اللفظ


المنقول عن أحد طرفي التشبيه وأريد به الآخر ؛ إذ المنية مقطوع بأنه إنما أريد بها حقيقة الموت وادعاء السبعية لها لا يخرجها عن معناها ؛ لأن الدعاوي لا تؤثر في المعنى ولا يخفى أيضا أن الجواب حاصله ما ذكره المصنف وزدناه بيانا ، وحمل ما ذكر خارجا عن المتن على أن المبالغة فيه أفضت لترادف اللفظين ، ودفعه بأن ذلك أيضا لا يخرج المعنى عن أصله يتوقف على أن للسكاكي كلامين أحدهما لم تفض فيه المبالغة للترادف ، والآخر أفضت فيصبح أن يؤتي ببحثين وجوابين وإلا فما في المتن هو ما ذكر في الرد في الشرح ، وما نقل عن السكاكي هو حاصل الجواب فليتأمل.

وقد تقرر أن حاصل الرد أن تعريف الاستعارة لا يصدق على المكنى عنها ؛ لأنها نوع من الاستعارة المعرفة بأنها لفظ نقل عن أحد طرفي التشبيه ، وأطلق على الآخر ، والمكنى عنها لا يصدق عليها أنها لفظ نقل عن أحد الطرفين وأطلق على الآخر ضرورة أن لفظها أطلق على معناه فلم ينقل عنه وأطلق على الآخر ، وإنما يصدق عليها تعريف الحقيقة التي هي أطلق على معناه الذي وضع له في الأصل ، لكن صدق تعريف الحقيقة عليها وخروجها عن تعريف الاستعارة إنما يصح إن لم تراع الحيثية فأما إن روعيت بأن يكون المعنى في الحقيقة أنها كلمة استعملت فيما هي موضوعة له بالتحقيق من حيث إنها موضوعة له كذلك فلا يصدق تعريف الحقيقة على المكنى عنها فلا تدخل فيه ، إذ المنية في المثال المذكور لم تستعمل فيما وضعت له بالتحقيق ؛ لأنها إنما استعملت فيه من حيث إنه مشبه بالسبع تشبيها ادعي فيه دخولها في جنسه وادعي فيه مرادفه لفظها للفظه فلذلك قيل إنها استعارة ، والفرق بين الاعتبارين واضح فإنك إذا قلت دنت منية فلان فإنك استعملت المنية في الموت من حيث إن اللفظ المذكور موضوع للموت حقيقة وإذا قلت أنشبت المنية أظفارها بفلان فإنما استعملته فيها من حيث تشبيهها بالسبع على الوجه المذكور ويلزم من خروج نحو المنية بالوجه المذكور عن الحقيقة والكناية كونها مجازا إذ لا واسطة بعد الاستعمال بين الحقيقة والكناية وبين المجاز وهذا هو المجاب به عما تقدم ، لكن لا يتم إذ لم يفد أن نحو المنية استعملت في الطرف الآخر ، وإنما أفاد خروجها عن كونها حقيقة إلى المجازية المطلقة الصادقة بالإرسال وأما خروجها عنها إلى خصوص الاستعارة المفسرة بكونها كلمة نقلت من أحد الطرفين للطرف الآخر فلم يظهر إلى الآن ؛ إذ لا يصدق على نحو المنية في الشاهد المتقدم أنها استعملت بعد نقلها عن أحد الطرفين في الطرف الآخر من حيث إنه الطرف


الآخر ضرورة أن حيثية الطرف الآخر فرع ثبوت الطرف الآخر ، وأنه هو المستعمل فيه فإذا ثبت اعتبرنا أن الاستعمال فيه من حيث إنه نفس ذلك الطرف الآخر والمنية إنما استعملت في معناها لا في الطرف الآخر ، فإن قيل إنما استعملت في الطرف الآخر ادعاء من حيث إنه هو الطرف الآخر ادعاء ، قلنا : تقدم جوابه وهو أن الادعاء لا يخرج الأشياء عن حقائقها والتعريف إنما دل على الطرف حقيقة لا ادعاء ، وتقدم أن هذا التعسف لو صح لم يرد اعتراض على شيء من الكلام لا مكان حمل كل كلام معترض على غير معناه بوجه يصح به المعنى بلا قرينة ، على أنا نقول : لا تصدق الحيثية في تعريف المجاز فلا يصدق حده على الاستعارة بالكناية إذ المجاز ليس مستعملا في غير الموضوع له من حيث إنه ذلك الغير بل من حيث تعلقه بالموضوع له وقد تقدمت الإشارة لهذا ، ويجاب عنه بأنه مستعمل في الغير من حيث إنه غير متعلق بالموضوع له ؛ لأن التعلق يستلزم الغيرية وكذا الغيرية في الحالة الراهنة تستلزم التعلق مجازا لتشبيه أحدهما بالآخر ، وتحقيق ذلك أعني كون الجواب المذكور لا يفيد أن نحو المنية أطلق على الطرف الآخر ، ولو اعتبرت الحيثية أن لفظ المنية مثلا في ذلك الشاهد استعمل في معنى واحد هو معناه لكن له جهتان يصح الاستعمال بكل منهما ، إحداهما كونه وضع له اللفظ أصالة والأخرى كونه شبه بمعنى الأسد تشبيها أوجب ادعاء دخوله في جنس ذلك المعنى ، فاستعماله بالوجه الثاني لا يوجب كون المعنى شيئا آخر إذ يصدق أنه لم يستعمل في الطرف الآخر الذي لم يوضع له وإنما استعمل في الطرف الذي وضع له وإن كان السبب في الاستعمال حيثية ادعاء كونه شيئا آخر ، نعم لما كان مدلول اللفظ مطلق تلك الجهة عارية عن المعنى الأصلي صح ما ذكر وليس كذلك للقطع بأن المراد باللفظ الموت لكن مع اعتبار أنها شبهت تشبيها بليغا بغيرها فلم يتم الجواب هذا تقرير ما ذكر هنا ، وربما يقال : ما المانع من أن يقال اللفظ الذي استعمل في أحد الطرفين الذي هو غير أصل وضعه معنى استعماله في غير أصله الذي هو الطرف الآخر إفهامه إياه في الجملة مع القصد الذاتي لذلك الإفهام ، ولو فهم معه غيره وحكم على ذلك الغير ؛ لأن الحيثية هي المقصودة بالذات أعني حيثية الأسدية المثبتة بواسطة التشبيه البليغ فالسبع في المثال قد فهم من إطلاق المنية وإطلاق الاستعمال على مثل هذا لا يبعد وليس المراد أن المستعمل فيه هو المحكوم عليه في نفس الأمر وإن كان ذلك هو الأصل ، بل إنه هو الذي يفهم بالقصد ومن حيثيته ولو كان الحكم في الحقيقة على غيره ؛ لأن الحيثية هي التي قصد


الإشعار بها في ذلك المحكوم عليه كما ذكرنا ، فعلى هذا يكون لفظ المنية مستعملا في الطرف الآخر ، أي : مفهما له وقصد من حيث إفهامه لا من حيث وجوده بل لينتقل منه إلى ذلك الموجود ، فإن قلت : لفظ المنية هنا على هذا الجواب هل استعمل لإفادة هذه الحيثية بطريق التشبيه أو بطريق المجازية الإرسالية؟ قلت : بل بطريق التشبيه ، فإنا بعد أن شبهنا المنية بالسبع وجعلنا المنية مرادفة له أفهمنا بها معنى السبعية ولو لم توجد في الخارج على حد إفهامها في المنية عند التصريح بلفظ السبع في الاستعارة التصريحية ؛ لأن المنية على هذا مرادفة للسبع فكما يفيد السبعية في الرجولية باللزوم لكن بواسطة التشبيه فكذلك لفظ المنية المرادف لهذا التأويل تأمله ؛ فإنه نهاية ما يمكن هنا ويرد عليه أن نحو الأسد للرجل الشجاع أفهم بالذات الأسدية فيه فعلى ما ذكر يكون حقيقة لإفهامه حيثية هي أصله والله أعلم.

ثم أشار إلى ما ذكره السكاكي في الاستعارة التبعية تمهيدا للاعتراض عليه في ذلك فقال (واختار) السكاكي (رد) الاستعارة (التبعية) وهي التي تكون في الحروف والأفعال وما يشتق منها كاسم الفاعل واسم المفعول واسم الزمان والمكان المشتقين (إلى) الاستعارة (المكنى عنها) أي اختار إدخال التبعية في المكنى عنها وذلك (ب) واسطة (جعل قرينتها) أي قرينة التبعية (مكنيا عنها) وقد تقدم أن مدار قرينتها على الفاعل كما في نطقت الحال أو على المفعول ك : نقريهم لهذميات أو المجرور ك (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١) ، فإذا كانت القرينة في التبعية هي الفاعل مثلا فليجعل ذلك الفاعل استعارة بالكناية بأن يقدر تشبيه الحال بالإنسان الناطق ، ومن المعلوم أن جعل القرينة في التبعية مكنيا عنها لا يمكن إن كانت القرينة حالية وذلك مما يضعف ما ذكر السكاكي فإذا كانت لفظا أمكن ما ذكر (و) تكمل بجعل الاستعارة (التبعية) التي هي الفعل في المثال (قرينتها) أي بجعل الفعل في المثال الذي كان تبعية على مذهبهم هو قرينة المكنى عنها التي هي نفس الفاعل الذي كان قرينة للتبعية فحينئذ تجري التبعية (على نحو قوله) أي على مثل ما قاله السكاكي (في المنية وأظفارها) وقد تقدم الذي قال وهو أن الأظفار استعملت في صورة وهمية على أنها قرينة

__________________

(١) التوبة : ٣٤.


المكنى عنها والمنية هي الاستعارة بالكناية ، وجريان التبعية على هذا أن يجعل الحال في نطقت الحال استعارة بالكناية ويجعل نطقت قرينتها على أن يتوهم للحال صورة النطق بلسان ، فينقل لفظ النطق لها فتقرر بما ذكر أن ما جعله القوم تبعية جعله هو قرينة على المكنى عنها على أنها تخييلية وما جعلوه قرينة التبعية جعله هو استعارة بالكناية ففي قولنا نطقت الحال بكذا جعل القوم نطقت استعارة" عن دلت" فكانت تبعية ؛ لأن التشبيه في الأصل بين المصدرين أعني الدلالة والنطق والقرينة على هذه التبعية إسناد النطق إلى الحال ، فصارت الحال في الحقيقة هي القرينة وهي أعني الحال عندهم استعملت في معناها ؛ لأن الدلالة المرادة في نفس الأمر المسندة لها تقبلها وهو يجعل لفظ الحال استعارة بالكناية عن المتكلم الذي له لسان ينطق به وجعل نسبة النطق إليها قرينة الاستعارة بالكناية الموجودة في الحال فالنطق في الحقيقة هو القرينة على نحو ما ذكرنا آنفا ، وكذا قولهم : نقريهم لهذميات القوم يجعلون نقريهم استعارة تبعية واللهذميات قرينتها لما تقدم ، وهو يجعل اللهذميات استعارة بالكناية عن الأطعمة الشهية بواسطة تشبيه اللهذم بها على طريق التهكم ، ويجعل نسبة القرى إليها استعارة تخييلية بإثبات معنى وهمي هنالك يشبه إعطاء الطعام للضيف عند نزوله الذي هو القرى أو يجعلها قرينة ينقلها إلى الضرب أو الملاقاة بناء على أن القرينة تكون مجازا حقيقيا وكذا قوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١) القوم جعلوا فعل التبشير استعارة تبعية للإنذار بواسطة التشبيه التهكمي والعذاب قرينتها ، وهو يجعل العذاب استعارة بالكناية عن الإنعام بواسطة التشبيه التهكمي ويجعل التبشير قرينتها على أنه تخييل بتقدير صورة كصورة التبشير أو على أن ينقل إلى الإنذار بواسطة التهكم بناء على أن قرينة المكنية تكون مجازا حقيقيا ، وعلى هذا القياس غير هذه الأمثلة.

وإنما اختار السكاكي ذلك إيثارا للضبط القريب بتقليل الأقسام (ورد) ما اختاره السكاكي من إدخال التبعية في المكنى عنها (بأنه) أي : بأن الشأن أو بأن السكاكي (إن

__________________

(١) التوبة : ٣٤.


قدر) أي فرض وأثبت (التبعية حقيقة) فيجعل نطقت التي هي التبعية في نطقت الحال بكذا مثلا مرادا به معناه الأصلي وهو النطق الحقيقي ، وإنما فسرنا قدر بأثبت للعلم بأن مجرد التقدير والفرض الوهمي لا يترتب عليه ما يذكر وإليه أشار بقوله (لم تكن) تلك التبعية حينئذ استعارة (تخييلية) وإنما قلنا لا تكون تلك التبعية على هذا التقدير تخييلية عند السكاكي (لأنها) أي : لأن التخييلية (مجاز) لغوي (عنده) أي عند السكاكي لما تقدم أنه جعلها من أقسام الاستعارة المصرح بها التي هي من المجاز اللغوي وهي المفسرة بذكر لفظ المشبه مرادا به المشبه به إلا أن المشبه فيها عند السكاكي يجب أن يكون مما لا تحقق لمعناه حسا ولا عقلا بل صورة وهمية محضة كما تقدم ، فعلى هذا يكون المراد بنطقت مثلا في نطقت الحال بكذا الصورة الوهمية الشبيهة بالنطق الحقيقي فيكون لفظها مستعملا في غير ما وضع له بالتحقيق ، فيكون مجازا إذ لم يرد معناه الذي هو النطق الحقيقي ، وأما على ذلك التقدير وهو أن يراد بالنطق معناه الحقيقي فلا تكون التبعية مجازا فلا تكون تخييلية ؛ لأنها ليست إلا مجازا عنده وإذا لم تكن التبعية على ذلك التقدير تخييلية (فلم تكن) الاستعارة (المكنى عنها مستلزمة) أي : على ذلك التقدير يلزم انتفاء التخييلية عن المكنى عنها فيلزم كون المكنى عنها غير مستلزمة (للتخييلية) وإذا لم تستلزم المكنى عنها التخييلية صح وجود المكنى عنها بدون التخييلية كما في المثال السابق وهو نطقت الحال بكذا ؛ حيث استعمل نطقت لمعناه الحقيقي (وذلك) أي لكن عدم استلزام المكنى عنها للتخييلية (باطل بالاتفاق) من أهل الفن ، وإنما وجد الخلاف في العكس وهو أن التخييلية هل تستلزم المكنى عنها أو لا بمعنى أنه قيل : إن التخييلية يصح أن توجد وحدها بدون المكنى عنها كما ذكر السكاكي في نحو قولك أظفار المنية الشبيهة بالسبع إذ قد ذكر أن الأظفار أطلقت على أمور وهمية تخييلا وليس في الكلام مكنيا عنها لوجود التصريح بالتشبيه ولا استعارة عند التصريح بتشبيه الطرف الذي يستعار له ، وقيل : لا يصح ، وما ذكر إن صح فهو من ترشيح التشبيه وقد تقدم ومن المعلوم أن هذا المثال الذي ذكره السكاكي لنفي الاستلزام إنما فيه التخييلية بدون


المكنى عنها فلم تستلزم التخييلية المكنى عنها ولم توجد فيه المكنى عنها بدون التخييلية فيصح أن المكنى عنها عند السكاكي وجدت بدون التخييلية فلم تستلزم المكنى عنها التخييلية فلا يصح جعل كلام السكاكي ، وهو قوله : لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية على معنى أن التخييلية لا توجد بدون المكنى عنها ضرورة وجودها دونها في المثال المذكور ، فوجب حمله على ظاهره كما فهمه المصنف عنه ، وهو أن المكنى عنها تستلزم التخييلية وهو المراد باللزوم السابق دون العكس ، وإذا وجب حمله على ذلك كان الحمل على العكس المذكور الذي هو خلاف ذلك فاسدا ، فلا بحث في كلام المصنف من هذا الوجه ، نعم يبحث في كلامه في حكاية الاتفاق على أن المكنى عنها لا توجد بدون التخييلية ، وكيف يصح ذلك مع أن كلام صاحب الكشاف مشعر بل مصرح بخلاف ذلك كما تقدم في قوله تعالى (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(١) وأن النقض استعارة تصريحية عن إبطال العهد ، وهي قرينة للمكنى عنها التي هي العهد إذ هي كناية عن الحبل ، فقد وجدت المكنى عنها عنده بدون تخييل ؛ لأن النقض الذي هو القرينة ليس بتخييل ، إذ التخييل إما إثبات حقيقة لغير معناها كما عند الجمهور وإما إثبات صورة وهمية كما عند السكاكي على ما تقدم بيانه فإن حمل الاتفاق على معنى اتفاق الخصمين أعني السكاكي والمصنف لم يصح أيضا ؛ لأن السكاكي صرح أيضا بما يقتضي عدم الاستلزام حيث قال في باب المجاز العقلي : قرينة المكنى عنها قد تكون أمرا وهميا كأظفار المنية يعني فتكون تخييلا كما تقدم وقد تكون أمرا محققا كالإنبات في أنبت الربيع البقل والهزم في هزم الأمير الجند ، ومن المعلوم أن لا تخييل في الأمر المحقق عنده فقد أثبت المكنى عنها فلا تخييل ، فإن قلت : قد قررت عنه بما ذكرت آنفا أن المراد بعدم انفكاك المكنى عنها عن التخييلية أنها تستلزم التخييلية لا أن التخييلية تستلزم المكنى عنها ، فإنه نفاه كما في أظفار المنية الشبيهة بالسبع وبه رددت على من حمل كلامه على استلزام التخييلية للمكنى عنها ليرد به اعتراض المصنف حيث ألزمه وجود المكنى عنها بدون

__________________

(١) البقرة : ٢٧.


التخييل فرد عليه ذلك القائل بأن قوله لا يقتضي إلا أن التخييلية تستلزم لا أن المكنية تستلزم حتى ينقض بوجودها بدون لازمها على ذلك التقدير الذي هو كون نحو نطقت من نطقت الحال حقيقة ، وعلى ما حكى عنه في المجاز العقلي يصح كلام ذلك الحامل ويبطل اعتراض المصنف الحامل له على خلاف ذلك لبطلان الاتفاق بالوجهين حينئذ معا.

قلت : اعتراض المصنف مبني على مؤاخذته بظاهر تلك العبارة وهو الأقرب ؛ لأن تأويلها على العكس يتوقف على أنه يقول باستلزام التخييلية للمكنى عنها وهو باطل كما قال في أظفار المنية الشبيهة بالأسد ، وهذا المثال صرح به في بابه وما ذكر من عدم استلزام المكنى عنها للتخييلية صرح به في باب آخر ، والاعتراض إنما هو على ما صرح به من عدم انفكاك المكنى عنها عن التخييلية ، بمعنى أنها تستلزم التخييلية إذ يناقضه ما ذكره من إدخال التبعية فيها بناء على إرادة الحقيقة بما جعله قرينة للمكنى عنها ، والحاصل أنه لما صرح في هذا الباب بعدم الانفكاك وصرح فيه بعدم استلزام التخييلية للمكنى عنها ؛ وجب حمل عدم الانفكاك على ظاهره الذي صرح بما لا يصح معه الحمل على العكس ، فحمل الحامل عدم الانفكاك على استلزام التخييلية للمكنى عنها باطل بما ذكر في المثال ، وهو أظفار المنية الشبيهة بالأسد إذ ذكر معه في بابه ، والمصنف يكفيه في البحث أن قوله : لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية يلزم عدم صحته بما لزم على ذلك التقدير وأما ما ذكر في المجاز العقلي فهو يرد على هذا الكلام نقضا له أيضا ولا يضر اعتراض المصنف في شيء إذ هو منصرف لهذه العبارة التي صرح بها في باب الاستعارة المكني عنها والرد على ذلك الحامل صحيح حيث تأول عبارته على خلاف ظاهرها مع وجود ما ينافيها معها في بابها ، نعم لو أمكنه أن يقول : عدم الانفكاك أراد به السكاكي غير الاستلزام أصلا تأتى تصحيحه كلام السكاكي لكن لا سبيل إليه فلا بحث على المصنف إلا في حكاية الاتفاق ، وما رده على السكاكي مقتضى هذه العبارة فهو وارد على كل حال إما بالإلزام السابق كما ألزمه المصنف وإما بما صرح به هو في المجاز العقلي ، ولو لم يقصده المصنف فالسكاكي يرد عليه اعتراض المصنف


لأنه إما أن يقول في شيء من أمثلة التبعية بالمجاز كما صرح بأن نطقت في نطقت الحال بكذا استعير لأمر وهمي جعل قرينة للمكنى عنها فيلزمه أحد شقي الاعتراض وهو الآتي ؛ إذ نطقت على ما صرح به مجاز وهو فعل فيكون تبعية للمصدر المنقول للصورة الوهمية فيلزمه وقوعه فيما فر منه من إسقاط التبعية عن التقسيم وإن لم يقل في شيء من الأمثلة بالمجاز أصلا ، ورد عليه بطلان قوله : لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية ؛ فكلام السكاكي المذكور باطل إما بما ذكر المصنف وإما بما قال خارجا فإنه صرح بأنه يجوز وجود المكنى عنها بدون التخييلية كما في أنبت الربيع البقل كما تقدم ، وجوز وجود التخييلية بدون المكنى عنها كما في أظفار المنية الشبيهة بالأسد كما تقدم أيضا فلما جوز وجود كل منهما بدون الأخرى فلا معنى لقوله : لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية سواء حمل على ظاهره وهو الذي فهم المصنف وألزم إبطاله على أحد شقي الاعتراض كما لزم بما قاله في المجاز العقلي أو حمل على عكسه كما قال ذلك القائل ، ورد عليه بما تقدم بهذا الكلام ، وهو قوله : لا تنفك إلى آخره ، لا وجه له إما بما ذكره المصنف في التبعية إلزاما له وإما بما ذكر هو من انفكاك كل منهما عن الأخرى فليتأمل ، فإن المقام سهل ممتنع وقد اتضح والله الموفق بمنه وورد على تعميم كلام السكاكي في رده كل تبعية إلى المكنى عنها أن ذلك إنما يصلح إن قامت قرينة على قصد التشبيه في قرينتها ، وأما إن قامت قرينة على أن المقصود بالذات نفس المصدر المشتق منه فجعلها كناية لا وجه له ؛ لأن التخييلية يجب أن تكون في القصد تابعة للمكنى عنها لما تقرر فيها ويمكن أن يجاب عن السكاكي كما قيل بأن مقصوده إلزام تقليل التقسيم على مذهبهم وأنه الأولى بهم حيث جعلوا التخييلية حقيقة لغوية لا على مذهبه ، أو أنه رجع عن مذهبه الذي اقتضاه مراعاة شدة المناسبة لمسمى الاستعارة ؛ لأن نقل مسمى التخييلية للأمر الوهمي أنسب بالاستعارة إلى كونها حقيقة لغوية لمصلحة مناسبة تقليل التقسيم فانظره.


(وإلا) أي : وإن لم يقدر التبعية التي جعلها قرينة للمكنى عنها حقيقة بل قدرها مجازا ـ وتقدم أن المراد بالتقدير التحقيق والتثبيت ـ فتكون تلك التبعية التي جعلها مجازا حينئذ (استعارة) لأن المجازية التي يثبتها في هذه القرينة بجعل علاقتها المشابهة وكل مجاز علاقته المشابهة استعارة وإذا كانت استعارة بفرضها مجازا كانت استعارة تبعية ؛ لأن الاستعارة في الفعل لا تكون إلا تبعية لما تقدم أن المقصود بالذات في المشتق مطلقا هو المعنى المصدري وغيره يؤخذ بالعموم ولا يتعلق به الغرض بالذات ، وما يقع فيه التشبيه الذي تنبني عليه الاستعارة يجب أن يكون هو الأعم والمطلوب أحواله في المعنى.

فقول القائل : نطقت الحال إن جعل نطقت تخييلا والحال استعارة مكنيا عنها فإن جعل نطقت حقيقة أسند لغير أصله كما يقوله الجمهور ، وجدت المكنى عنها بدون التخييل ؛ لأن التخييل عنده ليس إلا بالصورة الوهمية وإن جعله مجازا كان استعارة تبعية لما تقرر آنفا (ف) يلزم حينئذ أنه (لم يكن ما ذهب إليه) السكاكي من رد التبعية إلى المكنى عنها (مغنيا عما ذكره غيره) من أنها تبعية فإن الاستعارة تنقسم بسبب ذلك إلى التبعية وغيرها وإنما قلنا لم يغن ما ذكر عما ذكره غيره ؛ لأنه اضطر آخرا إلى القول بالتبعية على تقدير كونها مجازا ، وغاية ما في ذلك أن ما ذكره وما ذكره غيره حينئذ مجتمعان في شيء واحد وهما مفهومان مختلفان أعني كون نطقت تبعية من حيث إنها فعل وكونها تخييلا من حيث إن النطق نقل على مذهبه لصورة وهمية ، ولا يوجب ذلك إسقاط التقسيم الذي فر منه فقد فر من شيء وعاد إليه ؛ لأنه حاول إسقاط الاستعارة ثم آل الأمر على هذا الاحتمال آخرا إلى إثباتها كما أثبتها غيره وقد يجاب عن لزوم القول بالاستعارة التبعية بأن ذلك إنما يلزم لو كان السكاكي يقول : بأن كل مجاز يكون قرينة للمكنى عنها يجب أن يكون استعارة ، فيلزم من كونها استعارة في الفعل كونها تبعية ، وإذا صح أن يكون ذلك المجاز الذي جعل قرينة للمكنى عنها مجازا آخر غير الاستعارة لم يلزم القول بالاستعارة التبعية ، ولو قال بأن القرينة المذكورة مجاز ، فللسكاكي أن يقول هب أن نطقت في قولنا :


نطقت الحال بكذا ، مجاز لا يلزم أن يكون استعارة ولو صح كون علاقته المشابهة ؛ لأن المعنى الواحد يجوز أن ينقل اللفظ إليه بعلاقة اللزوم مثلا كما في دلالة الحال فإنه يجوز كما تقدم أن يعتبر أن النطق يستلزم الدلالة أي : الإفهام للمقصود فينقل لفظه لدلالة الحال ؛ لأن مطلق الدلالة الصادقة عليها لازمة للنطق فيستعمل فيها من حيث كونها دلالة في الجملة فيكون مجازا مرسلا ، ويجوز أن يعتبر تشبيه النطق بالدلالة في وجه مشترك بينهما وهو التوصل بكل منهما إلى فهم المقصود ، ولا يضر في الاشتراك كون التوصل في الدلالة من جهة كون المتوصل إليه مطاوع معناها ؛ لأن الإفهام الذي هو الدلالة يطاوعه الفهم المتوصل إليه وكون التوصل في النطق بواسطة مطلق الإفهام لصدق أنهما مشتركان في التوصل في الجملة ، وإذا جاز في المعنى الواحد أن يتجوز فيه بعلاقة المشابهة عند قصد المبالغة في التشبيه وأن يتجوز فيه بعلاقة اللزوم كما في النطق مع الدلالة جاز أن يراعي في نطقت أن مجاز علاقته اللزوم ، فلا يصدق أنه استعارة تبعية نعم يصدق أنه مجاز تبعي في الفعل ولم يجز الاصطلاح عليه كما تقدم ؛ لأنه لم يذكر في أقسام المجاز ولم يشتهر بذلك لكن هذا لا يضر في الجواب ؛ لأن كلامنا الآن فيما تسقط به الاستعارة التبعية وذلك كاف فيه ، ولو لم يذكر ، ولكن يرد عليه أن ذلك قد لا يطرد فيجوز أن يكون ثم محل لا تصلح فيه إلا الاستعارة لاقتضاء المقام المبالغة في التشبيه وعلى تقدير صلاح كل محل لذلك فالتزام أحد الجائزين وهو كون اللفظ مجازا مرسلا مع صحة الآخر مجرد إسقاط ما لا موجب لإسقاطه وهو تحكم على أن السكاكي لا يصلح هذا جوابا عنه ؛ لأنه صرح بأن نطقت أطلق على أمر وهمي كأظفار المنية ، فإنها استعارة لأمر وهمي شبيه بالأظفار الحقيقية ومن المعلوم أن مقتضى هذا الكلام كون نطقت استعارة من النطق الحقيقي إلى الوهمي لوجهين أحدهما أنه شبيه بالأظفار وهي استعارة عنده والآخر أن النطق بعد فرضه مجازا في أمر وهمي لا يصح


إلا أن يكون استعارة إذ لو كان مجازا مرسلا كان مستعملا في أمر له علاقة غير المشابهة تتقرر بينه وبين أصله وبالضرورة أن الصورة الوهمية لا علاقة بينها وبين النطق الحقيقي إلا الشبه ، ولو سلمت صحة كون نحو : نطقت مما جعل على مذهبه قرينة المكنى عنها مجازا مرسلا في كل صورة وألغي النظر عما اقتضاه قوله إن نطقت نقل للصورة الوهمية فحاصله التزام أن قرينة المكنى عنها تكون مجازا مرسلا دائما ، فيلزم عليه حينئذ أن المكنية خلت عن التخييلية ؛ لأن التخييلية عنده ليست إلا تشبيه الصورة الوهمية بالحسية فإذا كان نحو ما ذكر مجازا مرسلا فلا تخييل إذ لا صورة وهمية شبهت بالمعنى الأصلي ، وإذا انتفى التخييل بقيت المكنى عنها بدون التخييلية وهو عين الاعتراض الأول فلم يخرج كلامه عن أحد الاعتراضين ؛ إذ متى وجه بما سلم به عن أحدهما دخل عليه الآخر ويمكن الجواب عن عود الاعتراض الأول على تقدير التزام كون القرينة في المكنى عنها مجازا مرسلا ؛ بأن نقول قول السكاكي : لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية ، معناه أن التخييلية لا توجد بدون المكنى عنها بمعنى أنها تستلزم المكنى عنها فعلى تقدير كون المسمى بالتبعية مجازا مرسلا لتكون قرينة للمكنى عنها بناء على ما اختاره السكاكي ، إنما يلزم فيه وجود المكنى عنها بدون التخييلية فنقول السكاكي يقول بموجبه إذ لا يقول باستلزام المكنى عنها للتخييلية ، واللازم على ذلك التقدير وجود المكنى عنها دون التخييلية وهو صحيح ، فلا يرد الاعتراض الأول على السكاكي بناء على ما أجيب به أولا من التزام كون القرينة مجازا مرسلا ، ولكن هذا يتوقف على بيان كيفية دلالة قوله لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية ، على معنى أن التخييلية تستلزم المكنى عنها مع أن المتبادر منه هو العكس المعترض ، وبيان ذلك أن قول القائل هذا لا ينفك عن هذا ، يحتمل أن يكون معنى الانفكاك المنفي فيه أن الأول لا ينعزل عن الثاني أي لا يوجد وحده بدون الثاني كما تقول هذه الغنم لا تنفك عن تلك ، والإنسان لا ينفك عن الحيوان فيلزم كون الأول الذي أسند إليه الانفكاك أخص أو ما يجري مجراه ؛ لأن الأخص هو الذي لا ينعزل عن الأعم وعلى هذا فهم الكلام أولا.


ولا يستلزم كون الثاني وهو مدخول عن أخص أو ما يجري مجراه بل يصح أن يكون أعم فيصح أن يوجد بدون الأول ويحتمل أن يكون المعنى لا ينتفي عن الثاني كما تقول لا ينفك الحلم والحياء عن زيد ، أي : لا ينتفيان عنه ومن المعلوم أن الذي لا ينتفي هو الأول والذي لا ينتفي عنه غيره هو الثاني وبالضرورة أن الذي لا ينتفي عنه غيره إما أخص أو جار مجراه فيلزم أن الثاني وهو مدخول عن هو الذي لا ينعزل ، أي : لا يوجد وحده دون الأول فهو إما أخص أو ما يجري مجراه فيصح على هذا كون الأول الذي أسند إليه الانفكاك المنفي أعم ، وعلى هذا تؤول في هذا الجواب قول السكاكي لا تنفك المكنى عنها عن التخييلية ، أي : لا تنتفي عن التخييلية فتكون التخييلية هي التي حكم عليها بأنها لا توجد بدون المكنى عنها ، وكلا المعنيين تستعمل له مثل تلك العبارة ولو كان الاستعمال في الأول أقرب.

فإذا تأولت عبارة السكاكي بهذا لم يرد الاعتراض الأول قاله بعض من تكلم على هذا الكتاب ورد عليه فيما تقدم ؛ لأن قوله : يلزم خلو المكنى عنها عن التخييلية بناء على أن نحو نطقت مجاز مرسل نقول على هذا مسلم ولا نقول أن المكنى عنها أخص حتى يرد الرد بهذا الإلزام ، وإنما نقول بالعكس ولم يرد عليه شيء ، وبهذا تعلم أن هذا نزوع لما ادعي فساده أولا ، فكان الذي ينبغي حينئذ أن يقال هكذا ويمكن الجواب بما تقدم من تفسير عبارة السكاكي بعكس المعنى المعترض ، فإن قيل : ومع هذا فلا يصح لما تقدم أن السكاكي صرح بأن التخييلية لا تستلزم المكنى عنها كما في قوله : أظفار المنية الشبيهة بالسبع ، فكيف يصح حمل كلامه على أن التخييلية تستلزم المكنى عنها؟ قلنا : يحمل على معنى أنها تستلزمها في الفصيح من الكلام أو في الشائع منه إذ لا خلاف أن مثل هذا الكلام ليس بشائع ، وإنما النزاع في صحته ويقيد هذا الحمل أن الوجه الآخر وهو أن يكون معنى لا تنفك المكنية عن التخييلية أن المكنية تستلزم التخييلية إذا حمل الكلام عليه كان حملا على ما خلافه شائع ، فإن عدم استلزام المكنية للتخييلية بأن توجد بدون التخييلية أمر شائع وقد قرره


صاحب الكشاف في قوله تعالى (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(١) وقد تقدم بيانه وقرره صاحب المفتاح في قول القائل : أنبت الربيع البقل ، وقد تقدم بيانه أيضا ولكن هذا التوجيه في هذا الحمل لا يخفى أنه يضعف ما تقدم من أن قول القائل : إن قول السكاكي معناه استلزام التخييلية للمكنى عنها دون العكس مما تبين فساده ، وربما يستروح بما قررناه به فيما تقدم ما قد يكون عذرا في ادعاء الفساد ، فإن قلت : فما حاصل مذهب السكاكي في قرينة المكنى عنها باعتبار ما تقرر في كلامه مفرقا؟ قلت : حاصله أن قرينة الاستعارة بالكناية قد تكون استعارة تخييلية مثل أظفار المنية ونطقت الحال ؛ لأنه قرر في المثالين أن القرينة لفظ مستعار من معنى حقيقي إلى معنى وهمي فكانت تخييلية فيهما وقد تكون استعارة تحقيقية كما ذكره في قوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(٢) وذلك أنه قال : البلع استعارة عن غور الماء في الأرض وهو منقول من إدخال الطعام من الحلق إلى الجوف وقال : إن الماء استعارة بالكناية عن الغذاء الذي يأكله الحيوان ؛ لأن البلع إنما يناسب بحسب أصله الطعام ، ووجه الشبه في الاستعارتين ظاهر أما في البلع فهو إدخال ما تكون به الحياة إلى مقر خفي ، أي : من ظاهر إلى باطن من مكان معتاد للإدخال أي : من أعلى إلى أسفل ، وهذه الاستعارة في غاية الحسن لكثرة التفصيل في وجه الشبه فيها فقد روعيت جهة توجب حسن الاستعارة ، وأما في الماء فهو كون كل من الطعام والماء مما تقوم به الحياة ويتقوى به ، فالأرض تتقوى في نباتها وأشجارها بالماء ، والحيوان يتقوى بالغذاء ويدخل كل منهما بالتدريج غالبا وقد تكون حقيقة كما في أنبت الربيع البقل ولا شك أن كونها استعارة حقيقية أو تخييلية على ما قرر يدفع في وجه الجواب بالتزام كونها مجازا مرسلا دائما ، ويحقق قوله بالتبعية بعد ما تقرر لديه أنه تعسف باطل ، نعم يمكن الجواب على تأويل بعيد بما تقدم وهو أنه ينبغي على

__________________

(١) البقرة : ٢٧.

(٢) هود : ٤٤.


مذهبهم إسقاط التقسيم ، وأما أنه رجع عن القول بالاستعارة التخييلية فلا يدفع لزوم قوله بالتبعية لبقاء ما قال من التصريحية تأمل والله الموفق بمنه وكرمه.

هذا تمام ما أورده المصنف من المباحثة مع السكاكي وقد بسطت فيها القول لنتبين إذ فيها غرض محتاج لهذا البسط ثم ختم باب المجاز بفصل حسن الاستعارة وفصل المجاز في الإعراب وأخر الثاني منهما لخفة أمره ولكون الأول كالحكم على ما تقدم فقال.

فصل فى شرائط حسن الاستعارة

(فصل) ذكر فيه شروط حسن الاستعارة مما ليس من باب حسنها بمزيد التأكيد كما تقدم في الترشيح أنه أبلغ إذ أبلغيته تفيد أحسنيته ، وحسن الاستعارة يكون بأمرين مع ما يتعلق بهما الأول حسن أصلها وهو التشبيه ، والثاني بأن لا تشم معه رائحة التشبيه ولما ذكر في التشبيه ما يفيد حسنه وقبحه وهو ما اشتمل عليه ما ذكره زائدا على أركانه ، إذ من المعلوم أن الزائد على الأركان ليس شرط وجوده بل إما أن يكون مما يحسن به فيكون شرط حسنه ، أو يكون مما لا يحسن به فيكون موجب قبحه ويدرك فيه أحد المعنيين فيما تقدم بإدراك ذاته ؛ لأن العقل يهتدي بإدراكه إلى كونه مما ينبغي أو بالتنصيص على حسنه أو قبحه كما تقدم في المبتذل والغريب أحال حسن الاستعارة على التشبيه تنبيها على الأمر الأول وإنما أحال عليه لتقدم حسنه أخذا وتنصيصا كما ذكرنا فقال (حسن كل من) الاستعارة (التحقيقية) وقد تقدم أنها هي التي تحقق معناها حسا أو عقلا وهي ضد التخييلية (والتمثيل) على سبيل الاستعارة وقد تقدم أنها هي اللفظ المنقول من معنى مركب إلى ما شبه بمعناه ، فإن خصصت التحقيقية بالإفرادية اصطلاحا كما هو ظاهر عبارة المصنف في تخصيص التمثيلية بالتسمية والذكر ؛ كان عطف التمثيلية على التحقيقية من عطف المباين ، وإن جعلت من التحقيقية بأن لم تخصص التحقيقية بالإفرادية كما هو ظاهر عبارة السكاكي كان عطفها من عطف الخاص على العام (برعاية) خبر حسن أي : حسن الاستعارتين حاصل برعاية (جهات حسن التشبيه) فإذا روعيت تلك الجهات في التشبيه


وأوقعت الاستعارة بعد رعاية تلك الجهات حصل حسن الاستعارة وإلا فات حسنها بفوات حسن أصلها وهو التشبيه وتلك الجهات مثل أن يكون وجه الشبه شاملا للطرفين معا ، وأما إن وجد في أحدهما دون الآخر فات الحسن كاستعارة اسم الأسد للجبان من غير قصد التهكم بعد تقدير تشبيهه به ولكن هذا الوجه إنما هو من شروط الصحة لا من شروط الحسن ، إذ لا تشبيه مع انتفاء الجامع فالأولى إسقاطه في هذا المحل ، والجواب عن ذلك بأن المراد الشمول الحسي إذ هو الشرط في الحسن ، وأما الذي يكون شرطا للصحة فمطلق الشمول الصادق بالادعائي لا وجه له ؛ لأن الشمول الادعائي إن كان مقبولا كما في التهكم فإنما قبل لكونه في حكم الحسي من شروط الحسن مع أن الصحة إنما هي باعتباره؟! ومثل أن يكون التشبيه وافيا بإفادة الغرض المقصود منه كما إذا كان الغرض تزيين وجه أسود فيشبه بمقلة الظبى ثم يستعار له لفظ المقلة فهذا واف بالغرض ، ولو شبه لإفادة ذلك الغرض بالغراب أو القدر الكثيرة الاستعمال أو السلحة الجامدة قد نقرتها الديكة أو نحو ذلك ، ثم استعير واحد من هذه الألفاظ فات الحسن وكذا نحو ذلك مثل كون الوجه غير مبتذل بأن يكون غريبا لطيفا لكثرة التفصيل أو لندرة الحضور كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل ، وتشبيه البنفسج بأوائل النار في أطراف كبريت ، ثم يستعار واحد منهما لما شبه به بخلاف تشبيه الوجه بالشمس ثم تستعار له ، وتشبيه الشجاع بالأسد ثم يستعار له فإن ذلك مما فات فيه الحسن لفوات حسن التشبيه فيه ؛ لعدم الغرابة لوجود الابتذال ثم أشار إلى الأمر الثاني الذي به تحسن الاستعارة عاطفا له على الأول بقوله (وأن لا يشم) أي : حسن كل من التحقيقية والتمثيل حاصل بما تقدم.

وبأن لا يشم في الاستعارتين (رائحته) أي : رائحة التشبيه (لفظا) أي لم يلم لفظ التركيب الذي فيه الاستعارة بشيء من التشبيه بمعنى أنه لا رائحة من جهة اللفظ فلفظا تمييز محول عن المضاف إليه تقديره أن لا تشم رائحة لفظ التشبيه إما الوجه أو المشبه أو الأداة


ويحتمل أن يكون منصوبا بإسقاط الخافض أي : أن لا يشم رائحة التشبيه بلفظ يدل عليه وإنما قال لفظا ؛ لأن رائحة التشبيه موجودة بالقرينة في معنى الاستعارة إذ هي لفظ أطلق على المشبه بمعونة القرينة بعد نقله عن المشبه به بواسطة المبالغة في التشبيه ، فلا يمكن نفي إشمام الرائحة ولو معنى وعبر بالإشمام إيماء إلى أن شرط الحسن هو انتفاء الإشمام الذي حده أن لا يخرج به الكلام عن الاستعارة ، كما في قوله :

قد زر أزراره على القمر

فإنه ولو ذكر فيه ضمير المشبه ليس على وجه ينبئ عن التشبيه وقد تقدم ما فيه فيفت الحسن لا الصحة وأما انتفاء ما ليس في هذا الحد وهو الذي يخرج الكلام عن الاستعارة فهو شرط الصحة لأنه تشبيه إما ضمنا كما في قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) فإن من الفجر هو المشبه بالخيط فهو ولو لم يكن على صورة التشبيه لكن لما فسر به الخيط الأبيض كان من التشبيه ؛ لأنه بين الأصل المراد فهو في تقدير من الفجر الذي شبه بالخيط الأبيض ، وإما صريحا كهذا أسد في الشجاعة ويجري مجراه رأيت أسدا في الشجاعة لأن ذكر الوجه ينبئ عن التشبيه ويهدي التركيب إليه بخلاف زر أزراره على القمر كما تقدم ، وإنما شرط في حسن الاستعارة أن لا يشم رائحة التشبيه كما فى قوله : زر أزراره على القمر ؛ لأن إشمام رائحته يبطل كمال الغرض من الاستعارة ، ومعلوم أن كمال الغرض من إيجاد الشيء هو حسنه ، ونقصانه قبحه في الجملة وإنما أبطل كمال الغرض ؛ لأنه أعني الغرض من الاستعارة إظهار المبالغة في التشبيه ويحصل ذلك الإظهار بادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به وادعاء أنهما مشتركان في الحقيقة الجامعة لهما ، وأن اللفظ موضوع لتلك الحقيقة إلا أن أحد الفردين متعارف والآخر غير متعارف ومقتضى هذا الغرض استواؤهما في ذلك الجامع الذي هو ثمرة ذلك المجعول كالحقيقة الجامعة ؛ لأن استواء الأفراد في الحقيقة هو الأصل ولا شك أن إشمام رائحة التشبيه

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.


فيه إشعار ما بأصل التشبيه والإشعار بأصله يتضمن الإيماء إلى ما علم من الأصل في التشبيه والكثير فيه وهو كون المشبه به أقوى من المشبه في الجامع وكونه أقوى ينافي الاستواء فيه الذي هو مقتضى الغرض ومضمنه ، وإنما قلنا : ينافي كمال الغرض ؛ لأنه لو كان منافيا لأصل الغرض بأن لا تفهم المبالغة على الوجه المذكور لانتفت الاستعارة وعاد الكلام تشبيها فإن قيل التجريد فيه إشمام الرائحة فيلزم قبح الاستعارة معه قلت كأنهم خصوا الإشمام بذكر المشبه ، أو الوجه لا على وجه التشبيه ، ويحتمل أن يقال بالقبح في التجريد حيث كان فيه الإيماء إلى المشبه ويؤيده أن الترشيح أبلغ منه والله أعلم.

ثم أشار إلى ما يتعلق بهذا الحسن فقال : (ولذلك) أي : ولأجل ما قلنا من أن شروط الحسن في الاستعارة أن لا يشم رائحة التشبيه لفظا ، أي : وبسبب ذلك (يوصي) من جهة البلغاء عند تحقق حسن الاستعارة بوجود هذا الشرط (أن يكون التشبيه) أي : ما به المشابهة وهو وجه الشبه (بين الطرفين جليا) بنفسه ؛ لكونه يرى مثلا كما في تشبيه الثريا بعنقود الملاحية ، أو بواسطة عرف كما في تشبيه زيد مثلا بإنسان عريض القفا في البلادة ، فإن العرف حاكم بأن عرض القفا معه البلادة ، وكما في تشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة فإن وصف الجراءة ظاهر في الأسد عرفا أو بواسطة اصطلاح خاص ، كما في تشبيه النائب عن الفاعل في العمدية وحصول الفائدة بالفاعل في حكم الرفع فإن الرفع في الفاعل ظاهر في اصطلاح النحو ، فيشبه به عند ما يحتاج المعلم إلى التشبيه به مثلا ، وإنما يوصي بكون وجه الشبه جليا في الاستعارة التي فيها عدم إشمام رائحة التشبيه (لئلا يصير) تلك الاستعارة (إلغازا) بكسر الهمزة لأنه مصدر ألغز في كلامه إذا عمى مراده وأخفاه فإلغازا مصدر أطلق على المفعول أو هو على إسقاط المضاف أي : ذات إلغاز ، ومنه اللغز بضم اللام وفتح الغين ، وهو المعنى الملغز فيه أو اللفظ المستعمل فيه ، وجمعه ألغاز بفتح الهمزة مثل رطب وأرطاب وأصل اللغز جحر اليربوع وذلك أنه يحفر حجرة إلى أسفل داخل جحره على استقامة ثم يجعل فيه مختفى يمينا وشمالا فسمى المختفي فيها لغزا ، ومقتضى ذلك تسمية الاختفاء فيها


إلغازا فمنه أخذ ما ذكر ، وإنما تكون الاستعارة إلغازا عند عدم إشمام رائحة التشبيه ؛ لأن شرائط الحسن إن روعيت وروعي من جملتها عدم إشمام الرائحة كانت الاستعارة في غاية البعد عن فهم المراد ؛ لأن عدم إشمام رائحة التشبيه يبعد عن الأصل ، وخفاء الوجه يزيده بعدا ، فإذا تقوى التبعيد عن الأصل لم يفهم المراد ، وإن لم تراع جميعا بأن انتفى عدم إشمام الرائحة بوجود إشمامها فذلك مما يقرب إلى الأصل ، لكن يفيت الحسن وقولنا : بأن انتفى عدم إشمام الرائحة بوجود إشمامها إشارة إلى أن الشرط الذي تكون معه التعمية وتنتفي بانتفائه هو الإشمام ، وأما الشرائط الأخرى فلا مدخل لها ولا لعدمها في التعمية وعدمها ، ومرادنا بشرائط الحسن هنا شرائط التشبيه ليكون ذكر عدم إشمام الرائحة بعدها من عطف المباين ، وقد عرفت أنه هو المقصود بالذات وغيره لا مدخل له في التعمية ويحتمل أن يراد بها شرائط حسن الاستعارة فيكون ذكر عدم الإشمام بعدها من عطف الخاص على العام ؛ للاهتمام به إشارة لما ذكرنا من أنه المناط في التعمية وعدمها بعدمه ، فإن قلت : متى لم يذكر الوجه ولو كان جليا بل ولو كان في التشبيه كان فيه خفاء وتعمية إذ لا دليل عليه ، قلنا : أما في التشبيه فالغرض حاصل من قولنا : زيد كعمرو لو لم يذكر الوجه وهو أنا ألحقناه به في شيء ما من الأشياء وأما في الاستعارة فإن الانتقال من وجه الشبه إلى المستعمل فيه ، فإذا كان الوجه جليا في المشبه به حصل الانتقال بلا خفاء وإلا ركب الفهم شططا بالخفاء فيكون تعمية وتحقيق ذلك أن الغرض من الاستعارة إفهام المستعار له من حيث وجه الشبه أو بواسطته ، فإذا قيل : مثلا رأيت أسدا في الحمام فالمراد الإشعار بالأسد الأصلي لينقل منه إلى لازمه المشهور وهو الشجاعة والجراءة ثم ينتقل بواسطة القرينة إلى من يشاركه فيها وهو الرجل الشجاع فالمنتقل إليه آخرا هو الرجل المقيد بالشجاعة لأجلها مع اعتبار إخراج مطلق الشجاعة عن الطرفين ؛ لتكون وجها جامعا إذ لو دخلت احتيج إلى آخر ويتسلسل ولا يقال المقيد يدخل فيه القيد فيدخل الوجه في الطرف المنتقل إليه المستعمل فيه اللفظ ، فإذا كان المستعمل فيه هذا الطرف المشبه بقيده الذي هو الوجه الكائن فيه دخل الوجه في


ذلك الطرف الذي هو المشبه ، والمقرر أن الوجه خارج عن الطرفين ؛ لأنا نقول الوجه مطلق الشجاعة والمنتقل إليه الرجل المقيد بها ويكفي في مباينة الوجه والطرف بأن لا يعتبر الوجه في طرف التشبيه الإطلاق والتقييد ؛ لأن المطلق خلاف المقيد لعموم المطلق فإذا تمهد هذا التحقيق كما تقدمت الإشارة إليه أول الباب فنقول متى كان وجه الشبه خفيا انقطع الانتقال منه مطلقا إلى الطرف الذي استعمل فيه اللفظ مقيدا به فتصير إلغازا إذ لا يفهم من القرينة إلا أن المعنى الأصلي لم يرد ، وإما أن يفهم أنه أريد الطرف الآخر فلا وذلك (كما لو قيل) في الاستعارة التحقيقية (رأيت أسدا) في الحمام (وأريد إنسان أبخر) أي : خبيث رائحة الفم إذ لا ينتقل من الأسد مع القرينة المانعة عن إرادة الأصل إلا إلى إنسان موصوف بلازم الأسد المشهور وهو الشجاعة وأما إلى البخر فلا لخفائه والانتقال إلى الرجل بدون الوصف لا يفيد في التجوز (و) كما إذا قيل في الاستعارة التمثيلية (رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة وأريد الناس) من حيث عزة وجود الكامل مع الكثرة ، ولا شك أن وجه الشبه المذكور خفي فلا ينتقل إلى الناس من الإبل من هذه الحيثية وإنما قلنا : إن هذه الاستعارة تمثيلية ؛ لأن الوجه منتزع من متعدد لأنه اعتبر فيها وجود كثرة من جنس وكون تلك الكثرة يعز فيها وجود ما هو من جنس الكامل ، وههنا شيء وهو أن الكلام إذا كان هكذا فالخفاء من عدم ذكر القرينة المانعة عن إرادة الأصل ، إذ لو قيل : رأيت يوم الجمعة في المسجد إبلا مائة لا تجد فيها راحلة تبين المراد ؛ لأن قوله : مائة لا تجد فيها راحلة تبين الوجه فالأولى في التمثيل أن يقال : رأيت يوم الجمعة في المسجد والإمام يخطب إبلا مائة لا تجد فيها راحلة ، فإن هذه صورة التجوز مع أن الخفاء ، إذ المفهوم الناس المرئيين في المسجد كالإبل والمتبادر أنهم كالإبل في البهيمية وقلة الفهم وكبر الأعضاء وطولها مثلا ، إذ هذا هو المتبادر وقد ينتقل إلى أنهم في غاية الصبر ؛ لأن الإبل مشهورة بالصبر على ما تستعمل ، وأما عزة الكمال مع الكثرة فلا تفهم ، وإنما قلنا : هكذا لأن كلامنا فيما تحقق فيه التجوز مع الخفاء ولا يتحقق إلا بالقرينة ولو ذكرت القرينة في المثال مع الإيماء إلى الوجه انتفى الخفاء


وبه يعلم أن الوجه إن كان خفيا وأشير إلى ما يومي إليه فإن لم يدع رجوع الكلام إلى التشبيه لم يكن إلغازا ، وبالجملة إن ما ذكر من التمثيل ليس بظاهر لعدم القرينة وعلى تقدير وجودها فإن كان من التشبيه فهو خارج عما نحن بصدده ، فلا يصح التمثيل وإن كان من المجاز فلا خفاء لظهور المراد ، فإن قيل : لو قيل مثلا الناس كالإبل كان إلغازا لخفاء وجه الشبه المراد من التشبيه فيكون إلغازا أيضا فعلى هذا لا يختص الإلغاز بالمجاز بل يجري في التشبيه أيضا ، وظاهر ما تقدم أن عدم ذكر الوجه في التشبيه لا يصيره إلغازا وظاهره الإطلاق أعني سواء خفي الوجه أو ظهر ، قلنا : المقصود من الاستعارة كما حررنا التوصل بالوجه إلى المراد ومتى خفى انقطع التوصل كما تقدم ، وأما التشبيه فإن كان الغرض مجرد الإلحاق لم يضر الخفاء ، وإن كان الغرض الإلحاق بوجه خاص فلا بد من البيان إن خفي كما في الحديث الشريف الذي أخذت منه هذه الاستعارة الممثل بها فلذلك أشير إلى الوجه في التشبيه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة) (١) فكون التشبيه إلغازا عند عدم ذكر الوجه مع خفائه أمر عارض بخلاف المجاز وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة لا تجد فيها راحلة يحتمل أن يكون جملة استئنافية ، أي : مائة منها لا توجد فيها راحلة إذ كأنه قيل ما معنى ذلك؟ فقيل : مائة منها لا تجد فيها راحلة ، ويحتمل أن يكون مائة نعتا للإبل وما بعده وصفا لمائة كإبل معدودة بهذا القدر الكثير الموصوف بأنك لا تجد فيها راحلة على كل فقد ظهر أن فيه الإيماء لوجه الشبه المقصود لخفائه ، وهو أن الناس في عزة وجود الكامل كالإبل في عزة الكامل مع الكثرة في كل منهما ، إلا أن مصدوق الكامل في الناس هو المهذب من القبائح الزاهد فيما لا يعني ومصدوقه في الإبل النجيب المتحمل للأثقال الحسية وذلك أن الراحلة في اللغة هو البعير المعد للرحل وحمل الأثقال لقوته سواء كان جملا أو ناقة ، فالمعنى أن المرضى شرعا وطبعا المنتخب أخلاقا وزهدا هو في عزة وجوده مع كثرة جنسه كالنجيبة المعدة للرحل التي لا تكاد توجد مع كثرة الإبل ، وإنما

__________________

(١) أخرجه البخارى فى الرقاق (٦٤٩٨) ، ومسلم (٢٥٤٧).


خص التحقيقية والتمثيلية بالتمثيل بهما لما يكون بالخفاء إلغاز ؛ إشارة إلى أن المكنى عنها ليست في منزلتهما في الإلغاز عند خفاء الوجه ، وإن كانت مثلهما في مجرد الحسن وذلك أن المذكور فيها لفظ المشبه لمعناه وقرينة ذكر اللوازم التي بها كمال الوجه أو قوامه تبين التشبيه والوجه وتزيل الإلغاز كما أشرنا إليه في المثال المنقول عن الحديث الشريف من أن ذكر ما يومئ إلى الوجه وإن كان خفيا يزيل الإلغاز ، وذلك ظاهر وإن كان يمكن أن يدعي أن القرينة مع الخفاء مما يتأكد به البعد في فهم المراد ولو كان ثم إيماء تأمله.

(وبهذا) المذكور وهو أن ما يكون فيه الوجه خفيا لا تنتفي فيه الاستعارة لئلا تصير إلغازا وتعمية (ظهر أن التشبيه أعم) من الاستعارة (محلا) بمعنى أن كل محل صحت فيه الاستعارة صح فيه التشبيه ولا يصح العكس كليا ، وهو أن كل ما صحت فيه الاستعارة صح فيه التشبيه وذلك أن المحل الذي يكون فيه الوجه خفيا لا تصح فيه الاستعارة ؛ لئلا تكون إلغازا كما في المثالين بل الواجب أن يؤتي بالتشبيه في صورة إلحاق الناس بالإبل كما في الحديث الشريف ويؤتى بالتشبيه في صورة إلحاق الرجل بالسبع في البخر بل ويجب ذكر الوجه عند قصد خصوصه ؛ ليتبين المراد وإلا فهم الإلحاق في الجملة ، وقد تقدم التفريق بين جنس التشبيه والمجاز في ذلك فإن التشبيه يتصور فيه إجمال ربما يتعلق الغرض به في بعض التراكيب ، والمجاز ليس كذلك ، ولو كانا مستويين في الامتناع عند الخفاء إذا لم يذكر الوجه في التشبيه وذلك عند قصد خصوص الوجه في ذلك التشبيه ، فإذا صح هذا التشبيه فيما ذكر دون الاستعارة كان أعم محلا وورد على الأعمية المذكورة أنه إن أريد الاستعارة والتشبيه الحسنان كان بينهما عموم من وجه لتصادقهما حيث لا خفاء ولا اتحاد وانفراد الاستعارة حيث الاتحاد كما في مسألة العلم والنور الآتية ، وانفراد التشبيه حيث الخفاء كما في مسألة الإبل والناس وإن أريدا ولو مع قبح اتحدا محلا لصحة التشبيه مع القبح في العلم والنور وصحة الاستعارة مع القبح في الخفاء وعلى هذا يكون الإيصاء السابق وما يتصل به إيصاء بذكر المندوب لا إيصاء بواجب غير أن المندوب في البلاغة كالواجب فعليه يكون


بينهما عموم من وجه ، ثم إن مقتضى ما ذكر أنه إذا أريد الحسن اجتنب كون وجه الشبه مبتذلا واجتنب كونه خفيا ، أما اجتناب الابتذال فلاشتراطه في حسن الاستعارة حسن التشبيه وحسن التشبيه باجتناب وجه الابتذال وأما اجتناب الخفاء فللفرار من الإلغاز والتعمية ، وترك الابتذال ، وإنما يحصل بالغرابة المقتضية للخفاء وترك الخفاء رجوع عن الغرابة إلى الابتذال فجاء في مقتضى الشرطين سواء قلنا إنهما شرطا حسن أو شرطا صحة تناف وتدافع ، ويجاب بأن الغرابة تقبل الشدة والضعف فيجب أن يكون الوجه من الغرابة بحيث لا يصل إلى المرتبة المقتضية للإلغاز ويكون منها بحيث لا يصل إلى مرتبة الابتذال فالمطلوب على الوجوب أو الحسن هو الغريب المتوسط بين المبتذل والخفي وهما طرفا غاية القبح أو المنع وقد تقدم تمثيل كل واحد من هذه الأقسام فافهم.

ثم أشار إلى ما يناسب ما ذكر وهو أنه إن خفي الشبه منعت أو قبحت الاستعارة وحسن التشبيه بقوله (ويتصل به) أي بما ذكر ومعنى الاتصال به أنه ينبغي أن يذكر متصلا بما ذكر للمناسبة بينهما بالتقابل لا يجاب كل منهما عكس ما أوجبه الآخر ؛ لأن ما ذكر يوجب حسن التشبيه دون الاستعارة وهذا يوجب حسن الاستعارة دون التشبيه وهذا المتصل بما ذكر هو (أنه) أي الشأن هو ما أشار إليه بقوله (إذا قوي التشبيه) أي : ما وقع به التشابه (بين الطرفين) لكثرة الاستعمال فكثرت ملاحظة ما وقع به التشابه (حتى اتحدا) أي : صارا كالمتحدين في ذلك المعنى بحيث يفهم من أحدهما ما يفهم من الآخر (كالعلم والنور و) ك (الشبهة والظلمة) فقد كثر تشبيه العلم بالنور في الاهتداء والشبهة بالظلمة في التحير حتى صار كل من المشبهين يتبادر منه المعنى الموجود في المشبه بهما ، فصارا كالمتحدين في ذلك المعنى بحيث يرى أن أحدهما ليس فيه أقوى من الآخر وإذا رؤي اتحادهما في ذلك المعنى تخيل اتحادهما في الحقيقة فيصير كتشبيه الشيء بنفسه (لم يحسن التشبيه) أي : إذا قوي الشبه بين الطرفين على الوجه المذكور لم يحسن التشبيه بينهما لإشعاره بأن أحدهما أصل والآخر فرع (و) حيث لم يحسن التشبيه (تعينت الاستعارة) بنقل


لفظ المشبه به للمشبه وذلك عند إرادة الإتيان بالحسن ؛ لأن التشبيه يمتنع وتجب الاستعارة وقد تقدم مقتضى هذا الكلام واردا على الكلام السابق ، وهو أن التشبيه أعم محلا والذي تقدم هو أنه إن أراد التشبيه والاستعارة الحسنين فبينهما عموم من وجه ، وإن أراد مطلقهما فهما متحدان وإنما حسنت الاستعارة عند قوة الشبه لئلا يصير إلحاق أحدهما بالآخر كتشبيه الشيء بنفسه الممنوع ، وما يقرب من الممنوع لا أقل من أن يكون قبيحا ، فعلى هذا تقول إذا فهمت مسألة حصل في قلبي نور مستعيرا للعلم الحاصل في قلبك لفظ النور ولا تقول : حصل في قلبي علم كالنور مشبها للعلم بالنور إذ هو كتشبيه الشيء بنفسه لقوة المشابهة بظهور الاهتداء به كما في النور ، وإذا وقعت في قلبك شبهة : تقول وقعت في قلبي ظلمة مستعيرا لفظ الظلمة للشبهة ، ولا تقول : وقعت في قلبى شبهة كالظلمة مشبها للشبهة بالظلمة ؛ لقوة الوجه في الشبهة وهو عدم الاهتداء والتحير ، كما في الظلمة ولما كان الكلام السابق ظاهرا في حسن الاستعارة التحقيقية والتمثيلية ؛ أشار إلى ما به حسن المكنى عنها والتخييلية فقال (و) الاستعارة (المكنى عنها) كقوله :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

حسنها (ك) حسن (التحقيقية) والتمثيلية في أن ذلك إنما يحصل برعاية جهات حسن التشبيه بل هي أمس وأظهر في ثبوت حسن الرعاية بما ذكر ، لا سيما على مذهب المصنف ؛ إذ ليس ثم لفظ منقول حسا من المشبه إلى المشبه به ، وإنما هناك تشبيه مضمر إما بتقدير لفظ أو بدونه مع المبالغة فيه فكونها كالتحقيقية في هذه الرعاية واضح على كل مذهب ، وأما كونها كهي في أن لا يشم فيها رائحة التشبيه لفظا فظاهر عبارة المصنف اعتباره وفيه بعد ؛ لأن إشمامه بذكر المشبه مع المشبه به من غير أن يكون ذلك على وجه ينبئ عن التشبيه أو بذكر الآلة لا يكاد يتصور ؛ لأن الذي يذكر لفظ المشبه فقط وأما إشمامه بالإشارة إلى الوجه فلا يخلو منه ؛ لأن اللوازم تشعر بالوجه ، اللهم إلا أن يقال : الحسن فيها بعدم الإشمام الذي يحصل بذكر الوجه على وجه لا ينبئ عن التشبيه ، كأن يقال : إذا أنشبت


المنية أظفارها عند اغتيال النفوس بالقهر والغلبة بطلت الحيل ، فإن صح أن نحو هذا التركيب من الاستعارة المكنية لا من التشبيه وهو المتبادر إذ لا ينبئ الوجه عن التشبيه ، أمكن أن يدعي أن الحسن بعدم نحو هذا الإشمام تأمله هذا حسن الاستعارة المكنى عنها.

(و) أما الاستعارة (التخييلية) ف (حسنها) يكون (بحسب) أي : في حساب (حسن المكنى عنها) يعني أنه يعد بعد عد حسن المكنى عنها تابعا له وإذا حصل عد حسنها بعد عد حسن المكنى عنها كان حسنها تابعا لحسنها ؛ لأن ما يقال فيه : إنه معدود في عد كذا أو بعد كذا إنما كان ذلك إذا كان ذكر ذلك الشيء عند قصده يغني عنه بالكذا ، ومن لازم هذا المعنى عرفا التبعية وهي المرادة هنا بهذه العبارة فالحسب على هذا بمعنى الحساب والعد ، ويحتمل أن يكون اسما من الأحساب وهو الكفاية ؛ فيكون المعنى أنه يستغني عن ذكر حسن التخييلية بكفاية حسن المكنى عنها ولا شك أن كفاية الثانية عن الأولى تفيد التبعية ، فالمعنى أن التخييلية تابعة في الحسن والقبح للمكنى عنها ، أما على مذهب المصنف فواضح إذ هي أعني التخييلية حقيقة ؛ سيقت للدلالة على المكنى عنها ، فإن حسن مدلولها حسنت من حيث دلالتها عليه التي سيقت لأجلها إذ لا بحث لنا عن حسنها من حيث أصل وضعها ، وأما على مذهب السكاكي فلفظها منقول للصورة الوهمية الشبيهة بمعنى ، ومن المعلوم أن الصورة بمنزلة المعنى الأصلي ولا بحث لنا عنها من تلك الحيثية ، وإنما غرضنا الدلالة بتلك الصورة الوهمية نظرا لأصلها على المكنى عنها فيكون حسنها بحسن مدلولها المقصود بالذات وهو المكنى عنها ، فهي في حسنها تابعة لحسن ما دلت عليه أيضا فعند تبعيتها للمكنى عنها تقبح بقبحها وتحسن بحسنها ؛ لأن الغرض منها الدلالة بها عليها ، وأما الصورة الوهمية والأصل فلا دقة فيه ، والاستعارة إنما تحصل بدقة التشبيه وحسنها ، فلهذا قال السكاكي : وقلما تحسن غير تابعة لها ، أي : لا تحسن غير تابعة للمكنى عنها فمعنى قلما في كلامه النفي ويحتمل أن يشير بذلك للقلة على الأصل ليفيد أنه لا يمتنع أن تحسن إذا


ناسب المقام إفهام الصورة الوهمية لتذكرة الأصل كأن يكون في إحضار صورة التأكيد لما سيقت من التشبيه مثلا وفيه تكلف تأمله.

فصل فى بيان معنى آخر يطلق عليه لفظ المجاز على سبيل الاشتراك أو التشابه

(فصل) ذكر فيه معنى يطلق عليه لفظ المجاز ولا يشمله الحد السابق إما بالتشابه بينه وبين معناه السابق فيكون لفظ المجاز فيما ذكر هنا مجازا وإما بالاشتراك اللفظي وسنبين وجه التشابه وإلى ذلك المعنى الذي يطلق عليه المجاز أشار بقوله (قد يطلق المجاز) أي : قد يطلق اللفظ الذي هو المجاز (على كلمة تغير حكم إعرابها) أي : تغير حكمها الذي هو إعرابها الأصلي بأن انتفى ذلك الأصلي وحل محله إعراب آخر ، فالإضافة في قوله : حكم إعرابها بيانية على هذا وذلك التغيير يحصل (ب) سبب (حذف لفظ) لو كان مع تلك الكلمة استحقت به نوعا من الإعراب فلما حذف حدث آخر (أو ب) سبب (زيادة لفظ) كانت الكلمة استحقت قبله نوعا من الإعراب فحدث بزيادته نوع آخر من الإعراب ، فإن قلنا : إن إطلاق لفظ المجاز بالتشابه فوجهه أن الكلمة التي استحقت في أصلها نوعا من الإعراب ثم اتصلت بآخر بزيد أو بنقص تشبه المنقولة من معنى إلى معنى آخر في استعمال كل منهما في حال هو خلاف الأصل ، فعليه يكون لفظ المجاز فيه مجازا ، وإن قلنا : بالتشارك ؛ كان هذا الوجه بسبب التسمية فيكون اللفظ مشتركا وقد علم الفرق بين التسمية بسبب والنقل لمعنى معتبر الدلالة في المنقول إليه فإن الأول تبقى معه التسمية ولو انتفى المعنى الذي هو السبب ومع بقائه لا يشعر به اللفظ بخلاف الثاني ، وقد تقرر بهذا أن تغير حكم الإعراب يكون بنقص لفظ ويكون بزيادته فلو لم يتغير حكم الإعراب بالزيد كما في قوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ)(١) أو لم يتغير بالنقص كما في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ)(٢) أي كذوي صيب لم تسم الكلمة مجازا وإنما تسمي مجازا بتغير ناشئ عن زيد

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) البقرة : ١٩.


فالأول وهو التغير الذي يكون بنقص فتسمى الكلمة بسببه مجازا (كقوله) تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ) وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(١) وقوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها)(٢) (و) الثاني وهو التغيير الذي يكون بزيادة فتسمى الكلمة بسببه مجازا (كقوله) تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٣) فقوله تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ) على إسقاط المضاف (أي جاء أمر ربك) وإنما لم يجعل على ظاهره للقطع باستحالة المجيء على الله تعالى إذ هو الانتقال من حيز إلى آخر بالرجل ، وهو مخصوص بالجسم الحي الذي له الرجل ومطلق الجوهرية مستحيلة على الله تعالى فضلا عن الجسمية المخصوصة فإذا لم يحمل على الظاهر لاستحالته وجب حمله على وجه يصح ، فقدر المضاف ـ وهو الأمر ـ ليصح هذا الكلام الصادق والأمر ولو كان المجيء عليه محالا أيضا إذ هو الحكم المتضمن للكتاب أو المحكي عن الأمر يصح إسناد المجيء إليه مجازا ليكون كناية عن البلوغ فيقال على وجه الكثرة جاء أمر الملك إلينا أي بلغ وإن كان الجائي في الحقيقة حامله وهذا الإسناد كثير ، حتى قيل : إنه حقيقة عرفية بخلاف إسناد المجيء إليه تعالى لا يصح حقيقة ولا مجازا لاستحالة البلوغ فوجب أن يكون الكلام بتقدير المضاف ؛ ليصح ولو بالتجوز في المقدر أيضا كذا قيل ، وورد عليه أن امتناع وجه من التجوز وهو أن يكون الإسناد المذكور كناية عن البلوغ لا يقتضي امتناع تجوز آخر ، فلا يتعين الإضمار إذ يمكن أن يقال أسند المجيء إليه تعالى لكونه تعالى آمرا به وبالإبلاغ فهو كالإسناد إلى السبب الآمر فيكون من الإسناد العقلي ، وعليه فيخرج الكلام عما نحن بصدده ، وأما قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فهو على إسقاط المضاف أيضا ، أي : واسئل أهل القرية ، وإنما حمل على تقدير المضاف للقطع بأن المراد في الآية سؤال أهل القرية

__________________

(١) الفجر : ٢٢.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) الشورى : ١١.


لا سؤالها نفسها وإن كان يمكن الحمل عليها عند قيام القرينة على إرادته ، كما إذا قال الإنسان لصاحبه : اعتبر بهذه القرية الخالية واسألها عن أهلها أين ذهبوا وكيف كانوا فيها ثم اضمحلوا ، فإن المقصود هنا بسؤالها مخاطبتها للاعتبار كمخاطبة الأطلال للتحسر والتحزن تنزيلا لها منزلة المجيب في الدلالة على المراد إذ يشعر حالها بالجواب وهو هنا أنهم كانوا فيها ففنوا ، وكما لو قيل من جانب من له العناية من أولياء الله تعالى اسأل هذا المكان أو هذه القرية لنجيبك عند قصد إظهار خرق العادة بإنطاقها إذ هو أمر ممكن فلا يمتنع حمل السؤال حينئذ على حقيقته ونحو هذين التقديرين ممتنع في الآية ، فوجب الحمل على ما يصح ومنه تقدير المضاف وهو الأقرب ويحتمل أن تكون القرية مجازا عن أهلها من باب إطلاق اسم المحل على الحال ؛ فيخرج المثال عما نحن بصدده من أن التجوز بتغير حكم الإعراب بالتقدير ، وعلى هذا يكون معنى قولنا أصل هذا الكلام واسأل أهل القرية معناه أن هذا أصله قبل التجوز بإطلاق اسم المحل على الحال ، وأما قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الممثل به للتغير بالزيادة فالأصل فيه ليس مثله شيء للقطع بأن المراد نفي المماثل له تعالى لا نفي من يكون كمثله إذ لا مثل له تعالى حتى ينفي عن ذلك المثل من يكون مثله فالحكم الأصلي الكائن للفظ مثله هو النصب على أنه خبر ليس ، ولما زيدت الكاف انتقل إلى حكم الجر لأنها إما حرف جر أو اسم بمعنى مثل مضاف لما بعده وكلاهما يقتضي الجر ، وإنما صح كونه خبرا لليس مع كون اسمها نكرة وكونه مضافا للضمير ؛ لأن إضافة مثل وغير لشدة إبهامهما لا تعرف فصح كونه خبرا عن النكرة التي هي لفظ شيء فلا يرد أن الإخبار بالمعرفة عن النكرة ممتنع فعلى ما ذكر يكون لفظ ربك هو المسمى بالمجاز لتغير حكم إعرابه بنقص المضاف الذي هو أمر ، ولفظ القرية هو المسمى بالمجاز كذلك للتغير بالنقصان أيضا ، ولفظ المثل هو المسمى بالمجاز كذلك للزيادة المذكورة وليس المسمى بالمجاز إعراب هذه الكلمات بل المسمى هو تلك الكلمات إما لمشابهتها بالمجاز المعرف فيما تقدم في نقل كل من إعراب هو أصل إلى غيره ، واستعماله فيه كنقل المجاز من معنى إلى آخر وإما للاشتراك


اللفظي بسبب وجود ما به التشابه المذكور كما تقدم ، وظاهر عبارة المفتاح أن الموصوف بالتجوز المذكور والمسمى بلفظ المجاز هو نفس الإعراب فالنصب في القرية مثلا يوصف بأنه تجوز فيه بنقله لغير محله ؛ لأن القرية بسبب التقدير في محل جر ، وقد أوقع فيها النصب ويسمى ذلك الإعراب بنفسه مجازا لما وقع التجوز فيه وما ذكره المصنف من أن المسمى بالمجاز والموصوف بالتجوز هو الكلمة المعربة لا إعرابها هو الأقرب لوجهين أحدهما كون مدلول لفظ المجاز في الموضعين هو الكلمة ، بخلاف إطلاقه على الإعراب فإنه يقتضي مخالفة في المدلولين ؛ إذ يكون لفظ المجاز هنا كيفية الكلمة لا نفسها ومدلولها فيما تقدم نفس الكلمة ، وثانيهما أن إطلاق لفظ المجاز على الإعراب كما هو ظاهر كلام السكاكي سببه كما تقدم أن الإعراب وقع في غير أصله وذلك ربما يدعي ظهوره في النقصان ؛ لأن المقدر كالمذكور فالقرية في قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) حكمها الجر بتقدير المضاف فقد وقع النصب في محل الجر الذي هو الأصل بسبب التقدير الذي هو كالذكر فصح أن الإعراب في النقصان الذي يستدعي التقدير واقع في غير محله فيسمى مجازا وأما الزيادة كما في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فلا يظهر فيها كون الإعراب واقعا في غير محله وهذا النوع من المجاز يشمله وإنما قلنا : لا يظهر في الزيادة ؛ لأنه ليس هناك لفظ مقدر كالمذكور وله مقتض أوقع إعرابا آخر في محل مقتضاه ، وإنما هناك زيادة شيء له مقتضى موجود ومقتضاه واقع في محله فتقدير المقتضى للنصب هو ليس إلا الإسقاط وليس لا يعتبر لها مقتضى يكون غيره مجازا مع وجود سبب ذلك الغير ، وكذا لا يظهر ما ذكر في النقص في نحو سؤال القرية بإضافة السؤال إلى القرية لوجود الجر بالإضافة والجر بها هو الأصل وتقدير جر آخر مخالف للجر بإضافة أهل تعسف بلا فائدة.

ثم هذا المثال أعني (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إنما يكون من هذا النوع من التجوز بناء على الظاهر من أن الكاف مزيدة للتقوية المفيدة للاعتناء ؛ وذلك لأن المتبادر أن الكلام لما سيق لنفي المثل وإسقاط الكاف يفيده دل ذلك على زيادة الكاف ويحتمل أن لا تكون


زائدة فيفيد الكلام نفى المثل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الحقيقة التي هي مقتضى زيادتها ، ويتبين ذلك بوجهين أحدهما أن الشيء إذا كان موجودا متحققا فمتى وجد له مثل تبع ذلك أن هذا المثل لذلك المتحقق له مثل هو ذلك الموجود المتحقق ؛ لأن المثلية أمر نسبي بينهما فإذا نفى هذا التابع وهذا اللازم ، فقيل : لا مثل لمثل ذلك المتحقق لزم نفى المتبوع والملزوم وهو مثل ذلك المتحقق ضرورة أنه لو وجد كان ذلك المتحقق مثلا له فالله تبارك وتعالى متحقق موجود فلو كان له مثل كان هو أعني الله تعالى مثلا لذلك المثل المفروض وجوده له ، فإذا نفى مثل لذلك المثل لزم نفي ذلك المثل له تعالى وإلا لم يصح النفي ؛ لأن وجود ذلك المثل حينئذ يستلزم أن له مثلا هو الله تعالى المتحقق فلا يصح نفي مثل المثل لا بنفي المثل إذ لا يصح نفي اللازم التابع إلا بنفي الملزوم المتبوع ، فإن قيل : نفي مثل المثل الذي هو معنى قولنا : لا مثل لمثله ، يشعر بوجود المثل فكيف يكون كناية عن نفيه؟ قلنا : القضية السالبة لا تقتضي وجود الموضوع والمحمول إذا كان أمرا غير اعتباري ينتفي عن الموضوع ؛ لعدم وجود ذلك الموضوع كما ينتفي عنه لعدم اتصافه به وهو هنا لو وجد لا تصف بالمحمول إذ موضوع القضية هنا هو المثل ومحمولها وجود المثل لذلك المثل ، ولو وجد كان له مثل هو الله تعالى ، فنفي هذا المحمول لنفي الموضوع وإلا فلو وجد الموضوع استلزم المحمول فلا يصح نفيه إذ لا يصح نفي اللازم مع وجود الملزوم وطريق اللزوم أن ثم موجودا متحققا فلو وجد له مثل كان هذا المتحقق مثلا لذلك المثل فنفى مثل المثل على هذا التقدير نفي اللازم والتابع بالنظر للمتحقق ، فيقتضي نفي الملزوم وإلا صح وجود الملزوم بلا لازم فقد صح أنه نفي مثل المثل ليتوصل به إلى نفي المثل ، وهو معنى الكناية ونظير ذلك قولك لزيد الذي لا أخ له : ليس لأخي زيد أخ ؛ قصدا لنفي أخيه لأنه لما كان زيد موجودا لزم كونه أخا لذلك الأخ على تقدير وجوده فلما استلزم وجوده وجود أخ له وهو زيد لم يصح نفي الأخ عن ذلك الأخ المفروض إلا لعدمه وإلا لزم وجود الملزوم وهو الأخ المفروض بدون لازمه وهو ثبوت أخ له لكن الكلام هنا لا يصح إلا بانتفاء الموضوع


المستلزم لذلك المحمول ، لكن الذي ينبغي على هذا أن يكون مجازا متفرعا عن الكناية ؛ لأن المعنى الأصلي باعتبار الإثبات ممنوع والكناية يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي ويجاب بأن النفي هو الموجود في الكلام ، ولا يستلزم الإثبات دائما وذلك النفي ممكن محقق لينتقل منه إلى النفي الآخر ، قيل : إن الأولى على هذا التقدير أن يكون الكلام حقيقة استعمل في معناه على المذهب الكلامي من باب البديع ليستدل به على المقصود ويدل على ذلك قولنا في بيانه : إنه لا مثل له تعالى لأنه لما نفي في الآية مثل مثله دل على انتفاء مثله إذ لو وجد له مثل كان الله تعالى مثلا لذلك المثل لكن نفي عن المثل مثله فدل على انتفائه أي : انتفاء مثله تعالى ، فعلى أنه كناية يكون من التعبير بنفي اللازم عن نفي الملزوم وما ذكر من البيان لبيان الملازمة وعلى أنه من المذهب الكلامي حقيقة سيق للاستدلال به على نفي المثل له تعالى ، وما ذكر من البيان هو تحقيق ذلك الاستدلال فليتأمل وثاني الوجهين ومآله مع الأول واحد بالنسبة إلى أن الكلام كناية ولو كان طريق اللزوم مختلفا إذ يكون هذا من باب نفي الشيء عمن هو مثلك وعلى أخص وصفك ، إذ يلزم عرفا من النفي عن مثلك وعمن كان على أخص وصفك النفي عنك وإلا لزم التحكم في ثبوت الشيء لأحد المثلين بدون الآخر ، فالمثل المفروض نفي عنه مماثل له فيلزم أن ينفي المماثل عن الله تعالى كما نفي المماثل عن مفروض المماثلة له تعالى وعمن هو على أخص وصفه وإذا نفى بهذا الطريق المماثل له تعالى لزم نفي المثل المفروض ليتوصل بالنفي عنه إلى النفي عنه تعالى ، فقد تبين أن الوجه الأول وهذا الآخر متحدان في نفي المماثلة عنه تعالى بطريق اللزوم وهو معنى الكناية وهما مختلفان باعتبار اللزوم فى الأول من جهة أن المثل لو وجد كان تعالى مثله ، فيتقرر اللزوم ، فلزم من ذلك ـ كما قررنا ـ أنه متى نفى مثل المثل انتفى المثل ، وإلا وجد الملزوم بلا لازم ، وهذا الأخير طريق اللزوم فيه ما تقرر عرفا ، وعضده العقل ، وهو أن نفى الشيء عمن هو مثلك وعلى أخص وصفك يستلزم الثبوت. فافهم والله الموفق بمنه وكرمه.


ولما فرغ من المجاز ، وهو الباب الثانى من هذا الفن ، الذى هو أعظم أبوابه شرع في الثالث الذى به تمام الفن ، وهو باب الكناية ، فقال :

(الكناية)

وهو مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به ، وعليه فلامه ياء وقد يقال كنوت به عنه بالواو فتكون لامه واوا ، ولكن هذه اللغة ينافيها المصدر إذ لم يسمع كناوة بالواو ، ولا يقال لعله على هذه اللغة قلبت في المصدر ياء للكسرة في فائه ، لأنا نقول : الكسرة في نحو ذلك لا توجب قلبا ، فالتزام الياء في المصدر يدل على أن اللام ياء وأن الواو في كنوت قلبت عن الياء سماعا.

وأما في الاصطلاح ، فتفسر على أنها مصدر بأنها هي الإتيان بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه ، وهي بهذا المعنى أخص من معناها لغة ، وتطلق على ذلك اللفظ المأتي به ، وهذا المعنى هو الكثير في استعمالها. وإلى تعريفها بذلك أشار بقوله : هي (لفظ) خرج عنه ما دل مما ليس بلفظ كالإشارة (أريد به) خرج به لفظ الساهي والسكران (لازم معناه) خرج به اللفظ الذي يراد به نفس معناه وهو الحقيقة الصرفة ، وقد تقدم أن المراد باللزوم هنا مطلق الارتباط ولو بعرف ، لا اللزوم العقلي (مع جواز إرادته) أي إرادة معناه (معه) أي : مع ذلك اللازم فمن قيودها أنها بعد إرادة اللازم بلفظها لا بد أن لا تصحبها قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي مع ذلك اللازم ، وذلك كطويل النجاد وهو حمائل السيف إذا أطلق وأريد به لازم معناه الذي هو طول القامة ، مع جواز إرادة معنى طول النجاد نفسه بأن لا توجد قرينة تمنع من إرادة نفس معنى طول النجاد (فظهر) بما ذكر وهو أن الكناية يصحبها جواز إرادة المعنى الأصلي (أنها) أي ظهر بذلك أن الكناية (تخالف المجاز) السابق لا مطلق المجاز المقابل للحقيقة ، فإنها منه. وقيل : إنها واسطة بينهما (من جهة) أي ظهر أنها تباين المجاز من هذه الجهة ، وهي جهة جواز (إرادة المعنى) الحقيقي فيها (مع إرادة لازمه) أي : لازم المعنى الحقيقي بخلاف المجاز ؛ فإنه ولو شارك الكناية في مطلق إرادة اللازم به لا بد معه من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي مع ذلك اللازم ، وقد تبين أن الكناية والمجاز يشتركان في إرادة


اللازم ، ويفترقان من جهة أن الكناية لا تصحبها قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي بل يبقى معها جواز إرادة المعنى الأصلي.

والمجاز لا بد أن تصحبه قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ، وبهذا يخرج عن حد الكناية إذ لا يبقى معه جواز إرادة الأصل فقوله : فظهر أنها ـ أي : الكناية ـ تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى على تقدير مضاف أي : من جهة جواز إرادة المعنى ـ كما قررناه به ـ وذلك لوجهين :

أحدهما : أن التقدير المذكور هو الذي يطابق به الكلام ما قبله ، وهو تعريف الكناية ؛ لأنه لم يتشرط في ذلك التعريف إلا جواز الإرادة لا وقوعها.

والآخر : مطابقته ما تقرر خارجا ؛ لأن الكناية وجدناها في الخارج كثيرا ما تخلو عن إرادة المعنى الحقيقي للقطع بأنه يقع صحيحا ، قولنا : فلان طويل النجاد ، وجبان الكلب ، ومهزول الفصيل على أن يكون طويل النجاد كناية عن طول القامة ويكون جبان الكلب كناية عن كثرة الوارد ؛ لأن جبن الكلب أي : عدم جراءته على من يمر به إنما ينشأ عن كثرة مرور الوارد به ، فينتقل منه إلى كثرة الوارد الدال على كثرة المضيافية ، ويكون مهزول الفصيل كناية عن الكرم والمضيافية ؛ لأن هزال الفصيل يدل على عدم وجدانه اللبن في أمه ، وهو يدل على كثرة الاعتناء بأخذ اللبن لسقيه الأضياف ، وهو يدل على الكرم والمضيافية ، ويحتمل أن يتوصل إلى المقصود في هزال الفصيل بأنه عديم الأم من ذبحها ، وإنما تذبح الأمهات من كثرة أضيافه والمآل واحد ، وإن لم يكن للموصوف بهذه الأوصاف ملزوماتها ؛ فيكنى بالأول عن ملزومه وإن لم يكن لصاحبه نجاد ، وبالثاني عن ملزومه وإن لم يكن لصاحبه كلب ، وبالثالث عن ملزومه وإن لم يكن لصاحبه فصيل ، ومثل ما ذكر مما يكون كناية ولو لم يوجد فيما استعمل فيه المعنى الأصلي أكثر من أن يحصى.

وإذا صحت الكناية بنحو هذه الألفاظ ووقعت الكناية بها مع انتفاء أصل معناها لم يصدق أنه أريد بها المعنى الحقيقي ، وإنما يصدق أنه يجوز أن يراد بها المعنى الحقيقي ، فلو لم يرد الكلام إلى الجواز خرجت نحو هذه الألفاظ عند انتفاء معانيها عن


التعريف ، فإن قيل عند انتفاء معانيها الحقيقية لا يصدق الجواز أيضا ؛ لأن معنى صحة الإرادة للشيء صحة صدق الكلام في ذلك الشيء ولا صدق حالة الانتفاء ، وليس المراد صحة إرادة اللافظ بلفظه شيئا وإن كان كذبا لوجود مثل هذه الصحة في المجاز.

قلنا : لا نسلم عدم صحة الصدق عند الانتفاء ، وإنما يتحقق عند الانتفاء عدم الصدق على تقدير الإرادة ، لا عدم صحته ضرورة أن الموصوف بهذه الكنايات يصح أن توجد له تلك الأمور بمعنى أن هذه الأمور تجوز في حقه ، وإذا جازت جاز الصدق بتقدير وجودها ، وإذا جاز الصدق جازت إرادة ما يصح فيه الصدق. نعم ، لو كانت هذه المعاني مستحيلة ورد ما ذكر ، وأيضا لو حمل الكلام على ظاهره من أن الكناية يراد بها المعنى الأصلي ولازمه معا ـ كما هو ظاهر عبارة السكاكي في بعض المواضع كغيره ـ لزمت صحة الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي في الكناية.

وظاهر مذهب المصنف المنع أي منع الجمع بين المجازي والحقيقي مطلقا ؛ لقوله في المجاز : مع قرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، وإنما قلنا ظاهر مذهبه المنع إلخ ؛ لأنه لا يمكن أن يحمل كلامه على معنى مع قرينة مانعة عن إرادة الأصل فقط ، فالممنوع إرادته فقط ، وأما إرادتهما معا فلا يمتنع على هذا ، فلا يرد البحث ، ولكن عليه تدخل الكناية في حد المجاز كما لا يخفى.

ويجاب عن هذا بتقدير وروده بأن الذي لا يصح أن يراد به المعنى المجازى والحقيقي هو المجاز الخاص الذي هو غير الكناية ؛ إذ هو المشترط فيه مصاحبة قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي لا مطلق المجاز الصادق بالكناية بناء على أنها ليست واسطة بين المجاز والحقيقة كما تقدم ، فإن أحد معنييها على هذا مجازي مجامع للحقيقي ، ويدل على ذلك مقابلته ذلك المجاز بالكناية ، وأما الجواب عن هذا بأن الممنوع الجمع على أن يستوي المعنيان في الإرادة لا على أن يكون المجازي أرجح في الإرادة كما في الكناية ففيه بحث من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن قوله مع قرينة مانعة إلخ لا يخرج الكناية عن تعريف المجاز حينئذ كما لزم من الحمل على غير الظاهر كما تقدم ؛ لأنه على هذا يكون المعنى مع قرينة


مانعة من إرادة الأصلي على وجه التساوي ، فيكون الداخل في المجاز هو ما يصحبه قرينة تمنع من التساوي في الإرادة بأن تصحبه قرينة ترجح أحد المعنيين ، فإذا صحبته قرينة التساوي ، أو قرينة لا مرجحة ولا مسوية ، فذلك هو الخارج عن تعريف المجاز.

ومن المعلوم أن الكناية ليس في تعريفها إلا صحة إرادة المعنيين ، وذلك صادق بذي القرينة المرجحة ، الذي هو المجاز على ذلك التعريف وبغيره ، فتكون الكناية أعم ، ويلزم على هذا التقدير أن لا يصح إخراجها ولا مباينتها ، وعموم الحد أنواع المجاز غير الكناية إلا بجعل أنواع المجاز غير الكناية لا بد فيها من قرينة مرجحة ، وجعل الكناية مختصة بالقرينة المسوية ، أو بالتي هي لا مرجحة ولا مسوية ، ومعلوم أن هذا من التحكم الذي لا دليل عليه.

وثانيها : أنه إن أريد بالترجيح الذي يكون في الكناية كون المعنى المجازي هو المقصود وإليه ينصرف التصديق والتكذيب والحقيقي واسطة ؛ فالمجاز كذلك ؛ إذ لا يمتنع أن يقصد الإشعار به لينتقل منه إلى المراد الذي نصبت القرينة عليه ، وإن أريد به كونه أهم ، ولكن يراد الحقيقي معه بحيث ينصب إليه التصديق والتكذيب ، فهذا مما لا يتحقق ، إذ ما ينتفي الصدق بانتفائه لا تتحقق أهمية غيره عليه ، وعلى هذا فما تقدم من أن الفرق بين ما يفهم منه باللازم ولا يكون كناية وما يفهم منه ويكون كناية ، أن الأصلي في الأول هو المقصود بالذات ، واللازم في الثاني هو المقصود ، ينبغي أن يحمل على معنى أن الذي ينصرف إليه التصديق والتكذيب هو الأصلي في الأول ، واللازم في الثاني لا أنهما ينصرف التصديق والتكذيب إلى الملزوم واللازم فيهما معا إلا أن أحدهما أهم ، تأمل.

وثالثها : أن ذلك على تقدير تسليمه لا يدل عليه اللفظ في تعريف المجاز ، ولا في تعريف الكناية ، بل يحتاج إلى وحي يسفر عنه فبطل الجواب به ، فافهم.

وههنا بحث لا بد من التنبه له وهو أن المراد بجواز إرادة المعنى الحقيقي في الكناية هو أن الكناية من حيث إنها كناية أي : من حيث إنها لفظ أريد به لازم معناه بلا قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، لا تنافي ذلك ، بمعنى أنها من حيث اقتضاء


حقيقتها عدم نصب القرينة المانعة لا تنافى جواز إرادة المعنى الأصلي ، كما أن المجاز من حيث اقتضاه حقيقة نصب القرينة المانعة ينافيه ، لكن قد يمتنع ذلك أي قد تمتنع تلك الإرادة في تلك الكناية ، لا من حيث إنها كناية ؛ لأنها من تلك الحيثية لا تمنع لعدم نصب القرينة بل من حيث خصوص المادة لاستحالتها ، ولا ينافي ذلك كون اللفظ كناية ، فيجوز أن يكون اللفظ لا تنصب معه قرينة مانعة من المعنى الأصلي ، فيكون كناية لصحة المعنى الأصلي ، ثم يعرض له المنع لكون الأصلي في خصوص الجزئية المستعمل فيها اللفظ مستحيلا ، ولا ينافي ذلك كونه كناية ؛ لأن مقتضى حقيقتها وهو أن لا تنصب القرينة على المنع كما في المجاز ما زال مستصحبا كما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١) أنه من باب الكناية من حيث إن السلب أو الإثبات عن المثل يستلزم عرفا بعاضد العقل السلب أو الإثبات عن مماثلة ، كما في قولهم مثلك لا يبخل ، فإن نفى البخل عمن كان مثلك وعلى أخص وصفك يستلزم نفيه عنك ، وإلا لزم التحكم في نفي الشيء عن أحد المثلين دون الآخر ، فيعتبرون أنهم إذا نفوا البخل عمن يماثل الإنسان ، وعمن يكون على أخص وصفه ، فقد جعلوا النفي لازمه ، ويلزم من كونه ، أعني : نفي البخل لازما لأحد المثلين كونه لازما للآخر لاستواء الأمثال في اللوازم ، وهذا كما يقال : بلغت أترابه جمع ترب بكسر التاء ، وهو القرن أي : بلغت أقرانه يريدون بذلك بلوغه ؛ لأن البلوغ إذا ثبت لمن هو قرنه ومثله في السن ، وصار لازما لذلك القرن ، فقد ثبت له لمساواته لذلك القرن في السن وإلا لزم التحكم والخروج عن المعتاد ، فليس كالله شيء وليس كمثله شيء عبارتان متعاقبتان على معنى واحد ، وهو نفي المماثلة عن ذات الله العلي الكبير ، وإن كان مضمون الأول بالمطابقة نفى أن يكون شيء مماثلا له تعالى ، ومضمون الثانية أن يكون شيء مماثلا لمثله إلا أنه يلزم من نفي كون الشيء مماثلا لمثله بالمطابقة نفي كونه مماثلا له تعالى ، إذ لو كان ثم مماثل له تعالى كان مماثلا لمثله ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين ثابت للآخر ، وإلا افترقت لوازم المثلين ، فمفاد العبارتين واحد إلا أن الثانية تفيد المعنى بطريق

__________________

(١) الشورى : ١١.


الكناية التي هي أبلغ من الحقيقة لإفادتها المعنى بطريق اللزوم الذي هو كادعاء الشيء ببينة فإذا كان قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) كناية ولا يخفى فيه أن المعنى الأصلي وهو أن يكون له تعالى مثل ، ومن هو على أخص وصف له نفى عنه مماثلا لينتقل من ذلك إلى أنه تعالى نفى عنه المثل مستحيل في خصوص هذه المادة التي استعمل لها اللفظ ، وهو نفي المماثل عنه تعالى فإنه لا يمكن أن يثبت معها مماثلة تنفي معها مماثلة بخلاف ما لو استعمل مثل هذا الكلام في مادة أخرى ، كأن يقال : ليس كمثل زيد مثل فإنه لا يستحيل أن يكون لزيد مثل ينفى عنه المثل لينتقل منه إلى نفي المثل عن زيد ، وإن كان اللفظ يعود إلى نفي المماثلة أيضا على كل حال لعموم النفي إلا أنها لا تستحيل في ذات هذه المادة ، ولكن ما ذكر من أن الكناية لا ينافيها المنع من قبل المادة والتمثيل لذلك بقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فيه بحث من وجهين :

أحدهما : أن الامتناع المادي من أقوى الأمارات على عدم إرادة الأصلي ؛ إذ لا تختص قرينة المجاز بالأمور اللفظية فليكن قرينة مانعة من الإرادة ، فالأولى أن نحو ذلك من المجاز المتفرع عن الكناية بمعنى أن اللفظ قد يكون كناية لصحة المعنى الأصلي به كثيرا ، فإذا عرضت الاستحالة جعلت قرينة على منع الإرادة فعادت مجازا ، وهذا هو المطابق لما أشرنا إليه فيما تقدم من أن عدم الوقوع بدون الاستحالة لا يمنع الكناية ؛ إذ معه الجواز بخلاف الاستحالة ، وقد يجاب عن هذا بأن الاستحالة إنما تكون قرينة إن كانت ضرورية لا ما إذا كانت بالدليل ؛ لأن الدليل قد يخفى عن السامع ؛ فيحمله على الظاهر ، والقرينة لا بد من وضوحها.

والجهة الثانية : أن الاستحالة في المثال مبنية على أن مفاده هو : أن ثم مثلا موجودا نفى عن ذلك المثل الموجود مماثلا له ، إذ من المعلوم أن وجود المثل له تعالى محال ، وهذا إنما يجري على أن السلب عن الشيء يقتضي وجوده ، وليس بمرضي بل المرتضى أن السلب يستلزم وجود المسلوب عنه فنفي المثل عن مماثله تعالى لا يستلزم أن له مماثلا حتى يكون محالا ، بل يستلزم فرضه وإن كان محالا ؛ ليفهم من نفي المثل عنه نفيه عنه تعالى ، فعلى هذا لا تمنع مادة المعنى من حيث النفي فليفهم ؛ فإن هذا المعنى من


الغوامض على الأفهام ، ولما قدم الفرق المسلم عنده بين المجاز والكناية ، وهو أن الكناية معها جواز إرادة الأصل بعدم نصب القرينة المانعة ، والمجاز ليس معه ذلك بنصبها أشار إلى فرق آخر بينهما وإلى الاعتراض الوارد عليه فقال : (وفرق) يحتمل أن يكون مبنيا للمجهول وهو الأقرب ؛ لعدم تقدم الفاعل ، والمفرق بما سيذكره هو السكاكي وغيره ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، والفاعل هو ضمير السكاكي للعلم به من أن الكلام في المباحثة إنما هو معه غالبا (بأن الانتقال) أي : فرق السكاكي وغيره بين المجاز والكناية بأن الانتقال (فيها) أي : في الكناية إنما هو (من اللازم) إلى الملزوم كما إذا قيل : فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة فإن طول القامة هو الملزوم والأصل وطول النجاد هو اللازم والفرع ، فقد انتقل في هذه الكناية من اللازم الذي هو طول النجاد إلى الملزوم الذي هو طول القامة ، لا يقال طول القامة لا يستلزم طول النجاد لصحة أن لا يكون له نجاد أصلا ، فكيف يكون ملزوما؟ لأنا نقول اللزوم عرفي أغلبي وذلك كاف مع وجود القرينة (و) الانتقال (فيه) أي : في المجاز إنما هو (من الملزوم) إلى اللازم كما إذا استعمل لفظ الغيث لينتقل من تصور معناه الذي هو الملزوم إلى معنى النبات الذي هو اللازم ، والملزوم هنا أيضا أغلبي وعرفي وهو كاف مع القرينة ، وكذا إذا استعمل لفظ الأسد لينتقل منه إلى لازمه بالقرينة وهو الرجل الشجاع ، وقد تقدم أن اللازم في الحقيقة هو معنى الجراءة ، لكن لما لا بست الرجل أيضا انتقل من الأسد بواسطة القرينة إلى الرجل المقيد بالجراءة ، فصار الأسد ملزوما والرجل الشجاع لازما بانضمام القرينة إلى الرجل المقيد بالجراءة ، فصار الأسد ملزوما والرجل الشجاع لازما بانضمام القرينة (ورد) هذا الفرق (بأن اللازم ما) دام (لم يكن ملزوما) بأن بقى على لازميته (لم ينتقل منه) إلى الملزوم ، وذلك لما تقرر أن اللازم من حيث إنه لازم أي يلزم من وجود غيره وجوده ، يجوز أن يكون أعم من ملزومه ضرورة أن مقتضى لازميته أن وجود غيره لا يخلو عنه ، فغيره إما مساو أو أخص ، وأما أن وجوده لا يخلو من وجود غيره حتى يكون هو مساويا أو أخص فلا دليل عليه فجاز أن يكون أعم كالحيوان للإنسان فلا يخلو الإنسان من الحيوان ، وقد يخلو الحيوان من الإنسان ، وإذا صح أن يكون أعم فلا دلالة للأعم على الأخص ، وإنما ينتقل من اللازم إلى الملزوم إن كان ذلك اللازم ملزوما لذلك


المنتقل إليه بأن يكون مساويا أو أخص ، إما بنفسه كالناطق للإنسان فإنه ولو كان يتبادر منه أنه لازم للإنسان هو ملزوم له لمساواته له ، فيلزم من وجوده وجود الإنسان ، أو بواسطة قرينة كقولنا كناية عن المؤذن : رأيت إنسانا يلازم المنار ؛ فإن الإنسان الملازم للمنار فيما يتبادر ملازم للمؤذن ، ويصح أن يكون أعم منه ؛ لصحة ملازمة المنار لا للأذان لكن قرينة العرف دالة على أنه المؤذن ؛ لأن ذلك هو الغالب المتبادر فيشكل على أنه المفهوم عرفا ، فهذا لازم أعم صار ملزوما بالقرينة ، وقد يمثل للازم بالقرينة بنحو قولك : رأيت أسدا في الحمام ؛ لأن الأسد باعتبار القرينة التي هي كونه في الحمام مساو للرجل الشجاع أو أخص منه ، وفي هذا التمثيل مخالفة لما تقرر في نحو هذه الاستعارة من أن الملزوم هو الأسد والرجل الشجاع لازمه باعتبار القرينة لا العكس ، وهو أن الرجل الشجاع يستلزم الأسدية العامة حتى تخصص بالقرينة ، وإنما يعتبر ذلك عند روم التشبيه ؛ لأنه يخطر الرجل الشجاع فينتقل منه إلى الأسدية فيشبه بها ، وأما بعد التجوز فالأمر بالعكس لكن البحث في المثال خطبه سهل.

(وحينئذ) أي إذا تقرر اللازم ما دام لم يكن ملزوما (يكون الانتقال من الملزوم) إلى اللازم لا من اللازم إلى الملزوم ؛ إذ الغرض أن الانتقال لا يحصل حتى يكون المنتقل منه ملزوما ، فينتقل منه من حيث إنه ملزوم لا من حيث إنه لازم والمجاز كذلك ؛ لأن الانتقال فيه من الملزوم إلى اللازم ، فلا يقع الفرق بينهما بما ذكر من أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم ، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم إذ الفرض أن اللازم لا ينتقل منه إلا إذا كان ملزوما ، فاتحد المجاز والكناية في المنتقل عنه وإليه ، وهذا الرد يتأكد على السكاكي ؛ لاعترافه بأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع الانتقال منه ، وقد أجيب عن هذا بأن مراده بالانتقال من اللازم في الكناية مع تصريحه بأنه لا بد أن يكون من الطرفين بحيث يستلزم كل منهما الآخر وأن ذلك من خواصها وشرط لها دون المجاز فإنه يصح حيث يكون اللزوم من الطرفين ، وحيث يكون من أحدهما فينتقل من الملزوم منهما إلى اللازم ، وليس مراده أن الكناية ينتقل فيها من اللازم من حيث إنه لازم إلى الملزوم ؛ لأنه لا يصح لإمكان عمومه كما ذكرنا فلا يريده لمناقضته لما ذكر ،


وهو أن اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه ، ولكن هذا الجواب ضعيف ؛ لأن فيه حمل السكاكي على ما هو تحكم محض ، إذ لا دليل على الاختصاص ، ويبعد ارتكاب السكاكى التحكم المحض ؛ فالتماس جواب آخر أقعد ، وقد أجيب أيضا بأن مراده باللازم في قوله : إن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم ما يكون وجوده على سبيل التبعية لوجود الغير ، وما يكون اعتباره فرعا عن الغير كطول النجاد النابع وجوده في الغالب لطول القامة والتابع اعتباره لاعتبار طول القامة ، وكنفي مثل المثل التابع اعتباره وجريانه في الألسن لنفي المثل فإنهما ولو تلازما في نفس الأمر الأول فهما أكثر اعتبارا وأسبق ملاحظة ، ويدل على هذا أمران : اشتراطه في اللازم أن يكون ملزوما فإن ذلك يدل على أن اللازم لا يبقى على معناه ، وتجويزه كون اللازم أخص.

واللازم من حيث إنه لازم ليس إلا مساويا أو أعم ، وإنما يكون أخص ما يكون تابعا ورديفا في الوجود والاعتبار ، ومثل له بالضاحك بالفعل للإنسان فجعله لازما مع أنه أخص يدل على أن معنى لزومه تبعيته في الوجود للإنسان ؛ فالكناية على هذا أن يذكر من المتلازمين ما هو تابع ورديف ، ويراد به ما هو متبوع ومردوف ، والمراد بالمتلازمين ما بينهما لزوم في الجملة لا ما بينهما التلازم الحقيقي ، وهو ما يكون من الجانبين بدليل أنه قد ينتقل من الأخص إلى الأعم ، والمراد بالرديف نفس التابع كالمثالين ، ويحتمل أن يراد بالتابع ما يتبع وجوده وجود الغير كطول النجاد لطول القامة ، والضحك بالفعل للإنسان ، وبالرديف ما يعتبر بعد الآخر ولو تحقق معناه مع الآخر ، كنفي مثل المثل لنفي المثل ؛ لأن اعتبار الثاني واستعماله قبل الأول ؛ لأنه أصرح وأكثر دورا على اللسان فيسمى رديفا لاستناده للآخر مع مساواته له في الصحة والتحقق في نفس الأمر ، والخطب في ذلك سهل.

وإذا كانت الكناية ما ذكر فالمجاز بالعكس وهو أن يقال : إن المجاز هو أن يذكر أحد اللذين بينهما لزوم ، وهو المتبوع والمردوف والملزوم ، ويراد به اللازم والتابع والرديف ، وفي هذا الجواب أيضا نظر ؛ لأن نحو النبات مما يكون تابعا مع التلازم قد يطلق على نحو الغيث مجازا مرسلا ، كما نصوا عليه.


فلو اختصت الكناية بالتابع كان مثل ذلك من الكناية ، وقد مثلوا به للمجاز ونصوا على أنه منه ، وأجيب عن ذلك برعاية الحيثية في نحو النبات يستعمل في الغيث ، وذلك بأن يقال : إذا استعمل النبات في الغيث مثلا من حيث إنه رديف للغيث وتابع له في الوجود غالبا كان كناية ، وإن استعمل فيه من حيث اللزوم الغالب كان مجازا مثل ما تقدم ، وهو أن اللفظ الواحد يجوز أن يكون مجازا مرسلا واستعارة باعتبارين ، ومع هذا كله لا يخلو الكلام من مطلق التحكم ؛ لأن تخصيص الكناية بالتبعية والمجاز باللزوم مما لم يظهر الدليل عليه ، إلا أن يدعي أن ذلك تقرر بالاستقرار وقرائن أحوال المستعملين ، ثم لا يخفاك أن المراد باللزوم هنا ـ كما تقدم غير ما مرة ـ مطلق الارتباط ولو لقرينة وعرف ، لا اللزوم العقلي الذي هو امتناع الانفكاك ، ثم أشار إلى أقسام الكناية بعد تعريفها فقال :

أقسام الكناية

(وهي) أي الكناية من حيث هي (ثلاثة أقسام) ووجه القسمة أن المعنى المطلوب بلفظ الكناية أي الذي يطلب الانتقال من المعنى الأصلي إليه إما أن يكون غير صفة ولا نسبة ، أو يكون صفة ، ونعني بالصفة الصفة المعنوية لا النعت النحوي ، أو يكون نسبة والقسمة حاصرة ف (الأولى) أي القسم الأول من هذه الأقسام ، وعبر عنه بصيغة التأنيث مع أن لفظ القسم مذكر نظرا إلى أن المعبر عنه بهذه الصيغة الكناية وهي مؤنثة ، أو باعتبار القسمة أي : القسمة الأولى من هذه الأقسام المنسوبة للكناية هي (المطلوب) أي : الكناية التي يطلب (بها) ما هو (غير صفة) وقد تقدم أن المراد الصفة المعنوية.

(ولا نسبة) هو عطف على صفة ، وزاد لا لأن المعطوف بعد غير منفي ، ويجوز تأكيد نفيه بزيادة لا ، ومعنى كون الكناية يطلب بها ما ذكر ، أن يقصد الانتقال من الشعور بمعناها الأصلي إلى الفرع الذي استعملت هي فيه وسيأتي معنى طلب الصفة وطلب نسبتها ، ثم أشار إلى قسمي هذه الأولى بقوله (فمنها) أي : ثم إن الأولى المطلوب بها غير الصفة وغير النسبة منها (ما) أي قسم (هي معنى واحد) وأنث الضمير باعتبار


أن معناه الكناية ، والمراد بوحدة المعنى هنا أن لا توجد هنالك أجناس من المعاني لا ما يقابل التثنية والجمعية الاصطلاحية بدليل المثال الآتي ، ثم لا يخفى ما في كلامه من التسامح وهو إطلاق الكناية على المعنى الأصلي ، وإنما هي كما تقدم لفظ كان له معنى حقيقي أطلق لينتقل منه إلى لازمه ، ولكن لما كان الانتقال من معنى اللفظ سمى المعنى كناية ، وذلك كما إذا اتفق أن للشيء صفة اختصت به ، فيذكر لفظ تلك الصفة ليتوصل بتصور معناه إلى ذلك الموصوف أي : إلى ذاته لا إلى وصف من أوصافه أو إلى نسبة من النسب المتعلقة به ، فيصدق حينئذ أن المطلوب بلفظ تلك الصفة الذي جعلناه كناية غير الصفة والنسبة ؛ إذ هو ذات الموصوف ، وإنما اشترطنا في الصفة المكنى بها الاختصاص لما تقدم أن الأعم لا يشعر بالأخص وإنما يستلزم المطلوب ما يختص به بحيث لا يكون أعم بوجوده في غير وذلك (كقوله : الضاربين) (١) أي : أمدح الضاربين (بكل أبيض) أي بكل سيف أبيض (مخذم) بضم الميم وسكون الخاء وفتح الذال المعجمة وهو القاطع (والطاعنين) أي : أمدح الطاعنين ، أي : الضاربين بالرمح (مجامع الأضغان) والمجامع جمع مجمع اسم مكان من الجمع ، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد ، فمجامع الأضغان كناية عن القلوب ، فكأنه يقول : والطاعنين قلوب الأقران لإجهاز نفوسهم بسرعة ، وهو أعني المجامع معنى واحد ، إذ ليس أجناسا ملتئمة وإن كان لفظه جمعا ، وذلك المعنى صفة معنوية مختصة بالقلوب ؛ لأن مدلولها كون الشيء محلا تجتمع فيه الأضغان ، ولا شك أن هذا المعنى مختص بالقلوب ، إذ لا تجتمع الأضغان في غيرها ، لا يقال مصدوق قولنا مجمع الضغن هو القلب ، وإطلاق اللفظ على مصدوقه حقيقة فليس هذا من الكناية ؛ لأنا نقول : لم يطلق المجمع على القلب من حيث إنه مجمع الضغن ؛ إذ لا يقصد الإشعار بهذا المعنى فيه ، إذ المضروب ذاته لا من حيث هذا المعنى ، فالمفهوم من مجمع الضغن عند إطلاقه لم يرد ، وإنما أتى لينتقل منه إلى ذات القلب

__________________

(١) البيت لعمرو بن معد يكرب ، فى الإشارات ص (٢٤٠) ، والإيضاح ص (٢٧٣) بتحقيق الدكتور / عبد الحميد هنداوى.


فالمفهوم من اختصاصه جعل كناية عن ذات المقصود ، ومثل هذا يتصور في كل صفة جعلت كناية عن ذات المقصود فليفهم.

(ومنها) أي : ومن الأولى وهي التي يطلب بها غير الصفة والنسبة (ما) أي : قسم (هي مجموع معان) وأنث الضمير لما تقدم ، والمراد بجمعية المعاني ما يقابل الوحدة السابقة ، وذلك بأن توجد أجناس أو جنسان من الصفات يكون ذلك المجموع هو المختص بالمكنى عنه الموصوف ، فيتوصل بمجموعها إليه بحيث تكون كل صفة لو ذكرت على حدة لم ينتقل منها إلى الموصوف المكنى عنه لعمومها ، وكيفية ذلك أن يضم لازم إلى لازم آخر ، أو إلى لازمين فأكثر ، فيذكر المجموع فينتقل من مفهومهما الغير المقصود بالذات إلى ذات الموصوف (كقولنا : كناية عن ذات الإنسان) بدا لنا مثلا (حي مستوى القامة عريض الأظفار) فإنه لو كنى عن الإنسان باستواء القامة وحده شاركه فيه بعض الشجر إذ المراد باستواء القامة نفي الاعوجاج ، ولو كنى عنه به وبالحي لساواه التمساح كما قيل : ولو كنى بعرض الأظفار وحده أو بعرض الأظفار مع الحي ساواه الجمل مثلا ، بخلاف مجموع الأوصاف الثلاثة يختص بها الإنسان ، فكانت كناية : نعم ، عرض الأظفار مع استواء القامة يغني عن حي بل قيل الحي مع استواء القامة يغني عن عرض الأظفار ؛ إذ لا يوجد حي كذلك خلاف ما قيل في التمساح وكذا الأفعوان ؛ لأن المراد بالقامة ما يكون إلى أعلى لا ما يمتد على الأرض وشبهه والخطب في هذا سهل.

وتسمى هذه الكناية خاصة مركبة ، وتقدم ما يندفع به ما يتوهم من أن الأوصاف صادقة على المكنى عنه فتكون حقيقة لا كناية (وشروطهما) أي : وشرط هاتين الكنايتين وهما قسما الأولى وأفرادها محصورة فيهما ، وإن كان التعبير بمن لا يفي الحصر ، واتكل في ذلك على ما علم من أن الإفراد والجمعية لا واسطة بينهما على ما تقدم.

(الاختصاص بالمكنى عنه) أي شرط كون القسمين كناية اختصاص المعنى الواحد المكنى به بالمكنى عنه ، كما تقدم في مجامع الأضغان ، واختصاص المجموع من


المكنى بالمكنى عنه كما في قوله حي إلخ كناية عن الإنسان ، وهذا لا يختص بهاتين الكنايتين اللتين هما قسما الأولى ، بل كل كناية كذلك إذ لا يدل الأعم على الأخص ، ولا ينتقل من الأول إلى الثاني ، وإنما نص على ذلك فيهما تذكرة لما علم ، لئلا يغفل فيتوهم أن الأوصاف أو الصفة ينتقل منها إلى الموصوف مع عموم مفهومها فتخرج بذلك التوهم هذه عن قاعدة الكناية.

والأولى من هاتين أعنى ما هي معنى واحد ينتقل منها إلى الموصوف جعلها السكاكي قريبة أي : سماها قريبة بمعنى أنها سهلة المأخذ ، أي : الأخذ بمعنى أن محاول الإتيان بها يسهل عليه تناولها ، ويسهل على السامع الانتقال فيها ، كما يسهل على المتكلم الإتيان بها بعد إدراك وجه الانتقال فيها ، وإنما سماها سهلة ؛ لبساطتها وعدم التركيب فيها فلا يحتاج فيها إلى ضم وصف إلى آخر ، والتأمل في المجموع حتى يعلم اختصاص هذا المجموع بلا زيد ولا نقص.

وجعل الثانية بعيدة المأخذ والانتقال ؛ لتوقفها بالنسبة للآتي بها على جمع أوصاف يكون مجموعها مختصا بلا زيد ولا نقص ، وذلك يحتاج إلى التأمل في عموم وخصوص وتوقف الانتقال على ما ذكر ، وكلما توقف الانتقال على تأمل أو الإتيان عليه كان ثم بعد ، وقد علم من هذا أن مراده بالقرب سهولة الانتقال والتناول للبساطة ، وبالبعد صعوبتهما للتركيب ؛ لأن إيجاد المركب والفهم منه أصعب من البسيط غالبا ، وليس المراد بالقرب هنا انتفاء الوسائط والوسائل بين الكناية والمكنى عنه ، وبالبعد وجودها كما سيأتي ؛ فالبعد والقرب هنا خلافهما بهذا المعنى الآتي ، وإن كان يمكن مجامعتهما لما يأتي ؛ لصحة وجود البساطة بلا واسطة ، ووجود التركيب مع الوسائط ، وقولنا : للبساطة وللتركيب للإشارة إلى أن الصعوبة والسهولة نسبيان يحصل كل منهما في الغالب مما نسبا له ، وإنه وإن كانت ثم صعوبة أو سهولة لشيء آخر عارض فهما يندرجان فيما يأتي على ما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى فتأمل.

(والثانية) من أقسام الكناية هي (المطلوب) أي : التي يطلب (بها صفة) من الصفات بمعنى أن ما قصد إفادته وإفهامه بطريق الكناية هو صفة من الصفات ويعني بها


المعنوية لا خصوص النعت النحوي كما تقدم ، ومعنى طلب الصفة دون النسبة أن يكون المقصود بالذات هو إفهام معنى الصفة في صفة أخرى أقيمت مقام تلك ، فصار تصور المثبتة المكنى عنها هو المقصود بالذات ؛ لأن نفس إثباتها كالمعلوم من وجود نسبة المكنى بها ، وأما طلب النسبة دون الصفة ففي ما إذا صرح بالصفة وقصد الكناية بإثباتها لشيء عن إثباتها للمراد فيصير الإثبات بسبب ذلك هو المقصود بالذات ، وإذا قصدت النسبة والصفة معا فلعدم وجود العلم بإحداهما أو ما يقوم مقامه ، والحاصل أن النسبة إن كانت معلومة أو كالمعلومة للتعرض لها في ضمن صفة كنى بها عن أخرى فالمطلوب تصور الأخرى التي أثبتت في ضمن إثبات ما أفهمها ، فتكون الكناية لطلب الصفة وإن كانت الصفة معلومة أو كالمعلومة وكنى بإثباتها لشيء لينتقل إلى إثباتها للمراد ، فالمطلوب ذلك الإثبات وتكون الكناية لطلب النسبة وإن جهلا معا بناء على صحته ، وقصد الانتقال لهما فالمطلوب هما معا ، وتكون الكناية لطلب الصفة والنسبة معا على ما سيأتي ؛ فالصفة لا تخلو من النسبة ، والنسبة لا تخلو من الصفة ، ولكن اختلفا في الاعتبار والقصد الأولى وعدمه فافهم ، ففي المقام دقة.

فإذا تقرر هذا فالمطلوب بها الصفة كأن يذكر جبن الكلب لينتقل منه إلى الجود ، وكأن يذكر كثرة الرماد لينتقل منه لذلك ، وكذا ما أشبه ذلك ، وإنما كان هذا مما طلبت به الصفة على ما قررناه ؛ لأن النسبة التي هي إثبات المنتقل إليه ولو تقرر في نفس الأمر إذ هو المطلوب ، لما ناب عنه إثبات المنتقل عنه وهو الإثبات من جنس ذلك صارت الفائدة ، والحاصل إدراك معنى المثبت الذي هو الكرم لا إثباته.

(وهي) أعني المطلوب بها صفة (ضربان : قريبة وبعيدة) ثم أشار إلى هذا التفصيل فيها أعني بيان قريبها وبعيدها مرتبا له على ذكرها إجمالا فقال : (فإن لم يكن الانتقال) من الكناية إلى المطلوب الذي هو الصفة المكنى عنها ؛ لأن الكلام في الكناية المطلوب بها صفة (بواسطة) بين المنتقل عنه وإليه ، وذلك بأن يكون الذي يعقب إدراك المعنى الأصلي والشعور به هو المكنى عنه (ف) تلك الكناية (قريبة) لانتفاء الوسائط التي يبعد معها غالبا زمن إدراك المكنى عنه عن زمن الشعور بالمعنى الأصلي ، ولما كان معنى


القرب هنا عدم الوسائط أمكن أن يكون المعنى المكنى عنه خفيا بالنسبة إلى الأصل وأن يكون واضحا ، ولهذا انقسمت القريبة إلى الواضحة والخفية ، وإلى هذا أشار بقوله : والقريبة المذكورة قسمان لأنها إما (واضحة) لكون المعنى المنتقل إليه يسهل إدراكه بعد إدراك المنتقل منه ؛ لكونه لازما بينا بحسب العرف أو القرينة أو بحسب ذاته (كقولهم : كناية عن طول القامة طويل نجاده) أي : كقولهم فلان طويل نجاده برفع النجاد على أنه فاعل طويل ، والضمير المضاف إليه عائد على الموصوف حال كون هذا القول كناية عن طول القامة ، ولا شك أن طول النجاد اشتهر استعماله عرفا في طول القامة ففهم منه اللزوم بلا تكلف إذ لا يتعلق بالإنسان من النجاد إلا مقداره ، وليس بينه وبينه واسطة فكانت واضحة قريبة ، وكانت كناية عن صفة ؛ لأن النسبة هنا مصرح بها ، وإنما المقصود بالذات صاحبها وهو الوصف فكان كناية مطلوبا بها صفة (و) مثل هذا في كونه كناية مطلوبا بها صفة هي قريبة واضحة قولهم مثلا فلان (طويل النجاد) بإضافة الصفة إلى النجاد إذ الموصوف بالطول باعتبار المعنى في المثالين هو النجاد لا فلان ، وإنما عدد المثال ليشير إلى الفرق بينهما بقوله (والأولى) أي : والكناية الأولى وهي قوله طويل نجاده برفع النجاد كناية (ساذجة) أي : خالصة لا يشوبها شيء من التصريح بالمعنى المقصود ؛ لأن الفاعل بطويل هو النجاد لينتقل منه إلى طول قامة فلان فإن قلت : إذا كان الذي أثبت له الصفة هو النجاد ، فلم يتقدم الإثبات للموصوف الذي هو النسبة ، فتكون هذه كناية طلبت بها صفة ونسبة معا؟ قلنا : الإخبار بالطويل عن زيد الذي طلبت له الصفة إثبات له ، ولا يضر كون الإثبات في الحقيقة لسببيه ؛ لأن الإثبات اللفظي الحاصل بالإخبار مع كون النجاد الذي أسند إليه سببيه ينزل منزلة الإثبات الحقيقي ، فأغنى ذلك عن طلب الإثبات الذي هو النسبة.

(وفي الثانية) وهي قوله : طويل النجاد بإضافة الصفة إلى النجاد (تصريح ما) بالمقصود الذي هو طول القامة ، فكانت كناية مشوبة بالتصريح ، وإنما كان فيها تصريح ما (لتضمن الصفة) التي هي لفظ طويل (الضمير) وإنما تضمنت الصفة الضمير ، لكونها مشتقة فهي بمنزلة الفعل لا تخلو من الضمير والضمير عائد على الموصوف ، وكأنه


قيل : فلان طويل ، ولو قيل كذلك لم يكن كناية ، بل تصريحا بطوله الذي هو طول قامته ، فلما لم يصرح بطوله لإضافته إلى النجاد ، وأومأ إليه بتحمل الضمير كانت كناية مشوبة بالتصريح ولم تجعل تصريحا حقيقيا كما جعل قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) تشبيها حقيقة كما تقدم لا استعارة مشوبة بالتشبيه ؛ لأن الموصوف في نفس الأمر بالطول ، والمقصود نسبة الطول إليه كما اقتضت قواعد العربية هو المضاف إليه ، وتحميل الصفة للضمير إنما هو لرعاية الأمر اللفظي ، ونعني بالأمر اللفظي هنا : ارتكاب ما حكمت به قواعد الإعراب من أن المشتق لا بد له من الضمير ، ولو لم يكن الضمير هو المقصود بالوصف في نفس الأمر ، وصح لنا أن نحمله ضمير غير الموصوف لقضاء ما اقتضته القواعد ؛ لأن موصوفه الحقيقي سببى صاحب الضمير فكأنه هو ، ولما كان الموصوف حقيقة هو النجاد صار بمنزلة طويل نجاده ، فكانت مشوبة بالتصريح لا تصريحا ، والدليل على أنا حملناه الضمير وهو فاعله لفظا لا أنه مضاف لفاعله لفظا بل لفاعله معنى أنا نقول هند طويلة النجاد بتأنيث الصفة نظرا لهند ، والزيدان طويلا النجاد بتثنيتها نظرا للزيدين ، والزيدون طوال النجاد بجمعها نظرا للزيدين فقد أنثنا الصفة وثنيناها وجمعناها لزوما ؛ لإسنادها إلى ضمير الموصوف فوجبت مطابقتها للموصوف ، ولو أخليناها عن ضمير الموصوف ما جرت عليه بالمطابقة ؛ لأن الصفة المسندة لغير ضمير ما جرت عليه لا تطابق ما قبلها ، وقد تقرر ذلك في محله ، ولذلك نفردها مذكرة حيث يكون ما أسندت إليه يقتضي فيها ذلك ، ولو كان الموصوف بها لفظا مؤنثا أو مثنى أو مجموعا فنقول : هند طويل نجادها فتذكر الصفة لا طويلة ؛ لأنك أسندتها إلى النجاد لا إلى ضمير هند ، والزيدان طويل نجادهما ، والزيدون طويل نجادهم بالإفراد بعد التثنية والجمع لإسنادها إلى المفرد وهو النجاد لا إلى ضمير المثنى والمجموع ، بخلاف ما إذا أسندتها لضمير ما قبلها فتجب مطابقتها ، ولذلك قلنا : إن فيها شوبا من التصريح ، وقد تقدم وجه جعلها كناية لا تصريحا محضا فإن قلت : قد قررت بما ذكر أن نحو : النجاد في نحو المثالين هو

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.


الموصوف ، وتحمل الضمير لرعاية حق الاشتقاق وإلا فمفاده ليس هو المقصود بالوصف ؛ لتكون الصفة كناية ، وإنما جعلناه في منزلة الموصوف للسببية بينه وبين الموصوف فقضينا به حق الاشتقاق وصحح ذلك سببيته ؛ إذ لا يصح تحمل المشتق ضمير أجنبي من كل وجه غير معتبر الوصفية بحال من الأحوال ، وإلا كان في التركيب تخاذل ومنافاة ، فهل لأحد التركيبين محل يحسن فيه دون الآخر أو هما سواء؟ وإنما كل منهما بالنسبة إلى الآخر تفنن في التعبير ، قلنا : التركيب الذي فيه الإضافة وفيه يوجد تحمل الضمير ، ويوجد فيه شوب من التصريح إنما يحسن إذا حسن جريان الصفة بنفسها على الموصوف بوجود السببية المصححة للجريان عرفا كقولك : فلان حسن الوجه بالإضافة ، إذ يحسن عرفا فيمن حسن وجهه أن يقال : هو حسن ، أو لا يحسن جريانها بنفسها ولكن يحسن جريان ما نابت عنه كقولك : فلان أبيض اللحية بالإضافة فإنه لا يحسن أن يقال لمن ابيضت لحيته : إنه أبيض ، ولكن يحسن أن يوصف بما نابت عنه هذه الصفة وهو الشيخوخة ، إذ يحسن أن يقال : هو شيخ ، ومثل ذلك فلان كثير البنين أي : متقو ، وأما إذا لم يحسن جريانها على الموصوف عرفا ولا جريان ما نابت عنه لعدم نيابتها عما يحسن لم يحسن تركيب الإضافة ، وإنما يحسن الإسناد إلى السببى بعد الصفة كقولك فلان أحمر فرسه ، وأسود ثوره ؛ إذ لا يحسن أن يقال فيمن حمر فرسه : إنه أحمر ، ولا فيمن سود ثوره : إنه أسود فقد ظهر أن تركيب الإضافة له محل لا يحسن فيه ، وتركيب غير الإضافة ظاهر كلام النحويين أنه يحسن في كل محل فكأنه أعم محلا فافهم.

(أو خفية) هو معطوف على واضحة أي : الكناية المطلوب بها صفة إن لم يكن الانتقال بها بواسطة فهي إما واضحة كما تقدم ، وإما خفية وخفاؤها لكون الانتقال فيها لا بواسطة فهي إما واضحة لا تحتاج إلى تأمل في المراد حتى يستخرج من خزانة الحفظ ، أو يستخرج بالقرينة وهي خفية الدلالة ، وذلك حيث يكون اللزوم بين المكنى به وعنه فيه غموض ما فيحتاج إلى إعمال روية في القرائن ، وفي سر المعاني ليستخرج المقصود منها وذلك (كقولهم : كناية عن الأبله) فلان (عريض القفا) والقفا مؤخر


الرأس ، وعرضه يستلزم عظم الرأس غالبا ، والمقصود هنا العظم المفرط ؛ لأنه هو الدال على البلاهة ، وأما عظمه بلا إفراط بل مع اعتدال فيدل على علو الهمة والنباهة وكمال العقل ، ولذلك وصف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدلالة عرض القفا على البلاهة فيه خفاء ما ؛ لأنه لا يفهمه كل أحد ، ولكنه يفهم عند من له اعتقاد في ملزميته للبله ، فإن قلت : من له الاعتقاد لا خفاء بالنسبة إليه ، ومن لا اعتقاد له لا كناية باعتباره ؛ إذ لا يفهم المراد أصلا قلت : المراد بالخفاء هنا كثرة الجاهلين باللزوم ، فالمعنى أنها من شأنها أن تخفى لكثرة الجاهلين ، وعلى المتكلم بها أن لا يخاطب إلا من يظن اعتقاده فإن لم يصادفه حصل خفاء ، ولكن هذا بينه وبين قولهم يفهمها بإعمال الروية منافاة ما إلا أن يحمل على أنه قد يفهم بالقرينة الآن ، ولو لم يتقدم له اعتقاد ، ويحتمل أن يكون الخفاء على بابه ، وأنه باعتبار المخاطب والمتكلم ؛ إذ لا يلزم من تقدم اعتقاد اللزوم حضوره حال الخطاب ، فيجوز أن يكون بعض المعاني المخزونة يدرك لزومها بمطلق الالتفات ، فلا تخفى الكناية عنها على المتكلم عند روم إيجادها ، ولا تخفى على السامع عند سماعها ، ويجوز أن يكون إدراك لزومها يحتاج إلى تصفح المعاني ، والدلالة بالقرائن الخفية الدلالة فيحتاج المتكلم في إيجادها إلى تأمل السامع في فهمها إلى روية فافهم.

وكون عرض القفا كناية عن البله بلا واسطة واضح باعتبار العرف ؛ لأن اللزوم بينهما متقرر به حتى قيل : إنه الآن لا خفاء به أصلا ، وإن الخفاء المذكور فيه لعله في العرف القديم ، ولا عبرة بقول الأطباء إنما استلزم البله لدلالته على قوة الطبيعة البلغمية المستلزمة للبرودة المستلزمة للغفلة ؛ لأن تدقيقات الأطباء لا عبرة بها في التخاطب ، ويجوز أن يكون عرض القفا بعرض الوساد فتكون الكناية عن عرض القفا بعرض الوساد قريبة ، وعن البله بواسطة ولا محذور في ذلك ؛ فإنه يجوز أن تكون الكناية قريبة باعتبار ، بعيدة باعتبار آخر ، ولما لم يكن الخفاء في الكناية عن البله بعرض القفا من جهة الوسط لم تسم عرفا بعيدة ، وإن كان فيها خفاء ، فهي ولو كانت بعيدة باعتبار الفهم قريبة باعتبار نفي الوسائط ثم أشار إلى مقابل قوله إن لم يكن الانتقال بواسطة بقوله : (وإن كان) الانتقال من الكناية إلى المطلوب بتلك الكناية إما هو


(بواسطة ف) تلك الكناية (بعيدة) أي تسمى بذلك اصطلاحا لبعد زمن إدراك المقصود منها ؛ لاحتياجها في الغالب إلى استحضار تلك الوسائط ، وظاهره أنها بعيدة ولو كانت الواسطة واحدة ؛ لأن فيها بعدا ما باعتبار ما لا واسطة فيها أصلا ، ثم مثل للبعيدة فقال : (كقولهم : كثير الرماد) حال كون هذا القول (كناية عن المضياف) أي كثير الضيافة التي هي القيام بحق الضيف ، فكثرة الرماد كناية عن المضيافية بكثرة الوسائط ، ثم أشار إلى تلك الوسائط بقوله (فإنه) أي : إنما قلنا : إن كثرة الرماد كناية عن المضيافية بكثرة الوسائط ؛ لأن الشأن هو هذا ، وهو أنه (ينتقل) من كثرة الرماد المكنى به (إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور) ضرورة أن الرماد لا يكثر إلا بكثرة الإحراق ، ولما كان مجرد كثرة الإحراق لا يفيد هنا وليس بلازم في الغالب ؛ لأن الغالب من العقلاء أن الإحراق لفائدة الطبخ ، وإنما يكون الطبخ إذا كان الإحراق تحت القدور زاده ، ليفيد المراد وليتحقق الانتقال (و) ينتقل (منها) أي من كثرة الطبخ (إلى كثرة الطبائخ) جمع طبيخ أي : ما يطبخ ؛ لأن غالب العقلاء أن الإحراق إنما هو للطبخ كما ذكرنا (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة الطبائخ (إلى كثرة الأكلة) أي : الآكلين لذلك المطبوخ ؛ فالأكلة جمع آكل ، وذلك لأن العادة أن المطبوخ إنما يطبخ ليؤكل ، فإذا كثر كثر الآكلون له (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة الأكلة (إلى كثرة الضيفان) بكسر الضاد جمع ضيف وذلك لأن الغالب أن كثرة الأكلة إنما تكون من الأضياف ؛ إذ الغالب أن الكثرة المعتبرة المؤدية لما ذكر من الرماد لا تكون من العيال (و) ينتقل (منها) أي : من كثرة وجود الضيفان للموصوف (إلى المقصود) وهو المضيافية ، والفرق بين كثرة الضيفان والمضيافية حتى ينتقل من أحدهما إلى الآخر أن كثرة وجود الضيفان وصف للأضياف والمضيافية للمضيف ؛ إذ هي القيام بحق الضيف كما تقدم ، وهما متلازمان ، ولشدة اللزوم بينهما ربما يتوهم اتحادهما فيقال : ليس هنالك انتقال.

وقد ذكر المصنف أربع وسائط بين الكناية والمقصود وزاد بعضهم بعد كثرة الرماد كثرة الجمر فكانت الوسائط به خمسة والخطب في مثل ذلك سهل ، ثم إن كثرة الوسائط من شأنها خفاء الدلالة ، وقلتها من شأنها وضوحها ، وإذا انتفت رأسا ظهرت


شائبة الوضوح ؛ لأن أول ما يدرك في الغالب عند الالتفات إلى اللوازم ما يكون منها بلا واسطة ، إذ اللازم الملاصق للملزوم أظهر ، وإنما كانت الوسائط موجبة للبعد ؛ لأن الإدراك حينئذ يتوقف على إدراكات قبله ، وذلك مما ينسي اللزوم ، ولا يخفى غالبا من خفاء إدراك بعض الوسائط فمن أجل هذا مع بعد زمان الإدراك فيها سميت بعيدة ، وإنما قلنا : إن الشأن في كل منهما ما ذكر إشارة إلى أن كلا منهما قد يكون على خلاف ذلك ، فيمكن في المنتفية الوسائط الخفاء كما تقدم في عرض القفا ، وفي كثيرتها الوضوح ؛ لمرور الذهن بسرعة إلى المقصود ، إما مع إحضارها لظهورها ، وإما بدون الإحضار لكثرة الاستعمال حتى يسرع الانتقال ، ولا يقال : إذا أسرع بدون إحضار فلا واسطة ؛ لأنا نقول : يكفي في كون الكناية ذات وسائط وجودها في نفس الأمر مع إمكان إحضارها عرفا تأمل والله أعلم.

(والثالثة) من أقسام الكناية هي (المطلوب بها نسبة) والمراد بالنسبة كما هو العرف إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، وقد عبر المصنف في هذا المقام ـ كما يأتي وكذلك غيره ـ بالاختصاص ، وربما يتوهم من ذلك أن النسبة المطلوبة لا بد أن تكون على وجه الاختصاص الذي هو الحصر وليس كذلك ، وإنما المراد بالاختصاص مجرد ثبوت النسبة المقصودة سواء أريد إثباتها على وجه الحصر أم لا ، فقوله بعد : فترك التصريح بالاختصاص إلى الكناية مراده ترك التصريح بما يفيد مجرد الثبوت أو السلب سواء كان ذلك على وجه الحصر أم لا ، وليس المراد ترك التصريح بما يفيد الاختصاص الذي هو الحصر ؛ لأنه قد يكنى عن غير النسبة الحصرية ، وإنما عبر بالاختصاص عن مجرد الثبوت ، وإن كان مجرد الثبوت أعم ؛ لأن من ثبت له الشيء لا يخلو عن الاختصاص به في نفس الأمر ، ولو لم تقصد الدلالة عليه إذ لا بد من تحقق من ينتفي عنه ذلك الشيء في نفس الأمر ، ثم مثل للكناية المطلوب بها النسبة فقال (كقوله :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج (١)

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم ، في الطراز (١ / ٤٢٢) ، ونهاية الإيجاز ص (٢٧١) ، والإشارات ص (٢٤٥) ، والإيضاح ص (٢٧٨).


فإنه) أي : وإنما كان هذا مثالا للكناية المطلوب بها النسبة ؛ لأن الشاعر (أراد أن يثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات) الثلاث التي هي السماحة وهي بذل ما لا يجب بذله عن طيب النفس ولو لم يكثر على ظاهر تفسيرهم ، والندى وهو بذل الأموال الكثيرة لاكتساب الأمور الجليلة العامة كالثناء من كل أحد ، ويجمعهما الكرم والمروءة وهي في العرف سعة الإحسان بالأموال وغيرها كالعفو عن الجناية ، وتفسر بكمال الرجولية ، وذلك يقتضي اختصاصها بالرجل دون المرأة إلا أن تفسر الرجولية بالإنسانية لعمومها الذكر والأنثى ؛ لأنه قد يقال للمرأة رجلة وكمالها بالإحسان المذكور ، وتفسر بالرغبة في التحافظ على دفع ما يعاب به الإنسان ، وعلى ما يرفع على الأقران وهو قريب من الأول ، والدليل على أنه أراد اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات فحوى الخطاب ، ومفهوم الكلام على ما يتقرر ، وأراد المصنف بالاختصاص ـ كما تقدم ـ مجرد الثبوت ، والدليل على ذلك ما علم من أن الكناية في النسبة لا يشترط فيها كونها في النسبة الحصرية ، بل تجري في المطلقة كما أفاده هذا المثال ؛ إذ ليس فيه أداة حصر وكما يدل عليه ما يأتي مما مثل به في المفتاح (ف) حين أراد إثبات الاختصاص الذي هو ثبوت الصفات لمن ذكر (ترك التصريح) باللفظ الدال على هذا الاختصاص ، ويحصل ذلك التصريح لو أتى به (بأن يقول) إن ابن الحشرج (مختص) بهذه الصفات (أو) يقول (نحوه) أي : نحو مختص مما يفيد مجرد الثبوت ، كما تقدم أن المراد بالاختصاص هنا الثبوت لا الحصر ، فقوله : نحوه على هذا منصوب عطفا على معمول يقول كما قررنا ، ويحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مدخول الباء أي : يحصل ذلك بقوله مختص وبنحو ذلك القول ونحو لفظ الاختصاص في هذا المعنى ، كل ما يفيد ثبوت النسبة للموصوف ، إما بإضافتها إليه مع الإخبار بحصولها كأن يقول : سماحة ابن الحشرج حاصلة ؛ لأن إضافتها تفيد كونها له أو بإسنادها إليه في ضمن الفعل كأن يقول سمح ابن الحشرج ، أو بنسبتها إليه نسبة تشبه الإضافة مع الإخبار بالحصول كأن يقول : حصلت السماحة لابن الحشرج ، أو بإسنادها إليه على أنها خبر في ضمن الوصف كأن يقال ابن الحشرج سمح ، أو نحو ذلك ، ونحو هذا يجري في الندى والمروءة ، وبهذه الأمثلة


التي ليس فيها دلالة على الحصر يعلم أن مرادهم بالاختصاص الممثل له في المفتاح الثبوت للموصوف لا الحصر ، وقد تقدم وجه التعبير به عن مجرد الثبوت (إلى الكناية) يحتمل أن يتعلق بترك مضمنا معنى التجاوز وما يشبهه بقوله ترك التصريح عادلا عنه إلى الكناية ، وحصلت تلك الكناية في المعدول إليها (بأن جعلها) أي جعل تلك الصفات لابن الحشرج حاصلة وواقعة (في قبة مضروبة عليه) أي مضروبة على ابن الحشرج ، والقبة مأوى يشبه الخيمة إلا أنه فوقها في العظم والاتساع ، ووجه دلالة إثباتها في القبة على ثبوتها لابن الحشرج أنه لما جعل ظرف حصولها قبة ابن الحشرج ومعلوم أن تلك الصفات لا تخلو من محل تقوم به في تلك القبة ، وهي صالحة لصاحب القبة الحائز لها ، والأصل عدم مشاركة سواه له في تلك القبة ، كان ذلك دليلا على أنه موصوفها ، وأنه هو الذي قامت به لاستحالة قيامها بنفسها ففي إثباتها في قبة تنبيه على أن صاحبها أو موصوفها هو ذو القبة ؛ لأن كون الشيء في حيز الإنسان مع صلاحيته له والأصل عدم ما سواه يتبادر منه أن ذلك الشيء لمن حصل في حيزه ، فالسماحة والندى والمروءة أوصاف صرح بها فلم تطلب من ذاتها ، وإنما طلبت نسبتها أي ثبوتها لمن كانت له ، وقد كنى بثبوتها في القبة على ما قررنا عن ثبوتها للموصوف ، فهذه كناية مطلوب بها النسبة أي الثبوت لصاحبها (ونحوه) أي : ومثل البيت المذكور في كونه كناية طلبت بها النسبة أي إثبات الصفة للموصوف بسبب إيقاع تلك النسبة فيما يحيط بالموصوف ويشتمل عليه في الجملة فينتقل من ذلك الإثبات إلى الإثبات للموصوف على ما قررناه في البيت (قولهم) في ممدوح ما (المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه) المجد والكرم معروفان ، والثوبان والبردان متقاربان ، وثناهما بالنظر إلى أن الغالب في الملبوس تعدده ، وهما على تقدير المضاف أي : بين أجزاء الثوبين والبردين ، وإنما قررناه كذلك ؛ لأن الشخص حل في بينية أجزاء البردين والثوبين ؛ لأن كلا منهما محيط بكل أو بعضه على وجه الاشتمال ، ويحتمل على بعد أن يبقى على ظاهره بأن يقدر أن ثوبا ستر طرفا منه من غير إحاطة والآخر ستر الطرف الآخر والخطب في مثل ذلك سهل وإنما كان هذا نحو ما تقدم لأن هنا ـ أيضا ـ أراد بدليل خطابه أن يثبت المجد والكرم للمدوح فترك التصريح بذلك


وكنى عنه بجعل ثبوتهما حاصلا في بينية الثوبين ؛ لأنه معلوم أن حصول المجد والكرم فيما بين الثوبين لا يخلو عن موصوف هنالك وليس إلا صاحب الثوبين ؛ لأن الكلام في الثوبين الملبوسين فأفاد الثبوت للموصوف بطريق الكناية ، والكرم والمجد مذكوران فلا يطلبان ، وإنما يطلب ثبوتهما لموصوفهما فكانت الكناية هنا مما طلب بها النسبة على ما تقدم ، وربما يتوهم أن هذا المثال من معنى طلب الصفة كما في قوله : طويل نجاده ؛ لأن في كل منهما إثباتا منسوبا لما أضيف للموصوف ، فإن المجد وقع في بينية مضافة لما أضيف للموصوف والطول أثبت للنجاد المضاف للموصوف ، ولذلك أتى بهذا المثال ليعلم أنه ليس من معنى طلب ما لصفة ، وذلك لوجهين :

أحدهما : ما أشرنا إليه من أن الصفة هنا ـ وهي المجد مثلا ـ ذكرت وكنى بنسبتها الموقعة عن نسبتها للموصوف ، والصفة هنالك وهو طول القامة لم يصرح بها وإنما صرح بما يستلزمها وهو طول النجاد ، وإثباته أغنى عن طلب ثبوت الصفة الذي ناب هو عنه فصار المطلوب نفسها لا ثبوتها.

والآخر : وهو يرجع إلى صورة التركيب ومآله لهذا أن الطول في طويل النجاد صرح بإثباته للنجاد فصار حكما عليه ووصفا له وهو قائم مقام طول القامة ، ولما أضيف النجاد إلى الموصوف فهم منه المراد بسرعة وهو طول القامة للعلم بأن من طال نجاده فقد طالت قامته ، والثبوت أغنى عنه الثبوت لما أضيف للموصوف لقيامه مقام المطلوب ، فكأن الثبوت صرح به فلا يطلب إلا نفس الصفة والمجد لم يجعل صفة للثبوت وإنما جعل واقعا بين أجزائه ، وإذا لم يكن وصفا له لم تفد إضافته كون المجد ثابتا لصاحبه الملابس له إفادة تكون كالصريح ، فتكون الكناية لطلب الصفة لوجود الثبوت ضرورة أن الثبوت لم يحصل للثبوت فضلا عن كونه كالتصريح بثبوت المجد للمضاف إليه الذي هو الموصوف فكانت الكناية لطلب الثبوت الذي هو النسبة. نعم ، لو قال : ماجد ثوبه أمكن استواؤهما على أن استلزام طول النجاد لطول القامة واضح ، واستلزام مجادة الثوب مجادة صاحبه غير واضح فلا تصح الكناية به ، والوجه الأول أوضح فليتأمل.


فإن قيل : ههنا قسم رابع لم تطلب به الصفة فقط ولا النسبة فقط ، بل طلب به الصفة والنسبة معا وذلك كقولنا كثرة الرماد في ساحة زيد كناية عن المضيافية وإثباتها أما الإثبات فلأنا لم نثبت كثرة الرماد لزيد ، وإلا لما أضيف إليه كما في : طويل نجاده حتى تكون النسبة معلومة ، وإنما أثبتناها في ساحته ؛ لينتقل من ذلك إلى ثبوتها له ، وأما المضيافية فلأنا لم نصرح بها حتى يكون المطلوب نفس النسبة ، بل كنينا عنها بكثرة الرماد ، قلنا : ليست هذه كناية واحدة بل هي كنايتان : إحداهما طلب بها النسبة ، وهي إثبات الكثرة في الساحة ، والأخرى طلب بها نفس المضيافية وهي التصريح بكثرة الرماد ؛ لينتقل منها إلى المضيافية لاستلزامها إياه على ما تقدم.

وإن شئت أن تسمي المجموع قسما آخر فلا حجر في الاصطلاح ، ولو فتحنا ذلك الباب حدثت لنا خامسة وهي التي يطلب بها الصفة والنسبة وغيرهما ، وهو الموصوف كقولنا كثر الرماد في ساحة العالم حيث يدل الدليل على أن المراد بالعالم زيد فتكون كثرة الرماد كناية عن الصفة وهي المضيافية لاستلزامها إياها ، وإثباتها في الساحة كناية عن نسبتها للموصوف ، وذكر العالم كناية عن الموصوف على ما تقدم تحريره في الكناية بالصفة عن الموصوف ، فافهم.

الكناية العرضية

(والموصوف في هذين القسمين) يعني القسم الثاني من أقسام الكناية وهو المطلوب به صفة ، وقد تقدم تحقيقه والقسم الثالث وهو المطلوب به نسبة وقد تقدم بيانه أيضا وقد علم أن الموصوف في أول هذين القسمين هو الموصوف بالصفة المطلوبة والموصوف في ثانيهما هو الموصوف بالنسبة المطلوبة (قد يكون) ذلك الموصوف فيهما (غير مذكور) لا لفظا ولا تقديرا لأن المقدر في التركيب حيث يقتضيه كالمذكور ، وإنما قال : الموصوف في هذين ؛ لأن الموصوف في القسم الأول من أقسام الكناية هو نفس المطلوب بالكناية فلا يتصور إلا كونه غير مذكور بخلاف هذين فقد يذكر وقد لا ، فمثال ذكره في القسم الأول من هذين وهو المطلوب صفة قولهم كما تقدم زيد طويل


نجاده فالموصوف بالصفة المطلوبة وهو زيد قد ذكر ومثال ذكره في الثاني وهو المطلوب به نسبة قولهم كما تقدم أيضا :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فالموصوف بنسبة السماحة والمروءة والندى وهو ابن الحشرج قد ذكر وأما مثال عدم ذكره في المطلوب به صفة والنسبة مذكورة ، فهو متعذر ضرورة استحالة نسبة لغير منسوب إليه أي : حكم على غير محكوم عليه ملفوظ أو مقدر ، فالملفوظ كقولك : زيد كثير الرماد ، والمقدر كأن يقال : ما زيد هل هو كريم أم لا؟ فيقال : كثير الرماد فكونه مذكورا لفظا أو تقديرا لا إشكال فيه ، وكونه غير مذكور أصلا ممتنع.

نعم ، مثال عدم ذكره والنسبة إليه غير مذكورة أيضا موجود كقولك : كثر الرماد في هذه الساحة فإن كثرة الرماد كناية طلب بها صفة هي المضيافية ، وإيقاع الكثرة في الساحة كناية عن ثبوت المضيافية لصاحب الساحة ولم يذكر ، ولهذا يقال عدم ذكره في القسم الثالث من الأقسام وهو الثاني من هذه أعني المطلوب به النسبة ، وقد ذكرت الصفة فيجوز وجوده بدون الثاني أعنى المطلوب به صفة لصحة وجود الصفة المعنوية بلا نسبة أي حكم على أمر وذلك (كما يقال في عرض من يؤذي المسلمين) أي : كما يقال في التعريض بمن يؤذي المسلمين (المسلم) هو (من سلم المسلمون من لسانه ويده) (١) فإن هذا كناية عن نفي صفة الإسلام عن المؤذي ، ولو ذكر لم توجد فيه الكناية عن الصفة لذكرها وهي الإسلام ؛ فالكناية عن النسبة مع عدم ذكر الموصوف لا تستلزم الكناية عن الصفة كما في المثال لوجودها ، والنسبة هنا نفي الصفة لا ثبوتها ؛ لأنه يكنى عن النسبة للصفة مطلقا أعني : ثبوتية كانت أو سلبية وهي هنا سلبية ؛ إذ هي سلب الإسلام عن المؤذي ، ووجه الكناية أن مدلول الجملة حصر الإسلام فيمن لا يؤذي ولا ينحصر فيه إلا بانتفائه عن المؤذي ، وسيأتي وجه تسمية هذه عرضية ، والعرض بضم العين وسكون الراء وربما ضمت الراء أيضا هو الجانب يقال : نظرت إليه سمن عرض أي من جانب وناحية ، ومنه الحديث الشريف : " مثلت لي الجنة في عرض هذا الحائط" (٢)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان (١٠) ومسلم فى الإيمان (٤٠).

(٢) أخرجه البخارى فى" الفتن" (٧٠٨٩) بلفظ : " إنه صورت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط".


أي : في جانبه وناحيته والمراد به هنا التعريض أي : الإشارة إلى جانبه والمعرض به هنا سيأتي أنه هو مؤذ مخصوص لا مطلق المؤذي ، بل نفى الإسلام عن مطلق المؤذي مكنى عنه ، وأما المعرض به فهو شخص معين ، ويأتي الآن تحقيق ذلك.

فقد تبين بهذا التحرير أن القسم الأول من هذين القسمين اللذين أشار إليهما المصنف وهو الثاني من الأقسام الثلاثة أعني المطلوب بها صفة لا يتصور فيه حذف الموصوف مع التصريح بالنسبة إلى الحكم ، وإنما يتصور فيه ذلك مطلقا ولذلك كان حذفه مع طلب الصفة مستلزما لحذفه مع طلب النسبة لعدم إمكان التصريح بالنسبة مع حذف المنسوب إليه أي : المحكوم عليه ، ولا يلزم من حذفه مع طلب النسبة حذفه مع طلب الصفة لصحة وجود الصفة المعنوية مع حذف الموصوف بالنسبة فلا تذكر فتطلب بالكناية كما في المثال المقول في عرض من يؤذي المسلمين فليفهم ، ثم أشار إلى تنويع السكاكي للكناية بقوله (قال السكاكي الكناية تتفاوت) أي تتنوع (إلى تعريض و) إلى (تلويح و) إلى (إشارة وإيماء) أي : تتفاوت إلى ما يسمى بهذه التسامي ، واختلف في وجه عدوله عن أن يقال تنقسم إلى قوله تتفاوت ، فقيل : إنما عبر بالتفاوت دون الانقسام ؛ لأن هذه الأمور لا تختص بالكناية ؛ لأن التعريض مثلا يكون كناية ومجازا كما يأتي ، والتلويح ، والرمز ، والإشارة يطلق كل منها على معنى غير الكناية اصطلاحا ولغة ، فلو عبر بالانقسام أفاد أن هذه الأشياء لا تخرج عن الكناية ؛ إذ أقسام الشيء أخص منه ، ونظر في هذا بوجهين :

أحدهما : أن أقسام الشيء لا يجب أن تكون أخص منه ، لصحة أن يكون بعض الأقسام أو كلها بينها وبين المنقسم عموم من وجه كما تقدم في تقسيم الأبيض إلى الحيوان وغيره ، وقد علم أن الحيوان بينه وبين الأبيض عموم من وجه لصدقهما في الحيوان الأبيض ، واختصاص الحيوان بنحو الفرس الأدهم واختصاص الأبيض بنحو العاج وكذلك غيره ، وهذا الرد لا يخلو عن ضعف فإن القسم من حيث هو قسم لا يكون إلا أخص ، وهذا هو الأصل وعمومه إنما هو باعتبار مطلق ما يصدق عليه القسم ، مع أن وجود العموم من وجه في الأقسام المعتبر مطلق مصدوقها قليل.


والآخر : أن تعدية التفاوت بإلى إنما يصح بتضمينه معنى الانقسام ، فقد عاد الأمر إلى الانقسام فإن كان ذلك يقتضي خصوص الانقسام فلم يغن عنه التفاوت لتضمنه معناه وقيل إنما عبر بالتفاوت ؛ لأن الأقسام تتغاير وذلك أصلها ، وهذه الأشياء يجوز أن تتداخل فتصدق في صورة واحدة أو اثنين منها باعتبار مختلف ؛ لجواز أن يعبر عن اللازم بالملزوم فيكون كناية ، ومع ذلك تكون بالنسبة إلى سامع يفهم بالسياق تعريضا ، وبالنسبة إلى آخر رمزا لخفاء اللازم ، ولم يفهم المعرض به بالسياق ، وبالنسبة إلى آخر تلويحا لفهمه كثرة الوسائط كما تقدم في عرض القفا بالنسبة للأطباء وبالنسبة لآخر إيماء وإشارة لعدم توسط اللوازم مع ظهور اللزوم فعبر بالتفاوت فرارا أن يفهم بالانقسام تغاير هذه الأقسام ، بحيث لا يصدق بعضها على بعض في صورة واحدة ، ويكون اختلافه بالاعتبار كما ذكرنا الآن ذلك هو أصل الأقسام ، فلما كان ما يتداخل بالصدق في صورة واحدة ويكون اختلافه بالاعتبار ـ كما ذكرنا ـ لا ينبغي أن يسمى أقساما ؛ لأن الأقسام لتغايرها لا تتداخل ـ أي : أن لا تتصادق ـ في صورة واحدة عبر بالتفاوت وهذا التوجيه ، والأول على تقدير تمامهما إنما يفيد أن وجه العدول عن التعبير بالانقسام وأما وجه التعبير بخصوص التفاوت المشعر بالاختلاف في الرتبة مع التساوي في شيء يفهم ، فلم يظهر بعد على أن هذا التوجيه الثاني يقال فيه إن الأوجه الاعتبارية التي وقع بها الاختلاف يكفي اعتبارا في كونها أقساما متباينة ؛ لأن صدق كل منهما في تلك الصورة إنما هو باعتبار يخالف به الآخر فهي أقسام مختلفة لا يصدق بعضها على بعض ، ولا يداخله بذلك الاعتبار ، وإن اعتبر مجرد المصدوق من غير رعاية أوجه الاختلاف لم يصدق التفاوت أيضا ، فلو قيل : إنما عبر بالتفاوت للإشارة إلى أن هذه الأقسام وإن استوت في كونها كناية يقع التفاوت فيها في الجملة أي : يفوق بعضها بعضا في رتبة دقة الفهم وظهوره ، وفي رتبة قلة الوسائط وكثرتها وذلك مما يؤدي إلى التفاوت في الأبلغية ؛ لأن الخطاب بها مختلف إذ يناسب بعضها الذكي وبعضها الغبي ، وما يكون خطاب الذكي يفوق ما يكون خطاب الغبي في الأبلغية ، وإن كان كل منهما في مقامه بليغا ما بعد فليفهم.


ثم لما ذكر هذه التسامي وقد تقدم في أنواع الكناية ما يقتضي مناسبة كل من التسامي لمخصوص من تلك الأنواع أشار إلى تلك المناسبة فقال (والمناسب لل) كناية ال (عرضية) بضم العين وسكون الراء وهي التي تساق لموصوف غير مذكور ، ويشار بها لنسبة لذلك الموصوف تفهم تلك النسبة بالسياق (التعريض) أي : المناسب للعرضية تسميتها بالتعريض وإنما ناسب لوجود معنى التعريض فيها وهو أن يمال بالكلام إلى عرض ـ أي : جانب وناحية ـ يدل على المقصود وذلك الجانب الذي يفهم منه المقصود ، لا يخفى أنه هو محل استعمال الكلام من القرائن والسياق ، ويحتمل أن يقال التعريض هو أن يمال بالكلام إلى جانب يفهم بالسياق والقرائن وهو المقصود فاستعمال الكلام فيما يفهم المقصود من غير أن اللفظ مستعمل في ذلك المقصود هو التعريض يقال : عرضت لفلان أو بفلان إذا قلت قولا وأنت تعنيه ، ومعنى عرضت لفلان باللام أنك توصلت إلى نسبة شيء له بالتعريض الذي هو إفهام المقصود ، ومعنى عرضت به : أنه التبس تعريضك به ، ويحتمل أن تكون اللام والباء للتعليل أي أوقعت التعريض لأجل فلان ، أو بسبب فلان أي : أفهمت المقصود بلا استعمال اللفظ فيه والسبب في ذلك هو إظهار حال فلان ؛ فالتعريض مأخوذ من العرض الذي هو الجانب فإذا قلت قولا له معنى وأنت تريد معنى آخر فكأنك أشرت بالكلام إلى جانب هو معناه الأصلي وأنت تريد جانبا آخر هو المقصود الذي أفهم بالقرائن والسياق ، وذلك كما تقدم في قولنا : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فإنه تعريض بأن هذا المؤذي المخصوص ليس بمسلم ، وهو لم يذكر في التركيب ، وإنما خص اسم التعريض بما لم يذكر فيه الموصوف ، وإن كان يصدق على الكناية مطلقا أنه أطلق اللفظ الذي له جانب هو أصله وأريد به جانب آخر خلاف أصله ؛ لأن اختلاف الجانب فيما لم يذكر فيه الموصوف أظهر ، فخص باسم التعريض الذي هو إرادة جانب آخر ، وقولنا : فكأنك أشرت بأداة التشبيه ، ولم نقل : إنك أشرت بلا تشبيه للإيماء إلى أن الجانب هنا لا يراد به أصله الذي هو الحسي ، وإنما يراد به ما شبه به وهو المعنى ، وليس مرادنا أنه متى لم يذكر الموصوف كان تعريضا ؛ لصحة أن لا يذكر ، ويكون الكلام كناية كما في قولك


المسلم من لا يؤذي كناية عن كون المؤذي في الجملة ليس بمسلم ، ولم يقصد تعريض بمعين ، ولكن المراد التفريق بينه وبين الكناية مع عموم العلة ـ أي : علة التسمية لهما ـ وأن هذا هو الذي يحمل عليه الكلام ، وأنه هو المعتبر حتى سمى ، ثم المتبادر من ظاهر العبارة أن المعنى المعرض به وهو المدعي في تسمية الكناية تعريضا هو المكنى عنه ، فعلى هذا يكون التعريض في باب الكناية هو أن يكنى عن معنى غير مذكور موصوفه ، ويظهر مما يأتي في قوله : والتعريض قد يكون مجازا أن التعريض في باب المجاز هو أن يعبر عن اللازم بالملزوم ، فعلى هذا يكون تفصيل التعريض إلى المجاز والكناية أن المعنى المعرض به إن صح أن يراد مع الأصل كان كناية ، وإن لم يصح إلا إرادته كان مجازا فيكون مفهوم التعريض أخص من مفهوم الكناية والمجاز.

والتحقيق أن التعريض ليس من مفهوم الحقيقة فقط ولا من المجاز ولا من الكناية ؛ لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي ، والمجاز هو المستعمل في لازم معناه فقط ، والكناية هو المستعمل في اللازم مع جواز إرادة الأصل ، والتعريض أن يفهم من اللفظ معنى بالسياق والقرائن من غير أن يقصد استعمال اللفظ فيه أصلا ، ولذلك يكون لفظ التعريض حقيقة تارة كما إذا قيل : لست أتكلم أنا بسوء فيمقتني الناس ، وأريد إفهام أن فلانا ممقوت ؛ لأنه كان تكلم بسوء فالكلام حقيقة ، ولما سبق عند وجود فلان متكلما بسوء كان فيه تعريض بمقته ، ولكن فهم هذا المعنى بالسياق لا بالوضع ، ويكون مجازا تارة كما إذا قيل : رأيت أسودا في الحمام غير كاشفي العورة فما مقتوا ولا عيب عليهم تعريضا بمن حضر منهم أنه كشف العورة في الحمام فمقت وعيب عليه فقد فهم المقصود ، لكن بالسياق من المعنى المجازي ، ويكون كناية تارة كما إذا قلت : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده كناية عن كون من لم يسلم المسلمون من لسانه غير مسلم ، ويفهم منه بطريق التعريض الذي هو الإفهام بالسياق أن فلانا المعين ليس بمسلم ، فما ذكر على هذا من أن الكناية تكون تعريضا معناه أن اللفظ قد يستعمل في معنى مكنى عنه ليلوح بمعنى آخر بالقرائن والسياق كما في هذا ، فإن حصر الإسلام فيمن لا يؤذي من لازمه انتفاؤه عن مطلق المؤذي ، فإذا استعمل هذا


اللفظ في هذا اللازم كناية ، فإن لم يكن ثم شخص معين آذى ، كان اللفظ كناية ، وإلا جاز أن يعرض بهذا الشخص المعين أنه غير مسلم بالمعنى اللازم الذي استعمل فيه اللفظ ، وهو أن مطلق المؤذي غير مسلم ، وإذا فهمت ما ذكر ظهر وجه قوله.

والمناسب للعرضية التعريض ؛ لأن العرضية خلاف التعريض ، لكن المناسب أن تسمى به ، وإلا كان ذكر المناسبة ضائعا فهم (و) المناسب (لغيرها) أي : لغير العرضية أن تسمى بتسمية أخرى غير التعريض من التسامي السابقة (فإن كثرت الوسائط) بين اللازم الذي استعمل لفظه وبين الملزوم الذي أطلق اللفظ عليه كناية ، فالمناسب أن تسمى به تلك الكناية (التلويح) وذلك كما في كثرة الرماد المستعملة في المضيافية فإن بينهما وسائط ، وهي كثرة الإحراق ، وكثرة الطبائخ ، وكثرة الأكلة ، وكثرة الأضياف ، وكما في مهزولية الفصيل المستعملة في المضيافية أيضا فإن بينهما عدم اللبن ، وموت الأم ، وإطعامها لحمها ، وكثرة طاعميه ، وكثرة الأضياف ، وكما في جبن الكلب المستعمل في المضيافية أيضا فإن بينهما عدم جراءة الكلب ، وأنس الكلب بالناس ، وكثرة مخالطة الواردين ، وكثرة الأضياف ، وإنما سميت الكناية الكثيرة الوسائط كما ذكر تلويحا ؛ لأن التلويح في الأصل هو أن يشار إلى الشيء من بعد ؛ وكثرة الوسائط بعيدة الإدراك غالبا (وإن قلت الوسائط) فأحرى إذا انعدمت (مع خفاء) في اللزوم بين المستعمل فيه والأصل فالمناسب أن تسمي به تلك الكناية (الرمز).

فأما الأول وهو ما قلت فيه الوسائط ، فكعرض الوساد كناية عن البله ؛ إذ ليس بينه وبين البله إلا عرض القفا.

وأما الثاني : وهو ما انعدمت فيه أصلا ، فكعرض القفا في البله إذ ليس بينهما واسطة عرفا ، وإنما سميت هذه رمزا ؛ لأن الرمز أن تشير إلى قريب منك مع خفاء الإشارة كالإشارة بالشفة أو الحاجب فإنه إنما يشار بهما غالبا عند قصد الإخفاء كما قال :


رمزت إليّ مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها (١)

(و) إن قلت الوسائط أو انعدمت (بلا خفاء) فالمناسب أن تسمى به تلك الكناية (الإيماء والإشارة) فالتسمية بهما لمعنى واحد ، فالأول : وهو ما قلت فيه الوسائط مع وجود التوسط في الجملة بلا خفاء كقوله :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول

فإن إلقاء المجد رحله في آل طلحة مع عدم التحول معنى مجازي ؛ إذ لا رحل للمجد ، ولكن شبه برجل شريف له رحل يخص بنزوله من شاء ووجه الشبه الرغبة في الاتصال به ، فأضمر التشبيه في النفس كناية ، واستعمل معه ما هو من لوازم المشبه به وهو إلقاء الرحل أي الخيمة والمنزل ، ولما جعل المجد ملقيا رحله في آل طلحة بلا تحول لزم من ذلك كون محله وموصوفه آل طلحة لعدم وجدان غيرهم معهم ، وذلك بواسطة أن المجد ولو شبه بذي الرحل هو صفة لا بد له من محل وموصوف ، وهذا الوسط بين بنفسه فكانت هذه الكناية ظاهرة والواسطة واحدة فقد قلت الوسائط مع الظهور ، وإنما قلنا : قلت لأن المراد بالقلة هنا ما يضاد الكثرة فصدق ذلك بالواحدة ، ومن أمثلته عرض الوساد بناء على أنه عرفا ظاهر في البله ، وليس بينهما إلا واسطة واحدة هي عرض القفا.

وأما الظهور بلا واسطة أصلا فكعرض القفا في البله بناء على ظهوره عرفا كما قيل ، وإنما سميت هذه إشارة ؛ لأن أصل الإشارة أن تكون حسية ، وهي ظاهرة ومثلها الإيماء.

(ثم قال) السكاكي (والتعريض قد يكون مجازا) وذلك بأن تقوم القرينة على عدم صحة إرادة المعنى الحقيقي (كقولك : آذيتني فستعرف ، وأنت) أي : إنما يكون هذا الكلام التعريض مجازا ، والحال أنك أنت (تريد) بهذا الكلام (إنسانا مع المخاطب) بمعنى : أنك تهدد بهذا الكلام ذلك الإنسان (دونه) أي : دون المخاطب فلا تريد تهديده ، وإذا أردت بالكلام تهديد غير المخاطب فقط صارت تاء الخطاب غير مراد

__________________

(١) البيت فى المفتاح ص (٤١١) ، والإيضاح ص (٢٨١).


بها أصلها الذي هو المخاطب ، وإنما أريد بها ذلك الإنسان بمعونة أن التهديد له ، وليس المراد أن تاء الخطاب هي التي وقع فيها التجوز باعتبار مدلولها فقط ضرورة أنه لا مناسبة لزومية أو غيرها بين المخاطب وإنسان غيره ، وإنما المناسبة على ما سنحققه بين التهديد ، والتهديد لا بين الشخصين ، ولكن لما قل لفظ التهديد لزم انتقال التاء أيضا ، وإذا تحقق أنك لا تريد بهذا الخطاب المخاطب إنما أردت غيره للعلاقة التي سنقررها كان هذا التعريض مجازا ؛ لأنه أطلق اللفظ فيه وأريد به اللازم دون الملزوم.

(و) قد يكون التعريض كناية حيث لا تقوم قرينة على عدم صحة إرادة المعنى الأصلي بل قامت على إرادة الأصلي وغيره كقولك آذيتني فستعرف (إن أردتهما) أي : إن أردت المخاطب وإنسانا آخر معه فحين أردتهما (جميعا) بهذا الخطاب (كان كناية) لأن الكناية هي اللفظ الذي يراد به المعنى الحقيقي ولازمه ، والمجاز لا يراد به إلا اللازم كما تقدم ، وهذا بناء على أن الكناية يراد بها المعنى الحقيقي ولازمه معا ، وأما على أن المراد بها هو اللازم إذ فيه يقع النفي والإثبات ، وأما الحقيقي فتجوز إرادته لا أنه أريد بالفعل فيجب أن يحمل قوله إن أردتهما على معنى إن جاز أن تريدهما ، وقد تقدم أن لفظ الكناية على الأول يلزم فيه اجتماع الحقيقة والمجاز وتقدم ما فيه وأنه يلزم أن لا يصح نحو فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة حيث لا نجاد لطول القامة وتقدم بسط ذلك في أول الباب بما أغنى عن إعادته.

(و) إذا كان التعريض يكون مجازا ويكون كناية (فلا بد فيهما) أي : في الصورتين السابقتين ، وهما أن يقال : آذيتني فستعرف على أن يراد غير المخاطب فقط فيكون اللفظ مجازا ويقال آذيتني فستعرف أيضا على أن يراد المخاطب وغيره فيكون اللفظ كناية (من قرينة) أي لا بد في صورتي المجاز والكناية من القرينة المميزة حيث اتحد لفظهما ، وإنما اختلفا في الإرادة فإذا وجدت القرينة الدالة على أن المهدد هو غير المخاطب فقط كأن يكون المخاطب صديقا وغير مؤذ كان اللفظ مجازا ، وإذا وجدت الدالة على أنهما هددا معا كأن يكونا معا عدوين ومؤذيين ، ويعلم عرفا أن ما يعامل به أحدهما يعامل به الآخر كان اللفظ كناية ، فإن قيل فما وجه العدول إلى خطاب أحدهما


دون خطابهما معا ، حينئذ قلت الكناية بأن يطلق اللفظ لمعناه على أن يفهم منه لازمه بالانتقال أبلغ من الحقيقة التي هي خطابهما معا ، ثم قد يكون للعدول لذلك أسباب كأن يستنكف المتكلم أن يخاطب أحدهما في صورة لفظه ، أو يستحي ، أو يكره جوابه واعتذاره مثلا دون الآخر ، ولما كان هنا مظنة أن يقال : ليس هذا التعريض مجازا حقيقة ولا كناية ، بل هو على سبيلهما في إرادة غير المعنى الحقيقي فقط فكان كالمجاز ، أو إرادة المعنى الحقيقي وغيره ، فكان كأنه كناية ، وإنما يقال : ليس أحدهما ضرورة أن التجاوز في تاء المخاطب والألفاظ الأخرى عن أصلها وليس بين المخاطب وإنسان آخر لزوم مصحح للمجاز أو الكناية احتيج إلى تحقيق وجه كون هذا التعريض مجازا حقيقة ، وكناية حقيقة كما هو ظاهر العبارة بنحو ما أشرنا إليه في تقرير كلام المصنف.

وتحقيق ذلك أن مدلول التركيب والمقصود منه هو المعتبر للتجوز لا تاء المخاطب فقط كما تقدم ، وقولك : آذيتني فستعرف مدلوله والمقصود منه هو تهديد المخاطب بسبب الإيذاء ، وهذا المعنى يلزمه عرفا تهديد من كان مثل هذا المخاطب في الأذى ضرورة أن السبب متحد فيهما ، فإن قلت : التهديد اللفظي لا يستلزم تهديدا آخر لفظيا ، والتهديد المعنوي بأن يكون في اللفظ تخويف غير المخاطب لم يظهر بعد لزومه ، قلت : التهديد اللفظي كما قلت ، والمعنوي صريحة في المخاطب ، ولما كان أثره وهو خوف غير المخاطب حاصلا عن تخويف المخاطب وتخويف غير المخاطب الذي هو الأثر للخوف في ذلك الغير مستلزم لأثره ، ولم يوجد في اللفظ صار اللفظي الذي هو تخويف المخاطب باللفظ كمستلزمه لإيجاد أثره فإن مستلزم الأثر مستلزم للمؤثر ؛ على أن لنا أن نقول التهديد إدخال الخوف ، وهو موجود لغير المخاطب أثر سماع اللفظ ، وليس مدلولا له ، فكان بنفسه لازما بلا حاجة إلى توسط أثره فليفهم ، فصار المقصود من الكلام الذي هو تهديد المخاطب بالإيذاء له لازم هو تهديد غيره بسبب الإيذاء ، فإن استعمل هذا التركيب في اللازم الذي هو تهديد غير المخاطب فقط بقرينة كون المخاطب صديقا ـ مثلا كما تقدم ـ لعلاقة اللزوم الذي أوجبه الاشتراك في الإيذاء كان هذا الكلام الذي هو تعريض مجازا في المعنى المعرض به وإن استعمل في الملزوم


واللازم معا لقرينة جامعة لهما كأن يكونا عدوين معا ـ مثلا كما تقدم أيضا ـ صار هذا الكلام الذي هو تعريض كناية باعتبار المعنى المعرض به ، ولا يخفاك أن إرادتهما معا بأن يكونا كناية على أن ينصرف لهما التصديق والتكذيب معا لا يخلو من المنافاة لما ذكروا من أن الفرق بين الكناية وما تفهم منه اللوازم من الكلام الذي ليس بكناية ، أن اللازم في الكناية مقصود بالذات ، وكونه أهم من التركيب مع انتفاء صدق اللفظ بكل منهما لا يكاد يتحقق ، اللهم إلا أن يدعى تحققه بتعسف واعتبار وهمي ، لا ينبغي أن يلاحظ وذلك بأن يدعى أنه لا مانع من كون الكلام يكذب بانتفاء كل من المعنيين مع كون أحدهما عند المتكلم أهم لشرف وتقدم مثلا ، وذلك هو معنى كونه مقصودا بالذات ، ولا يخفى كونه تعسفا ، لذلك تركنا التوجيه به فيما تقدم ، ولكن هذا الحمل ـ أعنى حمل التعريض على أنه مجاز حقيقة باعتبار المعنى المعرض به ـ يقتضي لزوم كون التعريض أبدا مجازا أو كناية ؛ لأن المعرض به خارج عن الدلالة الأصلية قطعا فلا يخرج عن المجازية أو الكناية لخروجه عن الحقيقة ، فيلزم على هذا التقرير أن لا يتصور مفهوم للتعريض يختص به عن المجاز والكناية أصلا ، ضرورة أن المعنى المعرض به استعمل فيه اللفظ وكل معنى خارج عن الدلالة الأصلية إن استعمل فيه اللفظ وحده كان مجازا وإن كان يسمى تعريضا ، وإن استعمل فيه مع الأصلي كان كناية وإن كان يسمى تعريضا ، فيكون التعريض فردا من كل منهما لا يخرج عنهما من وجه ما.

والناس على أن له مفهوما مخالفا فجعله لا يخرج عن أحدهما مخالف لما عليه المحققون ، إن أيد هذا المحل بأنه إن لم يكن كذلك لزم وجود لفظ دل على معنى دلالة صحيحة ، وليس مجازا فيه ولا حقيقة ، أما كونه ليس بحقيقة ؛ فلأن المعنى المعرض به وهو المدلول عليه دلالة صحيحة لا بد أن يكون خارجا عن الدلالة الأصلية ؛ إذ التعريض إشارة باللفظ من جانب المعنى الأصلي إلى معنى آخر ، وأما أنه ليس مجازا ؛ فلأن الغرض خروجه عن كل نوع من أنواع المجاز والكناية ، ولكن التحقيق الموافق لما قررنا ـ وأشير إليه في البحث السابق ـ أن معنى كون التعريض مجازا أو كناية أنه يرد على سبيل أحدهما ، وطريقه في إفادة معنى كإفادة ذلك الأحد ، وأما معناه المعرض به فليس التعرض


فيه مجازا ولا حقيقة ؛ لأنه إنما دل عليه بالسياق والقرائن ، ولا عجب في ذلك فإن التراكيب كثيرا ما تفيد المعاني التابعة لمعانيها ولم تستعمل فيها لا حقيقة ولا مجازا كدلالة إن زيدا قائم مثلا على حال الإنكار ، فمعنى كون التعريض مجازا على هذا أن قولك آذيتني فستعرف يدل على تهديد المخاطب مطابقة ويدل على تهديد غيره وكل مؤذ سواه لزوما ، ويفيد بالتعريض تهديد معين عند المخاطب بقرائن الأحوال ، فلما قامت القرائن على ذلك المعين فقط بمعنى أنه المقصود بالذات فقط دل على غير الأصل ، فكانت دلالته على طريق المجاز في دلالة غير الموضوع له فقط وليس التعريض باعتبار ذلك المعنى المعرض به مجازا ؛ لأن الدلالة عليه بالقرائن من غير اعتبار توسط نقل اللفظ إلى اللازم أو الملزوم ، وكونها مقصودة فقط بالقرائن لا يخرج به الكلام عن أصل كونه تعريضا ؛ لأن إرادة المعنى الفرعي فقط لا يخرج به الشيء عن أصله ، ألا ترى إلى المجاز الذي صار حقيقة عرفية فإن ذلك لا يخرجه باعتبار أصل اللغة ، فكذا التعريض لا يخرج عن استعماله الأصلي في أن دلالته اللفظية على غير المعرض به يكون دلالته الفرعية السياقية على المعرض به ، ومعنى كونه كناية أن يراد الأصل والمعرض به معا ، فيكون على طريق الكناية في إرادة الأصل والفرع إلا أن إرادة الأصل لفظية وإرادة الفرع سياقية ، وهذا هو المأخوذ من كلام المحققين فليفهم.

فصل : الموازنة بين المجاز والحقيقة

(فصل) تكلم فيه على أفضلية المجاز والكناية على الحقيقة في الجملة فقال (أطبق) أي : اتفق (البلغاء) أي : أهل فن البلاغة الشاملة للمعاني والبيان (على أن المجاز والكناية) في كلام بلغاء العرب ومن تبعهم (أبلغ) أي : أكثر مبالغة في إثبات المقصود (من الحقيقة) ومن (التصريح) فقوله من الحقيقة يعود إلى المجاز ، والتصريح معطوف عليه وهو عائد للكناية فالمجاز أبلغ من الحقيقة والكناية أبلغ من التصريح ، وربما يؤخذ من مقابلة المجاز بالحقيقة والكناية بالتصريح أن الكناية ليست من المجاز ؛ لأن التصريح حقيقة قطعا فلو كانت الكناية من المجاز كان في الكلام تداخل ، ويحتمل أن يكون الأمر كذلك ويكون ذكر الكناية والتصريح بعد المجاز والحقيقة من باب ذكر الخاص بعد


العام للتنبيه على الأهمية ؛ لأن السبب الموجب لأكثرية المبالغة في الكناية مع التصريح فيه خفاء حيث قيل إن : الكناية يراد بها المعنيان معا فلا تنهض فيها العلة الآتية على وجه الوضوح ، ويحتمل أن يراد المجاز ما سوى الكناية من أنواع المجاز بدليل ذكرها بعده وهو الأقرب.

ثم أشار إلى سبب المبالغة التي زاد بها المجاز والكناية عن مقابليهما فقال (لأن الانتقال) أي : إنما قلنا إن المجاز والكناية أبلغ من مقابليهما ؛ لأن الانتقال (فيهما) أي : في المجاز والكناية إنما هو (من الملزوم إلى اللازم) فلا يفهم المعنى من نفس اللفظ ، بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، أما في المجاز فظاهر ، وأما في الكناية فلأن اللازم الذي قيل : إن الانتقال فيها منه إلى الملزوم قد تقدم أنه ما دام غير ملزوم لم ينتقل منه ، فصح أن الانتقال فيها من الملزوم أيضا ، وإذا كان الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم (فهو) أي : فذلك الانتقال الذي به حصل فهم المراد منهما يجري إثبات معناهما لأجله (كدعوى) ثبوت (الشيء ببينة) ووجه كونهما كالدعوى بالبينة أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم ؛ لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم والقرينة مقررة له أيضا ، فصار كأنه قرر مرتين على ما نحققه ، وإنما قال : كالدعوى ولم يقل إن فيهما نفس الدعوى بالبينة للعلم بأن الملزوم فيهما لم يسق ليستدل به على ثبوت اللازم بعد تسليم الملزوم ، وإنما هنا تركيب استعمل في اللازم حيث يكون المجاز تمثيلا وحيث يكون غيره ، فإنما هناك حكم على لفظ الملزوم أو حكم به لينتقل منه إلى أن المحكوم عليه أو به هو اللازم بمعونة اللزوم والقرينة ، فمضمون الكلام المجازي والكنائي إنما هو الدعوى لا إثباتها بالدليل ، لكن لما كان ذكر الحكم الذي هو الملزوم ، أو الحكم على لفظه أو به فيه إثبات الحكم في الجملة والقرينة تقتضي إثبات اللازم أو الحكم للازم أو به بمعونة اللزوم صار كأنه أثبت مرتين ، فيكون فيه تأكيد الإثبات ، ومن المعلوم أن إثبات الشيء بالدعوى ثم إثباته بالدليل يتضمن إثباتين فصار الملزوم أو الحكم على لفظ الملزوم أو به مع القرينة المقتضية لكون الملزوم إنما المراد به اللازم والحكم إنما هو على اللازم أو به يشبه الحكم بالدعوى والبينة في أن كلا منهما فيه


الإشعار بالثبوت مرتين بخلاف الحقيقة ، فليس فيها إلا إثبات الحكم لمدلول اللفظ فقط ، وقد تبين بهذا أن أفضلية المجاز والكناية على مقابليهما من جهة أن إثبات الحكم فيهما كان على وجه التأكيد والتقرر من ملاحظة ما يشعر به الكلام من كونه كالإثبات مرتين ، ويحتمل أن لا يراعى الإثبات مرتين بل يكون سبب تأكيد الإثبات أن الانتقال من الملزوم إلى اللازم متخيل فيه أنه من الانتقال إلى الدعوى من البينة ، فيكون مستند التقرر أمرا خياليا والخطب في ذلك سهل ؛ لأن إفادة التقرر حاصل بكلا الاعتبارين الأخير منهما أيسر ، وبه علم أن الأبلغية مأخوذة من المبالغة ، وإن كان أخذ اسم التفضيل منها قليلا لا من البلاغة ؛ لأن التركيب فيهما وفي مقابليهما لا بد فيه من المطابقة لمقتضى الحال ، فإذا حصل ذلك حصلت البلاغة فلا تفاوت فيها ، وإن كان اعتبارها في المجاز والكناية أدق لما فيها من اعتبار المبالغة ، وشروط إفادتها ، ثم الحكم المجازي والكنائي الذي لوحظ فيه كونه مقرر الثبوت أكثر من الحكم الحقيقي نريد به ـ كما أشرنا إليه في التقرير ـ حصول مضمون الكلام الذي هو نفس المجاز أو الكناية أو الذي وجدا فيه ، فلا يرد أن يقال : المجاز الإفرادي والكناية الإفرادية لا يتصور فيهما تقرير الثبوت وتأكيده لاختصاص الثبوت والتقرير بالأحكام على أن لنا أن نقول يتصور التقرر في المفردات ، فيستشعر اللازم من الملزوم من حيث هو ، ويتقرر معنى اللازم بالقرينة فكأنه ذكر مرتين فيتقرر في الذهن تقرر المدعى بالدليل تأمله.

(و) أطبق البلغاء على (أن الاستعارة) التحقيقية والتمثيلية (أبلغ من التشبيه) وخرج بالتحقيقية والتمثيلية المكنى عنها والتخيلية ؛ لأنهما ليستا من المجاز على مذهب المصنف ، وإنما قلنا : إن الاستعارة أبلغ من التشبيه ؛ لأنها نوع من المجاز الذي هو أبلغ من الحقيقة وما يكون من جنس الأبلغ يلزم أن يكون مما يكون من جنس المزيد عليه في المبالغة فإذا كانت الاستعارة من جنس المجاز الذي هو أبلغ من الحقيقة ، إذ فيه الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، فكأنه دعوى بالدليل لما تضمنه من الإشعار والتقرر مرتين ، وكان التشبيه من الحقيقة التي فضلها المجاز في المبالغة لانتفاء ذلك التقرر عنها ، لزم كون الاستعارة أبلغ من التشبيه ؛ لأنها من جنس الفاضل وهو من جنس المفضول ، وإنما


ذكرهما مع دخولهما بحسب الظاهر فيما قبلهما ؛ ليبين شأن الاستعارة مع خصوص ما يقابلها ؛ لعظم شأنها وكون أبلغيتها مخالفة لأبلغية غيرها ، وذلك أن الانتقال في المجاز المرسل واضح والأبلغية فيه ليست إلا من جهة تقرير المراد في الذهن ؛ لإشعار الملزوم باللازم وسوق القرينة إلى خصوصه ، فكأنه قرر مرتين.

وأما في الكناية فعند قصد اللازم فقط فأمر الانتقال فيها أيضا واضح ، وعند قصدهما فالمقصود بالذات فيها هو اللازم وبه سميت كناية ، وقد تضمنت طلبه بالقرينة فيحصل بذلك التمكن الذي هو كالإثبات مرتين وبالدليل ، وليس فيها أيضا أبلغية إلا بهذا الاعتبار.

وأما الاستعارة ففيها أيضا الانتقال فإذا قلت : رأيت أسدا في الحمام فأول ما يخطر معنى الأسدية الحقيقة والقرينة تصرف عن إرادته ، فيطلب الذهن المراد للقرينة الصارفة عن الأصل فيفهم بمعونة اللوازم ، وذلك المفهوم هو الشجاع الذي هو لازمه ، فيتقرر في الذهن لكونه بعد الطلب ، ولكون الملزوم من شأنه أن يشعر به ، والقرينة أوضحته بواسطة اللزوم ، وقد عرفت أن المراد باللزوم هنا ما يصح معه الانتقال ولو بعرف أو قرينة خارجة ، فكأنه ثبت مرتين كالدعوى مع الدليل ، وإن شئت قررت التشبيه كما تقدم بين المدعى مع الدليل وبين هذه الأشياء ، فإن في كل منهما انتقالا من ملزوم للازم ؛ فيتخيل أن في هذه الأشياء الدعوى والدليل ، ويتأكد ثبوت معنى كل منها وهو قريب من الأول وأخصر ، فقد ظهر اشتراك الثلاثة في هذا المعنى.

وتزيد الاستعارة بأن السامع لما سمع لفظ الأسد مثلا ، وانتقل بالقرينة إلى اللازم الذي هو الرجل الشجاع ـ على ما حررناه فيما تقدم ـ واستشعر أنه عبر باسم الأسد عن هذا الرجل للمشابهة ؛ لأن العلاقة قد فهمت وأنها المشابهة فيستشعر من ذلك أنه بالغ في التشبيه حتى سوى بينهما وصيرهما من جنس واحد ، بحيث يشملهما الاسم على ما تقدم في الاستعارة ، ففهم من ذلك مساواتهما عند المتكلم في الشجاعة الجامعة لهما ، فهنا مبالغة في التسوية أفادها التعبير عن المشبه بلفظ المشبه به ؛ لأن ذلك يشعر باتحادهما وكونهما شيئا واحدا ، وهذه المبالغة لا توجد في الحقيقة التي هي التشبيه كأن يقال : زيد


كالأسد ؛ لأن أصل التشبيه الإشعار بكون الوجه في المشبه به أقوى ، فلا مساواة ، فقد ظهر أن الاستعارة تفيد المبالغة في تسوية المشبهين في الوجه والمبالغة في تقرير اللازم في الذهن بالانتقال ، وذلك اللازم هو المشبه باعتبار الوجه على ما تقدم تحقيقه ، فلذا فصلها مع مقابلها عن الحقيقة والمجاز ، ثم إن الشيخ عبد القاهر له كلام هنا فهمه المصنف على وجه فاعترضه ثم أجاب ، ورد عليه الشارح فحمله على وجه أخر وخطأ المصنف في فهمه ، ورد على الشارح بعض المحققين بما يظهر أنه هو الحق ، فلنورد ما يفهم به حاصل ما قال كل منهم ، وذلك أن الشيخ عبد القاهر قال ليس السبب في كون المجاز والاستعارة والكناية أبلغ أن واحدا من هذه الأمور يفيد زيادة في نفس المعنى لا يفيدها خلافه ؛ بل لأنه يفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يفيده خلافه ، فليست مزية قولنا : رأيت أسدا على قولنا : رأيت رجلا شجاعا هو والأسد سواء في الشجاعة أن الأول أفاد زيادة في مساواته الأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني ، بل الفضيلة هي أن الأول أفاد تأكيد الإثبات تلك المساواة له لم يفدها الثاني ، وعنى بتأكيد الإثبات أن المساواة أفادها التعبير عن المشبه بلفظ المشبه به ؛ لإشعار ذلك التعبير بالاتحاد بخلاف التنصيص على المساواة كما في الحقيقة ، فيخطر معه احتمال كونها من بعض الوجوه دون بعض ، والاتحاد الذي أفاده التعبير يقتضي المساواة في الحقيقة المتضمنة للشجاعة ، وفيها تأكيد الإثبات أيضا من جهة أن الانتقال إلى الشجاعة المفاد بطريق المجاز كإثبات الشيء بالدليل على ما قررناه آنفا ، وهذا ـ أعني إفادة تأكيد الإثبات بالانتقال من الملزوم إلى اللازم ـ هو الجاري في الكناية والمجاز المرسل كما تقدم ، وزاد الشيخ متصلا بما تقدم أن المعنى لا يتغير بنفسه باختلاف الطرق الدالة عليه ، وإن كانت الدلالة في بعضها بواسطة الانتقال الذي هو التصرف الفعلي ، وفي بعضها باللفظ كما في الحقيقة ففهم المصنف من جميع ما ذكر أن مراد الشيخ بقوله : إن واحدا من هذه الأمور لا يفيد زيادة في المعنى ، أنه لا يدل على الزيادة في المعنى فليس السبب في الأبلغية دلالته على الزيادة في المعنى ، وإنما السبب ما فيه من تأكيد الإثبات كما قررنا ذلك آنفا ، فاعترض عليه بأن ذلك إنما يتجه في غير الاستعارة مثل المجاز المرسل والكناية ؛ لأنهما لا يدلان


على أزيد مما تدل عليه الحقيقة ، فالفضيلة فيهما في تأكيد الإثبات الحاصل بكونهما كدعوى الشيء ببينة فليس السبب في الفضيلة فيهما دلالتهما على أكثر مما دلت عليه الحقيقة ، بل السبب أن المدلول فيهما فيه تأكيد إثبات ولم يتأكد إثباته في الحقيقة فصار أبلغ منها ، وإن كان المعنى لا ينقص ولا يزيد على ما كان عليه فيهما ، وكذا الاستعارة بالنسبة لما مثل به وهو قوله رأيت رجلا شجاعا هو والأسد سواء في الشجاعة ، فإن دلالة الاستعارة على المساواة كدلالة هذه الحقيقة ، وأما الاستعارة باعتبار التشبيه كقولك : زيد كالأسد فإن السبب في الأبلغية يكون غير ما ذكر لدلالة الاستعارة على الاتحاد في الحقيقة المستلزمة للاتحاد في الشجاعة والمساواة فيها ، والتشبيه يشعر بأن الشجاعة في الرجل أضعف منها في الأسد لما تقرر أن المشبه أضعف من المشبه به في وجه الشبه ، بل نقول : إنها أقوى دلالة على المساواة من قوله هو والأسد سواء أيضا لما تقدم أن الاتحاد يفيد المساواة ويدل عليها دلالة أقوى من التصريح بها ؛ لإشعار التصريح باحتمال كونها في بعض الوجوه وعلى تقدير تسليمه ، فيكفى في الاعتراض أن الاستعارة تفيد في المعنى ما هو أقوى من إفادة التشبيه أي : تدل على الكمال في الوجوه دون التشبيه ، وإنما قلنا : يكفي ؛ لأن قوله : ليست مزية المجاز على الحقيقة أنه يفيد ما هو أكثر أي يدل على ما هو أقوى عام بظاهره لكل مجاز.

ومن جملة المجاز الاستعارة وهى تفيد أكثر وتدل عليه بالنسبة للتشبيه والقضية الكلية تناقضها الجزئية ، وأجاب المصنف بأن قوله ليس السبب إفادة الزيادة أي : الدلالة عليها ليس على عمومه في كل مجاز ؛ بل يعني أن ذلك لا يكون سببا دائما ، وإنما يكون سبب الأبلغية في الاستعارة مع التشبيه ، وأما المجاز المرسل والكناية والاستعارة بالنسبة إلى قولنا هو والأسد سواء فالسبب فيها هو الأمر العام ، وهو ما في كل من تأكيد الإثبات الحاصل من الانتقال إلى اللازم من الملزوم ، واعترض الشارح المصنف رحمه‌الله تعالى بأنه لم يفهم كلام الشيخ حيث حمل قوله يفيد زيادة على معنى أنه يدل على الزيادة ، قال وإنما مراد الشيخ بإفادة الزيادة تحصيلها في نفس الأمر بدليل قوله : إن المعنى لا يتغير في نفسه ، وعدم إفادة اللفظ للمعنى في نفس الأمر صحيح كما تقدم أن الخبر لا


يفيد المعنى في الخارج ؛ لاحتمال انتفائه ، ولذلك يحتمل الصدق والكذب ، وأما باعتبار الدلالة والإفهام فلا يحتمل إلا الصدق ؛ لأن المفهوم منه هو ما وضع له ، فمعنى كون المجاز أبلغ أنه يفيد تأكيد الإثبات ـ كما قررناه ـ لا أنه يفيد زيادة في المعنى في نفس الأمر كما لا يفيد أصل المعنى ـ كما تقدم في باب الخبر ـ لا يفيد زيادة فيه ، ولا ينافي ذلك أن يدل على أكثر مما تدل عليه الحقيقة ، فإن الاستعارة دلت على كمال الوجه ، والتشبيه دل على ضعفه فلا يرد الاعتراض على الشيخ ؛ لأن المعنى في نفسه ، ولو دلت الاستعارة على الكمال فيه لا يقتضي ذلك أنها أثرت فيه زيادة في نفس الأمر ، قال : وكثيرا ما يقع فيه الغلط للمصنف من استنباط المعاني من كلام الشيخ لاحتياجه إلى مزيد التأمل.

ورد بعض المحققين كلام الشارح بأن ما حمل عليه المصنف كلام الشيخ من تفسير الإفادة بالدلالة هو الذي ينبغي أن يصار إليه ؛ لأنه بما يتوهم أن المجاز دائما أقوى دلالة وأكثر مدلولا من الحقيقة ، فأورد الشيخ هذا البحث ليبين أن ذلك لا يطرد ومثل بما ينتقض فيه الاطراد وهو قوله هو والأسد سواء مع الاستعارة ، وكذلك الكناية والمرسل ووجه الأبلغية بالوجه العام لكل ما هو خلاف الحقيقة ، وهو تأكيد الإثبات ، وقوله : المعنى لا يتغير فى نفسه باختلاف الطرق معناه أن الطرق لا تدل فيه على أكثر مما كان ، ولما لم يصرح بالتخصيص ، وظهر من كلامه العموم ، وإن كان مجاز لا يدل على أكثر مما تدل عليه الحقيقة ، أورد عليه المصنف النقض بالاستعارة مع التشبيه ، ثم أجاب بأن مراده أن ذلك لا يطرد فى كل مجاز ، قال : وأما ما حمل عليه الشارح كلام الشيخ من أن المراد بإفادة الزيادة إفادتها في أصل المعنى خارجا ، أى : إنشاؤها فى المعنى الخارجى وإيجادها فيه ، فهو أمر واضح للعلم بأن اللفظ لا تأثير له فى المعنى إيجادا ولا زيادة ، كما أنه لا تأثير لغيره ، وإنما حظ اللفظ من المعنى الدلالة ، فحمل كلام الشيخ على ما قال الشارح نهاية الركاكة ، وارتكاب لما تنزه العقول عن التعرض للعلم به ، والألسنة عن التمشدق به ، ويدل على ذلك أنه مثل لما اتحدت فيه الدلالة ، فعاد حاصل


كلامه إلى ما تقرر من أن المجاز أبلغ ؛ لإفادته التأكيد فى المعنى ، ولا ينافى ذلك أنه ربما تكون معه الدلالة على أكثر ، كما فى الاستعارة مع التشبيه ، فالإنصاف أن الحق مع المصنف ، وكلام الشيخ صحيح بتأويله ، فلا مزيد عليه ، وقد تم الكلام على الفن الثانى ، والحمد لله رب العالمين ، حمدا لا يقوم بأدائه جميع المخلوقين ، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. والله تعالى المسئول فى إكمال الثالث مع العافية.


الفن الثالث

علم البديع



الفن الثالث : علم البديع

أي العلم المعلوم إضافته إلى البديع ، فالإضافة فيه عهدية ، والبديع في اللغة الغريب من بدع الشيء بضم الدال : إذا كان غاية فيما هو فيه من علم أو غيره حتى صار غريبا فيه لطيفا ، ومنه أبدع : أتى بشيء لم يتقدم له مثال ، ومنه اسمه تعالى البديع : بمعنى المبدع أي : الموجد للأشياء بلا مثال تقدم ، ولا تختص مادته بالله تعالى ، كما قيل عرفه اصطلاحا ، كما يؤخذ مما تقدم بقوله (وهو علم) أي : ملكة تحصل من ممارسة مسائله أو قواعده المقررة ؛ لأن كلا منهما يتوصل به إلى معرفة أي : جزئي من جزئياته أي : يعرف بواسطة تقرر الملكة أو القواعد في النفس ، أن هذه الجزئية الخاصة مثلا من علم البديع ، وإلى هذا أشار بقوله (يعرف به) أي : يعرف بتلك الملكة أو تلك القواعد ، وقد تقدم في صدر الكتاب تحقيق الملكة بما أغنى عن إعادته ، وعبر بالمعرفة التي تتعلق بالجزئيات ؛ للإشعار بأن متعلق الإدراك بهذا العلم هو الجزئيات بمعنى أن أي وجه من الأوجه التي هي من علم البديع يرد يعرف بهذا العلم الذي هو الملكة أنه من هذا العلم أي من جزئيات قواعده ، وإلى الجزئيات أشار بقوله (وجوه تحسين الكلام) أي يعرف به الأمور التي بها يحسن الكلام ، بمعنى أنا نتصور بتلك الملكة أو بتلك القواعد أن هذه الجزئية مما يحسن به الكلام ، وندرك ذلك عند عروضه ، ويحتمل أن يكون المعنى أن ما قرر من قواعد هذا الفن يعلم في الكتب عند الاطلاع عليها ما في ضمنها من الأوجه التي يحسن بها الكلام ، فيكون المعلوم به والمعلوم متحدين خارجا مختلفين بالاعتبار ، فهو من حيث إنه شيء قرره أهل الفن في الدفاتر أو في غيرها يعلم به ، ومن حيث الاطلاع عليه مباشرة هو المعلوم ، وهذا هو المناسب لقولهم : يتصور به أعداد أوجه التحسين ، وقوله : وجوه تحسين الكلام يحتمل أن يريد بها الوجوه السابقة في قوله وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا ، فتكون إضافة الوجوه إلى تحسين الكلام إضافة عهدية فكأنه يقول : علم يعرف به الأوجه المشار إليها فيما تقدم ، وهي الوجوه التي تحسن الكلام ، وتورثه قبولا بعد رعاية البلاغة مع الفصاحة ، ويكون قوله على هذا (بعد رعاية المطابقة) لمقتضى الحال (و) بعد رعاية (وضوح الدلالة) تأكيدا وبيانا لما تقدم ، ومعنى


وضوح الدلالة الخلو عن التعقيد المعنوي ، وقد تقدم بيانه ، وحاصل ذلك أن تلك الأوجه إنما تعد محسنة للكلام إذا أتى بها بعد رعاية الأمرين أعني بالأمر الأول المطابقة لمقتضى الحال ، وتتضمن ما يتبين في علم النحو واللغة والتصريف ويدرك بالطبع ؛ لأن المطابقة لا عبرة بها إلا بعد الفصاحة ـ كما تقدم ـ تتوقف على وجود ما بين في تلك العلوم ، وما يتبين بالطبع كالتنافر ، وبعض التعقيد اللفظي كما تقدم ، وأعني بالأمر الثاني وضوح الدلالة المبين في علم البيان ، وإنما فصله عن المطابقة مع أن المطابقة لا تعتبر إلا به إذ هو من الفصاحة للإشارة إلى العلمين السابقين ، أعني : المعاني الكفيل ببيان المطابقة ، والبيان الكفيل بتقرير وضوح الدلالة.

ولما كان المبين في الفن الثاني هو ما يسقط به التعقيد المعنوي فسرنا الوضوح بالخلو عن التعقيد المعنوي ، ولم نقل فيه : الخلو عن التعقيد اللفظي وأدخلناه فيما توقفت عليه المطابقة من أمر الفصاحة غير التعقيد المعنوي ؛ لعدم بيانه في الفن الثاني ، ويحتمل أن يريد بوجوه تحسين الكلام ما يحسن به الكلام مطلقا سواء كان داخلا في البلاغة أو خارجا عنها ، وأخرج ما لا يدخل في الفنين السابقين بقوله بعد رعاية المطابقة ، ووضوح الدلالة وهذا الاحتمال يوهم أن ما يذكر في النحو واللغة والتصريف وما يدرك بالذوق داخل في أوجه التحسين ؛ لأن المذكور في الفنين هو نفس أوجه المطابقة وما يسقط به التعقيد المعنوي ، وإنما قلنا : يوهم ولم نقل يدخل تلك الأمور في المحسنات جزما ؛ لأنه يمكن إدخال تلك الأمور في مقتضى الفن الأول بطريق اللزوم ؛ لأنه لا يعتبر ولا يراعى إلا برعايتها ، ولكن المتبادر الأول ، فلهذا قدمنا الاحتمال الأول وبكل تقدير ، فقوله : بعد رعاية المطابقة إلخ يتعلق بقوله : تحسين ؛ إذ لا معنى لتعلقه بغيره بمعنى أنها تورث التحسين الذي إنما يحصل ويعتبر بعد الرعاية المذكورة ، وإلا كانت تلك الوجوه كتعليق الدر في أعناق الخنازير.

وجوه تحسين الكلام

ثم أشار إلى تفصيل الوجوه البديعية المحسنة فقال (وهي) أي : وجوه تحسين الكلام الحاصل بعد الرعاية السابقة (ضربان) أي : تلك الأوجه فيها نوعان :


أحدهما (معنوي) أي : ينسب إلى المعنى ؛ لأنه تحسين للمعنى أولا ، وبالذات بمعنى أن ذلك التحسين قصد أن يكون تحسينا للمعنى ، وذلك القصد متعلق بتحسين المعنى أولا ، ومتعلق به لذاته ، وأما تعلق القصد بكونه تحسينا للفظ فيكون ثانيا ، وبالعرض أي : لأجل عروض كون الغرض فيه أيضا ، وإنما قلنا هكذا ؛ لأن هذه الأوجه قد يكون بعضها محسنا للفظ ، لكن القصد الأصلي منها إنما هو إلى كونها محسنة للمعنى كما في المشاكلة ، إذ هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير كقوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لى جبة وقميصا (١)

فقد عبر عن الخياطة بالطبخ ؛ لوقوعها في صحبته ، فاللفظ حسن لما فيه من إيهام المجانسة اللفظية ؛ لأن المعنى مختلف واللفظ متفق ، لكن الغرض الأصلي جعل الخياطة كطبخ المطبوخ في اقتراحها لوقوعها في صحبته ، فإن تعلق الغرض بتحسينه اللفظي المشار إليه ، فهو بالعرض وعلى وجه المرجوحية ، وقيل : إن الحسن فيها لفظي ؛ لأن منشأه اللفظ وفيه نظر ؛ لوجوب عدها حينئذ من البديع اللفظي فتأمل ، وكما في العكس كما يأتي في قوله : عادات السادات سادات العادات فإن في اللفظ شبه الجناس اللفظي لاختلاف المعنى ، ففيه التحسين اللفظي والغرض الأصلي الإخبار بعكس الإضافة مع وجود الصحة (و) ثانيهما (لفظي) أي : منسوب إلى اللفظ ؛ لأنه تحسين للفظ بالذات ، وإن تبع ذلك تحسين المعنى ؛ لأنه كلما عبر عن معنى بلفظ حسن استحسن معناه تبعا ، وإن شئت قلت في التحسين المعنوي أيضا إن كونه بالذات معناه أن ذلك هو المقصود ، ويتبعه تحسين اللفظ دائما ؛ لأنه كلما أفيد باللفظ معنى حسن تبعه حسن اللفظ الدال عليه ، قد قدم المعنوي ؛ لأن المقصود الأصلي هو المعاني والألفاظ توابع وقوالب لها ، وإنما كانت المعاني هي المقاصد ؛ لأنها مواقع الحقوق إذ بها تقع المؤاخذة ، ويحصل الغرض أخذا ودفعا وامتثالا وانتهاء وانتفاعا وإضرارا ، ولذلك يقال : لو لا المعاني ما كانت الألفاظ محتاجة ، ولا يقال : لو لا الألفاظ ما كانت المعاني محتاجة ؛ لأنه كلما توصل إلى المعنى ألغي اللفظ دون العكس فقال :

__________________

(١) البيت لأبى الرقعمق الأنطاكى ، في المصباح ص (١٩٦) ، والإيضاح ص (٢٩٧).


المحسنات المعنوية :

المطابقة

(أما المعنوي) من تلك المحسنات والمذكور في الكتاب منها تسعة وعشرون (فمنه المطابقة وتسمى الطباق والتضاد أيضا) أخذا من طابق الفرس إذا كان تقع رجله في موضع يديه في مشيه ؛ لأنه وقعت رجله ويده المتقابلتان في موطئ واحد كوقوع المختلفين المسمى بالمطابقة هنا في تركيب متحد أو كالمتحد في الاتصال ، وفسر المعنوي المسمى بالمطابقة بقوله (وهو) أي : المعنوي الذي هو المطابقة ، وذكر الضمير لرعاية أنها معنوي (الجمع) أي : هو أن تجمع (بين متضادين) في كلام واحد ، أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال ، ولما كان المراد بالتضاد هنا وجود مطلق التقابل والتنافي لا التضاد الذي هو أن يكون بين شيئين وجوديين غاية الاختلاف فسر المتضادين بقوله (أي معنيين متقابلين في الجملة) أي من غير تفصيل في ذلك التقابل والتنافي بأن يعين مقداره من كونه فيما بين معنيين كالنقيضين أو الضدين أو غير ذلك ، فالمراد بالتضاد والتقابل هنا أن يكون بين الشيئين تناف وتقابل ، ولو في بعض الصور ، ومن المعلوم أن المتقابلين في بعض الصور إنما يكون التنافي بينهما باعتبار ذلك البعض من الصور ، فلهذا نقول : لبيان عموم التقابل سواء كان التقابل حقيقيا كتقابل القدم والحدوث ، أو اعتباريا كتقابل الإحياء والإماتة فإنهما لا يتقابلان إلا باعتبار بعض الصور ، وهو أن يتعلق الإحياء بحياة جرم في وقت ، والإماتة بإماتته في ذلك الوقت ، وإلا فلا تقابل بينهما باعتبار أنفسهما ولا باعتبار المتعلق عند تعدد الوقت ، وسواء كان التقابل الحقيقي تقابل التضاد كتقابل الحركة والسكون على الجرم الموجود بناء على أنهما وجوديان ، أو تقابل الإيجاب والسلب كتقابل مطلق الوجود وسلبه ، أو العدم والملكة كتقابل العمى والبصر والقدرة والعجز بناء على أن العجز نفي القدرة عمن من شأنه الاتصاف بالقدرة ، أو تقابل التضايف كتقابل الأبوة والبنوة وقيل : إن الأبوة والبنوة من باب مراعاة النظير ، ورد بأن مراعاة النظير فيما لا تنافي فيه كالشمس والقمر بخلاف ما فيه التنافي كالأبوة والبنوة ، أو تقابل ما يشبه شيئا مما ذكر مما يشعر بالتنافي لاشتماله بوجه ما على ما يوجب التنافي كهاتا وتلك في قوله :


مها الوحش إلا أن هاتا أو أنس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (١)

لما في هاتا من القرب وتلك من البعد ، وكما في قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)(٢) لما يشعر به الإغراق من الماء المشتمل على البرودة غالبا ، ويشعر به إدخال النار من حرارة النار ، وفرضنا هذه الأقسام في التقابل الحقيقي ؛ لأن وجودها في الاعتبار إنما هو باعتبار المتعلق ، والمتعلق يعرف حاله من هذه الأقسام ، وقد علم مما قررنا أن التقابل في بعض الصور يعود معناه إلى الاعتباري ، ومن ذكرنا للاعتباري من غير تخصيص له بصورة دون أخرى يعلم أن الملحق بهذا التقابل داخل في هذا الكلام ، وسيأتي ذلك الملحق.

ثم أشار إلى تفصيل في هذا التقابل وهذا الجمع باعتبار اللفظين الدالين على المتقابلين فقال (ويكون) ذلك الجمع بين المتقابلين المسمى بالطباق (بلفظين) أي : يعبر عنهما بلفظين كائنين (من نوع) واحد من أنواع الكلمة التي هي الاسم والفعل والحرف ، واللفظان اللذان هما من نوع واحد ما أن يكونا (اسمين) معا (نحو) قوله تعالى (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٣) أي : نيام فإن اليقظة تشتمل على الإدراك بالحواس ، والنوم يشتمل على عدمه ، فبينهما شبه العدم ، والملكة باعتبار لازمهما ، وبينهما باعتبار أنفسهما تضاد ؛ لأن النوم عرض يمنع إدراك الحواس ، واليقظة عرض يقتضي الإدراك بها ، وإن قلنا : إن اليقظة نفي ذلك العرض كان بينهما عدم وملكة حقيقة ، وقد دل على كل منهما بالاسمية.

(أو) يكونا (فعلين) معا (نحو) قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤) فإن الإحياء والإماتة ولو صح اجتماعهما في ذات المحيي والمميت بين متعلقهما العدم والملكة ، أو التضاد بناء على أن الموت عرض

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، فى الإيضاح ص (٢٢٥).

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) الكهف : ١٨.

(٤) المؤمنون : ٨٠.


وجودي ، فالتنافي بينهما اعتباري ، وكأنه لم يجعلهما من الملحق الآتي لإشعارهما من جهة اللفظ بالحياة والموت بخلاف الملحق ، كما يأتي فى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) و (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في الآية الكريمة مما يشبه تقابلهما تقابل التضاد للإشعار بالظلمة والنور اللذين هما كالبياض والسواد.

(أو) يكونا (حرفين) معا (نحو) قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٢) لأن اللام تشعر بالملكية المؤذنة بالانتفاع وعلى تشعر بالعلو المشعر بالتحمل والثقل المؤذن بالتضرر ، فصار تقابلهما كتقابل النفع والضر وهما ضدان ، وعبر بالاكتساب في جانب الشر ، لأن الافتعال يؤذن بالتعمل ، والتكلف بالتطلب ، والنفس في طلب المعصية المقتضية للشر لا تخلو عن شهوة ، فلعلها في المعصية تعمل وتطلب ، والمعنى أن النفس لا ينتفع بطاعتها غيرها ، ولا يتضرر بمعصيتها غيرها ، وبه يعلم أن التقدير لها نفع : أي ثواب ما كسبت من الطاعة ، وعليها ضرر أي : عذاب ما اكتسبت من المعصية.

(أو) يكون بلفظين (من نوعين) من أنواع الكلمة الثلاثة والمتصور عقلا في كونه من نوعين ثلاثة أقسام : أن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا ، أو يكون أحدهما اسما والآخر حرفا ، أو يكون أحدهما فعلا والآخر حرفا ، لكن الموجود من هذه الثلاثة واحد ، وهو ما يكون فيه أحدهما اسما والآخر فعلا (نحو) قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(٣) فقد عبر عن الموت بالاسم ، وعن الإحياء المتعلق بالحياة بالفعل ، ولا يخفى أن التقابل هنا اعتباري وأن المعنى مجازي أي : ضالا فهديناه فتقابل الإحياء للموت باعتبار تعلقه بالحياة التي هي ضد ، أو ملكة للموت على ما تقدمت الإشارة إليه.

ثم أشار إلى تنويع آخر في الطباق فقال أنواع الطباق (وهو) أي : الطباق باعتبار الإيجاب والسلب (ضربان) أحدهما (طباق الإيجاب) بأن يكون اللفظان

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الأنعام : ١٢٢.


المتقابلان معناهما ذكرا موجبين (كما مر) في نحو (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) فقد ذكرت اليقظة والرقاد بطريق الإثبات.

(و) ثانيهما (طباق السلب) وهو داخل في التعميم السابق في التقابل وذلك بأن يجمع بين فعلي مصدر واحد أحدهما مثبت والآخر منفي ، فيكون التقابل بين الإيجاب والسلب ، لا بين مدلولي الفعلين ، أو يجمع بين فعلين أحدهما نهي والآخر أمر فإن النهي دال على طلب الكف عن الفعل والأمر دال على طلب الفعل ، والفعل والكف متضادان ، فيكون التقابل باعتبار الفعل والترك لا باعتبار مصدر الفعلين لاستوائه ، وإنما جعل هذا من السلب والإثبات ؛ لأن المطلوب في أحدهما من جهة المعنى سلب ، وفي الآخر إثبات ؛ فالأول وهو أن يجمع بين فعلي مصدر واحد أثبت أحدهما وسلب الآخر (نحو) قوله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) فإن العلم الأول منفي والثاني مثبت ، وبين الإثبات والنفي فيهما تقابل في الجملة أي : باعتبار أصلهما لا باعتبار الحالة الراهنة ؛ لأن المنفي علم ينفع في الآخرة ، والمثبت علم لا ينفع فيها فلا تنافي بين الإثبات والنفي فيهما (و) الثاني : وهو أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا (نحو) قوله تعالى (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٢) ومن المعلوم أن الخشية لا يؤمر بها وينهى عنها من جهة واحدة ، بل من جهتين كما في الآية ، فقد أمر بها باعتبار كونها لله تعالى ، ونهى عنها باعتبار كونها للناس فالتنافي بين الأمر والنهي أيضا باعتبار أصلهما لا باعتبار مادة استعمالهما ، فإنه لا يوجد إلا فرضا وتقديرا. (ومن الطباق) نوع سماه بعضهم تدبيجا ، والتدبيج من دبج المطر الأرض زينها ، وأصله الديباج وهو الحرير شبه به ما وجد بالمطر من ألوان النبات ، وفسره ذلك البعض بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوانا لقصد إيجاد الكناية في تلك الألوان أو في بعضها أو لقصد التورية كذلك وأراد بالألوان ما فوق الواحد ؛ لأن الأمثلة اشتملت على التدبيج باثنين ، ولا شك أن هذا المسمى بالتدبيج داخل في الطباق ؛ لأن

__________________

(١) الروم : ٦ ، ٧.

(٢) المائدة : ٤٤.


الألوان أمور متقابلة فهي جزئية من جزئيات الطباق ، وخصت باسم التدبيج لتخيل وجود الألوان فيها كوجود الألوان بالمطر ، فالتدبيج الذي فيه الكناية (نحو قوله) أي قول أبي تمام يرثي رجلا مات في الجهاد (تردى) (١) أي : لبس من ترديت الثوب أخذته رداء ولبسته (ثياب الموت) أي لبس ثياب الموت (حمرا) أي : في حال كونها محمرة بالدم ، وهذا هو الذي يدل على أن المراد بالثياب الثياب الملطخة بالدم لا الثياب التي تلبس للحال ؛ لأن ذلك يحوج إلى جعل الحال الذي هو قوله حمرا حالا مقدرة (فما أتى لها) أي : فلم يأت لتلك الثياب ولم يدخل (الليل إلا وهي) أي : وتلك (الثياب من سندس) أي : من حرير تلك الثياب (خضر) فخضر خبر بعد خبر ؛ لأن القصيدة مضمومة الروي مثلها قوله :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر وهي الآن من بعده بتر

ومعنى البيت أن المرثي لبس الثياب الملطخة بالدم حين قتل ، ولم يدخل عليه الليل حتى صارت تلك الثياب من السندس وصارت خضرا ، فقد جمع بين لونين فقط ، والأول وهو حمرة الثياب كناية عن القتل لاستلزامه إياه عرفا مع قرينة السياق ، والثاني وهو خضرة الثياب كنى به عن دخول الجنة لما علم أن أهل الجنة يلبسون الحرير الأخضر ، وصيرورة هذه الثياب تلك عبارة عن انقلاب حال القتل إلى حالة النعمة بالجنة ، وأما التدبيج المشتمل على التورية ، وهي أن يكون للفظ معنيان قريب وبعيد ويراد به البعيد كقول الحريرى : فمذ اغبر العيش الأخضر ، وصف العيش بالاخضرار كناية عن طيبه ونعومته وكماله ؛ لأن اخضرار العود والنبات يدل على طيبه ونعومته وكونه على أكمل حال ، فيكنى به عن لازمه في الجملة الذي هو الطيب والحسن والكمال ، والاغبرار كناية عن ضيق العيش ونقصانه ، وكونه في حال التلف ؛ لأن اغبرار النبات والمكان يدل على الذبول والتغير والرثاثة ، فيكنى به عن معنى هذا اللازم ، وازور المحبوب الأصفر أي : مال عنى المحبوب الأصفر ، وفي هذا اللون وقعت التورية ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر هو الإنسان الموصوف بالصفرة المحبوبة ، وازوراره بعده عن

__________________

(١) البيت فى رثاء محمد بن حميد الطوسى ، فى ديوان أبى تمام ص (٣٥٦) ، والإيضاح ص (٢٩١).


القريب للمحبوب الأصفر هو الإنسان الموصوف بالصفرة المحبوبة ، وازوراره بعده عن ساحة الاتصال ، والمعنى البعيد هو الذهب الأصفر ؛ لأنه محبوب وهو المراد به فكان تورية" اسود يومي الأبيض" ، وبقوله" اسود" يتعلق المجرور بمذ أى : اسود يومي الأبيض مذ اغبر العيش إلخ واسوداد اليوم كناية عن ضيق الحال وكثرة الهموم ؛ لأن اسوداد الزمان كالليل يناسب الهموم ووصفه بالبياض كناية عن سعة الحال والفرح ؛ لأن بياض النهار يلابس ذلك ، وأبيض فودي الأسود ، فقوله : ابيض عطف على اسود ، والفود هو شعر جانب الرأس مما يلي الأذن ، وابيضاض الشعر كناية عن كثرة الحزن والهم ، أو أريد به الحقيقة وأنه اتصف شعره بذلك بسبب الهم حتى رثى لي العدو الأزرق أي انتهى بي الحال من أجل ما حل من الهموم إلى أن رثى لي أي : رحمني العدو الأزرق ، ووصف العدو بالزرقة كناية عن شدة العداوة ؛ لأن أشهر الناس في العداوة وأشدهم فيها للمسلمين الروم ، وأكثرهم زرق الأعين فاشتهر وصفهم بالعداوة مع زرقة أعينهم حتى صار كناية عن كل عدو شديد العداوة ، ويحتمل أن يكون كناية عن شدة العداوة وصفائها من شوب خلافها ؛ لأن الزرقة في الماء تدل على صفائه فكنى لزرقة عن مطلق الصفاء الصادق بصفاء العداوة الذي هو شدتها ، " فيا حبذا الموت الأحمر" أي : حبذا فيا زائدة للتنبيه أي : أحبب بالموت الأحمر ، ووصف الموت بالحمرة كناية عن شدتها ؛ لأن الحمرة تدل على شدتها ، فقد جمع الحريري ألوانا من الاغبرار والاخضرار والاصفرار والاسوداد والابيضاض والزرقة والحمرة ، وقد تبين لك مما قررنا أن الألوان كلها في كلامه كناية إلا الاصفرار فإن فيه التورية ، وبذلك تبين أن جمع الألوان لا يجب أن يكون على أنها كلها توريات أو كنايات ، بل يجوز أن تجمع على أن بعضها تورية ، وبعضها كناية ، وقد توهم بعضهم وجوب ذلك وهو فاسد كما تقرر.

(ويلحق به) أي : بالطباق السابق شيئان ، أحدهما أن يجمع بين معنيين ليس أحدهما مقابلا للآخر ، ولكن يتعلق ذلك الأحد منهما بمعنى يقابل المعنى الآخر ، وتعلقه به إما لكونه بينه وبينه لزوم السببية ، أو بينه وبينه لزوم آخر غير لزوم السببية وذلك (نحو) قوله تعالى في وصف المؤمنين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أشداء على الكفار


(فإن الرحمة) إنما تقابلها الفظاظة ، والشدة إنما يقابلها اللين ، لكن الرحمة (مسببة عن اللين) إذ اللين في الإنسان كيفية قلبية تقتضي الانعطاف لمستحقه ، وذلك الانعطاف هو الرحمة ، فهي مسببة عن الكيفية التي هي اللين ، وأصل الشدة واللين في المحسوسات ، فالشدة فيها الصلابة ، واللين ضدها وهي صفة تقتضي صحة الانغماز إلى الباطن ، فقد قوبل في الآية بين معنيين هما الشدة والرحمة أحدهما وهو الرحمة له تعلق بمقابل الشدة وهو اللين ، والتعلق بينهما كون الرحمة مسببة عن اللين ، ولو قيل : إن الشدة لها تعلق بمقابل الرحمة وهي الفظاظة وعدم الانعطاف لصح أيضا ؛ لأن عدم الانعطاف لازم للشدة التى هي كيفية قلبية توجب عدم الانعطاف لمستحقه ، ومن هذا القسم قوله تعالى (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١) لأن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المقابلة للسكون وكذا قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا لأن إدخال النار يستلزم الإحراق المقابل للإغراق لاستلزام أحدهما توقد النار والآخر إطفاءها ، وقد تقدم فيه وجه آخر من المقابلة وهذا الملحق يدخل في التفسير السابق للطباق ضرورة وجود مطلق التنافي في طرفيه ، وعلى تقدير دفع ذلك عن كلام المصنف ، فحمله على أن المراد بالمقابلة في الجملة أن تكون بأحد الأوجه الأربعة فقط يفيد دلالة كل على معنى يقابل الآخر بنفسه من غير تعيين واحد منهما ، فلا يندفع عن كلام الشارح لإدخاله في الجملة ما يكون بأي اعتبار فيدخل هذا القسم قطعا كما أشرنا إليه فيما تقدم فافهم.

(و) الثاني : أن يجمع بين معنيين غير متقابلين ولا يستلزم ما أريد بأحدهما ما يقابل الآخر ، ولكن عبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان (نحو قوله :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى (٢)

أي : فبكى ذلك الرجل من مفارقة ألوان لذات الشبيبة ، وتذكر عوارض الشيب وسلم منادى مرخم وبعد هذا البيت :

__________________

(١) القصص : ٧٣.

(٢) البيت لدعبل الخزاعى الرافضى.


أي : فبكى ذلك الرجل من مفارقة ألوان لذات الشبيبة ، وتذكر عوارض الشيب وسلم منادى مرخم وبعد هذا البيت

قد كان يضحك في شبيبته

والآن يحسد كل من ضحكا

لا تأخذا بظلامتي أحدا

قلبي وطرفي في دمي اشتركا

فقد جمع بين الضحك والبكاء والمراد بالضحك ظهور المشيب من باب التعبير باللازم عن الملزوم ؛ لأن الضحك الذي هو هيئة للفم معتبرة من ابتداء حركة وانتهاء إلى شكل مخصوص يستلزم عادة ظهور البياض ، أعني بياض الأسنان ، فعبر به عن مطلق ظهور البياض في ضمن الفعل ، فكان فيه تبعية المجاز المرسل ، ويحتمل أن يكون شبه حدوث الشيب بالرأس بالضحك بجامع أن كلا منهما معه وجود لون بعد خفائه في آخر ، ثم قدر استعارة لفظ الضحك لذلك الحدوث ، وعبر عنه بالفعل ، فعليه يكون ضحك استعارة تبعية ، ويكون المراد بالمشيب موضع الشعر من الرأس ، ويحتمل على بعد أن يريد بالمشيب الجلدة من الرأس ، ويريد بالرأس مجموع العظم والجلدة ، ويكون قد شبه انفتاح موضع الشعر عن بياض الشيب بالضحك في وجود انفتاح عن لون خفي ، كما يقال : ضحك الورد أي : انفتح ، فتكون الاستعارة تبعية أيضا ، وعلى كل تقدير فالمراد بالضحك معنى لا يقابل البكاء ؛ لأن حاصل المقصود ظهور المشيب ، وإنما التقابل بين الضحك والبكاء باعتبار معنييهما الأصليين.

(ويسمى) هذا (الثاني) وهو ما يكون التقابل فيه بين المعنيين الأصليين دون المعنيين المرادين في الحالة الراهنة (إيهام التضاد) لأن المعنيين المرادين كما بينا في المثال لا تضاد بينهما ، ولكن يتوهم التضاد من ظاهر اللفظيين باعتبار معنييهما الأصليين ، والفرق بين التدبيج الذي فيه الكناية ، وبين إيهام التضاد ـ مع أن المراد في كل منهما لا يقابل به الآخر في الحالة الراهنة ـ أن الكناية الكائنة في التدبيج يصح أن يراد بها معناها الأصلي فينافي مقابله بخلاف إيهام التضاد فلا يصح فيه معناه الأصلي ، تأمله.


ثم نبه على جزئي من جزئيات الطباق يسمى باسم مخصوص ، وإنما نبه عليه لما فيه من خصوص وتفصيل في أمثلته ، وللتنبيه على أن من جعله قسما مستقلا من البديعيات المعنوية فقد غفل فقال :

المقابلة

(ودخل) أي : دخل في الطباق لشموله التفسير السابق له (ما) أي قسم منه (يختص باسم المقابلة) من دون سائر أقسام الطباق ، والسكاكي وغيره جعلاه قسما مستقلا من المحسنات المعنوية ، وليس ذلك بصحيح كما يشهد به تفسير الطباق بالنظر إلى تفسير المقابلة وأمثلتها ، وإلى ذلك أشار بقوله (وهو) أي ما يختص باسم المقابلة (أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو) يؤتى (بأكثر) من المعنيين (ثم) يؤتى بعد المعنيين أو المعاني (بما يقابل ذلك) المأتي به من المعنيين المتوافقين أو المعاني المتوافقة (على الترتيب) أي يكون ما يؤتى به ثانيا مسوقا على ترتيب ما أتى به أولا ، بحيث يكون الأول للأول والثاني للثاني إلى آخره ، وإنما دخل ما يسمى بالمقابلة في الطباق ؛ لأن فيه الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة أي : من غير تفصيل وتعيين لكون التقابل على وجه مخصوص دون آخر ؛ لأن ذلك لا يشترط في الطباق حتى يمكن إخراج المقابلة عن الطباق فصدق حده عليها.

(والمراد بالتوافق) في قولنا : في تفسير ما يختص باسم المقابلة وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين (خلاف التقابل) أي : المراد بالتوافق في ذلك عدم التقابل وعدم التنافي ، فيشمل المناسبين كما يأتي في مراعاة النظير ، ولذلك توجد المقابلة معه ، وشمل المتماثلين في أصل الحقيقة مع عدم التناسب في المفهوم كمصدوق القائم والإنسان ، وشمل الخلافيين كالإنسان والطائر ، فلما لم يشترط فيها تناسب ولا تماثل ولا غيرهما شمل الكل ، وقد عرفت أن المقابلة يكفي في وجودها مطلق التعدد من الطرفين الشامل للاثنينية ولما فوقها ، فدخل في ذلك مقابلة الاثنين بالاثنين (نحو) قوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (١) ففي أحد الطرفين الضحك والقلة وهما أيضا

__________________

(١) التوبة : ٨٢.


متوافقان كذلك ، وقد قابل الأول من الطرف الثاني وهو البكاء بالأول من الطرف الأول وهو الضحك ، والثاني وهو الكثرة من ذلك الطرف الثاني يقابل الثاني من الأول وهو القلة.

(و) دخل في ذلك أيضا مقابلة الثلاثة بالثلاثة (نحو قوله :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

فالحسن والدين والغنا وهو المعبر عنه بالدنيا متوافقة لعدم التنافي بينها ، وقد قوبلت بثلاثة وهي القبح والكفر والإفلاس الأول للأول والثاني للثاني والثالث للثالث ، وهي متوافقة أيضا لعدم التنافي بينها وإن كانت خلافية.

(و) دخل في ذلك أيضا مقابلة الأربعة بالأربعة (نحو) قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (١) فهذا طرف من المقابلة اجتمع فيه متوافقات خلافية أربعة ، وهي الإعطاء والتقى والتصديق بالحسنى وهي كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله ، والتيسير لليسرى وهي الجنة ، والطرف الآخر هو قوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٢) فهذه أربعة أخرى تقابل الأولى على الترتيب البخل المقابل للإعطاء والاستغناء المقابل للتقوى والتكذيب المقابل للتصديق ، والتيسير للعسرى المقابل للتيسير لليسرى ، ومجموع مدلول التيسير للعسرى هو المقابل لا المجرور فقط ، فلا يرد أن المجرور لا يستقل فلا تقع به المقابلة ، وقد ظهرت المقابلة بين كل فرد وما يقابله إلا الاستغناء مع التقوى فإن التقوى إما أن تفسر برعاية أوامر الله تعالى ونواهيه والاعتناء بها خوفا منه تعالى أو محبة فيه ، أو تفسر بنفس خوف الله أو محبته الموجب كل منهما لتلك الرعاية والاستغناء إن كان معناه عدم طلب المال لكثرته فلا يقابل التقوى بذلك المعنى ، وإن كان معناه عدم طلب الدنيا للقناعة فكذلك وإن كان شيئا آخر فمعه خفاء ، فأراد بيان معناه لتتضح مقابلته للتقوى فقال (والمراد باستغنى : أنه زهد فيما عند الله تعالى) من الثواب الأخروي فصار

__________________

(١) الليل : ٥ ، ٦ ، ٧.

(٢) الليل : ٨ ، ٩ ، ١٠.


بتركه طلبه كأنه مستغن عنه) أي : لا يحتاج إليه مع شدة احتياجه إليه لو كان له ميز ، وذلك أن العاقل لا يترك طلب شيء إلا إن كان مستغنيا عنه ، فعبر بالاستغناء عن ترك طلب ما عند الله تعالى على وجه الترفع عنه إنكارا له ، وترك طلبه كذلك كفر ، وإذا كان كافرا (فلم يتق) الكفر (أو) المراد باستغنى أنه (استغنى بشهوات الدنيا) المحرمة (عن) طلب (نعيم الجنة) إما أن يكون ذلك على وجه يؤديه إلى إنكار النعيم فيكون كافرا ويعود إلى الوجه الأول ، وإما أن يكون ذلك سفها وشغلا باللذة المحرمة العاجلة عن ذلك النعيم ، وأيا ما كان (فلم يتق) أيضا ، وإنما قيدناه باللذة المحرمة ؛ لأن كل من لم يرتكب المحرمة أصلا لا يخلو شرعا وعادة من طلب النعيم الأخروي ، وإنما المستلزم لعدم التقوى هو الاستغناء بالشهوات المحرمة ، فعدم الاتقاء ليس هو نفس الاستغناء بالشهوات بل الاستغناء ملزومة ؛ لأنه فسر الاستغناء بالشغل بمحرم والشغل بالمحرم يستلزم نفي التقوى التي هي الطاعة ، بخلاف تفسيره بالزهد فيما عند الله تعالى بمعنى الكفر بما عنده تعالى ، فهو أظهر في الدلالة ، وإن كان الكفر ملزوما لنفي التقوى التي هي الطاعة على هذا النمط أيضا ، وقد تحقق أن الاستغناء ملزوم لنفي النفي كأن التقابل بينهما من الملحق الذي هو أن لا يتقابلا بأنفسهما ، ولكن يستلزم أحدهما ما يقابل به الآخر كما في قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) هكذا قيل ، ولك أن تقول : متى فسر الاستغناء بالشغل بالشهوات المحرمة ، أو بالكفر كان مضادا للتقوى ، فلا تضمن ، اللهم إلا أن يراد الشغل بمطلق الشهوات لجريان العادة أن الشغل بمطلق الشهوة يستلزم غالبا ارتكاب محرم ، وذلك الارتكاب ضد التقوى ولكن المناسب لقوله تعالى (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) تفسيره بالمعصية التي معها الكفر ، أو يراد بالاستغناء مجرد عدم الطلب ، ولما كان سببه الشغل بالشهوة المحرمة أو الكفر كان ملزوما لعدم الطاعة التي هي التقوى ، تأمله.

ثم أشار إلى ما زاده السكاكي في تحقيق المقابلة بقوله (وزاد السكاكي) في تعريف المقابلة قيدا آخر لا تتقرر حقيقتها عنده إلا به ، وذلك أنه قال : هي ، أي : المقابلة أن يجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضديهما (وإذا شرط هنا) يعني في المتوافقين أو


المتوافقات المأتي بهما أو بها أو لا (أمر) يشترك فيه المتقابلان أو المتقابلات (شرط ثمة) أي : شرط في ضدي المتوافقين أو أضداد المتوافقات المأتي بهما أو بها ثانيا (ضده) أي : شرط ضد ذلك الأمر المشروط أولا وذلك (ك) ما في (هاتين الآيتين) الكريمتين ، وهما (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (فإنه لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده) أي : ضد التيسير ، وهو التعسير المفاد بقوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) لأن التيسير المتعلق باليسرى والعسرى أريد به جعله ملحقا باليسرى أو العسرى ، واليسرى تضمنت التيسير الذي هو جعله ميسرا له كل ما يريد ، ولذلك فسرت بالجنة ، والعسرى تضمنت التعسير الذي هو جعله يتعسر عليه كل راحة ولطف ، ولذلك فسرت بالنار ، فالتعسير على هذا قد جعل (مشتركا بين أضدادها) أي : أضداد الأمور المذكورة أولا وأضدادها المشتركة في التعسير هي البخل والاستغناء والتكذيب ، والمراد بالشرط هنا ما يجتمع فيه المتوافقان أو المتوافقات لا الشرط المعروف ؛ لأن التيسير والتعسير الممثل بهما لذلك ليسا شرطين كما لا يخفى ، وحاصله أن شرط المقابلة أن يذكر في طرف منه معنى يشترك المتوافقان فيه أو المتوافقات إن ذكر مقابله كذلك في الطرف الآخر ، وعلى هذا لا يكون قوله :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

من المقابلة ضرورة أنه ذكر للمتوافقين الأولين ما اشتركا فيه وهو الاجتماع ، ولم يذكر ضده في مقابليهما الذي هو الافتراق ، وفي التعبير عما يشترك فيه المتوافقات بوجه من الوجوه بالشرط نوع خفاء كما لا يخفى ، وإنما أخر المقابلة الداخلة في التطابق عن الملحق بالتطابق مع أن المتبادر أن الذي ينبغي هو ذكر الداخل قبل الملحق للخلاف في هذا الداخل هل هو من التطابق أو لا؟ فناسب ذكر المتفق وما ألحق به.

ثم ذكر المختلف فيه :


مراعاة النظير

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (مراعاة النظير) أي ما يسمى بمراعاة النظير (ويسمي التناسب والتوفيق) والائتلاف والتلفيق (أيضا) ويؤخذ من معناه وجه التسمية كما سيذكر الآن (وهو) أي المسمى بمراعاة النظير (جمع أمر وما يناسبه) أي أن يجمع بين أمرين متناسبين أو أمور متناسبة (لا بالتضاد) بل بالتوافق في كون ما جمع من واد واحد لصحبته في إدراك ، أو لمناسبة في شكل ، أو لتوقف بعض على بعض ، أو ما أشبه شيئا من ذلك ، وبهذا القيد خرج الطباق ؛ لأنه جمع بين أمرين متفقين فأكثر بالتضاد ، وقد تقدم أن المراد بالتضاد مطلق التقابل ، ومطلق التنافي في الجملة ، ولما كان في هذا الجمع رعاية الشيء مع نظيره ، أي : شبهه أو مناسبه سمي مراعاة النظير ، والجمع في هذا الباب أيضا قد يكون بين أمرين (نحو) قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١) أي : يجريان بحساب معلوم المقدار في قطعتهما للأبراج والأدراج الفلكية لا يزيدان عليه ولا ينقصان ذلك تقدير العزيز العليم ، فقد جمع بين أمرين ، وهما الشمس والقمر ولا يخفى تناسبهما.

(و) قد يكون ذلك الجمع بين أمور ثلاثة (نحو قوله) في صفة الإبل المهازيل (كالقسي) (٢) جمع قوس وهي معلومة (المعطفات) أي المنحنيات ، وهو وصف القوس بالتعطيف من باب الوصف الكاشف أو المؤكد ؛ إذ لا يكون إلا كذلك (بل) هي ك (الأسهم) جمع سهم (مبرية) أي : منحوتة ، ووصفها بالنحت أي النجارة كوصف القوس بالتعطيف (بل) هي ك (الأوتار) جمع وتر وهو الخيط الجامع بين طرفي القوس فقد جمع بين أمور ثلاثة متناسبة لتقارنها غالبا في الخيال ، وهي القسي والسهام والأوتار ، قيل : القصد من تشبيه مهازيل الإبل بهذه الأشياء بيان انتهائها في الهزال ، فشبهها أولا في ضعفها بالقسي ، ثم أضرب إلى تشبيهها بما هو أدق من القسي وهي السهام ، ثم أضرب إلى ما هو أدق من السهام وهو الوتر ، وهذا ظاهر غير أن جل

__________________

(١) الرحمن : ٥.

(٢) البيت للبحترى فى شرح عقود الجمان (٢ / ٧٥) ، والتلخيص ص (٨٨) ، المصباح ص (٢٥٠).


السهام أدق عادة من الوتر فلا يتم هذا الترتيب ، وقيل : إنه شبهها عند الانعطاف بالقسي ، وعند عدمه بالسهام وعند اجتماعهما بالوتر لجمعه الطرفين المنعطفين من القوس ، وهذا الوجه الأخير لا يكاد يتحقق ؛ فإن الإبل ليس لها في ذاتها امتداد كالسهام ، ولا الجمع بين الامتداد والتعطف كما في هيئة الوتر مع القوس ، على أن هذا الأخير لو تم لكان الواجب تشبيهها بمجموع الوتر والقوس كما لا يخفى.

(ومنها) أي : ومن مراعاة النظير التي هي نوع من البديع المعنوي (ما) أي قسم (يسميه بعضهم تشابه الأطراف ، وهو) أي : القسم الذي يسمى من المراعاة تشابها هو (أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى) إما لكون ما ختم به كالعلة لما بدأ به ، أو العكس ، أو كالدليل عليه ، أو نحو ذلك ، وإنما كان هذا نوعا خاصا ؛ لأن المراعاة هي مطلق الجمع بين المتناسبين سواء كان أحدهما في الختم والآخر في الابتداء ، كما في تشابه الأطراف أو كانا معا في الابتداء كما تقدم في المثال ، أو في الاختتام ، أو في التوسط ، والمراد بالكلام هنا ما يقصد من التراكيب المفيدة سواء كانت جملة واحدة أو أكثر ، وذلك (نحو) قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) فإن عدم إدراك الأبصار له وهو مدلول الجملة الأولى يناسبه قوله : اللطيف ، وكونه مدرك الأبصار ، وهو مدلول الجملة الثانية يناسبه قوله الخبير ، أما مناسبة الخبير لإدراكه الأبصار فظاهرة ؛ لأن الخبير من له العلم بالخفيات ، ومن جملة الخفيات بل الظواهر الأبصار فيدركها ، وأما مناسبة اللطيف لكونه لا تدركه الأبصار فلا تظهر إلا لو أريد باللطيف اللطيف العرفي ، وهو أن يدق الشيء بحيث لا يظهر فإنه يناسبه أنه لا يرى ، لكن لا يراد ذلك هنا لاستحالته ، وإنما المراد باللطيف : الرفيق الموصل الأنفاع بلطف ولطف ، اللهم إلا أن يراد باللطيف لازمه تجوزا ، وهو كونه خفيا في ذاته أو يكون معنى المناسبة ما يكون باعتبار الأصل على وجه الإيهام فافهم.

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.


عصاة يستحقون العقوبة ، والغفران لمن يستحق العقوبة إنما يكون من العزيز أي القاهر الغالب الذي لا يعترض على أمره ، إذ العزيز مأخوذ من عز إذا غلب ، ثم لما ذكر أن المغفرة للمذنب إنما تكون من العزيز الغالب الذي لا اعتراض على أمره ناسب زيادة الحكيم دفعا لما يتوهم من أن العفو عن المستحق خال عن الحكمة ، فذكر الحكيم إشارة إلى أن فعله ذلك لحكمة وسر يراعى قهرا وعدلا ، فكأنه يقال : إن تغفر لهؤلاء المذنبين فأنت أهل لذلك ؛ إذ لا اعتراض عليك لعزتك ، ومع ذلك ففعلك لا يخلو عن حكمة ولو أخفيت عن الخلق.

(ويلحق بها) أي ويلحق بمراعاة النظير أمر نسبته للمراعاة كنسبة إيهام التضاد للطباق ، وذلك الأمر هو أن يجمع بين معنيين غير متناسبين في أنفسهما لعدم وجود شيء من أوجه التناسب من تقارن أو علية أو دلالة أو نحو ذلك ، ولكن عبر عنهما بلفظين بينهما تناسب باعتبار أصل استعمالهما في معنيهما ، ولو لم يقصد المعنيان المتناسبان في الحالة الراهنة وذلك (نحو) قوله تعالى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (١) أما تناسب الشمس والقمر فظاهر ، وقد تقدم ولم يقصد التمثيل باعتبارهما فقط ، ولكن قصد التمثيل باعتبارهما مع النجم ، إذ النجم في أصل معناه المتبادر يناسب الشمس والقمر ؛ لأنه يقترن معهما في الخيال لكونه جسما نورانيا سماويا ففيه باعتبار معناه الأصلي المتبادر مناسبة ، وأما باعتبار المراد منه في هذا الاستعمال فلا يناسبهما ، إذ هو النبات الذي لا ساق له ، والشجر ما له ساق مما ينبت في الأرض والمراد بسجودهما انقيادهما لما يراد منهما ، فكأنهما خاضعان مستسلمان بالقول والفعل لما يراد منهما.

(و) لأجل أن معنى هذا القسم في الحالة الراهنة لا يناسب ، وإنما يناسب باعتبار أصل المعنى الغير المناسب (يسمى إيهام التناسب) لتخيل الوهم فيه المناسبة باعتبار ما يتبادر كما مر في إيهام التضاد ، ولذلك قلنا : إن نسبته من المراعاة كنسبة إيهام التضاد من المطابقة.

__________________

(١) الرحمن : ٥ ، ٦.


الإرصاد

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الإرصاد) أي : ما يسمى بالإرصاد والإرصاد في اللغة هو نصب الرقيب في الطريق ليدل عليه أو ليراقب من يأتي منها ، يقال رصدت ، أي : راقبت ، وأرصدته جعلته يرصد ، أي : يراقب الشيء (ويسميه) أي : ويسمي هذا الإرصاد (بعضهم التسهيم) والتسهيم جعل البرد ، أي : الثوب ذا خطوط كأنها فيها سهام ، وسيأتي قريبا وجه التسمية بكل من الاسمين.

(وهو) أي : والبديع المعنوي المسمى بالإرصاد والتسهيم (أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو من البيت ما يدل عليه) أي : أن يجعل قبل العجز مما ذكر ما يفهم منه ذلك العجز فما يدل نائب فاعل يجعل ، ثم لما كان ليس من شرطه أن يجعل هنالك ما يفهم به العجز ولو توقف ذكر الفهم على معرفة الروى ، فأحرى إذا وجد هنالك ما يفهم به المقصود ولو لم يعرف الروى زاد قوله (إذا عرف الروى) أي : الشرط في كونه إرصادا هو أن يفهم مما جعل هنالك العجز ، ولو توقف الفهم على معرفة الروى والبيت معلوم ، والفقرة ما هو من النثر بمنزلة البيت من الشعر في كونه يلتزم في ختم ما بعده ما التزم فيه ، والروى هو الحرف الملتزم في ختم الأبيات ، أو الفقر وأصل الفقرة عظم الظهر ، ثم استعير لحلي يصاغ على هيئة عظم الظهر ، ثم استعير لكلام لو ضم إليه غيره التزم في المضموم الحرف الآخر الكائن في المضموم إليه ، ولذلك قلنا : إنها بمنزلة البيت من الشعر ، وتسمى كل قطعة مما التزم آخره ذلك الحرف فقرة ، فقول الحريري : هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه فقرة ، وقوله : ويقرع الأسماع بزواجر وعظه فقرة أخرى ، إذ كل منهما بمنزلة البيت فيما ذكر ، والسجع هو الكلام الملتزم فيه حرف آخره فهو قريب من الفقرة ، أو هو نفسها في المصدوق شبه بحلي يطبع بالجواهر فأضمر التشبيه في النفس استعارة بالكناية وأضاف إليه الطبع الذي هو من لوازم المشبه به ، وقرع الأسماع بزواجر الوعظ أسماع الموعظة على وجه محرك للمقصود ، ومن أجل أن الشرط هو أن يجعل هنالك ما يفهم العجز ولو مع الحاجة إلى معرفة الروي ، كان من الإرصاد قوله


تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١) فقد عرف أن العجز هو" يختلفون" من معرفة الروي ، وأنه نون بعد الواو كما كان ذلك قبل هذه الآية وفيما بعدها ، ولو لا تلك المعرفة لتوهم أن العجز هو" فيما فيه اختلفوا" ليطابق قوله : " فاختلفوا" لكن معرفة الروى أعانت على ذلك ، والمراد بالعجز هنا في البيت القافية فيه وهي الكلمة الأخيرة منه وقيل هي من المحرك السابق لساكنين وقعا آخرا وأما العجز من الفقرة فهو ما يماثل القافية من الشعر ومن الإرصاد قوله :

أحلت دمي من غير جرم وحرمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي (٢)

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بحرام

فإنه لو لا معرفة الروى ، ومعرفة أن القافية على وزن فعال لتوهم أن العجز هو أن يقال بمحرم مكان الحرام ؛ لأنه المناسب لقوله : بمحلل ولقوله أحلت وحرمت ، وبهذا علم أن المراد بمعرفة العجز معرفة صيغته وما يختم به ، كما في هذا المثال ، وأن المعرفة قد لا يكفي فيها الروى ؛ لأن الدلالة إنما تمت بمعرفة صيغة القافية ، وأما معرفة مادته في الجملة فلا تكفي ، اللهم إلا أن يكون ثم صيغ يقبلها المحل ، ولم يدل الدليل على مخصوص منها فيكفي المشترك بين تلك الصيغ ، وإنما قلنا : أن المقصود هنا الصيغة ؛ لأنه قد عرف من قوله كلام أن الروي ميم ، وعرف من قوله : أحلت وحرمت وليس الذي حرمته أن مادة العجز من التحريم ، ولم يكف ذلك في كونه إرصادا عندهم هنا لاحتمال أن تكون صيغة العجز أن يقال : بمحرم ، وعينت صيغة القافية الأولى أن الذي يقال هو بحرام لا بمحرم ، فالصواب على هذا أن يقال : إذا عرف الروى أو مع معرفة صيغة القافية أو ما يشبهها من النثر ، كذا قيل : ولك أن تقول : اقتصار المصنف في

__________________

(١) يونس : ١٩.

(٢) البيت في الإيضاح ص (٢٩٧) بتحقيق د / عبد الحميد هنداوي ، ينسب للبحترى.


المعرفة على الروى صحيح ؛ لأن معرفته تستلزم معرفة ما يلازمه ، وذلك كاف في معرفة العجز ؛ لأن المراد معرفة مادة الروى وما يلازمه كما تقدم في كلام وحرام ؛ لأن الألف لازمة ، وأما معرفة خصوص الصيغة من كل وجه فليس بمطلوب على ما ننبه عليه بعد فتأمله.

ووجه تسمية ما يدل على العجز إرصادا ظاهر ؛ لأن الإرصاد كما تقدم نصب المراقب على الطريق ليدل عليه ، أو على ما أتى منه ، وما يدل على العجز نصب ليدل على صيغته وختمه ، وأما وجه تسميته تسهيما فلأجل أن ما وضع كذلك مزيد في البيت أو الفقرة ملازم له ليزينه بدلالته على المقصود من عجزه ، فصار بمنزلة الخطوط في الثوب المزيدة فيه لتزينه ، ثم مثل للإرصاد في الفقرة فقال : وذلك (نحو) قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) فإن مادة العجز دل عليها قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) إذ يفهم منه بعد قوله (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ) أن العجز هو من مادة الظلم ؛ إذ لا معنى لقولنا مثلا : وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم ينفعون أو يمنعون من الهلاك أو نحو ذلك ، ويعين كون المادة من الظلم مختومة بنون بعد واو معرفة الروى الكائن فيما قبل الآية ، إذ قبلها (٢)(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣) فقد ظهر أن الفقر رويها نون قبله واو أو ياء ، وذلك يدل بعد معرفة المادة أنها مختومة بنون قبلها واو أو ياء ، وبه يعلم كما تقدم أنه لا يتعين خصوص صيغة العجز ، وأن الروى

__________________

(١) العنكبوت : ٤٠.

(٢) الذى قبل الآية التى ذكرها المصنف قوله تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ ..) الآية. ولكن المصنف خلط بين آيتى النحل والعنكبوت ، وآية النحل هي : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.)

(٣) النحل : ٣٠ : ٣٢.


مع ما يلازمه يكفي في فهم الصيغة ، وإنما قلنا لا يتعين ؛ لأنه لو قيل في غير القرآن مثلا بعد الفقرة السابقة : ولكن كانوا أنفسهم ظالمين لكفى ولكان من المعلوم بالإرصاد ؛ لأن الياء والواو يتعارضان في القافية وما يناسبها من الفقرة ، ومثل للإرصاد في البيت فقال (و) ذلك (نحو قوله :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (١)

فإن قوله : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما : يدل على أن مادة القافية من معنى الاستطاعة المثبتة ؛ إذ لا يصح أن يقال : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما لا تستطيع أو جاوزه إلى كل ما تشتهي أو إلى فعل ما تعرض لك إرادته ولو كنت لا تستطيعه أو نحو ذلك ، والذوق شاهد صدق في ذلك ، والروى يدل على أن تلك المادة تختم بالعين قبلها ياء ، وليس ذلك إلا لفظ تستطيع فلا يصح ، وجاوزه إلى ما تطيق لعدم وجود الروى فيه ، وتعين خصوص الصيغة هنا من كل وجه لعدم وجدان غيرها وعدم صلاحية سواها في المحل ، ولا إشكال في ذلك.

المشاكلة

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (المشاكلة) أي النوع المسمى بالمشاكلة (وهو) أي : وذلك النوع من البديع المعنوي المسمى بالمشاكلة هو (ذكر الشيء بلفظ غيره) أي : ذكر المعنى ملتبسا في ذلك الذكر بالإتيان بلفظ غير ذلك المعنى ، فالباء في" بلفظ" للملابسة ، ولا يخفى أن تعلق الذكر بالمعنى كما هنا صحيح من باب نسبة ما للدال للمدلول ، وخرج بقوله : بلفظ غيره الذكر المتعلق بالحقيقة ، ودخل فيه جميع أنواع المجاز ؛ لأن الذكر فيها واقع في معانيها في ألفاظ غيرها على ما تقدم من البحث في الاستعارة بالكناية.

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٩٧) وهو منسوب لعمرو بن معد يكرب.


قوله (لوقوعه في صحبة غيره) يتعلق بذكر ، أي : ذكره لأجل وقوعه .. الخ ، أو وقت وقوعه ، وذلك كما لو قيل لك : أسقيك ماء ، فقلت : بل اسقني طعاما ، فقد ذكرت الإطعام بلفظ السقي لوقوعه في صحبة السقي ، ومعنى الوقوع في صحبة الغير أن ذلك الشيء وجد مصاحبا للغير ، بمعنى أنه ذكر هذا عند ذكر هذا كما في المثال ، أو عند حضور معناه ، فشملت الصحبة الذكرية والصحبة العلمية ؛ لأنها في التقدير كالمذكورة ، وإلى ذلك أشار بقوله (تحقيقا أو تقديرا) أي : ذكره بلفظ الغير لوقوعه في صحبة ذلك الغير صحبة تحقيق بأن يذكر عند ذكره ، أو صحبة تقدير للعلم به فصار مقدر الذكر كالمذكور ، وإذا كان معنى الوقوع في الصحبة ما ذكر خرج جميع أنواع المجاورة ؛ لأن شيئا منها لا تكون علة ذكره وقوعه في صحبة الغير ذكرا أو تقديرا ، أما ما سوى المجاز الذي علاقته المجاورة كالظرف مع المظروف ، والملازمة كالجزء مع الكل فظاهر ، وأما الذي علاقته المجاورة أو الملازمة ، فليس العلة فيهما صحبة الذكر ، بل صحبة متقررة قبل الذكر ، هذا إن جعلت اللام في" لوقوعه" للتعليل ، وإن جعلت توقيتية كما تقدم أيضا فالإخراج حينئذ أظهر ؛ لأن شيئا منها ليس من شرطه أن يذكر وقت صحبته للغير ، ولهذا قيل المشاكلة ليست من الحقيقة ولا من المجاز ، وقيل : إنها من المجاز ؛ لأن العلاقة الحاصلة بالصحبة الذكرية والتقديرية ولو لم يذكرها القوم يؤخذ اعتبارها من المجاورة ، وكون علاقة المجاز لا بد فيها من التقدم إنما ذلك في الأغلب ، أو نقول سبقت هنا أيضا فإن قصد الإتيان به وإيقاعه في صحبة غيره سابق على ذكره بلفظ غيره مصاحبا له وهذا هو الذي يراعيه من يقول إن فيه مجاورة المقارن في الخيال ، وإلا فلا يخفى أن ليس هناك لزوم خيال سابق عن القصد والذكر ، والتحقيق أن المشاكلة من حيث إنها مشاكلة ليست حقيقة ولا مجازا ؛ لأنها مجرد ذكر المصاحب بلفظ غيره لاصطحابهما ، ولو كان نحو هذا القدر يكفي في التجوز ؛ لصح التجوز في نحو قولنا : جاء زيد وعمرو بأن يقال جاء زيد وزيد مرادا به عمرو لوقوعه في صحبة الغير ولا يصح ، بل المشاكلة أن يعدل عن لفظ المعنى إلى لفظ غيره في أماكن يستظرف فيها ذلك ، ولهذا قيل : إنها يجوز أن يكون لفظها مجازا ، وأن لا يكون كذلك فتجامعه


وليست نفسه ، وكونها مجازا إما باعتبار حكاية اللفظ المجازي عن المصاحب ، كما تقول لمن تريد أن تطلب منه مالا وقد قال لك : رأيت اليوم أسدا بلبده في الحمام أعطني أسدا بلبده من مالك تريد أعطني شيئا طائلا من مالك من غير أن تعتبر أن المعبر عنه في لفظك أنت بالأسد شبهته بشيء أو باعتبار تشبيهه بالمذكور ، كأن تعتبر أن المال المطلوب بمنزلة الأسد في المهابة والفتك في الأنفس والقلوب ، فيكون لفظ الأسد مجازا باعتبار تشبيهه المال المراد بالأسد الحقيقي ، ومشاكلة باعتبار صحبته من عبر عنه بالأسد ، وكذا لو اعتبرت في المثال الآتي أن الطبخ الحقيقي شبه به النسج في الرغبة والحاجة ، فإنه يكون مجازا باعتبار التشبيه ، ومشاكلة باعتبار المصاحبة ، ولو لم تعتبر تجوزا لم يكن حقيقة بل مجرد مشاكلة ، ولا بد من قرينة إرادة التجوز ، وقوله في تعريف المشاكلة : ذكر الشيء بلفظ الغير لوقوعه في صحبة ذلك الغير ظاهره اختصاص المشاكلة بذكر نفس المصاحب ، وليس كذلك ، بل تجري المشاكلة بلفظ ضد المذكور وتجري بلفظ مناسبة ، أما جريانها في الضد فكقولك ـ لمن قال لك أنت سبط الشهادة أي : مستمر حفظها أو قبولها دائما ـ : لم تجعد تلك الشهادة عني ، بمعنى : أني حافظ لشهادتي ليست قاصرة عن إدراكي ، كما روى أن القاضي شريحا قال مثل الكلام الأول لرجل فقال هو مثل الثاني ، فقد عبر بسبوطة الشهادة الذي أصله انطلاق الشعر وامتداده عن استمرار الشهادة امتداد حفظها ، أو زمانها مطلق الامتداد الصادق بامتداد أمد قبول الشهادة أو أمد حفظها ، وعبر عن قصورها بضد السبوطة وهي الجعودة تعبيرا بالملزوم عن اللازم ؛ لأن الجعودة تستلزم القصور ، فلذلك قيل : لو لا مصاحبة السبوطة ما حسن ذكر الجعودة ، وأما جريانها في المناسب فكما ورد أن رجلا قال لوهب أليس قد ورد أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة فقال وهب : بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بالأسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك فقد عبر عن لا إله إلا الله بالمفتاح ، وعبر عن الشرائع والأعمال المعتبرة في الإسلام بالأسنان مشاكلة بالمناسب ، إذا الأسنان تناسب المفتاح ، وقد عرفت أن التعبيرين في الأولين مجاز ، وكذا في الثانيين ولذا قيل : إن المشاكلة بالضد والمناسب لا تكون إلا مع تجويز ، ومن أجل ذلك اقتصروا في ذكرها على الأمر الأعم


الجاري مطلقا ، وهو المشاكلة بلفظ المصاحب ، وقد أطنبت شيئا ما في هذا الموطن ، لقلة الكلام في المشاكلة على مثل هذه المباحث فيها والله الموفق بمنه وكرمه.

ولما قدم أن المشاكلة هي ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته معه ، ومن المعلوم أن اصطحاب المعنيين يستلزم اصطحاب اللفظيين ، وقد يسمى اصطحاب اللفظيين المعبر بهما صحبة تحقيق ، واصطحاب المقدر والمذكور اصطحاب تقدير فهما قسمان أراد أن يمثل لهما معا فأشار إلى مثال الأول بقوله (فالأول) أي القسم الأول من المشاكلة ، وهو ما تكون فيه الصحبة التحقيقية (كقوله : قالوا اقترح شيئا) أي اطلب ما شئت من المطبوخ ، وتحكم فيه علينا أخذا من قولهم اقترحت الشيء عليه إذا سألته إياه من غير روية ، أي : تأمل في بغية السؤال وعدمها ، بل طلبته على سبيل التكليف والتحكم على المسئول وقيل إنه مأخوذ من اقترح الشيء إذا ابتدعه وأوجده أولا ولا يخفى أن هذا المعنى غير مناسب هنا ؛ لأن قوله (نجد لك طبخه) أي نحسن لك طبخ ذلك المسئول مناف له إذ على تقديره كذلك يصير المعنى : ابتدع شيئا وأوجده نجد لك طبخه ولا معنى لإيجاد المطبوخ ليطبخ ، وإن حمل على معنى أوجد أصله ليطبخ نافاه السياق أيضا ؛ لأن المراد اطلب ما تريد من الأطعمة المطبوخة تعطاه ، وليس المراد ائتنا بطعام نطبخه لك على أن ابتداع أصل الطعام وإنشاؤه لا معنى له هنا.

(ونحوه) أي : نحو هذا المثال في كونه مشاكلة تحقيقا قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(١) أي : ما في ذاتك وإطلاق النفس على ذات القديم تعالى لا يصح إلا للمشاكلة لوقوعه في صحبة من له النفس حقيقة مع ذكرها لفظا ، وهذا بناء على أن النفس مخصوصة بالحيوان أو بالحادث الحي مطلقا ، ويدل عليه قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢) وقيل إن النفس في الآية عام مخصوص بمن يقبل الموت من الحوادث ، وإلا فالنفس تطلق على ذاته

__________________

(١) المائدة : ١١٦.

(٢) آل عمران : ١٨٥.


تعالى أخذا من قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(١) وعليه فلا مشاكلة ؛ لأن اللفظ أطلق معناه على معناه لا على غيره لمصاحبته لذي اللفظ.

ثم أشار إلى مثال الثاني بقوله (والثاني) وهو ما يكون مذكورا بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير تقديرا (نحو) قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (٢) (وهو) أي : قوله صبغة الله (مصدر) على وزن فعلة بكسر الفاء وسكون العين من صبغ كالجلسة من جلس ومعلوم أن فعلة بكسر الفاء للهيئة أي : لحالة مخصوصة يقع عليها مطلق المصدر ، فالصبغة لمخصوص من مطلق المصدر وسنبين ذلك (مؤكد) ذلك المصدر الذي هو صبغة (ل) قوله (آمنا بالله) لدلالته على لازم الإيمان (أي : تطهير الله) بمعنى أن الصبغة أطلقت على التطهير بالإيمان من رذيلة الكفر ، وإنما كان التطهير لازما (لأن الإيمان يطهر النفوس) كما ذكرنا من رذيلة الكفر ، وينفي أسبابه عنها من الجهل والكبر والعداوة لأهله ، فلما كان الإيمان المدلول لآمنا متضمنا أي : مستلزما للتطهير كان صبغة الدال على التطهير مؤكدا لآمنا لدلالته على لازمه البين ، ومؤكد اللازم مؤكد للملزوم ، وهو معمول حينئذ لآمنا لتضمنه باللزوم معناه ، أو معمول لفعل من لفظه ، أي : صبغنا الله صبغة ، ولا ينافى ذلك كونه مؤكدا لآمنا من جهة المعنى ، ثم إن إطلاق مادة الصبغ على التطهير من الكفر مجاز تشبيهي ، وذلك أنه شبه التطهير من الكفر بالإيمان بصبغ المغموس في الصبغ الحسي ، ووجه الشبه ظهور أثر كل منهما على ظاهر صاحبه ، فيظهر أثر التطهير على المؤمن حسا ومعنى بالعمل الصالح والأخلاق الطيبة ، كما يظهر أثر الصبغ على صاحبه ، وقد علم أن أصل التطهير

__________________

(١) الأنعام : ٥٤.

(٢) البقرة : ١٣٦ ـ ١٣٨.


التنقية من الأثر المحسوس ، لكن كثر استعماله في المعاني حتى صار حقيقة عرفية ، فباعتبار الأصل يكون إطلاق الصبغ على معنى التنزيه عن رذيلة الكفر مجازا مرتبا على مجاز ، وباعتبار كثرة الاستعمال يكون مجازا محضا عن أصل ، فلفظ الصبغة إنما عبر به عن معنى التطهير على وجه التجوز ، ولا ينافي ذلك كونه مشاكلة باعتبار صحبته لما يعبر به عنه حقيقة أو مجازا كما تقدم ، والصحبة هنا تقديرية ؛ إذ لم يذكر لفظ الصبغة لمعنى آخر فيكون اللفظ المذكور للمشاكلة الذكرية.

ولما كانت الصحبة التقديرية تحتاج إلى ما يدل عليها أشار إلى ما يدل على المقدر ببيان أصل النزول المصحح لأصل هذا التعبير فقال (والأصل فيه) أي في نزول الآية المشتملة على التعبير بلفظ الصبغة ، أو الأصل في التعبير بلفظ الصبغة في الآية المنزلة ، ومآل الاحتمالين واحد (أن النصارى) أي : الأصل فيما ذكر أن النصارى (كانوا يغمسون أولادهم) أي يدخلونهم (في ماء أصفر) يوكل به القسيس منهم ، ويضع فيه الملح لئلا يتغير بطول الزمان فتغتر عامتهم بعدم التغير ، ويقولون : إن ذلك من بركة القسيس كما يغترون بإظهاره الزهد ، فجعلوا استغفاره موجبا للمغفرة ، وفوضوا إليه أمر النساء فيباشر أسرارهن إن شاء وهم راضون بذلك أخزى الله فعلهم.

(يسمونه) أي : يسمون ذلك الماء (المعمودية ، ويقولون : إنه) أي الغمس في ذلك الماء (تطهير لهم) من غير دينهم المحمود عندهم ـ لعنة الله عليهم ـ فإذا فعل ذلك أحدهم ، أي : غطس ولده في ذلك الماء بين يدي القسيس ، قال الآن صار نصرانيا حقا وتطهر من سائر الأديان ، ولما كان التغطيس إنما هو في الماء الأصفر الذي من شأنه أن يغير لون المغطس ناسب أن يسمى ذلك التغطيس بهيئة من الصبغ لكونه بماء مخصوص بصبغ لغرض مخصوص ، فكأنهم قالوا الصبغة بذلك الماء ، وإطلاق الصبغة المقدرة على التغطيس مجاز سواء أريد نفسه إذ لا يصبغ حقيقة ، أو أريد لازمه عندهم ، وهو التطهير من سائر الأديان ، وكذا التعبير بالصبغة عن التطهير بالإيمان مجاز وهو هيئة مخصوصة ؛ لكونه تطهيرا مخصوصا عن شيء مخصوص ، ولما كان هذا حالهم ونزلت الآية للرد عليهم في ذلك صار التعبير بالصبغة عن الإيمان الحقيقي للرد عليهم إيمانهم التغطيسي


وتطيرهم الكفر مشاكلة ؛ لأنه يقدر هذا اللفظ كأنه صادر منهم بقرينة النزول في شأن الرد عليهم فيما يستحق أن يسمى صبغا ، فهنا مصاحبة المعنيين ومصاحبة اللفظيين إلا أن أحدهما مقدر وهو كالمذكور كما بينا ، فالآية على هذا نزلت إلى المؤمنين ، وأمروا أن يقولوا للنصارى قولوا مضمونها ، أي : إن شئتم التطهير الحقيقي والإيمان المعتبر الذي يستأهل أن يسمى تطهيرا ، فقولوا : صبغة الله ، أي : قولوا أيها النصارى آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا وطهرنا به تطهيرا مثل تطهيرنا ، أي : فإذا قلتم ذلك واعتقدتموه فقد أصبتم وإلا فأنتم في ضلال ، فيكون التعبير للمشاكلة لتقدير المراعى فيها ، ولو لم يذكر كما دل على ذلك كون النزول لأجل الرد في ذلك المعنى المناسب أن يذكر بلفظ الصبغ هذا على أن الآية نزلت ؛ ليخاطب المؤمنون الكافرين بها بمعنى أمروا أن يقولوا للكافرين : قولوا مضمونها ، وأما على إنها خطاب للمؤمنين ، فالمعنى أن المسلمين أمروا أن يقولوا : صبغنا الله تعالى صبغة بالإيمان المطهر ، لا مثل صبغتكم أيها الكفرة بالماء الأصفر التي سميتموها تقديرا من غير الدين المحمود لديكم ، فيكون النزول لأمر المؤمنين بالرد على الكفرة بالحق البين ، وعبر عن ذلك الحق بالصبغ للمشاكلة للفظ قدر وجوده لمناسبة التعبير به كما تقدم ، والحاصل أن النصارى لما اقتضى فعلهم صبغا ونزلت الآية للرد عليهم عبر عن المراد بالصبغة للمشاكلة التقديرية ، حيث صاحب المعنى المستحق للتعبير بالصبغ ولو لم يقع ، إذ هو مقدر فهو كالمذكور ، فكانت الصحبة تقديرية وهذا مثل ما لو رأيت إنسانا يغرس شجرا وقلت لآخر اغرس إلى الكرام كهذا وتريد باغرس اصنع المعروف إلى الكرام ، وعبرت عن الصنع بالغرس لمصاحبته للغرس الحاضر ، ولو لم يذكر ، فكأنك قلت : هذا يغرس الأشجار فاغرس أنت الإحسان مثله ، فإن قدرته مجازا للتشبيه في رجاء النفع كان مجازا للتشبيه ومشاكلة للصحة ، وإن لم تقدره كان مشاكلة محضة وهذا معنى قوله (فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله) أي : عبر في الآية بلفظ صبغة الله عن الإيمان بالله كما تقدم (للمشاكلة) أي : مناسبة المعنى المعبر عنه للمعنى الذي يستحق أن يعبر عنه بلفظ الصبغة ، وهو تغطيس النصارى أولادهم ، أي : لمشاكلة هذا المعنى لذلك المعنى في اللفظ


المقدر والمذكور ؛ لأن المعنى مصاحب فكأن الذي يستحقه وهو الصبغة مذكور ؛ لاقتضاء المقام تقديره ، وإنما قلنا : إن هنا صحبة الصبغة المذكورة للصبغة المقدرة (بهذه القرينة) أعني : بقرينة سبب النزول ، أعني : فعل النصارى وهو تغطيسهم أولادهم ؛ لأنه يستحق كما تقدم أن يعبر عنه بلفظ الصبغة مجازا أو حقيقة إن صحت ، فقران النزول لهذا الفعل لقصد الرد عليهم فيه يفيد مصاحبة الصبغة المذكورة للمقدرة لوجود المعنى الذي يستحق ذكر لفظها ، فكأنه ذكر ؛ إذ المقدر كالمذكور ، وقد أطنبت أيضا في تقرير المشاكلة التقديرية ؛ لأن المصنف لم يبين جهتها لمزيد البيان.

وتسمية المشاكلة سواء كانت لفظية أو تقديرية بديعا معنويا بالنظر إلى أن لها تعلقا بالمعنى المصاحب إذ هي ذكر ذلك المعنى بلفظ غيره للصحبة بين المعنيين ، فتلزم الصحبة بين اللفظيين ، فالقصد بالذات إلى تحسين المعنى المصاحب بالتعبير عنه بما يشاكل التعبير عن الآخر ، وتناسب الطباق ومراعاة النظير السابقين من جهة أن في كل مقابلة شيء شيئا في الجملة ، ومن ينظر إلى أن حاصلها إتيان بلفظ مشاكل لآخر مع اختلاف معناهما يبحث بأنها لفظية كالجناس بين اللفظيين ، والتحقيق أن للمعنى دخلا فيها ؛ إذ لو لا مصاحبة المعنى للمعنى وقصد تحسينه لم تتصور وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.

المزاوجة

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (المزاوجة) أي : النوع المسمى بالمزاوجة (وهي) أي : المزاوجة (أن يزاوج) بفتح الواو على صيغة المبني للمفعول ، ويحتمل أن يكون بكسر الواو على صيغة المبني للفاعل ، وعليه يكون الفاعل هو ضمير المتكلم أو الناطق ، أو نحو ذلك ، وعلى أنه مبني للمجهول يكون النائب ضميرا يعود للمصدر المفهوم من الفعل ، والمعنى هي أن يزاوج الزواج ، أي : أن توقع المزاوجة ؛ لأن إنابة المصدر إنما تفيد وقوع ذلك المصدر عند تعلق الغرض به كما قالوا : حيل بين العير والنزوان ، فإن حيل فعل مبني للمجهول من الحيلولة ، وبين لا تصح إنابته لعدم تصرفه فقدر أن النائب هو ضمير المصدر ، والمعنى وقعت الحيلولة بين العير بفتح العين وهو


الحمار ، والنزوان وهو نزو الذكر ، أي : وقوعه على الأنثى ، ويحتمل على قول : أن يكون النائب عن الفاعل هو الظرف ، وإن كان غير متصرف وهو قوله (بين معنيين) أي : المزاوجة هو أن يقارن ويجمع بين معنيين واقعين (في الشرط والجزاء) أي : وقع أحد ذينك المعنيين المزواج بينهما في مكان الشرط بأن جيء به بعد أداته ، ووقع الآخر في موضع الجزاء بأن ربط مع الشرط وسيق جوابا له ، ومعنى الزواج في المعنيين الواقع أحدهما شرطا والآخر جزاء أن يجمع بينهما في بناء معنى من المعاني على كل منهما ، فقد ازدوجا أي اجتمع ذلك الشرط وذلك الجزاء في ذلك المعنى.

ثم مثل للمزاوجة فقال (كقوله : إذا ما نهى الناهي) (١) أي : إذا نهاني الناهي عن حبها ، وزجرني الزاجر عن التوغل في ودها (فلج بي الهوى) أي إذا نهيت عن الحب ، فترتب على النهي لجاج الهوى بي أي لزومه لي ، وأصل اللجاج كثرة الكلام والخصومة والتزامها وإدمانها ، ثم عبر به عن مطلق اللزوم الصادق بلزوم الهوى مجازا مرسلا من التعبير بالملزوم عن اللازم ، بل من التعبير بالمقيد عن المطلق (أصاخت) أي : استمعت (إلى الواشي) أي : النمام الذي يشي حديثه ، أي : يزينه ويأتي به على وجه يقبل حين ينقله على وجه الإفساد بين الناس وبين الأحباء خصوصا ومعنى استماعها لحديث الواشي قبولها له ، لأنه يعبر بالاستماع عن القبول لاستلزامه إياه غالبا ، وعن عدم القبول بعدم الاستماع لاستلزامه إياه كذلك.

(فلج بها الهجر) أي : استمعت فترتب على استماعها وقبولها لحديث الواشي لجاج الهجر بها ، أي : لزوم الهجر ، وهو التباعد عن الوصال ، فنهى الناهي شرط ترتب عليه لزوم الهوى وإصاخة الواشي جوابه رتب عليه لزوم الهجر لها ، فقد صدق أن هذا الشرط الذي هو نهي الناهي ، وجوابه الذي هو إصاختها للواشي معنيان وقعا ، أي : وقع أحدهما في مكان الشرط ، أي : بعد أداة الشرط ، فصار شرطا ، ووقع أحدهما في مكان الجواب بربطه بالشرط فصار جوابا ، وقد زاوج أي : جمع بينهما في معنى مرتب عليهما

__________________

(١) البيت فى الإيضاح ص (٢٩٩) ، وهو منسوب إلى البحترى ، وانظر ديوانه ص (٨٤٤) والتبيان للطيبى (٢ / ٤٠٠).


معا ، وهو لزوم شيء لهما معا ؛ لأنهما اشتركا في هذا المعنى ، وهو كاف في الاجتماع والازدواج ، وإن كان اللازم للشرط هو الهوى واللازم للجواب هو الهجر.

وقد تبين أن معنى المزاوجة بين المعنيين في الشرط والجزاء أن يجمع بين الشرط والجزاء في ترتب لازم من اللوازم عليهما معا ، وليس معناها أن يزاوج أي : أن يقرن بين معنيين واقعين في الشرط ، وأن يقرن بين معنيين واقعين في الجزاء كما هو ظاهر عبارة المصنف ، بل أن يقرن بين معنيين وقع أحدهما في الشرط ، والآخر في الجزاء في لازم من اللوازم بمعنى أنه يجمع بين الشرط والجزاء في معنى واحد ؛ إذ لو كانت المزاوجة على المعنى الأول بأن يكون معنى المزاوجة في البيت أنه قرن بين معنيين في الشرط ، وهما نهي الناهي ولجاج الهوى ، وبين معنيين في الجزاء وهما إصاختها إلى الواشي ، ولجاج الهجر لزم أن قولنا : إذا جاءني زيد فسلم علي أجلسته وأنعمت عليه من المزاوجة ؛ لأنه قرن فيه بين معنيين في الشرط ، وهما مجيء زيد وسلامه ، وبين معنيين في الجزاء ، وهما إجلاسه والإنعام عليه ؛ لأنه يصدق الحد حينئذ على نحو هذا المثال ، ولا قائل بأن نحو هذا من المزاوجة فوجب الحمل على المعنى الأول ؛ إذ هو المأخوذ من كلام السلف من أهل البيان ، ولا يخفى ما في ترتب لجاج الهوى على النهي من المبالغة في الحب لاقتضائها إن ذكرها ولو على وجه العتب يزيد حبها ويثيره كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم (١)

وما في ترتب لزوم الهجران على وشي الواشي من المبالغة في ادعاء كون حبها على شفا إذ يزيله مطلق الوشي فكيف يكون الأمر لو سمعت أو رأت عيبا؟ كما قال :

ولا خير في ود ضعيف تزيله

سوابق وهم كلما عرضت جفا

والمبالغتان مما يستحسن في باب كل منهما ، فمن شأن العاشق أن يوصف بمثل ما ذكر ، والمعشوق أن يوصف بالعكس تحقيقا لمعنى العشق ، وإلا كان مكافأة ومجازاة في الود ، فلا يكون من العشق في شيء قيل : إن فيما بين الشرط المذكور والجزاء معنى القلب ، إذ لجاج الهوى لزوم شيء للعاشق ، ولجاج الهجر لزوم عكسه للمعشوق ، ففي

__________________

(١) البيت لأبى الشيص فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وانظر الإشارات ص (٣١٤).


أحد الطرفين ما من العاشق للمعشوق ، وفي الآخر ما من المعشوق للعاشق ، ولا يخفى ما فيه من التكلف لعدم تبادره ثم إن الضمير في أصاخت وفي لج بها قيل : إن الأولى تذكيره فيهما ليطابق البيت ما قبله وهو قوله :

كأن الثريا علقت بجبينه

وفي نحره الشعرى وفي خده البدر

بتذكير الضمائر.

العكس

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (العكس) أي : النوع المسمى بالعكس والتبديل (وهو) أي : النوع المسمى بالعكس هو (أن يقدم في الكلام جزء) على جزء آخر كان في ذلك الكلام مع ذلك المقدم (ثم يؤخر ذلك) الجزء المقدم على ذلك الجزء المؤخر أولا والعبارة المؤدية لمعناه على وجه الإيضاح قول بعضهم وهو أن تقدم في الكلام جزءا ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت ، فإن هذه العبارة مصرحة بأن المقدم ثانيا هو الذي كان مؤخرا على ذلك المقدم عليه ، وهذا يقتضي تكرار الجزأين الواقع فيهما العكس بالتقديم والتأخير بخلاف عبارة المصنف ، فإنه لما لم يذكر أن المقدم عليه صير ثانيا مؤخرا عليه لم يقتض تكرار الجزأين على أن المقدم منهما قد أخر والمؤخر قدم ، فصدق كلامه على نحو عادات السادات هي أشرف العادات ؛ لأن الجزء في الكلام الذي هو العادات قدم أولا على السادات ، ثم أخر ثانيا عنه من غير إعادة لفظ السادات ، وهذا الكلام ليس من العكس في شيء ، وكذا نحو قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(١) فتخشى جزء قد تم ثم أخر ، وليس من العكس بل هو من رد العجز على الصدر ، وهو من البديع اللفظي ، كما يأتي بخلاف قول هذا ، ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت ، فإنه يقتضي أنك استأنفت للمؤخر أولا تقديما فيقتضي تكراره ، وهذا هو المتبادر ، وإن كان يمكن أن يقال : عادات السادات أشرف العادات قدمنا فيه ما أخرنا أولا ، بمعنى : أنا لما أخرنا لفظ العادات صار المؤخر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.


أولا وهو لفظ السادات مقدما ، وقد كان أولا مؤخرا لكن ليس هذا هو المتبادر من العبارة بل المتبادر أنا ذكرناه ثانيا مقدما ، ولذلك قلنا : إنها أصرح.

(ويقع) هذا العكس (على وجوه) أي : على أنواع (منها) أي : من تلك الأوجه (أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه) ذلك الطرف بمعنى أنا نعمد إلى المبتدأ مثلا ، وهو أحد طرفي الجملة الخبرية إذا كان ذلك المبتدأ مضافا لشيء فنجعله مضافا إليه ، ونجعل المضاف إليه أولا هو المضاف على أن هذا المضاف هو الطرف الآخر الذي هو الخبر ، فيصدق أنه وقع العكس في أحد طرفي الجملة باعتبار الآخر ومن لازمه اعتباره في كل من الطرفين وذلك (نحو) قولهم (عادات السادات سادات العادات) بمعنى : أن العادة الصادرة من أفعال من هو سيد من الناس هي العادة الحسنى التي تستأهل أن تسمى سيدة العوائد ، فلفظ العادات أحد طرفي هذا الكلام ، وهو المبتدأ منه ، وقد أضيف إلى لفظ السادات ، وقد وقع العكس بينهما بأن قدم منهما ما كان أولا مؤخرا وأخر ما كان مقدما فقدم العادات على السادات أولا ، ثم قدم لفظ السادات على العادات ثانيا ، فصار الطرف الأول الذي هو المبتدأ مضافا إليه في الخبر ، وصار المضاف إليه أولا هو المضاف الذي هو الخبر ، ولا يقال إن هذا العكس ينبغي أن يعد من البديع اللفظي ؛ لأن حاصله أن يقدم لفظ على لفظ ، ثم يؤخر ذلك اللفظ المقدم ، ويقدم ذلك المؤخر ؛ لأنا نقول : استتبع ذلك حدوث معنى آخر ، وبذلك صح الإخبار به عن الأول ، وحدوث معنى في عكس اللفظين يصح الإخبار به أو عنه ، أو التعلق به بما يستظرف وذلك ظاهر ، وقد تقدمت الإشارة لهذا.

(ومنها) أي : ومن الأوجه التي يقع عليها هذا العكس الذي هو نوع واحد من البديع المعنوي (أن يقع بين متعلقي فعلين) كائنين (في جملتين) فالفعل الواقع في جملتين لم يقع فيه نفسه تقديم ولا تأخير ، ولكن وقع فيما بين متعلقيه في الجملتين (نحو) قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) (١) فالفعل الذي هو يخرج هو هو في الجملتين ، وقد تعلق في الأولى بالحي الخارج من الميت ، مثل الدجاج

__________________

(١) الروم : ١٩.


الخارج من البيضة ، أو الإنسان الخارج من المني ، وتعلق في الثانية بالميت الخارج من الحي مثل البيضة الخارجة من الدجاجة ، وقد تقدم في أحد المتعلقين ما تأخر في الآخر ، والعكس إذ قدم الحي على الميت في المتعلق الأول ، وقدم ثانيا الميت على الحي في المتعلق الثاني ، وقوله : متعلقي فعلين الصواب أن يقول : متعلقي عاملين ؛ ليدخل في ذلك نحو قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) إذ مخرج عامل غير فعل.

(ومنها) أي : ومن الوجوه التي يقع عليها العكس الذي هو من البديع المعنوي (أن يقع) ذلك العكس (بين لفظين) موجودين (في طرفي جملتين) أي أحد اللفظين موجود في الطرف الأول من الجملة الأولى والثاني منهما موجود في الطرف الآخر منها ، ثم يقع عكس ذلك في الجملة الثانية فيوجد فيها أحد اللفظين في الطرف الذي لم يوجد فيه في الأول ، ويوجد اللفظ الآخر في غير ذلك الطرف وذلك (نحو) قوله تعالى (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (١) فهاتان جملتان في كل منهما لفظان هما الضميران أحدهما ضمير جمع الذكور وهو هم ، والآخر ضمير الإناث وهو هن ، وقد وجد ما للإناث منهما في الطرف الأول الذي هو المسند إليه من الجملة الأولى ، ووجد ما للذكور في الطرف الثاني الذي هو المسند من تلك الجملة وعكس ذلك في الجملة الثانية ، فوجد ما للذكور في الطرف الأول منها وما للإناث في الطرف الثاني منها كما رأيت ، فصدق أن العكس وقع بين لفظين كائنين في طرفي جملتين وذلك ظاهر. فإن قيل : مفهوم العبارة أن العكس يقع على أوجه وتلك الأوجه فسرها بوقوع العكس لقوله منها : أن يقع وهل هو إلا من باب وقوع الشيء في نفسه وهو فاسد قلت لا بل وقوع العكس أعم ، فوقوع مطلق العكس في وقوع مخصوص صحيح من باب وقوع الأعم في الأخص ، وقد تقدم غير مرة فافهم.

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.


الرجوع

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الرجوع) أي النوع المسمى بالرجوع (و) يؤخذ وجه تسميته من معناه إذ (هو العود) أي : الرجوع (إلى الكلام السابق) من المتكلم (بالنقض) أي : هو أن يرجع المتكلم إلى نقض الكلام السابق وإبطاله ، فالباء في بالنقض للمصاحبة ، أي : يرجع إلى الكلام السابق مستصحبا في رجوعه إليه نقضه وإبطاله ، ويحتمل أن تكون الباء للتعليل ، أي : يرجع إليه ؛ لأجل قصد نقضه بإتيانه بكلام آخر فيبطله ويشترط في كون الرجوع إلى نقض الكلام من البديع أن يكون ذلك النقض (لنكتة) كأن يفهم من السياق أن المتكلم لم يعد لإبطال الكلام الأول لمجرد كونه غلطا ، وإنما ذلك لإظهار التحسر والتحزن ، وكون العود دالا على التحسر والتحزن حتى يجعل لإفادته وتكون تلك الإفادة هي النكتة ، فتحقق بما تقرر مثلا أن الإنسان إذا كان متولها في الحب مغلوبا على عقله ربما يظن الشيء واقعا وليس بواقع ، ثم إنه قد يستفيق بعد الإخبار بغير الواقع المرغوب المظنون ، فيعود إلى إبطاله بالإخبار بالحقيقة ، فيظهر من ذلك أنه عائد إلى الصدق كرها ، وفي ضمن ذلك أنه متأسف على فوات ما رغب فيه ، وغيبه الحب عن إدراك خلافه ، فإذا دل الدليل على أنه لم يغب عن عقله حقيقة ، فهم من عوده أنه في منزلة المغيب بالحب المتأسف على ما فات ، فيفهم منه أنه أراد أن يظهر التحسر والتحزن على فوات ما أخبر به أولا وذلك (كقوله : قف بالديار التي لم يعفها) (١) أي : لم يستر آثارها (القدم) أي : قدم عهد أربابها ؛ لقرب وقت انتقالهم عن تلك الديار ، وهذا مرغوبه ؛ لأن قرب الأثر مما تستنشق منه رائحة المحبوب ، ويقرب به وقت الوصال ، ثم أضرب عن هذا مظهرا أنه توله في الحب حتى أخبر بغير الواقع للرغبة فيه ، وفي ضمن ذلك التحسر والتحزن على فواته ، وأنه ما عاد إلا كارها بدليل أن المتصور هو ذلك الأول المرغوب فهو المتأسف عليه ، فعاد إلى إبطاله متأسفا على فواته وفوات قرب الأحباب فقال (بلى) أي : عفاها لأن نفي النفي إثبات (وغيرها الأرواح) أي : غيرت آثارها الرياح ، فالأرواح جمع ريح ، ولما فتحت العين ردت إلى

__________________

(١) البيت لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص (١٤٥) ، وتهذيب اللغة (١٥ / ٦٧٢).


أصلها وهو الواو ؛ إذ يقال منه : روحته بالمروحة (و) غير آثارها (الديم) جمع : ديمة وهي السحابة ذات المطر الكثير ، سميت بذلك لدوامها غالبا ، فقد ظهر وجود النكتة في هذا العود ، وأنه إنما أراد أن يظهر به التحسر والتحزن والتوله كما قررنا ، وأن ذلك من جهة أنه كالمخبر بغير الواقع حقيقة وقصدا ، ثم أفاق بعض الإفاقة فنقض كلامه السابق رجوعا للصدق كرها ، فقال : بلى عفاها القدم وغيرها الأرواح والديم ، وعطف تغيير الأرواح والديم على عفو القدم من عطف المفصل ؛ إذ تغيير القدم إنما يكون غالبا بتغيير الأرواح والديم ، بخلاف ما لو أخبر بالفساد غلطا ثم عاد لإبطاله لمجرد كونه غلطا من غير أن يشتمل على نكتة ، فإنه لا يكون من الرجوع في شيء ، كما لو قيل : جاء زيد غلطا ، ثم قيل : لا بل جاء عمرو ، وقد يقال : النكتة فيما تقدم هي إظهار التوله في الحب حتى يخبر بما لا حقيقة له ، ولذلك عاد إلى إبطاله وهو الأقرب والأول لا يخلو من تكلف.

التورية

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (التورية) أي : النوع المسمى بالتورية أخذا من ورى بلفظه إذا أخفى مراده (ويسمى) هذا النوع (الإيهام أيضا) لأن فيه كما يظهر من معناه خفاء المراد وإيهام خلافه (وهو) أي : هذا النوع المسمى بالتورية والإيهام هو (أن يطلق لفظ له معنيان) في نفس الأمر أحدهما (قريب و) الآخر (بعيد ويراد) به حال الإطلاق (البعيد) من معنييه ، ولا بد أن تكون إرادة البعيد معتمدا فيها على قرينة خفية ، وأما إن كانت ثم قرينة ظاهرة صار المعنى قريبا بها ، وإن كان بعيدا في أصله فيخرج عن معنى التورية ، فإن لم تكن ثم قرينة أصلا لم يفهم إلا القريب ، فيبطل حكم الإرادة ، ويخرج اللفظ عن التورية أيضا ؛ إذ لو جوزناها بلا قرينة أصلا خرج لفظها عن قانون الاستعمال ، وهو إفهام المراد ، فإن قيل : المعنى البعيد في التورية مرجوح الاستعمال فلا يكون اللفظ فيه إلا مجازا ، وهذا المعنى موجود في كل مجاز فحينئذ كل مجاز يكون تورية ، وظاهر كلامهم التورية حقيقة مباينة للمجاز ، وإلا كان كل مجاز من البديع ، قلت : بعد تسليم أن المعنى البعيد لا يكون اللفظ فيه إلا مجازا لا يلزم منه اتحاد المجاز


والتورية ، فيكون اللفظ مجازا باعتبار إطلاقه على غير معناه مع وجود القرينة الصارفة له على الأصل ، ويكون تورية باعتبار كون المراد بعيدا مع خفاء القرينة لما تقدم أنا نشترط في كونه تورية خفاء القرينة ، فتلاقي التورية المجاز في مادة واحدة مع كونها غيره ، فإن ظهرت القرينة لم تلاقه أصلا على أن لنا أن نقول : أي مانع من أن يكون أحد معنيي المشترك بعيدا باعتبار الاستعمال ، ولو صح النقل بأن اللفظ فيهما مشترك فيظهر كون التورية لا ترتهن بالمجاز.

(وهي) أي : التورية التي هي نوع من أنواع البديع (ضربان) أي : قسمان التورية (الأولى) من القسمين (مجردة) أي : القسم الأول منها يسمى تورية مجردة (وهي) أي : المجردة هي التورية (التي لا تجامع) أي : لم تجامع (شيئا مما يلائم) المعنى (القريب) الذي هو غير مراد ، وذلك (نحو) قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) فإن الاستواء له معنيان قريب وهو الاستقرار حسا على سطح من السطوح ، وبعيد وهو الاستيلاء والارتفاع على الشيء بالقهر والغلبة ، وهو مجاز فيه للزوم مطلق الارتفاع للاستقرار ، ومطلق الارتفاع صادق بالارتفاع القهري الذي قد يراد من هذين المعنيين المعنى البعيد منهما وهو الاستيلاء والقرينة خفية ؛ لأنها استحالة الاستقرار حسا عليه تعالى المتوقفة على أدلة نفي الجرمية ، وليست مما يفهمها كل أحد بلا تأمل ، فلفظ" استوى" مجاز باعتبار استعماله في غير معناه بالقرينة ، وتورية باعتبار إرادة المعنى البعيد بقرينة خفية ، ولم يقرن بشيء مما يلائم المعنى القريب ، فتكون مجردة لتجردها عما يرشح خفاءها ، وهو ذكر ما يلائم القريب كما يأتي ، وقد يقال : العرش الذي هو السرير يلائم القريب الذي هو الاستقرار الحسي.

(و) التورية الثانية من قسميها (مرشحة) أي : تسمى مرشحة ، وقد تقدم معنى الترشيح في باب الاستعارة ، ووجه التسمية ظاهر من معناه ؛ فالمرشحة عكس المجردة فهي التي تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب الذي هو غير مراد ، وذلك (نحو) قوله تعالى

__________________

(١) طه : ٥.


(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(١) والأيدي جمع يد ، واليد لها معنيان قريب وهو الجارحة المعلومة ، وبعيد وهو القدرة التي إطلاق اليد عليها مجاز كما تقدم في بابه ، والمراد بها هنا المعنى البعيد الذي هو القوة والقدرة ، والقرينة استحالة الجارحة عليه تعالى ، وقد تقدم ما يفهم منه وجه خفائها ؛ فتكون تورية ، وإن كانت مجازا ، وقد قرنت بما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة وهو البناء ؛ لأنه إنما يعهد بالجارحة ، والمعهود بالقوة الإيجاد والخلق ، فقد رشح فيها معنى التورية ، وأصلها الذي هو الخفاء بوجود ما يبعد عن المراد مع خفاء القرينة ، وهذا ـ أعني كون اليد أطلقت على معناها المجازي البعيد بقرينة خفية فكانت تورية ـ مبني على ما اشتهر بين أهل الظاهر من المفسرين الذين يقتصرون على ما يبدو ، ولم يظهر لهم هنا للأيدي وللاستواء إلا المعنى البعيد ، وأما عند من يوسم بالتحقيق ممن يمارس مقتضى تراكيب البيان ، فالكلام تمثيل على سبيل الكناية أو الاستعارة ، وهو أن مجموع" بنيناها بأيد" نقل عن أصله على طريق التشبيه ، وأصله وضع لبنة وما يشبهها على أخرى بقوة الأيدي إلى الإيجاد بالقوة ؛ لأن النفس بالمحسوس أعرف ، أو على طريق الكناية بناء على أن التمثيل يجري فيها ، فعبر بمجموع اللفظ التركيبى عن معنى الإيجاد بغاية القوة ، وفي كليهما دلالة وتوقيف على عظمة قدرته وكنه جلاله الذي يمكن أن يدرك ، وهو الكنه الإجمالي المشتمل على أنه في النهاية في نفس الأمر ، فلا يتمحل لمفرد من مفردات هذا التركيب حقيقة ولا مجاز ، لما تقدم أن لفظ التمثيل ينقل إلى المعنى كما هو في المنقول عنه ، إن كان حقيقة في أصله يبقى كذلك ، وإن كان مجازا فكذلك ، فكأن البناء بالأيدي جعل هنا مرادفا لنهاية القوة في البناء ، ونهاية العظمة في تركيب الشيء ، وكذا" على العرش استوى" يجعل تمثيلا بالتشبيه أو بالكناية للدلالة على ملكه كل شيء ، كأنه جعل مرادفا للملك من غير أن يتمحل حقيقة أو مجاز لمفرد من المفردات ، بل التجوز باعتبار التركيب ، فإن قلت : فعلى هذا الذي جعل من التحقيق ، هل يصح أن يكون التركيب تورية أو لا؟ قلت : لا مانع من ذلك مع خفاء القرينة ؛ لأنهم لم يشترطوا في التورية إفراد اللفظ فافهم.

__________________

(١) الذاريات : ٤٧.


الاستخذام

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الاستخذام) أي : ما يسمى بالاستخذام بالخاء والذال المعجمتين ، وربما يقال بالحاء المهملة (١) ، وكلاهما بمعنى القطع ، ومنه المخذم للسيف القاطع ، يقال : خذمه قطعه ، وإنما سمي هذا النوع بذلك ؛ لأن الضمير فيه قطع عما يستحق أن يعود له من المعنى ، وجعل لغيره على ما يأتي تفسيره المشار إليه بقوله (وهو) أي : الاستخدام (أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما) أي : يراد أحد ذينك المعنيين باللفظ (ثم يراد بضميره) أي : بالضمير العائد إلى ذلك اللفظ معناه (الآخر ، أو يراد) باللفظ معنى ، ويراد (بأحد ضميريه أحدهما) أي : أحد معنيى اللفظ اللذين لم يرادا باللفظ ، بل أريد به غيرهما معا (ثم يراد بالآخر) أي : بضميره الآخر معناه (الآخر) الذي هو من جملة المعنيين اللذين لم يرادا ، وقد أطلق في المعنيين في كلا وجهي التفسير ، فتناول الكلام ما كان فيه المعنيان المرادان معا باعتبار اللفظين حقيقتين ، وما كانا فيه معا مجازين وما كان فيه أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، وكذا إذا كان له معان متعددة يجوز أن يطلق على أحدها حقيقة أو مجازا ، ويعود على اللفظ ضمائر بعدد معاني اللفظ حقيقة أو مجازا ، ويكون إعادة الضمائر كلها استخداما (ف) الوجه (الأول) من الوجهين المذكورين في التعريف وهو أن يراد باللفظ أحد المعنيين ، ويراد بالضمير معناه الآخر (كقوله) يصف رياستهم وتصرفهم في بلاد الناس كيف شاءوا :

(إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا) (٢)

بمعنى أنهم يفعلون في بلاد الأقوام ما شاءوا من الرعي ، ولا يعترض عليهم أحد ، ولا يقدر على منعهم قوم ، بل يرعون الكلأ بأرضهم وإن غضبوا ، فقد وصف رياستهم بالانتهاء والغلبة حتى إنهم يرعون كلأ الناس من غير رضاهم ، والسماء أطلقت

__________________

(١) وبالخاء المعجمة والدال المهملة ، وهو وجه لقراءة الكلمة لم يذكره ابن يعقوب على الرغم من استخدامه له في بقية الباب ، لكن ذكره العلامة الدسوقى فى شرحه على السعد قال : " وبمعجمة ومهملة". أى : بالخاء المعجمة والدال المهملة.

(٢) البيت لمعاوية بن مالك ، فى ديوان الأدب (٤ / ٤٧) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٨٨) ، والإيضاح ص (٣٠١).


على الغيث مجازا ؛ لأنه نازل من جهة السماء المعلومة ، ثم أعاد الضمير على لفظ السماء في قوله رعيناه باعتبار معنى آخر مجازي أيضا وهو النبات ؛ لأنه هو المرعى ، فقد أريد بلفظ السماء معنى وأريد بضميره معنى ، آخر فهذا من الوجه الأول.

(و) الوجه (الثاني) من الوجهين المذكورين في التعريف ، وهو أن يراد بأحد ضميريه أحد معنييه ، وبضميره الآخر معناه الآخر ، وقد تقدم في تفسير ما يفيد أنه لا بد أن يراد باللفظ غير مفاد الضميرين ، وإلا كان أحدهما ليس استخداما وكلامنا في الضمير العائد على الاستخدام (كقوله) أي الوجه الثاني مثل ما في قوله (فسقى الغضا) (١) وهو نوع من الشجر ، دعا له بالسقي حيث ينزل الأحباء في خلله (والساكنيه) الضمير في الساكنيه يعود على الغضا باعتبار أنه مكان الغضا إذ يطلق عليه الغضا مجازا ؛ ثم بين أنه يطلب لهم الغيث وإن عذبوه فقال (وإن هم) أي نطلب لهم السقى قضاء لحق الصحبة ، وإن (شبوه) أي : أوقدوه ، والضمير فيه يعود على الغضا باعتبار معنى آخر مجازي له أيضا ، وهو النار التي تتوقد لأنها تتعلق بشجر الغضا (بين جوانحي) جمع جانحة وهي العظم مما يلي الصدر ، وهو كناية عن القلب وقوله (وضلوعي) من عطف التفسير ، وشب النار في القلب عبارة عن إيذاء شدة الحب إذ كأنه تحترق به الأحشاء من شدته وإذايته ؛ لأن الحب يوصف بتعذيب كتعذيب النار كما يوصف باللذاذة قال :

إن هذا الهوى نعيم وعز

ضمنا أبدا عذابا وذلا

فقد صدق أنه أطلق الغضا على معنى هو الشجر ، ثم أعاد عليه الضمير بمعنى المكان مجازا ، ثم أعاد عليه آخر بمعنى النار مجازا أيضا ؛ لأنها يتعلق بها الشب ، ويصح أن يعود عليه الضمير بمعنى المكان ، ويراد بنفس اللفظ المكان أيضا ، فيصدق أنه أريد بأحد الضميرين معنى ، وأريد بالآخر معنى آخر ، ولكن يكون الاستخدام في الضمير الواحد وهو الثاني كما تقدمت الإشارة إليه ، فلا يفارق الأول إلا في تعدد الضمير في الجملة ، وأما الاستخدام فليس إلا في محل واحد كالأول فلا افتراق بينهما من جهة الاستخدام

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى الإيضاح ص (٣٠٢) ، وبلا نسبة فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٨٨).


وظاهر العبارة أن الاستخدام لا يتصور إلا مع الإضمار ، قيل : ويتصور في الإظهار بأن يذكر للفظ شبه به مثلا وجهان باعتبار معنيين كانا لذلك اللفظ ، كقوله :

مثل الغزالة إشراقا وملتفتا

فالغزالة تطلق على الشمس ، وعلى الحيوان المعلوم ، وقد شبه بها بوجهين أحدهما على أنها شمس وهو قوله إشراقا ، والآخر على أنها الحيوان وهو قوله" ملتفتا" ، ولكن الأقرب أن مثل ذلك من التوجيه المرشح معنياه حيث استويا ولو بالقرينة.

اللف والنشر

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (اللف والنشر) أي : النوع المسمى باللف والنشر (وهو) أي هذا النوع المسمى باللف والنشر هو (ذكر) معنى (متعدد) ذكرا كائنا (على) وجه (التفصيل) بأن يعبر عن كل من أفراد مجموع ذلك المعنى المتعدد بلفظه الخاص به يفصله عما عداه (أو) على وجه (الإجمال) بأن يعبر عن المجموع بلفظ يجتمع فيه ذلك المجموع (ثم ذكر) أي : ثم بعد ذكر المتعدد على الوجهين المذكورين يذكر (ما لكل واحد) من آحاد ذلك المتعدد ذكرا كائنا (من غير تعيين) أي : من غير أن يعين لشيء مما ذكر ، أو لا ما هو له مما ذكر ثانيا ، ويكون ترك التعيين (ثقة) أي : لأجل الثقة ، أي : الوثوق (بأن السامع يرده) أي : يرد ما لكل (إليه) أي : إلى كل ما هو له وإنما يفعل ذلك حيث يعلم أن السامع يعلم ما لكل بالقرينة اللفظية ، فيتكل عليها ، كأن يقال : رأيت الشخصين ضاحكا وعابسة ، فتأنيث عابسة يدل على أن الشخص العابس هو المرأة ، والضاحك هو الرجل ، أو المعنوية كأن يقال : لقيت الصاحب والعدو فأكرمت وأهنت ، ومعلوم أن القرينة هنا معنوية ، وهو أن المستحق للإكرام الصاحب ، وللإهانة العدو ، ولما شمل كلامه ما يكون اللف فيه تفصيليا ، وما يكون إجماليا أشار إلى تفصيل الأول منهما ، ومثاله ، ثم إلى مثال الثاني فقال (فالأول) أي : فالقسم الأول مما اشتمل عليه التعريف ، وهو أن يذكر المتعدد على التفصيل (ضربان) أي : نوعان باعتبار وجود الترتيب وعدمه وذلك (لأن النشر) وهو أن يذكر ما لكل مما في اللف (إما) أن يكون (على ترتيب) ذلك (اللف) لأن الفرض أن اللف


فيه تفصيل يذكر كل فرد ، فيمكن أن يجاء بالنشر على حسب ما كان في اللف ، بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف ، والثاني للثاني وهكذا إلى آخرها ، ويمكن أن لا يجاء به كذلك ، فالأول من هذين الضربين وهو أن يؤتى بالنشر على ترتيب اللف (نحو) قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فقد ذكر في هذه الآية الكريمة الليل والنهار ، ثم ذكر ما لليل أولا لتقدمه والذي لليل هو السكون فيه والهدوء بالمنام ، أو بمجرد ترك الحركات والتصرف ومناسبته لليل ظاهرة ، ثم ذكر ما للنهار ثانيا لتأخره وهو ابتغاء فضل الله فيه ، أي : طلب رزق الله فيه والمناسبة ظاهرة أيضا ، وعليه اتكل في عدم التعيين ، فصدق أنه ذكر متعدد على وجه التفصيل والتنصيص على كل ، ثم ذكر ما لكل من المتعدد على الترتيب الأول للأول والثاني للثاني من غير تعيين ما لكل ، للاتكال على رد السامع ما ذكر في النشر لما ذكر في اللف بالمناسبة المعنوية ، فإن قلت : فما معنى اللف في هذا القسم ؛ لأن اللف هو الضم والجمع ، ولا لف للتفصيل أولا وإنما هنا رد مفصل لمفصل للمناسبة ، فالمناسبة أن يقال : رد نشر إلى نشر لا رد نشر إلى لف ، قلنا : في النشر بيان بعض أحوال المفصل أولا ففيه زيادة تفصيل له باعتبار أحواله ، فناسب أن يسمى لفا ؛ لأن الحال المبينة أولا ملفوفة ، أي : لم تذكر ولم تنشر لعدم بيانها ، وناسب أن يسمى الثاني نشرا ، أي : بيانا لما انطوى أولا أي : انبهم ، وسمى المنبهم ملفوفا ؛ لأن الملفوف منبهم في دخيلائه وسمى المتبين منشورا ؛ لأن المنشور تبينت دخيلاؤه فهو من باب تسمية اللازم بالملزوم ، وصار حقيقة عرفية فافهم ، ثم إن الآية الكريمة ربما يتوهم فيها وجود التعيين لفظا فيما سمى فيها نشرا فلا يكون من هذا الباب لاشتراطنا فيه عدم التعيين ؛ وذلك لأن الضمير المجرور في قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) عائد إلى الليل في نفس الأمر قطعا ، فقد تعين ما يعود إليه السكون بالضمير ، وليس كما تقدم في قولنا : لقيت الشخصين ضاحكا وعابسة ؛ لأن التأنيث عارض للفظ ، فصار قرينة ، واللفظ بنفسه محتمل بخلاف الضمير ، فهو عبارة عن معاده ؛ فكأنه قيل لتسكنوا في الليل : ولو قيل كذلك ، لم يكن الكلام من هذا الباب ، ولكن هذا التوهم ضعيف ، وقد أجيب عنه بأن


المراد بعدم التعيين كون اللفظ بحسب ظاهره محتملا ، والضمير يحتمل الليل والنهار بحسب ظاهره ، وإن كان مصدوقه في نفس الأمر هو الليل ، وليس المراد به الاحتمال في نفس الأمر ؛ إذ لا معنى له ؛ لأنه لو أريد ذلك لم يتحقق لف ونشر أبدا ؛ لتعين المراد في نفس الأمر بكل من أفراد النشر ، ولأجل هذا قلنا : إن هذا التوهم ضعيف فلا ينبغي أن يلتفت إليه ، ولو أورد في هذا المقام ، ثم عطف على قوله : إما على ترتيب اللف قوله (وإما) أن يكون أعني : النشر (على غير ترتيبه) أي : على غير ترتيب اللف ، وهو ـ أعني ـ القسم الذي يكون فيه النشر على غير ترتيب اللف قسمان : أحدهما : ما يكون نشره على عكس ترتيب اللف ؛ بأن يكون الأول من النشر للآخر من اللف ، والثاني من النشر للذي يليه الآخر من اللف ، والثالث من النشر للذي يليه ما قبل الآخر من اللف ، وهكذا (كقوله : كيف أسلو) (١) أي : كيف أصبر عنك ، والاستفهام للإنكار ، والنفي ، أي : لا أسلو عنك (و) الحال أنك (أنت حقف) أي : مثل الحقف ، وهو المتراكم من الرمل ، ومثله النقا ، وقيل : وهو الموافق لبعض أهل اللغة أن الحقف من الرمل ما فيه اعوجاج مع التراكم ، والنقا ما فيه تراكم في الجملة ، والمراد هنا المعنى الأول ، شبه به ردف المرأة ، أي عجيزتها ، في العظم والاستدارة (وغصن) أي : وأنت مثل الغصن (وغزال) أي : وأنت مثل الغزال ، ولما كان هنا تقدير مضاف ، أي : كيف أسلو وردفك مثل الحقف ، وقدك مثل الغصن ، ولحظك مثل الغزال ، أي : مثل لحظ الغزال ، ووقع الإبهام بحذف ذلك المضاف ، احتيج إلى تمييزه فأتى بالتمييزات على حسب هذه التقادير ، فقيل (لحظا) هذا عائد كما لا يخفى على الغزال ، وهو الآخر من اللف عاد إليه أول النشر (وقدا) هذا عائد كما لا يخفى إلى الغصن ، وهو الذي يليه الآخر من اللف عاد إليه ما بعد الأول من النشر (وردفا) هذا كما لا يخفى أيضا عائد إلى الحقف ، وهو الأول من اللف عاد إليه الذي يلي ما بعد الأول من النشر ، فكان هذا من عكس الترتيب ، والثاني ما يكون نشره مخلوطا ؛ فيعود الأول مثلا من النشر للآخر من اللف ، ويكون الثاني منه للأول من اللف ، والآخر منه للوسط من اللف ، كقولنا : هو شمس

__________________

(١) البيت لابن حيوس فى ديوانه (٢ / ٤٧) ، والمصباح ص (٢٤٧) ، والإيضاح ص (٣٠٢).


وأسد وبحر جودا وبهاء وشجاعة ، ولا يخفى اختلاطه ؛ لأن الجود وهو الأول من النشر عائد إلى البحر وهو الآخر من اللف ، والبهاء وهو الثاني من النشر عائد للأول من اللف وهو الشمس ، وشجاعة وهو الآخر من النشر عائد إلى الوسط من اللف.

(و) القسم (الثاني) مما اشتمل عليه تعريف اللف والنشر ، وهو أن يكون ذكر المتعدد على سبيل الإجمال ، فهذا مقابل قوله : فالأول ضربان ، أي : القسم الثاني من قسمي التفصيل والإجمال ، وهو الإجمالي منهما (نحو) قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١) فقد ذكر الضمير المجمل لليهود والنصارى في" قالوا" ؛ لأن ضمير الجمع فيه عائد للفريقين ، أعني : اليهود والنصارى ، ثم ذكر ما يخص كلا منهما في قوله : " إلا من كان هودا أو نصارى" (أي : قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلف) في قوله" قالوا" أي : قائلين ؛ إذ لم يميز كل فريق باسمه الخاص به ، أو نقول لف بين قولي الفريقين ؛ إذ لم يبين فيه مقول كل فريق ، فالإجمال الموجب للف إما بالنسبة إلى الفريقين المذكورين بقوله تعالى" وقالوا" أو إلى قول الفريقين ما ذكروا ، إنما سوغ الإجمال في اللف ثبوت التضاد بين اليهود والنصارى ، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة ، فوثق بالعقل في أن يرد كل قول إلى فريقه أو يرد كل مقول إلى قوله (لعدم الالتباس) أي : لأمن الاشتباه (للعلم بتضليل كل فريق) من اليهود والنصارى (صاحبه) واعتقاده أن داخل الجنة هو لا صاحبه ؛ لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ)(٢) وقائل ذلك يهود المدينة ، ونصارى نجران ، وهود جمع هائد كعائذ وعوذ ، ووحد اسم كان وهو الضمير المستتر فيها ، وجمع خبرها مراعاة للفظ من ومعناها ، ولا يتصور في هذا الضرب وهو ذكر المتعدد على سبيل الإجمال الترتيب وعدمه.

__________________

(١) البقرة : ١١١.

(٢) البقرة : ١١٣.


ومن غريب اللف والنشر أن يذكر متعددان أو أكثر على التفصيل ، ثم يذكر ما لكل في نشر واحد ويؤتى بعده بذكر ذلك المتعدد على الإجمال ملفوظا أو مقدرا ؛ فيقع النشر بين لفين أحدهما مفصل والآخر مجمل ، كما نقول : الراحة والتعب والعدل والظلم قد سد من أبوابها ما كان مفتوحا وفتح من طرقها ما كان مسدودا ؛ فالراحة والتعب متعدد واحد ، والعدل والظلم متعدد آخر ، فقد ذكر متعددان لكل منهما فردان ثم ذكر ما للجميع في نشر واحد وهو قد سد الخ ، وهذا النشر راجع إلى كل من آحاد كل من المتعددين ؛ فضمير كل من أبوابها وطرقها راجع إلى كل من الأربعة المذكورة ، ولا تنافي في الحكم ؛ كسد باب الراحة وفتح طريقها ؛ لأن المراد أن لها أبوابا فسد واحدا وفتح آخر فهو أبدا مجهود ، ويصح رجوع النشر إلى المتعدد الأول بأن يرجع شقه [...](١) أسباب التوصيل إلى الضرر من كل وجه من مال ومقال ورأى ورياسة وغير ذلك ، وإيجاد النفع لمستحقه يقتضي وجود صفة العقل والكرم ورعاية حق الأحباء ووجود الأموال والرياسة وكل ما يتبع ذلك ، ثم جمع ما قسم في كونها سجية فيهم بقوله (سجية تلك) (٢) أي : تلك الخصلة ، وهي كونهم نافعين وضارين لمن يستحق طبيعة فيهم وغريزة وخلق قديم مركوز فيهم ، فهي (منهم غير محدثة) فهي طبيعة موروثة ، ثم أجاب عن سؤال مقدر ، وهو أن يقال : لم جعلتها غير محدثة؟ فإن هذه الخليقة ممدوحة مطلقا؟ فقال (إن الخلائق) جمع خليقة وهي الطبيعة والخلق الثابت (فاعلم شرها البدع) أي : أن الصفات الثابتة الطبيعية أقبحها البدع ، فاعلم ذلك أيها السائل ، والبدع كعنب جمع بدعة وهي الأمور المبدعات : أي ، المحدثات ، ومنه البدعة التي هي خلاف السنة ، لا يقال : كون الصفة في الشيء بدعة

__________________

(١) ما بين المعكوفتين بياض بالأصل ووجد بهامش نسخة دار السرور ـ بيروت ما نصه : " سقط من جميع النسخ التى تيسرت لنا من شرح ابن يعقوب شرح هذا المحل من قول صاحب التلخيص كقوله ما نوال الأمير إلى قوله أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا* وبعد بحث الملتزم عنها فى الأستانة ومصر والمغرب لم يجدها فتركنا محلها بياضا لعلها تتيسر للقارئ فيلحقها. كتبه مصححه".

(٢) البيت لحسان بن ثابت فى ديوانه ص (٢٣٨) ، والطراز (٣ / ١٤٤) ، والمصباح ص (٢٤٩) ، والإيضاح ص (٣٠٥).


ينافي كونها خليقة للزوم الخليقة ؛ لأنا نقول : قد تسمى خليقة باعتبار دوامها بعد حدوثها فتكون خليقة دواما ، وبدعة ابتداء ، وهذه هي التي ذمها باعتبار اللازمة قديما ودواما ، فقد ظهر أنه قسم ما وصف به الممدوحين إلى كونه ضر الأعداء ، وكونه نفع الأحباء ، ثم جمعه في كونه سجية غير محدثة ، قيل : الفرق بين التقسيم السابق والجمع مع التقسيم أن التقسيم يذكر فيه المقسم أولا مفصلا والجمع مع التقسيم يذكر فيه المقسم مجملا ، كما في قوله : تشقى به الروم إلخ ، قيل : ويلزم عليه أن نحو قولنا الكلمة : إما اسم أو فعل أو حرف ليس من التقسيم ، لعدم ذكر المقسم مفصلا ، يعني : وليس أيضا من الجمع مع التقسيم ، لعدم جمع المقسم تحت حكم ، والمشهور أنه من التقسيم ولا يخفى ضعف هذا البحث ؛ لأنا نلتزم أنه ليس من التقسيم المذكور ، بل هو من أحد التقسيمين الآتيين فتأمله.

الجمع مع التفريق والتقسيم

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الجمع مع التفريق والتقسيم) وهذه التسمية تقتضي أن هذا النوع فيه معان ثلاثة ، وقد تقدم كل واحد منها فيوجد الجمع فيه ، وهو كما تقدم أن يجمع بين متعدد في حكم ، ويوجد فيه التفريق ، وهو كما تقدم أيضا أن يدخل شيئان في معنى ويفرق بين جهتي الإدخال ، ويوجد فيه التقسيم ، وهو أن يذكر متعدد ثم يضاف ما لكل إليه على التعيين ، ولما كان معنى هذه الأشياء المجموعة في هذا النوع ظاهرا مما سبق لم يتعرض لتفسيره ، لظهور أجزائه مما تقدم ، وإنما تعرض لمثاله فقال وذلك (كقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) (١) أي : أذكر يوم يأتي الله أي : يوم يأتي أمره ، وقد تقدم ما في إسناد الإتيان إلى الأمر ، فالضمير في يأتي عائد إلى الله تعالى على تقدير مضاف ، ويحتمل أن يعود إلى اليوم ، وإتيان اليوم عبارة عن حضوره ؛ للزوم الحضور

__________________

(١) هود : ١٠٥.


للإتيان ، ولما كان المقصود من حضور اليوم حضور ما يقع فيه ، قدر هنا مضاف أيضا ، أي : يأتي هوله وشدته ورحمته وعذابه ، فالظرف على هذا ، أعني : لفظ يوم منصوب على الظرفية بقوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أي : لا تتكلم نفس في ذلك اليوم مما ينفع من جواب يقبل أو شفاعة تقبل (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : لا تتكلم نفس إلا بإذن الله تعالى كما قال (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)(١) وقوله في الآية الأخرى (لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٢) لا ينافي ما تقدم ؛ لأن المأذون فيه هو الجواب الحق المقبول ، والممنوع هو العذر الباطل الغير المقبول ، أو الأول في موقف وهذا في آخر ، وتخصيص المأذون فيه بما ينفع من جواب أو شفاعة ، إما لأن غيره لم يعذر فيه أصلا ، ولكن هذا لا يناسب قوله تعالى حكاية عنهم (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)(٣) وأما لأن غيره لا عبرة به فالإذن فيه أو التمكين منه لا ينفع (فَمِنْهُمْ) أي فمن أهل الموقف ، وإنما جعل معاد الضمير أهل الموقف ؛ لأن النفس في" لا تكلم نفس" نكرة في سياق النفي فتعم كل نفس في ذلك اليوم والنفوس في ذلك اليوم هي نفوس الموقف ، فاتحد المراد بالنفس بالمراد بأهل الموقف ، ولذلك فسر الضمير بأهل الموقف ، وذلك ظاهر (شَقِيٌ) أي : محكوم له بالشقاوة ، أي : وجوب النار كما اقتضاه الوعيد في الدنيا (وَ منهم (سَعِيدٌ) أي محكوم له بالسعادة أي : وجوب الجنة كما اقتضاه الوعد الحق في الدنيا (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي حكم لهم بالشقاوة فهم (فَفِي النَّارِ) لأن ذلك مقتضى وجوبها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي : إخراج النفس على وجه مخصوص وهو كونه بشدة وتتابع وصوت منكر وأسف (وَشَهِيقٌ) أي : إدخال النفس على وجه مخصوص أيضا وهو كونه بشدة وتتابع وصوت منكر وأسف (خالِدِينَ فِيها)

__________________

(١) النبأ : ٣٨.

(٢) المرسلات : ٣٥ ، ٣٦.

(٣) النحل : ٢٨.


أي في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) إن حملت السموات على سموات الآخرة ؛ لأنها هي الدائمة والأرض كذلك ، كما اقتضى أن للآخرة سموات وأرضا أخرى قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ)(١) دل تقييد الخلود بدوامها على الأبدية ، ولكن يرد عليه أن ذلك لا يفهمه إلا من يعتقد وجود السموات للآخرة ، والمعتقد لذلك لا يفتقر إلى أن يخبر بأن الخلود بخلود السموات الأخروية ؛ لأن ذلك معتقده ، ومن لا يعتقدها لا يفيد التأبيد بها الأبدية باعتباره ، وإن حملت على سموات الدنيا والأرض كذلك لزم أنها غير دائمة ، والجواب أن التأييد بها كناية عن الأبدية كما ، يقال : لا أفعل كذا ما دام ثبير أو ما طلع نجم ، والمراد لا أفعله أبدا وهذا وارد في كلام العرب كثيرا.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : إلا وقت مشيئة ربك. وكون المستثنى هو الوقت إما بتقدير ما مصدرية ظرفية أي : إلا مدة مشيئة ربك أو بتقدير ما مصدرية فيقدر الوقت مضافا أي إلا وقت مشيئة ربك ، والمعنى واحد ، وهو ظاهر ، وإنما لم يجعل المستثنى غير ذلك ؛ لأن العموم قبله إنما وجد في الوقت المذكور ؛ لأن الخلود يتضمن أوقاتا لا تنتهي ، وفي الموصول الذي هو الذين ولا يتأتى الاستثناء منه هنا إلا بتكلف ؛ فلذلك جعل الاستثناء من الأوقات على التقديرين.

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا معترض عليه في مراده ، ومن ذلك تخليد البعض كالكفرة وإخراج البعض ، كالعصاة غير الكفرة. وبهذا علم أن استثناء الوقت إنما هو باعتبار بعض الأشقياء ، وهم العصاة غير الكفرة.

واعلم أن المراد بالشقاوة ما يعم الكبرى والصغرى ، وكذلك المراد بالسعادة في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) ما يعم الكبرى والصغرى ، فدخل في الشقاوة بعض ما دخل في السعادة والعكس ، ولا يضرك ذلك التعبير بآلة الانفصال وهي" أما" لأن الانفصال يكون بمنع الخلو ، وهو موجود هنا ؛ إذ لا يخلو أمر أهل الموقف من الشقاوة والسعادة ولو اجتمعا في العاصي المؤمن باعتبارين.

__________________

(١) إبراهيم : ٤٨.


(خالِدِينَ فِيها) أي باقين في الجنة إلى غير نهاية ، والحال في المحلين مقدرة أي مقدرين الخلود أو مقدرا لهم الخلود ؛ لأن الخلود لا يجامع دخول إحدى الدارين وإنما بجامعه تقديره.

(ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي : مدة دوام السموات والأرض وفيه ما تقدم من كونها كالأرض أخروية أو دنيوية.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : إلا وقت مشيئة ربك ، ويتجه فيه ما تقدم في نظيره.

(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي أعطوا ذلك عطاء غير منقطع فهذا المثال فيه جمع الأنفس في الحكم بعدم الكلام إلا بإذن الله تعالى ؛ لأن نفسا نكرة في سياق النفي فتعم كما ذكرنا آنفا ، وفيه تفريق ذلك المجموع بأن جعل منه الشقي والسعيد وفيه تقسيم هذا التعدد ، بأن أضيف لفريق السعادة ما له من الخلود في الجنة ، وأضيف لفريق الشقاوة ما له من الخلود في النار ، فإن قيل الشقاوة قد ذكرت أنها حكم بالنار ، والسعادة ذكرت أنها حكم بالجنة ، وهذا هو المستفاد من التقسيم هنا ، وقد تقدم أن التقسيم هو : أن يضاف لكل من المتعدد ما له مما لم يذكر أولا ، كما تقدم في قوله :

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج إلخ (١)

قلنا ما ذكر في التقسيم يكفي أن يكون غير ما ذكر ، ولو بالتفصيل لما أجمل أولا ، وهو هنا كذلك ، فإن كونهم في الجنة أو النار مع ذكر الخلود إلا ما شاء الله تفصيل لما حكم به وهكذا قوله : هذا مربوط وذا يشج تفصيل لما تضمنه الإجمال.

فقد تبين أن المثال مشتمل على الجمع والتفريق والتقسيم ؛ ولذلك يسمى نوع هذا المثال بما يدل على المجموع ، أما اشتماله على الجمع فظاهر ، وكذا اشتماله على التقسيم السابق فظاهر ؛ لأنه قسم المتعدد الذي هو قسم الشقاوة ، وقسم السعادة المذكورين بالتفصيل أولا بأن أضاف لكل منهما ما له. وأما اشتماله على التفريق السابق ففيه بحث ؛ لأنه كما تقدم إنما يتصور بين شيئين جمع بينهما ، ثم فرق بين جهتي إدخالهما كما في قوله :

__________________

(١) البيت للمتلمس ، وهو جرير بن عبد المسيح ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٣).


فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرها (١)

وهذا المعنى لم يوجد هنا إذ لم يفرق بين جهتي إدخال النفوس في عدم الكلام اللهم إلا أن يراد بالتفريق مطلق ذكر الفصل بين شيئين ، وحينئذ لا يستفاد تفسيره صراحة مما تقدم ، وقد تبين بما ذكر في تقدير المستثنى أن المستثنى من أهل الشقاوة هم عصاة المؤمنين ، وهم بعض المحكوم عليهم ، استثنوا من الخلود بقطع العذاب عنهم بإخراجهم من النار وإدخالهم الجنة. والمستثنى من أهل السعادة هم العصاة أيضا ، استثنوا باعتبار الابتداء ؛ لأن الخلود لما جعل له مبدأ وهو وقت وجود الدخول في الجملة ، وجعل ما بعد المبدأ هو الاستمرار إلى غير نهاية جاز أن يستثنى منه بقطعه في الاستقبال عن البعض ، كما في الشقاوة ودخول النار وأن يستثنى منه بقطعه ابتداء كذلك ، كما في السعادة ودخول الجنة ، وهذا كما تقول : بنو فلان ينفق عليهم من يوم العيد إلى تمام السنة ، أو إلى الأبد ، إلا في الشهرين الأولين من تلك السنة ، أو من ذلك الأبد ، فلا ينفق على بعض منهم ، وعلى هذا لا يرد أن يقال : الخلود إنما هو بعد الدخول ، ودخول الجنة لا يكون بعده انقطاع ؛ لأنا لم نرد الاستثناء من وقت الدخول ، باعتبار ذلك الداخل ، بل الاستثناء من وقت الدخول في الجملة ، أعني : من وقت يقع فيه الدخول ، لا من هذا المستثنى بل ممن وقع منه الدخول ، أيا كان ، ولكن في تأويل الاستثناء في الآية الكريمة على ما ذكر تمحل من أوجه :

أحدها : أن الظاهر في استثناء الوقت انصبابه على جميع الأفراد ، فانك إذا قلت : أنفق على أولادي من يوم كذا إلى كذا إلا وقت كذا فمعناه أنك لا تنفق على المجموع في ذلك الوقت لا على البعض. وقد جعل الاستثناء في الآية باعتبار البعض ، وهم العصاة ، الذين نفذ فيهم الوعيد.

والآخر : أن في الكلام تداخلا حينئذ كما أشرنا إليه آنفا ؛ لأن المستثنى من الشقاوة هو المستثنى من السعادة ، إذ العصاة استثنوا من الخلود في النار ، فيلزم استثناؤهم من الدخول الأولى ، وكذا العكس.

__________________

(١) البيت للوطواط ، فى شرح المرشدى (٢ / ٩٣).


والآخر : أن الخلود إنما يعهد انقطاعه باعتبار الاستقبال ، كما أن القدم إنما ينتفي باعتبار الماضي.

والآخر أن الاستثناء لا يكون على نسق واحد ؛ لأنه في الأول لقطع الخلود استقبالا ، وفي الثاني لقطعه من ابتداء أوقاته ؛ ولذلك حمل على معنى أن أهل الجنة لا يخلدون في نعيمها ؛ لخروجهم في بعض الأوقات إلى ما هو أعظم ، كالرضوان والشهود وأهل النار لا يخلدون في عذابها ؛ لخروجهم في بعض الأوقات إلى عذاب الزمهرير.

ويرد على هذا الحمل أن الكون في الجنة يتضمن جميع النعم روحانيا وبدنيا ، والكون في النار يتضمن أنواع العذاب المجددات بعد وقت الدخول. فكيف يصح إخراج بعض الأحوال دون بعض؟ فإن قدر ففي نعيم الجنة المحسوس ، وفي عذاب النار الذي هو الحرارة بالخصوص ، خرج المستثنى عن التناول ، مع أن التقدير كالتحكم ؛ فلأجل ما ذكر على التأويلين قيل إن الاستثناء تقديري. أي : إلا ما شاء ربك ، على تقدير مشيئته ، بمعنى أنه لو شاء الخروج من كليهما لكان. ويكون في ذلك إشارة إلى أن الخلود ليس بواجب ذاتي بل بالمشيئة ، وعليه يكون المراد بالشقاوة الشقاوة الكبرى ، وبالسعادة ما يقابلها. كما أن المراد بها على التأويل الثاني ما ذكر أيضا ، بناء على أن النكرة تنصرف عند الإطلاق للفرد الأكمل ، وهذا في غاية البعد عن الدلالة اللفظية.

فالوجهان الأولان أقرب لصحتهما لفظا على ما فيها فتأمل.

(وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين) غير ما تقدم ، والذي تقدم هو أن يذكر متعدد ، ثم يضاف لكل من المقصود في التعدد ما له على التعيين.

التقسيم مع ذكر أحوال الشيء مضافا لما يليق به

(أحدهما) أي : أحد هذين الأمرين اللذين ليس كل منهما من التقسيم السابق (أن تذكر أحوال الشيء) بعد ذكره (مضافا) أي : حال كون تلك الأحوال قد أضيف (إلى كل) منها (ما يليق به كقوله) أي : كقول المتنبي :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد (١)

__________________

(١) البيت لأبى الطيب المتنبى فى التبيان (١ / ٢٥٧) ، وفى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٦).


والقناء الرماح ، وأراد بالمشايخ الكهل من ذكور قومه. وقوله : هم كالمرد الذين لا لحى لهم من طول اللثام ، عبارة عن لزومهم زي الكبراء وأهل المروءة في عرفهم. فقد ذكر المشايخ ثم أشار إلى أحوالهم مضافا لكل حال ما يليق به بقوله هم (ثقال) على الأعداء ، من شدة شوكتهم وصعوبة وطأتهم (إذا لاقوا) والثقل هنا عبارة عن شدة نكاية الملاقي لهم ، وعجزه عن تحمل أذاهم ، وهم (خفاف) جمع خفيف أي مسرعين بالإجابة (إذا دعوا) إلى كفاية مهم ، أو دفاع ملم (كثير إذا شدوا) لأن واحدا منهم يقوم مقام الجماعة في الكناية. فحكم ما كان منهم حكم الكثير في الإفادة.

(قليل إذا عدوا) لأن أهل النجدة والإفادة مثلهم في غاية القلة فقد ذكر المشايخ أولا ، ثم ذكر أحوالهم من الثقل والخفة والكثرة والقلة ، وأضاف لكل حال ما يليق بها ، فأضاف للثقل حال الملاقاة وللخفة حال الدعوة للإجابة ، وللكثرة حال الشدة والحمل على الأعداء ، وللقلة حال العد.

ولا يخفى ما اشتمل عليه هذا التقسيم من الطباق بذكر القلة والكثرة ، والخفة والثقل ، إذ بين كل اثنين منها تضاد. وإنما لم يكن هذا من قبيل التقسيم السابق ؛ لأن التقسيم السابق يذكر فيه نفس المتعدد ـ مضافا لكل مما قصد من أفراده ـ ما يناسبه ، وهذا لم يذكر فيه نفس المتعدد المذكور أولا ، وإنما ذكرت أحواله ، وأضيف لكل من تلك الأحوال ما يليق بها كما رأيت فافهم.

التقسيم باستيفاء أقسام الشيء

(و) القسم (الثاني) من الأمرين اللذين ليسا من التقسيم السابق هو (استيفاء أقسام الشيء) بحيث لا يتصور للمقسم قسم آخر غير ما ذكر ، وذلك (كقوله تعالى) في تقسيم الإنسان باعتبار أمر الولادة : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) فقط (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (١) فقط وقدم الإناث في الذكر على الذكور هنا ؛ لأن سياق الآية في بيان أنه ليس للإنسان ما يشاء من الولادة ؛ وإنما يكون منها ما يشاء الله تعالى والذي لا يريده الإنسان هو الإناث ، فناسب تقديم الدال عليهن ، ثم عرف الدال على الذكور

__________________

(١) الشورى : ٤٩.


بأل ؛ للإشارة إلى مرتبتهم والامتنان بهم ، فكأنه قيل ويهب لمن يشاء الجنس المعروف لكم المعهود كما له لديكم. فأعطى للفظ الإناث مناسبة التقديم ، وأعطى للفظ الذكور مناسبة التنويه والتعريف ، ثم أتى بهما على أصل استحقاق التقديم والتأخير ، بعد بيان المناسبة الأولية في قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) (١) ثم أتى بالقسم المقابل لهذه الثلاثة في قوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له أصلا أنه عليم بالحكمة في ذلك قدير على ما يريد لا يتعاصى عليه شيء ، ففي ضمن الآية الكريمة أن الإنسان باعتبار شأن الولادة ينقسم إلى الذي لا يولد له أصلا ، وإلى الذي يولد له جنس الذكور فقط ، وإلى الذي يولد له جنس الإناث فقط ، وإلى الذي يولد له الذكور والإناث معا ، فكأنه قيل : الإنسان إما أن لا يكون له ولد أصلا ، وإما أن يكون له جنس الذكور فقط ، وإما أن يكون له جنس الإناث فقط ، وإما أن يكون له الجنسان معا.

فهذا تقسيم مستوف لأقسام الإنسان باعتبار الولادة وعدمها. ومن هذا القسم قولهم : الكلمة : اسم ، أو فعل ، أو حرف.

ومما يتأمل فيه هنا السر في الإتيان بأو فى قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) ولم يقل : ويزوجهم بالواو كما ذكر فيما قبل هذا القسم وبعده. قيل : إن السر في ذلك أنه لما عبر بالضمير في قوله (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) ولم يقل : يزوج من يشاء ، وأعاد الضمير على من يشاء قبله أتى بأو للإشارة إلى المباينة ، وأن هذا غير ما ذكر أولا ، والمذكور أولا هو هبة الذكور فقط ، أو الإناث فقط بخلاف ما لو عبر بالواو فإنه يفيد أن الذى اختص بالذكور أو اختص بالإناث يجمع له بين الذكور والإناث ، وليس بصحيح ؛ لأن المراد كما تقدم ذكر كل قسم على حدة ، ومفيده أو المقتضية للمباينة ، دون الواو المقتضية للجمع.

وأما الأقسام الأخرى فلما قال فيها : " يهب لمن يشاء ويجعل من يشاء" فعبر بالظاهر عن الموهوب له والمجعول له ، فهم أنها أقسام مستقلة مختلفة في نفس الأمر ؛ لأن

__________________

(١) الشورى : ٥٠.


اللفظ الظاهر إذا كرر أفاد المغايرة ، بخلاف الضمير. ولكن يرد أن يقال فلم لم يقل ويزوج من يشاء ذكورا وإناثا؟ أي يجعل لمن يشاء الذكور والإناث معا ، فيفيد المباينة ويجري الكلام على نسق واحد؟ وأجيب بأن تلك الأقسام لو علقت جميعها بلفظ المشيئة ولم يعبر بالضمير العائد على ما ذكر لاستشعر أن كل قسم يستحق ذلك بالمشيئة التابعة لرعاية الأصلح ، كما يقول المعتزلي ؛ لأن أصل المباينة الصريحة أن تكون لحكمة اقتضتها ، والمشيئة صلحت للكل ، فيكون التخصيص لحكمة الرعاية إذ لا يظهر غيرها.

وحيث ذكر الضمير العائد على القسم المخصوص بالذكور أو الإناث أو لهما معا استنشق منه بحسب الظاهر. وإن كان المراد غير شخص المذكور أن ذلك باعتبار المشيئة المحضة التي لا يجب فيه رعاية الأصلح ؛ لإفادته بحسب الظاهر أنه لا يجب عليه تخصيص ذلك الشخص ، بل لو شاء لجعل له الجميع. فلما وجدت هذه الفائدة في التعبير بالإضمار عدل إليه ، ولما عدل ناسب التعبير بأو ؛ ليفيد المباينة وإلا أفادت الواو أن الذي وهب الذكور فقط ، أو وهب الإناث فقط يجعل له الزوج أي الذكور والإناث معا ، وهو لا يصح ، هكذا أشار إليه بعضهم ، فتعرضنا له مع إيجاز وإيضاح ؛ لأنه مما تتشوف لمثله النفوس لدقته والله الموفق بمنه وكرمه.

ولكن لا يخفى ما في كون التعليق بالمشيئة في كل قسم مفيدا لاتباع المصلحة من مجرد الدعوى والتحكم بلا دليل. بل المشيئة إنما تفيد عدم الوجوب لوجه من الوجوه ، سواء كان مصلحة أو غيرها ، وذلك أصلها. تأمل.

التجريد

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (التجريد) أي : النوع المسمى بالتجريد (وهو) أي : التجريد (أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر) أي هو : أن ينتزع من أمر له صفة أمر آخر ، فآخر نائب فاعل ينتزع (مثله فيها) أي ويكون الأمر المنتزع من ذي صفة مثل ذي الصفة في تلك الصفة ، ويدل على أنه منتزع على أنه مثله في الصفة تعبير المتكلم عنه بما يدل على تلك الصفة كما يأتي في الأمثلة.


(مبالغة) أي والمقصود من ذلك الانتزاع إفادة المبالغة أي إفادة أنك بالغت في وصف المنتزع منه بتلك الصفة وإنما تبالغ كذلك (ل) أجل (كمالها) أي : لادعائك كمال تلك الصفة (فيه) أي : في ذلك المنتزع منه وإنما قلنا : لادعاء الكمال إشارة إلى أن إظهار المبالغة بالانتزاع لا يشترط فيه كونه كاملا في تلك الصفة في نفس الأمر ، بل الادعاء كاف سواء طابق الواقع أم لا.

ووجه دلالة الانتزاع على المبالغة المبنية على ادعائك الكمال ما تقرر في العقول من أن الأصل والمنشأ لما هو مثله في غاية القوة ، حتى صار يفيض بمثالاته فإذا أخذ وصف باعتبار تلك الصفة من موصوف آخر بها فهم أنك بالغت في وصفه ، حتى صيرته في منزلة هي بحيث كانت فيه تلك الصفة منشأ لتفريع أمثالها عنها وإيجادها عنه ، فهي فيه كأنها تفيض بمثالاتها لقوتها كما تفيض الأشعة عن شعاع الشمس ، وكما يفيض الماء عن ماء البحر فليفهم فإنه سهل ممتنع.

أقسام التجريد

وبمثل هذا علم أن فنون هذا العلم لا يخلو سهلها ـ كالبديع ـ من وجود الدقائق ورعايتها ، فضلا عن صعبها ، كالبيان والمعاني (وهو) أي التجريد (أقسام) عديدة ؛ لأن الانتزاع إما أن يكون بحرف أو بدونه ، والحرف إما من أو الباء أو في ، والباء إما داخلة على المنتزع منه أو داخلة على المنتزع ، وما يكون بدون حرف إما أن يكون لا على وجه الكناية ، أو يكون على وجهها ، ثم هو إما انتزاع من غير المتكلم ، أو انتزاع من المتكلم نفسه. فهذه أقسام أشار إليها وإلى أمثلتها بقوله :

(فمنها) أي : من تلك الأقسام ما يكون حاصلا بمن التجريدية (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالصداقة : (لي من فلان صديق حميم) أي : صديق قريب لي كأنه نفسي ، بحيث يهتم بأمري كما أهتم أنا به.

وإنما يقال هكذا إذا قصد إظهار المبالغة في صداقته ، حتى صار بحيث يفيض عنه صديق آخر.


وهذا القسم لم يمثلوا منه إلا بما تدخل فيه من على المنتزع منه ، ولما كان تسميتها تجريدية أمرا عاما لها وللباء ، لم يفهم من تلك التسمية أمر يشعر إشعارا بينا ببعض المعاني المعهودة لمن ، كما أنه كذلك في الباء فيحتاج إلى أن يبين لها ما يناسب من معانيها ، وكذلك الباء فيما يأتي والمناسب لها حيث دخلت على المنتزع منه أن تكون للابتداء ؛ لأن المنتزع مبدؤه ونشأته من المنتزع منه ، الذي هو مدخول من. وأما جعلها للبيان فلا تفيد المبالغة ، فإن بيان شيء بشيء لا يدل على كمال المبين في الوصف ، بخلاف جعله مبدأ ومنشأ لذي وصف باعتبار ذلك الوصف ، فكأنه قيل : خرج من فلان إلى وأتاني منه صديق آخر حميم فليتأمل.

فقولهم : لي من فلان صديق حميم يفيد المبالغة في وصف فلان بالصداقة (أي : بلغ) فلان (من) مراتب (الصداقة حدا) أي : مكانا (صح معه) أي : صح مع ذلك الحد وذلك المكان ، أي : صح بمصاحبته للاتصاف بذلك القدر من الصداقة (أن يستخلص منه) أي أن يستخرج من فلان صديق (آخر) حميم (مثله فيها) أي : في الصداقة.

وينبغي أن يعلم أن المبالغة إنما يناسبها كل المناسبة خروج صديق منه ؛ لأن صداقته بلغت إلى حيث تفيض عنها صداقة أخرى وأما الاستخلاص فإنما يناسب الانتزاع بالدعوى ، وفيها الإشعار بالتطلب والتكلف وإن كان يفيد أنه قد اشتمل على زائد يستخلص منه. إلا أن المعنى الأول أقوى كما قررناه فيما تقدم.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه ، (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالكرم : (لئن سألت فلان لتسألن به البحر) فقائل هذا القول بالغ في اتصاف فلان بالسماحة حتى صار بحيث ينتزع منه كريم آخر يسمى بحرا مثله في الكرم والباء هذه حيث قامت قرينة على أن المراد بالبحر ما يجرد من مدخولها يناسبها من معانيها الأصلية أن تكون للمصاحبة ، أي : لتسألن مع فلان حين سؤالك له بحرا آخر معه يسأل ؛ لكونه مثله في الكرم ، ويحتمل أن تكون سببية أي : لتسألن بسببه البحر بمعنى أنه كان سببا لوجود بحر آخر معه مجردا منه ، أي : خارجا منه مثله يسأل معه.


(ومنها) أي : ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدخول الباء التجريدية الداخلة في المنتزع بعد دخول الأصلية في المنتزع منه وذلك (نحو قوله : وشوهاء) (١) أي : وفرس شوهاء ، أي : قبيحة المنظر والوصف بالشوهائية أي قبح الوجه ، وإن كان قبيحا في أصله ، لكنه يستحسن في الخيل لأن ذلك يكون لمجرد سعة أشداقها ؛ وذلك يدل على كمالها وقوتها. وقد يكون ذلك لما يصيبها من شدائد الحرب ، من الإصابة عند الطعن والضرب ، وذلك يدل على أنها مما تعد للشدائد ؛ لقوتها وأهليتها ، ومما جرب للملاقاة ، ويتكل عليها في الحروب والتصادم ، وذلك كمال فيها أيضا. (تعدو) أي من وصف تلك الفرس أنها تعدو أي : تسرع (بي إلى صارخ الوغى) أي : إلى الصارخ في مكان الوغى ، والوغى : الحرب ، والصارخ : هو الذي يصيح وينادي لحضور الحرب والاجتماع إليه. (بمستلئم) أي بلابس اللأمة وهي : الدرع من الحديد فقوله : بمستلئم مجرد من المجرور ، وبالباء الأصلية ، والباء فيه للمصاحبة ، أي : تعدو مع مستلئم آخر فقد بالغ في ملابسة لبس اللأمة للحروب وملازمتها حتى صار بحيث يجرد منه مستلئم آخر مثله في ملابستها ولزومها استعداد للحروب.

ولا يناسب هنا إلا معنى المصاحبة في الباء ؛ لأنها لو جعلت للسببية كان التقدير : تعدو بي بسبب مستلئم ، فيكون المستلئم الذي هو نفس المنتزع سببا للمجرد منه وهو اللابس للأمة حقيقة ، والمقدر أن المجرد منه هو السبب والمنشأة لا العكس ؛ ولذلك جعلت هنا للمصاحبة دون السببية ولو كان يمكن هنا اعتبار السببية فيها أيضا بتكليف ، وذلك بأن تدعى المبالغة حتى صار الأصل والسبب فرعا ومسببا ، أو يدعى أن عدو الفرس بسببية ذلك المستلئم ، أي : استعداده أوجب عدو الفرس للحرب ، كأنه حث على ذلك ، وهو يرجع إلى الأول ، إذ كونه سببا في العدو معناه كونه سببا في وجودي حال كوني مسرعا للحرب وإنما لم يحمل على ذلك ؛ لأن المبالغة المفيدة للتجريد تكفي للحسن ومتى زيد عليها ما أوجب العكس صار الكلام كالرمز ، وصار في غاية البرودة بالذوق السليم.

__________________

(١) البيت لذى الرمة فى ديوانه ص (١٤٩٩) ، وشرح عمدة الحافظ ص (٥٨٩) ، وبلا نسبة فى المقاصد النحوية.


ثم وصف الشوهاء بإنها (مثل الفنيق) وهو الفحل من الإبل الذي ترك أهله ركوبه تكرمة له. (المرحل) أي المزعج ، فالمرحل من رحل البعير ، بتشديد الحاء إذا أشخصه وأرسله وأزعجه عن مكانه وشبه الفرس به في القوة والعلو وعدم القدرة على مصادمتها فقد ظهر أنه انتزع من نفسه مستلئما آخر أي مستعدا للحرب مبالغة في استعداده للحرب ولزومه ليس اللأمة ، له حتى صار بحيث يخرج منه مستعد آخر يصاحبه ، وقد أدخل الباء على المنتزع دون المنتزع منه ، كما في القسم قبل هذا.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدخول في على المنتزع منه وذلك (نحو قوله تعالى) في التهويل بأمر جهنم ووصفها بكونها محلا للخلود ، وكونها لا يعتريها ضعف ولا اضمحلال ولا انفكاك أهلها عن عذابها : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) أي) لهم (في جهنم) دار الخلد (وهي) أعني جهنم نفسها (دار الخلد) ولكن بولغ في اتصافها بكونها دارا ذات عذاب مخلد ، حتى صارت بحيث تفيض وتصدر عنها دار أخرى ، هي مثلها في الاتصاف بكونها دارا ذات عذاب مخلد وفي هنا للظرفيه فكأنه قيل إن ثم دارا أخرى كانت في هذه الدار التي هي دارهم الملازمة لهم ، التي لا ينفك عنهم عذابها ، ولا يضعف مع طول الخلود ، ولا تفني بتصرم الأحقاب ولا تبيد ولا تنال فيها الراحة باستمرار الارتقاب ، وكل ذلك للمبالغة في اتصافها بالشدة وللتهويل بأمرها في العذاب ، وعدم انقطاعه بطول المدة ، فكأنه قيل : ما أعظم تلك الدار ، في لزومها لهم وكونها لا تضعف بالخلود ، حتى إنها تفيض بدار أخرى مثلها في اللزوم وقوة العذاب بلا ضعف مع التخليد. وقانا الله برحمته من هولها وعذابها نحن وآباءنا ، وأولادنا ، وأزواجنا ، وأشياخنا ، وإخواننا ، وجميع المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه وسلم.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بدون توسط حرف أصلا ، ولكن يؤتى بالمنتزع على وجه يفهم منه الانتزاع بقرائن الأحوال بلا حرف يستعان به

__________________

(١) فصلت : ٢٨.


على إفادة التجريد ، وذلك (نحو) قوله : (فلئن بقيت) (١) حيا (لأرحلن) أي : لأسافرن (بغزوة). من وصف تلك الغزوة إنها (تحوي) أي : تجمع (الغنائم) أي : يجمعها أهلها يعني نفسه (أو) بمعنى إلا على حدها في قولك ؛ لأقتلن الكافر أو يسلم. أي : إلا أن يسلم ، والفعل بعدها منصوب بأن ؛ فالمعنى تحوي تلك الغزوة الغنائم إلا أن (يموت كريم). ومعناها لكن أي : لكن إن مات هذا الكريم يعني نفسه لم يحو الغنائم ، وإنما كانت كذلك لأن البقاء المتعلق بالغزوة لا يشتمل على الموت ولا شك أن معنى الكلام كما أفاده السياق : أني أجمع الغنائم ، أو أموت فالمراد بالكريم نفسه ـ كما ذكرنا ـ فقد انتزع من نفسه بقرينة التمدح بالكرم كريما مبالغا في وصفها بالكرم لدلالة الانتزاع على أنه بلغ في الكرم إلى حيث يفيض ويخرج عنه كريم آخر مثله في الكريم. وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن المتكلم بنحو هذا الكلام مما يتبادر منه أنه أقيم الظاهر فيه مقام المضمر ، يحتمل أن يقصد المبالغة في وصف نفسه بذلك الوصف ، كما وصف نفسه بالكرم هنا ، ثم بالغ حتى انتزع من نفسه كريما آخر.

وقد دلت قرينة المدح هنا على قصد ذلك لأن المبالغة في المدح أنسب له ، فيكون تجريدا كما قررناه ويحتمل أن يريد مطلق التنطع في التعبير وتحويل الكلام ، من أسلوب إلى أسلوب ؛ ليتجدد فيمال إليه ولا يمل ، فيكون التفاتا والمعنيان لا تنافي بينهما فيمكن أن يقصدهما المتكلم معا فيكون في الكلام تجريد والتفات فعلى هذا لا يرد أن يقال : التعبير بالكريم من باب الالتفات ، حيث أقيم الظاهر الذي هو لفظ الكريم مقام المضمر ، إذ لا يخفى أن الأصل كما قررناه : أو أموت. وإنما لم يرد ؛ لأنه لا تنافي بين الالتفات والتجريد على ما ذكرنا ذلك الآن وقررناه وظاهر ما دفع الإيراد المذكور أن الالتفات يجتمع مع التجريد في لفظ واحد وفي قصد واحد بحيث يراد باللفظ الواحد أن يكون للالتفات والتجريد في استعمال واحد ، وفيه بحث ؛ لأن مبنى الالتفات على الاتحاد ومبنى التجريد على التعدد ، يعني أن الالتفات هو أن يعبر عن معنى بعد التعبير

__________________

(١) البيت لقتادة بن مسلمة الحنفى ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٢٧٨) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٨).


عن ذلك المعنى بنفسه ، أو بعد استحقاق المقام التعبير عنه بلفظ آخر ، من غير أن يكون ثم اختلاف بين المعبر عنه لفظا أو تقديرا أولا ، وبين المعبر عنه ثانيا.

والتجريد هو أن يعبر عن معنى مجرد عن معنى آخر مع اعتبار أن المجرد شيء آخر فعلى هذا لا يصح أن يقصد الالتفات والتجريد في لفظ واحد ؛ لتنافي لازميهما وتنافي اللوازم يوجب انتفاء الملزومات. نعم لو قيل في الجواب أنه كما صح الالتفات يصح فيه التجريد على البداية لا على الاجتماع ؛ وذلك أن من المواد ما يصلح لقصد التجريد فقط ، ومنها ما يصلح للالتفات فقط ومنها ما يصلح لهما معا ، فالأول كما تقدم في قولهم لي من فلان صديق حميم ، إذ لا معنى للالتفات فيه ؛ لاتحاد الطريقتين فيه إذ هما معا غيبة.

والثاني : كقوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ) (١) إذ لا معنى للتجريد هنا.

والثالث : كالمثال الذي نحن في البحث فيه ، والتمثيل به ، على أنه تجريد ، ويدل على ذلك قرينة المدح كما تقدم ، كان وجها وأما أنهما يجتمعان قصدا فلا يصح كذا قيل : والحق أن الالتفات إن شرط فيه الاتحاد حقيقة ومن كل وجه من غير اعتبار المخالفة أصلا ـ كان منافيا في القصد للتجريد لوجود المخالفة فيه ؛ لأن المعنى المجرد قد اعتبر غير المجرد منه ، وإن شرط فيه وجود مطلق الاتحاد في نفس الأمر صح معه اعتبار المخالفة المصححة للتجريد الدال على المبالغة ، ويعتبر الاتحاد في نفس الأمر المصحح لقصد التنطع في التعبير ، وقصد تجديد الأسلوب زيادة في حسن الكلام فليتأمل.

(وقيل : تقديره) أي تقدير الكلام السابق (أو يموت منى كريم) بزيادة منى فحينئذ لا يكون قسما يرأسه لعوده إلى ما دخلت فيه من على المنتزع منه كقولهم : لي من فلان صديق حميم ، وذلك أن المقدر كالمذكور.

(وفيه نظر) أي وفي هذا القول نظر ؛ لأن تقدير شيء زائد في الكلام إنما يحوج إليه عدم تمام المعنى بدونه وهذا الكلام يفهم منه أن المتكلم جرد من نفسه كريما آخر

__________________

(١) الكوثر : ١ ، ٢.


بلا تقدير المجرور بمن لأنه عادل بين كونه يحوي الغنائم أو يموت الكريم. والمطروق الجاري على الألسن أن يقال : لا بد لي من الغنيمة أو الموت فيفهم منه أن المراد بالكريم نفسه والمدح المستفاد من التعبير بلفظ الكريم يقتضي المبالغة المصححة للتجريد. وقيل وجه النظر أن الكلام حينئذ يكون التفاتا من التكلم إلى الغيبة ، ويرد بوجهين.

أحدهما : أن الالتفات لو كان هو وجه النظر لم يتوقف على تقدير قوله : مني ؛ لأن المقام للمتكلم بدون تقدير مني. فكيف يقال : وفيه نظر ؛ لأنه التفات مع وجود مثل هذا النظر في مثال المنظر وهو المصنف؟ والآخر : أن الالتفات لا ينافي التجريد على ما قررناه آنفا ، فلا يصح التنظير به في التجريد.

(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون مدلولا فيه على المعنى المجرد بطريق الكناية ، التي هي أن يعبر بالملزوم ويراد اللازم ، مع صحة إرادة الأصل ، وذلك (نحو قوله : يا خير من يركب المطي) (١) جمع مطية وهي المركوب من الإبل (ولا يشرب كأسا) وهو إناء من خمر (بكف من بخلا) أي : بكف من هو موصوف بالبخل فقوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن المراد (أي : يشرب الكأس بكف الجواد) والجواد تجريد ؛ وذلك أن المتكلم (انتزع منه) أي من المخاطب (جوادا) آخر (يشرب بكفه).

وجرى في إفادة هذا المعنى (على طريق الكناية ؛ لأنه) أي : وبيان جريانه على طريق الكناية التي هي التعبير بالملزوم عن اللازم أنه أي أن المخاطب (إذا نفي عنه الشرب بكف البخيل) وذلك هو المصرح به في قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، ومعلوم أن ذلك المخاطب من أهل الشرب (فقد أثبت له) أي للمخاطب (الشرب بكف كريم) لأن الشرب لما تحقق في نفس الأمر ولم يكن بكف بخيل فقد كان بكف كريم ، إذ لا واسطة بينهما. (ومعلوم) أيضا (أنه إنما يشرب غالبا بكف) نفسه (فهو) حينئذ (ذلك الكريم) في نفس الأمر.

__________________

(١) البيت للأعشى الأكبر ، أعشى قيس ، فى الإيضاح ص (٢٤٤) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٨).


ومن البين أن الغرض في الكناية عن الشرب بكف الكريم ـ بنفي الشرب بكف البخيل ـ إنما هو الوصف بالكرم وأما الشرب بالكف فهو واسطة لا يتعلق به الغرض ، ولكن شربه بكف كريم يستلزم لما كانت الكف للممدوح ـ أنه كريم ـ فالكناية في الحقيقة عن الكريم ، لا عن كونه يشرب الخمر بكفه ، وقد يقال : إن الشرب مما يتمدح به لزعمهم في الجاهلية أن فيه مصالح كالشجاعة وزيادة الكرم ، فعليه تكون الكناية عنه مقصودة أيضا وعلى كل حال فقد جرد كريما آخر من المخاطب ، وكنى عنه أو عن شربه بكفه المستلزم له بنفي الشرب بكف البخيل ، ولا منافاة بين الكناية وكون المكنى عنه مجردا من غيره ، فإنه كما صح التعبير عن المجرد بالتصريح يصح بالكناية. فلو امتنع التعبير عن المجرد بالكناية لامتنع بالتصريح. وقد خفى هذا الذي قررناه ـ من كون التجريد لا ينافي الكناية ـ على بعضهم ، فزعم ذلك البعض أن كلام المصنف ـ في جعل هذا تجريدا بالكناية ـ لا يصح لأن الخطاب في قوله : يا خير من يركب المطي. إن كان لنفسه فهو تجريد ؛ لأنه صير نفسه أمامه مخاطبا ، وإنما يصيرها كذلك بالتجريد.

وإذا كان هذا تجريدا فقوله : ولا يتشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم ؛ ليكون وصفا للمجرد أولا.

ولا تجريد في الكناية نفسها ؛ لأن التجريد وقع أولا. والكلام في كون الكناية تتضمن تجريدا مستقلا ولم يوجد على هذا وإن كان خطابا لغيره كان قوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن الكريم الذي هو ذلك المخاطب ، بواسطة دلالته على أنه يشرب بكف كريم ، مع العلم بأن الكف كفه ونحن نقول في الرد على هذا البعض أن الكناية لا تنافي التجريد ، كما قررناه قريبا إذ يصح أن يجرد المعنى ، ثم يعبر عنه بلفظ الكناية ، كما يصح بلفظ التصريح. ونقول أيضا في الرد على ذلك البعض في مقتضى كلامه ـ وهو أنه يصح أن يكون خطابا لنفسه ـ : لو كان الخطاب لنفسه لم يكن هذا المثال قسما برأسه ، بل يكون داخلا فيما بعد وهو التجريد في مخاطبة الإنسان نفسه ، ولكن هذا الرد يتوقف بالنسبة إلى الطرف الثاني من الاعتراض ، وهو أنه إن أراد خطاب غيره كان كناية ، ولا يكون تجريدا ، على أن المعترض يقول بمنافاة التجريد


للكناية ، وأن ذلك وجه الاعتراض وأما إن كان مراده أن كونه كناية عن ثبوت الكرم يكفي في ثبوت المراد ، ولا يحتاج إلى تطويل المسافة بأن يجرد من المخاطب كريم ثم يكنى عنه لحصول المقصود بدونه ، مع انتفاء الدليل على اعتباره ـ فلا يتم الرد إلا ببيان أن التجريد مقصود لدليل من الأدلة ، وأن المجرد هو المكنى عنه ، وقد بين ذلك بأن العدول عن الإضمار بأن يقول : لا يشرب بكفه حال كونه بخيلا مثلا إلى المدح بوصف الكرم بطريق الإظهار يدل على قصد المبالغة في المدح ؛ لأنها أنسب به كما تقدم. والمبالغة تقتضي التجريد مع ظهور التباين في التعبير بهذا الظاهر بالذوق السليم تأمله.

ويتوقف بالنسبة إلى الطرف الأول على أن المعترض يقول بصحة حمله على التجريد بواسطة كونه خطابا نفسيا ويقول بأن كلام المصنف يصح بذلك التقدير على أن يكون قسما مستقلا ؛ وذلك لأنه حينئذ يتجه أن يقال : لا يصح كونه مستقلا ؛ لدخوله فيما بعده وأما إن أراد الرد على المصنف على كل حال فكأنه يقول : إن أراد خطاب غيره فهو فاسد ؛ لكذا ، وإن أراد خطاب نفسه فلا يصح أيضا ؛ لأنه وإن كان تجريدا فهو داخل فيما بعده ؛ فكيف يصح عده مستقلا؟ فلا يرد عليه الرد المذكور قطعا ؛ لأنه نفس اعتراضه حينئذ تأمل.

فإن المكان سهل ممتنع ، والسهل الممتنع أصعب من الصعب المحض ؛ لأنه لا يغتر فيه ، ولذلك تراني في مثله أطيل النفس ، وأبسط العبارة ؛ ليتضح المراد والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم أشار إلى التجريد الحاصل بمخاطبة الإنسان نفسه ؛ وأنه قسم من التجريد فقال.

(ومنها) أي : ومن أقسام التجريد ما تدل عليه (مخاطبة الإنسان نفسه) وذلك أن المخاطب أمام الإنسان فلا يخاطب نفسه حتى يجعل نفسه أمامه ليخاطبها ، ولا يجعلها أمامه حتى يجرد من نفسه مخاطبا آخر ، أي انتزع من نفسه شخصا آخر ، يكون مثله في الصفة التي سيق الكلام لبيانها ، وبيان ما يلائمها ؛ ليتمكن له خطابه فمخاطبة


الإنسان نفسه تستلزم التجريد وذلك (كقوله) أي : المتنبي (لا خيل عندك تهديها ولا مال) (١) فهذا الكلام إنما سيق لبيان فقره ، وأنه عديم الخيل والمال ، أي : لا غناء عنده يهدي منه ليكافيء بذلك إحسان الممدوح ، فجرد من نفسه مخاطبا مثل نفسه في هذه الصفة التي هي كونه لا خيل عنده ولا غنى يهدي منه فخاطبه بقوله :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

أي وحيث لم يوافق في تحصيل الغرض الحال أي الغنى ؛ لامتناعه وعدم وجدانه فليوافق النطق بالمدح والثناء ليكون ذلك مكافأة للممدوح بما أمكن.

المبالغة

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (المبالغة المقبولة) أي : النوع المسمى بذلك ، وقيد بالمقبولة إشارة إلى أن من المبالغة ما لا يقبل ، فلا تكون من البديع المعنوي ردا على من قال : تقبل مطلقا إذ حاصلها أن يثبت في الشيء من القوة أو الضعف ما ليس فيه. وأعذب الكلام أكذبه مع إيهام الصحة وظهور المراد فتكون من المحسنات مطلقا.

وإنما قلنا مع إيهام الصحة وظهور المراد ؛ لئلا يتوهم أن أحدا من العقلاء يقول في الكلام الكذب المحض الذي قصد ترويج ظاهره مع فساده أنه مستحسن وردا على من قال : لا تقبل مطلقا. إذ لا خير في كلام أوهم باطلا ، أو حققه كما قال السيد حسان رضي الله تعالى عنه.

فإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا (٢)

فهذان قولان مطلقان. والمختار كما أشار إليه المصنف التفصيل وهو أن المبالغة إن كانت غير غلو قبلت ، وإن كان غلوا ـ وسيأتي تفسيره ـ فإن كان معها لفظ يقربها من الصحة ، أو تضمنت نوعا حسنا من التخييل ، أو خرجت مخرج الهزل والخلاعة

__________________

(١) البيت للمتنبي فى ديوانه (٢ / ٢٥٠) ، وهو ضمن قصيدة قالها يمدح بها أبا شجاع ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٩٩).

(٢) لحسان بن ثابت فى شرح المرشدى (٢ / ١٠١).


قبلت وإلا ردت ثم فسرها على الإطلاق ليرتب على تفسيرها تفصيلها. وبيان المقبول منه كما أشرنا إليه فقال :

(والمبالغة) على الإطلاق أي من غير تقييد بالمقبولة (أن يدعى لوصف) أي أن يثبت لوصف بالدعوى لا بالتحقيق ، ولتضمين يدعى معنى الإثبات عداه باللام (بلوغه) نائب فاعل يدعى (في الشدة) متعلق بمقدر أي ذاهبا ، أو مترقيا في مراتب الشدة (أو الضعف حدا) مفعول بلوغ والتقدير هي أن يدعي مدع أن هذا الوصف بلغ ووصل من مراتب الشدة حدا أي طرفا ومكانا (مستحيلا أو) مكانا (مستبعدا) يقرب من المحال ويحتمل أن تكون في بمعنى من في قوله في الشدة كما أشرنا إلى ذلك في تقدير أصل الكلام ثم أشار إلى العلة الحاملة للبليغ على إيجاد تلك المبالغة فقال : وإنما يدعى ذلك البلوغ للوصف إلى تلك المنزلة ؛ (لئلا يظن) أي : يتوهم (أنه) أي : أن ذلك الوصف (غير متناه) بل متوسط أو هو دون المتوسط (فيه) أي في أحد المذكورين وهما الشدة والضعف ، ولاعتبار عود الضمير إلى أحد الأمرين أفرده وذكره ، فإنك إذا عطفت بأو جاز أن تعيد الضمير مفردا مذكرا ؛ لأن المحكوم عليه في المتعاطفين بأو هو :

أحدهما كما تقول : جاءني زيد أو عمرو فأكرمته ، إذ معنى الكلام جاءني أحدهما فأكرمت ذلك الأحد.

وفي ذلك تفصيل عند بعض النحويين ، وفهم من قولنا : أشار إلى أن العلة الحاملة على إيجاد المبالغة أن قوله لئلا يظن إلخ ليس داخلا في حد المبالغة ، وإنما هو بيان لعلة أصلها وإيجادها ، ويحتمل أن يعتبر أنها إن لم تكن بهذه العلة ، ولهذا القصد بأن كانت مع الغفلة عن ذلك لم تسم ، مبالغة فيكون التعليل المذكور داخلا في الحد.

أقسام المبالغة : التبليغ والإغراق والغلو

ثم أشار إلى حصر أقسامها بقوله (وتنحصر) المبالغة في الجملة (في التبليغ) أي فيما يسمى تبليغا أخذا من قوله : بلغ الفارس إذا مد يده بالعنان ليزداد الفرس في الجري (والإغراق) أي : وفيما يسمى بالإغراق أخذا من أغرق الفرس إذا استوفى الحد في جريه (والغلو) أي : وفيما يسمى بالغلو أخذا من غلا في الشيء تجاوز الحد فيه ويتبين بتفسير


مأخذ التسامي وجه مناسبتها لمسمياتها فيما يأتي تفسيرها ، وحصر المبالغة في الثلاثة متقرر بالدليل القطعي لا بمجرد الاستقراء ، وبيان ذلك أن المبالغة كما تقدم هي أن يدعي أن الوصف منته في الشدة أو الضعف إلى الغاية فالمدعي وهو انتهاؤه إلى الغاية لا يخلو إما أن يكون ممكنا عادة ويلزمه كونه ممكنا عقلا أو لا يكون ممكنا عقلا ، ومن المعلوم أنه إن لم يمكن عقلا لم يمكن عادة وإنه لا يلزم من عدم إمكانه عادة عدم إمكانه عقلا ومن ثم انحصر الثاني في قسمين فالأول وهو الممكن عادة وعقلا هو المسمى بالتبليغ ؛ لأن فيه مجرد الزيادة على المقدار المتوسط فناسب معناه اللغوي كما تقدم.

والثاني وهو أن لا يمكن عادة ويمكن عقلا هو المسمى بالإغراق ؛ لأنه بلغ فيه إلى حد الاستغراق حيث خرج عن المعتاد فناسب المعنى اللغوي أيضا. والثالث وهو أن يستحيل عادة وعقلا هو المسمى بالغلو لتجاوزه حد الاستحالة العادية إلى الاستحالة العقلية ، فناسب معناه اللغوي أيضا وإلى هذا التفصيل وأمثلته أشار بقوله (لأن المدعى) أي إنما انقسمت المبالغة إلى الأقسام الثلاثة لأن المدعى وهو بلوغ الوصف إلى النهاية شدة أو ضعفا (إن كان) هو أي : ذلك المدعى (ممكنا عقلا وعادة) وقد علمت أن الإمكان العادي يستلزم العقلي دون العكس (فهو) أي : فدعوى بلوغه ما ذكر (تبليغ) أي يسمى تبليغا كما تقدم وذلك (كقوله) أي : امرئ القيس (فعادى) (١) أي : والى الفرس (عداء) أي ولاء يقال والى موالاة وولاء بين صيدين إذا صرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد وصرع كمنع ، يصرع كيمنع ألقى الصيد أو غيره على وجه الأرض ، والطلق للفرس : سبق واحد لم يتخلله وقفة إراحة (بين ثور) متعلق بعادى أي : والى بين ثور وهو الذكر من بقر الوحش (ونعجة) وهي الأنثى منه (دراكا) بكسر الدال على وزن كتاب وهو لحاق الفرس الصيد وإتباع بعضه بعضا في القتل ، وهو من أدرك إذا لحق ، وأدرك هذا بهذا أتبعه إياه وينبغي أن يحمل هنا على معنى أن الموالاة بين الصيدين أتبع بعضها بعضا ليفيد أنه قتل الكثير في طلق واحد ولئلا يكون تأكيدا لقوله عداء (و)

__________________

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٢٢) ، والإشارات ص (٢٧٨) ، والمصباح ص (٢٢٤) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٩).


من وصف ذلك الفرس الذي تابع بين الصيدين أو تابع بين موالاتهما في طلق واحد أنه (لم ينضح) أي : لم يرشح (بخروج) (ماء) أي عرق (فيغسل) مجزوم عطف على لم ينضح أي لم يعرق ولم يغسل ، والغسل المنفي يحتمل أن يراد به غسل العرق ويكون تأكيدا لنفي العرق ويحتمل أن يراد الغسل بالماء القراح أي لم يصبه وسخ العرق وأثره ، حتى يحتاج إلى الغسل بالماء فمضمون هذا الكلام أن فرسه أدرك ثورا ونعجة أو أثوارا ونعاجا على الاحتمالين في مضمار واحد وهذه الدعوى أعني ادعاء بلوغ الفرس في القوة والسبق إلى هذه الحالة ممكنة عادة وعقلا ، وإن كان وجودها في الفرس في غاية الندور ، ومن ثم كانت مبالغة وتسمى أو دعواها تبليغا كما تقدم.

(وإن كان) المدعى (ممكنا عقلا لا عادة) فهو أي : فدعوى بلوغه إلى حيث يستحيل بالعادة ، وإنما بقى له الإمكان العقلي (إغراق) أي يسمى إغراقا لما تقدم وذلك (كقوله : ونكرم جارنا ما دام) (١) مقيما (فينا) أي : معنا وفي مكاننا (ونتبعه) إن رحل عنا وسكن مع غيرنا (الكرامة) واتباع الكرامة للجار إرسالها إليه وبعثها في أثره وإبلاغها إياه (حيث مالا) أي : حيث صار ووصل فمضمن هذا البيت أنهم يكرمون الجار في مقامه لديهم ، وفي كونه مع غيرهم وارتحاله عنهم ولا شك أن إكرام الجار لتقدم جواره في حال كونه مع الغير محال عادة حتى إنه يكاد أن يلتحق بالمحال عقلا في هذا الزمان لانطباع النفوس على الشح وعدم مراعاة غير المكافأة ، وهذا المثال إنما يصح كما ذكر إذا حمل الكلام على أن المراد إعطاء الجار الإحسان بعد جواره ولو بعد الانفصال والكون مع الغير وإدامة ذلك أبدا.

وأما إن حمل على أن المراد إعطاء الجار زاده حال الارتحال إلى جهة أخرى فهذا لا يستحيل عادة لوقوع مثل ذلك في بعض الأوقات من الأكابر وذوي المروءات.

(وهما) أي التبليغ والإغراق (مقبولان) معا على الإطلاق لعدم ظهور الامتناع الكلي فيهما الموجب لظهور الفساد والكذب (وإلا) أي وإن لم يكن المدعى ممكنا عقلا ويلزم أن لا يكون ممكنا عادة أيضا ؛ إذ لا يتصور أن يكون الشيء ممكنا عادة ممتنعا

__________________

(١) البيت لعمرو بن الأيهم الثعلبى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، والمصباح ص (٢٢٤) ، شرح المرشدى (٢ / ١٠).


عقلا ضرورة أن الممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس كليا أي ليس كل ممكن عقلا ممكنا عادة لأن دائرة العقل أوسع من العادة.

(فهو) أي : فادعاء بلوغ الشيء إلى تلك المنزلة وهو أن يكون الشيء غير ممكن عقلا المستلزم لكونه غير ممكن عادة (غلو) أي : يسمى بالغلو لما تقدم وذلك (كقوله) أي : أبي نواس (وأخفت أهل الشرك) (١) أي أدخلت في قلوبهم الرعب ببطشك وهيبتك (حتى إنه) أي : حتى إن الأمر والشأن هو هذا وهو قوله (لتخافك النطف) جمع نطفة وهي الماء المخلوق منه الإنسان (التي لم تخلق) أي النطف التي لم يخلق منها الإنسان بعد أو لم تخلق هي بنفسها أي لم توجد فقد بالغ في إخافته أهل الشرك حتى صيره تخافه النطف التي لم توجد أصلا أو لم يوجد إنسانها بعد ومعلوم أن خوف النطف محال لأن شرط الخوف عقلا الحياة فيستحيل الخوف من الموجود بدونها فضلا عن خوف المعدوم ، فهذه المبالغة غلو فمنه المردود مثل هذا المثال لعدم اشتماله على شيء مما يأتي من موجبات القبول ومنه المقبول.

(والمقبول منه) أي من ذلك الغلو (أصناف منها) أي من تلك الأصناف (ما) أي صنف (أدخل عليه) أي ما اشتمل الغلو فيه على (ما) أي لفظ (يقربه) أي يقرب ما وقع فيه الغلو (إلى الصحة) لأن في ذلك اللفظ عدم التصريح بوقوع ذلك المحال وذلك نحو لفظه يكاد في قوله تعالى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢) فإن إضاءة الزيت إضاءة كإضاءة المصباح محال عقلا ، فلو قيل في غير القرآن مثلا : يضيء هذا الزيت بلا نار. لرد وحيث قيل يكاد يضيء أفاد أن المحال لم يقع ولكن قرب من الوقوع مبالغة ومعنى قرب المحال من الوقوع توهم وجود أسباب الوقوع وقرب المحال من الوقوع قريب من الصحة ؛ إذ قد تكثر أسباب الوهم المتخيل بها وقوعه ولو كان لا يقع فلفظ كاد لما دل على القرب ، والقرب قريب من الصحة لما ذكر أن المحال قد

__________________

(١) البيت لأبى نواس فى ديوانه ص (٤٥٢) ، والطراز (٢ / ٣١٤) ، والمصباح ص (٢٢٩) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٠٠).

(٢) النور : ٣٥.


يقربه الوهم لأسباب جاءت المبالغة مقبولة في الغلو فإن قيل : قرب المحال من الوقوع محال في نفسه فيحتاج في ادعائه المفاد يكاد إلى ما يقربه وذلك يؤدي إلى التسلسل.

قلنا : قرب المحال من الوقوع لما فسر بما ذكر صار ليس بمحال ، وعلى تسليمه فيجعل كأنه أمر ضروري في بعض الصور لما ذكر من توفر أسباب توهمه واقعا ، فقيس على بعض الصور غيره لأن الباب باب المبالغة يتسمح فيه فلا يطلب له حيث عد قريبا بالضرورة مقرب آخر تأمله.

قيل : وينبغي لما مثل بالآية أن يقول بدل قوله يقربه إلى الصحة لا يظهر معه الامتناع تأدبا ، وهو كذلك ثم إن ما ذكر من كون إضاءة الزيت محالا عقلا غير ظاهر لصحة اتصاف كل جسم بما اتصف به الآخر ، اللهم إلا أن يراد بالاستحالة العقلية الاستحالة في عقول العامة ، أو يراد بالزيت الزيت بقيد كونه غير مضيء ، كما هو المشاهد وفي كل ذلك تمحل باعتبار إطلاقهم التفصيل ؛ لأن الظاهر منه الاستحالة الحقيقية المتقررة على الإطلاق وإلا فإكرام الجار نائيا أبدا باعتبار عقول العامة محال ، وكذا بقيد كونه غير مكرم كما هو في العرف والشهود.

(ومنها) أي : ومن الأصناف المقبولة من الغلو (ما) أي : الصنف الذي (تضمن نوعا حسنا من التخييل) أي : تخييل الصحة لكون ما اشتمل على الغلو يسبق إلى الوهم إمكانه لشهود شيء يغالط الوهم فيه فتتبادر صحته كما يذاق من المثال وقيد بقوله حسنا إشارة إلى أن تخييل الصحة لا يكفي وحده إذ لا يخلو عنه محال حتى إخافة النطف فيما تقدم وإنما المعتبر ما يحسن لصحة مغالطة الوهم فيه بخلاف ما يبدو انتفاؤه حتى للوهم بأدنى التفات كما في إخافة النطف ، فليس التخييل فيه على تقدير وجوده فيه حسنا فلا يقبل لعدم حسنه ، ثم مثل لما يتضمن النوع الحسن من التخييل فقال (كقوله) أي : كقول المتنبي (عقدت سنابكها) (١) أي حوافر الخيول الجياد (عليها) أي فوق رؤوسها (عثيرا) مفعول عقدت أي أثارت سنابك الخيل عثيرا : بكسر العين وسكون الثاء المثلثة وفتح الياء المثناة وهو الغبار من الأرض وأكثرت إثارته حتى انعقد

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح التبيان للعكبرى (٢ / ٤٥٦) ، والإشارات (٢٧٩) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٠٠).


أي : تضام وتراكم فوق رؤوسها ثم وصف الغبار بما فيه غلو فقال : من وصف ذلك الغبار إنه (لو تبتغي عنقا) أي لو تريد تلك الجياد عنقا أي : سيرا مسرعا (عليه لأمكنا) ذلك العنق وإرادة الخيل السير عبارة عن إرادة أهلها ، والخطب فيه سهل فلا شك أن إمكان مشي الخيل على الغبار في الهواء وهو مدعى الشاعر محال لضعف مقاومته ثقل الخيل بل مشي الدرة عليه غير ممكن لوهنه ولكن يخيل إلى الوهم تخييلا حسنا من ادعاء كثرته وكونه كالجبال في الهواء صحته فلا يحيله حتى يلتفت إلى القواعد ، فصار مقبولا بخلاف إخافة النطف فيما تقدم.

ولقائل أن يقول : إنما هنا أيضا الاستحالة العادية لإمكان مشي الخيل وعنقها في الهواء والريح فضلا عما إذا وجد جسم آخر معه ، وإن أريد الاستحالة العامية أو المقيدة بنفي الإمكان كان فيه من التمحل ما تقدم تأمل.

وههنا في العثير لطيفة أشار إليها بعضهم وهو الشارح العلامة في شرح المفتاح ، وذلك أنه لما فسره أشار إلى ضبطه بنوع لطيف متضمن للإيهام أو التوجيه فقال : العثير الغبار لا تفتح فيه لعين فعدم فتح العين يحتمل أن يراد به عدم فتح عين العثير أي أوله فيكون إشارة إلى ضبطه ، ويحتمل أن يراد عدم فتح العين المعلومة في نفس الغبار والمراد المعنى الأول. فإن قلنا إنه أبعد المعنيين كان في كلامه إيهام وتورية ، وإلا فتوجيه ، ولكن التوجيه يبعده قصد الضبط بالقرينة إلا أن يجوز تعيين القرينة في التوجيه ، وقد ذكرت هنا أيضا قصة تشتمل على هذه النكتة من فتح العين لإرادة معنى خفي فيكون تورية أو مساو فيكون توجيها لمناسبتها ، وهي ألطف مما ذكر العلامة لما فيها من التفطن الغريب والهجو بوجه لطيف لما يستحقه بدعوى القائل ، وذلك أن بعض البغالين أعني السائقين للبغال كان يسوق بغلة بسوق بغداد وكان بعض عدول دار القضاء حاضرا بالسوق ، فضرطت البغلة أي : تنفست بصوت فقال البغال على عادة أمثاله عند فعل البغلة ذلك تنزيها لنفسه عن أن تقابله بذلك الفعل بلحية العدل بكسر العين أي : ما فعلت يقع بلحية العدل لا في وجه السائق والعدل بالكسر : شق الوقر أي : الحمل فقال بعض الحذاق الظرفاء على الفور للبغال : افتح العين فإن المولى حاضر ، وقد


أغرب هذا القائل في تفطنه لما فيه إيهام أو توجيه مع الهجو بلطف وخفاء لأن قوله افتح العين يحتمل افتح عينك ترى المولى أي من هو أولى وأحق أن يقع ذلك في لحيته وهو العدل أي الشاهد ويحتمل افتح عين لفظ العدل لتصيب صاحب ما ذكرت ، فإن كان المعنى المراد خفيا فإيهام وإلا فتوجيه ، وهو أقرب في هذا المثال لصلاحيتهما معا ومن هذا المعنى أيضا أعني مما فيه تورية أو توجيه في مادة فتح العين ما وقع للشارح في قصيدة له وهو قوله في مدح ملك من الملوك :

علا فأصبح يدعوه الورى ملكا

وريثما فتحوا عينا غدا ملكا (١)

فقوله : فتحوا عينا يحتمل أن يراد فتحوا عين لفظ ملكا ـ أي : وسطه ـ فغدا بسبب الفتح ملكا فيكون معناه كذلك ، ويحتمل أن يراد فتحوا أعينهم فيه ونظروا إليه فوجدوه قد تبدل وصار ملكا ، فيتجه فيه التوجيه أو التورية على ما تقدم والريث مصدر راث إذا أبطأ يستعمل كثيرا بمعنى الزمان لإشعار البطء بالزمان ، ويضاف للجمل نائبا عن الزمان فيقال اجلس ريث أنا أكلمك بكلمتين أي : اجلس زمانا مقداره ما أكلمك فيه قيل ودخول ما فيه تكفه عن الإضافة إلى الجمل وفيه نظر والتقدير هنا أنه غدا ملكا في الزمان الذي مقداره ما يفتحون فيه العين ومما يناسب ما ذكره لكونه فيه الإشارة بضم العين إلى معنى خفي ولو لم تكن الإشارة باللفظ ولا فيه تورية ولا توجيه ما ذكره الشارح عن بعض أصحابه وهو أنه أتاه بكتاب فقال له أعني الشارح لمن هو فقال ذاك الآتي وهو من قوم يميلون في لهجتهم وكلامهم بالضم نحو الفتح هو يعني الكتاب لمولانا عمر بفتح العين يعني عمر بضمها ولعله أراد بعمر غير الفاروق كتب له كتابا إلى سائله فلما قال ذلك ضحك الحاضرون فنظر القائل إلى سائله كالمعترف بوجه سبب ضحكهم إلا أنه خفى عنه كالمسترشد لطريق الصواب أي كالطالب لما ينفي عنه سبب ضحكهم ومعلوم أن نفي السبب بعد إدراكه ، فأشار له السائل بضم عينه حسا ففهم الناظر أن سبب الضحك فتحه لعين عمر وأنه ينبغي له ضم عينه فاستظرف ذلك الحاضرون أي اعترفوا بظرافة المشير وفهم المشار له.

__________________

(١) البيت للمتنبى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، والتبيان (٢ / ٤٥٦).


ولما ذكر أن من أسباب قبول الغلو وجود لفظ يقرب من الصحة وكذا وجود تخييل يستحسن على ما أوضحنا ذلك ، ومن المعلوم أن اجتماع السببين أخروي في القبول أتى بمثال اجتمعا فيه فقال (وقد اجتمعا) أي اجتمع السببان الموجبان للقبول وهما إدخال ما يقربه للصحة وتضمنه تخييلا حسنا (في قوله يخيل لي) (١) أي يوقع في خيالي ووهمي (أن سمر الشهب) أي : أنه أحكمت الشهب ، وهي النجوم بالمسامير (في الدجى) أي : في ظلمة الليل (و) يخيل مع ذلك أن ، أي : أنه (شدت بأهدابي إليهن أجفاني) أي : شدت أجفاني بأهدابي إلى تلك الشهب ، فمضمون ما بعد قوله : يخيل لي وهو إحكام الشهب بالمسامير في الدجى ، وشد الأجفان بأهداب العين محال ، ولكن تضمن تخييلا حسنا ؛ إذ تسبق إلى الوهم صحته من جهة أن مثل هذا المحسوس تقع المغالطة فيه ـ كما تقدم في وجه الشبه الخيالي ـ وذلك أن النجوم بدت في جانب الظلمة ولم يظهر بحقيقة كنهه غيرها فصارت النجوم كالدر المرصع به بساط أسود فيسبق إلى الوهم من تخييل المشابهة قبل الالتفات إلى دليل استحالة شد النجوم بالمسامير في الظلمة صحة ذلك ولما ادعى أنه ملازم للسهر وأنه لا يفتر عن رؤية النجوم في الظلمة فصارت عينه كأنها لا تطرف فنزلت أهدابه مع الأجفان بمنزلة حبل مع شيء شديد في التعلق وعدم التزلزل خيل للوهم من المشابهة لما ذكر صحة ذلك أيضا ولما تضمن هذا التخيل الذي قرب هذا المحال من الصحة قبل الغلو الموجود في البيت ، وزاد ذلك قبولا تصريحه بأن ذلك على وجه التخييل لا على سبيل الحقيقة وتخيل المحال واقعا بمنزلة قربه من الصحة لكون ذلك غالبا ناشئا عن تخيل الأسباب فالتخيل موجود في نفسه ولفظ التخيل يقرب من الصحة ، فاجتمع السببان ، فإن قلت ما ضابط وجود التخييل الحسن؟ قلت المحكم في ذلك الذوق ويزاد بيانا في كل جزئية بما يناسب كما أشرنا إليه في المثالين قال قلت الدجى التي هي الظلمة إن كانت من قبيل الجرم فتسمير النجوم في أجرام لا يستحيل ، وكذا شد الأهداب إلى النجوم ممكن بإطالتها. قلت : النجوم كما هي يستحيل تسميرها بالمسامير المعهودة وهي المتحدث عنها في الجرم الكثيف فضلا

__________________

(١) البيت للقاضى الأرجانى كما فى الإشارات ص (٢٨٠) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٠٠).


عن اللطيف الذي معه ما يشبه الهشاشة هذا إذا قلنا إنها جرم كما هو مبنى السؤال ، وأما إن قلنا : إنها عرض فلا إشكال وهو المنصوص عن الحكماء إذ هي عندهم عدم الضوء وكذا شد الأهداب كما هي إلى النجوم كما هي مستحيل ضرورة ، فإن قيل هذا رجوع لعقول العامة أو حمل الاستحالة على وجود قيد مفيد وجودها وعند انتفائه يثبت الإمكان قلنا : التحدث عن الأشياء إنما هو على حسب معناها المعهود وما دام ذلك المعنى فالاستحالة متقررة وإجازة هذه الأمور بالحمل على غير المعتاد خروج عما يفهم من الخطاب ومثل هذا يقال في إضاءة الزيت والمشي على الغبار فيما تقدم وفي الكلام بعد لا يخفى فتأمل.

(ومنها) أي ومن أصناف الغلو المقبول (ما) أي : صنف (خرج مخرج الهزل) أي : خرج على سبيل الهزل وهو الإتيان بما يكون للتضاحك (والخلاعة) وهي عدم المبالاة بما يؤتى من منكر أو غيره والإتيان بما يراد من غير رعاية لفساده أو صحته وذلك (كقوله :

أسكر بالأمس إن عزمت على الشر

ب غدا إن ذا من العجب) (١)

والسكر بالأمس للعزم اليوم على الشرب غدا مستحيل لما فيه من تقدم المعلول على علته ، ولو قال : أسكر اليوم لما كان مستحيلا عقلا ، ويكون سبب السكر هو العزم على الشرب ، بل كان مستحيلا عادة ، ولك أن تقول كون فعل الجواب ماضيا ، وفعل الشرط مستقبلا أمر كما يمتنع عقلا يمتنع لغة ؛ فينبغي أن يكون هذا التركيب حينئذ غير صحيح لغة فلا يكون كلاما غريبا ، فليس مما نحن فيه شيء وليس هذا كقول القائل سكرت أمس لشربي غدا فإن هذا كلام عربي ؛ إذ ليس فيه أمر لفظي مخالف للغة العرب فيه يحسن التمثيل لهذا ، والذي يظهر أن هذا تمثيل فيكون كقولهم : زيد يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلا أن المشبه به هنا وهمي لا تحقيقي ، فإن مدلول هذه الألفاظ ليس موجودا ، بل متوهما وليس من شرط التمثيل أن يكون المشبه به الذي استعير تحقيقيا ، ألا ترى أنهم عدوا من التمثيل قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ

__________________

(١) البيت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٢٧٩) ، بلا عزو ، وشرح المرشدي (٢ / ١٠١).


مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(١) وإذا تقرر ذلك اتجه لك منع كون هذا القسم غير مقبول فإن المبالغة كلما قويت ازداد القبول كما أن الاستعارة كلما زيد فيها ازدادت حسنا.

(تنبيه) ما ذكره المصنف من المبالغات هو فيما يتعلق بالمركبات وذكر جماعة المبالغة على وجه يعم المفرد والمركب فقال الرماني المبالغة على ضروب منها المبالغة في الصفة المعدولة غير الجارية فإنها جاءت على فعلان وفعال وفعول وفعيل ومفعل معدول عن فاعل مثل مدعس عن داعس ومطعن عن طاعن ومفعال مثل مطعام وزاد عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة فزاد فيها مفعيل وفعيل وفعل وفعال في النداء مثل يالكع ويالكاع قال الجاحظ : قالوا للفارس شجاع فإن زاد قليلا قالوا بطل فإن زاد قالوا لهمة فإن زاد قالوا كمي فإن زاد قالوا صنديد فإن بلغ الغاية قالوا : أليس وكذلك يجرى الحال في سائر الطبقات مثل الكريم والحليم والبخيل والعالم والجاهل فإنهم يقولون سليم الصدر ، فإن زاد قالوا : مغفل ، فإن زاد قالوا : مائق ثم أنوك ثم معتوه ، قلت : ما ذكره الجاحظ في تفصيل أحوال الفارس فيه مخالفة لغيره قال الفراء رجل شجاع ثم بطل ثم لهمة ثم ذمر ثم حلس وحليس ثم أمعس أليس ثم غشمشم وأيهم ، وقال مثله ابن الأعرابي وقال غيرهما شجاع ثم بطل ثم صمة ثم لهمة ثم ذمر ونكل ثم نهيك ومحرب ثم حلس ثم أهيس أليس ثم غشمشم وأيهم وقد ذكر الثعالبي في فقه اللغة كثيرا من هذا النوع وذكر ابن الشجري من الأمثلة المحولة للمبالغة فعل وفعال ومفعال وذكر أيضا مفعلان في النداء مثل يا مكذبان ويا مكلمان وما ذكرناه من صيغ المبالغة ليس مقتصرا عليه كما أفهمه كلامهما ، فإن للعرب أوزانا لا تكاد تستعمل إلا للمبالغة مثل فعل وفعيل مثل سكيت وفعلة مثل همزة لمزة ، وأما ذكر هذه الصيغ من أنواع المبالغات ففيه نظر ؛ لأن معنى كون هذه الألفاظ للمبالغة أن العرب وضعتها لذلك المعنى بقيد كونه كثيرا فوضعت العرب راحما ليفيد أصل الرحمة ووضعت رحيما ليفيد رحمة كثيرة فرحيم معناه راحم كثيرا فالمعنى المستفاد منه أبلغ من المعنى المستفاد من صيغة راحم وهذا المعنى ليس هو المذكور في علم البديع ؛ لأن المبالغة في البديع أن تدعى لوصف

__________________

(١) الزمر : ٦٧.


بلوغه في الشدة والضعف لحد مستحيل أو مستبعد ليعلم بذلك أن مبناه في أحدهما فلا بد فيه حينئذ من التعبير عن الواقع من تلك الصفة بعبارة موضوعة لأكثر منه على سبيل المجاز ، فأنت إذا قلت عن شخص كثير الرحمة هو رحيم فهذه ليست مبالغة ؛ لأنك أخبرت عنه باشتماله من الصفة على الكثرة التي هي موضوع رحيم كما أنك إذا قلت عنه إنه كثير الرحمة لم تبالغ وكما أنك إذا قلت عندي ألف ليس فيه مبالغة بالنسبة إلى من قال عندي واحد ، ولا بد في المبالغة من تجوز. نعم تحسن المبالغة إذا قلت زيد رحيم ولم يكن كثير الرحمة بل أردت أن تبالغ في الرحمة اليسيرة الواقعة منه لغرض من الأغراض فهذه حينئذ مبالغة وكذلك إذا قلت عندي ألف رجل وأردت مائة تعظيما لهم فقد تبين بذلك أن هذه الألفاظ ليست موضوعة للمبالغة البديعية وأن من يطلق عليه المبالغة فذلك بحسب اصطلاح النحاة واللغويين نظرا إلى ما دل عليه بالنسبة إلى ما دلّ عليه مطلق اسم الفاعل ، فليتأمل.

ثم قال الرمّانى : من المبالغة التعبير بالصفة العامة فى موضع الخاصة كقوله عزوجل (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) قال وكقول القائل أتاني الناس ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم وبالغ في العبارة عنهم قلت هذا صحيح إلا أن التقييد بالخمسة لا أدري مستنده فيه ، وقد أطلق الناس على واحد كقوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(٢) وأريد نعيم ابن مسعود على ما ذكره جماعة على أن الشافعي رضي‌الله‌عنه نص على أن اسم الناس يقع على ثلاثة فما فوقها ، وأن المراد بالناس في قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أربعة ، ثم جعل الرماني من المبالغة : إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم للمبالغة كقوله تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ)(٣)(فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ)(٤) وإن كان المراد جاء أمره وجعل من المبالغة إخراج الممكن إلى الممتنع مثل

__________________

(١) الأنعام : ١٠٢.

(٢) آل عمران : ٧٣.

(٣) الفجر : ٢٢.

(٤) النحل : ٢٦.


قوله تعالى (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(١) وجعل من المبالغة إخراج الكلام مخرج الشك ومثله بقوله تعالى (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢) ونحو قوله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ)(٣) وجعل منه حذف الأجوبة للمبالغة نحو (وَلَوْ تَرى)(٤) وهذا كله عرف مما سبق من علم المعاني والبيان قال عبد اللطيف البغدادي ومتى وقعت المبالغة في قافية سميت إيغالا وهو أن يأتي البيت تاما من دون القافية ثم تأتي القافية لحاجة البيت إلى الوزن فيزداد المعنى جودة وأنشد :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (٥)

وقد تقدم هذا في باب الإيجاز والإطناب.

(تنبيه)

سمعت بعض المشايخ يقول : إن صفات الله تعالى التي هي على صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلها مجازات وهي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له وصفات الله تعالى متناهية في الكمال لا تمكن المبالغة فيها ، والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقص وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك وعرض هذا الكلام على الوالد فاستحسنه ولا شك أن هذا إنما يأتي تفريعا على أن هذه الأسماء صفات فإن قلنا علام فلا يراد السؤال ؛ لأن العلم لا يقصد مدلوله الأصلي من مبالغة ولا غيرها ، وسمعت بعض أهل العلم يقول إنما لم يوجد لكثير من الشعراء المسلمين كثير من الشعر يمدحون به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الشعر إنما يحسن بالمبالغة وهي متعذرة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن المادحين وإن بذلوا جهدهم لا يصلون إلى قطرة من بحره عليه أفضل الصلاة والسّلام.

__________________

(١) الأعراف : ٤٠.

(٢) سبأ : ٢٤.

(٣) الزخرف : ٨١.

(٤) الأنعام : ٢٧.

(٥) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٢١٧) ، والمصباح ص (٢٣١) ، والإيضاح ص (١٧٨).


المذهب الكلامى

(ومنه المذهب الكلامي إلخ) من البديع ما يسمى المذهب الكلامي والجاحظ أول من ذكره وأنكر وجوده في القرآن (وهو) أي : المذهب الكلامي (إيراد حجة) أي : الإتيان بحجة (للمطلوب) كائنة تلك الحجة (على طريقة أهل الكلام) وطريقة أهل الكلام أن تكون الحجة بعد تسليم المقدمات فيها مستلزمة للمطلوب ولكن لا يشترط هنا الاستلزام العقلي ، بل ما هو أعم من ذلك.

والمراد بكون الحجة على طريقة أهل الكلام صحة أخذ المقدمات من المأتى به على صورة الدليل الاقتراني أو الاستثنائي لا وجود تلك الصورة بالفعل بل صحة وجودها من قوة الكلام في الجملة كاف كما يؤخذ من الأمثلة وذلك (نحو) قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) أي لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله تعالى لفسد نظامهما لما تقرر عادة من فساد المحكوم فيه عند تعدد الحاكم فعلى هذا تكون الملازمة بين التعدد والفساد عادية ويكون الدليل إقناعيا لحصوله بالمقدمات المشهورات ، وإن أريد بالفساد عدمهما بمعنى أن وجود التعدد يستلزم انتفاء السموات والأرض وهو محال للمشاهدة ، ووجه الاستلزام لزوم صحة العجز عند التمانع كان الدليل برهانيا.

وعلى كل حال فقد حذف الاستثنائية والمطلوب لظهورهما أي لكن وجود الفساد على الاحتمالين محال فوجود التعدد محال (وقوله) أي وكذا نحو قول النابغة معتذرا للنعمان بن المنذر في تغيظه عليه بمدحه آل جفنة (حلفت) (٢) لك بالله ما أبغضتك ولا خنتك ولا كنت لك في عداوة (فلم أترك لنفسك) بسبب ذلك اليمين (ريبة) شكّا فى أنى لست لك بمبغض ولا عدو (وليس وراء الله للمرء مطلب) أي لا ينبغي للمحلوف له بالله العظيم أن يطلب ما يتحقق به الصدق سوى اليمين بالله إذ ليس وراء الله أعظم منه يطلب الصدق بالحلف به ؛ لأنه أعظم من كل شيء فاليمين به

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) البيت للنابغة فى ديوانه ص (٧٢) ، والمصباح ص (٢٠٧) ، والإيضاح ص (٣١٠).


كاف عن كل يمين إذ لا يحلف به كاذبا (لئن كنت) اللام لتوطئة القسم بمعنى أنها دالة على القسم المحذوف كما تدل التوطئة على الموطأ له (قد بلغت عني خيانة) أي غشا وعداوة وبغضا (لمبلغك) اللام فيه جواب القسم أي والله لمبلغك تلك الخيانة (الواشي) وهو الذي يذهب بالكلام على وجه الإفساد (أغش) من كل غاش وهو مأخوذ من غش إذا خان وخدع في الباطل (وأكذب) من كل كاذب ثم أشار إلى سبب مدح آل جفنة ليكون ذلك ذريعة لنفي اللوم عنه فقال (ولكننى) أي : ما كنت امرأ قصدت بمدحهم التعريض بنقصك ولكني (كنت امرأ لى جانب) أي : جهة (من الأرض فيه) أي : في ذلك الجانب (مستراد) موضع طلب الرزق وأصله من راد الكلأ أي الربيع إذا جاء طالبا له ، وعبر بالاسترادة هنا عن مجرد طلب الرزق (و) فيه (مذهب) أي موضع الذهاب لطلب الحاجات والأرزاق ؛ لأن ذلك الجانب مظنة الغنى والوجدان (ملوك) يحتمل أن يكون مبتدأ حذف خبره ؛ لأن من المعلوم أن الرزق ليس من ذات المكان بل من ساكنيه فكأنه قيل : من في ذلك الجانب الذي تطلب الرزق فيه فقال فيه ملوك وتكون الجملة كالجواب لسؤال مقدر ويحتمل أن يكون بدلا بتقدير المضاف أي مكان ملوك ، وقد فهم المقصود على كل تقدير وهو أن الرزق من هؤلاء الملوك ، ثم أشار إلى مدح هؤلاء الملوك بالتواضع وأنهم يصيرون الناس مع اتصافهم برفعة الملك إخوانا فقال (وإخوان) أي : فيه ملوك بالمعنى وإخوان بالتواضع ، فعلى هذا لا يرد أن يقال وصفهم بالأخوة ينافي مدحهم بالملك ، للعلم بأن المادح ليس بملك مثلهم ، فكونهم ملوكا لا يناسب كونهم إخوانا للمادح من وصف أولئك الملوك أنى (إذا ما مدحتهم) أي : إذا مدحتهم (أحكم) أي أجعل حاكما (في أموالهم) متصرفا فيها بما شئت أخذا وتركا (وأقرب) بالتوقير والتعظيم والإعطاء (كفعلك) أي كما تفعل أنت (في قوم أراك اصطنعتهم) أي : اصطفيتهم لإحسانك واخترتهم لصنعك وتفضيلك بسبب مدحهم إياك ، فترتب على إحسانك إليهم واصطناعك إياهم أنك (لم ترهم في مدحهم لك أذنبوا) أي لم تعدهم مذنبين في مدحهم إياك ، وقد أنتج هذا الكلام أني لا عتاب علىّ في مدحهم من قبلك ، كما لا عتاب من قبلك لمن مدحك ضرورة أن سبب نفى


العتاب موجود كما وجد فيمن لم تعاتبهم ، وهو كون المدح للإحسان ، فكأنه يقول : لا تعاتبني على مدح آل جفنة المحسنين إلى المنعمين على كما لا تعاتب قوما أحسنت إليهم فمدحوك ، وهذه الحجة إن قصد الشاعر أن تؤخذ على هذا الوجه كانت على طريق التمثيل وهو المسمى عند الفقهاء بالقياس الذي هو أن يحمل معلوم على معلوم لمساواته إياه في علة الحكم وتقريره هنا ، كما بينا أنه حمل مدحه آل جفنة على مدح القوم للمخاطب في حكم هو نفي العتاب لمساواة الأول للثاني في علة الحكم وهي كون المدح للإحسان ، فإن أراد المصنف بالمذهب الكلامي مطلق الاستدلال المتقرر عند أهل النظر في الجملة كان المثال مطابقا للمراد على هذا الوجه ، وإن أراد به الاستدلال بتركيب المقدمات على طريق الاقتراني والاستثنائي لم يكن المثال بتقريره بهذا الوجه مطابقا لما ذكر ، وإنما يطابقه برده إلى صورة الاستثنائي أو الاقتراني ، ويمكن رده إلى الاستثنائي ، فيقرر هكذا لو كان مدحي لآل جفنية ذنبا كان مدح أولئك القوم لك ذنبا ، وبيان الملازمة اتحاد الموجب للمدحين وهو وجود الإحسان ، فإذا كان أحد السببين ذنبا كان الآخر كذلك لكن كون مدح القوم لك ذنبا وهو اللازم باطل باتفاقك فالمقدم وهو كون مدحي لهم ذنبا مثله فثبت المطلوب وهو انتفاء الذنب عني بالمدح ولزم منه نفي العتب إذ لا عتب إلا عن ذنب ، ويمكن رده إلى الاقتراني فيقرر هكذا مدحي مدح بسبب الإحسان وكل مدح بسبب الإحسان فلا عتب فيه ينتج مدحي لا عتب فيه ودليل الصغرى الوقوع والمشاهدة ودليل الكبرى تسليم المخاطب ذلك في مادحيه وورد على ما أشير إليه من الاستدلال أن قوله اصطنعتهم فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا يقتضي أنه قدم الإحسان لمادحيه وقوله : إذا ما مدحتهم أحكم في أموالهم يقتضي تقدم المدح على الإحسان ولا يلزم من تسليم إيجاب الإحسان للمدح وكونه لا ذنب في تسليم أن المدح المبتدأ ليتوصل به إلى الإحسان لا ذنب فيه فلم يتم الاستدلال إذ يصح أن يعاتب على الابتداء بالمدح ولا يعاتب على كونه مكافأة.

ويجاب بأن المراد كما أشرنا إليه في التقرير أنك اصطنعتهم بسبب مدحهم إياك وأحسنت إليهم بسبب المدح إذ لو رأيت المدح ذنبا لما كافأت عليه. ورد أيضا أن


كون الإنسان لا يعاتب مادحه الطالب لإحسانه لا يستلزم أن لا يعاتب مادح غيره لطلب إحسان ذلك الغير. ويجاب بأن المراد لم يرهم أحد مذنبين وأنت من جملة من لم يرهم مذنبين وعبر عن هذا العموم بالخطاب والمراد العموم كما يقال لا ترى فلانا إلا مصليا أي لا يراه أحد إلا مصليا أنت وغيرك والخطب في مثل هذه الأبحاث سهل وقد تعرضنا لذلك ؛ لأنه مما تشحذ به القرائح المكدودة وتنفتح به البصائر المسدودة والله الموفق بمنه وكرمه.

حسن التعليل

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (حسن التعليل) أي النوع المسمى بحسن التعليل (وهو) أي حسن التعليل (أن يدعى لوصف علة مناسبة له) أي أن يثبت لوصف علة مناسبة ويكون ذلك الإثبات بالدعوى ولتضمن يدعى معنى الإثبات عدى إلى الوصف باللام وقد تقدم مثله (باعتبار لطيف) أي ويشترط في كون إثبات العلة المناسبة للوصف من البديع أن يكون إثبات تلك العلة المناسبة مصاحبا لاعتبار أي لنظر من العقل لطيف أي : دقيق يحتاج فيه إلى تأمل بحيث لا يدرك المعتبر فيه في الغالب إلا من له تصرف في دقائق المعاني وفي الاعتبارات اللطيفة (غير حقيقي) نعت للاعتبار بمعنى المعتبر أي يكون غير حقيقي أي غير مطابق للواقع بمعنى أنه ليس علة في نفس الأمر بل اعتبر علة بوجه يتخيل به كونه صحيحا كما يأتي في الأمثلة ، ويحتمل أن يكون نعتا للاعتبار على أنه مصدر على أصله ؛ لأن الوصف إذا كان غير حقيقي في التعليل أي ليس علة في نفس الأمر فاعتباره علة أيضا غير حقيقي فإن قيل : كون الاعتبار لطيفا إنما يكون بكون الوصف غير مطابق للواقع في التعليل إذ بذلك يثبت لطفه لأن جعل ما ليس بواقع واقعا على وجه لا ينكر ولا يمج هو الاعتبار اللطيف فعليه لا حاجة لقوله غير مطابق لأن ذلك هو معنى كون المعتبر لطيفا قلت يجوز أن يكون لطيفا أي دقيقا حسنا ويكون مطابقا وما يكون من البديع يشترط فيه أن لا يطابق فلذلك وصفه بكونه غير حقيقي وذلك كما قيل : إن العلة في إطلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العفريت الذي اعترض له في الصلاة هي أن لا يتوهم أن سليمان لم يستجب له في طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من


بعده ، فإن المتبادر أن العلة هي تحقيق اختصاص سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسّلام بما ذكر ولكن هذا الاختصاص لا ينتفي ، ولو لم يطلق العفريت لأنه ملك جميع الشياطين وسخروا له فلا يلزم من تسخير واحد وغلبته في وقت تسخير الكل والمناسب هو دفع توهم عدم الاختصاص ، ولا شك أن هذه العلة إن صحت كانت مطابقة وفيها دقة فلذلك زاد غير حقيقي وبعض الناس توهم أن قوله باعتبار يقتضي كون الوصف المدعى اعتباريا أي لا وجود له خارجا كوجود الأمور المتقررة في نفسها مثل البياض والسواد لما سمع أهل المعقول يقولون إن الاعتبار يقابل الحقيقي أي الموجود خارجا توهم أن قوله غير حقيقي مستغنى عنه بذكر الاعتبار وفيه نظر ؛ لأنه إن أراد بغير الحقيقي ما ليس وجوديا ولو طابق الواقع كما هو ظاهر كلامه لزم عدم مطابقته لما أصلوه من كون حسن التعليل ما لم يطابق ما في نفس الأمر وإن أراد به ما لم يطابق الواقع فكون الاعتبار المستفاد من قوله باعتبار لطيف مغنيا عما بعده إنما يصح إن كان يرى أن كل وصف اعتباري لا يطابق ما في نفس الأمر وهو فاسد ؛ إذ لو قيل إنما احتاج الحادث لسبب لإمكانه كان تعليلا بالوصف الاعتباري ، وهو مطابق ولذلك ألزم على تقدير الاستغناء به عن قوله غير حقيقي أن يكون الاعتباري غير مطابق وهو فاسد ، وإن كان يرى أن الوصف الاعتباري قد يكون غير حقيقي أي : غير مطابق وقد يكون حقيقيا أي مطابقا فظاهر أنه لا يستغنى بالاعتبار عن قوله : غير حقيقي على أن التحقيق كما تقدم أن الاعتبار اللطيف هو نظر العقل نظرا دقيقا لا كون الوصف اعتباريا فقد ظهر أن ما قاله ذلك القائل غلط نشأ عما يقال من أن الوصف الاعتباري يقابله الحقيقي وعن اعتقاده أن التعليل المصاحب للاعتبار يستلزم كون الوصف اعتباريا أي : لا وجود له خارجا فافهم.

أضرب حسن التعليل

(وهو) أي : حسن التعليل (أربعة أضرب) أي ينقسم باعتبار ثبوت المعلل وعدم ثبوته ، ولكن أريد إثباته ممكنا أو غير ممكن وباعتبار العدول عن علة ظهرت أولا إلى أربعة أنواع (لأن الصفة) أي إنما انقسم إلى الأربعة من جهة أن الصفة التي ادعى لها


علة مناسبة (إما ثابتة) في نفسها و (قصد) بما أتى به (بيان علتها أو غير ثابتة) في نفسها ولكن (أريد إثباتها و) الصفة (الأولى) وهي الثابتة التي أريد بيان علتها قسمان ؛ لأنه (إما أن لا يظهر لها في العادة علة) أخرى غير التي أريد بيانها ، وإنما قال لا يظهر ولم يقل لا يكون لها علة ؛ لأن الحكم لا يخلو عن علة في الواقع لما تقرر أن الشيء لا يكون إلا لحكمة وعلة توجبه.

أما على المذهب الباطل من رعاية الحكم وجوبا فظاهر وأما على المذهب الصحيح فالقادر المختار وصف نفسه بالحكيم فهو يرتب الأمور على الحكم بالاختيار والتفضل وإن كان ذلك لا يجب عقلا ، ثم مثل لهذا القسم وهو ما لا يظهر له في العادة علة فقال (كقوله) أي كقول المتنبي (لم يحك) (١) أي لم يشبه (نائلك) أي عطاءك (السحاب) أي : عطاء السحاب وإنما قدرناه كذلك ؛ لأن المناسب أن يشبه بالنائل عطاء السحاب لا نفسه فيفهم منه أنه لا يحكيك في نائله فكأنه قال لا يشابهك السحاب في عطائه ، ثم أشار إلى أن إتيان السحاب بكثرة الأمطار ليس سببه طلبه مشابهتك ، وإنما ذلك لسبب آخر ، وفي ضمن ذلك زيادة على نفي مشابهة السحاب للممدوح أن السحاب لا يطلب المشابهة بل آيس منها لما رأى من غزير عطائك فقال ليست كثرة أمطار السحاب لطلبه مشابهتك (وإنما حمت) السحاب (به) أي بشهوده أعنى بشهود نائلك وعلمه بتفوق نائله أي كون نائلك فوق نائله بمعنى أنه كان يتوهم أنه ممن يطلب محاكاتك في النائل ، فلما شاهد نائلك أيس من طلب المحاكاة ، فلحقته غيرة وتغيظ ودهش مما رأى وقد أيس من إدراكه وأوجب له ذلك الدهش والتغيظ حمى (فصبيبها) أي فمطرها المصبوب (الرحضاء) بفتح الحاء وضم الراء وهو عرق المحموم وسمى أمطارها صبيبا احتقارا له بين يدي عطاء الممدوح ، وحاصله : أن السحاب لم يأت بالمطر لمحاكاة عطائك وإنما أمطارها عرق من حمى أصابته من إياسه من مشابهتك ، ولا يخفى ما في جعل السحاب مما يدركه وتدركه الحمى من التجوز اللطيف ، ولا شك أن مضمن هذا الكلام أن الصفة التي هي نزول المطر من السحاب عللها

__________________

(١) البيت لأبى الطيب ، وهو فى شرح التبيان للعكبري (١ / ٣٣).


باتصاف السحاب بحمى أصابته من إياسه من إدراك ما رأى وتغيظه وأسفه على الفوات فالعلة هي الحمى والصفة هي نزول المطر ونزول المطر لم تظهر له علة أخرى عادة ، ولا شك أن استخراج هذه العلة المناسبة إنما ينشأ عن لطف في النظر ودقة في التأمل وليست علة في نفس الأمر فانطبق عليه حد حسن التعليل (أو يظهر) هذا مقابل قوله : أما أن لا يظهر أي أما أن لا تظهر للصفة الثابتة التي قصد بيان علتها علة أخرى عادة كما تقدم وإما أن تظهر (لها) أي لتلك الصفة الثابتة (علة) أخرى (غير) العلة (المذكورة) التي ذكرها المتكلم لحسن التعليل ، وقد عرفت أن العلة في حسن التعليل لا بد أن تكون غير مطابقة لما في نفس الأمر فإذا ظهرت علة أخرى سواء كانت مطابقة أو غير مطابقة فلا بد أن تكون هذه المأتي بها غير حقيقية أي غير مطابقة لتكون من حسن التعليل كما أنه لا بد أن تكون غير مطابقة ، حيث لا تظهر للمعلول علة أخرى أيضا ، إذ كونها غير مطابقة لا بد منه في كل موطن من مواطن حسن التعليل ، وبهذا علم أن ذكر كونها لا بد أن تكون غير مطابقة حيث تظهر علة أخرى فيه إيهام اختصاص هذا المعنى بما إذا ظهر غيرها وإيهام أن الظاهرة تكون مطابقة حيث ذكر غير المطابقة معها والتحقيق ما قررنا من جواز كون الظاهرة غير مطابقة لصحة أن تكون من المشهورات الكاذبة كما لو قيل : هذا متلصص لدورانه في الليل بالسلاح فافهم. ثم مثل لما تظهر له علة أخرى فقال :

(كقوله) أي : كقول المتنبي (ما به قتل أعاديه) (١) أي ليس بالممدوح حنق وغيظ أو خوف أوجب قتل أعاديه لإشفاء الغيظ أو ليستريح من ترقب مضرتهم ، لأنه ليس طائعا للغيظ ولا خائفا من أعدائه إذ هو قاهرهم قهرا لا يخشى معه ضررهم ويهون عليه تناولهم أينما أراد فلم يحمله ما ذكر على قتل أعدائه (ولكن) حمله على قتلهم أنه (يتقي) بقتلهم (إخلاف ما ترجو الذئاب) منه من إطعامهم لحوم الأعداء ؛ لأنه لو لم يقتلهم فات هذا المرجو للذئاب (فإن قتل الأعداء) أي : إنما قلنا إن الصفة هنا

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ١٤٤) ، والأسرار ص (٣٣٧) ، والإشارات ص (٢٨١) ، وشرح التبيان للعكبرى (١ / ٩٨).


ظهرت لها علة أخرى ؛ لأن الصفة المعللة هنا هي قتل الأعداء وقتل الأعداء (في العادة) قد ظهر أنه إنما يكون (ل) علة (دفع مضرتهم) ولعلة حصول صفو المملكة من منازعاتهم (لا لما ذكره) وهو أن طبيعة الكرم قد غلبت عليه فصارت محبته لصدق رجاء الراجين لكرمه هو الباعث له على قتل الأعداء ومن جملتهم الذئاب ؛ لأنه عودها إطعامها لحوم الأعداء فكان من المعلوم أنه إذا توجه إلى الحرب صارت الذئاب راجية له حينئذ ليوسع عليهم الرزق بلحوم القتلى من الأعداء ، ولما كان ذلك من المعلوم لتعويده ، لم يرض بخيبة رجائهم لغلبة طبع الكرم عليه ، فصار يقتل الأعداء لتكميل رجاء الذئاب وفي البيت وصف الممدوح بكمال وصف الجود فيه حتى إنه لو لم يتوصل إليه إلا بالقتل ارتكبه وصفه بكمال الشجاعة حتى ظهرت للحيوانات العجم ووصفه بأنه لا يقتل حنقا ولا تستفزه العداوة على القتل لحكمه على نفسه وغلبته إياها فلا يتبعها فيما تشتهي وإنه لا يخاف الأعداء ؛ لأنه تمكن بسطوته منهم حيث شاء كما أشرنا إليه فيما تقدم فالعلة هنا في الصفة التي هي قتل الأعداء وهي تكميل رجاء الذئاب غير مطابقة وفيها من اللطف والدقة ما لا يخفى لما تضمنته من مقتضياتها فانطبق حد حسن التعليل على الإتيان بها فهذان قسمان من الأربعة المذكورة أولا أحدهما : ما يكون في الصفة الثابتة بلا ظهور علة أخرى والآخر ، ما يكون فيها مع الظهور ثم أشار إلى تحقيق القسمين الباقيين من الأربعة فقال :

(والثانية) عطف على قوله والأولى أي : الأولى وهي الثانية فيها قسمان كما تقدم والثانية وهي غير الثابتة التي أريد إثباتها فيها قسمان أيضا ؛ لأنها (إما ممكنة) بمعنى أنها مجزوم بانتفائها ولكنها ممكنة الحصول (كقوله : يا واشيا) (١) أي يا ساعيا بالكلام على وجه الإفساد من وصفه أنه (حسنت فينا إساءته) أي حسن عندنا ما قصد هو إساءتنا فحسن إساءة الواشي هو الصفة المعللة الغير الثابتة علل ثبوتها بقوله (نجي حذارك إنساني من الغرق) أي إنما حسنت لأجل أنها أوجبت حذارى منك ، فلم أبك

__________________

(١) البيت لمسلم بن الوليد فى ديوانه ص (٣٢٨) ، والطراز (٣ / ١٤٠) ، والمصباح ص (٢٤١) ، وفى الشعر والشعراء (٢ / ٨١٥) ، وطبقات الشعراء ص (١١١).


لئلا تشعر بما لدي. ولما تركت البكاء نجا إنسان عيني من الغرق بالدموع. فقد أوجبت إساءتك نجاتي من إنسان عيني (فإن استحسان) أي إنما قلنا إن الصفة هنا ولو لم تقع هي ممكنة ؛ لأن استحسان (إساءة الواشي) معلوم أنه (ممكن لكن) هو غير واقع ولذلك كان المثال من قسم الصفة الغير الثابتة ، و (لما خالف) الشاعر (الناس فيه) أي في ادعائه الوقوع دون الناس ، إذ لا يستحسنه الناس (عقبه) أي : ناسب أن يأتي عقبه أي عقب ذكره حسن إساءة الواشى (ب) تعليل يقتضي وقوعه في زعمه ، ولو لم يقع وهو (أن حذاره منه) أي من الواشي (نجى إنسان عينه من الغرق بالدموع) التي يتأذى بها وذلك لترك البكاء خوفا من الواشي فنجاة إنسانه من الغرق بحذاره علة لما ذكر غير مطابقة لما في نفس الأمر وهي لطيفة.

كما لا يخفى فكان الإتيان بها من حسن التعليل فإن قيل هنا أمران عدم وقوع المعلل وكون العلة غير مطابقة وكلاهما غير مسلم ، إذ لا يكذب من ادعى أن الإساءة حسنت عنده لغرض من الأغراض فالصفة المعللة على هذا ثابتة والعلة التي هي نجاة إنسانه من الغرق بترك البكاء لخوف الواشي ، لا يكذب مدعيه لصحة وقوعه.

فعلى هذا لا يكون هذا المثال من هذا القسم ولا من حسن التعليل ، فلمطابقة العلة له لا يكون من حسن التعليل ، ولثبوت الصفة لا يكون من هذا القسم قلت المعتاد أن حسن الإساءة لا يقع ، لا من هذا الشاعر ولا من غيره فعدم الوقوع مبني على العادة وترك البكاء للواشي باطل عادة ؛ لأن من غلبه البكاء لم يبال بمن حضر عادة ، وأيضا ترك البكاء له لا يكاد يتفق في عصر من الأعصار وعلى المعتاد بني الكلام.

فدعاوى الشاعر استحسانات تقديرية ؛ لأن أحسن الشعر أكذبه فيثبت المراد والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم لا يخفى ما في قوله : نجى حذارك إنساني من الغرق ، من لطف التجوز ، إذ ليس هنالك غرق حقيقي وإنما هنالك عدم ظهور إنسان العين فافهم.

(أو غير ممكنة) عطف على قوله إما ممكنة أي الصفة الغير الثابتة إما ممكنة كما تقدم ، وإما غير ممكنة ادعى وقوعها وعللت بعلة تناسبها (كقوله :


لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق) (١)

الجوزاء معلومة وهي برج من البروج الفلكية ، وحولها نجوم تسمى نطاق الجوزاء ومعنى البيت أن الجوزاء على ارتفاعها لها عزم ونية لخدمة الممدوح ؛ ومن أجل ذلك انتطقت أي شدة النطاق تهيؤا لخدمته فرؤية النطاق دليل على النية ، فلو لم تنو خدمته ما رأيت عليها نطاقا شدت به وسطها والنطاق والمنطقة ما يشد به الوسط ، وقد يكون مرصعا بالجواهر ، حتى يكون كعقد خالص من الدر فالانتطاق هنا أراد به الحالة الشبيهية بالانتطاق ، وهي كون الجوزاء أحاطت بها تلك النجوم ، كإحاطة النطاق الذي فيه جوهر ، فصار كعقد من الدر بوسط الإنسان فقد جعل علة الانتطاق في الخارج نية خدمة الممدوح ، وجعل الانتطاق دليلا على نية الخدمة ؛ لأنه يصح الاستدلال برؤية المعلوم على وجود العلة ونحو هذا الاعتبار هو المفاد بنحو هذا التركيب لغة ، فإنه إذا جاءك إنسان وكان مجيئه سبب إكرامك إياه في الخارج ، وأردت أن تستدل على أن المجيء كان فكان مسببه الإكرام قلت لو لم تجئني ما أكرمتك أي لكني أكرمتك فانتفى التالي فينتفي المقدم وهو عدم المجيء فيثبت المجيء المستلزم للإكرام.

فعلى هذا تكون العلة كما ذكرت ، نية خدمة الممدوح ، والمعلول هو الانتطاق.

ومن المعلوم أن انتطاق الجوزاء ثابت ، إذ المراد به إحاطة النجوم بها كإحاطة النطاق بالإنسان وإذا كان المراد بالانتطاق الحالة الشبيهة بالانتطاق فهي محسوسة ثابتة ونية الخدمة التي هي علتها غير مطابقة فيكون هذا المثال لقسم ما عللت فيه صفة ثابتة بعلة غير مطابقة كما تقدم في قوله (٢) :

لم يحك نائلك السحاب وإنما

حمت به فصبيبها الرحضاء

لا من قسم ما عللت فيه صفة غير ثابتة ، يعني لأن النية لا تتصور إلا من الحي العالم دون الجوزاء ، وهو يقتضي أن المعلل هو النية والعلة هي الانتطاق وهذا المعنى لا يدل عليه التركيب ، ولا يوجد في المعنى ؛ لأن النية سبب الانتطاق ، وليس الانتطاق سببا

__________________

(١) البيت مترجم عن بيت فارسى فى الإيضاح ص (٥٢٢) ، وفي عقود الجمان (٢ / ١٠٧ ، ٣٨٢).

(٢) البيت لأبى الطيب فى شرح التبيان للعكبرى (١ / ٣٣).


للنية كما لا يخفى. اللهم إلا أن يراد بالعلة العلة العلمية ، بمعنى أن علة علمنا بأن نية خدمة الممدوح كانت هي انتفاء عدم الانتطاق بثبوت الانتطاق ، ورؤيته كما ذكرنا ، أنه يستدل بالمعلول على العلة فيكون المعلول علة للعلم بوجود العلة لهذا المعلول في الخارج ؛ لأن العلة كما تطلق على ما يكون سببا لوجود الشيء في الخارج تطلق على ما يكون سببا لوجود العلم به ذهنا.

فالانتطاق وإن كان معلولا مسببا عن النية في الخارج يجعل علة للعلم بوجود النية ؛ لأن يستدل بوجود المسبب على وجود السبب وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم المستلزم لحصول المراد كما في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فإن انتفاء الفاسد انتفاء اللازم ، ويكون علة للعلم بانتفاء الملزوم الذي هو التعدد ، فيثبت المراد الذي هو الوحدة. وهذا ولو كان هو الأقرب لأن يحمل عليه المثال لتصحيح كلام المصنف ، لكن فيه تمحل ؛ لأن الظاهر أن مرادهم بالعلة ما يكون علة في الوجود لا في العلم كما تشهد به الأمثلة السابقة.

وأما ما قيل لتصحيح كلام المصنف من أنه أراد أن الانتطاق صفة ممتنعة للجوزاء ، إذ الانتطاق صفة مخصوصة بالإنسان الذي يشد النطاق في الوسط ، فهو صفة غير ثابتة عللها بعلة هي نية خدمة الممدوح غير مطابقة لما فى نفس الأمر فيكون المثال لغير الثابتة التي لا تمكن لأن الانتطاق غير ممكن فيرد من وجهين :

أحدهما : أن المصنف صرح في الإيضاح كما تقدم بأن الصفة الغير الثابتة وهي المعللة إنما هي نية خدمة الممدوح لا الانتطاق ، ولم يجعل النية هي العلة كما ذكر هذا القائل.

والآخر : أن الانتطاق أطلق تجوزا على معنى صحيح هو هيئة إحاطة النجوم بالجوزاء كما ذكرنا ، فهو أمر محسوس ، لا يمكن كونه غير حقيقي ، وحمله على الانتطاق المعهود مع قيام القرينة على إرادة خلافه إحالة للدلالة اللفظية عن وجهها ، ولا وجه له.


فتقرر بهذا أن المثال إن حمل على ما يفهم عرفا من التركيب عاد إلى القسم الأول ، وهو تكون في الصفة ثابتة عللت بعلة غير مطابقة. فالصفة الثابتة الحالة الشبيهة بالانتطاق والعلة نية خدمة الممدوح ، وإن تؤول على العكس أي على أن تكون العلة الانتطاق والمعلول النية صحة على أن يراد بالعلة علة العلم ودليله ، ولكن فيه تمحل كما تقدم ، وحمله على الظاهر مع إدعاء كون الانتطاق صفة غير ثابتة يرده كلام المصنف في الإيضاح ، ويرده أن المراد بالانتطاق محسوس ، وإن كانت الدلالة عليه مجازا.

وقد تم بهذين القسمين الأربعة السابقة وأعني بالقسمين : ما تكون فيه غير الثابتة ممكنة كما تقدم ، وما تكون غير ممكنة كما في هذا المثال ؛ لأن نية خدمة الممدوح محالة من الجوزاء. فافهم.

ولما كان تعريف حسن التعليل إنما يشمل بحسب الظاهر ما فيه وجود العلة على وجه الشك ذكره ملحقا بما تقدم فقال (وألحق به) أي وألحق بحسن التعليل (ما يبنى على الشك) أي الإتيان بعلة ترتب الإتيان بها على الشك فيؤتى في الكلام بما يدل على الشك وإنما لم يجعل من حسن التعليل حقيقة ؛ لأن العلة لما كانت غير مطابقة وأتى بها لإظهار أنها علة لما فيه من المناسبة المستظرفة لم يناسب فيها إلا الإصرار على إدعاء التحقق وعلى ذلك يحمل التعريف كما هو الأصل. وأشرنا إليه آنفا والشك ينافي ذلك ثم مثل لهذا الملحق فقال (كقوله) أي كقول أبي تمام :

ربي شفعت ريح الصبا لرياضها

إلى المزن حتى جادها وهو هامع (١)

كأن السحاب الغر غيبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهن مدامع

والضمير في تحتها يعود إلى الربى جمع ربوة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، والمزن معلوم ، والهامع منه هو الغزير المطر ، وجاد بالدال أي بالجود بفتح الجيم وهو المطر الكثير ، يقال : جاد السحاب الأرض فهي مجيدة إذا أصابها بالجود ، والغر جمع أغر ، وهو في الأصل الأبيض الجبهة ، والمراد به هنا مطلق الأبيض ؛ لأن السحاب الممطر الأبيض

__________________

(١) البيتان لأبى تمام فى ديوانه ص (٤٢٥) ، والإيضاح (٣١٤) ، والمصباح ص (٢٤٢).


أكثر هموعا من الأسود ، فهو عبارة عن كثير المطر ، وترقا مهموز خفف للضرورة ، يقال : لا يرقأ لفلان دمع ، إذا كان لا ينقطع.

ومعنى البيتين أن ريح الصبا شفعت للرياض إلى المزن فجادت به بشفاعتها إلى رياض تلك الربى والحال أنه كثير الهموع أي سيلان المطر فصارت السحاب البيض لكثرة أمطارها كأنها غيبت تحت الربى حبيبا ، فجعلت تبكي عليه فلا يرقأ أي ينقطع لها دمع ، وكأن في نحو هذا الكلام يؤتى بها كثيرا عند قصد عدم التحقق في الخبر ، كما نقول : كأنك تريد أن تقوم ، عند عدم جزمك بإرادته القيام.

ومضمن الشاهد أن السحاب البيض يظن أو يشك أنه غيبت حبيبا تحت الربى فمن أجل ذلك لا ينقطع دمعها ، فبكاؤها صفة عللت بدفن حبيب تحت الربى. ولما أتى بكأن أفاد أنه لم يجزم بأن بكاءها لذلك التغيب ، فكأنه يقول : أوجب لي بكاؤها الدائم الشك أو الظن في أن سبب ذلك تغييبها حبيبا تحت تلك الربى. فقد ظهر أنه علل بكاءها على سبيل الشك والظن بتغييبها حبيبا تحت الربى ولا يخفى ما في تسمية نزول المطر بكاء من لطف التجوز وبه حسن التعليل هذا إن حمل على ما ذكر من الشك وإن حمل على أنه شبه السحاب ببواك غيبن تحت تلك الربى حبيبا ، فجعلت لا يرقأ لها دمع ويكون التقدير : كأن السحاب بواك غيبن الخ.

خرج الكلام عما نحن بصدده ، لكن العلة في المشبه به حينئذ وهي مطابقة.

فافهم.

التفريع

(ومنه) أي : ومن البديع اللغوي (التفريع) أي النوع المسمى بالتفريع (وهو) أي التفريع (أن يثبت لمتعلق أمر حكم) أي أن يثبت حكم من الأحكام لشيء بينه وبين أمر تعلق ، ونسبة تصحح الإضافة أو ما يشبهها فالمراد بالتعلق هنا النسبة ، ويكون الإثبات لهذا المتعلق أي المنسوب لذلك الأمر (بعد إثباته) أي بعد أن ثبت ذلك الحكم (لمتعلق له آخر) أي لمنسوب له آخر.


فالمتعلق في الموضوعين بفتح اللام ، ففهم من التعريف أنه لا بد من متعلقين أي منسوبين لأمر واحد ، كغلام زيد وأبوه ، فزيد أمر واحد وله متعلقان أي منسوبين له أحدهما غلامه والآخر : أبوه. ولا بد من حكم واحد يثبت لأحد المتعلقين وهما الغلام والأب بعد إثباته لآخر كأن يقال : غلام زيد فرح ، وأبوه فرح ، فالفرح حكم أثبت لمتعلقي زيد ، وهما غلامه وأبوه ، ولكن لا بد أن يكون إثباته للثاني على وجه التفريع عن إثباته للأول ، كأن يقال : غلام زيد فرح ، كما أن أباه فرح. فيخرج نحو هذا المثال ، أعني قولنا : غلام زيد فرح وأبوه فرح ؛ لعدم التفريع في الإثبات للثاني ولو اتحد الحكم فيهما. وأما إخراج نحو زيد راكب وأبوه راجل فمن شرط اتحاد الحكم ؛ لأنه تعدد الحكم فى هذا المثال ، ولا يحتاج إلى إخراجه من شرط كون الإثبات للثاني على وجه التفريع ثم مثل للتفريع فقال (كقوله :

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفى من الكلب) (١)

فمدلول الكاف الذي هو الممدوحون وهم أهل البيت أمر واحد له متعلقان ، وهما الأحلام أي : العقول المنسوبة لهم والدماء المنسوبة لهم. أثبت لأحد متعلقيه وهو الدماء الشفاء من الكلب ، بعد إثبات ذلك الحكم ، وهو الشفاء في الجملة لمتعلق آخر هو العقول. ولا يضر في اتحاد الحكم كون الشفاء في أحدهما منسوبا للكلب وفي الآخر للجهل لاتحاد جنس الحكم.

والكلب داء يشبه الجنون ينشأ عادة من عضة الكلب يصيبه ذلك من أكله لحم الإنسان أو من كثرة سمنه في زمن الحرارة ثم لا يعض أحدا إلا أصابه ذلك بإذن الله تعالى. وربما دووي قبل ظهور ذلك الداء في المعضوض فلا يظهر وهو صعب البرء بعد ظهوره في المصاب ولا يفارقه غالبا حتى يموت. فقالوا : إن أنفع أدويته دماء الأشراف قيل إن كيفية ذلك أن يشرط الشريف من إصبع رجله اليسرى ، فتؤخذ من دمه قطرة ، تجعل على تمرة يطعمها المصاب فيبرأ بإذن الله تعالى.

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، وهو فى الإيضاح ص (٣١٤) ، والمصباح ص (٢٣٨).


ومعنى تفريع إثبات الشفاء من الكلب على إثبات الشفاء لاستقام الجهل ، أن إثبات الشفاء من سقام أي مرض الجهل ، جعل كالمقدمة والتوطئة لإثبات الشفاء من الكلب ، ففرع الثاني على الأول فى الذكر. وفي جعله مرتبا عليه ، بتوسطه فيه احترازا مما إذا عطف أحد الحكمين على الآخر ، أو ذكر مستقلا ، وليس المراد التفريع في الوجود.

فإن كون الدماء شفاء لا يترتب في الخارج على كونهم ذوي عقول تشفي من الجهل ، وإنما يترتب على الشرف الملكي أو النسبي اللهم إلا أن يدعي أن شرف العقل كاف في ترتب الشفاء من الكلب ، وهو بعيد وعلى تقدير تسليمه ، فالكاف إن جعلت للتشبيه فالمشبه به هو الأصل المتفرع عنه ، والمشبه هو الفرع ، فلم يصح معه التفريع المعهود.

نعم لو قال : فدماؤكم إلخ بالفاء ؛ كان تفريعا ؛ فلهذا قيل إن المراد بتفريع الثاني عن الأول كونه ناشئا ذكره عن ذكر الأول ، حيث جعل الأول وسيلة إليه حتى إن الثاني في قصد المتكلم لا يستقل عن ذكر الأول وقوله كما دماؤكم الخ يحتمل أن تكون ما فيه غير كافة من الجر ، فيكون دماؤكم مجرورا ، وجملة تشفي في موضع الحال ، ويحتمل أن تكون كافة فيكون دماؤكم مبتدأ ، وتشفي خبره. ومعنى البيت أن الممدوحين ملوك وأشراف وأرباب العقول ، فعقولهم شفاء لجهل مخالطيهم ودماؤهم شفاء للكلب وكون دماء الملوك والأشراف أنفع شيء للمصاب بالكلب أمر مشهور عندهم ولذلك قال الحماسي :

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤكم من الكلب الشفاء

أي أنتم الذين تبنون المكارم ، وترفعون أساسها بإظهارها وأنتم الذين تؤاسون أي تطبون الكلم أي جراحات القلوب. وجراحات الفاقة وغيرها. فبناة جمع بان ، وأساة جمع آس كقاض وقضاة وأنتم الذين دماؤكم تشفي من الكلب لشرفكم وكونكم ملوكا.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (تأكيد المدح بما يشبه الذم) أي النوع المسمى بذلك (وهو) أي تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضربان) أي : نوعان والمناسب لقوله بعد


ذكر الضربين ، ومنه ضرب آخر أن يقول هنا وهو ضروب ، وكأنه رأى أن الضربين هما الأكثر أو الأشهر فلم يتعرض للآخر هنا (أفضلهما) أي أفضل الضربين وهو أولهما (أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة المدح) لذلك الشيء فقوله صفة مدح نائب فاعل يستثنى وإنما يستثنى صفة مدح من صفة ذم (بتقدير دخولها) أي بأن يقدر المتكلم أن صفة المدح المستثناة داخلة في صفة الذم المنفية. ثم إنه ليس المراد بالتقدير إدعاء الدخول على وجه الجزم والتصميم ، بل تقدير الدخول على وجه الشك المفاد بالتعليق ؛ لأن معنى الاستثناء كما يأتي : أنا نستثني هذا العيب من المنفي الذي نقدر أي نفرض دخوله إن كان عيبا ، هذا إذا كانت الباء على أصلها ، ولو جعلت بمعنى على أفادت التقدير على وجه التعليق الموجب لكونه على وجه الشك ، فلا يحتاج للتنبيه على أنه المراد. فافهم.

وإنما كان ما ذكر من تأكيد المدح بما يشبه الذم لأن نفي صفة الذم على وجه العموم حتى لا يبقى ذم في المنفي عنه مدح وبما تقرر أن الاستثناء من النفي إثبات كان استثناء صفة المدح بعد نفي الذم إثباتا للمدح فجاء فيه تأكيد المدح وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في كلام المصنف وإنما كان مشبها للذم ؛ لأنه لما قدر الاستثناء متصلا ، وقدر دخول هذا المستثنى في المستثنى منه كان الإتيان بهذا ـ المستثنى لو تم التقدير وصح الاتصال ـ ذما ؛ لأن العيب منفي فإذا كان هذا عيبا كان إثباتا للذم ، لكن وجد مدحا ، فهو في صورة الذم وليس به ولهذا كان هذا التأكيد مشبها للذم ، وفي صورته ، حيث أتى به مستثنى مقدر الاتصال وفائدة تقديره متصلا إفادة أن هذا المستثنى لا يثبت العيب إلا به ، إن صح كونه من جنسه فيفيد ذلك تعليق ثبوت العيب على المحال ؛ لأن الفرض أن المستثنى مدح لا ذم ، فتعليق إثبات الذم على كونه صفة ذم مع كونه صفة مدح تعليق بالمحال كما سيقرره المصنف أيضا.

ثم مثل لتأكيد المدح بما يشبه الذم فقال : (كقوله) أي كقول النابغة الذبياني

(ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب)


الفلول جمع فل ، وهو الكسر يصيب السيف في حده ، وهو القاطع منه ، والكتائب جمع كتيبة وهي الجماعة المستعدة للقتال جيشا كانت أو بعضه ، وتكون خيلا مؤخرة عنه أو خيلا أغارت من المائة إلى الألف ، وقراعها مضاربتها عند اللقاء فقوله لا عيب فيهم نفي لكل عيب ونفي كل عيب مدح ثم استثنى من العيب المنفي كون سيوفهم مفلولة من مضاربة الكتائب ، على تقدير كونه عيبا (أي إن كان فلول السيف عيبا) ثبت العيب وإلا فلا (فأثبت) بصيغة الماضي أي أثبت الشاعر (شيئا منه) أي من العيب (على تقدير كونه) أي الفلول (منه) أي من العيب (وهو) أي هذا المقدر ، وهو كون الفلول من العيب (محال) لأنه إنما يكون من مصادمة الأقران في الحروب ، وذلك من الدليل على كمال الشجاعة (فهو) أي فتعليق إثبات شيء من العيب على كون الفلول عيبا (في المعنى تعليق بالمحال) والمعلق على المحال محال ، وقد تقدم أن إفادة التعليق بالمحال هو السر في تقدير الاتصال.

قيل إن قوله على تقدير كونه منه أي من العيب زيادة تأكيد وتوضيح لقوله : إن كان فلول السيف عيبا ، ورد بأنه إنما يلزم ذلك إن قريء أثبت بصيغة المضارع ، فيكون من تتمة كلام الشاعر. وأما إن قريء بصيغة المضي فهو من كلام المصنف إخبارا عما أراد الشاعر ، فلا يكون تأكيدا. نعم مجموع أثبت إلى آخره توكيد وتوضيح لمضمون كلام الشاعر. تأمله.

ومثل هذا التعليق بالمحال أن يقال مثلا : لا أفعل كذا حتى بيض القار أي : الزفت وحتى يلج الجمل أي : يدخل في سم الخياط أي : في ثقب الإبرة ؛ لأنه في تأويل الاستثناء على التعليق ؛ لأن المعنى لا أفعله على وجه من الوجوه ، إلا إن ثبت هذا الوجه وهو أن يبيض القار ، أو يلج ، في السم. وثبوت هذا الشرط محال ، ففعل ذلك الشيء محال.

(فالتأكيد فيه) أي في هذا الضرب وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح على تقدير دخولها فيها (من) جهتين (جهة أنه) أي إثبات المدح فيه (كدعوى الشيء ببينة) أي كإثبات المدعي بالبينة ، وإنما قال كدعوى الشيء ببينة ولم يقل إنه نفس


الإثبات ببينة ؛ للعلم بأن ليس هنا استدلال أصلا ، وإنما هنا مجرد الدعوى. لكن لما تقرر أن الاستدلال قد يكون بأن يقال : إن هذا الشيء لو ثبت ثبت المحال ، فإذا سلم الخصم هذا اللزوم لزم قطعا انتفاء ذلك الشيء فيلزم ثبوت نقيضه فإذا كان نقيضه هو المدعي لزم إثباته بحجة التعليق بالمحال ، صار هذا الاستثناء بمنزلته في الصورة ؛ لأن المتكلم علق ثبوت العيب على كون المستثنى عيبا ، وكونه عيبا محال فالمعلق على المحال محال فعدم العيب محال.

ويكفي في التأكيد إيهام وجود هذا الاستدلال ؛ لاشتراك البابين في مجرد التعليق ، ولو كان هنا على سبيل الإثبات بالدليل فافهم.

(و) جهة (أن الأصل في) مطلق (الاستثناء) هو (الاتصال) أي كون المستثنى من جنس المستثنى منه وكون المستثنى منه ، ملابسا لما يفيد فيه العموم بحيث يدخل فيه المستثنى على تقدير السكوت عنه ، وإنما كان الأصل في الاستثناء الاتصال لما تقرر في محله وهو أن الاستثناء المنقطع مجاز. وقولنا : الاستثناء المنقطع مجاز تريد أن أداة الاستثناء في المنقطع مجاز ، وأما إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع فهو حقيقة اصطلاح وقيل إن لفظ الاستثناء في المنقطع مجاز أيضا ، وإذا كان فى الأصل في أداة الاستثناء الاتصال أو في نفس الاستثناء (فذكر أداته) أي أداة الاستثناء ، فالضمير في أداته عائد على الاستثناء ، إلا أننا إن قلنا : إن المراد بالاستثناء أولا أداته كان الضمير في أداته على الاستثناء بمعنى الأداة ، أو بمعنى نفس الاستثناء على طريق الاستخدام. وإن قلنا إن المراد به الاستثناء بناء ، على أن لفظه مجاز في المنقطع ، كان الضمير على أصله.

(قبل ذكر ما بعدها) أي فذكر الأداة قبل أن يتلفظ بما بعدها وهو المستثنى (يوهم إخراج شيء) وهو المستثنى ؛ لأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، فيفهم أولا بناء على الأصل أنه أريد إخراج ما دخل (مما قبلها) أي مما قبل أداة الاستثناء ، والذي قبل أداة الاستثناء هو المستثنى منه (فإذا وليها) أي فإذا ولي الأداة (صفة مدح) ، وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع ، وتعين أن المراد به الانقطاع (جاء التأكيد) لما في ذلك الاستثناء من زيادة المدح على المدح ، مع أن المزيد على وجه أبلغ.


والمدح الأول المزيد عليه نفي العيب على العموم حيث قال : لا عيب فيهم ، والمدح الثاني المزيد إشعار استثناء المدح بعد العموم بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها ؛ لأن أصل الإتيان بالأداة بعد عموم النفي استثناء الإثبات من جنس المنفي ، وهو الذم ، فلما أتى بالمدح بعد الأداة فهم منه أنه طلب الأصل ؛ لأنه هو الذي ينبغي أن يرتكب فلما لم يجده أي لم يجد الأصل الذي هو استثناء الذم اضطر إلى استثناء المدح ، فتحول الاستثناء عن أصله إلى الانقطاع ولا يخفى أن هذا أبلغ وأنه توجيه يستملح ، ويثلج به الصدر في إفادة التأكيد حقيقة ، والأول إنما أفاد التأكيد بأمر تخييلي كما تقدم ، وهو الفرق بينهما وقوله ذكر الأداة يوهم إخراج شيء دخل ، لا يخلو من تمحل وإيهام : أما التمحل فلأن الإيهام المذكور إنما يتحقق في الخارج إن فرض أن الأداة ذكرت ثم ذكر المستثنى بعد مهلة ، وأما إن ذكر بإثرها فلم يتحقق إيهام إخراج شيء دخل ؛ لأنه بنفس سماع الأداة سمعت صفة مدح بعدها ، والإيهام حيث تعلق بإخراج شيء دخل يحتاج إلى مهلة في حصوله ؛ لطوله.

وأما الإيهام ، فلأن هذا الكلام يتبادر منه أن التأكيد يتوقف على حصول إيهام استثناء ما هو عيب ، وأن ذلك التأكيد لا يحصل حتى يذهب الوهم إلى الاتصال ، ثم يعود إلى الانقطاع ، وليس كذلك ، بل إنما يتوقف على كون الأصل في الاستثناء الاتصال ، فالفائدة إنما هي في بيان أن المتكلم لما كان الأصل في الاستثناء ما ذكر فهم بعد الفراغ من الكلام أنه كان طلب الأصل وهو الاتصال ، إذ هو الذي ينبغي أن يرتكب ويحمل عليه طلب الطالب فلم يجده فلذلك تحول إلى الانقطاع باستثناء المدح فيفهم التأكيد والمدح الذى يطلب معه عيب ، ولا يوجد أصلا أوكد فتأمل.

فإن قلت : من أين يفهم أن التعليق كان في الاستثناء المذكور ، فإن مدلول قولنا مثلا : لا عيب فيه إلا الكرم استثناء الكرم فيطلب له وجه يصح اتصالا وانقطاعا ، وأما أن المعنى لا عيب إلا الكرم إن كان عيبا فلا دليل عليه؟ قلت : يفهم من موارد الكلام ، فإن معناه هو ما ذكر عند البلغاء ، حتى إنه ربما صرح به فيقال مثلا : فلان لم نجد له


عيبا إلا عيبا واحدا هو حسن الخلق إن كان حسن الخلق عيبا ، ولذلك سر ، وهو أن هذا التعليق يفيد فائدتين :

إحداهما : ثبوت المدح ببينة كما تقدم.

والأخرى : تقريب الاستثناء من الاتصال الحقيقي الذي هو الأصل ؛ لأنه إنما استثنى الكرم في المثال على

تقدير كونه عيبا وعلى ذلك التقدير يكون الاستثناء متصلا ، وإن كان الاستثناء بحسب الظاهر ظاهر الانفصال فتأمل.

(والثاني) من ضربي تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو المفضول منهما هو : (أن يثبت لشيء صفة مدح وتعقب) تلك الصفة (بأداة استثناء) ومعنى تعقيب الصفة بأداة أن تذكر تلك الأداة بعقب إثبات تلك الصفة الموجبة لذلك الشيء. (تليها) أي تذكر تلك الأداة حال كونها تليها أي تأتي بعدها (صفة مدح أخرى) كائنة (له) أي : لذلك الشيء الموصوف بالأولى ، ويؤخذ من مثالهم هنا لهذا الضرب : أن الصفة الثانية لا بد أن تكون مما يؤكد الأولى ، ولو بطريق اللزوم ، حتى لو قيل مثلا : زيد كريم ، غير أنه حسن الوجه ، لم يكن من هذا الباب ، وإنما يكون من هذا الباب نحو قولك : أنا أعلم الناس بالنحو غير أنى أحرر منه أبواب التصريف ؛ لأن إثبات الصفة في مقام المدح يشعر بإثباتها على وجه الكمال المقتضي لانتفاء جميع أوجه النقصان عن تلك الصفة ، فإذا أتى بأداة الاستثناء وسيق بعدها ما أشعر به ثبوت الصفة على وجه الكمال بأن يثبت بتلك الصفة ـ المأتي بها ثانيا ـ وجه من أوجه الكمال ، جاء التأكيد ويحتمل أن يكون ما ذكر منه نظرا إلى التقاء الصفتين في المدحية ، فيحصل المراد بحصول مجرد التأكيد في المدح ؛ بسبب مجرد ذكر مطلق الصفة المدحية ، ولو لم تكن مما يلائم المذكورة أولا ، وربما يدل عليه ما يأتي في قوله :

هو البدر إلا أنه البحر زاخرا.

(نحو) أي مثل أن يقال : (أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش) (١) فإن إثبات الأفصحية على جميع العرب يشعر بكمالها ، والإتيان بأداة الاستثناء بعدها يشعر بأنه

__________________

(١) أورده العجلونى فى كشف الخفاء (١ / ٢٠١) ، وقال : قال فى اللآلئ : معناه صحيح ، ولكن لا أصل له.


أريد إثبات مخالف لما قبلها ؛ لأن الاستثناء أصله المخالفة ، فلما كان المأتي به كونه من قريش المستلزم لتأكيد الفصاحة ، إذ قريش أفصح العرب جاء التأكيد كما لا يخفى عند كل ذي طبع سليم.

وإنما كان مدحا بما يشبه الذم ، لما ذكرنا من أن أصل ما بعد الأداة مخالفته لما قبلها ، فإن كان ما قبلها إثبات مدح كما هنا ، فالأصل أن يكون ما بعدها سلب مدح ، وإن كان سلب عيب كما في السابق فالأصل فيما بعدها أن يكون إثبات عيب ، وهو هنا ليس كذلك ، فكان مدحا في صورة ذم ؛ لأن ذلك أصل دلالة الأداة وبيد : فيه لغتان أخريان ميد بالميم أولا ، وببد بالباءين الموحدتين قيل إنها بمعنى غير وعليه بنى المثال ، وأما إن جعلت بمعنى لأجل كما قيل إنها تدل على ذلك ؛ فلا يكون المثال من هذا الباب كما لا يخفى.

ثم أشار إلى ما يتبين به أن هذا الضرب إنما يفيد التأكيد من وجه واحد من الوجهين السابقين ، ليرتب على ذلك أن الأول أفضل منه فقال : (وأصل الاستثناء فيه) أي في هذا الضرب (أيضا أن يكون منقطعا) كما أن الاستثناء في الضرب الأول منقطع. أما الانقطاع في الضرب الأول ؛ فلأن الفرض أن معناه : أن يستثنى من العيب خلافه ، فلم يدخل المستثنى في جنس المستثنى منه فيه. وأما الانقطاع في هذا الضرب فلانتفاء العموم في المستثنى منه ، فلم يدخل المستثنى في المستثنى منه ، وكون الأصل في الضربين الانقطاع لا ينافي كون الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال ؛ لأن المتعلق فى الأصلين مختلف عموما وخصوصا فإن قلت : لما قال : أصل الاستثناء فيه الانقطاع كالأول لأن لفظة أيضا تدل على ذلك ، ولم يقل والاستثناء فيهما منقطع؟ قلت : كأنه راعى ما عسى أن يعرض فيهما من تكلف ردهما متصلين ، فيكون المراد بالأصل ما يتبادر من التركيب دون ما يتأول.

أما التأويل في الأول فكأن يقدر لا شيء فيه إلا هذا الأمر أو يراعى الاتصال بتقصير كون المستثنى عيبا. وأما الثاني فكأن يقدر أنا أفصح العرب فلا شيء يخل بفصاحتي إلا أني من قريش ، إن كان مخلا ، فأشار إلى أن ذلك خلاف الأصل وقد ظهر


بما ذكر أن الضربين اشتركا في الانقطاع لكن بين إنقطاعيهما مخالفة وهو أن الانقطاع في الأول يقدر متصلا لوجود العموم فيه ، فيضعف التكلف في تقديره.

والانقطاع في الثاني لا يقدر فيه الاتصال ؛ لكثرة التمحل بكثرة التقدير فيه ، وإلى هذا أشار بقوله : (لكنه) أي الاستثناء المنقطع في هذا الضرب (لم يقدر متصلا) كما قدر في الضرب الأول لما ذكر من سهولة تقدير الاتصال في الأول دون الثاني ؛ لأن الثاني ليس فيه صفة ذم منفية على وجه العموم ، فيمكن تقدير دخول المستثنى فيها ، وهو صفة مدح بتقدير كونها صفة ذم ، وإنما فيه إثبات صفة لا على وجه العموم فتقدير دخول ما بعد الآلة فيها يحتاج إلى تأويل الكلام ، بأن يكون المراد في المثال كما أشرنا إليه : أنا أفصح العرب فلا شيء يخل بفصاحتي ، أو لا عيب في فصاحتي إلا أني من قريش ، إن كان عيبا فيعود حينئذ إلى الاتصال.

ولا يخفى ما فيه من التعسف المحتاج إلى تقدير جملة أخرى لم ينطق بها ، وإذ لم يكن في هذا الضرب الثاني تقدير الاتصال (فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني) فقط.

وهو أن ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم الاتصال ، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى ، جاء التأكيد ؛ لأن كون الأصل في الاستثناء الاتصال يقتضي أنه هو المطلوب أولا. فالعدول عنه إلى خلافه يفهم عدم إمكانه ، ويشعر بأنه طلب فلم يوجد ولا شك أن طلب استثناء ذم حتى لا يوجد فيستثنى المدح أوكد من مجرد إنشائه ابتداء ، ففيه إثبات مدح على مدح ، وكون المزيد على وجه أبلغ كما تقدم وفي قولنا في تفسير الوجه الثاني تبعا للمصنف أن ذكر الأداة يوهم إلى آخر ما تقدم من البحث ، وهو أن المحتاج إليه في بيان التأكيد هو كون الأصل في الاستثناء الاتصال ؛ ليفهم أنه ما عدل عنه حتى لم يمكن. وأما ذكر الإيهام فلا يفيد في هذا المعنى. نعم ربما كانت في الإشارة إلى وجه تسميته مشبها للذم ؛ لأن إيهام استثناء ما يخالف ما قبله يقتضي أنه بآلة ذم في أصلها ، وأما إفادة هذا الضرب التأكيد بالوجه الأول ، وهو أنه كدعوى الشيء ببينة فلا يصح لأنه مبني على التعليق بالمحال. والتعليق بالمحال مبني على تقدير الاستثناء متصلا.

فأما إذا قلنا : لا عيب فيه إلا الكرم إن كان عيبا ، أفاد أن العيب منتف عنه في كل ما


فيه من الأوصاف ، إلا إن كان الكرم عيبا وهو محال بخلاف قولنا أنا أفصح الناس بيد أني من بني فلان الفصحاء ، فلا معنى للتعليق فيه فإن قلت : ما المانع أن يقدر في المثال وشبهه إلا أن يكون كوني من بني فلان مخلا بالفصاحة ، فيثبت لي إخلال بها ، فحينئذ يفيد التأكيد من الوجه الأول أيضا؟ قلت : يمنع من ذلك كون ذلك غير معتبر في استعمال البلغاء ، وإلا لصرح به يوما ما ولو قيل : أنا أفصح الناس إلا أني من بني فلان إن كان ذلك مخلا بالفصاحة ، كان ركيكا ، بخلاف التعليق بعد العموم كما تقدم.

فإن قلت قد بين المصنف أن إفادة التأكيد بالوجه الثاني متوقف على كون الأداة للاستثناء ؛ ليستشعر أصله من الاتصال فيستشعر أنه ما عدل عنه إلا لعدم إمكانه ، فيجيء التأكيد وهو متوقف على تأويل ، نحو : أنا الناس أفصح إلا أني من بني فلان على تقدير العموم ، أي : لا شيء يخل بفصاحتي ، وإذا قدر كذلك أفاد التأكيد بالوجه الأول أيضا ؛ لأنه إن لم يقدر العموم هكذا فإما يقدر عموم الإثبات أي : لي كل موجب للفصاحة إلا هذا ، وهو تناقض وإن لم يقدر العموم أصلا كان من باب ذكر المدح بعد المدح ، كأن يقال : أنا أفصح الناس وأنا لي موجب زيادة الفصاحة ، وليس هذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم في شيء. قلت من حيث إن الأداة أداة الاستثناء يراعى لها ما يصحح أصلها من الاتصال ، فيقدر العموم فتفيد بالوجه الثاني.

ومن حيث إن العموم لم يوجد في اللفظ ألغى تقديره المصحح للإفادة بالوجه الأول ؛ لما فيه من التحمل كما تقدم. فلم تفد بالأول تأمل. وقد أطلت هنا لما رأيت من الحاجة لهذه المباحث في تحقيق المحل والله الموفق.

(ولهذا) أي : ولأجل أن التأكيد في هذا الضرب الذي هو أن يثبت لشيء صفة مدح ، وتعقب تلك الصفة بآلة الاستثناء بعدها صفة مدح لذلك الشيء ، إنما يكون ذلك التأكيد من الوجه الثاني فقط ، وهو الإشعار بأنه طلب صفة ذم ، فلم يجدها ، فاضطر لاستثناء صفة مدح (كان) أي ولأجل ذلك كان الضرب (الأول) المفيد للتأكيد من الوجهين أحدهما ما ذكر ، والآخر ما تقدم ، وهو ما فيه من كون التعليق فيه كدعوى الشيء ببينة (أفضل) ، أي لأجل ذلك كان الأول أفضل من الثاني (ومنه) أي


من تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) يعود إلى الأول في المعنى ، ولو كان خلافه في الصورة التركيبية. وسنبين ذلك. وهذا الضرب الذي قلنا أنه يعود إلى الأول ، هو أن يؤتي بالاستثناء مفرغا بأن لا يذكر المستثنى منه ، ويكون العامل مما فيه معنى الذم ويكون المستثنى مما فيه معنى المدح والمستثنى هنا هو المعمول لهذا الفعل الذي فيه معنى الذم ؛ لأن الغرض وجود التفريغ ، وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية عن سحرة فرعون : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) (١) أي ما تعيب يا فرعون إلا هذه المنقبة ، التي هي أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإيمان بالله تعالى يقال نقم منه وانتقم : إذا عابه في شيء وكرهه لأجل ذلك الشيء.

وكون الإيمان أصل المناقب وقاعدة النجاة والشرف الدنيوي والأخروي مما لا يخالف فيه عاقل ، فلا يضر كون فرعون يعتقده عيبا بالنسبة لكفره ، فقد أتى في المثال بأداة استثناء بعدها صفة مدح هي الإيمان ، والفعل المنفي مما فيه معنى الذم ؛ لأنه من العيب فهو من تأويل لا عيب فينا إلا الإيمان ، إن كان عيبا قيل أن الاستثناء هنا متصل حقيقة إذ التقدير ما تعيب شيئا منا إلا الإيمان ، بخلافه فيما تقدم ، فإنه منقطع ، أو في حكم المنقطع وفيه أنه إن جعل متصلا حقيقة خرج المثال عما نحن بصدده ، إذ ليس فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم إذ حاصل المعنى أنك ما عبت فينا أمرا من الأمور إلا الإيمان ، جعلته عيبا وليس بعيب في نفسه ، كما تعتقد ، فهو بمنزلة ما لو قيل : ما أنكرت من أفعال زيد إلا مواصلة فلان ، وليست مما ينكر فالنزاع إنما هو في المستثنى هل هو كما اعتقده المخاطب أو لا؟ وليس منه تأكيد المدح بما يشبه الذم في شيء ؛ لأنه لم يستثن مدحا أكد به مدحا هو نفي العيب ، وإنما استثنى أمرا مسلم الدخول ، وبقي النزاع فيه هل هو كم زعمه المخاطب أم لا بخلاف قولنا لا عيب عندنا إلا الإيمان إن كان عيبا فهو بمنزلة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (٢)

__________________

(١) الأعراف : ١٢٦.

(٢) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص (٤٤) ، والإشارات ص (١١١) ، والمصباح ص (٢٣٩) ، والإيضاح ص (٣١٤).


فالتأويل على الانقطاع متعين يفيد هذا الضرب ما يفيده الأول من التأكيد بالوجهين وهما أن فيه من التعليق ما هو كإثبات الشيء ببينة ، وأن فيه الإشعار بطلب ذم فلم يجده فاستثنى المدح وهو ظاهر (والاستدراك) المفهوم من لفظ لكن (في هذا الباب) أي : في باب تأكيد المدح بما يشبه الذم يفيده (ك) ما يفيده (الاستثناء) لأنهما أعني الاستثناء والاستدراك من واد واحد ، إذ كل منهما لإخراج ما هو بصدد الدخول ، وهما أو حقيقة فإنك إذا قلت في الاستدراك : زيد شجاع لكنه بخيل فهو لإخراج ما أوهم ثبوت الشجاعة دخوله ؛ لأن الشجاعة تلائم الكرم كما أنك إذا قلت في الاستثناء : جاء القوم إلا زيدا ، فهو لإخراج ما أوهم عموم الناس دخوله ، وإن كان الإيهام في الأول بطريق الملاءمة والثاني بطريق الدلالة ، التي هي أقوى ، فإذا أتى بصفة مدح ثم أتى بآلة استدراك بعدها صفة مدح ، أشعر الكلام بأنه لم يجد حالا يستدركه على الصفة المدحية غير ملائم لها ، الذي هو الأصل ، فأتى بصفة مدح مستدركة على أخرى ، فيجيء التأكيد كما تقدم في الضرب الثاني في الاستثناء ولم يكتف عن ذكر الاستدراك بخلاف إلا فيمكن أن تختص بهذا الحكم لصحة جعلها استثناء بالتأويل. كما تقدم.

وإن كانت بحسب الظاهر المراد بمعنى لكن ثم مثل للاستدراك المفيد لتأكيد المدح بما يشبه الذم ، فقال : وذلك (كما في قوله) أي : بديع الزمان الهمذاني يمدح خلف بن أحمد : (هو البدر) (١) رفعة وشرفا (إلا أنه البحر زاخرا) أي مرتفعا متراكم الأمواج كرما. (سوى أنه الضرغام) أي الأسد شجاعة وقوة (لكنه الوبل) جمع وابل وهو المطر الغزير ، ولم يكتف بوصفه بكونه بحرا في الكرم عن كونه وبلا فيه ؛ لأن الوبلية تقتضي وجود العطاء ، والبحرية تقتضي التهيؤ للأخذ من كل جانب ، فالكرم المستفاد من البحرية كالقوة والمستفاد من الوبلية كالفعل.

فلم يكتف بالأول عن الثاني فقوله إلا أنه البحر وسوى أنه الضرغام يجري فيهما ما جرى فيما تقدم وهو بيد أني من قريش إذ هما استثناء من الضرب الثاني وقوله

__________________

(١) البيت لبديع الزمان الهمذانى ، وهو بلا نسبة فى مفتاح العلوم ص (٢٢٦) ، وعقود الجمان (٢ / ١٠٩).


لكنه الوبل استدراك يفيد من التأكيد ما يفيده الاستثناء في الضرب الثاني وقد بينا وجه إفادة الاستدراك لتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وإنه يكون بالوجه الذي يفيده به الضرب الثاني من الاستثناء ، ويعلم مما تقدم في الاستثناء في الضرب الثاني وجه كونه لا يفيد إلا بأحد الوجهين ، وهو إشعاره بأنه طلب استدراك ذم فلم يجده فاضطر إلى استدراك مدح وأنه لا يفيد بالأخرى الذي هو وجود تعليق يكون كإثبات الشيء بحجة ، لتوقفه على تقدير الاتصال ، وهو ممنوع في الضرب الثاني لكونه محمولا على الاستدراك فضلا عما هو نص في الاستدراك وذلك ظاهر.

تأكيد الذم بما يشبه المدح

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (تأكيد الذم بما يشبه المدح) أي : النوع المسمى بذلك (وهو ضربان) كما تقدم في تأكيد المدح بما يشبه الذم.

(أحدهما) مثل الأول في تأكيد المدح بما يشبه الذم فهو (أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم) ثابتة (له) أي لذلك الشيء (بتقدير) أي : بواسطة تقدير أو على تقدير (دخولها) أي دخول صفة الذم (فيها) أي في صفة المدح ، ومعلوم أن نفي صفة المدح ذم ، فإذا أثبت صفة ذم بعد هذا النفي الذي هو ذم جاء التأكيد كما تقدم في تأكيد المدح وذلك (كقولك فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من أحسن إليه) فقد نفيت صفة مدح وهي الخيرية ، ثم استثنيت بعد هذا النفي الذي هو ذم صفة هي كونه يسيء لمن أحسن إليه فيجري فيه ما تقدم في الضرب الأول في تأكيد المدح ؛ لأنه لما كان فيه تقدير الاتصال لوجود العموم على أن يكون المعنى : لا خير فيه إلا الإساءة للمحسن إن كانت خيرا كان فيه تعليق بالمحال فيكون كإثبات الذم بالبينة ، وكان فيه أيضا من كون الأصل في الاستثناء الاتصال الإشعار بأنه طلب الأصل وهو استثناء المدح ليقع الاتصال فلما لم يجده استثنى ذما فجاء فيه ذم على ذم بوجه أبلغ.

(وثانيهما) أي وثاني الضربين هنا كالثاني في تأكيد المدح فهو (أن يثبت للشيء صفة ذم وتعقب) تلك الصفة (بأداة استثناء تليها) أي : تلي تلك الأداة (صفة ذم أخرى كقولك : فلان فاسق إلا أنه جاهل) والاتصال الذي يكون معه التعليق بالمحال لا


يوجد فيها أيضا كما تقدم فلا يفيد التأكيد بالوجه الأول كما في الضرب الأول ، وإنما يفيده بالثاني وهو أن الاستثناء لما كان أصله الاتصال فالعدول عن الاتصال إلى الانفصال يشعر بأنه طلب استثناء المدح فلم يجده فأتى بالذم بوجه أبلغ فقد تبين أن الضرب الأول يفيد بالوجهين والثاني يفيد من وجه واحد كما تقدم مع بسطه وتحرير أبحاثه (تحقيق) وجه إفادت (هما) التأكيد يجري ذلك التحقيق والتقدير (على قياس ما مر) أي : على الاعتبار والنظر لما مر في تأكيد المدح بما يشبه الذم كما أشرنا إليه وتقدم ما أغنى عن إعادة جميعه والاستدراك هنا كالاستثناء إذ الاستثناء المنقطع كالاستدراك ، فإذا قلت : فلان بخيل لكنه كاذب كان من تأكيد الذم بما يشبه المدح.

الاستتباع

(ومنه) أي : ومن البديع المعنوي (الاستتباع) أي النوع المسمى بالاستتباع (وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر كقوله : نهبت) (١) أي : أخذت على وجه القهر والاختطاف (من الأعمار ما لوحويته) أي : لو اشتمل عليه عمرك (لهنئت الدنيا) أي : لقيل للدنيا هنيئا لكي (بأنك) فيها (خالد) فمدلول الكلام بالذات هو أنه نهب أعمار من وصف تلك الأعمار أنه لو حواها صار بها خالدا في الدنيا ، ولما ذكر أن الدنيا تهنأ بذلك الخلود فهم أن فيه صلاح الدنيا فمدلول الكلام بالقصد الأول ، لأنه مقتضى النسبة الخبرية هو أنه (مدحه بالنهاية في الشجاعة) ؛ لأن اغتيال النفوس وأخذها قهرا إنما يكون بالشجاعة ولما وصف أعمار تلك النفوس بأنها لو اجتمعت لناهبها كانت خلودا دل ذلك على أن القتل ليس أمرا اتفاقيا يمكن لغير المتناهي في الشجاعة بل القتل عنده لما فيه من قوة الشجاعة صار متناولا حيثما أريد كتناول الأمور الطبيعية فلما جعل قتلاه بحيث يخلد وارث أعمارهم صار نهاية في الشجاعة ثم لما جعل خلود تهنأ به الدنيا كان المدح نهاية الشجاعة ، (على وجه) هو كون الخلود تهنأ به الدنيا (استتبع) أي استلزم (مدحه بكونه) أي : بكون الممدوح (سببا لصلاح الدنيا و) حسن (نظامها) ؛ لأن المراد بتهنئة الدنيا تهنئة أهلها فلو لم تكن

__________________

(١) البيت للمتنبي فى ديوانه (١ / ٢٧٧) ، وفى الإشارات ص (٢٨٤) ، والإيضاح ص (٣١٦).


لهذا الممدوح فائدة لأهل الدنيا ما هنئوا ببقائه ؛ إذ لا تهنئة لأحد بشيء لا فائدة له فيه وكون القصد هو المدح الأول والثاني تابع ظاهر مما قررنا وظاهر بالذوق السليم أيضا.

قال على بن عيسى الربعي زيادة على ما ذكر من الوجهين (وفيه) أي وفي البيت وجهان آخران من المدح مدلولان بالاستلزام أحدهما يعني هو ما أفاده (أنه نهب الأعمار دون الأموال) لأن ذلك يستلزم كونه ممدوحا بعلو الهمة وأن همته تتعلق بمعاني الأمور فالأموال يعطيها ولا ينهبها والأرواح ينهبها فالعدول عن الأموال إلى الأعمار إنما يكون لعلو الهمة وذلك مما يمدح به ولا يقال لا يلزم من الإخبار بنهب الأعمار العدول عن الأموال لصحة الجميع بينهما فلا يدل الكلام على المدح بعلو الهمة ؛ لأنه لا مفهوم للقب ولا حصر يفيد التخصيص ؛ لأنا نقول تخصيص الأعمار بالذكر والإعراض عن الأموال مع أن النهب أصله أن يتسلط على الأموال يفيد التخصيص ؛ لأنهم يعتبرون مفهوم اللقب من جهة أن تخصيصه بالذكر إنما يكون فى محاورة البلغاء وخطابياتهم لفائدة وليس إلا إخراج ما سواه عن الحكم ، وإلا كان الصواب أن يقول مثلا : نهبت كل شيء للأعداء ، وحيث عدل إلى تخصيص الأعمار بالذكر اعتبر له المفهوم عند البلغاء في محاوراتهم فكأنه يقول : ما نهبت إلا الأعمار دون الأموال لعلو همتك ، ولا يضر إلغاء أئمة الأصول مفهوم اللقب ؛ لأن القائلين بذلك قالوا به بالنسبة لاستفادة الأحكام الشرعية التي ينبغي أن تحصل عن ظن قريب من اليقين ، وأما اعتبارات البلغاء التي يكفي فيها أدنى رمز فيصح فيها ما ذكر ؛ لأن الخطاب فيما بينهم كذلك يتفاهم.

(و) الوجه الثاني من المدح (أنه لم يكن ظالما في قتلهم) لأن الظالم لا سرور للدنيا ببقائه بل سرورها بهلاكه ، ومعلوم أن كونه ليس بظالم مدح فهم من التهنئة لاستلزامها إياه فالمدح الأول لازم عما جعل هو الأصل والثاني لازم عما جعل مستتبعا فافهم.

الإدماج

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (الإدماج) أي النوع المسمى بالإدماج وهو لغة الإدخال ومنه أدمج الشيء في ثوبه إذا لفه فيه (وهو) أي الإدماج اصطلاحا (أن يضمن كلام سيق لمعنى آخر) بمعنى أن الكلام الذي سيق لمعنى يجعل متضمنا لمعنى آخر فقوله


يضمن على صيغة المبني للمفعول ، والنائب هو كلام ، وقوله سيق لمعنى نعت لكلام.

وقوله : معنى آخر المفعول الثاني ليضمن فهو منصوب به بعد أن رفع به المفعول الأول بالنيابة ، وشمل قوله معنى آخر ما يكون مدحا وما يكون غيره ، (فهو) لأجل شمول المعنى المضمن المدح وغيره (أعم من الاستتباع) ؛ لأن المعنى المستتبع أي : المضمن للكلام المساق للمعنى المقصود أولا يشترط فيه أن يكون مدحا ، فاختص الاستتباع بالمدح ، وشمل الإدماج المدح وغيره فكان الإدماج أعم من الاستتباع ، وقيل : إن الاستتباع هو أن يذكر معنى على وجه يستتبع معنى آخر ، فيكون معناه ومعنى الإدماج واحد ، فيستغنى بأحدهما عن الآخر.

ثم مثل للإدماج بالمثال الذي يختص به عن الاستتباع فقال (كقوله) أي كقول المتنبي (أقلب فيه) (١) أي في ذلك الليل (أجفاني) ، ودل التعبير بالمضارع على تكرر تقليب الأجفان ليلا وهو دليل على السهر ، وأشار بقوله (كأني أعد بها على الدهر الذنوبا) إلى أن هذا التكرار في غاية الكثرة للعلم بكثرة الذنوب التي يعدها على الدهر.

والمقصود من الكلام وصف الليل بالطول مع السهر ؛ لأن معه يظهر الطول ، وأكد ذلك الطول وبينه بأن كثرت فيه تقليب الأجفان كثرة أوجبت له كونه في منزلة نفسه إذا كان يعد الذنوب على الدهر فكأن هنا يحتمل أن يراد بها الشك أى : أوجبت كثرة التقلب لي الشك في أني أعد الذنوب ويحتمل التشبيه أي أشبه نفسي في التقليب بنفسي في عد الذنوب وقد تقدم نظير ذلك والمقصود : ذنوب الدهر عليه لا ذنوبه في الدهر إذ لا معنى لعدها على الدهر ثم بين وجه الإدماج كما هو ظاهر بقوله (فإنه) أي : إنما قلنا : إن في البيت إدماجا ؛ لأن الشاعر (ضمن وصف الليل بالطول) وهو المعنى المسوق له الكلام أولا (الشكاية) أي : ضمن المعنى المذكور الشكاية (من الدهر) لكثرة ما أصابه به من عدم استقامة الحال وتلك الشكاية بها حصل الإدماج ؛ إذ هي المعنى

__________________

(١) البيت للمتنبى ، فى ديوانه (١ / ١٤٠) ، وشرح التبيان (١ / ١٠٢) ، والإشارات ص (٢٨٥).


المضمن ولا يخفى بالذوق السليم كونها غير مقصودة أولا ، كما لا يخفى من التركيب فلو صرح بالمعنى المضمن أولا لم يكن ذلك من الإدماج كما قيل في قوله (١) :

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا

وأسعفنا فيمن نحب ونكرم

فقلت لهم نعماك فيهم أتمها

ودع أمرنا إن المهم المقدم

فإنه قيل : إن هذا الكلام مسوق للتهئنة بالوزارة لبعض الوزراء وأن الدهر أسعد في تلك الوزارة وأن الشاعر يحبها وضمن ذلك التشكي من الدهر في عدم إسعافه هو في نفسه فكانت الشكاية فيه إدماجا وهو سهو ؛ لأنه صرح أولا بالشكاية بل قيل : لو جعلت التهئنة مدمجة كان أقرب ولا ينافي ذلك كون المقصود بالذات هو التهنئة ؛ لأن القصد الذاتي لا ينافي إفادة ذلك المقصود بطريق الإدماج بأن يؤتى به بعد التصريح بغيره فافهم.

التوجيه

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (التوجيه) أي النوع المسمى بالتوجيه ويسمى أيضا محتمل الضدين (وهو) أي التوجيه (إيراد الكلام) أي الإتيان بالكلام (محتملا) (لوجهين مختلفين) على حد سواء والمراد بالاختلاف التضاد والتنافي كالمدح والذم والسب والدعاء ولا يكفي فيه مجرد كون المعنيين متغايرين فلو قيل : رأيت العين في موضع يحتمل على السواء أن يراد رأيت العين الجارية وعين الذهب والفضة لم يكن من التوجيه ؛ لأن المعنيين متغايران ولا تضاد بينهما وإنما التوجيه (كقول من قال لأعور : ليت عينيه سواء) (٢) فإنه محتمل على السواء لمعنيين متضادين أحدهما أن يكون دعاء عليه والآخر أن يكون دعاء له ؛ لأنه يحتمل أن يراد طلب تصحيح العين العوراء فيكون دعاء له أو تعوير الصحيحة فيكون دعاء عليه هذا شطر بيت من بيتين هما قوله :

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء

فاسأل الناس جميعا

أمديح أم هجاء

__________________

(١) البيتان لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، وهما فى الإيضاح ص (٣١٧).

(٢) البيت لبشار بن برد ، وهو فى الإيضاح ص (٣٠٨).


روي أن رجلا أعطى لخياط اسمه عمرو ثوبا ليخيطه له فقال له الخياط لأخيطنه بحيث لا تعلم أقباء هو أم غيره فقال له هذا الشاعر لئن فعلت ذلك لأقولن فيك شعرا لا يدرى أهجاء أم غيره ، فلما خاط له القباء قال الشاعر ما ذكر. ولا يفهم من كونه أحسن إليه في الخياطة أنه دعاء له لأنه جزاء الإحسان لاحتمال أن يكون أفسد الخياطة بالإبرة فدعا عليه أو هو توجيه باعتبار ما يفهم من صورة اللفظ لا بالنظر للقرينة وسمى الدعاءين مديحا وهجاء ؛ لأن المدعو له يستحق أن يمدح بموجب الدعاء والمدعو عليه بالعكس قال (السكاكي ومنه) أي من التوجيه (متشابهات القرآن باعتبار) وهو احتمال تلك المتشابهات في الجملة لوجهين مختلفين وتفارق تلك المتشابهات التوجيه باعتبار آخر وهو عدم استواء الاحتمالين يعنى لأن أحد المعنيين المتشابهين قريب وهو غير مراد والآخر بعيد وهو المراد بالقرينة وإنما قلنا إن المتشابهين منهما قريب وبعيد لما ذكر السكاكي نفسه من أن أكثر متشابهات القرآن من قبيل التورية والإيهام ومعلوم أن التورية التي هي الإيهام إنما تتصور في معنى قريب وبعيد كما تقدم ويجوز أن يكون وجه المفارقة بين التوجيه والمتشابهات هو أن المعنيين في المتشابهات لا يجب تضادهما بخلاف التوجيه كما تقدم. وفي هذا الكلام خبط لا يخفى ؛ لأنهم اشترطوا في التوجيه استواء المعنيين في القرب والبعد فكيف يصح أن تكون المتشابهات بوجه توجيها مع كون أحد المعنيين في المتشابهات بعيدا هو المراد كما في قوله تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(١) و (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٢) فالمعنى المجازي وهو البعيد منهما هو المراد كما تقدم وأيضا قد ذكر السكاكي أن المتشابهات على الإطلاق من التوجيه باعتبار وذكر بعد أن أكثرها له معنى قريب وبعيد وهو يقتضي أن الذي يكون توجيها من المتشابهات باعتبار هو البعض لا الكل. نعم إن صح أن بعض المتشابهات يحتمل الضدين على السواء كانت من التوجيه الصرف لا أنها منه باعتبار فقط وكذا إن صح أن التوجيه لا يشترط فيه استواء الاحتمالين وهو بعيد من كلامهم تأمل.

__________________

(١) الذاريات : ٤٧.

(٢) طه : ٥.


الهزل الذى يراد به الجد

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (الهزل الذي يراد به الجد) وتسميته أغنت عن تعريفه فيكفي فيه المثال ولذلك لم يعرفه واقتصر على المثال فقال وذلك كقوله : (١)

إذا ما تميمي أتاك مفاخرا

فقل عد عن ذا أين أكلك للضب

فهذا كلام هزل في أصله لأنه لو أتاك إنسان مفاخرا وخاطبته غير مفاخر في مجلس ممن تريد المطايبة معهم والمضاحكة قلت إذا أتاك فلان مفاخرا فقل له اترك عنك هذا أين أكلك للضب كان هزلا ؛ لأنه إنما يقصد به الضحك والمطايبة ولكن مقصود الشاعر به الجد وهو ذم التميمي بأكل الضب وأنه لا مفاخرة له مع كونه يرتكب أكل الضب الذي يعافه أشراف الناس ، وبهذا التقرير يندفع ما يتوهم من أن كونه هزلا مع كونه أريد به الجد متنافيان ؛ لأن الهزلية باعتبار أصل استعماله والجدية باعتبار الحالة الراهنة وقوله عد : أمر من عداه جعله يتعدى الشيء أي عد نفسك عن هذه المفاخرة بتركها وحدثنا عن أكلك للضب. وأين : يسأل بها عن المكان ولكن كثيرا ما يكون السؤال عن المكان كناية عن صاحبه فالمراد بالسؤال عن مكان أكل الضب السؤال عن نفس الأكل والقصد التعيير به والحمل على الإقرار به.

تجاهل العارف

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (تجاهل العارف) أي النوع المسمى بذلك (وهو) أي وهذا النوع يسمى باسمين أحدهما هو ما تقدم والآخر (كما سماه) أي : على ما سماه (السكاكي) هو (سوق المعلوم مساق) أي سوقا كسوق (غيره) بأن يعبر عنه بما يدل في الأصل على أنه غيره معلوم (لنكتة) أي لفائدة ، فإن عبر عن المعلوم بعبارة المجهول لا لنكتة كأن يقال أزيد قائم أم لا؟ حيث يعلم أنه قائم لم يكن من هذا الباب في شيء ، والعبارة الثانية أفضل لوجهين.

__________________

(١) البيت لأبى نواس ، فى الإيضاح ص (٣١٩) ، ولكن ورد (كيف) بدلا من (أين).


أحدهما : ما أشار إليه السكاكي من أنه يقع في قول الله تعالى كما فى قوله سبحانه (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(١) قال : فلا أحب أن يقال فى الكلام المنسوب إلى الله تعالى تجاهل العارف يعني بخلاف غير هذه العبارة فإنها أقرب إلى الأدب ولفظ الغير فيها وإن كان عبارة عن المجهول لكن دلالته أستر لعمومه والآخر أنه أكمل في الدلالة على المقصود. وظاهر عبارة المصنف أن هذا الثاني تعريف للأول إلا أن السكاكي اختار تسمية المعنى به وهو قريب مما ذكرنا ثم أشار إلى أمثلة النكتة المشروطة في هذا النوع بقوله : وذلك (كالتوبيخ في قول الخارجية : أيا شجر الخابور) (٢) وهو موضع من ديار بكر ، وبكر من عظماء الجاهلية (مالك مورقا) أي : أي : شيء ثبت لك في حال كونك مورقا أي : مخرجا لأوراقك ناضرا أي : ناعما لا ذابلا يقال أورق الشجر صار ذا ورق (كأنك لم تجزع على ابن طريف) فإنها علمت أن الشجر لا علم له بابن طريف ولا بهلاكه فتجاهلت وأظهرت أنها كانت تعتقد علمه بابن طريف ومآثره وأنه يجزع عليه كغيره جزعا يوجب ذبوله وأن لا يخرج ورقه فلما أورق وبخته على إخراج الورق وأظهرت أنها حينئذ تشك في جزعه فإذا كان الشجر يوبخ على عدم الجزع فأحرى غيره فالتجاهل هنا المؤدي إلى تنزيل ما لا يعلم منزلة العالم صار وسيلة للتوبيخ على الإيراق ووسيلة إلى أن مآثره بلغت إلى حيث يعلم بها الجمادات ، ولو أتت بما يدل على أنه لا يعلم بابن طريف وأنه من جملة الجمادات ما حسن التوبيخ ولا اتضح ظهور المآثر حتى للجمادات فافهم.

(و) ك (المبالغة في المدح كقوله) أي كما في قوله :

(ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي) (٣)

__________________

(١) طه : ١٧.

(٢) البيت لليلى بنت طريف ، فى الإشارات ص (٢٨٦) ، والمصباح ص (٢٥) ، والدرر (٢ / ١٦٣) ، والأغانى (١٢ / ٨٥ ، ٨٦) ، والحماسة الشجرية (١ / ٣٢٨) ، والإيضاح ص (٣١٩).

(٣) البيت للبحترى ، فى ديوانه (١ / ٤٤٢) ، والإشارات ص (٢٨٦).


وأراد بالمنظر الوجه والضاحي هو الظاهر حسا ومعنى فإنه يعلم أن ليس ثم إلا ابتسامها فلما تجاهل وأظهر أنه التبس عليه الأمر فلم يدر هل ذلك اللمعان المشاهد من أسنانها عند الابتسام لمع برق سرى أم هو ضوء مصباح أم هو ضوء ابتسامتها الكائنة في منظرها الضاحي أفاد التجاهل المنزل منزلة الجهل غاية المدح وأنها بلغت إلى حيث يتحير في الحاصل منها ويلتبس المشاهد منها (أو) كالمبالغة (في الذم كقوله) أي كما في قوله

(وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء) (١)

فإنه يعلم أن آل حصن رجال لكن تجاهل وأظهر أنه التبس عليه أمرهم في الحال ولو كان سيعلم في المستقبل فلم يدر هل هم رجال أم نساء؟ فتجاهله المنزل منزلة جهله فيه إظهار بأنهم حيث يلتبسون بالنساء في قلة غنائهم وضعف فائدتهم فكان في التجاهل إظهار لنهاية الذم وأنهم في منزلة النساء وقوله : وسوف الخ جملة اعتراضية بين أدري ومعموله وهو قوله : أقوم آل حصن الخ وكونها بالواو يدل على أن الاعتراض قد يكون بالواو ومعادلته بين النساء والقوم تدل على أن القوم لا يتناول النساء بل هو مخصوص بالرجال (و) ك (التوله) أي : التحير والدهش (في الحب) كما (في قوله بالله يا ظبيات القاع) (٢) القاع المستوي من الأرض وبالله استعطاف للظبيات المناديات ليستمعن (قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر) فإنه يعلم أن ليلى من البشر فتجاهل وأظهر أنه أدهشه الحب حتى لا يدري هل هي من الظبيات الوحشية أم من البشر؟ فلذلك سأل الظبيات عن حالها ، ويجوز أن يكون هذا المثال لنكتة المبالغة في مدحها بالحسن حيث صارت إلى حال الالتباس بالظبيات وفي إضافته ليلى إلى نفسه أولا ثم التصرح باسمها ثانيا استلذاذ لا يخفى. وهذه النكت مبنية كما أشرنا إليه على أن

__________________

(١) البيت لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص (٧٣) ، والدرر (٢ / ٢٦١) ، (٤ / ٢٨) ، وشرح شواهد الإيضاح ص (٥٠٩).

(٢) البيت للمجنون ، فى ديوانه ص (١٣٠) ، وللعرجى فى شرح التصريح (٢ / ٢٩٨) ، ونسب لغيرهما ، ونسب لذى الرمة فى خزانة الأدب (١ / ٩٧).


التجاهل حكمه حكم الجهل وإلا فلو بنى على العلم الحقيقي ما تحققت نكتة بل يصير الكلام مما لا يلتفت إليه ثم ما مثل به المصنف أنموذج أي أمثلة يسيرة وطرف قليل من نكت تجاهل العارف وفي القاموس نموذج بفتح النون مثال الشيء والأنموذج بالهمزة تصحيف يعني ومع كونه تصحيفا جرى على الألسن ، وإنما قلنا إنها أنموذج من نكت التجاهل لأنها أكثر من أن تنضبط بالقلم فمنها التعريض كما في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) تعريضا بأنهم على الضلال. ومنها التحقير كقوله : لمعروف ما هذا؟! إشارة إلى أنه أحقر من أن يعرف. ومنها غير ذلك من الاعتبارات البلاغية المستفادة من تتبع تراكيب الشعراء أو غيرهم.

القول بالموجب

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (القول بالموجب) أي النوع المسمى بالقول بالموجب (وهو) أي : القول بالموجب (ضربان : أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير) حال كون تلك الصفة الواقعة في كلام الغير (كناية عن شيء) أي : دالة على شيء من وصف ذلك الشيء المذكور أنه (أثبت له حكم) تقتضيه فيه تلك الصفة وتناسبه (فتثبتها) أي فتثبت أنت في كلامك تلك الصفة (لغيره) أي : لغير ذلك الشيء الذي جعلها غيرك دالا عليه للإيماء إلى أن ذلك الحكم مسلم لزومه لتلك الصفة ، ولكن لا يفيدك أيها المخاطب ؛ لأن الصفة المستلزمة له إنما هي لغير من عبرت بها عنه ، فقد قيل بموجب تلك الصفة وهو استلزامها للحكم ، لكن هو لغير من عبر بها عنه ويشترط في كونه قولا بالموجب أن ثبتت الصفة لغير المقصود أولا (من غير تعرض) أي أن تثبتها بلا تعرض (لثبوته له) أي لثبوت ذلك الحكم لهذا الغير الذي أثبتها أنت (أو نفيه عنه) أي : ومن غير تعرض لنفي الحكم لذلك الشيء بل تثبت الصفة ولا تتعرض للحكم بوجه ، فلو تعرضت للحكم إثباتا أو نفيا خرج الكلام عن القول بالموجب فإذا قال القائل : ليخرجن القوي من هذا البيت الضعيف معبرا بصفة القوة عن نفسه مثبتا لمدلولها حكم الإخراج فإن أثبت الصفة للغير ولم تتعرض للحكم وقلت : القوي أنا كان الكلام من القول بالموجب ، وإن قلت يخرجك القوي الذي هو أنا لم يكن من


القول بالموجب في شيء ، ثم مثل لما استكمل الشروط بقوله وذلك (نحو) قوله تعالى (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (١) فقد حكى الله تعالى عن المنافقين كلاما وقعت فيه صفة هي لفظ الأعز حال كونها كناية عن فريق المنافقين ، كما أن الأذل في زعمهم كناية عن فريق المؤمنين ، وأثبت فيه لفريق المنافقين الذي هو المكني عنه حكم الإخراج من المدينة لعزته في زعمهم ، فأثبت الله تعالى في الرد عليهم العزة التي هي مضمون تلك الصفة لغير فريقهم بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فقد رد عليهم بأن العزة تناسب الإخراج كما قلتم لكن ليست لكم بل العزة لله ثم لرسوله ثم للمؤمنين لا لفريقكم ، ويلزم منه إثبات الذلة للمنافقين ولزم ثبوت العزة كون صاحبها هو المخرج بكسر الراء وثبوت الذلة كون صاحبها المخرج بفتحها ولم يتعرض لإثبات الحكم ولا لنفيه ولكن فهم بالالتزام فكان الكلام من القول بالموجب وقوله أن تقع صفة إن أريد اللفظ كما هو الظاهر فالضمير في تثبتها يعود عليها من حيث المعنى لا على طريق الاستخدام إذ لا يشترط إثبات لفظها كما يفهم من الآية وإن أريد المعنى كان الضمير على ظاهره ويلزم التوسع في كون المعنى كناية ثم المراد بالكناية هنا اللفظ الدال على المعنى بوجه من الإجمال كما دل الأعز على فريق مخصوص في استعمالهم لا الكناية المصطلح عليها وهو اللفظ المستعمل لينتقل منه إلى اللازم مع جواز إرادة الملزوم وإذ لا لزوم بين مفهوم الأعز وفريق المنافقين ، ويحتمل أن يراد بها معناها المعهود ويكفي في اللزوم اعتقادهم اللزوم وادعاؤهم ذلك وقد تقدم أن اللفظ المشتق يكون كناية باعتبار مفهومه عن اللازم الذي هو المصدوق ولا ينافي ذلك كون الحكم هنا للعزة وبسببها ؛ لأن المحكوم عليه هو المصدوق بخصوصه وإن كانت العزة سبب ثبوت الحكم له فافهم.

(و) الضرب (الثاني) من ضربي القول بالموجب هو (حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده) بمعنى أن الغير أطلق لفظا على معنى وحمله غير من أطلقه لذلك المعنى على معنى آخر لم يرده المتكلم الأول ولكن إنما يحمله على خلاف المراد حال

__________________

(١) المنافقون : ٨.


كون خلاف المراد (مما يتحمله) ذلك اللفظ بأن يكون اللفظ صالحا لما حمل عليه ولو لم يرد ، وإلا كان الحمل عبثا لا بديعا ، وحمله على الخلاف المحتمل (بذكر متعلقه) أي متعلق ذلك اللفظ والمراد بالمتعلق هنا ما يناسب المحمول عليه سواء كان متعلقا اصطلاحيا كالمفعول أو لا فالأول (كقوله :

قلت ثقلت إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كأهلي بالأيادي) (١)

وبعده :

قلت طولت قال لا بل تطول

ت وأبرمت قال حبل ودادي

فقوله : ثقلت وقع في كلام الغير وهو بمعنى حملتك المؤنة والمشقة الباطنية والظاهرية بإتياني مرارا عديدة فحمله المخاطب فيما حكى عنه المتكلم على التثقيل على كاهلي بالأيادي والمنن بذكر متعلقه وهو المفعول مع المجرور ، أعني : قوله كاهلي بالأيادي والكاهل ما بين الكتفين والأيادي : النعم جعل إتيانه نعما عديدة حتى ثقلت كاهله ولا يخفى ما في أبرمت من مثل ما ذكر في ثقلت ؛ لأن المراد به التضييق وحمله على أحكام الوداد والتطول في البيت بمعنى الإنعام ، والثاني : وهو ما ذكر فيه المتعلق من غير أن يكون مفعولا ولا مجرورا كقوله :

لقد بهتوا لما رأوني شاحبا

فقالوا به عين فقلت وعارض

أرادوا بالعين إصابة العائن وحمله على إصابة عين المعشوق بذكر الملائم وهو العارض من الأسنان التي هي كالبرد ، فكأنه قال : صدقتم في عينها وعارضها لا عين العائن ووجه كون هذا الضرب من القول بالموجب ظاهر كالأول ؛ لأنه اعترف بما ذكر المخاطب لكن المعنى غير مراد ولما لم يصرح بنفي المراد صار ظاهره إقرارا بما قيل وذلك ظاهر وقد فهم من البيتين أن الحمل على خلاف المراد يكون بإعادة المحمول كما في البيت الأول ، وبدونه كما في الثاني وأما قوله (٢) :

__________________

(١) البيت للحسن بن أحمد المعروف بابن حجاج الهازل ، وقيل لمحمد بن إبراهيم الأسدى. أورده محمد بن على الجرجاني فى الإشارات ص (٢٨٧).

(٢) الأبيات منسوبة لأكثر من شاعر ، فقد نسبت لابن الرومى ، وأبى العلاء ، وهى بلا نسبة فى الإشارات ص (٢٨٨).


وإخوان حسبتهم دروعا

فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاما صائبات

فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ولكن من ودادي

فالبيت الأخير منه من هذا المعنى ؛ لأنه حمل قولهم صفت منا قلوب على صفوها من وداده بذكر المتعلق والبيتان قبله ليسا من هذا المعنى ، ولكن ما فيهما قريب منه ، إذ ليس فيهما حمل صفة ذكرت في كلام الغير على معنى آخر وإنما فيهما ذكر صفة ظنت على وجه ، فإذا هي على خلافه فيشبهان هذا المعنى بما فيهما من كون المعنى فيهما في الجملة على الخلاف.

الإطراد

(ومنه) أي ومن البديع المعنوي (الاطراد) أي النوع المسمى بالاطراد وهو في الأصل : تتابع أجزاء الماء واطرادها نقل للكلام السلس المنسبك السبك الحسن ، فصارت أجزاؤه في حسن تتبعها وعدم تكلفها كأجزاء الماء في اطرادها عرفه بقوله (وهو أن يؤتى بأسماء الممدوح أو غيره) والمناسب أن يقال باسم الممدوح أو غيره إذ لا تعدد هنا لاسم الممدوح أو غيره (و) يؤتى بأسماء (آبائه) والمراد هنا بالأسماء اثنان فما فوق بدليل المثال (على ترتيب الولادة) أي : يؤتى بأسماء الآباء على ترتيب الولادة بذكر الأب ثم أبى الأب ثم كذلك (من غير تكلف) في السبك في نظم اللفظ ونفي التكلف يرجع فيه إلى الذوق السليم ، فلا يكون ذكره من التعريف بخفي وقيل المراد بحسن السبك أن لا يفصل بين الأسماء بالنسبة الثبوتية ، وعليه فليس بخفي وفيه نظر ؛ لأن استفادة هذا المعنى من حسن السبك خفي بنفسه وذلك (كقوله

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب) (١)

هذا مثال لما ذكر فيه غير الممدوح وسنمثل بالحديث الشريف المشتمل على ذكر اسم الممدوح ، يقال للقوم إذا ذهب عزهم وتضعضع أي : ضعف وانكسر حالهم قد ثل عرشهم ويقال : ثلهم إذا أهلكهم والعرش يطلق على العز ويجمع بعروش ويعني الشاعر إن يفتخروا بقتلك ويفرحوا به فلا يعظم علينا افتخارهم ؛ لأن عندنا ما يخفف

__________________

(١) هو للعباس بن مرداس فى ديوانه ص (٣٦) ، وهو لربيعة الأسدى فى لسان العرب (١٣ / ٤٦٤) (يمن).


أذى افتخارهم وهو أنك أثرت في عزهم وهدمت أساس مجدهم بقتل رئيسهم ، فكأنك أخذت بثأر نفسك قبل قتلك ، فلا افتخار لهم في الحقيقة لا يقال تتابع الإضافات يخل بالفصاحة كما تقدم ، وهو يشمل الإضافات المتصلة والمنفصلة وإذا كان تتابع الإضافات مخلا بالفصاحة ، فكيف يعد من البديع ؛ لأنا نقول إنما يخل بالفصاحة إن كان فيه ثقل واستكراه كما تقدم أول الكتاب ، وأما إن سلم من الثقل والاستكراه حسن ولطف كما تقدم أيضا والبيت من هذا القبيل مع أنه ليس فيه إلا إضافتان وكيف يخل بالفصاحة إذا سلم من الثقل كما في الحديث الشريف وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم) (١) فإنه غاية في الحسن والسلاسة هذا تمام ما ذكره من أنواع الضرب المعنوي والمرجع فيما يستبدع من أنواعه إلى ما يستحسنه ذو الطبع السليم من البلغاء وليس كل من ادعى حسن شيء كان مدعاه بديعا وقد عد من جملتها الاطراد والظاهر أنه من اللفظي ؛ لأن مرجعه إلى حسن السبك كذا قيل ، وقد يقال بل إلى حسن السبك في معنى مخصوص وهو النسب فللمعنى دخل فيه تأمله.

المحسنات اللفظية

ثم شرع في اللفظي فقال (وأما) الضرب (اللفظي) من الوجوه المحسنات للكلام (ف) أقسام أيضا (منه) أي من الضرب اللفظي (الجناس بين اللفظين) أي : النوع المسمى بالجناس بكسر الجيم (وهو) أي الجناس (تشابههما) أي اللفظين (في اللفظ) أي في التلفظ والنطق بهما لكون المسموع فيهما متحد الجنسية كلا أو جلا ، وإنما فسرنا اللفظ بالتلفظ لأنه لو حمل على ظاهره كان التقدير هو تشابه اللفظين في اللفظ ولا يخفى ما فيه ويحتمل أن يطلق اللفظ على ذاتهما أي حروفهما فيكون المعنى تشابه اللفظين في حروفهما ثم التشابه المذكور لا بد فيه من اختلاف المعنى كما دلت عليه الأمثلة فكأنه يقول : هو أن لا يشتبها إلا في التلفظ فيخرج ما إذا اشتبها في المعنى فقط نحو الأسد والسبع فإنهما اشتبها في المعنى دون اللفظ ، وليس المعنى أن لهما معنيين اشتبها

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم.


فيرد أن المعنى متحد والتشابه يقتضي التعدد كما قيل بل المعنى أن اللفظين متشابهان في معنى واحد بمعنى أن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك كما يقال اشترك الطرفان في وجه الشبه فلا يرد ما ذكر ، وأما التشابه في اللفظ والمعنى كأسد ينطق به مرتين بمعناه فلا يحتاج إلى التعرض لإخراجه ؛ لأن التعدد فيه باعتبار التشخص ، ولا عبرة به ، وخرج بقوله : تشابههما في اللفظ المفسر بما ذكر تشابه لفظين في مجرد العدد مع اختلاف الوزن كضرب مبنيا للمفعول وعلم مبنيا للفاعل ، وكذا التشابه في الوزن دون التلفظ ويلزم منه التشابه في العدد كضرب وقتل مبنيين للفاعل ، ثم المعتبر كما أشرنا إليه في التشابه في التلفظ أن يكون مجموع اللفظ كمجموع اللفظ ، أو يكون ما به التشابه معتبرا لتعدده تعددا يستحسن كما تفيده الأمثلة ، فلا يرد أن يقال التشابه المذكور صادق بالتشابه في لام الكلمة أو عينها أو فائها نعم الاتكال في التعريف على قرينة منفصلة مما يبحث فيه.

أقسام الجناس

ثم أشار إلى أقسام هذا الجناس وهي خمسة التام والمحرف والناقص والمقلوب وما يشمل المضارع ، واللاحق ، وفي كل منها تفصيل يأتي وذلك أن اللفظين إن اتفقا في كل شيء فهو التام ، وإن اختلفا في الهيئة فقط فهو المحرف ، وإن اختلفا في زيادة بعض الحروف فهو الناقص ، وإن اختلفا في نوع من الحروف فهو ما يشمل المضارع ، واللاحق وإن اختلفا في ترتيب الحروف فهو المقلوب ، بدأ بالتام منه فقال :

الجناس التام

(والتام منه) أي والتام من الجناس هو (أن يتفقا) أي اللفظان (في أنواع الحروف) الموجودة في كل منهما وكل حرف من الحروف الهجائية التسعة والعشرين نوع برأسه فالألف نوع وتحته أصناف ؛ لأنه إما مقلوب عن واو أو عن ياء أو أصلي والباء كذلك ؛ لأنها إما مدغمة أو لا ، مشددة أو لا وعلى هذا القياس فلا يرد أن يقال النوع تحته أصناف والحروف الهجائية إنما كان تحتها أشخاص لا أصناف والجواب ما ذكر وقد يجاب وهو أبعد من التكلف بأن المراد بالنوع هو النوع اللغوي ولا يشترط


فيه وجود أصناف تحته واشتراط الاتفاق في أنواع الحروف الموجودة في اللفظين على المقابلة يخرج ما اتفقا في بعض الأنواع دون بعض كيفرح ويمرح لاختلافهما في الميم والفاء ، وإنما قلنا : على المقابلة ليعلم أن الحرف الذي ليس له مقابل من أحد اللفظين لا يعتبر في الاتفاق النوعي هنا فلا يخرج بهذا القيد وإنما يخرج بقوله (و) في (أعدادها) أي يشترط أيضا الاتفاق في أعداد الحروف بأن يكون مقدار حروف أحد اللفظين هو مقدار حروف الآخر فيخرج نحو الساق والمساق ؛ لأن الميم لا يقابلها شيء في المقابل بل هي مزيدة فلم يتفق عدد الحروف في اللفظين ، ولو أخرج نحو هذا بالاتفاق في أنواع الحروف الموجودة ما بعد أيضا (و) في (هيآتها) أي يشترط أيضا الاتفاق في هيآت الحروف والهيئة للحرف هي حركته أو سكونه فيخرج به نحو البرد بفتح الباء والبرد بضمها لاختلاف الهيئة التي هي حركة الباء ، فإذا كانت هيئة الحرف حركته المخصوصة أو سكونه كانت هيئة اللفظ كيفية حاصلة له باعتبار الحركات والسكنات وهو كونه ذا تحرك مخصوص وحده أو مع سكون مخصوص سواء اتفقت أنواع الحروف أو اختلفت فنحو ضرب وقتل مبنيين للفاعل متحدان في الهيئة ؛ إذ هي على وزن فعل بفتح الفاء والعين ولا عبرة باللام في الهيئة ؛ لأن هيئتها عرضة للتغير ؛ إذ هي محل إعراب ووقف ونحو ضرب وضرب على أن يكون الأول مبنيا للمفعول والثاني للفاعل أو العكس مختلفان في الهيئة إذ هي في أحدهما على وزن فعل بضم الفاء وكسر العين وفي الآخر بفتحهما ، وهما متحدان في الحروف فالاتحاد في الهيئة لا يستلزم الاتحاد في الحروف كما أن الاتحاد في الحروف لا يستلزم الاتحاد في الهيئة. نعم الاتحاد في الهيئة يستلزم الاتحاد في العدد بناء على أن الهيئة كيفية تعرض للفظ باعتبار كثرته وقلته وصفة حروفه (و) في (ترتيبها) أي يشترط أيضا الاتفاق في ترتيب الحروف بأن يكون المقدم والمؤخر في أحد اللفظين هو المقدم والمؤخر فيخرج نحو الحتف والفتح ، وقد تبين بهذا أن التام من الجناس له شروطه أربعة الاتفاق في أنواع الحروف ، والاتفاق في أعدادها ، والاتفاق في هيئتها ، والاتفاق في ترتيبها ثم فيه تفصيل أشار إليه بقوله : (فإن كانا) أي اللفظان المتفقان في جميع ما تقدم وهما المتجانسان الجناس التام (من نوع


واحد) من أنواع الكلمة التي هي اللفظ المفرد المستعمل وأنواعه الاسم والفعل والحرف وذلك (ك) أن يكونا (اسمين) معا أو يكونا فعلين معا أو يكونا حرفين معا (سمى) الجناس الحاصل بين اللفظين اللذين هما من نوع واحد (مماثلا) أخذا من المماثلة التي هي الاتحاد في النوع جريا على اصطلاح المتكلمين في المماثلة والمستحق أن يسمى بالمماثل جريا على ذلك الاصطلاح كل من المتجانسين لا الجناس بينهما ، لكن لا حجر في الاصطلاح ثم الجناس الذي في الاسمين إما في الجمعين كقوله :

حدق الآجال آجال

والهوى للمرء قتال (١)

فالآجال الأول جمع إجل بكسر الهمزة وهو القطيع من بقر الوحش والثاني جمع أجل بفتحها وهو أمد العمر. وإما في مفرد وجمع كقوله

وذي ذمام وفت بالعهد ذمته

ولا ذمام له في مذهب العرب (٢)

فالذمام الأول مفرد بمعنى العهد والثاني جمع ذمة وهي البئر القليلة الماء. وإما في مفردين (نحو) قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) (٣) أي القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي وقتا يسيرا من ساعات الأيام الدنيوية والساعة اصطلاحا هي جزء من أربعة وعشرين جزءا يتجزأ بها زمان الليل والنهار ، لليل منها اثنا عشر وللنهار منها مثلها عددا ، وتختلف ساعات كل منهما طولا وقصرا باعتبار طول كل منهما وقصره فيدخل في الطول من ساعات أحدهما ما خرج من ساعات الآخر وهو إيلاج أحدهما في الآخر المشار له بقوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(٤) والساعة في الآية يحتمل أن يراد بها هذه الاصطلاحية ويحتمل أن يراد بها أقل ما يطلق عليه اسم الساعة من الزمان لغة ، وهو أقرب فالساعة التي هي القيامة متحدة مع الساعة التي هي مقدار من الزمان في الاسمية ، وقد اتفق اللفظان في الأوجه السابقة إذ لا عبرة باللام التعريفية ؛ لأنها في حكم الانفصال فكان الجناس بينهما مماثلا.

__________________

(١) البيت لأبى سعيد عيسى بن خالد المخزومى ، فى الإيضاح ص (٣٢٣).

(٢) البيت للحريرى ، وهو فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٤).

(٣) الروم : ٥٥.

(٤) فاطر : ١٣.


قيل إنه لا جناس في الآية أصلا ؛ لأن لفظ الساعة في القيامة أطلق عليها مجازا لوقوعها في لحظة فسميت ساعة لملابستها للساعة واللفظ الحقيقي مع مجازيه لا يكون من التجنيس ، كما لو قيل : رأيت أسدا في الحمام وأسدا في الغابة ، وقد يجاب على تقدير تسليم أن لا جناس بين اللفظ الحقيقي ومجازيه بأن الساعة صارت حقيقة عرفية في القيامة ، ومثاله بين الفعلين أن يقال لما قال لديهم قال لهم. فالأول من القيلولة والثاني من القول ، وأما مثاله في الحرفين فلم يوجد إلا أن يكون في حرف بالنسبة لحقيقته ومجازه إن صح وقد تقدم البحث فيه.

(وإن كانا) أي اللفظان المتجانسان الجناس التام (من نوعين) وفيهما حينئذ ثلاثة أقسام أن يكونا اسما وفعلا وأن يكونا اسما وحرفا وأن يكونا حرفا وفعلا (سمى) ذلك الجناس الحاصل بين النوعين (مستوفى) لاستيفاء كل من اللفظين أوصاف الآخر فالأول وهو أن يكون الجناس بين اسم وفعل (كقوله :

ما مات من كرم الزمان) (١)

أي : ما ذهب عن أهل الوقت من كرم الزمان الماضي ، فسار كالميت في عدم ظهوره (فإنه) أي : فإن ذلك الميت من الكرم (يحيا) أي : يظهر كالحي (لدى) أي عند (يحيى بن عبد الله) البرمكي وهو من عظماء أهل الوزارة في الدولة العباسية ، فقد تم الجناس بين يحيا الأول وهو فعل ويحيى الثاني وهو اسم رجل كما علمت فيسمى مستوفى.

والثاني : وهو أن يكون بين اسم وحرف كأن يقال : رب رجل شرب رب آخر فرب الأول حرف جر والثاني اسم للمصير المعلوم.

والثالث : وهو أن يكون بين الحرف والفعل كقولك علا زيد على جميع أهله أي ارتفع عليهم ؛ فعلا الأولى فعل والثانية حرف.

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٣٢٤) ، وأسرار البلاغة ص (١٧) ، والتبيان ص (١٦٦) ، والإشارات ص (٢٩٠) ، والمصباح ص (١٨٤) ، والطراز (٢ / ٣٥٧) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٤٠).


(و) نعود (أيضا) لتقسيم الجناس التام تقسيما آخر وهو أنه (إن كان أحد لفظيه مركبا) بأن لا يكون مجموعه كلمة واحدة بل كلمتين أو كلمة وجزء كلمة أخرى أو جزأين من كلمتين ، وكان الآخر مفردا بأن يكون مجموعه كلمة واحدة (سمى) ذلك الجناس الذي مجموع لفظ منه مركب ومجموع الآخر مفرد (جناس التركيب) لتركب أحد لفظيه وفيه حينئذ قسمان ؛ لأن اللفظين إما أن يتفقا في الخط بأن يكون ما يشاهد من هيئة مرسوم المركب هو ما يشاهد من مرسوم المفرد ، وإما أن لا يتفقا بأن يكون مرسوم أحدهما مخالفا لهيئة مرسوم الآخر ولكل منهما اسم يختص به وإلى ذلك أشار بقوله (فإن اتفقا) أي اللفظان أعني : المفرد والمركب (في الخط خص) هذا النوع من جناس التركيب (باسم المتشابه) لتشابه اللفظين في الكتابة ما تشابها في أنواع الاتفاقات المتقدمة غير الاسمية والفعلية والحرفية وذلك (كقوله إذا ملك لم يكن ذا هبة) (١) أي صاحب هبة وعطاء (فدعه) أي اتركه وابعد عنه (فدولته ذاهبة) أي : منقطعة غير باقية ولا شك أن اللفظ الأول مركب من ذا بمعنى صاحب وهبة وهي فعلة من وهب ، والثاني مفرد إذ هو اسم فاعل المؤنث من ذهب وكتابتهما متفقة في الصورة فالجناس بينهما متشابه (وإلا) أي : وإن لم يتفق اللفظان في الخط أعني اللفظ المفرد والمركب (خص) هذا النوع من جناس التركيب (باسم المفروق) لأن اللفظين فيه افترقا في صورة الكتابة ، وذلك (كقوله :

كلكم قد أخذ الجا

م ولا جام لنا) (٢)

الجام إناء يشرب فيه الخمر (ما الذي ضر) أي أي شيء ضر (مدير الجام) أي لا ضرر على مدير الجام وهو ساقي القوم به لأنه يديره عليهم حال السقي (لو جاملنا) أي : عاملنا بالجميل أي : لا ضرر عليه في معاملتنا بالجميل بأن يديره علينا كما أداره عليكم فاللفظ الأول من المتجانسين مركب من اسم لا وخبرها وهو المجرور مع حرف

__________________

(١) البيت لأبى الفتح البستى فى الطراز (٢ / ٣٦٠) ، الإشارات ص (٢٩٠) ، وفى الإيضاح ص (٣٢٤) ، ونهاية الإيجاز ص (١٣٢).

(٢) البيت لأبى الفتح فى الإشارات ص (٢٩١) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٤١) ، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز.


الجر والثاني مركب من فعل ومفعول لكن عدوا الضمير المنصوب المتصل من أجزاء الكلمة فصار المجموع في حكم المفرد ، ولذلك صح التمثيل به لمفرد ومركب وإلا كانا مركبين والتقسيم على ما قررناه لا يشمله ، ويصح أن يشمله بأن يكون معنى كلامه إن كان أحد اللفظين مركبا مطلقا سواء كان الآخر مركبا أو مفردا سمي جناس التركيب ، فيكون هذا مثالا لبعض ما دخل في التقسيم إذ لم نجعل مقابل قوله إن كان أحد اللفظين مركبا هو أن يكون الآخر مفردا كما في التقرير الأول بل ما هو أعم من ذلك وهو ظاهر ولا يشك أنهما يختلفان في الخط ؛ لأن الميم في الجام مفروقة وفي جاملنا متصلة ، ولذلك خص باسم المفروق ثم التخصيص باسم المفروق إنما هو إذا لم يكن المركب مركبا من كلمة وبعض كلمة أخرى كما في المثال ، وأما إن كان مركبا من كلمة وبعض كلمة أخرى فإنه يخص باسم المرفو أخذا من رفا الثوب جمع ما تقطع منه بالخياطة وذلك نحو قوله هذا مصاب أو طعم صاب والمصاب قصب السكر والصاب صمغ شجر مر ، ووجه حسن الجناس التام مطلقا أن صورته صورة الإعادة وهو في الحقيقة للإفادة ثم أشار إلى الأقسام الأربعة الباقية من الأقسام الخمسة التي أشرنا إليها وهي المحرف والناقص وما يشمل المضارع واللاحق والمقلوب وبدأ بالمحرف منها لقربه من التام فقال : (وإن اختلفا) هو عطف على مجموع الجملة الاسمية وهي قوله والتام منه أن يتفقا ؛ لأنها في تأويل الشرطية المناسبة لهذه إذ كأنه يقول فيها إن اتفق اللفظان في جميع الأوجه السابقة فهو التام فيناسب أن يقول هنا وإن اختلفا الخ ويحتمل أن يعطف على مقدر أي هذا إن اتفقا كما ذكر وإن اختلف لفظ المتجانسين ، فإما في هيئة الحروف فقط أو في غيرها مما تقدم فإن اختلفا (في هيئة الحروف فقط) ولا يختلفان في الهيئة فقط إلا إذا اتفقا في النوع والعدد والترتيب (سمى) هذا التجنيس (محرفا) لانحراف هيئة أحد اللفظين عن هيئة الآخر ، ثم الاختلاف في الهيئة على قسمين :

أحدهما : أن يقع في متحد كالحركة الواحدة مع غيرها.

والآخر : أن يقع في متعدد فالمتحد (كقولهم : جبة البرد جنة البرد) فالجبة والجنة جناسهما من اللاحق ، وليس مما نحن بصدده والبرد والبرد وقع الاختلاف بينهما في


حركة الباء ؛ لأنها في الأول ضمة وفي الثانية فتحة (ونحوه) أي : ونحو ما ذكر في أن الاختلاف في الهيئة فقط مع كونه واقعا في محل واحد كقولهم : (الجاهل إما مفرط أو مفرط) الأول من الإفراط ، وهو تجاوز الحد ، والثاني من التفريط وهو التقصير فيما لا ينبغي التقصير ، فيه وإنما نص على هذا لئلا يتوهم أنه من الناقص بناء على أن الحرف المشدد فيه حرفان ، فبين أنه من الاختلاف في الهيئة مع اتحاد موضع الاختلاف ؛ لأن الحرف المشدد في حكم الواحد من هذا الباب لوجهين : أحدهما : أن اللسان يرتفع عند النطق عن الحرفين دفعة واحدة كالحرف الواحد ، وإن كان في الحرفين ثقل ما إلا أنه لم يعتبر لقرب أمره ، والآخر : أنهما في الكتابة شيء واحد وأمارة التشديد منفصلة فجعلا كالحرف الواحد ، فلهذا جعل من التجنيس الذي لم يقع الاختلاف فيه إلا في الهيئة لا في العدد ، ولذلك قال : (والحرف المشدد) في هذا الباب أعني : باب التجنيس (في حكم المخفف) لما ذكرنا ، فمفرط ومفرط إنما اختلفا في سكون الفاء في الأول وفتحها في الثاني ، ولهذا كان من متحد محل التغير ؛ لأن الراء فيهما مكسورة ولو شددت في أحدهما ، والميم مضمومة فيهما فكان التجنيس بينهما مما اختلفت فيه الهيئة ومما كان فيه الاختلاف في حرف واحد.

(و) أما متعدد محل التغير كأن يكون الاختلاف في حرف من المتجانسين بسكونه وحركة مقابله وفي حرف آخر بحركته بغير حركة مقابله ف (كقولهم : البدعة شرك الشرك) فالأول وهو الشرك أي : الشبكة فتح فيه الشين وفتحت الراء والثاني : وهو الشرك أي : الكفر كسرت فيه الشين فخالفت حركته في الأخرى وسكنت فيه الراء فخالفت فتحها في مقابله ومعنى كون البدعة شركا للشرك أي اتخاذها دينا وعادة يؤدي إلى العقوبة بوقوع الشرك بمنزلة من اتخذ نصب الشرك للصيد عادة فإنه يؤدي إلى وقوعه فيه.

ثم أشار إلى القسم الثالث وهو الناقص بقوله (وإن اختلفا) أي : اللفظان المتجانسان وعطفه كعطف ما قبله وقد تقدم (في أعدادها) أي : أعداد الحروف والاختلاف في العدد يحصل بأن يكون في أحد اللفظين حرف زائد أو أكثر من حرف


إذا أسقط ذلك الزائد حصل الجناس التام هكذا ذكروا ، وهو يقتضي أن الجناس الناقص يشترط فيه أن يكون الباقي بعد إسقاط المزيد مساويا للفظ الآخر في جميع ما تقدم ، وانظر لم لا يقال : إن ساواه في كل ما تقدم فناقص التام أو في غير الهيئة فناقص المحرف أو في غير القلب فناقص المقلوب (سمى) أي : إن وقع الاختلاف في العدد سمى هذا الجناس (ناقصا) لنقصان أحد اللفظين عن الآخر في الحروف الموجودة فيه ، والأقسام العقلية هنا ستة ؛ لأن الزيادة إما أن تحصل بحرف واحد ، وإما بأكثر ، وكلاهما إما أولا وإما وسطا وإما آخرا ، فالمجموع ستة من ضرب ثلاثة محال المزيد في نوعي المزيد من اتحاد وتعدد مثل المصنف بثلاثة أقسام المزيد الواحد ، ولم يمثل من أقسام المزيد الأكثر إلا بالمزيد آخرا وإلى هذا أشار بقوله (وذلك) الاختلاف (إما) بزيادة (حرف) واحد (في الأول) أي : في أول اللفظ المجانس (نحو) قوله تعالى (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (١) فالميم في المساق زيد أولا ، والباقي مجانس لمجموع المقابل كما رأيت.

(أو) بزيادة الحرف الواحد (في الوسط نحو جدي جهدي) بفتح الجيم فيهما مع زيادة الهاء وسطا في الثاني كما رأيت والباقي بعد إسقاطها مجانس جناسا تاما للمقابل إذ لا عبرة بشد الدال كما تقدم أن المشدد هنا كالمخفف والجد بفتح الجيم الغنى والحظ ، وأما الجد الذي هو أبو الأب فليس مرادا هنا ، والجهد بفتحها المشقة والتعب والتركيب يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المعنى إن حظى وغناي من الدنيا مجرد إتعاب النفس في المكاسب من غير وصول إليها ويكون (تشكيا وإخبارا بأنه لا يحصل من سعيه على طائل والآخر أن يكون المعنى إن حظى من الدنيا وغناي فيها هو بمشقتى وجهدي لا بالوراثة عن الأب والجد ويكون إخبارا بالنجابة في السعي وأنه لا يتوقف في تحصيل الغني على وراثة تأمله.

(أو) بزيادة حرف (في الآخر) أي في آخر المجانس ولا يخفى أن المراد بالزيادة هنا كون الحرف لا مقابل له من المجانس لا كونه من غير الأصول وأن المراد بالآخر

__________________

(١) القيامة : ٢٩ ، ٣٠.


والوسط أمكنة متوهمة وإلا فالحرف بنفسه هو الأول والوسط والآخر ثم مثل لما فيه زيادة في الآخر فقال (كقوله) أي كقول أبي تمام :

(يمدون من أيد عواص عواصم)

تصول بأسياف قواض قواضب (١)

فعواص وعواصم متساويان إلا في زيادة الميم آخرا في الثاني ، وكذا قواض وقواضب متساويان إلا في زيادة الباء آخرا في الثاني ، ولا عبرة بالتنوين في عواص ، وقواض ؛ لأنه في حكم الانفصال ، أو بصدد الزوال بالوقف ، أو الإضافة أو غير ذلك ، وقوله من أيد يحتمل أن تكون فيه للتبعيض إما بتقديره نعتا لمفعول محذوف أي : يمدون سواعد كائنة من أيد إذ السواعد بعض الأيدي ، فكأنه يقول يمدون السواعد التي هي بعض الأيدي وإما أن يجعل كهي في قولهم هز من عطفه وحرك من نشاطه أي : هز بعض العطف لأن العطف الشق والعضو المهزوز منه الكتف مثلا ، وحرك بعض الأعضاء التي يظهر بتحريكها نشاطه ، ويختلف الوجهان بأن يجعل الفعل في الوجه الثاني كاللازم يتعدى بمن كشربت من الماء ، ويمكن أن يقدر متعديا في الموضعين ، فيقدر في الأخيرين هز عضوا هو بعض عطفه وحرك عضوا هو بعض أعضاء نشاطه ، فيعود التبعيض فيهما إلى الأول وهز العطف كناية عن السرور ؛ لأن المسرور يهتز فصارت الهزة ملزومة للسرور ، وكذا تحريك النشاط ويحتمل أن تكون زائدة على مذهب الأخفش القائل بجواز زيادتها في الإثبات خلافا لمن خص زيادتها بالنفي كقولك : ما من أحد يقول الحق في هذا الزمان ، وعليه يكون هو نفس المفعول ليمدون أي : يمدون أيديا عواصي ، والعواصي جمع عاصية من عصاه ضربه بالعصا ، والمراد بالعصا هنا السيف بدليل ما بعده ، والعواصم جمع عاصمة من عصمه حفظه ، والقواضي جمع قاضية من قضى بكذا حكم به والقواضب جمع قاضبة من قضبه والمعنى أنهم يمدون أيديا عاصيات أي : ضاربات للأعداء بالسيف الذي هو المراد بالعصا هنا عاصمات أي : حاميات وحافظات للأولياء من كل مهلكة ومذلة صائلات على الأقران بسيوف قواض أي :

__________________

(١) لأبى تمام فى شرح ديوانه ص (٤٦) ، وأسرار البلاغة ص (١٧) ، والإشارات (٢٩٢) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٤٣) ، والإيضاح ص (٣٢٥).


حاكمات على الأعداء بالهلاك قواضب أي : قاطعة لرقاب الأعداء قاتلة لهم (وربما سمى) هذا القسم الذي تكون فيه الزيادة في الآخر (مطرفا) لتطرف الزيادة فيه أي : لكونها في الطرف ووجه حسنه أنه قبل تمام الكلمة يتوهم أن الكلمة الأولى هي التي أعيدت ، فإذا تمت الكلمة بأن أتى بآخرها كالميم في عواصم ظهر أنها كلمة أخرى فتستفاد فائدة من إتمامها بعد الإياس وحصول فائدة بعد توهم عدمها كحصول نعمة غير مترقبة ، ولا يخفى أن هذا إنما يتم إن تقدمت الكلمة التي لا زيادة فيها ، وأن هذا أيضا إنما تتحقق مسكته بعد الآتيان بما يضاهي الكلمة الأولى من الثانية ولكن مرادهم بنحو هذا الاعتبار كونه بحيث يحصل بشرطه فيعد كالحاصل وقد تقدمت الإشارة إلى نحو ذلك.

(وإما بأكثر) هذا معطوف على قوله إما بحرف أي : الاختلاف في الزيادة إما أن يحصل بزيادة حرف واحد كما تقدم ، وإما أن يحصل بزيادة أكثر من حرف واحد ، وقد تقدم أن هذا القسم فيه ثلاثة أقسام باعتبار تقدم الزيادة وتوسطها وتأخرها ، وقد تقدم أن المصنف لم يمثل إلا لقسم التأخر والتسمية فيه تدل على أن غيره لم يوجد في كلامهم ، أو أقل بحيث لا يعتبر وقد أشار إلى مثاله بقوله (كقولها) أي : الخنساء أخت صخر في رد كلام من لامها على البكاء عليه روى أنها بكت عليه حتى ابيضت عيناها.

(إن البكاء هو الشفا

من الجوى) (١)

وهو حرقة القلب الكائن (بين الجوانح) جمع جانحة ، وهي ضلع الصدر والبينية كناية عن القلب ولا شك أن الجوانح زيد فيه بعد ما يماثل الجوى منه النون والحاء ، وإذا أسقطت النون والحاء صار الباقي مساويا للجوى فكان من التجنيس الناقص (وربما سمى هذا) النوع وهو ما زيد فيه أكثر من حرف (مذيلا) ؛ لأن الزيادة كانت في آخره كالذيل وهذه التسمية هي التي قلنا إنها تدل على عدم وجدان زيادة أكثر ، أولا أو وسطا أو على قلة الوجدان ويحتمل أن يريد أن المسمى هو الذي وجدت فيه هذه الزيادة آخرا فلا تدل على ما ذكر.

__________________

(١) البيت للخنساء ، وهو فى عقود الجمان (٢ / ١٤٤) ، والإشارات ص (٢٩٢).


ثم أشار إلى النوع الرابع من أنواع الجناس وهو ما يشمل المضارع واللاحق فقال : (وإن اختلفا) أي : اللفظان المتجانسان والعطف في هذه الجملة كما تقدم في مثلها (في أنواعها) أي : أنواع الحروف والاختلاف في أنواع الحروف أن يشتمل كل من اللفظين على حرف لم يشتمل عليه الآخر من غير أن يكون مزيدا وإلا كان من الناقص كما تقدم (فيشترط) يعني : أن اللفظين إذا اختلفا في نوعية الحروف على الوجه المذكور فلا يكون الإتيان بهما من البديع الجناسي إلا بشرط هو (أن لا يقع) ذلك الاختلاف (بأكثر من حرف) واحد ، فإن وقع بأكثر من حرف كاثنين فأكثر لم يكن من التجنيس في شيء لبعد ما بينهما عن التشابه الجناسي ، وذلك ظاهر إذ لو لا ذلك لم يخل غالب الألفاظ من الجناس ، ويلزم أن يقدر عليه كل أحد ؛ لأن التشابه في حرف واحد مع الاختلاف في اثنين فأكثر كثير وذلك مثل نصر ونكل ، ومثل ضرب وفرق ، ومثل ضرب وسلب ، فالأولان اشتركا في الأول فقط ، والثانيان اشتركا في الوسط ، والثالثان اشتركا في الآخر ، وليس شيء من ذلك من التجنيس (ثم الحرفان) أي ثم هذا النوع قسمان كل منهما يسمى باسم مخصوص ، وذلك أن الحرفين المختلفين في اللفظين (إن كانا متقاربين) في المخرج كأن يكونا حلقيين معا ، أو شفويين معا (سمى) الجناس بين اللفظين اللذين كان الحرفان المتباينان فيهما متقاربين (مضارعا) ، وإنما سمى لمضارعة المباين في اللفظين لصاحبه في المخرج (وهو) أي : المضارع ثلاثة أقسام ؛ لأن الحرف الأجنبي أعني المباين لمقابله (إما) أن يوجد (في الأول) أي : في أول اللفظين ، وقد تقدم ما في نحو هذا من التسامح ، وإن الأول في الحقيقة هو الحرف (نحو) قول الحريري (بيني وبين كنى) بكسر الكاف أي : منزلي (ليل دامس) أي مظلم (وطريق طامس) أي مطموس العلامات لا يهتدي فيه إلى المراد ، فدامس ، وطامس بينهما تجنيس المضارعة ؛ لأن الطاء والدال المتباينتين متقاربتان في المخرج ؛ لأنهما من اللسان مع أصل الأسنان ، وقد وجدا أولا فكان الجناس بينهما قسما على حدة.


(أو) يوجدا (في الوسط) أي في وسط المتجانسين (نحو) قوله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (١) أي يبعدون عنه فينهون وينأون بينهما تجنيس المضارعة ؛ لأن الهاء والهمزة وهما المتباينتان في اللفظين متقاربتان إذ هما حلقيتان معا وقد وجدا في الوسط فكان قسما آخر.

(أو) يوجدا (في الآخر) أي : في آخر المتجانسين (نحو) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) (٢) فبين الخيل والخير تجنيس المضارعة لتقارب مخرج الراء واللام إذ هما من الحنك واللسان ، وهما آخر (٣) فكان الجناس معهما قسما آخر أيضا ، فالأمثلة من المضارع لتقارب مخارج حروفها المتباينة كما بينا (وإلا) أي : وإن لم يكن الحرفان المتباينان متقاربين لتباعدهما في المخرج (سمى) الجناس بين اللفظين (لاحقا) ؛ لأن أحد اللفظين ملحق بالآخر في الجناس باعتبار جل الحروف (وهو) أي : الحرف الذي وقع فيه التباين بلا تقارب في المخرج هو (أيضا إما) أن يكون (في الأول) أي : أول المتجانسين (نحو) قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(٤) وهمزة فعلة من الهمز ، وهو الكسر ، وكذا لمزة من اللمز بمعنى الطعن وشاع استعمال الهمز في الكسر في أعراض الناس ، وكسر العرض هتكه ، وإبطاله بإلزام العيب كما شاع استعمال اللمز في الطعن في الأعراض ، والطعن في العرض إلحاق العيب بصاحبه ، وبناء فعله بضم الفاء وفتح العين يدل على اللزوم والاعتياد ؛ لأن هذا الوزن يدل في العربية على ذلك ولا يكفى في بناء ذلك الوصف وقوع المشتق منه في الجملة.

(أو) يكون ذلك الحرف (في الوسط) أي : في وسط المتجانسين (نحو) قوله تعالى (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٥) فتفرحون وتمرحون بينهما جناس الإلحاق لاتحاد نوع حروفهما إلا الميم والفاء وهما غير

__________________

(١) الأنعام : ٢٦.

(٢) الحديث متفق عليه ، رواه البخارى فى" الجهاد" ، ومسلم فى" الإمارة".

(٣) أى : آخر حرفين في اللفظين المتجانسين.

(٤) الهمزة : ١.

(٥) غافر : ٧٥.


متقاربين ، ولكن كون هذا من اللاحق فيه نظر ؛ لأن التقارب في المخرج موجود بين الفاء والميم إذ هما شفويتان معا إلا أن الفاء من طرف الأسنان العليا مع باطن الشفة السفلى والميم من باطن الشفتين ولا يخرجهما ذلك عن كونهما شفويتين وقد يجاب بأن جناس التقارب لا يكفى حتى يوجد نوع خاص منه ؛ كأن يكون الحرفان من موضع واحد مع اختلاف ما وهنا افترق الموضعان لما علمت فالأولى لهذا البحث أن يمثل بنحو قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ* وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(١) لأن الدال والهاء متباعدتان مخرجا ، إذ الأولى من اللسان مع أصول الأسنان والثانية من الحلق ، ولا يقال المراد بالتقارب ما يصح معه الإدغام لأنهم ذكروا من المتقاربين الهاء والهمزة ؛ لأنهما حلقيتان ولا إدغام بينهما.

(أو) يكون ذلك الحرف (في الآخر) أي : في آخر المتجانسين (نحو) قوله تعالى (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ) (٢) فالأمر والأمن متفقان إلا في الراء والنون وهما متباعدتان مخرجا ؛ لأن الراء من شد اللسان على الحنك الباطني على وجه التكرار والنون من شده على ما يقرب الأسنان العليا وبه يعلم أن تباعد المحل واختلافه كاف في البعد ولو اشتركا في وجه ما كما اشترك الحرفان هنا في حركة اللسان إلى أعلى قيل وفي هذا نظر أيضا ؛ لأن النون والراء من حروف الذلاقة التي يجمعها قولك : مر بنفل ، وقد تقدم بيان ما في قوله في الأول والوسط والآخر من التسامح وأنه قصد بها أماكن متوهمة فأطلق عليها ما هو وصف الحرف إذ الحرف هو نفس الأول والوسط والآخر على ما يتبادر ، والخطب في ذلك سهل.

ثم أشار إلى النوع الخامس من أنواع التجنيس وهو تجنيس القلب فقال (وإن اختلفا) أي : وإن اختلف اللفظان المتجانسان (في ترتيبها) أي في ترتيب الحروف فقط ، وإنما يختلفان في ترتيب الحروف إذا اتحدا في النوع والعدد والهيئة ثم الاختلاف في الترتيب هو أن يقدم في أحد اللفظين بعض الحروف ويؤخر ذلك البعض في اللفظ

__________________

(١) العاديات : ٧ ، ٨.

(٢) النساء : ٨٣.


الآخر (سمى) أي : إن وقع الاختلاف في الترتيب سمى ذلك النوع من الجناس (تجنيس القلب) لوقوع القلب أي : عكس بعض الحروف في أحد اللفظين بالنظر إلى الآخر وهو قسمان أحدهما أن يقع العكس في مجموع الحروف (نحو) قول القائل (حسامه) أي : سيف الممدوح (فتح لأوليائه) إذ به يقع لأوليائه الفتح والنصر و (حتف لأعدائه) إذ به يقع حتف أعدائه أي : موتهم.

(ويسمى) هذا القسم (قلب كل) لانعكاس ترتيب الحروف كلها ؛ لأن ما كان في أحد اللفظين مقدما صار مؤخرا في الآخر ، وما كان مؤخرا فيه صار مقدما في الآخر وفيه نظر ؛ لأن التاء وقعت في اللفظين في مكانها وهو الوسط.

(و) القسم الثاني أن يقع في بعض الحروف (نحو) قولهم (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا) (١) فالألف والتاء والنون في عوراتنا وروعاتنا في محالها ، وإنما وقع العكس في العين والواو والراء والواو أيضا هنا في مكانها وكأنهم لم يعتبروا في القلب الوسط (ويسمى) هذا القسم (قلب بعض) لوقوع التبديل في بعض حروف اللفظين كما رأيت.

وقد يقال التجنيس على توافق اللفظين في الخط كيسقين ويشفين في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(٢) ويسمى تجنيسا خطيا ومن أنواع التجنيس أيضا تجنيس الإشارة وهو أن يشار إلى اللفظ المجانس بما يدل عليه كقوله :

حلقت لحية موسى باسمه

فقد أشير بقوله باسمه إلى موسى بمعنى آلة الحلق وهو مجانس لموسى العلم والمراد بموسى رجل مسمى به في الجملة وتمامه :

وبهارون إذا ما قلبا

__________________

(١) الحديث جاء مرفوعا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ولكن بلفظ الإفراد : " اللهم استر عورتى ، وآمن روعتى ، واقض دينى" وهو حسن ، أخرجه الطبرانى في الكبير عن خباب ، وانظر صحيح الجامع (ح ١٢٦٢).

(٢) الشعراء : ٧٨ ، ٨٠.


وقلب هارون نوراه وهو مصنوع يزال به الشعر معروف ، ثم أشار إلى تفريع على جناس القلب بقوله (فإذا وقع أحدهما) أي : أحد المتجانسين بجناس القلب (في أول البيت و) وقع (الآخر) من المتجانسين بالجناس المذكور (في آخره) أي : في آخر ذلك البيت (سمى) هذا التجنيس المقلوب الذي وقع لفظ منه في أول البيت والثاني في آخره (مقلوبا مجنحا) لأن اللفظين في هذا الجناس القلبي صارا للبيت كالجناحين للطائر في وقوعهما متوازيين في الطرفين المتقابلين ومثاله قوله :

(لاح أنوار الهدى من

كفه في كل حال) (١)

فبين لفظي لاح وحال الواقع أحدهما أول البيت والآخر آخره تجنيس القلب فسمى ذلك التجنيس مقلوبا مجنحا ثم أشار إلى تفريع آخر على مطلق التجنيس لا بقيد كونه مقلوبا بقوله (وإذا ولى أحد) اللفظين (المتجانسين) اللفظ (الآخر) منهما وهو مفعول ولى أي : ولى ذلك الأحد الآخر سواء كان ذلك الجناس بين اللفظين تاما أو محرفا أو ناقصا أو ما يشمل المضارع واللاحق أو مقلوبا فالمراد بالجناس هنا الجناس لا بقيد كونه مقلوبا بل مطلقه الشامل لجميع الأنواع السابقة ، ولقصد مطلق الجناس أتى باللفظ الظاهر وإلا كان المناسب إعادة الضمير على ما يليه (سمى) أي : إذا توالى المتجانسان مطلقا سمى الجناس بينهما (مزدوجا و) سمى أيضا (مكررا و) وسمى أيضا (مرددا) لازدواج اللفظين بتواليهما وتكرر أحدهما بالآخر وترداده به ، ولا يضر الفصل بينهما بحرف جر أو حرف عطف وما أشبهه (نحو) قوله تعالى في حكاية كلام الهدهد لسليمان (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) (٢) اسم رجل أو بلد (بنبأ يقين) فسبأ ونبأ متواليان وتجنيسهما لاحق وأمثلة الأقسام الباقية ظاهرة مما مر فمثال التام أن يقال : تقوم الساعة في ساعة ، ومثال المحرف أن يقال : هذه لك جبة وجنة من البرد للبرد ، ومثال الناقص قولهم جدى جهدي ، ومثال المقلوب أن يقال : هذا السيف للأعداء والأولياء حتف وفتح.

__________________

(١) البيت بلا نسبة فى المصباح ص (٢٠٢) ، والطراز (٣ / ٩٥) ، والتبيان (٥١٣) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٤٥).

(٢) النمل : ٢٢.


ثم أشار إلى شيئين ليسا من الجناس الحقيقي ولكنهما ملحقان به في كونهما مما يحسن به الكلام كحسن الجناس فقال (يلحق بالجناس شيئان أحدهما أن يجمع) بين (اللفظين الاشتقاق) أي : أن يكون اللفظان مشتقين من أصل واحد ، والمراد بالاشتقاق هنا الاشتقاق الذي ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق وهو الأصغر الذي يفسر بتوافق الكلمتين في الحروف الأصول مع الترتيب والاتفاق في أصل المعنى بخلاف الكبير كما سيأتي وما أشبهه وذلك (نحو) قوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (١) فإن أقم مع القيم مأخوذان من القيام أو من قام يقوم ففيهما الأصول من الحروف مع الترتيب والاتفاق في أصل المعنى وهذا النوع من الملحق بالجناس سهل التناول قريب الوجود كما لا يخفى ، فإن كل أحد يتأتي له أينما أراد أن يقول مثلا : قال قائل وقام قائم وقعد قاعد ونحو ذلك (والثاني) من الأمرين الملحقين بالتجنيس (أن يجمعهما) أي أن يجمع اللفظين (المشابهة) والمراد بالمشابهة الأمر المشابه فهي مصدر بمعنى اسم الفاعل بدليل تفسيرها بقوله (وهي) أي : المشابهة (ما) أي : شيء أو الشيء الذي (يشبه الاشتقاق) فلفظ ما على هذا إما موصوفة أو موصولة على التفسيرين ، وذلك الشيء الذي يشبه الاشتقاق وعليه أطلقت المشابهة هو توافق اللفظين في جل الحروف أو في كلها على وجه يتبادر منه أنهما يرجعان إلى أصل واحد كما في الاشتقاق وليسا في الحقيقة كذلك ؛ لأن أصلهما في نفس الأمر مختلف وذلك (نحو) قوله تعالى (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (٢) فقال مع القالين في أحدهما من الحروف جل ما في الآخر ويتبادر لكون الأول فعلا مشتقا من المصدر والثاني وصفا أنهما من أصل واحد وليس كذلك ؛ لأن الأول من القول والثاني من القلى وهو البغض والترك فبينهما ما يشبه الاشتقاق على الوجه المذكور فكان ما بينهما ملحقا بالجناس ، وإنما قلنا على وجه يتبادر منه أنهما يرجعان إلى أصل واحد كما في الاشتقاق ؛ لئلا يدخل في هذا القسم نحو عواص وعواصم والجوى والجوانح فإن في كل من لفظيهما جل ما في الآخر من الحروف

__________________

(١) الروم : ٤٣.

(٢) الشعراء : ١٦٨.


وكذا نحو الحتف والفتح فإن في كل منهما مجموع ما في الآخر وليس من الملحق في شيء لعدم كون اللفظين فيما ذكر على الوجه المذكور ، وبعضهم أبقى المشابهة على ظاهرها وجعل ما التي فسر بها المشابهة في قوله : وهي ما يشبه مصدرية فصار التقدير وهي أشباه ، أي : مشابهة اللفظين الاشتقاق ولا يخفى ما فيه لفظا ومعنى ، أما لفظا فقد جعل الضمير في يشبه على هذا التقدير وهو مفرد عائدا على التثنية وهو اللفظان كما فسره بذلك ولا يصح إلا بتأويل بعيد وهو أن يقدر أن المعنى ما ذكر أي : مشابهة ما ذكر من اللفظين الاشتقاق ، وعند إمكان الحمل على الظاهر بلا تكلف لا يحمل على غيره وأما معنى فقد جعل اللفظين يشبهان الاشتقاق ومن المعلوم أن اللفظين لا يشبهان الاشتقاق بل كونهما متفقين في ذلك ككونهما مشتقين من أصل واحد وتصحيحه أيضا بتقدير المضاف أي : أن يشبه توافق اللفظين الاشتقاق تكلف لا حاجة إليه والوجه الذي قررناه ولو لزم فيه إطلاق المصدر على معنى اسم الفاعل أقرب ؛ لأن إطلاق المصدر على اسم الفاعل لقرينة كثير ، والقرينة هنا ، التفسير وبعضهم أيضا زعم أن المراد بما يشبه الاشتقاق هو الاشتقاق الكبير ؛ لأنه يشبه الاشتقاق المعلوم في وجود كل الحروف أو جلها في كل من اللفظين وهو أيضا فاسد ؛ لأنهم مثلوا لما يشبه الاشتقاق بما لا يصح أن يكون من الاشتقاق الكبير وهو قوله تعالى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(١) وإنما قلنا : إن ما مثلوا به ليس من الاشتقاق الكبير ؛ لأن الاشتقاق الكبير هو الاتفاق في الحروف الأصول دون الاتفاق في الترتيب مثل القمر والرمق والمرق فهذه الألفاظ الثلاثة بينها الاشتقاق الكبير ؛ لاتحادها في الحروف الأصول دون الترتيب كما لا يخفى وما مثلوا به وهو الأرض وأرضيتم لم تتفق فيهما الأصول ؛ لأن الهمزة في أرض أصلية وفي أرضيتم للاستفهام لا أصلية مع وجود الترتيب في الحروف المشبهة فيهما وذلك ظاهر.

__________________

(١) التوبة : ٣٨.


رد العجز على الصدر

(ومنه) أي : ومن أنواع البديع اللفظي (رد العجز على الصدر) أي النوع المسمى بذلك (وهو) أي : رد العجز على الصدر يكون في النثر وفي النظم فهو (في النثر أن يجعل أحد اللفظين المكررين) وهما المتفقان لفظا ومعنى (أو) أحد (المتجانسين) وهما المتشابهان في اللفظ دون المعنى (أو) أحد (الملحقين بهما) أي : بالمتجانسين وقد تقدم أن الملحقين بالمتجانسين قسمان ما يجمعهما الاشتقاق وما يجمعهما شبه الاشتقاق (في أول الفقرة) متعلق بأن يجعل أي : هو في النثر أن يجعل في أول الفقرة أحد المذكورين من تلك الأنواع (و) يجعل اللفظ (الآخر) منهما (في آخرها) أي : في آخر تلك الفقرة ، والفقرة في أصلها اسم لعظم الظهر استعيرت للحلي المصنوع على هيئته ثم أطلقت على كل قطعة من قطع الكلام الموقوفة على حرف واحد ؛ لحسنها ولطافتها وقد تقدم بيان معناها ، ففي رد العجز على الصدر في النثر أربعة أقسام ؛ لأن اللفظين الموجود أحدهما في أول الفقرة والآخر في آخرها إما أن يكونا مكررين أو متجانسين أو ملحقين بالمتجانسين من جهة الاشتقاق أو ملحقين بهما من جهة شبه الاشتقاق فهذه أربعة أتى المصنف بأمثلتها على هذا الترتيب ، فقال : القسم الأول وهو ما يوجد فيه أحد المكررين في أول الفقرة والآخر في آخرها (نحو) قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (١) فقد وقع تخشى في أول هذه الفقرة وكرر في آخرها ولا يضر اتصال الآخر بالهاء في كونه آخرا ؛ لأن الضمير المتصل كالجزء من الفعل.

(و) القسم الثاني وهو ما يوجد فيه أحد المتجانسين في أول الفقرة والآخر في آخرها (نحو) قولهم (سائل اللئيم) أي طالب المعروف من الرجل الموصوف باللآمة والرذالة (يرجع ودمعه سائل) فسائل في أول الفقرة وسائل في آخرها متجانسان ؛ لأن الأول من السؤال والثاني من السيلان.

(و) القسم الثالث وهو ما يوجد فيه أحد الملحقين بالمتجانسين من جهة الاشتقاق في أول الفقرة والآخر في آخرها (نحو) قوله تعالى (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (٢) فبين استغفروا وغفارا شبه التجانس باشتقاق ؛ لأن مادتها المغفرة ، ولم يعتبر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) نوح : ١٠.


في الآية لفظ فقلت قبل استغفروا ؛ لأن استغفروا هو أول الفقرة في كلام نوح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام وهي المعتبرة أولا ولفظ قلت لحكايتها.

(و) القسم الرابع وهو ما يوجد فيه أحد الملحقين بالمتجانسين من جهة شبه الاشتقاق في أول الفقرة والآخر في آخرها (نحو) قوله تعالى (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) فبين قال والقالين شبه اشتقاق وبه ألحقا بالمتجانسين كما تقدم ، فهذه أربعة أقسام من رد العجز على الصدر الذي يوجد في النثر.

رد العجز على الصدر فى الشعر

ثم أشار إلى رد العجز على الصدر الذي يوجد في النظم فقال (و) رد العجز على الصدر الذي يوجد (في النظم) هو (أن يكون أحدهما) أي : أحد اللفظين المكررين أو أحد المتجانسين أو أحد الملحقين بالمتجانسين بطريق الاشتقاق ، أو أحد الملحقين بهما بطريق شبه الاشتقاق (في آخر البيت) أي : أن يكون أحد ما ذكر في آخر البيت (و) يكون اللفظ (الآخر) المقابل لذلك الأحد (في صدر المصراع الأول من البيت وهو نصفه الأول (أو) يكون ذلك الآخر (فى حشوه) أى : حشو المصراع الأول (أو) يكون ذلك الآخر (في آخره) أي آخر المصراع الأول (أو) يكون ذلك اللآخر (في صدر) المصراع (الثاني) من البيت وهو نصفه الثاني وقد فهم من هذا الكلام أن أحد اللفظين مما ذكر ليس له إلا محل واحد من البيت وهو الآخر ، ومقابله الآخر له أربعة من المحال أول المصراع الأول ووسطه وآخره وأول المصراع الثاني.

وبقي من التقسيم العقلي وسط المصراع الثاني لم يعتبره المصنف في مسمى رد العجز إلى الصدر إذ لا معنى لكونه صدرا رد عليه العجز واعتبره السكاكي فتكون المحال على اعتباره خمسة وعلى اعتبار المصنف تكون أربعة فتكون أقسام رد العجز على الصدر في النظم في اعتبار المصنف ستة عشر من ضرب أربعة أقسام المكررين والمتجانسين والملحقين اشتقاقا والملحقين بشبه الاشتقاق في أربعة أقسام محال اللفظ المقابل للذي في العجز وتلك المحال هي صدر المصراع الأول وحشوه وعجزه وصدر المصراع الثاني ، وعلى اعتبار السكاكي تكون الأقسام عشرين من ضرب أربعة أقسام المتقابلين في خمسة أقسام المحال ؛ لأن المكررين يكون غير الواقع في العجز منهما إما في


صدر أو في حشو أو في آخر المصراع الأول أو في أول الثاني أو في وسطه ومثلها في المتجانسين ، ومثلها في الملحقين اشتقاقا ومثلها في الملحقين بشبه الاشتقاق وذلك ظاهر ، ولما لم يعتبر المصنف إلا أربعة أقسام المحال سقطت أربعة فكان المجموع ستة عشر كما ذكرنا ، وقد مثل للمتكررين بأربعة أمثلة وللمتجانسين بأربعة وللملحقين اشتقاقا بأربعة على هذا الترتيب ولم يمثل للملحقين بشبه الاشتقاق إلا بمثال واحد ساقه في أثناء أمثلة الملحقين اشتقاقا فمجموع ما ساقه من الأمثلة ثلاثة عشر ، وأهمل ثلاثة وسنمثل نحن عند ذكر مثال الملحقين بشبه الاشتقاق بما بقى له تكميلا للأقسام وإلى أمثلتها على هذا الترتيب كما ذكرنا أشار فقال : (كقوله) أي : أول أمثلة المكررين وهي أربعة قوله :

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندى بسريع (١)

أي : هذا المذموم سريع إلى الشر واللآمة في لطمه وجه ابن العم ، وليس بسريع إلى العمل بما يدعى إليه من الندى أي : الكرم فسريع الثاني في آخر المصراع الثاني والأول وهو مكرر في أول المصراع الأول فأول أقسام المكرر هو ما يكون فيه المكرر الآخر منهما في صدر المصراع الأول كالمثال (و) ثانيها وهو ما يكون فيه المكرر الأول منهما في حشو المصراع الأول (كقوله :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار) (٢)

فعرار الأول في حشو المصراع الأول وهو مكرر مع عرار العجز ، ومعنى البيت أنه يأمر بالاستمتاع بشم عرار نجد وهي وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة ؛ لأن الحال يضطرهم إلى الخروج من نجد ومنابته عند المساء بالسفر عنها (و) ثالثها وهو ما يكون المكرر الآخر في آخر المصراع الأول كقوله :

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما (٣)

__________________

(١) البيت للمغيرة بن عبد الله المعروف بالأقيشر الأسدى ، فى لطائف التبيان ص (٤٥) ، والمفتاح (٩٤) ، وخزانة الأدب (٢ / ٢٨١) ، ودلائل الإعجاز (١٥٠) ، والإشارات ص (٣٤).

(٢) البيت للصمة القشيرى فى لسان العرب (عرر) ، والإيضاح (٢ / ١٦٧).

(٣) البيت لأبى تمام فى شرح ديوانه ص (٢٧٨) ، والطراز (٢ / ٣٩٥) ، وبلا نسبة في شرح عقود الجمان (٢ / ١٥٣).


فمغرما الأول في آخر الشطر الأول وهو مكرر مع مغرما في العجز ، والمغرم بالشيء هو المولع به والكواعب جمع كاعب وهي الجارية ، حين يبدو أي : يظهر ثديها في النهود أي في الارتفاع والقواضب جمع قاضب وهو السيف القاطع وهذه القضية شرطية اتفاقية لأن الولوع بالكواعب يتوهم عمومه للطبيعة الإنسانية ، فبين أنه اتفق له خلاف ذلك وأن من كل مولعا بالكواعب فهو بخلافه وأنه مولع بالسيوف واستعمالها في محالها في الحروب (و) رابعها وهو ما يكون فيه المكرر الآخر منهما في صدر المصراع الثاني ك (قوله :

وإن لم يكن إلا معرج ساعة

قليلا فإني نافع لي قليلها) (١)

فقليلا الأول في صدر المصراع الثاني وهو مكرر مع قليلها في العجز ، ولا تضر الهاء في كونه في العجز لما تقدم أن الضمير المتصل حكمه حكم ما اتصل به ، والمعرج بفتح الراء اسم مصدر عن عرج بشد الراء على الشيء إذا أقام عليه وهو خبر لاسم كان الذي هو ضمير يعود على الإلمام الذي هو النزول بالشيء المفهوم من البيت قبله وهو قوله :

ألما على الدار التي لو وجدتها

بها أهلها ما كان وحشا مقيلها

أي : وإن لم يكن ذلك الإلمام وذلك النزول إلا معرج أي إقامة ساعة فهو نافع لي والإخبار عن الإلمام بالتعريج صحيح من الإخبار بالأخص عن الأعم ؛ لأن الإلمام الذي هو مطلق النزول أعم من التعريج الذي هو نزول مع استقرار ، وقوله : قليلا نعت مؤكد لمعرج ساعة ؛ لأنه يلزم من كونه تعريج ساعة قلته ، ويحتمل أن يكون وصفا مقيدا بناء على الاتساع في الساعة ، أي : وإن لم يكن التعريج إلا تعريجا قليلا في ساعة من الساعات النهارية والليلية فهو نافع ، وقوله : قليلها يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره نافع والجملة خبر إن ويحتمل أن يكون فاعلا بنافع وهو خبر إن ، والمعنى إني أطلب منكما أيها الخليلان أن تساعداني في الإلمام بالدار التي ارتحل عنها أهلها فصارت

__________________

(١) البيت لذى الرمة فى الأغانى (١٨ / ٤٧) وفيه (إلا معرس) ، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (١٣٧) ، والطراز (٢ / ٣٩٦).


القيلولة فيها والنزول فيها موحشة ، وأنا لو وجدت أهلها فيها ما كان مقيلها موحشا ، وإن لم يكن ذلك النزول وذلك التعريج إلا شيئا قليلا فهو نافع لي يذهب بتذكر الأحباب فيه بعض همي ويشفي غليلي ويرفع حزني ووجدي.

ثم شرع في أمثلة المتجانسين وهي أربعة كما تقدم فقال (و) الأول من أمثلة المتجانسين وهو ما يكون فيه المجانس الآخر منهما في صدر المصراع الأول ك (قوله :

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكما دعاني) (١)

فدعاني الأول بمعنى اتركاني وهو في صدر المصراع الأول ، والثاني وهو في العجز بمعنى الدعوة ، والسفاه بفتح السين الخفة وقلة العقل ويروى بكسر الشين المعجمة بمعنى المشافهة والمواجهة بالكلام ، والمعنى اتركاني من لومكما الواقع منكما لأجل سفهكما وقلة عقلكما أو الواقع منكما مشافهة من غير استحياء ، فإني لا ألتفت إلى ذلك اللوم لأن الداعي للشوق الموجب لغلبته عليّ قد دعاني لذلك الشوق وناداني إليه فأجبته فلا أجيبكما بعده ، وذلك الداعي للشوق هو جمال المشتاق إليه.

(و) الثاني منها وهو ما يكون فيه المجانس الآخر منهما في حشو المصراع الأول ك (قوله :

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل) (٢)

فالبلابل الأول في حشو المصراع الأول ، ولم يجعل مما كان في صدره ؛ لتقدم إذا عليه وهو جمع بلبل وهو طائر معروف حسن الصوت والبلابل الثاني في العجز كما رأيت وهو جمع بلبلة بضم الباءين واللام وهي إناء من خمر ، واحتساء الخمر شربها ، والمعنى أنه يأمر بشرب آنية الخمر لدفع الأحزان وهي المرادة بالبلابل المتوسطة وهي التي حركها إفصاح الطائر بلغته أي : إظهاره لها ؛ لأن الصوت الحسن مما يحرك الأشواق ويقوي الدواعي إلى التلاق ، والمثال باعتبار لفظ البلابل الأول مع البلابل الآخر وأما

__________________

(١) البيت للقاضى الأرجانى ، فى الإيضاح ص (٣٢٩).

(٢) البيت للثعالبي ، فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٥٢ ، ١٥٣) ، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز ، وفى الإشارات ص (٢٩٦).


المتوسط فإنما يكون من هذا الباب مع ما بعده على مذهب السكاكي الذي يعتبر في رد العجز على الصدر حشو المصراع الثاني ، وعليه فيكون هذا مما يمثل به لذلك القسم.

(و) الثالث منها وهو ما يكون فيه المجانس الآخر منهما في آخر المصراع الأول ك (قوله :

(فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنات المثاني) (١)

فالمثاني الأول في آخر المصراع الأول والثاني في العجز وهما متجانسان إذ المراد بالمثاني الأول القرآن ؛ لأنه تثنى فيه القصص والوعد والوعيد ، ويطلق لفظ المثاني على الفاتحة منه لأنها تثني في كل ركعة ، والمراد بالمثاني الثاني أوتار المزامير ؛ لأنها طاقات ثنى أي : ضم بعضها إلى بعض ورناتها نغماتها ، والبيت في نفسه يحتمل معنيين أحدهما أن يكون الموصوف واحدا أي : هذا مشغوف بآيات القرآن وتلاوتها ومفتون مع ذلك لرقة قلبه برنات المزامير ، وأن يكون اثنين أي : فهناك مشغوف بالآيات يهتدي بها ويتذكر بها وآخر مفتون بنغمات المزامير غفلة منه عن الدار الآخرة ومقام إنشاد البيت قبله يعين أحدهما وقد تعين الثاني به ؛ لأن البيتين للحريري ومقامهما يقتضي المعنى الثاني ، ولم يجعل المثاني في الموضعين من الملحق اشتقاقا مع اشتراكهما في أصل المادة ؛ لأن الوصفية تنوسيت فيهما والله أعلم.

(و) الرابع منها وهو ما يكون فيه المجانس الآخر منها في صدر المصراع الثاني (كقوله : أملتهم) (٢) أي : رجوتهم (ثم تأملتهم) أي : تفكرت في أحوالهم هل هم ممن يرجى خيره أو لا (فلاح لي) بعد التأمل (أن) أي : أنه أو أنهم (ليس فيهم فلاح) أي : ليس فيهم بقاء على الخير وفوز بالرجاء وبلوغ الأمل فقوله : فلاح في صدر المصراع الثاني ، وفلاح الثاني في العجز وهما متجانسان فالأول فاء الترتيب مع لاح بمعنى ظهر والثاني بمعنى الفوز والمقام على الخير ، وذلك ظاهر ، ثم شرع في أمثلة الملحقين اشتقاقا

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٥٣) ، وهو للحريرى من مقاماته فى ديوانه ص (٥٢١) ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٢٩٧) ، والتبيان ص (٥١٨).

(٢) البيت للأرجانى ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٢٩٧) ، والإيضاح ص (٣٣٠).


وهي أربعة كما تقدم فقال (و) أما أمثلة الملحقين اشتقاقا فالأول منها وهو ما يكون فيه الآخر منهما في صدر المصراع الأول (كقوله ضرائب) (١) جمع ضريبة وهي الطبيعة يضرب الرجل عليها أي : يطبع عليها ، وإن شئت قلت ضربت للرجل أي : أوجدت فيه وطبع عليها (أبدعتها) أي : أبدعت تلك الضرائب وأنشأتها في العالم من غير أن يتقدم لك من الناس منشأ فيها (في السماح) أي : في الكرم والعطاء ، فإن قيل : كونها طبائع وكونه أبدعها متنافيان ؛ إذ لا معنى إحداث الطبائع وإنما يتعلق بالإنشاء بالطبعيات لا الطبيعيات ، قلنا : المراد أنك أنشأت آثارها الدالة على أنك طبعت عليها من الإعطاء الأفخم والبذل لكل نفيس أعظم ؛ بدليل قوله في السماح : وتلك الضرائب اختصصت بها (فلسنا نرى لك فيها ضريبا) أي : مثيلا فضرائب في أول المصراع الأول مشتق مما اشتق منه لفظ ضريبا الذي في العجز فبينهما الإلحاق اشتقاقا ومعنى الضريب في الأصل المثل من القداح أي كل واحد منها ؛ لأنه يضرب به في جملتها وهو مثلها في عدم التمييز في المضاربة ، لا يقال : الضرائب والضريب من قبيل المتجانسين ؛ لأن معنى الضرائب الطبائع والضريب المثيل وكلما اختلف معنى اللفظين كانا من قبيل المتجانسين ؛ لأنا نقول الاختلاف في المصدوق لا ينافي الاختلاف في أصل الاشتقاق الذي يقتضي الاتحاد في مفهوم المشتق منه الذي هو المعتبر في المشتقات كما تقدم وجنس الضرب متحد فيهما ، ولو كان في الضرائب بمعنى الإلزام بعد الإيجاد الذي قد يحدث عادة عن الضرب كضرب الطابع على الدرهم وفي الثاني بمعنى التحريك الذي هو هنا أخص من مطلق التحريك الصادق على الضرب فافهم (و) ثانيهما وهو ما يكون فيه المشتق الآخر منهما في حشو المصراع الأول ك (قوله :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزان) (٢)

__________________

(١) البيت للسرى الرفاء ، فى ديوانه (١ / ١٥١) ، والتبيان (١٧٩) ، وهو بلا نسبة فى الطراز (٢ / ٣٩٣).

(٢) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص (٩٠) ، والإشارات ص (٢٩٧) ، وهو فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٥٢).


فيخزن في حشو المصراع الأول كما رأيت وهو مشتق مع خزان الذي في العجز من الخزن ، والمعنى أن الإنسان إذا لم يحفظ لسانه على نفسه فلا تثق به في أمرك ؛ لأنه لا يخزن لسانه أي : لا يحفظه بالنسبة إلى غيره من باب أحرى بأن كان الضرر مما يتكلم به عائدا على ذلك الغير ؛ لأنه لم يتحافظ فيما يضره بنفسه فكيف فيما لا يضره بنفسه ، وإنما يضر غيره.

ثم أشار المصنف إلى مثال من أمثلة الملحقين بشبه الاشتقاق قبل استكمال أربعة الملحقين اشتقاقا ولم يأت للملحقين بشبه الاشتقاق إلا به فينبغي لنا أن نسوقه على نمط ما قررنا به الأمثلة السابقة لينتظم الكلام ونكمل أمثلة هذا القسم تكميلا للفائدة ثم نفسر كمال أمثلة الملحقين اشتقاقا فنقول (و) أما أمثلة الملحقين بشبه الاشتقاق فأحدها وهو ما كان فيه الملحق الآخر منهما بشبه الاشتقاق في حشو المصراع الأول ك (قوله : لو اختصرتم من الإحسان) (١) أي : لو تركتم كثرة الإحسان ولم تبالغوا فيه بل أتيتم بما يعتدل منه (زرتكم) ولكن أكثرتم من الإحسان فهجرتكم لتلك الكثرة لخروجها عن الاعتدال (والعذب) أي : ولا غرابة في هجران ما يستحسن لخروجه عن حد الاعتدال الذي لا يطاق ؛ لأن الماء العذب الذي هو مطلوب في أصله قد (يهجر للإفراط في الخصر) أي : في تجاوزه الحد في الصفة المستحسنة منه وهو خصره بفتح الخاء والصاد أي برودته فقوله : اختصرتم مع الخصر بينهما شبه الاشتقاق ؛ لأنه يتبادر كونهما من مادة واحدة وليس كذلك فإن الأول وهو الواقع في الحشو لسبق لو عليه مأخوذ من مادة الاختصار الذى هو ترك الإكثار ، والثاني مأخوذ من خصر أي : برد ، لا يقال لا مادة للخصر ؛ لأنه نفسها إذ هو مصدر فليس هنا شبه اشتقاق بل تجانس إذ لم يؤخذ من شيء حتى يتبادر كونهما من أصل واحد ؛ لأنا نقول يكفي فيه رعاية كونه مأخوذا من الفعل على قول إذ التبادر يكفي فيه التوهم ، وهذا بناء على أن له فعلا ، فإن قلت : فهل هذا البيت مدح أو ذم؟ قلت : يحتملهما ؛ لأنه إن أراد بكثرة الإحسان أنهم أكثروا حتى تحقق منهم جعلهم ذلك في غير المحل سفها فهجرهم لأفعالهم

__________________

(١) البيت للمعرى فى سر الفصاحة ص (٢٦٧) ، والمصباح ص (١١٤).


السفيهة كان ذما ، وهو الذي يدل عليه لفظ الهجران ، وإن أراد أنهم أكثروا فعجز عن الشكر فاستحيا من الإتيان إليهم بلا قيام بحق الشكر كان مدحا فيشبه أن يكون من التوجيه تأمله ، فإذا ظهر أن هذا المثال من الملحقين بشبه الاشتقاق لا من الاشتقاق كما ذكرنا أن المصنف لم يمثل لذلك النوع إلا بهذا لم يرد ما توهم من أنه تكرار لمثال الملحقين اشتقاقا إذ هو كما قبله وهو قوله

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزان

في أن الملحق الآخر فيهما في حشو المصراع الأول وذلك ؛ لأن هذا المثال من واد وذاك من واد آخر ، ولو اشتركا في الإلحاق وثاني الملحقين يشبه الاشتقاق وهو ما يكون فيه الملحق الآخر منهما في صدر المصراع الأول كقوله :

ولاح يلحى على جرى العنان إلى

ملهي فسحقا له من لائح لاح (١)

فلاح الأول فعل من اللوحان بمعنى الظهور ، ولاح في العجز اسم الفاعل من لحاه رماه وأبعده.

وثالث الملحقين بشبه الاشتقاق وهو ما يكون فيه الملحق الآخر منهما في صدر المصراع الثاني كقوله :

لعمري لقد كان الثريا مكانه

ثراء فأضحى الآن مثواه في الثرى (٢)

لأن الثراه الأول من الثروة ، وهي : كثرة المال ، والثرى الآخر هو : الأرض ، ويضعف كون هذا المثال من الملحق أن أحدهما وهو الآخر لم يشتق من شيء حتى يتوهم فيهما الاشتقاق فالأقرب فيهما التجانس وقد يقال يكفي في ذلك التبادر كون أحدهما مما يؤخذ من الشيء فيسرى الوهم لآخر ثم رجع المصنف إلى تكميل أمثلة الملحقين اشتقاقا فقال (و) أما الثالث من الملحقين اشتقاقا وهو ما يكون فيه الآخر منهما في آخر المصراع الأول فك (قوله :

__________________

(١) البيت للحريرى.

(٢) البيت بلا نسبة فى المصباح ص (١٦٧).


فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير) (١)

فبين ضائر ويضير اشتقاق ملحق ، والأول منهما في آخر المصراع ، والثاني في العجز والمعنى أن وعيدك أي : إخبارك بأنك تنالني بمكروه دعه فإنه لا يجديك معي شيئا ؛ لأنه بمنزلة طنين أجنحة الذباب وذلك الطنين لا يبالي به فكذا وعيدك (و) أما الرابع من الملحقين اشتقاقا وهو ما يكون فيه الآخر من الملحقين في صدر المصراع الثاني فك (قوله :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر وهي الآن من بعده بتر) (٢)

فالبواتر في صدر المصراع الثاني والبتر في العجز وهما مأخوذان من مادة البتر وهو القطع والمعنى : أن السيوف البيض القواضب أي : القواطع من ذاتها كانت في الحروب قواطع لرقاب الأعداء من استعمال الممدوح إياها لمعرفته لذلك وتدربه وشجاعته ، وهي الآن بعد موته بتر أى : مقطوعة الاستعمال إذ لم يبق بعده من يستعملها كاستعماله هذا تمام أمثلة رد العجز على الصدر.

السجع

ثم أشار إلى نوع آخر من البديع اللفظي فقال (ومنه) أي ومن البديع اللفظي (السجع) أي : النوع المسمى بالسجع (وهو) أي : السجع (تواطؤ) أي توافق (الفاصلتين) وهما الكلمتان اللتان في آخر الفقرتين من النثر بمنزلة القافيتين في البيتين (على حرف واحد) أي : توافق الفاصلتين في كونهما على حرف واحد في آخر كل منهما ، وربما يفهم من إضافة التوافق إليهما أن لهما حالتين التوافق وعدمه وفي كلا الحالتين يسميان فاصلتين وهو الأقرب لكلامهم. (وهو) أي : وهذا التفسير (معنى قول السكاكي هو) أي : السجع (في النثر كالقافية في الشعر) ومن المعلوم أن القافية في

__________________

(١) البيت لابن أبى عيينة ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٢٩٧) ، وفى دلائل الإعجاز ص (٢) ، وهو فى الكامل (٢ / ٣١٨).

(٢) البيت لأبى تمام فى ديوانه (٤ / ٨٣) ، والإشارات ص (٢٩٨) ، وشرح ديوانه ص (٣٥٦) ، وفى نهاية الإيجاز ص (١٣٩).


الشعر هي لفظ ختمت به البيت إما الكلمة نفسها أو الحرف الآخر منها أو غير ذلك كأن تكون من المحرك قبل الساكنين إلى الانتهاء على ما تقرر من المذاهب فيها ، وعلى كل حال فليست القافية عبارة عن تواطؤ الكلمتين في آخر البيتين فالمناسب في التشبيه بها أن يراد بالسجع في كلامه اللفظ لا توافقه الذي هو مصدر هو وصف لذلك اللفظ أعني موافقة ذلك اللفظ لمثله في الحرف الآخر فيدل على أن السكاكي أراد بالسجع اللفظ هذا التشبيه ويدل عليه أيضا تعبيره عنه بلفظ الجمع حيث قال : إنها أي الأسجاع كالقوافي في الشعر إذ لو أراد المصدر لعبر بالإفراد ؛ لأن المصدر لا يجمع إلا إذا أريد به الأنواع ، وإرادة الأنواع لا يتعلق بها الغرض هنا فتعينت إرادة اللفظ وإذا تقرر هذا تعين أن يكون المراد بقول المصنف وهو معنى قول السكاكي إلخ أن ما ذكرنا هو محصول كلام السكاكي وفائدته بمعنى أن تسمية الفاصلة سجعا إنما هو لوجود التوافق فيها ولو لا ذلك ما سميت ، فعاد الحاصل إلى أن العلة التي أوجبت التسمية هي المسماة في الحقيقة وفي القصد وفيه نظر ؛ لأن الكلام في تحرير الاصطلاح ولا يلزم من كون الشيء علة في التسمية الإصطلاحية كون تلك العلة هي المسماة ، نعم إن تقرر للسكاكي كون التوافق هو المسمى جاز أن يقال وهذا مراده على معنى تقدير المضاف ، أي : توافق الفواصل في النثر كتوافق القوافي في الشعر وهو خلاف الظاهر نعم إن حمل التشبيه على الظاهر اقتضى جريان الخلاف في حد الفاصلة كما جرى في حد القافية ، ولكن هذا ليس بمعهود فلما انفتح باب التأويل في كلام السكاكي جاز حمله على ما ذكر والخطب سهل في مثل هذا فتحصل من ظاهر ما تقرر عند المصنف والسكاكي أن السجع قد يطلق على توافق الفاصلتين ، وقد يطلق على نفس الكلمة الأخيرة من الفقرة لموافقتها للكلمة الأخيرة من فقرة أخرى ومرجع المعنيين واحد وقد عرفت ما فيه إلا أن يقال : إن تسمية التوافق هو الاصطلاح وهو الأصل وتسمية الكلمة على وجه التجوز فتحقق كون المرجع واحدا ؛ لأن المقصود بالذات في التسمية هو التوافق وههنا أربعة ألفاظ ينبغي إحضار مسمياتها ؛ ليزول الالتباس في كثرة دورها على الألسن السجع والفاصلة والقرينة والفقرة فالقرينة قطعة من الكلام جعلت مزاوجة لأخرى والفقرة


مثلها إن شرط فيها مقارنتها لأخرى ، وإلا كانت أعم سواء كانتا مع تسجيع أو لا كما هو ظاهر كلامهم ، وأما الفاصلة فهي كما تقدم الكلمة الأخيرة من القرينة التي هي الفقرة ، وأما السجع فهو توافق الفاصلتين أو هو نفس الفاصلة الموافقة لأخرى كما هو ظاهر كلام السكاكي كما تقدم.

أضرب السجع

(وهو) أي : السجع ثلاثة أضرب (مطرف) أي : الأول منها يسمى المطرف وإنما يسمى المطرف (إن اختلفتا) أي : اختلفت الفاصلتان اللتان وقع فيهما السجع (في الوزن) لأنه لا يلزم من الاتفاق في الحرف الأخير وهو المسمى بالتقفية هنا الاتفاق في الوزن وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية عن نوح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١) فالفاصلة من القرينة الأولى وقارا ومن الثانية أطوارا وهما مختلفان وزنا كما لا يخفى ، وإنما سمى مطرفا ؛ لأنه خارج في التوغل في الحسن إلى الطرف بخلاف غيره كما يأتي ، أو لأن ما وقع به التوافق وهو الاتحاد بين الفاصلتين إنما هو الطرف وهو الحرف الأخير دون ما يعم وهو الوزن (وإلا) تختلف الفاصلتان وزنا بل اتفقتا فيه كما اتفقتا في التقفية ف (حينئذ) (إن كان ما في إحدى القرينتين) ففي الألفاظ (أو) كان (أكثره) أي : أكثر ما في إحدى القرينتين من الألفاظ (مثل ما يقابله من) الألفاظ في القرينة (الأخرى) والمثلية (في الوزن والتقفية) والمراد بالتقفية هنا كما تقدم التوافق في الحرف الأخير (فترصيع) أي : فالسجع الكائن في الفاصلتين على هذه السورة يسمى ترصيعا تشبيها له بجعل إحدى اللؤلؤتين في العقد في مقابلة الأخرى مثلها فالمعتبر في الترصيع مساواة القرينة للأخرى بعد توافق فاصلتيهما وزنا وتقفية ثم مثل لما فيه المساواة في الجميع بقوله (نحو) قوله (فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه) شبه تزيين السجع بمصاحبة خيار الألفاظ بجعل الحلى مطبوعا بالجواهر فعبر بهذه العبارة على طريق الاستعارة بالكناية (ويقرع الأسماع بزواجر وعظه) شبه الأسماع بأبواب تقرع بالأصابع لتفتح فعبر بما ذكر أيضا على طريق

__________________

(١) نوح : ١٣ ، ١٤.


الاستعارة بالكناية فلا شك أن قوله فهو لا مقابل له من القرينة الأخرى ، وباقي الألفاظ مساوية لما يقابلها وزنا وتقفية فيطبع مساو ليقرع والأسجاع مساو للأسماع والجواهر مساو للزواجر والفاصلة مساوية للأخرى فهذا مثال لما تساوت فيه جميع المتقابلات ولو بدل الأسماع بالآذان كان مثالا لما تساوى فيه الجل ؛ لأن الآذان لا يساوي الأسجاع تقفية ولو ساواه وزنا وهو ظاهر (وإلا) يكن جميع ما في القرينة من المتقابلات مساويا لما يقابلها ؛ ولأجل ما فيها مساويا وهو صادق بأن يقع الاختلاف في الجل وأن يقع في الكل ، وأن يقع في النصف ، وصادق بكون الاختلاف في الوزن والتقفية معا وبكونه في أحدهما دون الآخر وهذا كله مع فرض الاتفاق في نفس الفاصلتين ؛ لأن الاختلاف هنا إنما يفرض في غيرهما (فمتواز) أي : فهذا النوع من السجع يسمى متوازيا ؛ لتوازي الفاصلتين وزنا وتقفية دون رعاية غيرهما والتسمية يكفي فيها أدنى اعتبار إذ الغرض تمييز أجناس المقاصد بالتسمية ثم مثل لما وقع فيه الاختلاف في نصف القرينتين وهو جميع غير الفاصلتين مهملا لغيره لكفايته فقال وذلك (نحو) قوله تعالى (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١) هذه قرينة (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (٢) هذه أخرى فلفظ فيها لا يقابله لفظ من الأخرى وسرر وهو نصف ما بقى ؛ لأن العبرة هنا بالألفاظ دون نفس الحروف يقابله من الأخرى أكواب وهو نصف الأخرى وهما مختلفان وزنا وتقفية معا ، كما لا يخفى وقد يختلف النصف المقابل في الوزن فقط ويكون متوازيا كقوله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٣) فالمرسلات مع العاصفات متفقان تقفية ولم يتفقا وزنا ، وكل منهما نصف القرينة كذا قيل وفيه نظر ؛ لأن المعتبر من الوزن هنا الوزن الشعري كما قيل لا الوزن النحوي ، وعليه فهما متوقفان إذ المتحرك في مقابلة المتحرك والساكن في مقابلة الساكن وعدد الحروف المنطوق بها واحد فيهما ، وإن كان وزن المرسلات في النحو المفعلات والعاصفات الفاعلات وقد تختلف التقفية فقط فيما

__________________

(١) الغاشية : ١٣.

(٢) الغاشية : ١٤.

(٣) المرسلات : ١ ـ ٢.


يعتبر فيه التقابل دون الوزن ، ويكون متوازيا أيضا ، كقولنا : حصل الناطق والصامت أي حصل عندنا اكتساب العبيد واكتساب غيرهم مما لا ينطق وهلك الحاسد والشامت وهو الذي يفرح بنزول المصائب فبين حصل وهلك تخالف في التقفية دون الوزن ، وكذا بين الناطق والحاسد وأما الصامت والشامت فهما فاصلتان لا بد فيهما من التوافق هنا ثم أشار إلى بيان أحسن السجع وإلى مراتبه فقال (قيل وأحسن السجع ما تساوت قرائنه) في اللفظات وأحسن هذا الأحسن أقصره قرينة ؛ لصعوبة إدراكه وعزة اتفاقه ولقرب سجعه من السجع بخلاف التطويل وأحسنه ما كان من لفظين وينتهي الأقصر إلى تسع كلمات وما زاد على ذلك تطويل وشرط الحسن أن لا تكون إحدى القرينتين تكرارا للأخرى وإلا كان تطويلا ، كقوله : طاروا واقين بظهورهم صدورهم وبأصلابهم نحورهم فإن الظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور ، ثم مثل لما تساوت قرائنه فقال وذلك (نحو) قوله تعالى (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (١) هذه قرينة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢) هذه أخرى (وظل ممدود) هذه أخرى وقد تساوت في كون كل مركبة من لفظين (ثم) يلي ما تساوت قرائنه في الحسن الكائن باعتبار التساوي (ما طالت قرينته الثانية نحو) قوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (٣) هذه قرينة (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٤) هذه الثانية وهي أكثر في الكلمات مما قبلها فهي أطول (أو) طالت قرينته (الثالثة) فهو ما يلي المتساوي في الحسن أيضا (نحو) قوله تعالى (خُذُوهُ) (٥) هذه قرينة (فَغُلُّوهُ) (٦) هذه أخرى وهما متساويان في أن كلا منهما كلمة واحدة ولا عبرة بحرف الفاء المأتي به للترتيب في كونهما من كلمتين (ثم الجحيم صلوه) هذه الثالثة وهي أطول من كل مما قبلها (ولا يحسن أن يولي قرينة) أي لا يحسن أن يؤتى بقرينة

__________________

(١) الواقعة : ٢٨.

(٢) الواقعة : ٣٠.

(٣) النجم : ١.

(٤) النجم : ٢.

(٥) الحاقة : ٣٠.

(٦) الحاقة : ٣٠.


بعد أخرى موالية لها (أقصر منها) أي من الأولى (كثيرا) وإنما قال كثيرا احترازا مما إذا أتى بالقصرى بعد الطولى ولكن قصر الثانية قليل فإنه لا يضر ، وقد ورد في التنزيل كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)(١) فإن الأولى من تسع كلمات بحرفي الجر والاستفهام والثانية من ست ولم يضر فيؤخذ منه أن الزيادة بالثلث لا تضر ، بخلاف ما إذا قصرت الثانية كثيرا فإنه يقبح ؛ لأن السجع قد استوفى أمده في الأولى بطوله فاعتبر ذلك الأمد فصار هو أمده المطلوب في الأخرى ، فإذا أتى بها قاصرة قصرا كثيرا صار السمع كمن يريد الانتهاء إلى غاية ثم يعثر دونها ففاجأه خلاف ما يرتقب وهو مما يستقبح وذلك كما لو قيل خاطبني خليلي وشفاني بكلامه الذي هو كالجوهر النفيس ، فاقتضيت به أحسن تنفيس والذوق السليم شاهد بقبح ذلك ، ثم أشار إلى أمر يرتكب في اكتساب حسن السجع وبين أنه مغتفر حتى صار أصلا فقال (والأسجاع مبنية على سكون الأعجاز) أي الأصل الذي يرتكب ويغتفر لتحصيل الأسجاع ولتكثيرها هو سكون الأعجاز بالوقف ولذلك كثر اكتساب حسن الأسجاع ، ولو اعتبر مع الإعراب قل اكتسابه وقل اتفاقه ، فإذا كانوا يترخصون لحسن المزاوجة في الخروج عن موضوع اللفظ كقولهم الغدايا والعشايا بدلا عن الغدوات لمزاوجة العشايا فلا يغتفر ، والوقف والخروج عن الإعراب لكونه صحيح الاعتبار لاكتساب حسن ازدواج السجع أولى وأحرى ويعني بالأعجاز أواخر فواصل القرائن فإذا اعتبرت ذلك كثر وجود السجع وذلك (كما في قولهم ما أبعد ما فات) لأن ما فات من الزمان ومن الحادث فيه لا يعود أبدا (وما أقرب ما هو آت) لأنه لا بد من بلوغه وحينئذ كأن لم ينتظر فصار كالقريب وهذا من السجع عندهم مبنيا على سكون عجز الفاصلتين باعتبار جعل الوصل في حكم الفصل ولو لا ذلك لم يكن من السجع ؛ لأن تاء فات لو لا الوقف كانت مفتوحة وتاء آت لو أعربت كانت مكسورة فأخذ مما ذكر أن الاستواء في هيئة حرف السجع لا بد منه إعرابا أو سكوتا (قيل ولا يقال في القرآن أسجاع) بمعنى أنه ينهى عنه لا لعدم وجوده في نفس الأمر ؛ بل لرعاية

__________________

(١) الفيل : ١ ـ ٢.


الأدب ولتعظيم القرآن وتنزيهه عن التصريح بما أصله في الحمام التي هي من الدواب العجم إذ السجع في أصله هو هدير الحمام ، ثم نقل لهذا المعنى فلا يصرح بوجوده في القرآن لما ذكر ولكونه من نغمات الكهنة في كثرة أصل إطلاقه أيضا وقيل إن العلة في أنه لا يقال في القرآن أن الشرع لم يرد فيه الإذن بإطلاقه وفيه نظر ؛ لأن الذي ذكروا أنه يتوقف على الإذن الشرعي هو تسميته تعالى باسم اتصف بمعناه فهذا هو الذي قيل فيه بالتوقف على الإذن الشرعي فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه من أسمائه الحسنى ، وأما نحو هذه الألقاب فلم يقل أحد بتوقف إطلاقها في القرآن على الإذن الشرعي مثل التجنيس والترصيع والقلب ونحو ذلك ، ورد بأن القرآن كلام الله فلا يسمى كله ولا جزؤه إلا بما لا إيهام فيه ولا نقصان قياسا على تسميته الذات ، والسجع هدير الحمام ونغمات الكهنة ففيه من النقصان ما يمنع من إطلاقه إلا بإذن ويؤيد هذا ما ورد في الحديث من النهي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" أسجعا كسجع الجاهلية" (١) فتأمله.

(بل يقال) للأسجاع في القرآن ، وأعني بالأسجاع هنا الكلم الأواخر من الفقر بناء على ما قال السكاكي من أن السجع يطلق على نفس الكلمة (فواصل) أي : الذي يقال في السجع باعتبار القرآن فواصل ولا تسمى باسم الأسجاع تأدبا كما تقدم ، ثم إن مقتضى ما تقدم اختصاص السجع بالنثر حيث قيل إنه في النثر كالقافية في الشعر ، وحيث قيل توافق الفاصلتين إذ الفاصلتان مخصوصتان في أصلهما بالنثر وحيث أطلقتا على ما في الشعر فتوسع (و) لكن (قيل في السجع غير مختص بالنثر) بل يكون فيه كما تقدم وفي النظم (ومثاله من النظم قوله تجلى به رشدي) (٢) أي : ظهر بهذا الممدوح رشدي أي بلوغي للمقاصد بإرشاده وإرفاده وهذه قرينة ذات سجعة في النظم (وأثرت به يدي) أي : صارت يدي بهذا الممدوح ذات ثروة أي كثرة مال لاكتسابها منه جاها وإعطاء ، وإنما قلنا : جاها ؛ لأن اكتساب المال بالجاه أعظم من اكتسابه بالإعطاء ؛ لأن

__________________

(١) رواه النسائى فى" القسامة" ، وأبو داود في" الديات".

(٢) البيت لأبى تمام فى شرح ديوانه ص (١١١) ، والمصباح ص (١٦٩) ، والإشارات (٣٠١) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٦٠) ، والعمدة (٢ / ٢٣).


الجاه يفيض على صاحبه من كل جانب وهذه قرينة أخرى في النظم بسجعتها (وفاض به ثمدي) أي : وفاض بالممدوح ثمدي أي مائي القليل إذ الثمد في الأصل هو الماء القليل وهذا الكلام عبارة عن كثرة المال فهذه قرينة بسجعتها كالتأكيد لما قبلها (وأوري به زندي) أي : وصار زندي بهذا الممدوح ذا وري وهذه أيضا سجعة ففي هذا البيت أربع سجعات موقوفة على الدال والورى خروج النار من الزند ويكنى به عن الظفر بالمقصود ؛ لأن الزند إذا لم يكن ذا وري لم ينل منه المراد وإذا كان ذا وري نيل منه ، فأوري على هذا فعل ماض وفاعله زندي فهو موافق لما قبله في كون فاعله غير ضمير المتكلم ، وأما ضبطه بضم الهمزة على أنه مضارع وفاعله ضمير المتكلم فتصحيف ويأباه الطبع أيضا ، والدليل على أنه تصحيف أمران أحدهما عدم مطابقته لما قبله في الفاعل في كونه من طريق الغيبة بسبب كونه ظاهرا فلم يجر الكلام على نمط واحد وجريانه مع إمكانه أنسب لبلاغة الشاعر ، والآخر أن العرف جرى بأن يقال : أوري أنا زندي ؛ على أن يكون المعنى أظفر بالمراد ، وأما إباية الطبع إياه فإن فيه الإيماء إلى ما ينافي المقام ؛ لأن فيه الإيماء إلى أن عنده أصل الظفر بالمراد ثم استعان بالممدوح حتى بلغ المقصود وكون زنده لا ورى له ثم صار بالممدوح ذا وري أنسب لمقام المدح من أنه يخرج نار زنده بإعانة الممدوح مع مباشرته الورى بالتسبب ، فالعبارة الأولى وهي أورى بصيغة المضي تقتضي أنه صار زنده ذا وري بعد انعدامه ، والثانية تقتضي أن له أصل الورى والتسبب وبلغ كماله بالممدوح ولا يخفى أن الأولى على هذا أنسب على أنه يتجه أن يقال معنى أوري على حذف مضاف أصير زندي ذا وري فيستوي الاعتباران في هذا المعنى ، ويحتمل أن يكون وجه التصحيف وإباية الطبع الوجهان معا وهو أقرب من التكلف والتدقيق الذي لا يحتاج إليه والضمائر في تجلي به إلخ عائدة على نصر في البيت قبله وهو قوله :

سأحمد نصرا ما حييت وإنني

لأعلم أن قد جل نصر عن الحمد (١)

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (١١١).


التشطير

(ومن السجع على هذا القول ما يسمى التشطير) أي : إذا بنينا على القول بأن السجع مخصوص بالنثر فما يوجد في النظم مما يشبهه يعد من المحسنات الشبيهة به ، وإذا بنينا على هذا القول وهو القول بأنه يوجد في الشعر فهو قسمان : ما لا يسمى بالتشطير وهو الذي تقدم. وما يسمى بالتشطير (وهو) أي : السجع المسمى بالتشطير في الشعر هو (جعل كل من شطري البيت سجعة) أي : جعل كل شطر صاحب سجعة (مخالفة لأختها) أي : مخالفة للسجعة التي في الشطر الآخر ومن لازم ذلك أن يكون في كل شطر سجعتان متفقتان ضرورة أن السجع موافقة فاصلة لأخرى في الحرف ، فحيث حكم بأن السجعة في الشطر مخالفة لسجعة الشطر الآخر لزم برعاية شطر السجع أن في كل شطر سجعتين ليتحقق معنى السجع فيه ، فحينئذ تكون سجعتاه مخالفتين لسجعتي الآخر ، فالمراد بالسجعة الجنس الشامل لاثنين من الأفراد فأكثر ، وإنما قررناه على تقدير المضاف أي جعل كل من الشطرين صاحب سجعة لما علم أن السجعة إما توافق فاصلتين أو نفس الفاصلة وبكل تقدير لا يكون الشطر نفس السجعة الذي هو ظاهر العبارة بل هو ذو سجعة ، ويحتمل أن يكون لفظ سجعة منصوبا لا على إسقاط مضاف بل بوصف محذوف أي : جعل الشطر مسجوعا سجعة ويحتمل أن يكون أطلق السجعة على مجموع الشطر الذي وجدت فيه تجوزا من إطلاق الجزء على الكل فيصح الكلام بلا تقدير (كقوله) أي : ومثال ما يسمى من السجع تشطيرا قول أبي تمام يمدح المعتصم حين فتح عمورية (تدبير معتصم) (١) هذه سجعة (بالله منتقم) هذه أختها (لله مرتغب) هذه سجعة الشطر الثاني (في الله مرتقب) هذه أخت التي قبلها ، ولا يخفى أن سجعتي الشطر الأول بالميم وسجعتي الثاني بالباء فهذا تشطير ؛ لأنه جعل سجعتي الشطر الأول مخالفتين لأختيهما من الشطر الثاني وقد وجد السجع في البيت بلا سكون ، وبه يعلم أن العدول إلى السكون في السجع إنما هو عند الحاجة إليه

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٢٠) ، والمصباح ص (١٦٨) ، والإشارات ص (٣٠٢) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٦١) ، والعمدة لابن رشيق (٢ / ١٢٣).


وصف الممدوح في البيت بأنه ممن يعتصم بالله أي : يتحصن به تعالى ويتوكل عليه ، وينتقم ممن انتقم منه لله ، أي : لأجل أخذ حق الله من ذلك المنتقم منه ويرغب فيما عند الله ويرتقب من الله تعالى ثوابه ويرجوه أن يرفع عنه عذابه فهو خائف راج كما هو صفة المؤمنين.

الموازنة

(ومنه) أي ومن البديع اللفظي (الموازنة) أي النوع المسمى بالموازنة (وهي) أي : الموازنة (تساوي الفاصلتين) والمراد بالفاصلتين هنا ما يعم الفاصلتين في النثر فهما الكلمتان الأخيرتان فيما يعتبر مزاوجا لمقابله فيشمل الكلمتين الأخيرتين في الفقرتين والفقرتان من النثر جزما وهما المرادتان بالفاصلتين فيما تقدم ، وقد سبق أن ذلك الإطلاق هو الأكثر والأصل ويشمل الكلمتين الأخيرتين من المصراعين فعلم بهذا أن الموازنة تكون في النثر وفي النظم معا ؛ ويدل على ذلك الأمثلة الآتية (في الوزن دون التقفية) أي : الموازنة هي أن تتفق الفاصلتان في الوزن ولا يتفقا في القافية وقد تقدم أن المراد بالتقفية هنا حيثما أطلقت اتفاق مزدوجين في الحرف الأخير ولا يختص ذلك بالقافية الشعرية وذلك (نحو) قوله تعالى (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) (١) هذه فقرة (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (٢) هذه أخرى فالفاصلة في الفقرة الأولى مصفوفة وفي الثانية مبثوثة وهما متفقتان في الوزن الشعري دون التقفية ضرورة مخالفة الفاء في الأولى للثاء في الثانية ولا عبرة بهاء التأنيث في التقفية على ما تقرر ذلك في علم الشعر والتقفية هنا تابعة لذلك.

وقوله دون التقفية يحتمل أن يكون على ظاهره كما قررنا أي : يتفقان في الوزن ولا يتفقان في التقفية فيجب في الموازنة عدم الاتفاق في التقفية ، وعليه فالموازنة لا تصدق على نحو قوله تعالى (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ* وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٣) لوجود التوافق في التقفية وشرط في الموازنة عدم الاتفاق فيها وتباين اللوازم يقتضي تباين الملزومات

__________________

(١) الغاشية : ١٥.

(٢) الغاشية : ١٦.

(٣) الغاشية : ١٣ ، ١٤.


ويحتمل أن يكون الكلام على تقدير أي يشترط في الموازنة التوافق في الوزن دون اشتراط التوافق في التقفية وإذا لم يشترط فيه التوافق في التقفية جاز أن تكون مع التقفية وعدمها بشرط اتحاد الوزن وعليه فيكون بينها وبين السجع العموم من وجه ؛ لأنه شرط فيه اتحاد التقفية بلا شرط اتحاد الوزن فيصدقان في نحو سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ؛ لوجود الوزن والتقفية معا وينفرد السجع بنحو (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١) لوجود التقفية فيكون سجعا دون الوزن فلا يكون موازنة وتنفرد الموازنة بنحو ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة لوجود الوزن فيكون موازنة دون التقفية فلا يكون سجعا.

وأما ابن الأثير فإن صح ما نقل عنه كان السجع أخص مطلقا من الموازنة لأنه شرط في السجع التوافق في الوزن والتقفية وشرط في الموازنة التوافق في الوزن دون أن يشترط الحرف الأخير وهو التوافق في التقفية ، فالموازنة عنده هي ما يقع فيه التوافق في الوزن سواء كان ذلك مع التقفية أو لا فنحو (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ* وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) سجع وموازنة ونحو شديد وقريب إذا ختم بهما قرينتان لا يكون من السجع ؛ لعدم التقفية ويكون موازنة لوجود الوزن فقد ظهر على هذا أن السجع أخص ؛ لأنه شرط فيه ما في الموازنة وزيادة سواء خص بالنثر أو عم ولكن على هذا يلزم أن نحو (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ليس من السجع لعدم الوزن ولا من الموازنة لذلك أيضا فيخرج عن النوعين وهو غاية في البعد فلعل النقل في نسخة الناقل لم يحرر عن ابن الأثير فانظره والله أعلم.

ثم أشار إلى تفصيل في الموازنة نحو الذي تقدم في السجع فقال (فإن كان ما في إحدى القرينتين) من الألفاظ (أو) كان (أكثره) أي : ما في إحدى القرينتين من الألفاظ (مثل ما يقابله من) الألفاظ في القرينة (الأخرى) بمعنى أنا إن وجدنا جميع ما في القرينة مساويا لكل ما يقابله من الأخرى أو لم نجد الجميع مساويا بل وجدنا البعض وكان ذلك البعض أكثر والمساواة تعتبر (في الوزن) ولا يشترط وجود تلك المساواة في التقفية

__________________

(١) نوح : ١٣ ـ ١٤.


بناء على أن الموازنة تصدق على ما فيه التقفية كما تصدق على غيره (خص) هذا النوع من الموازنة وهو ما تساوى المتقابلات في قرينتيه أو جلها (باسم المماثلة) فقوله : خص جواب إن أي : إن كان ما في إحدى القرينتين مثل جميع المقابل أو مثل جله خص ما كان فيه ذلك باسم المماثلة فيقال هذه الموازنة مماثلة ، ثم الموازنة لا تختص بالنثر كما أشرنا إليه فيما تقدم بل تجري في الشعر خلافا لما توهمه بعضهم من اختصاصها بالنثر ؛ أخذا بظاهر قولهم هي تساوي الفاصلتين ؛ بناء على أن الفاصلتين يختصان بالنثر وقد تقدم أنهما قد يطلقان على ما في الشعر توسعا وخلافا لمن زعم اختصاصها بالشعر ، لأنه أنسب بوزنه باسم الموازنة ولما كانت توجد في القبيلين أعني الشعر والنثر أورد المصنف لهذا النوع منها مثالين مثال من النثر ومثال من الشعر فأشار إلى مثال النثر بقوله (نحو (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) (١) هذه قرينة (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) هذه مقابلتها فالكتاب من الأولى موازن للصراط من الثانية بخلاف آتيناهما وهديناهما فهذا مثال لما تساوى فيه الجل في الوزن ولم يوجد هنا التساوي في التقفية ومثال التساوي في الكل من النثر قوله تعالى ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ثم أشار إلى مثاله من النظم فقال (وقوله مها الوحش) (٣) أي : هي مها الوحش في سعة الأعين وسوادها وأهدابها وفي جمال أعضائها فالمها جمع مهاة وهي البقرة الوحشية (إلا أن هاتا) أي : لكن هؤلاء (أوانس) يأنس بهن العاشق دون الوحشيات فزدن في الفضل بهذا المعنى وهن أيضا (قنا الخط) في طول القد واستقامته والقنا جمع قناة وهي الرمح والخط موضع باليمامة ، وهو خط هجر تنسب إليه الرماح المستقيمة (إلا أن تلك) أي : تلك الرماح (ذوابل) جمع ذابل من الذبول ضد النعومة ففضلن الرماح بكونهن نواعم لا ذوابل ، فالنساء هؤلاء كمها الوحش وزدن بالأنس وكالقنا وزدن بالنضارة والنعومة ، فمها من المصراع الأول موازن للقنا من الثاني وأوانس من الأول موازن للذوابل من

__________________

(١) الصافات : ١١٧.

(٢) الصافات : ١١٨.

(٣) شرح عقود الجمان للمرشدي (٢ / ١٦٠) ، وهو لأبى تمام فى ديوانه ص (٢٢٦) ، والتبيان ص (١٧١).


الثاني وإلا أن فيهما متفق لكن هاتا في الأول وتلك في الثاني غير متوازنين فهذا مثال من الشعر لما تساوى فيه الجل ومثال ما تساوى فيه الكل قول أبي تمام :

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا

وأقدم لما لم يجد عنك مهربا (١)

لا شك أن كل لفظ من المصراع الأول موازن لما يقابله من المصراع الثاني والمعنى أن هذا الأسد لما لم يجد فيك لفوتك عليه طمعا في تناولك فأحجم ولما عرف أنه لا ينجو منك أقدم دهشا ، فإقدامه تسليم منه لنفسه لعلمه بعدم النجاة لا للشجاعة وهذا النوع وهو تساوي الكل هو الأحسن والتزمه في أكثر مديحه بعض الشعراء كأبي الفرج الرومي من شعراء العجم فجل مديحه على المماثلة واقتفى أثره في ذلك الأنورى قيل : إن أكثر شعر الفرس على نمطه.

القلب

(ومنه) أي : ومن البديع اللفظي (القلب) أي النوع المسمى بالقلب وهو أن يكون الكلام بحيث لو عكست قراءته الأولى بأن بدأت بحرفه الأخير ثم بما يليه ثم بما يلي ما يليه وهكذا إلى الحرف الأول كان الحاصل من ذلك العكس هو هذا الكلام بعينه ، وهذا القلب يجري في النظم والنثر (كقوله) أي : ومثاله في النظم قوله :

(مودته تدوم لكل هول

وهل كل مودته تدوم) (٢)

ولا شك أنك لو بدأت بالميم الأخيرة من البيت وقرأت منه البيت إلى أوله لوجدت الحاصل هو الموجود أولا لكن مع تبديل بعض الحركات والسكنات وتخفيف ما شدد أولا وتشديد ما خفف أولا وكل ذلك لا يضر في القلب ، فإن الضبط فيه لا عبرة بما كان منه أولا ؛ لأن التغيير في القلب جائز حتى في قصر الممدود ومد المقصور وحذف الألف وتصييره همزة وتصيير الهمزة ألفا فكل ذلك يصح معه القلب وهذا في القلب الذي يكون في مجموع البيت ويلزم من كونه يرجع بالقراءة من الأخير إلى ما

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٦٠) ، والإيضاح ص (٣٣٥).

(٢) البيت للقاضى الأرجانى ، فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٦٣).


قرأ أولا كون مقلوب الشطر الثاني نفس قالب الأول ، ومقلوب الأول هو نفس قالب الثاني ، ليلزم عود البيت كما كان أولا ، وقد يكون القلب في المصراع كقوله :

أرانا الإله هلالا أنارا (١)

فإنك إن صيرت الألف الأخيرة الحاصلة من الوقف همزة وصيرت المقطوعة في أنارا كالوصلية وصيرت الأولى كالوقفية ، وصير المقطوعة في الإله ألفا والألف في هلالا مقطوعة كالهمزة ؛ لأن ذلك جائز كما تقدم وبدلت بعض السكنات والحركات جاء القلب تاما (و) مثاله في النثر قوله تعالى في التنزيل (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)(٢) فإنك إن قرأته من الأخير وبدلت بعض الحركات وصيرت المشدد خفيفا والعكس لما تقدم أن المشدد في هذا الباب كالخفيف جاء القلب وكذلك قوله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) وهو ظاهر ، وقد يكون القلب في المفرد كلفظ سلس وهو بفتح اللام وكسرها فالأول مصدر والثاني وصف والفرق بين تجنيس القلب وبين القلب من وجهين أحدهما أن تجنيس القلب يجب أن يذكر فيه اللفظ الذي هو المقلوب مع مقابله ، والآخر أن تجنيس القلب لا يجب أن يكون أحد المتجانسين فيه نفس مقلوب الآخر إذا قرئ من آخره كالقمر والرقم فإن الجمع بينهما تجنيس القلب ولو قرأ أحدهما من آخره على الترتيب لم يكن نفس الآخر بخلاف القلب هنا فيذكر اللفظ المقلوب وحده وحيثما قرئ من آخره كان نفسه كسلس كما تقدم وهذا في المفرد وأما في المركب فقد يذكر المقلوبان معا كما في أرانا الإله هلالا أنارا وقد تقدم في قوله مودته تدوم لكل هول لكن تجنيس القلب أكثره في المفرد مع وجوب ذكر مجانسه بخلاف القلب ، وإذا جوزنا تجنيس القلب في المركب جاز أن يدعى تصادقهما في نحو أرانا الإله هلالا أنارا لوجود المتجانسين قلبا وكلما قرئ أحدهما من أخره صار نفس الآخر تأمله.

__________________

(١) البيت في شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٦٣).

(٢) يس : ٤٠.

(٣) المدثر : ٣.


التشريع

(ومنه) أي ومن البديع اللفظي (التشريع) أي : النوع المسمى بالتشريع قيل : إن تسميته بهذا لا تخلو من قلة أدب ؛ لأن أصل التشريع تقرير أحكام الشرع وهو وصف الباري أصالة ووصف رسوله نيابة ، فالأولى على هذا أن يسمى ببعض ما سمي بها من غير هذه التسمية ، فإنه يسمى التوشيح وذا القافيتين والتسمية الأخيرة أصرح في معناها والتوشيح في الأصل التزيين باللآلي ونحوها (وهو) أي التشريع الذي هو التوشيح وذو القافيتين (بناء البيت على قافيتين) أو أكثر بحيث (يصح المعنى) والوزن (عند الوقوف) أي مع الوقوف (على كل منهما) أي : كل من القافيتين اللتين بني البيت عليهما وأبلغه ما يكون في جميع القصيدة ، وإنما قلنا أو أكثر ليعلم أن البناء على أكثر يسمى التشريع أيضا ، وإن كان يلزم من البناء على أكثر وجود البناء على قافيتين إلا أنه حيث اقتصر على ذكر القافيتين ربما يتوهم اختصاص التشريع بهما وزدنا بعد قوله : يصح المعنى ، قولنا : والوزن تصريحا ، بما يفهم من قوله على قافيتين إذ البناء على القافية يستلزم صحة الوزن ضرورة أن القافية لا تسمى قافية إلا مع الوزن فعلى هذا لا يرد أنه بقى على المصنف ذكره لأنه مفهوم من ذكر القافية ، وإنما صرحنا نحن لزيادة الإيضاح فالتشريع حينئذ هو أن يبني الشاعر أبيات القصيدة جميعها أو بعضها على قافيتين بحيث يصح المعنى والوزن عند الوقوف على كل منهما على أن يكون الوزن مع خصوص كل من القافيتين من بحر غير بحر الأخرى ، أو من ضرب غير ضرب الأخرى مع كونهما من بحر واحد ، أو يبني الأبيات على قواف متعددة وإنما لم يذكره المصنف ولم يمثل له ؛ لأنه متكلف قليل الوجود ، والموجود كثيرا ، وعليه تبنى القصائد ما يكون من قافيتين (كقوله) أي : ومثال ما يبني على قافيتين قول الحريري :

(يا خاطب الدنيا الدنية إنها

شرك الردى وقرارة الأكدار) (١)

أي مقر الكدورات وبعده :

__________________

(١) الأبيات لأبى القاسم الحريرى فى المقامة الثالثة والعشرين كما فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٦٧) ، والمثل السائر (٣ / ٢١٧) ، والمصباح ص (١٧٦) ، والطراز (٢ / ٧٢) ، ومقامات الحريرى ص (١٩٢).


دار متى ما أضحكت من يومها

أبكت غدا بعدا لها من دار

غاراتها لا تنقضي وأسيرها

لا يفتدي بجلائل الأخطار

فقد جعل لهذه الأبيات وكذا سائر أبيات القصيدة قافيتين إحداهما صاحبة الروي الذي هو الدال فتكون الأبيات هكذا :

يا خاطب الدنيا الدني

ية إنها شرك الردى

دار متى ما أضحكت

من يومها أبكت غدا

غاراتها لا تنقضي

وأسيرها لا يفتدى

وعليها تكون الأبيات من الضرب الثامن من الكامل والأخرى صاحبة الروي الذي هو الراء وبها كمل البيت الذي استشهد به المصنف ، وعليها تكون الأبيات من الضرب الثاني من الكامل أيضا ، والقافية قيل : إنها هي الكلمة الأخيرة من البيت فتكون على الاعتبار الأول هي لفظ الردى في البيت الأول ولفظ غدا في الثاني ولفظ يفتدى في الثالث وتكون على الاعتبار الثاني هي الأكدار في البيت الأول ، ودار في الثاني والأخطار في الثالث ، وقيل : هي من الساكن الأخير في البيت إلى ساكن يليه مع الحرف الذي هو قبل الساكن الأول أو مع حركته ، فهو على الاعتبار الأول من الكاف في شرك الردى أو من حركته في البيت الأول إلى الأخير ومن الكاف أو من حركته في أبكت غدا في الثاني ومن الياء أو من حركته في يفتدي في الثالث ، وعلى اعتبار حركة ما قبل الساكن فلا مدخل لحرفها في القافية بخلاف اعتبار الحرف وعلى الاعتبار الثاني ظاهرة ، وبيان جميع ما قيل فيها وكذا بيان حقيقة الضربين موكول لفن آخر والعادة أن ما يحكي في فن من غيره يوكل بيانه لمكانه حتى إن التعرض له في المحكي فيه إذا لم تتوقف مسائل الفن على تصوير تفاصيله يعد من الفضول المنهي عنه ، وقد علم مما ذكر أن التشريع يكون بالقافيتين أو أكثر ، وقد تقدم أنه لم يعتبر ذا الأكثر ؛ لقلته وتكلفه ، قيل : ومن لطيف ذي القافيتين نوع يوجد كثيرا في الشعر الفارسي وهو الذي تكون فيه الألفاظ الباقية بعد القوافي الأول بحيث إذا جمعت كانت شعرا مستقيم المعنى


والوزن ولم يبين هل من شرطه أن يكون الباقي من مجموع ما اعتبرت فيه القافيتان شعرا جميعا حتى لا تفضل لفظة تكون حشوا ، أو يكفي في حسن ذلك وجود شعر من الباقي ولو بيتا ولم يشترط في المضموم كونه بإحدى قافيتي الأول ؛ وهو ظاهر لجواز أن يكون بقافية أخرى.

لزوم ما لا يلزم

(ومنه) أي : ومن البديع اللفظي (لزوم ما لا يلزم) أي : النوع المسمى بلزوم ما لا يلزم ويقال له الإلزام والتضمين ؛ لتضمينه قافيته ما لا يلزمها ، والإعنات أي : الإيقاع فيما فيه عنت بفتحتين أي : مشقة وشدة (وهو) أي لزوم ما لا يلزم المسمى بما ذكر (أن يجيء قبل حرف الروى أو) يجيء قبل (ما في معناه) أي : قبل ما في معنى الروي (من الفاصلة) بيان لما ، وأطلق الفاصلة على الحرف الذي هو في معنى الروي وهو الحرف الذي تختم به فاصلة من الفواصل وقوله (ما ليس بلازم في السجع) فاعل يجيء ، يعني أن لزوم ما لا يلزم هو أن تأتي بحرف قبل الروي أو ما يجري مجرى الروي من حرف الفاصلة بحرف لا يلزم ذلك الحرف في السجع ، بمعنى أن القوافي أو الفواصل لو جعلت ذوات أسجاع بأن حولت القوافي عن وزن الشعر وجعلت الفواصل مسجعة لا يلزم الإتيان بهذا الحرف المأتي به قبل ذلك الروي في القافية ، وقيل : ما ختمت به الفاصلة في النثر فعلى هذا لا يقال كان ينبغي أن يقول هو أن يؤتى بحرف لا يلزم في السجع الذي يكون في الفواصل ، ولا يلزم في القوافي التي في الشعر ليوافق قوله قبل حرف الروي أو ما في معناه وهو حرف السجع ، فكأنه يقول : الإتيان بهذين بما لا يلزم قبلهما ؛ لأنه ليس مراده بالسجع الفواصل وإنما مراده أن الفواصل التي هي أعم من السجعة وغيرها وكذا القوافي لزوم ما لا يلزم فيهما هو مجيء حرف آخر قبل ما ختمت هي به لا يلزم ذلك الحرف تلك القوافي ولا تلك الفواصل على تقدير جعلها أسجاعا ، وتحويلها إلى خصوص السجع ومعنى تحويلها إلى السجع جعل جنسها الشامل لغير السجع مخصوصا بالسجعة ، وهذا ولو كان فيه بعض التكلف أحق مما قيل كما سيظهر فمن أورد ما تقدم فلم يفهم مراد المصنف وإن كان ما يذكر هو المتبادر ؛ لأن


الفواصل والأسجاع من واد واحد فيبقى ذكر القوافي ويدل على أنه ليس مرادا أنه لو أراد ما ذكر لكان المناسب أن يقول : ما ليس بلازم فيهما بالإضمار ، والروي في البيت هو الحرف الأخير من القافية الذي تنسب إليه القصيدة ، فيقال هذه القصيدة رائية إن كان حرف قافيتها راء أو لامية إن كان لاما أو دالية إن كان دالا ، وهكذا جميع الحروف وهو مأخوذ إما من رويت الحبل إذا فتلته لأنه يجمع بين الأبيات كما أن الفتل يجمع بين قوى الحبل أي : طاقته وهي خيوطه المعدة لفتله ، والغالب أن يكون كل منها مجموعا من عدة خيوط ، وإما مأخوذ من رويت البعير إذا شددت عليه الرواء بكسر الراء وهو الحبل الذي يجمع بين الأحمال ، لجمع الحرف بين الأبيات أو من رويت إذا شربت حتى أذهبت العطش ؛ لأن الحرف إذا وجد في القصيدة على وجهه أغنى عن طلب غيره ، ولذلك كان الإتيان بآخر قبله من لزوم ما لا يلزم ثم المراد بالإتيان بحرف آخر قبل الروي أو قبل ما يجري مجراه أن يؤتى به في بيتين أو في فاصلتين فأكثر كما سيأتي في التمثيل ؛ لأنه لو لم يشترط وجوده في أكثر من بيت أو فاصلة لم يخل بيت أو فاصلة منه ؛ لأنه لا بد أن يؤتى قبل حرف الروي بحرف لا يلزم في السجع فقوله مثلا :

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (١)

قد جيء قبل الروي بالميم وهي حرف لا يلزم في السجع ، وعليه يكون البيت من هذا النوع وليس كذلك وإنما الإتيان المذكور من هذا النوع إن التزم في بيتين فأكثر أو في فاصلتين فأكثر واللزوم في السجع هو حرف واحد آخر تبنى عليه الفواصل ، ولا يشترط بناؤها على حرف آخر يلتزم فيها كما التزم هو فلزوم ما لا يلزم هو لزوم حرف آخر في بيتين أو في فاصلتين فأكثر قبل الأخير كما التزم ذلك الأخير وقد فهم من هذا أنه يجري في الشعر والنثر فهو في النثر (نحو) قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٢) فالراء في تقهر وتنهر بمنزلة الروي من القافية في التواطؤ على الختم به وهو كاف في باب السجع في الفواصل إذ لا يشترط فيه إلا

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة ، وديوانه ص (١١٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٢).

(٢) الضحى : ٩ ـ ١٠.


التواطؤ في الحرف الواحد وقد جاء قبل تلك الراء فيهما هاء فكان التزام الهاء في الفاصلتين من التزام ما لا يلزم فيهما ؛ لتحقق السجع بدون تلك الهاء ، كما لو ختمت فاصلتين بتقهر ويسخر فإنه سجع ولو اختلف الحرف الذي قبل الآخر (و) أما التزام ما لا يلزم في النظم فك (قوله : سأشكر عمرا) (١) يقال شكرته أي : شكرت نعمته ويقال شكرت له نعمة فهو يتعدى إلى النعمة بنفسه وإلى صاحبها باللام ، وقد يتعدى إلى صاحبها بتقديرها فكأنه هنا يقول سأشكر نعم عمرو (إن تراخت منيتي) أي : إذا تأخرت مدتي وطال عمري شكرت عمرا أي : أديت حق شكر نعمه بالمبالغة في إظهارها ، وفي الثناء عليه بها وخدمته عليها فالمراد بالشكر الموعود به أكمله بالمبالغة ، وإلا فقد شكرها بذكرها وحبه عليها وثنائه عليه بها (أيادي) جمع أيد والأيدي جمع يد وهي النعمة فهو جمع الجمع وهو بدل اشتمال من عمرو بتقدير الرابط أي : سأشكر عمرا أشكر أيادي له (لم تمنن) أي : لا يمنن عمرو بتلك الأيادي ولا يذكرها ممتنا بها (وإن هي جلت) أي : وإن عظمت ما عظمت ويحتمل أن يريد لم تقطع بل تسترسل منه من المن الذي هو القطع فالمعنى أشكر أيادي عمرو التي لم تمنن أي : لم تقطع ، أو لم انخلط بمن أي : بذكره لها على وجه المنة وإن عظمت ما عظمت فإنه لا يقطعها ولا يمن بها (فتى) أي : هو فتى من صفته أنه (غير محجوب الغنى عن صديقه) أي يصل غناه كل صديق له ، ولا يستقل به عن الأصدقاء (ولا مظهر الشكوى) أي : وهو غير مظهر الشكوى (إذا النعل زلت) أي : يتجمل بالصبر والتحمل إذا وقعت شدة ، أو نزلت محنة وشر ، يقال : زلت النعل إذا نزلت مصيبة فزللت النعل كناية عن الوقوع في الشدة ، وصفه بنهاية كمال المروءة وحسن الطبع ، وأنه لا يتضعضع للشدائد ولا يشكوها إلا لله تعالى وينزه أخلاءه عن مشاركته في الشدة ويؤثرهم حيث ترك التشكي لهم بخلوهم عن معاناة مضايقه ، وأنه إذا كان في الغنى لم يستأثر به على الأحباء بل يعمهم به ويكرمهم بالتمتع في لذائذه على طريقة قوله : إذا افتقر الحر لم ير فقره

__________________

(١) الأبيات لعبد الله بن الزبير فى ديوانه ص (١٤٢) ، وهما فى ديوان إبراهيم بن العباس الصولى فى الطرائف الأدبية (١٣٠) ، وفي التبيان للطيبى (١ / ١٤٧) ، وشرح عقود الجمان (١ / ٥٢) ونسبهم إلى أبى الأسود الدؤلى.


وإن أيسر الحر أيسر صاحبه (رأى خلتي) بفتح الخاء أي : فاقتي وحاجتي (من حيث يخفى مكانها) ورؤية الخلة : رؤية آثارها ، أو المراد العلم بها وكونه يراها مع أن صاحبها يخفي مكانها بالتجميل وإظهار آثار الغنى يدل على شدة الاهتمام بأمر الأصحاب حتى يطلع على أسرارهم في ضررهم قصدا لرفعتهم (ف) لما رأى خلتي (كانت قذى عينيه) أي كالقذى في عينيه وهو العود الواقع في العين وهو أعظم ما يهتم بإزالته ؛ لأنه واقع في أشرف الأعضاء (حتى تجلت) أي : لم تزل الفاقة كالقذى لديه حتى أجلاها أي : أذهبها ، فتجلت أي : ذهبت ، فقد وصفه بنهاية المروءة حتى إن فاقة أصحابه لديه بمنزلة العود الواقع في أشرف أعضائه حتى يزيلها ويكشفها فتكشفت بإصلاحها بالأيادي النافية لها ، وفي هذا الكلام من القوة ما لا يخفى بحرف الروي هو التاء وقد جيء قبله بلام مشددة مفتوحة في هذه الأبيات ، والإتيان بها ليس بلازم في السجع فكان من التزام ما لا يلزم ، فإنك لو ختمت قرائن فتجلت ، ومدت ، وحقت ، وانشقت ونحوها كان توافق فواصلها في التاء سجعا وإن اختلفت فيما قبلها ومن أمثلة التزام ما لا يلتزم في الشعر قوله :

يقولون في البستان للعين راحة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن (١)

إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن

ثم التزام ما لا يلزم إما في الحرف والحركة معا ـ كالمثالين ـ وإما في الحرف فقط كما لو ختمت بيتا بتمر وآخر بنمر وإما في الحركة فقط بأن تكون متحدة مع اختلاف الحرف كقوله :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد (٢)

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد

__________________

(١) البيتان للمعرى ، فى الإيضاح ص (٢٣٦).

(٢) البيتان لابن الرومى.


ولما فرغ مما قصد الإتيان به من البديع اللفظي أشار إلى نكتة تصحح الحسن بهذا البديع فقال (وأصل الحسن في ذلك كله) أي : الأمر الذي لا بد أن يحصل ليحصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية كما يقال أصل الجود الغنى ، أي : الأمر الذي لا بد أن يحصل ليحصل الجود ، وإطلاق الأصل على شرط الشيء صحيح لتوقف المشروط على الشرط كتوقف الفرع على الأصل (أن تكون الألفاظ) أي : الأصل في ثبوت الحسن بما ذكر هو أن تكون الألفاظ (تابعة للمعاني) ، وذلك أنه إذا كان المقصود بالذات الحسن المعنوي أي إفادة معنى يطابق فيه اللفظ مقتضى الحال ، ويكون فيه فصيحا فحينئذ يكون الإتيان بالمحسنات اللفظية مقبولا (دون العكس) أي : دون أن يكون الحسن اللفظي أي البديع اللفظي هو الأصل ويكون الحسن المعنوي تابعا له ؛ لأنه إذا اختل موجب البلاغة بطل التحسين اللفظي ، فهذا الكلام تذكرة لما تقدم من أن وجوه البديع إنما تعتبر بعد وجود البلاغة التي لها تعلق بالمعنى ، وبالحسن الذاتي ، وعليه يقال ينبغي أن لا تخص المحسنات اللفظية بالذكر ، بل وكذلك البديع المعنوي إنما يعتبران وجد الحسن الذاتي المتعلق بالمعنى الأصلي ؛ ولكن لما كان الغلط في التعلق بالمحسنات اللفظية أكثر نبه عليه دون المعنوية هذا إن جعلنا الإشارة لأقرب مذكور ، وهو المحسن اللفظي ، ويحتمل أن تكون لمطلق البديع فلا يرد ما ذكر ، ويلزم من كون المقصود بالذات المعنى ، وقصد إفادة ما يطابق الحال كون الألفاظ غير متكلفة بل تأتي بها المعاني حيث تركت على سجيتها التي تنبغي لها من المطابقة ؛ لأن ما لا يقصد بالذات لا تكلف فيه ، وإذا لم تتكلف جاء الكلام حسنا وتبعا ؛ لأن مقتضى الحال طلب حسنا ذاتيا فاعتبر في اللفظ بالأهمية فتكمل كما ينبغي فإذا جاء حسن زائد على الذاتي وهو البديعي صار ذلك الحسن البديعي تابعا للذاتي فيبقى كل منهما على سجيته وأصله ، ولم يتحول الكلام بالنسبة لأحدهما فحسن ويلزم من جعل الحسن اللفظي أو البديعي مطلقا هو المقصود بالذات كون الألفاظ متكلفة مطلوبة ويتحقق في ضمن ذلك الإخلال بما يطلب للمعاني فتكون تلك المطالب غير مرعية في تلك المعاني ، إذ القصد بالذات تلك الألفاظ البديعية وإيجادها لا الحسن المعنوي فربما لم تخل الألفاظ حينئذ من خفاء الدلالة حيث تكون


كناية أو مجازا أو من ركاكة حيث تكون حقيقة بألا يراعى فيها الاعتبار المناسب ، فتصير الألفاظ البديعية في تلك المعاني كغمد من ذهب ركب على سيف من خشب ، وقلائد الدر في أعناق الخنازير.

وإذا كان الواجب هو أن يكون المقصود بالذات الإتيان بألفاظ تطابق في دلالتها مقتضى الحال وتفيد معنى يناسب الواقعة الفعلية الخارجية ، فلا يشك أن الأحوال التي تساق لها المعنى لا تنضبط لكثرتها فبرعاية المعاني التي تناسب الوقائع على تفاصيلها فيه تظهر البلاغة والقوة ، والبراعة ، ويتبين الكامل من القاصر ، ولهذا يكون الإنسان له قدرة على إيجاد ألفاظ لمعان تحسن تلك الألفاظ في تلك المعاني بعد إيجادها فيها ، وفي أحوال تناسبها ، ولكن تلك الأحوال لم تقع بعد بل هي أمور فرضية فتصير رعاية الحال تابعة للحسن اللفظي لأن الحال المناسبة اجتلبت بعد الحسن اللفظي ، والواجب كون الحسن اللفظي تابعا لرعاية الحال الواقعة ، ومع ذلك لا تكون له قوة على إيجاد ألفاظ لمعان تطابق الحال الحاضرة ، والحالة الراهنة ، ولهذا لما رتب الحريري في ديوان الإنشاء أي : كلف إنشاء معان بألفاظ تطابق بتلك المعاني المدلولة مقتضى الحال وتكون مع ذلك مع بديعياتها عجز وقد كانت له قوة وكمال في إنشاء ألفاظ لمعان مع بديعاتها تناسب أحوال مقدرة تجتلب كما أراد فقال فيه ابن الخشاب حينئذ : الحريري رجل المقامات أي : رجل له قدرة على المعانى المستحسنة المطابقة للتقدير لا المعانى المطابقة للواقع لأن المقامات حكايات تقديرية فإذا رام إيجاد البديعيات مع المناسبة البلاغية تأتت له بفرض المستحيلات وفرض ما لم يقع وبين هذا وبين ما إذا أمر أن يكتب في قضية عينية واقعة ما يناسبها بون بعيد فإن هذا أخص يلزم من القدرة عليه القدرة على الأول دون العكس ؛ لأن الأول من كتابة ما يريد الإنسان ويخترعه وهو سهل التناول بالتجربة ، والثاني من كتابة ما يؤمر به وهو صعب إلا على الأقوياء ، ولهذا استحسن ما قيل في الترجيح بين الصاحب والصابي أن الصاحب يكتب كما يريد بتقديره والصابي يكتب كما يؤمر وقد عرفت أن بين الحالين بونا بعيدا ألا ترى إلى الصاحب ، فإنه طلب أن يجانس بين قم ـ الذي هو فعل أمر ـ وقم ـ الذي هو اسم


مدينة ـ فلما لم يتيسر له معنى مطابق لمقتضى الحال واقع في نفس الأمر يكون اللفظ فيه بليغا أنشأ العزل بلا سبب لقاضي تلك البلدة فكتب إليه أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم ففطن القاضي بأنه لا غرض في المعنى وأنه لا يناسب حاله وحال الملك فصار الكلام فيه كالهزل فقال القاضي والله ما عزلني إلا هذه السجعة فإن قلت عند تقدير الحال نظير الحاضرة فإنشاء ما يطابقها كإنشاء ما يطابق الحاضرة فلا فرق بين الحالين قلت : هناك اعتباران أحدهما : أن يفرض الحال أولا فكأنه يقول : كيف تخاطب من وقع له كذا؟ فلا شك أن من له قوة على الأحوال التقديرية على هذا الوجه عموما تكون له في الوقائع الحاضرة غالبا ، والآخر إيجاد اللفظ ثم يفرض له ما يطابق ولو لم يقع ، وهذا هو الأسهل كما وقع للملك مع القاضي ، وبهذا يعلم أن الحريري لا ينبغي أن يقال إن عجزه لما ذكر بل الغالب أن ذلك لحياء عرض أو نحو ذلك وإلا فالأقرب أنه إنما كان يأتي بما يناسب بعض التقدير الذي هو بمنزلة الإتيان للحالة الراهنة فافهم.


خاتمة

أي : هذه خاتمة للفن الثالث وليست خاتمة لما ذكر في الكتاب الشامل للفنون الثلاثة إذ لا يرجع معناها إلى ما تشترك فيه الفنون الثلاثة أو ينفع فيها حتى تكون خاتمة لمجموع ما في الكتاب وسنقرر ذلك قريبا ثم بين موضوع هذه الخاتمة بذكر ما يبحث عنه فيها بقوله (في السرقات الشعرية) أي : هذه الخاتمة يبحث فيها عن السرقات الشعرية ببيان كيفية ذلك وبيان المقبول من ذلك وغيره فصار المبحوث عنه فيها متوهم الظرفية لها فهي في السرقات الشعرية (و) في (ما يتصل بها) أي : بالسرقات الشعرية كالاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح ، وستأتي معاني هذه الألقاب ، ووجه اتصال هذه بالسرقات كون كل من القبيلين فيه إدخال معنى كلام سابق في لاحق (و) هي أيضا في (غير ذلك) أي يذكر في الخاتمة ما ذكر من السرقات وما يتصل بها ، ويذكر فيها غيرهما مما فيه حسن غير ذاتي مثلهما وذلك كالقول في الابتداء والتخلص منه إلى غرض آخر ، وكالقول في الانتهاء ، وذلك ببيان أن هذه المواطن ينبغي أن يعتني بها ، ويزداد الكلام بها حسنا وإنما جمع هذه الأشياء في الخاتمة ، ولم يجعلها بابا من البديع أو يجعل كل واحد منها بابا على حدة لوجهين أحدهما أن كلا منهما ليس أمرا يعم كل كلام ويغلب مكان جريانه في كل موطن أما في السرقات فظاهر لخروج النثر ، وكذا فيما يتصل بها لاختصاصها بالأخذ عن الغير ، وأما في الابتداء والانتهاء والتخلص فلخروج ما ليس في تلك المحال وهذا الوجه بعينه يمكن أن يجعل هو السر في جمعها لاشتراكها فيه ، والوجه الثاني أن الحسن فيها دون الحسن في غيرها مع سهولة التناول فلم تجعل بابا لقلة الاهتمام بشأنها ويسرها باعتبار غيرها وإن كان الناس يهتمون بأمورها أما في السرقات فلما علم من أن الابتداع أرفع وأصعب من الاتباع وإن كان فيه تغيير ما وكذا فيما يتصل بها ، وأما في الابتداء وما والاه فلما علم من أن رعاية تمام الحسن في جميع أجزاء الكلام أعلى وأصعب ويمكن جعل هذا أيضا هو السر في جمعها ، وإنما جعلت هذه الخاتمة المشتملة على ما ذكر من هذا الفن الأخير دون مجموع ما في الكتاب كما جعلها بعضهم لوجهين أحدهما : أن المصنف ـ وهو من أرباب الفن ومما


يقتضي به في مداركه ـ جعلها في الإيضاح من هذا الفن حيث قال في آخر المحسنات اللفظية هذا ما تيسر لي بإذن الله تعالى جمعه ، وتحريره من أصول الفن ، يعني : من مسائل هذا الفن الثالث وبقيت أشياء يعني : مما تعد منه يذكرها بعض المصنفين في علم البديع وهو أي : ما يذكره بعض المصنفين قسمان أحدهما ما يجب ترك التعرض له أي : ترك عده من هذا الفن وإن ذكره ذلك البعض ووجوب ترك التعرض له إما لكونه غير راجع إلى تحسين الكلام أصلا ، وإنما يعد من هذا الفن ما يرجع لتحسين الكلام حسنا غير ذاتي ، وهذا قسمان ؛ لأنه إما راجع إلى تحسين الخط على تقدير كونه فيه حسن كما تقدم في جناس الخط كما في ما بين يشفين ويسقين ، ويجري مجرى هذا أن يؤتى بقصيدة أو رسالة حروفها كلها منقوطة أو كلها غير منقوطة ، أو حرف بنقط وحرف بدونه ، أو كلمة بنقط كل حروفها وأخرى بدون ... ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن هذا يرجع إلى الشكل المرئي لا المسموع والحسن المسموح هو المعتبر ، ومع ذلك لا يتعلق به غرض البلغاء غالبا ، والثاني من قسمي هذا القسم ما لا يسلم كونه حسنا أصلا بل المعتبرون من الفصحاء جازمون بإخراجه عن معنى الحسن كموالاة كلمة لمثلها على غرضين ؛ كأن تقول جاءني غلام زيد زيد حقيق بالإحسان وكذكر موصوف ثم تذكر له أوصافا عديدة كأن يقال جاءني زيد تاجرا عاقلا كبير السن عالما بالفقه فهذا مما يجزم بأنه لا يعد من المحسنات ، وإما لكونه راجعا إلى تحسين الكلام لكن ذكر فيما تقدم من الإطناب والإيجاز والمساواة فقد تقدم أن بعض تلك الأشياء قد يكون من المحسنات عند كونها لم يعتبر فيها مطابقتها المقضي الحال فذكرها هنا خلو عن الفائدة لتقدم صورتها هنالك نعم ، لو ذكرت فيها هذه النكتة وأنها يصح أن تكون من البابين بالاعتبارين حسن ؛ لكن لا يختص ذلك بها وإما ذكرها على أنها من هذا الفن جزما فهو خلو عن الفائدة والثاني مما يذكر في هذا الفن مما بقي ما لا بأس بذكره منه لاشتماله على فائدة مع عدم دخوله فيما سبق مثل القول في السرقات الشعرية ، وما يتصل بها هذا كلام المصنف مع زيادات تتعلق بمعنى كلامه وهو يدل على أن هذه الأشياء من هذا الفن لقوله بقيت أشياء منه ، ولا يضر ذلك بحثه في بعضها وإسقاطها منه ؛ لأن كلامه يقتضي


تسليمه كون هذه الأشياء المضمومة للخاتمة منه وهذا الوجه كاف أعني كون المصنف عدها منه ؛ لأنه من أهل الفن المقتضى بهم في مداركه كما ذكرنا ، والوجه الثاني مما يدل على أنها منه ما أشار إليه بقوله غير راجع إلى تحسين الكلام وهو أن هذه الأمور ترجع كما أشرنا إليه أولا إلى حسن غير ذاتي وكل ما فيه حسن غير ذاتي فهو داخل في حد هذا الفن الثالث ، ثم مهد لبيان السرقات وما يقبل منها قوله : (اتفاق القائلين) هو بصيغة التثنية ، لا بصيغة الجمع ، يعني أنه إذا قال قائلان قولا ، وإنما أعربناه مثنى ؛ لأن ذلك يكفي ولا حاجة لزيادة قائل على اثنين في المراد ؛ لأن الغرض هو النظر فيما بين كل اثنين باتفاقهما (إن كان في الغرض) الكائن (على) وجه (العموم) بأن يكون ذلك الغرض مما يتناوله ويقصده كل أحد (كالوصف بالشجاعة و) كالوصف ب (السخاء) وحسن الوجه وبهائه ، ونحو ذلك كاعتدال القامة وسعة العين (فلا يعد) الاتفاق على هذا الوجه (سرقة) إذا نظر فيه باعتبار شخصين تقدم أحدهما وتأخر الآخر ، وكما لا يعد ذلك الاتفاق سرقة لا يعد استعانة بأن يعتقد أن الثاني منهما استعان بالأول في التوسل إليه ، ولا أخذا بأن يدعى أن أحدهما أخذه من الآخر ولا نحو مما يؤدي هذا المعنى كالانتهاب والإغارة والغصب والمسخ وما أشبه ذلك مما يأتي من الألقاب وإنما قلنا إن هذه الألقاب تؤدي المعنى الواحد لأنها كلها تشترك في الاستناد إلى الغير في التوصل وإنما اختلفت معانيها باعتبار العوارض على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وإنما لم يعد الاتفاق في الغرض على العموم من السرقة وما يرجع إليها (ل) أجل (تقرره) أي تقرر ذلك الغرض العام (في العقول) جميعا (و) في (العادات) جميعا فلم يخص ابتداعه بعقل مخصوص حتى يكون غيره آخذا له منه ولا بعادة وزمان حتى يكون أرباب ذلك الزمان مأخوذا منهم وعموم العقول يستلزم عموم العادات والعكس ، فالجمع بينهما تأكيد ، ولما استوت فيه العقول والعادات اشترك فيه الفصيح والأعجم وهو ضد الفصيح هنا ، واستوى فيه الشاعر ، والمفحم بفتح الحاء وهو ضد الشاعر أي الذي لا قدرة له على الشعر فلا يكون فيه أحد العقلاء أغلب لتساويهم فيه ، ولا أقدم ينقل عنه لعدم


اختصاصه به دون من قبله ، وبعده ثم الاتفاق في نفس الغرض على العموم يتضمن شيئين :

أحدهما : كون الاتفاق في الغرض لا في الدلالة عليه بل الدلالة عليه من الجهة المعهودة للاتحاد ، وهي الدلالة بالحقيقة.

وثانيهما : كون الغرض عام الإدراك فيخرج به الغرض الخاص أي : المعنى الدقيق الذي لا يستخرجه إلا الأذكياء وإن كانت الدلالة عليه بالحقيقة لا بالمجاز كما في نحو حسن التعليل فإن قوله :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

معنى لطيف مدلول عليه بالحقيقة ، ومن المعلوم أن الأغراض ، أي : المعاني الدقيقة مما يتفاوت الناس في إدراكها ، فيمكن أن يدعى فيها السبق أي : الغلبة أو التقدم والزيادة وعدم ذلك ، ولكن هذا المعنى لم يتعرض له المصنف هنا ؛ لأنه معلوم لا تفصيل فيه ، وإنما تعرض لمفهوم الاتفاق في نفس الغرض ، وهو اتفاق في الدلالة على الغرض لما فيه من التفصيل ، وإليه أشار بقوله (وإن كان) أي : الاتفاق القائلين لا في نفس الغرض ، بل (فى وجه الدلالة) أي : طريق الدلالة على ذلك الغرض بأن يكون أحد القائلين دل على الغرض بالحقيقة (كالتشبيه) بالنسبة لإثبات الغرض الذي هو ثبوت وجه الشبه ، أو فائدته ، والآخر كذلك أو دل عليه أحدهما بالتجوز أو الكناية ، والآخر كذلك ، ثم عطف على قوله كالتشبيه قوله (وكذكر هيئات) أي : ذكر أوصاف (تدل على الصفة) التي هي الغرض (ل) أجل (اختصاصها) أي : اختصاص تلك الهيئات (بمن) أي بموصوف (هي) أي : تلك الصفة التي هي الغرض (له) أي لذلك الموصوف ؛ فيلزم أن تكون تلك الهيئات مستلزمة للصفة التي هي الغرض ، والانتقال من الملزوم إلى اللازم كناية ؛ فعلم أن ذكر الهيئات داخل فيما يقابل الحقيقة الممثل لها بالتشبيه ، وذلك المقابل هو مطلق التجوز الشامل للكناية ، ثم مثل لذكر الهيئات ؛ لينتقل منها إلى الغرض فقال (كوصف الجواد) أي ذات الجواد ، لا من حيث ما يشعر بالجود (بالتهلل) أي : بكون الوجه فرحا مسرورا (عند ورود العفاة) جمع عاف وهو السائل ، فإن هذه الهيئات ـ


أعني ـ كون الإنسان متهلل الوجه ، وكون ذلك التهلل بسبب ، وكون ذلك السبب هو ورود السائلين ينتقل منها إلى الوصف بالجود ، فالوصف بالهيئات لذات الجواد ؛ لينتقل منه إلى وصفه بالجود لا بما يشعر بالجود حتى يكون الانتقال غير مفيد ، ويجري مجرى ذلك ذكر الهيئة الواحدة وإنما جمعها باعتبار كون الجمع أظهر ، كما في مضمون المثال ، أو باعتبار الوقائع.

(و) كوصف (البخيل بالعبوس) وهو تلون الوجه تلونا يدل على الاغتمام عند ورود العفاة (مع سعة ذات اليد) أي : وصفه بالعبوس لأجل ذلك في وقت وجود سعة ذات اليد ، أي : الغنى وكثرة المال فإن ذكر هذه الهيئات ، أعنى : كونه عبوسا ، وكون ذلك عند ورود العفاة ، وكون ذلك عند سعة اليد يدل على البخل فهذا من الدلالة الكنائية أيضا ، وإنما قيد بوجود سعة ذات اليد ؛ لأن العبوس عند ذلك هو الدال على البخل ، وأما العبوس عند الفقر فهو يدل على الجود ؛ لأن عبوسه يدل على تأسفه على ما فات من مراتب السخاء بعدم وجدان المال ، وأما البخيل فهو يرتاح لذلك العذر ويطمئن به ، فلا يتصور منه العبوس إذا كان الاختلاف في وجه الدلالة من حقيقة كتشبيه أو تجوز ككناية أو مجاز استعارة أو إرسال (ف) حينئذ (إن اشترك الناس في معرفته) أي : في معرفة وجه الدلالة (لاستقراره) أي : ذلك الوجه (فيهما) أي في نفوس الناس ، وفي عقولهم وعاداتهم ، لشيوعه قديما وحديثا حتى صار شيئا تداولته الخاصة والعامة وذلك (كتشبيه) الرجل (الشجاع بالأسد) أي : في الشجاعة (و) تشبيه الرجل (الجواد بالبحر) في الكرم (فهو) أي : فذلك الوجه المتفق عليه العام الإدراك (كالأول) أي كالاتفاق في نفس الغرض العام في أنه لا يعد سرقة ولا أخذا ولا نحو ذلك لتساوي الناس فيه كالأول وقد علم من هذا أن الاتفاق الذي يحصل فيه التفاوت أو عدمه يكون في نفس الوجه كالتشبيه كما ذكر أو كالمجاز المخصوص أو الكناية ولا يراعى عند اختلاف الوجه إلا جهة المعنى كأن يقع فيه التشبيه لشخص ويقع فيه التجوز لآخر فيكون قسما آخر اختلف فيه الوجه واتفق المعنى فهو إما عام أو خاص والأمور المعتبرة هنا ثلاثة : الاتفاق في المعنى مع اتحاد الوجه ، والاتفاق في المعنى مع الاختلاف في الوجه ،


والاتفاق في الوجه مع اختلاف المعنى ، لكن على وجه التشابه كتشبيه الميت المصبوغ بالدم باللابس ثم تشبيه السيف اليابس عليه الدم بالمغمد فهذه يمكن فيها التفاوت وأما الاختلاف في الوجه والمعنى أو في المعنى فقط لا على وجه التشابه كتشبيه إنسان بالرمح ثم تشبيه الآخر بالادرة (١) فيه فلا يكون من هذا القبيل (وإلا) يشترك الناس في معرفة الوجه المعبر به عن المعنى (جاز أن يدعي في) أي : أن يدعي في هذا الوجه من الدلالة بأن يكون مجازا مخصوصا أو كناية أو تشبيها على وجه لطيف (السبق) أي : إذا كان غريبا أمكن ادعاء السبق أي : غلبة أحد الآتيين به الآخر بأن يكون أكمل منه وأفضل (والزيادة) أي : وزيادة أحدهما على الآخر فيه بالغلبة والآخر أنقص منه ويحتمل أن يراد بالسبق التقدم أي يجوز حينئذ أن يدعي أن أحدهما أقدم والآخر أخذه من ذلك الأقدم (وهو) أي : ما لا يشترك الناس في معرفته من وجه الدلالة على الغرض كالدلالة بالتشبيه والدلالة بالتجوز الخاص (ضربان) أي : نوعان أحدهما (خاصي في نفسه غريب) لا يدركه من ذاته إلا الأذكياء كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل وكالتجوز بإطلاق الاحتباء على ضم العنان الذي في فم الفرس لقربوسه كما تقدم فنحو ذلك غريب لا يدرك إلا بفكر (و) الآخر (عامي) يدركه كل أحد في أصله لكن (تصرفه فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مر) في تشبيه الوجه البهي بالشمس في قوله :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس في حياء (٢)

فإن تشبيه الوجه البهي بالشمس مبتذل عامي لكن أضاف إلى ذلك كون عدم الحياء من الشمس هو الذي أوجب لها ادعاء المقابلة لهذا الوجه فخرج بذلك عن الابتذال وقد تقدم بسطه وكما في التجوز في إطلاق السيلان على سير الإبل فإنه مبتذل ولكن تصرف فيه بإسناده إلى الأباطح ، وإدخال الأعناق فيه فخرج بذلك عن الابتذال وقد تقدم أيضا بسطه ، ونحو هذا التقسيم سبق في التشبيه والاستعارة أن منهما الغريب الذي للخاصة والمبتذل العامي الباقي على ابتذاله والمتصرف فيه بما أخرجه عن الابتذال

__________________

(١) كذا بالأصل المطبوع ، ولعل الصواب (بالدّرة) وهى العصا ، والله أعلم.

(٢) البيت للمتنبي فى ديوانه (١ / ١٧٤).


كالمثالين فإن قلت التفاوت في الوجه إن كان غير حقيقة ظاهر ، وأما إن كان حقيقة وهو التشبيه فلا غرابة فيه إلا من جهة المعنى فلا يدخل في الغرابة من جهة وجه الدلالة لأن المعنى إن كان غريبا فذاك وإلا أمكن التشبيه من كل أحد بلا تكلف فلا تفاوت فكيف عد التشبيه من هذا القسم؟! قلت يقع في التفاوت من جهة إدراك صلاحية المعنى له أولا وأيضا الدلالة على التشبيه قد تكون بتصرف في الألفاظ وتعتبر الحالة المعهودة للتشبيه كما تقدم في قوله : (لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا) إلخ فيقع فيها التفاوت نعم حسن الدلالة لا ينفك عن غرابة المعنى لا في الحقيقة ولا في المجاز تأمل وذلك كاف في ادعاء السبق والزيادة.

ولما ذكر ما لا يعد من باب السرقة أشار إلى تقسيم ما هو من بابها سواء كان منها لكونه دقيقا غير عام الإدراك مع كون وجه الدلالة فيه متحدا بكونه حقيقة أو كان منها لكونه وجه الدلالة التي ليست بشائعة لا من جهة كونه معنى غريبا كما تقدم أن ما عد من السرقة قسمان فقال وإذا ميزت بين ما يكون من السرقة ومالا.

نوعا الأخذ والسرقة

(فالأخذ والسرقة) أي : الأخذ الذي هو السرقة في الجملة من أي قسم هو أعنى سواء كان من قسم وجه الدلالة أو من قسم دقة المعنى فقط (نوعان) أي ينقسم أولا إلى نوعين :

الأخذ الظاهر

(ظاهر) بأن يكون لو عرض الكلامان على أي عقل حكم بأن أحدهما أصله الآخر بشرطه المعلوم (وغير ظاهر) بأن يكون بين الكلامين تغيير محوج في كون أحدهما أصله الآخر إلى تأمل.

(أما) الأخذ (الظاهر) من النوعين (ف) هو (أن يؤخذ المعنى كله) مع ظهور أن أحدهما مع الآخر وإنما زدنا هذا القيد ؛ لأن غير الظاهر فيه المعنى أيضا إلا أنه مع خفاء والذوق السليم يميز ذلك في الأمثلة وهو حينئذ ثلاثة أقسام لأن أخذ المعنى كله (إما) أن يكون (مع) أخذ (اللفظ كله أو) يكون مع (أخذ بعضه) أي : أخذ بعض اللفظ وترك


البعض (أو) يكون مع أخذ المعنى (وحده) بدون أخذ شيء من اللفظ أصلا بل يبدل جميع الكلام بتركيب آخر ولا يدخل في هذا تبديل الكلمات المرادفة بما يرادفها مع بقاء النظم ؛ لأنه كما سيأتي في حكم أخذ اللفظ كله ، فالمراد بأخذ المعنى وحده تحويله إلى صورة أخرى تركيبا وإفرادا كما سيأتي في الأمثلة ، ولا ضرر في المعية الكائنة في قولنا أخذ المعنى كله مع أخذه وحده ؛ لأن الصحبة بين المعنى كله ووحدته لا بين المعنى كله وبين نفسه وهو ظاهر.

ثم أشار إلى بيان قبيح هذا القسم أعني الظاهر وإلى بيان غير قبيحه فقال (فإن أخذ) الأخذ للمعنى كله (اللفظ كله من غير تغيير لنظمه) أي لكيفية الترتيب والتأليف الواقع بين اللفظيين أي : بين اللفظ المأخوذ واللفظ المأخوذ منه وذلك بأن يكون كل من اللفظ المأخوذ والمأخوذ منه متحدا نوعا وعدم تغييره هو اتحاده نوعا من كل وجه وإنما اختلف شخصه فإن بينهما ترتيبا وتأليفا متعددا شخصا باعتبار اللافظين وليس مرادنا باللفظين ما وقع فيه التركيب الأول ؛ لأنه لا يتعين أن يكون لفظين ، ولا ثلاثة حتى يثنى ، أو يجمع (فهو مذموم) أي : أن أخذ جميع اللفظ بلا تغيير فذلك الأخذ مذموم (لأنه سرقة محضة) أي : غير مشوبة بشيء آخر ليس للمسروق منه فإن السرقة المحضة أشد في الحرمة من السرقة المشوبة بشيء من غير مال المسروق منه (ويسمى) هذا الأخذ المذموم (نسخا) ؛ لأنه نسخ كلام الغير ونسبه لنفسه وذلك (كما) أي : كالأخذ الذي (حكى عن عبد الله بن الزبير) وهو الشاعر المعلوم وليس المراد به عبد الله بن الزبير بن العوام الصحابي المعلوم ، وإنما المراد به شخص آخر كان قدم على عبد الله بن الزبير الصحابي المعروف فلما حرمه من العطاء قال ابن الزبير أعني هذا المذكور هنا للسيد عبد الله بن الزبير لعن الله ناقة حملتني إليك فقال له السيد عبد الله بن الزبير الصحابي إن وراكبها (أنه فعل ذلك) أي الأخذ الذي روي أن الإنسان المذكور فعله أي : أوقعه (بقول معن بن أوس) وهو قوله (إذا أنت لم تنصف أخاك) (١) أي إذا لم تعطه النصفة بفتح النون والصاد وهي اسم مصدر للإتصاف الذي هو العدل وتوفية الحق ومعنى

__________________

(١) البيتان إنشاد عبد الله بن الزبير ، وإنشاد ابن أوس فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧٨) ، والإشارات ص (٣٠٦).


إعطاء النصفة أي : العدل إيقاعه (وجدته) أي : إذا لم تنصفه وجدته (على طرف الهجران) أي على طرف الذي هو الهجران ، فالإضافة بيانية ، وكون الهجران طرفا باعتبار أنه مكان خارج ، وطرف عن المكان الأوسط الذي هو المواصلة ويحتمل أن تكون الإضافة على أصلها بأن يجعل للهجران طرفان ، والمقام يقتضي أن الذي يكون عليه المظلوم هو الأبعد ، والخطب في ذلك سهل ، وكثيرا ما نتعرض لأمثال هذه المباحث ؛ لأن بعض النفوس يصعب عليها الوقوف على حقيقتها (إن كان يعقل) أي : إذا لم تنصفه وجدته مهاجرا لك مبتدلا بك غيرك رافضا لصحبتك إن كان له عقل يطلب به معالي الأمور ؛ لأنه لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له ، فكيف بمن يظلمك ولا ينصفك وأما من لا عقل له فيرضى بأدنى الأمور بدلا من أعلاها ، فلا يقام له وزن في المعاملات ، ولا يلتفت إليه في التخصيص بالمكرمات (ويركب) ذلك الأخ الذي لم تنصفه (حد السيف) أي : طرفه القاطع وهو يحتمل أن يراد به الحقيقة على سبيل المبالغة أي : يكون معك بحيث لو فرض أنه هاجرك لقيه حد السيف ، وركبه ركوبا يقطعه لفعل ذلك بدلا (من أن تضيمه) أي : أن تذله وتظلمه ويحتمل أن يكون كناية عن الشدة والمشقة أي يركب إذا لم تنصفه مشاق وتأثيرات وإذايات لأن ركوب حد السيف ملزوم للإذايات والمشاق في الجملة (إذا لم يجد) أي يركب شفرة السيف ليتركك إذا لم يجد (عن شفرة السيف) أي : عن حد السيف الحقيقي ، أو عن الشدائد اللازمة في الجملة لحد السيف على الاحتمالين السابقين (مزحل) يحتمل أن يكون بالراء المهملة أي يركب ما ذكر إذا لم يجد عنه بعدا ، وارتحالا ، ويحتمل أن يكون بالزاي المعجمة أي بعدا وانفصالا وزوالا وفي القاموس زحل يعني بالزاي المعجمة عن مقامه كمنع زال ، وإنما قلنا إن ابن الزبير المذكور فعل ذلك بقول معن السابق لما حكى أن ابن الزبير المذكور دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه فأنشده هذين البيتين فقال له معاوية لقد شعرت بضم العين أي صرت شاعرا بعدي أي : بعد ملاقاتي الأولى يا أبا بكر ثم إن عبد الله بن الزبير المذكور لم يفارق المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني على معاوية فأنشد بين يديه قصيدته التي أولها :


لعمرك ما أدري وإني لأوجل (١)

أي : لأخاف.

على أينا تعدو المنية أول

أي : لا أدري الذي تعدو عليه المنية منا قبل الآخر ، وإني لأخاف ما يقع من ذلك ثم استمر على إنشاد القصيدة حتى انتهى وفيها هذان البيتان فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير وقال له ألم تخبرني أنهما ـ أي البيتين ـ لك؟ فقال : اللفظ له والمعنى لي وبعد هذا فهو أخي من الرضاعة وأنا أحق بشعره ، وقول معاوية ألم تخبرني يدل على أنه أخبره أولا بأن البيتين له ويحتمل أن يكون نزل حاله في إظهاره أنهما له ولم ينسبهما لصاحبهما متمثلا منزلة الإخبار قيل ولعله لم يقصد بنسبتهما لنفسه الكذب والافتخار بل لعله يريد أنهما لي ومناسبان لحالي ، فمعناهما ثابت لدي وعندي ، وهذا أيضا هو مراده بقوله المعنى لي أي : أنا الموصوف بمعناها ، وهو معبر بلفظهما عن المعنى الحاصل لي ، وقوله وبعد هذا فهو أخي من الرضاعة ، وأنا أحق بشعره اعتذار ملحى يستظرفه أهل المجلس فلا شك أن ابن الزبير المذكور أتى بقول معن كما هو من غير تبديل للفظ ولا تغيير للنظم فهو سرقة محضة.

(وفي معناه) أي وفي معنى ما لم يغير في اللفظ والنظم (أن يبدل) أي : أولا يغير هيئة اللفظ التركيبية ولكن يبدل (بالكلمات) الإفرادية (كلها أو بعضها ما يرادفها) بأن يأتي بدل كل كلمة بما يرادفها أو يأتي مكان البعض دون البعض بما يرادفه ؛ لأن المرادف يتنزل منزلة رديفه فلازم أحدهما من القبح لازم للآخر لسهولة ذلك التبديل فهو يعد أيضا مذموما وسرقة محضة ومثال تبديل جميع الألفاظ بالمرادف مع بقاء المعنى والنظم أن يقال في قول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (٢)

ذر المكارم لا تذهب لمطلبها

واقعد فإنك أنت الآكل اللابس

__________________

(١) البيت لمعن بن أوس فى ديوانه ص (٣٩) ، وخزانة الأدب (٨ / ٢٤٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص (١١٢٦) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٨) ، وفيه (لا) بدلا من (ما).

(٢) البيت للحطيئة ، فى ديوانه ص (١٠٨) ، وفى التبيان ص (٤٧٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٧٨).


فقد بدل كل لفظ من التركيب بمرادفه والمعنى لست أهلا للمكارم والمعالي فدعه لغيرك واقنع بالمعيشة وهو مطلق الأكل والتستر باللباس فإنك تناله بلا طلب يشق كطلب المعالي على أنه لو قيل هكذا لم يخل اللابس مكان الكاسي من قبح الثقل الوزني ومثال تبديل البعض قول طرفة في قصيدته الدالية :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد (١)

فإنه بيت امرئ القيس ولم يزد فيه على تبديل تجمل بتجلد ، ووقوفا من الوقف الذي هو الحبس بدليل تعديه إلى المطي ، لا من الوقوف اللازم أي : نبك حال كون أصحابي واقفين أي حابسين مطيهم علي يقولون لا تهلك بالحزن ، وتجمل أي ادفع ذلك الأسى بالتجمل والصبر ، ويجري مجرى تبديل البعض ، أو الكل في القبح بالمرادف تبديله بالضد لقرب تناوله كما لو قيل في قول السيد حسان :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الأول (٢)

سود الوجوه لئيمة أحسابهم

فطس الأنوف من الطراز الآخر

ثم أشار إلى مفهوم قوله من غير تغيير لنظمه بقوله (وإن كان) أخذ اللفظ كله (مع تغيير لنظمه) أي : لنظم اللفظ ، والمراد بتغيير النظم هنا أن يدل على المعنى الأول ، أو على بعضه بوجه آخر بحيث يقال : هذا تركيب آخر سواء كان بتبديل نوع التركيب كتبديل جملة شرطية مثلا بغيرها ، أو بدون ذلك إما مع إفادة المعنى مثلا بطريق اللزوم إن أفيد أولا صراحة وهو الأكثر ، أو بدون ذلك ويدل على أن هذا هو المراد ما يأتي من الأمثلة ثم ما يكون بتغيير النظم إما أن يكون مع أخذ كل اللفظ (أو) مع (أخذ بعض) ذلك (اللفظ) لا كله (سمى) أي : إن كان الأخذ مع تغيير النظم سمى ذلك (إغارة) ؛ لأنه أغار على ما هو للغير فغيره عن وجهه (و) سمى أيضا (مسخا) ؛ لأنه بدل صورة ما للغير بصورة أخرى ، والغالب كونها أقبح والمسخ في الأصل تبديل صورة

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد فى ديوانه ص (٢٢) ، ط دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت.

(٢) البيتان لحسان بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ ، فى شرح المرشدى (٢ / ١٧٨).


بما هو أقبح منها ثم الكلام الذي هو متعلق هذا الأخذ المسمى بالإغارة ثلاثة أقسام ؛ لأن ذلك الكلام إما أن يكون أبلغ من الأول فيكون مقبولا غير مذموم ، أو يكون أدنى فهو مذموم غير مقبول ، أو يكون مثلا الأول فهو أبعد من الذم وأقرب إلى القبول ، فأشار إلى هذه الأقسام على هذا الترتيب ، فقال : (فإن كان) الكلام (الثاني) أي : الذي هو متعلق الأخذ المذكور (أبلغ) من الكلام الأول المأخوذ منه (لاختصاصه) أي : لاختصاص الثاني عن الأول (بفضيلة) لم توجد في الأول كحسن السبك الذي هو البعد عن أحد التقييدين اللفظي والمعنوي وكالاختصار حيث يناسب المقام وكالإيضاح لمعنى هو مظنة الغموض وهذا يدخل طرف منه في حسن السبك البعد عن التقييد وهو ترك الغموض الذي هو ليس من غرابة اللفظ بل كالخلل في اللزوم ، وإن شئت قلت يدخل في حسن السبك الاختصار بناء على أنه هو جودة اللفظ في الجملة أو زيادة معنى يناسب المقام لم يوجد في الأول (فممدوح) أي : إن اختص الثاني بمثل بعض هذه الفضائل فذلك الثاني ممدوح مقبول ؛ لأن تلك الزيادة أخرجته إلى طرف من فضاء الابتداع وذلك (كقول بشار : من راقب الناس) (١) أي راعاهم وحاذرهم فيما يكرهون فيتركه وفيما يبتغون فيقدم عليه (لم يظفر بحاجته) كلها ؛ لأنه ربما كرهها الناس فيتركها ، لأجلهم فتفوت مع شدة شوقه إليها (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) أي : من لم يراقبهم ولم يبالهم بالة فاز بالظفر بالطيبات الحسية كالظفر بالمعشوق والمعنوية كشفاء غيظ النفوس بالأخذ بالثأر وهذا الذي لا يراقب الناس هو الفاتك أي المقدم على القتل ، أو غيره من غير مبالاة بأخذ اللهج أي : الملازم لمطلوبه الحريص عليه من غير مبالاة قتلا كان أو غيره (وقول سلم) أي : كقول بشار مع قول سلم الخاسر وسمي خاسرا ؛ لأنه ورث مصحفا من أبيه فباعه فاشترى به عودا يضرب به (من راقب الناس مات غما) (٢) أي : لم يصل لمراده فيبقى مغموما من فوات المراد ويشتد عليه الغم كشدة الموت فقد دل على فوات الحاجة بموت الغم الذي هو أخص منه ولذلك قلنا إن تغيير

__________________

(١) البيت لبشار ، فى ديوانه ص (٦٠) ، وأورده الجرجانى فى الإشارات ص (٣٠٩).

(٢) البيت لسلم الخاسر ، فى الأغانى (٣ / ١٩٦) ، (٧ / ٧٢) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ٧٨) ، والإشارات (٣٠٩).


النظم يكون بالدلالة على المعنى بغير وجهه الأول (فاز باللذة الجسور) والجسور هو الشديد الجراءة فهو بمعنى الفاتك اللهج وهو أصرح في المعنى وأخص.

فالمعنى في البيتين واحد وهو أن من لا يراقب الناس بفوز بالمرغوب ومن راعاهم فاته المطلوب لكن بيت سلم أجود سبكا لدلالته على المعنى بلا حاجة للتأمل بما هو أخص وأفصح وأخصر لفظا كما لا يخفى ، وما بين هذين البيتين ظاهر كما ذكروا وفى نفسي أن لفظ الفاتك اللهج أحسن من لفظ الجسور ولفظ الطيبات أحسن من لفظ اللذة.

والاختصار قد يدعي عدم مناسبة لأن الغرض التوصية بترك مراقبة الناس وذلك يناسبه البسط الدال على الاهتمام والتأكيد فانظره.

(وإن كان) الكلام الثاني (دونه) أي دون الأول في البلاغة والمراد بالبلاغة هنا ما يحصل به الحسن مطلقا لا خصوص البلاغة المعلومة بدليل الأمثلة وإنما يكون دونه بفوات فضيلة وجدته في الأول (فهو) أي : فالكلام الثاني (مذموم) إذا لم يصحبه شيء يشبه به أن يكون مبتدع الحسن بل هو نفس الأول مع رذيلة إسقاط ما في الأول من الحسن وذلك (كقول أبي تمام) في مرثية محمد بن حميد (هيهات) (١) أي : بعد ما تبين من إتيان الزمان بمثل الممدوح بدليل قوله (لا يأتي الزمان بمثله) أي بمثل هذا المرثي الممدوح (إن الزمان بمثله لبخيل) هو كجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : لماذا لا يأتي الزمان بمثله هل لأنه بخيل بمثله أو لاستحالة مثله فقال إن الزمان بمثله لبخيل ، فالتأكيد هنا بأن ؛ لأن المقام مقام أن يتردد ويسأل هل بخل الزمان بمثله أو لم يبخل؟ بل استحال ولما كان هذا معنى الكلام ، وهو يشعر بإمكان المثل ، لكن منع من وجوده بخل الزمان ، ورد هنا أن الكلام قاصر ، وأن صوابه التعبير بما يفيد الامتناع لا بما يفيد الإمكان إلا أنه منع من الوجود عارض هو بخل الزمان ، وأجيب بأن بخل الزمان عبارة عن الامتناع ، أي : نفي الإتيان ، فهو كناية ؛ لأن البخل بالشيء يستلزم انتفاء فعله ، ويؤيده قوله : لا يأتي الزمان بمثله ، فكأنه قال : إن الزمان يستحيل في حقه الإتيان به ، وفيه تعسف ، ونسبة التأثير

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى شرح ديوانه ص (٣٦٣) ، والإشارات ص (٣٠٩) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).


الزمان من الموحد لا يضر ؛ لأن المراد به تلبسه بالفعل ، وذم بالفعل أو مدحه به لا يضر من الموحد أيضا ؛ لأنه ينزل منزلة العاقل المكتسب ، وهو يدل على اكتسابه شرعا وطبعا ، فلذلك تجد أهل العلم لا ينكرون الإنكار على الزمان ، ولو كان المراد أن الزمان مؤثر حقيقة ثم يذم على تأثيره لكان كفرا ، وما ورد" يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" (١) يحتمل أن يراد به يسبون الزمان ويعتقدون أنه مؤثر ، وأنا المؤثر في الحقيقة ، فكأنهم سبوا المؤثر حين سبوا الزمان من حيث إنه مؤثر تسخطا للأقدار ، ويحتمل أن يراد : يتسخطون الأقدار ، ويسبون بها الزمان مع علمهم أن لا تأثير له ، ولا ينفعهم في نفي الاسم بالتسخط نسبتهم الأقدار للزمان ؛ لأنها لي ، وهم يعلمون. وعلى كل حال فساب الدهر على أنه مؤثر مخطئ ؛ لأنه إن عنى أنه المؤثر دون الإله فظاهر ، وإن عنى أنه مشارك فكذلك ، وإن عنى سب مطلق المؤثر فالكفر ظاهر ، ويحتمل أن يكون ما ورد على معنى الإنكار على الغافلين مطلقا ، وأنه لا ينبغي أن يسب على الفعل مطلقا ؛ لأني أنا الفاعل في الحقيقة ، ولكن هذا يعارضه إذن الشرع في سب المكلف فما ينزل منزلته كهو تأمله.

(وقول أبي الطيب) أي : كقول أبي تمام الذي هو الأصل مع قول أبي الطيب الذي هو المأخوذ :

(أعدى الزمان سخاؤه فسخابه

ولقد يكون به الزمان بخيلا) (٢)

فقول أبي الطيب : ولقد يكون به الزمان بخيلا ، مأخوذ من قول أبي تمام : إن الزمان بمثله لبخيل ، وظاهر أن الأول أحسن من الثاني ؛ لأن الثاني عبر بصيغة المضارعة ، والمناسب صيغة المضى كما دلت عليه الجملة الاسمية في الأول ؛ لأن أصلها الدلالة على الوقوع مع زيادة إفادتها الدوام والثبوت ، وإفادة الثانية التقليل بظاهر قد مع المضارع ، وأيضا المراد أن الزمان كان بخيلا به حتى أعداه بسخائه ، فلا تناسب المضارعة ؛ إذ لا معنى لكونه جاد به الزمان وهو يبخل به في المستقبل ؛ لأنه بعد الجود به خرج عن

__________________

(١) رواه البخارى ، ولكن بلفظ : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدى الأمر ، أقلب الليل والنهار".

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ١٩٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات (٣٠٩).


تصرفه وحمله على معنى ولقد يكون الزمان بخيلا في المستقبل بإهلاكه لما فيه من نظام العالم تكلف لا دليل عليه ، ومع ذلك فمصراع أبي تمام أحسن منه ، لاستغنائه عن هذا التكلف ، فعلى تقدير التصحيح بما ذكر لا يخرج به عن المفضولية ، ولا يضر في كونه مأخذوا منه كون البخيل في الأول متعلقا بالمثل ، وكونه في هذا متعلقا بنفس الممدوح ؛ لأن المصراعين اشتركا في الحاصل ، ولو اختلف الاعتبار ؛ إذ الحاصل من الثاني أن وجود هذا الممدوح من الزمان لا يكون إلا على الانفراد لبخله به ، فلم يوجد منه إلا بسبب خاص ، وقد اشترك المعنيان في انفراد وجود الممدوح من الزمان وبخله بمثله ، وبه يعلم أنه لا يضر في الأخذ تغاير في المعنى ، والتعبير إذا وقع الاشتراك في الحاصل ، ولو مع زيادة شيء ؛ إذ لو اشترط الاتحاد في المعنى من كل وجه لم يكن المصراع الثاني مأخوذا من الأول على كل تقدير ، مما يفسر به هنا ؛ لأنا إن فسرنا البيت الثاني بمعنى أن الزمان كان بخيلا به أولا ، ثم أعداه ، أي : أعدى الزمان ، جود الممدوح بأن تعلق به في عدم الممدوح ، فصار الزمان ساخيا به ، ولو لا سخاؤه الذي أعدى الزمان لبخل بمثله على الدنيا ، ولاستبقاه لنفسه ـ فهو يفيد أن الذي بخل به أولا هو نفسه ، وكلام أبي تمام يفيد أن الذي بخل به هو مثله فالمعنيان مختلفان ولو اتحدا المآل ، والحاصل كما قررنا أن البخل به إلا لسبب خاص يفيد البخل به ؛ لانتفاء ذلك السبب كما قررنا ، والبخل بمثله مع وجوده يفيد البخل به إلا لسبب خاص ، وهذا تأويل ابن جني ، ويلزم فيه أن قوله أعدى الزمان سخاؤه من باب الغلو كما تقدم في قوله :

حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق.

لأن الجود لم يوجد قبل وجود الممدوح حتى بعدي الزمان ، ولهذا عدل عنه ابن فورجة ، وإن فسرناه بما قال به ابن فورجة فرارا من هذا اللازم وهو أن المراد أن الممدوح كان موجودا سخيا ، وكان الزمان بخيلا بإظهاره لي وهدايتي له لعزازة أموره عند الزمان ، فلما أعدى الزمان سخاء ذلك الممدوح جاد على به ، أي : بالاتصال به ، والوقوف عليه بعد خفائه عنى ، فالمعنى : أن الزمان هداني إليه بعد البخل بالهداية فعرفته ، وأغناني كأن المعنى : ولقد كان الزمان بخيلا بإظهاره ، وهو مخالف للبخل بإيجاد مثله


أيضا ، فعلى هذا التقدير أيضا لا يكون مأخوذا من الأول ، ولكونه أظهر في عدم الأخذ لم يتعرض له في الشرح ، ويرجع المعنى على هذا التقدير إلى حاصل واحد أيضا ؛ لأنه إذا بخل بإظهار وجوده لي لعزازته فهو بخيل بفائدته اللازمة لوجوده إلا لسبب ، فيلزم البخل بوجوده ؛ لأن نفي اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فنفي فائدته كنفيه باعتباره ، فيؤخذ منه أن من شأنه مع فائدته البخل به ، إلا لسبب خاص ، فيلزم البخل بأمثاله لانتفاء السبب ، وأيضا يشتركان في البخل بالشيء لعزازته في الجملة ، وهو يكفي في الاتفاق ، وإن فسرناه كما تقدم بأن الزمان جاد به ، وهو بخيل في المستقبل بإهلاكه ، فهو أظهر في المخالفة ، لكن يرجع إليه على هذا التقدير أيضا ؛ لأنهما قد اشتركا أيضا في عزازة شيء خاص عند الزمان بسبب خاص ، ولذلك انفرد حتى بخل بإهلاكه للحاجة إليه وحده ، وإن شئت قلت : لأنه يلزم من البخل بإهلاكه دون غيره ، أن غيره لا يبخل بإهلاكه لعدم وجود مثل أوصافه في ذلك الغير ، فيلزم أن وجوده منفرد عن الغير فلا يوجد له مثل ، فيلزم البخل بالمثل ، فقد تقرر بما ذكر وجه رجوع كل من الأوجه الثلاثة في حاصل المعنى لشيء واحد ، فتحصل مما تقرر أن الاتفاق في حاصل المعنى يصحح هذا الأخذ ، ومن توهم أن المخالفة في الجملة مانعة من الأخذ وأنها موجودة في أحد هذه التقادير المحتملة دون غير فقد غلط.

(وإن كان) الكلام الثاني في الأخذ المسمى بالإغارة (مثله) أي مثل الكلام الأول في البلاغة (ف) هذا الثاني (أبعد من الذم) أي هو حقيق بأن لا يذم بخلاف الكلام الثاني الذي هو أدنى كما تقدم ، وإنما قلنا هكذا ؛ لأن ظاهر العبارة يقتضي أن ثم بعيدا من الذم ، وهذا أبعد منه وليس كذلك ، أما الأول فهو أبعد من هذين أن لا يذم ، وأما ما يليه فهو مذموم فلا يتصف بالبعد من الذم (و) لكن مع كونه أبعد من الذم إنما (الفضل ل) لكلام (الأول) لا له (كقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا) (١)

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، وشرح ديوانه ص (٢٢٨) ، ولكن فيه (لو جاء) بدلا من (لو حار).


هذا الكلام الأول (وقول أبي الطيب :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا) (١)

هذا الثاني ومعنى البيت الأول أن مرتاد المنية ، أي : المنية التي ترتاد ، أي : تطلب النفوس كطلب الرائد للكلأ ؛ فالإضافة بيانية إذ ليس للمنية مرتاد غيرها ، لو حار أي : لو تحير ذلك المرتاد الذي هو المنية في طلب النفوس بسبب خفاء أماكنها عليه ، لم يجد ذلك المرتاد دليلا يدل على النفوس المطلوبة له إلا الفراق ، فجعل دليل المنية على النفوس محصورا في الفراق ، أي : فراق الأحبة ، وقيد كونه دليلا بحال الحيرة في طلب النفوس ، ومعنى البيت الثاني أن مفارقة الأحباب هي الموصلة للمنية عند طلبها للأرواح ، فلولاها ما اتصلت المنية بالأرواح ، فيفهم أن المواصلة مانعة من الوصول إلى الأرواح ، فالفراق إما أن يكون دليلا أو جزءا من الدليل ، ومن المعلوم أن المراد بالحيرة في البيت الأول رغبة المنية في النفوس وطلبها لها ، وقد علم أن التوصل مطلقا لا يكون إلا بالطلب ، فالتقييد بالحيرة لا يحتاج إليه لوجهين : أحدهما : أن الطالب للشيء يتحير عند انتفاء الدليل فلا يحتاج لذكر التحير

والآخر : ما تقرر من كون المنية لا عدو لها إلا النفوس فهي أبدا طالبة لها متحيرة عند عدم الدليل ، وقد اجتمع البيتان على الحاصل ، وهو أنه لا دليل للمنية على النفوس إلا الفراق ، أما في الأول فواضح وأما في الثاني فإن لو لا تفيد أن نفي الفراق بنفي الموصل ، كما أشرنا إليه ، فلزم انحصار الموصل في الفراق على أنه دليل أو جزء الدليل ، فمعنى كل من البيتين يعود إلى معنى الآخر ، فما يقال : من أن في الأول الحصر والتقييد بالحيرة ، فجاء أبلغ من الثاني لا عبرة به ، وقد ظهر أن أبا الطيب أخذ المعنى كله مع لفظ المنية والفراق والوجدان وبدل النفوس بالأرواح ، وهما متساويان في البلاغة ، فكان الثاني أبعد من الذم.

__________________

(١) البيت لأبى الطيب فى شرح ديوانه (١ / ٥٩) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).


الإلمام والسلخ

ثم أشار إلى مقابل قوله وإن أخذ اللفظ كله أو بعضه مع تغيير لنظمه وهذا المقابل هو أن يأخذ المعنى وحده كله مع تغيير النظم من غير أن يأخذ اللفظ بعضا أو كلا ، وقد تقدم أن تغيير النظم بوجود غير الدلالة الأولى بحيث يقال هذا كلام وتركيب آخر ، سواء كانت الجملتان من جنس الشرطية مثلا أم لا فقال (وإن أخذ المعنى وحده) دون شيء من اللفظ (سمى) هذا الأخذ (إلماما) وهو في الأصل مصدر ألم بالمنزل إذا نزل به ، ويعبر به عن القصد إلى الشيء ، وسمى به هنا الآخر لنزوله بالمعنى وقصده إياه ، والتسمية يكفي فيها أدنى ملابسة.

(و) سمي أيضا (سلخا) لأنه سلخ المعنى عن اللفظ الأول كسلخ الشاة عن الجلد وكشطها عنه ، وذلك أن اللفظ يتوهم فيه كونه كاللباس للمعنى من جهة الاشتمال عليه بالدلالة ، فأخذ المعنى عنه ككشط الجلد عن صاحبه (وهو) أي : والكلام الذي تعلق هذا الأخذ بمعناه (ثلاثة أقسام كذلك) أي : كالكلام الذي يسمى الأخذ فيه إغارة ومسخا ، فهو أيضا إما أن يكون أبلغ من الأول المأخوذ منه ، أو يكون دونه في البلاغة ، أو يكون مثله فيها.

(أولها) أي : أول الأقسام الثلاثة ، وهو الذي يكون أبلغ من الأول (كقول : أبي تمام

هو الصنع إن يعجل فخير وإن يرث

فللريث في بعض المواضع أنفع) (١)

هذا الكلام الأول (وقول : أبي الطيب

ومن الخير بطء سيبك عني

أسرع السحب في المسير الجهام) (٢)

هذا الكلام الثاني فقد اشترك البيتان في أن تأخر العطاء يكون خيرا وأنفع ، ولكن بيت المتنبي فيه أجود ؛ لأنه زاده حسنا بضرب المثل له بالسحاب ، فكأنه دعوى بالدليل إذ كأنه يقول : العطاء كالسحاب فبطء السحاب في السير أكثر نفعا ، وسريعها

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩) وفى شرح ديوانه ص (١٨١).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ٢١٠) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).


وهو الجهام أي السريع سيرا أقلها نفعا ، فكذلك العطاء بطيئه أكثر نفعا فكان تأخر عطائك أفضل من سرعته ، ولا يخفى أن البطء في السحاب خلاف البطء في العطاء ؛ لأنه فى السحاب في مسيره ، وفى العطاء فى عدم ظهوره في زمان انتظاره مع أن الأول يفيد أن الريث ، أى : البطء أنفع في بعض المواضع دون بعض ، والثاني يفيد أنه من الممدوح لا يكون إلا خيرا ، وهو آكد فى المدح وأما الأول فيشعر بأنه قد يكون من الممدوح خيرا ، وقد لا ، فحيث يستحي مثلا لتأخر العطاء حياء يوجب الزيادة يكون خيرا ، وحيث لا يكون مثلا كذلك لا يكون أنفع بخلاف البيت الثاني ، وقوله : هو الصنع ، الضمير للشأن ، أي : الشأن هو هذا ، وهو قوله : الصنع ، أي : الإحسان أن يعجل فخير ، وإن يرث أي يبطئ فقد يكون أنفع ، ويحتمل أن يكون عائدا على حاضر في الذهن يفسره الصنع ، والجملة بعده مستأنفة ، وعود الضمير على ما في الذهن صحيح ، إلا أنه تارة يتعين كما في قوله : " هو الهجر حتى ما يلم" ، أي : ما ينزل ، " خيال" من هذا الذي يهجرنا ، " وبعض صدود الزائرين وصال" أي : لم ننل ممن هجرنا حتى الصدود ؛ لأنا لا نلقاه لا يقظة ولا مناما ، والصدود قد يعد وصالا بالنسبة لمثل هذا الهجر ، وتارة لا يتعين كما في قوله : هو الصنع إن يعجل إلخ ، وإنما قلنا : يتعين في قوله هو الهجر ؛ لأنه لو جعلناه للشأن احتاج إلى جملة يخبر بها عنه ، ولا جملة كذلك في قوله هو الهجر إلخ ، ومثله (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(١) أي : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ولا يصح أن يكون الضمير للشأن هنا ، وهذا الإعراب ، أعنى جعل الضمير عائدا على حاضرة في الذهن لطيف لا يكاد يتنبه له إلا الأذهان الرائضة ، أي : المرتضاة بالإعراب من أئمة العربية ؛ لأن التفطن لحاضر ذهنا يلتئم الكلام فيه ، ويحسن بحيث يفيد الكلام معه فائدة البيان بعد الإجمال ، ويصح به المعنى مما يدق ، ولا ينتبه له كل أحد وهو حيث يتأتى الإعراب بضمير الشأن أفضل من الإعراب بالإضمار الشأني ؛ وذلك لأن ضمير الشأن خلاف الأصل ، لكونه ملازما للإفراد ، وملازما للإخبار بالجملة ، وكونه لازما للابتداء أو الناسخ فلا يعمل فيه غيرهما ، وكونه لا يتبع وعوده على ما بعده ، وفائدته

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.


التي هي الإجمال ثم التفصيل موجودة في هذا الأخير مع زيادة إفادة حكمين ؛ لأن قوله : هو الصنع إن يعجل فخيرا إلخ يفيد إثبات الصنيعة وإثبات ذلك الصنع إن يعجل فكذا ، وإن يرث فكذا بخلاف ما لو جعل شأنيا.

وثانيها : أي : ثاني الأقسام الكائنة للكلام الذي فيه أخذ المعنى وحده وهو ما يكون أدنى من الكلام الأول المأخوذ منه في البلاغة (كقول البحتري : وإذا تألق) (١) أي : لمع (في الندى) أي : مجلس الاجتماع للتحدث (كلامه المصقول) أي : المنقح المصفى من كل ما يشينه (خلت) أي : حسبت (لسانه من عضبه) أي : من سيفه القاطع ، هذا الكلام الأول (وقول أبي الطيب كأن ألسنهم في النطق) (٢) أي : عند النطق (قد جعلت على رماحهم في الطعن) أي : عند الضرب بالقنا (خرصانا) مفعول ثان لجعلت ، وهو جمع خرص بضم الخاء وكسرها وهو سنان الرمح هذا هو الكلام الثاني ، ولا شك أن كلا منهما تضمن تشبيه اللسان بآلة الحرب في النفاذ والمضي ، وإن كانت الآلة المعتبرة في الأول السيف والآلة المعتبرة في الثاني الرمح ، ولكن بيت البحتري أجود ؛ لأنه نسب فيه التألق والصقالة للكلام ، وهما من لوازم السيف على حد ذكر المنية والأظفار ، فكان في كلامه استعارة بالكناية فيما يتعلق بالمشبه ، فازداد بهذا حسنا بخلاف كلام المتنبي ، مع أن في بيت المتنبي قبحا من جهة أخرى ، وهو أن المتبادر من كلامه أن ألسنهم قطعت وجعلت خرصانا ، وفيه من القبح ما لا يخفى ، وفي الأول أيضا الدلالة على التشبيه بفعل الظن ، وهو أقوى من الدلالة بكأن ، فإن قلت : ليس في كلام البحتري استعارة بالكناية ، وإنما فيه ترشيح بالتشبيه ؛ لأن المشبه بالسيف في الحقيقة هو الكلام لا اللسان ؛ لأن الموصوف بوجه الشبه وهو النفوذ والتأثير فيما يتعلق به هو الكلام لا اللسان ، قلت : على تقدير تسليمه يلزم أن يكون أجود من بيت المتنبي بترشيح التشبيه كما زعمت على أنا لا نسلم أن التشبيه ليس للسان ، بل هو باعتبار تلبسه بما يوجب التأثير والمضاء

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى عقود الجمان (٢ / ١٧٩).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (١ / ٢٢٨) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).


في الأرواح ، كالسيف في تلبسه بما يوجب التأثير من الجذ ولا قطع ، ولا ينافي ذلك اعتبار الاستعارة بالكناية فيما تحقق به وجه الشبه ، وهو الكلام بنسبة لوازم السيف له.

(وثالثها) أي : وثالث الأقسام التي هي للكلام الذى فيه أخذ المعنى وحده ، وهو ما يكون مثل الأول المأخوذ منه في البلاغة (كقول) زياد (الأعرابي : ولم يك) (١) أي : الممدوح (أكثر الفتيان) أي : الأقران (ما لا ولكن كان) هذا الممدوح (أرحبهم) أي : أوسعهم (ذراعا) أي : أسخاهم ، يقال : فلان رحب الراحة ورحب الباع ورحب الذراع ، بمعنى أنه : سخي ، وهو مجاز مرسل من إطلاق اسم الملابس وهو سعة الذراع أو الباع الذي هو مقدار اليدين مع ما يتصلان به ، أو الراحة على كثرة المعطى ؛ لأن الراحة والذراع والباع بها يحصل المعطي عند قصد دفعه ، فإذا اتسع كثر ما يملؤه فلابست السعة الكثرة عند العطاء ، فأطلقت السعة على الكثرة بتلك الملابسة مع القرينة وهذا هو الكلام الأول ، (وقول أشجع : وليس) (٢) أي : الممدوح الذي هو جعفر بن يحيى (بأوسعهم) أي : بأوسع الملوك (في الغنى) أي : في المال (ولكن معروفه) أي : إحسانه (أوسع) من معروفهم ، وهذا هو الكلام الثاني ، فقد اتفق البيتان على أن الممدوح لم يزد على الأقران في المال ، ولكن فاقهم في الكرم وهما متماثلان ؛ إذ لم يختص أحدهما بفضيلة عن الآخر ، فكان الثاني أبعد من الذم كما تقدم في ثالث أقسام الأول ، ولكن لا يخفى أن الأول فاق الثاني في التعبير عن الكرم بطريق التجوز ، ولهذا قيل : إن معروفه لا يعجب ، وقيل : إن وجه كونه لا يعجب أن المعروف قد يعبر به عن الدبر ، فيقال : معروفه أوسع ، أي : الشيء المعروف منه كناية عن الدبر أوسع ، فاستهجن هذا التعبير لما عهد فيه من هذا المعنى ، ولا يخفى أن هذا التوجيه إنما يتجه إن صح الإخبار عن المعروف بقوله : أوسع مرادا به هذا المعنى على وجه الكثرة ، وإلا فلا يخفى فساده ؛ لوجود المعروف في الكلام البليغ ، ولا يعتريه الاستهجان بوجه تأمله.

ولما فرغ من الأخذ الظاهر وأقسامه شرع في غير الظاهر فقال.

__________________

(١) البيت لأبى زياد الأعرابى فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات ص (٣١٢).

(٢) البيت لأشجع بن عمرو السلمى فى الأغانى (١٨ / ٢٣٣) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩) ، والإشارات (٣١٢).


الأخذ غير الظاهر

(وأما) الأخذ (غير الظاهر ف) أقسام ، ولم يعددها إلى الأبلغ ، والأدنى المذموم ، والمساوي إلا بعد عن الذم ؛ لأن أقسام غير الظاهر كلها مقبولة من حيث ما أخذت ما لعدم ظهورها منه فإن اعتراها رد فمن جهة أخرى خارجة عن معنى الأخذ كما يفيد ذلك قوله فيما يأتي ، وأكثر هذه الأنواع يعني كلها مقبولة (منه) قسم هو (أن يتشابه المعنيان) أي : معنى البيت الأول المأخوذ منه ، ومعنى البيت الثاني المأخوذ بلا نقل (كقول جرير : فلا يمنعك من أرب) (١) أي : من حاجة تريدها عندهم (لحاهم) فاعل يمنع ، أي : يمنع أصحاب اللحى جمع لحية ؛ لأنهم في المعنى نساء ، وإن كانوا في الصورة رجالا ، فلا تمنعك صورتهم مع انتفاء المعنى الذي يقع به المنع ، ولذلك قال (سواء) منهم (ذو العمامة و) ذو (الخمار) يعني أن رجالهم ونساءهم متساوون في الضعف ، فلا مقاومة للرجال منهم على الدفع عن النساء منهم ، هذا هو البيت الأول (وقول أبي الطيب : ومن فى كفه منهم قناة) (٢) أي : رمح (كمن في كفه منهم خضاب) أي : صبغ الحناء هذا هو البيت الثاني ، وقد اشتبه البيتان في المعنى من جهة إفادة كل منهما أن الرجال لهم من الضعف مثل ما للنساء ، إلا أن الأول أفاد التساوي والثاني أتى بآلة التشبيه ، والأول عبر عن النساء بذوات الخمار وعن الرجال بذوي العمامة ، والثاني عبر عن النساء بذوات الخضاب وعن الرجال بذوي القناة في أكفهم ، والأول أيضا جعل ذلك التساوي علة للأمر بتناول الحوائج لديهم بخلاف الثاني ، فان قلت : قد تقدم في قسم الظاهر أنه لا يشترط فيه التساوي في المعنى من كل وجه ، ولا أن يوجد في المعنى المأخوذ لفظ المأخوذ منه ، وإنما يشترط الاتحاد في المعنى الحاصل في الجملة ، وإن كان بين القائلين اختلاف ما ، وهذا المثال لغير الظاهر ، كذلك لاشتراك البيتين ـ كما بينت ـ في الحاصل الذي هو كون الرجال لهم من الضعف مثل ما للنساء ، ولا يضر التعبير المخالف ولا مصاحبة شيء آخر كما في البيت الأول ، قلت : الفرق بين الظاهر وغيره

__________________

(١) البيت لجرير ، فى شرح ديوانه ص (١٤٧) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

(٢) البيت للمتنبى فى شرح ديوانه (٢ / ١٣٧) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).


قد تقدم ، وهو أن غير الظاهر لا بد أن يكون بحيث لا يدرك كون الثاني من الأول إلا بتأمل ، كما يتضح في الأمثلة بعد ، والذوق السليم شاهد بذلك ، وأما هذا المثال فوجه الخفاء أن الأول سوى بين مفهوم ذي العمامة والخمار في مصدوقهما ، والثاني شبه مفهوم من في كفه خضاب بمن في كفه قناة باعتبار مصدوقهما فيتبادر ـ قبل التأمل ـ أن المعنيين لما اختلف المفهوم فيهما مختلفين بخلاف ما تقدم ، فالمعنى ظاهر الاتحاد ، هذا والحق أن هذا المثال قريب من الظاهر بل ينبغي أن يجعل منه ، والمثال الذي فيه التشابه بلا ظهور كقوله :

لقد زادني حبا لنفسي أنني

بغيض إلى كل امرئ غير طائل (١)

وقوله :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل (٢)

فمعنى البيت الأول أن بغض ما ليس بطائل أي : لا فائدة فيه يزيدني حبا في نفسي ؛ لأني أعلم بذلك أنه ما أبغضني إلا لكونه لم يناسب ما فيه من المعاني والأخلاق ما في ، ومعنى الثاني أنه إذا ذمني ناقص ذميم في نفسه كان ذمه شهادة بكمالي ، ومعلوم أن البغض يستلزم عادة ذم المبغوض ، وحب الإنسان نفسه يستلزم إدراك كمالها فالمعنيان مشتبهان في أمر يعمهما ، وإن اختلف مفهومهما ، وذلك الذي يعمهما هو أن مباعدة الأرذال وإذايتهم للإنسان تفيد رفعته ، لكن لخفاء أخذ أحدهما من الآخر ؛ لأن التماثل إنما هو باعتبار هذا الأمر العام الذي يبعد استشعار الأخص منه ، فنزلا فيه بمنزلة الأخصين باعتبار الجنس الأعلى جعل الثاني أي : أخذه من خلاف الظاهر ، والذوق السليم شاهد بذلك فتأمل.

المنقول

ولما كان غير الظاهر مشعرا بالحاجة إلى التأمل صح فيه نقل المعنى من مكان إلى آخر ، إذ غاية ما فيه زيادة الخفاء ولا ينافيه ، فيصح أن ينقل المعنى من نسيب أي : وصف بالجمال يقال نسب بكسر سين المضارع ، إذا شبب بامرأة ذكر منها ما يلائم

__________________

(١) البيت للطرماح ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).

(٢) البيت لأبى الطيب ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).


الشبيبة والفتوة إلى مديح وبالعكس ، وإلى هجاء وافتخار ونحو ذلك وبالعكس ، ونقل المعنى من بعض الثلاثة الأخيرة إلى آخر وبالعكس ، وذلك يمكن من الشاعر الحاذق عند قصد اختلاس المعنى وإخفائه ؛ فيحتال فيه حتى ينظمه على غير نوعه الأول وعلى غير وزنه وقافيته ، فيدخل في غير الظاهر على هذا ما نقل من نوع إلى غيره سواء كان المنقول عنه وإليه مما ذكر أو من غير ذلك.

وإلى هذا القسم ـ وهو المنقول من محل إلى آخر مطلقا ـ أشار بقوله (ومنه) أي : من غير الظاهر (أن ينقل المعنى إلى محل آخر) بأن يكون المعنى وصفا ، والمنقول إليه موصوف ، وقد كان في المنقول وصفا على جهة أخرى (كقول البحتري : سلبوا) (١) ثيابهم (وأشرقت الدماء) أي : ظهرت الدماء (عليهم) ملابسة لإشراق شعاع الشمس (محمرة) وزاد محمرة لنفي ما يتوهم من غلبة الإشراق عليها حتى تصير بلون الإشراق البياض (ف) لما ستروا بالدماء بعد سلبهم صاروا (كأنهم لم يسلبوا) لأن الدماء المشرقة عليهم صارت ساترة لهم كاللباس المعلوم ، هذا هو المنقول عنه المعنى (وقول أبي الطيب : يبس النجيع) (٢) أي : الدم المائل إلى السواد (عليه) أي : على السيف (وهو) أي : السيف (مجرد عن غمده) أي : والحال أن السيف خارج عن الغمد (ف) صار السيف لما ستر بالنجيع الذي له شبه بلون الغمد (كأنما هو مغمد) أي : مجعول في غمده لستره بالنجيع ، كما يستره الغمد ، هذا هو المنقول فيه المعنى ، فالكلام الأول في القتلى وصفهم بأن الدماء سترتهم كاللباس ، ونقل هذا المعنى إلى موصوف آخر وهو السيف ، فوصفه بأنه ستره الدم كستر الغمد ، فإن قلت : النقل فيه تشابه المعنيين أيضا ، ضرورة أن في كل من البيتين الدلالة على ستر الشيء بعد تجرده ، فلم جعل هذا القسم من غير الظاهر مطلقا ، ولم يجعل من قسمه الذي هو تشابه المعنيين قلت فرق بين التشابه بلا نقل كما في قوله :

__________________

(١) البيت للبحترى ، فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠) ، والإشارات (٣١٣) ، والإيضاح (٣٤٧).

(٢) البيت للمتنبي ، فى ديوانه (١ / ٣٣٧) ، والإشارات (٣١٣).


سواء ذو العمامة والخمار (١)

مع قوله :

ومن في كفه منهم قناة

كمن في كفه منهم خضاب

ولذلك قيدنا به فيما تقدم ، وبين التشابه مع النقل فإن هذا أدق وأخفى ، فمن جعله من التشابه ثم جعله من غير الظاهر أراد التشابه الكائن مع النقل تأمله.

الشمول

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (أن يكون معنى) البيت (الثاني أشمل) وأجمع من معنى البيت الأول (كقول جرير :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا) (٢)

هذا هو المشمول الأول فقد أفاد بهذا الكلام أن بنى تميم ينزلون منزلة الناس جميعا في الغضب فغضبهم غضب جميع الناس ويلزم أن رضاهم هو رضا جميع الناس ؛ لأن المتابعة في الغضب تقتضي المتابعة في الرضا ؛ لاقتضائه الرياسة المفيدة لذلك ، فتحصل منه أنه أقام بني تميم مقام الناس جميعا في أعلى ما يطلب ، وأعلى ما يطلب هو رضا الناس جميعا.

(وقول أبي نواس) لهارون الرشيد لما سجن الفضل البرمكي غيرة منه حين سمع عنه التناهي في الكرم مشيرا إلى أن في الفضل شيئا مما في هارون وأن في هارون جميع ما في الفضل ، وما في العالم من الخصال مبالغة :

قولا لهارون إمام الهدى

عند احتفال المجلس الحاشد

أنت على ما فيك من قدرة

فلست مثل الفضل بالواجد

(وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد) (٣)

__________________

(١) البيت لجرير ، فى الإيضاح ص (٣٤٧).

(٢) البيت لجرير ، فى ديوانه ص (٧٨) ، والإشارات ص (٣١٣).

(٣) الأبيات لأبى نواس ، فى الإشارات ص (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠) ، وفى ديوانه ص (١٤٦).


وروى أنه أطلقه من السجن لما سمع الأبيات ، وهذا البيت هو الأشمل ، الثاني وهو يفيد أنه أقام الممدوح مقام جميع العالم لجمعه جميع أوصافه ، فهو أشمل مما في بيت البحتري لاختصاصه بإقامة الممدوحين مقام الناس في الرضا والغضب ، وهو أفاد إقامة واحد مقام جميع الناس في كل شيء ، ولا يخفي خفاء الأخذ بينهما ، فإنه لو لا اعتبار اللوازم الخفية ما فهم انتشاء الأول من الثاني ـ كما قررنا ـ ولم يتعرض للعكس وهو أن يكون الأول أشمل مع إمكانه ، وكأنه لعدم وجدان مثاله.

القلب

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (القلب وهو) أي : القلب (أن يكون معنى) البيت (الثاني نقيض معنى) البيت (الأول) كأن يقرر البيت الأول حب اللوم في المحبوب لعلة ، ويقرر الثاني أنه مذموم لعلة أخرى ، فيكون التناقض والتنافي بين البيتين بحسب الظاهر ، وإن كانت العلة تنفي التناقض ؛ لأنها مسلمة من الشخصين فيكون الكلامان غير كذب معا ، ومعلوم أن من كانت عنده العلة الأولى صح الأول باعتباره ، ومن كانت عنده الثانية صح الكلام باعتباره ؛ فالتناقض في ظاهر اللفظين ، والالتئام باعتبار العلل والمحال ، وذلك (كقوله : أجد الملامة) (١) أي : اللوم والإنكار على (في هواك لذيذة) أي : أجد لذلك اللوم فيك لذة ، لتناهى حبي فيك ، حتى صرت أتلذذ بمطلق ذكرك على أي وجه كان ، وإلى هذا أشار بقوله (حبا) أي : إنما وجدتها لذيذة لأجل حبي (لذكرك) على أي وجه كان (فليلمني اللوم) جمع لائم ، وهذا هو الأول المنقوض (وقول أبي الطيب :

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه) (٢)

وهذا هو الثاني الناقض للأول ، وإنما كان اللوم فيه من العدو ؛ لأن الحب يتضمن كمال المحبوب ورفعته ، واللوم على أمر فيه تعظيم لأحد ، وكمال لا يكون إلا من عدوه المبغض له ، وإن كان يمكن أن يكون اللوم رفقا بالملوم وإبقاء عليه ، لكنه خلاف الأصل بل لا يسمى في الحقيقة لوما ، بل عزاء وحملا على التصبر بالتقصير ،

__________________

(١) البيت لأبى الشيص ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٣١٤) ، والإيضاح (٣٤٨).

(٢) البيت لأبى الطيب فى ديوانه (١ / ١) ، والإشارات ص (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).


والواو في : وأحب فيه ملامة يحتمل أن تكون واو الحال من غير تقدير المبتدأ على مذهب من يجوز موالاة المضارع المثبت واو الحال ، أو بتقدير المبتدأ على مذهب من لا يجوز ، أي : كيف أحبه مع حبي فيه الملامة ، فالمنكر في الحقيقة هو مصاحبة تلك الحال لا كونه يحبه ، مع مفارقة حبه لمضمون هذه الحال ، كما يقال : أتصلى وأنت محدث؟ فالمنكر هو وقوع الصلاة مع الحدث لا وقوع الصلاة من حيث هي ، وكما نقول أتتكلم وأنت بين يدي الأمير؟ فالمنكر هو كونه يتكلم مع كونه بين يدي الأمير ، ويحتمل أن تكون تلك الواو للعطف ، والعطف بالواو وإن كان لا يقتضي المعية ، لكن يقتضي الاجتماع في الحكم ، فحبه وحب اللوم فيه يقتضي عطف أحدهم على الآخر ، اجتماعهما في الوقوع من شخص واحد وهو الحكم ، وهذا الاجتماع هو محط الإنكار أي : كيف يجتمع حبه وحب اللوم في الوقوع منى؟ وهذا النوع الأحسن فيه بيان العلة ، بل لا بد فيه من بيانها ؛ لأنه إن لم يبينها فهو دعوى للنقض بلا بينة ، وهو غير مسموع ، فلو قال هنا : أأحبه وأحب فيه ملامة ، كان دعوى لعدم الصحة بلا دليل ولا يفيد ، بل الكلام المنقوض ينبغي فيه بيان العلة أيضا ؛ لأن هذا المنزع أخرج لباب المعارضة والإبطال ، وهو يفتقر لدليل التصحيح والإبطال ، فناسب الإتيان بالعلة من الطرفين ، فلا بد منها إلا أن تكون ظاهرة كقول أبي تمام :

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السماع (١)

والمعتفي الطالب ، والجدوى النفع ، والسماع أريد به ما يحسن سماعه كالعود ، ومعنى البيت أن هذا الممدوح لفرط محبته للكرم والإعطاء تصير عنده نغمة السائل لحب سؤاله لإعطائه أحلى من نغمات العود ونحوه ، وهذا الحكم علته ظاهرة ، وهى حب الإعطاء والكرم ، فإنه هو السبب في كون نغمة السائل كنغمة العود ، وقد ناقضه المتنبي بقوله :

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال (٢)

__________________

(١) البيت لأبى تمام ، فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٠).

(٢) البيت للمتنبى ، فى الإيضاح ص (٣٤٨) ، وشرح المرشدى (٢ / ١٨٠).


السيب هو العطاء ، فقد جعل المتنبي نغمات السؤال عند الممدوح تؤثر فيه وتؤذيه كالجرح ، وهو نقيض لاستحسانها ، وذلك حيث تسبق تلك النغمة سيبه أي : عطاءه ، والعلة أيضا ظاهرة وهى حبه الإعطاء بلا سؤال ، فلو سبقت نغمات السؤال عطاءه أثرت فيه تأثير الجرح ، فكأنه يقول : إذا كانت نغمة السؤال كالعود عند ذلك الممدوح فهمنا ممدوح النغمة عنده كالجرح ؛ لأنه يحب الإعطاء بلا سؤال ، فقد تناقض الكلامان وإن اختلفا علة ومحلا ، ووجه الكلام الذي هو نقيض للأول مأخوذ من ذلك الأول ، فإن المتبادر أن نقيض الشيء ينافيه ، لا أنه منه ولا هو هو بعينه ، ولم يزد إلا السلب في الإثبات أو العكس ، ونريد بالسلب والإثبات هنا الإتيان بالمنافي في الجملة ، وأيضا نقض الشيء فرع الشعور به ، فذلك الشيء هو الحامل على طلب النقيض فقد انتشأ النقيض عن الأول فافهم ، وانظر أي : المعنيين أبلغ التلذذ بلومه في المحبوب ، أو بغض اللوم في المحبوب والأظهر التلذذ باللوم ؛ لاقتضائه عدم الشغل عن حبه لعارض من العوارض ، ولو كان منافيا بخلاف بغض اللوم عند سماعه فإنه يقتضي شغل القلب ببغض اللائم والفناء في الحبيب مطلقا ، بحيث لا يحس إلا بحبه أعظم من العداوة بسببه.

الأخذ والتحسين

(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (أن يؤخذ بعض المعنى) من الكلام الأول ويترك البعض ، ثم لا يقتصر في الكلام الثاني على ذلك (و) لكن (يضاف) إلى ذلك البعض المأخوذ (ما يحسنه) من المعاني ومفهوم هذا الكلام أنه إن لم يضف إليه شيء أصلا فظاهر ؛ لأن أخذ المعنى من الأول لا لبس فيه كلا كان أو بعضا ، فيعد من الظاهر ، وأما إذا أضيف إليه مالا يحسنه فالزيادة كالعدم فيكون المأخوذ ولو قل لا لبس فيه أيضا ، فيصير من الظاهر بخلاف البعض مع تزيينه بما أضيف إليه ، فإن ذلك يخرجه عن سنن الاتباع إلى الابتداع ، فكأنه مستأنف فيخفى ، ثم مثل لما ذكر وهو أن يؤخذ البعض مع إضافة ما يحسن به إليه فقال (كقول الأفوه : وترى الطير على آثارنا) (١) أي : تبصر الطير

__________________

(١) البيتان للأفوه الأزدى ، فى الإشارات ص (٣١٤) ، وعقود الجمان (٢ / ١٨٠).


وراءنا تابعة لنا (رأي عين) أي : معاينة ، وإنما أكد قوله : ترى ، بقوله رأي عين ، لئلا يتوهم أنها بحيث ترى بالنسبة لمن أمعن النظر بتكلف لبعدها ، ولئلا يتوهم أن المعنى أنها لما تبعتنا كأنها رؤيت ، ولو لم تر لبعدها ؛ لأنه يقال : ترى فلانا يفعل كذا ، بمعنى أنه : يفعله ، فهو بحيث يرى في فعله لو لا المانع.

(ثقة) مصدر بمعنى اسم الفاعل وهو حال من الطير أي : تراها حال كونها واثقة ، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله من العامل المتضمن للمجرور الذي هو على آثارنا ، أي : ترى الطير كائنة على آثارنا ؛ لأجل وثوقها (أن ستمار) فكان ثقة على هذا جوابا لسؤال مقدر ؛ إذ كأنه قيل لماذا كانت الطيور على آثاركم؟ فقال : كانت على آثارنا وتبعتنا لثقتها بأن ستمار ، أي : بأنها ستطعم من لحوم القتلى ، يقال : ماره أتاه بالميرة ، أي : الطعام وأطعمه إياه ، هذا هو المأخوذ منه (وقول أبي تمام : وقد ظللت) (١) بالبناء للمجهول (عقبان) نائب فاعل ظللت ، أي : ألقي الظلل على عقبان (أعلامه ضحى) وإضافة عقبان إلى الأعلام من إضافة المشبه به إلى المشبه أي : الأعلام التي هي كالعقبان في تلونها وفخامتها ، فالمراد بالعقبان : الأعلام نفسها ، وقيل : الإضافة على أصلها من مباينة الأول للثاني ، والمراد بعقبان الأعلام الصور التي على حد الأعلام من ذهب أو فضة أو غيرهما ، وهذا يتوقف على أن تلك الصور صنعت على هيئة العقبان ولم يثبت (بعقبان) متعلق بظللت أي : ظللت عقبان الأعلام بعقبان (طير) لأنها لزمت فوق الأعلام ، فألفت ظلها على الأعلام ، ومن وصف عقبان الطير أنها (في الدماء نواهل) أي : نواهل في الدماء ، ونواهل جمع ناهل اسم فاعل من نهل إذا روى ضد عطش ، وهذه الحال يحتمل أن تكون على طريق التقدير أي : يؤول أمرها حال تظليلها الأعلام إلى أن تكون بعد أن تضع الحرب أوزارها ، أو بعد وقوع القتلى ، أو لها نواهل في الدماء ، فكأنه يقول : ظللنها لرجائها النهل في الدماء ، ويحتمل أن تكون حقيقة ، وأنها تلزم الأعلام حال كونها قد نهلت في الدماء ، ويلزم أنها شبعت من اللحوم وإنما لزمت حينئذ لتتوقى لحوم القتلى المتأخرة بعد شبعها من الأوائل والأول أنسب بحال الطير

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٢٣٣) ، والإشارات (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).


(أقامت) تلك العقبان (مع الرايات) أي : الأعلام وثوقا بأنها ستطعم لحوم القتلى ثانيا أو ابتداء على التقديرين (حتى كأنها* من الجيش) أي : لزمن الرايات ، حتى صارت من شدة اختلاطها برؤوس الرماح والأعلام من أفراد الجيش ، ومن أجزائه فلما صارت كأنها من أفراد الجيش حسن أن يقدر أنها أعانت الجيش وقاتلت معه فلذلك استدرك فقال (إلا أنها لم تقاتل) أي : لكنها لم تباشر القتال ، ثم بين ما أسقطه أبو تمام من المعنى الكائن في البيت المأخوذ منه ، وما زاده فحسن به أتى به من ذلك المعنى بقوله (فإن أبا تمام) أي : إنما كان كلام أبي تمام بالنسبة لكلام غيره السابق مما ذكرناه لان أبا تمام (لم يلم) أي : لم ينزل ولم يأت (بشيء من معنى قول الأفوه : رأي عين) الدال على كمال قرب الطير من الجيش بحيث ترى عيانا لا أنها ترى على سبيل التخيل ، بأن يكون ثم من البعد ما يوجب الشك في المرئي هل رئي أم لا؟ أو يوجب عدم الإبصار فيعود معنى الرؤية إلى ظن الوجود ، أو تيقنه.

وكون الطيور قريبة بحيث ترى معاينة يدل على أن كمال شجاعتهم وقتلهم للأعادي عادة مستمرة ، حتى صارت الطيور عند التوجه تتيقن ذلك ، وتهوى إلى قرب النزول ؛ لأن ما سيحصل عندها لاعتياده كالحاصل ، ولا ألم بشيء من معنى قوله ثقة أن ستمار الدال على مثل ما دل عليه رأي عين بل هذا أصرح في الدلالة ؛ لأن قربها بحيث ترى أنها هو للثقة بالميرة ، والثقة لاعتياد ذلك ، وكونه معتادا يدل على كمال الشجاعة والجراءة على القتل ، فكلا المعنيين يؤكد المقصود الذي هو الوصف بالشجاعة ويفيده ، واعترض قول المصنف أن أبا تمام لم يلم بمعنى رأي عين بأن قوله ظللت بعقبان طير ، يفيد قرب الطير من الأعلام ولذلك وقع ظلها عليها ، إذ لو بعدت عن الجيش ما وقع ظلها على الرايات ، ورد بأن وقوع الظل لا يستلزم القرب بدليل أن الظل للطير يمر بالأرض أو غيرها ويحسن ، وإن كان الطير في الجو بحيث لا يرى.

والحق أن وقوع الظل لا يستلزم القرب كما قيل : لصحة أن يبعد الطير في الجو ويظهر ظله ، وأما عدم استلزامه للرؤية فمحل نظر ؛ لأن الظل يضمحل بالبعد الكثير الذي يوجب عدم الرؤية ؛ ولذلك لم تحفظ رؤية الظل من غير رؤية صاحبه.


وعلى هذا إذا كانت رؤية العين لا تستلزم القرب المفرط استوى المعنيان ، واعترض أيضا بأن قوله : حتى كأنها من الجيش ، قد يقال إن فيه إلماما بمعنى قوله رأي عين فإنها إنما تكون من الجيش إذا كانت قريبة منهم مختلطة معهم ، وإلا فالمنفصل عن الشيء البعيد عنه لا يعد من أفراده ، ويزيد هذا تأكيدا قوله : أقامت مع الرايات ؛ لأن صحبة الرايات في المكانية تستلزم القرب ، فلو جزم بأنه إلمام بمعنى رأي العين كان صوابا.

(ولكن) أي : أن أبا تمام لم يلم بشيء مما ذكر ، ولكنه (زاد عليه) أي : على الأفوه زيادة محسنة للمعنى المأخوذ من الأفوه وهو تساير الطير على آثارهم ، ووجودها معهم عند الزحف وفي وقته (بقوله) أي : زاد عليه بأمور ثلاثة أحدها قوله (إلا أنها لم تقاتل وبقوله) أي : وثانيها قوله (في الدماء نواهل وبإقامتها) أي : وثالثها قوله : أقامت (مع الرايات حتى كأنها من الجيش وبها) أي : وبهذه الزيادة الأخيرة من كلام المصنف وهي إقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش (يتم حسن) القول (الأول) في كلام المصنف أيضا وهو قوله إلا أنها لم تقاتل لأنه لو لم يقل أقامت مع الرايات حتى كأنها من الجيش بل قال :

لقد ظللت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل

ثم قال إلا أنها لم تقاتل لم يحسن ، وكذا لو قال : أقامت مع الرايات إلا أنها لم تقاتل لم يحسن ؛ لأن الاستدراك إنما يحسن فيما من شأنه أن يتوهم فيه خلاف المستدرك ، والذي يتوهم معه خلاف المستدرك مما ذكر هنا هو أنها أقامت مع الرايات حتى صارت معدودة من الجيش مظنونة منه ، بناء على أن كأن في قوله : كأنها من الجيش لظن الوقوع ، ويكون ادعائيا هنا أو أنها شبيهة بأفراد الجيش بناء أن كأن للتشبيه أي : كأنها فرد من أفراد الجيش ، فيحسن توهم كونها تقاتل ، حيث ظنت من الجيش ، أو حيث شبهت بفرد من أفراده ، إذ من جملة ما يحتمل من أوجه الشبه كونها مقاتلة وقد تقدمت الإشارة لهذا.


فإذا حسن تخيل قتالها حسن استدراك أنها لم تقاتل ، وأما كونها مع الرايات نواهل في دماء القتلى وتظليها الأعلام فلا يحسن معه تخيل قتالها ، كالجيش إذا نظر إلى ما ذكر من حيث هو ، وإن روعي أن كونها مع الرايات نواهل في الدماء وتظليها لها يوجب اختلاطها مع الجيش ويشعر بها ، وذلك يقتضي عدها منه ، وتخيل قتالها أمكن الاستدراك باعتبار هذا اللزوم ، ولكن لا يحسن الاستدراك كحسنه في التصريح بكونها من الجيش ، لخفاء هذا اللزوم ؛ ولأن الاستدراك لا يتكل فيه غالبا على اللزوم والذوق السليم شاهد صدق على عدم حسنه كحسنه مع ذكر كونها من الجيش وقيل إن الضمير في قوله : بها عائد إلى الأمور الثلاثة التي ذكرها المصنف وهى التي زادها أبو تمام وأن المراد أن بتلك الأمور حسن معنى البيت الأول أي : المعنى الذي أخذه أبو تمام من بيت الأفوه الأول ، وهو تساير الطيور على آثارها واتباعها إياهم في الزحف ، وفيه تكلف ؛ لاحتياجه إلى التقدير ، وإيهامه أن حسن معنى البيت الأول متوقف من حيث هو على هذه الزيادات ، وفيه مخالفة لما في الإيضاح أيضا.

فإن قلت : ما وجه تحسين هذه الأمور للمأخوذ من الأفوه؟ قلت : إقامتها مع الرايات وكونها مختلطة بالجيش يفيد المقصود من كمال شجاعتهم ، وأن الطيور دائما تثق بهم في القتل ، وتشبع من قتلاهم ، والاستثناء يزيد حسنا لمناسبته ، ولكن هذا يفيد الإلمام بمعنى رأي العين ، والوثوق بالميرة كما تقدم.

ولا يناسب كلام المصنف إلا أن يقال : معنى قوله لم يلم أنه لم يأت بذلك على وجه ، بين بل يحتاج إلى تأويل ، وفيه ضعف ، والأحسن بناء على كلام المصنف أن يقال في الجواب : إن ذكر كونها نواهل في الدماء يفيد أنها لا تتكلف أكل اللحم ؛ لكثرة القتلى بل تكتفي باحتساء الدماء وما في معناها مما يسهل كالكبد والطحال.

وفي ذكر كونها مقيمة مع الرايات حتى كأنها من الجيش حكاية لحال عجيبة من الطيور مع الجيش في تظليلها الجيش حتى كأنها مسخرة لهم ، كما سخرت لسليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ، مع زيادة أن ذلك ضحى ، والمعهود أن الطير تقيل ضحى ، فقد اتضح وجه كون تلك الزيادة مفيدة لحسن المأخوذ ، فإن قلت أي


فائدة لزيادة قولك إثر ما تقدم من الأبيات : هذا هو الأول المأخوذ منه ، وهذا هو الثاني المأخوذ ونحو هذا مما تقدم فإنه معلوم أن الأول أول ، والثاني ثان؟ قلت : المراد بيان أنه الأول في نفس الأمر ، والثاني في نفس الأمر ، ولا يلزم من كونه أول في الكلام أو ثانيا كونه كذلك في نفس الأمر ، وإن كان ذلك يؤخذ بطريق المناسبة ، والخطب سهل ، لأن هذا الكتاب مبنى على قصد كمال البيان. والله الموفق بمنه وكرمه.

(وأكثر هذه الأنواع) المذكورة لغير الظاهر (ونحوها) أي : ونحو هذه الأنواع (مقبولة) لما فيها من نوع تصرف ، والظاهر أن نحوها معطوف على هذه أي : وأكثر نحو هذه الأنواع مقبول وهذا الكلام يقتضي أن من هذه الأنواع ما هو غير مقبول وإن من نحو هذه الأنواع ما هو غير مقبول أيضا ، وتعليلهم المقبول بوجود نوع تصرف فيه يقتضي قبول جميع أنواع غير الظاهر ، أعنى ما ذكر منها ، وما هو نحو ما ذكر ، ويؤيد ذلك أن الظاهر يقبل بالتصرف فكيف بغير الظاهر ، ولا يقال لا يلزم من خفاء الأخذ حسن الكلام ؛ لصحة قبحه من عدم استكماله شروط البلاغة أو الحسن لأنا نقول : كلامنا فيما يوجب القبول باعتبار المأخوذ منه احترازا مما ظهر أنه سرقة ، وأقسام غير الظاهر كلها كذلك ، وعروض عدم القبول من جهة أخرى لا بحث لنا عنه الآن وبهذا يعلم أن الأولى أن يقال : إن هذه الأنواع ونحوها مقبولة ، وكون التعبير بالكثرة لاعتبار ما يعرض من الرد العارض فيه ضعف ؛ لما ذكرنا أنه لا بحث لنا عن ذلك الآن.

حسن التصرف

(ومنها) أي : ومن هذه الأنواع التي تنسب لغير الظاهر مطلقا لا بقيد كونها مذكورة (ما أخرجه حسن التصرف) الواقع من حذق الآخر ، ومعرفته كيفية التعيين (من قبيل الاتباع إلى حيز الابتداع) فإن حسن الصنعة يصير المصنوع غير أصله حتى في المحسوسات ، فإن الشيء كلما ازدادت فيه لطائف وأوصاف كان أقرب إلى الخروج عن الأصل والجنس ألا يرى إلى الجوهر مع الحجر ، والمسك مع الدم (وكل ما كان) الكلام المأخوذ من غيره (أشد خفاء) من مأخوذ آخر ، وذلك بأن يكسى من التصرف وإدخال اللطائف ما أوجب كونه لا يفهم أنه مما أخذ منه ، وأن أصله ذلك المأخوذ منه


إلا بعد مزيد التأمل وإمعان النظر (كان أقرب إلى القبول) مما ليس كذلك ، وذلك أنه يصير بتلك الخصوصيات المزيدة أبعد من الاتباع ، وأدخل في الابتداء ؛ لما ذكرنا. وتقرر أن زيادة اللطائف تخرج عن الجنس ، ألا ترى إلى قول أبي نواس :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

مع أصله فيما تقدم وهو قوله :

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا

فإنه لا يفهم أن الأول من الثاني إلا بإمعان النظر ، واعتبار اللوازم كما تقدم ، وذلك أنه أخذ مجرد إقامة الشيء مقام الكثير فكساه بكسوة أرفع من الأولى ، وجعل ذلك منسوبا لقدرة القاهر الحكيم ، وإنه لا يستنكر منه جعل ذلك في فرد واحد من جميع العالم ، فكان أبعد من إقامة بنى تميم مقام الناس في الغضب والرضا.

(هذا) الذي ذكر في الظاهر وغيره من ادعاء سبق أحدهما للآخر ، وادعاء أخذ الثاني من الأول ، وحينئذ يتفرع على ذلك كون الثاني مقبولا أو مردودا ، ويتفرع على ذلك أيضا تسمية كل من الأقسام السابقة بالأسامي المذكورة (كله) أي : كل ذلك إنما هو (إذا علم أن الثاني أخذ من الأول) يعنى أن جعل الكلام الثاني سرقة ومأخوذا من الأول ، إنما يترتب ويحكم به فيتفرع عليه كونه مقبولا أولا ، وتسميته بما تقدم إن علم أن الثاني أخذ عن الأول إما بإخباره عن نفسه أنه أخذ ، أو يعلم أنه كان حافظ للكلام الأول قبل أن يقول هذا القول الثاني ، واستمر حفظه إلى وقت نظمه هذا الثاني ، كأن يشهد شاهد أنه أنشد له الكلام الأول قبل قوله إنشادا أيظن به حفظه واستمراره إلى وقت النظم ، وإنما اشترط استمرار العلم إلى وقت القول ؛ لأنه إن ذهب عن الحافظة جملة فينبغي أن يعد من توارد الخواطر ، وإن كان أقرب إلى الأخذ من محض التوارد.

وأما إن لم يعلم أخذه من الأول ، ولا ظن ظنا قريبا من العلم فلا يحكم على الثاني بأنه سرقة ولا أخذ ، لا بالقبول ولا بعدمه ، وذلك (لجواز أن يكون الاتفاق) بين القائل الأول والثاني في اللفظ والمعنى أو في المعنى وحده كلا أو بعضا (من توارد الخواطر أي : مجيئه) أي : الخاطر (على سبيل الاتفاق من غير قصد) أي : بلا قصد من الثاني (إلى


الأخذ) من الأول ، بمعنى أنه يجوز أن يكون اتفاقهما بسبب ورود خاطر هو ذلك اللفظ ، وذلك المعنى على قلب الثاني ولسانه كما ورد على الأول من غير سبق الشعور بالأول ، حتى يقصد الأخذ منه ، ويحتمل أن يراد بالخواطر العقول ، فيكون المعنى أنه يجوز أن يكون الاتفاق من توارد عقلين على أمر واحد أي : ورودهما عليه وتلقيهما إياه من مدد التوفيق من غير أن يستعين الثاني بالأول لعدم شعوره بقوله حتى يقصد الأخذ عنه ، كما يحكى عن ابن ميادة وهو اسم امرأة أنه أنشد لنفسه

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلل واهتز اهتزازا المهند (١)

أي : يفيد هذا الممدوح أموالا للناس ويتلفهما على نفسه ، إذا ما أتيته أي : إذا أتيت هذا الممدوح تهلل أي : تنور وجهه فرحا بسؤالك إياه ، لما جبل عليه من الكرم واهتز بأريحية إرادة العطاء اهتزاز السيف المهند في البريق والإشراق ، فلما أنشد هذا البيت قيل له أين يذهب بك هذا للحطيئة؟ أي : قد ضللت في ادعائك لنفسك ما هو لغيرك كيف تذهب؟ وكيف عذر تنفصل به؟ أي : لا عذر لك في هذا الضلال. يقال للضال الذي لا منفذ له إلى الانفصال عن الورطة : أين تذهب بنفسك؟ أي : أنت ضال لا سبيل لك إلى الخروج ما دمت على ما أنت عليه فقال ابن ميادة : الآن علمت أني شاعر أي : حين وافقت من سلم له الشعر في اللفظ والمعنى ، مع أنى لم أسمعه ، ولم أنقله عن صاحبه.

ومثل هذا ما روي أن الفرزدق لما ضرب الأسير بأمر سليمان بن عبد الملك فنبا عنه السيف ثم قال كأني بجرير يهجوني إذا سمع بهذا ويقول :

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم (٢)

فلما حضر جرير أخبر الخبر فأنشد البيت ثم قال كأني بالفرزدق قد أجابني فقال :

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ٢٨١) ، وهو لابن ميادة ، والإيضاح ص (٣٥٨).

(٢) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨١).


ولا تقتل الأسرى ولكن تفكهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم (١)

فلما حضر الفرزدق أخبر بالهجو فقط ، فأنشد البيت المذكور بعينه مع غيره فتعجب الحاضرون مما اتفق لكل منهما مع صاحبه ، وإذا تحقق أن شرط دعوى كون الثاني سرقة باعتبار الأول ، أو أخذا أن يعلم أن الثاني أخذ عن الأول ، وجب ترك نسبة الثاني إلى السرقة. (فإذا لم يعلم) أن الثاني أخذ عن الأول (قيل) في حكاية ما وقع من المتأخر بعد المتقدم (قال فلان كذا) وكذا من بيت أو قصيدة (وقد سبقه إليه) أي : إلى ذلك القول (فلان فقال كذا) سواء كان مخالفا للثاني في اعتبار ما أولا. وإنما قلنا أو قصيدة ؛ لجواز توارد الخواطر في معنى القصيدة أيضا ، بل وفي لفظها فإن الخالق على لسان الأول هو الخالق على لسان الثاني ، ولا يقال إذا لم يعلم الأخذ أنه أخذه من الأول اعتناء بفضيلة الصدق ، وفرارا من دعوى علم الغيب ، وفرارا من نسبة النقص للغير ؛ لأن أخذ الثاني من الأول لا يخلو من مطلق الانتقاص في الثاني ، باعتبار والأول المنشئ له بلا تقدم استعانة شاعر آخر. وهنا انتهى ما أورده مما يتعلق بالسرقات الشعرية.

ما يتصل بالسرقات

ثم شرع فيما يتصل بها فقال (ويتصل بهذا) أي : بما تقدم وهو القول في السرقات الشعرية (القول) فاعل يتصل أي : القول في السرقات يتصل به القول أي : الكلام (في الاقتباس و) الكلام في (التضمين و) الكلام في (العقد و) الكلام في (الحل و) الكلام في (التلميح) وهو مأخوذ من لمح إذا أبصر ، فاللام فيه مقدمة على الميم ، وليس من ملح إذا حسن حتى يكون بتقديم الميم كما قد يتوهم. وسيأتي تفسير هذه الألقاب قريبا.

ويلزم من كون القول يتصل بالقول كونها في نفسها لها اتصال بالسرقات ، ومعنى اتصالها بالسرقات تعلقها بها تعلق المناسبة ، فيناسب أن يوصل الكلام عليها

__________________

(١) البيت فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨١).


بالكلام على السرقات ووجه المناسبة أن في كل من معنى هذه الألقاب أخذ شيء من شيء سابق ، مثل ما في السرقات كما تقدم.

الاقتباس

ثم شرع في بيان هذه الألقاب على ترتيبها فقال : (أما الاقتباس) منها (فهو أن يضمن الكلام) سواء كان ذلك الكلام نظما أو نثرا (شيئا) مفعول ثان ليضمن ، والأول وهو الكلام مرفوع على أنه نائب. (من القرآن) أي : أن يؤتى بشيء من لفظ القرآن في ضمن الكلام (أو) يؤتى بشيء من لفظ (الحديث) في ضمن الكلام ، بشرط أن يكون المأتي به على أنه من كلام المضمن بكسر الميم (لا على أنه منه) أي : المأتي به من القرآن أو الحديث ، ومعنى الإتيان بشيء من القرآن على أنه منه أن يؤتى به على طريق الحكاية ، كأن يقال أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا وكذا فهذا خارج عن التضمين ، وكذا معنى الإتيان باللفظ على أنه من الحديث أن يقال مثلا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، فمثل ذلك ليس من التضمين ؛ لأنه سهل التناول ، فلا يفتقر إلى نسج الكلام نسجا يظهر منه أنه شيء آخر ، فيعد مما يستحسن فيلحق بالبديع.

ومن هذا ألحقت معاني هذه الألقاب بالبديع كما في السرقات المنسوجة نسجا مستحسنا ، وسمى الإتيان بالقرآن أو الحديث على الوجه المذكور اقتباسا أخذا من اقتباس نور المصباح من نور القبس ، وهو الشهاب ؛ لأن القرآن والحديث أصل الأنوار العلمية ، ثم إن الاقتباس لما عرفه بأن يدخل في الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه ، ودخل في الكلام النظم والنثر اشتمل على أربعة أقسام : إتيان بقرآن في نثر ، إتيان به في نظم ، إتيان بحديث في نثر ، إتيان به في نظم. فأتى المصنف بأربعة أمثلة على هذا الترتيب ، وأشار إلى الأول منها وهو : اقتباس القرآن في نثر بقوله : (كقول الحريرى فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب) أي : لم يكن من الزمن إلا كلمح بالبصر أي : لم يوجد من الزمان إلا مثل ما ذكر فأنشد فيه وأغرب


أي : أتى بشيء غريب اقتبسه من قوله تعالى (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١) وظاهر أنه أتى به لا على أنه من القرآن.

(و) إلى الثاني منها وهو اقتباس قرآن في نظم بقوله ك (قول الآخر إن كنت أزمعت) (٢) يقال أزمع على الشيء إذا عزم عليه أي : إن كنت عزمت (على هجرنا من غير ما جرم) أي : من غير ذنب صدر منا إليك (فصبر جميل) أي : فأمرنا معك صبر جميل ، اقتبسه من قوله تعالى حكاية عن يعقوب على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣) (وإن تبدلت بنا غيرنا) أي : اتخذت غيرنا بدلا منا في الصحبة والمحبة (فحسبنا الله) في الإعانة والكفاية في هذه الشدة التي هي قطعك حبل وصالنا (ونعم الوكيل) المفوض إليه في الشدائد اقتبسه من قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ)(٤).

(و) إلى الثالث منها وهو اقتباس حديث في نثر بقوله وك (قول الحريري قلنا : شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن يرجوه) اقتبس شاهت الوجوه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين : " شاهت الوجوه" (٥) وذلك أنه روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما اشتدت الحرب يوم حنين أخذ كفا من حصى ، فرمى بها وجوه المشركين فقال : " شاهت الوجوه" أي : قبحت وتغيرت بانكسارها وانهزامها وعودها بالخيبة. مما تريد ، فلما فعل ذلك انهزم المشركون ، اللكع : اللئيم ، وقبح بضم القاف وكسر الباء مبنى للمجهول من قبحه بفتح القاف والباء يقبحه بفتحها أيضا مع تخفيفها في الكل بمعنى لعنه الله تعالى وأبعده ، قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٦).

__________________

(١) النحل : ٧٧.

(٢) البيت لأبى القاسم بن الحسن الكتابى ، فى الإيضاح ص (٣٥٢) ، وفى شرح المرشدى (٢ / ١٨٤).

(٣) يوسف : ١٨.

(٤) آل عمران : ١٧٣.

(٥) أخرجه مسلم فى الجهاد ، باب غزوة حنين ، (ح ١٧٧٧) ، من حديث سلمة بن الأكوع.

(٦) القصص : ٤٢.


(و) إلى الرابع منها وهو اقتباس حديث في نظم بقوله ك (قول ابن عباد :

قال لي إن رقيبى

سيء الخلق فداره) (١)

أي : فدار الرقيب وهو فعل أمر من المداراة ، وهي الملاطفة أي : رقيبى قبيح الطبع غليظه فلاطفه لتنال معه المطلوب.

(قلت : دعني ، وجهك الجن

ة حفت بالمكاره)

اقتبس هذا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات" (٢) أي : أحيطت كل منهما بما ذكر بمعنى أنه لا يوصل إلى الجنة حتى ترتكب دونها مشاق المجاهدة والتكاليف ، والنار تجلب إليها الشهوات ، فصارت لكونها توصل إليها بسبب حملها على المعصية ، وكونها سببا شرعيا سابقا لدخولها كالشيء المحيط بغيره فلا يوصل إليه إلا منه. ومراده أن من طلب جنة وجهك يتحمل مشاق الرقباء وإذا يتهم وغيرهم فلا يتوقف على المداراة والملاطفة ، كما أن من طلب جنة الآخرة يتحمل مشاق المجاهدة للقيام بالتكاليف.

(وهو) أي : الاقتباس من حيث هو (ضربان) أي : نوعان أحد الضربين (ما) أي : الاقتباس الذي (لم ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي) بل أريد به في كلام المقتبس بكسر الباء ذلك المعنى الأصلي بعينه (كما تقدم) في الأمثلة فإن قوله (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أريد به ذلك المقدار من الزمان كما أريد في الأصل وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ*) على معناه وكذا (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) و" شاهت الوجوه" أريد به قبح الوجوه وتغيرها ، كما أريد في الأصل ، وكذا" حفت الجنة بالمكاره" فإن المفهوم في الأصل والفرع واحد ، وإن كان المراد بمصدوق الفرع خلاف الأصل ؛ لأن الاختلاف في المصدوق لا عبرة به ، وإلا كان غالب الألفاظ مختلفا.

(و) الضرب الثاني (خلافه) أي : خلاف ما لم ينقل عن الأصل ؛ فالخلاف ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي (كقوله :

__________________

(١) البيت لابن عباد ، أورده الطيبى فى التبيان (٢ / ٤٥٥) ، وشرح المرشدى.

(٢) رواه البخارى فى الفتن ، والأحكام ، ومسلم فى الإمارة وغيرهما.


لئن أخطأت في مدحي

ما أخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع) (١)

فقوله : بواد غير ذي زرع مقتبس من قوله تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٢) ومعناه في القرآن على ظاهره ، وهو واد لا ماء فيه ولا نبات وهو شعب مكة المشرفة ، وقد نقله الشاعر وهو ابن الرومي إلى جناب لا خير فيه ولا نفع على وجه التجوز ، ومعنى البيتين : أني إن غلطت في مدحك بأن مدحتك مع أنك لست أهلا فقد اتفق مع غلطي أنك ما غلطت في منعي مما طلبت منك ؛ لأن المنع والبخل وصفك ، وما جاء من الفعل على وفق وصف صاحبه لا يعد صاحب ذلك الفعل غالطا فيه ، إنك بمنزلة واد لا زرع فيه ، فأنت جناب لا خير فيه ، فالمنع منك ليس ببدع ولا خطأ ، وإنما الخطأ من الطالب في مثلك ، وفي هذا الكلام من الذم بعد المدح مالا يخفى ، ولا يقال وكذا قوله وجهك الجنة حفت بالمكاره ؛ لأنه نقل إلى جنة هي الوجه وإلى حفوف بالمكاره التي هي مشاق الرقيب ، والأصل الجنة الحقيقية ، والمكاره التي هي التكاليف ، فكيف يعد مما لم ينقل ؛ لأنا نقول : لا تجوز هنا فإن الوجه شبه بالجنة والمكاره أريد بها مصدوقها ؛ لأنه أريد بها مشاق الرقيب وهو أحد مصادقها ، وقد تقدم أن الاتحاد في المفهوم يكفى ولا عبرة باختلاف المصدوق بعد اتحاد المفهوم فلا تجوز ، ولما كان ظاهر العبارة أن الاقتباس هو الإتيان بنفس لفظ القرآن أو الحديث بلا تغيير نبه على أنه يسمى الاقتباس ، وإن وقع فيه تغير إذا كان يسيرا ، فقال (ولا بأس بتغيير يسير) في اللفظ المقتبس ويسمى اللفظ معه مقتبسا ، وأما إذا غير كثيرا حتى ظهر أنه شيء آخر لم يسم اقتباسا ، كما لو قيل في شاهت الوجوه : قبحت الوجوه ، أو تغيرت الوجوه أو نحو ذلك ، والتغيير المغتفر عند يسارته ، يكون إذا قصد به الاستقامة (للوزن أو) الاستقامة (لغيره) أي : لغير الوزن ؛ كاستواء القرائن في النثر ، ثم مثل للتغيير

__________________

(١) البيت لابن الرومى ، فى الإشارات ص (٣١٦) ، والإيضاح ص (٣٥٢) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٤).

(٢) إبراهيم : ٣٧.


اليسير لأجل الوزن فقال (كقوله) أي : كقول بعض المغاربة حين مات له صاحب (قد كان) (١) أي : قد وقع (ما خفت أن يكونا) أي : أن يقع (إنا إلى الله راجعونا) اقتبسه من قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢) فقد نقص مما أخذ من الآية اللام من لله وإنا والضمير من إنا إليه قصدا لاستقامة الوزن.

التضمين

(وأما التضمين) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن يضمن الشعر) خرج النثر فلا يجرى فيه التضمين ، ولاختصاصه بالشعر لم يشترط فيه أن ينبه على أن الكلام لغير المضمن ، بل يجوز فيه التنبيه وعدمه عند الشهرة كما سيأتي ؛ وذلك لأن ضم كلام الغير في الشعر على وجه يوافق المضموم إليه مما يستبدع ؛ إذ ليس سهل التناول ، ولذلك عد في المحسنات (شيئا) أي : هو أن يدخل في الشعر شيئا (من شعر الغير) خرج به ما إذا ضمن شيئا من نثر الغير ، فلا يسمى تضمينا بل عقدا كما سيأتي ، وأطلق في الشيء المضمن ليشمل تضمين بيت أو فوقه أو مصراع أو دونه ، فإن كل ذلك يسمى تضمينا ، والأحسن أن يقول : بدل قوله : من شعر الغير ، من شعر آخر ؛ ليشمل ما إذا ضمن شيئا من شعر نفسه من قصيدة أخرى مثلا ، ولكن لقلة التضمين على هذا الوجه لم يعتبره (مع التنبيه عليه) أي : مع التنبيه على أنه من شعر الغير (إن لم يكن) ذلك الشعر المضمن (مشهورا) لصاحبه (عند البلغاء) لكثرته وشيوع إشاده ، وبهذا القيد أعنى اشتراط التنبيه عليه إلا أن يكون مشهورا فتغنى شهرته عن التنبيه تخرج السرقة والأخذ ؛ لأن فيها تضمين شعر أيضا ، وإنما افترقا في أن السارق يبذل الجهد في إظهار كونه له ، والمضمن يأتي به منسوجا مع شعره مظهرا أنه لغيره وإنما ضمه إليه ليظهر الحذق وإظهار كيفية الإدخال للمناسبة ، ولما شمل الكلام تضمين بيت أو أكثر أو

__________________

(١) الصحيح أن البيت لأبى تمام قاله عند موت ابنه ، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (٣١٦) ، والإيضاح ص (٣٥٣).

(٢) البقرة : ١٥٦.


مصراع أو أقل كانت هنا ثمانية أقسام تضمين بيت مع التنبيه على أنه لغيره أو بدون التنبيه لشهرة هذان قسمان ، وتضمين أكثر مع تنبيه أو بدونه هذان قسمان أيضا ، وتضمين المصراع بتنبيه أو بدونه قسمان آخران أيضا ، وتضمين دون المصراع بتنبيه أو بدونه قسمان أيضا ، مجموع ذلك ثمانية أربعة في تضمين البيت وإلا كثر ، وأربعة في تضمين المصراع وإلا قل ، والأمثلة المطابقة لها ثمانية ، ولكن ينبغي الاستغناء بمثالي البيت عن مثالي الأكثر لطول الأكثر مع قلة وجوده ، ولكون طريق التنبيه فيهما واحدا ؛ لانفصاله فيهما عن المضمن ، كما ينبغي الاستغناء بمثالي المصراع عن مثالي الأقل ؛ لأن طريق التنبيه فيهما متصل مع المضمن في بيت واحد غالبا مع قلة وجوده أيضا ، فالمحتاج إليه على هذا مثالان لتضمين البيت ، ومثالان للمصراع ، فأما مثال تضمين المصراع مع التنبيه فأشار إليه فقال (كقوله) أي : الحريري حاكيا ما قاله الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع :

(على أني سأنشد عند بيعي

أضاعوني وأي فتى أضاعوا) (١)

فقوله : سأنشد نبه به على أن المصراع الثاني لغيره وهو قوله :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

وتمامه :

ليوم كريهة وسداد ثغر

والكريهة لفظ يعبر به عن الحرب ؛ لأنها مكروهة عند اشتدادها كما قال :

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها

ولت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء تنكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل (٢)

__________________

(١) البيت في عقود الجمان (٢ / ١٨٨) ، والإشارات ص (٣١٨) ، والإيضاح ص (٣٥٤).

(٢) الأبيات لعمرو بن معد يكرب فى ديوانه ص (١٥٤) ، وأمالى ابن الحاجب (٢ / ٦٦٦) ، ولامرئ القيس فى ملحق ديوانه ص (٣٥٣).


وسداد الثغر هو بكسر السين بمعنى سده ، والثغر هو الموضع الذي يخشى منه العدو من فروج البلدان ، واللام في ليوم كريهة توقيتية ، وأي استفهام أريد به التعظيم كما تقول عندي غلام وأي غلام أي : هو أكمل الغلمان ، واللام يحتمل أن تتعلق بأضاعوني فيكون المعنى أنهم أضاعوني وقت الكريهة ووقت حاجتهم لسد الثغر ، فقد أضاعوني أحوج ما كانوا إلى مع أني أكمل المحتاج إليهم ، ويحتمل أن يتعلق بما يفيده أي : من الكمال أي : أضاعوني وأنا أكمل الفتيان في وقت الكريهة وفي وقت الحاجة لسد الثغر ؛ إذ لا يوجد من الفتيان من هو مثلى في تلك الشدائد ، وعلى هذا يكون زمان الإضاعة غير زمان الكريهة ، وسد الثغر ، وعلى كل حال ففي الكلام تنديم المضيعين وتخطئتهم على إضاعة مثل هذا القائل ، وهذا البيت قيل : إنه للعرجي وهو عبد الله بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وسمى العرجى نسبة للعرج بسكون الراء موضع بطريق مكة ، وقيل : لأمية بن أبى الصلت.

وأما مثال تضمين المصراع بدون التنبيه لاشتهاره فكقوله :

قد قلت لما أطلعت وجناته

حول الشقيق الغض روضة آس

أعذاره الساري العجول ترفقن

ما في وقوفك ساعة من باس (١)

فقوله : ما في وقوفك ساعة من باس مصراع معلوم لأبى تمام ، والوجنات جمع وجنة وهى ما ارتفع من الخدين ، والشقيق ورد أحمر ، والغض هو الطري اللين ، والروضة بقعة هي منبت الأشجار الثمارية ، والآس هو الريحان ، ويقال له : روض أخضر ، والهمزة في أعذاره للنداء ، والعذار هو ما يلقى من الشعر على الخد مما يليه من الرأس ، والساري في الأصل الماشي بالليل ، والعجول وصف له ، والمعنى : أني أقول له حين رأيته وقد أطلعت وجناته حول حمرتها التي هي كالورد شعرا من جهة خده كأنه في التلون والطيب شجر الآس في روضته يا عذاره الساري العجول ، وإنما نادى عذاره ؛ لأنه هو المشغوف به ، وكثيرا ما يشبب به فاستغنى بندائه عن نداء صاحبه ؛ لأنه هو

__________________

(١) البيتان لأبى خاكان أبى العباس أحمد بن إبراهيم ، فى الإيضاح ص (٣٥٥) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٨).


الآخذ بزمام قلب المنادى ، ووصفه بأنه الساري ؛ لأنه مشتمل على سواد كسواد الليل فكأنه سار بالليل وبالعجول ؛ لأن فيه تظهر عجلة المسرع ، وقوله : ترفقن هو فعل أمر بنون توكيد خفيف من الترفق وهو الاستمساك بالرفق ، وأما مثال تضمين البيت مع التنبيه على أنه لغير المضمن فكقوله :

إذا ضاق صدري وخفت العدا

تمثلت بيتا بحالي يليق

فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق (١)

وأما مثاله بدون التنبيه لأجل وجود الشهرة فكقوله :

كانت بلهنية الشبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحل فبات دون المنزل (٢)

فإن البيت الثاني مشهور لمسلم بن الوليد الأنصاري ، والبلهنية بضم الباء سعة العيش ورخاء الحال ، وربما اجتمع الأمر أن التنبيه والشهرة فيكون التنبيه كالتأكيد وذلك كقوله :

كأنه كان مطويا على إحن

ولم يكن في قديم الدهر أنشدني

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن (٣)

والإحن الضغائن والشحناء.

ثم تضمين أقل من البيت قد يكون مع تمام المعنى بلا تقدير كما تقدم في : أضاعوني وأي فتى أضاعوا ، وقد يكون بتقدير ويسمى تضمينا أيضا كقوله :

كنا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منا في قذى وأذى

والآن أقبلت الدنيا عليك بما

تهوى فلا تنسنى أن الكرام إذا (٤)

__________________

(١) البيتان لعبد القاهر بن الظاهر التميمى ، فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٨).

(٢) فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٨).

(٣) شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٨) ، وهما لابن العميد ، والإيضاح ص (٣٥٤).

(٤) البيتان فى شرح المرشدي (٢ / ١٨٩).


يعنى : إذا ما أسهلوا ذكروا إلى آخر بيت أبي تمام السابق ، ولا بد من تقديره ليتم المعنى ، ولكن لا يعدون هذا من تضمين البيت ، ولو توقف المعنى على تمامه نظرا إلى أن الموجود بعضه.

(وأحسنه) أي : وأحسن التضمين (ما زاد على الأصل) أي : على شعر الشاعر الأول (بنكتة) لم توجد في ذلك حيث ضمن شطرا مثلا لا يفيد نكتة في الكلام الأول زائدة على ما كان فهو أدنى من هذا ، وبه يعلم أن منشأ الحسن هو كون المزيد لنكتة ، وإلا فالزيادة على المضمن لا بد منها ، فلم يحترز بمطلق الزيادة عن شيء ، وإنما احترز بكونها لنكتة زائدة على ما كان فالمحترز عنه هو الزيادة لغير ذلك ، وتلك النكتة (كالتورية) وقد تقدم أنها مرادفة للإيهام ، وأن معناهما أن يكون للكلام معنى بعيد وقريب ، ويراد البعيد لقرينة ، وقد تقدم الفرق بينه وبين المجاز في مادة يكون فيه اللفظ مجازا.

(و) ك (التشبيه) الموجودين (في قوله : إذا الوهم أبدى لي) أي : أظهر لي (لماها) أي : حمرة شفتيها (وثغرها) أي : فاها ، وهو من عطف الكل على وصف الجزء (تذكرت) جواب (إذا ما بين) مفعول تذكرت (العذيب وبارق) وأراد بالعذيب الذي هو تصغير العذب شفة المعشوقة ، وبالبارق فاها وثغرها الشبيه بالبرق في لمعان أسنانه ، والذي بينهما هو ما يمص من ريقها ، وهذا الشطر أعنى قوله تذكرت إلخ شطر بيت لأبي الطيب المتنبي ، وسيأتي في البيت الثاني شطره الآخر والبيت قوله :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق (١)

فالعذيب وبارق قصد بهما المتنبي موضعين معلومين ، وذلك هو معناهما القريب المشهور ، وقد تقدم ما أراده المضمن من معناهما البعيد ؛ لأنه أدنى في الشهرة من مراد المتنبي ، فكان في كلام المضمن تورية وإيهام ، حيث أطلق اللفظين وأراد بهما معناهما البعيد ، فهذا البيت تضمن التورية ، ثم أشار إلى ما يتضمن نكتة التشبيه بقوله (ويذكرني)

__________________

(١) البيت لزكى الدين بن أبى الأصبع ، فى الإشارات ص (٣١٨) ، وشرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٨٩).


من الإذكار بقطع الهمزة ، وفاعله ضمير يعود على الوهم أي : ويذكرني الوهم (من قدها ومدامعي) مجرور ومعطوف عليه ، ومن فيها للابتداء يعنى أن منشأ إذكار الوهم إياي هو إحضار قدها وإحضار مدامعي أو حضورهما (مجر) مفعول ثان ليذكرني (عوالينا) أي : رءوس رماحنا (ومجرى السوابق) معطوف على مجر يعنى أنه إذا حضر قدها وحضر تتابع دموعي أذكرني الوهم بذلك الموضع الذي تجر فيه العوالي ، أو جرى العوالي والموضع الذي تجرى فيه سوابق الخيل أو جرى الخيل ؛ لأن قدها يشبه العوالي والرماح في التمايل والطول ؛ فتذكر به ، ودموعي تشبه في تتابعها وسرعتها سبق الخيل فيذكر بها ، فقد تضمن هذا البيت بما زيد على المضمن ، وهو شطر بيت المتنبي الذي هو مطلع قصيدته أعنى قوله :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق

التشبيه ، ولا يخفى أن الشطر الأول لما كانت نكتته التورية فقد نقل عن معناه الأصلي نظير ما تقدم في الاقتباس ، وأنه قد ينقل لغير معناه كما في قوله :

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع

بخلاف الشطر الثاني ، ومعنى بيت المتنبي أنه تذكر ما بين الموضعين ، أعنى : العذيب وبارق ، وهو أنهم كانوا نزولا هنالك ويجرون الخيل السوابق في ذلك المكان ، ويجرون العوالي على الأرض عند مطاردة الفرسان ومقابلة الأقران ، فنقله الشاعر مفرقا كما رأيت لنكتة فجاء أحسن من غيره ، وقد تقدم إعراب ما يحتاج إليه من بيتي المضمن ، وأما إعراب بيت المتنبي ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون قوله : " ما بين" مفعول" تذكرت" على أن" ما" موصولة أي : تذكرت الذي بين العذيب وبارق ، وأبدل منه" مجر عوالينا" على أنه اسم مكان ، أو مصدر ، والآخر أن يكون قوله : " مجر عوالينا" منون ، " تذكرت" و" ما بين" ظرف بناء على أن ما زائدة إما لتذكرت ويكون التقدير تذكرت ، مجر العوالي ، وذلك التذكر وقع بين العذيب وبارق وإما للمجر على أنه مصدر وقدم عليه معموله الذي هو الظرف ؛ لأنه يتوسع في تقديم الظرف على عامله ،


وإن كان مصدرا فيكون التقدير تذكرت جر العوالي وإجراء السوابق حين وقع ذلك الجر والإجراء بين العذيب وبارق.

(ولا يضر) في التضمين (التغيير اليسير) بل يسمى إدخال ما هو من شعر الغير في شعر الإنسان على الوجه المذكور تضمينا ، ولو وقع فيه تغيير يسير ؛ لقصد انتظامه ودخوله بالمناسبة في معنى الكلام بذلك التغيير اليسير ؛ لتوقف تضمينه على وجه المناسبة للمراد على ذلك التغيير ، واحترز بذلك من التغيير الكثير فإنه يخرج به المضمن عن التضمين ويدخل في حد السرقة إن عرف أنه للغير ، والفرق بين اليسير والكثير موكول إلى عرف البلغاء فما يقال فيه : هو ذاك بعينه ولا فرق بينهما إلا هذا الأمر الخفيف الظاهر فيسير ، وما يقال فيه : ليس هو لمخالفته إياه في أمور تبعده فكثير ، فالتغيير اليسير الذي لا يخرج به الشيء عن التضمين ، كما في قول الشاعر في يهودي أصابه داء الثعلب وهو داء يتناثر منه الشعر :

أقول لمعشر غلطوا وغضوا

عن الشيخ الرشيد وأنكروه

هو ابن جلا وطلاع الثنايا

متى يضع العمامة تعرفوه (١)

فالبيت الثاني لسحيم بن وثيل بنفسه وهو قوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني (٢)

ولم يغير فيه إلا التكلم بالغيبة كما رأيت ، ومراد الشاعر الأول الافتخار وأنه ابن رجل جلا أمره واتضح ، وأنه متى يضع العمامة للحرب ، وتوجه له يعرف قدره في الحرب ونكايته بناء على أن المراد بالعمامة ملبوس الحرب ، أو متى يضع لثامه يعرف لشهرته ومراد الثاني التهكم باليهودي ، وأنه ابن شعر أي : صاحب شعر جلا الرأس منه وانكشف عن الرأس وأنه طلاع الثنايا أي : ركاب صعاب الأمور وهى مشاق داء الثعلب ومشاق الذل والهوان ، ومراده الرشيد الغوي على وجه التهكم وبكونه متى

__________________

(١) في الإيضاح ص (٣٥٦) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٩).

(٢) فى شرح المرشدى (٢ / ١٨٩) ، والإيضاح ص (٣٥٦).


يضع العمامة يعرف أنه متى وضع عن رأسه العمامة يعرف داؤه وعيبه ، وأراد بالمعشر اليهود وغلطهم ذكره على وجه التلميح لمناسبته لظاهر ما يفتخر به ، وإلا فلم يغلطوا في تبعيده وإنكاره ، وإنما غيره إلى الغيبة ليدخل أي : ينتظم بالمقصود ويناسبه ، وهو كون من نسب إليه ما ذكر على وجه التهكم متحدث عنه لا متحدث عن نفسه كما في الأصل (وربما سمى تضمين البيت فما زاد) أي : فأكثر من البيت كتضمين بيتين أو ثلاثة (استعانة) لظهور التقوى بالبيت على تمام المراد بخلاف ما هو دون ذلك ، ورب على أصلها من القلة أخذا بالظاهر.

(و) ربما سمى أيضا (تضمين المصراع فما دونه) كنصفه (إيداعا) لأنه لقلته كأنه أمانة أودعت عند من له سعة يودع لأجلها ، فما أتى به من المصراع أو دونه لكونه شيئا قليلا كأنه أودعه سعة شعره.

(ورفوا) عطفا على قوله إيداعا أي : يسمى تضمين المصراع فما دونه رفوا أيضا ورفو الثوب إصلاح خرقه فكأنه لقلته أصلح به خرق شعره كما يرفأ الثوب بالخيط الذي هو من جنسه.

العقد

(وأما العقد) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن ينظم نثر) سواء كان ذلك النثر المنظوم في أصله قرآنا ، أو كان حديثا ، أو مثلا ، أو غير ذلك ؛ ككلام حكمة مشهور عن صاحبه ، إلا أن النثر المنظوم إن كان غير قرآن وحديث ، فنظمه عقد فلا حاجة للتقييد بشيء آخر ، وإن كان قرآنا أو حديثا فيقيد بأن يكون النظم (لا على طريق الاقتباس) وقد تقدم أن النظم الذي يكون في القرآن والحديث على طريق الاقتباس هو أن ينظم أحدهما لا على أنه من القرآن أو الحديث بلا تغيير كثير ، فإذا نظم أحدهما مع التغيير الكثير خرج عن الاقتباس فيدخل في العقد ، وكذا إذا نظم مع التنبيه على أنه من القرآن أومن الحديث ، وذلك كما تقدم يحصل بأن يذكر المنظوم على الحكاية ، كأن يقال : قال الله تعالى كذا ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا فإنه يخرج بذلك عن الاقتباس أيضا ويدخل في العقد ، فتحصل من هذا أن نظم غير القرآن


والحديث عقد بلا قيد ، ونظم القرآن أو الحديث إنما يكون عقدا ـ إن نبه على أنه من القرآن أو الحديث أو غير ـ كثيرا ، وإلا فنظمهما اقتباس خارج عن العقد ، وقد تقدم ، فمثال العقد في القرآن لكونه نبه على أنه منه قول بعضهم :

أنلني بالذي استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإن الله خلاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمى فاكتبوه (١)

وقد نبه على أنه من القرآن بقوله : يقول.

ومثاله في الحديث للتنبيه مع التغيير الكثير ؛ لأنه لا منافاة بينهما فصح أن يجمعهما مثال واحد ، قول الشافعي رضي الله تعالى عنه :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهن خير البريه

اتق الشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملن بنيه (٢)

فقد عقد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات من تركها سلم ، ومن أخذها كان كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" (٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (٦) ولا يخفى ما يقابل كل حديث من الكلمات الشعرية على هذا الترتيب كما لا يخفى ما

__________________

(١) الأبيات فى شرح المرشدى (٢ / ١٩١) ، والإيضاح ص (٣٥٦).

(٢) شرح المرشدى (٢ / ١٩١) ، وهما من قول أبى الحسن طاهر بن معوذ الإشبيلى ، وليسا للإمام الشافعى على ما زعم بعضهم ، الإيضاح ص (٣٥٧).

(٣) أخرجاه في الصحيحين.

(٤) رواه ابن ماجه ، والطبرانى ، والحاكم ، والبيهقى ، وانظر صحيح الجامع الصغير وزيادته. للشيخ الألباني (ح ٩٢٢).

(٥) رواه الترمذى وغيره هكذا ، وقال حديث حسن.

(٦) رواه البخاري (ح ١) ، ومسلم (٤ / ٥٧١).


في العقد من التغيير الكثير ، وأما عقد غير القرآن والحديث ف (كقوله : ما بال من أوله نطفة* وجيفة آخره يفخر) (١) وجملة يفخر في محل نصب على الحال ، أي : ما باله مفتخرا ، وصح مجيء الحال عن المضاف إليه ؛ لأن المضاف بصدد السقوط ، والعامل ما تضمنته ما ، والتقدير أسأل عن حاله مفتخرا ، ولو قيل حينئذ : أسأل عنه مفتخرا في هذه الحال صح ، وهذا البيت (عقد) فيه (قول) مولانا (على رضي الله) تعالى (عنه مالا بن آدم والفخر) أي : أي شيء ثبت لابن آدم ، فيثبت له الفخر أي : أي جامع بينهما (إنما أوله) أي : أصله (نطفة ، وآخره جيفة) أي : وحاله الأخيرة حال جيفة ، فمن أين يأتيه الافتخار؟ وقد زاد بعضهم في معنى هذا الكلام فقال مالك وللفخر أولك نطفة مذرة ، ووسطك جسم حامل للعذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، فمالك وللفخر.

الحل :

(وأما الحل) وهو مقابل للعقد من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن ينثر نظم) أي : أن يجعل النظم نثرا ، وشرط كونه مقبولا أمران :

أحدهما : أن يكون سبكه حال نثره أي : تركيبه وجمعه مختارا حسنا لا يتقاصر عن النظم في حسنه ، وذلك بأن يشتمل على ما ينبغي أن يراعى من بديع النثر الذي به يكون كهيئة النظم ، ككونه مسجعا ذا قرائن مستحسنة ، فلو كان غير ذلك لم يقبل.

والآخر : أن يكون مطابقا لما تجب مراعاته من البلاغة مستقرا في مكانه الذي يجب أن يستعمل فيه ، فلو كان قلقا لعدم طباقه مضطربا لعدم موافقته محله لم يقبل ، وليس من شرطه أن يستعمله في نفسه معناه ، بل لو نقله من هجو إلى مدح مثلا مع كونه مطابقا قبل ، فالمستكمل للشرطين (كقول بعض المغاربة) في وصف شخص بأنه سيئ الظن ؛ لقياسه على نفسه غيره (فإنه لما قبحت فعلاته) أي : أفعاله (وحنظلت نخلاته) أي : صارت ثمار نخلاته كالحنظل ، وهذه الجملة تمثيلية فإنه شبه حال من تبدلت

__________________

(١) البيت لأبى العتاهية ، انظر عقود الجمان (٢ / ١٩١) ، والإشارات (٣١٩).


أوصافه الحسنة بغاية ما يستقبح من الأوصاف بحال من له نخلات تثمر الحلو ، ثم انقلبت تثمر مرا في كون كل منهما له تبدل مما يستملح إلى الاتصاف بما يستقبح ، فاستعمل الكلام الذي يدل على الحالة الثانية في الحالة الأولى على وجه التمثيل (لم يزل سوء الظن يقتاده) أي : لما كان قبيحا في نفسه قاس الناس عليه ، فساء ظنا بهم في كل شيء ، فصار سوء الظن يقوده إلى مالا حاصل له في الخارج من التخيلات الفاسدة والتوهمات الباطلة (و) لم يزل (يصدق توهمه الذي يعتاده) يعنى : أنه لما كان يعتاد العمل القبيح من نفسه توهم أن الناس كذلك ، فصار يصدق ذلك التوهم الذي أصله ما اعتاد ، فلم يحصل بسبب ذلك إلا على الإثم والعداوة ؛ لأن أكثر الظن إثم ، ومعاملة الناس باعتقاده السوء عداوة.

وقد (حل) في هذا الكلام المسجع على ضرب من التجوز ، فحسن سبكه بذلك وطابق في إفادة المراد (قول أبي الطيب) المتنبي يشكو سيف الدولة ، وأنه استمع قول الأعادي فيه ، وأن سبب ذلك هو سوء فعله وإصراره على السوء للناس ، فظن أن الناس كذلك (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه* وصدق) (١) أي : في الناس (ما يعتاده من توهم) أي : من أمر يتوهمه في الناس ؛ لاعتياد مثله في نفسه ، فإن من الكلام المشهور أن الإنسان لا يظن في الناس أن يفعلوا معه إلا ما يعتقد أن يفعل معهم ، ومن كلام العامة : إنما يظن الذئب ما يفعل ، فلو لم يحسن السبك كما لو قيل كما اشتهر على الألسن : أن الإنسان لا يظن إلا مثل فعله ، ومثل ذلك لم يقبل ولو لم يقع موقعه ، كما لو مدح به على الإطلاق ، وقيل : لا ينبغي للإنسان أن يظن بالناس إلا ما يقتضيه فعله واعتقاده بالقياس لم يقبل ؛ لأنه لم يطابق المعنى المسلم ، وإنما الممدوح سوء الظن في مواضع الحذر لا بالقياس مطلقا.

__________________

(١) انظر شرح عقود الجمان (٢ / ١٩١).


التلميح

(وأما التلميح) من الألقاب السابقة (فهو) أي : فمعناه (أن يشار إلى قصة أو شعر) أو مثل سائر في الناس (من غير ذكره) أي : من غير أن يذكر المشار إليه بنفسه ومن غير استقصائه ، ولكن يشار إليه إشارة يفهم بها من قوة الكلام ومن القرائن المشتمل عليها الكلام ، وفهم الشيء من قوة الكلام ، وقرائنه هو الفهم بفحوى الكلام ، فالإشارة إلى ما ذكر بالتصريح بل بالفحوى مع ذكر شيء منه أو كله ، ويتضح ذلك بالأمثلة ، وهذا أعنى : التلميح ، مأخوذ من لمح بتقديم اللام إذا نظر ، وكأن الشاعر أو الكاتب نظر إلى المشار إليه وراعاه ، ولذلك تسمعهم يقولون : لمح فلان هذا البيت فقال كذا ، وفي هذا البيت تلميح إلى قول فلان بتقديم اللام ، ولما كان التلميح بتقديم اللام في هذا المعنى مما يستملح ويستحسن ، فهو من الإتيان بشيء مليح ، توهم بعضهم أنه بتقديم الميم ، وأنه من ملح الشاعر بتشديد اللام إذا أتى بشيء مليح وهو سهو نشأ من توهم اتحاد الأعم بالأخص ؛ لأن الإتيان بالشيء المليح أعم من التلميح الذي هو النظر إلى شعر أو قصة أو مثل ، فيشار إليه بفحوى الكلام ، فمن جزم بأنه بتقديم الميم وتمذهب بذلك تبعا لغيره فهو غالط ، والسبب ما ذكر ، وإذا علم أن المشار إليه في التلميح ثلاثة أشياء القصة والشعر والمثل ، والمشار من جهته إما نظم أو نثر صارت أقسامه ستة من ضرب اثنين في ثلاثة ، والمذكور في الكتاب مثالان ، مثال التلميح في النظم إلى القصة ، ومثاله في النظم إلى الشعر ، وسنمثل بباقي الأمثلة ، فأشار إلى مثاله في النظم إلى القصة فقال (كقوله) أي : كقول أبي تمام :

لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهى وقع

فردت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزع

(فو الله ما أدرى أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع) (١)

__________________

(١) الأبيات لأبى تمام فى ديوانه ص (١٧٨) ، ط دار الكتب العلمية ، ومطلعها :

أما إنه لو لا الخليط المودع

وربع خلا منه مصيف ومربع


الضمير في أخراهم ولهم للمرتحلين بالمحبوب ، وحام الطير على الماء دار عليه ، وحومه جعله يحوم ، ونضا بمعنى ذهب به وأزاله ، والوقع جمع واقع أي : محبوس ، والضمير في ضوئها وبهجتها للشمس الطالعة من الخدر ، والدجنة الظلمة ، وانطوى انضم وزال ، والثوب المجزع هو ذو لونين ، وأشار به إلى ظلمة الليل المختلطة ببياض النجوم ، وكأنه أخذ من الجزع ؛ لأن فيه لونين ، وقوله : أأحلام نائم استعظام للواقع وتجاهل لإظهار التحير والتوله حتى لا يدري الواقع فكأنه يقول : خلط على الأمر لما شاهدت ، فلم أدر هل أنا نائم وما رأيته حلم أم شمس الخدر ألمت بنا؟ أي : نزلت بالركب ، فعاد ليلهم نهارا ، أم حضر يوشع فرد الشمس (أشار) بذلك (إلى قصة يوشع) على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام (و) إلى (استيقافه الشمس) أي : طلبه من الله تعالى وقوف الشمس لما عزمت على الغروب ، وذلك أنه روى أن قتاله للجبارين الذين أمره الله تعالى بقتالهم كان يوم الجمعة ، فأدبرت الشمس ، وكادت أن تغرب ، فخاف أن تغرب فيدخل السبت فلا يحل له قتالهم ، فيفوت كمال قتالهم وغلبتهم حينئذ ، فسأل الله تعالى فرد له الشمس عن الغروب ، حتى فرغ من قتالهم.

ثم أشار إلى مثال التلميح في النظم إلى الشعر فقال (كقوله : لعمرو) (١) اللام فيه لام الابتداء (مع الرمضاء) أي : الأرض الحارة التي ترمض فيها القدم أي : تحترق ، والظرف حال من الضمير في أرق ، أي : لعمرو أرق حال كونه الرمضاء ، وفي هذا الإعراب تقديم الحال على العامل الذي هو اسم تفضيل ، ولا يجوز في المشهور إلا في نحو : زيد مفردا أنفع من عمرو معانا ، وليس هذا الموضع منه ، وقوله (والنار) يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على الرمضاء ، فيكون في حيز الحالية ، وقوله (تلتظى) حال منه أي : مع النار حال كونها تلتظى أي : تتوقد ، وأما جعل تلتظى صلة الموصول المحذوف ففيه حذف الموصول وبقاء صلته ولا يرتكب إلا لضرورة فلا حاجة إليه مع إمكان ما هو أقرب ، ويحتمل أن يكون مرفوعا على أنه معطوف على المبتدأ الذي هو عمرو والخبر عنهما معا قوله (أرق) وصح الإخبار باسم التفضيل عن اثنين لإفراده منكرا ، وهو

__________________

(١) شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٢).


مأخوذ من الرقة التي هي الرحمة ويحتمل أن تكون النار مرفوعة على الابتداء ، وتلتظي خبره ، وإنما صحت هذه الأوجه ؛ لأنه ليس المراد أحد هذه المعاني على الخصوص ، وإنما المراد الإشارة إلى بيت صحب فيه عمرو ذكر النار ، وذكر الرمضاء فصح مع ذلك كل إعراب ؛ إذ لم يعين المعنى.

(وأحفى) من حفي عليه تلطف وتشفق عليه يعنى أن عمرا الكائن مع ذكر الرمضاء والنار أرق وأحفى (منك في ساعة الكرب) وقد (أشار) بذلك (إلى البيت المشهور) وهو قوله (المستجير بعمرو عند كربته) أي : الذي يستغيث بعمرو في وقت كربته ، فالضمير يعود على الموصول (كالمستجير من الرمضاء بالنار) أي : كالفار من الأرض الرمضاء إلى النار ، ولهذا البيت قصة وهى : أن امرأة تسمى البسوس ذهبت لزيارة أختها وهى أم جساس بن مرة ، ومعها ناقة لجار لهم ، وكان كليب من كبار تغلب ، وجساس المذكور من بكر ، وحمى كليب أرضا فلا يرعى فيها غيره إلا إبل جساس ، لمصاهرة بينهما ، ثم خرجت ناقة الجار التي مع خالته في إبل جساس فأبصرها كليب وعرف أنها ليست من إبل جساس فرماها وأبطل ضرعها فرجعت حتى بركت بفناء جساس وضرعها يشخب دما ولبنا ، فصاحت البسوس وا ذلاه وا غربتاه فقال جساس : اسكتي يا حرة والله لأعقرن فحلا هو أعز على أهله منها فلم يزل جساس يتوقع غرة كليب حتى خرج وبعد عن الحي فركب جساس فرسه حتى لحقه فرمى ظهره فسقط فقال يا جساس أغثني بشربة ماء فقال جساس تركت الماء وراءك فولى عنه وأتبعه عمرو بن الحارث حتى وصل إليه فقال له يا عمرو أغثني بشربة ماء فأجهز عليه فقيل :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

وإليه يشير بقوله : لعمرو مع الرمضاء إلخ ، ونشبت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة كلها لتغلب على بكر ، ولذلك قيل في المثل : أشأم من البسوس ، وبما ذكرناه يعلم أنه ليس المراد بعمرو جساسا كما قيل : بل المراد به عمرو بن الحارث ، فهذان مثالان للتلميح في النظم إلى الشعر ، أو القصة ، وأما مثاله في النظم إلى المثل فكقوله :


ومن دون ذلك خرط القتاد

أشار به إلى المثل السائر ، وأصله لكليب ، وذلك أنه لما سمع قول جساس لأعقرن فحلا هو أعز على أهله منها ظن أنه يريد فحلا لكليب يسمى عليان ، فقال دون عليان خرط القتاد فصار مثلا يضرب لكل أمر شاق لا يوصل إليه إلا بتكلف عظيم ، فيقال دونه خرط القتاد ، والقتاد شجر صلب له شوك كالإبر وخرطه أن تمر اليد عليه من أعلاه إلى سفله حتى ينتثر منه شوكه.

هذه أمثلة النظم الثلاثة ، وأما أمثلة النثر فمثال الإشارة إلى القصة والشعر من النثر قول الحريري فبت بليلة نابغية ، وأحزان يعقوبية فأشار بقول ليلة نابغية إلى قول النابغة :

فبت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السم ناقع (١)

والمساورة المقاتلة والإصابة ، والضئيلة بالضاد المعجمة الحية الدقيقة ، والرقش الحيات الدقق ، والناقع الشديد ، وأشار بقوله : وأحزان يعقوبية إلى قصة يعقوب عليه‌السلام في فقدان يوسف على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام.

ومثال الإشارة إلى المثل من النثر قوله فيالها من هرة تعق أولادها ، أشار به إلى المثل المعلوم وهو قولهم : أعق من الهرة تأكل أولادها ، وبه تمت الأمثلة الستة والله الموفق بمنه وكرمه.

ثم شرع في فصل من الخاتمة به ختمها وختم الكتاب فقال : (فصل) من الخاتمة في حسن الابتداء والانتهاء والتخلص ، وإنما جعلناه من الخاتمة ؛ لأنه إنما اشتمل على ما هو من الحسن غير الذاتي كما في الخاتمة (ينبغي للمتكلم) شاعرا كان أو كاتبا (أن يتأنق) أي : أن يتتبع الآنق وهو الأحسن من الكلام بأن يطلبه حتى يأتي به يقال : تأنق في الروضة إذا وقع فيها متتبعا أي : كان فيها حال كونه يتتبع أي : يطلب وينظر ما يونقه أي : يعجبه ، يقال آنقه كذا أعجبه فالتأنق هو تطلب الأحسن ، والنظر في الشيء ليؤتى بما يونق أي : يعجب منه.

__________________

(١) هو فى الإيضاح ص (٣٦٠).


(في ثلاثة مواضع) أي : ينبغي للمتكلم أن يجتهد في طلب أحسن الكلام ؛ ليأتي به في ثلاثة مواضع من كلامه (حتى تكون) تلك المواضع الثلاثة من كلامه (أعذب لفظ) من غيرها ، وعذوبة اللفظ حسنه ، وهو يشمل ما يكمل به حسنه وحلاوته من كل وجه ، ولكن خص تفسير أعذبيته هنا بكونه غاية في البعد عن التنافر واستثقال الطبع ؛ لأن العذب الحسي يقابله حسا ما ينافر الطبع ويثقل عليه ، فناسب تخصيصه بهذا المعنى لما ذكر مع ما في ذلك من الخروج عن التكرار بما بعده.

(و) حتى تكون المواضع الثلاثة أيضا (أحسن سبكا) من غيرها ، وحسن سبك اللفظ أيضا حسن صياغته أي : إيجاد تركيبه ، وإيجاد ذاته ، فهو أيضا بهذا الاعتبار يشمل أوجه حسنه من قبل نفسه ومعناه ، ولكن خصت أحسنية سبكه هنا بكونه غاية في البعد عن التعقيد اللفظي وعن التقديم والتأخير الملبس ، وتكون الألفاظ متقاربة في الجزالة وهى ضد الركاكة والمتانة وهى بمعنى الجزالة والرقة والسلاسة ، وهما بمعنى لطف اللفظ وتناسبه ضد الغلظ المستقبح والتقطع المستكره ، وبكون المعاني مناسبة لألفاظها ؛ وذلك بأن لا يكسى اللفظ الشريف المعنى الخسيس ، كأن يكون بألفاظ مجنسة لمعان ترمى بالعراء ؛ لعدم مطابقتها للمراد ، أو العكس كمعنى شريف عليه لفظ سخيف كألفاظ غريبة متنافرة الحروف لمعنى مطابق ، وإنما ينبغي أن يصاغ اللفظ والمعنى بالتناسب والتلاؤم ، فيكون اللفظ شريفا والمعنى كذلك ، وحاصل هذه الجمل المفسر بها حسن السبك ، أن يكون اللفظ فصيحا لا تعقيد فيه ولا شيء يخل بالفصاحة ولا ابتذال فيه مع معنى مرعى فيه ما ينبغي لمطابقته مقتضى الحال ؛ لأن جزالة اللفظ ورقته وسلاسته ترجع إلى نفى الابتذال والتنافر ، وكون المعنى شريفا واللفظ شريفا يرجع إلى المطابقة مع السلامة مما يخل بالفصاحة ، وإنما خص حسن السبك بنفى ما يخل بالفصاحة مع معنى مطابق ؛ لأن حسن سبك الحلي مثلا الذي هو المحسوس إنما يقابله عدم الالتئام أو الالتئام على وجه مستكره ، ولا يخفاك أن حسن السبك على هذا أخص من عذوبة اللفظ ، فإن قلت : فحسن السبك على هذا لا أخصية في تفسيره ؛ لشموله جميع أنواع الحسن ، قلت : بل بقى أنواع البديعيات ، وهى مما يحسن السبك ، فإن قلت : فعلى هذا


تكون رعاية الحسن في هذه المواضع من رعاية الحسن الذاتي ، فلا يكون هذا الحسن من البديع ، فلا يكون هذا الفصل من الخاتمة التي هي من البديع.

(قلت) إذا كان المعنى : أنه ينبغي أن تراعى الزيادة في الحسن سواء كان ذلك الحسن ذاتيا أم لا ، كان المنبه عليه في هذا الفصل هو القدر الزائد على أصل الواجب ، والزائد ليس بأمر لازم فهو من البديع فافهم.

(و) حتى تكون تلك المواضع الثلاثة (أصح معنى) أي : أزيد في صحة المعنى ، فبرعاية الزيادة كان من هذا الباب ، وإلا فصحة المعنى لا بد منها في كل شيء ، وصحة المعنى تحصل بالسلامة من التناقض والسلامة من الامتناع والبطلان والسلامة ، من الابتذال الذي هو في معنى الفساد ؛ حيث لا يطابق ، والسلامة من مخالفة العرف ؛ لأن مخالفة العرف البليغي كالغرابة المخلة بالفصاحة أو هي نفسها ، ونحو ذلك كالسلامة من عدم المطابقة لمقتضى حال المخاطب ، وقد عرفت أن صحة المعنى بهذا الاعتبار داخل فيما قبله ، وبه علم أن هذه الأوصاف أعنى : عذوبة اللفظ ، وحسن السبك برعاية مقتضى الفصاحة ، وصحة المعنى برعاية مقتضى البلاغة ، ولا تخفى أوجه مناسبتها فكان لكل وصف معنى مخالف للآخر ؛ والخطب في ذلك سهل.

ثم بين المواضع الثلاثة التي ينبغي أن يعتنى بها فيما ذكر أكثر بقوله.

الابتداء

(أحدها) أي : أحد تلك المواضع (الابتداء) لأنه أول ما يقرع السمع ، فإن كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى أقبل السامع على الكلام ، فوعى جميعه ؛ لانسياق النفس إليه ورغبتها فيه من حسنه الأول واستصحابه لذة المذاق السابق ، وإلا يكن الابتداء حسن السبك عذبا صحيح المعنى نافره السمع بالمقابلة الأولى ، فيعرض عنه جملة ، وإن كان الباقي من الكلام حسنا ؛ لأن السمع قاطعه الابتداء القبيح ، وهذا أمر تجريبى والابتداء الحسن في تذكار المنازل والأحبة (ك) ما في (قوله) أي : امرئ القيس :

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل)


السقط هو الموضع الذي يتقطع فيه الرمل ، أو الرمل المتقطع بنفسه ، واللوى هو الرمل المعوج ، ولا شك أن انقطاع الرمل إنما هو عند اعوجاجه بالأرياح ، لا عند تراكمه ، والدخول وحومل موضعان ، والمراد بين أماكن الدخول وأماكن حومل ، وبذلك صحت البينية فيه التي لا تكون إلا في متعدد ، وصح بذلك عطف حومل بالفاء عليه ؛ ليفيد أن له بينية أيضا ، وأما لو كانت البينية معتبرة بين الدخول وحومل لم يصح العطف بالفاء ؛ لوجوبه بالواو ؛ إذ هي التي تعطف ما لا يستغنى عنه ، أما حسن الشطر من هذا البيت فمسلم ؛ لأنه أفاد به : أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في السطر واحد بلفظ مسبوك لا تعقيد فيه ولا تنافر ولا ركاكة ، وأما الشطر الثاني فلم يتفق له فيه ما اتفق في الأول ؛ لأن ألفاظه لم تخل من كثرة مع قلة المعنى ، ومن تمحل التقدير للصحة ، وغرابة بعض الألفاظ ، وأحسن منه قول النابغة في ذكر الأهم في الابتداء

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (١)

يقال : نصبه الهم إذا أتعبه.

(و) الابتداء الحسن أيضا في وصف الدار (ك) ما في (قوله :

قصر عليه تحية وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام) (٢)

يقال خلع عليه أي : نزع ثوبه عليه بمعنى أنه نزعه وطرحه عليه ، ولتضمين خلع طرح عدى بعلى ، وفي نسبة الخلع إلى جمال الأيام دلالة على تشبيه الأيام برجل له لباس جميل نزعه على غيره ، فجمال الأيام كلباس ألبسه ذلك القصر ، وكذا قوله :

فراق ومن فارقت غير مذمم

وأم ومن يممت غير ميمم (٣)

أي : لا ينبغي أن يفارق الذي فارقته غير مذموم ، ولا أن تؤم أي : تقصد غيره ، والذي قصدت ليس أهلا لأن يقصد ، وكذا قوله في الغزل :

__________________

(١) الإيضاح ص (٣٦١).

(٢) البيت للأشجع السلمى ، فى عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، والإشارات (٣٢٢).

(٣) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، وهو لأشجع فى التهنئة بقصر بني.


أريقك أم ماء الغمامة أم خمر

بفي برود وهو في كبدي جمر (١)

تدله في ريق المحبوب فتجاهل ، فكأنه التبس عليه هل هو ريق أم زلال أم خمر وأخبر بأنه في فمه له غاية العذوبة والبرودة ، وفي قلبه جمر ؛ لأنه يزيد القلب ولوعا وحبا يحترق به كالجمر ، وكذا قوله في الرفق والرحمة :

أتظنني من زلة أتعتب

قلبي عليك أرق مما تحسب (٢)

أي : لا أعاتبك على زلة ، ولا تظن ذلك يصدر منى ؛ فإن قلبي عليك شديد الشفقة فهو أكثر مما تحسب في الرفق والرحمة.

(وينبغي أن يتجنب في المديح) أو الغزل عند خطاب من يتوقع منه التطير ، وهو غير مراد (ما يتطير) أي : الكلام الذي يتشاءم (به) وهو نائب فاعل يتجنب (كقوله : موعد أحبابك بالفرقة غد) (٣) وهو مطلع قصيدة لابن مقاتل الضرير أنشدها للداعي العلوي ، فقال له الداعي : حين تشاءم بما ذكر موعد أحبابك أنت يا أعمى ولك المثل السوء أي : الحال القبيح ، وكقول : ذي الرمة بين يدي هشام بن عبد الملك :

ما بال عينك منها الدمع ينسكب (٤)

فقال له هشام ، بل عينك أنت ، ولما بنى المعتصم بالله قصرا له وجلس فيه أنشده إسحق الموصلي :

يا دار غيرك البلى ومحاك

فتطير المعتصم بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.

وإنما حسن الابتداء الذي لا يتطير به في ذكر الديار مثلا مثل ما تقدم قصر عليه تحية إلى آخره وقوله :

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل (٥)

__________________

(١) البيت في شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٤) ، وهو للمتنبى ، والإيضاح ص (٣٦١).

(٢) للمتنبى فى الإيضاح ص (٣٦١).

(٣) أنشده ابن مقاتل للداعى العلوى ، فى الإيضاح ص (٣٦٢).

(٤) البيت فى شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).

(٥) هو للقطامى فى الإيضاح ص (٣٦٣) ، ويعرف القطامى بالشرقى ، واسمه عمير بن شبيم.


براعة الاستهلال

(وأحسنه) أي : أحسن الابتداء (ما ناسب المقصود) أي : والمناسبة تحصل باشتمال الابتداء على ما يشعر في الجملة بما سيق الكلام من أجله ، فإذا سيق مثلا لبيان علم من العلوم كالفقه ؛ فاشتمال ابتدائه على ما يشعر بأفعال المكلفين وأحكامها هو من أحسن الابتداء.

(ويسمى) كون الكلام مناسبا للمقصود ، أو الكلام بنفسه المناسب للمقصود (براعة الاستهلال) والاستهلال في الأصل أول ظهور الهلال ، ثم استعمل في مطلق افتتاح الشيء ، والبراعة : مصدر برع الرجل بضم الراء وفتحها إذا فاق أقرانه في العلم أو غيره ، فإضافة البراعة إلى الاستهلال على معنى الملابسة أي : البراعة الحاصلة من الشاعر أو الكاتب الملابسة للاستهلال أي : لابتداء الكلام ، وتلك البراعة التي هي مناسبة الكلام هي (كما) في (قوله في التهنئة) التي هي إيجاد كلام يزيد سرورا بمفروح به :

(بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا) (١)

وهو مطلع قصيدة لأبي محمد الخازن يهنئ الصاحب بولد لابنته ، وإنما كان عن البراعة ؛ لأنه يشعر بأن ثم أمرا مسرورا به ، وأنه أمر حدث ، وهو رفيع في نفسه يهنأ به ، ويبشر من سر به ، ففيه الإيماء إلى التهنئة والبشرى التي هي المقصود من القصيدة ، وكذا قول أبي الطيب في التهنئة بزوال المرض :

المجد عوفي إذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى أعدائك السقم (٢)

(و) كما في (قوله في المرثية : هي) (٣) أي : القصة التي تتلى هي هذه وهي قوله (الدنيا تقول بملء فيها) والملء بكسر الميم ما يملأ الشيء ، والمعنى أنها تقول ذلك جهرة بلا خفاء ؛ لأن ملء الكلام الفم يشعر بظهوره ، والجهر به بخلاف الخفي ، ففي

__________________

(١) البيت لمحمد بن الخازن يهنئ الصاحب بولد لابنته ، انظر شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).

(٢) مطلع قصيدة للمتنبى فى ديوانه (٢ / ١١٧) ، ط دار الكتب العلمية.

(٣) البيت لأبى الفرج الساوى ، انظر شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٩٦).


طرف من الفم (حذار حذار) أي : احذر (من بطشي) أي : أخذى الشديد بالقوة (وفتكي) أي : قتلى لكم فجأة أي : لا تغفلوا عن إهلاكي لكم ، بل اجعلوه نصب أعينكم ، واستعدوا له بالتقوى والصبر ، وهذا مطلع قصيدة لأبي الفرج الساوي يرثي فخر الدولة ملكا من ملوك آل بويه ، وكذا قول أبي الطيب يرثي سيف الدولة :

نعد المشرفية والعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال (١)

التخلص

(وثانيها) أي : وثاني المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها (التخلص) أي : الخروج (مما شبب الكلام به) أي : ابتدئ الكلام وافتتح به ، وأصل التشبيب ذكر أمور الشباب ، قال الإمام الواحدي : التشبيب ذكر أيام الشباب ، وذكر اللهو والغزل ، ولما كثر إيقاعه في أوائل القصائد نقل عرفا إلى ابتداء القصيدة ، بل والكلام في الجملة سواء كان فيه ذكر اللهو والغزل وأيام الشباب أم لا ، فتبين أن المراد بالتشبيب كما قلنا افتتاح الكلام وابتداؤه سواء كان ما ابتدء به (من تشبيب) وهو ذكر الجمال ووصفه (أو) كان من (غيره) أي : من غير التشبيب كالأدب أي : الأوصاف الأدبية والافتخار وهو معروف والشكاية غير ذلك كالهجو والمدح والتوسل (إلى المقصود) متعلق بالتخلص أي : الثاني هو التخلص إلى المقصود مما بدئ به الكلام (مع رعاية الملاءمة) أي : المناسبة (بينهما) أي : بين ما شبب به الكلام وبين المقصود واحترز بهذا ـ أعنى كون ما شبب به الكلام بينه وبين المقصود ـ ملاءمة عن الاقتضاب ، وظاهر العبارة أن التخلص الكائن مع المناسبة ينبغي أن يتأنق فيه بشيء آخر زائد عليه ، والمقدر أن التخلص في الجملة ـ أعنى التخلص اللغوي وهو الخروج من أول الكلام لغيره في الجملة ـ ينبغي أن يتأنق فيه برعاية المناسبة بينه وبين المتلخص إليه ، فإذا روعيت فيه حصل التأنق وحصل التخلص الاصطلاحي ، وهو الخروج مما شبب به الكلام إلى المقصود مع وجود المناسبة بينهما ، ويمكن تصحيح الكلام بأن يراد بالتخلص المذكور اللغوي ، ثم يقدر ضمير يعود عليه على طريق الاستخدام ، خبره تخلص يتعلق به قوله مما شبب إلخ ، فيكون تقدير الكلام من المواضع التي ينبغي التأنق فيها التخلص ، والتخلص

__________________

(١) هو للمتنبى فى رثاء أم سيف الدولة ، الإيضاح ص (٣٦٤).


الذي حصل فيه ذلك التأنق هو التخلص مما شبب به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة إلخ ، وبهذا يعلم أن الكلام لا يصح بمجرد جعل التخليص يراد به معناه اللغوي مع تعلق ما بعده به ، وذلك ظاهر ، ووجه كون تلك المناسبة من التأنق الذي ينبغي أن يراعى في التخلص أن السامع إذا كان أهلا للاستماع ؛ لكونه من العارفين بمحاسن الكلام يترقب الانتقال من الافتتاح إلى المقصود ، كيف يكون ؛ لأن من المعلوم أن من قصد شيئا وابتدأ بغيره فقد جعل ذلك الغير كالوسيلة إلى المقصود ، فلا بد أن تكون بينها مناسبة ومواصلة ، والاتصال إنما يظهر عند انتهاء الوسيلة وإرادة الانتقال ، فإذا جاء حسنا للملاءمة بين طرف المفتتح به ، وطرف المقصود ، حرك من نشاط السامع لوجود تلك الملاءمة المطلوبة ، وأعانه ذلك الحسن على الإصغاء لما بعده ؛ لاعتقاد كون صاحبه برع وصار أهلا لإيجاد الحسن ، وإلا توجد تلك المناسبة فات الحسن المنتظر ، فيعدوهم السامع الشاعر ليس أهلا أن يستمع ، فلا يصغي إليه ، ولو أتي بما هو حسن بعده فالتخلص ، الحسن لوجود الارتباط والمناسبة (كقوله : يقول في قومس) (١) وهو اسم موضع (قومي وقد أخذت. منا السرى) أي : والحال أن السرى قد أخذت منا أي : أثرت فينا ونقصت من قوانا ، والسرى هو المشي ليلا ، فهو مصدر يؤنثه بعض العرب بتوهم أنه جمع ؛ إذ هو على وزن من أوزان الجموع (وخطا المهرية) عطف على السرى أي : أخذت منا السرى ، وأخذت منا خطا المهرية أي : نقصت منا المهرية بخطاها ، ومشيها وتحريكها إيانا ، وتكلف مسايرتنا معها ؛ لأن ذلك مما يتعب وينقص من قوتنا ، فهو كعطف أخص على أعم ، وليس معطوفا على المجرور في قوله : منا ؛ لأنه يكون التقدير : نقصت منا السرى ونقصت السرى أيضا من خطا المهرية ، ولا معنى لنقص السرى من خطا المهرية من حيث إنها خطا ، وحمله على أن السرى طال فنقص قوى المهرية كما نقص قوانا ، وكنى عن ذلك بنقص خطاها ، تكلف لا حاجة إليه ؛ لوجود غيره ، فإن قلت : فيه المبالغة في نقص قواهم حيث أفضى بطوله إلى نقص قوى ما هو أقوى منهم وهو المهرية ، قلت : لا يتعلق غرض بهذه المبالغة في المقام ؛ لأن المقصود

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (١٢٨) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٥).


الإخبار بتشكيهم بطول السير ؛ ليخرج منه إلى المقصود ، والمعنى الأول كاف فيه ، وعلى تقدير تسليمه فالعطف بدون إعادة المجرور لا يرتكب مع إمكان غيره ، وقد أمكن هنا ، والخطا جمع خطوة وهو ما بين القدمين في السير والمهرية الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيذان أبي قبيلة تنسب إليهم إبلهم لخصوص جودتها ، ثم صار لقبا على الإبل الجياد مطلقا.

(القود) وصف المهرية وهى الإبل الطويلة الظهور والأعناق جمع أقود ، وقد علم مما قررنا أن المعنى : أنهم قالوا ما يذكر بعد ، والحال أن مزاولة السرى أثر فيهم ومعاناة مسايرة المطايا بالخطا أو سيرها بهم نقص منهم ، ومقولهم هو قوله (أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا*) أي : لما طال السير قالوا أتبغي أي : أتطلب أن تقصد بنا مطلع الشمس أي : موضع طلوعها ، فإن قلت : ما معنى طلبه قصد مطلع الشمس ، وهو إن طلب إنما يطلب مطلع الشمس بعينه ، قلت : المراد بالقصد التوجه والذهاب إلى جهة مطلع الشمس ، وكثيرا ما يطلق عليه لتعلقه به ، فكأنهم قالوا : أتطلب بهذا المشي أن تتوجه إلى جهة مطلع الشمس ، ثم المراد بالجهة نهايتها فافهم.

(فقلت) لهم (كلا) أي : ارتدعوا عما تقولون وانزجروا ، فإني لا أطلب بكم مطلع الشمس (ولكن) أطلب بكم (مطلع الجود) فقد خرج بالمناسبة الجوابية إلى الممدوح الذي سماه مطلع الجود فكان فيه حسن التخلص ، ومن حسن التخلص ما وقع في بيت واحد كقول أبي الطيب :

نودعهم والبين فينا كأنه

قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق (١)

الفيلق الجيش.

ومن حسن التخلص قول أبي الطيب يمدح المغيث العجلي :

مرت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا (٢)

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشري وهو من عجل إذا انتسبا

__________________

(١) البيت للمتنبى فى شرح المرشدى على عقود الجمان (٢ / ١٩٧) ، ولكن فيه (فودعهم) مكان (نودعهم).

(٢) البيت للمتنبى فى ديوانه ص (١٤١) ، ط الكتب العلمية.


أي : قالت أنا بالنسبة إلى قومي في كوني وحشية الصورة ، والعينين إنسية النسب كالمغيث ليث المعنى والصورة ، عجلي النسب ، وهذا التخلص نهاية الحسن.

(وقد ينتقل منه) أي : مما شبب به الكلام (إلى ما لا يلائمه) فيستأنف حديث المقصود من غير ربط واتصال (ويسمى) ذلك الانتقال الكائن بلا ربط ومناسبة (الاقتضاب) وهو في اللغة الاقتطاع والارتجال أي : الإتيان بالشيء استئنافا بغتة ، أطلق على الإتيان بالكلام بعد الآخر بلا ربط ومناسبة ؛ لانقطاع الأول عن الثاني (وهو) أي : الاقتضاب (مذهب العرب الأولى) أعنى الجاهلية (و) مذهب (من يليهم من المخضرمين) والمخضرم بالضاد والخاء المعجمتين وفتح الراء هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام معا مثل لبيد ، وقال في الأساس ومثله في القاموس يقال : ناقة مخضرمة بفتح الراء إذا جدع أي : قطع نصف أذنها ، ومنه المخضرم وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام وسمى بذلك ؛ لأنه لما فات جزء من عمره في الجاهلية فكأنه قطع نصفه أي : ما هو كالنصف من عمره ؛ لأن ما صادف به الجاهلية وكان حاصلا منه فيها ملغى لا عبرة به كالمقطوع ثم مثل للاقتضاب فقال (كقوله) أي : كقول أبي تمام :

(لو رأى الله أن في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا) (١)

الشيب بكسر الشين جمع أشيب وهو حال من الأبرار :

(كل يوم تبدى صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد غريبا)

فقد انتقل من ذم الشيب في البيت الأول إلى مدح أبي سعيد بأنه تبدى أي : تظهر منه الليالي خلقا أي : طبائع غريبة لا يوجد لها نظير من أمثاله فيها ، ولا ربط بينهما ولا مناسبة ، فهذا الانتقال من الاقتضاب.

وأما ما يقال من أنه لا يتعين أن يكون اقتضابا ؛ لاحتمال أن يكون أبو سعيد أشيب فيكون ذكره مناسبا لذم الشيب قبله فلا وجه له ، لأن المتبادر مدح أبي سعيد ؛ ولأن اللفظ لا يشعر بالمناسبة ؛ إذ ليس في البيت الثاني ذكر الشيب ، نعم لو قال مثلا :

__________________

(١) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص (٣٣) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٩٧).


وأبو سعيد أشيب فلا يبقى فيه خير أو نحو هذا أمكن ما ادعى ما فيه من البرودة ، فافهم.

وقولنا : إن الاقتضاب مذهب العرب والمخضرمين لا يقتضي أن غيرهم لا يرتكبه تبعا لهم ، بل يجوز أن يستعمله غيرهم تبعا لهم ، كما وقع لأبي تمام في المثال ، وليس منهم إذ هو من الشعراء الإسلامية في الدولة العباسية ، فالمثال لا يجب أن يكون من العرب أو المخضرمين ؛ لصحة عدم الاختصاص بهم ، فلا يعترض بأن أبا تمام ليس منهم ، إذ لم يدرك الجاهلية ، فلا يكون من المخضرمين ؛ لأن الاعتراض لا يرد إلا لو قال المصنف : الاقتضاب هو ما صدر من العرب والمخضرمين ، فيفهم أن ما صدر من غيرهم ليس من الاقتضاب ، ولم يقل المصنف ذلك ، وإنما قال هو مذهب العرب والمخضرمين ، ولا يلزم من كونه مذهبا لمن ذكر أن لا يصدر من غيرهم ، فلا تختص التسمية بما صدر ممن ذكر ، وقد خفي الفرق بين كونه مذهبا وكونه لا يصدر إلا منهم فيلزم أن لا يسمى إلا إن صدر منهم على بعضهم ، فجعل الأول نفس الثاني ، واعترض بما ذكر وهو سهو.

(ومنه) أي : ومن الاقتضاب الذي هو ابتداء المقصود بلا ربط وملاءمة بينه وبين طرف ما شيب به الكلام (ما) أي : انتقال (يقرب) أي : يشبه (من التخلص) الاصطلاحي ، وهو الانتقال على وجه المناسبة ، والربط المعنوي كما تقدم وذلك (كقولك بعد حمد لله) أى : بعد أن حمدت الله تعالى ، وصليت على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا (أما بعد) كذا وكذا ، وصح فيه شائبة من المناسبة ، وهو اقتضاب من جهة أنه انتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر بلا ربط معنوي ولا ملاءمة بين الطرفين ، ووجه وجود شيء من شائبة المناسبة فيه أنه لم يؤت معه بالكلام الثاني فجأة كائنة من غير قصد إلى ارتباط وتعليق بين الطرفين أي : طرف الابتداء الكائن لما بعده ، وطرف الانتهاء الكائن لما قبله ، بل قصد نوع من الربط على معنى ، مهما يكن من شيء بعد حمد الله والثناء فإنه كان كذا وكذا.


وتحقيق ذلك أن حسن التخلص فيه القصد إلى إيجاد الربط بالمناسبة على وجه لا يقال فيه : إن هنا كلامين منفصلين مستقلين أتي بأحدهما وهو الثاني بغتة ، والاقتضاب فيه القصد إلى الإتيان بكلام بعد الآخر على وجه يقال فيه : إن الأول منفصل عن الثاني ولا ربط بينهما ، وأما بعد لما كان معناه مهما يكن من شيء فكذا وكذا ، أفاد أن ذلك الكذا مربوط بكل شيء ، وواقع على وجه اللزوم بالدعوى بعد الحمد والثناء ، ولما أفاد ما ذكر ارتبط بما قبله ؛ لإفادته الوقوع بعده ولا بد ، فلم يؤت به على وجه يقال فيه : لم يرتبط بما بعده ؛ فأشبه بهذا الوجه حسن التخلص ، ولما كان ما بعده شيء آخر لا ربط فيه بالمناسبة ، كان في الحقيقة اقتضابا ، وبه يعلم أن جعل وجه المشابهة أنه لم يؤت بما بعده فجأة وحده لا يكفي ؛ لأن حسن التخلص فيه الإتيان بشيء آخر فجأة ، ولكن بضرب من المناسبة فافهم.

(قيل وهو) أي : قولهم : بعد الحمد لله والصلاة على رسول الله أما بعد (فصل الخطاب) أي : هو المسمى بهذا اللقب الذي هو للفظ الممدوح اتفاقا ؛ لأنه فصل بين الخطاب الأول والثاني على وجه لا تنافر فيه ولا سماجة ، بل وجه مقبول كما أشرنا إليه ، قال ابن الأثير : والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أن فصل الخطاب هو أما بعد ؛ لأن المتكلم يفتتح في كل أمر ذي شأن بذكر الله تعالى وتحميده يعنى الصلاة على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أراد الخروج منه إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله : أما بعد ، فسمى فصل الخطاب ، واشتهر بذلك مع قبوله لحسن الفصل به ، وقيل : معنى فصل الخطاب : الكلام الفاصل من الخطاب بين الحق والباطل ، وعلى هذا فالمصدر أعنى : لفظ الفصل بمعنى اسم الفاعل ، وقيل : معناه الكلام المفصول من الخطاب أي : يتبينه من يخاطب به أي : يعلمه بينا لا يلتبس عليه ، وعلى هذا فالمصدر وهو لفظ الفصل بمعنى اسم المفعول (وكقوله تعالى) هو عطف على قوله : كقولك بعد حمد الله تعالى ، يعنى : أن من جملة الاقتضاب القريب من التخلص الاصطلاحي ، وهو ما يكون بالمناسبة الربطية ما يكون بلفظ هذا ، كما في قوله تعالى


بعد ذكر أهل الجنة (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (١) فالانتقال معه اقتضاب ؛ لأن ما بعده لم يربط بالمناسبة بينه وبين ما قبله ، ولكن فيه نوع ارتباط ، وقد تقدم أن مجرد الربط هو وجه المشابهة في أما بعد ، وكذلك هنا ، ووجه الارتباط أن الواو للحال في قوله : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) فقد أفاد الكلام بمعونة اسم الإشارة المصحح للحالية ؛ لأن فيه رائحة الفعل أن ما بعده واقع في صحبة ما قبله ، فكان فيه ارتباط أشبه التخلص ، ولفظ هذا إما أنه خبر مبتدأ محذوف (أي : الأمر) الذي يتلى عليكم هو (هذا) والحال أن كذا وكذا واقع ، وصاحب الحال هو المشار إليه وهو معنى الخبر أو المبتدأ ؛ لأنه مشار إليه في المعنى (أو) هو مبتدأ محذوف الخبر أي : (هذا كما ذكر) والحال كذا وكذا ، وصاحب الحال هو المشار إليه وهو مصدوق المبتدأ.

(و) قد يكون الخبر في مثل هذا التركيب مذكورا مثل (قوله تعالى) بعد ذكره جمعا من الأنبياء على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسّلام ، وأراد أن يذكر بعد ذلك الجنة وأهلها (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٢) فأثبت الخبر بعد لفظ هذا الذي يساق للانتقال ، وصاحب الحال هو المشار إليه الذي هو معنى المبتدأ ؛ لوجود الإشارة التي فيها رائحة الفعل ، وذكر الخبر في هذا التركيب يشعر بأنه هو المحذوف في نظيره ، وهو قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) لأن الذكر يفسر الحذف في النظير ، فلفظ هذا فيما تقدم على هذا مبتدأ محذوف الخبر ، قال ابن الأثير : لفظ هذا في هذا المقام أي : في مقام الانتقال من غرض إلى آخر هو من الفصل الذي هو أحسن من الوصل ، يعنى هو مما يفصل به بين كلامين فصلا هو أحسن عند البلغاء من حسن التخلص الذي هو الوصل بالمناسبة ، قال : وهى أي : لفظة هذا علاقة أكيدة أي : وصلة بين المتقدم والمتأخر يتأكد الإتيان بها بين الخروج من كلام إلى كلام آخر ، ومما يدل على أنها أحسن من التخلص وقوع الانتقال بها كثيرا في الكلام المعجز ، وأيضا الربط بها

__________________

(١) ص : ٥٥.

(٢) ص : ٤٩.


إنما هو على وجه الحالية الحقيقية ، وهي مطردة بخلاف الربط بالمناسبة كالجوابية في قوله :

فقلت كلا ولكن مطلع الجود

وكالتشبيه في قوله :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح

فقد لا يخلو من تمحل ، وعدم مطابقة ما في نفس الأمر.

(ومنه) أي : من الاقتضاب القريب من التخلص (قول الكاتب) أي : الناثر ؛ إذ الكاتب هو مقابل الشاعر عند إرادته الانتقال من حديث إلى آخر (هذا باب) في كذا ؛ لأنه ترجمة على ما بعده ، ويفيد أنه انتقل من غرض إلى آخر ، وإلا لم يحتج للتبويب ، فلما كان فيه التنبيه على أنه أراد الانتقال لم يكن الإتيان بما بعده بغتة فكان فيه ارتباط ما ، وقد تقدم أن الربط بالمناسبة وجدت فيه البغتة أيضا ؛ لأن المأتي به بغت ما هو فيه ، لكن بمناسبة فعلية ، يقال : نفي البغتة لا يكفي في الربط على أنه أراد الانتقال من شيء إلى غيره يتضمن الجمع بين الشيئين في ذكرهما ، فهو نوع من (مطلق الارتباط) وقد يجاب بأن الكلام الذي فيه الربط بالمناسبة لا بغتة فيه أصلا ؛ لأن البغتة هي مجيء ما لا يرتقب ولا يناسب وإنما زدنا في تقييد البغتة ما لا يناسب ؛ لأن المناسبة تقضى أن الثاني من طريق الأول ومن نمطه فلم يفجأ النفس ما هو بعيد عن نمط الارتقاب. تأمله ، فإن فيه دقة.

ومن هذا القبيل لفظه أيضا عند الفراغ من غرض وأريد الإتيان بغرض آخر ؛ لأنه يشعر بأن الثاني يرجع به على المتقدم ، وهذا المعنى فيه ربط في الجملة بين السابق واللاحق ولم يؤت بالثاني فجأة.

الانتهاء

(وثالثها) أي : وثالث المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها (الانتهاء) أي : انتهاء القصيدة أو الرسالة أو الخطبة ؛ لأن الانتهاء آخر ما يفهمه السامع ويحفظه من القصيدة أو الخطبة أو الرسالة ويرتسم في نفسه ، فإن كان ذلك الانتهاء مختارا حسنا تلقاه بغاية القبول ، واستلذه استلذاذا يجبر به ما وقع فيما سبقه من التقصير ، وجبر الواقع


من التقصير يعود إلى مجموع الكلام بالقبول والمدح ، وإلا كان الأمر على العكس أي : وإن لم يكن الانتهاء حسنا مجه السامع وأعرض عنه وذمه ، وذلك مما قد يعود على مجموع الكلام بالذم ؛ لأنه ربما أنسى محاسنه السابقة قبل الانتهاء ، فيعمه الذم ويرمى إلى الوراء ، ويكون عند السامع مما ينبذ بالعراء ، ومن المعلوم في المذوقات أن آخر الطعم إن كان لذيذا أنسى مرارته الأولى ، وإن كان مرا أنسى حلاوته الأولى ؛ فالانتهاء الحسن (كقوله) أي : كقول أبي نواس (وإني جدير) (١) أي : حقيق (إذ بلغتك) أي : وصلت إليك بمدحي (بالمنى) أي : بما أتمنى ، وهو متعلق بجدير أي : إني جدير بالفوز بالمنى منك حين بلغتك (وأنت بما أملت) أي : رجوت (منك جدير) لكرمك (فإن تولني) أي : تعطني (منك الجميل) أي : الإحسان والإفضال (فأهله) أي : فأنت أهل لإعطاء ذلك الجميل وذلك الإحسان (وإلا) أي : وإن لم تولني الجميل (فإني) لا أجد في نفسي عليك ، ولكنى (عاذر) لك بحملك على أن ذلك لعذر ؛ كعدم تيسر المعطى في الوقت ، أو لتقديم من لا يعذر بالعطاء (و) إني (شكور) لك ما صدر منك من غير الإعطاء ، وهو إصغاؤك لمدحي ، فإن ذلك من المنة على أو شكور لك الإعطاء السابق ، ولا يمنعني من شكر السابق عدم تيسر اللاحق ، ومن أحسنه قوله أيضا للمأمون :

فبقيت للعلم الذي تهدى له

وتقاعست عن يومك الأيام (٢)

وكذا قول أبي تمام في خاتمة قصيدة فتح عمورية :

إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة أو ذمام غير مقتضب

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النسب

أبقت بنى الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه وجلت أوجه العرب (٣)

__________________

(١) البيت لأبى نواس ، انظر عقود الجمان (٢ / ١٤٩) ، والإشارات (٣٢٤) ، والإيضاح (٣٦٦).

(٢) لأبى نواس فى خاتمة مدح المأمون ، وهو فى شرح المرشدى (٢ / ١٧٩) ، لكن روايته (بالواو) مكان (الفاء).

(٣) ديوان أبى تمام (١ / ٢١) ، ط دار الكتب العلمية.


(وأحسنه) أي : وأحسن الانتهاء (ما آذن بانتهاء الكلام) أي : ما أعلم بأن الكلام الذي جعل ذلك آخره قد انتهى ، والإشارة إلى الانتهاء ، إما بأن يشتمل ما جعله آخرا على ما يدل على الختم ؛ كلفظ الختم ، ولفظ الانتهاء ، ولفظ الكمال وشبه ذلك ، وإما بأن يكون مدلوله مفيدا عرفا أنه لا يؤتي بشيء بعده فلا يبقي للنفس تشوف لغيره وراء ذلك (كقوله) أي : كقول المعرى (بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله) (١) أي : يا كهفا يأوي إلى عزه أهله ، والمراد بأهله جنسه بدليل ما بعده (وهذا دعاء للبرية شامل) يعنى لما كان بقاؤك سببا لنظام البرية ، وحسن حالهم برفع الخلاف فيما بينهم ، ودفع ظلم بعضهم بعضا ، وتمكن كل واحد ببلوغ مصالحه كان الدعاء ببقائك دعاء بنفع العالم ، ونعنى بالعالم الناس وما يتعلق بهم ، وإنما آذن هذا الدعاء بانتهاء الكلام ؛ لأنه لا يبقى عند النفس ما يخاطب به هذا المخاطب بعد هذا الدعاء ؛ ولأن العادة جرت بالختم بالدعاء ومثل ذلك قوله :

فلا حطت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا (٢)

وهذه المواضع الثلاثة يعنى الابتداء والتخلص والاختتام مما يبالغ المتأخرون في التأنق فيها ، لا سيما التخلص لدلالته على براعة الشاعر أو الكاتب ، وأما المتقدمون فقد قلت عنايتهم بذلك كما شهدت بذلك قصائد كل فريق.

(وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأكملها) يعنى أن فواتح السور القرآنية وخواتمها واردة على أكمل ما ينبغي من البلاغة وأعلى ما يراعى من البراعة ، فتجد فيها من الفنون أي : المعاني المختلفة ، المطابق كل منها لما نزل له ، المفيد لأكمل ما ينبغي فيه ما لا ينحصر ، وتجد فيها من أنواع الإشارة أي : اللطائف المشار إليها مما يناسب كل منها ما نزل لأجله ، ومن خوطب به ما لا يقدر قدره ؛ فتجد في الفواتح تحميدات وتنزيهات لعلام الغيوب تعجز جميع العقول عن استقصاء مذاق حسنها وإيجازها وطباقها كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) البيت للمعرى ، شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٩).

(٢) البيت فى الإيضاح ص (٣٦٦).


وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ* وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(١) وكما في قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢) ولما سمع بعض الصحابة قول مسيلمة الكذاب يا ضفدعة بنت ضفدعين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الماء تكدرين ولا البحر تغيرين وقوله الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ، وخرطوم طويل. تعجب من غواية من اغتر بقوله فقال : وأين هذا من قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى آخر الآية ، وكذا قوله في الخاتمة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣)(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(٤) وتجد في الفواتح أو الخواتم أو التوسط أدعية كما في الفاتحة وآخر البقرة ، وتجد وصايا كما في خاتمة آل عمران ، والفرائض كما في خاتمة النساء ، والتبجيل والتعظيم كما في خاتمة المائدة ، والوعد والوعيد كما في خاتمة الأنعام وغير ذلك كالتنبيه للأيقاظ بالنداء ، كما في يأيها الناس وكافتتاح السور بالحروف التي لم تفهم ليتحير العقل ، فيتشوف ، والأوامر والنواهي المناسبة ، وغير ذلك مما وقع موقعه وأصاب محزه أي : مفصله ؛ بحيث لم يحد عما يناسبه بوجه ، وكل ذلك في النهاية بحيث تقصر عن كنه وصفه العبارة ، وبحيث يجزم بأنه لا يبقى للنفس بعد سماع خواتمها تشوف لما وراء ذلك ، ولا بعد سماع فواتحها عدول لغير

__________________

(١) الأنعام : ١ ـ ٣.

(٢) الحديد : ١ ـ ٢.

(٣) الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٤) الإسراء : ١١١.


ما هنالك ، وكيف لا يكون الأمر أعظم من ذلك وكلام الله تعالى في الرتبة العليا من البلاغة والغاية القصوى من الفصاحة ، وقد أخرس البلغاء وأعجز الكمل من الفصحاء.

ولما كان هذا ـ أعنى كون فواتح السور وخواتمها ـ على أكمل الوجوه مما قد يخفى على بعض الأذهان لما في بعض الفواتح والخواتم من ذكر الأهوال ، والإفزاع ، وأحوال الكفار ، وأمثال ذلك ؛ كذكر الغضب والذم كما في قوله تعالى في الفاتحة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(١) وقوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ)(٢) وقوله تعالى في الخاتمة : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣) وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٤) أشار إلى ما يزول به هذا الخفاء فقال (يظهر ذلك بالتأمل) في معاني الفواتح والخواتم (مع التذكر لما تقدم) من القواعد والأصول المذكورة في الفنون الثلاثة الدالة على وجه الحسن ، وأن لكل مقام خطابا يناسبه ، مثلا فاتحة سورة براءة لما نزلت للمنابذة إلى الكفار ومقاطعتهم ، بدئت بما يناسب ذلك من الأمر بقتالهم وعذابهم والنبذ إليهم وإسقاط عهدهم ، ولما انتهت إلى ما يناسب التحريض على اتباع الرسل قيل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٥) فوصفه بما لا عذر لأحد يستمعه في ترك اتباعه ، ثم أمره بالاكتفاء بالله والتوكل عليه إن أعرضوا ، والاستغناء به عن كل شيء.

فهذه ألفاظ هي النهاية في الحسن ، ومعان هي القصوى في المطابقة ، وكذا الفاتحة لما نزلت لتعليم الدعاء بدئت بحمد المسئول ووصفه بالأوصاف العظام ؛ لأن ذلك أدعى للقبول وللتتجمع النفس عليه في السؤال ، ثم قيد المسئول بأنه هو الذي لا

__________________

(١) الحج : ١.

(٢) المعارج : ١.

(٣) الكوثر : ٣.

(٤) الفاتحة : ٧.

(٥) التوبة : ١٢٨.


يكون للمغضوب عليهم ولا الضالين إظهارا للاختصاص وتعريضا بغير المؤمنين أنهم لا ينالون ما كان للداعين.

ولطائف القرآن لا يمكن استقصاؤها إلا لعلام الغيوب ، فبرعاية ما تقدم وتذكره يظهر ما ذكر ، وأن الفواتح والخواتم على أحسن الوجوه وأكملها.

وقد انتهى المراد من هذا الشرح المبارك ختم الله لنا ولقارئه بالحسنى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.

(وجد في بعض النسخ ما نصه) وكان الفراغ من تأليفه بمكناسة المحروسة يوم الجمعة في منتصف النهار في الرابع والعشرين من المحرم عام ثمانية بعد المائة والألف.



الفهارس العامة

١ ـ فهرس القرآن الكريم

٢ ـ فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

٣ ـ فهرس الأشعار

٤ ـ فهرس المراجع والمصادر

٥ ـ فهرس الموضوعات



١ ـ فهرس القرآن الكريم

سورة الفاتحة

(مالك يوم الدّين)

 ٤

 ١ / ٣٧ ، ٢٩٢ ، ٢٩٤

(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)

 ٥

 ١ / ٣٧ ، ٤٨ ، ٢٤٤ ، ٢٨٩ ، ٢٩٢ ، ٢٩٤ ، ٤٠١ ، ٢ / ١٨

(اهدنا الصّراط المستقيم)

 ٦

 ١ / ٢٣٨ ، ٢٨٩ ، ٢ / ٢٧٣

(صراط الّذين أنعمت عليهم)

 ٧

 ١ / ٢٣٨

(غير المغضوب عليهم ولا الضالّين)

 ٧

 ٢ / ٧١٨

سورة البقرة

(الم ذلك الكتاب)

 ١ ـ ٢

 ١ / ٢٦ ، ٢١٠ ، ٥٤٢ ، ٥٤٤ ، ٥٤٥

(هدى للمتّقين)

 ٢

 ١ / ٣٥٢

(ذلك الكتاب)

 ٢

 ١ / ٥٤٥ ، ٥٤٦

(لا ريب فيه)

 ٢

 ١ / ٢٠ ، ٤٥ ، ١٦٣ ، ٣٧٠ ، ٥٤٢ ، ٥٤٣ ، ٥٤٤

(هدى للمتّقين)

 ٢

 ١ / ٤٤

(الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة)

 ٣ ـ ٤

 ١ / ٢١١

(أولئك على هدى من ربّهم)

 ٥

 ١ / ١٩٣ ، ٢١١ ، ٢ / ٣٩٤

(وأولئك هم المفلحون)

 ٥

 ١ / ٢١١

(وعلى أبصارهم غشاوة)

 ٧

 ١ / ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٢٤

(وما هم بمؤمنين)

 ٨

 ١ / ٣٤٨ ، ٣٦٨

(إنّما نحن مصلحون)

 ١١

 ١ / ٥٢ ، ٤٤٩

(ألا إنّهم هم المفسدون)

 ١٢

 ١ / ٥٢ ، ٤٥٠

(ولكن لا يشعرون)

 ١٢

 ١ / ٤٥٠

(إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون)

 ١٤

 ١ / ٥٢٨ ، ٥٣٣


(وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا ...)

 ١٤

 ١ / ٥٢٨ ، ٥٣٣ ، ٥٥٧

(الله يستهزئ بهم)

 ١٥

 ١ / ٤٣ ، ٣٤٩ ، ٥٢٨ ، ٥٣٣ ، ٥٥٧ ، ٥٥٨

(أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى)

 ١٦

 ٢ / ٣٣٨ ، ٤٠١

(فما ربحت تجارتهم)

 ١٦

 ١ / ٢٢ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ٢ / ٢٣

(كمثل الّذي استوقد نارا)

 ١٧

 ٢ / ١٦٢ ، ١٨٧ ، ١٩٧

(صمّ بكم عمى)

 ١٨

 ٢ / ٩٢ ، ١٦٢ ، ٣٩٣ ، ٣٩٤

(أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات)

 ١٩

 ٢ / ١٦٤ ، ٤٣٣

(يجعلون أصابعهم في آذانهم)

 ١٩

 ٢ / ٢٦٥

(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)

 ٢٢

 ١ / ٦٥ ، ٦١٥

(فأتوا بسورة من مثله)

 ٢٣

 ١ / ٥٧ ، ٥٠٣

(وإن كنتم فى ريب ممّا نزّلنا على عبدنا)

 ٢٣

 ١ / ٤٢ ، ٣٢٨ ، ٣٣٥

(كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا)

 ٢٥

 ٢ / ٢٤١

(ينقضون عهد الله)

 ٢٧

 ٢ / ٣٦٢ ، ٤١٤ ، ٤٢١

(وعلّم آدم الأسماء كلّها)

 ٣١

 ١ / ٢٢٠

(أعلم غيب السّموات والأرض)

 ٣٣

 ١ / ٢٢٠

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)

 ٣٤

 ١ / ٢٢٠

(اسكن أنت وزوجك الجنّة)

 ٣٥

 ١ / ٤٣٥

(اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ)

 ٣٦

 ١ / ٦١٧

(وأنتم ظالمون)

 ٥١

 ١ / ٦٧٦

(ثمّ عفونا عنكم من بعد ذلك)

 ٥٢

 ١ / ٦٧٦

(فانفجرت)

 ٦٠

 ١ / ٦٩ ، ٦٤٥

(فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت)

 ٦٠

 ١ / ٦٤٤

(كونوا قردة خاسئين)

 ٦٥

 ١ / ٥٧ ، ٥٠٥

(وبالوالدين إحسانا)

 ٨٣

 ١ / ٥٦٩

(وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل)

 ٨٣

 ١ / ٦٣

(قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه)

 ٩١

 ١ / ٦٠٤


(واتّبعوا ما تتلو الشّياطين)

 ١٠٢

 ١ / ٢٩٨

(ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة)

 ١٠٢

 ١ / ١٥٥

(ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)

 ١٠٢

 ١ / ١٥٥

(وقالوا لن يدخل الجنّة إلا من كان هودا ...)

 ١١١

 ٢ / ٣٥ ، ٥٢٦

(وقالت اليهود ليست النّصارى على شيء)

 ١١٣

 ٢ / ٥٢٦

(كن فيكون)

 ١١٧

 ١ / ٥٠٥

(قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا)

 ١٣٦

 ٢ / ٥٠٨

(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)

 ١٣٧

 ١ / ٣٣٠ ، ٢ / ٥٠٨

(صبغة الله)

 ١٣٨

 ٢ / ٣٢ ، ٥٠٨

(وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون)

 ١٤٦

 ١ / ٣٢٩

(وبشّر الصّابرين ...)

 ١٥٦

 ٢ / ٦٨٧

(إنّما حرّم عليكم الميتة)

 ١٧٣

 ١ / ٤٣١

(ولكم فى القصاص حياة)

 ١٧٩

١ / ٣٨ ، ٦٨ ، ٦٣٦ ، ٦٣٧ ، ٦٣٨ ، ٦٣٩

(حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض)

 ١٨٧

 ٢ / ٤٢٤

(هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ)

 ١٨٧

 ٢ / ١٨٥ ، ٤٥٤

(يسألونك عن الأهلّة)

 ١٨٩

 ١ / ٢٩٦

(سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة)

 ٢١١

 ١ / ٥٥ ، ٤٨٥

(ومن يبدّل نعمة الله)

 ٢١١

 ١ / ٤٨٦

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم)

 ٢١٤

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٩

(متى نصر الله)

 ٢١٤

 ١ / ٤٨٩

(يسألونك ما ذا ينفقون)

 ٢١٥

 ١ / ٣٧ ، ٢٣٨ ، ٢٩٧

(يسألونك عن الشّهر الحرام قتال)

 ٢١٧

 ١ / ٦٥ ، ٢٣٨ ، ٢٩٧

(فأتوهنّ من حيث أمركم الله)

 ٢٢٢

 ١ / ٧٣ ، ٤٨٧ ، ٦٧٩ ، ٦٨٠

(إنّ الله يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين)

 ٢٢٢

 ١ / ٧٣ ، ٦٧٩ ، ٦٨٠

(صمّ بكم عمي)

 ١٨٠

 ٢ / ٥

(فأتوا حرثكم أنّى شئتم)

 ٢٢٣

 ١ / ٥٦ ، ٤٨٧

(نساؤكم حرث لكم)

 ٢٢٣

 ١ / ٦٧٩


(لا تضارّ والدة بولدها)

 ٢٣٣

 ١ / ٢٢٣

(حافظوا على الصّلوات)

 ٢٣٨

 ١ / ٧١ ، ٦٥٨

(قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها)

 ٢٥٩

 ١ / ٥٩٥

(ربّ أرني كيف تحيي الموتى)

 ٢٦٠

 ٢ / ١٦٩

(فأذنوا بحرب من الله ورسوله)

 ٢٧٩

 ١ / ٢٩ ، ٢٢٨

(والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم)

 ٢٧٦

 ١ / ٢٧٣

(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)

 ٢٨٦

 ٢ / ٢٩ ، ٤٨٨

(ربّنا لا تؤاخذنا)

 ٢٨٦

 ١ / ٥١٣

سورة آل عمران

(ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا)

 ٣٥

 ١ / ٢١٢

(ربّ إنّي وضعتها أنثى)

 ٣٦

 ١ / ١٥٣ ، ٢١٢

(وليس الذّكر كالأنثى)

 ٣٦

 ١ / ٢٧ ، ٢١٢

(أنّى لك هذا)

 ٣٧

 ١ / ٥٦ ، ٤٨٨

(الّذين قال لهم النّاس)

 ٧٣

 ٢ / ٥٥٧

(أنّى يكون لى غلام وقد بلغنى الكبر)

 ٤٠

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٨ ، ٦١٠

(ولا ينظر إليهم يوم القيامة)

 ٧٧

 ٢ / ٣٥١

(لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)

 ٩٢

 ١ / ٦٧٣

(ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير)

 ١٠٤

 ١ / ٦٥٨

(وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم)

 ١٠٧

 ٢ / ١٧ ، ٢٦٨

(كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس)

 ١١٠

 ١ / ٩٨

(ولكن أنفسهم يظلمون)

 ١١٧

 ١ / ٤٠٠

(وما محمّد إلا رسول)

 ١٤٤

 ١ / ٥٢ ، ٤٤٤

(والله يحبّ المحسنين)

 ١٤٨

 ١ / ٢٢٠

(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد)

 ١٥٣

 ١ / ٢٢٢


(لإلى الله تحشرون)

 ١٥٨

 ١ / ٤٩ ، ٤٠١

(فإذا عزمت فتوكّل على الله)

 ١٥٩

 ١ / ٢٨٥ ، ٢٨٦

(وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)

 ١٧٣

 ١ / ٥٤٠

(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل)

 ١٧٤

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٩ ، ٢ / ٦٨٤

(وشاورهم في الأمر)

 ١٥٩

 ١ / ٣٦ ، ٤٩٩ ، ٢ / ٤٣٣

(يحيي ويميت)

 ١٥٦

 ٢ / ٢٩

(كلّ نفس ذائقة الموت)

 ١٨٥

 ٢ / ٥٠٧

سورة النساء

(وآتوا اليتامى أموالهم)

 ٢

 ٢ / ٢٦٦

(وآتوا اليتامى أموالهم)

 ٢

 ٢ / ١٧

(شقاق بينهما)

 ٣٥

 ١ / ١٧٢

(ولا يكتمون الله حديثا)

 ٤٢

 ١ / ٤٠٧

(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف)

 ٨٣

 ٢ / ٤٨ ، ٦١٠

(أو جاءوكم حصرت صدورهم)

 ٩٠

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٨ ، ٦١٠

(يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا بالله)

 ١٣٦

 ١ / ٤٦٠

(يخادعون الله وهو خادعهم)

 ١٤٢

 ١ / ٦٣ ، ٥٦٨

(ولا تقولوا ثلاثة)

 ١٧١

 ١ / ٣٠٨

سورة المائدة

(حرّمت عليكم الميتة)

 ٣

 ١ / ٧٠ ، ٦٤٧ ، ٦٥٠

(اعدلوا هو أقرب للتّقوى)

 ٨

 ١ / ١١٩ ، ١٩٦ ، ٦٢٨

(والسّارق والسّارقة)

 ٣٨

 ١ / ٢١٨

(فلا تخشوا النّاس واخشون)

 ٤٤

 ٢ / ٣٠ ، ٤٨٩

(أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين)

 ٥٤

 ١ / ٧٢ ، ٦٧١

(وما لنا لا نؤمن بالله)

 ٨٤

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٧


(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما)

 ٩٧

 ١ / ٢٣٦

(أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين)

 ١١٦

 ١ / ٤٩٣

(تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك)

 ١١٦

 ٢ / ٣٢ ، ٥٠٧

(إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم ...)

 ١١٨

 ٢ / ٥٠٠

سورة الأنعام

(وجعل الظّلمات والنّور)

 ١

 ٢ / ٧١٧

(وقالوا لو لا أنزل عليه ملك)

 ٨

 ١ / ٥٥٧ ، ٥٩١

(وهم ينهون عنه وينأون عنه)

 ٢٦

 ٢ / ٤٨

(وهم ينهون عنه وينأون عنه)

 ٢٦

 ٢ / ٦٠٩

(ولو ترى إذ وقفوا على النّار)

 ٢٧

 ١ / ٤٣ ، ٤٣٩ ، ٦٤٣ ، ٢ / ٥٥٨

(إن هي إلا حياتنا الدّنيا)

 ٢٩

 ٢ / ٦٦٥

(فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات الله ...)

 ٣٣

 ١ / ٣٢٩

(إنّما يستجيب الّذين يسمعون)

 ٣٦

 ١ / ٥٢ ، ٤٤٢ ، ٤٥١

(وما من دابّة في الأرض ولا طائر)

 ٣٨

 ١ / ٢٣٢

(كتب ربّكم على نفسه الرّحمة)

 ٥٤

 ٢ / ٥٠٨

(قل من ينجّيكم من ظلمات البرّ والبحر)

 ٦٣

 ١ / ٣٠٩

(عالم الغيب والشّهادة)

 ٧٣

 ١ / ٢١٧

(خالق كلّ شيء)

 ١٠٢

 ٢ / ٥٥٧

(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)

 ١٠٣

 ٢ / ٣١ ، ٤٩٩

(أومن كان ميتا فأحييناه)

 ١٢٢

 ٢ / ١٩ ، ٣٠ ، ٢٩٦ ، ٤٨٨

(قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين)

 ١٤٣

 ١ / ٤٩٤

(فلو شاء لهداكم أجمعين)

 ١٤٩

 ١ / ٤٧ ، ٣٨٤


سورة الأعراف

(بياتا أو هم قائلون)

 ٤

 ١ / ٥٣٠ ، ٦١٤ ، ٦١٧

(أغير الله أتّخذ وليّا)

 ١٤

 ١ / ٥٦

(ينزع عنهما لباسهما)

 ٢٧

 ١ / ٢٢ ، ١٧٧

(أتقولون على الله ما لا تعلمون)

 ٢٨

 ١ / ٤٧٤

(كلوا واشربوا ولا تسرفوا)

 ٣١

 ١ / ٦٣ ، ٥٦٨

(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة)

 ٣٤

 ١ / ٥٥٧ ، ٥٥٨ ، ٥٩١

(يلج الجمل في سمّ الخياط)

 ٤٠

 ٢ / ٥٥٨

(أغير الله تدعون)

 ٤٠

 ١ / ٥٦

(ورضوان من الله أكبر)

 ٧٢

 ١ / ٢٦

(وما يكون لنا أن نعود)

 ٨٩

 ١ / ٣٣٢

(الّذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين)

 ٩٢

 ١ / ٢٠٦

(وما تنقم منّا)

 ١٢٦

 ٢ / ٤٣ ، ٢ / ٥٨٢

(وما تنقم منّا إلا أن آمنّا بآيات ربّنا)

 ١٢٦

 ٢ / ٥٨٢

(فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه)

 ١٣١

 ١ / ٤٢ ، ٣٢٤

(وإن تصبهم سيّئة)

 ١٣١

 ١ / ٤٢

(ومن معه)

 ١٣١

 ١ / ٤٢

(يطّيّروا بموسى)

 ١٣١

 ١ / ٤٢

(اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)

 ١٣٨

 ٢ / ٣٠٩

(أرنى أنظر إليك)

 ١٤٣

 ١ / ٤٨ ، ٣٩٢

(ربّ اغفر لي)

 ١٥١

 ١ / ٥٠٨

(ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب)

 ١٦٩

 ١ / ٥٧٠


سورة الأنفال

(وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا)

 ٢

 ١ / ٢٢ ، ١٧٧

(ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل)

 ٨

 ١ / ٦٩ ، ٦٤٤

(وما رميت إذ رميت ...)

 ١٧

 ١ / ١٥٦

(ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم)

 ٢٣

 ١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦

(ولو أسمعهم لتولّوا)

 ٢٣

 ١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦

سورة التوبة

(فاقتلوا المشركين)

 ٩

 ١ / ٢١٨

(فبشّرهم بعذاب أليم)

 ٣٤

 ٢ / ١٩ ، ٢٢ ، ٢٣٦ ، ٢٩٨ ، ٤١١ ، ٤١٣

(اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا)

 ٣٨

 ٢ / ٦١٤

(قل أنفقوا طوعا أو كرها)

 ٥٣

 ١ / ٥٠٦

(ورضوان من الله أكبر)

 ٧٢

 ١ / ٢٨ ، ٢٢٦

(فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)

 ٨٢

 ٢ / ٣٠ ، ٤٩٤

(وما كان استغفار إبراهيم)

 ١١٤

 ١ / ٥٥٨

(لقد جاءكم رسول ...)

 ١٢٨

 ٢ / ٧١٨

سورة يونس

(وما كان النّاس إلا أمّة واحدة)

 ١٩

 ٢ / ٥٠٢

(حتّى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم)

 ٢٢

 ١ / ٣٧ ، ٢٩٢

(والله يدعو إلى دار السّلام)

 ٢٥

 ١ / ٤٨ ، ٣٩١

(ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

 ٢٥

 ١ / ٣٩١

(يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ)

 ٣١

 ٢ / ٣٣

(ألقوا ما أنتم ملقون)

 ٨٠

 ١ / ٥٠٦

(فاستقيما ولا تتّبعان)

 ٨٩

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٧

(إن كنتم في شكّ)

 ١٠٤

 ١ / ٣٣٥


سورة هود

(أنلزمكموها)

 ٢٨

 ١ / ٥٦ ، ٤٩٥

(واصنع الفلك بأعيننا)

 ٣٧

 ١ / ١٦٠

(ولا تخاطبني في الّذين ظلموا)

 ٣٧

 ١ / ١٦٠

(يا أرض ابلعي ماءك)

 ٤٤

 ٢ / ٤٢١

(استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه)

 ٥٢

 ١ / ٥٣١

(قالوا سلاما قال سلام)

 ٦٩

 ١ / ٦٢

(أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)

 ٨٧

 ١ / ٥٦ ، ١٧٨ ، ٤٩٦

(ذلك يوم مجموع له النّاس)

 ١٠٣

 ١ / ٣٨ ، ٢٩٩

(يوم يأت لا تكلّم نفس)

 ١٠٥

 ٢ / ٣٧ ، ٥٢٨

(فأمّا الّذين شقوا)

 ١٠٦

 ٢ / ٣٧

(إلا ما شاء ربّك إنّ ربّك فعّال لما يريد)

 ١٠٧

 ٢ / ٣٧

(خالدين فيها ما دامت السّموات)

 ١٠٧

 ٢ / ٣٧

(إلّا ما شاء ربّك)

 ١٠٨

 ٢ / ٣٧

(وأمّا الّذين سعدوا)

 ١٠٨

 ٢ / ٣٧

سورة يوسف

(أو اطرحوه أرضا)

 ٩

 ١ / ٢٢٨

(أن يأكله الذّئب)

 ١٣

 ١ / ٢١٤

(وكانوا فيه من الزّاهدين)

 ٢٠

 ١ / ٤٠ ، ٣٠٧ ، ٢ / ٦٨٤

(وراودته الّتى هو فى بيتها عن نفسه)

 ٢٣

 ١ / ٢٥ ، ٢٠٣

(يوسف أعرض عن هذا)

 ٢٩

 ١ / ٥١٧

(تراود فتاها عن نفسه)

 ٣٠

 ١ / ٦٥١

(قد شغفها حبّا)

 ٣٠

 ١ / ٧٠

(فذلكنّ الّذى لمتنّنى فيه)

 ٣٢

 ١ / ٧٠ ، ٦٥٠


(إنّي أراني أعصر خمرا)

 ٣٦

 ٢ / ٢٦٧

(أنا أنبّئكم بتأويله فأرسلون)

 ٤٥ ، ٤٦

 ١ / ٧٠ ، ٦٤٦

(وما أبرّئ نفسي إنّ النّفس)

 ٥٣

 ١ / ٦٢ ، ٥٦٢

(قالوا إن يسرق)

 ٧٧

 ١ / ٦٤٥

(واسأل القرية)

 ٨٢

 ١ / ٦٩ ، ٦٤٠ ، ٢ / ٢٧ ، ٣٨٣ ، ٤٣٤

سورة الرعد

(إنّما يتذكّر أولوا الألباب)

 ١٩

 ١ / ٥٢ ، ٤٥١

(الله يحكم لا معقّب لحكمه)

 ٤١

 ١ / ٦٢٠

(ومن عنده علم الكتاب)

 ٤٣

 ١ / ٨٠

سورة إبراهيم

(إن أنتم إلّا بشر مثلنا)

 ١٠

 ١ / ٥٢ ، ٤٤٧

(إن نحن إلا بشر مثلكم)

 ١١

 ١ / ٥٢ ، ٤٤٨

(قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النّار)

 ٣٠

 ١ / ٥٠٢

(ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي)

 ٣٧

 ٤ / ٩١

(إنّما يؤخّرهم)

 ٤٢

 ١ / ٤٧٤

(يوم يقوم الحساب)

 ٤١

 ١ / ١٧١

(يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّموات)

 ٤٨

 ٢ / ٥٣٠

سورة الحجر

(ربّما يودّ الّذين كفروا)

 ٢

 ١ / ٤٣ ، ٣٥٠

(فاصدع بما تؤمر)

 ٩٤

 ٢ / ٢١ ، ٣١٩


سورة النحل

(أفمن يخلق كمن لا يخلق)

 ١٧

 ١ / ٨٠

(فأتى الله بنيانهم من القواعد)

 ٢٦

 ٢ / ٥٥٧

(ما كنّا نعمل من سوء)

 ٢٨

 ٢ / ٥٢٩

(للّذين أحسنوا ...)

 ٣٢ : ٣٠

 ٢ / ٥٠٣

(ولهم ما يشتهون)

 ٥٧

 ١ / ٦٧٥

(ويجعلون لله البنات سبحانه)

 ٥٧

 ١ / ٦٧٥

(كلمح البصر أو هو أقرب)

 ٧٧

 ١ / ٥٣٠ ، ٢ / ٦٨٤

(فأذاقها الله لباس الجوع)

 ١١٢

 ٢ / ٣٨٨

(إنّما حرّم عليكم الميتة)

 ١١٥

 ١ / ٥١

سورة الإسراء

(أفأصفاكم ربّكم بالبنين)

 ٤٠

 ١ / ٥٦

(وزنوا بالقسطاس المستقيم)

 ٣٥

 ١ / ١١٢

(أفأصفاكم ربّكم بالبنين)

 ٤٠

 ١ / ٤٩٥

(كونوا حجارة أو حديدا)

 ٥٠

 ١ / ٥٧ ، ٥٠٥

(وقل جاء الحقّ وزهق الباطل ...)

 ٨١

 ١ / ٧٢ ، ٦٦٧ ، ٦٦٨

(قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّى)

 ١٠٠

 ١ / ٤٠ ، ٣٠٦

(وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل)

 ١٠٥

 ١ / ٣٦ ، ٢٨٤

(قل الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولدا ...)

 ١١١

 ٢ / ٧١٧

سورة الكهف

(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود)

 ١٨

 ٢ / ٢٩ ، ٤٨٧

(سبعة وثامنهم كلبهم)

 ٢٢

 ١ / ٥٩٥

(واضرب لهم مثل الحياة الدّنيا كماء)

 ٤٥

 ٢ / ١٠ ، ١٦٢ ، ٢١٨

(المال والبنون زينة الحياة الدّنيا)

 ٤٦

 ٢ / ٣٥

(وكان وراءهم ملك)

 ٧٩

 ١ / ٦٩ ، ٦٤١


سورة مريم

(ربّ إنّي وهن العظم منّي)

 ٤

 ١ / ١٥٣ ، ٦٢٤ ، ٦٢٥

(واشتعل الرّأس شيبا)

 ٤

 ٢ / ٣٠٧

(أنّى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر)

 ٢٠

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٩

(أيّ الفريقين خير مقاما)

 ٧٣

 ١ / ٥٥ ، ٤٨٥

سورة طه

(على العرش استوى)

 ٥

 ٢ / ٣٤ ، ٥١٩ ، ٥٨٩

(وما تلك بيمينك)

 ١٧

 ١ / ١٩٤ ، ٢ / ٥٩١

(هى عصاى)

 ١٨

 ١ / ٢٤ ، ١٩٤

(ربّ اشرح لي صدرى)

 ٢٥

 ١ / ٧١ ، ٦٥٤

(فأوجس في نفسه خيفة موسى)

 ٦٧

 ١ / ٤٩ ، ٤٠٧

(فغشيهم من اليمّ ما غشيهم)

 ٧٨

 ١ / ٢٥ ، ٢٠٤

(فأخرج لهم عجلا)

 ٨٨

 ٢ / ٢٠ ، ٣٠٩

(فوسوس إليه الشّيطان)

 ١٢٠

 ١ / ٦١ ، ٥٥٤

سورة الأنبياء

(وأسرّوا النّجوى الّذين ظلموا)

 ٣

 ١ / ٣٢ ، ٢٥٥

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)

 ٢٢

 ١ / ٣٢٢ ، ٣٤٣ ، ٢ / ٤٠ ، ٥٥٩

(لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون)

 ٢٣

 ١ / ٧٤ ، ٦٨٨

(وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)

 ٣٤

 ١ / ٦٦٧

(كلّ نفس ذائقة الموت)

 ٣٥

 ١ / ٦٦٧

(وإذا رآك الّذين كفروا)

 ٣٦

 ١ / ٢٠١

(أهذا الّذى يذكر آلهتكم)

 ٣٦

 ١ / ٢٦

(يقال له إبراهيم)

 ٦٠

 ١ / ٢٣٣

(أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا)

 ٦٢

 ٢ / ٤٧٠

(فهل أنتم شاكرون)

 ٨٠

 ١ / ٥٤ ، ٤٧٧


سورة الحج

(يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم)

 ١

 ١ / ١٦٠ ، ٢ / ٧١٨

(إنّ الّذين كفروا ويصدّون)

 ٢٥

 ١ / ٦٠٤

سورة المؤمنون

(ولا تخاطبنى فى الّذين ظلموا)

 ٢٧

 ١ / ٢٠

(والّذين هم بربّهم لا يشركون)

 ٥٩

 ١ / ٢٥٩

(وهو الّذي يحيي ويميت)

 ٨٠

 ٢ / ٤٨٧

(بل قالوا مثل ما قال الأوّلون)

 ٨١

 ١ / ٥٤٩

(قالوا أئذا متنا وكنّا ترابا وعظاما أئنّا لمبعوثون)

 ٨٢

 ١ / ٥٤٩

سورة النور

(الزّانية والزّاني)

 ٢

 ١ / ٢١٨

(والله خلق كلّ دابّة من ماء)

 ٤

 ١ / ٢٩

(إن أردن تحصّنا)

 ٣٣

 ١ / ٤٣ ، ٣٣٨

(مثل نوره كمشكاة)

 ٣٥

 ١ / ١١٢ ، ٢ / ٣٩ ، ١٧٩

(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)

 ٣٣

 ١ / ٣٣٨

(يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار)

 ٣٥

 ٢ / ٥٥٠

(يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال)

 ٣٦ ، ٣٧

 ١ / ٦٣

(والله خلق كلّ دابّة من ماء)

 ٤٥

 ١ / ٢٢٧

سورة الشعراء

(فماذا تأمرون)

 ٣٥

 ١ / ٥٠٨

(الّذي خلقني فهو يهدين ...)

 ٧٨ : ٨٠

 ٢ / ٦١١

(واجعل لى لسان صدق في الآخرين)

 ٨٤

 ٢ / ١٧ ، ٢٦٨

(إن حسابهم إلا على ربّي)

 ١١٣

 ١ / ٣٧٠

(واتّقوا الّذي أمدّكم بما تعلمون ...)

 ١٣٢ ، ١٣٤

 ١ / ٦١ ، ٥٥٠ ، ٥٥١

(ولا تطيعوا أمر المسرفين)

 ١٥١

 ١ / ١٧٢

(قال إنّى لعملكم من القالين)

 ١٦٨

 ٢ / ٤٨ ، ٦١٣


سورة النمل

(ما لي لا أرى الهدهد)

 ٢٠

 ١ / ٥٦ ، ٤٨٩

(وجئتك من سبأ بنبأ يقين)

 ٢٢

 ٢ / ٤٨ ، ٦١٢

(أيّكم يأتيني بعرشها)

 ٣٨

 ١ / ٤٨٥

(بل أنتم قوم تجهلون)

 ٥٥

 ١ / ٤٢ ، ٣٣١

(ويوم ينفخ في الصّور ففزع من في السّموات ...)

 ٨٧

 ١ / ٢٩٨

(وهى تمرّ مرّ السّحاب)

 ٨٨

 ٢ / ١٥ ، ٢٢٥ ، ٢٧٧

سورة القصص

(يذبّح أبناءهم)

 ٤

 ١ / ٢٢ ، ١٧٧

(آل فرعون ليكون لهم عدوّا)

 ٨

 ٢ / ٢٢ ، ٣٣١

(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)

 ٢٠

 ١ / ٢٨ ، ٢٢٤

(ولمّا توجّه تلقاء مدين)

 ٢٢

 ١ / ٩١

(ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه)

 ٧٣

 ٢ / ٣٥ ، ٢٢٢ ، ٤٩٢

(ويوم القيامة هم من المقبوحين)

 ٤٢

 ٢ / ٦٨٤

سورة العنكبوت

(وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا)

 ٤٠

 ٢ / ٣٢ ، ٥٠٣

سورة الروم

(ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون)

 ٦ ـ ٧

 ٢ / ٤٨٩

(ظاهرا من الحياة الدنيا)

 ٧

 ٢ / ٤٨٩

(يخرج الحيّ من الميّت)

 ١٩

 ٢ / ٥١٥

(فأقم وجهك للدّين القيّم)

 ٤٣

 ٢ / ٦١٣

(فتثير سحابا)

 ٤٨

 ١ / ٤٣

(ويوم تقوم السّاعة يقسم المجرمون)

 ٥٥

 ٢ / ٤٦ ، ٦٠٠


سورة لقمان

(ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمّه)

 ١٤

 ١ / ٦٨٠

(ولئن سألتهم من خلق السّموات)

 ٢٥

 ١ / ٤٠ ، ٣٠٨ ، ٣١١

سورة السجدة

(عالم الغيب والشّهادة)

 ٦

 ١ / ٢٧

(ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم)

 ١٢

 ١ / ٢٤ ، ١٩٧

سورة الأحزاب

(يا أيّها النّبيّ اتّق الله)

 ١

 ١ / ٤٦٠

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت)

 ٣٣

 ١ / ٩٨

(وتخشى النّاس والله أحقّ أن تخشاه)

 ٣٧

 ٢ / ٤٩ ، ٥١٤ ، ٦٢٥

سورة سبأ

(إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد)

 ٧

 ١ / ١٥٠

(أفترى على الله كذبا أم به جنّة)

 ٨

 ١ / ١٩ ، ١٥٠ ، ١٥٢

(بل الّذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب ...)

 ٨

 ١ / ١٥٢

(وهل يجازي إلا الكفور)

 ١٧

 ١ / ٧٢ ، ٦٦٤ ، ٦٦٥

(وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى)

 ٢٤

 ١ / ٢٤٣ ، ٢ / ٥٥٨

(مكر اللّيل والنّهار)

 ٣٣

 ١ / ١٧٢

سورة فاطر

(وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسل)

 ٤

 ١ / ٢٩ ، ٧٠ ، ٣٣٤ ، ٦٤٧ ، ٢٢٦

(الله الّذي أرسل الرّياح فتثير سحابا)

 ٩

 ١ / ٣٧ ، ٢٩٢ ، ٢٩٨ ، ٣٥١

(وما يستوي البحران)

 ١٢

 ٢ / ٢٧٧ ، ٣٩٥

(يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل)

 ١٣

 ٢ / ٦٠٠

(ولا يحيق المكر السّيّئ إلا بأهله)

 ٤٣

 ١ / ٦٨ ، ٤٥٦ ، ٦٣٤


سورة يس

(إنّا إليكم مرسلون)

 ١٤

 ١ / ١٩ ، ١٥٨

(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا)

 ١٥

 ١ / ١٥٨

(وما أنزل الرّحمن من شيء إن أنتم إلّا تكذبون)

 ١٥

 ١ / ١٥٨

(إنّا إليكم لمرسلون)

 ١٦

 ١ / ١٩ ، ١٥٨

(قال يا قوم اتّبعوا المرسلين)

 ٢٠

 ١ / ٦٦٤

(اتّبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)

 ٢١

 ١ / ٧٢ ، ٦٦٤

(وإليه ترجعون)

 ٢٢

 ١ / ٣٧ ، ٢٤١

(وما لى لا أعبد الّذى فطرنى)

 ٢٢

 ١ / ٤٣ ، ٢٤١ ، ٢٩٠

(وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار)

 ٣٧

 ٢ / ٣١٠

(كلّ في فلك ...)

 ٤٠

 ٢ / ٥٣ ، ٦٣٧

(وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم)

 ٤٥

 ١ / ٦٩ ، ٦٤٢

(وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم)

 ٤٦

 ١ / ٦٤٢

(من بعثنا من مرقدنا)

 ٥٢

 ٢ / ٢١ ، ٣١٦

(قال من يحيي العظام وهي رميم)

 ٧٩

 ١ / ٣٠٩

سورة الصافات

(لا فيها غول)

 ٤٧

 ١ / ٤٥ ، ٣٦٧

(وآتيناهما الكتاب المستبين)

 ١٧ ـ ١٨

 ٢ / ٥٢ ، ٦٣٥

(سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ...)

 ١٨٠ : ١٨٢

 ٢ / ٧١٧

سورة ص

(حتّى توارت بالحجاب)

 ٣٢

 ١ / ١٩٦

(هذا ذكر وإنّ للمتّقين لحسن مآب)

 ٤٩

 ٢ / ٦٣ ، ٧١٣

(هذا وإنّ للطّاغين لشرّ مآب)

 ٥٥

 ٢ / ٦٣ ، ٧١٣


سورة الزمر

(قل هل يستوى الّذين يعلمون)

 ٩

 ١ / ٤٦ ، ٣٧٨

(أليس الله بكاف عبده)

 ٣٦

 ١ / ٥٦ ، ٤٩٢

(خالق كلّ شيء)

 ٦٢

 ١ / ٢١٧

(لئن أشركت ليحبطنّ عملك)

 ٦٥

 ١ / ٤٣

(ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك)

 ٦٥

 ١ / ٣٣٩

(والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ...)

 ٦٧

 ٢ / ٥٥٦

(ونفخ فى الصّور فصعق)

 ٦٨

 ١ / ٣٨

(ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها)

 ٧٢

 ١ / ٥٣٠

سورة غافر

(الّذين يحملون العرش ومن حوله)

 ٧

 ١ / ٧٣ ، ٦٨٤

(ويؤمنون به)

 ٧

 ١ / ٦٨٤

(قال رجل مؤمن من آل فرعون)

 ٢٨

 ١ / ٤٩

(يكتم إيمانه)

 ٢٨

 ١ / ٤٩ ، ٤٠٧

(مثل دأب قوم نوح)

 ٣١

 ١ / ١٢٥

(يا هامان ابن لى صرحا)

 ٣٦

 ١ / ٢٢ ، ١٧٨ ، ١٨٥

(إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي)

 ٦٠

 ١ / ٢٦

(يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرّشاد ...)

 ٣٨ ، ٣٩

 ١ / ٦٦٠

(سيدخلون جهنّم داخرين)

 ٦٠

 ١ / ٤٧٤

(ذلكم بما كنتم تفرحون فى الأرض)

 ٧٥

 ٢ / ٤٨ ، ٦٠٩

سورة فصلت

(وأمّا ثمود فهديناهم)

 ١٧

 ١ / ٤٨ ، ٣٩٨

(لهم فيها دار الخلد)

 ٢٨

 ٢ / ٣٨ ، ٩١ ، ٥٤٠

(اعملوا ما شئتم)

 ٤٠

 ١ / ٥٧ ، ٥٠٢

(وما ربّك بظلام للعبيد)

 ٤٦

 ١ / ٣٦٨ ، ٢ / ٣٤٠


سورة الشورى

(ويستغفرون لمن في الأرض)

 ٥

 ١ / ٦٨٥

(أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولى)

 ٩

 ١ / ٥٨ ، ٥١٥

(ليس كمثله شيء)

 ١١

 ٢ / ٢٧ ، ٤٣٤ ، ٤٤٣

(يهب لمن يشاء إناثا ويهب)

 ٤٩ ـ ٥٠

 ٢ / ٣٧ ، ٥٣٤ ، ٥٣٥

سورة الزخرف

(أفنضرب عنكم الذّكر)

 ٥

 ١ / ٤٢ ، ٣٢٦

(أن كنتم قوما مسرفين)

 ٥

 ١ / ٣٢٧

(ولئن سألتهم من خلق السّموات)

 ٩

 ١ / ٣٠٨

(أهم يقسمون رحمة ربّك)

 ٣٢

 ١ / ٢٢٩

(قل إن كان للرّحمن ولد)

 ٨١

 ١ / ٣٢٨ ، ٣٣٠ ، ٢ / ٥٥٨

(خلقهنّ العزيز العليم)

 ٩

 ١ / ٣١١

سورة الدخان

(أنّى لهم الذّكرى وقد جاءهم رسول)

 ١٣ ، ١٤

 ١ / ٥٧ ، ٤٩٨

(ولقد نجّينا بنى إسرائيل من العذاب)

 ٣٠

 ١ / ٥٧ ، ٤٩٧

(إنّه كان عاليا من المسرفين)

 ٣١

 ١ / ٤٩٨

(ذق إنّك أنت العزيز الكريم)

 ٤٩

 ١ / ٥٠٥

سورة الجاثية

(إن نظنّ إلا ظنّا)

 ٣٢

 ١ / ٢٩ ، ٢٢٨

سورة محمد

(أفلم يسيروا ...)

 ١٠

 ١ / ٣٢٧

(مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون)

 ١٥

 ٢ / ٣٥٠

سورة الفتح

(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح)

 ١٠

 ١ / ٦٩

(أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم)

 ٢٩

 ٢ / ٣٠ ، ٤٨٨


سورة الحجرات

(لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتّم)

 ٧

 ١ / ٤٣ ، ٣٤٧

سورة الذاريات

(وإنّ الدّين لواقع)

 ٦

 ١ / ٣٨ ، ٢٩٩

(قالوا سلاما قال سلام)

 ٢٥

 ١ / ٥٦٢ ، ٥٦٣

(والسّماء بنيناها بأيد)

 ٤٧

 ١ / ١٠١ ، ٢ / ٣٤ ، ٥٢٠ ، ٥٨٩

(فنعم الماهدون)

 ٤٨

 ١ / ٦٣ ، ٥٦٥ ، ٦٤٥

سورة ق

(فسبّحه)

 ٤

 ١ / ١٢٠

سورة الطور

(فاصبروا أو لا تصبروا)

 ١٦

 ١ / ٥٧ ، ٥٠٦

(فسبّحه)

 ٤٩

 ١ / ١٢٠

سورة النجم

(والنّجم إذا هوى)

 ١ ـ ٢

 ٢ / ٥٢ ، ٦٢٨

(ما ضلّ صاحبكم وما غوى)

 ٢

 ٢ / ٦٢٨

سورة الرحمن

(الشّمس والقمر بحسبان* والنّجم)

 ٥ ـ ٦

 ٢ / ٣١ ، ٤٩٨ ، ٥٠٠

(فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان)

 ١٣

 ١ / ٦٦٠

(حور مقصورات في الخيام)

 ٧٢

 ١ / ٤٠٨


سورة الواقعة

(فى سدر مخضود)

 ٢٨ ، ٣٠

 ٢ / ٥١ ، ٦٢٨

سورة الحديد

(سبّح لله ...)

 ١ : ٣

 ٢ / ٧١٧

(هو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن)

 ٣

 ١ / ٥٢٥

(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح)

 ١٠

 ١ / ٦٤٣ ، ٦٤٦

(أولئك أعظم درجة من الّذين أنفقوا)

 ١٠

 ١ / ٦٤٤

(والله لا يحبّ كلّ مختال فخور)

 ٢٣

 ١ / ٢٧٣

(لئلا يعلم)

 ٢٩

 ٢ / ٣٧٤

سورة الحشر

(هو الله الّذي لا إله إلّا هو ...)

 ٢٣

 ١ / ٥٢٥

سورة الممتحنة

(لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ)

 ١٠

 ٢ / ٣٣ ، ٥١٦

سورة الصف

(لم تؤذونني وقد تعلمون أنّي رسول الله)

 ٥

 ١ / ٦٠٤

سورة الجمعة

(كمثل الحمار يحمل أسفارا)

 ٥

 ٢ / ١٦٣

(مثل الّذين حمّلوا التّوراة)

 ٥

 ٢ / ٩ ، ١٦٣

سورة المنافقون

(إذا جاءك المنافقون)

 ١

 ١ / ١٤٧

(إنّ المنافقين لكاذبون)

 ١

 ١ / ١٨ ، ١٤٧

(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة)

 ٨

 ٢ / ٤٥ ، ٥٩٤


سورة التحريم

(وكانت من القانتين)

 ١٢

 ١ / ٤٢ ، ٣٣٠

سورة القلم

(ولا تطع كلّ حلّاف مهين)

 ١٠

 ١ / ٢٧٣

سورة الحاقة

(إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية)

 ١١

 ٢ / ٢١ ، ٣٢٠

(فهو في عيشة راضية)

 ٢١

 ١ / ١٧٠ ، ١٨٣

(خذوه فغلّوه* ثمّ الجحيم صلّوه)

 ٣٠ ـ ٣١

 ١ / ٤٠٠ ، ٢ / ٥٢ ، ٦٢٨

(ذرعها سبعون ذراعا)

 ٣٢

 ١ / ٤٠٠

سورة المعارج

(سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين)

 ١

 ٢ / ٧١٨

سورة نوح

(استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا)

 ١٠

 ٢ / ٤٩ ، ٦١٥

(ما لكم لا ترجون لله وقارا)

 ١٣ ـ ١٤

 ٢ / ٥١ ، ٦٢٦ ، ٦٣٤

(أغرقوا فأدخلوا نارا)

 ٢٥

 ٢ / ٤٨٧

سورة المزمل

(يوما يجعل الولدان شيبا)

 ١٧

 ١ / ٢٢ ، ١٧٧

سورة المدثر

(يا أيّها المدّثّر)

 ١

 ١ / ٤٠٣

(وربّك فكبّر)

 ٣

 ٢ / ٥٣ ، ٦٣٧

(ولا تمنن تستكثر)

 ٦

 ١ / ٦٥ ، ٦٠٠


سورة القيامة

(يسأل أيّان يوم القيامة)

 ٦

 ١ / ٥٥ ، ٤٨٦

(والتفّت السّاق بالسّاق)

 ٢٩ ، ٣٠

 ٢ / ٤٧ ، ٦٠٥

سورة الإنسان

(ويطعمون الطّعام على حبّه)

 ٨

 ١ / ٧٣ ، ٦٧٤

سورة المرسلات

(والمرسلات عرفا)

 ١ ـ ٢

 ٢ / ٦٢٧

(يوم لا ينطقون ...)

 ٣٥ ـ ٣٦

 ٢ / ٥٢٩

سورة النبأ

(لا يتكلّمون إلا من أذن له)

 ٣٨

 ٢ / ٥٢٩

سورة عبس

(وما يدريك لعلّه يزّكّى)

 ٣

 ١ / ٢٨٩

(عبس وتولّى* أن جاءه الأعمى)

 ١ ، ٢

 ١ / ٢٨٩

سورة التكوير

(فأين تذهبون)

 ٢٦

 ١ / ٥٦ ، ٣٢٧ ، ٤٩٠

سورة الانفطار

(وإنّ عليكم لحافظين)

 ١٠

 ١ / ٤٠٠

(كراما كاتبين)

 ١١

 ١ / ٤٠٠

(إنّ الأبرار لفى نعيم)

 ١٣ ـ ١٤

 ١ / ٦٣ ، ٥٦٨


سورة الغاشية

(فيها سرر مرفوعة)

 ١٣ ـ ١٤

 ٢ / ٥١ ، ٦٢٧ ، ٦٣٣

(ونمارق مصفوفة* وزرابيّ مبثوثة)

 ١٥ ـ ١٦

 ٢ / ٥٢ ، ٦٣٣

سورة الفجر

(وجاء ربّك)

 ٢٢

 ١ / ٧٠ ، ٦٤٩ ، ٢ / ٢٧ ، ٤٣٤ ، ٥٥٧

سورة الشمس

(والشّمس وضحاها)

 ٨

 ١ / ١٢٥

سورة الليل

(فأمّا من أعطى واتّقى)

 ٥ ـ ١٠

 ٢ / ٣١ ، ٤٩٥

(وأمّا من بخل واستغنى)

 ٨ ـ ١٠

 ٢ / ٤٩٥

سورة الضحى

(والضّحى* واللّيل إذا سجى)

 ١ ـ ٢

 ١ / ٣٩٣

(ما ودّعك ربّك وما قلى)

 ٣

 ١ / ٤٨ ، ٣٩٣

(فأمّا اليتيم فلا تقهر)

 ٩ ـ ١٠

 ١ / ٤٠٠ ، ٢ / ٥٣ ، ٦٤١

سورة العلق

(اقرأ باسم ربّك)

 ١

 ١ / ٤٩ ، ٩٦ ، ٤٠٣ ، ٤٠٥

(فليدع ناديه)

 ١٧

 ٢ / ١٧ ، ٢٦٨

سورة الزلزلة

(وأخرجت الأرض أثقالها)

 ٢

 ١ / ٢٢ ، ١٧٨


سورة العاديات

(وإنّه على ذلك لشهيد* وإنّه لحبّ الخير لشديد)

 ٧ ـ ٨

 ٢ / ٦١٠

سورة القارعة

(فهو فى عيشة راضية)

 ١٦

 ١ / ٢٣

سورة التكاثر

(كلّا سوف تعلمون)

 ٣ ـ ٤

 ١ / ٧١ ، ٥٧٥ ، ٦٥٩

سورة العصر

(إنّ الإنسان لفى خسر)

 ٢

 ١ / ٢٧ ، ٩٥ ، ٢١٥

سورة الهمزة

(ويل لكلّ همزة لمزة)

 ١

 ٢ / ٤٨ ، ٦٠٩

سورة الفيل

(ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل)

 ١ ـ ٢

 ٢ / ٦٢٩

سورة الكوثر

(إنّا أعطيناك الكوثر* فصلّ لربّك)

 ١ ـ ٢

 ١ / ٣٧ ، ٢٩٠ ، ٥٤٢

(إنّ شانئك هو الأبتر)

 ٣

 ٢ / ٧١٨

سورة الكافرون

(لكم دينكم ولي دين)

 ٦

 ١ / ٣٧٠

سورة الإخلاص

(قل هو الله أحد)

 ١

 ١ / ٢٥ ، ٢٠٠ ، ٢٨٣ ، ٣١٤

(الله الصّمد)

 ٢

 ١ / ٣٦ ، ٢٨٣

سورة الناس

(الخنّاس ...)

 ٤ ـ ٥

 ١ / ٢٠٢


٢ ـ فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

أولا : فهرس أحاديث المجلد الأول

ما رأيت منه ولا رأى منى.................................................... ١ / ٤٨

يشيب ابن آدم ويشيب معه......................................... ١ / ٧١ ، ٦٥٧

الكريم ابن الكريم......................................................... ١ / ١٢٥

أقصرت الصلاة؟......................................................... ١ / ٢٧٤

إني لا أنسى ولكن أنسى.................................................. ١ / ٢٧٥

اطلبوا العلم ولو بالصين................................................... ١ / ٣٤٧

فإني أباهي بكم الأمم..................................................... ١ / ٣٤٧

المؤمن غر كريم........................................................... ١ / ٣٧٩

كنت أغتسل أنا ورسول الله................................................ ١ / ٣٩٤

ما أنا بقارئ............................................................. ١ / ٤٠٤

نحن معاشر الأنبياء لا نورث................................................ ١ / ٥١٩

من قتل قتيلا فله سلبه.................................................... ١ / ٥٤٥

من أولى الناس بالبر يا رسول الله؟........................................... ١ / ٦٦٠


ثانيا فهرس أحاديث المجلد الثاني

أتيتكم بالحنيفية...................................................... ٢ / ٧ ، ١١٠

أسرعكن لحوقا بى أطولكن يدا............................................. ٢ / ٣٦٠

الناس كإبل مائة.......................................................... ٢ / ٤٢٨

المسلم من سلم المسلمون............................................ ٢ / ٢٨ ، ٤٦٣

مثلت لى الجنة فى عرض................................................... ٢ / ٤٦٣

الكريم ابن الكريم......................................................... ٢ / ٥٩٧

الخيل معقود بنواصيها الخير........................................... ٢ / ٤٨ ، ٦٠٩

اللهم استر عوارتنا................................................... ٢ / ٤٨ ، ٦١١

أسجعا كسجع الجاهلية.................................................... ٢ / ٦٣٠

يسب ابن آدم الدهر...................................................... ٢ / ٦٦٠

شاهت الوجوه...................................................... ٢ / ٥٩ ، ٦٨٤

حفت الجنة بالمكاره....................................................... ٢ / ٦٨٥

الحلال بين والحرام بين..................................................... ٢ / ٦٩٥

ازهد فى الدنيا يحبك الله................................................... ٢ / ٦٩٥

من حسن إسلام المرء...................................................... ٢ / ٦٩٥

إنما الأعمال بالنيات...................................................... ٢ / ٦٩٥

أنا أفصح العرب.................................................... ٢ / ٤٢ ، ٥٨٧

كلما سمع هيعة..................................................... ٢ / ٢٠ ، ٢٩٩


ثالثا : فهرس الأشعار

حرف الهمزة

ويصعد حتى يظن الجهول

بأن له حاجة في السماء ٢ / ٢٣ ، ٣٤١

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء ٢ / ٣٦

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيها حياء ٢ / ١٥ ، ٢٢٢ ، ٦٥٢

والريح تعبث بالغصون وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء ٢ / ١٥ ، ٢٢٦

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء ٢ / ٣٦

لم يحك نائلك السحاب وإنما

حمت به فصبيبه الرحضاء ٢ / ٤١ ، ٥٦٤ ، ٥٦٨

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤكم من الكلب الشفاء ٢ / ٥٧٣

خاط لي عمر قباء

ليت عينيه سواء ٢ / ٤٤ ، ٥٨٨

فاسأل الناس جميعا

أمديح أم هجاء ٢ / ٥٨٨

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء ٢ / ٤٤ ، ٥٩٢

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه ٢ / ٥٨ ، ٦٧٢

حرف الباء

مرت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا ٢ / ٧٠٩

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا ٢ / ٧٠٩

شربنا فأهرقنا على الأرض جرعة

فللأرض من كأس الكرام نصيب ١ / ٨٧

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب ١ / ٤٠ ، ٣٠٣

سأغسل عني العار بالسيف جالبا

على قضاء الله ما كان جالبا ١ / ٤٧٥

ولا فضل فيها للشجاعة والندى

وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب ١ / ٦٨ ، ٦٣١


كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ١ / ٧٢ ، ٦٦٢ ، ٢ / ٥٥٨

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب ١ / ٧٢ ، ٦٦٨

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي

فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب ٢ / ١١ ، ١٨١

فو الله ما أدري أبا لخمر أسبلت

جفوني أم من عبرتي كنت أشرب ٢ / ١١ ، ١٨١

وصاعقة من نصله تنكفي بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب ٢ / ١٩ ، ٢٩٥

رب فتية دعوت إلى ما

يورث الحمد دائما فأجابوا ١ / ١١٩

فتى لا يبالي المدلجون بنوره

إلى بابه أن لا تضيء الكواكب ١ / ٢٢٥

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب ١ / ٣٧ ، ٢٩١

ما بال عينك منها الدمع ينسكب

كأنه من كلى مفرية سرب ٢ / ٧٠٥

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب ٢ / ٧٠٤

ورب نهار للفراق أصيله

ووجهي كلا لونيهما متناسب ٢ / ٢٢٦

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ٢ / ٨ ، ١٢٩ ، ١٤٠ ، ١٨٨

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا ٢ / ٣٤ ، ٥٢١

أسكر الأمس إن عزمت على الشر

ب غدا إن ذا من العجب ٢ / ٤٠ ، ٥٥٥

كريم الجرشى شريف النسب

مبارك الاسم أغر اللقب ١ / ١٤ ، ١١٧

له حاجب في كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب ١ / ٢٨ ، ٢٢٥

يمدون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب ٢ / ٤٧ ، ٦٠٦

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء ملطب ٢ / ٤٠ ، ٥٥٩

لئن كنت قد بلغت عنى خيانة

لمبلغك الواشى أغش وأكذب ٢ / ٤٠ ، ٥٦٠

ولكننى كنت امرءا لى جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب ٢ / ٤٠ ، ٥٦٠

ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم

أحكم في أموالهم وأقرب ٢ / ٤٠ ، ٥٦٠


كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم

فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا ٢ / ٤٠ ، ٥٦٠

لو رأى الله أن في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا ٢ / ٦٢ ، ٧١٠

كل يوم تبدى صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد غريبا ٢ / ٦٢ ، ٧١٠

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب ٢ / ٤١ ، ٥٦٥ ، ٦٥٠

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفى من الكلب ٢ / ٤٢ ، ٥٧٢

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب ٢ / ٤٢ ، ٥٧٤ ، ٥٨٢

أقلب فيه أجفاني كأني

أعد به على الدهر الذنوبا ٢ / ٤٤ ، ٥٨٧

إذا ما تميمي أتاك مفاخرا

فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب ٢ / ٤٤ ، ٥٩٠

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب ٢ / ٤٦ ، ٥٩٦

ضرائب أبدعتها في السماح

فليس نرى لك فيها ضريبا ٢ / ٥٠ ، ٦٢١

إذا ملك لم يكن ذا هبة

فدعه فإن دولته ذاهبة ٢ / ٤٦ ، ٦٠٢

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب في الله مرتقب ٢ / ٥٥ ، ٦٣٢

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا

وأقدم لما لم يجد عنك مهربا ٢ / ٦٣٦

ومن في كفه منهم قناة

كمن في كفه منهم خضاب ٢ / ٥٧ ، ٦٦٨ ، ٦٧١

سلبوا فأشرقت الدماء عليهم

محمرة فكأنهم لم يسلبوا ٢ / ٥٧ ، ٦٧٠

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أبوه يقاربه ١ / ١٥ ، ١٢١

لظل صدى صوتي وإن كنت رمة

لصوت صدى ليلى يهش ويطرب ١ / ٣٤٧

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب ١ / ٣٧

لعمرو مع الرفصاء والنار تلتظي

أرق وأخفى منك في ساعة الكرب ٢ / ٦١ ، ١٦٠ ، ٦٩٩


وذي ذمام وفت بالعهد ذمته

ولا ذمام له في مذهب العرب ٢ / ٦٠٠

أتظنني من زلة أتعتب

قلبي عليك أرق مما تحسب ٢ / ٧٠٥

حلقت لحية موسى باسمه

وبهارون إذا ما قلبا ٢ / ٦١١

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ٢ / ٢٠٢

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا ٢ / ٥٧ ، ٦٧١ ، ٦٨٠

وإذا تألق في الندى كلامه ال

مصقول خلت لسانه من عضبه ٢ / ٥٦ ، ٦٦٦

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عنى وعاوده ظنى فلم يخب ٢ / ١٣ ، ٢٠١

كالغيث إن جئته وإفاك ريقه

وإن ترحلت عنه لج في الطلب ٢ / ١٣ ، ٢٠١

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدرتا كالدر لما يثقب ١ / ٦٠٩

إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة أو ذمام غير مقتضب ٢ / ٧١٥

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النسب ٢ / ٧١٥

أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه وجلت أوجه العرب ٢ / ٧١٥

دان على أيدي العفاة وشاسع

على كل ند في الندى وضريب ٢ / ٢٢٠

كالبدر أفرط في العلو وضوءه

للعصبة السارين جد قريب ٢ / ٢٢٠

حرف التاء

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فما رأوها أقشعت وتجلت ٢ / ١٠ ، ١٥٣

ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت ٢ / ١١ ، ١٧٦ ، ٢١٢

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت ٢ / ١١ ، ١٧٦ ، ٢١٢

سأشكر عمرا إن تراخت منيتى

أيادى لم تمنن وإن هى جلت ٢ / ٥٤ ، ٦٤٢


فتى غير محجوب الفيء عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت ٢ / ٥٤ ، ٦٤٢

رأى خلتى من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت ٢ / ٥٤

تعاللت كى أشجى وما بك علة

تريدين قتلي قد ظفرت ١ / ٣٥

حرف الجيم

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج ٢ / ٥٥ ، ٦٥٨

وفاحما ومرسنا مسرجا

ومقلة وحاجبا مزججا ١ / ١٤ ، ١١٣

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج ٢ / ٢٨ ، ٤٥٨ ، ٤٦٣

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح ٢ / ٣٠٦

وشدت على وهم المهاري رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح ٢ / ٣٠٦


حرف الحاء

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرة وانفتاحا ٢ / ٩ ، ١٤٨

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح ٢ / ١١ ، ٩٩ ، ١٧٧ ، ٧١٤

بات نديما لي حتى الصباح

أغيد مجدول مكان الوشاح ٢ / ١٩٥

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح ١ / ٨٧ ، ٢ / ٢٠ ، ٣٠٦

جمع الحق لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السماحا ٢ / ٢٢ ، ٣٣٥

ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي ٢ / ٤٥ ، ٥٩١

أملتهم ثم تأملتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح ٢ / ٥٠ ، ٦٢٠

جاء شقيق عارضا رمحه

إن بنى عمك فيهم رماح ١ / ٢٠ ، ١٦١

ليبك يزيد ضارع لخصومه

ومختبط مما تطيح الطوائح ١ / ٤٠ ، ٣٠٩

كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضد أو برد أو أقاح ٢ / ١٣ ، ١٩٥

إن البكاء هو الشفا

ء من الجوى بين الجوائح ٢ / ٤٧ ، ٦٠٧

أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجن فقلت عموا صباحا ١ / ٤٨٤

ولاح يلحى على جري العنان إلى

ملهى فسحقا له من لائح لاح ٢ / ٦٢٣

حرف الدال

إذا أنكرتني بلدة أو أنكرتها

خرجت مع البازي على سواد ١ / ٦٦

فقلت عسى أن تبصريني كأنما

بني حوالي الأسود الحوارد ١ / ٦٦ ، ٦٢١

والعيش خير في ظلا

ل النوك ممن عاش كدا ١ / ٦٧

وكأن محمر الشقيق إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ٢ / ٦ ، ١٠٠

كريم متى أمدحه أمدحه والورى معى

وإذا ما لمته لمته وحدى ١ / ١٥ ، ١٢٠

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناى الدموع لتجمدا ١ / ١٦ ، ١٢٢


وتسعدني في غمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد ١ / ١٦ ، ١٢٣

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد ١ / ٣١ ، ٢٤٦

نقريهم لهذميات نقد بها

ما كان خاط عليهم كل زراد ٢ / ٢٢ ، ٣٠٢ ، ٣٣٥ ، ٤١١

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود ١ / ١٢٣

يا خاطب الدنيا الدني

ية إنها شرك الردى ٢ / ٦٣٩

دار متى ما أضحكت

من يومها أبكت غدا ٢ / ٦٣٩

غاراتها لا تنقضي

وأسيرها لا يفتدى ٢ / ٦٣٩

وإخوان حسبتهم دروعا

فكانوها ولكن للأعادي ٢ / ٥٩٦

وخلتهم سهاما صائبات

فكانوها ولكن في فؤادي ٢ / ٥٩٦

وقالوا قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ولكن من ودادي ٢ / ٥٩٦

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد ٢ / ٦٤٣

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد ٢ / ٦٤٣

وقوفا بها صحبى عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد ٢ / ٦٥٧

قولا لهارون إمام الهدى

عند احتفال المجلس الحاشد ٢ / ٦٧١

أنت على ما فيك من قدرة

فلست مثل الفضل بالواجد ٢ / ٦٧١

أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا

فقلت كلا ولكن مطلع الجود ٢ / ٦٢ ، ٧٠٩ ، ٧١٤

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أي مفسدة ٢ / ٣٥

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا ٢ / ٣٧

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد ٢ / ٣٦

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثي له أحد ٢ / ٣٦ ، ٥٣١

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد ٢ / ٣٧ ، ٥٣٣

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدنيا بأنك خالد ٢ / ٤٣ ، ٥٨٥


قلت ثقلت إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي بالأيادي ٢ / ٤٥ ، ٥٩٥

تجلى به رشدي وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي وأورى به زندي ٢ / ٥٢ ، ٦٣٠

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد ٢ / ٥٧ ، ٦٧١ ، ٦٨٠

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلل واهتز اهتزاز المهند ٢ / ٦٨١

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا ٢ / ٧٠٦

تقول في قومس قومي وقد أخذت

منا السرى وخطا المهرية القود ٢ / ٦٢ ، ٧٠٨

يبس النجيع عليه وهو مجرد

من غمده فكأنما هو مغمد ٢ / ٥٧ ، ٦٧٠

بأن أمر الإله واختلف النا

س فداع إلى ضلال وهادى ١ / ٢٤٦

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخلى ولم ترقد ١ / ٣٦

يصد عن الدنيا إذا عن سؤدد

ولو برزت في زي عذراء ناهد ١ / ٧٤

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسند ١ / ٢٣٥

سأحمد نصرا ما حييت وإنني

لأعلم أن قد جل نصر عن الحمد ٢ / ٦٣١

قلت طولت قال لا بل تطول

ت وأبرمت قال حبل ودادى ٢ / ٥٩٥

إن من ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد بعد ذلك جده ١ / ٥٣١

حرف الذال

كنا معا أمس فى بؤس نكابده

والعين والقلب منافي قذى وأذى ٢ / ٦٩٠

والآن أقبلت الدنيا عليك بما

تهوى فلا تنسنى أن الكرام إذا ٢ / ٦٩٠

حرف الراء

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر ١ / ٣٤٤

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الربا فكأنما هو مقمر ٢ / ١٢ ، ١٩٠

نردى ثياب الموت حمرا فما أتى

لها الليل إلا وهى من سندس خضر ٢ / ٣٠ ، ٤٩٠


إذا ما نهى الناهى فلج بى الهوى

أصاخت إلى الواشى فلج بها الهجر ٢ / ٣٣ ، ٥١٢

ويوم كظل الرمح قصر طوله

دم الزق عنا واصطكاك المزاهر ٢ / ١٦٩

لعمري لقد كان الثريا مكانه

ثراء فأضحى الآن مثواه في الثرى ٢ / ٦٢٣

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار ٢ / ٦١ ، ٧٠٠

له همم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجل من الدهر ١ / ٤٥ ، ٣٧١

فلم يبق مني الشوق غير تفكري

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا ١ / ٤٧ ، ٣٨٥

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

فكل حتف امرئ يجري بمقدار ١ / ٥٣٨

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسها من نقب ولا دبر ١ / ٦١ ، ٥٥٤

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو اسحق والقمر ١ / ٤٥ ، ٦٤ ، ٣٧٢ ، ٥٨٠

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار ١ / ٧١ ، ٦٦١

واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كل ما قدرا ١ / ٧٣ ، ٦٧٧

وإني لصبار على ما ينوبني

وحسبك أن الله أثنى على الصبر ١ / ٦٨٦

ولست بنظار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر ١ / ٧٤

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نورا ٢ / ٨ ، ١٣٨

يا صاحبي تقصيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصور ٢ / ١٢ ، ١٩٠

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا ١ / ٢٢ ، ١٨١

أسد علي وفي الحروب نعامة

فتخاء تصفر من صفير الصافر ٢ / ٢٧٧ ، ٢٩٩

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زر أزراره على القمر ١ / ١٨٧ ، ٢ / ١٨ ، ٢٣٦

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشكيم إلى انصراف الزائر ٢ / ٢٠ ، ٣٠٥

قال لى إن رقيبي

سيىء الخلق فداره ٢ / ٥٩ ، ٦٨٥

قلت دعني وجهك الج

نة حفت بالمكاره ٢ / ٥٩ ، ٦٨٥


وعيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ٢ / ٣١٣

فلا يمنعك من أرباب لحاهم

سواء ذو العمامة والخمار ٢ / ٥٧ ، ٦٦٨ ، ٦٧١

كالقسي المعطفات بل الأسهم

مبرية بل الأوتار ٢ / ٣١ ، ٤٩٨

وترى الطير على آثارنا

رأى عين ثقة أن ستمار ٢ / ٥٨ ، ٦٧٤

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرها ٢ / ٣٦ ، ٥٣٢

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر ١ / ٢٠١ ، ٢ / ٤٥ ، ٥٩٢

دار متى ما أضحكت من يومها

أبكت غدا بعدا لها من دار ٢ / ٦٣٩

غاراتها لا تنقضى وأسيرها

لا يفتدى بجلائل الأخطار ٢ / ٦٣٩

سود الوجوه لئيمة أحسابهم

فطس الأنوف من الطراز الآخر ٢ / ٦٥٧

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر ٢ / ٦٨٨

ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إياه عليك يسير ١ / ٣١٩

كأن الثريا علقت بجبينه

وفي نحره الشعري وفي خده البدر ٢ / ٥١٤

أريقك أم ماء الغمامة أم خمر

بفى برود وهو في كبدي جمر ٢ / ٧٠٥

 ...

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر ٢ / ٣١٤

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار ٢ / ٤٩ ، ٦١٧

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر ٢ / ٥٠ ، ٦٢٢

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير ٢ / ٥١ ، ٦٢٣

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر ٢ / ٥١ ، ٤٩٠ ، ٦٢٤

يا خاطب الدنيا الدنية إنها

شرك الردى وقرارة الأكدار ٢ / ٥٣ ، ٦٣٨

ما بال من أوله نطفة

وجيفة آخره يفخر ٢ / ٦٠ ، ٦٩٦


وإني جدير إذا بلغتك بالمنى

وأنت بما أملت منك جدير ٢ / ٦٣ ، ٧١٥

فإن تولني منك الجميل فأهله

وإلا فإني عاذر وشكور ٢ / ٦٣ ، ٧١٥

من راقب الناس مات غما

وفاز باللذة الجسور ٢ / ٥٥ ، ٦٥٨

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر ١ / ١٥ ، ١٠٩ ، ١١٩

ترتع ما رتعت حتى إذا دكرت

فإنما هي إقبال وإدبار ١ / ١٧١

 ...

أنا أبو النجم وشعري شعري ١ / ٣٥٥

حرف السين

قامت تظللني من الشمس

نفس أعز على من نفسي ٢ / ١٨ ، ٢٨٥

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس ٢ / ١٨ ، ٣٤٣

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ٢ / ٦٥٦

قد قلت لما أطلعت وجناته

حول الشقيق الغض روضة آس ٢ / ٦٥٦ ، ٦٨٩

أعذاره السارى العجول ترفقا

ما في وقوفك ساعة من باس ٢ / ٦٨٩

حرف الصاد

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لى جبة وقميصا ٢ / ٣٢ ، ٤٨٥

حرف الضاد

لقد بهتوا لما رأوني شاحبا

فقالوا به عين فقلت وعارض ٢ / ٥٩٥

حرف العين

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واعي ١ / ٤٦ ، ٣٨٢

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعى

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع ١ / ١٦ ، ١٢٤


ميز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي أبطئى أو أسرعي ١ / ٢١ ، ١٧٤

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع ١ / ٢٦ ، ٢٠٨

الألمعى الذي يظن بك الظ

ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا ١ / ٢٩

لو شئت أن أبكى دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع ١ / ٣٨٥

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ١ / ٦٨ ، ٦٣٥

وكأن النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهن ابتداع ٢ / ٦ ، ١٠٦

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع ٢ / ٢٧١ ، ٣٥٦ ، ٣٦٠

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع ٢ / ٣٢ ، ٥٠٤

فسقى الغضا والساكنيه وإن همو

شبوه بين جوانحي وضلوعي ٢ / ٣٤ ، ٥٢٢

حتى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الروم والصلبان والبيع ٢ / ٣٧

للبسى ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا ٢ / ٣٧

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا ٢ / ٣٧

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق ـ فاعلم ـ شرها البدع ٢ / ٣٧ ، ٥٢٧

كأن السحاب الغر غيبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهن مدامع ٢ / ٤١ ، ٥٧٠

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا ١ / ٢٥ ، ٢٠٤

قفي قبل التفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا ١ / ٣٠٠ ، ٣٥٤

إن الذي جمع السماحة والنج

دة والبر والتقى جمعا ١ / ٢٣٠

قد أصبحت أم الخيار تدعى

عليّ ذنب كله لم أصنع ١ / ٣٤ ، ٣٧٦

ربى شفعت ريح الصبا لرياضها

إلى المزن حتى جادها وهو هامع ٢ / ٥٧٠

كأنما المريخ والمشترى

قدامه في شامخ الرفعة ٢ / ١٨٧

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدام شمعة ٢ / ١٨٧


سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندى بسريع ١ / ٤٠٠ ، ٢ / ٤٩ ، ٦١٧

هو الصنع إن يعجل فخير وإن يرث

فللريث في بعض المواضع أنفع ٢ / ٥٦ ، ٦٦٤

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا ٢ / ٥٦ ، ٦٦٧

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكن معروفه أوسع ٢ / ٥٦ ، ٦٦٧

لئن أخطأت في مدحيك

ما أخطأت في منعي ٢ / ٥٩ ، ٦٨٦

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع ٢ / ٦٩٢

على أني سأنشد عند بيعي

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ٢ / ٦٠ ، ٦٨٨

فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع ٢ / ٦١ ، ١٦٠ ، ٦٩٨

فلما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا ١ / ٣٩ ، ٣٠٢

أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي ١ / ٢١ ، ١٧٤

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السماع ٢ / ٦٧٣

لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهي وقع ٢ / ٦٩٨

فردت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع ٢ / ٦٩٨

نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزع ٢ / ٦٩٨

فبت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السم ناقع ٢ / ٧٠١

حرف الفاء

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف ١ / ٤٠ ، ٣٠٤

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إيلاف ١ / ٦٣ ، ٥٦٤


أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف ٢ / ٤٤ ، ٥٩١

أولئك أومنوا جوعا وخوفا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا ١ / ٥٦٤

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزالي لحظا وقدا وردفا ٢ / ٣٥ ، ٢٢١ ، ٥٢٥

والطير أغربة عليه

 ... ٢ / ٢٧٧

ولا خير فى ود ضعيف تزيله

سوابق وهم كلما عرضت جفا ٢ / ٥١٣

حرف القاف

وأخفت أهل الشرك حتى إنه

لتخافك النطف التي لم تخلق ٢ / ٣٩ ، ٥٥٠ ، ٦٦١

هواى مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق ١ / ٢٨ ، ٢٢٢ ، ٣٥١

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا ١ / ٣٥

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا ١ / ٣٥

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا

لكن يمر عليها وهو منطلق ١ / ٤١ ، ٣١٧

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجى حذارك إنساني من الغرق ٢ / ٤١ ، ٥٦٦

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليه عقد منتطق ٢ / ٤١ ، ٥٦٨

إذا الوهم أبدى لى لماها وثغرها

تذكرت ما بين العذيب وبارق ٢ / ٦٠ ، ٦٩١

ويذكرني من قدها ومدامعي

مجر عوالينا ومجرى السوابق ٢ / ٦٩١

ولئن نطقت بشكر برك مفصحا

فلسان حالي بالشكاية أنطق ٢ / ٢٤ ، ٣٥٨

كأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق ٢ / ١٨٨

فإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا ٢ / ٥٤٦

إذا ضاق صدري وخفت العدا

تمثلت بيتا بحالي يليق ٢ / ٦٩٠

فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق ٢ / ٦٩٠

ولا خير في ود ضعيف تزيله

سوابق وهم كلما عرضت جفا ٢ / ٥١٣


نودعهم والبين فينا كأنه

قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق ٢ / ٧٠٩

فلا حطت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا ٢ / ٧١٦

حرف الكاف

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي ٢ / ٦٢ ، ٧٠٧

فلما خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنهم مالكا ١ / ٦٥ ، ٦٠٣

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى ٢ / ٣٠ ، ٤٩٢

علا فأصبح يدعوه الورى ملكا

وريثما فتحوا عينا غدا ملكا ٢ / ٥٥٣

تعاللت كى أشجى وما بك علة

تريدين قتلى قد ظفرت بذلك ١ / ٢٨٢ ، ٣٥٠

إلهى عبدك العاصي أتاكا

مقرا بالذنوب وقد دعاكا ١ / ٣٦ ، ٢٨٥

فإن ترحم فأنت لذاك أهل

وإن تطرد فمن يرحم سواكا ١ / ٢٨٥

قد كان يضحك فى شبيبة

والآن يحسد كل من ضحكا ٢ / ٤٩٣

لا تأخذا بظلامتى أحدا

قلبى وطرفى فى دمى اشتركا ٢ / ٤٩٣

حرف اللام

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضوا مهلا ١ / ٤٠ ، ٣٠٦

فيا وطني إن فاتني بك سابق

من الدهر فلينعم لساكنك البال ١ / ٣٣٦

عزماته مثل النجوم ثواقبا

أو لم يكن للثاقبات أفول ٢ / ١٥ ، ٢٢٤

غدائره مستشزرات إلى العلا

تضل العقاص في مثني ومرسل ١ / ١٤ ، ١١١

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول ١ / ٢٦ ، ٢٠٥

إن التى ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول ١ / ٢٠٧

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كالليالي ٢ / ١٣

إذا قبح البقاء على قتيل

رأيت بقاءك الحسن الجميلا ١ / ٣٥٢ ، ٣٥٩


إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل ٢ / ٥٥ ، ٦٥٤

ويركب حد السيف من أن تضيمه

إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل ٢ / ٥٥ ، ٦٥٥

إذا سئمت مهنده يمين

لطول الحمل بدله شمالا ١ / ٢٢٨

لاح أنوار الهدى من

كفه في كل حال ٢ / ٦١٢

لقد زادني حبا لنفسى أننى

بغيض إلى كل امرىء غير طائل ٢ / ٦٦٩

وإذا أتتك مذمتى من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل ٢ / ٦٦٩

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول ٢ / ٦٨٨

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها

ولت عجوزا غير ذات حليل ٢ / ٦٨٨

شمطاء تنكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل ٢ / ٦٨٨

كانت بلهينة الشبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل ٢ / ٦٩٠

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحل فبات دون المترل ٢ / ٦٩٠

لعمرك ما أدرى وإنى لأوجل

على أينا تعدو المنية أول ٢ / ٦٥٦

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل ٢ / ٥٥ ، ٦٥٩

أعدى الزمان سخاؤه فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا ٢ / ٥٥ ، ٦٦٠

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا ٢ / ٥٥ ، ٦٦٢

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا ٢ / ٥٥ ، ٦٦٣

وقد ظلت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل ٢ / ٥٨ ، ٦٧٥ ، ٦٧٧

أقامت مع الرايات حتى كأنها

من الجيش إلا أنها لم تقاتل ٢ / ٥٨

إن كنت أزمعت على هجرنا

من غير ما جرم فصبر جميل ٢ / ٥٩ ، ٦٨٤

وإن تبدلت بنا غيرنا

فحسبنا الله ونعم الوكيل ٢ / ٥٩ ، ٦٨٤

بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله

وهذا دعاء للبرية شامل ٢ / ٦٣ ، ٧١٦

قد طلبنا فلم نجد لك فى السؤ

دد والمجد والمكارم مثلا ١ / ٤٧ ، ٣٩٠


أنا الذائذ الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ١ / ٥١ ، ٤٣٤

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل ١ / ٥٧ ، ٥٠٧

قال لي كيف أنت قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل ١ / ٢٣ ، ٦٢ ، ١٩٠ ، ٥٦١

زعم العواذل أنني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي ١ / ٦٢ ، ٥٦٣

وننكر إن شئنا على الناس كلهم

ولا ينكرون في القول حين نقول ١ / ٧٤ ، ٦٨٨

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال ١ / ٤٩٢ ، ٢ / ٦ ، ١٠٢

والشمس كالمرآة في كف الأشل

لما رأيتها فوق الجبل ٢ / ٩ ، ١٢ ، ١٤٦ ، ١٨٦ ، ٢١٤

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال ٢ / ١٠ ، ١٦٦ ، ٢٣٠

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلى ٢ / ١٤ ، ١٩٤ ، ٢٠٢

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العناب والحشف البالي ٢ / ١٢ ، ١٩٢ ، ٢٢١

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا

لضحكته رقاب المال ٢ / ٢٢ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨

فلن تستطيع إليها الصعودا

ولن تستطيع إليك الترولا ٢ / ٢٣ ، ٣٤٤

هي الشمس مسكنها في السماء

فعز الفؤاد عزاء جميلا ٢ / ٢٣ ، ٣٤٤

نعد المشرفية والعوالي

وتقلنا المنون بلا قتال ٢ / ٧٠٧

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرى أفراس الصبا ورواحله ٢ / ٢٤ ، ٣٦٣ ، ٣٨٧


وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحل ٢ / ٣٨ ، ٥٣٩

يا خير من يركب المطى ولا

يشرب كأسا بكف من بخلا ٢ / ٣٨ ، ٥٤٣

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم يسعد الحال ٢ / ٣٨ ، ٥٤٦

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل ٢ / ٣٩ ، ٥٤٨

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ٢ / ٣١ ، ٤٩٥ ، ٤٩٧

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا ٢ / ٣٩ ، ٥٤٩

هو البدر إلا أنه البحر زاخر

سوى أنه الضرغام لكنه الوبل ٢ / ٤٣ ، ٥٧٨ ، ٥٨٣

ألما على الدار التي لو وجدتها

بها أهلها ما كان وحش مقيلها ٢ / ٦١٨

وإن لم يكن إلا معرج ساعة

قليلا فإنى نافع لى قليلها ٢ / ٤٩ ، ٦١٨

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل ٢ / ٥٠ ، ٦١٩

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل ٢ / ٥٢ ، ٤٨٧ ، ٦٣٥

قفا نبك من ذكرى حبيب ومترل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل ٢ / ٦٢ ، ٦٤١ ، ٧٠٣

الحمد لله العلى الأجلل

أنت مليك الناس ربا فاقبل ١ / ١٤ ، ١١٦

يقعى جلوس البدوى المصطلى

بأربع مجدولات لم تجدل ٢ / ٩ ، ١٥٠

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أفاد مالا ١ / ٣٩١

كأنه عاشق قد مد صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل ٢ / ١٥١

نحن جن برزن في ذي ناس

فوق طير لها شخوص الجمال ٢ / ٢٨٨

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول ٢ / ٤٦٩

إن هذا الهوى نعيم وعز

ضمنا أبدا عذابا وذلا ٢ / ٥٢٢


حدق الآجال آجال

والهوى للمرء قتال ٢ / ٦٠٠

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الأول ٢ / ٦٥٧

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال ٢ / ٦٧٣

حرف الميم

ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم

رعايا ولكن ما لهن دوام ١ / ٣٤٤

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إلى عريفهم يتوسم ١ / ٤١ ، ٣١٦

وكم ذدت عنى من تحامل حادث

وسورة أيام حززن إلى العظم ١ / ٤٧ ، ٣٨٨

من كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما ٢ / ٤٩ ، ٦١٧

لا والذي هو عالم أن النوى

صبر ، وأن أبا الحسين كريم ١ / ٦٠ ، ٥٢٧

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

وإلا فكن في السر والجهر مسلما ١ / ٦١

تظن سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضلال تهيم ١ / ٦٢ ، ٥٥٦

والله يبقيك لنا سالما

برداك تبجيل وتعظيم ١ / ٦٧ ، ٦٢١

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي ١ / ٧٢ ، ٦٧١

أتاني من أبي أنس وعيد

فسل لغيظه الضحاك جسمي ٢ / ١٥٩

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكف عنم ٢ / ١٢ ، ١٩٣

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم ٢ / ٢٧٢ ، ٣٣٩ ، ٣٦٠

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديم ٢ / ٣٣ ، ٥١٧

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة

تحوى الغنائم أو يموت كريم ٢ / ٣٨ ، ٥٤١

مودته تدوم لكل هول

وهل كل مودته تدوم ٢ / ٥٣ ، ٦٣٦

ومن الخير بطء سيبك عني

أسرع السحب في المسير الجهام ٢ / ٥٦ ، ٦٦٤


أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم ٢ / ٥٨ ، ٥١٣ ، ٦٧٢

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم ٢ / ٦١ ، ٦٧٩

قصر عليه تحية وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام ٢ / ٦٢ ، ٧٠٤

فقلت لمحرز لما التقينا

تنكب لا يقطرك الزحام ١ / ١٦٢

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكننى عن علم ما في غد عمى ١ / ٦٨ ، ١٠٢ ، ٦٣٣

هذا أبو الصقر فردا فى محاسنه

من نسل شيبان بين الضال والسلم ١ / ٢٦

سعدت بغرة وجهك الأيام

وتزينت ببقائك الأعوام ١ / ٣٧٢

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

يا جنتى لرأيت فيه جهنما ١ / ٦٨١

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام ١ / ٣٠١

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

وإلا فكن فى السر والجهر مسلما ١ / ٥٥١

زعمت هواك عفا الغداة كما عفا

عنها طلال باللوى ورسوم ١ / ٥٢٨

ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت

نفسى على إلف سواك تحوم ١ / ٥٢٨

رمزت إليّ مخافة من بعلها

من غير أن تبدى هناك كلامها ٢ / ٤٦٩

أحلت دمى من غير جرم وحرمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامى ٢ / ٥٠٢

فليس الذى حللته بمحلل

وليس الذى حرمته بحرام ٢ / ٥٠٢

أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا

وأسعفنا فيمن نحب ونكرم ٢ / ٥٨٨

فقلت لهم نعماك فيهم أتمها

ودع أمرنا إن المهم المقدم ٢ / ٥٨٨

بسيف أبى رغوان سيف مجاشع

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ٢ / ٦٨١

ولا تقتل الأسرى ولكن تفكهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم ٢ / ٦٨٢

فراق ومن فارقت غير مذمم

وأم ومن يممت غير ميمم ٢ / ٧٠٤

المجد عوفى إذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى أعدائك السقم ٢ / ٧٠٦


فبقيت للعلم الذى تهدى له

وتقاعست عن يومك الأيام ٢ / ٧١٥

حرف النون

وقددت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا ١ / ٦٧ ، ١٠٣ ، ٦٣٠

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن ١ / ٣٤ ، ٢٧١

حملت ردينيا كأن سنانه

سنا لهب لم يختلط بدخان ٢ / ١٤ ، ٢١٦

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني ١ / ٦٩ ، ٦٤٠ ، ٢ / ٦٩٣

إن الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعي إلي ترجمان ١ / ٧٣ ، ٦٧٦

فإن تعافوا العدل والإيمان

فإن في أيماننا نيرانا ٢ / ١٩ ، ٢٩٤

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكن ٢ / ٣٩ ، ٥٥١

يخيل لي أن سمر الشهب في الدجى

وشدت بأهدابي إليهن أجفاني ٢ / ٤٠ ، ٥٥٤

كلكم قد أخذ اللجام ولا جام لنا

ما الذي ضر مدير الجام لو جاملنا ٢ / ٤٧ ، ٦٠٢

فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنات المثاني ٢ / ٥٠ ، ٦٢٠

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزان ٢ / ٥٠ ، ٦٢١ ، ٦٢٣

كأن ألسنهم في النطق قد جعلت

على رماحهم في الطعن خرصانا ٢ / ٥٦ ، ٦٦٦

قد كان ما خفت أن يكون

إنا إلى الله راجعون ٢ / ٦٠ ، ٦٨٧

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان ٢ / ٢٧ ، ٤٤٩

يقولون في البستان للعين راحة

وفى الخمر والماء الذى غير آسن ٢ / ٦٤٣

إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها

ففى وجه من تهوى جميع المحاسن ٢ / ٦٤٣

كأنه كان مطويا على إحن

ولم يكن فى قديم الدهر أنشدنى ٢ / ٦٩٠

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم فى المنزل الخشن ٢ / ٦٩٠

دعانى من ملامكما سفاها

فداعى الشوق قبلكما دعانى ٢ / ٥٠ ، ٦١٩

ولقد أمر على اللئيم يسبنى

فمضيت ثمت قلت لا يعنينى ١ / ٢١٥ ، ٣٥٦


حرف الهاء

ما مات من كرم الزمان فإنه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله ٢ / ٤٦ ، ٦٠١

أقول لمعشر غلطوا وغضوا

عن الشيخ الرشيد وأنكروه ٢ / ٦٩٣

هو ابن جلا وطلاع الثنايا

متى يضع العمامة تعرفوه ٢ / ٦٩٣

إن السحاب لتستحى إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها ٢ / ٢٢٣

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهن خير البريه ٢ / ٦٩٢

اتق الشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملن بنيه ٢ / ٦٩٥

أنلنى بالذى استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه ٢ / ٩٦٥

فإن الله خلاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه ٢ / ٩٦٥

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمى فاكتبوه ٢ / ٩٦٥

حرف الياء

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشى ١ / ٢١ ، ١٨٠


فهرس المصادر والمراجع

ـ أ ـ

١ ـ أسرار البلاغة ـ لعبد القاهر الجرجاني ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط دار الكتب العلمية.

٢ ـ أساس البلاغة للزمخشري ـ دار صادر ـ بيروت ١٣٩٩ ه‍.

٣ ـ الأطول لعصام الدين الحنفي ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط دار الكتب العلمية.

٤ ـ الأعلام للزركلي ـ بيروت.

٥ ـ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني / ط ٢ : ١٧ ، ١٠ ، ١٥ ، ١٩ ، ١٨ ، ١٢ ، ١٣ ، ٤.

٦ ـ أمثال الحديث للرامهرمزي ط الدار السلفية ـ الهند للمرتضي علي بن الحسين. تحقيق أبو الفضل ، القاهرة ١٩٥٤.

٧ ـ الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني ـ بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط مؤسسة مختار.

ـ ب ـ

٨ ـ البداية والنهاية لابن كثير ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط المكتبة العصرية ـ بيروت.

٩ ـ البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني / ج / مطبعة السعاد ١٣٤٨ ه‍.

١٠ ـ البديع في نقد الشعر لأسامة بن منقذ. تحقيق : د. أحمد أحمد بدوي. ود. حامد عبد المجيد / مطبعة البابي الحلبي ـ القاهرة : ١٣٨٠ ه‍ / ١٩٦٠ م.

١١ ـ بغية الوعاة للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مطبعة البابي الحلبي ١٣٨٤ ه‍ ١٩٦٤.

١٢ ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ د / شوقي ضيف ـ ط دار المعارف.


١٣ ـ البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات الأنباري. تحقيق : د. طه عبد الحميد ط. دار الكاتب العربي بالقاهرة ١٣٨٩ ه‍ / ١٩٦٩ م.

١٤ ـ البيان والتبيين للجاحظ / ج ٣ ، ج ١. تحقيق عبد السّلام محمد هارون نشر الخانكي بالقاهرة ط ٥ ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م.

ـ ت ـ

١٥ ـ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ج ٢ / ط ٢ / ترجمة : عبد الحليم النجار ، وج ٥ / ترجمة : د. رمضان عبد التواب. وعبد الحليم النجار / دار المعارف ـ مصر.

١٦ ـ تاريخ ابن خلدون ـ دار الكتاب اللبناني.

١٧ ـ تاريخ علوم البلاغة والتعريف برجالها للشيخ مصطفى المراغي.

١٨ ـ التبيان في المعاني والبيان للطيبي ـ بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ طبعة المكتبة التجارية ـ بمكة المكرمة.

١٩ ـ التلخيص في علوم البلاغة للخطيب القزويني. بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ طبعة دار الكتب العلمية.

ـ ج ـ

٢٠ ـ جامع العبارات في تحقيق الاستعارات علي عصام ـ دكتوراه بكلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر.

٢١ ـ الجمان في تشبيه آيات القرآن لابن ناقيا البغدادي. تحقيق : د. أحمد مطلوب ، ود.

خديجة الحديثي / دار الحرية ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٨ م.

٢٢ ـ همع الهوامع على شرح جمع الجوامع للسيوطي ـ بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ طبعة المكتبة التوفيقية.

٢٣ ـ جمهرة أشعار العرب. تأليف أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي / ١٩٢٦ ه‍.

٢٤ ـ جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، وعبد المجيد قطامش / القاهرة ١٩٦٤ م.

٢٥ ـ جمهرة أنساب العرب لأبي محمد علي بن أحمد الأندلسي. تحقيق عبد السّلام محمد


هارون. دار المعارف مصر ط ٥.

٢٦ ـ حدائق البيان في شرح التبيان لعلي بن عيسى شارح التبيان للطيبي ـ مخطوط بمعهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة.

٢٧ ـ الحماسة البصرية للبصري. عالم الكتب بيروت.

٢٨ ـ حماسة الظرفاء من أشعار المحدثين والقدماء لأبي محمد عبد الله بن محمد العبد لكاني الزوزني. تحقيق : د. محمد جبار المعيبد ـ دار الحرية ـ بغداد ج ١ ١٩٧٣ م ، ج ٢ ١٩٧٨ م.

ـ خ ـ

٢٩ ـ خزانة الأدب للبغدادي / ج ١ تحقيق وشرح عبد السّلام محمد هارون ، دار الكتاب العربي بالقاهرة ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٧ م.

ـ د ـ

٣٠ ـ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني / مطبعة دار الكتب الحديثة ـ مصر.

٣١ ـ دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط دار الكتب العلمية.

٣٢ ـ ديوان أبي الأسود الدؤلي. تحقيق الشيخ محمد حسن إل ياسين ، مطبعة المعارف ـ بغداد ١٩٦٤ م.

٣٣ ـ ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس. شرح وتعليق : د / محمد حسين / المطبعة النموذجية.

٣٤ ـ ديوان أوس بن حجر. تحقيق وشرح : د. محمد يوسف نجم ـ دار صادر بيروت / ط ٢.

٣٥ ـ ديوان البحتري ، دار صادر ، بيروت.

٣٦ ـ ديوان بشار بن برد ، شرح ونشر محمد الطاهر بن عاشور ، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٦٧ م.

٣٧ ـ ديوان البهاء زهير. دار المعارف بمصر.


٣٨ ـ ديوان حاتم الطائي ـ الشركة اللبنانية للكتاب ـ بيروت. وديوان حاتم الطائي / دار صادر ـ بيروت.

٣٩ ـ ديوان الحطيئة بشرح ابن السكيت والسكري ، والسجستاني. تحقيق : نعمان أمين طه. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة ١٩٥٨.

٤٠ ـ ديوان الحماسة أبي تمام. تحقيق : د. عبد المنعم صالح ، دار الرشيد للنشر بغداد ١٩٨٠ م.

٤١ ـ ديوان الخنساء ، دار التراث ، بيروت ١٩٦٨ م.

٤٢ ـ ديوان الشريف الرضي / طبع المطبعة الأدبية ـ بيروت ١٣٠٧ ه‍.

٤٣ ـ ديوان الصاحب بن عباد. تحقيق : الشيخ محمد آل ياسين بيروت ١٩٧٤ م.

٤٤ ـ ديوان الصنوبري. تحقيق : د. إحسان عباس / دار الثقافة ـ بيروت ١٩٧٠ م.

٤٥ ـ ديوان العباس بن الأحنف. تحقيق : د. عاتكة الخزرجي / دار الكتب المصرية / ١٣٧٣ ه‍ ـ ١٩٥٤ م.

٤٦ ـ ديوان عبيد بن الأبرص / دار صادر ـ بيروت.

٤٧ ـ ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات. تحقيق وشرح : د. محمد يوسف نجم / دار صادر ـ بيروت / ١٣٧٨ ه‍ ـ ١٩٥٨ م.

٤٨ ـ ديوان العرجي رواية أبي الفتح الشيخ عثمان بن جني. شرحه وحققه : خضر الطائي ورشيد العبيدي / ط ١ / الشركة الإسلامية للطباعة ـ ١٣٧٥ ه‍ / ١٩٥٦ م.

٤٩ ـ ديوان علقمة الفحل شرح الأعلم الشنتمري. تحقيق : لطفي الصقال / مطبعة الأصيل حلب / ١٣٨٩ ه‍ ـ ١٩٦٩ م.

٥٠ ـ ديوان عمرو بن معد يكرب. تحقيق د. هاشم الطعان. مطبعة الجمهورية ، ببغداد ١٩٧٠ م.

٥١ ـ ديوان الفرزدق. دار صادر ، بيروت ١٩٦٦ م.

٥٢ ـ ديوان القطامي. تحقيق : د. إبراهيم السامرائي. ود. أحمد مطلوب / دار الثقافة ـ بيروت ١٩٦٠ م.


٥٣ ـ ديوان كثير. تحقيق : د. إحسان عباس ، بيروت ١٩٧١ م.

٥٤ ـ ديوان لبيد بن ربيعة العامري. تحقيق : د. إحسان عباس. التراث العربي ـ الكويت ١٩٦٢ م.

٥٥ ـ ديوان مجنون ليلى. جمع وتحقيق وشرح : عبد الستار أحمد فراج / دار مصر للطباعة.

٥٦ ـ ديوان مسلم بن الوليد. تحقيق د. سامي الدهان ، دار المعارف بمصر ١٩٧٠.

٥٧ ـ ديوان ابن نباتة السعدي. دراسة وتحقيق : عبد الأمير مهدي حبيب الطائي / ج ١ ـ ٢ / دار الحرية / ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م.

٥٨ ـ ديوان أبي نواس / المطبعة الأهلية ـ بيروت ، وط. مصر.

٥٩ ـ ديوان الهذليين نشر القومية للطباعة بالقاهرة ١٣٨٤ ه‍ / ١٩٦٥ م.

ـ س ـ

٦٠ ـ سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي. تحقيق علي فودة / مصر ١٩٣٢ م.

٦١ ـ سقط الزند لأبي العلاء المعري / دار صادر ـ بيروت.

ـ ش ـ

٦٢ ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي / المكتب التجاري / بيروت ـ لبنان.

٦٣ ـ شرح ديوان جرير ، محمد إسماعيل الصاوي / مكتبة دار الثقافة العربية.

٦٤ ـ شرح ديوان حسان. ضبط الديوان. وصححه : عبد الرحمن البرقوقي / دار الأندلس / بيروت ـ ١٩٨٠ م.

٦٥ ـ شرح ديوان عبيد بن الأبرص / دار بيروت ، ودار صادر ـ بيروت / ١٣٧٧ ه‍ ـ ١٩٥٨ م.

٦٦ ـ شرح ديوان أبي العتاهية / دار التراث / بيروت / ١٣٨٩ ه‍ ـ ١٩٦٩ م.

٦٧ ـ شرح ديوان أبي فراس الحمداني / منشورات دار الفكر ـ بيروت / مطبعة سميا ..

٦٨ ـ شرح ديوان كعب بن زهير. صنعة السكري / الدار القومية ـ القاهرة / ١٣٨٥ ه‍ ـ ١٩٦٦ م.

٦٩ ـ شرح القصائد العشر للتبريزي. تحقيق : د. فخر الدين قباوة ، دار الآفاق الجديدة ـ


بيروت ط ٣ ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٣ م.

٧٠ ـ شرح المعلقات السبع للزوزني. تحقيق : محمد علي حمد الله / طبعة دمشق المفصل لابن يعيش / ج ٩ مطبعة المنيرة بمصر.

٧١ ـ شرح مقامات الحريري ، دار التراث ـ بيروت.

٧٢ ـ شعر الأخطل ، صنعة السكري ، تحقيق : د. فخري الدين قباوة / منشورات دار الآفاق الجديدة / بيروت / ط ٢ / ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م.

٧٣ ـ شعر عبدة بن الطبيب. د. يحيى الجبوري / دار التربية / ١٣٩١ ه‍ ـ ١٩٧١ م.

٧٤ ـ شعر ابن المعتز ، صنعة الصولي. دراسة وتحقيق : د. يونس أحمد السامرائي / دار الحرية / ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م.

٧٥ ـ شعر النمر بن تولب ، صنعة د. نوري حمودي القيس / مطبعة المعارف / بغداد ١٩٦٩ م.

٧٦ ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة. تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر. دار المعارف.

ـ ص ـ

٧٧ ـ صبح الأعشى ـ للقلقشندي ـ المطبعة الأميرية.

٧٨ ـ الصناعتين لأبي هلال العسكري / مصر ١٩٧١ م. وأخرى تحقيق د. مفيد قميحة.

٧٩ ـ صحيح البخاري ط الريان.

٨٠ ـ صحيح الجامع للشيخ الألباني ط المكتب الإسلامي.

٨١ ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ط. الشعب ، وأخرى بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

٨٢ ـ ضعيف الجامع للشيخ الألباني ط المكتب الإسلامي.

ـ ط ـ

٨٣ ـ طبقات الشافعية لأبي بكر هداية الله الحسيني. تحقيق : عادل نويهض / ج ٢ / منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ١٩٧٩.

٨٤ ـ طبقات الشعراء لابن المعتز. تحقيق : عبد الستار أحمد فراج / ط ٤ / دار المعارف.

٨٥ ـ الطراز ليحيى بن حمزة العلوي ط ٣ ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط المكتبة العصرية ـ بيروت.


العصرية ـ بيروت.

٨٦ ـ الطيبي وجهوده البلاغية ـ عبد الحميد هنداوي ـ ماجيستير مخطوط بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ـ ومطبوع نشر المكتبة التجارية ـ بمكة المكرمة.

ـ ع ـ

٨٧ ـ العرف الطيب في شرح ديواني أبي الطيب للشيخ ناصيف اليازجي.

٨٨ ـ عقود الجمان وشرحه للسيوطي وشرحه للمرشدي ط. المطبعة الميمنية بمصر سنة ١٣٠٦ ه‍.

٨٩ ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تأليف : أبي الحسن بين رشيق القيرواني.

تحقيق : د. عبد الحميد هنداوي ـ ط المكتبة العصرية ـ بيروت.

ـ ق ـ

٩٠ ـ القاموس المحيط للفيروز بادي.

ـ ك ـ

٩١ ـ الكاشف عن حقائق السنن للطيبي شرح مشكاة المصابيح ـ تحقيق د / عبد الحميد هنداوي ـ مكتبة نزار الباز ـ السعودية.

٩٢ ـ الكامل للمبرد.

٩٣ ـ كتاب العين / بتحقيق ـ د. عبد الحميد هنداوي ـ طبعة دار الكتب العلمية.

٩٤ ـ الكشاف للزمخشري ج ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤. ط دار المعرفة.

٩٥ ـ كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، لحاجي خليفة مطبعة وكالة المعارض ١٩٤٣ م.

ـ ل ـ

٩٦ ـ لسان العرب لابن منظور ط دار المعارف.

٩٧ ـ لطائف التبيان في المعاني والتبيان للطيبي ـ مخطوط بدار الكتب المصرية ، ٢٦ بلاغة م وانظره بتحقيق ـ د. عبد الحميد هنداوي ـ ط المكتبة التجارية بمكة المكرمة.

ـ م ـ

٩٨ ـ المثل السائر لابن الأثير / طبعتين / تحقيق : محيي الدين عبد الحميد ، ود. بدوي طبانة.


ود. أحمد الحوفي / دار الرفاعي ـ الرخاص / ١٤٠٣ ه‍ ـ ١٩٨٣ م. وط دار نهضة مصر ـ الفجالة ـ القاهرة.

٩٩ ـ مجموع أشعار العرب. تصحيح وليم بن الورد البروسي ليبسيغ ١٩٠٣ ه‍.

١٠٠ ـ المرقصات والمطربات لنور الدين علي بن الوزير أبي عمران ت ٦٧٣ ه‍ ، دار حمد ومحيو ـ بيروت ١٩٧٣ م.

١٠١ ـ المصباح لبدر الدين بن مالك ـ تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ـ ط دار الكتب العلمية.

١٠٢ ـ معاني القرآن للأخفش. تحقيق : د. فائز فارس ، الشركة الكويتية ط ٢ ١٤٠١ ه‍ ـ ١٩٨١ م.

١٠٣ ـ معجم الأدباء لياقوت ، تحقيق : مرجوليوث ج ١ دار إحياء التراث العربي.

١٠٤ ـ معجم المؤلفين ، عمر رضا كحالة ج ٤ المكتبة العربية ، دمشق ١٩٥٧ م.

١٠٥ ـ مفتاح السعادة لطاش كبردي زادة. تحقيق : كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور ، مطبعة الاستقلال مصر ١٩٦٨ م.

١٠٦ ـ المفتاح للسكاكي ـ بتحقيق ـ د. عبد الحميد هنداوي ـ طبعة دار الكتب العلمية.

١٠٧ ـ المقتضب للمبرد. تحقيق : الشيخ عضيمة ١٣٨٢ ه‍ ـ ١٩٦٣ م.

ـ ن ـ

١٠٨ ـ نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ـ تحقيق : د. بكري شيخ أمين ـ ط دار العلم للملايين.

١٠٩ ـ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ، تحقيق : د. عبد الحميد هنداوي ـ ط المكتبة العصرية ـ بيروت.

١١٠ ـ هدية العارفين ـ لاسماعيل باشا البغدادي.

١١١ ـ وفيات الأعيان لأحمد بن محمد بن خلكان. تحقيق : د. إحسان عباس / ط. دار الثقافة ـ بيروت.

ـ ي ـ

١١٢ ـ اليتيمة للثعالبي. تحقيق : محيي الدين عبد الحميد ، مطبعة السعادة ، القاهرة.


٥ ـ فهرس الموضوعات

أولا : فهرس موضوعات المجلد الأول

الموضوع

الصفحة

مقدمة المحقق..................................................................... ٣

ترجمة القزويني.................................................................... ٥

ترجمة المغربي..................................................................... ٧

منهج التحقيق................................................................... ٩

كلمة الافتتاح.................................................................. ١٣

مقدمة في بيان معنى الفصاحة والبلاغة............................................. ١٤

الفن الأول (علم المعاني)................................................. ١٨ / ١٣٨

تنبيه.......................................................................... ١٨

أحوال الإسناد الخبري........................................................... ١٩

إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر......................................... ٢٠

أحوال المسند إليه

أولا : حذف المسند إليه ، وذكره................................................. ٢٣

ثانيا : تعريف المسند إليه ، وتنكيره............................................... ٢٤

ثالثا : إتباع المسند إليه ، وعدمه.................................................. ٢٩

رابعا : تقديم المسند إليه ، وتأخيره................................................ ٣١

أحوال المسند................................................................... ٤٠

تنبيه.......................................................................... ٤٥

أحوال متعلقات الفعل........................................................... ٤٦

القصر........................................................................ ٤٩

طرق القصر................................................................... ٥٠


الإنشاء....................................................................... ٥٣

تنبيه.......................................................................... ٥٩

الفصل والوصل................................................................. ٦٠

تذنيب........................................................................ ٦٤

الإيجاز والإطناب والمساواة....................................................... ٦٧

المساواة........................................................................ ٦٨

الإيجاز........................................................................ ٦٨

الإطناب...................................................................... ٧١

شرح مواهب الفتاح (الفن الأول ـ علم المعاني)...................................... ٧٥

مقدمة........................................................................ ٧٧

شرح المغربي لمقدمة السعد على تلخيص المفتاح..................................... ٨٠

القول في الحمد والشكر......................................................... ٩٤

الفرق بين الفصاحة والبلاغة.................................................... ١٠٨

فصاحة الكلام............................................................... ١١٨

بلاغة الكلام................................................................. ١٢٧

بلاغة المتكلم................................................................. ١٣٣

الفن الأول (علم المعاني)....................................................... ١٣٨

الصدق والكذب في الخبر...................................................... ١٤٥

أحوال الإسناد الخبري......................................................... ١٥٣

الحقيقة والمجاز العقليان......................................................... ١٦٤

أقسام المجاز العقلي............................................................ ١٧٥

السكاكي ينكر المجاز العقلي................................................... ١٨٢

أحوال المسند إليه............................................................. ١٨٨

حذف المسند إليه............................................................. ١٨٨


ذكر المسند إليه............................................................... ١٩٣

تعريف المسند إليه بالإضمار.................................................... ١٩٦

تعريف المسند إليه بالعلمية..................................................... ١٩٨

تعريف المسند إليه بالموصولية................................................... ٢٠٢

تعريف المسند إليه بالإشارة وأغراضه............................................. ٢٠٧

تعريف المسند إليه باللام العهدية................................................ ٢١٢

ضربا الاستغراق............................................................... ٢١٧

تعريف المسند إليه بالإضافة وأغراضه............................................ ٢٢٢

تنكير المسند إليه وأغراض ذلك................................................. ٢٢٤

وصف المسند إليه وأغراضه..................................................... ٢٢٩

توكيد المسند إليه وأغراض ذلك................................................. ٢٣٢

بيان المسند إليه............................................................... ٢٣٥

الإبدال من المسند إليه وغرض ذلك............................................. ٢٣٦

العطف على المسند إليه وأغراض ذلك........................................... ٢٣٩

فصل المسند إليه.............................................................. ٢٤٣

تقديم المسند إليه وأغراض ذلك................................................. ٢٤٤

رأي عبد القاهر الجرجاني....................................................... ٢٤٨

موافقة السكاكي لرأي عبد القاهر.............................................. ٢٥٣

تأخير المسند إليه............................................................. ٢٧٦

إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر....................................... ٢٧٦

أحوال المسند................................................................. ٣٠٣

حذف المسند وأغراض الحذف.................................................. ٣٠٣

ذكر المسند.................................................................. ٣١١

إفراد المسند وأغراض ذلك...................................................... ٣١٢


كون المسند فعلا وأغراض ذلك................................................. ٣١٥

كون المسند اسما وأغراض ذلك................................................. ٣١٧

تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأغراض ذلك.......................................... ٣١٨

ترك تقييد المسند وأغراض ذلك................................................. ٣١٩

تقييد الفعل بالشرط إن وإذا ولو................................................ ٣٢٠

استطراد إلى التغليب........................................................... ٣٣٠

تنكير المسند................................................................. ٣٥٢

تخصيص المسند............................................................... ٣٥٣

ترك تخصيص المسند........................................................... ٣٥٤

تعريف المسند................................................................ ٣٥٤

كون المسند جملة............................................................. ٣٦١

تأخير المسند عن المسند إليه وأغراض ذلك....................................... ٣٦٥

تقديم المسند وأغراض ذلك..................................................... ٣٦٦

أحوال متعلقات الفعل......................................................... ٣٧٦

حال الفعل مع المفعول والفاعل.................................................. ٣٧٦

القصر....................................................................... ٤٠٨

طرق القصر.................................................................. ٤٢٥

طريقة العطف................................................................ ٤٢٦

طريقة النفي والاستفهام........................................................ ٤٢٨

طريقة إنما.................................................................... ٤٢٩

طريقة التقديم................................................................. ٤٣٥

الإنشاء...................................................................... ٤٥٩

التمني....................................................................... ٤٦٠

الاستفهام.................................................................... ٤٦٦


ألفاظ الاستفهام.............................................................. ٤٦٦

الأمر........................................................................ ٤٩٩

استعمال الأمر للاستعلاء...................................................... ٥٠١

استعمال الأمر للإباحة........................................................ ٥٠٢

استعمال الأمر للتهديد........................................................ ٥٠٢

استعمال الأمر للتعجيز........................................................ ٥٠٣

استعمال الأمر للتسخير....................................................... ٥٠٥

استعمال الأمر للتسوية........................................................ ٥٠٦

استعمال الأمر للتمني.......................................................... ٥٠٧

استعمال الأمر للدعاء......................................................... ٥٠٨

استعمال الأمر للالتماس....................................................... ٥٠٨

النهي....................................................................... ٥١١

النداء....................................................................... ٥١٧

استعمال النداء في غير معناه كالإغراء............................................ ٥١٨

استعمال النداء في غير معناه للاختصاص........................................ ٥١٨

تنبيه........................................................................ ٥٢١

الفصل والوصل............................................................... ٥٢٣

تعريف الفصل والوصل........................................................ ٥٢٤

أحوال الوصل والفصل للاشتراك في الحكم........................................ ٥٢٤

الفصل لعدم الاشتراك في الحكم................................................. ٥٢٧

الوصل بغير الواو من حروف العطف............................................ ٥٢٩

الفصل لعدم الاشتراك في القيد.................................................. ٥٣٣

الفصل لكمال الانقطاع....................................................... ٥٣٧

الفصل لكمال الاتصال........................................................ ٥٤١


الفصل لشبه كمال الانقطاع.................................................... ٥٥٥

الفصل لشبه كمال الاتصال.................................................... ٥٥٨

أنواع الاستئناف.............................................................. ٥٦١

حذف الاستئناف كله......................................................... ٥٦٤

الوصل لدفع الإيهام........................................................... ٥٦٦

الجامع العقلي................................................................. ٥٧٥

جامع التماثل................................................................. ٥٧٦

جامع التضايف............................................................... ٥٧٨

الجامع الوهمي................................................................. ٥٧٩

جامع التضاد................................................................. ٥٨١

محسنات الوصل.............................................................. ٥٩٠

تذنيب...................................................................... ٥٩٣

الإيجاز والإطناب والمساواة...................................................... ٦٢١

تعريف الإيجاز والإطناب....................................................... ٦٢٣

إيجاز القصر.................................................................. ٦٣٦

إيجاز الحذف................................................................. ٦٤٠

وجها الحذف : الأول.......................................................... ٦٤٦

الثاني........................................................................ ٦٤٧

أدلة تعيين المحذوف........................................................... ٦٤٧

أن يدل العقل على مطلق الحذف وتعيين المحذوف................................. ٦٤٩

أن يدل العقل على مطلق الحذف وتدل العادة على تعيين المحذوف.................. ٦٥٠

أدلة تعيين المحذوف........................................................... ٦٥١

الشروع في الفعل.............................................................. ٦٥١

الاقتران...................................................................... ٦٥٢


الاقتران...................................................................... ٦٥٢

الإطناب..................................................................... ٦٥٢

أوجه الإطناب : الوجه الأول................................................... ٦٥٢

باب نعم..................................................................... ٦٥٥

التوشيع...................................................................... ٦٥٧

الوجه الثاني : ذكر الخاص بعد العام............................................. ٦٥٨

الوجه الثالث : التكرير لنكتة................................................... ٦٥٩

الوجه الرابع : الإيغال.......................................................... ٦٦١

الوجه الخامس : التذييل........................................................ ٦٦٤

ضربا التذييل................................................................. ٦٦٥

ضرب لم يخرج مخرج المثل....................................................... ٦٦٥

ضرب أخرج مخرج المثل........................................................ ٦٦٧

قسمة أخرى للتذييل.......................................................... ٦٦٨

التذييل لتأكيد منطوق......................................................... ٦٦٨

التذييل لتأكيد مفهوم......................................................... ٦٦٨

الوجه السادس : التكميل...................................................... ٦٧٠

الوجه السابع : التتميم......................................................... ٦٧٣

الوجه الثامن : الاعتراض....................................................... ٦٧٤

الإيجاز والإطناب النسبيان..................................................... ٦٨٦


ثانيا : فهرس موضوعات المجلد الثاني

الموضوع

الصفحة

الفن الثاني (علم البيان)........................................................... ٥

التشبيه......................................................................... ٥

أركان التشبيه.................................................................... ٦

الغرض من التشبيه.............................................................. ١٠

وهو باعتبار طرفيه.............................................................. ١٢

وباعتبار وجهه.................................................................. ١٣

خاتمة......................................................................... ١٥

الحقيقة والمجاز.................................................................. ١٦

المجاز والمرسل................................................................... ١٧

الاستعارة...................................................................... ١٨

المجاز المركب................................................................... ٢٣

فصل......................................................................... ٢٤

فصل......................................................................... ٢٥

فصل......................................................................... ٢٦

فصل......................................................................... ٢٧

الكناية........................................................................ ٢٧

فصل......................................................................... ٢٩

الفن الثالث : علم البديع........................................................ ٢٩

المحسنات اللغوية................................................................ ٢٩

المطابقة........................................................................ ٢٩

المقابلة........................................................................ ٣٠


مراعاة النظير................................................................... ٣١

الإرصاد....................................................................... ٣٢

المشاكلة....................................................................... ٣٢

المزاوجة........................................................................ ٣٣

العكس....................................................................... ٣٣

الرجوع........................................................................ ٣٣

التورية......................................................................... ٣٤

الاستخدام..................................................................... ٣٤

اللف والنشر................................................................... ٣٤

الجمع......................................................................... ٣٥

التفريق........................................................................ ٣٦

التقسيم....................................................................... ٣٦

الجمع مع التفريق............................................................... ٣٦

الجمع مع التقسيم.............................................................. ٣٦

الجمع مع التفريق والتقسيم....................................................... ٣٧

التجريد....................................................................... ٣٨

المبالغة........................................................................ ٣٩

المذهب الكلامى............................................................... ٤٠

حسن التعليل.................................................................. ٤١

التفريع........................................................................ ٤٢

تأكيد المدح بما يشبه الذم........................................................ ٤٢

تأكيد الذم بما يشبه المدح........................................................ ٤٣

الاستتباع...................................................................... ٤٣

الإدماج....................................................................... ٤٤


التوجيه........................................................................ ٤٤

الهزل يراد به الجد............................................................... ٤٤

تجاهل العارف.................................................................. ٤٤

القول بالموجب................................................................. ٤٥

الإطراد........................................................................ ٤٦

المحسنات اللفظية............................................................... ٤٦

رد العجز على الصدر........................................................... ٤٩

السجع........................................................................ ٥١

الموازنة......................................................................... ٥٢

القلب........................................................................ ٥٣

التشريع....................................................................... ٥٣

لزوم ما لا يلزم................................................................. ٥٣

خاتمة فى السرقات الشعرية وما يتصل بها وغير ذلك................................. ٥٤

الاقتباس....................................................................... ٥٩

التضمين...................................................................... ٦٠

العقد......................................................................... ٦٠

الحل.......................................................................... ٦١

التلميح........................................................................ ٦١

فصل......................................................................... ٦١

الفن الثانى (علم البيان)......................................................... ٦٧

تعريف علم البيان.............................................................. ٦٨

التشبيه........................................................................ ٩٠

أركان التشبيه.................................................................. ٩٣

طرفا التشبيه................................................................... ٩٤


طرفا التشبيه حسيان............................................................ ٩٥

طرفا التشبيه عقليان............................................................. ٩٦

المراد بالحسى................................................................. ١٠٠

المراد بالعقلى................................................................. ١٠١

وجه التشبيه.................................................................. ١٠٦

الوجه الداخل فى الطرفين والخارج عنهما.......................................... ١١٣

قسما الحقيقة الحسية.......................................................... ١١٥

الحقيقة العقلية................................................................ ١٢٥

تقسيم آخر لوجه التشبيه...................................................... ١٢٨

وجه الشبه الواحد............................................................. ١٢٨

وجه الشبه المنزل منزلة الواحد................................................... ١٢٩

وجه الشبه المتعدد............................................................. ١٣٠

أمثلة الواحد الحسى........................................................... ١٣٤

أمثلة الواحد العقلى........................................................... ١٣٥

وجه الشبه المركب الحسى...................................................... ١٣٦

طرفا المركب الحسى المفردان..................................................... ١٣٨

طرفا المركب الحسى المركبان..................................................... ١٤٠

طرفا المركب الحسى المختلفان................................................... ١٤٣

المركب العقلى................................................................ ١٥١

دقيقة فى الوجه المركب......................................................... ١٥٣

أداة التشبيه.................................................................. ١٦٠

غرض التشبيه بعوده إلى المشبه والمشبه به......................................... ١٦٦

أولا : غرض التشبيه بعوده إلى المشبه بيان إمكان المشبه............................ ١٦٦


بيان حال المشبه.............................................................. ١٦٧

بيان مقدار حال المشبه فى القوة والضعف........................................ ١٦٨

تقرير حال المشبه فى نفس السامع............................................... ١٦٨

تزيين المشبه فى عين السامع.................................................... ١٧٢

تشيين المشبه فى نفس السامع................................................... ١٧٣

استطراف المشبه.............................................................. ١٧٤

وجه آخر للاستطراف......................................................... ١٧٥

غرض التشبيه بعوده إلى المشبه به............................................... ١٧٧

إيهام أن المشبه به أتم من المشبه فى وجه الشبه.................................... ١٧٧

بيان الاهتمام بالمشبه به........................................................ ١٧٩

أقسام التشبيه باعتبار طرفيه.................................................... ١٨٤

الأول : تشبيه مفرد بمفرد...................................................... ١٨٤

الثانى : تشبيه مركب بمركب.................................................... ١٨٦

الثالث : تشبيه مفرد بمركب.................................................... ١٨٨

الرابع : تشبيه مركب بمفرد..................................................... ١٩٠

تقسيم آخر للتشبيه باعتبار طرفيه............................................... ١٩١

إن تعدد طرفاه فالتشبيه الملفوف والمفروق......................................... ١٩٢

إن تعدد طرفه الأول فتشبيه التسوية............................................. ١٩٤

وإن تعدد طرفه الثانى فتشبيه الجمع.............................................. ١٩٤

تقسيم التشبيه باعتبار وجهه.................................................... ١٩٦

تشبيه التمثيل................................................................ ١٩٦

التشبيه غير التمثيلى........................................................... ١٩٨

التشبيه المجمل................................................................ ١٩٨

التشبيه المفصل............................................................... ٢٠٢


تقسيم آخر للتشبيه باعتبار وجهه............................................... ٢٠٣

التشبيه القريب المبتذل......................................................... ٢٠٣

التشبيه البعيد الغريب.......................................................... ٢١٠

تقسيم التشبيه باعتبار الأداة.................................................... ٢٢٥

المؤكد........................................................................ ٢٢٥

التشبيه المرسل................................................................ ٢٢٨

أقسام التشبيه باعتبار الغرض :................................................. ٢٢٨

المقبول :..................................................................... ٢٢٨

المردود....................................................................... ٢٣٠

خاتمة........................................................................ ٢٣١

مراتب التشبيه................................................................ ٢٣٢

الحقيقة والمجاز................................................................. ٢٣٧

تعريف الحقيقة................................................................ ٢٣٨

تعريف الوضع................................................................ ٢٤١

إنكار الوضع................................................................. ٢٤٩

أنواع المجاز................................................................... ٢٥٢

أقسام الحقيقة والمجاز........................................................... ٢٥٨

نوعا المجاز :.................................................................. ٢٦٠

المرسل....................................................................... ٢٦٠

أمثلة المرسل.................................................................. ٢٦٣

علاقة الجزئية والكلية.......................................................... ٢٦٤

علاقة السببية................................................................ ٢٦٦

اعتبار ما كان................................................................ ٢٦٦

اعتبار ما سيكون............................................................. ٢٦٧


الحالية والمحلية................................................................. ٢٦٨

علاقة الآلية.................................................................. ٢٦٨

الاستعارة.................................................................... ٢٦٩

هل الاستعارة مجاز لغوى أم عقلى؟.............................................. ٢٨٠

مفارقة الاستعارة للكذب....................................................... ٢٩٠

أنواع الاستعارة باعتبار الطرفين.................................................. ٢٩٦

أنواع الاستعارة باعتبار الجامع................................................... ٢٩٩

تقسيم آخر للاستعارة باعتبار الجامع............................................. ٣٠٤

أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع.......................................... ٣٠٨

أقسام الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار........................................... ٣٢١

الاستعارة الأصلية............................................................. ٣٢٢

التبعية....................................................................... ٣٢٢

أقسام الاستعارة باعتبار آخر................................................... ٣٣٦

المطلقة....................................................................... ٣٣٦

المجاز المركب.................................................................. ٣٤٧

فصل فى بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية............................... ٣٥٤

فصل : اعتراضات على السكاكى.............................................. ٣٦٧

تعريف السكاكى للمجاز اللغوى............................................... ٣٦٩

تعريف السكاكى للاستعارة.................................................... ٣٨٤

تقسيم السكاكى للاستعارة.................................................... ٣٨٦

تفسير السكاكى للاستعارة التخييلية............................................. ٣٩٦

فصل فى شرائط حسن الاستعارة................................................ ٤٢٢

فصل فى بيان معنى آخر يطلق عليه لفظ المجاز على سبيل الاشتراك أو التشابه......... ٤٣٣


الكناية...................................................................... ٤٣٩

أقسام الكناية................................................................ ٤٤٨

الكناية العرضية............................................................... ٤٦٢

فصل : الموازنة بين المجاز والحقيقة................................................ ٤٧٣

الفن الثالث (علم البديع)...................................................... ٤٨١

وجوه تحسين الكلام........................................................... ٤٨٤

المحسنات المعنوية :............................................................ ٤٨٦

المطابقة...................................................................... ٤٨٦

المقابلة....................................................................... ٤٩٤

مراعاة النظير................................................................. ٤٩٨

الإرصاد..................................................................... ٥٠١

المشاكلة..................................................................... ٥٠٤

المزاوجة...................................................................... ٥١١

العكس...................................................................... ٥١٤

الرجوع...................................................................... ٥١٧

التورية....................................................................... ٥١٨

الاستخذام................................................................... ٥٢١

اللف والنشر................................................................. ٥٢٣

الجمع مع التفريق والتقسيم..................................................... ٥٢٨

التقسيم مع ذكر أحوال الشيء مضافا لما يليق به.................................. ٥٣٣

التقسيم باستيفاء أقسام الشيء................................................. ٥٣٤

التجريد...................................................................... ٥٣٦

أقسام التجريد................................................................ ٥٣٧

المبالغة....................................................................... ٥٤٦


أقسام المبالغة : التبليغ والإغراق والغلو........................................... ٥٤٧

تنبيه........................................................................ ٥٥٨

المذهب الكلامى............................................................. ٥٥٩

حسن التعليل................................................................. ٥٦٢

أضرب حسن التعليل.......................................................... ٥٦٣

التفريع....................................................................... ٥٧١

تأكيد المدح بما يشبه الذم...................................................... ٥٧٣

تأكيد الذم بما يشبه المدح...................................................... ٥٨٤

الاستتبابع.................................................................... ٥٨٥

التوجيه...................................................................... ٥٨٨

الهزل الذى يراد به الجد........................................................ ٥٩٠

تجاهل العارف................................................................ ٥٩٠

القول بالموجب................................................................ ٥٩٣

المحسنات اللفظية.............................................................. ٥٩٧

أقسام الجنس................................................................. ٥٩٨

الجنس التام.................................................................. ٥٩٨

رد العجز على الصدر......................................................... ٦١٤

السجع...................................................................... ٥٢٤

أضراب السجع............................................................... ٦٢٦

التشطير..................................................................... ٦٣٢

الموازنة....................................................................... ٦٣٣

القلب....................................................................... ٦٣٦

التشريع...................................................................... ٦٣٨

لزوم ما لا يلزم................................................................ ٦٤٠


خاتمة........................................................................ ٦٤٧

نوعا الأخذ والسرقة........................................................... ٦٥٣

الأخذ الظاهر................................................................ ٦٥٣

الإلمام والسلخ................................................................ ٦٦٤

الأخذ غير الظاهر............................................................ ٦٦٨

المنقول....................................................................... ٦٦٩

الشمول..................................................................... ٦٧٠

القلب....................................................................... ٦٧١

الأخذ والتحسين.............................................................. ٦٧٤

حسن التصرف............................................................... ٦٧٩

ما يتصل بالسرقات........................................................... ٦٨٢

الاقتباس..................................................................... ٦٨٣

التضمين..................................................................... ٦٨٧

العقد........................................................................ ٦٩٤

الحل........................................................................ ٦٩٦

التلميح...................................................................... ٦٩٨

الابتداء...................................................................... ٧٠٣

براعة الاستهلال.............................................................. ٧٠٦

التخلص..................................................................... ٧٠٧

الانتهاء...................................................................... ٧١٤

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ٢

المؤلف:
الصفحات: 795