سورة الانعام



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

فضل السورة :

١ ـ قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «نزلت سورة الانعام جملة واحدة شيّعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلّى الله عليه وآله) فعظّموها وبجّلوها ، فان اسم الله فيها في سبعين موضعا ، ولو علم الناس ما فيها ما تركوها».

٢ ـ أروي عن العالم (عليه السّلام) أنه قال : «إذا بدأت بك علّة تخوفّت على نفسك منها ، فاقرأ الانعام فانّه لا ينالك من العلّة ما تكره».

٣ ـ عن أبي بصير قال : كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السّلام) وهو متّك على فراشه ، إذا قرأ : «الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شيء من الانعام قال : شيّعها سبعون ألف ملك (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)».



الإطار العام

ثلاث حقائق (الله ـ الإنسان ـ الكون) :

في بداية هذه السورة امتزجت حقائق الكون ببعضها وفق البصيرة التوحيدية التي بالرغم من اهتمامها بالفواصل الواقعية بين الأشياء إلّا أنّها تعلق أهميّة كبيرة على مدى علاقة الأشياء ببعضها ، وتذكرنا هذه السورة بطائفة من حقائق الكون كمثل لهذه الوحدة. تلك الحقائق هي :

أ ـ الإنسان باعتباره عبدا مخلوقا لله ، وسيدا على الطبيعة ، إنّ عليه أن يقف امام عظمة الله ويقول : «الحمد لله» حامدا عظمة الله ، ليس لأنه قدير واسع الرحمة فحسب ، بل لأنه سبحانه أغدق عليه من رحمته الواسعة الشيء الكثير ، فلذلك يحمده.

ب ـ الله باعتباره سيدا مطاعا للخليقة ومهيمنا عليها.

ج ـ الكون أي السماوات والأرض ، والظلمات والنور. باعتبارها مخلوقات لله ، ومدبّرات بأمره ، والرابطة الوثيقة بين الإنسان وبين الكون هي أنهما معا


مخلوقان لله ، مدبران بأمره سبحانه.

ولكن الإنسان يملك ـ بإذن ربه ـ ميزة أساسية بين الخلائق هي انه سيدها الذي سخر الله له إياها ، ولذلك فهو يحمد ربه.

وإذا أراد الإنسان أن يكرّس في ذاته صفة السيادة على الكون فليس عليه سوى المزيد من الارتباط بربه الذي سخر الكون لأمره.

معرفة الله :

ان معرفة الطبيعة من دون إله لها يعني ان المادة بلا روح ، بلا قيّم ، وبلا نظام ، ومعرفة الله بعيدا عن الطبيعة يعني البحث في فراغ ، في التجريد ، في اللاشيء ، وسواء كانت هذه أو تلك فهي تنتهي بالإنسان الى اللامسؤولية واللّاإلتزام ، وبالتالي اللّاوعي.

المادي الذي يختصر حياته في الأشياء ، ولا ينظر عبر المادة الى ما ورائها من هيمنة الله ، وقيامه وملكه وسلطانه ، إنّه لا يشعر بالتزام تجاه المادة ، لأنّ المادة لا حياة لها ولا عزة لها ولا حكمة.

المادة لا تراقبه ، ولا تحاسبه ، ولا تجازيه ، بل لا يشعر بها ، فلذلك فهو ينفلت عن التقيد بالمسؤوليات.

وكذلك الصوفيّ الذي يؤمن بالألفاظ والكلمات ، والخلسات والهمسات ، ولا يؤمن باله الحياة والنظام ، والتدبير ، والملك ، والحساب والعقاب ، انه لا يؤمن بالطبيعة كمظهر سام من مظاهر الحياة التي وهبها الله ، والنظام الذي قام عليه وأجراه سبحانه ، وبالتالي لا يؤمن بالطبيعة كاسم من أسماء الله سبحانه إن هذا الصوفي ، هو الآخر لا يشعر بمسؤولية أمام الحياة التي فصلها عن الله.


والحقيقة في معرفة المادة والروح هي الايمان بواقع الطبيعة ، وبحقيقة القيم التي تهيمن عليها ، والاعتقاد بوجود الطبيعة المدبّرة بسلطان ربها ، وبالتالي الاهتداء الى الله عبر أسمائه وآياته المنتشرة في رحاب الطبيعة.

ان القرآن باعتباره كتاب الله الذي ، لا ريب فيه يتحدث إلينا عن الطبيعة باعتبارها جسرا يسير عبرها الفكر الى معرفة الله ، وباعتبارها مظهرا ساميا لأسماء الله وآياته ، وباعتبارها أداة للإنسان لاكتشاف نفسه ، والاهتداء الى ربه ، والتكامل حتى يكون الى الله المنتهى.

عليك ان تنظر الى السماوات ولا تجلس في غرفة مظلمة تبحث عن الله ، ولكن إياك ان تنظر الى السماوات كأنها أشياء ثابتة جامدة جاهلة ، كلا بل باعتبارها حقائق تسبّح بحمد خالقها وتسجد لهيمنة ربها.

لماذا اسم الأنعام

؟ إن سورة الأنعام هي مثل كل سور القرآن التي تشع بنور التوحيد ، وتنساب في ضمير الإنسان بضياء الايمان بالله ، ولكنها لم تسّم باسم مجرّد. فلم يكن اسمها مثلا : سورة الحي القيوم ، أو سورة الصمد الأحد ، أو سورة القدوس الأعلى ، أو سورة الحمد والتسبيح ، كلا ... بل سميت بسورة الأنعام.

الأنعام التي يضرب الله بها مثل الغباء ، ويعتقد الإنسان أنّها لا تعني شيئا في حقل الايمان والعرفان ، مع ذلك سمّى الله هذه السورة باسم الانعام ليجعلنا نغير نظرتنا الى الانعام ، ونعرف انها نعمة من نعم الله ، وانها بالتالي تهدينا الى الله من جهة. وتفرض علينا من جهة مسئولية معينة ، وهي تلك المسؤولية التي يشعر بها المؤمن أمام ربه ، وبذلك يخرج المادة (وهنا الانعام مثل لها) من النظر إليها بنظرة الشيئية دون الالتفات الى دور المادة في تكامل الروح والعلم والقيم ، كما يخرج


بذلك أيضا الروح والعلم والقيم والايمان من عالم التجريد والمثالية الى عالم الحقيقة.

وقد ذكرت كلمة الأنعام في هذه السورة في الآيات بين (١٣٨ إلى ١٤٨) كل هذه كانت في رأينا بعضا من فلسفة اسم الأنعام في هذه السورة.


سورة الأنعام مكية وهي مائة وخمس وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)

____________________

١ [يعدلون] : عدلت عنه أي أعرضت.

٢ [تمترون] : الامتراء الشك ، وأصله من مرات الناقة إذا مسح ضرعها لاستخراج ، اللبن ، ومنه ما راه يماريه مراء ومماراة إذا استخرج ما عنده بالمناظرة ، فالامتراء استخراج الشبهة المشكلة من غير حل.


هكذا تجلّى الرب

بينات من الآيات :

بسم الله الرحمن الرحيم

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

إن الله سبحانه لم يهب السموات والأرض خلقهما فقط ، بل قدّر لهما أمورهما ، ونظم شؤونهما ، فكل شيء في السموات والأرض محدود بحدود معينة حددتها حكمة الله ، وعلمه الواسع ، وقدرته المطلقة.

فالشمس لها وزنها وسعتها ، وحرارتها وكثافتها ، ومدارها ومجراها ، ونهايتها وبعدها عن سائر الشموس السابحة في الفضاء.

كذلك الأرض والقمر والكواكب والنجوم ، وهكذا الحال لكل شيء موجود في الأرض ، حتى الذرة لها حدودها التي لا تتجاوزها.


وعند ما نقول : حدودها نعني : أن كل شيء ينتهي وجوده عند حد معين ، وبعدئذ لا يملك وجودا أو بتعبير آخر : ينعدم في خارج حده ، مثلا : التفاحة موجودة في مساحة معينة وفي وقت محدود. أما فيما وراء تلك المساحة ، وذلك الوقت فلا وجود للتفاحة ، كذلك فان الله قدّر ـ بحكمته وقدرته ـ الوجود والعدم ، فجعل كل شيء موجودا في حدود معينة ، وجعله معدوما فيما وراء ذلك. إذا فهو جاعل العدم والوجود ، ومقدرهما ومدبرهما.

وربما يشير الى هذه الحقيقة قوله تعالى :

(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)

ذلك لأن الظلمات رمز لكل عدم ، بينما النور رمز لكل وجود.

أمام هذه القدرة والحكمة المطلقة ، لا يسعنا إلّا الحمد ، والحمد هو ذلك الموقف الرشيد الذي لا بد ان نتخذه من ربنا ، ولكن كم هو بعيد وشاذ موقف الكفار حيث يشركون بربهم ، ويضعون الله سبحانه عدلا للأنداد من دونه. تعالى ربنا عما يصفه المشركون!

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)

الشك لماذا وكيف؟

[٢] إن الإنسان في هذا الكون الواسع محاط بقدرة الله ، وما عليه إلّا أن يعرف هذه الحقيقة ، ويعترف بها ، ولا يرتاب فيها ولا يشكك نفسه في ذلك ، لأن الشك قد يكون عفويّا ، وقد يكون شكا نابعا من الهوى أو الحساسية وما أشبه ، وفي قضية الايمان بالله لا نجد ذلك النوع من الشك ، أن الله أظهر من أن يشك فيه بشر (١) ، ان

__________________

(١) :جاء في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) : «الهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار ، فاجمعني»


هذا الشك هو الشك الذي مصدره إغماض العين عن الشواهد ، والانصراف عن الأدلة ، والمجادلة في الحق بعد اليقين به.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)

ان خلقة الإنسان كانت من طين فلذلك هو ينزع اليه ويهوى الخلود اليه ، ومن الصعب عليه أن ينبعث الى الحق.

ولأن الإنسان خلق من طين فأولى به ان يخشع لخالقه والّا يستكبر.

ثم ان للإنسان قدرا مقدورا. ذلك ان خلايا جسمه تتحلل ، وعظامه تهن وتضعف ، وينتهي بالتالي الى الموت.

فقد يأتيه الموت بحادث سيارة أو مرض سرطان ، أو قتل في حرب أو .. أو ..

الميتة الاولى قدر مقدور عليه ، كما هو قدر مقدور على كلّ حيّ وعلى كلّ مادة ، أما الميتة الثانية فهي قضاء يقدرها الله عليه ، ويكتبها في سجله الأسمى ، وذلك وفقا لاختيار الفرد نفسه.

إذا فهو إله السموات وإله الأرض ، وهو ملكهما ومرجع أمورهما.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ)

ولأنه يدبر أمور السموات والأرض ، فهو عليم بهما لأنه من المستحيل أن يدبر

__________________

عليك بخدمة توصلني إليك. كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك! متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك!؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا. مفاتيح الجنان / ٣٤٢ ـ دار الأضواء


الكون دون أن يعلم بخفاياه.

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)

إنه يعلم السر كما يعلم الجهر. (بعكس الإنسان) لأن السر هو الذي يتكون أولا ، ثم يبرز أمام الناس ، كالحبة تحت التراب ، تتحول عبر تفاعلات كيمياوية الى زرع قبل أن يراها الناس ، ثم إذا اخضرت الأرض أصبحت جهرا (والله يعلم سرها وجهرها)

ولذلك فأن علمه بالسر يسبق علمه بالجهر (بالرغم من أن علم الله لا زمان له).

والله يعلم خفايا الحبة التي تتفاعل مع أملاح الأرض ، ثم إذا تفاعلت يعلمها خبراء الزراعة ثم يراها المزارعون.

كذلك يعلم الله إرادة الإنسان قبل أن تتحول إلى عمل ، ويعلم العوامل المؤثرة فيها. عاملا عاملا ، ويعلم طبيعة الظروف ومدى استعداد الإنسان لتحدّيها ، أو استسلامه لها. لذلك فهو يعلم ما ذا يريد الإنسان أن يعمله في المستقبل بالرغم من أن هذه الإرادة لا يعلمها حتى الإنسان نفسه «عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم».

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)

ما تكسبون من خير أو شر ، الآن ومستقبلا ، وهكذا .. فعلى الإنسان أن يصلح ما في نفسه من عقد ونزوات ، ويطهّرها من صفاتها السيئة ، تلك التي يحاسبه عليها ربنا ، وهو عليم بكل تفاصيلها ومقاديرها ، كما عليه أن يصلح ظاهره ، ويراقب أعماله.


وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)


وهكذا يحتجب الخلق عن الرب

هدى من الآيات :

تحقيقا للهدف العام لسورة الانعام الذي هو تنمية روح الايمان بالله في النفوس ، وجعله مصباحا يهدى الإنسان في ظلمات الحياة ، تحقيقا لهذا الهدف العظيم جاءت آيات هذا الدرس لتفضح الدافع الأساسي لتكذيب آيات الله ورسالاته ، لعل الإنسان يتذكر بنفسه ويحاول تطهيرها من شر هذا الدافع الأساسي الذي هو الاستهزاء بالحق ، والاعراض عن آياته ، وما دام البشر يستخف بالحق ولا يقدره حق قدره ، فانه لن يستمع الى آيات الحق ، ولن يحاول استيعاب هذه الآيات.

ولكي يطهر البشر قلبه من هذا الدافع فعلينا أن نذكّره (كما عليه هو أن يتذكر) بمصير المستهزئين بالحق ، المعرضين عن آياته كيف أنهم دمّروا شر تدمير.

وتبين آيات هذا الدرس انه ما دام الاستهزاء موجودا ، أي ما دام البشر غير مهتم بالحق. فانه لا ينتفع بأيّة آية ، بل يحاول أن يتشبث ببعض الحجج الواهية حتى يردّ الحق وآياته ، ومتى ما فشلت حجة من حججه ، فانه يسارع الى حجة واهية


أخرى.

فلو جاءته الآيات على شكل كتاب منزّل من السماء ، فانه يقول : إنها سحر ، ثم يطالب ربه بأن ينزّل عليه الملائكة ، ولكن هل هذا ينفعه؟ كلا ، لأن الملك عند ما يأتيه مثلا فانما يأتيه بصورة إنسان أو شبهه ، ولكن ما دام يكفر بالرسل. فكيف لا يكفر بالملائكة؟!

ان الحل الوحيد للمعرض عن آيات الحقّ ، أو المستهزئ بها هو أن يتذكر مصير المكذبين بها والمعرضين عنها ، وذلك بالسير في الأرض ، لأن الحق ينتصر من المكذّبين والمعرضين.

بينات من الآيات :

الاستعداد النفسي :

[٤] لكي نعرف الحق نحتاج الى الانفتاح عليه والبحث الجدّي عن آياته ، وإنك تحتاج الى البحث السليم عن طريقك وأنت تسير في الصحراء أو في الجبال حتى تكشفه من خلال المعالم الموجودة على الرمال ، أو بين الصخور.

فاذا أراد الإنسان أن يعرف طريقه في الحياة من أين جاء ، والى أين يسير ، وكيف ومتى ، وأين ينتهي به المطاف ، وكيف يسعد ، وكيف يمارس أعماله بشكل لا تتعارض ومصالحه الحقيقية وهكذا؟

أفلا يحتاج الى البحث ، وهل يمكن أن يكشف أحدنا طريقه في الحياة بلا تعب؟! كلا ..

ومن حسن حظنا نحن البشر أن الله منّ علينا بتوضيح طرق الحياة ، وهدانا الى


أبلج الطرق ، والمطلوب منا أن نفتح أعيننا جيدا لنهتدي بهدى ربنا ، أما إذا أغمضنا أعيننا فحتى نور الشمس لا يستطيع أن ينفذ الى عين مغمضة ، إذا فالشرط الأول للهداية ، هو الاستعداد النفسي لتقبّلها إذا توفرت آياتها ، أما إذا لم يكن عند الإنسان هذا الاستعداد ، وقرر سلفا الكفر بالحق ، فانه سوف يعرض عن آيات الحق ، ومثلا على ذلك الذي ينتمي الى حزب ، ولا يفكّر أبدا في ترك هذا الحزب لأنه قد اتخذ قراره سلفا لانكار الحق ، كذلك الكافرون يعرضون عن آيات الحق لأنهم قد اتخذوا قرارهم الخاطئ سلفا بالكفر.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)

انهم لا يحضرون عند من يتلو الآيات ، وان حضروا فهم لا يستمعون الى تلك الآيات ، وإن استمعوا إليها فليس للاهتداء بها بل من أجل ردّها.

عاقبة الاستهزاء بالحق :

[٥] يستخّف الكفار بآيات ربهم ، والواقع أنهم يستخفّون بالحق الذي تدلّ عليه تلك الآيات. إن من لا يحضر عند من يذكّر بالله ، ويقول : من هذا حتى أحضر عنده؟! أنه لا يستخف بهذا الرجل. بل بالحق الذي يحمله.

كذلك من لا يقرأ كتابا يهديه الى الحق ويقول مستخفا. به : ما هذا؟! إنه يستخف بالحق لا بالكتاب.

كذلك من لا ينظر الى آيات الله في الكون نظرا عبريا ، وكذلك الذي لا يتدبر في القرآن.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ)

إن فطرة الإنسان تدفعه الى البحث عن الحقّ ، ولكن الذي دنّس فطرته بوسخ


الشرك. ينكر الحق ، ويكذب به حتى وإن جاءه بدون بحث أو صعوبة.

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

إن مثل هؤلاء لا يعرفون أهمية الحق ودوره في فلاحهم وسعادتهم ، ومدى حاجتهم اليه ، وهذا الجهل سيرديهم ، لأن الحق الذي يستخفون به ، وينكرون دوره في حياتهم سوف ينتقم منهم غدا حين يخالفونه.

إنك إذا أنكرت حقيقة الجاذبية في الأرض وأعرضت عمدا عن كل الآيات التي تدل عليها. وإذا قيل لك : إن سقوط التفاح من الشجر وانحدار السيل ، وتساقط المطر كل ذلك يدل على الجاذبية ، وأنك لو قفزت من علّ فسوف تسحبك الأرض وتحطم عظامك ؛ قلت : كلّا .. ولم تستمع الى الأدلة ، بل أعرضت عنها.

ماذا ستكون النتيجة؟ بالطبع إنّ هذا الحق الذي أنكرته اليوم ، سيأتيك غدا لينتقم منك ، بأن تسقط في يوم من الأيام فاذا بعظامك محطّمة.

كذلك لو أنكرت حقيقة أنّ السكوت على حكم الظالم سيحطم سعادة الشعب ، ولم تستمع الى آيات هذا الحق المتمثلة في مئات العبر التاريخية الغابرة ، والتجارب البشرية الحاضرة ، فسوف تسكت عن الظالم ، وتكون أنت أول من يحيط به ظلم الظالم ، ويحطم سعادته.

[٦] هكذا كان مصير كلّ أولئك الذين أعرضوا عن آيات الله ، وكذبوا بالحق ، واستهزءوا به كتعبير عن استخفافهم به ، واستهانتهم بدوره في سعادتهم.

سنة العذاب :

إننا إذا نظرنا الى تاريخ البشرية فإننا نرى حقيقة بارزة هي أن مصير كلّ المكذبين بالحق كانت المأساة.


(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)

هل أهلكوا لأنهم كانوا ضعفاء؟ كلا بل بالعكس :

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)

أيّ أنهم سيطروا على موارد الأرض ، وسخروها في مصلحتهم بإذن الله ، واستقروا في الأرض ، واطمأنّوا بها حتى ليكاد يحسبهم الناظر انهم خالدون فيها.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)

لقد استقروا في الأرض وتجاوزوا مرحلة البداوة ، والارتحال من منطقة لأخرى طلبا للرزق ، خوفا من الوحوش ، أو من نكبات الطبيعة ، ثم كانت موارد الرزق عندهم كبيرة وسهلة وهذه هي أسباب قيام الحضارات البشرية.

ولكن هذه الحضارة (التّمكين) لم تشفع لهم. إذ أنهم حين أعرضوا عن آيات الحق ، وكذبوا بها واستهزءوا. آنئذ خالفوا عمليا الحق ، وأكثروا من الذنوب التي هي تعبير ديني عن مخالفة الحق.

إنهم ظلموا أنفسهم ، وطغوا على الآخرين ، ولم يستفيدوا من موارد الطبيعة ، بل أفسدوها ، وفعلوا مثلما فعل قوم عاد أو قوم لوط أو قوم شعيب ، وكانت النتيجة : ان تلك الذنوب تكاثرت حتى أحاطت بهم ، وأنهت حضاراتهم.

(فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)

إن هذه عبرة كافية للبشر إذا أراد أن يعتبر.

[٧] ولكن البشر قد يغلق على نفسه منافذ قلبه. فلا يقبل الحق ولو جاءه


بطريقة إعجازية.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ)

أي في أوراق ملموسة يرونها تهبط عليهم من السماء كما ينزل المطر إنهم لا يفكّرون أن ذلك إعجاز ، فكيف ينزل من السماء قرطاس فيه هدى ونور ، إذا :

(لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

وكيف يمكن إقناع من يخلط المعجزة بالسحر؟ هل بمعجزة أقوى وأكبر؟ إنه آنئذ سيزعم أنها سحر أكبر؟!

إن إقناع هذا الشخص أصعب من إقناع من يخلط بين المتناقضات في تفكيره كالبدائي الذي يزعم : ان من الممكن ان يوجد شخص في مكانين في زمان واحد ، ذلك لان هذا يعاني من نقص في تفكيره. يمكن إزالته بالتعليم أما ذاك فهو مصمم على ألّا يقتنع بالحق لأنه لا يرى أهمية لذلك أصلا.

[٨] ان هذه الطائفة تطالب أبدا بمعاجز جديدة. تهرّبا من الاقتناع بالحق ، وليس هدفهم من هذه المطالب بريئا.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)

من السماء نراه بأعيننا حتى نصدّق به ، ولكن إذا جاء هل يصدقون به أم يعودون ويقولون : إنه سحر مبين؟!

إن لله سننا وأنظمة في الكون يجري عليها أمور الكون ، ولا يخرق هذه السنن بطلب كلّ أحد.


ومن تلك السنن : أنه قدّر ألّا ينزل الملائكة إلا في يوم المعاد. حيث يظهر الجزاء فورا وبصورة واضحة. في ذلك اليوم تظهر الملائكة لكي يجازوا الناس بأعمالهم ، وتظهر حقائق الكون للجميع. لذلك قال ربنا :

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)

في ذلك اليوم تنتهي فرصة الاختبار للإنسان ، ويأتي يوم الجزاء العاجل الذي لا يمهل صاحبه ، أما الآن فنحن في يوم المهلة.

[٩] ثم ما الفرق بين ان ينزّل الله ملكا أو ينزّل رجلا ، فما دام الفرد كافرا وجاحدا. لا فرق بين أن يأتيه رجل رسولا ، أو يأتيه ملك رسولا. انه سوف يكفر بهما جميعا.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)

إن الهدف من بعث الرسل ليس إكراه الناس على الالتزام بطريق الحق ، بل إتمام الحجة عليهم وذلك بتوفير فرصة الهداية لهم كي لا يقولوا يوم القيامة : لم نكن نعلم.

ولذلك لو بعث الله ملكا إذا لجعله الله يشبه الناس حتى في ملابسه حتى يستطيع أن يتفاهم معهم ، ويهديهم.

[١٠] إن مشكلة الكافر هي استخفافه بالحق واستهزائه به. والسبب هو : أنّ الكافر ـ كما قلنا سابقا ـ لا يعرف مدى أهمية الحق في حياته وأن علينا أن نبيّن له تلك الأهمية من خلال تجارب التاريخ.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ


يَسْتَهْزِؤُنَ)

ان الحق الذي كفر به هؤلاء واستهزءوا بمن هداهم اليه تحول الى واقع مرّ ، ودمّر حياتهم.

[١١] إن الرسل قالوا لهم : إن الاستسلام للطاغوت حرام ، وعلى البشر أن يثور ضده. فهذا هو الحق الذي حمله الرسل الى الناس ، ولكنهم كفروا بهم ، واستهزءوا بهذه الحقيقة. فما ذا كانت النتيجة؟

إن الحق تحوّل الى واقع فسيطر الطاغوت على البشر ، وأفسد عليهم الحياة ، وجعلها جحيما لا تطاق.

ولكي نفهم هذه التجربة العظيمة فعلينا ان نراجع التاريخ :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

إن حياتهم انتهت الى جحيم بسبب تكذيبهم للحق ، واستهزائهم بالرسل.


قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)


آيات الله بشائر رحمة ونذير عذاب

هدى من الآيات :

أبسط فكرة تقفز الى ذهنك حين تلقي نظرة الى السموات والأرض هي أنهما مسيّرتان وليستا مخيّرتان ، فأذن هي مملوكة لله ، ولكن الله ذو المشيئة المطلقة ، المالك للسموات والأرض يعطي عباده من خلال عطاياه ونعمه التي لا تحصى ثقة بأنه لن يقطع الحبل عنهم ، بل كتب على نفسه الرحمة لهم ، فما أفضل الالتجاء اليه ، والتمتع برحمته.

هذه فكرة الآية الاولى من هذا الدرس. الذي يعرفنا بربّنا معرفة تجعلنا نكاد نراه بها سبحانه ، والله هو المالك لكل ما سكن له واطمأن إلى رحمته في مسيرة الليل والنهار رغم تحركهما ، إذ أن رحمة الله تدع الخلق يسيرون وفق نظام يثقون به ، يسكنون إليه رغم تدفق الزمان الهائل القوة ، لأن الكون كله يستند الى القدرة المطلقة التي فطرت السموات والأرض في البدء ، والتي لا تزال تغذّي الوجود دون أن يتغذّى بشيء سبحانه ، وفي هذا الطوفان الهائل التغيير. يسلّم العبد لربه ليتخذ


منه ركنا شديدا ، ثم لا تكونن ـ أيها العبد الضعيف من المشركين ـ لأن الشرك ـ وهو أعظم درجة ـ سيجعلك تواجه نهاية مأساوية في يوم أكبر هم كل إنسان فيه هو الخلاص من عذابه (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (١٨٥ / آل عمران)

وتأتي هذه المجموعة التوحيدية من الآيات في سياق دروس إيمانية متتالية. هدفها التعريف الأعمق بآيات الله في الحياة.

بينات من الآيات :

عالم الخلق دليل رحمة الله :

[١٢] ان للحياة التي نعيشها. لحظة بلحظة ، ودفعة بدفعة ، وموجة بعد موجة ، هذا المهرجان العظيم من النور ، والدّفئ ، والانطلاق من العظمة والروعة والجلال ، لهذه الحياة تنظيم بديع لطيف متين. إذا نظرت إليها ككل راعتك آيات التنسيق بين أجزائها ، وإذا أمعنت النظر في أصغر أجزائها أعجبتك متانة الصنع ، ومدى ما فيها من دقة التنظيم ، وعظمة الحركة ، كل ذلك يزيدك معرفة : بأن للسموات والأرض ربّا يملك ناصيتها ، ويدبر شؤونها ويسيرها ، ولو كانت حرة طليقة من دون مسيّر ، إذا لتحركت وسارت كل جزيئة منها في اتجاه ، ولانهارت وتفتت وتلاشت ، فمن يملك ناصية الحياة غير ربها ، الله الذي خلقها!!.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ)

إنها ليست الحقيقة التي نحتاج فيها الى إثبات ، بل نحتاج الى معايشتها وملامسة أبعادها لنصبح كلما استطعنا أقرب إليها لأنها الحقيقة الام التي تتفجر الحقائق من خلالها تفجيرا ، ومن خلال معرفة حقيقة المالكية الالهية نعرف أن الله قد كتب على نفسه الرحمة لأنه لو لم يكتب على نفسه الرحمة (ونعترف بعدم دقة


التعبير) إذا فمن الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. علما بان الله يجبّر الكون على المسير وفق الأنظمة ، فمن يجبره سبحانه. إنه هو الذي :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)

ولكن لرحمة الله حدود ، وحدود رحمة الله هي حكمته .. فكما أنه رحيم حين يضع السنن العادلة ، إلا أنه شديد على من يخالفها ، فهو حين يحفظك ـ مثلا ـ من أن تسقط عليك حجارة ضخمة من السماء تدمر بيتك على من فيه ، فانه بعدئذ يفرض عليك أن تلتزم بواجب العدالة ، فلا تدمر بيوت الخلق بقنابل عنقودية ، فلو فعلت فان جزاءك سيأتيك عاجلا في الدنيا ، أم آجلا في الاخرة. هنالك لا تحاسب وحدك ، بل سوف تحاكم أمام الناس جميعا ، وسوف يؤتى بمن ظلمته لكي يستوفي كلّ جزائه العادل

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)

أو يشك أحد : أنّ الله هو الذي أمسك كل شيء في حدود معينة عادلة حكيمة ، وذلك برحمته التي كتبها على نفسه ، أو يشك أحد أنه سوف يترك الإنسان حرا في تدمير نفسه ، والعالم من حوله دون جزاء عادل له؟ كلا :

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

لأنهم يتصورون أن الحياة بلا بداية ولا نهاية ، ولا مالك ولا شيء. انهم يخسرون أنفسهم ، ويفقدون ما منّ الله عليهم به من فرصة السعادة الأبدية ، الى الشقاء الأبدي الخالد.

السكون والحركة في الكون :

[١٣] غدا حين تشرق الشمس ، وينتشر الضوء والحرارة. أذهب أنا وأولادي


وسائر أبناء القرية جميعا للحصاد .. إذ أننا قبل أشهر كنا قد ملأنا الحقل بذورا ، والآن أصبحت حقلا زاهرا وفي العام القادم سنزوّج الأولاد ، ونسافر الى الحج ، هذه الأفكار التي تراود ذهن فلاح بسيط لدليل على أنّ هناك ثقة بالحياة يسكن إليها البشر ـ بل كلّما في الحياة ـ تلك ثقة نابعة من أنّ سنن الله لا تتغير رغم تطور آياته ، فالشمس تطلع لتغرب ، والليل يلاحق النهار ، والضوء يهزم الظلام ، ثم ينهزم أمام جيوشه ، ولكن كلّ ذلك يجري وفق نظام يطمئن اليه الإنسان وسائر الأحياء لا فرق. من يملك النظام؟ من ينفذه؟ من يشرف عليه الّا تخرقه الأهواء النزقة؟ انه الله الذي يهيمن على السموات والأرض ، وهو يسمع ويعلم فلا يهرب من سوط عدالته وسلطان تدبيره شيء سبحانه :

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

والمقابلة المبدعة بين الليل والنهار من جهة ، وبين السكون من جهة ثانية مقابلة توضح بعدي السكون والحركة في الحياة الواحدة التي يهيمن عليها الرب.

دوافع الايمان :

[١٤] قلنا ـ ونكرر ـ إنك حين تعرف حقيقة أنّ لله ملك السموات والأرض ، تعطيك هذه المعرفة آفاقا جديدة من العلم ، وهذا واحد منها : إنك تجلس لتفكر. إذا كان الله هو مالك السموات والأرض. فلما ذا لا نتخذه صديقنا وصاحبنا ، وقائدنا وولينا. نحبه ويحبنا. أو ليس هو الذي يملك ـ فيما يملك ـ رزقنا. وهو بذلك لا يطالبنا بثمن ، فنحن لا نطعمه. بل هو الذي يطعمنا؟! هناك توجّه السّؤال التالي الى نفسك :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ)

ويأتيك الجواب وبكلّ بساطة :


(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

تقول نفسك ، وتقول لك كل حقائق الحياة : كلا. ان من الأفضل لك الخضوع لله ، وليس لأحد سواه.

[١٥] وغدا حين يجازي الرب عباده المذنبين ، كيف نهرب من جزائه العادل وهو ذو القوّة التي سخّرت السموات والأرض؟

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

[١٦] إنّ الرحمة التي شملتنا في الدنيا والتي ظهرت آثارها في كل مظاهر الحياة. هذه الرحمة كيف تفوتنا ، وتتحول في الآخرة بسبب أعمالنا الفاسدة الى عذاب .. أو ليس هذا جنون؟

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ)

رحمه لأنّه هداه الى الحق ، وألزمه كلمة التقوى ، ورحمه لأنه غفر له ذنوبه البسيطة ، لأنه أطاع الله في أعظم العبادات :

(وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)

أن ترسو سفينة الإنسان على شاطئ السعادة الأبدية برحمة الله.


وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)


بالله يفلح الإنسان

هدى من الآيات :

إن كنت تبحث عن المصالح الحقيقية لذاتك أو لمجتمعك ، فان بيد الله سبحانه أزمّة الكون كله ، فاذا مسّك الله بضر لا يستطيع الناس ولو اجتمعوا أن ينقذوك منه ـ إلا باذنه ـ وإن أنعم عليك نعمة ، فان الله وحده القادر على إبقاء أو إزالة النعم عنك ..

وإن كنت تخشى طوفان الأحداث ، وتبحث عن ركن شديد تأوي اليه ، فان الله هو القاهر فوق عباده ويدبر شؤونهم بحكمته وخبرته ..

وان كنت تبحث عن الحقيقة ، فان الله هو الحق ، وهو أكبر شهيد ...

بينات من الآيات :

وهو القاهر فوق عباده :

[١٧] انك تحب نفسك وتبحث عن مأمن لها عن الشركاء ، وتبح عن مصدر


الخير لها ، فاعلم بأن الله هو الذي يقدّر لك الخير والشر معا ، وانه لو قدر الله لك أمرا فانه لا أحد يملك تغيير أقدار الله ،

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)

حين يصيبك المرض ويشتد حتى تشعر بمسّه. آنئذ يستيقظ ضميرك ، ويتوجه الى الله القادر على كشف المرض عنك ، بينما قد تكون قبل ذلك غافلا عن ربك.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

وحين تشعر بلذة الخير الذي يهبط عليك من دون جهد كاف ، هنالك لا تطغى. لأن الله الذي قدر لك الخير قادر على أن يسلبه منك ، كما أنه قادر على أن يزيدك خيرا ، أو حتى على أن يحوله الى سوء في النهاية ..

والتعبير القرآني يؤكد على كلمة ، المساس للدلالة على الضر الذي يشعر بألمه الفرد ، والخير الذي يحس بلذته ..

[١٨] والله يقهر عباده ، ويخضعهم لمشيئته شاؤوا أم أبوا. إنه يقدر لهم السّبات فلا أحد منهم يغلب النوم على ذاته الى ما لا نهاية ، ويقدر عليهم الموت وهم كارهون ، ويأخذهم على تطبيق أنظمة معينة في الحياة ، لا يستطيعون الفرار منها :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

ولكن تقدير الله للبشر ليس عبثا ، بل وفق حكمة بالغة ، وخبرة أزلية.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

فاذا علمت بأن الله القاهر ، فلا تخف! لأن الله حكيم فاذا سلّمت الأمور اليه ، فانه سيبلّغك الى شاطئ الأمان ...


(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) :

[١٩] تتلاحق الأحداث ، وتترى الظواهر ، وتجري سفينة الحياة في بحر عالي الموج ، عاصف الريح ، ولكن وراء تلك الظواهر أنظمة حكيمة تمسكها ، والله من وراء تلك الأنظمة يمسك زمامها ويوجهها ، فالله هو ضمير الكون ـ الذي لا يخلو منه مكان ـ تجد آثاره في قطرات المطر الزاخر ، فتجد وراء كل قطرة ـ قدرته. حكمته. هيمنته. سلطانه. نعمته. رحمته. وفضله ـ والأرض حين تهش لقطرات المطر تشربها ، وتحتضن حبات القمح تداعبها ، حتى يتفجر الحقل روعة وخضرة ونعيما ، ان هناك يتجلى الله الحق .. في السماء ، والأرض والدواب ..

كل شيء شاهد على ذاته ، الشجر يشهد على ذاته بالمساحة التي يأخذها من الأرض ، ومن الفراغ ، وبالثمر الذي يقدمه لك ، ولكن الله لا يغيب عنه شيء ، لأنه وراء كل شيء. انه الذي يمسك كل شيء بما أعطاه من الحركة والفاعلية والسنن والأقدار ، فالله شاهد على كل شيء ، وحاضر عند كل شيء ، وكل شيء آية له ، لأنه منه ومعه واليه ، فالله إذا أكبر شهادة من أيّ شيء :

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)

انه يدل على ذاته بذاته ، ويدل على كل شيء ، انه يعطيك السمع والبصر والبصيرة ، ويتجلى بآياته في مهرجان الحياة حتى تعيش معه في كل لحظة ومع كل شيء. يبقى أنت الذي قد تغيب عن ربك (دون أن يغيب عنك) انه قريب المسافة ، بينك وبينه لحظة الالتفات والتوجه ، ولكي لا تغيب عنه ، ولكي تتكامل ذاتك الى مستوى العيش مع ربك. أرسل الأنبياء ، وزودهم بالكتاب لينذرك لأن الإنذار أقرب الطرق الى قلب البشر ان البشر غافل بطبعه ، وسلاح الخوف أفضل وسيلة لخرق حجب الغفلة عن قلبه.


(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

إنني لا أرى أثرا يذكر لغير الله سبحانه ، فكيف يمكنني أن أشرك بالله؟ إنني لا أشهد بغير الله ، وإني أحارب بكلّ صراحة ما تشركون.


الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)


القرآن عصمة البشر

هدى من الآيات :

الحق ـ كالركن الشديد ـ تعتمد عليه إذا اعترفت به وصدقته ، أما الباطل فهو سراب ، لا وجود له الا في خيال من يؤمن به ، فهو الذي يعتمد عليك ، ويكلّفك عناءه.

والقرآن حق تعرفه كما تعرف أبناءك ، فكما أن أبناءك امتداد لشخصيتك ، تستعين بهم في حياتك ، كذلك القرآن انه من يكذب بالقرآن ، أو يختلق لذاته كتابا كاذبا يفقد هذه القدرة الهائلة ولا ينال السعادة بتلك الاكذوبة.

وفي الآخرة تتوضح الحقيقة كاملة. إذ يضل عن الكفار الشركاء فلا ترى لهم أثرا ، وآنئذ يتبرأ منهم المؤمنون وهم أيضا يحلفون بالله انهم لم يكونوا يؤمنون بهم ، ولكن هل ينفعهم ذلك اليوم هذا التبري .. كلا.

حول هذه النقاط ـ تتحدث آيات هذا الدرس.


بينات من الآيات :

علاقة القرآن بالشخصية الانسانية :

[٢٠] الكتاب نعمة من الله على المؤمنين ، والمؤمنون يعرفون قدر الكتاب. إذ أنه بالنسبة إليهم كما أبناءهم ، يعرفونه انه حقيقة كما الأبناء حقيقة ، وأن ـ ملامحه ، بيناته ومتشابهاته ، ناسخه ومنسوخه ، بصائره وأحكامه ـ واضحة لهم ، كما هي ملامح أبنائهم الذين هم أقرب الخلق إليهم ، وأنه يزيدهم قوة وأملا ، كما الأبناء يزيدون الآباء قوة في الحاضر ، وأملا في المستقبل ، وأهم من ذلك كله أن الأبناء هم امتداد لشخصية الأب ، يجد الأب فيهم صورة ثانية من ذاته ، ومرآة لقدراته وقيمه ، وتحقيقا لإرادته ، وكذلك القرآن يبلور شخصية المؤمن ، ويحقق ذاته ، ويصبح إذا عرفه الإنسان صورة عن قيمه وتطلعاته ومستقبله.

من هنا فان الكفر بالقرآن يساوي الكفر بالشخصية الانسانية ، وبالتالي يعني خسران الذات وفقدانها ، انك حين تفقد ـ لا سمح الله ـ ابنك تشعر وكأنك قد خسرت جزءا من ذاتك ، بيد أنك حين تكفر بكتاب الله فأنك تخسر نفسك أيضا.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) :

[٢١] حين يكذب المرء بآيات الله لا يعيش في فراغ ، بل يبحث عن أراجيف يؤمن بها وكأنها آيات من الله ، بل ويبدأ المرء في خلق الأراجيف ، أو تقليد آبائه أو مجتمعة في الايمان بها ، وافترائها على الله ، ثم يكفر بآيات الله الصحيحة ، وبذلك يكون أظلم الناس ، إذ قد يكون مجمل سلوك الشخص صحيحا ، ولكنه ينحرف في جانب من حياته ، أو في بعض الأوقات فحسب ، أما من يتخذ مسيرة منحرفة ويؤمن


بنهج خاطئ ، فانه لا يخطو خطوة الا ويبتعد عن الحق بقدرها ، ويظلم نفسه والآخرين ، وإذا كان الظالم لا يسعد بالظلم فكيف بهذا الذي يبني كل حياته على الظلم من بدايتها حتى نهايتها؟!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

[٢٢] الحق تعيش عليه ، والباطل يعيش عليك ، فأنت الذي تصنع الباطل ، وتجهد نفسك في الدفاع عنه ، ولكنه يزول دون أن ينفعك في ساعة العسرة ، بينما الحق يبقى ينصرك دون عناء منك.

وعند ما تبلى السرائر في يوم القيامة وتتعرى الحقائق. آنئذ تكتشف ان الباطل يضيع عنك ، فلا تجد له أمرا ـ وكذلك كان في الدنيا ـ إلّا أن أهل الباطل يخلقون الباطل بأساطيرهم وبخيالاتهم ، فيزعمون : انه موجود فعلا ، كما لو أنك ترى سرابا في الصحراء تحسبه ماء ، وانما هو سراب ، لا وجود له إلا في بؤبؤة عينيك.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

فيلتفت المبطل يمنة ويسرة فلا يجد لهم أثرا ..

[٢٣] انئذ يتراجع عن شركائه ، ويحلف بالله : انه لم يتخذهم بديلا عن الله وعن الحق!

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)

هكذا خدعوا وضلوا وأضلوا. هذه كانت نتيجة ضلالتهم وفتنتهم وخداعهم. إنهم يتبرءون من الشركاء. إذا لماذا لا يتبرءون عنها اليوم. وقبل فوات الوقت؟!


[٢٤] وكانت عاقبة هؤلاء أنهم كفروا بالباطل الذي كانوا يؤمنون به ، وحلفوا الايمان المغلّظة أنهم لم يكونوا ـ حتى في السابق ـ يؤمنون به ، أما الباطل فقد ضل عنهم ، ولم يبق له أثر.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)

بالأمس كانوا متحمسين للباطل ، والآن ينكرونه ، ويكذبون على أنفسهم بهذه الأفكار.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

دعنا إذا لا نخلق أصناما نؤمن بها ، ولا نفتري على الله أفكارا باطلة ندان بها


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)

____________________

٢٥ [أكنّة] : الاكنة جمع كنان ، وهو ما وقى شيئا وستره ، واستكن الرجل من الحر ، واكتن استتر.

[وقرا] : الوقر الثقل في الاذن ، والوقر ـ بكسر الواو ـ الحمل.

٢٦ [ينأون] : النأي البعد ، ومنه أخذ النوى وهو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء.


حينما تكون القلوب في أكنّة

هدى من الآيات :

في سياق الآيات التي توضح عوامل الكفر النفسية ، يأتي هذا الدرس ليبيّن : أن مجرد الاستماع الى الحق لا يكفي للايمان به ، إذ ان المهم هو قلب الإنسان الذي لو لم يزكّ من عوامل الانحراف فان أذنه تثقل ، وعينه لا تبصر ، ولسانه لا يلهج الا بالجدل والبهتان ـ فمثلا ـ لا يفرق صاحب القلب المريض بين الرسالة الجديدة ، وبين الأساطير القديمة ، وهؤلاء لا يبتعدون عن الحق فقط ، بل وينهون الناس عنه وهم لا يعرفون قيمة الحق ، وأنه يساوي أنفسهم.

وفي يوم القيامة يدين هؤلاء أنفسهم على فعلتهم السابقة والتي تمثلت في الكفر بالحق بالرغم من وضوحه أمامهم ، ولو ردّوا الى الدنيا لعادوا الى كفرهم ، والسبب هو ان الكفر ليس نتيجة غموض في الحق ، أو عدم صحة آياته ، بل هو نابع من مرض في قلوبهم وما دام المرض موجودا فان التوبة الظاهرية لا تكفي.


بينات من الآيات :

العوامل النفسية للكفر :

[٢٥] بالرغم من ان الإنسان يملك العقل والسمع والبصر ، وبالرغم من أن آيات الحق وعلاماته ودلائله واضحة للعقل ، فان ذلك لا يكفي في ايمان الشخص بالحقيقة ، إذ أن هناك إرادة حرة فوق العقل ، توجه العقل والاحساس ، وفي الطرف الآخر هناك النفس البشرية المليئة بالعواطف والعقد والأمراض. من حب الذات ، الى الاهتمام بالمجتمع ، الى الاسترسال مع التقاليد.

فاذا اختار البشر بإرادته الحرة جانب النفس وأهوائها وعقدها وتقاليدها وامراضها ، فانها سوف تلغي دور العقل عنده ، وتسد منافذ الاحساس لديه ، وتغلف قلبه بكثافة حتى لا يتسرب اليه نور الحقيقة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ)

إذ ان الاحساس وحده لا يكفي ، فقد تسمع آية ولكنك بحاجة الى قلب متفتح حتى تؤمن بها ، فمثلا انك بحاجة الى عدم الأيمان المسبق بكذب الآية ، والّا فانك لا ترى حاجة للتفكير فيها ، وبحاجة الى سكينة نفسية ، وهدوء داخلي يسمح لك بالتفكير في الآية ، وكل ذلك غير موجود عند الكافر.

بل قد يتسبب الكفر في أن يتبلد احساس الشخص أيضا ، فيشعر أنّ في اذنه وقر ، وفي عينيه ضعف ، إذ ما دام القلب مغلق عن فهم الحقيقة ، فانه لا يشعر بحاجة الى استخدام الاحساس.

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

أي ثقلا لا يمكنهم ان يسمعوا بوضوح.


(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

ان القلب المغلق يجعل أحاسيسه في خدمة انغلاقه ، وأفكاره الميتة ، فالأذن تثقل عن سماع الحقيقة ، والعين تعمى عنها ، واللسان يجادل ويغالط فيها.

[٢٦] الحق هو ضمان حياة النفس ، وتحقيق الذات يتحول في عين هؤلاء الى بعبع ينهون الناس عنه ، ويبعدون عنه بأنفسهم ، وبذلك يخسرون ما به حياتهم وشخصيتهم واستمرار كيانهم.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)

لا يشعرون أي خسارة كبري تلحقهم بابتعادهم عن الحق.

على شفير الهاوية :

[٢٧] وحين يمس المكذبون العذاب يدركون مدى الخسارة التي لحقتهم بترك الحق.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

حين يشتد المرض بابنك البكر ، ويشرف على الهلاك ، يعمل انئذ فكرك بسلامة بعيدا عن مؤثرات الخطأ فمثلا : آنئذ لا تفكر في أن الدكتور القريب من بيتك صديقك ، وأنك تستحي منه ، ولهذا تفضله ـ مثل سائر الأوقات ـ على غيره من الأطباء ، ولا تزعم أن طبيب الأسرة الذي تعودت عليه خير من غيره ، ولا تنظر الى أقوال الناس فتتبعهم بالرغم من علمك بأنهم لا يعقلون ، بل تبحث عن طبيب


حاذق يخرج مريضك من دائرة الخطر حتى ولو كان عدوك ، فأنك تذهب اليه صاغرا ذلك لأنك آنئذ تبحث فقط وفقط عن الحقيقة. بعيدا عن أيّ اعتبار آخر.

[٢٨] وحين يشافي الله ابنك من المرض الخطير ، فان كل تلك الاعتبارات السخيفة تعود إليك. لماذا؟ لأنها راسخة في ذهنك ، وما استطعت أن تنظف نفسك من آثارها ، كذلك حال الكفار حين يقفون على النار يتمنون لو يعودون الى الدنيا ، فيصححون أخطاءهم ، ولكن هل يفعلون ذلك. كلا.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ)

أي ظهرت لهم الحقائق التي أخفوها عن أنفسهم وعن الناس تعمدا.

(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

إذ أن نفوسهم مريضة ولا تزال تعاني من انغلاق ، فلا بد إذا من تطهيرها ، وفتح منافذها على نور الحقيقة.


وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)

____________________

٣١ [بغتة] : كل شيء أتى فجأة فقد بغت.

[يا حسرتنا] : الحسرة شدة الندم.

[ما فرّطنا] : التفريط التقصير وأصله التقديم ، والإفراط التقديم في مجاوزة الحد ، والتفريط التقديم في العجز والتقصير.

[أوزارهم] : الوزر الثقل واشتقاقه من الوزر وهو الحبل الذي يعتصم به ، ومنه قيل وزر فهو موزور إذا فعل به ذلك ، وحيث أن الذنوب ثقلا تسمى أوزارا.


حينما يقصر النظر

هدى من الآيات :

إن النظرة القاصرة التي تحصر حياة الإنسان بالدنيا. إنها مسئولة الى حدّ بعيد عن كفر الإنسان بالحق ، وفوق ذلك ان أمام عين البشر غشاوة من زينة وشهوات تمنعه عن الايمان بالآخرة ، ولكن ألا يتصور البشر أنه غدا حين يواجه الحق بكل عنفه وقدرته وهيمنته ، فما ذا يمكن ان يفعل حين يقف أمام الله ليرى النار اللاهبة؟! حينها يندم على تكذيبه في الدنيا للقاء ربه في الآخرة ، وحينها يجر آهات الحسرة على ماضية الذي خسره ، ويثقل ظهره بذنوبه.

بينات من الآيات :

[٢٩] دعنا نعقل الحقيقة قبل فوات الأوان. الحقيقة هي ان الدار الدنيا ليست سوى لعب ولهو وما الحياة الحقيقية الّا في الآخرة لمن اتقى ربه من هنا قال ربنا سبحانه :

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)


وهذه كما سبق ـ وان قلنا ـ أصل الفساد الفكري عند الإنسان ..

كيف تستوعب الغيب؟

[٣٠] إذا قدمت إليك تفاحة ، فأردت أن تعرفها جيدا ، فلا بد أنك تقلبها من أطرافها ، وإذا فكرت في شراء بيت فانك تتفقد جميع جوانبه ، أما إذا أردت التعرف على حادثة اجتماعية أو ظاهرة طبيعية ، فان عليك أن تبحث عن مبتدئها ونهايتها ، عن أولها وآخرها ، فلرب حادثة أولها خير وعاقبتها شر ، ولرب ظاهرة تبدء نافعة وتنتهي ضارة مفسدة ، والعكس صحيح ، كذلك الحياة لا تعرف بنيانها ، ومرسى سفينتها ، وساعة قيامتها ، وكل حادثة أو ظاهرة تدخل ضمن اطار الحياة تقاس هي الاخرى بهذا الميزان. أي بنهاية الدنيا. ذلك ان مصير ركاب السفينة متعلق بمصير السفينة. كذلك سفينة الحياة تتعلق بها كل الحوادث التي تقع ضمنها.

والقرآن الحكيم يدعنا أبدا نتصور نهاية الحياة لنعرف بدقة أكثر ذات الحياة ، وما بها من احداث ، وبالتالي ليكون لدينا مقياس نستطيع أن نحكم بسببه على الاحداث حكما سليما.

والسؤال : لماذا يستخدم القرآن أسلوب التصوير في هذا الجانب؟.

الجواب : لأنّنا من الناحية العلمية قد نكون مقتنعين بالغيب وبالعاقبة أو حتى بالقيامة ولكن ثقل الشهود وحضور الأحداث والظواهر التي نعايشها الآن تمنعنا عن التوجه الى الآخرة ، وهنا نحتاج إلى قوة التصور لنعبر فوق جسره إلى شاطئ الغيب ، هناك حيث لا يثقل أحاسيسنا حضوره الفعلي ، لذلك تجد القرآن يقول هنا :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)


انك حين تقف فوق تلّ مشرفا على رابية ، يمتد بصرك إلى ابعاد الرابية وأطرافها ، وتصبح وكأن الرابية ورقة في يدك.

وفي يوم القيامة حين نشهد آيات ربنا ، هنا جهنم تلتهب نارا وعذابا ، وهنالك الجنة تنبسط بنعيمها وجمالها ، وهنا الميزان الحق ، وهناك الكتاب الذي أحصى كل شيء. آنئذ نقف على ربنا ، وتكرهنا القضايا الساخنة على الايمان به ، ويستشهدنا الله على نفسه تعالى : (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟! قالُوا : بَلى وَرَبِّنا. قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). إنه الحق الذي سوف نضطر الى الايمان به يوما ما ، فلما ذا لا نؤمن به الآن حتى ينفعنا ايماننا ، لماذا نكفر به ، لنذوق العذاب إذا؟

شيء من الواقع :

[٣١] ان التكذيب بالمعاد يشوش على البشر رؤية الحقائق في الدنيا ، ويدفعه الى التكذيب بالحقائق جميعا ، ويكون مثله كمن يكذب بالموت ويرى أنه لن يموت ، فهو يكذب بآثار مرض السرطان ، يتورم جسمه فيقول : كلا انه لا يدل على الموت المرتقب ،. يتألم جسمه ويحرقه ، ولكنه يصر قائلا : ليس ذاك دليلا على الانتهاء ، فيؤكد له الدكتور وسائر العقلاء ذلك ، ولكنه يصرّ مستكبرا على قوله. ذلك لأنه لم ينظم زاوية فكره وفق الموت الحق ، فاختلطت عليه الحقائق جميعا. كذلك الذي لا يؤمن بلقاء الله يكفر بكل شيء حتى يخسر نفسه نهائيا.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)

وزر التكذيب بالآخرة ، ووزر الأعمال السيئة التي ارتكبوها بهذا السبب (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).


وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

____________________

٣٥ [نفقا] : النفق سرب في الأرض له مخلص الى مكان آخر ، وأصله الخروج ، ومنه المنافق لخروجه من الايمان الى الكفر.

[سلّما] : السلّم الدرج وهو مأخوذ من السلامة.


كيف تحدى الرسل

اعراض الجاحدين؟

هدى من الآيات :

لكي يبقى المؤمن جبلا أشما يتحدى الصعاب ، لا بد أن يعرف حقيقة الدنيا التي ما هي سوى لعب ولهو ، أما دار الاقامة الدائمة فهي الآخرة ، ومن ذلك أن قلب الرسول يجب ألّا يتأثر بسبب كفر المشركين الذي يجحدون بآيات الله حين يكذبون به ، وهدفهم ليس الرسول بقدر ما هو الحق والايمان ، وكما يكذب الظالمون اليوم بالرسول فأن رسل الله السابقين قد كذّبوا أيضا ، ولكنهم صبروا حتى آتاهم نصر الله.

وهل هناك حيلة أخرى للرسول في الأمر. هل يسلك نفقا في الأرض ، أو يصعد بسلّم الى السماء ليأتيهم بآية ، ولو فعل ذلك فهل ينفعهم؟! علما بأن الله لا يريد أن يجبرهم على الهدى ، ولو شاء لفعل ذلك بقدرته التامة.

بينات من الآيات :

واقع الحياة وحقيقة الآخرة :

[٣٢] هل نستطيع ان نحدد هدفا معقولا للحياة الدنيا لو لم نجعلها مقدمة


للآخرة ، وعموما هل نستطيع ان نخطط لهذه الحياة التي تنتهي في أية لحظة ، وربما دون تحذير مسبق ، وتتفاعل فيها عوامل ومؤثرات غير محدودة؟

ان كانت الحياة الدنيا تمهيدا للآخرة ، ودورة تدريبية لتكامل البشر ، لاعداده لدخول الجنة خالدا فيها ، فان كل ما فيها سوف يصبح معقولا وحكيما ، وتكون الآخرة لا الدنيا هي الدار الدائمة للاقامة ، ولكنها لا تكون الا لمن اتقى في الدنيا.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)

اللعب هو العمل بوعي وهدف ، ولكن دون هدف حكيم ، اما اللهو فانه من دون وعي أو هدف.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

العقل يحكم بان الدنيا ليست بدار الاقامة ، وأنها ليست هدفا نهائيا للبشرية.

لماذا الحزن؟

[٣٣] إذا كانت الدنيا قاعة امتحانات يتخرج منها المتقون بنجاح ، ويستلمون شهادة الايمان ، وبطاقة دخول الجنة ، فعلينا ألّا نحزن على الظالمين الذي يعادون الرسول ، وقبل الرسول يعادون الحق ، ويجحدون بآيات الله ، وبالتالي يظلمون أنفسهم فلما ذا نحزن عليهم؟!

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)

من التكذيب بك وبرسالتك ، ولكن مهلا.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)


مع علم مسبق بأنه حق ، فالحزن عليهم لماذا؟!

[٣٤] وللرسول في الرسل السابقين أسوة حسنه ، فكم قد كذّبوا وكم أوذوا ، ولكنهم صبروا حتى جاءهم نصر الله ، وتلك هي سنة الله لا تبديل لها ، وتلك هي كلمته التي لا تبديل فيها وها هي أنباء الرسل تذكّر للرسول في القرآن ليتخذ منها عبرا كافية.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ)

ومنها هذه الكلمة أن صاحب الرسالة حين يتعرض للصعاب ويصبر ، فأن الله ينصره بالتالي.

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)

[٣٥] وماذا يمكن ان يفعله الرسول ما دام الظالمون يجحدون بآيات الله بعد اليقين بصدقها ظلما لأنفسهم ، فهل يسلك طريق ٣ في الأرض خارقا للعادة ، أو يصعد الى السماء بسلّم ، ثم يأتيهم بآية ، أو ليست الآيات الهابطة كافية لهم لو كانوا يريدون الايمان بالله وبرسالاته؟!

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ)

وكان ذلك عظيما في عينك.

(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ)

اي تفتش عن طريق تحت الأرض أو فوق السماء من أجل الحصول على آية خارقة لكي يؤمنوا بها ، فأن استطعت أن تفعل ذلك فافعل ، فهل فيها فائدة؟


نعم هناك سبيل واحد لهداية هؤلاء ، وهو أن يجبرهم ربهم على الهدى ، ولكن هل يفعل ربنا ذلك؟ كلا .. لأنه لو شاء لفعل ذلك بأهل الأرض جميعا ..

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)

الذين يريدون تحقيق شيء معين بالرغم من سنن الله وحكمته ، وأنظمة الكون التي جعلها الله ، ان عليك ان تتحرك في حدود هذه السنن القائمة ، والانظمة السائدة في الكون.


إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)


هكذا استجاب من سمع ،

وضل الصم البكم

هدى من الآيات :

حين يعطب جهاز الاستقبال ، فان كثافة الأمواج لا تزيده الا عطبا ، وحين يموت قلب الإنسان فان المزيد من الدلائل لا تنفع صاحبها. انك ترى الكفار يطالبون بالمزيد من الآيات ، والمشكلة ليست في قدرة الله على أن ينزل المزيد منها ، ولكن المشكلة في فائدة الآيات للذين تعطل عندهم جهاز الفهم ، ان نظرة واحدة الى الحياة وما فيها من دابة ، أو طائر في السماء لا فرق تكفينا دليلا على عظمة الخالق ، حيث أنها جميعا تسير وفق نظام اجتماعي معين ، وتنتهي الى الله ، ولكن هل تكفي هذه الآيات العظيمة لأولئك الذين فقدوا القدرة على التعبير لأنهم فقدوا السماع والتفاعل مع الحياة الحقيقية؟! انهم صم بكم يعيشون في ظلمات الجهل والجهالة ، لان الله سلب منهم نعمة العلم والهداية (بعد ان رفضوا الانتفاع بهما) فتاهوا في صحراء الضلالة ، أما الصالحون فقد هداهم الله الى الصراط المستقيم الذي يسير بهم الى أهدافهم السامية من أقرب الطرق.


بينات من الآيات :

عند ما يعطب جهاز الاستقبال :

[٣٦] لقد زود الله عباده جميعا بالفهم ، فالكل زوّد مثلا بالسمع ، ولكن البعض منهم فقط هو الذي يسمع. أي ينتفع بوسيلة السمع ، لأنه يريد ذلك ، وحين يسمع المرء نداء ربه الى الخير يستجيب لهذا النداء ، فيعمل بما يأمره الله ، أما حين يموت القلب وتسترخي الارادة ، ويتعطل جهاز السمع ، فأن الأمل مفقود في هداية الإنسان آنئذ. الا إذا شاء الله ذلك بمشيئته الخارقة لسنن الطبيعة ، ولكن هل يفعل ذلك ربنا في الدنيا. أم أن الله إنما يهدي الناس للحقائق بهذه الصورة في الآخرة حين يحشرهم جميعا ليحاسبهم. آنئذ لا تنفع الهداية شيئا.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)

[٣٧] ولا يزال الكفار يطالبون بالمزيد من الآيات ، والله قادر على أن يستجيب لطلبهم ، ولكن ما ذا ينفعهم ما داموا فاقدين لجهاز العلم؟!

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً)

كما أنزل الآيات السابقة ، بيد أنّ المشكلة ليست في قلة أو كثرة الآيات ، بل في العلم بها ، فلو كانت عين الفرد عمياء .. فهل تنفع إضاءة المزيد من المصابيح.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

[٣٨] والدليل على ان العبرة ليست في زيادة الآيات ، بل في العلم بها وادراك ما وراءها من حقائق .. الدليل الأحياء الذين لو أمعنت النظر في حياتها لرأيت أمة مثل البشر ، لهم نظامهم وعلاقاتهم وأهدافهم في الحياة ، ثم إنهم كما البشر يحشرون الى ربهم ، أفلا تكفي تلك الآيات العظيمة ، ولكن قليلا من الناس يفهمون هذه


الآيات؟! لذلك يقول ربنا :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ)

اي ما من متحرك من الأحياء ، النملة وأصغر منها ، والفيل والحوت وأكبر منهما.

(وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)

اي كل طائر في السماء ، وإنما ذكرت كلمة يطير بجناحيه هنا للدلالة على التعميم ، كما ذكرت كلمة في الأرض هنا لنفس السبب.

(إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)

الا أمم مثل سائر الأمم البشرية ، لها انظمتها وقوانينها ، وسيدها ومسودها.

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)

ان الكتاب هو كتاب الله ، والله لا يبالغ ولا يتطرف في كلامه ، بل ان كلامه تعبير دقيق عن الحق دون زيادة أبدا ، لان الحق الذي خلقه الله ، ويعلم أبعاده أكبر بكثير من المقدار المناسب لفهم الإنسان ، على ان فهم الإنسان عظيم ، وان هذه الأمم تسير وفق نظام قدرة الله في الدنيا أما في الآخرة :

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) :

[٣٩] هذه آيات الله منتشرة في الكون ، فمن ينكرها ومن يكذب بها؟

انما يكذب بها من فقد تفاعله مع الحياة. فهو أصم وأبكم يعيش في ظلمات لا


يرى شيئا.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ)

الظلمات هنا هي : الجهل والجهالة والشهوات ، وكل واحدة منها حجاب بين الإنسان وبين الحقيقة ، والله سبحانه هو الذي يزوّد الإنسان بنور الهداية ، ومستحيل أن يصل الإنسان الى الهداية من دون التوسل به.

(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)


قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)

____________________

٤٢ [البأساء والضراء] : البأساء من البأس والخوف ، والضراء من الضر ، وقد يكون البأساء من البؤس اي الفقر.

[يتضرعون] : التضرع التذلل.

٤٤ [مبلسون] : المبلس الشديد الحسرة ، وقيل المبلس المنقطع الحجة.


هكذا ترفع المآسي حجب الضلال

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكّرنا الله بأن النقص ليس في آيات الله ، بل في فهم الآيات والاهتداء عن طريقها الى الحقيقة ، وفي هذا الدرس يبين القرآن : كيف أن البشر قد تتطور حالته ، فيصلح جهاز الاستقبال عنده ، فيهتدي بهذه الآيات التي كان يفكر بها سابقا ، يهتدي بها ذاتها الى الله مما يدل :

أولا : على أن الخلل كان من عند البشر نفسه.

ثانيا : على أن الإنسان كان مخطئا تمام الخطأ حينما كفر بربه. ولكن متى تتطور حالة الإنسان؟

تتطور حالة الإنسان عند ما يواجه الحقيقة عارية ، وبلا غموض في حالات مواجهة شدائد الحياة ، هنالك يدعو الإنسان ربّه وينسى كل أولئك الشركاء المزعومين ، وأساسا الحكمة من بعض الشدائد التي تصيب الناس هي كشف


الحقائق لهم ، وإعادتهم الى فطرتهم التوحيدية النقيّة ، ولكن كثيرا من الأمم السابقة قست قلوبهم ، فلم تعد تتقبل حتى الصدمات القوية الآتية من الشدائد ، فلا يلبثون بعد انتهاء فترة المصيبة أن يعودوا الى عاداتهم السيئة ، وهناك يستدرجهم الله الجبار ببعض الرخاء حتى يفقدوا كل ما عندهم من وجدان وايمان وهناك يأتيهم العذاب المدمر ، الذي يقطع دابرهم وينهي حياتهم.

بينات من الآيات :

وتنسون ما تشركون :

[٤٠] جاء رجل الى الامام الصادق عليه السلام. يقول : يا ابن رسول الله دلني على ربي. فقال الامام : يا هذا هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، وهل انكسرت بك السفينة؟ قال : نعم قال : هل تعلق قلبك بشيء حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، فقال له الامام : ذلك هو الله.

في الحالات العادية ، تتراكم ظلمات الغفلة والتكبر والجهل حول فطرة البشر ، اما حين يجدّ الجد ، ويواجه الخطر الحقيقي ، آنئذ تنحسر الظلمات من حول القلب ، ويتوسل الإنسان بربه (الحق) دون غفلة أو تكبر أو جهل.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

عذاب الله المتمثل في الشدائد ، والساعة المتمثلة في الخطر.

ان كل واحد منا يمر بمثل هذه اللحظات الصعبة التي يكتشف فيها ربه ، ولكن بعضنا فقط يبقى يتذكر تلك اللحظات بعدئذ.

[٤١] نعم هناك يدعو الإنسان ربه ، ويستجيب الله دعاءه ، حينما تقتضي


الحكمة ذلك.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ)

يعني تدعون الله فقط دون غيره من الشركاء.

(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ)

حين تدعون الله وتتوسلون اليه لبلوغ الهدف.

(إِنْ شاءَ)

الله حسب حكمتة ينقذكم ، مما يدل على ان الله لا يحتمّ عليه الدعاء ، ولا يؤثر فيه ، بل برحمته وحسب حكمته يفعل ما يشاء.

(وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)

ما تشركون به من أهواء ، وقوى مادية شريرة ، فالإنسان يعبد أهواءه ، يعبد شهوة الراحة في ذاته ، شهوة النزوه ، والجنس والخلود ، ثم يزعم أن قوى الطاغوت توفر له هذه الشهوات ، فيعبد تلك القوى ويصنع لها رموزا مثل الأصنام وما أشبه ، وربما لذلك عبر القرآن الحكيم هنا بكلمة (ما) للدلالة على ان ما تشركون به الله هو من الأشياء التي لا تعقل! وهي تعود بالتالي الى شهوات الإنسان ، تلك الشهوات انما يخضع لها البشر ، ويخضع لمن يملكها لأنها ـ في زعمه ـ تنفعه ، وتحافظ على وجوده وكيانه ، وتحقق تطلعاته ، فإذا جد الجد عرف أن كل تلك الشهوات لا تنفعه شيئا ، وانما خالق البشر ومقدر أموره ومدبر شؤونه هو الذي يكشف ضره ، فينسى كل تلك الشهوات ويتوب الى الله سبحانه.

حكمة الشدائد :


من الشدائد البسيطة وحتى الآلام ، التي تصيب البشر هي توعيته بحقائق الأمور بدءا من الشدائد البسيطة وحتى الآلام وإلى أن يصل إلى العذاب فالساعة ، فمثلا الحكمة من الأحساس بالجوع هو التفتيش عن مصدر الغذاء ، والتحرك إليه ، ومن خلال الأحساس والتفتيش والتحرك تنفتح أمامك أبواب المعرفة ، ولو لم يكن البشر يحس بالجوع إذا لما كان يعرف جزء كبيرا من الحياة ، ولم يكن يعرف الزراعة والرّي والصيد .. إلخ ، وكلما كان حصول البشر على الغذاء أسهل كلما كانت معرفته بالحياة أقل ، والألم يجعلك تحس بالحياة بشكل أعمق من ذي قبل إنك لا تعرف أساسا موقع كبدك أو كليتك أو حتى قلبك إلا بعد أن يتألم هذا العضو أو ذاك ، وعندئذ تتحسس ليس فقط بوجود العضو ، وأنما بأهميته أيضا ، وتتشبث به أكثر.

أن المريض أشد تعلقا بالحياة ، وأرهف إحساسا بأهميتها من غيره ، والشدائد في الحياة تكشف نقاط ضعف الإنسان. سواء الفرد أو الامة ، مثلا. الهزيمة تكشف عيوب الامة أكثر مما يكشفه ألف كتاب وكتاب.

ولذلك يذكرنا القرآن هنا ، بأن الهدف من اصابة الإنسان بالمشاكل ، هو نفس الهدف من بعث الرسالات والرسل ، ان الهدف من الرسالة هي توعية الإنسان بحقيقة العبودية المطلقة التي يعيشها ، والتي هي في الواقع مفتاح صلاح الإنسان وقدرته ورفضه الخضوع للجبت والطاغوت ، وكذلك الهدف من الشدائد.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ)

بالشدائد الآتية من ظلم الناس لبعضهم.

(وَالضَّرَّاءِ)

بالشدائد التي مصدرها غضب الطبيعة. إنما أخذهم الله بذلك بعد بعث الرسل ،


وربما بسبب عدم انتفاعهم بالرسالات.

أما الهدف فقد كان :

(لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)

[٤٣] وبالرغم مما أخذهم الله به من العذاب فأن أولئك الذين قست قلوبهم ، ولم تستوعب دروس التجربة المرة ، عادوا بعد النكبة الى سابق أعمالهم وعاداتهم السيئة.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)

اي لماذا لم تلن قلوبهم ، ولم تعد الى حالتها العادية ، حيث تتأثر بالتجارب بعيدا عن نزوة الغرور ، وظلام التكبر.

(وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)

ولم تتفاعل مع الحياة ، وانغلقت على مفاهيم ثابتة جامدة وصخرية ، والسبب قد يكون هو التمحور حول الذات ، وعدم الالتفات الى الحق ، وحين تكون النقطة المركزية في حياة الإنسان هي ذاته ، تصبح حياته بعيدة عن التطور ذلك لأن كل عمل يقوم به الشخص يصبح حسنا لا بشيء ، وانما لأنه هو الذي عمله ، وحتى لو عمل هذا الشخص عملا من دون وعي ، فانه سوف يقدسه لأنّه صدر منه ، ونسب الى ذاته ، وهذا هو الذي يجعلك تحتفظ بالعادات السيئة ، فإذا بك متعصب لها لأنها من صنع ذاتك.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

ولكن على البشر أن يعرف : أن الأعمال السيئة ليست جزءا من ذاته ، ولا


تصبح كذلك حتى ولو صدرت هذه الأعمال منه ، لان الإنسان قد خلق في أحسن تقويم ، وانما الأعمال السيئة هي من عمل الشيطان ومن وحيه ، ومما يزينه للإنسان.

أشراط العذاب :

[٤٤] لقد أتم الله حجته على هذه الفئة ، أرسل إليهم رسالة ورسولا ، وأخذهم بالبأساء والضراء ليكون ذلك رسالة واقعية وعملية لهم ، ولكنهم لم ينتفعوا بواحدة من الحجتين .. وها هي ساعة العذاب ، فكيف يعذبهم الله؟

إن الله يمهّد للانتقام بفتح أبواب الرزق عليهم من كل صوب ، ثم حين يصلون الى مرحلة الإشباع التام ، ولا تبقى في قلوبهم ذرة من ايمان يأتيهم العذاب فجأة.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)

مما تصوروا انه خير لهم ، ولم يكن خيرا ، بل هو شر عظيم ، ففتح الله عليهم أبواب الطعام ، والجنس والشهرة ، لأنهم لم يتقيدوا بشيء اسمه دين أو ضمير أو نظام ، بل أخذوا يتمتعون بما في الحياة من دون قيد أو شرط. أسرفوا في كل ما هو لذيذ. طيبا كان أو خبيثا ، وأسرفوا في الجنس مشروعا كان أو شذوذا ، وأسرفوا في التظاهر بالصلاح أو الفساد ، ولكن الى متى تبقى موارد الطعام والجنس والشهرة ، وكم هي قدرة البشر على استيعابها؟! بالطبع أن هناك حدودا تنفذ عندها موارد الطبيعة ، وتنهك قدرة البشر على استيعابها ، وهي التي نسميها مرحلة الإشباع ، والتي تنعكس على النفس في حالة (الفرح) أي الشعور بالكمال والغنى والإشباع ، وعندها يكون السقوط المفاجئ.

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)

ويكون السقوط المفاجئ نتيجة تراكمات الإسراف الدائم ، ولكن لحظة


السقوط لا يشعر بها المغرور الفرح الا بعدئذ. لذلك عبر القرآن عن حالتهم : بأنهم كانوا آنئذ مبلسين ، وكانوا في ظلام دامس.

أن مثل الامة مثل الشاب الذي يسرف في ـ الطعام والشراب والجنس والبطش والفساد ـ ويستمر لفترة من الوقت حتى يشعر بأن كل لذائذ الدنيا في متناول يده ، وهو لا يدري أنّ أنواعا من المرض قد أحاطت بجسده ، وأن سحبا داكنة من حقد المظلومين ، وأنصار الحق تقترب منه ، وفي لحظة سوداء ، وربما وهو جالس على مائدة الشراب ، ولذائذ الطعام ، والى جانبه فتيات الحب ، وغلمان الشذوذ ، وهو في غمرة من الفرح والإشباع ، فاذا بالشرطة تداهم بيته ، وإذا به يشعر بأنواع الألم وهو في غياهب السجون ، وأذا به في موقع لعنة الناس جميعا ، وأخيرا يسلّم الى حبل المشنقة غير مأسوف عليه.

كذلك الامة التي تنفلت من قيود الدين والأخلاق ، وتعمل بالظلم والبطش وتسرف في كل شيء ، انها تشعر بالغرور والكبرياء ، ولكن في لحظة واحدة يهجم عليها عدوها فيهزمها شر هزيمة ويذيقها الأمرّين.

[٤٥] وحين تنتهي هذه الحولة ينحسر غبار المعركة عن أمة سادت ثم بادت ، ولم يبق منها سوى الذكر السيء.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وهذا الحمد ، هو حمد الناس حين يشعرون بأن كابوسا عظيما ارتفع عنهم ، وهو حمد الناس حين يعرفون أن رحمة الله هي التي أنقذتهم من هذا الكابوس بفضله العظيم.

ولو لا رحمة الله الذي أجرى هذه السنة الحكيمة أذا لبقيت الجماهير ترزح تحت نير الطغاة.


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)

____________________

٤٦ [يصدفون] : صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه ، والصدف والصدفة الجانب والناحية ، والصدف كل بناء مرتفع.


هل يستوي الأعمى والبصير

هدى من الآيات :

ان الله سبحانه خلق الحياة وجعل فيها الظلمات والنور ، والعذاب والمغفرة ، والشقاء والرفاه ، ثم اعطى البشر مصباح العقل ليهتدي به الى سبيل النور والمغفرة ، والرفاه ، وفي وسع ربنا القدير أن يسلب نعمة العقل ، فيتخبط البشر في سبل الحياة ، كما أنه قادر على أن ينزل عليه العذاب جهرة دون أن يملك البشر له ردّا.

ولكن الله برحمته الواسعة لم يكتف بنعمته العقل ، بل بعث أنبياء مبشرين ومنذرين ووعدوه بأنه ان آمن فان مصيبات الحياة لا تصيبه ، وإلا فان عذاب الله سوف يمسه ويشبع أحاسيسه ألما ورعبا.

وعند هذه النقطة تنتهي وظائف الأنبياء ، فأنهم لم يأتوا ليتخذوا قرارات بديلا عن الناس ، أو يكرهوا الناس على اتباع الحق ، أو ليوفّروا لهم الخير ، كلا. بل انما جاؤوا ليساعدوا الإنسان على الرؤية السليمة ، ثم يكون هو المسؤول عن ذاته. وعلاقة هذا الدرس بما مضى هو بيان أن : الضراعة الى الله لا تختص بحين نزول المصيبة ،


بل نحن بحاجة الى الضراعة الى الله في كل حال.

بينات من الآيات :

أسباب الهداية :

[٤٦] لكي نصل الى الغاية ـ أية غاية ـ لا بد ان يتوفر لدينا شرطان :

الاول : أن يكون أمامنا سبيل معبد ينتهي الى تلك الغاية.

والثاني : ان نملك الرؤية الكافية التي نكتشف بها ذلك السبيل ، والله هو الذي سنّ السنن ، وعبّد السبل أمام البشر للوصول الى اهدافه النبيلة ، وهو الذي زود الإنسان بالرؤية الكافية ، اما لو سلبه هذه الرؤية فأنه سوف يصطدم بالعقبات أو يقع في واد سحيق ، وليس فقط يضل الطريق.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)

السمع جاء مفردا في آيات القرآن. ربما لان ما يسمعه الإنسان أقرب الى العقل ، وأنسب الى المجردات والكليات. خصوصا إذا فسرنا السمع ب (الأقوال) التي نسمعها من الآخرين حول الحقائق ، بينما الأبصار جاء جمعا في القرآن ، ربما لان ما يراه الإنسان متنوع ومختلف ، وأقرب الى الواقعيات الخارجية.

وسواء ما يسمعه البشر وينقل اليه من تجارب الآخرين وعلومهم ، أو ما يراه بنفسه ويحصل عليه من علم وخبرة بصورة مباشرة ، فإنهما نافذتان الى القلب أو (الدماغ) فلو ختم الله على قلب البشر ، وأزال عنه مقاييسه العقلية ، ومسبّقاته الفطرية ، فما ذا يبقى عنده؟ انه سوف يفقد القدرة على تعقل الاحاسيس ، ويتجمد على ما يسمعه أو يراه دون أن يستنبط منهما حقائق جديدة ، أو يستدل بهما الى ما


ورائهما من حقائق وواقعيات. انه آنئذ يرى شعلة النار دون أن يعقل أن الشعلة نذير الحرارة ، والحرارة سبيل الاحتراق والانتشار ، وانها لا تنشأ بلا سبب ، وان الذي أشعل النار كانت له دوافعه وأهدافه. كلا .. إنه يرى الشعلة فقط ، وقد يقع فيها ويحترق. كذلك الذي يختم الله على قلبه. يقف في فهم الحقائق عند حد معيّن دون أن يصل الى الجذور البعيدة لها. يرى الفقر دون أن يعرف ان النظام الاقتصادي هو وراء الفقر. يرى المرض دون أن يعرف أن اللامبالاة في الوقاية هي السبب. يرى العجز الحضاري دون أن يهتدي الى ان الطاغوت هو السبب المباشر أو غير المباشر له ، وهكذا يبقى في العذاب أبدا.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ)

ان الله يبيّن الآيات بصورة تفصيليّة وواضحة ومع ذلك :

(ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)

أي أنهم بعد تصريف الآيات وبيانها تراهم يعرضون عنها كأنها لا تهمّهم.

بينما لو فكروا قليلا لأدركوا أن الإله الذي يتضرعون اليه عند ما تضرب سفينتهم الأمواج العاتية التي تحمل في طياتها الموت ، أو عند ما يلفهم التّيه في الصحراء ويستبد بهم خوف الموت ، ان هذا الإله هو الذي وفر لهم هذه الحياة الآمنة ، وأنه لو شاء لسلب الامان من حياتهم ، بل أن كلّ لحظة تمر بهم هي لحظة رعب ، ولو لا أمان الله القادر لسلب منهم رحمته ، وآنئذ يكون أبسط شيء في الحياة سببا في هلاكهم فلما ذا لا يتضرعون إلى ربهم في هذه الأوقات التي يزعمون إنها عادية؟!

[٤٧] أو تكون للإنسان أوقات عادية ، وأخرى استثنائية ، أو لا يحتمل البشر في


كل لحظة ـ أن يأتيه الموت ـ أو ينزّل عليه عذاب المرض أو المسكنة؟! ولماذا لا؟ أو ليست الحياة مليئة بهذه المفاجآت ، كم لحظة حملت معها رعبا ودمارا. ونحن لم نكن نحسب لها حسابا ، أو كنا نعرفها ولكن دون ان نستطيع مقاومتها ، فلما ذا الغرور إذا؟

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)

بغتة اي : مفأجاة ، مما يدل على ان علم الإنسان بالحياة علما محدود اما (جهرة) فتدل على العلن ، مما يدل على ان قدرة الإنسان محدودة حتى ولو كان بالغا وشاملا.

(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)

إذا كان عذاب الله لا مرد له ، بقدرتنا المحدودة ، اذن كيف نحصل على الامان؟

يجيب القرآن على هذا السؤال ويقول : ان الله حكيم لا يعذب عباده بلا سبب .. إنما يعذب الظالمين. فإذا أحببت تجنب عذاب الله ، فبإمكانك أن تعدل وتستقيم ، ولا تظلم نفسك ولا الآخرين ، حتى تحصل على الأمان.

مهمات الرسل وواجب الناس :

[٤٨] ثم ان الله لا يعذب الظالم مباشرة ودون أن ينذره مسبقا برسالة ورسول ، بيد أنّ البشر قد يخطأ في فهم دور الرسول ، فيزعم أن الرسول إنما يأتي ليكون مسئولا بدلا عنهم ، أو ليجبرهم على الهدى ، أو حتى ليؤمّن لهم عمليا كل وسائل السعادة ، بيد أن الله سبحانه يفنّد هذا الزعم قائلا :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)


والهدف من بعثهم هو توفير وسيلة الامان في النفوس وفي الواقع.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

لا خوف لهم من المستقبل. مما يدل على وجود حالة السلام في أنفس الذين يملكون الايمان والعمل الصالح ، ولا هم يحزنون من الماضي مما يدل على وجود السلام في الواقع الخارجي ، حيث لا يصيبهم ما يحزنون بسببه.

[٤٩] تعرضنا للبشارة ، أمّا الإنذار فيتلخص في عاقبة الذين يكذبون بآيات الله ، ولا يهتدون الى الحقائق بالرغم من وجود دلائل واضحة تدل عليها ، وهؤلاء مصيرهم العذاب.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

ولم يقل القرآن بما كانوا يكذبون ربما لأن التكذيب قد لا يكون وحده سببا للعذاب ، بل الفسق الذي ينتهي اليه التكذيب هو السبب المباشر للعذاب ، والفسق هو تجاوز احكام الله.

حكمة الرسالات :

[٥٠] الهدف من بعث الرسل ليس سلب المسؤولية عن الناس ، وإلقائها على عاتق الرسل ، كما كان يزعم البعض ، وقد تطرف فريق من الناس فزعموا أن أنبياء الله مكلفون بتوفير السعادة لهم والرفاه ، وأنه لو لم يكن النبي مالكا للذهب والفضة فسوف لا تكتمل نبوته ، بينما القرآن بيّن أن الهدف من بعث الرسل هو توفير الرؤية للإنسان ، وعن طريق الرؤية الواضحة يكون البشر قادرا على معرفة الطريق السليم ، وحين يسير فيه يصل الى الفلاح :


(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ)

ان خزائن الله موجودة في الأرض وفي الإنسان نفسه.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)

إلّا بقدر ما يعلّمني الله بحكمته ، بل العلم يحصل لكم بالتعلم وتزكية النفس.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)

حتى أقوم بالخارق للعادة الا في حدود تبليغ الرسالة ، فأنا بدوري محتاج الى الطعام والشراب وسوف أموت.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)

فما عندي هو من عند الله ، وذلك عن طريق الوحي ، فلو كنتم أنتم أيضا تستفيدون من ذلك الوحي. إذن لاصبحتم سعداء. ولاني اتبع ما يوحى إليّ فأني أسير في الحياة بصيرا ، فأعرف سنن الحياة وأتبعها ، فأسعد في الحياة.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)

ولأنه لا يستوي الأعمى والبصير ، فان نعمة البصر هي أفضل نعمة ، ومن أراد البصر فليتفكر ، فأن الفكر مرآة صافية.


وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)


حقيقة الايمان وميزات المؤمنين

هدى من الآيات :

من الذي يتقي ربه فيصبح صالحا؟ إنه الذي يوجه خوفه نحو المصدر الحقيقي للخوف وهو الله. حيث يحشر اليه الإنسان وحيدا ، دون أن ينفعه هنالك ما يتخذه من دونه أولياء ، أو شفعاء.

الا أن هناك رجالا يحجبهم عن الحقيقة التفاف البسطاء والفقراء حولها ، يقولون : إما أن يطرد هؤلاء أو لا نقبل بالحقيقة ، والقرآن نهى عن طرد أهل الحق لان ذلك ظلم ، علما بأن حساب كل واحد على نفسه.

ان الله امتحن الناس في الدنيا بأنواع التنافس ومنها أنه امتحنهم ببعضهم فاذا بالمؤمنين المسارعين الى الحق ينافسهم المستكبرون الذين يعادون الفقراء بصفة دائمة ، وبما أن المؤمنين يبادرون الى الايمان ، فان المستكبرين يتخذون ذلك ذريعة لعدم الايمان بالله ، وعلى الرسول أن يخفض جناح الرحمة للمؤمنين ، ويعدهم بالمغفرة.


هذه هي الآيات التي يفصّلها الله سبحانه لكي يتميز طريق المؤمنين عن طريق الكافرين.

بينات من الآيات :

أصحاب الرسالة :

[٥١] ان هناك شريحة خاصة في المجتمع هي التي تستجيب لرسالة السماء ، وهم الذين يخافون من العاقبة ، فعلى الرسول أن يفتش عنهم وينذرهم من عاقبة الضلالة دون النظر الى طبقتهم ، أو لونهم أو مستوى ثقافتهم.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)

هؤلاء الأولياء الذين يتخذهم البشر في الدنيا قادة ، ويحتمون الى ظلالهم لا ينفعونه في الآخرة شيئا ، كما أنه في الآخرة ليس هناك من يستطيع ان يفرض على الله سبحانه إرادته ، فلا شفيع من دون إذنه ، وما دام الله حكما مطلقا ، فيجب أن يخشاه البشر من بعد أن ينذر ، والهدف من الخوف ليس الجمود والانسحاب بل الهدف هو التقوى.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

وهو العمل الايجابي في سبيل الخلاص من العاقبة السوء في الآخرة.

[٥٢] والمؤمنون يشكلون حزبا واحدا مقياسه العمل الصالح ، من دون أثر للفوارق المادية فيه ، وعلى الرسول ان يكون علاقات مبدئية مع افراد هذا الحزب ، والّا يطرد واحدا منهم بأي اسم كان.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)


فما داموا متوجهين الى ربهم فان الاخطاء الصغيرة التي يرتكبونها بسبب عدم وضوح الرؤية عندهم ، أو عدم علمهم بالأحكام الشرعية فانها سوف .. تغتفر.

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

ان هذه الاخطاء البسيطة لا تسجل في حسابك أنت ، وليس لأحد ان يحاسبك عليها بمجرد أنك تقرّبهم إليك.

(فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)

ان طرد هؤلاء يعتبر ظلما لهم ، ولا يبرر هذا الطرد أن بعض المؤمنين القدماء أو بعض المتكبرين ينتقدونك أو حتى يبتعدون عن الدين بهذا السبب.

حقيقة الانتماء :

[٥٣] والتنافس بين الناس متجذر في فطرتهم حتى في الدين ، حيث يسعى كل فريق أن يكون هو الأقرب الى صاحب الرسالة ، وأن يكون الفريق الثاني الأبعد ، ولذلك فان كثيرا من الناس يبتعدون عن الدين فقط لهذا السبب ، لذلك حذر القرآن الحكيم من هذا الأمر وقال :

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا)

فكانوا هم السابقين الى اعتناق الدين الجديد؟!

ويجيب الله على هذا السؤال الذي يطفح بالاستنكار.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)

نعم ان الله منّ على هؤلاء بأن وفقهم لقبول الرسالة ، ولكن ليس عبثا ، بل لأنه


عرف أنهم أشكر من غيرهم لنعمة الرسالة ، وأي فرد كان شاكرا لله وعارفا بحق الرسالة فسوف يوفقه الله سبحانه أيضا.

[٥٤] ان انتماء البسطاء الى الرسالة لا يعني الغض عن سيئاتهم ، بل الإغماض عن تلك السوابق ، التي ارتكبوها بجهالة ، وقبل أن يصل مستوى وعيهم وايمانهم وتربيتهم حدا كافيا يردعهم عنها ، أما في المستقبل فليس عليهم التوبة فقط ، وانما إصلاح أنفسهم أيضا.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

أي انكم في أمان ، لا خوف عليكم.

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وهذه هي الرحمة التي كتبها الله على نفسه ، وهذا هو السلام ، فالإسلام يجبّ ما قبله ، ويبدأ الفرد معه حياة جديدة.

[٥٥] ومع العفو العام الذي تقتضيه هذه الرحمة الربانية الشاملة ، يتميز المجرمون المعاندون عن الجاهلين. حيث أن الفرد الذي يستمر في الخيانة والظّلم ، ولا يصلح نفسه بعد العفو العام فليستعد للعقوبة.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)

الذين يختارون طريقا غير طريق الله بعمد وسبق إصرار.


قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)


دور الرسل في مسيرة التوحيد

هدى من الآيات :

لكي لا يحجب التنافس الشخصي طائفة من الناس عن الايمان بالله ، أوضح الدرس السابق ، ان استقبال الرسول للمؤمنين المبادرين لا يجب ان يكون متأثرا بانتماء آتهم السابقة أو طبقتهم أو ما أشبه ، إنما بسبب الايمان وحده ، ولذلك فلا داعي للقلق ، وفي هذه الآيات بيّن في القرآن الحكيم : إن الدعوة إلى الرسالة ليست دعوة إلى شخص الرسول. إذ أن القيمة إنما هي للمبدء وحتى شخص الرسول شملته الدعوة كأي فرد آخر ، فهو قد نهي عن عبادة الشركاء ، وأنه لو اتبع أهواء الناس لأصبح ضالا ، وما عند الرسول إنما هو من عند الله ، والعقوبة التي يهدد بها الرسول أعداء الدين قادمة من عند الله ، والحاكم فيها هو الله الذي يوضح الحق ، ويفصل أهله عن أهل الباطل ، وذلك بحكمه الحاسم ، أما الرسول ذاته فهو أن كان مالكا للعقوبة ملكا ذاتيا وكان بشرا متفوقا على سائر البشر. إذا لأنزل العقوبة بأعدائه. كلا أنّ الله هو الذي يحكم وهو أعلم بالظالمين من سائر البشر.


بينات من الآيات :

من هو الرسول :

[٥٦] كأي بشر آخر نهاه الله عن عبادة الشركاء من دونه.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

والنهي عن عبادة هؤلاء يعني التمرد على سلطات الطاغوت المتمثلة في السلطان الجائر ، أو شيخ العشيرة الفاسد ، أو رئيس الحزب المتجبر ، وهكذا.

(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ)

اي لا اتبع الجبت أيضا.

(قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً)

حين أعبد الطاغوت أو أتبع الجبت.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)

آنئذ ، ذلك أن هداية الله للرسول ليست ذاتية ، بل قائمة بالله ، وهي تزول إذا انحرف الرسول ـ حاشا لله ـ عن الخط المستقيم.

اطار التحرك الرسالي :

[٥٧] ويتميز الرسول عن الكفار ، بأنه على بينة واضحة من ربه ، انه يعرف الطريق جيدا بينما أولئك ليس فقط لا يعرفون الطريق بل ويكذبون بذلك تكذيبا.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)


اما العقوبة فهي عند الله وأنتم تستعجلونها ، والله هو الذي يحكم بها لأنه يقصّ سبحانه الحق ، ويعلم لمن هو.

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)

ان الله يقص الحق ربما معناه : ان الله سبحانه يقسّم الحق الكلي العام على أقسام الحياة ، أو الموضوعات الخاصة المنفصلة عن بعضها ، والله سبحانه (خير الفاصلين) ربما معناه أن الله خير من يقضي لتطبيق الحق على الشخص المعين.

ولنضرب مثلا يقرب الى أذهاننا معنى الآية فالحق الكلي مثلا هو أن العدالة قيمة صحيحة ولكننا بحاجة الى قصّ هذا الحق ، وذلك بتقسيمه الى مختلف الموضوعات. مثل أن العدالة تقتضي إنزال العقوبة على من يظلم صاحبه ، ولكن من الذي ظلم صاحبه؟ هذا الأمر بحاجة الى فصل (يسمى بالقضاء) والله هو الذي يفصل ويحدد بالضبط من الذي ظلم ، ومن الذي وقع عليه الظلم.

[٥٨] إذا فالله هو الذي يملك العقوبة ، ويعلم الحكم ، وهو خير من يقضي ، أما الرسول فهو بشر لو لم يكن رسولا من الله ، وكان يملك العقوبات التي يهدد بها الأعداء. إذا كان يستخدمها عمليا في دحر الأعداء.

وهو حين لا يفعل فان ذلك يدل على أنه رسول متصل بالله ، وأنه لا يقول ولا يعمل شيئا إلّا بأذنه ، بل هو لا يملك شيئا من دون الله سبحانه.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)

فهو الذي يقضي بين العباد ويعاقب المتجاوزين على القانون ولست انا.


وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

____________________

٦٠ [جرحتم] : الجرح بالجارحة ، والاجتراح الاكتساب.


مفتاح الغيب بين العلم والقدرة

هدى من الآيات :

المستقبل عند الله ، وما ينفتح اليه عنده ، فهو الذي يخلقه حسب ما يشاء ، ويجري عليه سننه ولذلك فهو يعلم ماذا سيكون ، فاذا تحقق علم بأصوله وقواعده العامة والحكيمة ، كما علم بجزئياته الصغيرة ، فمن الورقة التي تذبل وتسقط ، الى الحبة التي تدفن في باطن الأرض يعلمها الله سبحانه ، بل كل شيء حيّ أو ميت. مسجل في كتاب مبين.

وعلم الله محيط بالحياة ، فهو الذي يسترد في الليالي روح الإنسان ، ويراقبه على أعماله في النهار حيث يبعثه ليستمر الى فترة محدودة ، فاذا انتهت يعود البشر الى الله حيث يخبره بما فعل.

وكما علم الله فكذلك قدرته محيطة بالعباد. انك من دون هذه القدرة التي تحيط بك وتحفظك من المهالك تتعرض لألف مشكلة ومشكلة. اما الموت فهو لا يحدث بعيدا عن قدرة الله بل عبرها ، فرسل الله هم الذين يتوفونك دون أن يخرجوا.


عن حدود الطاعة لله ، وتعود الى الله حيث يحاسبك على أعمالك وهو أسرع الحاسبين.

بينات من الآيات :

مظاهر علم الله :

[٥٩] للغيب (وهو المستقبل) مفاتح. أي سبل تؤدي اليه ، أو أسباب تحققه ، وكلها عند الله في قبضته وتحت هيمنته ، ولأن الله هو الذي يفتح الغيب يحققه ويخلقه فانه عالم به دون الخلائق لأنهم دون مستوى الخلق.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)

وإذا كانت مفاتح الغيب عند الله فكيف بحقائق الشهود ، أي التي تجري الآن في الواقع ، ان ربنا محيط بها علما.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

علما شهوديّا محيطا ، وربما نستطيع القول : أنّ الاحاطة بعلم الشهود هو أحد مفاتح الغيب الاساسية ، والمفتاح الثاني هو : القدرة على قهر الواقع كما يأتي في الآية التالية ، ولكن كيف العلم بالشهود مقدمة لفتح غيبه؟

الجواب : العلم بالجرثومة ـ مثلا ـ في جسد الإنسان طريق لمعرفة المرض ، والعلم بالفيتامين أو المضاد الحيوي طريق لمعرفة الدواء ، والعلم بالمرض وبالدواء طريق للسيطرة عليها ، ولصنع المستقبل وهو الغيب.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها)

أنها ورقة انتهى أجلها وسقطت ، ولكن علم الله محيط حتى بتلك اللحظة. لحظة


الموت والسقوط بالنسبة الى الورقة التافهة التي لا أهمية لها أبدا.

(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ)

إنها الحبة الصغيرة المستورة في الأرض التي لا يأبه بها أحد ، ولكن الله محيط بها علما.

(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ)

الرطب كالحبة النشيطة التي تنمو ، واليابس كالورقة التي سقطت. إن احاطة علم الله بالحبة وبالورقة الميتة أنما يعني علمه بابتداء كلّ شيء وانتهائه ، بيد ان علم الله ثابت ، ومسجل في كتاب واضح ومفصل.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

آيات قدرة الله :

[٦٠] ما هو النوم؟ وكيف يحدث؟

لا تزال معلوماتنا ناقصة في هذا الحقل ، الا ان المعلوم أنّ جزء من قدرتنا وحيويتنا نفقدها عند المنام ، والسؤال : هل نفقد ذلك أم أن قدرة عليا هي التي تنتزعها منا؟

بالطبع ان الله هو الذي يتوفى الأنفس ، أو بتعبير آخر يستعيد جزء مما وهبه للإنسان عند النوم ، وكلما وهبه له عند الموت. لأنه صاحب تلك القدرة العليا المهيمنة على كل جزء ، بل كل جزء من الحياة.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)


فسبحان من يملك ناصية الطبيعة ، يوجهها كيف يشاء.

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)

كل أثر يخلقه الإنسان بعمله يعلمه الله ، بالرغم من أن الإنسان نفسه ، قد لا يعلمه ، وكما أن الليل سكون ووفاة ، فان النهار تحرك وتعب. حيث يشعر الفرد بأن قواه تجددت واستعدت لتحقيق الاهداف.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى)

ستبقى دورة الليل والنهار مستمرة الى أجل مسمى يبلغه الفرد شاء أم أبى ، وهذا الأجل ينتهي الى الله.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)

وعند ما يعود الناس الى ربهم يستيقظون وكأنّهم كانوا في سبات ، بيد أن الشريط الرقيب قد سجل كل أحداث حياتك ، فيعاد عليك.

(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

[٦١] سبق القول : ان للغيب مفتاحين ، أحدهما العلم والثاني القدرة أو القهر ، والله عالم وقاهر.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

وقهر الله ليس كقهر العباد بعضهم لبعض مؤقتا ومحدودا ، إنما قهره دائم وشامل ومطلق ، وربما لذلك عبر الله عنه (فوق عباده) كما أن قهره انما هو (بالقوة) ولا يجب بالضرورة أن يكون (بالفعل) فالله بالرغم من أنه قاهر فهو رحيم ، ولذلك فهو لا


يستخدم قهره أحيانا كثيرة ، ومن هنا فلربما لو عبر القرآن ب (وهو القاهر عباده) كان المعنى مختلفا وناقصا. ان قهر الله ليس قهرا فعليّا ، بل قد يكون بالقوة فقط ، والدليل يكمن في أن الله سبحانه يحيط البشر بالحراس الذين يحفظونه.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً)

الغلاف الواقي الذي يحيط بالفضاء لكي لا تسقط نيازك السماء على رؤسنا ، والجبال الراسية التي تحفظ الأرض من أن تميد بأهلها ، والمحيطات الواسعة التي تمتص الغازات. كلها رسل الله الحفظة لعباده ، والغدد المنتشرة في جسم البشر التي تسبب توازنه ، وطريقة توزيع المواد ، ونظام مقاومة الميكروبات التي يقوم بها جنود الجسم ، والكريات البيض و.. و. ومئات الأنظمة الدقيقة التي تحرص على سلامة الجسم ـ كلها حفظة.

ولكن لا ينتهي حفظ الله للبشر على هذه الأمور. بل هناك آلاف الحوادث التي يتعرض لها الإنسان في حياته مما يحتمل ان تكون الواحدة منها كافية للقضاء عليه ، فقد يقع الإنسان من علوّ ، أو حتى يعثر في الطريق فيرتطم بالأرض ولو صادف واصطدم به حجرا اذن لقتل. وقد تنحرف سيارته بسبب الطبقة الثلجية يمينا أو يسارا لتصطدم بالسيارة الاخرى ، ولو زاد انحرافها لارتطمت بالجبل ، ولو كان انحرافها بعد كيلومتر لوقعت في الوادي لضيق الشارع ، ترى كم احتمالا للهلاك كان قائما انجاك الله منه بلطفه. إن حفظة الله هم الذين يحيطون بك ويدفعون عنك المهالك ، ولكن الى متى؟

الى حين موعدك ، حيث يصبح الحفظة أنفسهم قابضين لروحك.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا)


والسؤال الذي يقفز الى الذهن. أفلا يخطأ الحفظة ، فيقصرون أو يعجزون عن الحفظ حينا ، أو يتوفون الفرد قبل موعده؟

يجيب القرآن : كلا.

(وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)

فالله هو الذي يرسل حفظته ، ويحولهم الى قابضي أرواح ، فمن هو المولى الحق للإنسان؟ ومن هو القائد والمعين؟ أليس الله؟!

[٦٢] اننا سنعود اليه ليحاسبنا على هذه الفترة البسيطة التي أمهلنا فيها دون أن يهملنا.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ)

الحكم هو استعمال حق الولاية.

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)

أي القضاة الذين يقضون بالحق.


قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)

____________________

٦٣ [تضرعا] : معلنين الضراعة والتذلل.

[خفية] : مسرّين بالدعاء.

٦٥ [يلبسكم] : لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه ، وخلطت بعضه ببعض ، ولبست الثوب ألبسه ، واللبس اختلاط الأمر واختلاط الكلام ، ولابست الأمر خالطته.

[شيعا] : الشيع الفرق ، وكل فرقة شيعة على حدة ، وشيعت فلانا اتبعته ، والتشيع هو الاتباع.


عند لحظات الخطر حجة الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة. بين القرآن جوانب من هيمنة الله على الكون ، والبشر بالذات ليزداد الإنسان معرفة بربه ، وحبا له ، وتقربا اليه ، ويستجيب بإرادته الحرة لواقع الولاية الحق التي تنتشر في الحياة وفي أنفسنا آياتها وعلائمها.

وتتابع الآيات في هذا الدرس في ذات الموضوع من زاوية فطرية يعيشها كل منا في حياته ، وذلك عند ما ترتفع غشاوة الكبر والغفلة ، ويتحسس الإنسان بالخطر فيصبح آنئذ أقرب الى الحقيقة.

ولكن متى نشعر بالأمان المطلق. أو لسنا في لحظة الأمان يساورنا الخوف من تجدد ظروف الخطر ، أو ليس الله الذي ندعوه عند ما تحيط بنا ظلمات البر والبحر ، وندعوه تضرعا وخفية ، ودون رياء قادرا على ان ينزل علينا عذابا من السماء أو الأرض ، أو حتى من أفراد البشر إذا لماذا ندعو الله فقط في أوقات الكرب الظاهر ، ولا ندعوه في كل حالة ما دامت كل لحظة تحمل في طياتها مخاوف كروب


عظيمة؟!

ولكنّ فهم هذه الحقيقة بحاجة الى فقه ومعرفة عميقة بالحقيقة.

بينات من الآيات :

مع الله :

[٦٣] اصطدمت سيارتنا بأخرى في طريق صحراوي بعيد .. والوقت بعد منتصف الليل والسحب المتراكمة حجبت ومضات النور المنبعثة عن النجوم ، وأخي قطعت ذراعه ، وأخذ الدم يتفجر منه كالميزاب ، بعضنا أخذ يحاول إيقاف الدم النازف ، والبعض الآخر أخذ يتطلع في الظلام لعله يبشر بمرور سيارة. ولكن لا شيء نستطيع فعله ولا ندري هل تأتي سيارة أم لا؟ الكل حبس أنفاسه في صدره ، ويكاد لا يتكلم إلا همسا. القلوب تحلق في فضاء آخر ، اتّصلت بعالم آخر بالله القادر على أن يرسل من عالم الغيب سيارة أو يلهمنا طريقة ما لوقف الدم.

فجأة يعلو صراخ : حبل. حبل. صاحب الجرح النازف يدعو رفاقه بجلب الحبل ، ثم يأمر بشدّه فوق جرحه .. بشدة ، ثم ينقطع الدم الا قليلا ، ومن وراء الأكمة يشع الفضاء بنور خافت ، ثم ينكشف هذا النور عن سيارة ، وسرعان ما نحمل جريحنا الى أقرب مركز للطوارئ ، وتنتهي الأزمة ، ويتبين بعدئذ أن خبرا خاطئا دعا سيارة النجدة التي قدمت ان تسرع الى المنطقة ، ولولاها لما جاءت ، وبالتالي تبيّن أن يدا غيبية هي التي دفعتها الى هذا الطريق. ترى كيف كنا نعيش في تلك اللحظة ، ما الذي كنا نقوله لله في مناجاتنا الخفية؟

كنا نقول لربنا : فرّج كربنا يا ربنا. فسوف تجد ايّ عباد شاكرين سنكون نحن ، سنترك الذنوب مرة واحدة ، ولا نظلم الناس ، ونتصدق بأموالنا في سبيلك. يا رب يا رب يا رب! كنا نشعر آنئذ بأننا عباد ضعفاء لا نملك لأنفسنا شيئا ، والله رب


قوي رحيم ، مالك لكل شيء.

ان هذه القصة غير الواقعية هي حقيقة تقع بأشكال مختلفة لكل واحد منا ، ولكنه سرعان ما ينساها ، والله سبحانه يذكرنا بها في هذه الآية قائلا :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

حين تكاد الأمواج العاتية ابتلاع قارب الصيد الذي نمتطيه .. ولا أمل الا بالله.

(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)

بسبب شدة الخوف نقول لربنا آنئذ :

(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

[٦٤] (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)

حيث اننا مستعدون بعدئذ لأن ننسب خلاصنا حتى الى الصدفة دون أن نذكر أن الله هو الذي أنقذنا ، وسوف نشكر سيارة النجدة ، ونشكر الطريق المعبد ، ونشكر حتى مبضع الجرّاح دون أن نشكر ربنا الذي كان المنقذ الحقيقي ، والذي توسلنا إليه حين اشتد بنا الكرب.

احتمال عودة الخطر :

[٦٥] ولكن هل انتهى الخطر .. أفلا نعود الى ذات المشكلة ، أو لا يمكن ان يهبط علينا عذاب ، من السماء أو الأرض .. فمثلا هل نأمن ان ينفجر البر كان قريبا من قريتنا فيقذفنا بحمم ، أو يزلزل الأرض بنا فتخسف بنا وبما نملكه.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)


وهناك خطر آخر وأشد هو خطر الناس بعضهم ضد بعض ، حيث يختلفون على بعضهم.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)

كم دمرت الحروب البلاد ، وأجرت أنهر الدم. هل كان يستطيع هذا الفريق أو ذاك النجاة من ويلاتها؟! ان الله هو القادر على اقامة الصلح العادل أو إلقاء الرعب المتبادل في نفوس المتخاصمين لئلا يبادر أحدهما بالهجوم على الآخرين حتى يأذن الله بغير ذلك.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)

ان الله يوضح آياته حتى لا يكون البشر سطحيا ينظر الى ظواهر الحوادث بل يتعمق الى أغوارها البعيدة ، ويبقى على البشر أن يتذكر بتلك الآيات.


وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)


مواقف الناس من آيات الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة حدثنا القرآن الحكيم عن مجموعة من الآيات ، وفي هذا الدرس يبين اختلاف الناس في موافقهم من هذه الآيات ، وهو موقف الرفض أو اللامبالاة أو الاستجابة ، فهناك من يكذب بالحق من قوم الرسول ، بيد أن الرسول لن يغني عنهم شيئا بحجة أنهم قومه ، أما الحق فأنه إذا جاء موعد تطبيقه في المستقبل فسوف يعلم الناس ماذا يعني وما هي أهميته.

ومن الناس من يتخذ آيات الله هزوا يتسلى بها دون أن يتخذها ويعمل بها. هؤلاء يجب التباعد عنهم لأنهم قوم ظالمون ، وقد ينخدع الإنسان الساذج بمظهرهم حيث يتظاهرون بأنهم لا يخالفون الحق ، وآنئذ يجب أن يقرر ألّا يعود الى القعود معهم.

ومنهم من يستجيب للحق ، ويتقي الله وهم السعداء الذين سوف يغفر الله لهم.


بينات من الآيات :

التكذيب والمسؤولية :

[٦٦] للإنسان امام الحق ثلاثة مواقف. موقف الاستجابة أو الرفض أو اللامبالاة ، وفي هذه الآية يناقش القرآن الموقف الثاني فيقول :

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)

فالإنسان نفسه هو المسؤول المباشر عن قبوله أو رفضه للحق وليس مبلّغ رسالة الحق ، والواقع أن علم الإنسان بمسؤوليته أمام تصرفاته سوف يساعده كثيرا على اتخاذ الموقف السليم ، أما لو زعم أن بإمكانه أن يبرر موقفه ، ويلقي بمسؤوليته على هذا أو ذاك ، فأنه سيكون سببا لعدم الاهتمام بالحق.

[٦٧] والقرآن يهدد المكذبين بما يرونه في المستقبل. حيث يتجلى الحق في شكل واقع قائم ويقول : ان النبأ الذي عبّر عنه الله وهو الحق سيتحقق في الوقت المحدد له سلفا ، وآنئذ يعلم الإنسان كم خسر بتكذيبه بالنبإ. ان الدكتور يخبرك بوجود خلية فاسدة في رجلك ويأمرك بالاسراع في العلاج ، ولكنك قد تكذبه فيتخذ المرض خطّه المتصاعد ، فينتشر السرطان في الجسد في الوقت المحدد له حسب سنة الحياة ، وأنظمة الجسم وآنئذ يعلم الإنسان مدى خطئه عند ما كذب بالنبإ ، كذلك رسالة الله مجموعة أنباء صادقة ، ولها أوقاتها المحددة (مستقرها) التي تتحقق فيها ، وانئذ يعلم المكذب حقيقة الأمر.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

تمييع الأحكام :

[٦٨] والموقف الثاني من الحق وهو موقف اللامبالاة ، واستخدام الآيات مادة


للحديث اللامسؤول ، أو حتى للتسلية.

وهؤلاء أخطر من المكذبين إذ أنهم يميّعون الحق ، ويفرغون الحديث من محتواه الحقيقي ، ويحولونه الى مادة للجدل ، وقضاء للوقت ، والمباراة وإظهار الوجود ، وبذلك يغيرون نظرة الإنسان الى الكلام من نظرة عبرية هدفها العمل ، الى نظرة ذاتية هدفها التسلية ، ولذلك يجب مقاطعة مجالس هؤلاء وعدم الخوض معهم في جدلياتهم الفارغة ، وتركهم وحدهم يأكل بعضهم بعضا.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)

ولكن كثيرا ما ينسى الإنسان هذا الحكم بسبب تظاهر هذه الفئة بالعلمانية وأنهم إنما يبحثون عن الحقيقة بهذه الجدليات. لذلك ذكرنا القرآن بخطورة النسيان قال :

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

لقد سمّى الله هؤلاء بالظالمين بالرغم من تظاهرهم بالبحث عن الحقيقة. لأن من يبحث عن الحق فعلا سيجده من دون تعب ولا حاجة إلى الجدال.

الموقف السليم :

[٦٩] أما الموقف السليم من الحق فهو : الاستجابة له عمليا ، وهي التقوى ، واحترام الحق الذي نبأ به الله ، وحينئذ يكون خط المتقي سليما في اتجاهه العام بالرغم من بعض الانحرافات البسيطة ، أو بعض الاخطاء التكتيكية ، ومع سلامة الخط العام لا يحاسب الشخص بشيء من اخطأ البسيطة.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)


وهدف الوحي من هؤلاء هو إيصالهم الى مستوى التقوى ، وابقاؤهم على هذا المستوى ، وذلك عن طريق تذكرهم المستمر حتى لا يغلبهم نعاس النسيان ، أو سكر الغفلة.

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)


وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ

____________________

٧٠ [تبسل] : يقال أبسلته بجريرته أي أسلمته بها ، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ، وهذا بسل عليك أي حرام عليك ، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل اي حرم الثواب ، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر ، والبسل هو الممنوع منه بالقهر.


هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

____________________

٧١ [استهوته] : حملته على اتباع الهوى.

[حيران] : المتردد في امر لا يهتدي الى الخروج منه.


أسباب حيرة المبلسين

هدى من الآيات :

فيما مضى سبق القول في ان وجود الآيات في الكون وظهورها لا يكفي لهداية البشر ، إذ لا بد أن يكون جهاز الإدراك عنده سليما فمثلا لو اتخذ الفرد دينه لعبا ولهوا فكم تستطيع الآيات ان تكون نافعة له .. لا شيء ، هؤلاء هم الذين أبسلت أنفسهم ، بما كسبت من سيئات ، وحجبت الشهوات نور عقولهم ، فلا تنفعهم الموعظة بل يجب تركهم الى حين بلوغهم جزائهم عند الله. حيث يعذبون بشراب من حميم ، وعذاب أليم. جزاء ما طعموا من الشهوات الحرام ، وبما كفروا بالرسالة.

وقد يبلغ حال الواحد منهم وضعا مزريا حيث يتخذ من دون الله أربابا ـ هم أصحاب المال والزينة ـ ويترك هدى الله ، ويكون مثله كمن اخترق الصحراء مع أصحابه ، ولكنه ابتلي بالشياطين ، وفقد وعيه ، وأخذ يدور من دون فهم ويتبع الشياطين ويترك الصراط المستقيم ، والتسليم لله رب العالمين.


بينات من الآيات :

موقفنا منهم :

[٧٠] اننا كبشر نشعر بفطرتنا النقية. أن الطعام والجنس والراحة كلها وسائل للإبقاء على الحياة ، أما هدف الحياة فهو شيء آخر ، قد نختلف في تحديده تبعا لاختلاف ثقافتنا ، ولكننا نكاد لا نختلف في أصله ، بيد أن هناك من يتخذ دينه وهدفه الشهوات ، ويزعم أن اللذة هي الهدف الأساسي من الحياة ، أما الدين الحق فيتخذه لعبا يفسره كيف تشاء شهواته ، ولهوا يتسلى بطقوسه ، أو بالحديث حوله ، أما إذا جدّ الجدّ فأنه يتبرأ من الدين ، وموقف المؤمن من هؤلاء هو المقاطعة.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)

وإنما يهبط البشر الى هذا الحضيض بسبب تورطه في الشهوات ، وتعوده على اللذات والراحة والكسل ، حيث أبسلت نفسه.

والخلاص الوحيد من ظلمات الجهل والعادة هو التذكر المستمر الذي هو بمثابة حزمة نور ، تخرق حجاب العادة الى القلب.

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ)

أما إذا أبسلت النفس فأن الله سبحانه سوف يلعنها ، ولا يقبل منها شفيعا ، وليس لها ولي من دونه.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها)

ان العدل لا يقبل من هذه النفس التي أبسلت ، وهذا هو مصير الذين أحاطت بهم ذنوبهم التي اكتسبوها.


(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا)

مصيرهم في الدنيا ظلمات في قلوبهم ، أما في الآخرة ف :

(لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)

بآيات الله ، ويتخذونها لعبا ولهوا. إذ أنّ الذنوب سبب ظلمات القلب ، وهي سبب الكفر ، والكفر يؤدي الى النار.

[٧١] وهناك فئة ضالة قد اتخذت أربابا من دون الله ، والتزمت بطقوس لم ينزل الله بها سلطانا ، وربما تكون هذه الفئة هي امتداد نوعي للفئة الاولى ، إذ حين يكتسب الفرد السيئات ، ويحتجب عنه نور العقل تتحول فطرة التدين عند هذا الشخص الى الأرباب التي تعبد من دون الله ، فيزعم صاحبها أن تلك الأرباب هي تطبيق لفطرة الايمان التي يشعر بها ، وربما لذلك ذكر القرآن هذه الفئة بعد تلك الفئة قائلا :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا)

لماذا يعبد البشر شيئا لا يضر ولا ينفع ما دام لا يمثل الحق ، ولماذا يتقيد به إذا ، ويخضع له؟!

وما هي المنفعة من وراء ذلك؟! انه ليس الارادة في مسيرة البشر ، ومسخ لطبيعته الحرة الكريمة.

(وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ)

وهداية الله تتمثل :

أولا : في الهداية الفطرية.


ثانيا : في هداية الرسل.

وكثيرا من النّاس ينحرفون بعد الهداية الفطرية ، أما بعد الهداية الرسالية فان الانحراف ضلالة كبري يشبهها القرآن الحكيم بالذي يسير في الصحراء ، ثم يضل السبيل بسبب تضليل الشياطين له ، حيث يدلّونه على الطرق المنحرفة ، وفي هذا الوقت يجد الرجل من يدعوه الى الهدى ، متمثلا في أصحابه الذين يدعونه الى السبيل القويم الذي يسيرون فيه ، فانه لو لم يقبل نصيحة أصحابه فسوف لا تكون لديه أية حجة في البقاء في الضلالة ، إذ أن أصحابه قد أتموا عليه الحجة ووفروا له فرصة الخلاص من استهواء الشياطين.

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا)

هذا الرجل يشبه الإنسان في تيه الحياة ، وقد أحاطت به شياطين الشهوات ، وأضلوه عن سواء السبيل ، وحجبوا فطرته النقية بركام من الخرافات الباطلة ، ثم جاءه هدى الله مساعدا لفطرته ، موضحا له سبيل الهداية.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى)

وعلينا ان نتبع سبيل الله ، ونسلم له الذي أسلمت له السموات والأرض.

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

الصلاة معراج المؤمن :

[٧٢] ولكي نتبعه ، ونخضع له ونسلم ، فعلينا ان نقيم الصلاة نصليها بخضوع وخشوع ، ونديم عليها مع العمل بضروراتها ، في حياتنا الاجتماعية ، ومن ضروراتها


التقوى إذ ان الصلاة معراج المؤمن وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن شروط إقامتها الانتهاء فعلا عن الفحشاء والمنكر ، كما أن الخوف من الآخرة حين يحشر الفرد الى ربه واحدة من فوائد الصلاة المهمة.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

ارادة الله بين الكاف والنون :

[٧٣] والله الذي يجب التسليم له ، هو الذي يمثل الحق ، والحق يعني ان هناك واقعيات قائمة خارج الفكر ، وأنها تدار بأنظمة ثابتة ، وأن على الإنسان أن يسعى من أجل توفيق نفسه ، وتطبيق أعماله على أساس الحق ، ولكن دون أن يزعم أن هذه الانظمة هي آلهة ، فيعبدها كما يعبد الغرب اليوم أنظمة الحياة القائمة .. كلا .. عليه أن يعرف : أن فوق الحق إرادة الله التي تخلق ما تشاء بكلمة واحده هي (كن) فليعبد الله الذي له ملك الحياة الآن ومستقبلا ، وهو الذي يجازي الناس على أعمالهم ، وهو العالم بالغيب (المستقبل والماضي) والعالم بالشهادة ، فعلمه بالحقائق القائمة ، علم شامل ماذا كانت سابقا ، وماذا تكون عليه مستقبلا.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ)

لأنه بقوله هذا خلق الأشياء ، وأجرى فيها الأنظمة ، وبقوله تطمئن الحياة ، وتستمر وفق الأنظمة.

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

فمن أولى به معبودا نسلم له الأمور.؟


وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)

____________________

٧٦ [أفل] : غاب.

[بازغا] : البزوغ الطلوع ، يقال بزغت الشمس إذا طلعت.


الشك المنهجي طريق الى اليقين

هدى من الآيات :

كيف يتدرج الإنسان في مراحل الايمان؟

يبدأ الإنسان رحلته الايمانية ابتداء من نقطة الشك ، وعدم الثقة المطلقة بما يتخيله هذا أو ذاك من أفكار أو أهواء.

والشك يرفع عن بصيرة الفرد حجاب الأفكار المسبقة ، ويحرك فكره ويضيء عقله ، فيرى بذاته ما وراء السموات والأرض من علم وقدرة وحكمة ، وبذلك يهتدي بأذن الله الى الحق فيصبح موفقا.

العقل يهدي الفرد الى أنّ الإله لن يكون متغيرا ، وأنه فوق القوى ، وأن لا سلطان على سلطانه ، وحين يرى الفرد الكواكب والقمر والشمس كل يأفل عند ما يصل وقت أفوله يتيقن أن كل أولئك ليسوا بآلهة.

ومن خلال التطلع الى الظواهر الكونية والايمان بأنها لا تصلح أن تكون آلهة


عرف إبراهيم حقائق أخرى منها : أن الذي يهديك الى الله هو الله ذاته ، وأن ما لا يصلح أن يكون إلها لا يصلح أن يكون نصف اله ، وأن يشرك به شيئا ، ولذلك يجب رفض جميع الآلهة إلّا الله.

بينات من الآيات :

نعم للاحترام لا للعبودية :

[٧٤] من دون تضحية لا تبلغ الحقائق ، والعلم كأي مكسب آخر بحاجة الى جهد بل الى جهاد وتحد ، أن البشر معرض لأن تستعبده القوى الطاغوتية أو الطبيعية ، لذلك يبدأ البشر تحرره بالتحرر العقائدي ، وإبراهيم كأي شخص آخر في مجتمع الجاهلية قد عرّض لعبودية الطاغوت ، ولكنه رفضها وتحداها ، ان الطاغوت يصنع جوا فكريا في المجتمع ، يؤيده ويبرر اخطاءه ، وهذا الجو يضغط على الإنسان من خلال تعامله مع أقرب الناس اليه ، أي من والديه ومربيه الذين يغذونه بالأفكار الباطلة ، ويدّعون أنهم محترمون ، ولذلك فأن أفكارهم يجب أن تحترم هي الاخرى ، وإبراهيم كمثل أعلى للثوري الرسالي رفض هذه الأفكار ، وصرخ هاتفا الاحترام للوالد نعم. اما للعبودية فلا ..

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً)

لم يقل هذا الكلام الفضّ لأخيه الأصغر منه ، أو لرفيقه أو لزميله ، كلا .. لأن الضغط الذي كان يمارسه عليه المجتمع انما كان بسبب أبيه آزر.

وآزر لم يلد إبراهيم ، بل هو عمه الذي ربّاه ، فخاطبه إبراهيم بالأبوة ، وذكره القرآن ليذكّرنا بأن الايمان يبدأ من رفض الخضوع لاقوى سلطة اجتماعية على الفرد ، وهي سلطة المربي والكفيل ، ثم أعقب إبراهيم رفضه لأبيه برفضه لسلطة المجتمع الجاهلي وقال :


(إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

ان الخوف من المجتمع لا يدعك تفهم الحقائق ، لأنك آنئذ لا تشكّك نفسك بتلك الأفكار الباطلة ، فتستمر عليها ، ولذلك تجد الناس عادة يؤمنون بأفكار مجتمعهم ، حتى قيل : بأن المجتمع صنم الفرد ، حتى أن بعضهم آمن بالحتمية الاجتماعية ، لذلك فعليك ان تتشبع بالثقة بذاتك حتى تتحدى الناس جميعا.

كيف نحصل على اليقين؟

[٧٥] حين تخلص إبراهيم من ضغط مجتمعة أراه الله ملكوت السموات والأرض المتمثلة في فهم تلك القوة التي تملكها وتدبرها.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)

اي ليخرج من الشك الي اليقين. ان الذي أوتي قدرة الشك قادر على أن يصل بأذن الله الى ذروة اليقين ، والشك لا يختص بالمجتمع ، أو بالمربي ، بل وأيضا بالأفكار السابقة والخاطئة التي يزعم الفرد انها صحيحة في بعض مراحل حياته ، كما نرى إبراهيم عليه السلام كانت له الشجاعة الكافية برفض أفكار مجتمعة السابقة كما نرى لاحقا.

[٧٦] حين يهيمن الظلام على الكون يبحث الفرد عن أي نور ، فيرى الكوكب فيزعم أنه اله لأنه أنقذه من ظلام دامس ، وهذه العقيدة العاجلة قد تكون نتيجة هيبة الظلام ، والخشية منه.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي)

وقد يكون هذا رمزا لحالة الشك ، التي تزعج البشر ، فيبحث عن مخلص له منه ،


فيتعجل بقبول أي ومضة نور تخلّصه من حالة الشك ، فاذا به يعتقد بأول فرضيه تطرء على ذهنه أو تبرق أمام عينه ، ولكن وجود الفرضيات الباطلة عند الفرد ليس عيبا ، انما العيب هو أن يستمر عليها بعد أن تثبت عنده أنها باطلة ، وإبراهيم عليه السلام كانت له هذه الشجاعة أن يكفر بأفكاره السابقة.

الفطرة هي الدليل :

ان الفرضيات الباطلة قد يكون بطلانها واضح بدرجة أن ردها لا يحتاج الى دليل ، بل يكفي أن تراجع فطرتك لتوضح لك بطلانها ، لذلك قال إبراهيم عليه السلام بعد أن افل الكوكب أني لا أحبه.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)

الحب هو الفطرة النقية قبل أن يصبح فكرة مستدلة متكاملة ، وحين تكون علاقة البشر بربه علاقة الحب ، حيث يحبّ البشر ربه بصورة طبيعية. ما دام ربه سبحانه قد أغذق عليه نعمة ظاهرة وباطنة فيكون عدم وجود هذا الحب بالنسبة الى الكوكب دليلا على أنه ليس بآلهة حتما! لان الله ينعم على البشر ليلا نهارا ، أما الكوكب فانه يأفل نهارا.

ومن المعلوم ان بعض الناس لا يزالون يعبدون النجوم ، ويزعمون انها ذات أثر فعال في مصير الإنسان ، وقد كان عمل إبراهيم ردا صارخا لمثل هؤلاء الذين كانوا موجودين آنئذ.

[٧٧] وانتظر إبراهيم على مضض من شكه ، وتوتر من قلبه ، ثم انتظر هذه المرة فترة أطول حتى بزغ القمر ، وأعجبه ذلك النور الهادىء الذي ينساب على الطبيعة بعفوية وسخاء. فقال : هذا ربي.


(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي)

وربما كان بزوغ القمر هو السبب في عدم رفضه للقمر ، وقد يكون تعلق إبراهيم ظاهرا بالقمر رمزا للفرضية الباطلة التي هي ليست إلّا مجرد ضغط حالة الشك ، وعذاب الفراغ الفكري.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)

بعد فشله الثاني في فهم الحقيقة قلّل إبراهيم (ع) من ثقته المطلقة بفكره ، وتوكل على الله ، ذلك أن هذه الثقة مفيدة في مرحلة الشك ، ورفض الأفكار التي يريد الآخرون فرضها عليه. أما بعدئذ فقد يكون لها مردود سلبي.

بك عرفتك :

اما كيف أدرك إبراهيم عليه السلام أن القوة التي يجب انتظار دعمها للإنسان وهو يبحث عن الحقيقة هي قوة الله ، وهذه قضية هامة؟

ان فطرة الإنسان تهديه الى وجود سنن ونظم في هذا الكون المهيب ، وأن الطبيعة تسير وفق نظام. الشمس والقمر والنجوم كلها تسير وفق خطة مرسومة. من الذي يهدي الشمس الى مسيرتها ، والقمر الى فلكه ، والنجوم الى مراسيها؟ انه الله. انه خالقها ، إذا فعلينا نحن أيضا ان نبحث عن الهدى هنالك عند الله ، لا سيما في موضوع الإله. إذ قد يكون (وهذا واقع فعلا) البشر عاجزا عن معرفة ربه ، ولكن ربه سبحانه ليس بعاجز عن تعريف ذاته له.

ومن جهة اخرى : حين تكرر تجربة الإنسان الفاشلة في الوصول الى الحقيقة ، تعتريه حالة اليأس ويقول : أنا أقل من أن أعرف الحقيقة ، فلما ذا البحث؟!


وهذا اليأس هو أخطر عدو للبحث ، وهو وراء أكثر من نصف الجهل الموجود لدى الناس ، واليأس لا يزول الا بالتوكل على الله ، لذلك قال إبراهيم (ع) وهو يعاني من صدمة الفشل :

(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)

[٧٨] إذا كان جمال القمر قد دفع إبراهيم (ع) الى اتخاذه إلها مؤقتا فأن كبر الشمس وضخامتها ، بالاضافة الى جمالها دفعه هذه المرة الى مثل ذلك.

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ)

وكانت صدمة الفشل الهائلة والمتكررة حيث اختفت الشمس العملاقة وراء الأفق. هذه الصدمة نقلت إبراهيم من واد لواد آخر ، من وادي مجتمعة الى رحاب الحقيقة.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

فتجعلون الشمس وهي خلق مما خلق الله شريكة لرب العالمين ، بينما شريك الألوهية يجب أن يكون قادرا حرا مريدا ما يشاء ، والشمس مسخرة بأمر ربها ، لا تستطيع ان تخالف امر الله في الطلوع والغروب.

التسليم المطلق .. المرحلة الاخيرة :

[٧٩] ترك إبراهيم (ع) الخلق واستقبل بوجهه الخالق ، ترك الطبيعة الى مسخرها ومدبر أمرها ، وقال :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ)

اي اتخذت الله طريقا ، ومرضاته هدفا.


(لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

خلقها وحدد مسارها ، ورسم حدودها ، وأظهر بذلك هيمنته التامة عليها.

وحين عبد إبراهيم ربه كفر بكل الشركاء ، ورفض الأنداد جميعا وكان : ـ

(حَنِيفاً)

مائلا عما اعتمده الناس متمردا على عاداتهم وتقاليدهم ، وسلّم أموره جميعا الى الله رافضا الانتماء الى المجتمع الكافر وقال : ـ

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)


وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)


هكذا يتحدى الايمان الخالص

هدى من الآيات :

بعد المعاناة الشخصية ، وبعد الشك البريء الذي انتهى بإبراهيم عليه السّلام الى الاهتداء الى ربه بدء الصراع بينه وبين قومه حيث حذروه مغبة الكفر بالآلهة ، فردهم ببساطة : إن الخوف انما هو من الله ، لا من القوى المخلوقة له سبحانه. إذ أن تلك القوى تقع ضمن دائرة إذن الله وعلمه ، وأمرهم بأن يعودوا الى فطرتهم ليتذكروا الحقيقة ، وبيّن لهم أنّ حذرهم واحتياطهم من الآلهة لا معنى له. إذ لو لم ينزل الله حجة واضحة بالسماح بطاعة أحد ، فانه سيعاقب من يطيع غيره ، وعقابه أشد وأبقى مما يخافه الإنسان على نفسه من ضرر الآلهة ، إذا الحذر من الآلهة يقابل بحذر أكبر من الله لو قبلنا بها من دون اذنه.

وانما الأمن لمن أرضى ربه ولم يخلط ايمانه بشرك ، لأن هذا الشخص قد اهتدى الى الطريق السليم ، بيد أن فهم هذه الحقيقة ليس في وسع البشر. إنما الله سبحانه هو الذي يهدي إليها من يشاء ليرفع درجته ، وهو الذي لا يفعل ذلك الا حسب علمه


بالفرد ، وحكمته البالغة بأنّه يصلح للهداية ويستحقها.

بينات من الآيات :

مسئولية الهداية :

[٨٠] بعد رحلة الايمان ، تبدء رحلة الرسالة. إذ فور ما يتنور قلبك بنور الايمان.

تجد نفسك أمام مسئولية هي تنوير قلوب الآخرين ، ولا يمكنك الا أن تفعل ذلك. إذ أن الدنيا صراع فلو لم تذهب الى الناس لهدايتهم جاءوا إليك لاضلالك ، وبالتالي سوف يبدأ الصراع ، من هنا قال ربنا عن إبراهيم (ع) بعد ان وحد الله ونزهه عن الشرك به.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ)

يبدو أنهم قالوا له :

أولا : اين الله؟ وكيف آمنت به؟ وبأي دليل؟ وبالتالي أخذوا يشككونه في ربه ، فأجابهم ببساطة :

أنتم لا تعرفون الله. أليس كذلك؟ أما انا فأعرف الله لأنه قد هداني إليه ، ومن لا يعرف لا يستطيع ان يحاج من يعرف ، لأنه هو الجاهل ، وهذا عالم ، وهو الضال ، وهذا المهتدي.

ثانيا : قالوا له : لماذا تشرك بالالهة هذه وهي قوية ، وقد تضربك ، انك تكفر بالقوى الاجتماعية التي يمثلها الطاغوت ، وبالقوى الثقافية التي تمثلها قيم المجتمع ، وكهنة المعابد ، وبالقوى الاقتصادية التي تمثلها الرأسمالية والاقطاع ، وآلهة البركة .. و.. و.. ، أفلا تخشى هذه القوى؟!


فأجابهم إبراهيم عليه السّلام : كلا .. أنا لا أخاف كل أولئك ، لأن مشيئة الله هي الحاكمة عليها ، صحيح أن الطاغوت قد يؤذيني ، ولكن أذى الطاغوت انما هو ضمن دائرة ارادة الله واذنه ، فلو لم يرد شيئا لا يمكن ان يقع ، والله محيط علمه بالجبت والطاغوت ومن في فلكهما ، فهم أضعف من الله ، وأضاف إبراهيم قائلا : عودوا الى فطرتكم النقية وتذكروا ان الله أقوى من خلقه ، وأن علينا أن نخشاه ولا نخشى خلقه.

(قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)

[٨١] للآلهة رموز وان ما يخافه البشر هو القوى الطبيعية أو الاجتماعية التي ترمز إليها الآلهة ، والخضوع لهذه الآلهة انما هو رمز الخضوع لتلك القوى ، ولا يمكن أن يتحرر البشر من هذا الخوف الا بخوف أقوى ، وهو الخوف من رب القوى الموجودة في الكون ، لذلك حذّر إبراهيم قومه من غضب الله ، وقال :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً)

وربما يتصور البعض منا أن الله رحيم بعباده ، إذا لا خوف منه ، أما الطبيعة فهي؟؟؟ فعلينا الخضوع لها لنتجنب ضررها ، هذه الفكرة هي التي دفعت بعض الناس لعبادة الشيطان حيث قالوا : ان الله رحيم بنا لأن طبيعته الخير ، أما الشيطان فان طبيعته الشر فعلينا عبادته.

ولكن إبراهيم بيّن ان الله لا يرضى بطاعة أحد من دون أن يأذن هو بذلك ، ولن يأذن والا فهو ينزل غضبه ولعنته على البشر ، وانه لو أرادت الآلهة أو الذين يطاعون من دون الله الفتك بالناس والتجأ الناس الى الله ـ رب الآلهة والناس ـ لتخلصوا


من شرورهم ، إذا فالأمن الحقيقي لمن يخشى الله.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

مضار الشرك :

[٨٢] وعاد إبراهيم وأضاف دليلا جديدا على ضرورة التوحيد الخالص وهو : ان الشرك ظلم ، بينما الخضوع لله هو العدل ، وأن للظلم ضررين :

الاول : الابتعاد عن الأمن.

الثاني : الابتعاد عن الهدى بينما المؤمن الموحد يملك الأمن والهدى.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

دعنا نتصور : مجتمعا يسوده الطاغوت ، ويخشى الطبيعة ، ويقدم قرابينه لإله البحر وإله الحرب وإله الربيع ، كما كان يفعل أهل مصر ، ومجتمعا تسوده حكومة عادلة ، ويتحدى الطبيعة ويقهرها. أيهما سيكون المجتمع الآمن؟ هل الظلم الطاغوتي والخضوع للطبيعة يوفر الأمن ، أم العدالة والحضارة (قهر الطبيعة وتسخيرها)؟! ثم ان التحرر من خوف الطاغوت وخوف الطبيعة يجعلنا نفكر بحريتنا ، نبحث عن الحقيقة بكل أمان ، ولا نخشى من الحقيقة ، ولا تسودنا دعاية الطاغوت ، ومخاوف الطبيعة لنقتحم كلّ أسوار الطبيعة ، لنكتشفها ونسخرها ، وآنئذ نحصل على الهداية. ان بداية كل علم هو الشعور بالأمن. لذلك جاء الهدى بعد الأمن في الآية الكريمة.

[٨٣] لقد حاج إبراهيم قومه فانتصر عليهم ، والسؤال هو من آتاه هذه الحجة؟ انه الله ، إذ أن إبراهيم عليه السّلام كشخص يعيش ضمن حدود المجتمع ، وتقهره


الطبيعة لا بد ان يتقول حسب أفكار المجتمع وحتميات الطبيعة ، إلا أن الله سبحانه يرسل رسالته على الإنسان لكي ينقذه من الحتميات الاجتماعية والطبيعية التي تحيط به.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

ولحكمته ولعلمه لا يرفع كل شخص الى رفيع الدرجات عبثا ، انما يرفع من يكون مؤهلا لذلك بجده واجتهاده ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم خوفه من الحتميات الباطلة.


وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)


خط إبراهيم (ع)

في سلسلة الأنبياء (ع)

هدى من الآيات :

تلك الرسالة التي أهبطها الله على قلب إبراهيم (ع) ، بعد ان وجده أهلا لها ، ثم بعد ان دخلت مرحلة الصراع المرير ، أصبحت اليوم تيارا يهدى به الله ، مجموعة من الأنبياء العظام ، وقبلهم جميعا نوح (ع) حيث هداه الله ، وداود وسليمان و.. و..

ولم يكن هؤلاء وحدهم في الساحة ، لقد كان معهم الآباء والذرية والأخوة الذين اجتباهم الله على علم منه بهم ، نظرا لصلاحيتهم للعمل الرسالي.

وإذا كان هؤلاء على صراط مستقيم فانما بإذن الله وبهداه ، ولم يكن باستطاعتهم الوصول الى هذا المستوى من دون التوحيد الخالص ، إذ أنهم لو أشركوا لأحبط الله أعمالهم.

بينات من الآيات :

انتصار إبراهيم :

[٨٤] ماذا كان عاقبة الصراع بين إبراهيم وقومه الذين أبطل إبراهيم حجتهم.


ان العاقبة كانت انتصارا ساحقا لإبراهيم حيث أن الله أمدّ إبراهيم بأبناء وذرية وأنصار.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا)

حيث كوّن إسحاق ويعقوب ـ بني إسرائيل ـ تلك الامة المؤمنة الصبورة.

(وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ)

فلم يكن اهتداء إبراهيم بدعا جديدا ، بل كان سنة قائمة منذ مدة طويلة.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ)

هذه الأسماء التي تحولت في تاريخ البشرية الى رموز لكل قيم الخير ، ان نقطة البداية عندهم كانت الهداية الى الله ، والهداية بدورها جاءت نتيجة إحسانهم ، وفعلهم الخير.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

ونحن بدورنا لو فعلنا الخير لهدانا الله ، ولأصبحنا بأذنه رموزا لقيم الخير في التاريخ.

خط إبراهيم (ع) :

[٨٥] وهناك رموز اخرى اتبعت ذات الطريقة القويمة والمنهج السليم ، وكانت النتيجة أنهم أصبحوا صالحين. أفكارهم سليمة ، وأخلاقهم قويمة ، وأعمالهم خيّرة ، وأهدافهم نبيلة ، وبالتالي كلما يراه الضمير السليم للإنسان ، أنه صلاح يتمثل فيهم.


(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)

[٨٦] واخرين اتبعوهم على الهدى ـ وفضلهم الله على الناس لهذا السبب ـ.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ)

بعلمهم وجهادهم.

ان هذه الأسماء اللامعة في سماء الانسانية معروفة لمن يتلو آيات القرآن ، حيث ذكرها الله أكثر من مرة ، وفصّل كثيرا من قصص حياتهم ، وعبر تاريخهم ، وانما فعل ذلك ليصبحوا قدوات للبشر ، وليقول لهم : أيها الناس إن هؤلاء كانوا بشرا مثلكم ولكنهم أحسنوا فهداهم الله ، وأصبحوا ثناء على كل لسان ، ومثلا لكل فضيلة أفلا تقتدوا بهم وتتبعوا منهجهم؟!

ويلاحظ المتدبر في نهايات هذه الآيات الثلاث ان الله سبحانه ذكر صفات ثلاث لهؤلاء الصفوة (الإحسان ، والإصلاح ، والتفضيل) ويبدو أنها صفات متدرجة ، فالاحسان هو العطاء ، والخروج عن سجن الذات ، وقوقعة الانانية الى رحاب الحق ، وخدمة الآخرين ، انه سبب الهداية ، بل سبب كل خير ، اما الهداية فهي من الله سبحانه ، وبالاسلوب الذي ذكره ربنا سبحانه بالنسبة الى إبراهيم ـ عليه السّلام ـ والصفة الثانية هي الصلاح ، وهي عاقبة الهداية ، وأثرها في حياة البشر ، حيث تجعل منه إنسانا متكاملا ، اما الصفة الاخيرة ، فهي نتيجة الهداية في الواقع الاجتماعي. حيث يصبح البشر أفضل العالمين.

[٨٧] لم تكن هذه الأسماء التي ذكرت سوى رموز ، ولن تكون هي الوحيدة في هذا الطريق بالرغم من أنها كانت أبرزها ، لذلك يذكرنا القرآن ببقية الذين ساروا على ذات النهج.


(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

قانون الهداية :

[٨٨] (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

ولكن الهدى لن يجتمع مع الشرك ، إذ أن الشرك بالله يعني سلب الالوهية من الله ، ونسبة الضعف والعجز اليه سبحانه ، وتحديد قدرته ومشيئته ، وكل هذه الصفات بعيدة عن صفات الله ، وبالتالي من يؤمن بها لا بد أن يكفر بالله ، لأنه ليس بإله من هو خاضع لخلقه ، وغير قادر على أن يقهر صنما حجريا منحوتا ، أو صنما بشريا يتمثل في المجتمع الفاسد ، أو في طاغوت جبار.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

من خير وإحسان وصلاح لأن الصلاة مثلا : تعني الايمان بالله ، والايمان بالله يعني بدوره الكفر بالطاغوت ، إذ أنه لا إله ذلك الذي لا يستطيع قهر الطاغوت ، ولذلك إذا خضع المصلي للطاغوت لم يكن لصلاته اي معنى ، فلذلك فهي تحبط حبطا.


أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

____________________

٩٢ [أم القرى] : مكة.


أولئك هم قدوة المؤمنين

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكر القرآن أسماء الأنبياء العظام ، وفي هذا الدرس يذكرنا بحقائق عنهم : فهم يشكلون خط الرسالة الذي لا انحراف فيه أبدا ، حتى وان انحرفت الخطوط الاخرى ، وقد حافظ الله على سلامته واستقامته ليكون قدوة للناس من دون ان يحملهم أجرا ، بل ليذكرهم بالحقيقة فقط.

وهناك من يشكك في بعث الأنبياء ، وهم الذين لم يعرفوا ربهم ، وماله من حكمة وقدرة ، وأنهم لم يشكروا ربهم على تلك الرسالات النيرة التي أنزلها على البشر على يد موسى عليه السّلام.

ثم هذا الكتاب الذي أنزله لكي يكون منهجا للنمو والرشد والتكامل وهو في ذات الخط الرسالي المستقيم ، والهدف منه أن ينذر به أم القرى ومن حولها.

ومن يؤمن بالله واليوم الآخر لا بد أن يؤمن بالرسالة ، إذ أن الرسالة هي نتيجة


الاعتقاد بهما.

بينات من الآيات :

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ :

[٨٩] تلك كانت رسالات الله بينها الله في الآيات السابقة ، ورسله كانوا دعاة لتلك الرسالة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)

الكتاب هو الرسالة ، والحكم هو القضاء والسلطة باسم الرسالة ، اما النبوة فهي تحمل الرسالة لدعوة الناس إليها.

(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)

فلا خوف على الرسالة ـ ان تبقى غريبة ـ إذ سوف يقيّض الله لها رجالا يؤمنون بها ، ويفدونها بأرواحهم ، وانما الخوف على هؤلاء الذين لا يؤمنون بها.

وعلى امتداد التاريخ هناك رجال يؤمنون بخط الرسالة المستقيم دون أن يخالط ايمانهم شك أو وهن أو ارتداد.

[٩٠] والله سبحانه يبارك هذا الخط السليم بهدف ان يكون قدوة في الهدى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)

وهذه الهداية انما هي للناس جميعا وهؤلاء لا يتقاضون أجرا على تبليغها.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)


الايمان بالرسالات جوهر الايمان :

[٩١] الايمان بالله ، ومعرفته سبحانه هي النقطة المركزية للايمان بسائر الحقائق ومعرفتها ، وأنّ أبرز هذه الحقائق الايمان برسالات الله التي من ينكرها فانما ينكر الله أو لا يعرفه حق معرفته ، فالله الذي خلق السموات والأرض وكل شيء فيهما إنما خلقه بهدف وحكمة ، وخلق الإنسان ولم يتركه سدى ، بل بعث اليه رسلا يوضحون له درب السعادة ، فمن أراد السعادة اتبعهم ، ومن لم يرد ، فمصيره النار وساءت سبيلا.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)

ثم ان ابسط دليل على اي شيء هو وجوده العيني الخارجي ، والله قد انزل رسالته على البشر متمثلة في كتاب موسى عليه السّلام الذي يستحيل عقلا أن يكون من غير الله ، فاذا هو من الله.

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ)

انه من الله بدليل أنه نور يستجلي العقل ، ويوقظ الضمير ، وينبه الفطرة البشرية ، ولأنه نور فهو كاشف للحقائق سواء تلك التي تمتّ الى الدنيا أو الآخرة ، والكتاب بالاضافة الى ذلك هدى للناس يهدي به الله الى سواء السبيل في الآخرة ، والهدى أخص من النور ، لأنه يهدي صاحبه حتى ولو لم يؤت نورا شاملا.

انّ الأنبياء والصديقون والعلماء يؤيدون بنور العقل فيكشفون بأنفسهم الحقائق. أمّا الناس فأنهم قد لا يؤتون النور ولكن يهديهم الله الى الصراط المستقيم عن طريق توضيح السبل لهم كالأعمى الذي يأخذ بيده البصير ويقوده في مسيرته.


(تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً)

لأنكم خشيتم منه على مصالحكم والآن تنكرون البقية رأسا ، أو ليس في هذا التناقض دليلا على بطلان كلامكم.

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ)

فجاءت الأفكار بعيدة عن الجو الثقافي الذي كان سائدا عليكم ، مما يدل على أنها كانت أفكارا غيبية.

وأخيرا : ان جدل هؤلاء في رسالة النبي نابع من مرض قلبي دفين ، لا ينفع معه اقامة الحجج ، لذلك يجب أن يتركوا لشأنهم حتى يأتيهم جزاء أفعالهم.

(قُلِ اللهُ)

الله هو الحاكم بيني وبينكم ، والله هو الشاهد والشهيد عليكم ، والله هو الذي لو آمنا به حقّا لآمنّا بالرسالات ، ولأصلحنا عقد أنفسنا.

(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)

اي يلعبون فيما يخوضون فيه ، ويناقشون فيه من أفكار خاطئة وأهواء. انهم لا يتبعون العلم ، بل يتلاعبون بالألفاظ والأهواء.

خصائص رسالتنا وأهدافها :

[٩٢] الايمان بالرسالات عموما ، ركن من أركان الايمان بالله ، الا أن ذلك لا يكفي. إذ يجب ان نؤمن بالرسالة التي تخص حياتنا بالذات ، والرسالة الاسلامية هي تلك الرسالة التي لا بد ان نؤمن بها لعدة أسباب.


أولا : لأنها مباركة تحفز البشرية نحو التقدم والرقي ، والنمو والخير ، وهذا هو تطلع البشر الأسمى.

ثانيا : لأنها تتفق في أصولها مع سائر رسالات السماء ، مما يدل على وحدة المشكاة التي انبعثت منها.

ثالثا : لأنها جاءت لتحقيق يقظة في عالم يغط في سبات الجاهلية ، وذلك في شبه الجزيرة العربية.

رابعا : ان الهدف من اعتناقها ليس هدفا ماديا كالوصول الى السلطة أو الغنى ، بل هدف معنوي بدليل أن حملة الرسالة هم رجال الله ، فهم يحافظون على صلواتهم ، وعموما المؤمنون بهذه الرسالة هم المؤمنون باليوم الآخر الذين لا يهدفون من ورائه الدنيا وزينتها.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

____________________

٩٤ [ما خولناكم] : ما أعطيناكم من متاع الدنيا.


الافتراء على الله أشد الظلم

هدى من الآيات :

الظلم ظلمان ، فقد يغتصب الفرد حق صاحبه المادّي ، وهذا الظلم قد ينتهي بالتوبة وأداء الحق ، ولكن قد يغتصب الفرد فكر الناس ، ويضلّهم ويضل نفسه عن الحق ، ويحرف مسيرة البشرية ، وهذا أكبر خيانة وأخطر ضررا.

فإذا قال أحد : ان الله يقول هذا. كذبا وافتراء ، أو ادعى النبوة وهو ليس بنبي أو ادعى قدرته على إبداع أفكار ، ومناهج مثيلة لأفكار ومناهج الرسالات ، فانه آنئذ أظلم الناس ، وجزاؤه عذاب الهون الذي يأتيه عند ما تهبط عليه ملائكة الغضب بكل عنف وخشونة ، ينتزعون منه نفسه ، لأنّه كذب على الله ، ولأنه استكبر على الحق.

وإنما يعتمد الظالم على قدرته الجسدية أو المادية أو الاجتماعية ، ولكن حين تنتزع الملائكة نفسه ، تتبخر هذه القدرات ، فالجسد خائر القوى ، والأموال والممتلكات تنتظر الورثة ، أما الناس الذين زعم أنهم وراءه فهم غير موجودين هناك ، أو غير نافعين له ، أما الأفكار الباطلة التي اخترعها فقد أصبحت كالسراب الزائل.


بينات من الآيات :

الجريمة المنظمة :

[٩٣] في عالم الجريمة السارق الوحيد عقوبته محدودة ، بينما على العصابة عقوبات مشددة ، لأن جريمتهم أخطر ، وأخطر من تلك السرقات الكبيرة التي تتستر تحت قناع الايدلوجية الباطلة ، كسرقة الاقطاعيين والمترفين من المحرومين ، أو سرقة الطواغيت والامبريالية من الشعوب المستضعفة ، وأكثر ما عانت البشرية في تاريخ الجريمة انما كانت بسبب هذا الطراز من المجرمين.

أن هؤلاء يخترعون أولا أفكارا باطلة تساعدهم على استثمار الجماهير ، واستغلال بساطتهم ، ثم يبدءون بامتصاص جهودهم الى أخر قطرة دم في عروقهم.

وكثيرا ما ينسبون افكارهم الى الله لإعطائها المزيد من الشرعية ، ولإتاحة الفرصة لأنفسهم للمزيد من الابتزاز ، وقد يستخدمون رجال الدين المزيفين لهذا الغرض البشع.

وأخطر من ذلك أنهم قد يدّعون النبوة ، وأن الله يوحي إليهم ، أو حتى يكابرون على ربهم ، ويزعمون أن خرافاتهم وضلالاتهم مثيلة لبصائر رسالات الله وهداها.

هذا الفريق أظلم الناس جميعا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)

ولعل هذه الكلمة تشمل كل من يدعي كذبا أنه قد فهم الحقيقة حتى ولو لم ينسب كلامه الى الله مباشرة ، إذ أن مجرد هذا الادعاء يجعل هذا العمل مرتبطا بالله سبحانه.


(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ)

عند ما تنتزع الروح :

اما جزاء هؤلاء فيصوره القرآن الحكيم ، في لحظة مفارقة الدنيا ، تلك التي من أجل متاعها الزائل تسبب هذا الفريق المجرم في حرمان الألوف من البشر حقوقهم ، أو حتى في هلاكهم ، عند ما تهبط عليهم ملائكة العذاب وهم في أشد لحظات الفزع والاحتضار ، حيث تغمرهم أمواج الموت موجة بعد أخرى ، والملائكة واقفون على رؤوسهم ، وقد بسطوا أيديهم الغليظة ، وهم يقولون بكل عنف : أخرجوا أنفسكم ، وينتظرون انتزاعها لتعذيبها بعذاب الهون.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)

ان تصور هذه اللحظات الحاسمة ينفع كل واحد منا في الّا نتورط في ظلم الآخرين.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)

اما العذاب ف ..

(بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ)

اما الهون والخزي والعار فانه جزاء الاستكبار.

(وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)

من لضعف الى الضعف :

[٩٤] لماذا يستكبر الإنسان عن الحق ، ويخترع أفكارا باطلة ، وينشرها بين


الناس ، ويمنع الجماهير من نعمة الله؟ هل لأنه يريد جاها أو مالا أو قوة ، واين تذهب أمواله وشفعاؤه عند ما تأتيه ملائكة الموت؟!

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

أنتم ضعفاء ، بدليل أن خلقكم الاول ، مبنيّ على الضعف والانفراد ، وانما بسبب نعم الله عليكم التي لم تصبح جزء من كيانكم ، بل لم تصبح ملككم أصبحتم كذلك وأنتم تحسبون انكم أقوياء ، لقد خول الله لكم هذه النعم. أي أعطاكم إذنا باستخدامها في طرق معينة ، وسوف تذهب عنكم حينما يشاء الله.

(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ)

أما المجتمع الفاسد الذي اعتمدتم عليه في اختراع هذه الأفكار وترويجها ، اما الطبقة المترفة والمفسدة ، كالرأسماليين الكبار ، ورجال الأمن الفاسدين ، فهم الآن غائبون عنكم ، فأين هم؟!

(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)

اي انفصلت القوى الرابطة بينكم وبينهم ، أما الأفكار الجامعة بينكم وبينهم كفكرة الطبقة الحاكمة أو الحزب الطليعي ، أو النخبة المثقفة ، هذه الخرافات التي اخترعتموها لاستثمار الجماهير قد تلاشت وغاصت في الرمال.

(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

من الشرك بالله واعتقادكم بأفكار باطلة.


إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ

____________________

٩٨ [فمستقر] : مستقر في أرحام الأمهات.

[ومستودع] : في أصلاب الرجال. وجاء في الحديث عن أبي عبد الله ان المستقر هو الثابت من الايمان والمستودع هو الايمان العواري الذي يبقى لفترة من الوقت ثم يزول.


النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)


الطريق الى معرفة الله

هدى من الآيات :

كيف يختار لنا الشيطان طريق الضلالة والافك والانحراف عن مسيرة التوحيد ، والله هو الذي خلق الحب والنوى ، وهو الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء ، وهو الذي يخرج الإصباح من رحم الظلام ، ويجعل الليل مأوى للأحياء حيث يسكنون الى ظلامه وهدوئه ، وسواء الصباح أو الليل ، فهما يجريان وفق نظام دقيق يدل على علم المدّبر لهما وقدرته.

ومواضع النجوم ، وحركتها المنظمة مدبرتين بحكمة بالغة ، لا يكشفها الا أهل العلم والمعرفة ، ولا يعرفون مدى ما فيهما من حكمة ، فيتساءلون : إذا كنا نهتدي بالنجوم على الطريق في الليالي المظلمة ، فكيف لا نهتدي الى الله بآياته الباهرة؟

وإذا أمعن البشر النظر في طريقة تناسل الإنسان ، وكيف انشأ الله كل البشر من نفس واحدة ، فمنهم من يستمر في البقاء ، ومنهم من يموت ، ومال هذا يموت وذلك يحيى؟! وإذا ما أوتينا الفقه عرفنا ما وراء الموت والحياة من حكم بالغة تدل


على حكمة ربنا وقدرته.

والله هو الذي أنزل المطر ، فاذا به يتحول بقدرة الله الى شتى أنواع النباتات ، من حقول خضراء الى جنان النخيل والأعناب والزيتون والرمان بعضها متشابه وبعضها مختلف ، وحين ينظر المرء الى ساعة أثمارها ، ولحظة ينعها ينبهر بها ، وعموما فان البشر بحاجة الى فطرة سليمة ، وغير معقدة ضد الايمان حتى يهتدي بهذه الحقائق الى الرب الكريم.

ومن الملاحظ ان القرآن الحكيم قد قسم الآيات على أنواع : بعضها للعالمين ، وبعضها للفقهاء ، والبعض للمؤمنين ، للدلالة على تدرج المراحل ، الكمالية ففي البداية علينا ألا نكون في إفك وضلالة ، وتكون القلوب نظيفة من العقد والعقائد الباطلة ، ثم نحصل على العلم ، ثم نتعمق في العلم ، حتى نحصل على غور العلم ، وعمقه وهو الفقه ، وأخيرا ننظر الى الحياة نظرة بسيطة ، نابعة من الفطرة النقية ، حتى نصبح مؤمنين بأذن الله.

هذا الدرس يأتي حلقة من مسلسل الدروس الايمانية المباشرة ، بينما كانت الدروس السابقة تمهد لمثل هذا الدرس.

بينات من الآيات :

النشأة الاولى :

[٩٥] الفلق هو : ان ينشطر شيء فينكشف عن شيء خفي ، والحب تكمن فيه المواد الحية ، ولكنها تبقى خفية حتى تنفلق وتنشطر ، فينكشف عن تلك المواد ، ولكن هذه الحالة بحاجة الى من يدبرها حتى ينفلق الحب بتنظيم ومتانة ورفق ، حتى تتم الولادة سليمة ، والله هو ذلك المدبر العزيز.


(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)

والكلمة تدل على طريقة النشأة ، وهي أن نمو المواد الحية يسبب في انقشاع الغلاف الظاهر الذي يخفي وراءه تلك المواد ، فاذا بنا نشاهد الحياة ، بينما كانت الحياة موجودة سابقا ، ولم تكن معدومة آنئذ ، ولكنها كانت مخزونة الى هذا الوقت.

وهذا النمو يتم بإضافة المواد الميتة الى المادة الحية ، فتصبح تلك المواد الميتة ذات حياة بإضافتها الى تلك المادة الحية ، فالحب فيه مادة حيّة تستقي من الأملاح الميتة ، ومن النور الميت ومن الماء ، فتصبح حبة كبيرة ، فاذا انتهت دورة الحياة ، فان تلك المواد الميتة تزال عن تلك المادة الحية. وربما يكون هذا المعنى قوله سبحانه :

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ)

أو يكون معناه : ان الله يخرج من ضمير الأشياء الميتة شيئا حيا ، ومن رحم الأشياء الحية شيئا ميتا ، وبتعبير أخر يحول الحيّ الى ميت ، والميت الى حي ، سبحانه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

في أية ضلالة تتيهون ، وأي إفك يحمّل عليكم ، ويفرض عليكم.

أن الخلاص من الافك الذي تفرضه على البشر أهواؤه ومجتمعة والشيطان الرجيم ، شرط مسبق لفهم الحقائق ببصيرة الفطرة النقية.

[٩٦] والله سبحانه هو الذي خلق النور ، وفلقه ونشره ، ونظم انتشاره. كما جعل الظلام في حدود معينة ولهدف محدد وهو السكون اليه والراحة.

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً)


جعلهما يسيران وفق نظام ثابت ومحسوب ، لا يحيدان عنه قيد أنملة.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

فبعلمه سبحانه وضع الخطة ، وبعزته أجراها.

بين العلم والهدى :

[٩٧] مواقع النجوم ، وما في السماء من كواكب سيارة ، ونجوم ثوابت ، بالرغم من دوران الشمس والقمر ، انها من آيات الله العظيمة ، اننا نهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وهذا الاهتداء يتم لعلمنا بثبات هذه المواقع ، وبأنها دليل على وجود ثبات في سنن الكون ، وبالتالي على أن للكون أنظمة بالغة الدقة ، وأن هذه الآيات وضعها الله ليهتدي البشر إليها وليستفيد منها ، أفلا تدل هذه الآيات على الواحد القهار؟! إذا كنا نهتدي بالنجوم على السبل السليمة في الحياة ، أفلا نهتدي بها على من وضع هذه السنن ما دامت طريقة الاهتداء واحدة ، وهي الانتقال من العلامة الى ما ورائها من الحقيقة؟!

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

لأنه من دون العلم والمعرفة لا يمكننا بلوغ معرفة الحقائق ، وفي هذه الآية جاء التأكيد على دور العلم خصوصا في معرفة الآيات المفصلة.

دورة المياه :

[٩٩] التنوع في الحياة دليل آخر على حكمة الله وعلمه وقدرته ، فبالرغم من وحدة الهدف العام ، فانك ترى كل شيء في الحياة يحقق هدفا معينا يتكامل مع سائر


الاهداف في وحدة شاملة لها جميعا ، واننا نجد الاهداف كلها تتحقق بذات الوسائل الواحدة ، وذلك عن طريق احداث تغيرات بسيطة في طريقة تركيبة المواد مع بعضها ، وفي كمية كل مادة وما أشبه ، فالأرض تسقى بماء السماء ، فالماء هو الماء ، والأرض هي الأرض ، ولكن النبات يختلف لونه وطعمه وفائدته ، والهدف من خلقه ، وكل نبتة أنشئت لهدف محدد يتكامل ، مع سائر أنواع النباتات.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)

ترى كم هي حكمة رائعة ان ينزل الله من السماء ماء ، والماء منبعه في الأرض ، وهو مالح ، ولكن الله يحليه بالتبخير ، ثم يرفعه الى السماء ، ويضيف اليه هناك المواد الضرورية للزرع ، بعضها عن طريق احتكاك السحب ببعضها مما يحدث الرعد ، وبعضها عن طريق امتزاج الماء بالهواء ، ثم حين تمطر السماء يتوزع هذا الماء في كل أرجاء الأرض السهل والجبل ، والمدينة والصحراء ليحقق اهدافا مختلفة.

أولا تهدينا هذه الآية الى ربنا القدير ، ثم أنظر الى آثار الماء الذي يهبط من السماء.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)

كل شيء ينمو بهذا الماء. الزرع والضرع والحيوانات.

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً)

كالحنطة والشعير والذرة وما أشبه مما يتراكم الى بعضها لفائدة المجتمع ، حتى يكاد البشر يعجز عن استيعاب الفائض منه ، فاذا ببعض الدول تحرق المزيد منها ، وبعضها تلقيه في البحر.


(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ)

تعطيك تمرها بسهولة بالاضافة الى روعة جمالها ، وسائر فوائدها.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)

ولحظة ولادة الحياة لحظة رائعة ، لأنها أقرب الى الفهم العميق لطبيعة الحياة ، ولما فيها من حكمة ونظام ، ولما تحتوي عليها من شواهد عظيمة على طبيعتها المحدودة المحكومة بما فوقها من ارادة وعلم وقدرة. لذلك يأمرنا الله بالنظر الى هذه اللحظة.

(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)

ان هذه العبر المنتشرة في الحياة بحاجة الى الايمان بها حتى يعرفها ويستوعبها البشر إذ من دون الايمان يقتصر نظر البشر الى الحياة ذاتها ، دون النظر الى ما ورائها من حكمة وغاية معقولة ، أو لما فيها من شهادة على الرب الكريم.

(إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

الامام علي (ع) المثل السامي للمؤمن الصادق كان يقول :

(ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله قبله وبعده ومعه)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

____________________

١٠٠ [وخرقوا] : حكموا.

١٠١ [بديع] : بمعنى المبدع ، والفرق بين الإبداع والاختراع أن الإبداع فعل ما لم يسبق الى مثله ، والاختراع فعل ما لم يوجد سبب له ، ولذلك يقال البدعة لما خالف السنة لأنه احداث ما لم يسبق اليه.


أسماء الله الحسنى

هدى من الآيات :

إذا تدبّرنا في الآيات الكونية التي أشار إليها القرآن الحكيم في الدروس الماضية ، نجد ان الله يعطينا معرفة بذاته ، ويأتي هذا الدرس ليذكرنا ببعض الصفات الالهية التي يعرفها المؤمن بسبب معرفته بربه ، وكلما زادت معرفة الإنسان بالله زادت معرفته بصفاته وأسمائه الحسنى ، ومن ثم معرفته بسائر المعارف التوحيدية كالعدل والنبوة والامامة والمعاد وما إليها.

في البداية يذكرنا القرآن بان الله هو الذي خلق الجن ، ولكن الساذجين من البشر يزعمون بأن الجن شريك ، كما انهم قالوا «كذبا» ان لله بنين وبنات ، وهذا يدل على عدم علم بالحقيقة ، ولا معرفة بالله المتعالي عن الصفات السيئة.

هو الذي خلق الأشياء من العدم خلقا إبداعيا دون أن تتولد منه الأشياء ، حتى يحتاج الى آخر مكمّل له يتولد منهما معا ، كما البشر بحاجة الى صاحبة حتى يتولد منهما الطفل.


وأخيرا فان الله هو الذي خلق كل شيء ، وأحاط بكل شيء علما ، وعلى البشر ان يخلص عبادته لله ، لأنه الرب ، ولأنه الوحيد ، ولأنه مهيمن على كل شيء ، يدبر أمر الخلق ، ويجري فيه السنن والانظمة فهو علينا وكيل.

بينات من الآيات :

حين يجهل المخلوق قدر خالقه؟!

[١٠٠] القوى الغيبية التي يشعر البشر بوجودها (بطريقة أو بأخرى) يجهل عادة طبيعتها ، ويزعم انها قوى منفصلة عن قدرة الله المهيمنة على الحياة ، أو حتى أنها آلهة وشريكة للاله العظيم في العلم والقدرة ، وقد يتطور هذا الزعم الى خرافة عبادة الجن والمرتبطين بالجن ، من الناس كالكهنة وسدنة المعابد ، الى جانب الايمان بالله وبرسالاته.

بينما الحقيقة : ان هذه القوى الغائبة عن الأنظار ، سواء كانت عاقلة ومريدة كالجن والملائكة ، أو لا كقوة الكهرباء والجاذبية وما أشبه ، انما هي مخلوقات كسائر المخلوقات المادية ، منتهى الأمر ان علمنا بها محدود.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ)

الله خلق الجن ، لأنه هو الاخر يتميز بذات الصفات التي تتمثل في سائر الموجودات مثل : المحدودية والجهل والتعدد والتكاثر ، وكلها صفات المخلوق ، والمخلوق سواء كان ظاهرا أو غائبا فهو المخلوق.

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

نسبوا الى الله تهمة بعيدة جدا عن الحقيقة ، بل هي خرق للفطرة ، ولما هو معلوم


من سنن الحياة : تلك هي أن بعض هؤلاء الشركاء قريب الى الله ، فزعموا انها أبناء لله أو بنات له ـ سبحانه ـ وليس أصحاب هذه التهمة على علم بهذه الفكرة الخرقاء ، وهنا يظهر مدى بطلان كلامهم. إذ كيف يمكن ربط شيئين ببعضهما ، والادعاء بأن هذا قريب من ذلك ، من دون اي دليل أو شاهد ، وربما تشير الآية الى أن طاعة أحد باسم طاعة الله انما هي شرك وضلالة ما دام الله لم ينزل على ذلك سلطانا وبرهانا مبينا.

ثم ان نسبة شيء الى الله سبحانه ، باعتباره بنتا أو أبنا له لدليل على عدم معرفتهم بالله ، إذ ان من يعرف الله يعرف أنه منزّه عن الشريك ، ومتعال عن صفات الخلق ، ان هذه الصفات هي صفات المخلوقين ، ولاننا نجد مثل هذه الصفات في المخلوقات ، نعرف ان الخالق منزه عنها ، ولو نسبنا الى الله سبحانه مثلها ، إذا لاحتاج هو الاخر الى رب أعلى ، لأنها تدل على انه بدوره مخلوق مثل سائر المخلوقات.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)

وينسبون الى ربهم من صفات المخلوقين.

الخلق وليست الولادة :

[١٠١] يبدو ان الآية السابقة نفت الفكرة القائلة بأن هناك في عالم الالوهية درجات ، كل اله له درجة ، بعضها كالأب وبعضها كالابن ، بيد ان هذه الآية تنفي وجود التوالد والتناسل ، فيذكرنا القرآن هنا : بأن نشوء الخلق ليس كما يزعم المبطلون ، من أنه عن طريق التوالد ، بل هو عن طريق الخلق المباشر.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)


إذ ما من شيء يلد الّا وكان له صاحبة. إذ من دون ذلك من المستحيل الولادة ، إذ يسبب في نقصان الشيء الاول وانتهائه ، وإذا كان ربنا بحاجة الى جزء مكمل حتى يخلق الخلائق ، فما الفرق بينه وبين أي مخلوق آخر ، ولماذا أساسا نعتقد بوجود اله؟ ان المخلوقات تشهد على عجزها وحاجتها الى الخالق وبحاجتها الى بعضها ، ولا بد ان يكون الخالق بريئا من ذلك ، ولنفرض مثلا حاجة شيء الى شيء آخر لتتم عملية خلق شيء ثالث ، أفلا يحتاجون إذا الى قوانين وانظمة لهذا التزاوج حتى يتم وكيف وبأي قدر وكمية؟ بلى ومن يضع هذه القوانين ، ومن يجريها؟ أو ليس شخص ثالث؟ وهو أعلى منهما؟ إذا هو دون هذين الشخصين.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)

خلقا مساويا ، فنسبة أي شيء اليه هي نسبة سائر الأشياء دون زيادة أو نقيصة فهو خالقهم جميعا.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

[١٠٢] وهذه بالضبط ، صفات الخالق من دون المخلوقين ، انه بريء عن نسبه البنين والبنات اليه وعن الأولاد والصاحبة ، وعن الضعف والجهل ، فهو الذي تشهد فطرتنا بأنه الخالق الذي نتطلع اليه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

والعبادة لا تنبغي الّا له ، لأنه خالق الأشياء ، ولأنه الذي بيده أمور الأشياء ، فهو الذي يجري عليها الانظمة ، ويهيمن على أمورها اليومية.


القريب البعيد :

[١٠٣] وصفة حسنى لله ، هي صفة القرب المتعالي ، فبالرغم من ان الأبصار لا تدركه لأنه متعال عن الحدود والابعاد والاتجاهات والأبصار ، كما العقول لا تدرك شيئا مطلقا لا حدود له ولا أبعاد ، بالرغم من ذلك فهو قريب من الأشياء ، فهو يدرك الأبصار ، ويحيط علمه بما في العقول والأفكار.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)

وهذه الصفة تدل على منتهى اللطف ، حيث انه يدرك كل شيء لأنه يحيط بكل شيء.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)


قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)

____________________

١٠٥ [درست] : الدرس أصله استمرار التلاوة ، ودرس الأثر دروسا إذا انمحى لاستمرار الزمان به ، ودرست الريح الأثر دروسا محته باستمرارها عليه.

١٠٨ [عدوا] : اعتداء وظلما.


مسئولية البشر في الهداية

هدى من الآيات :

بعد ان ذكّرت آيات الدرس السابق بالله سبحانه ، جاءت هذه الآيات لتؤكد المعنى الذي سبق في الدروس السابقة وهو أن وجود الآيات لا يكفي في هداية البشر ، بل إذا لم يرد الإنسان لنفسه الاهتداء ، فانه لا يهتدي وهو المسؤول عن ذلك.

وتصريف الآيات اي ذكرها بصفة مكررة انما هو بهدف توضيح الحقائق لمن يعلم أنه يجب عليه أن يتبع الحقائق ، دون خوف ممن يخالفها كالذين أشركوا ، والمشركون لا يعجزون الله إذ لو شاء الله ما أشركوا ، فشركهم انما هو بإذن الله (دون ان يكون برضاه سبحانه) والرسول ليس مسئولا عن شركهم ، ولا هو وكيلهم ، انما عليه ان يبلغهم الرسالة ، ثم إذا لم يستجيبوا يعرض عنهم الى غيرهم.

ان الشرك مضلل لأهله حتى انهم أصبحوا يقدّسون أصنامهم ، ولا يجوز سب هذه الأصنام لأنهم آنئذ سوف يسبون الله ظلما وعدوانا. وان الله الذي سوف يرجعون اليه سوف يجزيهم بما فعلوا ، وكيف أنهم خالفوا الحقائق.


ويبدو أن معرفة العلاقة المعقولة والمناسبة بين من يؤمن وبين من يشرك. ذا أمر ايجابي في استيعاب المؤمنين للحقائق. إذ من دونها ينشغل ذهن المؤمنين بمصير المشركين.

بينات من الآيات :

بصائر الرسالة ومسئولية الاهتداء :

[١٠٤] البصيرة هي الآلة التي تساعد على التبصر ، والقرآن بصائر ، لأنه يحتوي على مناهج للفكر وآيات للحقيقة ، والقرآن يزكي النفس ، ويرفع عنها حجاب الكبر حتى ترى الحقيقة.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)

والكلمة المشهورة في أدبنا الحديث والتي تستخدم مكان البصيرة هي الرؤية ، بيد ان البصيرة (وجمعها بصائر) أقرب الى المعنى المطلوب ذلك لان الرؤية تطلق حينا على الأبصار ، وحينا على اتخاذ رأي ، بينما البصيرة هي التي تساعد على عملية الأبصار ، ومشاهدة الحقائق عن كثب من دون احتمال للخطأ.

والقرآن لا يحمّلك رأيا ، أو يفرض عليك اتجاها فكريا ، بل يساعدك على تلمس الحقيقة مباشرة من دون وسائط ، بيد ان لارادتك دورا في ذلك ، فان شئت استخدمت البصيرة ، والا فأنت كمن لا يستخدم عينه فلا يرى.

(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها)

والرسول هو الآخر لا يهدف تحميل رؤية عليك لأنه ليس حفيظا عليك. أي إنّ الله لم يكلفه بحفظك وهدايتك ، بل أنت المسؤول عن نفسك.


(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)

[١٠٥] والآيات هذه بيّنها الله ببيان واضح.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

قالوا في معنى الآية : ان تصريف الآيات ، وذكر بعضها بعد بعض وتنزلها بصورة تدريجية يعتبر زيادة في شقاء الضالين وزيادة بيان للمؤمنين.

ذلك لان الكفار كانوا يتخذون من تنظيم نزول القرآن ذريعة لكفرهم فيقولون :

ان النبي يتعلم من العلماء ويدرس عندهم ويتفكر في المسائل ويدرسها ثم يحولها الى آيات. وإلّا فلم لم يأتي بها جملة واحدة كما فعل موسى.

[١٠٦] وعلى البشر ان يتبع الوحي دون نظر للآخرين الذين لا يؤمنون ، لأن أولئك مسئولون عن أنفسهم ، وانا بدوري مسئول عن نفسي ، فالانشغال بهؤلاء قد يجعلني انحرف قليلا أو أترك جانبا من الوحي ، ان المقياس الاول والآخر هو الحق ، وعلى البشر أن ينظر اليه فقط في مسيرته.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)

[١٠٧] والتفكر في المشركين وفي مصيرهم ، وأنه لما ذا يذهبون الى النار بالرغم من أنهم بشر مثلنا؟ هذا التفكر يجعلنا نشتبه في بعض الحقائق ، أو لا أقل لا نتبع مسيرتنا الى نهايتها ، لذلك يذكرنا القرآن بأن شرك المشركين ليس بمعجز لله ، بل هو ضمن اطار اذن الله وهيمنته على الكون ، وإذا كان على البشر أمر أكثر من مجرد دعوتهم الى الايمان. لكان الله سبحانه يفعل لهم ذلك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)


فانتظارهم خطأ لأننا لسنا مكلفين بحفظهم أو وكلاء عنهم.

لا تسبوا المشركين :

[١٠٨] دع المشركين في ضلالهم ، انهم بعد أن أرادوا الشرك واختاروه على الهدى ، وكلهم الله الى أنفسهم ، وزين لهم الله أعمالهم ، لذلك فهم يقدسون منهجهم في الحياة ، ومن الخطأ أن يسب المؤمن مقدسات المشركين ، لأنه سوف يسبب في رد الفعل من جانبهم ، فيسبوا الله ظلما وعدوانا ، ولأنه قد زيّن لهم هذه الأعمال ، فلما ذا نكلّف أنفسنا ، وأننا نعلم ان مصير هؤلاء الى الله حيث يحاسبهم ويجازيهم؟!

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

إذا : يجب الاعراض عن المشركين والاستمرار في بناء الكيان الاسلامي ، بعيدا عنهم لأنه لا أمل فيهم ، وحسابهم غدا على الله.


وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)

____________________

١١١ [قبلا] : معاينة.


لما ذا المطالبة بالآيات الجديدة؟

هدى من الآيات :

في سياق الحديث عن ضرورة الاعراض عن المشركين باعتبارهم معاندين ، في هذا الدرس ، يتابع القرآن هذا الحديث ببيان ان المشركين يحلفون بالله ـ الايمان المغلظة ـ انهم سوف يؤمنون بشرط نزول آية معينة عليهم ، أو دليل قوي ، بيد أنهم يكذبون ، وبالرغم من ان الله قادر على ان ينزل آية مما يطالبون بها ، ولكن ما الضمان لقبولها ما داموا يرفضون الآيات الواضحة ، وتحدثنا الآية الثانية ، عن أن الكفر بالآيات يسبب في تبديل القيم والمقاييس ، وعدم قدرة الفكر على التمييز ، ذلك لان الكفار طغاة والطغيان يحجب العقل ، ويدع القلب مظلما.

وفي الآية الاخيرة : يذكر القرآن انه حتى لو أنزل الله أكثر الآيات وضوحا ، مثل نزول الملائكة ، وتكلم الموتى ، وحشر كل شيء أمامهم ، فإنهم لا يؤمنون لأن الجهل محيط بأكثرهم.


بينات من الآيات :

الايمان الكاذبة :

[١٠٩] التعرف على طبيعة المشركين ، يساعدنا في تكوين علاقات سليمة معهم ، انهم انما يكفرون استجابة لشهواتهم ، أو تسليما لضغوط مجتمعهم ، أو خشية من طاغوت حكومتهم ، أو ما أشبه ، ولكنهم يبررون كفرهم بأنهم غير مقتنعين بالحق ، أو ان الآيات والمعاجز غير كافية لهم ، ولكي يبالغوا في تغطية كذبهم ونفاقهم ، لا يدعون قسما الا ويحلفون به على صدق نواياهم وهم كاذبون.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)

اي بآخر ما يستطيعون عليه من الأيمان.

(لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها)

أي آية معينة يذكرونها ، أو آية يصدق عليها كلمة آية ـ في زعمهم ـ مثل ان تكون آية كبيرة جدا كإحياء الموتى.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ)

فالله قادر على أن يأتي بآية ، ولكنه لا يأتي بها الّا حين تقتضي حكمته ، وليس كلما شاءت أهواء الكفار ، أو حتى ارادة الرسول (ص) الحريص جدا على هداية الناس.

(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)

وأي ضمان نملكه نحن لأيمانهم بعد مجيء مثل تلك الآية ، علما بأن هؤلاء


كفروا سابقا بكل الآيات الواضحة.

محكمة الفطرة :

[١١٠] للإنسان فطرة أولية أنعم بها الله عليه ، وبهذه الفطرة يميز البشر الخير من الشر ، والهدى من الضلالة ، وإليها يحتكم أهل الأرض حين يتنازعون ، فالفداء والإحسان والشجاعة والسخاء والبطولة ، صفات جيدة ، وعكسها رذيلة ، تجد هذا عند المسلم والكافر ، والحضري والبدوي ، وحتى الإنسان البدائي شبه الوحشي ، انها مقاييس عامة زود الله البشر بها ليتلمس بها طريقه.

وبهذه الفطرة الاولية عرف البشر ربه ، وآمن به ، ولكنه بعد أن تعرض لضغط الشهوات والطغاة والخرافات. استسلم لها وكفر بالله ، وحين كفر بربه أرسل الله اليه الرسل ، فمنهم من آمن وتحدى الضغوط ، ومنهم من كفر ، وهؤلاء لم يفقدوا نعمة الرسالة السماوية فحسب ، بل أن الله سبحانه أفقدهم نعمة الفطرة الاولى أيضا.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ)

الأفئدة هي القلوب التي كانت سابقا محلا للفطرة النقية ، وللمقاييس السليمة ، اما الأبصار فهي الحواس التي تتبع القلوب ، فاذا تحولت وتبدلت معايير البشر ، فان حواسه هي الاخرى تتحول دون ان يقدر على الاستفادة السليمة منها ، وآنئذ يصبح هؤلاء بسبب فقدان الفطرة.

(كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

والسبب ان هؤلاء طغوا ، والطغيان يسبب قلب الافئدة ، وتبدل المقاييس.

فالبشر الذي يتبع عقله ، ويتبع الحق ، والحق هو هدفه ، مزود بمقاييس لمعرفة هذا


الحق ، ولكنه حين يتبع شهوته ، ويتبع ذاته ، والذات الطاغية كل هدفه ، ومقياسه في الحسن والقبح ، والخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، هو الأقرب الى نفع ذاته وتحقيق هدفه اللامقدس من وراء شهواته ، وتكون أصول دينه ثلاثة : الطعام والشراب والجنس ، وأحكام دينه هكذا. الحلال ما حل باليد ، والحرام ما حرم منه الإنسان ، ان مصير هذا الإنسان ، مصير الدول الطاغوتية في العالم التي تصنع لذاتها مقاييس خاصة بها ، وقوانين دولية ومحاكم ومجالس أمن .. إلخ. كلها بهدف دعم السلطات الطاغوتية على رقاب الجماهير المحرومة ، لذلك يحذر القرآن من مغبة الكفر بالآيات ويقول :

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

لا يلتمسون طريقهم لأنهم طغوا ، بل ان هؤلاء يفقدون شيئا فشيئا المقاييس لمنفعة ذواتهم ، فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.

[١١١] ودليل كذبهم ونفاقهم : أنهم لو أنزلت عليهم أكثر الآيات إثارة لم يؤمنوا.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)

بل أكثر من هذا لو أن الله حشر عليهم الأموات حتى يقابلونهم بالحقيقة الصريحة ، كما إذا حشر عليهم الطيور فآمنت بالرسالة مع ذلك ما آمنوا.

(وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

فيهديهم هداية مفروضة عليهم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)


وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)


الإصغاء الى زخرف القول

هدى من الآيات :

الدنيا دار ابتلاء ، والهدف مما فيها من صراع ، هو فضح جوهر الأشخاص حتى يكون الثواب والعقاب وفق العمل لا وفق علم الباري سبحانه ، ولقد قيّض الله لكل رسول عدوا. ليكون قدوة لمن لا يؤمن بالآخرة. كما الرسول قدوة وامام للمؤمنين ، وأعداء الرسالات يوحي بعضهم الى البعض أقوالا مزخرفة يتبعون بها غرور أنفسهم ، وهذا الكلام يشبه الوحي الالهي في انه مقدس عند من لا يؤمن بالآخرة.

وهنا جعل القرآن الخط الفاصل بين المؤمن والكافر الايمان بالآخرة ، وهذا يعني ان غير المؤمنين بالآخرة لا يمكنهم الايمان باي شيء آخر من الحقائق.

ويأتي هذا الدرس ليبين جانبا من فلسفة الشرك عند أولئك الذين يرفضون الايمان بالله والرسالة. حتى ولو جاءتهم كل آية ممن ذكرهم القرآن الكريم في الدرس السابق.


بينات من الآيات :

المعارضة المنظمة :

[١١٢] لنعرف ان هناك معاندين لا ينفع معهم الجدل ، وأن موقف هؤلاء لا يعتمد على دليل مضاد فلا يبعث موقفهم في أنفسنا الوهن والشك ، فنقول : لعل حديثهم ينطوي على جانب من الصحة فنخرج ـ لا سمح الله ـ من الايمان ، لذلك جاء هذا الدرس وما مضى ليؤكد على أن الله سبحانه ليس فقط حرم هؤلاء من نعمة الهداية ، وسلبهم نعمة الفطرة النقية ، وانما أيضا نظم هؤلاء في قيادة مناهضة لامامة الرسول ، وجعلهم يقلدون أساليب الرسالة حتى ان بعضهم يوحي الى البعض الاخر.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ)

والسؤال : كيف جعل الله ذلك ، هل خلق أعداء ليكونوا مناهضين للرسالة؟

ربما الجواب السليم هو : ان هذه سنة من سنن الله في الحياة ، يذكرها القرآن هنا لنكون على بصيرة منها لئلا نفاجئ بها ، ولان كل السنن في الكون من صنع الله لذلك يعبر عنها القرآن دائما بمثل هذه التعبيرات.

ان الرسالة التي تنتشر دون مقاومة أعداء لا بد ان يتهم أصحابها أنفسهم ، لان هذه السنة لم تتحقق فيهم ، وان الرساليين الذين ينتظرون عملا سهلا وميسورا. انهم على خطأ ان شيطان الانس يتمثل في مجتمع الطاغوت ، وشيطان الجن يتمثل في أهواء الجبت والمنافقين وما أشبه.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)


وحي الرسالة يتمثل في البصائر التي تساعد البشر على رؤية حقائق الحياة ، بينما وحي أعداء الرسالة وثقافاتهم الاسطورية (المقدسة عندهم) يتلخص في أقوال مزخرفة ذات أدب خاو مشبع بالكلمات المفخمة ، غير ذات المحتوى ، اما روح هذه الكلمات فيتمثل في الغرور ، ونفخ الانانية الباطلة ، ان هذا مقياس صادق لتمييز الثقافة الرسالية عن الجاهلية.

حيث ان الاولى تدعو الى تقديس الحق ، والتواضع له ، ونسيان الذات والأرض ، والدم واللغة ، والثروة وما أشبه من أجل احقاق الحق ، بينما الثانية تقدس كل شيء مادي غير الصدق والحق والخير وما أشبه.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)

فلا نتصور ان هناك ضرورة تدعو الى إسكات هؤلاء ، وتصفيتهم أو هدايتهم ، إذ لو شاء الله لفعل ذلك ، فهو قادر على ذلك وانما لم يفعل لحكمة بالغة.

الايمان بالآخرة ومسئولية الضلال :

[١١٣] ومن سنن الله في الحياة ان نعيق أئمة الضلال ، يستقطب الهمج الغثاء الذين يفقدون الايمان بالآخرة ، فيكون امتحانا لهم أيضا.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)

انما ركزّ القرآن على الايمان بالآخرة ، لان السبب في عدم الايمان بالله وهو مصدر كل معرفة وايمان ليس عدم وضوح الشواهد ، فالله أكبر شهادة من كل شيء ، وانما عدم الخوف من العاقبة ، وأساسا قصر النظر ، ومحدودية الرؤية بما في عاجل الدنيا ، بل عاجل اللحظة التي يعيشها الشخص من الدنيا.


(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)

من الجرائم حتى يلاقوا جزاءهم العادل بعد عمل وعلم بذلك.

وانما قال ربنا : «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ» ولم يقل اسماع لان هذه الأفكار لمزخرفة تتناسب وخوائهم العقائدي فيتقبلونها بأفئدتهم.


أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

____________________

١١٦ [يخرصون] : يكذبون.


اتباع الاكثرية الضالة

هدى من الآيات :

بعد ان ذكر القرآن الحكيم الوحي الشيطاني في الدرس السابق ذكّرت هذه الآيات بالوحي الالهي الذي لا يجوز اتخاذ غيره لأنه كتاب مفصل فيه تفصيل كل شيء ، فلا نحتاج الى غيره وهو لا ريب فيه بالنسبة للمؤمنين. ففيه الثقة كلها ، ثم انه يمثل الحق والعدالة ، بالاضافة الى كل ذلك فهو كتاب دائم ، لا يتغيّر وفق تطورات الزمان والمكان ، لان الذي وضعه هو الله الذي وضع سنن الحياة ، وهو السميع العليم وعلمه جديد قديم.

وفي مقابل رسالة الله لا نجد سوى تخرصات الناس التي لا نجد فيها الا الظنون والخيالات الفارغة التي لا يقدرون هم أنفسهم من اليقين بها والايمان بصحتها.

والله سبحانه اعلم باتجاهات الناس الضالين منهم والمهتدين لان السبيل هو سبيل الله ، والمقياس في الضلالة أو الهدى هو الله الحق ، فهو اعلم بذلك الحق ، وأولى بأن نسأله سبحانه في هدايتنا الى السبيل الأقوم المؤدي اليه سبحانه.


ان البشر يبحث عادة عن الحق ولكنه يضل عنه ، ولان الناس يختلفون في الحق ، ولا يمكن ان يجعل كلام بعضهم مقياسا وميزانا لمعرفة وتمييز الحق عن الباطل ، إذا فلنعد الى الله رب الناس ، ومن اليه منتهى طريق الحق ليهدينا الى الحق.

بينات من الآيات :

أنزل عليكم الكتاب مفصلا :

[١١٤] العالم يموج بالنظريات ذات الاتجاهات المتناقضة ، والحياة تتزاحم فيها السبل المختلفة ، والإنسان يولد مرة واحدة ويختار سبيله ، والنظريات التي يعتقها يتحمل شخصيا مسئوليتها ، والناس لا يمكن ان يكونوا حكما على بعضهم لأنهم يختلفون مع بعضهم اختلافا واسعا ، انما علينا ان نتوسل الى قوة أعلى هي قوة الله لتكون مصدر الهامنا بالنظرة الصحيحة ، ومصدر هدايتنا الى السبيل الا قوم.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً)

والله تعالى لم يبخل بالهداية على عباده ، بل لم يكتف بالهداية المجملة ، وانما فصل الهداية تفصيلا.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)

فيه علم كل شيء بحدوده المتغيرة ، وحسب مراحله الزمانية ، فالقرآن لا يكتفي ببيان قبح الظلم وانما أيضا يفصل الحديث في أنواع الظلم وتفاصيل العدالة.

والكتاب هذا لا ريب فيه فبامكان البشر أن يؤمن به ببساطة ، ودون تعقيد بشرط ان لا يكون معقدا ومعاندا.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ


الْمُمْتَرِينَ)

الذين يجادلون في الحق بغير هدف سوى الجدل ، لأنه لو لم يكن البشر ممتريا يستهدف المراء والجدل ، فانه سوف لا يشك في الكتاب.

الصدق والعدل وسيلة وهدف الرسالات :

[١١٥] تتميز كلمات الله ، وخلاصة وحيه الى البشرية بأنها تامة ، والتمام بمعنى وفائها بكل الحاجات البشرية ، وأنها صادقة تطابق الحق ، والحق هو ما في الكون من أنظمة وسنن ، وبما ان ربنا هو جاعل هذه الانظمة ومجريها ، فانه سبحانه هدي البشر إليها عبر كلماته بصدق ، وأنّ كلمات ربنا سبحانه عدالة ، حيث انها تعطي لكل فرد حقه ، ولكل طائفة وقوم وجيل حقه ، ذلك لان الله فوق الميول والشهوات ، وقادر وحكيم وعليم ، لذلك لا يوجد لديه سبحانه اي سبب للظلم ، من عجز وما أشبه.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)

المحتوية على رسالاته.

(صِدْقاً)

أي حقا.

(وَعَدْلاً)

الصدق هو وسيلة الرسالة والعدل هو هدفها.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)


فبسمعه يحيط علما بكل صغيرة وكبيرة من حوادث الحياة ، وبعلمه الواسع يحيط بأصل الحياة وأولها وآخرها و.. و.. ، فعلمه جديد قديم. محيط بالجزئيات والكليات ، فهو إذا تام الكلمات صدقا وعدلا.

عند ما لا تتبع رسالتك!

[١١٦] الرسالة الالهية التامة قائمة على أساس الصدق والعدل ، الصدق في القول والعمل ، والعدل كهدف لهذا الصدق ، اما الثقافات الجاهلية ، فانها قائمة على أساس الظن والتخرص ، فما هو الظن؟

الظن : هو التصور النابع من الأهواء الذاتية والشهوات والضغوط ، أو هو ما تصنعه أنت في ذهنك. لا لكي تطبقه على الواقع الخارجي ، بل ليكون بديلا عنه ، مثلا : تصورات الشعراء عن الحياة ظنون. لأنها لا تهدف كشف الحياة كما هي ، بل تهدف تصويرها حسب مذاق الشاعر ، ولذلك قيل «الشعر أعذبه أكذبه» كذلك حين تتصور أن نظام الطاغوت يجب ان يبقى لا لشيء الا لأنه يحقق مصالحك الذاتية ، وقد تأتي بأدلة متشابهة لإثبات ذلك ، ولكنها جميعا تأتي لإثبات قصور مصدره حب الذات لا كشف الحقيقة.

والظن يختلف عن العلم في أنه قائم بذاته ، بينما العلم قائم بالحقيقة ، مثلا : علمك ببزوغ القمر قائم على أساس وجوده ، فاذا أفل زال علمك ، أما إذا تصورت القمر على جدار بيتك ، فان هذا التصور قائم بذاته ، ومثله كلوحة جميلة تصور القمر. سواء كان هناك قمر أم لا.

والبشر قد يتبع الخرص والاحتمال ، وذلك حين لا يرى ضرورة لكشف لحقيقة ، فيفترض افتراضات حولها ، مثلما كان الناس يقولون عن السماء والنجوم لأشياء لا برهان لهم بها سوى الاحتمال.


وأكثر البشر يتراوحون بين الظن والخرص ، لأنهم لا يملكون الهدى الرسالي ، ذلك لان الهدى كمال لا يبلغه الا من جاهد نفسه وزكاها.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

[١١٧] وإذا كان أكثر البشر ضلالا ، لأنهم يتبعون الظن ، فكيف يمكن ان يميز الإنسان طريق الحق عن الضلال ، ان عليه ان يتوسل بالله لأنه الحق الذي يميّز الضلال عن الهدى.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

ولان منتهى السبيل ، هو الوصول الى الله سبحانه ، فهو دون غيره يهدي الناس الى السبيل ، ويحدد من يضل عنه أو يهتدي اليه.


فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)


اتباع الهوى واكتساب المآثم

هدى من الآيات :

يضرب الله مثلا على بصائر الدرس السابق ، بان السبيل الى الحق هو السبيل الذي يؤدي الى الله ، والله سبحانه أعلم به ، وأن ما سواه ضلالة وظن وتخرص لذلك بيّن حكم الطعام الذي هو أبسط الضرورات ، ومع ذلك يحرم جماعة أنفسهم منه لبعض الظنون التي لم ينزل الله بها سلطانا ، فجاء أمر صريح بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، ثم تساءل القرآن عن سبب الاحجام عن أكل ذلك بعد أن أعطانا الرب قائمة بالمحرمات التي تصبح هي الاخرى حلالا عند الضرورة ، ولكن مع ذلك فان البعض يضلون بسبب أهوائهم.

ان المحرّم هو الإثم الذي فصّله القرآن (ظاهره وباطنه) وكذلك الشرك بالله ، ومن مظاهره ان تذبح الذبيحة باسم الأصنام ، وأولياء الشياطين يجادلون أهل الحق في ذلك بوحي من الشياطين ، ويشككونهم في تحريم ما ذبح على النصب ، أو الذي لم يذكر اسم الله عليه ، وان طاعة الشياطين في حكم الشرك بالله العظيم.


بينات من الآيات :

قاعدة الاضطرار :

[١١٨] قد تميل النفس البشرية الى الانطلاق (كما في بداية انفجار الحضارات) فتحلل كل حرام ، ولا تتقيد بقيود الأخلاق والآداب ، وقد تنعكس فتميل نحو الانغلاق فتنكمش (كما في حالات التخلف) فتحرم كل شيء ، وتستقبح حتى الطيبات ، اما المؤمنون فإنهم يتبعون الحق في حالات الانطلاق والانغلاق معا ، دون الاتباع لأهوائهم ، ولطبيعة نفسياتهم في الظروف المختلفة ، والحالات الاجتماعية المتباينة.

والقرآن يربط بين الايمان بالله ، وبين أكل ما ذكر أسم الله عليه ، لكي يكون المؤمن ملتزما في تصرفاته ـ سلبا وإيجابا ـ بالمنهج السماوي.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ)

اي تلك الآيات التي أشار إليها القرآن في الدرس السابق ، وإذا كنتم مؤمنين بان الله أعلم بسبيل الهدى عن الضلالة ، فاتبعوه فيما يأمركم به.

[١١٩] يتساءل القرآن عما يدعو البشر الى الامتناع عن أكل غير المحرمات.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)

اي انه بالرغم من حرمة بعض الطعام الا أنه حلال لمن يسبب تركه له ضررا كبيرا عليه فهو مضطر اليه ، فكيف بالطعام الحلال الذي لا يجوز تركه لمجرد أهواء ونفسيات ضيقة


ومن الناس من يتبع أهواءه دون هدى الله ، ودون علمه ، فيحرم على نفسه الطيبات ، لا لأن الله حرمها ، ولا لأنه يعلم بضررها.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)

الذين يتجاوزون حدود أحكام الله ـ زيادة أو نقصانا ـ فهم لا يتبعون منهج الله ، بينما المنهج القويم السالك بالبشرية الى الله ، هو منهج الله سبحانه لأنه خالق البشرية ، فالمعيار هو ما عند الله ، لا ما عند البشرية من أهواء.

الإثم بين الظاهر والباطن :

[١٢٠] وكما لا يجوز التوقع وترك الطيبات احتياطا وحذرا. كذلك لا يجوز الاسترسال وتناول الرطب واليابس معا دون فرق ، كما تفعله الجماعات البشرية في ظروف قوتهم وبطشهم (وحضارتهم) كلا .. هناك حدود يجب على البشر أن يقف عندها ، هي حدود الإثم الذي فصله الله سبحانه.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)

والإثم حرام لا لأنه يتشكل بهذه الصورة أو بتلك أو لان اسمه (إثم) أو لأن الناس يتبرءون منه ، بل لأنه خبيث واثم في جوهره ، ولذلك لا فرق بين ظاهره وباطنه ، علنه وسره ، سواء كان باسم الإثم ، أو وضع له اسم أخر مثل الأسماء القانونية التي توضع اليوم للاحتكار أو الربا أو الغش ، أو مثل الشرائع الدولية التي تسمح للدول الكبرى استغلال ثروات الشعوب تحت أسماء مشروعة ، مثل الانتداب ، وتدوير الثروات النفطية ، والأمن الصناعي وما أشبه ... ان الإثم إثم مهما غيّرنا اسمه أو وضعنا له شريعة أو قانونا.

والإثم يولّد الدمار ، سواء سميناه كذلك أم لا.


(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)

من الإثم في عاجل الدنيا وأجل الآخرة.

[١٢١] والإثم هو ما يشرعه الله لا ما يوحيه الشيطان. مثلا : لا يجوز أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها حين تذبح لأنها فسق ، يدل على حالة الانفصال بين الإنسان ومبادئه ، أو الزعم بأن الدين محصور في المسجد. أما الحياة سواء منها ما يرتبط بالأكل والشرب ، أو الزواج والطلاق ، أو السياسة والاقتصاد ، فانها منفصلة عن الدين. ان كل ذلك فسق وشرك بالله ، وذلك يعني أن هناك إلهان ووليان وقائدان للبشر ، أحدهما للمسجد والثاني للسوق.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)

والشياطين يجادلون في الحق ، ويحاولون تمييع الواجبات وأن يقولوا : ما هو الفرق بين الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها وبين الاخرى؟ دون ان يضعوا القضية في اطارها العام ، ليعرفوا : ان ذلك مرتبط بكل سلوك البشر. ان يكون سلوكا توحيديا فيقول :

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أو سلوكا شركيا فيقول : ان صلاتي ونسكي لله ومحياي ومماتي لنفسي.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)

أولا : لان طاعة غير الله في حكم الشرك بالله.

__________________

(١). ١٦٢ / الانعام.


ثانيا : لان منهج الشياطين هو منهج الشرك ، والفصل بين الدين والدنيا ، بين الدين والسياسة ، بين الجامع والجامعة ، بين المسجد والسوق وهكذا.


أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ

____________________

١٢٤ [صغار] : الصغار الذي ينبه المرء الى نفسه.


عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)

____________________

١٢٥ [حرجا] : الحرج أضيق الضيق ، وحرج فلان إذا هاب ان يتقدم على الأمر.


دور أكابر المجرمين

في تضليل الناس

هدى من الآيات :

البشر ميت ، ورسالة الله روح تبعث فيه الحياة ، وتعطيه نورا يتحرك به في الحياة الاجتماعية ، ولكن فريقا من أبناء البشر يرفضون هذه الحياة ، ويفضلون البقاء في الظلمات ، وذلك بسبب أنهم تعودّوا على سلوك معين ، وأنهم يستأنسون بذلك السلوك ويحبونه.

ومخالفة الرسالة قد تكون له عوامل فردية ، مثل عامل العادة ، وقد تكون له عوامل اجتماعية ومنظمة مثل : خطط السلطة الطاغوتية التي هي في واقعها تجمع يضم مجموعة من المجرمين ، ذات قيادة ماكرة ومخططة ، بيد أن خطط هذه القيادة تنعكس عليها ، ومن خططها تكبرها على الرسالة بسبب ادعائها أنها دون الرسول أولى بها ، وما دامت الرسالة لم تهبط عليها فانها سوف تكفر بها ، والله يقول : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

أما جزاء هؤلاء فهو الذّل والصغار والعذاب الشديد بسبب خططهم المضادة


للرسالة.

ومن عوامل الكفر بالرسالة ضيق الصدر ، وقلة الاستيعاب ، وضعف الارادة ، وبالتالي الضيق والحرج.

والواقع ان ذلك يصيب قلب الفرد بسبب عدم الايمان ، ومن عوامل الايمان التذكر واستعادة الحقائق ، حيث يهتدي الإنسان بهما الى صراط الله الذي يوفر للبشر الاستقامة والسلامة ، والولاية الالهية (الدعم الالهي).

وانما يبلغ المؤمن هذه الاهداف بأعماله ، وليس بمجرد التذكر أو العلم والمعرفة.

بينات من الآيات :

أو من كان ميتا فأحييناه؟!

[١٢٢] كما ان البشر كان فاقدا للحركة والنمو ، وبالتالي الحياة ، حتى نفخ الله فيه روحا ، فأصبح بشرا سويا ، كذلك فهو فاقد للعلم والهدى حتى يحييه الله ، ويعطيه القدرة.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)

ان الله يحيي قلب البشر بالعقل والوحي ، وذلك لعله يستطيع أن يعرف ضره من نفعه ، ويعرف من يضره ومن ينفعه ، وكيف يتصرف مع الناس ، وينظم علاقته معهم.

بيد ان هناك من لا ينتفع بالحياة هذه ، فيبقى في ظلمات دون ان يخرج منها.

(كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)


اما السبب الذي يجعل الفرد يفضل الظلمات على النور فقد يكون العادة حيث يحب الفرد السلوك الذي كان ينتهجه حتى ولو كان شائنا.

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

التنظيم الهرمي في جهاز الطغاة :

[١٢٣] العامل الثاني للكفر هو وجود ماكرين في المجتمع والمكر هو : التخطيط من أجل تضليل الناس بهدف وصول جماعة أو فرد لمصالحهم الشخصية ، وفي المجتمعات توجد دائما شبكة من المجرمين تجمعهم قيادة واحدة تعمل ضد مصلحة الامة. هذه الشبكة هي التي تشكل واقع السلطة الطاغوتية ، وهي تنشأ ، من فرد أو عدة أفراد زيّن الشيطان لهم ما كانوا يعملون من سيئات ، ثم نظمّوا أنفسهم في سلسلة هرمية على رأسها أكبر المجرمين.

(وَكَذلِكَ)

ربما الاشارة توحي بآخر الآية السابقة ، أو بها جميعا ، اي لان هنا جماعة تستحب العمى على الهدى ، فقد تشكلت منظمة في كل قرية للمجرمين.

(جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها)

وقيادة هذه المنظمة الماكرة انما هي لأكبرهم اجراما ، فالقيمة بينهم هي قيمة الاجرام ، والهدف لها هو المكر والتخطيط ضد الجماهير.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)

ان السلطة الطاغوتية حين تخطط ضد الجماهير ، فأمّا تثور ضدها الجماهير ، وتقضي عليها ، فيكون جزاؤها خزيا ، وعذابا أليما ، وإمّا تسترخي الجماهير ، فينزل


عليها وعلى السلطة عذاب الله فيدمرهم جميعا ، إذا فعاقبة المكر تعود على صاحبه إمّا وحده أو مع الآخرين.

والآية هذه تفضح طبيعة السلطة الطاغوتية ، وتبين أنها ليست سوى تجمع للمجرمين ، وأن قوتها تكمن في خططها الماكرة ، وأن قيادتها متمثلة في المجرم الأكبر ، وأن الأمة لو عرفت هذه الطبيعة للسلطة الطاغوتية ، إذا لتخلصت منها ، إذ ان المجرم لو كشف مكره جرد منه سلاحه وسهل القضاء عليه.

[١٢٤] من مكر هذه الفئة السالفة الذكر أنها تتعالى عن الحق ، بعد أن تضع على نفسها هالة من القداسة الباطلة ، وتنشر بين البسطاء هذه الفكرة الرعناء : لو كانت الرسالة صحيحة ، إذا لم يكن ربنا يختار لها الا واحدا منا نحن الكبار ، ولم يكن يفضل علينا واحدا من عامة الناس.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ)

ولكن الله يدحض حجتهم بقوله :

«اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»

يجعلها في أيد نظيفة ، وجيوب طاهرة نقية ، وقلوب زكية ، ورجال مخلصين ، وليس في أيدي هذه الفئة التي سرقت أموال الناس ، وصنعت مجدها على أجسادهم ، ثم يهددهم الله بالقول.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ)

بسبب تكبرهم.

(وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)


الشروط المساعدة للايمان :

[١٢٥] بعد ان بينت الآيات عوامل الكفر الفردية والجماعية ، جاءت هذه الآية لتبين الشروط المساعدة للايمان ، وفوائده وأبرزها : شرح الصدر حيث ان الايمان بالله يعني تفضيل المستقبل على الحاضر ، وتفضيل الجماعة على الفرد ، وتفضيل الحق على الشهوة لان الحق خير عاقبة ، وأفضل أملا.

وهذه الصفات لا تعطى الّا لمن يتمتع ببعد الرؤية ، ورصانة الفكر ، وبالتالي سعة الصدر. بينما الكفر الكفر بعكس الأيمان تماما ، أن هو إلّا نتيجة ضيق الصدر ، وسبب له أيضا.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)

يبدو أن الضيق هو الجزع ، ومحدودية الرؤية ، وعدم استيعاب الاحداث ، بينما الحرج هو التردد وعدم القدرة على اتخاذ رأي ما ، وبالتالي أن يرى الشخص نفسه عاجزة عن اي شيء ، والذي يصّعد في السماء يشعر بالضيق لأنه يجد نفسه مقطوعا عن أطرافه ، ويشعر بالحرج لأنه يخشى الوقوع.

ومن المعروف ان الصعود في السماء يسبب قلة الا وكسجين ، وبالتالي ضيق النفس ، وسوء الخلق وقد يكون التشبيه من هذا الباب.

(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

انهم يعيشون في حدود ساعتهم وموقعهم ، فلا يرون الاحداث القادمة ، أو الظواهر المتفاعلة فيما وراء موقعهم المحدود فتأتيهم المشاكل والصعوبات من حيث


لم يحتسبوا ، ولأنهم كانوا يكفرون بالحقائق الغيبية والتي هي وراء زمانهم ومكانهم ، فاذا بهم يواجهون بها دون ان يستعدوا لها.

منافع الايمان :

[١٢٦] كما سبق ان قلنا ان : العامل المساعد للايمان هو شرح الصدر ، أما منافع الايمان فهي اربعة أبرزها :

أ/ الاهتداء الى الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه الى الله سبحانه ، بما له من أسماء حسنى وأمثال عليا ، أي الى التحرر الكامل ، والعدالة الشاملة والفلاح.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً)

ب / لا تنحرف به الأهواء العاجلة ، والشهوات المؤقتة ، ذات اليمين وذات الشمال ، لان المؤمن شرح الصدر ، لا تغرّه الظواهر الآنية والاحداث الزائلة ، فيبقى على خطه وخطته البعيدة المدى.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)

فيعرفون الحقائق ولا ينسونها ، اما الذين لا يذّكرون ، فإنهم لا ينتفعون بالآيات لأنهم لا يربطون بين الآيات وبين الحقائق التي تدل عليها.

دار السلام :

[١٢٧] ج / وبعد الاستقامة ، وأيضا بسببها ، يستفيد المؤمنون السلامة والأمن في الدّنيا والآخرة.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)


لأن ما يهدد سلامة البشر ، هو التطرف في الشهوات. اما الاعتدال فانه طريق الأمن لان العدالة في المجتمع أفضل وسيلة للامن ، والاعتدال في الطعام والشراب هو الآخر طريق السلامة الصحية ، وهكذا ..

د / اما أهم فائدة للايمان ، فهي الانضواء تحت راية التوحيد والتنعم بعبادة الله وولايته.

(وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

وولاية الله هي التي توفر للبشر الاطمئنان الداخلي ، ومضاء العزيمة ، وسلامة النية ، وبالتالي الانتصار في الدنيا والفلاح في الآخرة.


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)


عاقبة تولّي الظالمين

هدى من الآيات :

تلك كانت فوائد الايمان كما ذكرت في الدرس السابق ، أما أضرار الكفر فأهمها هي : الولاية الباطلة فاذا كانت للمؤمنين ولاية الله فان الكفار أولياؤهم الجن حيث يحشرهم الله وإياهم ، ويحاسبهم ويجيبون انهم انما تولوا الجن طلبا للمتعة ، باعتبار المتعة ، هي الهدف العام للمشركين.

ولكن المتعة لا تبقى الّا لفترة محدودة تنتهي في الأجل المحتوم ، ثم يكون مصيره النار.

ولان الظالمين يعملون السيئات ، فإنّ الله يجعل بعضهم أولياء بعض ، ويسلط بعضهم على بعض لان هذه نتيجة أعمالهم في هذه الدنيا ، أما في الآخرة فبعد أن يسألهم ربهم عن سبب كفرهم ، وأنه هل كان هناك نقص في أسباب الهداية؟ فيجيبون : كلا .. بل جاءت رسل الله ومعهم الآيات الواضحة وبالتالي بعد أن يشهدهم على أنفسهم يأخذهم بأعمالهم ، ويبين القرآن السبب الحقيقي للكفر وهو :


غرور الحياة الدنيا.

من هنا يبعث الله في كل قرية من ينذرها ، حتى ينذرها ، حتى يهلك من يهلك عن بينة وحجة واضحة ، وانما ينقسم الناس درجات سواء في حقل الصلاح ، أو الفساد بأعمالهم وليس عبثا.

بينات من الآيات :

لماذا عبدوا الجنّ؟

[١٢٨] بعض الناس يعبدون الجن ويتخذونهم أولياء من دون الله. لماذا؟ وما هي حجتهم؟

أولا : حجة هؤلاء ان الجن يمتّون الى الله سبحانه بصلة قربى ، أو أنهم أقوياء ، بيد ان الجن خلق من خلق الله ، وسيحشرون يوم القيامة ، وسيحاسبون كما الانس لا فرق ، فعبادتهم واتخاذهم أولياء لا معنى له.

ثانيا : السبب في عبادة الجن أو في اتخاذ بعض الانس أولياء من قبل الآخرين هو فقدان الرؤية السليمة للحياة ، حيث يحسب البشر أنّ الهدف الأساس من الحياة هي المتعة ، ولكي يحقق رغباته في المزيد من التمتع يرتبط بالجن أو ببعض الانس ، وانما يتبع هواه وشهواته باسم اتباع الجن والانس ، اننا حين نتبع الحق لا نعبد الجن أو الانس ، انما نعبد الله ، والسبب : إننا آنئذ نقيد شهواتنا ، وننظمها وفق البرامج الالهية ، التي تهدينا إليها عقولنا ، ولأننا لا نهدف آنئذ التمتع كهدف أعلى لحياتنا ، بل نهدف تحقيق مسئوليتنا في الحياة وهي هدفنا.

من هنا نعرف : أن عبادة الجن ناتج من عدم الاستعداد لتحمل المسؤولية في الحياة.


(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)

يبدو ان معناه أنكم. اي الجن قد جذبتم كثيرا من أبناء الانس لعبادتكم ، فالتفوا حولكم ، ما السبب؟

ويجيب على هذا السؤال الانس الذين التفوا حول الجن. لأنهم هم المسؤولون عن عبادة الجن ، وليس الجن المعبودون :

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ)

أي إنما اتخذناهم أولياء لتحقيق رغباتنا باسم الجن ، والّا فان المعبود الحقيقي هو الهوى وليس الجن المساكين؟

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا)

فانتهت المتعة والمهلة التي أمهلتنا إياها.

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

حيث انه قد يرحم بعض العباد ، وينهي فترة عذابهم في جهنم حسب حكمته البالغة.

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

كيف يهدم الظلم بناء المجتمع؟

[١٢٩] ونستخلص من ذلك : أن أحد الأسباب التي تجعل الكفار بعضهم أولياء بعض هو ابتغاء المتعة ، والسبب الآخر هو الظلم ، حيث ان الظالم سيف الله ينتقم به وينتقم منه ، فاذا شاع الظلم في المجتمع وزالت قيم العدالة والحق ،


واستطاع القوي ظلم الضعيف ، يصبح المجتمع خليطا من الظالم والمظلوم ، كل يظلم من تحته ، ويظلم من فوقه ، وهناك يقفز الى السلطة أكثر الناس ظلما ، والسبب هو الوضع الذي صنعه الناس بأعمالهم.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

أي بأعمالهم التي يكسبونها ، ولقد تكرر التعبير بالكسب للدلالة على العمل في القرآن ، ربما لان كل عمل يقوم به البشر يخلف أثرا ظاهرا أو خفيا عنده ، فكأنه يضيف ذلك الأثر الى سائر أجزاء ذاته.

حب الدنيا رأس كل خطيئة :

[١٣٠] تلك كانت عاقبة الظلم في الدنيا. ان بعض الظالمين يولّي بعضا. أما عاقبة الظلم في الآخرة فانه الهلاك بعد الادانة والتوبيخ.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)

ربما قصّ الآيات بمعنى بيانها واحدة بعد اخرى ، بطريقة تدخل القلب ، وأهم بند في الدعوة هو الإنذار بالعاقبة.

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا)

ولكن السؤال : لما ذا إذا لم يقبلوا بالآيات ، ولم يؤمنوا بربهم؟!

السبب هو تعلقهم الشديد بالدنيا. لان حب الدنيا رأس كل خطيئة.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)


فلم يكن كفرهم من دون وعي منهم ، بل بسبب اعتقاد راسخ بالفكرة المعاكسة لها.

ان تصور لقاء أي إنسان ربه ، وموقفه الضعيف امام هيبته البالغة ، يكفيه عقلا ورصانة وايمانا ، إذ أنّه يكبح شهوات الفرد موقتا ، ويثير فيه حبه لذاته ، وسعيه وراء تحقيق مستقبله.

لا نهلك القرى بظلم :

[١٣١] ودليل وعي الكفار للحقيقة ، وجحودهم بعد اليقين ، ان حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة الدائمة تأبيان الظلم للعباد ، وأخذهم بجريمة ارتكبوها من دون وعي منهم ، بل بغفلة وعدم انتباه ، أو بسبب يقين مضاد.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)

الله قوي مقتدر ، ولا يملك العباد دونه ملجأ ، فان كان يستخدم قوته وقدرته في إهلاك عباده دون ان يبلغ الدعوة الحقّة الى أعمق أعماقهم. أفلا يكون ظلما؟! ولماذا يظلم ربنا عباده وهو الذي خلقهم ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه؟ إذا حين يهلكهم فهم يستحقون ، واستحقاقهم دليل واضح على علمهم بالحقيقة ، وكفرهم بها ، وشهادتهم على ذلك يوم القيامة ، دليل آخر على ذلك.

[١٣٢] وعدالة الله في الحياة ظاهرة المعالم ، ولكن من أبرز أدلة هذه العدالة هي : أن الله يعطي كل واحد من الناس قدرا من العلم والمال والجاه يتناسب مع مقدار عمله ، ومن هنا فانه سوف يثيب أو يعذّب عباده يوم القيامة بأعمالهم ، وبقدر تلك الأعمال أيضا.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)


وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)


لمن عاقبة الدار؟

هدى من الآيات :

لله الأسماء الحسنى ، فهو الغني ذو الرحمة ، ولأنّه غني فهو قادر على ان يفني الخلق جميعا ، ثم يخلق مكانه ما يشاء.

وآية اخرى على غناه سبحانه : أنه جاء بهذا الخلق في مكان خلق آخر كان قبله.

ولكن برحمته التامة لا يفعل ذلك فهو ذو رحمة ، بيد أنه إذا لم يفعل ذلك الآن فليس ذلك دليلا على انه لن يفعل ذلك أبدا ، إذ سيأتي يوم ينتهي أجل البشر فتأتيه عاقبته دون أن يستطيع مقاومتها.

والبشر تؤمّن له الحرية لفترة معينة وذلك دليل رحمة الله به ، ولكنه سوف يسلب منه هذه الحرية بعد انقضاء اجله ، وذلك بسبب غنى ربه عنه ، ولا يسلب الله رحمته الا بسبب ظلمه لذاته.


بينات من الآيات :

الغني ذو الرحمة :

[١٣٣] لربنا سبحانه أحسن الأسماء ، وأعلى المثل ، وأسماء الله منتشرة في الكون في آياته التي لا تحصى ، ومعرفة أسماء الله ومظاهرها وتجلياتها في الحياة تعطينا بصيرة ورؤية واضحة ، وتهدينا الى السبيل الأقوم.

والقرآن الحكيم يذكر هذه الأسماء ، بعد أو قبل أن يذكر الآيات التي تدل عليها ، والبصائر المستلهمة منها ، والسلوك المعين التي تستوجبها.

والواقع ان هذا المنهج القرآني يعطي البصائر والرؤى الحياتية ركيزة عقلية ، كما يعطي الأفكار أبعادا واقعية ، ونتائج سلوكية ، وبالتالي يجمع هذا المنهج بين العقل والواقع والسلوك مما تتكامل به الشخصية البشرية.

وهنا يذكرنا القرآن باسمي (الغنى والرحمة).

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)

وعند البشر لا يجتمع الغنى والرحمة عادة لأن الغنى عند الإنسان مصدره الغير ، فيخشى البشر من فقدانه فيبخل به ، بينما غنى الله مصدره القدرة المطلقة على الخلق ، كما أن رحمته محدودة بحكمته لا تدعها تنفلت عن اطار العدالة.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ)

وهذا دليل على غناه ورحمته معا ، فلو لا قدرته ، وبالتالي غناه عنكم لما كان قادرا على تعويضكم وتبديلكم ، ولولا رحمته لفعل ذلك أول ما ظلمتم أنفسكم ، وهذا دليل قدرته ، وأيضا ان رحمة ربنا محدودة باطار حكمته ، انه فعل ذلك حين كان من قبلكم


آخرون فذهب بهم وأتى بكم.

(كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)

وعند ما يتذكر البشر بهذه الحقيقة يرزق الرصانة في التفكير ، والواقعية في الرؤية ، والاستقامة في السلوك ، أما رصانة الفكر فلأنه يعلم ان القدرة المهيمنة على هذا الكون الرحيب غنية عنه لكنها رحيمة به ، فعليه الا تستبد به الخفة والتكبر والغرور ، واما واقعية الرؤية فعليه الا ينظر الى حقائق الحياة على انها ثابتة أبدا ، اما استقامة السلوك فلأنه يتمتع بالخوف والأمل ، الخوف من استبدال الله له بالآخرين ، والأمل في رحمته ، وبين الخوف والأمل يستقيم سلوك البشر.

التسليم أو العاقبة :

[١٣٤] وما دام البشر عاجزا عن توقيف مسيرة الزمن ، أو منع العاقبة السوءى التي ينذر بها ، وما دام عاجزا عن سلب قدرة الطرف الثاني واعجازه ، فعليه ان يسلم للحقيقة ولا يتكبر عنها.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)

[١٣٥] وينذر الله الظالمين حين يقول : ان للحرية الممنوحة لكم وللقدرات المخولة لكم حدودا تقف عندها.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ)

اي بقدر قوتكم ومكنتكم.

(إِنِّي عامِلٌ)

فهناك خطان من العمل ينتهيان عند العاقبة.


(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ)

اي من سيسكن بالتالي في دار السعادة.

ولكن مجرد التفكر في العاقبة يهدي البشر الى الحقيقة. إذ معلوم لمن تكون العاقبة.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ

____________________

١٣٦ [ذرأ] : الذرء الخلق على وجه الاختراع ، وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه ، والذرأة ظهور الشيب.

١٣٨ [حجر] : الحجر الحرام.


عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)


المظاهرة التشريعية للشرك

هدى من الآيات :

لان الله حكيم عليم (بالاضافة الى انه غني رحيم) فهو لم يحرم الطيبات. بينما المشركون حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات افتراء على الله ، وفي البدء ذكر الله : ان الشرك في حكم الكفر بالله العظيم ، لان من ينذر لله ولغير الله ، فان نذره لغير الله سيحبط نذره لله ، وسيجعله في نصيب الآلهة الشريكة.

والشرك هو الذي دفع بالمشركين الى قتل أولادهم افتراء على الله ، وهدف الطغاة والجبابرة الذين يشركون بهم من تشجيع الناس على قتل الأولاد يتلخص في إهلاك الشعب ماديا ومعنويا.

والله سبحانه ترك المشركين في هذا الوادي بسبب أنهم افتروا على الله سبحانه بالرغم من قدرته على ردهم بالقهر والجبر ، ومنعهم من التسلط على مقدرات الشعب.

وهناك تشريعات باطلة أخرى كانت نتيجتها عليهم ان حرموا الطيبات على


أنفسهم ، ودفعهم الى ذلك افتراؤهم على ربهم الذي سيجزون عليه ، وكذلك تشريع المشركين الباطل الذي يميّز بين الذكور والإناث في الانتفاع من الطيبات ، أو قتل الأولاد ، أو يحرموا ما رزقهم الله كذبا عليه.

بينات من الآيات :

متى يكون الإنفاق لله شركا؟

[١٣٦] الشرك والكفر توأمان ، بيد ان الشرك كفر مغلف ، يستهدف إرضاء كل الأطراف ، وهو ناتج عن ضعف الارادة ، وسوء الحكم والتقدير ، والشرك حالة نفسية تحاول خداع فطرة الايمان بالله ، وإشباع شهوات النفس في عملية تلفيقية مفضوحة.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا)

قالوا : هذا لله لارضاء حسّ التدين الطبيعي في النفس ، ولخداع المتدينين ، ولان ما لله لا يعارض ما لشركائهم ، فاذا كان يعارضهم فإنهم يسلبون حتى ما لله لشركائهم.

انهم يبنون الجوامع الفخمة لله بزعمهم ، انهم يطبعون نسخا من القرآن الكريم ، انهم يقيمون صلوات الجمعة والأعياد ، حتى انهم يحجون لربهم.

ولكنهم في ذات الوقت ، يجعلون للشركاء نصيبا ، فهم يبنون القصور من أموال المحرومين ، ويبنون الدول على حساب المستضعفين ، ويكنزون الذهب والفضة ، ويدعمون الطاغوت ، ويشيعون الإرهاب في البلاد ، وبالتالي يعطون للشركاء كل ما في الحياة من لباب ، ويدعون القشور لربهم ، والله لا يرضى بالقشور.

(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ)


الحكم الذي جعلوه للطاغوت ، لا يمكن ان يكون حكما إلهيّا يسكت عنه ربنا أو يرضى به ، والمال الذي جعلوه دولة بين الأغنياء منهم لا يمكن أن يكون برضا الله سبحانه ، بل انه تعالى يمقته ويرفضه.

(وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ)

الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة التي تعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء ، وتدعم سلطة الطاغوت لأنها تعطى له ، والحج الذي يتحول الى سفرة سياحية ، أو مورد ما لي للجاهلية الجديدة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان أصبحا سوطا على رقاب المستضعفين دون المستكبرين ، انها جميعا من طقوس الطاغوت ، وليست من شعائر الله تعالى.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ)

موقف الشريعة من تحديد النسل :

[١٣٧] وهنا يطرح السؤال التالي : ما هدف الطاغوت ومن حوله من ملأ المستكبرين ، وحاشية السلاطين وجلاوزة الأنظمة المفسدين؟

ان هدفهم أولا : استضعاف الجماهير ، وثانيا : تضليلهم ، ومن الطبيعي ان التضليل يأتي بهدف إبقاء واقع استثمارهم واستعبادهم ، وكمثل بارز لهذين الهدفين أنّ الشركاء الذين يتقاسمون السلطة مع الله ـ في زعم هؤلاء ـ انهم يشيعون بين الجماهير نوعا من الثقافة الجاهلية تشجعهم على قتل أولادهم ، فمن ناحية يضللونهم عن فطرتهم النقية في حب الأولاد ، وضرورة الإبقاء عليهم ومن ناحية ثانية يهلكونهم بذلك ، إذ أن الجيل الذي ينقطع نسله جيل أبتر ، وبالتالي أصلح للاستثمار.


(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)

وكمثل لهذا الواقع المشين ثقافة الجاهلية الحديثة التي تشجع على تحديد النسل ، وعلى الإجهاض في الوقت الذي تزداد الهوة الطبقية في تلك المجتمعات التي تأخذ بهذه الفكرة ، وتصرف البلايين في الحاجات الكمالية التافهة دون ان يفكروا في أن جزء بسيطا من هذه الأموال يكفي لاعاشة الأولاد الذين منع من ولادتهم ، ومن بركاتهم في الحياة.

علما بأن التفجّر السكاني وسيلة طبيعية للقضاء على الطبقات المستكبرة ، لان كل فم يحتاج الى خبز سينفتح بالاحتجاج على الطبقيّة المقيتة.

لذلك يكون الهدف من قتل الأولاد هلاك الناس وتضليلهم.

(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)

ذلك ان الدين الصحيح سلاح فعال ضد الطغاة ، فتضليل الناس عنه هدف أساس للطغيان.

والله قادر على أن يحطم عرش الطغاة ، بقدرته الغيبية ، ولكنه لا يفعل ذلك ما دام الناس غير واعين ، ولا يفكرون في نجاة أنفسهم من الطغيان ، وذلك بالكف عن الثقافة المشركة التي تفتري على الله سبحانه.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)

الخرافات إفراز للشرك :

[١٣٨] حين يتمثل المنهج الشركي في نظام اجتماعي يتبين ضلالته وانحرافه أكثر فأكثر ، وفي الجاهلية كانوا يحرمون طائفة من الطيبات على الناس ، الا من


يشاءون حسب أفكارهم ومزاعمهم.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)

اي موقوف لا يمكن الانتفاع بهما.

(لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ)

اي الا لمن تشاؤه أهواؤهم وخرافاتهم.

(وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها)

لا لشيء الا بسبب منهجهم الفكري الفاسد وأهم إفراز لهذا المنهج انهم لا يذكرون اسم الله على بعض الانعام.

(وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ)

فيتقربون بتلك الذبائح الى الأصنام ، أو الى الجن أو الملائكة أو بعض أبناء الناس ، وذلك حين كانوا يزعمون ان كل تلك آلهة يتقرب بها الإنسان الى ربه سبحانه. حيث قالوا : «نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» (١)

(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)

على الله ، ويزعمون : ان بعض الأشياء أو الأشخاص أبواب الله دون أن يكونوا كذلك.

ويبقى سؤال : ما هي علاقة الشرك بهذه الخرافات؟

__________________

(١). ٣ / الزمر


والجواب : اولا : ان الشرك بالله يحوّر القلب ، ويحجب العقل ، ويعمي البصيرة ، فيرى البشر الأشياء مقلوبة ، وقد يصل به الأمر الى اعتبار الخير شرا ، والنافع ضارا.

ثانيا : ان كثيرا من المحرمات الاعتباطية نابعة من الايمان بالشركاء ، إذ ان خشية الشركاء تحرم المشركون من كثير من الطيبات.

ثالثا : ان الواقع الاجتماعي الذي يفرزه نظام الشرك يحرم على الشعب كثيرا من الطيبات بسبب الطبقية المقيتة ، بل العنصرية التي تسوده.

[١٣٩] وكان من مظاهر أحكامهم الباطلة ، وتشريعاتهم السخيفة ، التفرقة بين الرجال والنساء مما تأباه الفطرة السليمة.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا)

وفي الوقت الذي كانوا يعترفون بعلاقة الزوجية التي هي في واقعها التكامل بين الذكر والأنثى ذلك التكامل الذي يدعو الى المشاركة الكاملة في الحقوق والخيرات كما في المسؤوليات والواجبات ، في ذات الوقت كانوا لا يكفون عن خرافة التفرقة بين الذكور والأزواج.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ)

أي ان كان الجنين ولدا ميتا فسوف يتقاسمه الذكور والإناث معا.

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

انهم سينالون عقابهم بسبب وصفهم الباطل ، وحكمهم غير العادل ، حيث فرقوا بين الإناث والذكور في الانتفاع بالطيبات ، والله حكيم يحكم بالعدل ، وعليم يعلم


من يخالف العدل الالهي.

اعدام الطفولة البريئة :

[١٤٠] وأسوء من التفرقة الطبقية والعنصرية وحتى التفرقة بين الرجل والمرأة ، أسوء منها قتل الأولاد ، تلك العادة الجاهلية العريقة والمتجددة مع كل جاهلية ، وسببها النظرة الشاذة الى الحياة ، والجهل والافتراء على الله ، والضلالة عن الحق.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

واي سفه أكبر وأخطر من أن يقوم الفرد بإلحاق الضرر والخسران بنفسه ، وأن يقتل أولاده ، وهذا السفه الذي يدل على قلة الشعور ، وعدم معرفة ما يضر وما ينفع البشر ، انه مدعوم بالجهل أيضا إذ أن العلم يزيد الشعور ، ويوقظ العقل في البشر.

(وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ)

لان هؤلاء افتروا على الله وما اهتدوا بالمنهج الالهي الذي يوضح للبشر كيف يستفيد من نعم الله عليه ، وبالتالي لأنهم لم يجعلوا الحق محورا لهم ، ومقياسا لأعمالهم ، وبصيرة لفهم الحياة.

لذلك حرموا على أنفسهم هذه الفرصة الطيبة ، ولكن هل ان من يقتل أولاده هو الوحيد الذي يضيّع على نفسه فرصة الانتفاع بالحياة ، والاستفادة مما فيها. كلا .. فكل من لا ينتهج نهج الله انه يخسر ما رزقه من الطيبات ، فالذي لا يربي أبناءه حسب المنهج الالهي القويم أفلا يحرّم ما رزقه الله ، والذي يسرف في الاكل فيعرض صحته للخطر ، أو يأكل المحرمات ، أو يشرب المسكرات ، أو يتعاطى القمار والزنا ، أو يظلم الناس ، أو يكذب ويغتاب وما أشبه. انه هو الآخر يضيع على نفسه نعم الله عليه ، فهو الآخر مثل الذي يقتل أولاده سفها بغير علم.

(قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)


وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ

____________________

١٤١ [معروشات] : العرش أصله الرفع ، ومنه سمي السرير عرشا لارتفاعه ، والعرش السقف والملك ، وعرش الكرم (العنب) رفع بعض أغصانها على بعض ، والعرش شبه الهودج يتخذ للمرأة.


عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)


كيف يحرم الشرك طيبات الحياة؟

هدى من الآيات :

الله سبحانه هو الذي أنعم على البشر ، نعما لا تحصى ، فهو أعلم بسبل الانتفاع بها ، وما يضر وما ينفع منها ، بينما الجاهلية تحرم وتحلل حسب أهوائها دون أن تعرف طبيعة الأشياء.

فالله هو الذي أنشأ البساتين والحدائق ، وجعل فيها مختلف أنواع الشجر والثمر ، ولذلك فهو سبحانه عليم بأحكامها التي منها أن يأكل البشر من ثمراتها دون انتظار ، وأن يعطي الفقراء منها يوم الحصاد ، والا يسرف في الاكل أو في العطاء ، بل يعتدل في كافة التصرفات في الثمرات.

كما أن ربنا الكريم الحكيم هو الذي أنعم على البشر بالأنعام ليتخذ منها الإنسان ما يحمله في مسيره ، وما يجلس عليه في بيته ، وحكم هذه الانعام هو الانتفاع بها بما رزقه الله منها ، ولكن دون ان تصبح هذه الانعام وسائل لتحقيق مطامح شيطانية كالاعتداء والبطش.


والله سبحانه رزقنا بازواج الضأن والمعز والبقر والإبل ، والبشر أخذ يحرم هذا ويحلل ذاك ، بينما الجميع رزق الله ، والله لم يوص بهذا ، انما المفترون هم الذين يضلون الناس بغير علم ، وانما يضلون الناس بسبب أنهم ظالمون ، فالظلم هو المانع عن هداية الله.

بينات من الآيات :

الطيبات .. ما لك وما عليك :

[١٤١] ملايين الانظمة الطبيعية ، والسنن الاجتماعية تفاعلت حتى أنشأ الله بها الجنات حيث اخضرت الأرض وأثمرت بمختلف أنواع الثمر ، فمن دون وجود دوافع للبشر ركزها الله في غريزة الإنسان ، ومن دون صلاحية التربة ، ووجود مخازن المياه ، وضوء الشمس لم يكن البشر يندفع نحو زراعة الأرض ، أو يقدر عليها ، ولكن الله أوجد تلك الدوافع ، وهيء تلك الوسائل ، فهو إذا دون غيره فرش الأرض بسجادة خضراء من البساتين اليانعة.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)

فبعض الجنان مرتفعة عن الأرض كجنان النخيل ، وبعضها مفروضة عليها كجنان الزرع.

(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)

بعض الثمار تتشابه مع بعضها ، في اللون والطعم والصورة ، وبعضها لا تتشابه ، والتشابه قد يكون من جهة ، وعدم التشابه من جهة اخرى ، فكل الثمار ذات نكهة لذيذة في الطعم ، ومتعة في المنظر والفائدة ، ولكنها تتميز عن بعضها في نوع النكهة والمنظر والفائدة. ان روائع الإبداع تتجلّى في التشابه ، وعدم التشابه ، فلو كانت الثمار


من نوع واحد ، أو كانت أنواعا متفاضلة لما تجلت عظمة الخلقة كما تتجلى الآن ، وقد جاءت الثمار أنواعا مختلفة ، ولكنها جميعا ذات مستوي عال من ناحية الطعم والفائدة كل بصورة مختلفة.

وبما ان الله سبحانه ، هو الذي أنعم علينا بالثمار ، فانه يفصل لنا كيفية الانتفاع بها ، وبين الله هنا ثلاثة من أحكامها :

الاول : حين يقول :

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)

فاذا نضجت الثمرة ، يكون أوان الاستفادة منها ، وعلى البشر ألّا يحرم نفسه من طيباتها بأوهام باطلة ، بل بالعكس عليه ان ينتفع من الثمرات والانتفاع البسيط ـ كالأكل حين تثمر الشجرة ـ حق من حقوق كل شخص ، اما الانتفاع الدائم كما إذا أراد تخزين الثمار وبيعها ، أو الاستفادة منها مستقبلا ، فان حق الآخرين يتعلق بها.

وهذا هو الحكم الثاني :

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)

ففي ذلك اليوم ينتظر الفقراء حقوقهم من الزكاة أو الصدقة أو غيرهما. كحق الحصاد ، بالرغم من أن حقوقهم تتعلق بها منذ نضوج الثمر ، وربما تدل الآيات على أن الاكل يجوز قبل إخراج الزكاة. إذ أن الزكاة تتعلق بما يخزنه البشر لا بما ينتفع منه ـ والله العالم ـ.

بيد ان الانتفاع بالطيبات يجب أن يكون في حدود الحاجة دون الإسراف ، وهذا


هو الحكم الثالث الذي يبينه القرآن الحكيم هنا :

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

ولأنه لا يحب المسرفين فسوف لا ينصرهم ولا يزيدهم من نعمه.

الأنعام وفوائدها :

[١٤٢] كما في الثمرات التي تنبت من الأرض ، فكذلك في الدواب التي ينتفع بها البشر طعاما وحملا وغير ذلك ، والله هو الذي أنعم على الإنسان بالقدرة على تسخير الدواب والانتفاع بها ، وجعل الانعام قسمين : قسم منها الانعام الكبيرة التي تحمل الأثقال من بلد الى بلد كالإبل ، وقسم منها الانعام الصغيرة كالشاة التي يستفاد عادة منها في الطعام.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)

الكبار والصغار.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)

فلا تحرموا على أنفسكم الحيوانات كما كانت تفعله بعض المذاهب القديمة ، ولكن من جانب آخر لا تسرفوا في الاكل ، ولا تظلموا الانعام باعتبارها مسخرات بأيديكم ، فتقتلونها صبرا ، أو تمنعون عنها الماء والكلاء كسلا وما أشبه ، كما لا تتخذوا هذه النعم وسيلة للبطش والاعتداء على بعضكم البعض.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

وبالرغم من ان للشيطان خطوات متنوعة تقود البشر الى النار ، وكلها مشمولة


للآية وممنوعة ، الا أن دلالة السياق تدعونا الى افتراض ان اخطر هذه الخطوات هي الامتناع عن الاستفادة من بعض الأنعام افتراء على الله.

[١٤٣] يفصّل ربنا أنواع النعم الكبيرة والصغيرة ليبين انها جميعا حلال لوحدة الملاك والفائدة والهدف ، فلما ذا يحرم البعض دون الآخر ، هل لان الله قال ذلك ، أم اتباعا لخطوات الشيطان؟!

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)

الذكر والأنثى.

(وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)

ذكر الشاة والصخل وأنثاهما.

(مَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)

من الجنين ، ان هذا التساؤل يزيد الإنسان اهتماما ويستجلي فطرته حتى يحس بعدم الفرق الحقيقي بين هذه الأنواع من نعم الله ، لذلك قال سبحانه :

(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

اي لا تفرقوا بين الحقائق بأوهامكم ، بل بعلم تتراهنون عليه.

[١٤٤] وكما في الفرش اي الانعام الصغيرة مثل الضأن والمعز ، فكذلك في الحمولة مثل الإبل والبقر لا يمكن التفريق بين ذكره وأنثاه الا بعلم.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)


الذكر والأنثى لكل واحد منها.

(قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)

كلا .. لم يحرم الله أيّا منهما ، إذ لا أحد يشهد بصدق هذه التحريمات.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا)

وبالطبع لا يستطيع أحد أن يدعي هذه الشهادة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

لان هؤلاء يحفرون خطا منحرفا للناس ، ويجعلونهم يظلمون أنفسهم ، ويظلمون الناس آلاف المرات ، وكل سيئات الظلم تكون على عاتق ذلك الذي افترى على الله. مثلا : الذين يفلسفون الطبقية ، ويجعلونها مشروعا. كم يفترون من الإثم؟! إذ أنهم يتسببون في ألوف بل ملايين الجرائم ، أليس كذلك؟!

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

الذين يفترون على الله كذبا ، ولذلك فهم يضلون السبيل القويم ، وهنا لا بد من التذكر بفكرة هي : أن السبب الذي يدعو فريقا من الناس الى اختراع الشرائع الباطلة هو اتباع الشهوة في ظلم الآخرين ، كما ان السبب الذي يدعو الناس الى الالتفاف حول هذا الفريق هو الظلم أيضا ، والظلم الصغير يولد الظلم الكبير الى أن يضلّ الطريق رأسا.


قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

____________________

١٤٦ [الحوايا] : المباعر ، ومفردها حاوية وهي ما يحوي في البطن ما اجتمع واستدار.


الأفق الايجابي

في تشريعات التوحيد

هدى من الآيات :

في مواجهة الانغلاق الذي أصيب به البعض ، فحرموا على أنفسهم الطيبات الا قليلا ذكر القرآن الحكيم هنا أنه ليس تلك المحرمات الجاهلية موجودة في الكتاب ، إنما هي أشياء معدودة ذكرت في الآية وهي الميتة والدم والخنزير والفسق.

بيد أنه حرم الله على بني إسرائيل أنواعا من الطيبات ، وذلك مثل كل ذي ناب أو مخلب ، وشحوم البقر والغنم ، وذلك لأنهم بغوا على بعضهم البعض ، وكلما زاد بغي البشر ضاقت عليه النعم.

والله سبحانه رحيم ، ورحمته واسعة ، ولكنّه في ذات الوقت شديد العقاب ، لا يستطيع المجرمون الفرار من عقابه.

وتأتي هذه الآيات لتؤكد الفكرة السابقة وهي ضرورة الاستقامة على الخط السليم دون زيادة أو نقصان. لأن الأحكام الشرعية مرتبطة بالمصالح الواقعية التي


لا تتغير.

بينات من الآيات :

دود الحرام :

[١٤٥] يزعم البعض أن الدّين معتقل حصين لطاقات البشر ، لا يدعها تنمو وتتكامل ، وأن كل شيء في الدين حرام الا ما استثناه الله ، والله سبحانه ينفي هذه الفكرة الباطلة مرة بعد اخرى.

وفي هذه الآية يشرح الله سبحانه أصل الحلية التامة الا في أشياء معيّنة ، وبذلك يشجع البشر على التمتع بنعم الله ، الا إذا سبّب ضررا بالغاء عليه.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)

اي خارجا من الجسم باندفاع ، اما الدم المتبقي في ثنايا اللحم فانه معفو عنه.

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)

بالرغم من ان ظاهره طيب ، ولكن واقعه رجس ، يولد أنواعا من المرض كما يطبع طاعمه ببعض الأخلاق الذميمة.

(أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

ان الذبيحة التي تهدي للصنم حرام لأنها جزء من واقع الشرك فلذلك هي فسق وحرام ، ولكن مع كل ذلك فان هذه المحرمات تصبح حلالا في حالة الاضطرار إليها ، والاضطرار يعني : أن يصيب الفرد في حالة تركه لها ضررا كبيرا لا يتحمله ، فليس بضرر ذلك الذي يلحق الظالم حين يترك ظلمه أو يلحق المسرف والمتجاوز


حده حين يعود الى حده ونصابه ، لان الضرر انما يقاس بمعيار الحق القائم على العقل والفطرة ، وتمييز العرف العام ، ولذلك فان معايير الظالمين والبغاة أو المتجاوزين بالسرف والترف لا تعتبر معايير كافية ، ولذلك جاء في تفاسير الصادقين عليهم السلام :

(إن البغاة هم الخارجون على امام الأمة ، والعادون هم : العصاة)

ولا ريب أن هذا واحد من المصاديق لهاتين الكلمتين في حين تشمل الآية كل باغ وعاد ، وبكلمة ان البغي والعدوان في هذه الآية ـ حسب ما يبدو لي ـ مرتبط بالمعيار ، فاذا كان معيار الاضطرار سليما يجوز الاستفادة من هذا القانون والا فلا.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

مغفرته تتجلى في عدم أخذ من يأكل الميتة اضطرارا بالرغم من حرمته في الواقع ، ورحمته تتجلى في خلقه سائر الطيبات.

ملحقات المحرمات :

[١٤٦] مبدئيا لا يحرم الله الطيبات على البشر ، بل الخبائث ، وهي استثناء وليست أصلا ، وبالتالي فهي معدودة كما عرفنا ، بيد ان ربنا قد حرم وفقا لحكمة معينة طائفة من الطيبات لاسباب خارجية مثل تأديب المجتمعات المائعة والظالمة ، مثلا : حرم الله على اليهود كل ذي ظفر ، وهو الحيوان الذي يستخدم اظافره سلاحا لصيده. مثل السباع ، والطيور ذات المخالب (كالعقاب) وقيل : ان هذه الكلمة تشمل الإبل والأنعام لأنهما وأمثالهما ليست بمنفرج الأصابع.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)


وشمل تحريم ربنا الاستثنائي على بني إسرائيل شحوم البقر والغنم ، الا تلك الشحوم المتراكمة على ظهورها ، أو الموجودة على مقاعدها ، أو تلك الشحوم المختلطة بعظم.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)

والسؤال : لماذا حرم الله كل تلك الطيبات عليهم؟

يجيب ربنا : ان بني إسرائيل ظلموا وبغى بعضهم على بعض ، فحرم الله عليهم بعضا من الطيبات ، ويبقى سؤال : لماذا يتسبب البغي في الحرمة؟

والجواب : ان السنن التي نسميها بالانظمة الطبيعية لا تختلف عن الأحكام التشريعة الا في شيء واحد هو أن تلك يجريها ربنا على الكون وعلى البشر قهرا ودون أي تغيير وتبديل ، بينما الأحكام الشرعية. يأمر بها الناس ، ويحذرهم من عاقبة تركها ، لذلك فان هاتين السنّتين الطبيعية والتشريعية تلتقيان في الخطوط العامة ، لأنهما تصدران من منبع واحد ، وبما أن النهاية الطبيعية للبغي في المجتمع هو انحسار النعم عنه وتضييق الخناق عن أبنائه ، فان ذات النهاية يحكم بها الله سبحانه على مجتمع البغي ، وذلك بتحريم طائفة من الطيبات عليه.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)

ذو الرحمة والبأس :

[١٤٧] ان كل واحد من البشر يتصور الله على شاكلته وحسب مشتهياته ، كما يتخذون ذات الصورة لسائر الحقائق ، والمذنبون من الناس يضخمون في أنفسهم صفة الرحمة والعفو لله دون أن يتذكروا صفات الغضب والبأس والعقاب له سبحانه ،


ولذلك فهم يكذبون من يحذرهم الآخرة ، ويوعدهم العذاب.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)

وتكذيب رحمة الله مخالف للفطرة ، ولما نشاهده في عالم الواقع ، ولذلك أكد الأنبياء هذه الصفة الحسنى لله ، ولكنهم أكدوا على الصفة الاخرى أيضا.

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)


سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)


الشرك بين التصور والتوهم

هدى من الآيات :

حين يكون معيار الحق والباطل عند البشر ذاته ، وليس الواقع والحقيقة ، يزعم أنّ كلما يفعله يطابق الحقيقة عند الله ، وان أعماله وأقواله تستمد شرعيّتها من الله عز وجل ، إذ ما دام يعتقد هو بها وان ما تعتقده نفسه فهو صحيح. إذا فالله أيضا أمر به لذلك ينسب المشركون من أهل الكتاب أو من غيرهم شركهم وتشريعاتهم الى الله ، ولكن الله سبحانه لم يصدقهم إذ عذبهم ببأسه في الدنيا قبل الآخرة حتى ظهر لهم ولغيرهم أنهم ليسوا على حق ، ويتساءل القرآن كيف يزعمون أن أفكارهم صحيحة. هل علما بذلك أم ظنا وتوهما؟!

الله لا أنا وأنت فالذي عنده الهدى ، وله الحجة البالغة على الهدى ، وهو قادره على هداية الناس اليه ، أما هؤلاء فإنهم يكذبون بالحق ولا حجة لهم عليه ، ولا شهود صادقين ، ولذلك أمرهم القرآن بإحضار شهداءهم ، ولكنه نهى عن الشهادة لهم لأنهم.


أولا : يتمحورون حول ذواتهم وأهوائهم.

ثانيا : يكذبون سلفا وبلا تردد بكل العلامات التي تدل على الحق لأنهم لا يهدفون بلوغ الحقيقة.

ثالثا : انهم يكفرون بالآخرة ويقصرون حياتهم على الدنيا.

رابعا : وأخيرا إنهم لا يميزون بين الله وبين خلقه سبحانه.

بينات من الآيات :

جذور الانحراف :

[١٤٨] وياتي هذا الدرس في بيان الجذور الخبيثة للتشريعات البشرية الباطلة في القضايا الاجتماعية التي بسببها يتبع البشر هواه ، ويعبد ذاته ، ويترك الحق ومسئوليته ، ويتشبث بتصورات باطلة وأوهام بعيدة تستمد شرعيتها من الهوى ، فيقول بالحتميات الباطلة. مثلا : ان الليل والنهار وحوادث الحياة هي التي تجبره على اتخاذ مواقفه ، أو يقول : ان الله أجبره على ذلك لان الله هو خالق ما في الوجود ، والقاهر فوق العباد ، فهو الذي اضطره على ذلك أو ما أشبه ، أو يتشبث بالخرافة الباطلة التي تقول : ان الله فوّض أمور العباد الى أنفسهم ، فهم يقرّرون لها ما شاءت عقولهم ، (وهنا يخلطون بين العقل والهوي خلطا متعمدا عجيبا).

وسواء تشبثوا بهذا النوع من التصور أو ذاك فان الهدف منه شيء واحد هو إعطاء الشرعية لعبادة أهوائهم ، والتمحور حول ذواتهم ، واعتبار افكارهم وتشريعاتهم مقدسة ، بل ومدعومة من قبل الله من فوق عرشه سبحانه ، وهذه آخر مرحلة من الضلالة عند البشر.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ)


فالله كان قادرا على منعنا من الشرك ، والتشريع الباطل ، فلم يفعل فهو راض بما نفعله ، ويجيب القرآن الحكيم على ذلك :

أولا : ان هذا الفريق هو الذي يكذب بالحق لذلك فهم يتشابهون مع كل من يكذب بالحق في التاريخ علما بأن أحد الطرق لكشف حقيقة جماعة هو الكشف عن التيار العام الذي يقعون فيه ويتسابقون معه ، فإذا مصدر هذا الزعم وسببه هو انهم يكذبون بالحقائق ، وإذا عرف الداعي النفسي الى فكرة ما افتضحت طبيعتها وحقيقتها ، مثلا : إذا عرفت ان زيدا الذي يتحدث عن فكرة انما يتحدث عنها لأنه ينتمي الى حزب كذا عرفت جوانب كثيرة من الفكرة.

ثانيا : ان النهاية التي جعلها الله لمثل هؤلاء هي العذاب الشديد. إذا فهم ليسوا بخارجين عن دائرة المسؤولية التي من أجل الهروب منها تشبثوا بمثل هذه الأفكار الباطلة.

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا)

ثم ـ وبعد ان يشكك هؤلاء بأفكارهم ـ يطرح عليهم هذا السؤال : هل هذا علم أم ظن؟ ان مجرد طرح هذا السؤال يعني جعل شرعية الأفكار مناطة بالعلم لا بالمصلحة ، وبالتالي فضح جذور الفكرة ، وأنها نابعة من الهوى ، وبما انهم لم يدّعوا العلم لأنهم لا يعترفون بالحق (بل بذاتهم) حتى يبحثوا عن العلم الذي يهديهم اليه ، ولكن مع ذلك لا يمكنهم انكار شرعية العلم.

ثم يؤكد القرآن الحقيقة في أمر هؤلاء ، ويقول : ان اعتماد هؤلاء هو على التصور والوهم والتصور (الظن) هو الكذب المتعمد ، والوهم هو الشك (الخرص).

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا


تَخْرُصُونَ)

وهم لا يستطيعون انكار ذلك. إذ انهم لو أنكروه فقد فتحوا باب المباحثة البناءة ، والحوار الفاعل على أنفسهم ، وهو يضرهم لأنه يعيد الشرعية للحق والعلم لا للهوى والظن.

لا للحتمية :

[١٤٩] لم يحتم الله على البشر الضلالة ، ولا رضي بها. إذ لم يجبرهم على ترك ضلالتهم ، بل وفّر لهم فرصة الهداية كاملة ، فأعطاهم الحجة البالغة ، وبقي عليهم ان يقوموا بدورهم في استيعاب الهداية ، كما ان الله قادر على أن يجبر الناس على الهداية ، ولكنه لم يفعل ، كما لم يجبر الناس على الشرك .. فليس تركه للناس دليلا على رضاه سبحانه لأنه أتم الحجة عليهم.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)

الاستشهاد :

[١٥٠] احدى الوسائل الفعالة لتمييز الحق عن الهوى ، والعلم عن الظن ، والصدق عن الكذب ، هي طرح الأفكار على عقول الناس ، واستشهادهم عليها ، ذلك لان الناس حتى ولو كانوا يتبعون الهوى والظن فإنهم حين يقيّمون أفكار الآخرين ، فليس من الضروري القبول بها أو التصديق ، ذلك لان مصالح الناس مختلفة ، وأهواءهم متفاوتة ، وبالتالي كل حزب بما لديهم فرحون. بيد أن شهادة الناس ليست دليلا على الحق ولو كانت دليلا على بطلان الهوى. فهي مفيدة سلبيا فقط (تنفي ولكنها لا تثبت).

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ)


أي اجمعوا شهداءكم ، لأنه بجمعهم تفترق كلمتهم لأنها باطلة ، ولذلك من وسائل كشف عصابة الاجرام جعلهم جميعا يشهدون على الواقعة فنرى كم أنهم يختلفون ، بل ويتناقضون مع بعضهم لأنهم ان اتفقوا على مخالفة الحق فلن يتفقوا على نوع الباطل ، لذلك فصّل القرآن وقال :

(الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا)

ولكن الاتفاق على الباطل لا يصبح دليلا عليه.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)

والقرآن الحكيم يبين هنا المزيد من جذور الشرك. حيث يبين ان السبب في عدم اتباع الحق لا تلفها الهوى هو عدم الايمان بالآخرة هذا أولا ، ثانيا : عدم معرفة الله وخلط الله وخلط الله بخلقه.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)

ومن يعدل الله بخلقه لا يعرف الله ولا خلق الله.


قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

____________________

١٥١ [إملاق] : الاملاق الإفلاس من المال ، ومنه الملق والتملق لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية.


هكذا يفسد الشرك

النظام الاجتماعي

هدى من الآيات :

بعد بيان المحرمات المعدودة التي ترتبط بالماديات ، جاء دور المحرمات الاجتماعية الأكثر أهمية والأكثر مصداقية والأكثر صعوبة ، وهي كالتالي :

أولا : الشرك بالله.

ثانيا : الإحسان الى الوالدين ، اي حرمة إيذائهم ، وحرمة إهمال حقوقهم.

ثالثا : حرمة إهمال حقوق الأولاد من الفقر.

رابعا : الفواحش التي بينها الله في كتابه ، سواء الخفية منها أو الظاهرة.

خامسا : قتل النفس المحرّمة.

هذه وصايا ربنا التي تنفعنا ، والتي يمكن لنا أن نعقلها ببساطة.


بينات من الآيات :

حرمات الله :

[١٥١] الجاهلية بشكلها القديم والجديد ، الظاهر والمغلف تحاول تضخيم جوانب من الدين على حساب جوانب اخرى هي الأهم والأصعب ، وهي المحتوى واللباب ، ورسالة الله تذكر الناس بأن الدين لا يبعّض ، وأن ذلك التضخيم والمبالغة والاحتياط في غير محله ، بل حرام أساسا ، وفي الآيات السابقة رأينا كيف ان الله بيّن ان تحريم الجاهلية للطيبات من الرزق ، باسم الدين كان باطلا ، بينما المحرمات تلك كانت محدودة بل وجانبية ، أما المحرمات الكثيرة والاساسية التي تناساها الجاهليون القشريون عمدا ولخطورتها وأهميتها فهي التي تذكر بها هذه الآيات ، فعلينا الاهتمام بها ان كنا فعلا مؤمنين ولا نخادع أنفسنا في الدين.

المحرمات الاساسية هي التي تنظم الحياة الاجتماعية للإنسان ، ابتداء من حياة الاسرة وحتى السياسة ، ولكن كلّ الانظمة الاجتماعية في الإسلام مصطبغة بالتوحيد ورفض الشرك بالله سبحانه ، لذلك بدء الله هويته به وقال :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)

يجب ان نخلص العبادة لله سبحانه ، والّا نخضع أو نستسلم لشيء من دون الله ، والا نقبل ضغطا أو زورا ، بل يكون بناء حياتنا على الحرية المطلقة (إلا في حدود القانون) والعزة والكرامة.

محتوى التوحيد هو الحرية والحرية ممارسة وسلوك وفعل يقوم به الشخص ذاته قبل ان تكون حقا ، ونظاما وانفعالا. كلا .. فحريتي تبدء حين أرفض الخضوع لشيء أنّى كان اسمه لاني اعتبر كل شيء خاضعا لله ، وانا أيضا خاضع لله


ولقانونه ، ولمن أمرني باتباعه ، وفيما وراءه لا شيء يمكن أن يخضعني لا الثروة ولا السلطة ولا الإرهاب الفكري أو التعذيب.

الشرك اولا ثم الروابط العائلية :

وإذا ساد في المجتمع نظام الشرك ، فان القانون لا يمكن ان يكون الهيا لان كل بند من بنود القانون ينقض تحت ضغط الثروة أو السلطة أو الإرهاب الفكري. لذلك بدء الله النهي عن المحرمات الاجتماعيّة بالنهي عن الشرك لأنه الشرك لأنه الشرط المسبق لتنفيذ سائر المحرمات.

وبعد ان نتعهد بالتسليم لله وحده لا لشيء آخر يأتي دور بناء العلاقات الاجتماعية وأهمها العلاقة بين الأجيال ـ بين الجيل السابق (الوالدين) والجيل اللاحق (الأبناء) ـ العلاقة مع الوالدين يجب أن تكون علاقة الإحسان.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

والإحسان هو : العطاء الفضل الذي يتجاوز الحق الى الخير ، وهو بالتالي لا يعني التسليم المطلق (كما تعني العبادة) كما لا يعني الطاعة للوالدين. إذ أن الطاعة تعني بدورها الخضوع ، والمؤمن لا يخضع لغير الله ، نعم الطاعة بمعنى قبول عرض منهما بالنسبة الى عمل دون أن يكون ذلك فرضا من قبل الوالدين أو تسليما من قبل الأولاد ، هذه الطاعة مطروحة.

والمنطق المتخلف جعل التسليم للوالدين واجبا شرعيا ، فكرّس الروح العشائرية في النفوس ، بينما لا نجد في الإسلام سوى الأمر بالإحسان الى الوالدين ، بل وجدنا بالعكس من ذلك تماما ، نهى الإسلام عن الاتباع الأعمى للآباء ، وهذا ما يجرنا اليه المنطق المتخلف.


وكما يجب التسليم لله والإحسان الى الوالدين لا بد أن تكون علاقة الإحسان هي العلاقة السائدة بين أبناء المجتمع ، أما العلاقة بين الإنسان وبين أبنائه وعموما الذين هم أقل منه مستوي فهي علاقة المحافظة عليهم ، وألّا يزعم الأب ان أولاده منافسين له فيقتلهم خشية أن يتأثر وضعه الاقتصادي بهم.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)

الاملاق هو الفقر ، والجاهلية هي التي تجعل الاختلاف صراعا ، والصراع حادا الى درجة التناقض ، فتجعل النظرة الجاهلية ضيقة (والتي هي نظرة الشرك) الآباء وكأن بينهم وبين الأبناء صراعا على البقاء ، ولذلك كانوا يقتلون أولادهم قديما ، أو يجهضون أولادهم بزعم أنهم يزاحمونهم في نعم الحياة ، أو يمنعون النسل بهذه الحجة.

هذه النظرة الشركية هي التي أوحت الى الماركسية بتصور التناقض الحاد بين أبناء المجتمع ، كما أوحت الفرو يدية بأن الابن الذكر ينازع أباه على أمه والأنثى تنازع أمها على أبيها.

بينما النظرة التوحيدية السماوية توحي الى الإنسان بحقيقة التكامل في الحياة ، وأن نعم الله ليس فقط تسع كل الناس من دون صراع حاد ، بل وأيضا أنها تزداد كلما ازدادت العناصر الطالبة لها ، وربما لذلك أشارت الآية الى ان الرزق سيتناوله الآباء قبل الأبناء في حالة تواجدهم مع بعضهم.

ما هي الفواحش؟

العلاقة الحسنة بين الآباء والأولاد تتكامل مع العلاقة السليمة بين الزوجين ، حيث يجب أن تكون علاقة البناء لا الهدم ، والزواج لا الفاحشة ، لذلك حرم الله الفواحش كلها.


(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

قد تكون الفاحشة ظاهرة كالزنا والشذوذ ، والعادة السرية وما إليها ، وقد تكون باطنة وهي التي لا تحقق أهداف الزواج السامية كالصداقة مع النساء ، أو حرف الغريزة بما تخدم أهداف الشيطان كالاكتفاء بالصور الجنسية أو بالافلام الخليعة عن العلاقة الجنسيّة السليمة.

وقد يكون من مصاديق الفاحشة الباطنة عدم إيجاد جو التكامل في محيط البيت بما يخدم مصلحة الطرفين ، أو عدم أداء الحقوق الواجبة من قبل أيّ واحد من الطرفين كالمهر والنفقة والتمكين ، أو أن تكون نظرة أحد الزوجين متوجهة الى غير زوجه من سائر الذكور والإناث.

وكذلك قد تكون من الفاحشة الباطنة أن يستهدف كل من الزوجين إشباع غرائزه دون أن يفكر في مصلحة الطرف الثاني ، فلا يتبع غريزته في وقت هيجانها ، أو لا يفكر في تكامله ونموه وراحته بقدر ما يفكر في نفسه فتكون قرارته ذاتية بحته.

هذه علاقة الزوجين ، أما علاقة الناس ببعضهم فيجب أن تكون تكاملية ولا تكون حدية نابعة من نظرة الشرك التي توحي أبدا بالصراع الباطل.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ)

فقتل النفس المحرمة مظهر من مظاهر الصراع الشركي ، وحين يجب تصفية أحد جسديا ، كما إذا كان قاتلا أو مفسدا في الأرض فانه يجب ذلك.

ان هذه المحرمات هي مما يذكّر بها الله ليفتح العقول بها. إذ أنها مرتكزة في فطرة البشر لذلك عبر القرآن عنها بالوصية التي هي خير ظاهرة للإنسان.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)


وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)

____________________

١٥٢ [أشدّه] : الأشد جمع شد ، والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب اي حتى يبلغ قوى شبابه ، وهو انما يحصل بالبلوغ والرشد.


وهكذا ينظم التوحيد

الحياة الاجتماعية

هدى من الآيات :

بعد أن تحدث القرآن عن ادانة منطق الشرك الذي يدعو الى الصراع والتناقض ، فحرم القرآن جانبا من آثار هذا المنطق الباطل ، بعدئذ نهى القرآن عن آثار هذا المنطق في الواقع الاقتصادي للمجتمع ، حيث يسعى كل فريق نحو ابتزاز الآخرين ، فحرم الله الاعتداء على أموال الآخرين وبالذات أكل أموال الضعفاء كالأيتام ، وأكل الأموال بطرق ملتوية كالغش ونقص المكيال والميزان. صحيح أن الفرد حين المعاملة يتدخل ما له بأموال غيره من حيث لا يريد ـ وهو ليس بحرام ـ لان الله لا يكلف الإنسان إلّا بقدر طاقته ، ولكن حرام أن يتعمد ذلك تعمدا ، أو على الأقل يعمل بالتطفيف في الميزان.

ولذلك أيضا أوجب الله الاستقامة على الطريق ، وعدم الانحراف عنه يمينا أو شمالا ، وذلك بقبول القيادات الباطلة ، أو الخضوع للتيارات المنحرفة ، وهذا هو لب التقوى ، ومحتواها الحقيقي الذي لا يصل اليه الإنسان إلّا باجتهاد عظيم ، وجهاد


أعظم.

بينات من الآيات :

كيف نتصرف في مال اليتيم؟

[١٥٢] من الميزات الهامة في التشريعات القرآنية هي الواقعية ، فتأتي واجبات ومحرمات القرآن مطابقة لانحرافات الواقع الخارجي ومركزة عليها. مثلا : في باب الاقتصاد لا يكتفي القرآن ببيان حق الملكية الخاصة ، وحرمة الاعتداء على أموال الناس ، بل ويهتم أبدا بتلك الحلقات الأكثر عرضة للاعتداء ، فيركّز حديثه عليها ، ولذا يتوقّف المجتمع عن الاعتداء في الحلقات الأكثر عرضة للاعتداء ويسرا ، فأنه بالطبع لا يعتدي على غيره ، ومن هنا ذكر القرآن الحكيم هنا مال اليتيم ، والنقص في المكيال والميزان ، أما مال اليتيم فلأنّ صاحبه ضعيف لا يقدر على المطالبة به ، ولأنه أيسر وأقرب للضياع ، واما النقص في المكيال فلأنّه أسلوب شائع وبعيد عن ملاحقة القانون لان من الصعب التعرف عليه.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

اي من أجل تنميته ، أو المحافظة عليه ، وإلّا فلا يجوز أساسا وضع اليد على مال اليتيم لأنه لا يعرف رضا صاحبه بذلك.

(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)

فاذا بلغ أشده ، وبلغ سن الكمال وكان رشيدا فلا بد ان تعاد اليه أمواله ، ولا يجوز حتى التصرف بالتي هي أحسن فيها ، كما جاء في آية أخرى.

«وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ


أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» (١)

وقد يكون بلوغ النكاح وحده نهاية السماح بالتصرف في أموال اليتيم لأنه بعد ذلك سيصبح سفيها ، ومسئول عن أموال السفهاء من جهة اخرى.

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)

فيحرّم الغش في المكيال لأنه نوع خفي للاعتداء على ثروة المجتمع ، وعلاقة شركية وليست توحيدية بين أبناء المجتمع ، والوفاء بالكيل واحد من مصاديق احترام حقوق الآخرين أشار اليه القرآن لمعرفة سائر المصاديق مثل الغش والغبن ومماطلة المدينين ، واستعجال الدائن.

في المجتمع الاسلامي الذي تسود علاقاته نظرة توحيدية لا يقتصر الفرد في النظر الى نفسه ، بل الى الآخرين أيضا ، ويرى ان بلوغ الآخرين الى مآربهم جزء من أهدافه ، بل هو طريق لبلوغه هو الى مآربه.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)

الوفاء بالكيل وعدم بخس الميزان لا يعني ضرورة الدقة العقلية في ذلك مما يصعّب عمليّة التبادل التجاري ، بل يعني أن يكون هدف الفرد القسط ، ولا يتعمد التجاوز على حقوق الآخرين ، ومن هنا جاء في الآية الكريمة : أن الله لا يكلف نفسا الا وسعها. أي حسب استطاعتها دون حرج أو عسر ، ذلك لأنّ المجتمع المسلم تنتشر فيه روح المسامحة والإحسان الى جانب الالتزام بالحقوق.

المسؤولية الاجتماعية :

وحين يلتزم سائر الإفراد بالحقوق تنتهي المشكلة ، ولكن إذا تعاسروا واختلفوا

__________________

(١) النساء / ٦


فان أبناء المجتمع يجب أن يصبحوا قضاة عدولا ، ولا يحكموا ضد أو مع هذا وذاك ، من دون دليل ثابت حتى ولو كان الشخص من اعدائي أو من اقاربي. لا بد ان يكون كلامي عدلا.

(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)

وإذا امتلك المجتمع روحا قضائية عادلة حكم أبناؤه لصاحب الحق وضد الظالم انّى كان ، فانه يصبح ذا مناعة كافية عن انتشار الظلم فيه ، وعن نمو الجريمة ، إذ أن الظالم لا يبدأ ظلمه بظلم كبير ، وكذلك المجرم لا يقترف جرائم كبيرة مرة واحدة ، انما يتدرج نحوها شيئا فشيئا ، فاذا ظلم الشخص مرة فعارضه أقرب رفاقه وأقاربه فسوف ينسحب لصالح المظلوم ، يتأدب ، ويتخذ لمستقبله درسا لا ينساه ، وكذلك المجرم لو قام في البدء بجريمة صغيرة في محيط معارض له فسوف يتوقف عن الاستمرار في الجريمة.

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا)

هناك صلات طبيعية بين أبناء المجتمع كصلة الآباء ، بالأبناء ، وقد سبق الحديث عنها في الدرس السابق ، وهناك صلات حضارية أساسها التعاون على الخير ، والمصالح المشتركة وقد تحدث عنها القرآن في هذا الدرس ، بيد أن شرط بقاء هذه الصلاة هو تحكيم النظرة التوحيدية في العلاقات ، وذكرها الله سبحانه متمثلا في حرمة الحقوق ، وعدالة القضاء ، والآن ذكر الله سبحانه العهد باعتباره الحبل المتين الذي يشدّ المجتمع ببعضه ، ومن دون تقديسه واحترامه لا يثق المجتمع ببعضه ، فيختل التعاون ، بل يستحيل التعاون ، إذ لا يمكن أن تعوّض القوانين المستوردة والضابط الالكتروني بالعهد ، حيث إن البشر قادر على تجاوزها والالتفاف حولها ، ولكنه لا يستطيع تجاوز ضميره ، والالتفاف حول وجدانه.


وقد جعل الله العهد بين الناس وثيقة بينه وبينهم مباشرة فسماه عهد الله حتى يعطيه الضمانة الايمانية لاجرائه.

ان هذه وصايا ربنا الاجتماعية التي لو أمعنا فيها النظر لرأينا أنها حقائق واضحة كنا غافلين عنها ، فذكرنا ربنا بها :

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

الخطوط السياسية في المجتمع :

[١٥٣] في الآيات السابقة بيّن الله ضرورات بناء المجتمع المتكامل ، وعلاقاته الداخلية بينما في هذه الآية يبين الله وجهة هذا المجتمع العام ، وتياراته السياسية وعلاقاته العامة ، فيأمر الله المسلمين باتباع الصراط المستقيم الذي لا ينحرف مع ظروف سياسية متغيرة.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)

الجماعة السياسية تعيش كما الفرد في المجتمع بين تيارات مختلفة منشؤها سائر المجموعات السياسية المجاورة لنا ، وكما على الفرد ان يلتزم خط الاستقامة بين افراد المجتمع كذلك المجموعة السياسية يجب أن تلتزم بالحق بين سائر المجموعات.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

وحيث يكون الخط السياسي العام خطا صحيحا يكون من السهل على أبناء هذا المجتمع الالتزام بالواجبات الشرعية والتقوى عن المحرمات ، بينما لو لم يكن الخط العام كذلك فان مساعي الإفراد في الالتزام بالخط الاسلامي تكون قليلة الجدوى.


ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)


اتباع الكتاب شرط التوحيد

هدى من الآيات :

هناك خطان في الحياة. خط الشرك والضلالة ، وخط التوحيد والهدى ، وفي الدرس السابق بين الله سبحانه جانبا من مفارقات هذين الخطين ، وما فيهما من آثار سلوكية ، وفي هذا الدرس يبين فكرة خط الرسالة عموما. فيقول : ان الله سبحانه أنزل الكتاب على موسى لكي يكون نعمة تامة للمحسنين ، ولكي يفصّل به شرائع الحياة تفصيلا ، ولكي يهدي الناس الى الحقائق مباشرة ، ولكي يوفر لهم الحياة الآمنة السعيدة ، وأخيرا لكي يربّي فيهم التطلع الانساني الأرفع الذي يتجاوز الدّنيا الى الآخرة.

وكذلك انزل الله مثل ذلك الكتاب عليكم ، فعليكم اتباعه ، وأن تتقوا الله باتباع مناهجه ظاهرا وباطنا حتى تتوفر لكم حياة سعيدة ، وهذا الكتاب فيه زيادة على كتاب موسى ، فهو مبارك.

وانما انزل الله الكتاب أيضا لكي يتم الله حجته عليكم ، فلا تقولوا يوم القيامة


تبريرا لكفركم : ان الله أنزل كتابه على اليهود والنصارى دوننا ، وأننا كنا غافلين عما يدرسون من الكتاب ، أو تقولوا : اننا سنكون أكثر التزاما بالرسالة لو أنزلت فينا ، فهذه رسالته بينة جاءتكم من ربكم. فيها خصائص الرسالات السماوية السابقة من الهدى والرحمة ، ولكن كم يكون ظلم المخالفين لأنفسهم عظيما ، وانحرافهم بعيدا لو تركوه.

بينات من الآيات :

أهداف رسالة موسى :

[١٥٤] أن لم تكن تلك الحقائق كافية لكم فهاكم حقيقة اخرى هي رسالة موسى ، كيف كانت؟

انها كانت رسالة تامة للمحسنين ، حيث فتح لهم مجال العمل الأكثر من أجل الله والانسانية ذلك لان في كل مجتمع نوعان من الرجال (محسنين وظالمين) والمحسن أنّى كان معترما ومقبولا اجتماعيا ، ولكنه بحاجة الى برامج لمضاعفة إحسانه ولتنظيمه ، وجعله أكثر فاعلية وأبعد أثرا ، تماما كالمجاهد الذي ينذر نفسه لله ولكنه بحاجة الى برامج ومناهج ليجعل عمله أكثر نفعا ، وأقرب الى النتيجة ، والله بعث برسالته التامة للمحسنين ، وهذا بذاته دليل على طبيعة الرسالة الحقة.

(آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)

اي رسالة تامة على من أحسن من الناس ، والمحسنين كما قلنا : هم فئة من الناس يتجاوزون ذواتهم الى الآخرين ، فلا يكتفون بأداء حقوق الناس بل يضيفون عليها شيئا من حقوقهم.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)


برامج الله ليست ذات بعد واحد يتصل مثلا بالفرد دون المجتمع ، أو الاقتصاد دون السياسة ، أو الماديات دون المعنويات ، أو الآن دون المستقبل ، أو هذه الطبقة دون تلك ، أو تهتم بالعواطف دون العقول ، وهكذا. ان دليل صدق رسالات السماء أنها تتحدث عن كل شيء ، ولكن بتكامل وتناسب وعدالة بين مختلف أبعاد الحياة البشرية.

(وَهُدىً)

والبرامج الالهية تنتهي بالهداية لأنها حقة وواقعية ، فلو طبقها البشر لوصل الى الجذور الاساسية لها ، والأصول العامة التي ابتنيت عليها ، وبالتالي الى الحقائق التي استهدفتها تلك البرامج.

ان البرامج الالهية تختلف في هذه النقطة عن البرامج البشرية وهي انك كلما طبقت البرامج التي وضعها البشر. كلما تعرفت على نقاط الضعف فيها بعكس البرامج السماوية التي يقول عنها ربنا :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١)

(وَرَحْمَةً)

وحين تطبق البرامج الالهية تتحقق اهدافك وتطلعاتك بعكس البرامج البشرية ، فلذلك فهي نقمة والبرامج السماوية رحمة.

ولكن الرسالات الالهية لا تكتفي بتنمية الجوانب المادية لحياة البشر ، بل وتنمي أيضا تطلعاته الأسمى من عالم المادة (عالم الدنيا الزائلة) الا وهي التي تلامس

__________________

(١) العنكبوت / ٦٩


حدود الغيب والآخرة.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)

ان الهدف من الرسالات السماوية هو تحقيق رفاه البشرية الذي يفرغ الإنسان للآخرة.

أهداف رسالة الرسول :

[١٥٥] ولذات الاهداف انزل الله كتابه الأكمل والأخير على محمد (ص).

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ)

وبركته ونموه يتمثل في أنه أكمل من سائر الرسالات.

(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

واجب البشرية امام القرآن اثنان : الاتباع والتسليم الظاهر ، والتسليم الباطن (التقوى) وإذا تحقق التسليم ظاهرا وباطنا تأهل البشر لرحمة الله.

إتمام الحجة :

[١٥٦] من مظاهر رحمة الله انه أتم حجته على عباده ، فرفع عنهم كل حجاب يمكن أن يمنع عنهم نور الهدى ، فحين عرف أن للعرب عصبية تحجبهم عن قبول رسالة الله التي أنزلت في غيرهم من اليهود والنصارى بعث فيهم نبيا من أنفسهم ، كما أنه لكي لا يدّعي هؤلاء أنهم كانوا مفصولين عن دائرة التأثير برسالات بني إسرائيل ، لذلك بعث فيهم رسالة خاصة بهم.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ


لَغافِلِينَ)

فلم ننتبه للرسالة ، ومن الطبيعي ان الغفلة عذر عقلي ، أولا أقل أن رحمة الله أبت أن تعذب الناس على ذنب اقترفوه غفلة.

[١٥٧] يزعم البشر : انه متكامل ، وان ما به من نقص وعجز فإنما هو بأسباب خارجة عن إرادته ، ولكي لا يزعم العرب هذا الزعم ، ويتصوروا انه لو أنزل الكتاب عليهم لكانوا أفضل من اليهود والنصارى في تطبيقه. انزل الله الكتاب عليهم وقال سبحانه :

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ)

ويتحدى القرآن الحكيم فيقول : ها هو الكتاب نزل عليهم وفيه ثلاث مزايا.

الاولى : انه حجة واضحة ، ودلالة بيّنة على الحقيقة. كما المعالم تدل على الطريق ، وكما الدخان يدل وجود النار ، والصوت على وجود صاحبه.

الثانية : انه إذا طبقه الفرد هداه الى الحقيقة ، كما إذا سار الفرد في الطريق حتى وصل الى غايته ، أو استدل بالدخان فتحرك حتى رأي النار ، ورأي صاحب الصوت مباشرة.

القرآن هدى للمتقين ، فليس فقط يقود الفرد الى الحقيقة ، بل وأيضا يجعل الفرد يلامس الحقيقة.

الثالثة : وحين يجد الفرد الحقيقة فان جانبا اساسيا من تطلعه يتحقق وهو عطشه نحو الحقيقة. اما الجانب الثاني فهو السعادة والفلاح ، وبالتالي الاستفادة من نعم الله سبحانه ورحمته ، ويلخص القرآن هذه المزايا وهو يتحداهم بالقول :


(فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ)

البينة كما المعالم في طريق الحقيقة ، والهدى الوصول الى الحقيقة ، والرحمة هي : نعم الله.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها)

أعرف عن آيات الله التي تتضمن تلك المزايا التي فيها تطلع الإنسان الأساسي في الحياة ، كما إذا عطش الفرد ولكنه حين وصل الى الماء كذب بأنه ماء ، واعرض عنه ، ان فطرة كل واحد منا تتعطش للحقيقة أكثر مما يتعطش الكبد الحار للماء البارد ، وان حاجات كل واحد منا الطبيعية تتطلب اشباعها وهذا التطلب وذاك التعطش قد يكون المراد من تعبير القرآن في بداية الآية.

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ)

ولكن كم يكون ظلم الفرد لنفسه كبيرا حين يخالف فطرته وحاجاته لأجل عقدة نفسية ، أو استكباره عن الحقيقة ، أو مراعاة ظروف اجتماعية أو ما أشبه؟!

(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)


عقبات في طريق التوحيد

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكر القرآن ، ان الكتاب جاء استجابة لحاجة ملحة ، أمّا الآن فيبدو أن القرآن يبين العقبات التي تعترض طريق الاستجابة للرسالة الجديدة ، وهي ـ في هذا الدرس ـ ثلاث :

الأولى : التردد وانتظار شيء خارق للعادة مثل هبوط الملائكة ، أو وجود بعض الآيات ، ويعظنا القرآن أن نبادر الى الاستجابة للحقيقة. إذ ان انتظار ذلك اليوم الخارق معناه. فوات الفرصة.

الثانية : هي المعطيات الطائفية ، والقرآن يبين : أن هذا الذي يختلف في الرسالة ليس من الدين في شيء.

الثالثة : وجود الذنوب المتراكمة ، ويقول القرآن : إنّ الحسنة الواحدة تنمو وكأنها عشر حسنات ، أما السيئة فأن جزاءها واحد فقط.


بينات من الآيات :

عقبات الايمان بالرسالة :

السبب الأول :

[١٥٨] لقد زود الله البشر بعقل وفطرة ومعايير قادرة على فهم الحقيقة بعد التذكر بها من قبل الله سبحانه ، ولكن عليه أن يبادر بالاقدام وتجاوز حاجز التردد والخوف والانتظار ، ان هذه هي الشجاعة العلمية التي كانت وراء اكتشافات العلماء ، وهي الشجاعة الايمانية التي كانت وراء تضحيات الصالحين ، ويتساءل ربنا عن هؤلاء الذين لا يؤمنون.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)

هل ينتظرون هبوط الملائكة كأمر خارق حتى يثير فيهم الحماس ويدفعهم نحو الايمان بالله.

(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)

عبر آياته الكبرى ، فالله سبحانه لا ينتقل من مكان لمكان لأنه لا يخل منه مكان سبحانه.

(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)

حيث تتجسد الحقائق. مثل ان يكون النهي عن الإسراف لأنه يؤدي الى شلل الاقتصاد ، أو الظلم لأنه يؤدي الى الفساد والدمار ، أو الدكتاتورية التي تؤدي الى التخلف والعجز أو الثورة أو الأخلاق السيئة فانها تؤدي الى المرض والفرقة ، فلا يطبق الإنسان هذه النصائح بانتظار تلك العواقب التي حذر عنها ، وحين تأتي تلك


العواقب فما ذا ينفع قبول تلك التحذيرات.

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)

ان لم يصدق المريض قول الدكتور وهو يحذره من سوء حالته بسبب الارهاق ، وانتظر الارهاق ذاته فما ذا ينفعه؟! أو صدقه ولكنه لم يفعل بنصيحته؟!

كذلك حين ينظر الفرد فلا يؤمن حتى تبدو آثار كفره ، فهناك يؤمن فما ينفعه الايمان.

(قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)

نحن ننتظر ونحن مؤمنون ، اما أنتم فتنظرون على كفركم ، والزمن يعمل لصالحنا دونكم.

الإنسان يجب أن يتوكل على الله ، ويتّق نعمه عليه ، فيتحرك بكل قوة نحو ما يهتدي اليه دون ان ينتظر شيئا.

السبب الثاني :

[١٥٩] والنظر الى الدين باعتباره مادة للعصبيات العرقية والقومية ، أو الجدليات الفارغة أحد أسباب الخطأ في فهم الدين ، وبالتالي في الايمان به والقرآن يصرّح بأنه ليس ذاك الدين الذي يتخذ مادة للخلاف هو دين الله.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)

والله هو الحاكم في عباده ، وكثير من الخلافات المذهبية لا يمكن أن تحلها


الجدليات ، بل يجب أن تتحوّل الى يوم القيامة والى الله والمستقبل.

(إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)

السبب الثالث :

[١٦٠] يشجع القرآن البشر الى المبادرة نحو الايمان بالله سبحانه ، فيعدهم بأن يجازيهم بالحسنة عشر أمثالها. بينما لا يجازيهم بالسيئة الا مثلها.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

ولكن كم يكون الظلم للنفس كبيرا حتى يرد على ربه هذه النعمة الكبيرة فلا يعمل بتلك الحسنة التي تحتوي عشر أمثالها.


قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ

____________________

١٦١ [حنيفا] : مائلا عن الباطل الى الدين الحق.

١٦٢ [ونسكي] : النسك العبادة ، ورجل ناسك ، ومنه النسيكة الذبيحة ، والمنسك الموضع التي تذبح فيه النسائك ، فالنسك كل ما تقرب به الى الله تعالى الّا أنّ الغالب عليه امر الذبح.

١٦٤ [ولا تزروا] : ولا تحملوا.

[وازرة] : نفس حاملة.

[وزر] : الوزر الثقل بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل.


بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)


الركائز الأساسية لملة التوحيد

هدى من الآيات :

لكي يشجع ربنا عباده على الايمان بالكتاب. ضرب لهم مثلا برسوله الذي هداه الى الصراط المستقيم ، والذي يتطلع اليه الجميع ، ذلك الدين القويم الذي يمثل جوهر القيم وذات الاستقامة على نهج إبراهيم (ع) وشريعته وخطه (خط التوحيد ونفي الشركاء) ويتمثل خط التوحيد عند إبراهيم (ع) وفي دين محمد عليهما وآلهما صلوات الله. يتمثل في توجيه الحياة كلها في خط التوحيد. سواء كانت الصلاة والنسك (العبادات) أو أمور المعيشة في الحياة والممات ، وان ينفي الشركاء ، وأن يسلم لله رب العالمين دون أن يعير انتباها الى سائر الناس وهذا معنى الحنيف ، وإذا انحرف البشر عن عبادة الله فإلى أين يتجه ، هل يستبدل الله الذي هو رب كل شيء بغيره ويكتسب إثما؟! إنه إن يكتسب إثما فانما يكتسبه على نفسه ، ولا يحمل أحدا أثقاله. إذا فالبشر مسئول عن عمله ، وغدا سيلاقي جزاء عمله ، ويرى الحقائق واضحة.


أما الطبقات الاجتماعية فلا تدل على ان الطبقة الأعلى رب صغير ، وعلى أبناء الطبقة الأدنى اطاعتهم .. كلا. انما هذه الطبقات هي من صنع الله ، وهدفها اختبار البشر ، وهي زائلة ، والله سريع العقاب ، ولكنه قد يمهل البشر لأنه غفور رحيم.

بينات من الآيات :

ملة إبراهيم :

[١٦١] من الفوائد الاساسية لبعث الرسل في صورة أشخاص أنهم يصبحون قدوة حيّة للآخرين ، والبشر بطبيعته يتأثر بالقدوة أكثر من تأثره بالفكرة المجردة ، وقد كان الأنبياء عليهم السلام يدعون الناس بسلوكهم المستقيم ، وأخلاقهم الحسنة ، كما كانوا يدعون بأقوالهم ، ولقد دعوا اتباعهم الى مثل ذلك كما جاء في الحديث.

(كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم)

وحين يكون الشخص مستقيما في فكره يكون مستقيما في سلوكه ، والسلوك المستقيم ينعكس ايجابيا في الفعل ، فيصنع واقعا قائما بذاته ، ويؤثر بالطبع ذلك الواقع في الحياة ، ولنضرب مثلا صغيرا : إذا أصبحت مستقيما فما ذا أفعل؟

أولا : لا أكذب ولا أخون الوعد أو العهد أو الامانة ، لتزداد ثقة الناس بي ، وأصبح قطبا لاهتمامهم ، ومركزا لقيادتهم.

ثانيا : تستقيم آرائي وترشد ، فأكون موضعا لاستشارة الناس ، ومركزا لقيادتهم.

ثالثا : أكون شجاعا مقداما لا أخشى أحدا ، فأكون موكلا للمستضعفين وملجأ لهم.


رابعا : أستقيم في تربية أبنائي ، وتهمية اموالي ، وتهذيب زملائي و.. فأكون مثلا للقوّة.

ترى كم تخلّف الاستقامة من أثر في الواقع الخارجي فتخلق تغييرا فيه ، هكذا تصبح استقامة الأنبياء ، ومن أبرز البينات على صدق دعوتهم ، وكذلك العلماء والمصلحين.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

والاستقامة ليست طبيعية في البشر ، بل انها بحاجة الى مناهج عملية متكاملة ، انك بحاجة الى خريطة واضحة حين تريد المشي في طرق الغابة ، اما طرق الحياة فهي أكثر تعقيدا من طرق الغابة فأين هي برامج الاستقامة؟ انما هي في الدين القويم.

(دِيناً قِيَماً)

اي دينا علا كلّه استقامة ، والدين القيم لم يكن بدعا في التاريخ ، بل كان خطا اجتماعيا متمثلا في نهج إبراهيم (ع).

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)

وإبراهيم (ع) كان متحديا لانحرافات الناس.

(حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

عشرات الأفكار رفضها إبراهيم حتى أصبح موحّدا ، ومئات الأنواع من الضغوط تحداها حتى تحرر منها ولم يرضخ لوجهتها ، ومئات القيود كسرها وحطمها حتى أصبح حرا طليقا ، تحدى قيد الاسرة فرفض كلام أبيه آزر (عمه) الذي امره بالكفر ، تحدى قيد المجتمع وقاومه ، وتحدى السلطة واستهزء بها ، وتحدى حب الأولاد فأراد


ان يذبح ابنه استجابة لأمر الله ، وهكذا أصبح حنيفا حرا ، ولم يكن مشركا بالله أحدا من خلقه أو شيئا من نعمه.

معنى التوحيد :

[١٦٢] ومن ابرز تجليات الاستقامة في حياة الرسول وحدة وجهته في أبعاد حياته.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

فلم تكن صلاته وذبائحه لغير الله حسب ما كانت عليه الجاهلية ، أو صلاته لله عبر عبادته للأصنام. كلا .. ولم تكن حياته لقيصر ومماته لله ، فاقتصاده وسياسته ، وأخلاقه واجتماعه ، وتربيته وبناء بيته ، وحتى حركاته وسكناته كلها كانت لله ، وباتجاه مرضاته ، ولتحقيق قيمه سبحانه ، وفي خطّه كما كان مماته لله ، فكان يختار الشهادة في الله إذا دعت الضرورة الرسالية ذلك.

[١٦٣] وعاد القرآن وكرر ان معنى التوحيد هو كسر القيود ، وقطع الحبال التي تربط بأي مركز آخر.

(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)

لقد امر الله نبيه مثلما أمرنا بالّا نركع لايّ ضغط انّى كان نوعه ، وأن نسلم لمناهج الله.

[١٦٤] والسؤال لماذا التوحيد ، ولماذا إخلاص العبودية لله؟

والجواب أولا : لان الله هو رب كل شيء ، فعبادة الأشياء التي هي خاضعة لسلطة الله دون ربها ليست إلّا غباء.


(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)

والنظام القائم في الكون انما هو بتدبير الله وهو الذي يجريه ، فعلينا ان نخضع لذلك النظام.

ثانيا : ان الارتباط بغير الله من خلقه لا يرفع عني وزرا ولا مسئولية ، فلا يمكن ان أغمض عيني وأقلّد آبائي أو مجتمعي ، أو الأسماء اللامعة في الثقافة ، لاني بهذه العملية لا أستطيع أن ارفع عن عنقي المسؤولية ، أو أن أضع وزري على عاتق من اتبعه. كلا .. أنا مسئول ، وذنبي يتبعني شئت أم أبيت.

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

ثالثا : الله هو المقياس الحق لتقييم الفكرة السليمة عن نقيضتها الباطلة ، أو لتقييم السلوك السليم عن المنحرف ، وليس مقياس الحق والباطل أكثرية الآراء أو القوة أو الشهرة أو القرابة.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

[١٦٥] رابعا : ان الله هو الذي جعل طائفة من الناس بعد طائفة ، وجيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، فليست أسبقيّة هؤلاء دليلا على أنهم أقرب الى الله زلفى ، بل كلهم عند ربهم سواء ، ولذا لا يجوز أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا ، فيعبد الخلفاء من كان قبلهم. كلا .. كما ان الله هو الذي أنعم على بعض الناس بنعم أكثر من غيرهم أو بنعم مختلفة عن نعم الآخرين ، وهذا لا يدل على أنه سبحانه أقرب الى هؤلاء أو أولئك ، بل ان الهدف من ذلك هو مجرد اختبارهم في النعم ، فيمتحن الغني بثروته والفقير بفاقته ، والعالم بعلمه ، والجميل بما لديه من جمال.

وهكذا ينسف القرآن أصول الشرك من النفوس حيث يحترم الفرد السابقين ،


فقد يعبدهم مبالغة في احترامهم ، وقد ينبهر بهم وينجذب إليهم فيختار عبادتهم لهذا السبب.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ)

فبعضكم يخلف بعضا ، ويأتي مكانه.

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

والله سبحانه إذا أراد ان يعاقب أحدا فهو سريع في عقابه ، ولكنه لا يريد أن يعاقب أحدا لأنه يغفر ذنبه أو يؤخره لعله يتوب ، من هنا فعلينا ألا نعتمد أبدا على أن الله لم يعذبنا بشركنا باحترام آبائنا الى حد الشرك والطاعة والعبادة لهم ، أو حب المال والجمال والسلطة الى درجة الانجذاب إليهما وعبادتهما ، كلا ان الله إذا أراد أن يعاقب فهو سريع لا يعطيك فرصة للفرار.



سورة الأعراف



بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ روى العيّاشي باسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فان قرأها في كل يوم جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة»

٢ ـ قال ابو عبد الله «اما إنّ فيها ايّا محكمة فلا تدعو قراءتها وتلاوتها ، والقيام بها ، فانها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربه» (١)

__________________

(١) مجمع البيان المجلد ٢ ص ٣٩٣



الإطار العام

هذه السورة تبحث موضوع الإنسان ، ففي البداية تبين قصة الخطيئة الاولى وغريزة حب السلطة وحب الخلود ، وكيف يغوي الشيطان البشر فيندم ، ويتعدى على حقيقته التي لا يسترها الا لباس التقوى ، وأن من عوامل الخطيئة التقليد وتقديس الآباء ، والزعم بان الله يأمر بذلك ، بينما الله لا يأمر بالفحشاء ، بل يأمر بالقسط ، والتوجه مخلصا الى الله عند كل مسجد والتزين ، وان يتمتع بالخيرات دون إسراف ، وأن من الحرام : الفواحش ، والبغي ، والشرك ، والتقوّل على الله بدون علم أو كتاب منير (٩).

والإنسان يهتدي برسالات السماء ، أما من يكذب ويستكبر ، أو يفتري على الله فانه يعذب عذابا شديدا ، حيث تلعن كل أمة أختها بسبب الطاعة لها ، أما في الجنة فهناك القلوب الصافية ، وهذا التقسيم للناس انما هو بمقياس الهداية والضلالة ، والعلاقة بينهما هي التي تظهر عند الله ، حيث يستنجد الكفار بأهل الجنة ،


فيذكرونهم بأيام صدهم عن سبيل الله في الدنيا ، وبينهما أهل الأعراف من قادة المتقين حيث يعرفونهم جميعا ، ويوبّخون أولئك الذين اتخذوا الدين لهوا ولعبا ، وانتظروا نهاية الأمر (٣٤).

وعلاقة الإنسان بالله هي طلب المزيد من رحمته ، لأنه رب العالمين ، وعلاقته بالحياة وبالناس هي الإصلاح وعدم الإفساد.

وكما أرسل الله الرياح بشرا بين يدي رحمته ، فكذلك أنزل رسالاته هدى ورحمة ، وقصة نوح مع قومه تدل كيف أن رسل الله يريدون هداية الناس وإنذارهم ورحمتهم بالتالي ، ولكنهم يعاندون ويستكبرون فيهلكون (٥٣).

وكذلك هود دعا الى التقوى فكذبوه وسفهوه ، ولكنه ذكرهم برب العالمين (وصاحب الرحمة المكتملة لهم) ، وذكرهم كيف استخلفهم الله في الأرض ، فتمسكوا بضلالة آبائهم فاستمهلهم الله قليلا ، وبعدئذ قطع الله دابرهم (٦٥).

أما صالح رسول الله الى ثمود فقد زود بناقة معجزة ، وذكرهم باستخلافهم ، ونعم الرفاه والعمارة عندهم ، ولكن حالة الاستكبار واستغلال المستضعفين منعتهم من الاهتداء ، فعقروا الناقة ، واهلكهم الله (٧٣).

وانحرف الإنسان في قوم لوط بالشذوذ الجنسي ، فأمطر الله عليهم بعد نصيحة نبيهم مطر السوء ، أما مدين فقد نصحهم رسولهم شعيب بترك الفساد الاقتصادي والإصلاح ، وعدم الصد عن سبيل الله الذي اتبعه فريق منهم ، ولكن الاستكبار منعهم ، ودعاهم الى محاولة إخراج شعيب ، وتوكل المؤمنون على الله ، فأخذت الرجفة الظالمين وأصبحوا حديثا يروي ، ولم يأس عليهم رسولهم الناصح (٨٠).

ويأخذ الله كل قوم يرسل إليهم نبيا بالبأساء والضراء ، ولكنه يبدّلهم بالحسنة


السيئة ، ثم إذا لم تنفعهم الحسنة أو السيئة يأخذهم بغته ، وان الايمان والتقوى يفتحا بركات السماء عليهم ، ولكن هل يأمن أهل القرى بأس الله ومكره؟! ان عليهم ان ينظروا كيف يهلك الله قوما ، ويستخلفهم بقوم آخرين (٩٤).

كذلك جاء موسى بالآيات لملأ فرعون الذين ذكروا بها ، وانتهت حياتهم الفاسدة ، وذكرهم موسى بالحق ، وطالبهم بتحرير بني إسرائيل ، فطالبوه بآية (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ، وأراهم يده البيضاء ، ولكنهم رموه بالسحر واتهموه بتهديد الأمن ، وسجنوه ، وجمعوا السحرة ، وأغروهم بالسلطة والمال فسحروا أعين الناس ، ولكن عصا موسى ابتلعت سحرهم ، فآمن السحرة وانقلبوا صاغرين ، وعذّب فرعون السحرة المؤمنين فصبروا ، وطالب الملأ فرعون بعقاب موسى فتوعد فرعون موسى ، ولكن قوم موسى استعانوا بالله وصبروا انتظارا لوراثة الأرض ، فأخذ الله آل فرعون بالسنين والمصائب ، ولكنهم نسبوا الحسنة الى أنفسهم والسيئة الى موسى ، واستكبروا عن الايمان وتظاهروا بالايمان عند السيئة ، وكفروا عند الحسنة ، فانتقم الله منهم فأغرقهم ، وأورث الله الأرض الذين كانوا يستضعفون ، ودمر فرعون وقومه (١٠١).

ويستمر السياق القرآني في بيان الطرح البشري بين فريقي المهتدين والضالين الى الآية (١٥٦) حيث يحدثنا عن مجمل قصص موسى مع قومه.

ويحدثنا السياق عن الرسالة الجديدة التي جاءت محررة للبشرية من أغلالها النفسية والثقافية وذلك على يد النبي الأميّ المبشر به في الكتب السابقة ، والتي هي رسالة جميع البشر (١٥٧).

ويعود السياق الى امة موسى وأقسامها واخطائها ومنها : عدم تناهيهم عن المنكر في قصة السبت ، وكيف مسخوا قردة ، وكيف تركوا الدين بالرغم من أن


بعضهم ظل متمسكا بالكتاب ، وكيف أمرهم الله بأخذ الكتاب بقوة وذلك بعد ان نتق الجبل فوقهم (١٥٩).

ولكن السياق يعود بنا الى العهد الانساني الاول ، حيث أخذ ربنا من بني آدم عند ما كانوا في ظهر أبيهم ميثاقا باتباع الهدى ، وكيف أن بعضهم يشرك الآن بسبب شرك آبائهم وأن بعضهم ينقض هذا العهد عهد العلم والمعرفة ، حيث يخالف ميثاق المعرفة (١٧٢).

لذلك يختار الله اليهود تارة والعرب تارة ، حسب ظروف فترة الاختيار ، ويبين مدى الجريمة عند من يكذب بالدين ، وكيف أن ربنا قد قدّر لهم جهنم مصيرا ، لأنهم لم يستفيدوا من مداركهم (١٧٧).

ويبين الله أسماءه الحسنى ، وكيف أن طائفة يلحدون في أسمائه سبحانه ، وأنّ الله سيستدرج المكذبين ويملي لهم حسب خطه حكيمة لأنهم لم يتفكروا ليعرفوا أن رسولهم ليس بمجنون ، ولم يتفكروا ليعرفوا ما في السموات والأرض من آثار التدبير والتقدير ، وانه عسى قد يكون أجلهم قد اقترب ، وأنه ان لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون (١٨٠).

والله يضل ومن يضلله الله فلا هادي له وأن الساعة علمها عند الله ، واما الرسول فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا (١٨٦).

ويبين السياق : كيف أن الله قدّر حياة البشر ، وخلقه بوحدانية المتعالية عن الشركاء ، ولكن المربين أفسدوا ضميره وأشركوا فيه ، بينما الله هو ولي البشر ، ووليّ الصالحين منهم بالذات ، بينما الشركاء لا يستطيعون نصر البشر ، والشركاء لا يملكون السمع (١٨٩).


وعلى الرسول ان يأخذ العفو ، ويأمر بالفطرة والعقل ، ويبتعد عن الجهل ، وعلى البشر أن يتقوى بالله على شيطانه ، وان يتذكر ربه حتى يمسح نفسه آثار مس الشيطان ويبصر الحقائق ، وإذا لم يكن الإنسان متقيّا فان الشيطان يمده في الغيّ والعمه مثلا نرى يطالبون أبدا بآية لم ينزلها الله دون أن ينتبهوا الى ان الرسول مقيد بالوحي ، وان القرآن بصائر ، وعلى الإنسان نفسه ان يتبصر الحقائق ، وان يستمع الى القرآن ، وان يذكر ربه تضرعا وخفية ، وان يتجنب الغفلة ، ولا يستكبر عن عبادة ربه ، ويسبحه ويسجد له ، ذلك هو برنامج بناء الشخصية المؤمنة والإنسان المتكامل الذي تتناوله موضوعات سورة الأعراف (١٩٩).



سورة الاعراف مكية وهي مائتان وست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)


الرسالة الميزان الحق

هدى من الآيات :

(أل م ص) هذا كتاب أنزله الله على قلب الرسول الذي ينبغي ان يتسع له ولا يضيق به ، ولا يتردد في قبوله وادائه ، وإنذار الناس به حتى يؤمنوا فاذا آمنوا فان الكتاب سيكون ذكرى لهم ..

وعلى الناس اتباع قيم الكتاب ، والذين يجسدون هذا الكتاب ، أما غيرهم الذين يتخذون من دونهم أولياء لا على أساس القيم فحرام اتباعهم ، لأنهم سوف يقودون البشر الى الهلاك ، فكم من قرية أهلكها الله فاذا بعذاب الله يأتيها ليلا ، أو عند فترة القيلولة صباحا ولم يدعوا شيئا ، وانما اعترفوا بذنبهم ، وأنهم ظلموا أنفسهم.

والله سبحانه يحاسب الذين أرسل إليهم الكتاب ، كما يحاسب الذين أرسلهم لتبليغ الرسالة ، ثم يبين الله لهم الحقائق لأنه سبحانه كان شاهدا عليها ولم يكن غائبا عنها ، ثم بعد الحساب الدقيق يوزن ايمان واعمال العباد ، فمن كانت موازينه ثقيلة فانه من أهل الجنة والفلاح ، بعكس ذلك الذي كانت موازينه خفيفة أنه قد


خسر نفسه ، وضيع الفرصة عليها ، والسبب أنه حين جاءته الآيات الكريمة لم يستمع إليها حتى يهتدي بها ولا يظلم نفسه ..

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[١] (المص)

هذه هي فواتح السور التي قيل عنها أشياء كثيرة قد يكون أغلبها صحيحا ، باعتبار القرآن الكريم ذو أبعاد مختلفة ، بيد أن من الممكن ان تكون هذه الأحرف رمزا تدل على ذاتها دون اي شيء وراءها ، كما سبق وأن تحدثنا عنه في سورتي البقرة وآل عمران ، وعلى هذا الأساس تكون الكلمة التالية لها خبرا لها.

ربانية الكتاب :

[٢] ولم يكن القرآن من تأليف محمد (صلّى الله عليه وآله) ولا من نبوغه ، بل هو كتاب أنزله الله ، وأحد أبسط الأدلة على ذلك أن صدر الرسول يكاد يضيق به ، ولذلك أمر الله رسوله بأن يتسع قلبه الشريف لهذه الرسالة.

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)

الرسالة بحاجة الى سعة الصدر حتى يتحمل الفرد ثقل الحقائق التي فيها وو حتى يتحمل جهد العمل بها ، وصعوبات تبليغها ، وسعة الصدر تأتي من الايمان بالغيب ، بالمستقبل البعيد ، بالآفاق الواسعة ، ومن التوكل على الله ، والثقة بالقدرات التي أودعها في كيان البشر ، والامكانيات التي سخرت له ، وبالتالي فان سعة الصدر نابعة من الخروج عن زنزانة الذات ، والانطلاق في رحاب الله من أجل خدمة البشرية جميعا.


زنزانة الحياة :

ان الشهوات ، والآمال والطموحات الخاصة ، والجهل بالمستقبل ، والانحسار ضمن اللحظة الحاضرة كل تلك جدران معتقل البشر التي تضيق عليه رحاب الكون.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١)

وعلى من يريد حمل رسالة الله ان يتمتع بسعة الصدر بهذا المفهوم الواسع للكلمة ، والهدف من الكتاب هو : إنذار غير المؤمنين ، وتذكرة المؤمنين حتى يزدادوا ايمانا.

(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)

[٣] لقد أنزل الله الكتاب لكي لا يتبع الإنسان سوى القيم السماوية ، والذين يجسدون تلك القيم ، ولا يخضعون لهذا أو ذاك باي أسماء مخترعة ..

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)

اي لا تتركوا اتباع القرآن باتباع الأولياء الغرباء ..

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)

إذ البشر قلما يستطيع التحرر من جاذبية الأشياء والأشخاص ، والتحليق في سماء القيم ، وإذا تمت هذه الحرية فإنما عن طريق التذكّر بالله وباليوم الآخر.

__________________

(١) الأنعام / ١٢٥.


[٤] وحين يتبع الإنسان اولياء من دون الله فأنه هالك ، ويأتيه عذاب الله على غفلة منه دون ان يستطيع له ردا ..

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)

أي ليلا أو في منتصف النهار حين يستريحون الى نوم القيلولة ، أو بتعبير آخر ليلا أو نهارا.

[٥] ولم تكن حجتهم إذ ذاك الا الاعتراف بظلمهم.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)

لقد كان ظلمهم بوعي ، وبعد إتمام الحجة عليهم ، لذلك اعترفوا به حين الهلاك ولم يدّعوا ـ حتى مجرد الادعاء ـ بغير ذلك.

[٦] ولم تنته العقوبة بالنسبة لهؤلاء بالهلاك الدنيوي ، إذ جاء بعدئذ دور الحساب الأخروي.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)

اي نسأل المبلغين للرسالة كيف بلّغوا وبماذا أجيبوا؟ ونسأل الناس لماذا لم يجيبوا بعد إتمام الحجة عليهم؟

[٧] ولكن هذا السؤال ليس عن جهل أو عن غيبة ، بل لمجرد المحاسبة ، ولكي يعترف الظالمون بجريمتهم ، فان الله سوف ينبئهم عن كافة تفاصيل حياتهم بعلم ، لان الله لم يكن غائبا حين اكتسابهم للأعمال ..

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)


[٨] وبعد المحاسبة يأتي دور الجزاء العادل ، لان ما يوزن به الأعمال حق ودقيق ، وليس فيه أدنى نقص.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

لأنهم أصابوا الفلاح المادي والمعنوي بالجنة والرضوان ، وقد انتهت صعوبات الحياة ومخاوفها بحياة رغيدة آمنة.

[٩] ولكن الخسارة كل الخسارة هي أن يكتشف الفرد خفة موازينه ، إذ لا يملك البشر سوى فرصة واحدة للعمل هي أيام عمله المعدودة في الدنيا ، فاذا خسرها فما ذا يبقى له هناك؟

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)

انهم ظلموا الآيات فلم يسمعوها ، ولا عملوا بها ، فاذا بهم يخسرون كل ما يملكون.


وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

____________________

١٣ [الصاغرين] : الصاغر الذليل بصغر القدر ، وصاغر إذا رضي بالضيم.

١٨ [مذءوما] : الذم والذيم أشدّ العيب.

[مدحورا] : الدحر الدفع على وجه الهوان والاذلال ، يقال دحره إذا دفعه بقوة وقسوة.


شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)


جذور الانحراف في حياة البشر

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يبدو ان القرآن الحكيم يذكرنا بالموضوع الاساسي في هذا السورة حيث تبين طبيعة الإنسان ، وأسباب انحرافه ، لقد خلق الله الإنسان. وجعل له الأرض مكانا ومحلا للرزق ، ولكن رد فعله لم يكن الشكر ، ولكن لماذا لم يشكر؟

ان هذا يعود الى قصة الخطيئة الاولى ، حيث خلق الله آدم وجعله في أحسن صورة وتقويم (وأعطاه الروح ، والعلم ، والارادة) وأمر الملائكة بالسجود له ، فلم يسجد إبليس له لأنه خلق من نار بينما خلق آدم من طين ، وهكذا تكبر إبليس فطرد من السماء واخرج صاغرا ، بيد أن إبليس طلب المهلة ، فأعطاه الله ما طلب ، فاستغل إبليس مهلته في إغواء البشر عن الصراط المستقيم ، واقسم انه سيأتيهم من قدامهم ومن خلفهم ، ومن قبل إيمانهم وشمائلهم ، ليحرفهم عن الشكر لله ، لذلك اخرج ربنا إبليس كما أخر الذين يتبعونه ، وأوعدهم النار ، وأن يملأ بهم جهنم جميعا.


هكذا كانت جذور الانحراف عند الإنسان ، اما المثل الحي لهذا الانحراف فسوف يحدثنا عنه القرآن في الدرس القادم.

بينات من الآيات :

بين النعمة والجريمة :

[١٠] من نعم الله على الإنسان تمكينه في الأرض ، وتذليل الأرض وتسخيرها له ، وجعل الله فيها معايش البشر ، وما به تستمر حياتهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ)

بيد ان البشر لا يفكر في أسباب النعم وعواملها ، لذلك لا يشكر عادة من أنعم بها عليه.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)

[١١] من اين تنشأ عادة الجريمة؟

في قصة آدم وإبليس توضيح لهذا السؤال ، لقد خلق الله البشر وصوّر خلقه جوهرا وصورة وهيئة ، وربما المراد من الصورة هي ما أودع الله عند الإنسان من صفات وأخلاق ، ومن غرائز وفطرة ، وبالتالي العقل والارادة كما قال سبحانه :

(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ٢٩ / الحجر

وقال سبحانه :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ١٣٠ / التين

وقال :


(فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ٦٤ / غافر

وبعدئذ امر الله الملائكة بالسجود لآدم ، وربما كان السجود رمزا لكرامة العلم والارادة عند البشر ، ورمزا لتسخير الحيلة له بفضل العلم والارادة ، بيد أن الهدف من بيان قصة إبليس هنا ، يختلف عن هدف ذلك في سورة البقرة ، حيث كان الهدف هناك ـ حسب الظاهر ـ هو : بيان تسخير الحياة للإنسان بفضل العلم ، أما الهدف منها هنا فهو : بيان واقعة الخطيئة كيف؟ ولماذا وقعت؟

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)

لماذا عصى إبليس؟

ولقد جاء في الأحاديث أن التعبير القرآني الذي استخدم ضمير الجمع هنا دليل على واقعة الذر ، حيث خلق الله البشر جميعا بصورة (ذر) في صلب آدم ، ولذلك جاءت كلمة (ثم) للدلالة على الترتيب.

[١٢] ولكن ما هي الصفة التي كانت في إبليس ، فمنعته عن السجود بعد ما جاء الأمر الصريح؟

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)

استخدم القرآن التعبير بكلمة (ألّا) بدل (أن) ربما للاشارة الى ان صفة المنع لم تكن آنية أو محدودة بهذا العمل ، بل كانت مرتبطة بالطاعة على العموم ، أي ما منعك عن الطاعة الا تسجد.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)


لقد كان جواب إبليس واضحا ، لقد كان سبب عصيانه العنصرية ، والزعم بأن عنصره أفضل من عنصر آدم ، وعموما هناك مقياسان للإنسان ، اما مقياس الذات ، واما مقياس العمل الصالح ، فاذا كان مقياس الشخص هو ذاته ، فانه سوف لا يقف عند حد في جريمته ، لأنه لا يرى شيئا أقدس من ذاته أو أعلى من نفسه ، ومن هنا فان جذر كل المشاكل البشرية ، هو : تقوقع الإنسان في ذاته ، واعتقاده بأن ذاته هي المقياس ، وما الاقليمية ، والقومية ، والعشائرية ، وكل الحواجز الذاتية ما هي سوى آثار لهذه العنصرية المقيتة.

[١٣] ولكن مقياس الحق هو : مقياس العمل الصالح ، لا فرق بين عامله من يكون؟ ومن اي عنصر؟ لذلك أخرج الله إبليس من جنته.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها)

اي من السماء أو من الجنة ، وتدل كلمة الهبوط على الهبوط من مكان أعلى ، ومن الطبيعي ان يكون هبوط إبليس ليس ماديا فحسب ، بل ومعنويا أيضا ، ولذلك عاد القرآن واستخدم كلمة الإخراج أيضا.

(فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)

وهكذا كانت الخطيئة الاولى بسبب الاعتماد على العنصر ، والذي تجسد في صورة التكبر عن الحق ، ومن ثم كان الجزاء الهوان.

من حقائق الجزاء :

[١٤] وعلى الإنسان ان يعرف حقيقة هامة جدا هي : أن الجزاء لا يكون دائما بعد العمل مباشرة ، بل على العكس حيث يتأخر الجزاء عن العمل ، وهذا إبليس قد طلب المهلة من ربنا فأعطاه إياها.


(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

[١٥] (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

وأهمية فهم هذه الحقيقة تأتي من أن البشر بسبب محدودية الرؤية ، وضيق الأفق يزعم أنه لا يجازى على أعماله بمجرد تأخر الجزاء ، بل حتى حين يأتيه الجزاء ينسى أنه جاءه نتيجة عمله ، ولذلك لا يرتدع بالعقاب ولا يندفع الى الثواب ، وانما يستفيد من الجزاء الذين يعدمون المسافة الزمنية بين العمل والجزاء ، ويتصورون أنفسهم منذ لحظة القيام بالعمل وكأنهم في لحظة الجزاء ، فالزارع الذي يتصور وقت الحصاد ، والطالب الذي يتخيل قاعة الامتحانات ، والجندي الذي تتراقص في مخيلته لحظات الانتصار ، والمؤمن الذي يظن أنه ملاق ربه يكون عملهم أتقن وأبقى ، بينما المجرم الذي ينسى قاعة المحكمة ، والفاجر الذي يكفر بالآخرة ، والفاسق الذي يتناسى الموت يكون أجرء على الله ، وأوغل في الخطيئة.

[١٦] والهالك يسحب من حوله الى الهلاك ، كما الناجي يريد لمن حوله النجاة مثله ، وإبليس حين أمره الله بالسجود تكبر فأخرجه ، وهكذا أضمر حقدا مركزا ضد أبناء آدم الذي بسببه طرد من السماء.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)

انه يقعد لنا ، اي يرصدنا ويمكر بنا ، ومكره يتجسد في محاولة سلب نعمة الاستقامة منا.

[١٧] ويسعى إبليس بكل وسيلة ممكنة لكي يضللنا.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)


قد تكون هذه الجهات رمزا لاحاطة الشيطان بأبناء آدم من كل مكان ، حتى يتحسس البشر بمدى الخطر الذي يهدده ، فلا يكون في الحياة مهملا ، فارغ البال ، ضعيف العزيمة ، بل يكون جديا ذا فعالية كبيرة.

وقد تكون رمزا لأساليب الشيطان ، حيث يخدع البشر بالمستقبل القادم من بين يديه حينا ، حيث يمنيه غرورا ، ويزين له أشياء يعده بها ، وقد يضله بتصوير الماضي بطريقة تدفعه الى الأعمال السيئة ، أو بسيرة الآباء ، أو بفلسفة التاريخ أو .. بمن حوله من الناس ، بأولاده وزملائه ، أو بأعدائه والمنافسين له.

المهم : ان يعرف البشر أنه لو لم يتصل بالله سبحانه ، ويستعد استعدادا كاملا ، لأحاط به مكر الشيطان واراده وأهلكه ، فلا يصبح شاكرا لأنعم الله وجميل فضله.

(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)

وهذا في الواقع أسلوب حيث يستخدمه إبليس ، حيث يربط النعم بنفسه ، أو بالأولياء من دون الله ، والذين هم أدوات له وليس بالله سبحانه.

[١٨] والله أعطى البشر العلم والارادة ، وحذره من الشيطان ، وبذلك كلفه مسئولية الدفاع عن نفسه ، ضد هجمات إبليس.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً)

اي انه بعيد معنويا وماديا حيث انه يذم ويطرد.

(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)

أي بالتأكيد ان من يتبعك من البشر سيكون مكانه جهنم مع إبليس.


وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ

____________________

٢٠ [ليبدي] : الإبداء الإظهار ، وهو جعل الشيء على صفة ما يصح أن يدرك وضدّه الإخفاء ، وكل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي.

[وري] : المواراة جعل الشيء وراء ما يستره ومثله المساترة وضدها المكاشفة.

[سواتهما] : عوراتها.


الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)


الغرور الشيطاني سبب الهبوط

هدى من الآيات :

كانت قصة إبليس وعنصريته ، وتكبره وخروجه من السماء ، ووعده أنه سوف يغوي أبناء آدم ، وبالتالي كانت قصة الخطيئة الاساسي هي موضوع الدرس السابق ، والآن جاء دور آدم وأبنائه كيف أنهم انخدعوا بإبليس ، وكيف ينبغي تجنبه؟

أسكن الله آدم وزوجه الجنة ، وسمح لهم بتناول كل الطيبات باستثناء شجرة واحدة ، والتي انما نهيا عنها بسبب حكمة ، بيد ان الشيطان وسوس لهما ليظهر ذلك العيب الذي ستره الله ، وخدعهما بأن الله لم ينه عن هذه الشجرة الا لكي لا يصبحا ملكين خالدين ، وبذلك اثار فيهما حب الرئاسة وحب البقاء.

وحلف لهما بأنه ينصحهما ، ولكن ذلك كان غرورا ، فلما طعما من الشجرة ظهرت العورات الخفية لهما ، وإذا بهما يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وهناك ناداهما الله ربهما ، وقال : أو لم أنهكما عن الشجرة وحذرتكما من عدو كما الشيطان ، وبخلاف الشيطان الذي ازداد تكبرا ، فإن آدم وزوجه ندما على عملهما


واعترفا وقالا : (إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ولكن الذنب كان له أثره السلبي حيث أهبطا وذريتهما الى الأرض ، ليكون بعضهم لبعض عدوا ، ولتكون لهم فيها فرصة محدودة.

طبيعة العجز البشري :

[١٩] يبدو أن الجنة التي سكن فيها آدم وزوجه مثل حي لنعمة الحياة المرهفة التي يوفرها الله سبحانه للبشر إذا اتبع مناهجه ، حيث إن مناهج الله ليست سببا للشقاء ، بل سببا للسعادة والفلاح ، والله لم يحرم الطيبات ، بل حرم بعضا مما أوجبته حكمته سبحانه ، كما أباح لأبينا آدم وزوجه أكل ما شاء ولكن حرّم عليهما شجرة واحدة ، والتي لو اقتربا منها لأصبحا ظالمين حيث إنها كانت تضرهما.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)

[٢٠] قبل أن يواجه الإنسان التحديات والشهوات يزعم أنه قادر على مواجهة الضغوط والمشكلات ، وأنه صالح ، ولكن الضعف والعجز كامنان في طبيعة البشر ، ويظهر ان في الامتحان ، وعلى البشر أن يستعد للقيام بعد السقوط ، والتوبة بعد الذنب ، وألّا يغتر بنفسه ، ولا تأخذه العزة بالإثم.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما)

والوسيلة التي استخدمها الشيطان هي الوسوسة ، وحسب الظاهر فان الوسوسة هي : التشويش على رؤية الإنسان وعمله وفطرته ، وذلك عن طريق اثارة الغرائز التي تصبح حاجزا بين العقل والحقائق.

واستخدم إبليس اسلوبين آخرين :


أولا : تفسير الحقائق وتحويرها تفسيرا باطلا.

ثانيا : الكذب والحلف عليه ، اما التفسير الباطل فحين كذب.

(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)

جذر الخطأ :

لقد أثار إبليس صفتين في آدم موجودتان في كل أبنائه ، أولهما : حب الملك والعزة والرفعة ، والثانية : حب الخلود والبقاء والاستمرار وهاتان الصفتان هما تعبيران عن حب الذات والعنصرية المقيتة التي كانت السبب في إغواء إبليس ، بيد أن إبليس أظهر السبب صراحة ، وعلينا ان نسعى من أجل مراقبة هذه الصفات التي ينفذ من خلالها الشيطان الى قلوبنا ويفسد أعمالنا.

ومن الملاحظ ان نقص المواد الغذائية ، أو فقدان المسكن والملبس وما أشبه لم يكن سبب معصية آدم ، انما هو حب الخلود والملك ، وهكذا في أبنائه فلو استطاع البشر مقاومة هذا الحب لتخلص من كثير من المعاصي.

[٢١] ولم يكتف إبليس بتفسير النص الالهي تفسيرا خاطئا لهما واثارة الغرائز عندهما ، بل كذب عليهما كذبا صريحا ومؤكدا بالقسم.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)

وأصل المقاسمة : ان تكون من طرفين كأية صيغة أخرى من دون المفاعلة ، بيد أن إبليس قد يكون حلف حلفا مكررا كان يعارض حلف الطرف الآخر.

[٢٢] وكل ذلك التفسير والكذب والحلف كان غرورا ، اي تركيزا للنظر في


جانب واحد فقط ، وترك الجوانب الثانية مهملة ، حيث إن أصل الغرور هو الثوب حتى لا يتبين كل جوانبه ، والشيطان ينفذ الى قلب البشر من خلال الغر حيث يسعى الى تأكيد جانب واحد فقط من الحقائق وترك سائر الجوانب.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ)

وأخيرا طعما شيئا من الشجرة ، فظهرت لهما عوراتهما فاذا بهذا يرى عورة الثاني فاستحيا ، فأخذا يجعلان أوراق الشجر على بعضها عسى ان تصبح على هيئة اللباس فيواري عوراتهما ، وبالطبع فان أبناء آدم حين يتبعون الشيطان تظهر نقائصهم ، وضعف إرادتهم ، وقلة مقاومتهم للشيطان.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)

وهنا انتهت مرحلة الامتحان ، فناداهما ربهما وقال لهما : الم أنهكما عن هذه الشجرة ، وهكذا يستيقظ الضمير بعد ارتكاب الجريمة.

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)

[٢٣] وعاد الرشد الى آدم وزوجه كما يعود الى ابنائه العاديين بعد الجريمة ، وهذه من ميزات البشر على إبليس الذي لم يعترف بالخطيئة ، اما التوبة وإصلاح الفاسد من أبرز وأعظم الصفات الحسنة لو استغلت.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

[٢٤] وخسر البشر بذلك فرصة البقاء في الجنة ، وهبطوا الى دار الدنيا بسبب حب الخلود والرفعة ، وانتشرت بينهم الخلافات ، والصراعات الاجتماعية الدائمة


والمقيتة وكل ذلك وليد هذه النفسية المذنبة ، ولكن الله أنعم عليهم ببعض الاستقرار على الأرض ، وببعض المتاع والتمتع المؤقت ..

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

[٢٥] هنا دار الحياة والممات ، ومن ثم البعث.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)


يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما

____________________

٢٧ [قبيلة] : القبيل الجماعة من قبائل شتى ، فاذا كانوا من أب وأم واحد فهم قبيلة.

٢٩ [بالقسط] : العدل.


بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)


كيف يواري لباس التقوى

سوأة الإنسان؟

هدى من الآيات :

كما نزع إبليس لباس أبينا آدم حتى بدت له سوءاته ، كذلك يسعى من أجل أن ينزع لباس التقوى منا نحن أبناء آدم ، ذلك اللباس الذي يواري سوءات البشر ، وعلينا ان نتذكر هذه الحقائق : ان الشيطان أقوى منا في الخداع ، لأنه يرانا دون أن نراه ، ولكنه لا يستطيع ان يسيطر الا على الكفار ، لان الايمان يقاوم إغراء الشيطان.

أما الكفار فإنهم يخدعون من خلال مجموعة أفكار خرافية مثل : اتباع الآباء ، والاعتقاد بأنّ كل ما يعمله الآباء فهو دين ومأمور من قبل الله سبحانه ، بينما ربنا لا يأمر بالفحشاء ، وهؤلاء يقولون ما لا علم لهم به ، وانما اتباعا لأهوائهم ، ولا يتذكر هؤلاء أن أباهم آدم قد خدعه الشيطان ، فكيف بسائر الناس؟!

إذ المقياس ليس ما يقوله الآباء ، بل ما يأمر به الله سبحانه الذي أمر بالقسط.


بينات من الآيات :

لباس التقوى :

[٢٦] لقد انزل الله لبني آدم لباسا يواري عوراته ، وأعطاه ريشا وزينة يتجمل بها ، بيد أن لباس التقوى الذي يواري سوءات البشر المعنوية خير له ، وعليها لا يكتفي بلباس البدن وحده.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ)

وربما استخدم القرآن كلمة (أنزلنا عليكم) لان البركات كلها من السماء.

(وَرِيشاً)

اي زينة ومتاعا.

(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)

من لباس البدن بالرغم من ضرورة الاهتمام بهذا وذاك معا.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ)

اي هذه حجة من حجج الله ، وآية تدل على عظمة الله ، وهذه الحقيقة يجب أن يستوعبها الناس.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)

ان معرفة حاجة البدن الى اللباس قد لا تحتاج الى تعمق بقدر فقه حاجة الروح اليه ..


[٢٧] ومرة اخرى يذكر الله البشر بأنهم أبناء آدم الذي فتنة الشيطان وأخرجه من الجنة ، وعليهم أن يتحذّروا من فتنة الشيطان.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)

والشيطان كما نزع لباس أبوينا فانه يسعى لينزع عنا لباس التقوى.

(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما)

وكذلك حين يفتن البشر يرى الواحد سلبياته وضعفه وعجزه ، فيكون أول من يندم ويوبخ نفسه ، والشيطان يملك وسيلة ضد البشر هي المكر والخداع ، فاذا تسلح الإنسان باليقظة والحذر استطاع ان يقاوم كيد الشيطان.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)

بين ولاية الله وسلطان الشيطان :

ولكن ليس للشيطان سلطان على البشر ، لأن البشر يملك الارادة والعقل والضمير ، ولكن الكفار يفقدون إرادتهم في مقاومة الشيطان ، فيصبح وليهم بسوء اختيارهم.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

اما المؤمنون فالله وليهم وهم أحرار من قيود الشيطان قال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ١١ / محمد

ان الذي يتبع شهوة الثروة ويخضع لسلطان الطاغوت ، ويستسلم لارادة رئيس العشيرة ، ويخوض مع تيارات المجتمع حيث خاضت ، انه يفقد أرادته ويصبح ذرة في مهب الرياح الشيطانية.


[٢٨] وعلامة فقد الارادة ، أن هذه الفئة لا تملك حرية التفكير وتتعرض لأسوإ استعمار واستعباد وهو فقدان الاستقلال الفكري والثقافي الذي هو مقدمة لسائر أنواع الاستغلال والاستثمار.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا)

زاعمين أن ذلك يكفي شرعية للعمل ، وأسوء من هذا أنّهم كانوا يزعمون أن أفكار الآباء تمتلك قداسة سماوية.

(وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)

تلك التي يوافقها الفرد بعقله ، وكلما يأمر به الآباء أو الأحبار أو السلاطين ، ولكن العقل كان يعارضه فهو بعيد عن القداسة وعن الله.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

[٢٩] العدالة فطرة كامنة في البشر وطموح كبير وإذا لم يهو أحد القيام بالقسط بنفسه فلا ريب أنه يحبه للآخرين ويطالبه منهم ، والله لا يمكن أن يأمر بغير القسط ، والعالم كله يشهد له بالعدالة في كل شيء.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)

وأمر الله بالّا يعبد الا هو ، وحتى في المواضع التي يعبد من دون الله شركاء ، يجب رفض الشركاء وعبادة الله الواحد القهار.

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

أنّى كان ميعاد السجود علينا ان نسجد لله لا للشركاء ، رمزا لخلوص عبادتنا


ووحدة اتجاهنا ، ودعائنا كذلك يجب أن يكون خالصا لله.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)

فلا يتجزأ الدين ليؤخذ منه جانب العبادات وتترك المعاملات الاقتصادية ، أو القضايا السياسية أو ما أشبهن ، وليس هناك تمييز بين أبناء آدم حتى يعبد بعضهم بعضا ، أو يترك بعضهم جانبا من الدين إرضاء للبعض الآخر.

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)

سواسية كأسنان المشط.

[٣٠] نعم هناك اختلاف واحد بين أبناء آدم يعترف به الإسلام هو : اختلافهم من حيث الايمان والعمل الصالح (أو بتعبير آخر اختلاف الارادة والسلوك).

(فَرِيقاً هَدى)

اي هداهم الله فاستجابوا للهداية.

(وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)

وكتبت عليهم الضلالة بسبب توجههم الى غير الله.

(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)

حينما يهبط البشر الى هذا الدرك لا يرجى له الشفاء ويصبح ممن حقت عليه الضلالة ، حيث يتخذ الشيطان ، الذي هو عدو وليا وقائدا له ، ويكفر بالله خالقه وراحمه ، والانكى من ذلك أنه يحسب نفسه مهتديا ، وهو في الضلال البعيد.


يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)

____________________

٣٣ [البغي] : الاستطالة على الناس ، وحّده طلب الترؤس بالقهر من غير حقّ.


تشريعات الرسالة تكامل وواقعية

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ، أمر القرآن بإخلاص الدين لله ، ومعناه أن تكون وجهة البشر نحو الله في كل جوانب الحياة ، وأن تكون برامج الله سائدة على كل أبعاد الحياة ، وفي هذا الدرس يضرب القرآن لنا مثلا واقعيا حيث يأمرنا بالتزين عند كل مسجد فالمسجد عبادة ، والزينة حياة كما يأمرنا بالأكل والشرب ضمن حدود التقوى ، ثم تساءل القرآن عمن حرم زينة الله ، وطيبات رزقه التي هي خالصة للمؤمنين في يوم القيامة؟ ثم نهى القرآن عن مجموعة شؤون حياتية كالفواحش والإثم والبغي فالفواحش والإثم مثلا للسلوك الشخصي المنهي عنه والبغي مثلا للسلوك الاجتماعي المنهي عنه.

كما نهى مرة اخرى عن الشرك. الذي من مظاهره الخضوع للسلطان الظالم ، ونهى عن القول بغير علم مثلا لتوجيه القرآن في الثقافة ، هذا هو الدين وخلوصه يعني الا يتبع الفرد شريعة ومنهاجا من غير الدين.


بينات من الآيات :

كيف نعرف طبيعة الديانات ..؟

[٣١] بالنظر الى جانب واحد من مذهب أو دين نستطيع ان نعرف طبيعته معرفة تامة ، فاذا نظرت الى مسجد المسلمين فانك تستطيع ان تعرف الصيغة التكاملية للإسلام ، فالمسجد محل عبادة يعرج منه المؤمنون الى الله ، ومقام حرب بين الهوى والعقل ، وبين الباطل والحق ، ولكنه في نفس الوقت مكان للتعارف والتعاون والاجتماع ، وكلما يقرب الإفراد الى بعضهم يستحب أو يجب وجوده في المسجد كالطهارة والنظافة والزينة ، حيث أمر الله بأن يتخذ المؤمنون أفضل زينتهم الى المساجد ، حتى يكون مظهر المجتمع جذابا ، ويقرب مظاهر الإفراد بعضهم الى بعض.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

وكما أنزل الله لبني آدم لباسا وريشا ، وكما أنعم على أبوينا باللباس كذلك أمر بالاستفادة من نعمة الزينة ، ولكن ليس في التفاخر ولا في مجالس اللهو ، وإنما للتعارف وللتعاون في المحافل الدينية وكما ينبغي الانتفاع باللباس كذلك ينبغي أن يستفيد المؤمن من نعم الأكل والشرب ولكن في حدود العدالة التي تحافظ على تعادل المجتمع ، كما تحافظ على سلامة الجسد الذي يفسده الإسراف في الطعام.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)

إن حرمة الإسراف ، وضرورة تنظيم الاكل والشرب مظهر آخر من مظاهر التكاملية في الإسلام.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)


الإسراف قد يكون بتجاوز حدود الشريعة ، فالذي يأكل لحم الخنزير ، ويشرب الخمرة فهو مسرف لا يحبه الله ، إذ ما دام الحلال واسعا. فلا حاجة الى الحرام ، وقد تتجاوز حدود العرف العام فتبني بيتا بمليون دينار في الوقت الذي يكفيك نصفه ، وقد تشتري سيارة بعشرة آلاف دينار بينما تكفيك سيارة بألفين ، وحدود السرف ترتبط بالظروف الاجتماعية ، بل وحتى الظروف الشخصية ، فالفقير الذي لا يملك سوى بضعة دنانير فيصرفها في شراء العطور ، ويهمل عائلته جائعين يعتبر مسرفا ، بينما لو فعل الغني مثل ذلك لم يكن كذلك ، والدول الفقيرة التي تقلد الدول الكبرى في بناء المطارات الضخمة ، أو المباني الرياضية الكبيرة ، أو بناء سفارات فخمة تعتبر مسرفة ، بينما قد لا يعتبر مثل ذلك إسرافا للدول الغنية.

هل حرّم الله الزينة؟

[٣٢] لم يحرّم الإسلام الزينة على المؤمنين ، بل اعتبرها خالصة لهم يوم القيامة ، فكيف يحرّمها الله على المؤمنين في الدنيا؟

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)

فالزينة مخلوقة للمؤمنين في الدنيا ولكنها غير خالصة من شوائب المصائب ، أما في الاخرة فهي خالصة لهم ..

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

بالعلم والمعرفة يعرف المؤمن ان الاستفادة من نعم الله لا ينقص الايمان ، وإنما ظلم الناس ، أو الخضوع للظلم ، أو السكوت على ظلم الظالمين هو الحرام وهو الأصعب مسئولية وواجبا ، ومن استطاع ان يحقق هذا الواجب ، ويؤدي هذه


المسؤولية فقد اقتحم العقبة وفاز ، ولكن من دونها لا ينتفع له التخشن في المأكل وترك الزينة.

تحريم الفواحش جوهر الدين :

[٣٣] ركّز القرآن على حرمة الفواحش والبغي والشرك وهي جوهر الدين وأثقل مسئولية ، وهذه المحرمات الثلاث تتصل بثلاث أبعاد من حياة الفرد هي :

الأول : العلاقات الجنسية : حيث حرم ربنا الفواحش ، ومن أبرز مظاهرها الشذوذ الجنسي الذي يهدم الأسرة ، ويفسد العلاقات الاجتماعية ، وسيئ التربية وهكذا ، وليست الفواحش الظاهرة كالزنا هي المحرمة فقط ، بل الباطنة أيضا منهي عنها مثل : مصادقة النساء ، وربما تشمل الفواحش الباطنة تلك الأسباب التي تؤدي إليها مثل الخلاعة ، ووضع العقبات أمام الزواج.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

الثاني : السلوكيات الشخصية التي حرم ربنا فيها الإثم وهو كل حرام مثل شرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، والمحرم من اللحوم خصوصا ما لم يذكر اسم الله عليه.

الثالث : ظلم الناس وتجاوز حقوقهم سواء كانت الحقوق المالية كحرمة السرقة ، والرشوة ، والضرائب المجحفة ، والغش ، وأخذ المال من دون عمل مناسب. أو كانت حقوقا اجتماعية مثل حرمة الغيب والتهمة والنميمة وما الى ذلك ، إن كل ذلك ظلم وحرام ..

(وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ)

وربما يكون كلمة (بغير الحق) تفسير للبغي ، وأنّ كل تجاوز للحق يعتبر بغيا


وظلما حراما.

وبعد هذه المحرمات يأتي دور المحرّم الخطير!؟ وهو المرتبط بالسياسة حيث يحرم الخضوع لسلطان غير سلطان الله ، أو اتباع شخص أو جهاز لم يأذن به الله ، وبالتالي يحب التمرد على هذه الانظمة التي تحكم الشعوب بأسماء غير اسم الله ، أو تدّعي أنها تمثل سلطان الله كذبا وزورا وهذا هو الشرك.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ)

في سلطانه وسيادته القانونية والسياسية.

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)

فاذا أنزل الله سلطانا بجواز اتباع أحد عبر ادلة عقلية واضحة لا يرتاب فيها الشخص ، آنئذ فقط يجوز أن يخضع الفرد له وذلك الشخص مثل الرسول (ص) والائمة الهداة (ع) ، والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

أما ان يتخذ الفرد شخصا قائده وامامه ، أو يتخذ حزبا يقلده ويتبع برامجه بصورة عشوائية ، فذلك امر لا يجوز أبدا.

وإذا كانت الولاية لله ، ولمن أنزل الله فيه سلطانا يجب ان تكون الثقافة السائدة على هذا المجتمع ثقافة حقّة ، لان الثقافة هي الخلفية الرصينة لهذه الولاية ، وذلك لا يكون إلّا بعد سكوت الجاهل ، وعدم إشاعة الأفكار الباطلة ، فاذا سكت من لا يعلم بحث الناس عن العلم الصحيح ، ووصلوا اليه عبر قنواته السليمة.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

أما إذا شاع الافتراء على الله ، فقال كل واحد كلاما ونسبه الى الله ، فان طريق


الحق يضيع بين طرق الضلال ، وكلمة علم واحدة تختلط بألف كلمة جهل ، ولا سبيل آنئذ للإنسان للوصول الى الحقيقة.

هذه هي المحرمات التي لو واجهت الفرد المسلم أو المجتمع المسلم في تنفيذها لبقي جزء منها غير مطبق ، إلّا من عصمه الله لأنها صعبة للغاية ، أما إذا تجنب الفرد جانبا من الطيبات ، وتصور أنه زاهد ، أو اعتبر الدين كله مجرد الابتعاد عن بعض اللذائذ ، فان ذلك خداع ذاتي لا أكثر.


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ


ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)


عاقبة الذين يفترون

على الله الكذب

هدى من الآيات :

بيانا وتوضيحا للدروس السابقة ، جاء هذا الدرس ليذكرنا بأن حياة البشر محدودة بأجله ، وأن اجله لا يتأخر ولا يتقدم ، فليس بامكانه أن يطلب المهلة ولو لوقت قصير ، وأن الفرصة الوحيدة هي الحاضر ، حيث جاءت الرسل تقص آيات الله ، فعلينا أن نتقي الله ، ونصلح العمل حتى لا تضرّنا العاقبة ، بينما التكذيب بآيات الله ، والاستكبار عنها ينتهي بالنار الخالدة ، ولكن لماذا التكذيب؟ أو ليس ذلك ظلما يظلم به البشر نفسه وبلا سبب ، حيث يكتب عليه القانون ما ينبغي له ، وآنئذ لا يجد له ملجأ يلجأ اليه ، أما أولئك الشركاء الذين كان يتوعدهم الله ، فإنهم يغيبون عنه ولا يجد لهم أثرا ، وهناك يقول الله لهم : ألحقوا بأسلافكم من الكفار ، أولئك الذين يستقبلونكم باللعنة ، ويقول المتأخرون : يا رب؟ عذّب هؤلاء الذين أضلونا عذابا مضاعفا ، لأنهم كانوا السبب في وقوعنا في العذاب ، بيد أن الله يقول : وأنتم بدوركم سينالكم العذاب المضاعف لأنكم فعلتم الذنب ، ولأنكم اتبعتم السابقين من دون سلطان ، بيد أن للسابقين كلمة أيضا ، حيث يقولون للآخرين :


ماذا انتفعنا باتّباعكم لنا؟!

بينات من الآيات :

بين الأجل والعمل :

[٣٤] ان يعرف البشر أن عقاب أعماله ليست عاجلة ولكنها مؤجلة لوقت محدد ، إن ذاك يعطيه مزيدا من الكبح الذاتي ، وينمي وجدانه الرادع ويربيه ، ولكن قد يزعم البشر أنه ما دام العقاب مؤجل فمن الممكن ان نستفيد من تأخير العقاب مرة بعد اخرى ، حتى نتوب أو نعمل صالحا فيرتفع العقاب رأسا ، ولكن القرآن يسفه هذا الزعم : بأن لكل أمة أجلا حدده الله ، وبالرغم من ان هذا الأجل مجهول إلّا أنه معلوم عند الله ، وإذا بلغ أجله فلن يتبدل ، فعلينا إذا انتظار ذلك الأجل في كل لحظة ، ولا مفر منه ولا تأخير فيه ، وليس لدينا قدرة على مقاومته إلا بالعمل الصالح الذي يجعل الأجل في صالحنا.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)

أي وقت تستنفذ الأمة خلاله كل إمكانات التذكر والايمان.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)

وكم يكون خطيرا هذا الأجل إذا جاء دون أن يعمل الإنسان صالحا.

[٣٥] ولذلك فعلينا أن نستعد للأجل المحدد الذي لا يتغير ، والاستعداد لا يتم الا بالاستجابة لرسالات الله.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي)

فعليكم الاستجابة لهذه الرسالة ، التي تفصّل لكم كل شيء تفصيلا.


(فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

لا خوف عليهم بسبب أعمالهم الصالحة ، فهم لا يخشون بلوغ الأجل ونهاية الفرصة ، كما الطالب المجد لا يخشى الامتحان ، وكما البريء لا يخشى المحاكمة ، وهم لا يحزنون على ماضيهم الذي استغلوه بالعمل الصالح. استعدادا لهذا اليوم ، وربما تكون التقوى هي : الجانب النفسي والإصلاح هو : الجانب العملي.

[٣٦] بيد أن الخوف والحزن من نصيب الكفار الذين يكذبون بالآيات بعد وضوحها ، فهي علائم صريحة على الحقيقة التي لا يصدّقون بها استكبارا ، واستجابة لأهوائهم ، وعقدهم النفسية.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها)

إن جزاء هؤلاء هو الاقتران بالنار ، والتلاحم مع عذابها دون أن يجدوا خلاصا.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

وخلود هؤلاء في النار يعتبر الجزاء المناسب لعنادهم الذي لا رجاء في إصلاحه ، ولاستكبارهم الذي جعل قلوبهم في صندوق حديدي لا ينفذ إليه النور والهواء ، بالرغم من قوة ضياء النور أو زيادة دفع الهواء.

[٣٧] إذا كم يكون ظلم البشر لنفسه كبيرا حين يجعل نفسه في هذا المأزق الخطير ، ويستكبر عن الحقيقة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ)

إن البشر حين يستكبر ويتطاول على الحقيقة يخدع نفسه والآخرين بصنع بديل للحقيقة ، فهو من جهة يكفر بالحقيقة والآيات والعلائم الواضحة التي تدل عليها ،


ومن جهة ثانية يخلق لنفسه أفكارا وينسبها الى الله كبديلة عن الحقائق ، وجزاء هؤلاء هو : أن تلك الحقائق التي كفروا بها ستحيط بهم وتنتقم منهم.

(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ)

إن نصيب المؤمنين العاملين بالكتاب هو تحقق المكتسبات الرسالية الحسنة لهم ، أما نصيب الكفار الرافضين للكتاب فهو تحقق العقوبات التي ينذر بها الكتاب ..

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

أي تلك الأفكار ، وأولئك الشركاء الذين كانوا يجسدون تلك الأفكار في الواقع العملي ، أين هم الآن؟ وقد كنتم تعتمدون عليهم ، وتزعمون بأنهم يشكلون البديل المناسب عن الحقيقة ، وعن آيات الله!

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)

كافرين بالحقيقة ، وبالتالي شهدوا على أنفسهم بأنهم يستحقون العذاب.

حوار التابع والمتبوع :

[٣٨] لأن هؤلاء كانوا مستكبرين ، لذلك كانوا يفتخرون بأنسابهم وبعشيرتهم ، وبالسابقين من آبائهم وكبرائهم ، وحين اجتمعوا في النار ببعضهم ، كان بين التابعين والمتبوعين منهم حوار نافع لنا.

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)

بالرغم من ان الأمم اللاحقة تعتمد على الأمم السابقة في الدنيا ، لكنها في


الاخرة ولوضوح الحقائق عندهم جميعا يلعن بعضهم بعضا ..

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً)

أي اجتمعوا إلى بعضهم ، وأدرك بعضهم بعض.

(قالَتْ أُخْراهُمْ)

أي تلك الأمم المتأخر.

(لِأُولاهُمْ ، رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ)

لأنهم أضلوا وسنوا سنة سيئة ، فسرنا عليها فهم يستحقون ضعفا من العذاب.

(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ)

لأولئك بسبب أسبقيتهم بالكفر ، لأنهم سنّوا تلك العادات السيئة ، وروجوا لتلك الأفكار الباطلة ، وكل من يدعو الى فكرة باطلة فله عذاب من يعمل بها.

أما أنتم فعليكم ضعف من العذاب ، لأنكم اتبعتّم أولئك من دون سلطان من الله أنزل عليكم ، فالذي يعمل السيئة بسبب شهواته عليه من العذاب بقدرها ، أما من يعملها تقليدا لغيره فعليه بالاضافة الى عذابها عذاب التقليد الباطل ، لأنه يحرم شرعا أن تتبع أحدا من دون الله ، فان اتباعك له شرك وضلالة بذاته ، إنه كفران بنعمة الحرية ، وتحطيم لكرامة الله عليك.

(وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)

[٣٩] والسابقون أجابوا أتباعهم بأنهم لم يزيدوهم باتّباعهم شيئا ، فما الذي انتفع به فرعون من اتباع ملوك مصر له ، وما الذي انتفع به هتلر من اتباع حكام


لبلاد الإسلامية له ولأساليبه؟ لا شيء.

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

إن العذاب الذي يذوقه الكفار انما هو بسبب ما اكتسبوه من أعمال ، لا بسبب هذا الشخص أو ذاك.


إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا

____________________

٤٠ [سم] : الثقب.

[الخياط] : الإبرة.

٤١ [مهاد] : الوطاء الذي يفترش.

[غواش] : الغواش جمع غاشية وهو كلّ ما يغشاك أي يسترك.

٤٢ [غل] : الفعل الحقد الذي ينفذ بلطفه الى صميم القلب ، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة الى دقيق الخيانة.


لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)


عاقبة المكذبين والمستكبرين

هدى من الآيات :

في الدرس السابق. ذكّرنا القرآن بسفاهة الاستكبار ، وفي هذا الدرس يبيّن لنا جزاء الاستكبار ، الذي هو في الواقع متصل بطبيعة الاستكبار.

التكذيب بالآيات ، والاستكبار عنها معناه الخلود الى الأرض ، والاعتقال في السجون المادية ، ولذلك لا يعرج المستكبر في سماء التقرب الى الله ، ولا يحلّق في أجواء المعرفة والكمال ، وكأن أبواب السماء مغلقة في وجهه ، أما الجنة في الآخرة فإنها مغلقة دونهم ويستحيل عليهم دخولها ، كما يستحيل ولوج الجمل بضخامته في ثقب المخيط.

إن ذلك جزاء المجرمين بسبب جريمتهم التي ارتكبوها ، أما منزل هؤلاء في جهنم فأرضها من نار ، وسقفها من لهيب ودخان ، وهذا جزاء من يظلم نفسه.

وفي الطرف الثاني : المؤمنون الذين يعملون الصالحات حسب طاقتهم ووسعهم


يدخلون الجنة ويخلدون فيها. وأبرز نعمة يسبغها الله عليهم هي نعمة الراحة النفسية ، والصفاء بين بعضهم ، حيث ينزع الله ما في صدورهم من غلّ وحسد ونفاق ، أما النعمة الثانية فهي : الأنهار التي تجري من تحتهم ، والنعمة الثالثة هي : رضاهم وتحقيق طموحاتهم ، وشكرهم لربهم وشكر الله لهم ، حيث يناديهم بأن الجنة إنما هي ميراث اكتسبوه بأعمالهم.

بينات من الآيات :

كيف يخسر المستكبرون

[٤٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا)

الذين كذبوا بآيات الله زاعمين ان التكذيب. يخدم ذواتهم ، ويشبع إحساسهم بالعلوّ والعظمة خسروا مرتين : مرة حين سدّوا على أنفسهم بسبب التكذيب أبواب الرحمة ، وآفاق العلم ، ورحاب الحياة ، إذ أن التكذيب كان معتقلا حصينا سجنوا أنفسهم بين جدرانه الضخمة المرتفعة ، والشرط الأول للاتصال بالحياة هو معرفتها ، وبعد المعرفة يسهل تسخير الحياة لأهداف البشر ، والذي لا يعترف بالمعرفة ، ويكذب بآيات الحقيقة ، بل لا يعترف بأن هناك واقعا عليه أن يوفق نفسه واعماله حسبه ، كيف يتسنى له تسخير الحياة؟! من منا يكفر بالحياة ، ويهدم على نفسه السلالم التي لا بد أن يتسلقها ، والخسارة الثانية انهم يخسرون مكانهم في الجنة ، ويدخلون النار.

ان التعبير القرآني يسمو الى منتهى اللطف والدقة حيث يقول :

(لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ)

ثم ان البشر يسمو بمعنوياته وبدعائه وبإيمانه وبإرادته وبرؤيته البعيدة ، وكل


ذلك مسلوب ممن يكذب بآيات الله ، لأنه لا يعترف بالله ولا يريد الايمان به.

إن أبواب السماء مفتوحة أمام أعمال المؤمنين ودعواتهم ، بعكس الكفار.

ويأتي القرآن ليبيّن الخسارة الثانية فيقول :

(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)

ولأنه مستحيل أن يدخل الجمل بضخامته في ثقب المخيط لصغره ، فإن دخول الجنة هو الآخر غير واقع.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)

فليس ذلك فقط بسبب كفرهم واستكبارهم ، بل وأيضا بسبب إجرامهم العملي ، وبقدرة الله أيضا وقبل كل شيء.

[٤١] محل هؤلاء النار ، حيث يستقرون في جهنم وفوقهم ظلل من اللهيب والدخان ، تغشاهم وتسترهم.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)

بظلمهم وبقدر ذلك الظلم.

وحسبما يبدو لي : إن الجمل الاعتراضية في القرآن كالتي سوف تأتي في الآية التالية وهي (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إنها والجمل النهائية مثل آخر الآيتين الأخيرتين وما أشبه هي إشارات الى الفطرة البشرية التي يهدي إليها العقل ، ويذكّر بها الوحي ، وتبنى عليها شرائع السماء جميعا ، فالجريمة والظلم قبيحان وجزاؤهما يجب أن يكون شديدا ، والمستكبر المكذب بآيات الله. مجرم ظالم ، وهذه


الإشارات تشكل القيم الأساسية في القرآن الحكيم.

عاقبة المؤمنين

[٤٢] تلك كانت عاقبة المكذبين الظالمين ، فما هي عاقبة المؤمنين الصالحين؟

أولا : هؤلاء لا يكلفون فوق طاقتهم ، فليس الايمان أو الواجبات شيئا شاقا حسبما يوهم الشيطان للبشر ، بل هو عمل ميسور.

ثانيا : ان مصير الايمان والصلاح الجنة والرضوان ، وصاحب الايمان والصلاح هو صاحب الجنة والرضوان ، ذلك حق لا ريب فيه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

[٤٣] ثالثا : أن الايمان بالله هو مثل للخروج من معتقل الذات الى رحاب الحقيقة ، ومن نتائجه الاولية الواقعية في الرؤية ، وأن يرى الشخص نفسه ، ويرى الآخرين معه ، فلا تضيق نفسه بما أنعم الله عليهم ، ولا ينافق معهم ، ولا يسلب منهم نعم الله أو يحب ذلك ويعلم أن فضل الله على أيّ أحد يتناسب وطيبة نفسه ، ومقدار عمله ، وحكم الله في الحياة ، فاذا لماذا الحقد والحسد؟ ولماذا الفسق والتزوير والنفاق؟ هذه الصفة تنعكس في الآخرة على شكل مؤانسة وصفاء بين قلوب المؤمنين.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ)

الرضا من نعم الله على المؤمنين في الجنة ، فهم كما رضوا في الدنيا بما قسم الله عليهم وأسلموا لربهم ، راضون في الآخرة لأنهم رأوا عاقبة عملهم الصالح.


(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ)

إذا فهي نعمة كبري لا يبلغها الفرد بذاته ، بل بالله سبحانه ، ومن هنا يستوجب المزيد من الشكر ، والمزيد من الحمد والرضا.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ)

كانوا يؤمنون بهذا الحق في الدنيا إيمانا غيبيا ، وها هم يرونه عين اليقين أمامهم ، وكما ان المؤمنين يشكرون ربهم ، فان الله يشكرهم ويشعرهم بأن أعمالهم الصالحة هي التي أوجبت لهم هذا الفضل العظيم ، وبهذا يزدادون إحساسا بالرضا والاعتزاز ، إذ فرق بين أن تحصل على نعمة صدفة أو تخطط لها وتتعب نفسك ، فتصل إليها بجهدك.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ)

العظيمة الواسعة النعم.

(أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فأعمالكم الصالحة هي التي جعلتكم تملكون هذه الجنان إرثا حلالا.


وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)

____________________

٤٦ [الأعراف] : الأمكنة المرتفعة ، والعرفاء من الناس أعلاهم منزلة ، والعريف الشرطي.


جزاء الظالمين

الذين يصدّون عن سبيل الله

هدى من الآيات :

في صورة حوار يجري مستقبلا بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، يجسد القرآن الحكيم حقائق الحاضر ، وأبرزها أن ما يقوله الله حق ، وأن لعنة الله على أولئك الذين يظلمون أنفسهم فلا يستجيبون للحق ، بل يصدّون الناس عن سبيل الحق ، ويحرفون السبيل ليضلوا الناس وهم يكفرون بالآخرة.

بين الجنة والنار مرتفع من الأرض أشبه ما يكون بسور يقف عليه أئمة الصلاح ، الذين يعرفون المؤمنين والكافرين بسيماهم ، وينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم. ويأذنون لهم بدخول الجنة ، وقد استجيبت كل طلباتهم ، فلا يطمعون في شيء آخر.

بينما لا ينظرون إلى أهل النار ، إذا صرفت أبصارهم تلقاء جهنم فزعوا من هول جهنم ، وخافوا ان يصبحوا من أهل النار من شدة فزعهم ، وقالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).


إن هذا الدرس يتابع فكرة الدروس السابقة التي هي تصوير للحقائق ، لعل البشر يخرج من قوقعة ذاته إلى رحاب الحقيقة.

بينات من الآيات :

كيف نتذكر الحقيقة

[٤٤] لكي يتغلب البشر على مشكلة النسيان في ذاته ، ويتمكن من تذكر الحقائق التي يهتدي إليها بعقله ، ويحيط بها علمه ، وبالتالي لكي يشاهد بأحاسيسه وببصيرته الحقائق القادمة ، فعليه أن يتسلح بالتصور ، وتجسّد الحقائق امامه يقرّب بالخيال واقعيات المستقبل التي لا يعلم بها إلّا رمزا.

مثلا : الجندي الذي يتدرب في المعسكر ، والذي يعلم انه سوف يخوض في المستقبل معركة المصير ، وأنه لو تدرب جيدا فسوف يتغلب فيها وإلا فلا. على هذا الجندي أن يتصور أبدا ساحة المعركة ، ومدى المكسب فيها عند الانتصار ، ومدى الضرر عند خسارتها ، وكذلك الباحث في مكتبه ، والعامل في مصنعه ، والمدير في دائرته ، كل أولئك لو فكروا في مستقبل أعمالهم ، وتذكروا ذلك المستقبل إذا لعملوا أفضل وأفضل.

والقرآن الحكيم يصوّر لنا المستقبل في صورة حوار بين المؤمنين والكافرين ، وهذا الحوار يتم بشكل مناداة فاذا بالقشور السميكة التي تحيط بقلوبنا تتفتت بفعل هذا الصوت المخترق.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فما دام كلام الله حقا ، ووعده صدقا ، فلما ذا التكذيب به؟! ولماذا الامتناع عن


الاستجابة له وفيه منافعه؟! إن ذلك ظلم عظيم ، ورحمة الله تتمثل في جنته ، وتوفيقه بعيد عن الظالم ..

وسوف نتحدث إنشاء الله عن المؤذن الذي نتصور أنه هو صاحب الأعراف الآتي ذكره.

ظلم النفس والمجتمع :

[٤٥] الظالم لا يبقى في حدود ظلمه لنفسه. بل أنه سوف يظلم الناس أيضا ، وسوف يدعو الناس الى منهجه الباطل ، ويقف عقبة امام توجّه الناس الى الله ، بل ولا يدع الناس يعملون الخير.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)

[٤٦] (وَبَيْنَهُما حِجابٌ)

وبين أهل الجنة والنار حجاب ، والحجاب في الآخرة تعبير عن الحجاب في الدنيا بين المؤمن والكافر ، ذلك هو الفرق بين فريقي المؤمنين والكافرين ، واختلاف جبهتيهما ، حيث إن المؤمن الذي لا يؤمن بهذا الحجاب يشك في إيمانه.

وبالرغم من اختلاط الناس ببعضهم في الدنيا فهم في الآخرة مختلفون جدا ، وبين الجنة والنار أعراف ، وهو مرتفع من الأرض يفصل بين الموقعين ؛ ويجلس عليه رجال معيّنون أهم ميزة فيهم هي : معرفتهم التامة بالناس.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ)

ويبدو أن هذه الفئة هم القدوات والأئمة الذين يميّزون بين الحق والباطل ، وصفات أهلهما ، وبالتالي يعرفون كلا منهما ، هذه الفئة هم القادة المؤمنين في


الدنيا ، وفي الآخرة قادة الناس جميعا ، فهم يميّزون هناك كما في الدنيا بين الطائفتين ، وهؤلاء يعطون للمؤمنين الاشارة الخضراء لدخول الجنة.

(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

وحين يدخل المؤمنون الجنة ، تملأ الجنة كل طموحهم وتطلعهم.

(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)

[٤٧] ويبقى هؤلاء الائمة متوجهين في الأكثر إلى أهل الجنة ، وإذا توجهت نظراتهم إلى أهل النار مرة واحدة أفزعتهم النار بما فيها من أنواع العذاب ، وطلبوا من ربهم نجاتهم منها.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)


وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ


شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)


هكذا ينسى الله

الذين اتخذوا دينهم لعبا

هدى من الآيات :

في جو النداء الصارخ ومع الحوار الساخن يذكّرنا السياق القرآني بذات الحقائق التي يذهل عنها الناس وهم يصارعون المشاكل اليومية ، أولئك الناس الذين يعتمدون على العشيرة والحزب والزملاء.

ولذلك فهم يستكبرون عن الحقائق ولكن عند الله لا يغني كل ذلك عنهم شيئا ، وقد يستصغر البشر المؤمنين لقلة عددهم وضعف عدتهم ، ويحلفون بالله أنهم منبوذون عنده ، ولكن الله يدخل هؤلاء الجنة ، وهناك يطفق أولئك المستكبرون المعتمدون على كثرة العدد والعدة بالسؤال من المؤمنين أن يعطوهم الفائض من مائهم ، والفتات من نعم الله عليهم ولكن هيهات.

إن الكفار الذين حرّموا على أنفسهم نعمة الدّين ، واتخذوه أداة للتسلية ، واستهانوا به ، وانبهروا بعاجل الدنيا. إنهم حرموا على أنفسهم بذلك نعم الآخرة


أيضا ، إن الله ينساهم هناك كما نسوا الآخرة ، وكما أنكروا آيات الله الدّالة على الحقائق.

والله لم يقصّر في هداية الناس حتّى يحتجّوا عليه يوم القيامة ، بل جاءهم بكتاب مفصّل ومبين في كافة حقوق الحياة ، خلفيّته العلم والمعرفة ، وهدفه التوجيه والهداية ، ونهايته السعادة والرحمة ، بينما الكفار ينتظرون تطبيق آيات الكتاب عمليا حتى يؤمنوا به ، وآنئذ لا ينفع الايمان.

بينات من الآيات :

التصور أجنحة الحقيقة :

[٤٨] في يوم القيامة حين ينشغل الجميع بأنفسهم ، يتفرغ أصحاب الأعراف وهم أئمة المتقين لمحاسبة الناس واسترجاع ذكريات الماضي.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ)

أي ملامحهم التي تتأثر بالعذاب ، وتمسخ عن الانسانية الى صور مفزعة.

(قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ)

أي ما الذي أفادتكم الجماعة التي اعتمدتم عليها ، وزعمتم انها ستنفعكم في أوقات العسر والشدة فأين هم الآن!

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)

أي أين ذلك الغرور الذي جعلكم تستكبرون به ، أين القوة وأين الشباب وأين المال وأين الصحة؟ وبالتالي أين تلك الماديات الزائفة التي غرّتكم ، وجعلتكم تتطاولون على الحقيقة ، وتحسبون أنفسكم فوق الحق ، وأعلى من القيم؟!


إننا إذ نتصور ذلك اليوم ، وتلك الساعة التي يخاطب أصحاب الأعراف واحدا منا إذا كان مستكبرا ـ لا سمح الله ـ لنعود ونرتّب أوراقنا من جديد ، ونتساءل عما إذا كنا في ذلك اليوم غير قادرين على التوبة ، أو على العودة إلى الحياة للتوبة ، فما دمنا نملك فرصة الحياة إذا دعنا نتوب الى ربنا ، ونصلح أنفسنا ونتقرب الى أصحاب الأعراف الذين مثلهم بيننا مثل الأنبياء بين أقوامهم ، يعرفون ملامح المؤمنين وملامح الكفار ، ويتضرعون الى الله لإصلاح الناس بعد صلاح أنفسهم ، نتقرب إليهم ونستمع الى نصائحهم التي تشبه نصائح الطبيب الذي يكشف المرض ، ويعرف ملامح المريض لعل ذلك يؤثر في مصيرنا ، ومرة أخرى ، أقول : دعنا نتصور ذلك الموقف الرهيب ، فان التصور أجنحة الحقيقة التي تجعلك تلامس الواقع المستقبلي ، وترى الغيب البعيد.

[٤٩] وينظر أصحاب الأعراف الى أهل الجنة ، ويسألون أهل النار.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)

وحلفتم زورا وكذبا ، وتماديا في غروركم واستكباركم.

(لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ)

هذه رحمة الله تغمرهم ، ثم يخاطبون المؤمنين :

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

فعلى الإنسان ألّا يزعم أن تأكيده وحلفه يغيّر الحقيقة ، بل يفضحه أكثر فأكثر ، فهناك يستبد به الخوف على مستقبله والحزن على ماضيه.

[٥٠] ويكون مصير الكافر بالحقيقة الاستجداء من المؤمنين ، الذين كان إيمانهم


بها سببا لحصولهم على الجنة ، وتسخيرهم إياه لنعمه.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ)

[٥١] الكافرون لم يتحركوا عبر المنهج المرسوم بل واستهزءوا به أيضا ، فبدل أن يزرعوا أحرقوا وبدل أن يبنوا هدموا وبدل أن يسيروا على الطريق أحرقوا معالمه كل ذلك جعلهم يعضون أناملهم حين الحصاد ، ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويضلون الطريق.

الدين منهج حياة :

[٥٢] الدين منهج حياة يهديك الى العمل الصالح في الدنيا الذي يتجسد في الآخرة نعيما مقيما ، إنه أرض خصبة تزرعها وتأخذ نتاجها حين حصادها ، ومعالم على الدرب تعمل على هداها حتى تبلغ غايتك.

ومن الناس من يتخذ الدين لهوا يعمل به دون هدف ، أو حتى لعبا يضعه حسب مشتهياته ، فانه آنئذ لا ينتفع بالدين ، وهو بالتالي لا يحصد نتائجه.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً)

أما قيادة هؤلاء فهي بيد أهل الدنيا ، لأن الدنيا قد استعبدتهم.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)

إن هؤلاء ينسون مستقبلهم ويختصرون حياتهم في حدود الحاضر.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا)


من ينسى يوم الحصاد ينساه الناس في ذلك اليوم ، لأنه قبلئذ كلما قالوا له : ازرع لم يسمع ، وجحد بآيات الله.

(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)

قيمة العقل :

[٥٣] قيمة العقل الاساسية انه يرشدك الى الحقائق المستقبلية ، ويجعلك تتجنب المشكلات والصعوبات قبل وقوعها ، والرشيد حقا هو : الذي يتنبأ بالمستقبل ، بينما الغبي حقّا هو : الذي لا يعترف إلا بالواقع الحاضر ، فاذا قيل : إن هذا الجدار يريد أن ينقض ، اتكأ عليه وقال : انني لم أهدم الجدار ، وحين ينهدم الجدار سأقوم عنه ، ولكن إذا أنهدم الجدار هل يبقى له اختيار؟ كلا ..

كذلك المؤمنون والكفار ، أولئك يعقلون المستقبل ويتنبئون به ، ويعملون وفق الرشاد الذي يهديهم اليه العقل ، بينما هؤلاء ينتظرون وقوع الحقائق وحضورها عندهم ، وهذا ما يسميه القرآن بالتأويل ، أي عاقبة الأمر وما يؤول اليه ، وبعد التأويل وحضور المستقبل لا ينفع العلم به شيئا ، إذ آنئذ حتى الحمار يراه!!

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)

إن انتظار الشفيع ، أو العودة الى الماضي هو نوع من الغباء أيضا ، إذ كيف يبني الله الحكيم الجزاء على أساس عمل الآخرين ، وليس على أساس عمل الشخص ذاته مباشرة أو غير مباشرة؟! وكيف يعود الماضي؟!

إن للإنسان فرصة واحدة فقط هي مدة عمره ، فاذا انقضى أجله ، ولم يستفد من الفرصة ضاعت عليه نفسه والى الأبد.


(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)

إن نفسك مقسّمة على ساعات عمرك ، فكلما ضيعت ساعة أكل الندم جزء من نفسك.

أما الباطل الذي لا يستمد وجوده وشرعيته من الحق والواقع ، فانه يضل كما السراب في الصحراء ، إن تصوراتك تعتمد على وجودك فاذا خسرت نفسك فهل تنفع تصوراتك وخيالاتك؟ فالسعي مردود ، والجهد خائب ، وهذا وذاك في ضلال مبين.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)


إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

____________________

٥٤ [حثيثا] : الحثيث السير السريع.

٥٥ [تضرعا وخفيه] : التضرع التذلل وهو إظهار الذل ، والخفية الإخفاء.


بالدعاء

يستنزل المحسنون بركات الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة تذكرة بمصير المؤمنين والكافرين ، وحان الآن وقت توجيه القلوب الى الله الذي لو عرفه البشر لصلحت سريرته وعلانيته ، ومعرفة الله تتم بآياته المنتشرة في السماء والأرض ، فهو الذي أبدع السماوات والأرض ، وكلما توسع العلم في السماء أو تعمق في الأرض ، كلما ازداد معرفة بالله وبعظمته ، لقد خلق الله الخلق في ستة أيام علامة لقدرته وسيطرته التامة والمستمرة على الخلق ، والدليل على ذلك : ان الله يدبر أمور الكون ، وهو الذي يجعل الليل يغشي النهار ويلاحقه باستمرار ، وهو الذي يسخّر الشمس والقمر والنجوم فيأمرها ويجبرها على الطاعة ، ذلك لأنه خلق الخلق في البدء وأجرى أموره بصفة مستمرة ، لذلك فهو واسع المقدرة ، مبارك تنمو خلائقه وهو رب العالمين.

وعلى العباد ان يتوجهوا إلى ربهم بالدعاء والتذلل بروح متواضعة ، ذلك لأن الله يحب المتذللين له ، ولا يحب المعتدين الذين بسبب تكبرهم على ربهم ، وعدم تربية


أنفسهم بالدعاء يعتدون على الناس.

وبسبب معرفة الله ، والتذلل له تنمو عند البشر روح الإصلاح ، ومن دونهما تفسد سريرته وتجنح نحو الإفساد ، والله أصلح الكون بخلقه الصالح وبهداه ، وإذا التزم الإنسان الدعاء ، وخشي غضب الله ، وطمع في رحمته كان صالحا ومحسنا.

بينات من الآيات :

من هو الرب وما هو دور الزمن؟

[٥٤] من هو رب البشر الذي يتوكل عليه ويستلهم منه هداه ومنهجه؟ أنه ليست هذه الأصنام الحجرية ، ولا تلك الأصنام البشرية ، الذي خلق السماوات والأرض ، وكانت خلقته متدرجة للخلائق ، لذلك فهو ربّ يربّي الأشياء كما يربّي الأشخاص.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

ربما تكون الأيام الستة رمزا لستة مراحل مرت بها الخليقة ، أو اشارة الى فترة من الزمن ممتدة ومتدرجة ، وبالتالي إشارة الى دخول عنصر الزمن في ذات الأشياء ، أو تكون توجيها الى نقص الأشياء أو تطورها نحو الكمال وفق سنة الله سبحانه وبأمره ، إلّا أنّ الفكرة التي نستوحيها من الأيام الستة في الخليقة هي : أنها بحاجة الى تربية الله وحسن توجيهه ، والذي ربي الخلائق أحرى به بأن يتّخذ ربا للبشر.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

فبعد ان خلق الخلق لم ينته اشرافه على الكون ، كما يصنع أحدنا الساعة ويكوّنها فتتحرك من دون أشراف له عليها ، كلا .. إن ربنا استوى على عرش السلطان والتدبير ، وأخذ يجري تلك السنن التي وضعها في الخلائق بعلمه وقدرته.


(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً)

فالليل لا يغشى النهار بصورة طبيعية ، بل الله هو الذي يجعله يغشي النهار ويلاحقه بإصرار.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)

ذلك الأمر المتجسد كل يوم وكل ساعة ولحظة.

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)

الخلق الأول والأمر المتجسد.

(تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

الله مبارك لأن رحمته مستمرة ومتنامية ، ومبارك لأن خلقه في تكامل ، ومبارك لأنه رب العالمين ، فهو الذي يعطيه القدرة والتطور والرحمة.

الدعاء مصنع الإنسان :

[٥٥] ولكن أيّ رب ندعو؟ الله أم الأصنام؟

(ادْعُوا رَبَّكُمْ)

انه ربكم غير تلك الآيات المخلوقة ، وليكن دعاؤكم من أجل خروجكم من غلظة الأنانيّة الى رقّة الضراعة ، ومن فقر الاستكبار وذل المعصية الى غنى العبادة وعزّ الطاعة.

إن الإنسان يولد ـ كما زبر الحديد ـ فيحتاج الى صقل ، والدعاء هو : ذلك


المبرد الذي يصقل النفس الانسانية ، لأن الدعاء يولّد في القلب إحساسا بالنقص ، وثقة بإمكان التغلب عليه ، والدعاء يعرّف الفرد بمواطن ضعفه وضرورة جبرانها ، والدعاء يجعلك واقعيا تعترف بجدواك ، لذلك فهو أفضل وسيلة لكبح شهوة الاعتداء على الآخرين والبطش بهم.

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)

التضرع لكي يكون الدعاء واقعيا ، ولاصلاح الذات ، ولعلاج داء الاستكبار ومرض الفخر والعزة بالإثم ، اما الخفية فلأجل ألا يصبح الدعاء رياء ، وبالتالي تكريسا لمرض التكبر والفخر.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

الذين بسبب عدم تضرعهم لله وخضوعهم لعظمته يجنحون نحو الاعتداء على الآخرين ، وبدل إصلاح أنفسهم بالطريقة السليمة فهم يحاولن تعويض نواقصهم عن طريق الظلم واغتصاب حقوق الآخرين ، أو يحاولون تعويض شعورهم بالنقص بالاستكبار على هذا أو ذاك.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) :

[٥٦] الاحساس بالمحبة للحياة ، وبضرورة إصلاحها هو الشعور المنبعث من الخضوع لله ، والدعاء اليه تضرعا وخفية ، وبالتالي فانه انعكاس ايجابي للايمان بربوبية الله سبحانه ، ومحاولة تقليد هذه العلاقة (علاقة الربوبية) فيما يتصل بتعامل البشر مع الحياة ، فكما ان الله يرحم العباد ، ويخلق الأشياء ويسخرها ، ويتسلط عليها من أجل اجراء السنن الاخيرة عليها ، ومن أجل تكميلها وإنزال بركته عليها ، كذلك عليه ان يتقمص صفة الخلق والبناء والإصلاح لا صفة


الاستهلاك والهدم والإفساد.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)

والسؤال هو : كيف ننمّي في أنفسنا صفة الإصلاح؟

الجواب : عن طريق دعاء الله ، والمزيد من التقرب الى الله.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً)

خوفا من عذابه وسلب نعمه ، وطمعا في المزيد.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

الذين دأبهم ليس فقط إصلاح الحياة ، بل إصلاح الناس أيضا ، والعطاء من أنفسهم لهم ، إن الخوف والطمع من الله يخلق في البشر صفة الإحسان الى بعضهم أكثر فأكثر.


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى

____________________

٥٧ [أقلت] : الإقلال حمل الشيء بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه.

٥٨ [نكدا] : النكد العسير الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل.


رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)


الإنسان بين سنن الطبيعة

وبصائر التاريخ

هدى من الآيات :

لكي نفهم علاقة الربوبية التي تسود بيننا وبين خالقنا ، تلك العلاقة التي تعني ان الله يتابع نعمه علينا ، ويبارك لنا ، ويكمّل حياتنا ، لكي نفهم تلك العلاقة ونستفيد منها علميا وعمليا لا بدّ أن نلقي نظرة على الطبيعة ، ونظرة الى التاريخ ، فمن الطبيعة نستوحي التطور المادي الذي يباركه الله ، وفي التاريخ نتبصر آثار التكامل الاجتماعي والمعنوي.

للنظر الى المطر ، كيف يرسل الله الرياح مبشرات بالربيع والرخاء ، ولتحمل السحاب المليئة بالماء وتساق من قبل الله الى بلد ميت ، فاذا بالماء يحيي الأرض ويخرج نبات كل شيء ، وهكذا كما في الربيع عند ما يحيي الله الأرض ويبعث فيها الحياة ، كذلك في يوم القيامة يخرج الله الموتى ، والقضية بحاجة الى تذكر وتفهم.

بيد أن إنزال المطر لا يعني الحياة ، بل يجب أن تكون الأرض مستعدة لتقبل


النعمة والاستجابة لها ، فالأرض الطيبة تخرج نباتها بإذن الله ، أما الأرض الخبيثة فان نباتها يخرج نكدا ، كذلك آيات الله التي أنزلت على الرسل بحاجة الى أرضية مناسبة لدى الإنسان حتى يستفيد منها ، تلك الارضية هي أرضية الشكر والاستجابة ، وإلّا فلا تنفع وهذا أعظم درس نستفيده ، من النظر الى التاريخ ، فلقد أرسل الله نوحا الى قومه ، حيث دعاهم الى عبادة الله ، وحذّرهم من عذابه العظيم ، بيد أن قومه اتهموه بالضلالة ، فنفى عن نفسه الضلالة وبيّن لهم أنه رسول من ربّ السماوات والأرض ، وأنه جاء لينصحهم لأنه يعرف من دونهم تعاليم السماء ، وكيفيّة الاستفادة منها ، ثم بيّن لهم أنه لا عجب في أن يرحم الله عباده ، لأنه ربّهم الذي ينزل عليهم بركاته دائما ، ويزيد لهم التكامل والتطور ، وأن رسالة الله تهدف الاستفادة من الإنذار لكل البشر معنويا بالتقوى ، وماديا بالرحمة.

بيد أن تكذيب الناس لنوح ورسالته سبّب غضب الله لهم ، لأنهم كانوا قوما عمين عموا عن الحق وضلوا فأضلوا.

بينات من الآيات :

الادارة الحكيمة والقدرة المهيمنة :

[٥٧] القرآن الحكيم يلفت نظر البشر الى الطبيعة الزاخرة بالحيويّة والجيشان ، وانطلاقا من الحقائق الظاهرة المشهورة يبلغوا الحقائق الغيبية المعقولة.

الحقيقة المشهورة هي أن الرياح التي تبشر بالمواسم الخيرة وتحمل السحاب الثقال ، فيسوقها الله الى البلد الميت لينزل منها الماء ويخرج به الثمرات ، هذه الحقيقة المشهورة تكشف لنا أمرين :

الأول : أن وراء الطبيعة إرادة حكيمة تسيرها.


الثاني : أن تلك القدرة المهيمنة على الكون هي التي تخرج الموتى من الأرض وتبعثهم للحساب.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)

فالرياح لا تأتي عفويا ، بل يرسلها الله إرسالا ، والدليل هو هدفية الظواهر ، فالرياح تهدف البشارة برحمة قادمة ، والبشارة هدف لا يمكن تحقيقه عبثا ، ومن دون خطة حكيمة وفعل منظم.

(حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)

إن كل ذلك يتم بإرادة الله وحسن تدبيره ، ولولا ذلك لم تكن الصدفة قادرة على تحقيق هذه الأهداف ، إذ أن الهدف هو البشارة بالرحمة ، وإحياء البلد الميت ، وإخراج الثمرات ، ولا يمكن تحقيق ذلك بمجرد تحرك السحاب ، بل بمجموعة عوامل متفاعلة ومتزامنة كأن تكون الأرض مستعدة ، والطقس مناسبا ، والأمن مستتبا ، وأن يكون مقدار المطر كافيا ، غير ناقص ولا زائد عن الحد ، وهكذا حتى يحيى الأرض ويخرج النبات ، وذلك يدلّ على أن هناك هدفا وراء السحاب يجريه الله سبحانه بعلمه وقدرته.

وإذا تبصرنا قدرة الله في الطبيعة آمنا بأن هذه القدرة المطلقة الحكيمة هي التي تخرج الموتى للحساب ، فلا تبقى عقبة في طريق إيماننا بالبعث والنشور.

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى)

ولكن لا يمكننا أن نفهم حقائق الكون من دون تذكر وتبصر وربط للحقائق ببعضها.


(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فالتذكر يربط الحقائق ، ويستنتج من خلاله المعلومات ، ويلقي بالمسؤوليات والواجبات.

بين البصيرة والاستنباط :

[٥٨] حين يزود الإنسان بسلاح البصيرة النافذة ويتذكر يستنبط الحقائق المختلفة ، أو بالأحرى الأبعاد المختلفة من الظاهرة الواحدة ، فمن ظاهرة السحاب والمطر وإحياء الأرض يتوصل إلى أن نبات الأرض مختلف بالرغم من أن الماء الذي ينزله الله على الأرض واحد ، مما يدل على أن استجابة الأرض للماء شرط أساسي لحياة الأرض ، كذلك استجابة البشر لرسالة الله شرط لانتفاعه بها.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً)

أي عسيرا وبخيلا.

(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)

فالذين لا يشكرون النعمة ولا يقدرونها حق قدرها لا ينتفعون بالآيات ، كما أن الأرض الخبيثة لا تنتفع بالمواسم الخيرة ، وفي القصص التالية عبر كافية لهذه الحقيقة.

لماذا نوح بالذات؟

[٥٩] لأن الله رب العالمين ورب الإنسان الذي يحب للبشرية التكامل والرقي ، فقد أرسل نوحا الى قومه ولم يرسل غيره ، لأنه منهم وأثره في تطورهم أبلغ ، ولم يدع نوح قومه الى نفسه بل الى ربهم الله الذي لا إله غيره.


(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

[٦٠] أما الملأ الذين كانوا يستثمرون الجماهير ويتسلطون قهرا عليهم فقد قاوموا رسالة الله.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

إنهم وقفوا عقبة إمام انتشار نور الهداية بين الناس ، فاتهموا نوحا بالضلالة ، وزعموا أنهم يرون ذلك رؤية ظاهرة.

[٦١] ونفى نوح وجود أيّ نوع من الضلالة عنده ، وبيّن لهم انه رسول أرسل إليهم من قبل الرب الذي ينزل بركاته على العالمين.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

[٦٢] وينبغي أن يستجيب الجميع لنوح لعدة أسباب :

أولا : لأنه مبلغ لرسالات الرب ، ومن الطبيعي أن تكون تلك الرسالات ذات محتوى تكاملي للبشر ، لأنها صادرة من ربهم الذي يطوّرهم الى الأفضل.

ثانيا : لأنه ناصح يعمل في سبيل رشدهم.

ثالثا وأخيرا : لأنه أعلم منهم ، وعلمه مستلهم من الله ، ويرتبط بتعاليم الله وشرائعه.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

[٦٣] وليس بعيدا أن يبعث الله رسولا لعدة أسباب هي :


أولا : لان الله رب الناس الذي ينزل بركاته المادية المشهودة عليهم في كل لحظة.

ثانيا : لأن البشر بحاجة الى تذكرة حتى يهتدوا ويكتملوا ، والرب يوفر كلما يحتاج البشر إليه.

ثالثا : لأن الله لا يعذب الناس حتى يبعث سلفا رسولا إليهم ، فينذرهم ، ويوفر لهم فرصة التقوى والحذر من العذاب ، ولكي يوفر لهم بالتالي فرصة الرحمة والرخاء والحياة السعيدة.

(أَوَعَجِبْتُمْ)

ولا عجب مما تقتضيه سنن الحياة وفطرة البشر ، ومن ذلك ..

(أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

[٦٤] ولكن مع كل ذلك البيان كذب قوم نوح برسالة الله ، وجاءت العاقبة المناسبة للمؤمنين حيث أنجاهم الله ، والكافرين أغرقهم الله لأنهم لم يستفيدوا من نعمة البصيرة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)

هكذا تتجلى صفة الربوبية في قصة نوح وقومه ، إن الله يبعث رسالته رحمة بالناس وتكميلا لنواقصهم ، بيد انهم يرفضون الانتفاع بها ، كما الأرض الخبيثة لا تستجيب للسماء حين تبعث إليها السحاب الثقال.


وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا

____________________

٦٦ [سفاهة] : السفاهة خفة الحلم ، وثوب سفيه إذا كان خفيفا.

٦٩ [آلاء] الآلاء النعم.


إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)

____________________

٧١ [رجس] : الرجس العذاب.


الإنسان بين رسالات الرب

والأسماء التافهة

هدى من الآيات :

تتكرر قصة نوح بين هود رسول الله وقومه عاد ، حيث أمرهم بتقوى الله ، ولكنهم اتهموه بالسفاهة ، وكادوا يكذّبونه ، فنفى هود عن نفسه السفاهة ، وقال : إنه رسول من الله الذي ينزل بركاته على العالمين ، وبيّن أنّ ذلك لم يكن بعيدا عن سنن الله ، وعن حكمة العقول ، إذ ان الله أنزل بركاته المادية على عاد ، وجعلهم الوارثين للأرض بعد قوم نوح وزادهم من نعمه ، فكان عليهم أن يعترفوا بنعم الله ويتذكروا أن الرب الرحيم الذي أنعم بها عليها هو الذي أرسل رسالته المباركة بواسطته.

لكن عادا كذبوا هودا وتحدّوه ونازلوه واستعجلوا العذاب ، بيد أن هودا كان يرى في تكذيبهم رجسا وغضبا ، لأنهم خضعوا لمجموعة أصنام لا رصيد لها من الواقع ، بل هي حروف بلا معاني وبلا سلطان من الله عليها ، ثم استجاب هود لتحديهم وطلب منهم الانتظار.

وقد أنجاه الله والذين معه برحمة منه وأنهى مدينة عاد ومن بها ممن يكذب بآيات


الله لأنهم كفروا بالله.

وهذا مثل آخر لنعم الله التي تتجلّى بها صفة الربوبية ، فلو استجاب لها البشر لانتفع بها ، وإلّا فانها سوف تتبدل الى نقمة عليهم.

بينات من الآيات :

افتراءات الملأ :

[٦٥] أرسل الله الى عاد واحدا منهم وهو أخوهم هود الذي دعاهم الى الله الذي لا ملجأ لهم إلّا اليه ، وأمرهم أن يحذروا منه ويتقوه.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)

[٦٦] وهنا وقف جماعة من قومه يعارضوه ، وهؤلاء هم الملأ الذين اختاروا الكفر بوعي وإصرار ، واتهموا هودا بالسفاهة لأنه تحدى حضارتهم ، وواجه قوتهم التي كانوا مغرورين بها ، زاعمين أن منهجهم في الحياة منهج سليم ، بدليل أنهم قد بلغوا عن طريقه الى هذه الحضارة ، وهذه القوة الكبيرة ، بل إنهم كادوا يتهمونه بالكذب ، والفرق بين السفاهة والكذب إنما هو في النية ، فالسفاهة هي الإصرار على الخطأ بنية صالحة وذلك لقلة العقل ، بينما الكذب هو تعمد الخطأ مع العلم به وذلك للوصول الى هدف باطل ، وقوم عاد كانوا يرون في هود الصلاح والزهد ، لذلك لم يكونوا يجرءون على اتهامه بالكذب لذلك

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

[٦٧] وحين يصر صاحب الفكرة على فكرته برغم تحذير الآخرين له ، فانه يدل


على انه عارف بفكرته واع لأبعادها ، ولذلك فهو ليس سفيها غير عارف بطبيعة فكرته.

وهود نفى عن نفسه السفاهة ، وأصرّ مرة اخرى على أنه رسول.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

الله الذي استوى على عرش السماوات والأرض يدبر أمورهما ، ويكمل خلقهما ، إنه هو الذي أرسل هودا إلى عاد ليكمل عليهم نعمه ، ويكمل حياتهم.

نزاهة الرسول دليل صدقه :

[٦٨] لم يكن هودا داعيا الى نفسه بل الى ربه ، فلم تكن لديه مصلحة ذاتية في دعوته ، وكانت دعوته الى كلّ خير وحق ، فلذلك فهي في مصلحة الناس وعليهم أن يهرعوا إليها.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ)

وأمانة الإنسان حقيقة ظاهرة ، لا يمكن أن يفرضها ويتكلف في التظاهر بها ، بل هي كما سائر الصفات النفسية الحسنة والسيئة ، تظهر على أفعال الفرد وأقواله ، شاء أم أبى ، لذلك كان الأنبياء (عليهم السلام) يستدلون بهذه الصفة الموجودة في أنفسهم على صدق رسالاتهم دون أن يكذبهم أحد ، لأنها كانت صفة ظاهرة.

[٦٩] ويصدق البشر بالحقائق المألوفة بسهولة ، بينما الحقائق التي لا تقع إلّا عبر فترات متباعدة لا يسهل التصديق بها ، مثلا : التصديق بالثورات والتحوّلات الاجتماعية الكبيرة ليس بسهولة وكذلك التصديق بموت أحد عزيز ، بالرغم من أن هذه وتلك حقائق واقعة وسنن فطرية ، ومن هنا كان أحد العقبات الرئيسية في


طريق إيمان الناس برسالات الله هي انها لم تكن وقائع مألوفة ، فكان الأنبياء يذكرون الناس بأنها حقائق فطرية يصدق بها وجدان البشر ، وهي من السنن التي تقع بين فترة وفترة.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ)

ولا عجب في ذلك لأن الرب الذي يدبّر أمور عباده ، وينزّل عليهم بركاته جدير بأن يهدي الإنسان ، ويذكره بالحقائق ، ثم ان من رحمة الله انّه انزل ذكره على واحد منهم لأن هدفه هو إنذارهم ، والإنذار سيكون أبلغ لو كان عن طريق واحد منهم.

ولان قوم عاد كانوا مغرورين بقوتهم وبطشهم ، لذلك ذكّرهم أخوهم هود بان هذه القوة نعمة من الله وليست من أنفسهم ، بدليل أنها كانت قبلئذ عند قوم نوح فأخذها الله منهم وأعطاهم إياها ، فالقوة هذه يجب أن تكون مدعاة لقبول الرسالة شكرا لنعمة الله.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

الفلاح والسعادة يأتيان نتيجة معرفة أسباب النعمة ، وعوامل الحضارة ، واليقظة في المحافظة عليها ، لتستمر وتزداد ، لذلك حين يتذكر البشر أن النعم من عند الله سيكون واعيا لاستمرارها.

مواقف المجتمع المتخلف :

[٧٠] وحين أفحم هود قومه ، وأثار فيهم دفائن عقولهم ، واستوضح لهم فطرتهم ووجدانهم ، لم يبق لهم سوى الاتكاء على ماضيهم فقالوا : إننا لا نغير واقعنا ولا نريد لأنفسنا التطور الى الأفضل لأن آباءنا كانوا هكذا ، فسوف نبقى نحن الأبناء


على سنة آبائنا ، وقال لهم هود : إذا لا رجاء في إصلاحكم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

لقد بلغ فيهم الجمود حدّا يستعجلون معه العذاب ولا يرضون بالتغيير ، وحالهم حال كل الأمم المتخلفة والمغرورة ، أنهم يقبلون بالأمر الواقع حتى مع علمهم بفساده وخطورته عليهم ، وكلما يدعوهم المصلحون بضرورة تغيير الواقع لا يسمعون لقولهم ، لتشبّثهم بالواقع القائم وخوفهم من أيّ تغيير.

[٧١] وقال هود وهو الذي يسعى لهدايتهم بكل وسيلة : أن الواقع الذي تعتزون به واقع فاسد ، وهو رجس وغضب ، رجس فيه كلّ ضلالة وانحراف ، وغضب فيه كل سوء ودمار.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)

وربما تقدم الرجس لفظيا على الغضب لأنه سابق له واقعيا ، حين يبدأ الانحراف ، ثم يظهر في صورة عذاب.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)

تلك القيم الزائفة التي تحجبكم عن رؤية الحقائق ليست سوى ألفاظ منمّقة وأسماء بلا معاني.

(ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)

[٧٢] وانتهت قصة قوم عاد بنجاة هود والمؤمنين من قومه ، ودمار الكفار لأنهم كذبوا بآيات الله ومعالم الحقيقة ، ولأنهم كفروا بالله وبرسالته.


(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)

أيّ برحمة مشهودة وواضحة.

(وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)


وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا

____________________

٧٤ [بوّاكم] : التّبوئة التمكين.

[تعثوا] : العثي الفساد.


بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)

____________________

٧٧ [عتوّا] : العتو تجاوز الحد في الفساد.

٧٨ [الرجفة] : الرجف الاضطراب يقال رجاف بهم السقف يرجف رجوفا ٢ ذا اضطرب من تحتهم.

[جاثمين] : الجثوم البروك على الركبة.


رسالة الربّ

تبير سلطة المستكبرين

هدى من الآيات :

وباختلاف بسيط في التفاصيل ولكن ضمن خط رسالي واحد يأتي (صالح) رسول الله الى قومه ثمود ليقول لهم : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ثم أوضح لهم أن هذه آية بينة واضحة ، قد جاءتهم من الله ربهم الذي لا زالت نعمه تترى عليهم ، فهذه ناقة الله اتركوها في أرض الله ولا تمسوها بسوء ، فان ذلك سوف يسبب لكم العذاب.

ثم بين لهم ان العلاقة التي تربطهم بالله هي علاقة الربوبية والعطاء ، حيث أورثهم الأرض من بعد قوم عاد حتى تمكنوا في الأرض وبنوا القصور والبيوت ، وأمرهم بأن تكون علاقتهم بالأشياء والأشخاص علاقة إيجابية ، فلا يسعوا في سبيل الفساد بل في طريق الإصلاح والتربية ، بيد أن صالحا كما اخوته في الرسالة لم يجد الاستجابة المطلوبة ، حيث وقف المستكبرون عقبة في طريق انتشار الرسالة ، وحاولوا تضليل المستضعفين المؤمنين عن الرسالة ، وعقروا الناقة التي كانت آية إلهية ، تحدّيا


للرسالة وإفسادا في الأرض.

وجاءت العاقبة حيث زلزلت الأرض من تحتهم فأصبحوا جاثمين في دورهم ، وأنقذ الله صالحا الذي لم يذرف الدمع عليهم ، لأنه نصحهم نصيحة بليغة فلم يسمعوا له ، وهذه قصة جديدة لكنها تتكرر كل يوم لتعطينا عبرة جديدة ، لعلنا نهتدي بها الى الحقيقة.

بينات من الآيات :

رسالات الله منطلق التحضّر :

[٧٣] يبدو أن ثمودا كما قوم عاد وقوم نوح ، بدأت حياتهم الاجتماعية بفهم سنن الله في الحياة ومنها ضرورة الإصلاح ، وتسخير امكانات الطبيعة من أجل الأهداف النبيلة ، إلّا انهم بعد نموّ مدنيّتهم ، وتواتر نعم الله عليهم فسدوا وأفسدوا ، فجاءت رسالة الله تحذرهم من عاقبة الإفساد ، وتذكرهم بأن هذه النعم التي يرونها ليست ذاتية لهم ولا هي أبدية ، وإنما هي آلاء الله ، كانت عند قوم فأهلكوا بسبب فسادهم وافسادهم وأورثها الله لهم ، فاذا فسدوا وأفسدوا يهلكم الله أيضا ، وربما تكون الناقة التي أخرجها الله لثمود من بطن الجبل آية كبيرة ، ربما تكون رمزا لتلك النعم ، فلو اهتموا بها ولم يمسوها بسوء ، ولم يتعرضوا لها بقتل لانتفعوا بها ، ولكن عذبهم الله.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[٧٤] (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ


مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ)

لقد كانت تلك حضارتهم ، حيث استقروا في الأرض من دون خوف من الطبيعة أن تقسو عليهم ، وذلك بسبب توفر وسائل الحياة في تلك الأرض ، حتى كانت لديهم القدرة على نحت الجبل ليتخذوا منه بيوتا ، أو حتى رفع الأبنية فوق السهل قصورا ، ولكن كانت ثمود تتجه نحو الفساد شأنها شأن الحضارات التي تغتر بمدى قدرتها فتتآكل وتتداعى وتنهار ، لذلك وقف رسول الله إليهم صالح (عليه السلام) محذرا وقال :

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

والفساد ضد الإصلاح ، وليس بين الفساد والإصلاح عمل آخر وصبغة اخرى ، ذلك لان علاقتك بالأشياء قد تكون علاقة التربية والسعي للتغيير نحو الأفضل ، وأن تضيف إليها من نفسك شيئا جديدا كأن تبني الأرض ، وتنشأ الحقل ، وتربّي الطفل ، وتصنع من الحديد آلة مفيدة ، وهذا كلّه إصلاح ، أو تكون علاقتك هي الانتفاع بالأشياء فقط ، فتملك البيت دون أن تبنيه أو ترممه ، وتأكل من الحقل دون أن تنشأ بديله أو تسقيه ، وتترك ابنك لتربية الشوارع والأزقة ، وتستهلك الآلات والمكائن دون أن تصنع بديلها أو تقوم بصيانتها ، وتلك كلها علاقة الفساد ، والمجتمعات قد تكون متجهة بصفة عامة نحو الإصلاح والبناء والتصنيع وتغيير الأشياء الى الأفضل ، فتكون آنئذ متجهة نحو الحضارة والمدنية ، أو متجهة نحو الاستهلاك والانتفاع والتغيير نحو الأسوأ ، فتهدم حضارتها وتهوي نحو التخلف ، ورسالات الله تأمرنا بالإصلاح الذي يبني الحضارة وتسوق الأمة نحو التقدم.

صفات المستكبرين (الملأ) :

[٧٥] إن حالة الإسراف والتبذير ، وصبغة الفساد والاستهلاك من دون


الإصلاح والانتاج لا تنتشر مرة واحدة في المجتمع ، بل تتجلّى أولا في الملأ منهم الذين يشكلون طبقة المستكبرين ، وابرز صفاتهم هي :

استهلاك المزيد من النعم ، وخلق تيار معارض للإصلاح ، ولأنهم يريدون أن يأكلوا أكثر مما ينتجون ، فإنهم يسرقون انتاج الآخرين بشتى الوسائل والحيل ويستضعفونهم ، ويتسارع المستضعفون نحو الرسالة الجديدة التي تبشر المجتمع بالإصلاح والعدالة ، فيبدأ الصراع المرير بينهم وبين أولئك المستكبرين ، وينتهي الصراع بهلاك المستكبرين ونجاة المستضعفين بإذن الله.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)

إن المستكبرين يحاولون إفساد الطبيعة والإنسان معا ، فلذلك تراهم يفسدون آراء المستضعفين ويجرونهم نحو التيه والضلالة لكي يستمروا في استغلالهم ، واستهلاك المزيد من انتاجهم ، بيد ان طائفة من المستضعفين يسارعون الى الايمان ، ويقوم الصراع بينهم وبين المستكبرين.

[٧٦] ولذلك تجد المستكبرين يكفرون بالرسالة ليس بمجرد أنها رسالة ، وانما لأنها مبدأ يؤمن به المستضعفون ويتخذون منه أداة لصراعهم ضدهم ، وهذا يبدو جليا من أقوالهم حيث

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

المستكبرون يريدون دينا يؤيدهم في استغلالهم للناس وتسلطهم عليهم ، ولا يؤمنون بدين يؤمن به المستضعفون ، ويتخذون منه وسيلة لنجاتهم ، وخشبة خلاص لهم من ظلمهم.


[٧٧] ولكي يتحدى المستكبرون دين المستضعفين ، ويجردوهم من تلك الوسيلة التي تنقذهم من أيديهم ، عمدوا الى الناقة ـ رمز الرسالة الالهية عند ثمود ـ فقتلوها ظنا منهم ان إعدام الناقة يضع حدّا لتحرك المؤمنين ، لأنها رمز وحدتهم ، وعنوان نشاطهم الاجتماعي ، ولكنهم أخطئوا حيث ان عقر الناقة وما تبعه من أعمال تخريب وإفساد عرضهم لغضب الله سبحانه وعجّل في نهايتهم.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ)

ومن المعروف ان واحدا منهم فقط هو الذي عقر الناقة ، ولكن البقية رضوا بعمله فكانوا كما لو أن الجميع اشتركوا في عقرها.

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)

حيث تجاوزوا الحد في الفساد برغم أمر الله لهم بالإصلاح.

(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

النهاية الحتم :

[٧٨] وكما نهاية ثمود كذلك نهاية كل الطغاة المستكبرين كلما بالغوا في الفساد ، وانما يفعلون ذلك بعد تنامي حدّة الصراع بينهم وبين أصحاب الرسالة إذ أنهم يضطّرون آنئذ الى مقاومة الرسالة بالمزيد من عمليات التخريب والفساد ، وهكذا أنزل الله على ثمود العذاب حيث ارتجت بهم الأرض وتزلزلت من تحتهم ، وتهدمت مدنيّتهم ، وماتوا وهم جالسون دون ان يمهلوا حتى يمدوا أرجلهم استعدادا للموت.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

[٧٩] إن البشر يهرع لمساعدة نظرائه واخوته ، ولكن المستكبرين لم يحزن


لهلاكهم أحد ، وهذا منتهى الخزي والعار الذي قد يلحق بأحد.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)

إن قصة ثمود عبرة لكل واحد منّا كي يبادر لقبول النصح ، ويتّجه نحو التربية والإصلاح ، ويكون همّنا الانتاج والإنشاء لا الاستهلاك والإفساد.


وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)

____________________

٨٣ [الغابرين] : الباقين في قومه المتخلفين حتى هلكت.


قوم لوط عاقبة الجريمة الخلقية

هدى من الآيات :

وتكررت ذات الحقائق التي شهدناها عند عاد وثمود في قصة لوط ، حيث بارك الله لهم في نعمه فطغوا بها ، وشذّوا عن الصراط القويم في الانتفاع بها ، فاذا بهم يتخذون الفاحشة سبيلا لارضاء شهواتهم الجنسية ، انهم يأتون الرجال بدلا من النساء ، ويسرفون في الشهوات.

إنها مرحلة الغرور في قوم أنعم الله عليهم بالاستقرار والأمن والنّعم ، وتأتي صرخة السماء الهادرة تنذرهم عاقبة الفجور ، ولكن قوم لوط يحاولون إخراج لوط من قريتهم بتهمة التطهر ، والمجتمع الذي يصبح التقوى والتطهر جريمة فيه لا يرجى له الخير أبدا.

وتحين ساعة العقاب حيث ينجّي الله لوطا وأهله المؤمنين بالرسالة ، ويهلك الآخرين وفيما بينهم امرأته التي أصبحت من الهالكين بسبب اتباعها لهم ، وطريقة العقاب هي أن الله أنزل عليهم من السماء مطر السوء كما أنزل عليهم بركاته من


قبل.

وهكذا ترى رسالات الله تحذّر البشر من عاقبة أفعالهم السيئة وسلوكهم الشاذ ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الرسالة فيهلكون.

بينات من الآيات :

قوم لوط من الألف الى الياء :

[٨٠] أرسل الله لوطا الى قومه ، ويبدو لي ـ مرة اخرى ـ أن قوم لوط كانوا في البداية مستقيمين يسعون من أجل بناء حضارتهم ، لأن الخط العام لحركتهم كان سليما ، وكان مجمل سلوكهم سليما ، بيد أنّهم حين بلغوا مرحلة من التحضر أصيبوا بالإسراف ، وجاء في بعض الأحاديث أنهم أصيبوا كذلك يبخل وإسراف وهاتان صفتان نابعتان من جذر واحد هو : عبادة المادة ، والابتعاد عن القيم المعنوية.

وإذا كان قوم عاد قد أصيبوا بصفة الغرور والبطش والظلم ، وأصيبت ثمود بالفساد والاستكبار والطبقية ، فان ترف قوم لوط دفعهم الى الشذوذ الجنسي ، فكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وقد يكون سبب هذا الشذوذ هو البخل ، حيث ان الشاب الذي تلتهب شهوته ولا يجد امرأة يتزوجها إلّا بمهر عظيم وبشروط قاسية ، شأنها في ذلك شأن المرأة في المجتمعات المرفهة التي تبحث عن الكماليات قبل ضرورات العيش ، إن هذا الشاب الذي لا يملك ذلك النشاط الذي يدفعه الى العمل والانتاج والحصول على المال ، يفضل الجنوح نحو الجريمة واختيار الشذوذ الجنسي الرخيص على العلاقة الشريفة.

بيد ان السبب الخطر للشذوذ هو الإسراف ، ذلك لان المجتمع الذي لا يتطلع نحو بناء المستقبل الأفضل ، ولا يبحث عن قيم التضحية والفداء ، ويملك قدرا كبيرا


من فائض النعم والوقت والمال ، يبالغ في الشهوات ويسرف فيها ويشذّ عن سبلها السليمة ، فيشتري عذاب الله. لذلك أرسل الله لوطا الى قومه في تلك المرحلة من حضارتهم ، حيث قعدوا عن الطموحات الكبيرة وتركوا قيمهم الفاضلة ، أرسله ليحذرهم عاقبة الشذوذ.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)

[٨١] (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)

[٨٢] أعوذ بالله من حالة الانزلاق في وادي الشهوات ، خصوصا لو شاع ذلك في المجتمع ، حيث يتواصى أبناء هذا المجتمع الفاسد بالجريمة والشذوذ كما يتواصى المتقون بالصلاح ، ولقد أصبحت الجريمة والشذوذ قيمة اجتماعية عند قوم لوط ولذلك لم يستمعوا الى نصيحته ، بل اتهموه بالطهر والتقوى ، وأمروا بإخراجه.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)

[٨٣] والله سبحانه أنجى لوطا من تلك القرية فهاجر منها بأمره سبحانه ، وكذلك يهاجر المؤمنون من كل مجتمع يشيع فيه الفساد ولا يقدرون على إصلاحه.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)

ولم تكن امرأة لوط من أهله ، كما لم يكن ابن نوح من أهله ، لأنهما كانا على غير ملتهما.

[٨٤] وجاءت أخيرا العاقبة السوء حيث دمر الله قرى لوط بعذاب بئيس يفصّله القرآن في سور أخرى.


(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)

للنظر الى عاقبتهم ، ونعتبر من قصصهم لكي لا نصبح مثلهم ـ لا سمح الله ـ.


وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

____________________

٨٥ [مدين] : قبيلة سميت باسم جدهم «مدين» حفيد إبراهيم (ع).

[أخاهم شعيب] : وهو من أحفاد إبراهيم (ع) ، فهو أخ القبيلة.

[ولا تبخسوا] : البخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق.


رسالات الربّ

وسيلة الإصلاح الاقتصادي

هدى من الآيات :

وأهل مدين كما ثمود وقوم لوط ، انهارت مدنيّتهم على رؤوسهم بسبب فسادهم ، وأبرز مظاهر الفساد عندهم كان البخس في الميزان ، وإفساد الأرض زرعا وضرعا ، وقطع طرق الخير على عابريها ، والصدّ عن سبيل الله ، وتحريف الدين.

لقد جاءت رسالة الله على لسان شعيب لتنهاهم عن الفساد بعد الإصلاح ، والتخلف بعد التقدم ، والتدهور بعد النشاط ، فانقسموا على أنفسهم فريقين ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، والله سوف يحكم بين الفريقين ، والزمن شاهد على صدق النبوءة.

واحتدم الصراع وبدأ الكفار بمنع الناس عن الايمان بالرسالة واعتبار ذلك خسارة ، وانتهت قصتهم بعذاب أنزله الله عليهم في صورة رجفة قضت عليهم ، وشهد التاريخ ان الخاسرين إنما كانوا هم الذين كذّبوا بشعيب لا المؤمنين به ، وتلك النعم التي اغتروا بها لم تنفعهم في ساعة العذاب.


أما شعيب فلم يحفل بمصيرهم لأنه نصحهم وأبلغهم رسالات ربهم ، فكفروا بها ، فلم يأسف لمصيرهم ، ويبدو لي : أن أهل مدين كما أصحاب الحضارات السابقة كانت علاقتهم بالأشياء والأشخاص علاقة العطاء والتربية والإصلاح فبنوا تلك المدينة ، ولكنهم بدّلوا تلك العلاقة وأصبحت علاقتهم علاقة الإسراف والاستهلاك والإفساد فدمرت حضارتهم.

بينات من الآيات :

التمثيلية التاريخية :

[٨٥] وتتكرر مشاهد في التاريخ حتى ليكاد المرء يتصور أنها جميعا مشهد واحد لا يتغير سوى الممثلين فيه ، وان كانت هناك اختلافات فانما هي في المظاهر الخارجية للأحداث ، فكل الجرائم والانحرافات التي يبتلى بها المجتمع تنشأ من عدم التسليم لله وعدم اتباع مناهجه كاملا ، والشرك به عن طريق طاعة غيره من الطواغيت والأصنام الحجرية أو البشرية ، أو التشبث بالقشور والأسماء التي لا يوجد وراءها شيء ، لذلك تجد رسالات السماء تؤكد أولا وقبل كل شيء على الوصية بعبادة الله ، ففي القصص السابقة بدأ كل نبي حديثه مع قومه بهذه الكلمة : اعبدوا الله.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

ماذا تعني عبادة الله؟

عبادة الله لا تعني مجرد التسليم النفسي له ، بل ويجب التعبير عن صدق هذا التسليم عمليا في صورة الكفر بالطاغوت والتمرد ضد النظام السلطوي الذي يتّخذ من القوة أداة للسيطرة والقهر ، وبالتالي الثورة ضد كل حكم لا شرعي.

إن أنبياء الله (عليهم السلام) كانوا يهدفون تغيير النظام السياسي في المجتمع ،


من نظام شركي قائم على أساس الحاكم والمحكوم ، إلى نظام توحيدي يقوم على أساس رفض الحاكميات جميعا سوى حاكمية الله الحي القيوم ، ولذلك تجد الآيات السابقة التي تحدثت عن رسالات الله أكّدت قبل كل شيء ضرورة رفض الآلهة التي تعبد من دون الله ، والذي يعني : رفض الحاكميات البشرية والتسليم لحاكمية الله وعبادته سبحانه.

ورفض أيّ نظام سياسي باطل لا يعني الفوضوية بل إقامة كيان سياسي صحيح مكانه ، ذلك هو كيان التوحيد القائم على رسالة بينة ينتفع بها المجتمع ، يؤمنون بها ويخضعون لها.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

فعليكم باتباعها ، تلك البينة هي رسالة الله ورسوله المطاع باذنه.

وبعد تثبيت دعائم السلطة السياسية السليمة ، أمر شعيب قومه بتصحيح مسيرة الاقتصاد ، وإصلاحه من اقتصاد قائم على أساس الاستغلال والاستثمار الى اقتصاد قائم على أساس الوفاء بالحقوق ، وإعطاء كلّ ذي حق حقه بالكامل.

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)

حين يكون المجتمع رشيدا من الناحية الاقتصادية فانه لا ينهب ولا يغش ، بل ولا يفحش في الربح أيضا أو يسعى كل طرف للحصول على المنفعة الأكبر ، وهذا هو التطلع الأرفع الذي يجب أن يهدفه المصلحون في حقل الاقتصاد. أن يرى كل طرف منفعة الآخرين بمثل ما يرى منفعته فلا يبخس أحدا شيئا.

وبعد النظام الاقتصادي ، يأتي دور الإصلاح في مجمل سلوك البشرية تجاه الأشياء والأشخاص ، ذلك الذي أكدت عليه رسالات السماء ، حيث أمرت


بضرورة إيجاد علاقة الإصلاح بين الناس والطبيعة ، وبين الناس بعضهم مع بعض ، فلا يكون هدف المجتمع الانتفاع بالحياة فقط بل يكون هدفه :

أولا : تفجير طاقات الطبيعة لمصلحة الانسانية ، وتنمية هذه الطاقات ، وتطويرها الى الأفضل ، مثلا : زراعة الأرض ، وصناعة المعادن ، وتعبيد الطرق ، وبناء الجسور ، وعمارة المدن ، والمحافظة على البيئة بكل أبعادها ، كالمحافظة على نقاء الهواء والطيور وأنواع الوحوش والدواب ، وأنواع الأسماء ، وبالتالي كل ما يصلح الأرض لا ما يفسدها.

ثانيا : تنمية طاقات البشر ومواهبه ، والمجتمع الراشد يسعى من أجل دفع المستوى الخلقي لأبنائه والمستوى التعليمي ، ويربّي المزيد من الكوادر المتقدمة في كافة الحقول ، إنه مجتمع يربي القادة والمفكرين والمخترعين والأبطال ، ولا يكتفي بذلك بل ويسعى من أجل تعميم الحضارة على كل المجتمعات القريبة فيما يخص أبناءه ، ومساعدتهم على التقدم والنمو ، لذلك قال ربنا على لسان شعيب :

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)

وقد تكررت هذه الكلمة في الآيات السابقة أيضا ، ويتساءل المرء لماذا جاءت هذه الكلمة في صورة النهي ،أو لم يكن الأفضل أن يقول ربنا سبحانه : وأصلحوا في الأرض؟

أتصور أن هذه القصص بالذات تعكس وضع الحضارات في ظروف شيخوختها ، وتنامي نقاط الضعف فيها ، وأفول نجمها حيث إن الحضارة تنشأ وتتنامى فيها نقاط القوة ، ولكن الغرور والإرهاب والاستكبار كل ذلك يبدل نقاط القوة فيها الى نقاط ضعف حتى تقضي عليها ، ورسالات السماء تسعى من أجل إيقاف تدهور الحضارات ودمار العمران بتوعية الناس بأسباب قوتهم السابقة ،


وعوامل الانقراض ومنها بل ومن أبرزها هي : الفساد بعد الإصلاح. أيّ تحول تلك العلاقة الانتاجية والعمرانية والإبداعية التي كانت حاكمة سابقا بين أبناء المجتمع بعضهم مع بعض أو مع الطبيعة الى علاقة استهلاك واستغلال وترف.

إن حالة الاستهلاك القائمة اليوم في بلادنا الاسلامية ، وصفة الترف والتوسع في الحاجيات الكمالية ، والرغبة عن الأعمال الانشائية مثل العمران والتصنيع إنها جميعا تشكل أخطر عوامل التخلف عندنا ، ويا ليتنا نتدبر في هذه القصص لنكشف فيها سر تخلفنا ، وأسباب النهوض ببلادنا بعد الركود والتخلف.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

الهدم أصعب :

يزعم البعض ان الإسراف خير من الاقتصاد في المعيشة لأنه يمتعك باللذائذ أكثر وبجهد أقل ، أو يزعم ان استغلال جهود الآخرين واستهلاك ما ينتجونه خير من الاجتهاد والانتاج لأنه تجاوز للتعب والارهاق ، وإشباع للغرائز بأقل قدر من العمل ، وبالتالي يزعم أكثر الناس أن الهدم خير وسيلة للدفاع ، وأفضل وسيلة لادارة الصراع بنجاح ، ولكن ما أبعد الحقيقة عن هذه المزاعم.

إنك حين تسرف في النعم فانك تهلك انسجة بدنك بقدر ما تستهلك من المواد ، وتفسد عاداتك ونفسيتك بقدر ما تفسد الطبيعة.

إنك حين تنتج فانك ترتفع الى مستوي الانتاج وتتكامل قدراتك وتنصقل مواهبك بذات النسبة والبلد الذي ينتج الفانتوم يختلف عن الذي يشتريها اختلاف الأم التي تنجب طفلا عن تلك التي تتبنى طفلا.

إن هذا البلد تتكامل قدراته وترتفع الى مستوي انتاج الفانتوم ، إنه يصنع بدائل


لها وهكذا ، كذلك المزارع الذي يحرث الأرض ويسقي الحقل حتى يجني الثمرات ، ليس أبدا مثل ذلك الذي يلتهم الفاكهة دون أن يعرف قيمتها الحقيقية ، إن المزارع يتفاعل مع الثّمار ويتكامل بها لأنه ينتجها ، بينما الذي يأكل الفاكهة يستهلك بقدر ما يستهلك.

ومن قال ان الهدم أفضل وسيلة للدفاع ، وخير أداة في الصراع؟

إنك حين تقتبل جنديا عدوا تزداد قوتكم بقدر جندي واحد ، أما حين تضيف جنديا الى جنودك من أعدائك فان باستطاعة هذا الجندي أن يستقطب إليك جنودا كثيرين.

وحين تهدم مصنعا للعدو تزعم بأن قدرتك الاقتصادية ازدادت بقدر مصنع واحد ، ولكن هل هو واقع أم خيال؟ بينما لو أضفت مصنعا الى مصانعك فان هذا المصنع يكمل حلقات مصانعك ويرفع النقص الموجود فيها ، وبالتالي يعطيك قدرة على تنامي مصانعك.

وفرق بين أن تحرق مزرعة للعدو أو تنشئ مزرعة ، إن المزرعة التي تنشأها لا تضيف قوة اقتصادية الى اقتصاد بلدك فحسب ، بل وتزيدك قوة إنتاجية ، بمعنى ان الحبوب المنتجة من المزرعة تصلح ان تزرع في أرض اخرى ، وان اليد العاملة في المزرعة تقدر على أن تزرع اخرى ، والنظام المشجع على إنشاء مزرعة ينشئ مزارع عديدة وهكذا ..

وهكذا يصبح البناء أفضل وسيلة لهدم كيان العدو ، والإصلاح أفضل وسيلة لتصفية دعاة الفساد ودعائمه ، وصدق الله العلي العظيم حين يقول :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)


مراحل الانحطاط :

يتدرج المجتمع في الانحطاط عبر عدة مراحل ، ففي البداية تفسد السلطة السياسية ، ثم تفسد طريقة التعامل ، ثم أساليب الانتاج ، ثم فساد القيم وهو أخطر مراحل الفساد ، لذلك نجد شعيبا (عليه السّلام) بدأ حديثه الناصح بالتحذير من الفساد السياسي والاقتصادي ، ومن ثم الفساد الثقافي والقيمي.

فحذّر من النهي عن المعروف والصّد عن سبيله ، ومحاولة تضليل الناس عن سبيله الأقوم في الحياة ، ومحاولة توجيههم الى السبل المنحرفة ، وأمرهم بتذكر الماضي حيث إنهم كانوا أقلّاء فكثرهم الله بالسبل القويمة ، كما نصحهم بالاعتبار بما أصاب المفسدين السابقين ، وأمر شعيب المؤمنين من قومه بالصبر حتى يحكم الله ، وتبين العاقبة.

[٨٦] قد يفسد البشر عمليا ، بينما يبقى من الناحية النظرية مؤمنا بالقيم ومعترفا بخطئه حين لا يعمل بها ، ويرجى لمثل هذا الشخص الفلاح بالتوبة ، ولكن إذا بقي على ضلالته العملية قد ينحدر شيئا فشيئا الى الكفر بتلك القيم رأسا ، أو لا أقل من تفسيرها تفسيرا خاطئا يتوافق مع سلوكه الباطل ، وهذا الشخص يصعب إصلاحه.

لأنه ليس فقط يعمل الأخطاء بعمد وإصرار ، بل ويدعو الناس إليها ، وقد يجرّ الآخرين الى اتباع منهجه ، وقوم شعيب بلغوا هذا الدرك الأسفل فنهاهم رسولهم (عليه السّلام) عن ذلك وقال :

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ)

أيّ تهددون السالكين فيه من الذين يبتغون الوصول الى الله والحق والعمل


الصالح.

(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ)

أيّ لا تسمحون للمؤمنين بالله أن يسلكوا السبيل الموصل اليه سبحانه.

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً)

أيّ تحرّفون نصوص الدين ، وتزعمون أن السبل الملتوية هي الطرق البالغة.

الثقافة التبريرية نسيج التخلف :

إن الأمم المتخلفة تصنع لنفسها نسيجا من الأفكار الباطلة ، والثقافات التبريرية التي تكرس واقعها الفاسد ، ولكي تتجاوز الأمة هذه الثقافة التبريرية الكسولة عليها أن تصلح نظرتها الى الحياة ، ولا تزعم أن النعم الموجودة فيها مستمرة وذاتية ، بل تتذكر ماضيها الحافل بالمشاكل والعقبات ، وكيف تحدتها ، وبفضل أيّ نوع من القيم والأفكار ، ثم تدرس حياة المجتمعات الأخرى التي فسدت خزائنها ، كيف وبسبب أيّ نوع من السلوك زالت تلك المجتمعات؟ لذلك ذكّر شعيب قومه بماضيهم وبماضي المجتمعات الزائلة وقال :

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

[٨٧] وكانت نصيحة شعيب للكفار المناهضين لرسالته هي الكف عن مقاومتهم لنور الرسالة ، أما وصيته لأنصاره المؤمنين فهي الصبر والاستقامة حتى يحكم الله بينهم وبين الكفار فقال :

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)


قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا

____________________

٩٢ [يغنوا] : غني بالمكان ، يغني غناء وغنيانا أقام به كأنه استغنى بذلك المكان عن غيره والمعاني المنازل وأصل الباب الغنى.


شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)

____________________

[آسى] : الأسى شدة الحزن.


المكذبون برسالات الرب

هم الخاسرون

هدى من الآيات :

كانت رسالة شعيب التي نصح بها القوم ذات قيم فطرية ، يهتدي إليها العقل وتعارضها الشهوات العاجلة ، وقد تحدى الملأ شعيبا ، والملأ هم كبار القوم الذين استكبروا في الأرض وجعلوا فيها الناس ضعفاء ، لقد تحدوا هذه الرسالة ليس بالحجة وإنما بالقوة ، حيث هددوه (عليه السلام) بالإخراج من قريتهم أو العودة الى دينهم الفاسد ، وتساءل شعيب : كيف تسمحون لأنفسكم إجبارنا على العودة الى ملتكم الفاسدة كرها ، أوليس في ذلك شهادة على أن ملتكم فاسدة ، وأن منطق القوة وليس القناعة هو السائد عليها؟

وإذا كانت القوة حاكمة فقوة الله أعظم من قوتكم ، فلا نرضى بالتسليم لكم ، والافتراء على الله كذبا ، والكفر بنعمة الهداية التي أسبغها الله علينا فأنجانا بها من الملة الفاسدة.

وهل يستطيع البشر أن يتجاوز إرادة الله؟ كلا .. لذلك لا يستطيع أحد أن


يكره أحدا على فكرة الباطل ، لان الله ربهما والمطلع على شؤونهما. لا يسمح بذبح حرية أحد إلّا بمشيئة ، أو تقصير الإنسان نفسه ، فاذا توكل البشر على ربه ، واعتمد على قوته ، فانه خير من يفتح بينه وبين عدوه بالحق ، إذا فحري بالبشر الاعتماد على الله في مقاومة تهديد أهل الباطل ، وعدم الخشية من تمكنهم منه.

بينات من الآيات :

المستكبرون العائق الأكبر :

[٨٨] الناس العاديون يستقبلون رسالات الله بفطرتهم النقية ، لولا أن المستكبرين الذين يستغلون جهود الضعفاء يفرضون عليهم نهجا فكريا معيّنا بالقهر ، وهؤلاء هم الذين يشكلون حينا السلطة السياسية ، وحينا السلطة الاقتصادية ، وحينا السلطة المسمّاة بالدينية ، بيد أنها جميعا سلطة قهرية تسرق إرادة الإنسان ، وهذا نموذج من قهرهم ، أنهم هدّدوا شعيبا (عليه السلام) بالإخراج من القرية لو عارض نهجهم السياسي.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ)

والكلمة الأخيرة تدل على صفة الجبر والقهر في السلطة القائمة في مجتمع مدين ، وبالتالي على نظام الطاغوت الذي يعتمد على الملأ من الناحية الطبقية ، وعلى الاستكبار من الناحية الاجتماعية والثقافية ، وعلى الإرهاب من الناحية السياسية.

الصمود شاهد صدق :

[٨٩] الذي يحمل رسالة الله الى الناس حقا لا يتنازل عنها تحت ضغط الظروف ، وتلك شهادة بيّنة على صدقه ، أما الذين يفترون على الله الكذب ويدّعون


أنهم رسل الله باطلا ، فإنهم يتركون الرسالة حين يتعرضون للضغط ، من هنا قال المؤمنون من قوم شعيب :

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها)

وحيث إن الله أنجاهم من ضلالة الطاغوت بالرسالة ، فالعودة الى ملتهم السابقة إنما تكون بعد وعي كاف ببطلانها ، فيكون ذلك تكذيبا متعمدا للحق ، وجحودا سافرا بآيات الله ، والعذاب سوف يكون عليهم مضاعفا.

ومن جهة أخرى العودة الى الملة الباطلة التي أنقذهم الله منها لا تكون ممكنة بالقهر والإكراه ، لان الله قد ضمن للبشر حريته وكرامته ، ولن تكون القوى الشيطانية قادرة على إلحاق أيّ نوع من الأذى ، أو إيجاد أيّ قدر من التأثير على أحد من دون مشيئة الله واذنه سبحانه ذلك لان قوى الطاغوت لا تعصي الله عن غلبة ـ سبحانه ـ أو بتجاوز ملكوته .. كلا ، وإنما لأن الله أمهلهم وأعطاهم فرصة الاختيار الحر لفترة محدودة لهذا فان الطاغوت لا يقدر على جبر المؤمنين على الكفر لأن الله لا يسمح له بذلك.

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)

وكما ان قدرة الله مهيمنة على الكون فلا يقدر الكفار على تجاوزها ، كذلك علمه النافذ في كلّ شيء ، ولكي يقاوم المؤمنون قوى الطاغوت المادية يلتجئون أكثر فأكثر الى قوة الله المعنوية ويقولون :

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ)

المؤمنون لا يسعون نحو تحقيق الانتصار على عدوهم بالباطل ؛ أي دون أن يكون لديهم مؤهلات النصر ، أو دون أن يكونوا أفضل من عدوهم ، بل إنما يريدون الفتح


بالحق.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)

الخسارة العظمى :

واقتربت النهاية لقوم شعيب ، حيث انهم اعتمدوا على القوة المادية زاعمين أنها كلّ شيء ، وإن من يخسرها فانه يخسر كل شيء ، لذلك قالوا للمؤمنين : انكم لخاسرون ، يزعمون أن الثروة والسلطة والجاه التي يملكونها والتي يحرمون المؤمنين منها تعتبر خسارة ، بينما المؤمنون يعرفون ان القيم الباطلة التي يقوم عليها بناء مجتمع الطغيان والفساد تنسف كل تلك الماديات الظاهرة.

ومن هنا أخذت قوم شعيب الرجفة فاذا بهم جاثمون ، وإذا بالخسارة الحقيقة هي من نصيبهم هم ، أمّا شعيب فلم يأسف لهم لأنه قد أبلغ رسالات ربه ، وقدم النصيحة لقومه ، ولكنهم كفروا بها فكيف ييأس عليهم.

[٩٠] ان النظرة المادية الضيقة التي يرى بها الكفار الأمور تجعلهم محدودين جدا ، لا يفهمون حقائق الحياة ، وهؤلاء يرمون الناس بالسفه وبالجنون ، ويزعمون أن الذي لا يعمل للربح المادي العاجل خاسر لحياته ، لذلك تجد الملأ من أهل مدين يعتبرون اتّباع شعيب خسارة كبيرة لهم.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)

ومنتهى ما يستطيع الملأ المستكبرون ان يلحقوه من الأذى بالمؤمنين هو : منع بعض النعم المادية عنهم ، وهذا ما كان ولا يزال الطغاة يهددون الثوريين به ، ولكن من الذين تكون له عاقبة الدار؟!

[٩١] إن الله سبحانه يعطي فرصة محدودة للبشر ليمتحن إرادتهم فيها ، ومدى


قدرتهم على مقاومة إغراء الشهوات ، وقد منح هذه الفرصة لقوم شعيب ، وها هم الآن استنفذوا فرصتهم واقتربت ساعة المصير.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

وكانت الرجفة قوية الى درجة أن الله لم يمهلهم حتى يتخذوا حالة الاستلقاء استعدادا للموت ، بل وقعوا على وجوههم ذلة وهوانا.

معيار الخسارة :

[٩٢] وهنالك تبيّن ذلك الواقع الذي حذر منه شعيب ، وآمن به القوم المؤمنون وهو : أن الخسارة والربح إنما هما بالقيم لا بالمصالح العاجلة.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)

انتهت فرصتهم ، وتداعى كيانهم ، وزالت مكاسبهم ، حتى يخيل للإنسان انه لم يكن شيئا موجودا.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)

[٩٣] أما شعيب فقد ترك قومه الهالكين وهم صرعى دون أن يذرف عليهم قطرة دمع.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)


وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ

____________________

٩٥ [عفوا] : أصل العفو الترك ، وعفوا تركوا.

[بغتة] : البغتة الفجأة ، وهي الأخذ على غرّة من غير تقدمه تؤذن بالنازلة.

٩٧ [بأسنا] : البأس العذاب ، والبؤس الفقر.


إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)


أسباب الحضارة

ومراحل حياة الأمم

هدى من الآيات :

بعد أن ذكّرنا القرآن الحكيم بقصص الأولين من الرسل وقومهم ، عاد ليبين لنا عبرا من التاريخ وأبرزها :

١ / أن الأمم تسير عبر مراحل ثلاث : مرحلة الشدة والضنك ، ثم مرحلة الرفاه والرخاء ، ثم مرحلة الفساد والهلاك ، ورسالات السماء حاضرة في هذه المراحل ، وإرادة الله مهيمنة عليها.

٢ / هلاك الأمم ليس قدرا محتوما عليها ، إنما هو بسبب كفرهم وعدم التزامهم بالأوامر والتوجيهات ، فاذا آمنوا واتقوا الله فتح الله عليهم بركات السماء.

٣ / وراء الرخاء الظاهر قد يكمن مكر الله الخفيّ الذي ينبغي ألّا يؤمن والذي يأتي ليلا في حالة النوم ، أو نهارا في حالة اللعب والغفلة ، وإنما يخسر البشر حين يأمن مكر الله وما تخبؤه الأيام من شدة ومكروه.


٤ / توارث الأمم هذه الأرض ، ولا بد من ان يتعص اللاحقون بمصير السابقين ، وليعرفوا هذه الحقيقة : أن الذنوب تحيط بالإنسان ، وتأخذه في حين غفلة ، ذلك لأن الذنب يسبب عمى القلب أيضا.

٥ / بالرغم من أن الله يبعث رسله الى الأمم حين تتدهور ، لكن كفرهم السابق وذنوبهم التي أعمت قلوبهم لا تدعهم يؤمنون برسالات الله ، كما لا تدعهم يفون بعهد الله عليهم ، لذلك كانت الأمم هذه لا عهد لها ولا دين وبذلك هلكت.

بينات من الآيات :

المصاعب امتحان وتربية :

[٩٤] في هذه الآية نجد حكمة الصعوبات التي تعصر البشر والهدف التربوي منها ، الذي لو عرفه الإنسان وسعى اليه فليس فقط لا يتضرر منه ، وإنما يستفيد منها كثيرا يقول الله :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)

فالضراعة هي هدف البأساء والضراء في الحياة ، والبأساء حسبما يبدو لي : كل سوء يصيب البشر بأيديهم كالحروب ، والفقر الناشئ من وضع اجتماعي سيء ، والظلم والإرهاب ، بينما الضراء هي : الخسارات التي تصيب البشر بالطبيعة كالامراض والضغط وما أشبه.

والضراعة هي : العودة الى واقع الذات وما فيه من نقص وعجز وانحراف ، بعيدا عن أيّ غرور أو استكبار ، أو عزة بالإثم ، والضراعة الى الله تعطينا الثقة بقدرتنا على تجاوز كل ذلك بعون الله.


وربما تكون هذه الآية توضيحا لبداية انطلاقة المجتمعات وشروطها الواقعية ، وهي ظروف قاسية يمر بها المجتمع فيتحداها بالضراعة ، وهي وعي الذات وما فيه من نواقص يجب تكميلها ، وامكانيات يجب تفجيرها.

[٩٥] وبعد الضراعة وتكميل النواقص بالتوكل على الله ، وبالاعتماد على قيمه السامية ، تأتي مرحلة الرفاه حيث تتبدل الصعوبات الى يسر وسلامة ، ومن بعدها تأتي مرحلة الرخاء حيث تفيض النعم عن الحاجة ، وهناك يفسد المجتمع بسبب الطغيان والترف والبطش فيصيبه الدمار ، بيد أن الدمار لا يصيب المجتمعات شيئا فشيئا بل يصيبهم فجأة ومن دون شعورهم به.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا)

أي حتى كثرت النعم وأصبحت عفوا وزيادة تترك.

(وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

لا حتميّات بل حقائق :

[٩٦] إن هذه المسيرة الدورية في المجتمعات ليست ضرورة حتمية ، أو سنة إلهية ، بل حقائق تاريخية باستطاعة البشر تغييرها عن طريق الايمان والتقوى ، فان الايمان ضمانة ايديولوجية وثقافية واجتماعية لبقاء عوامل الحضارة ، والتقوى ضمانة تشريعية سياسية واقتصادية وسلوكية لبقاء إطارات الحضارة.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

ربما تكون البركات هي كلّ ما يكمل حياة البشر ويطورها للأفضل.


(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

إذ أن الظروف القاسية التي تصيب البشر تأتي بسبب تكذيبه للحقائق ، واكتسابه للمنكرات من هنا نستطيع أن نستنبط فكرة جديدة في فلسفة التاريخ ، وفلسفة الحضارات بين الفكرتين المتطرفتين وهما :

الفكرة الأولى : التي تقول ان للحضارات دورة حياتية حتمية مثل مراحل الحياة للشخص ، من الطفولة الى الشباب الى الشيخوخة فالموت.

والفكرة الثانية : التي تقول أن الحضارات انما هي نتيجة فكرة حضارية تنمو حولها وبها امكانيات المجتمع حتى تصبح حضارة.

والفكرة الثالثة : التي يمكن استنباطها من هذه الآيات ـ لو صح التفسير الذي فسرناه بها ـ هي :

أن هناك سببين للحضارة ، سبب طبيعي هو تحدي الصعوبات الفاسدة من ظروف قاسية أو من صراعات اجتماعية ، إذ ينشأ من هذا التحدي الضراعة فإصلاح النواقص فالرخاء والرفاه ، وهذا السبب الطبيعي يتحرك وفق سنن طبيعية تقريبا كسائر القوانين الاجتماعية.

والسبب الثاني هو : الايمان بفكرة رسالية والالتزام بمناهجها (الايمان والتقوى) ولهذا السبب سنّته الذاتية ، بمعنى أن الحضارة تبقى مع الايمان والتقوى.

[٩٧] ولان هلاك المجتمعات الفاسدة يكون فجائيا بعد تراكم السيئات ، وإحاطتها بالذين يكتسبونها ، فان علينا أن نترقب بأس ربنا في كل لحظة ، ليلا ونهارا ، في حالة النوم أو في حالة الغفلة!!


(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)

[٩٨] (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)

[٩٩] (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)

من هم الخاسرون؟ الخاسرون هم الذين يحسبون ان تراكم المكاسب الظاهرية ، وبناء العمارات الشامخة ، والشوارع المعبدة والمضاءة ، والمصانع الكبيرة ، والملاعب الواسعة ، والجيوش المسلحة بأحدث الأسلحة ، إن كلّ ذلك يكفي في بناء الحضارة وتحقيق طموحات البشر .. كلا ، ان ذلك ما كان ليتم لولا القيم السليمة ، والتطلعات المشروعة ، والمناهج الصائبة ، ولولا ذلك لحملت الحضارة نقيضها في ذاتها ، حيث يلتف عليهم العذاب من حيث لا يشعرون فيقضي عليهم ، ذلك هو مكر الله ، إن المدنية القائمة على الظلم أو الطغيان ، والمجتمع القائم على الاستغلال والطبقية ، والثقافة القائمة على المصالح الذاتية كلّ ذلك مهدد بالزوال في كلّ لحظة وبصورة مفاجئة.

إذ أن المظلومين المستغلّين ، والمستضعفين المقهورين سوف ينتفضون بعد أن يطفح بهم كيل الغضب ، فلا يهابون الموت فيدمرون كلّ شيء في لحظة ، والله سبحانه ينزل عليهم صاعقة من عذابه بعد أن تنتهي الفرصة الممنوحة لهم ، والأجل المحدود لاختبارهم ، فيقضي عليهم ، انه مكر الله ولا يأمن مكره أحد.

ان المكر هو : الالتفاف حول شيء وأن يأتيه الأمر من حيث لا يحتسب الفرد ، والذي لا يحسب لمكر الله حسابا يخسر ، لأنه يبني دون أن يملك ضمانة لاستمرار بنائه ، وهو أشبه بجيش لا يسد على نفسه الثغرات الخلفية ، وينظر فقط من جهة واحدة ، حيث أن العدو يأتيه من الخلف فيقضي عليه ، إن على البشر أن يلاحظ


خلفيات الأمور ، وعوامل الهدم والدمار ، وقيم التقدم والاستمرار.

[١٠٠] لكي تكون لديك بصيرة نافذة ، تعرف بها عوامل الدمار التي لا ترى ظاهرا ، عليك أن تعتبر من التاريخ ، وتدرس حال الأمم التي بادت وأورثك الله الأرض من بعدهم ، أولئك الذين أحاطت بهم ذنوبهم ، وأغلقت قلوبهم فلم تسمع الحقيقة ، وأنت أيضا مع مجتمعك يمكن أن يصيبكما الله بذنوبكما ، فتغلق قلوبكما وتندحر حضارتكما.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها)

أو لم يكن ذلك الاستخلاف والتوارث هداية كافية لهم ليعرفوا.

(أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)

كما أصاب الله أولئك بها الذين من قبلهم ليكونوا هم الوارثين.

(وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)

آثار الذنوب :

إن الذنوب تعكس خطين من الآثار السلبية في حياة البشر.

الخط الأول : في الواقع الخارجي ، فالظلم والإرهاب والجريمة كل ذلك يخلف الخراب والغضب والتحدي في واقع الطبقية والمجتمع.

الخط الثاني : في الإنسان العامل بالذنب ، فالظلم يغشي القلب ، ويضعف الارادة ، ويقتل الوجدان ، ويحجب العقل ، وكذلك الإرهاب والجريمة ، والقرآن يشير الى أن هلاك الأمم كان يتم بسبب تراكم آثار الذنوب على كلا الخطين ، فمن


جهة كان الله يصيبهم بذنوبهم وتراكمات آثار الخطين في الواقع الخارجي ، ومن جهة ثانية كان الله يطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون بسبب تراكمات الآثار النفسية ، ولا يقدرون على الاستجابة لمغيرات الحياة أو الانتباه الى أجراس الخطر التي كانت تدق على مسامعهم ، بل حتى أنهم كانوا يكذّبون بآيات العذاب وهي قادمة إليهم ، فمثلا كان بعض الهالكين من الأمم السابقة يرون سحابة العذاب فيزعمون أنها سحابة رحمة ممطرة ، فتمطر عليهم العذاب بدل الرحمة ، كذلك بعض الأنظمة اليوم تزعم أن الانتفاضات الجماهيرية انما هي من خارج أراضيها ، بينما هي من الفساد في ذات النظام.

[١٠١] ومن علائم طبع القلب وانغلاقه عن الاستجابة للمتغيرات ، أو فهم إشارات الخطر : أن الرسل كانوا يأتون إليهم بالبينات والآيات الواضحة ولكنهم يكذبون بها ، حتى يدمر الله عليهم قريتهم.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ)

إنهم كذبوا بالقيم أول ما انحرفوا ، فجاءت الرسل تنذرهم بالخطر من بعد أن تراكمت ذنوبهم وأحاطت بهم فلم يعبأوا بذلك.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)

حين يكفر المرء يؤثر الكفر في قلبه فينغلق دون التوجيه السليم ، ذلك لأن الكفر يأتي نتيجة الاستكبار عن الحق ، والغرور بالذات ، وحين يستجيب المرء للكفر يزداد تكبرا وغرورا ، وهكذا حتى تنسدّ منافذ قلبه جميعا ، حيث إن الاستكبار عدو الفهم السليم.


[١٠٢] والله سبحانه حين أهلك الأمم السابقة لم يهلكهم إلّا بعد أن توافرت فيهم أسباب الهلاك ومنها : نقض العهد ، والفسق ، أما نقض العهد فهو حالة نفسية تنعكس في تعامل الإنسان مع القيم والتزامات البشر ، فالكذب والغيبة ، والتهمة وإخلاف المواعيد ، والغش والتدليس ، والنفاق كل ذلك من مظاهر نقض العهد ، حيث يتظاهر الفرد بشيء ، ويتعهد به ظاهرا ولكنه ينقضه ، وكذلك عدم الدفاع عن الوطن ، وعدم التعاون في مقاومة الظلم أو مواجهة مشكلات طبيعية.

أما الفسق فهو تجاوز الحد في السلوك الشخصي مثل : أكل الحرام ، والتهاون في الحقوق.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)


ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)

____________________

١٠٥ [حقيق] : جدير وخليق.

١٠٨ [مزع] : النزع ازالة الشيء عن مكانه الملابس له المتمكن فيه كنزع الرداء عن الإنسان ، والنزع والقلع والجذب نظائر ، وفلان ينازع إذا أرادت روحه أن تفارق جسده.


الظلم بآيات الله

وعاقبة المفسدين

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن تلك المجتمعات التي بادت وهلكت بسبب فسادها ، جاء الحديث يبيّن لنا عاقبة مجتمع آخر أعرق حضارة وأشد جاهلية وأطول صراعا ، ذلك هو مجتمع فرعون وملائه ، ويطول الحديث القرآني حول هذا المجتمع هنا وفي سور أخرى ، ربما لأنه أقرب صورة للمجتمع الذي سوف يتكون بالإسلام.

موسى (عليه السلام) يبعثه الله بالآيات البينات الى فرعون وملائه من المستكبرين حوله ، ولكنهم يظلمون الآيات ، فاعتبر بعاقبة هؤلاء المفسدين ، تلك العاقبة المشتركة في الجذور والسنن بالرغم من الاختلاف في التفاصيل المشتركة بين قوم موسى وقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، تلك العاقبة التي لو استخلص المرء عبرها لاستطاع أن يتجنبها.

وجاء موسى (عليه السلام) الى فرعون ليعرّف نفسه بأنه رسول رب العالمين ،


وأنه يجب ألّا يقول على الله إلّا الحق ، وانه جاء ببينة من الله وبرسالة هي إنقاذ بني إسرائيل المستضعفين.

وتحدى فرعون موسى (عليه السلام) وطالب بالآيات إن كان صادقا ، واستجاب موسى (عليه السلام) لتحديه (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

وهكذا بدأ الصراع بين فرعون ورسول الله الذي يحدثنا السياق عنه عبر دروس عديدة.

بينات من الآيات :

ظلم الحقائق :

[١٠٣] الظلم قد يقع على البشر وقد يقع على فكرة أو حقيقة ، والبشر المظلوم لا بدّ أن يأخذ حقه عاجلا أم آجلا ، كذلك الحقيقة المظلومة التي ترك الظالم العمل بها أو حتى الاعتراف بها ، وحين تظلم الحقيقة يعم الفساد ، وعاقبة الفساد هي الهلاك ، وهكذا كانت قصة موسى مع قومه.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ)

أيّ من بعد تلك الرسالات وأولئك الرسل.

(مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ)

كما في المجتمعات السابقة كذلك في مجتمع فرعون ، كان الناس منقسمين الى الملأ وهم كبار القوم والعامة.


(فَظَلَمُوا بِها)

أيّ بتلك الآيات ، والآيات هي العلامات التي تدل على الحقيقة ، والظلم بها يعني ظلم الحقيقة أو بالأحرى ظلم الإنسان لنفسه عن طريق ظلم الحقيقة وكفره بآياتها.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

أو لم يهلكوا بخزي وعار ، إن الفساد هو كل حركة مخالفة لسنن الله في الحياة ، ومخالفة لآيات الحقيقة ، وإذا تدبرنا في هذه المجموعة من الآيات ابتداء من الآية (٥٦) من هذه السورة حيث تقول : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) وحتى آخر القصص التي تحكي عن صراع الأنبياء مع مجتمعاتهم الجاهلية يتبين لنا هذا المعنى العام للفساد وهو مخالفة سنن الله وآيات الحقيقة.

[١٠٤] والله سبحانه يصلح العالم ، وينزل عليه بركاته ، ويكمل وجوده ويطوره نحو الأفضل ، فهو رب العالمين ، ولذلك فهو يبعث رسولا من لدنه الى البشر لذات الغاية التي من أجلها سخر الشمس والقمر والنجوم ، ولذات الهدف الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

بين التكذيب والتصديق :

[١٠٥] كان الرسل (عليهم السلام) يؤكدون في دعوتهم على هذه الحقيقة وهي : أن الكذب على الله جريمة كبيرة وذنب عظيم ، وهذا التأكيد يكشف للناس أنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا بدّ أن يكونوا واحدا من نوعين من الرجال : فاما أن يكونوا مجرمين من الدرجة الاولى ـ حاشاهم ـ وسيرتهم حافلة بالأمانة


والصدق والفداء وهذه الصفات تكشف للناس غير ذلك ، وإما أن يكونوا صادقين ، ولولا هذا التأكيد المكرر على أن الافتراء على الله ضلالة كبري وجريمة نكراء ، لكنا نحتمل أن يكون النبي كاذبا لمصلحة الناس مثلا دون أن يعرف أهميّة الكذب أو مدى قبحه ، وموسى (عليه السلام) بدأ حديثه مع فرعون بهذه الكلمة.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)

أيّ يجب الا أقول على الله إلا الحقيقة ، وهذا الوجوب أعرفه جيدا واعترف به ، فاني بعيد عن الكذب على الله بسبب اعتبار ذلك جريمة ، وأكثر من هذا اني أملك بينة واضحة على ذلك.

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

لقد كانت رسالة الله على موسى ذات صفة اجتماعية واضحة ، حيث طالب موسى فرعون بكف الظلم عن بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون ، ومن المعلوم ان موسى (عليه السلام) كان يهدف أيضا نجاة فرعون وقومه من ضلالتهم ، لكن بدأ رسالته من حيث كان الانحراف الكبير أو الفساد العظيم ، وهكذا ينبغي ألا تكون دعوة المصلحين في الفراغ ، بل متجهة الى أكبر انحرافات المجتمع لكشفها وإصلاحها.

[١٠٦] أما فرعون رأس هرم المجتمع الفاسد ، وقائد الملأ الكاذب فانه تحدى موسى (عليه السلام) ، وطالبه بالآية التي جاء بها.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

[١٠٧] واستجاب موسى (عليه السلام) للتحدي فورا.


(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)

[١٠٨] (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)

كانت يده (عليه السلام) التي تشع بالبياض. آية واضحة على صدق رسالته.


قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)

____________________

١١١ [أرجه] : أخّر أمر عقوبتهما.

[حاشرين] : جامعين للسحرة.

١١٦ [واسترهبوهم] : خوّفوهم تخويفا شديدا.


تضليل الملأ ضد رسالات الله

هدى من الآيات :

كانت تلك الرسالة رسالة الله ببيناتها ودلائلها ، فلننظر الى ذلك الطرف لنرى ما هو جواب المستكبرين من قوم فرعون؟

انهم اعتمدوا على عدة وسائل لمقاومة رسالة الله ، ولم يكن بينها بالطبع الاهتداء بها أو مواجهتها الحجّة بالحجة.

فأولا : قالوا لموسى انه ساحر عليم ليضللوا الناس عن رسالته.

ثانيا : استثاروا حب الأمن لدى الناس ، واتهموا موسى بتعكير الأمن عليهم.

ثالثا : توسلوا الى القوة واعتقلوا موسى وأخاه.

رابعا : جمعوا المشعوذين من سحرة البلاط ، وهكذا جاء السحرة لفرعون ولكن لم يكن لهم رسالة اجتماعية أو اصلاحية بل جاؤوا اليه طلبا للمال والجاه ، فوعدهم


فرعون أن يجعلهم من المقربين إليه ، فسألوا موسى (عليه السلام) أن يلقي ما لديه أولا ، فتحداهم موسى وطالبهم بالمبادرة ، فلما ألقوا سحرهم سحروا أعين الناس واسترهبهم سحرهم وقد كان سحرا عظيما.

وهكذا جمع الطاغوت كل قواه المادية لمقاومة الرسالة ، ولكن ترى هل يقدر على ذلك؟

هذا ما يتحدث عنه القرآن الحكيم في الدروس القادمة إنشاء الله.

بينات من الآيات :

التهم الرخيصة :

[١٠٩] في الاجابة على تلك الأدلة الفطرية الواضحة قال الاشراف والمستكبرون من قوم فرعون : إن موسى ساحر عليم ، في محاولة لتضليل الجماهير المستضعفة.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)

والناس كانوا يعرفون السحرة آنئذ ، ويعرفون انهم يستخدمون ما عندهم من علم وفن ليس في خدمة الناس وانما في خدمة السلاطين أو خدمة أغراضهم الدنيئة ، ودائما يحاول أعوان الطاغوت ألقاء شبهة معينة بين الناس من النوع الذي يعرف الناس أمثاله ، فمثلا : لو قام مفكر أصيل بنشر ثقافة ثورية عالية بين الناس اتهمه أولياء الطاغوت بأنه صحفي عميل ، أو كاتب مأجور ، لان الناس يعرفون كثيرا من الصحفيين العملاء والكتاب المأجورين ، حتى أنهم يشتبهون فعلا في المفكر الأصيل ، أو إذا قام عالم دين تقدّمي صالح لقيادة ثورة الجماهير قالوا : انه رجل دين رجعي ، لأنه كثيرا ما رأى الناس مثل ذلك.


[١١٠] ثم توسل أشراف قوم فرعون بما يتوسل إليه عادة كل الطغاة من اتهام الثوار بمحاولة تعكير صفو الأمن على الجماهير فقالوا :

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ)

وثالث أسلوب استخدمه الملأ من قوم فرعون لمقاومة رسالة الله كان الاعتقال ، باعتباره حاجزا بين صاحب الرسالة وبين الجماهير ، وأما الأسلوب الرابع فكان حشد كل الذين يرضون ببيع علمهم وفنهم لقاء أجر محدود لمصلحة السلطات الطاغوتية لذلك.

[١١١] (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)

أي اسجنه هو وأخاه ، وأرسل الشرطة ليحشدوا السحرة.

[١١٢] ويبقى السؤال : ما هو السحر؟

إن أساس السحر هو : التأثير في الخيال في الطرف الثاني لكي يزعم شيئا معينا غير الحقيقة ، والسحر قد يكون عن طريق غسيل الدماغ الذي يستخدمه العلم الحديث ، أو عن طريق الدعايات الباطلة ، وقد يكون عن طريق بعض أنواع الشعوذة ، مثل ما فعله سحرة فرعون حيث وضعوا الزئبق في أجسام لينة تشبه العصي ثم ألقوها فتحركت بفعل تحرك الزئبق بحرارة الشمس ، وعلى العموم ليس السحر سوى استخدام الوسائل الطبيعية الغير معروفة للناس في سبيل إقناع الآخرين بغير الحقيقة.

[١١٣] والسحرة أولئك المأجورون الذين لم تكن لديهم رسالة في الحياة إلّا إشباع شهواتهم العاجلة وقد سألوا فرعون قبل كل شيء عن الأجر.


(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ)

ويبدو ان السحرة كانوا يخشون الهزيمة بسبب معرفتهم ببطلان سحرهم ، وأنهم لا يقولون الحق ، كما يبدو أنهم قد اجهدوا أنفسهم في الحصول على كل وسيلة ممكنة من وسائل السحر ، ولهذا سألوا فرعون الأجر.

[١١٤] أما فرعون الطاغوت الذي رأى أن كيانه يتداعى تحت ضربات عصى موسى المعجزة ، فانه كان كريما في إعطاء الوعود.

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

حيث عرف فرعون أن طائفة السحرة يجب أن تكون على مقربة منه لمواجهة الظروف الطارئة ، كما أن الملوك والرؤساء وطغاة اليوم يصطحبون معهم رتلا من الصحفيين المأجورين ، والمستشارين العملاء الذين باعوا ما لديهم من فكر وعلم وأدب من أجل تدعيم نظام الظلم والقهر.

التحدي الرسالي :

[١١٥] وحشدت الجماهير ، ووقف موسى يتحدى كلّ ذلك الكيان الطاغوتي ، فرعون وجنوده وسحرته ، يتحداهم وحده بالتوكل على الله ، والثقة المطلقة بوعده الصادق بنصره ، لذلك.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)

[١١٦] (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)


ان موسى (عليه السلام) واثق من النصر لأنه على حق ، ولأنه يعتمد على ركن شديد هو الله سبحانه ، لذلك أمرهم بأن يخرجوا ما لديهم من مكر وسحر ، كما أمر نوح (عليه السلام) قومه بأن يجمعوا أمرهم وان يأتوا اليه من دون نظرة ومهل.

وهكذا كل الدعاة الى الله سبحانه يتحدون الأنظمة الطاغوتية دون خوف ، وينازلونهم في ميدان المواجهة الشاملة ، وهذا بذاته دليل صدقهم واعتمادهم فقط على الله ، وعلى الحق الذي يحملون رسالته.


وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)


الرسالة تتحدى التضليل والإرهاب

هدى من الآيات :

وجاءت مرحلة الحسم ، وأوحى الله سبحانه الى موسى بإلقاء عصاه ، فاذا بها تتحول الى ثعبان عظيم يبتلع سحر قوم فرعون ، وإذا بالحق الذي كان يبشر به موسى أصبح واقعا ، والباطل الذي كان يحذّر منه تبين بطلانه للجميع.

وانهزم فرعون وقومه وذلوا ، وكان أول من عرف عظمة المعجزة سحرة فرعون أنفسهم حيث وقعوا ساجدين لله ، وهتفوا بأنهم آمنوا برب العالمين رب موسى وهارون ، وارتاع فرعون ، وعرف أنه لا يجديه السحر والمكر شيئا ، وأن عليه أن يستخدم آخر الأسلحة وهو سلاح الإرهاب ، فقهر سحرته وقال لهم : أتؤمنون بموسى قبل أن يصدر الاذن مني واقرر نهاية المعركة لصالح موسى باعتباري ملكا ، ثم اتهمهم بما يتهم كل طاغوت من يخرج عليه ، اتهمهم بأنهم يهدفون إشاعة الفوضى والمؤامرة على أمن البلد ، ويريدون إخراج الناس ، وهددهم بأنه سوف يصلّبهم أجمعين.


أما المؤمنين فإنهم تقبلوا التهديد بكل رحابة صدر وقالوا : إن الموت هو جسر العبور للعودة الى الله تعالى ، وقالوا له : ان تهمك باطلة ، وانما تريد أن تعذبنا لأننا آمنا بآيات ربنا ، وعلامات الحقيقة حيث جاءتنا ، وطلبوا من الله سبحانه ان يمدهم بالصبر ، وأن يختم عاقبتهم بالخير.

وهكذا اسدل الستار على مشهد آخر من مشاهد صراع الحق والباطل.

بينات من الآيات :

التوكل على الله سرّ العظمة :

[١١٧] موسى الذي تحدى كلّ ذلك الطغيان الجاهلي العظيم بسحره وجبروته وارهابه لم يفعل ذلك بقدرته الذاتية ، بل بالقدرة المعنوية ـ بالتوكل على الله ـ وهذا هو سر العظمة ، إذ لو كان موسى يملك سحرا أقوى ثم يتحدى سحر السحرة ، أو كان يملك جيشا أكبر ثم يتحدى الطاغوت فرعون ، أو يملك جماهير أكثر إذن ما كان له هذا الفخر وهذه العظمة ، انما كان يتحدى الجاهلية بعصاته التي يخشى منها حين يلقيها ، لأنه لا يعرف كيف تتحول الى ثعبان ، وحين وقف موسى أمام السحرة ورأي سحرهم العظيم ، وأنهم استرهبوا الجماهير ، وكادوا يضللونهم أوجس في نفسه خيفة ، لأنه يخاف من غلبه الجهال ودول الضلال كما جاء في الحديث ، ولكن يشاء ربه امتحان الناس بهذا السحر ، وامتحان استقامته ، وحين ينتصر موسى بعصاه حينذاك تكون عظمة موسى ، لأنه يعتمد على الايمان ، ويضحي بنفسه في هذا المجال ، لذلك يؤكد ربنا على الوحي في مواجهة الجاهلية ويقول :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)

أيّ تبتلع إفكهم وانحرافهم وكذبهم.


[١١٨] وحين يصبح الحق واقعا عينيا يؤمن به الجميع ، ولكن قبل ذلك لا يؤمن به سوى أصحاب البصائر النافذة والرؤى الصادقة.

(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

إنهم عملوا الباطل وأرادوا تكريسه ، ولكن الحق وهو سنة الله وفطرته وقانونه في الحياة هو الذي انتصر أخيرا ، فالظلام في الليل يزيله بصيص نور شمعة ، وكما ان هذه الشمعة قطعت الظلام كذلك النور في النهار ، وكذلك العدالة الاجتماعية وكذلك في المقابل سقوط الظلم وانهيار الفساد.

[١١٩] أما قوم فرعون فلحقهم الخزي والهزيمة.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ)

[١٢٠] والمفاجئة كانت حين ألقي السحرة ساجدين ، تلك كانت الاصابة في مقتل النظام الماكر.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ)

[١٢١] (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

[١٢٢] (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)

فلسفة الاستبداد :

[١٢٣] للاستبداد والدكتاتورية فلسفة يعتمد عليها ويشيعها الطاغوت بين الناس ، هذه الفلسفة هي قاعدة كل تشريعاتها ، ومنطلق كل تصرفاتها ، وهي : المحافظة على الأمن ضد العدو الخارجي أو الداخلي ، حتى ان الطواغيت يصطنعون


عادة أعداء وهمين ، أو يستزيدون عداء الشعوب فيختلقون الحروب لكي يعتمدوا عليها في ترسيخ كيانهم الباطل ، وفرعون كذلك عاد الى تلك الفلسفة الباطلة لكي يخرج من ورطته المخزية ، حيث أنهار عمود من أعمدة حكمه وهو السحر ، ووقع السحرة ساجدين لله لذلك.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)

إن فرعون انطلق من فكرة خاطئة هي : أن ملكه ونظامه هو أساس امن البلد ، لذلك فانكم حين آمنتم بموسى قبل ان تستصدروا الاذن مني فانكم خالفتم هذا الأساس ، لذلك قال فرعون :

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ)

أو بالتعبير الشائع اليوم انها مؤامرة قمتم بها في البلد.

(لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

[١٢٤] وعاد الى السلاح الأخير وهو الإرهاب ، ذلك السلاح الذي تعتمد عليه الديكتاتورية قبل كل شيء ، بالرغم من أنها لا تصرح به ، ومن أهم نتائج الصراعات الرسالية مع الديكتاتورية هو : فضح اعتمادها على الإرهاب ليعرف الجميع أن الادعاءات الاخرى إن هي إلّا غطاء لهذا السلاح.

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ)

أيّ تقطيع الرجل من طرف واليد من طرف آخر.

(ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)

وذلك للجمع بين النوعين من أنواع الاعدام ، الاعدام بنزف الدم من اليد


والرجل المقطوعتين من اليمين واليسار ، والاعدام بالصلب في جذوع النخل ، وذلك بشد الفرد على الجذوع حتى يقضى عليه تنكيلا به ، وليشهد موته كل الناس فيكون رادعا لهم عن الايمان بالرسالة.

[١٢٥] (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)

[١٢٦] (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)

وهكذا استعد السحرة التائبون لمواجهة مكر فرعون وكيده ، تضليله وإرهابه ، فمن جهة قالوا له : إنّ غضبك علينا ليس إلّا لأننا عدنا الى حريتنا واستقلالنا وآمنا بالحق من دون إذنك ، ومن جهة ثانية تضرعوا الى الله ليرزقهم الصبر الشامل ، والاستقامة حتى الموت ، وذلك لمواجهة إرهاب فرعون وبذلك أتمّ الله حجته على سائر الملأ من قوم فرعون الذين ظلّوا على جهالتهم خشية فرعون وبطشه ، حيث ان السحرة أيضا تعرضوا لمثل ذلك ولكنهم صبروا واستقاموا بالتوكل على ربهم ، وأتمّ الله حجته على بطانة المستكبرين عبر التاريخ انهم قادرون على التوبة الى الله إن شاؤوا ، كما فعل سحرة فرعون التائبون ، وأتم حجته على الناس ليعلموا ان إيمان المؤمنين لم يكن بدافع مصلحي أبدا.


وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)


حكمة حياة البشر تجربة إرادته

هدى من الآيات :

وانتهت الجولة الاولى من المعركة بين موسى وفرعون وملائه بانتصار الرسالة ، واستعادة موسى حريته ، واتبعته الجماهير المستضعفة من قومه ، وجاء المستكبرون يخبرون فرعون بأن موسى وقومه يفسدون عليه الأمر ، ويهدمون نظامه الطاغوتي ، ويتمردون عليه وعلى نظامه السياسي والديني ، فخطط فرعون لمرحلة جديدة من الإرهاب وقال : سنقتّل أبناء بني إسرائيل ونبقي على نسائهم أحياء ونستخدم القوة القهرية عليهم ، وقال موسى لقومه وهو يحثّهم على مقاومة الضغوط استعينوا بالله ـ بالايمان به ، وبالثقة بوعده ، وبالمناهج الثورية التي وضعتها لكم القيادة الحكيمة ـ وأمرهم بالصبر وبيّن لهم أن الأرض ليست ملكا لفرعون وقومه حتى يستحيل انتزاعها منهم ، بل هي ملك لله يعطيها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.

أما قوم موسى فقد فرغ صبرهم وقالوا له : إننا تحملنا الأذى قبل وبعد مجيئك


إلينا ، ولكن موسى طمأنهم وقال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) بالانتصار عليهم ، والهدف من استخلافكم هو : اختياركم ، وامتحان عملكم بعد الانتصار.

بينات من الآيات :

بعد العسر يأذن الله بالنصر :

[١٢٧] وينصر الله سبحانه الرساليين في أوقات الأزمات الشديدة كما نصر موسى عند ما أراد فرعون سحق رسالته بالسحر ، بيد أن من واجب الرساليين آنئذ ألّا يدعو لحظة واحدة لا يستفيدوا منها في توعية الجماهير وتنظيمهم ، وترسيخ دعائم الثورة ، وهدم أسس النظام الفاسد ، وذلك استعدادا لجولة جديدة من المعركة الساخنة مع النظام الطاغوتي ، فهذا موسى (عليه السلام) بعد ان انتصر على فرعون ، واستعاد منه حريته ، جمع حوله الأنصار ، وأخذ يفسد نظام فرعون الطاغوتي من كل جهة ممكنة ، ويهدم أساس كيانه وهو الاعتماد على السلطة السياسية الطاغوتية التي يمثلها فرعون رأس النظام ذاته ، وأيضا السلطة الدينية والثقافية الفاسدة التي كان يمثلها : الكهنة والأحبار لذلك جاء كبار رجال فرعون ومستشاروه اليه يخبرونه بالأمر ، ويحذرونه منه.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)

يبدو لي : أن مرادهم بالفساد في الأرض هو هدم الانظمة التفصيلية ، والكيانات والمؤسسات المختلفة للدولة ، بينما المراد من ترك فرعون هو ترك سلطانه السياسي ، والمراد من ترك الآلهة ترك خلفية هذا النظام السياسي والثقافي.


[١٢٨] وحين استخدم فرعون سلاحه الأخير ، وأراد تصفية المستضعفين جسديا ، أمر موسى قومه بالاستعانة بالله ، ويتساءل المرء : ما هي الاستعانة بالله؟

ونعرف الاجابة إذا تذكّرنا بأن لله الأسماء الحسنى ، وحين يؤمن العبد بربه يسعى لتجسيد ما استطاع من تلك الأسماء في ذاته ، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وحين يتصل العبد بالله تتجلى فيه صفة العزة الالهية ، كما تتجلى فيه صفة القدرة ، وعدم الخضوع لضغوط الشهوات ، أو الاستسلام للمتغيرات الآنية العاجلة ، وبقدر ذلك تتجلى فيه صفة الرحمة والشدة والحكمة والعلم و.. و..

وكلما زادت الأسماء الالهية الحسنى في المؤمن تجليا وظهورا كلما أصبح أقدر على مواجهة المصاعب وتسخير الحياة ، والله سبحانه خلق لعباده وسائل للتقرب اليه ، وللاتصال بينابيع قدرته وعظمته ، والأخذ بتلك الوسائل هو الاستعانة بالله ، فكلما تمسك المؤمن بتلك الوسائل كلما أصبح أشد قدرة وأكبر عظمة ، والتقوى هي جماع تلك الوسائل ، أما تفاصيلها فهي تلك المناهج التشريعية المعروفة في الإسلام وفي سائر الرسالات.

ومن أبرز تلك الوسائل هي : الولاية الالهية التي تتجلى في القيادة الرسالية النابعة من المبدأ ، حيث ان الاستعانة بالله تعني بالضرورة المزيد من التمسك بهذه القيادة ، وتوحيد الجهود تحت رايتها ، لذلك فحين أمر موسى (عليه السلام) قومه بالاستعانة بالله كان يعني كل ذلك ، ولكن مع ذلك ركّز موسى (عليه السلام) على صفتين أساسيتين هما : الصبر والتقوى ، الصبر لرؤية المستقبل والاستقامة على مشاكل الحاضر ، والتقوى للالتزام بكل المناهج المفصلة التي تضمن تفجير الطاقات ، واستغلال المواهب ، وتربية الشخصية الرسالية العاملة ، وبالتالي توفير كافة عوامل النصر في الفرد والمجتمع الرسالي من عوامل مادية أو معنوية .. من هنا :


(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

ومعرفة هذه الحقيقة وهي : أن السلطة الحاكمة ليست أبدية ، وإنما هي نتيجة عوامل ومعادلات سياسية اجتماعية ، وانه لو غيرنا المعادلة والعوامل سقطت السلطة ، وجاء بديلها السلطة الأكثر قوة وكفاءة ، وهي حكومة المتقين ، معرفة هذه الحقيقة تفجر طاقات الجماهير المستضعفة وتعطيها الأمل والصمود.

[١٢٩] وأما قوم موسى فقد طفح كيلهم ، وكاد اليأس يحيط بقلوبهم حيث :

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)

ولكن حين تفقد الامة قدرة الاحتمال من شدة الضر الذي يصيبها ، وحين تتضرع الى الله وينقطع أملها من النجاة بالوسائل الاصلاحية المتدرجة ، وتعرف أن تغييرا جذريا في شخصيتها وفي علاقاتها مع بعضها ومع الطبيعة أنه الكفيل بنجاتها ، وهذا لا يمكن إلّا عن طريق الايمان بالله وبرسالاته ، حينذاك فقط تنزل عليها رحمة الله سبحانه لذلك ذكرهم موسى و..

(قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)

والانتصار إنما هو بهدف الامتحان ، وعلى الأمة ألّا تفكر في ذلك الانتصار الرخيص الذي هدفه استعلاء طائفة ، واستكبار فريق مكان فريق آخر ، بل تفكر سلفا أن الانتصار لا يحصل لفريق أو لحزب أو لطائفة بل للمبدأ ، وتعمل الأمة في هذا المجال حتى تنجح بإذن الله.

لذلك فان الحركات الحزبية التي همها انتصارها هي لا انتصار الأمة ، تفشل في الأكثر ، لأن الله لا ينصر أمة إلّا بعد أن تتضرع إليه ، ويكون هدفها رساليا خالصا.


وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ

____________________

١٣٥ [ينكثون] : انكث نقض العهد الذي يلزم الوفاء به.


كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)

____________________

١٣٧ [يعرشون] : يبنون ، يقال عرش مكة أي بناؤها.

١٣٩ [متبّر] : مهلك مدمر.


وهكذا نصر الله عباده بالغيب

هدى من الآيات :

وهذا مشهد آخر من مشاهد الصراع بين الرسالة والرجعية الجاهلية ، حيث إن الله أراد أن يهدي آل فرعون عن طريق كسر غرورهم ، وتذليل نفوسهم المستكبرة بالمصائب والمشكلات ، ولكنهم استكبروا وكانوا يزعمون أن الخير والرفاه هو الأصل في حياتهم وهو منهم ، وأما الشر والمصائب فهي من نحس موسى (حاشاه) ولم يكونوا يشعرون بأن كل خير أو شر انما هو من عند الله ينزله بسبب أعمال العباد.

وحين لم تنفع هذه الوسيلة في هدايتهم ، بل صرحوا بأن الآيات هذه (سواء العصى واليد البيضاء أو المصائب والمشكلات كالجدب ونقص الثمرات) لا تجديهم نفعا ، وأنهم لن يؤمنوا بالرسالة مهما كان ، آنئذ أخذهم بالعذاب.

ولقد أرسل الله عليهم الطوفان ، وانتشر فيهم الجراد والقمّل والضفادع والدم بأمر منه سبحانه وكانت هذه الآيات مفصلة وواضحة ، لكنهم استكبروا عنها وكانوا قوما مجرمين ، فاذا كانوا فاسدين فكريا وعمليا.


إنهم كانوا يتوسلون بموسى كلما يقع عليهم الرجز ، ويصيبهم العذاب ، ويتعهدون له بالايمان لو كشف الله عنهم الرجز ، ولكنهم كانوا ينكثون كلما كشف الله عنهم العذاب لأجل محدّد.

وكانت تلك المصاعب والمصائب تستهدف هدايتهم ، ولكن حيث كفروا واستكبروا حان وقت الانتقام والعذاب ، فأغرقهم الله في البحر بسبب تكذيبهم وغفلتهم عن آيات الله ، وعواقب التكذيب بها.

بينات من الآيات :

الغرور سبب الكفر :

[١٣٠] سبب كفر الإنسان وتكذيبه بآيات الله هو استكباره وغروره ، وكلما كانت حضارة الإنسان ومدنيته وغناه أكثر كلما كان غروره أكبر.

ولكي يكسر الله غرور البشر ، فيرتفع عنهم هذا الحجاب الكثيف فيرون الحقيقة ، فانه يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويحذرهم ، ويعمل بكل طاقته في سبيل إثارة فطرتهم ، وتنوير قلوبهم ، وإيقاظهم من السبات ، ولكن إذا ظل أولئك كافرين ومستكبرين عن الحقيقة فهنا يتخذ ربنا سبيلا أخر لهدايتهم هو : ابتلاؤهم في أموالهم أو في نفوسهم ببعض البلاء العام ، فاذا لم ينتفعوا بها أيضا أخذهم الله بالعذاب الشديد ، لذلك أخبر الله عن آل فرعون وقال :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ)

ايّ بالقحط والجدب ، وكانوا قبل ذلك مغرورين بالأنهار التي تجري من تحتهم ، وبالنيل الذي فجر الله به خيرات الأرض لهم.


(وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ)

كان المطر يملأ مراعيهم خضرة ، ويملأ نيلهم ماء فيسقي البساتين فتزداد الثمرات ، ولكن حين قلّ المطر أصبحت الصحاري جفافا والبساتين يابسة.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)

فيعرفون أن هذه المدنية ليست من ذاتهم بل من الله سبحانه.

[١٣١] البشر قد يغفل وقد ينام وقد يغمى عليه ، ولكنه بالمعالجة يتذكر ويستيقظ ويحس ، أمّا الذي فسدت رؤيته وانحرفت ثقافته فانه لا تنفع معه المعالجة ، فمثلا : البشر العادي حين تراه قد استغنى ولا يحتاج الى أحد يستبد به الغرور والاستكبار ، ولكن إذا فقد سبب غروره وافتقر عادت نفسه الى حالته الأولية وتقبّل الهداية.

أما البشر المعقد الذي تحضّر واستبدت به ثقافة خاطئة ، وفقد فطرته الأولية ، فان تلك الثقافة تبقى معه حتى بعد رحيل النعم عنه ، وعودته الى الحالة الطبيعية ، فلا يزال مغرورا بذاته وبمنجزات آبائه وبمكاسبهم ، لذلك لا يصدق نفسه حتى أن نزل عليه البلاء ، بل ويزعم ان هذا البلاء انما سببه بعض الطوارئ الخارجة عن إرادته ، وانه استثناء ، إذ يزعم أن الحضارة جزء من ذاته ، ومعلولة عن عنصره ، وعن بلده وعن أفكاره ، لذلك ترى قوم فرعون ينسبون الحسنة الى أنفسهم والسيئة الى موسى (عليه السلام).

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)

يقولون ان السيئة انما هي بسبب موسى ، كما تنسب الأنظمة الفاسدة اليوم المشاكل كلها الى الحركات الثورية ، حيث تزعم انها ـ دون فساد أنظمتهم ـ


سبب التخلف الاقتصادي والتبعية والإرهاب وما أشبه.

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

المشاكل ليست بسبب هذه الحركة أو تلك الفكرة ، وإنما بسبب النظام ذاته وبسبب فساد الأعمال ، والله هو الذي يقدر الخير والشر ، والحسنة والسيئة حسب قوانين دقيقة وثابتة عند الله سبحانه ، يجريها ربنا بحكمته البالغة وبعلمه النافذ ، ومعرفة هذه الحقيقة تعطي البشر قدرة على التحكم في الحياة.

التطرّف في الكفر :

[١٣٢] وبلغ الكفر والجحود بآل فرعون حدّا بنوا بينهم وبين الحقيقة سدّا منيعا من الجحود ، وتشبثوا بسلسلة من الأفكار المخدرة التي تفسر كلّ آيات الحقيقة ومعالمها ببعض التفسيرات الباطلة.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)

فموسى (عليه السلام) لا يزال عندهم ذلك الساحر العليم الذي يعرف كل وسائل السحر ، وهدفه ليس هداية البشر بل تسخير الناس لأهدافه الخاصّة ، لذلك فهم مصرّون على الكفر به ، وبآياته أنى كانت واضحة.

وهذه المرحلة السحيقة من الكفر هي أخطر دركات السقوط ، حيث يصنع الفرد لنفسه تابوتا من المسلمات الفكرية ويصمم على الاحتفاظ بها أنّى كان الثمن ، إنه عين الضلالة وقمة التعصب الأحمق.

على الإنسان أن يبقى أبدا مفتوح العين ، يقظ الضمير ، نابه الروح ، ولا يقتل وجدانه تحت مطرقة شهواته ، ولا يعمي عينه بمسامير بغضه وحقده ، ولا يميت ضميره


بحب أو بغض.

إن كثيرا منا يزعم انه إذا فتح عينه مرة واحدة ، واتّخذ طريقا لنفسه يستطيع أن يبقى على ذات الطريق الى الأبد ، ويستغني عن عينه ، ولكن كلا .. إن عقل الفرد يتكامل ، وروحه تكبر حتى تتسع لمزيد من الحقائق ، وفكره ينمو ، والعالم يتغير ، وآيات الحقيقة تترى .. ولذلك فعلى الإنسان أن يبقى أبدا على يقظة وانتباه ، ويستغل كلما لديه من وسائل اكتشاف الحقيقة من عقل وضمير.

[١٣٣] ولأن آل فرعون افقدوا أنفسهم نعمة البصيرة ، واختاروا التفسير الخاطئ لكل الحوادث ، فان الآيات المختلفة التي توالت عليهم لم تزدهم إلّا رسوخا في الكفر ، وتوغلا في الجحود ، لذلك أرسل الله عليهم الطوفان ففاضت أوديتهم حتى دخل الماء بيوتهم ، فنصبوا الخيام في الصحراء ، ثم أرسل الله عليهم الجراد فأكلت محاصيلهم الزراعية ، وانتشر فيهم القمّل ، والحشرات ، والضفادع التي توالدت بسرعة في برك الماء المكونة من الفيضانات ، وابتلوا بالدم ربما بسبب الرعاف أو بعض الأمراض الآتية بسبب بعض الجراثيم (كما قال بعض المفسرين) ولكن كل ذلك لم ينفعهم علما وهدى.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا)

وتعالوا عن الحقيقة ، وزعموا أن ذواتهم هي أعلى من الحقيقة ، وأرادوا تغيير قوانين الكون حسب أهوائهم ، لا تزكية ذواتهم حسب أنظمة الكون.

(وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)

حيث انهم ظلموا أنفسهم باستكبارهم عن الحقيقة ، إن تقدم البشر في أي حقل


من حقول الحياة انما هو رهن بمعرفة أنظمة الكون ، واستغلال هذه المعرفة من أجل تسخير الحياة ، وتبدأ مسيرة البشر القهقرى حين يستهين بهذه الأنظمة ، ويتعالى عنها فيظلم نفسه بذلك.

كذب واستكبار :

[١٣٤] ولقد أتمّ الله حجّته على آل فرعون بتلك المصائب التي توالت عليهم ، إذ ان البلاء يكشف الحجب الكثيفة التي يجعلها الفرد على عينيه مثل : التعصب ، والحقد ، والحب المفرط ، ولكن إذا انكشف البلاء عادت الحجب ، وعادت مشكلة الجحود.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ)

وهو العذاب الآتي بسبب الانحراف ، والشذوذ في الطبيعة أو في السلوك.

(قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ)

إن نظرتهم المادية الضيقة لم تزل لاصقة بأذهانهم ، إذ انهم لا يزالون يزعمون أن الهدف من بعثة موسى هو الانتفاع من وجوده في كشف الضر عنهم ، ولم يفقهوا دور المعنويات في حياة البشر ، وأن رسالات الله تنفع البشر في رفع معنوياتهم ، ووضع برامج صائبة لهم ، وليس فقط في دفع البلاء الذي يصيبهم بسوء أعمالهم ، أما آل فرعون فقد كانت نظرتهم الى الدين والى حاملي رسالته كنظرة كثير منا حيث نريد الدين لمصالحنا الذاتية لذلك قالوا :

(لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ)

والرجز يكشفه الله بالتوبة والعمل الصالح ، ولكنهم نسبوا الأمر الى موسى (عليه السلام) لقصر نظرهم.


(لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

[١٣٥] ولكن هل كانوا يصدقون؟ كلا ..

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)

عهدهم ويعودون الى سابق كفرهم وجحودهم ، وعند ذاك تكتمل حجة الله عليهم ، إذ لا يمكنهم في يوم الانتقام التعلل بأنهم إنما كفروا غفلة أو جهلا ، فقد عرفوا الحقيقة ولجؤوا إليها ، وتعهدوا بالوفاء لها عند ما أحاط بهم البلاء ، والآن ينقضون العهد ، وهذه التجربة يمر بها كل فرد وكل مجتمع ، حيث إن الله سبحانه يأخذ البشر بالبأساء والضراء لكي يرفع عن أنفسهم حجب الغفلة والنسيان ، ولكي يحتج عليهم لو عادوا الى الكفر بعد الايمان في أوقات العسرة.

سوء المصير :

[١٣٦] وحان ميعاد الانتقام ، وأغرق الله آل فرعون في البحر بسبب تكذيبهم بآيات الله ، وبالتالي بالحقائق التي وراءها ، وبسبب غفلتهم عنها وعن دورها في سعادتهم وخلافتهم.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)

[١٣٧] وكما انتقم الله من آل فرعون لتكذيبهم بآيات الله ، أنعم الله على بني إسرائيل لتصديقهم بها ، وأورثهم الأرض المباركة ذات الخيرات الوفيرة.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ)

ويقهرون من قبل فرعون وقومه ، وهم بنو إسرائيل ، أورثهم الله.

(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى


بَنِي إِسْرائِيلَ)

كل ذلك بسبب تصديقهم بالحقيقة تصديقا نظريا وعمليا ، والشاهد على تصديق بني إسرائيل بالحقيقة هو صبرهم واستقامتهم.

(بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ)

من خزف ، وصور ، وأسلحة ، وأدوات ، وأمتعة .. و.. و..

(وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)

من بنايات فخمة ، وحدائق ، وحقول ، وتماثيل ، وبالتالي دمّر الله أموالهم المنقولة وغير المنقولة بسبب كفرهم ، وهكذا ينتقم الله للحقيقة.


وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)


بنو إسرائيل والردة الجاهلية

هدى من الآيات :

أفضل ساعات البشر وخير أيامه إيمانا وهدى هي ساعة عسرته ، ويوم بؤسه ، لأنه لا يستكبر هنالك على الحقيقة ، ولا يغتر بما لديه من قوة ومنعة ، وكذلك أفضل مراحل الأمة هي مراحل الثورة حيث تتعرض للضغوط وتتحدى الصعاب.

وبنو إسرائيل حين تعرضهم للاستضعاف من قبل آل فرعون وقومه استقاموا على الطريقة وصبروا ، ولكن بعد أن أنجاهم الله ، وأورثهم الأرض دفعهم ضعفهم السابق وذلتهم الى محاولة تقليد الآخرين في عبادة الأصنام وفي مظاهر الدنيا ، فحين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنما كما لأولئك القوم ، فذكرهم موسى بأنه لا مستقبل لعبدة الأصنام ، وأن عملهم باطل ، وانه كيف يبحث لهم عن إله غير الله وهو فضلهم على العالمين ، بما أنعم عليهم من التوحيد والنصر ، ثم ذكرهم أيامهم السابقة ، حيث كانوا يتعرضون لأنواع العذاب على يد فرعون ، ومنها تقتيل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، وأن ذلك


كان بلاء عظيما ، وتزكية لنفوسهم ، وحين أنجاهم الله يعودون للكفر.

ويمكننا أن نستلهم من هذه القصة كيف أن الأمم تفسد بعد الإصلاح ، وكيف أن التوجيه ينفعها ، وأنّ السقوط ليس سنة حتمية.

بينات من الآيات :

الكفر بعد الايمان :

[١٣٨] هيّأ الله أسباب النجاة لبني إسرائيل ، تلك الأمة الفتية التي تستعد الآن لبناء حضارتها بعد تخلصها من سلطة الطاغوت ، فتركوا أرض مصر باتجاه فلسطين بعد أن هيأ الله لهم أسباب العبور على البحر ، وقبل أن تجف أقدامهم من آثار العبور أصيبوا بنكسة إيمانية ، حيث مرّوا على قوم يعبدون أصناما لهم فطالبوا موسى (عليه السلام) وهو رسولهم وقائد مسيرتهم باتخاذ إله لهم كما لأولئك القوم.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)

إن بني إسرائيل كانوا يعيشون تحت سيطرة الطاغوت سياسيا وثقافيا ، وكانت علاقاتهم الاقتصادية ببعضهم منسوجة حسب تلك السيطرة ، وقام موسى (عليه السلام) والمؤمنون من أصحابه بتفجير ثلاث ثورات متتالية لانقاذ قومه من السيطرة ـ السياسية ، فالثقافية ، فالاقتصادية ـ (وقد سبق الحديث عن ذلك في تفسير سورة البقرة) ويبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة الثقافة التي تحمل أيضا في طياتها تصفية آثار السيطرة السياسية أيضا.

إن قوم موسى عاشوا ردحا طويلا من الزمن وهم يعانون الذل والخضوع والاستسلام للآخرين ، وكانت السياسة الطاغوتية لفرعون هي التي فرضت عليهم


هذه الحالة ، ولكنهم على أيّ حال تأثروا بها نفسيا ، فحين أنقذهم الله غيبيا بقيت آثار تلك السيطرة عالقة بنفوسهم ، ولم يقدروا على ممارسة حريتهم والحضور في ساحات الحياة ، واتخاذ القرارات المناسبة فيها اعتمادا على أنفسهم ، لذلك حنّوا الى حالتهم السابقة فطالبوا موسى باله ـ كما لهم آلهة ـ والإله هو السلطان الاجتماعي والسياسي والثقافي ، ورمز هذا الإله هو الصنم ، وبنو إسرائيل في هذه الصفة كانوا تماما مثل الشعوب التي تتحرر من الاستعمار السياسي ، ولكنها تقلد الغرب والشرق في أنظمتها وثقافتها ، وكأنها تخرج من الاستعمار القسري وتعود الى الاستعمار اختياريا ، وذلك لاستمرار قابلية الاستعمار في أنفسهم.

أما موسى (عليه السلام) فقد شرح لقومه أولا العامل الداخلي لهذا الطلب وهو الجهل وقلة الوعي.

(قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)

[١٣٩] وبين لهم ثانيا : ان وضع هؤلاء هالك ولا دوام له ولا استمرار ، إذ أن الوضع الفاسد لا يملك رصيدا واقعيا ، كشجرة مجتثة من فوق الأرض ، ظاهرها شجرة ، وواقعها حطبة.

وبين ثالثا : أن العمل الذي يقوم به الإنسان في اطار النظام الفاسد هو عمل باطل ، وينتهي الى الدمار حتى ولو كان ظاهر العمل حسنا ، مثلا : ظاهر البناء أنه عمل جيد ، ولكن إذا كان المهندسون والبناؤون ومصانع الحديد ومعامل الاسمنت كلها تعمل من أجل بناء معتقل أو قاعدة صاروخية تقذف المستضعفين فان هذا العمل تخريب وليس بناء ، كذلك كل عمل لا يكون ضمن اطار صالح أو هدف مقدس فانه باطل وينتهي ، لذلك قال موسى (عليه السلام) لقومه :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)


العبودية لله تحرر الإنسان :

[١٤٠] ثم بعد أن وضح فساد الوضع الذي يدعون اليه ، شرح لهم موسى بأن الرب الذي أنقذهم من سلطان فرعون ، وحررهم من الطاغوت خير لهم مما يدعون اليه.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

إن الله فضلهم بالحرية والعلم ، وأن يقودوا أنفسهم بعيد عن ضغوط الطاغوت ، وهم يريدون العودة الى العبودية.

إن البشر حين ينفي الوهية أيّ شيء أو أيّ شخص من دون الله سبحانه فسوف يكون محررا ، مسلطا على نفسه بقدر ما يأذن الله له.

[١٤١] والله سبحانه هو الذي أنجاهم من آل فرعون وبطشهم وقهرهم بالتوحيد ، وإن فكرة التوحيد التي أنقذتهم من تلك الورطة ، أولى بالاتباع من تلك الثقافات الجاهلية التي سهلت استعبادهم واستغلالهم.

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

أي يحمّلونكم الإرهاب والعذاب.

(يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

وهل هناك نعمة أفضل من التحرر من إرهاب الطاغوت وسيطرته ، وكم يكون البشر غبيا لو أراد العودة الى العبودية بعد الحرية ، والتعاسة والبؤس بعد الرفاه والراحة.


إن استمرار حالة الثورة التي رافقت نجاة الأمة من الطاغوت هو أفضل وسيلة للخلاص من عوامل الانتكاس في الثورة ، وهذا ممكن مع تذكر أيام الطاغوت وكيف تغيرت.


وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي

____________________

١٤٢ [ميقات] : الفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدّر ليعمل فيه عمل من الأعمال ، والوقت الشيء قدره ولذلك قيل مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت للإحرام فيها.

١٤٣ [تجلى] : التجلي الظهور ، ويكون تارة بالظهور وتارة بالدلالة.

[صعيقا] : مغشيا عليه.


وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)

____________________

١٤٥ [الألواح] : اللوح صحيفة مهيأة للكتابة فيها.


تنمية روح الايمان بالله

هدى من الآيات :

وواعد الله موسى ثلاثين ليلة لميقاته ، وذهب موسى الى الميقات بعد أن وصّى أخاه هارون تلك الوصايا المؤكدة ، التي كان الرسل (عليهم السلام) يوصون بها قومهم باتباع سبيل الإصلاح ، وترك سبل المفسدين ، وجاء موسى لميقات ربه وهو يحمل رجاء قومه بالنظر الى الله ، فلما كشف لربه عن هذا الطلب الغريب النابع عن جهل الناس بالله وبصفاته الحسنى ، أمره ربه بالنظر الى الجبل فان استقر مكانه فقد يكون لكلامه وجه ، ولكن الجبل تدكدك وخرّ موسى صعقا ، وأغمي عليه من هول المنظر ، ولما أفاق قال سبحانك أنت منزه عن هذا الطلب وأنا أول المؤمنين بك ، وربما كانت تلك هي البداية الظاهرة للثورة الثقافية التي يقوم به الرسل بعد وقبل السيطرة على السلطة ، حيث إن الله سبحانه أوحى الى موسى (عليه السلام) برسالاته ، وأنه كلّمه من دون الناس تكليما ، وأن عليه أن يأخذها بقوة ، وان يمتلأ قلبه رضا بها وشكرا ، حتى يدافع عنها بكل قوة.


وكتب الله لموسى في تلك الألواح التي أنزلها ما ينفع الناس من كل شيء ، وفي كل حقل ، وذلك بهدف تزكية الناس ، وبيان تشريع مفصل لهم ، وأمره بالدفاع عن هذه الرسالة ، وأن يبلغها قومه حسب الظروف المختلفة ، ففي كل ظرف يعملون بأحسن ما في الرسالة ، وأكثرها تطبيقا على ذلك الظرف ، وحذّره من الفسق وعدم تطبيق بنود الرسالة ، وقال له سأريكم دار الفاسقين.

بينات من الآيات :

حكمة الغيبة :

[١٤٢] مع انتصار بني إسرائيل تلك الفئة المستضعفة التي آمنت بموسى وبرسالته الاجتماعية ، ازداد تعلق الجماهير بقائدهم موسى (عليه السلام) تعلقا شخصيا ، وكان من الضروري تحول هذه العلاقة من شخص موسى (عليه السلام) الى رسالته وقيمه ليستمر خطه من بعده وربما لذلك غاب موسى (عليه السلام) بأمر من ربه عن قومه أربعين ليلة ، وكانت غنية ـ كما سيأتي في الدرس القادم ـ بامتحان عسير لقومه ، كشف ما بهم من نقاط ضعف ثقافية واجتماعية ، وأعطى لموسى (عليه السلام) فرصة كافية لتربيتهم وهدايتهم.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)

وسيأتي في الدروس القادمة حكمة إتمام الثلاثين بعشر.

(فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)

أما وصية موسى (عليه السلام) لخليفته وأخيه هارون فكانت هي ضرورة المحافظة على الإصلاح.

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ


الْمُفْسِدِينَ)

لقد سبق الحديث عن أن الأمم في بداية انطلاقها تهتم بالبناء والانتاج والإصلاح ، أما بعدئذ فانها تقوم بالاستهلاك والهدم والفساد ، وعندها كان الرسل (عليهم السلام) يحذرون الناس من الفساد ، فأوصى موسى أخاه بهذه الوصية عند ما تخلص بنو إسرائيل من الطاغوت ، وخفّ عندهم شعورهم الثوري السابق.

ويتبين من الآية كما من سائر الآيات : أن قوم موسى (عليه السلام) كانوا فريقين ، مصلحين ومفسدين ، وكانت تجربة غياب قائدهم ومنقذهم كافية لفرز هذين الفريقين ، وبالتالي تزكية المجتمع عن طريق تصفية فريق المفسدين.

من أين تبدأ الثورة الثقافية؟

[١٤٣] لا يزال بنو إسرائيل تلك الطائفة التي عاشت فترة طويلة في ظل الطاغوت ، وتعرضت لعمليات غسل الدماغ من قبل السلطة الظالمة ، لا تزال هذه الطائفة تحمل رواسب الماضي بعد تحررها ، ولا بدّ من تفجير ثورة ثقافية فيها ، ولكن من أين تبدأ هذه الثورة؟

الثورة تبدأ من إصلاح جذر مشكلة الثقافة عند البشر ، حيث إن الإنسان يحن نحو الماديات الظاهرة ، وينسى المعنويات ، ويغفل عن الغيب ، يغفل عن غيب القيم ، وعن قدرة الله وحكمته ورحمته ، يغفل عن المستقبل وما فيه من امكانيات ، ويلتجئ الى الظواهر في الحاضر ، الى ما يشاهده من قوة السلطة الجبارة ، وما يراه من امكاناته الحالية ، فيخضع لها ، ويستسلم لاتجاهها.

ورسالات السماء توجه الناس الى الله ، الى غيب الغيوب ، الى ملهم القيم ومالك المستقبل ، الى مبعث الأمل المشرق ، وإذا تعلق الإنسان بالله (الغيب) فانه


يتخلص من كل رواسب الثقافة المادية ، لذلك بدأ الله في إصلاح قوم موسى (عليه السلام) انطلاقا من هذه النقطة ، حيث كان قوم موسى يلحون عليه بأن يريهم ربهم ومرة قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، ومرة صنعوا لأنفسهم عجلا وزعموا انه هو إله موسى وهكذا ، لذلك راح موسى يدعو الله أن يريه نفسه وهو يعلم ان الله لا يرى.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)

هدف المعجزة :

هناك فكرة تقول : بأن كثيرا من طلبات الرسل ، بل وكثيرا من أوامر الله لهم ، تهدف تبليغ الرسالة بطريقة صارخة ، حين أمر الله نبيه إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه كانت الحكمة من وراء ذلك نسخ عادة جاهلية معروفة آنئذ وهي ذبح الأبناء لله أو للأصنام ، ولكن حين أمر إبراهيم بذبح ابنه ولم تعمل السكين ، كانت تلك المعجزة أبلغ أمرا في النفوس ، وأقدر على نسخ هذه العادة من الموعظة الكلامية ، وكذلك حين طلب موسى (عليه السلام) من ربه بأن ينظر اليه ، كانت دعوته هذه بهدف صنع واقعة عينيّة تذهب مثلا في الآفاق ، وتتناقلها الألسن ، حتى تنتزع من النفوس جذور المادية ، ولذلك طلب موسى (عليه السلام) المستحيل وهو رؤية ربه وتجلى الله للجبل وجعله دكا متهاويا على نفسه ، ووقع موسى مغشيا عليه.

(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)

ويبقى السؤال : ما هي مناسبة اندكاك الجبل مع استحالة النظر الى الله؟

والجواب : أن قدرة الإنسان محدودة بشكل انه لا يتحمل رؤية جبل يندك ، وهو


أهون شيء في ميزان قدرات الله سبحانه التي لا تحد فكيف يرى الله؟ وينظر اليه؟ وهو مبعث القدرة والحكمة والرحمة والعظمة و.. و.. وبالتالي الأسماء التي لا تعد ولا تحصى ، فكيف يراه البشر المحدود. الذي يتناهى في ضعفه ومحدوديته؟ (سبحان الله)؟!

[١٤٤] وحين ترسو قاعدة التوحيد الراسخة على أساس الايمان بالغيب ، فان بناء الثقافة الأصيلة والتشريع السليم سيكون قويا ورفيعا ، لذلك فان ربنا أوحى الى موسى (عليه السلام) برسالاته التي تمثل الثقافة والتشريع.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي)

وعبر الرسالة اصطفى الله القيادة السليمة المبدئية التي تجسد الولاية الالهية في الأرض ، وميّز هذه القيادة بكلامه سبحانه المباشر لها ، ولكنه أمر موسى (عليه السلام) في المقابل بحراسة رسالاته ، والعمل بها ، والشهادة لها ، وأيضا الاطمئنان إليها والرضا بها ، والاحساس بأنها نعمة كبيرة يجب ألّا يفرط بها أبدا.

(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

محتوى رسالات الله :

[١٤٥] ما ذا كان في رسالات الله وكتبه؟

كان فيها أولا : رسالة متكاملة بالنسبة الى كافة شؤون الحياة في الثقافة والسياسة والاقتصاد و.. و..

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)

ثانيا : كان في الكتب موعظة لتزكية نفوس البشر ، واثارة عقولهم ، واستجلاء


فطرتهم.

ثالثا : كان فيها تشريع مفصل للحياة ، ولتلك السبل التي يهتدي إليها العقل والفطرة.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ)

أيّ اتبعها وأنت قوي الارادة ، لتتحدى الضغوط التي تترى عليك من اتباع هذه الرسالة من لدن ذاتك وشهواتك ، أو من جانب المجتمع المحيط بك.

إن أهم ميزة في القيادة هي : الثقة بالرسالة التي تحملها ، والاعتماد عليها ، مما يستقطب ثقة الجماهير بها وبالرسالة.

أما الجماهير فان اتباعها لتلك المناهج لا يكون اتباعا أعمى ، بل سوف يكون اتباعا واعيا بعد دراسة الظروف المحيطة بها ، ليعرفوا أيّ منهج هو الأقوم في هذا الظرف أو ذاك ، وكذلك بعد دراسة الحكم ذاته وهل جاء دائما أو خاصا بظرف معين؟

(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها)

ان تقييم الأحسن من الحسن إنما هو وظيفة الأمة ، ومن هنا يدخل الوعي والعقل في الساحة.

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)

الذين لا يتبعون الأحكام الشرعية كلها ، فان دارهم ستكون مهدمة على رؤوسهم ، وتلك عبرة كافية لكم بألا تعصوا ربكم في مناهجه.


سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)


كيف يضل المتكبّر؟

هدى من الآيات :

انها آيات الله الكريمة التي أوحى بها الى موسى (عليه السلام) ، إنها كانت وسيلة لاختيار الله موسى (عليه السلام) قائدا وإماما لقومه ، بيد أن الله حذّر قوم موسى من التهاون في الأخذ بدساتير الله ، وحذرهم بأن ذلك سيهدم دار الفاسقين الذين يعصون أوامر الله ، وبيّن في هاتين الآيتين ان الفسق قد يكون شخصيا فيهدم دار الفاسق ، وقد يكون اجتماعيا فانه سوف يسبب في الهلاك وحبط الأعمال ، والفسق الاجتماعي يتمثل في هدف المجتمع ككل ، إذا كان هدفا باطلا نابعا من التكبر بغير حق ، ومحاولة السيطرة على الآخرين ، إذ ان ذلك سوف يسبب في الكفر بالآيات ، وقلب المقاييس الفطرية ، حتى يصبح الرشد غيا عندهم ، والغي رشدا ، كل ذلك بسبب التكذيب بآيات الله والغفلة عنها.

هذا من الناحية الفطرية ، أما من الناحية العملية فان أعمال هؤلاء تحبط ولا تنفع شيئا ، لأنها تسير في الاتجاه الباطل ، حتى ولو كان العمل صحيحا من الناحية


الجزئية ، إلّا أنه بسبب وقوعه في سلسلة الأعمال الخاطئة والفاسدة ، فان تلك الأعمال سوف تغطي على حسنات هذا العمل الجزئي ، كما أنه لو كانت مجمل أعمال الفرد أو المجتمع صحيحة فان هفواته الجزئية تغفر له ، لأن الحسنات يذهبن السيئات.

بينات من الآيات :

طريق الانحدار :

[١٤٦] كما السيارة إذا وضعت في طريق منحرف تعمل كل أجزائها في ذلك المسير وبصورة منحرفة ، حتى إذا كانت سليمة بحد ذاتها وغير معطبة ، كذلك المجتمع إذا توجه نحو تطلعات خاطئة ، فان كل أعضائه تعمل في ذلك الطريق وبصورة خاطئة.

التطلع السليم للمجتمع هو بناء ذاته ، والتعاون على الخير مع سائر المجتمعات ، أما إذا تكبر في الأرض ، وتطلع نحو استعباد الآخرين واستثمار طاقاتهم ، فانه ليس فقط ينحرف في هذه الجهة ، وفيما يخص علاقاته بالآخرين فحسب ، بل سوف ينحرف بكل أبعاده حتى فيما يتصل بعلاقاته الداخلية ، ذلك لأن الله لم يجعل في جوف الناس قلبين ، إنما هو قلب واحد فاذا كان متكبرا باحثا عن المجد الذاتي ، متخذا نفسه وليس الحق محورا ومعيارا ، فان كل تصرفاته ستكون مصبوغة بصبغة التكبر.

لذلك لا يكون الفرد مؤمنا وعاملا بآيات الله ورسالاته إذا تطلع نحو استعباد الآخرين ، وتكبر في الأرض بغير الحق ، وأراد أن يتعالى بما لا يحق له.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)


يبدو لي : أن كلمة الآيات هنا تعني الآيات التشريعية حسب السياق ، حيث كان الحديث في الآية السابقة حول رسالات الله وكلامه.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها)

والآية هنا ـ حسبما يبدو لي ـ تعني الآية التكوينية مثل المعاجز ، وعبر التاريخ ، والتطورات التي تبيّن الحقائق وهكذا لان القلب المتكبر لا يبحث عن الحقيقة ، بل عما يخدم ذاته ، ويشبع غروره ، ولذلك فهو لا يلتفت الى الحقائق ولا يهتم أو يؤمن بها حتى إذا رآها رأي العين ، وهو كذلك لا يبحث عن الطريق السديد لأنه قد انحرف بوعي وإصرار.

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً)

إنهم منحرفون ولذلك فهم يبحثون عما هو منحرف.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)

إن تكذيبهم الأول بآيات الله جعلهم ينصرفون عن الحقائق ، ويغفلون عن أهمية الآيات التشريعية ، إن البشر ينحرف أول ما ينحرف بسبب اختياره السيء ، ولكنه ينحدر بعدئذ نحو الكفر والجحود بصورة أقرب الى اللااختيار ..

العاقبة في الحقل العملي :

[١٤٧] تلك كانت عاقبة المتكبرين الفكرية : أنهم لا يهتدون الى الحقيقة لا عن طريق رسالات الله التي يصرفون عنها ، ولا عن طريق الحقائق والعبر الواقعية ، أما عاقبة المتكبرين العملية فهي : أن أعمالهم الصالحة تحبط بسبب أعمالهم السيّئة ، والتي تكوّن استراتيجيتهم الأصلية دون تلك.


(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

لان الخط العام لحياتهم خط منحرف ، لذلك فان العمل الجزئي لم ينفعهم شيئا ، بل سوف يحبط ولا يؤدي مفعوله ، والواقع أن سبب حبط العمل ليس عدم إيمانهم فقط ، بل لأن عدم الايمان يؤدي بهم الى سلسلة من الانحرافات العملية التي تكون هي السبب لحبط العمل ، لذلك قال ربنا سبحانه :

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)


وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ

____________________

١٤٨ [حليّهم] : الحلي ما اتخذ للزينة من الذهب والفضة.

١٤٩ [سقط في أيديهم] : وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه.


الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)


عجل السامري

ورواسب الجاهلية الفرعونية

هدى من الآيات :

وابتلي قوم موسى في غيابه لمناجاة ربه بالعجل ، حيث اتخذوا عجلا مصنوعا من حليهم وذهبهم إلها ، لقد كان جسدا له خوار وزعم السامري انه إلههم ، ولم يعرفوا أن الرب هو الذي يهدي الناس الى سبل السعادة ، وهذا العجل لا يفعل ذلك ، وهكذا ظلموا أنفسهم وحين انكشفت لهم الحقيقة ندموا وعرفوا مدى الضلالة التي وقعوا فيها قالوا : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وهذا الدعاء يكشف ان قوم موسى تجاوزوا مرحلة الصنمية بعد التوبة.

وعند ما عاد موسى (عليه السلام) من مناجاة ربه غضب ، وكان آسفا كيف عبد قومه العجل ونادى فيهم ، بئسما خلفتموني من بعدي ، أهكذا ينقلب الناس بعد غياب قادتهم ، وألقى موسى الألواح التي كانت برفقته وفيها رسالات الله ، ألقاها جانبا لأنها لا تنفع قوما تركوا الايمان الى الشرك ، وأخذ برأس أخيه هارون وهو يستفسر منه الوضع ، ويسحبه من ذلك القوم الضال ، ولكن هارون (عليه السلام)


وضح له الحقيقة وهي : أن قومه استضعفوه ، وأنهم همّوا بقتله ، ولذلك فهو أنقاهم حتى يعود موسى (عليه السلام) وطلب هارون من أخيه بألا يشمت به الأعداء ، ولا يجعلهم يفرحون بمعاملة موسى لأخيه المعارض لهم ، كما طالبه بألا يفسر سكوته الظاهر بأنه نابع من رضاه بالوضع ، كلا .. بل إنه كان سكوتا غاضبا بانتظار الفرج القريب.

بينات من الآيات :

لماذا العجل؟

[١٤٨] لماذا عبد بنو إسرائيل في غياب موسى الى الطور العجل ، واتخذوه إلههم؟

يبدو أن رواسب الجاهلية الفرعونية التي عاش بنو إسرائيل في ظلها قرونا ، والتي كانت تعبد العجل وتتخذ منه رمزا للرخاء الزراعي ، إنها كانت السبب في صناعة العجل ، إلّا أن الحلي من الذهب والفضة كانت مادة لهذه الصناعة ، لأن بني إسرائيل حين رحلوا عن أرض مصر حملوا معهم حليهم ، وكانوا يعتزون بها باعتبارها الرصيد الاقتصادي الوحيد الذي كانوا يملكونه ، فحين ظهرت رواسب الجاهلية الكامنة على السطح ، صنعوا من الحلي عجلا ، فهم في الواقع كانوا يعبدون الذهب والفضة والرخاء باعتبار ان شكل العجل يدل على ذلك الرخاء ، وباعتبار أن العجل صنع من الحلي.

وهكذا دلّت الحادثة على ان التحول السياسي الذي حدث في بني إسرائيل لم ينعكس على ثقافتهم ، وكانوا يحتاجون الى ابتلاء ليظهر واقعهم فيعالجه المصلحون ، وربما لذلك واعد ربنا موسى ثلاثين يوما ثم أضاف إليها عشرا حتى يكون الجو مهيئا للسامري بأن يشيع نبأ كاذبا هو : أن موسى قد مات ، ويظهر واقع السامري وما كان ينتظره من موت موسى ليخرج بدعته ، وهكذا وقع السامري في المصيدة المنصوبة.


(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)

الخوار : صوت الثور ، وربما كان السامري قد صنع جسد العجل وهيكله بطريقة معينة بحيث كان يخور إذا دخل فيه الريح ، أو كانت القبضة التي أخذها السامري من أثر الرسول هي التي جعلت العجل يخور.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)

بينما الله كان يكلم موسى تكليما ، وقد فصّل له ولقومه رسالاته التي تهديهم سبل السلام.

(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)

وأيّ ظلم أكبر من الشرك بالله والردّة بعد الايمان ، إن عجل بني إسرائيل كان مثلا للقيادة الباطلة التي كان السامري يسعى من أجلها ، لقد كان العجل يخور ـ كما القيادات الباطلة تنطق بما لا يهدي سبيلا ، وبما لا يوضح علما حقيقيا ـ وكان جسدا هيكلا ولكن بلا روح ، كذلك القيادات الباطلة لا تعطي الأمة روحا معنوية.

[١٤٩] وجاء موسى (عليه السلام) ، وانفضحت الكذبة الكبرى التي اعتمدتها الردّة الجاهلية وهي موت موسى (عليه السلام) ، وندم الجميع وسقط في أيديهم ، وظهرت الحقيقة المخفيّة وهي : أنهم قد ضلوا ، وآنئذ تابوا الى ربهم.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

يبدو لي أن رحمة الله هنا متمثلة في هداية الله التي من دونها يبقى البشر في


الضلالة.

امتحان وفرز :

[١٥٠] كانت عبادة العجل امتحانا عسيرا لقوم موسى (عليه السلام) وتصفية للعناصر الضعيفة والخائنة في المجتمع الرسالي الذي ينبغي أن يقود المجتمعات الأخرى ، ويشهد عليها ، لذلك حين عاد موسى الى قومه كان غضبان أسفا.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً)

يبدو لي ان الغضب هو الرفض الشديد لشيء ما مع القيام بعمل ما من أجل تغييره وإصلاحه وتعويضه ، بينما الأسف هو : ردّ الفعل النفسي تجاه حادثة سابقة قد وقعت خطأ ، وموسى (عليه السلام) كان متأسفا لما وقع عليه قومه سابقا من انحراف وضلالة ، وغاضبا عليهم الآن لما هم فيه من نقص وقلّة فهم ووعي ..

(قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي)

لقد تركت وصيي كقائد لكم وكشاهد عليكم.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)

وأردتم الوصول اليه قبل ميعاده.

إن قوم موسى كانوا لا يزالون في مرحلة الايمان بالحضور والشهود لا بالمستقبل والغيب ، وهذا كان أحد العوامل لتسارعهم الى عبادة العجل باعتباره إله موسى ، كما كان السبب في طلب فريق منهم رؤية الله بأعينهم.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)


كان موسى يحمل معه الألواح التي فيها موعظة وهدى ، فاذا به يرى قومه قد شكّوا في أصل الربوبية فلذلك ألقاها جانبا ، وأخذ يعالج هذه المشكلة ، وبدأ بسؤال أخيه وخليفته باعتباره القائد عليهم من بعده ، ولكن هارون (عليه السلام) أوضح له الحقيقة ..

(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

أي لم أكن أنا بنفسي قادرا على مقاومة الردة ، لأنهم أفقدوني قومي وجعلوني ضعيفا ، وجردوني من أسلحتي ، ولذلك فقد كادوا يقتلونني لو لا إنني أمسكت عنهم بانتظار عودتك ، وافتضاح كذبهم ، لذلك فمن الخطأ أن تحملني مسئولية عملهم أو تجعلني معهم.

[١٥١] وهنا أدرك موسى حقيقة الأمر و..

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

ومرة اخري أعتقد أن أبرز مظاهر رحمة الله هي هدايته للإنسان ، وان يعصمه من أن يزلّ في الظروف الصعبة.

عاقبة عبّاد العجل :

[١٥٢] وتلك عاقبة الرافضين لعبادة العجل ، أما عاقبة المستسلمين للعجل والراضين بعبادته فإنّه سيلحقهم غضب من الله ، يتمثل في ألوان العذاب الآتية من حكم الطاغوت ، وانحراف المجتمع ، ومن نقص في بركات الله تلك التي تأتي من القيادة السليمة في المجتمع.

كما يصاب هؤلاء بذلة حيث إن انحراف القيادة من قيادة رسالية الى قيادة


صنمية تسلب كرامة الإنسان ، وتحوله الى أداة ذليلة بيد الأصنام البشرية الحاكمة.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

أيّ الذين يكذبون على الله افتراء عليه ، والذين يتخذون طريقا خاطئا ويصوّرونه لأنفسهم طريقا سليما سينالهم غضب من ربهم.

[١٥٣] أما إذا تاب هؤلاء الى ربهم ، وآمنوا بالله إيمانا صادقا ، ولم يتركوا سيئة الى سيئة أخرى ، مثل أن يتركوا الرأسمالية بعد معرفة تناقضها وانحرافها الى الشيوعية كلا .. إنما تركوا السيئة الى الصراط المستقيم ، أولئك يرحمهم الله.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

ربما يكون معنى كلمة (بعدها) أي إنه بعد انتهاء آثار السيئة الأولى سوف تأتي رحمة الله.


وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)


عاقبة التقوى

في الدنيا وفي الآخرة

هدى من الآيات :

وعادت الظروف الطبيعية للأمة بعد ذلك الامتحان العسير ، وعاد الى موسى هدوؤه بعد الغضب ، فاذا به يأخذ الألواح ليقرأ فيها الهدى والرحمة.

حيث كانت تهدي الناس الى السبل السليمة المؤدية الى رحمة الله ، والرحمة والهدى يشترط فيهما الرهبة والتقوى له سبحانه.

وهذه الرهبة لا تدخل قلب البشر لو لم يؤمن ايمانا صادقا بالله ، والايمان الصادق لا يكون الا بعد معرفة الله ـ في الغيب الذي لا تراه الأبصار ـ وكان في قوم موسى نزعة مادية ، لذلك طالب ممثلوهم وهم سبعون رجلا مختارا ، طالبوا موسى برؤية الله جهرة ، فأخذتهم الرجفة الشديدة فصرعتهم ، وتوسل موسى الى ربه أن يعيدهم وقال : ان هذا الطلب انما هو من السفهاء ، وان هذا امتحان منك ، وانك رب الهداية ، وانك تضل من تشاء حين لا تريد هدايته ، وانك ولينا جميعا فاغفر لنا ما سلف من ذنوبنا ، وأنت ارحم الراحمين فانزل علينا رحمتك ونعمك.


ان الهدى الذي كان في كتاب الله لموسى كان يدعو البشر الى الالتزام بالخط المستقيم بين حاجات الدنيا وتطلعات الآخرة ، لذلك دعا موسى (عليه السلام) بأن يكتب الله لهم الحياة الحسنة في الدنيا والآخرة. وهذا لا يكون الا بالتوجه الى الله ، وربنا الكريم بيّن له أن عذابه انما هو من نصيب من يشاء ، واما رحمته فهي واسعة ، وهي للذين يتقون ويزكون أنفسهم ويؤمنون بآيات الله.

بينات من الآيات :

حكمة الغضب :

[١٥٤] يصور القرآن الحكيم النبي موسى (عليه السلام) عبر آياته العديدة شخصية سريعة الغضب ، مما يطرح هذا السؤال : هل كان موسى فعلا كذلك أم ان ظروفه كانت تستدعي ذلك؟ بحيث لو وضعنا أيوب مثل الصبر والهدوء في مكانه لكان يفعل ذلك أيضا؟

الواقع : ان بني إسرائيل كانت امة مستضعفة اعتادت الذل والهوان ، وكانت بالرغم من ذلك شديدة العلاقة بموسى باعتباره منقذا لها ، لذلك كانت هذه الامة بحاجة ماسة الى التدخل المباشر من قبل موسى في شؤونها اليومية ، والتدخل المباشر لم يكن ممكنا بصورة هادئة ، انما بطريقة تثير دخائل وأعماق هذه الامة التي اعتادت الصياح والزجر.

من هنا نعرف أن غضب موسى (ع) كان يسكت كلّما كانت الظروف العادية ترجع الى الامة ، باعتبار ان غضبه ليس لنفسه وانما لرسالته ولله.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)

ويبدو لي أن غضب موسى لم يسكت عنه الا بعد تصفية العناصر الخائنة ، وقتل


أعداد كبيرة منهم ، وقبول توبة البقية ، بعدئذ أخذ موسى عليه السلام يخطط لبناء مجتمع سليم.

(أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ)

ان التخطيط للحياة الاسلامية في المجتمع انما يكون بعد إرساء قاعدة التوحيد في النفوس ، لذلك أخذ موسى (عليه السلام) يشرح ما في الألواح للجماهير بعد انتهائه من تصفية العناصر الخائنة ، وكانت الألواح تهدي الناس الى طريق رحمة الله ونعمته ، ولكن هذه النعمة ليست الّا للمتقين.

(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)

كيف نصفيّ الشوائب :

[١٥٥] ولا تزال في نفوس بني إسرائيل بعض الرواسب الجاهلية ، لذلك قام موسى (عليه السلام) بعملية جديدة من أجل ترسيخ دعائم التوحيد في النفوس ، وذلك حين اختار سبعين شخصا من قومه ليرافقوه في مناجاته بطور سيناء ، وكان هؤلاء يمثلون الشعب ، وينقلون طلباته لله سبحانه ، فجاء هؤلاء وطلبوا رؤية الله جهرة ، فاخذتهم الصاعقة فقضت عليهم ، الا أن موسى (عليه السلام) دعا ربه بإعادتهم الى الحياة.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)

حيث طلبوا من هؤلاء السبعين رؤية الله فنقل هؤلاء طلب السفهاء الى الله ، أجل .. كانت تلك فتنة امتحن الله بها عباده ، فمن اهتدى فانما بفضل الله سبحانه ، ومن ضل فانما بإذن الله.


(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ)

ان ربنا سبحانه يجري تحولات اجتماعية ، وتغييرات طبيعية من فقر وغنى ، وصحة ومرض ، وعزة وذلة ، وحر وبرد ، ورخاء وقحط ، كل ذلك بهدف امتحان البشر ليستخرج كلما في ذاته من قوة أو ضعف ، وقدرة أو عجز ، ولكي يصلح نفسه ويكمل نواقصه ، فمن اهتدى الى هذه الحقيقة ، وتوكل على الله ، واستغفر من ذنوبه ، وسعى من أجل إصلاح ذاته ، فان الله سيرحمه ويغفر له ، انه يرحمه بتكميل نواقصه ، ويغفر له بإصلاحه لها.

واجب الإنسان :

[١٥٦] والله سبحانه يكتب للناس ويقدر لهم الحسنات والسيئات حسب أعمالهم ، ومدى ايمانهم أو كفرهم ، ويبقى على الإنسان أن يتطلع الى اكتساب الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة ، ويعمل من أجلها حتى يبلغ مناه ، ان التطلع الى الأفضل يخلق في القلب دافعا الى العمل ، وآنئذ يحتاج البشر الى الخطة المتكاملة ليتحرك عبرها نحو الهدف ، وتلك الخطة هي مناهج الله سبحانه ، لذلك قال أصحاب موسى :

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)

ان هذا التطلع السامي الذي يمكن ضمانة تنفيذه عن طريق التوكل على الله ، والثقة بأنه سوف يكتب ذلك ، انه من أبرز سمات المؤمنين الصادقين ، الا أنه بحاجة الى عمل جاد ، لذلك بين الله سبحانه ذلك و

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)


ان عذاب الله مهيأ للمذنبين ، بيد أن الأصل هو رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فتلك الرحمة هي مهوي تطلع البشر ، ومعتمد ايمانه وتوكله ، ومنطلق تحركه.

بيد أن رحمة الله مشروطة بما يلي :

أولا : التقوى والتعهد بالقيام بالواجبات.

ثانيا : الزكاة وهي العطاء من كلما يملكه الإنسان من مال وعلم وجاه ، وقد جاء في الحديث :

«زكاة الجاه بذله ، وزكاة العلم نشره»

ثالثا : الايمان بكل الآيات سواء كانت في مصلحة الشخص العاجلة أو لم تكن ، وعدم تبعيض الإسلام بقبول الجانب السهل منه ، وترك الجوانب الصعبة ، كأن يصلّي الشخص ولا يزكي ، أو يحج ولا يجاهد كلا .. ان رحمة الله لا تسع قوما يجزءون الدين ويأخذون ببعضه فقط.


الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)

____________________

١٥٧ [غرروه] : وقروه وعظموه.


وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ

وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

هدى من الآيات :

في سياق قصة موسى (عليه السلام) يذكر القرآن الحكيم برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ليربط الحاضر بالماضي ، وليعطي درسا حكيما منتزعا من حقائق تاريخية ، وليشجع اليهود على اتباع الرسالة الجديدة ، ومنهج القرآن في الاستدلال منهج فطري يستفيد من أقرب جهة الى القلب والوجدان ، وهنا يبيّن أن الرسالة الجديدة تدعو الى ذات القيم التي كانت في رسالة موسى (عليه السلام) بالاضافة الى انها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ، فلما ذا الكفر بها؟!

ان هذه الرسالة ـ كما تلك الرسالات ـ تأمر بالمعروف الذي يتوافق مع فطرة البشر ، وتنهى عن المنكر ، وتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث ، والهدف منها دفع ثقل الشرك والاستبعاد ، وفكّ أغلال المجتمع الفاسد ، والسلطة الفاسدة ، والفلاح إنما هو من نصيب أولئك الذين آمنوا بهذا الرسول وقوّوا جبهته ، ونصروه واتبعوا رسالته ، وجعلوها نورا يهتدون بها في الحياة.


والرسالة هذه إنما هي من الله سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض الذي لا إله إلّا هو. وهو يحي ويميت ، وعلى الناس اتباع هذه الرسالة التي هي ملك لهم جميعا ، وبذلك يضمنون لأنفسهم الهداية بإذن الله ، وليس قوم موسى كلّهم على ضلالة ، بل إن فريقا منهم يأمرون بالحق ويهدون اليه ، ويجعلونه مقياسا لتقييمهم.

بينات من الآيات :

من خصائص الرسول (ص)

[١٥٧] رسالات الله تتميز بأنها للناس جميعا بعيدا عن أي تمييز قومي أو اقليمي أو عنصري أو ما أشبه ، وهي تدعو الى بناء أمة واحدة ذات رسالة سماوية ، ورسول واحد ، والرسول في هذه الرسالة ينتمي إلى تلك الأمة التي تتمحور حول الرسالة ، ولذلك يكون من أبرز صفاته أنه أمّي ، وأنه نبي يوحى إليه ، وأنه رسول يحمل لهم رسالة فيها مناهج لحياتهم.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ)

وكلمة ـ الأمي ـ كما يبدو لي منتزعة من الأمة ، التي يقول عنها ربنا في آية أخرى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وهناك من قال بأن الكلمة منتزعة من الأمّ باعتبار أن الرسول لم يكن قارئا أو كاتبا ، أو الى أم القرى.

(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ)

مكتوب بصفاته وأسمائه ، كما هو مكتوب بالقيم التي يدعو إليها.

(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)

وكلّ رسالة سماوية تثير دفائن العقول ، وتنطلق بصميم الفطرة ، وتنسجم مع


حقائق الكون التي يشهدها أكثر الناس ، ويبدو لي أن المعروف هنا هو ما يعرفه قلب البشر السليم ، والمنكر ما ينكره.

(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)

والطيبات والخبائث هما أيضا مما يبينه الوحي ، ويصدقه العقل.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)

الإصر هو : الثقل ، والبشر يعيش في ذاته ثقل المادة ، حيث يحن الى ما في الحياة من زينة ، وينهار أمام شهوات النساء والثروات والمناصب ويضغط عليه واقع اليوم دون حقيقة المستقبل ، وهكذا يصبح البشر ان لم يقصمه الله جزءا من الطبيعة ، يتحرك حسب عواملها وتغيراتها.

ورسالات الله تنقذ الإنسان من أصله ، وترفع عنه هذا الثقل المادي بتوجيهه الى العالم الأعلى ، عالم الروحيات ، وعالم المستقبل القريب في الدنيا ، والمستقبل البعيد في الآخرة.

وكما ترفع الرسالة إصر البشر ترفع الأغلال الآتية من الإصر ، مثل الأغلال الاجتماعية التي يفرضها النظام السياسي ، أو الاقتصادي الحاكم على المجتمع ، والقوانين المعيقة للتقدم ، والكبت والديكتاتورية والإرهاب الفكري الذي يمنع تفجير النشاط ، وتفتق المواهب.

شروط الفلاح

وعاقبة هذه الرسالة الفلاح والسعادة ، ولكن بشرط أن يؤمن البشر بها ، وأن يعظّمها ويوقرها ، وأن ينصرها عمليا باتباع كل مناهجها ، وأن يتخذ قيمها


ومعاييرها ميزانا لتقييم أحداث الحياة ، وتفسير متغيراتها ، ومعرفة الناس.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)

إيمانا واقعيا بأن سلموا له أنفسهم ، ولم يتكبروا أو يتعالوا عليه.

(وَعَزَّرُوهُ)

أي جعلوه كبيرا في أنفسهم ، أكبر من شهواتهم ومن ضغوط الجياة.

(وَنَصَرُوهُ)

أيّ قدموا له امكاناتهم ، وجعلوها في خدمة رسالته.

(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)

وهو القرآن ، وكما يستضيء البشر بنور المصباح في الليل ، كذلك استضاؤوا بنور القرآن في ليل الحياة ، فرأوا به ومن خلاله ما في الحياة من خير وشر ، وحق وباطل ، وهدى وضلالة.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

أيّ السعداء في الدنيا والآخرة.

كيف نعرف الله؟

[١٥٨] معرفة الله سبحانه تسبق سائر المعارف الدينية ، وهي تتم بطريقة فطرية ، وبالتذكرة بما في الكون من آيات ، وبما في النفس من بحث ووله ، وحين يتذكر البشر ويعرف ربه يسهل عليه أن يعرف رسالة ربه لما فيها من تناسب


وتناغم ، فرسالة الله شاملة واسعة الرحمة ، لطيفة المناهج ، متينة الأركان كأيّ اسم آخر من أسمائه الحسنى ، فهي كما الشمس والقمر ، ومثل السماوات في سعتها وقدرتها ، ومثل الأرض في متانتها واستقرارها ، ومثل ظاهرة الحياة فيما تعطيها للنفوس من حرارة الحياة ، لذلك كان من أقرب الطرق الى معرفة الرسالة والرسول هو معرفة الله ، والتذكر بعظمته وقدرته ولطفه ورحمته ، ولذلك أيضا كان يستشهد الرسل بالله على صدق رسالاتهم.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)

وكما أن رحمة الله وسعت كلّ شيء ، كذلك رسالته فهو.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ)

ومثلما يحيي الخلق ماديا فهو يهديهم بالرسالة التي هي حياة معنوية ، ومثلما يميتهم ماديا فهو يضلهم حين يكفرون بالرسالة فيموتون وهم أحياء.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ)

وإنما يدعوكم الى الله لا الى نفسه ، وهو أسبق الناس الى الايمان بالله وبرسالاته التي أوحيت اليه.

(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

إنّ إتباع الرسول سوف ينتهي بالبشر الى الارتفاع الى مستوى معرفة الحقائق بأنفسهم.

[١٥٩] ليست رسالات الأنبياء مبعث خلاف ونزاع ، ولا هي أنزلت لتكون أداة للعنصرية والطائفية ، لذلك فهي تؤكد أبدا على وحدة الرسالات ، وأهمية القيم ،


وأن من يتبع القيم الرسالية فهو على صراط مستقيم حتى ولو لم يلتزم بخط معين في هذا الاتباع ، لذلك أكّد القرآن الحكيم هنا أيضا على أن الحكم الكاسح بكفر بني إسرائيل جميعا خطأ ، بل أن بعضهم على صواب ما دام يلتف حول رسالة السماء ، ويشكل أمة واحدة ، وما داموا يرشدون الى الحياة الفاضلة عن طريق الحق ، ويحكّمون الحق في علاقاتهم الاجتماعية ، وفي مواقفهم من الناس أو من الظواهر الحياتية.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)


وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ

____________________

١٦٠ [فانبجست] : الانبجاس خروج الماء الجاري بقلة ، والانفجار خروجه بكثرة وكان يبتدئ الماء من الحجر بقلة ثم يتسع حتى يصير الى الكثرة.

[الغمام] : السحاب الأبيض الرقيق.


السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)

____________________

١٦٣ [يعدون] : يعتدون بالصيد المحرّم.

١٦٦ [عتوّا] : العتو الخروج إلى أفحش الذنوب ، والعاتي المبالغ في المعاصي ، والليل العاتي الشديد الظلمة.

[خاسئين] : المطرود المبعد عن الخير ، من خسأت الكلب إذا أقصيته فخسأ أي بعد.


الرجز عقبى الظلم بعد الايمان

هدى من الآيات :

بنو إسرائيل فريقان : فريق مؤمن وهي الأمة الحقة ، والفريق الثاني : ظالم وأول سماتهم اختلافهم ، واستمرار التقسيمات الطبيعية القبلية بينهم ، وعدم شكرهم لربهم على ما رزقهم من المنّ والسلوى ، وظلّل عليهم السحاب ، وأن ذلك ظلم لأنفسهم.

وحين أمرهم الله أن يسكنوا القرية ليأكلوا منها حيث شاؤوا ، ويستغفروا الله عن ذنوبهم حتى يغفر لهم خطيئاتهم ، وأن يزيد المحسنين الذين يتجاوزون العمل بالواجبات الى الإحسان.

بيد ان هذا الفريق الظالم بدلوا قولا غير ما قيل لهم ، فأرسل الله عليهم رجزا من السماء بسبب ظلمهم.

وهناك تجربة لا تزال ماثلة في ضمير التاريخ من ظلم هؤلاء لأنفسهم ، انهم


كانوا في قرية حاضرة البحر وقريبة منه ، وكانوا يتجاوزون حدود الله سبحانه في حرمة الصيد في يوم السبت ، ولكي يمتحن الله هؤلاء كانت الحيتان تأتيهم في يوم السبت ظاهرة على البحر ، بينما لا تأتيهم في غير السبت ، واختلف الناس ثلاثا في هذه القرية ، ففريق عملوا الجريمة ، وفريق سكتوا عنها ، وفريق نهوا عنها ، وحينما سألهم البعض : لما ذا تعظون قوما أهلكهم الله بالمعصية؟ أجابوا : لاننا نأمل في هدايتهم ولنتمّ الحجة عليهم ، وكانت العاقبة أن الله عذّب الفريقين الأولين وأنجى الفريق الثالث ، وعذبهم بأن مسخهم قردة خاسئين.

بينات من الآيات :

التكامل الاجتماعي :

[١٦٠] وكانت بنو إسرائيل أمة منقسمة في اثنتي عشرة قبيلة ، كلّ قبيلة أو سبط أمة تتبع قيادة معينة ..

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً)

ويبدو لي إن هذه الفرق المختلفة لم تبلغ مستوى تلك الامة التي تحدثت عنها الآية السابقة ، التي كانت تهدي بالحق وبه تعدل ، بل كانت لا تزال في عهد التقسيمات الطبيعة حيث كانت القبائل تتبع رئاستها ، والله سبحانه الذي خلق الطبيعة قدّر لها سننها وهدى الناس إليها ، بالوحي والعقل كما خلق الاسرة ، وجعل لها سنة التحابب والتعاون.

وهدى الناس بالوحي والعقل إلى أهمية الاسرة في بناء كيان المجتمع ، كذلك خلق القبيلة وشدّ بعضها الى البعض بحبال المحبة ، والوحدة الثقافية ، ووحدة الهدف والمصير ، وهدى الناس الى أهمية إيجاد الترابط البّناء بين أعضاء القبيلة في إطار


التقوى ، والتعاون على البر والإحسان.

ولكن هذه السنن الطبيعية لا تعني ان قمة الكمال هي في التعرف عليها ، والاهتداء الى كيفية الاستفادة منها ، بل قد يكون التكامل في تغيير الطبيعة وتكييفها حسب القيم العليا للحياة ، مثل تحويل الحياة القبلية الى حياة أميّة تستلهم من قيمة التقوى في بناء علاقاتها الاجتماعية ، كما كانت الامة الاسلامية الاولى ، وكما تكون التجمعات الرسالية المكتملة ، حيث يرتفع الفرد فيها على علاقاته الاسرية والقبلية ، ويبني أساس علاقاته على الاخوة المبدئية ، ويكون التجمع هو أبوه وأخوه ورابطته الأولى ، ويرى نفسه ابنا للتجمع قبل أن يكون ابنا لوالديه ، ومنتميا الى حزب الله قبل أن يكون منتميا الى قبيلة كذا أو عنصر كذا.

ومن هنا بدأ الله حديثه عن الأمة الواحدة في بني إسرائيل في الدرس السابق ثم تحدث عن الأمم المتنافسة ، وبيّن أن رسالة موسى (عليه السلام) كانت تهتم أيضا بتلك القبائل والأسباط ، وتستخدم تلك العلاقات الطبيعية في تنظيم المجتمع ، لذلك فجّر الله لموسى اثنتي عشرة عينا ، لكلّ قبيلة مشربا معينا.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ)

ثم بيّن الله النعم التي أسبغها لأولئك الناس الذين لم يذوّبوا أنفسهم بالكامل في بوتقة الايمان ، وقال تعالى :

(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)

المنّ هو قسم من الحلوى ، والسلوى هو الطير المشوي.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)


لماذا لم يعد الغمام يظلّلهم ، والمن والسلوى لا ينزلان عليهم؟

لأنهم ظلموا أنفسهم كما سبق في آيات سورة البقرة ، حيث إنهم ملّوا حياة البداوة ودعوا ربهم بالعودة الى المدن.

نقاط الضعف الحضارية في المدينة :

[١٦١] وبعد أن هبطوا القرية التي هيأها الله لهم فسدت أخلاقهم ، فبدل أن يشكروا الله على النعم التي وفرها لهم ، وبدل أن يستغفروه سبحانه بخضوع وقنوت حتى يتكاملوا عن طريق التعرف على نقاط ضعفهم وأسباب تخلفهم ، وبدل أن يتخذوا الإحسان أداة لتنمية علاقاتهم الاجتماعية وتزكية نفوسهم ، بدل كلّ ذلك مما أمرهم به الله غيّروا وكفروا بأنعم الله ، واستكثروا من اللذات ولم ينتبهوا لنواقصهم.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ)

أيّ اللهم حطّ ذنوبنا واغفر لنا.

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)

خاضعين لله حتى لا يستبد بكم طغيان النعم وغرور القوة.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)

حيث ان المدينة تصبح آنئذ سببا لتطوركم ورقيّكم ، ذلك لان عوامل الضعف في المدينة هي العوامل التالية التي نهى ربنا عنها :

أولا : القيود الاضافية التي لا فائدة منها والتي تحدد انتفاع البشر بنعم الله ، من العادات الجاهلية ، والآداب الزائدة ، وسائر القيود وقد نهى ربنا عنها بقوله : (وَكُلُوا


مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) فأمرهم بعدم التقيد بالأغلال الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد أوضح القرآن ذلك في آيات أخرى سبقت أو تأتي في سائر السور.

ثانيا : الغرور ، والطغيان ، والشعور بالاستغناء ، حيث يخشى على المتحضرين من هذه الصفة الرذيلة ، وقد أمر الله بالاستغفار تحصنا من الغرور والاعتزاز بالإثم ، والاعتقاد ببلوغ مرحلة الاكتمال التام.

ثالثا : التجبر والطغيان على خلق الله بسبب الغنى والعزة ، والاتحاد الموجود في المدينة ، وأمر الله سبحانه بني إسرائيل بالسجود لله عند دخول المدينة ، لكي يعرفوا أن غناهم وعزتهم ووحدتهم كل ذلك انما هي من الله سبحانه ، لا من عند أنفسهم حتى يتجبروا على الآخرين.

رابعا : البخل والشح عن العطاء مما يسبب التفاخر والمنافسة الحادة ، فأمر الله في نهاية الآية بالإحسان ، وبيّن أنه سوف يسبب زيادة النعم حتى يتجاوز بنو إسرائيل في قريتهم هذه الصفة المهلكة ، وقال سبحانه : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

من هنا نعرف أن المدينة مفيدة وضارة ، مفيدة إذا استطاع المجتمع تجاوز سلبياتها الأربعة ، وإلّا فهي ضارة وتحرق خيرات البشر.

[١٦٢] أما بنو إسرائيل فقد هزهم دخول القرية لان أكثرهم لم يتقيدوا بتعاليم ربهم سبحانه ..

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)

وانتهت حياتهم المدنية الى العذاب بسبب ذلك الظلم الذاتي.


ظلم الذات :

[١٦٣] وكمثل على ذلك الظلم الذي انتهى الى العذاب بين الله لنا قصة السبت ، حيث أمرهم بألّا يصيدوا يوم السبت تنظيما لحياتهم الاجتماعية ، وراحة لهم وتفرغا للعبادة ، ولكن الطمع دفع بهم الى تجاوز حد الله في السبت إذ كانت الحيتان تأتيهم ظاهرة في يوم السبت.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً)

وربما المراد بكلمة حيتانهم هو ان هذه الحيتان كانت لهم بالتالي ، فان لم يصيدوها في يوم السبت وفروها ليوم الأحد ، ولكنهم لم يكونوا يفقهون تشريع هذه الظاهرة.

(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ)

يبدو أن المراد أنها في غير السبت لم تكن ظاهرة ، وكان ذلك امتحانا لهم وابتلاء من قبل الله حتى يعرفوا مدى ضعفهم.

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

إذا فسق الإنسان فسقا خفيا وبطريقة منافقة فان ربنا سبحانه يمتحنه امتحانا صعبا وظاهرا ، حتى لا يقدر على مقاومة الإغراء بسبب فسقه الخفي الذي أضعف إرادته وخوّر عزيمته ، فيضطر إلى إظهار واقعه ، وهذا معنى الابتلاء حيث إنه يظهر الواقع الخفي.

وفي القصص التاريخية بيان لطبيعة نفاق أصحاب هذه التوبة ، حيث إنهم كما


جاء في تلك القصص يلقون الشباك في يوم السبت ثم يستخرجون السمك في يوم الأحد ، أو أنهم كانوا قد صنعوا أحواضا على البحر يدخلها السمك يوم السبت ثم لا يستطيع أن يخرج منها فيصيدونها يوم الأحد.

مواقف المجتمع تجاه الجريمة :

[١٦٤] وانقسم أهل هذه القرية الساحلية الى ثلاث فرق ، بعضهم المجرمون ، وبعضهم الساكتون على الجريمة ، وبعضهم الناهون عنها ، وينقل الله سبحانه حوارا بين الساكتين والناهين.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً)

أيّ ما لكم تعظون المجرمين الذين لا فائدة من وعظكم إياهم ، بل سوف يهلكهم الله أو يعذبهم.

(قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ)

لان النهي عن المنكر واجب شرعي حتى ولو كان بهدف تسجيل الحضور ، وبيان انحراف المنحرف ، ولو من أجل الأجيال القادمة ، والله لا يعذر البشر بمجرد الاعتقاد بأن النهي عن المنكر لا ينفع.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

وهناك أمل بان يتقي جماعة منهم ربهم فيكفي ذلك ثوابا.

[١٦٥] وذكّر الله هؤلاء المجرمين بالمناهج التي يجب إتباعها ، وحذرهم من تجاوز الحدود وذلك عن طريق الناهين عن المنكر من قومهم ، ولكنهم نسوا ما ذكروا


به فأنجى الله الناهين ، وأخذ الباقين بالعذاب.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

وكان بين المهلكين الساكتين عن المنكر.

[١٦٦] وكان العذاب الشديد هو أن الله سبحانه قال لهم كونوا قردة خاسئين.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ)

وتكبّروا عليه.

(قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)


وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ

____________________

١٦٩ [عرض] : العرض ما يعرض ويقل لبثه ، ومنه سمي العرض القائم بالجسم عرضا لأنه يعرض في الوجود ولا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام.

[ودرسوا] : الدرس تكرار الشيء ، ويقال درس الكتاب إذا كرر قراءته ، ودرس المنزل إذا تكرر عليه مرور الأمطار والرياح حتى انمحى أثره.


يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)


كيف انتكس بنو إسرائيل بالتبرير

هدى من الآيات :

وأعلن ربنا سبحانه حكمه الحاسم الذي جاء نتيجة ذلك السلوك الفاسد لبني إسرائيل حيث عصوا رسالات ربهم ، وكان ذلك الحكم هو سيطرة الطاغوت عليهم الى يوم يبعثون حتى يسومهم سوء العذاب ، ذلك لأن الله سريع العقاب وهو غفور رحيم.

وكان من مآسي بني إسرائيل تشتتهم في البلاد ، كل جماعة منهم سكنوا منطقة ، وكان بينهم الصالحون وغيرهم ، وقد امتحن الله بني إسرائيل بالحسنات لعلهم يشكرون ، وامتحنهم بالسيئات لعلهم يتوبون اليه ويعودون الى شرائعه ومناهجه.

ويبدو أن بني إسرائيل هبطوا بعدئذ الى درك التخلف الثقافي ، حيث انتشرت فيهم الثقافة التبريرية ، فخلف من بعد ذلك الجيل جيل فاسد ثقافيا حيث كانوا يهتمون بمظاهر الدنيا ، ويزعمون بأن الله سيغفر لهم ولكن كيف يغفر الله لهم وهم لم يتوبوا توبة نصوحا ، بدليل أنهم لو وجدوا مثل تلك المظاهر لأخذوا بها أيضا؟!


إن تلك الأفكار التبريرية التي كانت تشجع على الفساد بأمل الاستغفار لم تكن أفكارا دينية ، لان ميثاق الكتاب وعهده يقضي بألّا ينسبوا الى الدين إلّا الحق ، وكان الحق السليم هو الاهتمام بالآخرة وأولويتها على عرض الدنيا.

وفي ظلمات تلك العصور كان يشع نور الطليعة الرسالية الذين تمسكوا بقوة بالكتاب ، وأقاموا الصلاة ، وكان همهم هو إصلاح الناس بعد إصلاح أنفسهم ، والله لا يضيع أجر هؤلاء حيث إنه بنسبة عملهم كان يرفعهم.

بينات من الآيات :

التقليد داء المجتمع :

[١٦٧] لقد مسخ فريق من بني إسرائيل قردة خاسئين ، وبالرغم من ان ذلك الفريق السيء الحظ قد هلك بعد ثلاثة أيام أو سبعة أيام حسب ما جاء في التاريخ ، إلّا أن تلك الحالة قد استمرت بعدئذ في أجيال بني إسرائيل التي عصت ربها واتبعت شهواتها ، أو حتى لم تحترم قوانين الدين.

ما هي تلك الحالة؟

لا بدّ أن نعرف مسبقا أن أبرز سمات القرد هو التقليد والتشبه بالآخرين ، وهذا يستدرج منتهى درجات الذلة والقماءة ، ولذلك فان الحالة التي استمرت مع الأجيال الصاعدة من بني إسرائيل كان الاستعباد والذلة ، حيث سلط الله عليهم طاغوت الظلم والإرهاب ، وأنظمة القهر والديكتاتورية فاذاقتهم سوء العذاب ، وذلك بسبب عصيانهم لربهم أو سكوتهم عن المعاصي.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ)


أي أعلن ذلك بوضوح كاف ..

(لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

ما داموا في معصية الله أو بالسكوت عن المعاصي ، وإذا غيروا ما بأنفسهم غيّر الله لهم حالهم ..

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ)

بالرغم مما يتراءى للبشر ان عقابه بطيء .. كلا إنه سريع يلحق بالبشر في الدنيا ، وقبل الوقت الذي يسوف العاصي فيه التوبة ، ويمني نفسه بتأخر العذاب.

ثم إن عقاب الله ما دام ثابتا لا محالة ، فان كلّ آت قريب يحدوه إليه الليل والنهار بسرعة فائقة ، ولا يقدر البشر على الفرار منه إلّا اليه سبحانه ، وبالعودة الى مناهجه ، وإصلاح الفاسد ، ذلك لان رحمة الله واسعة ..

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

نتائج الظلم الاجتماعي :

[١٦٨] الظلم الذي مارسه بنو إسرائيل من هتك حرمة السبت كان ظلما اجتماعيا عاما وسبب في تبدل النظام السياسي ، وتسلط الطغاة على الحكم وقيامهم باضطهاد الشعب ، (كما تكونوا يولى عليكم) وكان من نتائج هذا الظلم الاجتماعي وأشباهه الانهيار في مجتمعهم ، حيث تساقطت حدود المجتمع وتفرقت بنو إسرائيل مجموعات .. مجموعات ..

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ)

وكانت تلك بدورها مرحلة من مراحل سقوط هذا المجتمع المؤمن ، حيث تفرقوا


واختلفوا ، ولكن بقيت فيهم أمة صالحة وأمم متدرجة في الصلاح ، ولكن الله أنزل عليهم الحسنات حينا والسيئات حينا لكي يختبرهم ويمتحن مدى صمودهم أمام إغراء الحسنات وعذاب السيئات ..

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

حيث إن فلسفة الاختبار هي : ظهور ما خفي على الإنسان من واقعة الضعيف حتى يصلحه ويكمل نفسه.

ثقافة التبرير :

[١٦٩] أما المرحلة الاخطر التي هبط إليها بنو إسرائيل فقد كانت انتشار الثقافة التبريرية التي تتخذ من الدين ستارا لاتباع الشهوات ، كما هو الحال عند بعض المسلمين حيث انهم يعملون المعاصي بعد التحايل على الدين ، بزعمهم بطريقة أو بأخرى ، فيرابون باسم البيع ، ويسكتون عن الظالم باسم أنه وليّ الأمر ، أو باسم أن العصر هو عصر التقية والانتظار ، أو يشجعون الخلافات باسم أنها الاولى بالاهتمام ، وهكذا .. كانت بنو إسرائيل في هذه المرحلة تتوسل ببعض النصوص وتفسرها حسب آرائها ، وتعمل المعاصي باسمها.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ)

ولكنهم لم يعملوا به وإنما كانوا ..

(يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)

إن تفسيرهم للاستغفار ساذج وبعيد عن الحقيقة ، ذلك لأن الاستغفار هو في واقعه الندم والعزم على ترك المعصية ، وإصلاح آثار الذنب السابق ، أما هؤلاء فقد


زعموا أن مجرد التمني بالمغفرة كاف في درء خطر العذاب ، علما بان ذلك كان نتيجة اتخاذ الدين وسيلة تبرير لأخطائهم ، والدليل على ذلك أنهم يعودون الى الذنب كلما وجدوا عرضا زائلا من إعراض الدنيا ، وخطورة هذا النوع من التفكير أنه يكرس ضلالة البشر ، إذ أن وسيلة إصلاح البشر وهي الدين قد اتخذت عندهم وسيلة تبرير للفساد فكيف يمكن إصلاحهم؟! لذلك فان القرآن شديد أبدا على أولئك الذين يحرّفون الدين ويفسّرون نصوصه وتعاليمه تفسيرا خاطئا وقد اتخذ مسبقا العهود والمواثيق على من أرسل عليهم الكتاب بالّا ينسبوا الى الله غير الحق المتمثل في توصية الناس بأن الآخرة أفضل من الدنيا ، وذلك هو هدى العقل إذا انتفع الإنسان بعقله.

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ)

وكانت تعاليم السماء واضحة بالنسبة الى الدنيا وأنها عرض زائل ..

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

[١٧٠] وبالرغم من أن أكثر هؤلاء قد انحرفوا وحرّفوا الدين ونسبوا الى ربهم أفكارا باطلة ، إلا أن طائفة منهم تمسكت بالكتاب تمسكا شديدا ، وطبقت تعاليمه ومنها : إقامة الصلاة ، والاستلهام من الله في تصرفاتهم ومواقفهم عن طريق إقامة الصلاة ، والله سبحانه لا يضيّع أجر هؤلاء لأنهم مصلحون ، لا يكتفون بالصلاة بل بإقامتها وتطبيق سننها في الحياة.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)


وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)

____________________

١٧١ [نتقنا] : النّتق قلع الشيء من الأصل ، وكل شيء قلعته ثم رميت به فقد نتقته.


الميثاق الإلهيّ

لمواجهة اتباع المبطلين

هدى من الآيات :

متى أخذ الله من بني إسرائيل ذلك الميثاق الذي كان من أبرز بنوده ألا يقولوا على الله الا الحق؟

الجواب : مرتين ، مرة حيث قلع قسما من الجبل وجعله فوقهم كأنه ظلّة أو سقف ، تصوروا أنه سيقع ويقضي عليهم ، وهنالك أخذ ميثاقهم وقال لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ، وليكن هدف ذكر ما فيه التقوى والالتزام بواجبات الله سبحانه.

هذه مرة ، ومرة اخرى حين أخرج الله ذرية آدم في صورة ذر ونشرهم في الفضاء ، وأشهدهم على أنفسهم وقال لهم : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» وآنئذ حذرهم الله من التبريرات التي قد يتخذونها وسيلة لعدم الالتزام بالحدود ، ومنها : أن يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، أو يقولوا : «إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» كلا .. ان كل جيل مكلف ومسئول عند ربه بما أتاه الله من


فطرة وعقل ، وبما اتخذ عليه من شهادة في عالم الذر ولذلك لا يصح أن يقول أحدهم «أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».

ان هذه الآيات التي يفصلها ربنا سبحانه تهدف اعادة الإنسان الى فطرته النقية ، الى حيث تعاليم الله.

بينات من الآيات :

خذوا ما أتيناكم بقوّة :

[١٧١] في قصة سبق الحديث عنها في سورة البقرة ، اقتطع ربنا جانبا من الجبل وجعله فوق رأس بني إسرائيل ، وأمرهم بأن يتعهدوا بأخذ ما آتاهم أخذا قويا دون ان يتكاسلوا أو يتوانوا فيه ..

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ)

اي رفعنا جزء من الجبل فوقهم.

(كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)

اي كأنه شيء يظلهم كالسقف والسحاب.

(وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ)

أي واقع عليهم ، وفاتك بهم.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ)

اي اجمعوا عزمتكم ، وسخروا همتكم ، واثبتوا تصميمكم على اتباع الدين ، فالدين ليس متكأ لكل خاوي العزيمة ، ضعيف الهمة ، فاقد التصميم ، أو لكل


كسول جبان متعاجز ، انما هو رسالة الله الى الإنسان ، ورسالة المؤمن الى نظرائه من البشر ، انه يصقل شخصية البشر ويفجر طاقاته ، ويظهر مدى تحمله للصعوبات وتعهده بالمسؤولية ، انك لا تستطيع أن تطلب من الدين شيئا قبل أن تعطيه من نفسك ومن قدراتك التضحية والإيثار ، وأن تكون لديك العزيمة الكافية لاتباع مناهجه مهما كلف الأمر.

وحين تخونك عزيمتك ، وتخشى أن يداخلك الشيطان ويفسد عليك تصميمك ، عليك أن تعود الى الكتاب وتتدبر في آياته ، وتذكر تعاليمه حتى تخشى الله ، وتتعهد بالمسؤولية ، وتتسلح بالتالي بالتقوى.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

وبقيت لنا كلمة في هذه الآية وهي : أن كل الناس وبالذات الرساليين منهم يمتحنهم الله كما امتحن بني إسرائيل ، فيأخذهم بالبأساء والضراء حتى يتعهدوا بالمسؤولية ويأخذوا الدين بقوة ، ولا يجب دائما ان تكون الظلّة قطعة جبل ، فقد تكون الظلّة كابوس نظام ظالم ، أو فقرا مدقعا أو مرضا مزمنا ، وقد يكون الرسول الذي يبلغه ضرورة الالتزام بالدين والتعهد باتباعه بقوة ، قد يكون أحد المبلغين القادمين ، أو حتى آيات في الكتاب يتذكرها المؤمن في تلك اللحظات ، ومنها هذه الآية التي تصدق في كل مكان ومع كل إنسان ولكن بطرق شتى.

كيف نبلور جوهر الذات؟

[١٧٢] كما حبة حية يدفنها التراب والوحل والسماد ولكنها تنشط وتتحدى وتخرج الى النور وتبرز حيويتها ، وقدراتها ، وامكاناتها وتعطي ثمراتها ، كذلك كل واحد من أبناء البشر يدفنه ركام الخرافات ، ووحل الضغوط والشهوات ، عليه أن ينشط وان يتحدى وأن يبلور جوهرته الانسانية ، وأن ينبعث خلقا جديدا ، وهذه


مسئولية الإنسان ، وذلك ميثاق الله الذي تعهد به كل فرد من أبناء آدم وحواء.

ولكن كيف يبلور الواحد منا جوهر الانسانية في ذاته ، ويصبح ذلك الإنسان الذي فضّله الخالق وأكرمه وخلقه في أحسن تقويم؟

انما عن طريق الاتصال المباشر بالله ، والانطلاق من الايمان به نحو بناء حياة جديدة لنفسه ، مستقلة عن تقليد الآباء ، وحرّة بعيدة عن الغفلة والنسيان.

لقد كنا في صورة ذر كما جاء في أحاديث صحيحة ، وكنا في صلب آدم ، أو كان بعضنا في صلب البعض ، وأخرجنا الله سبحانه واشهدنا على أنفسنا.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)

قد يكون معنى هذه العبارة أن ربنا اخرج كل ولد من ظهر والده.

(وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)

الغفلة لا تكون تبريرا مقبولا للبشر عند الله ، بل يجب أن يتحدى البشر حجاب الغفلة بنور التذكر ، وبوهج العقل الذي يشع في ضمير البشر في بعض الأحيان ان لم يكن دائما.

[١٧٣] (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)

ان هذا التبرير ليس سليما ولا مقبولا عند الله ، إذ أن الله قد أخذ الميثاق من كل واحد منا وحمله مباشرة مسئولية الايمان ، وإذا قصّر جيل في إيمانه فأن الأجيال القادمة غير معذورة باتباع ذلك الجيل الأول ، وهذه الآية تحذّر من التقليد ببلاغة


كافية.

[١٧٤] وربنا الحكيم يذكرنا بهذه الحقائق لكي نعود الى فطرتنا ، ونبلور جوهر الإنسان في ذواتنا ، ونرفع عن أنفسنا غشاوة الغفلة ، وأغلال التقاليد.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)


ردة العالم ومثل الكلب اللاهث

هدى من الآيات :

حين يتخذ الدين اداة لشحذ العزيمة ، ووسيلة لتكامل البشر ، فان ذلك سيكون وفاء لميثاق الإنسان وعهده مع ربه ، ولكن حين يكذب البشر بآيات الله ، ولا يتمسك بها بقوة ، بل ينسلخ منها إذا تعرض لضغوط ما ، فإن الشيطان سيلحق به ليملأ قلبه الذي فرغ من آيات الله فيصبح خاويا ، والله قادر على ان يرفع البشر بآياته ، ولكن بشرط ان ينبعث البشر بذاته عن جاذبية الأرض ، ولا يتبع هواه ، أما إذا أخلد الى الأرض ، وركن إليها ، واعتمد على العرض الزائل من الدنيا ، فمثل هذا الشخص كمثل الكلب في خسته ودناءته ، وارتباطه بالدنيا واتباعه لأهلها بأقل شيء ، وهناك صفة اخرى له هي أنه يلهج بآيات الله التي لم يستفد منها إلا ألفاظا وأسماء ، فهو حين تجادله في آيات الله يلهث بها ، أو تتركه يلهث بها مراء ونفاقا.

ولقد ضرب الله هذه الامثلة لعل الناس يتفكرون ، ولا يتخذون الدين تقليدا أو أسماء بلا معاني.


ان الذين يكذبون بآيات الله هم المثل السيء الذي يعكس واقعا فاسدا لأنهم يظلمون أنفسهم بتكذيبهم آيات الله.

ان الهدى من الله ، لا ما يتخيله البشر بفكره القاصر ، اما الضلالة فهي نتيجة طبيعية لفقدان هداية الله ، ومن لم يهده الله فإن أساطير البشر وخيالاته هو لا تعطيه الهداية ، بل تزيده خسارة وضلالا ..

بينات من الآيات :

ضرورة الالتزام :

[١٧٥] لا بد للإنسان ان يتبع منهجا ، ويلتزم بميثاق ، فان اتبع منهج الله وميثاقه فقد فاز ، والا فسوف يملأ الشيطان فراغه ، فيتبع منهجه ، ويصبح من حزبه ، وحين يؤتي الله فردا نعمة الرسالة ، فينزل عليه آياته ، فعليه أن يتعهد بميثاق الله فيها ، وهو الالتزام المطلق بها دون ان يترك شيئا منها ، تحت ضغط الشهوات أو سبب الإهمال.

أما إذا ترك جانبا من آيات ربه بعد أن استوعبها ، فإن الشيطان سوف يصبح قرينه وساء قرينا ، ويكون مثله مثل الكلب كما علماء السوء. والأحبار والرهبان ، وكل من أوتي علما فتركه.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)

[١٧٦] (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها)

ان الله قادر على ان يجعل آياته سببا في رفعة البشر ، بشرط أن يسعى هو من أجل ذلك ، أما إذا لازم الأرض وما فيها من ذلة وصغار ، وشهوات عاجلة زائلة ، فإن الله


يتركه لشأنه ..

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)

واتباع الهوى هو نتيجة مباشرة للخلود الى الأرض ، والاكتفاء بها وشهواتها ، وعدم التطلع الى السماء ، والى القيم الروحية والى المستقبل الأفضل ، والى مرضاة الله والى الجنة.

ان العلم معراج البشر ، ولكن إذا ركن الفرد الى الأرض وشهواتها وجاذبيتها ، فإن العلم سوف يترك مكانه للجهل ، والعقل للشهوات ، وتصبح كلمات العلم عند صاحبها كلهث الكلب.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)

ان كل الحيوانات تلهث حين تتطلب الحاجة الى اللهث ، كما إذا حمل عليها فإنها تلهث دفاعا أو استعدادا للخطر ، أما الكلب فأنه يلهث بمناسبة وبدون مناسبة لان عادته اللهث كذلك العالم الذي يتبع هواه ، يلهج بالعلم لا من أجل العمل به ، أو توجيه الناس الى الخير به ، بل من أجل المباهاة والتعالي على الناس باسمه ، فالعلم بدون هدف أو العلم الذي يستخدم لأغراض دنيئة ، كما لهث الكلب لا فائدة من ورائه ولا كرامة.

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

الذين يكذبون بآيات الله لا يجدون علما يهتدون به ، أو نورا يستضيئون به ، وانما يتعلمون كلمات يلهجون بها ، كما يلهث الكلب بلا هدف.

انما يستفيد البشر بالعلم إذا تفكر ، وتحول العلم الى جزء من شخصيته ، وتعلم


علما يفيده ، وكان تعلمه لهدف مقدس ، اما وسيلة تعلمه فهي القصص الواقعية التي يستلهم منها رشدا وعبرا ودروسا.

حب الشهرة :

[١٧٧] ان أكثر ما يخدع رجال العلم فيدفعهم نحو المتاجرة بالعلم هو حب الشهرة ، بيد أنهم سوف يشتهرون بالسوء أكثر ما يشتهرون بالخير ، وهم يضربون بذلك أسوء الأمثلة.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)

إنهم أسوء مثل ، لأنهم وجدوا فرصة للفلاح فظلموا أنفسهم بترك الفرصة.

[١٧٨] من أسباب هلاك البشر هو اتكاله على نفسه ، وغروره الذي يستغني به عن هدى الله ، وعظمة رسل الله والعلماء بالله ، وخصوصا علماء السوء فإنهم يهلكون بهذا الزعم كثيرا ، ولذلك يؤكد ربنا على ان الهدى من الله ، وعلى البشر ان يتمتع بالتسليم والقنوت له سبحانه حتى يهتدي ، أما إذا لبس رداء الغرور والكبرياء فسيضل ، لأنه سوف لا يهديه ، وليس هناك مصدر آخر للهداية.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)


وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)

____________________

١٧٩ [ذرأنا] : الذرء بمعنى الإنشاء والاحداث والخلق.

١٨٣ [أملي] : الاملاء التأخير والامهال.


كيف ندعو الله بأسمائه الحسنى

هدى من الآيات :

لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وزوده بكل وسائل الهدى ، ولكن حيث ترك الانتفاع بها أصبح حقيرا الى درجة لا ينفع الا لجهنم ، وكأنه قد خلق لها ومن أجلها ، لقد زود الله البشر بالقلب وجعل التفقه به من مسئولية البشر ، وزوده بالعين ولكن التبصر بها من واجبه ، وكذلك الإذن جعلها من أجل السماع الاستماع لا يمكن الا بإرادة البشر وبقراره.

ان الإنسان الذي لا يقرر الانتفاع بوسائل الفقه والمعرفة التي عنده يشبه الانعام ، بل أضل منها منهجا وطريقا ، لان الانعام لا تملك قدرة ولبشر يملكها ولا ينتفع بها ، وهؤلاء غافلون عن قدراتهم العاملة ، وعن المستوى الذي بامكانهم بلوغه.

ولله سبحانه الأسماء الحسنى ، وكل اسم من أسمائه يشير الى قوة فاعلة في الحياة ، أو سنة جارية فيها ، فإذا عرفنا الله بآياته عرفنا تلك الأسماء ، ومن خلالها استطعنا أن نكيف أنفسنا مع الحق ، ودعاء الله بأسمائه الحسنى يكرس روح


الحقيقة في البشر ، أما من يغير أسماء الله فعلينا ان نتركهم للجزاء العادل.

وهناك من يحكم بالحق ويجعله مقياسا لتقييم الحياة ، أما الذين يكذبون بآيات الله فإنهم سوف يتدرجون الى النار من حيث لا يعلمون ، وان الله يملي لهم ويمهلهم الى حين.

بينات من الآيات :

الحكمة الربانية :

[١٧٩] أن ربنا رحيم ورحمته واسعة ، ولكن رحمته سبحانه قد حددها بحكمته البالغة ، بأولئك الذين ينتفعون بالنعم ويقررون الاستفادة منها ، أما من لا يشتغل قلبه وسمعه واذنه وبالتالي مداركه فان رحمة الله تتبدل بالنسبة اليه الى نقمة شديدة ، حيث يلقى به في جهنم وكأنهم قد خلقوا لها.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها)

من الآية يظهر بوضوح أن الهدى من الله ، ولكن الاهتداء بالهدى من البشر ومن صنعه ، فهو الذي يقرر التفقه بالقلب ، والتبصر بالعين ، والسماع بالاذن ، ومن دون هذا القرار فان الله لا يكره أحدا على الهدى.

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ)

لان الانعام تهتدي بفطرتها نحو منافعها ، وهؤلاء ينحرفون حتى انهم ليضرون بأنفسهم بوعي ومن دون وعي ، كالذي يشرب الخمر ويضرر بنفسه ، والذي يسلط الطاغوت ليستعبده ، والذي يعاقر المخدرات ويمارس الفاحشة ليضر بنفسه ، مما لا يفعله الحيوان لأنه يهتدي بفطرته الى مصالحه ..


(أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)

الغافل هو : الذي يملك ذخائر المعرفة ولكنه لا يستفيد منها فيقع في المهالك.

الكفر بالأسماء والصفات :

[١٨٠] بسبب الإلحاد والانحراف في أسماء الله ، ينحرف كثير من الناس فيزعمون مثلا أن الله واسع الرحمة وانه لذلك لا يعذب أحدا لان رحمته تأبى ذلك ، أو يزعمون بأنه لو زلّ أحد فانه قد سقط نهائيا وسوف يعاقبه الله لأنه شديد العقاب ، ولا يرجى له الخير أبدا ، هذا التصور الخاطئ أو اذاك يكرس انحراف البشر ، بينما الاعتقاد السليم أن الله واسع الرحمة وأنه شديد العقاب كل في محله وحسب الحكمة ، وان الرحمة والنقمة تأتيان بعد ارادة البشر ومشيئته ، فلو أراد الرحمة لنفسه لحصل عليها ، ولو شاء العذاب لابتلي به ، هذا الاعتقاد السليم يبعد البشر من انحرافاته ، وهذا الاعتقاد السليم انما يبلغه الإنسان بفطرته النقية وعقله وبصيرته ، حيث ينسب بها الى ربه أحسن الأسماء.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)

إنّ دعاء الله بأسمائه الحسنى يكرس الضمير الحسن عند الإنسان ، فيهتدي الى السنن الحاكمة في الحياة والتي يجريها ربنا بأسمائه الحسنى.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

والإلحاد في أسماء الله يسبب انحرافات عملية ، وعلى تلك الانحرافات يعاقب الله عباده ، لا على مجرد التصور الخاطئ ، بل نستطيع أن نؤكّد ان الانحرافات العملية هي السبب المباشر في الإلحاد في أسماء ربنا ، إذ من دون سبب وإذا ترك البشر فطرته النقية عرف الله بأسمائه الحسنى ، ولذلك لا ينفع الجدل في أسماء الله


والمناقشة مع الملحدين فيها ، لان سبب الانحراف والإلحاد ليس سوءا لفهم بل سوء النية ، وربما لذلك أمرنا الله بترك هؤلاء الملحدين وشأنهم ، إذ المجادلة مع المنحرفين بوعي مسبق وإصرار عليه تشوش رؤية البشر الصافية ، وتشككه في حقه.

وتبقى كلمة في أسماء الله وهي :

يبدو أن الخليقة تقاد بقوى معينة مثلا بالعلم ، والحكمة ، والقدرة ، فالشمس تجري لمستقر لها ، ولكن كيف؟

الحكمة هي التي تجعل للشمس هدفا تتحرك نحوه من أجل تحقيقه ، والعلم هو الذي يحدد مسيرة الشمس بحيث تبلغ الهدف ، والقدرة هي التي تنفذ الحكمة والعلم وتقهر الشمس على اتباع تلك المسيرة المحددة ، هذه هي أسماء الله سبحانه ، وتجلياته ، فالعلم اسم من أسمائه الذي يتجلى في كل صغيرة وكبيرة في الكون ، والحكمة كذلك ، والقدرة وهكذا ..

وحين ندعو الله بأسمائه ونقول يا عليم ، يا قدير ، يا حكيم ، أو نقول نسألك بعلمك ، وبقدرتك ، وبحكمتك ، فاننا في الوقت الذي نكرس في أنفسنا قيمة العلم ، والقدرة ، والحكمة ونستخدمها في واقعنا ، فان هذه القيمة لا تكون منفصلة عن توحيد الله وعن عبادته ، وعن الايمان بأنه أعلى من أسمائه ، وأن علينا التوكل عليه لا الاعتماد فقط على أسمائه.

التوسّل بالذات لا بالصفات :

ان من أكبر أخطاء البشر هو التوسل بأسماء الله سبحانه دونه ، لان ذلك يشكل جزءا من الحقيقة الكونية ، وهو يؤدي الى الايمان ببعض الحقيقة ، فمثلا ، الايمان بالعلم دون الحكمة يسبب جعل العلم معبودا وحيدا كما فعل الفرنسيون في منطلق


ثورتهم. والعبودية للعلم تجعل العلم بلا هدف ، بل بهدف استغلال البشر ، وسحق القيم المعنوية عنده. كذلك القدرة إذا أصبحت معبودة بذاتها لا بصفتها اسما من أسماء الله الحسنى ، فان القدرة المنطلقة بلا حكمة تستهوي الناس وتجعلهم يطلبونها بشتى الوسائل ، حتى بفداء القيم.

ومن هنا تركز الادعية المأثورة على تذكر الأسماء الحسنى بأنها منسوبة الى الله وجاء في بعض الادعية : ـ

[اللهم اني أسألك باسمك يا الله يا رحمن ، يا رحيم ، يا كريم ، يا مقيم ، يا عظيم ، يا قديم ، يا عليم ، يا حليم ، يا حكيم ، لا اله إلّا أنت ، الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب].(١)

٢ ـ [اللهم اني أسألك باسمك يا علي يا وفي ، يا غني ، يا ملي ، يا صفي يا رضي ، يا زكي يا أبدّي ، يا قوي يا وليّ].(٢)

٣ ـ [اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه وكلّ بهائك بهيّ ، اللهم إني أسألك ببهائك كله ، اللهم إني أسألك من علمك بأنفذه وكلّ علمك نافذ ، اللهم إني أسألك بعلمك كلّه].(٣)

٤ ـ [اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء ، وبقوتك التي قهرت بها كلّ شيء ، وخضع لها كلّ شيء ، وذلّ لها كلّ شيء ، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء ، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء ، وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ

__________________

(١) من دعاء الجوشن الكبير في مفاتيح الجنان.

(٢) من دعاء البهاء في مفاتيح الجنان.

(٣) دعاء كميل للإمام علي (ع)


شيء]. (١)

إنّ أسلوب الادعية يكرس قيمة الأسماء التي تذكر تارة بالعموم وتارة بالتحديد ، ولكن تبقى قيمة التوحيد فوق قيمة أسماء الله ، لان هذه الأسماء تتصل بالتالي بالله سبحانه.

موقف التصديق :

[١٨١] وحين يدعو المؤمن ربه بأسمائه الحسنى يجعل الحق مقياسا وقيمة ، لأنه بمعرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه الحسنى يستوعب البشر جوانب الحق.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)

والملاحظ في الآية أن الله سبحانه عبر عن أولئك الذين يحكمون بالحق ب (الأمة) باعتبارهم طائفة منتظمة تحت قيادة إمام ، ثم إنهم يهدون الناس الى الحق ، وهم بدورهم يأخذون بالحق ويجعلونه مقياسا لتطبيق العدالة في المجتمع.

موقف التكذيب :

[١٨٢] وفي مقابل هؤلاء جماعة يكذبون بآيات الله التي تهدي الى الحق ، وجزاء هؤلاء استدراجهم حتى يصلوا الى الدرك الأسفل من حيث لا يعلمون]

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)

والاستدراج هو : إعطاء الطرف الآخر فرصة التقدم حتى يقع في الفخ مفاجئة ، لذلك لا يجوز للبشر أن يستريح على المهلة التي يعطيها الله له ، أو على النعم التي

__________________

(١) دعاء السحر


تترى عليه ، أو ما أشبه .. فان المهلة أو النعمة قد تكون مصيدة له ، وفخا سرعان ما يقع فيه.

[١٨٣] (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

أيّ أعطيهم مهلة ، وذلك خطة لأخذهم أخذا لا يقدرون على الفرار منه ، لان خطة الله متكاملة ومحكمة.


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

____________________

١٨٤ [جنّة] : الجنة الجنون وأصله الستر.

١٨٧ [الساعة] : الساعة التي يموت فيها الخلق.

[أيّان] : متى وهو سؤال عن الزمان على وجه الظرف للفعل.

[مرساها] : الارساء الإثبات ، ومرسيها مثبتها ، ورسا الشيء يرسو فهو رأس إذا ثبت.

[حفي] : الحفيّ المستقصي في السؤال ، واحفي فلان بفلان في المسألة إذا أكثر عليه وألحّ.


عسى أن يكون قد اقترب الأجل

هدى من الآيات :

زود الله البشر بأدوات التفكر ليكتشف الحقيقة بنفسه ، وإذا لم يفعل فان ضلالته مؤكدة ، وعن طريق التفكير يبلغ البشر الى طبيعة الأشياء والظواهر ، فظاهرة الرسالة لو تفكر المرء فيها عرف انها حق ، وان الرسول ليس به جنون ، بل ان ما يرى في هذه الظاهرة من مظاهر الانتفاضة والتغيير فانما هو شهادة على واقع جديد سيأتي وراءه ، والرسالة إنذار واضح بوقوع ذلك الواقع.

وكذلك لو تفكر المرء في ملكوت السماوات والأرض وما فيهما من عظمة وفخامة ، ولو تفكر في خلق أي شيء مخلوق وما فيه من متانة ولطف ودقة وإتقان ، آنئذ يعرف أن هذا النظام المتكامل يعتمد على هيمنة قوة أعلى منه ، وأن هذا النظام يهدف أولا : إمتحان البشر ، وثانيا : أن المدبر له لو شاء ترك النظام يتهاوى وهذه اللحظة محتملة في أي وقت. وإذا تفكر البشر في الرسالة ، ثم تفكر في الخليقة لآمن بها ، وإذا تولى جحودا فلا شيء آخر يمكن أن يؤمن به بعقله ، كيف والهدى من الله


وقد تولى عنه؟ ومن يضلله الله يمنع هداه عنه ، فان طغيانه واستكباره سيجعله قابعا في ضلالته الى الأبد.

وهم يسألون الرسول عن الساعة : متى ترسو عليها سفينة الكون؟

تلك الساعة الثقيل وقعها في السماوات والأرض ، إنها لا تأتي إلّا مفاجئة وعلمها عند الله ، وأكثر الناس لا يعلمون.

بينات من الآيات :

لا للتبرير :

[١٨٤] سبق الحديث في آية (١٧٣) على ان على البشر مسئولية المعرفة والتصميم ، وانه لا يمكنه تبرير فساده بالغفلة والتقليد ، وها هو القرآن يذكرنا مرة اخرى بمسؤولية التفكير الوسيلة الوحيدة لمقاومة الغفلة :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)

ولأهمية التفكير وضرورته الفطرية يتساءل الله : لماذا لم يتفكروا؟

(ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

إن الرسول يخبرهم عن أشياء جديدة غير مألوفة ولذلك فيمكن أن يكون هذا في نظرهم جنونا عارضا أو إنذارا مبينا ، وبالتفكير نعرف المتانة في الكلام ، والقوة في الدليل ، والسلامة في النية ، وشواهد الوجدان والعقل مما يدل جميعا على ان كلام الرسول ليس جنونا بل هو إنذار حق وواضح.

[١٨٥] ذلك الإنذار الذي يحذر من المصير الذي ينتهي اليه المجرمون ، يمكن أن


نسمعه من الرسول ومن لسان الكون أيضا ، الذي ينطق بالنظام الدقيق والعظمة المتناهية.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

وما فيهما من عظمة تدل على قدرة الخالق وهيمنته ..

(وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)

وما في كلّ شيء ينظر اليه الإنسان من خلق الله دلالة واضحة على دقة النظم ، وإتقان الخلق ، وحسن التدبير.

إن النظر في عظمة الكون ، وفي أيّ شيء مخلوق ، يهدينا الى الله الذي يهيمن على تدبير الكون ، والله في أيّ لحظة يمكن أن يسحب تدبيره عن الكون فيتهاوى ، وإنه لم يخلق الخلق عبثا وبلا هدف ، بل بحكمة بالغة هي : ابتلاء الإنسان ، واختبار تحمله لمسؤولية التفكر ، وارادة التصميم ..

(وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)

إذا تركوا هذا الحديث الذي هو إنذار مبين ، ويشهد عليه النظر في السماوات والأرض وفي أيّ مخلوق صغيرا أو كبير من خلق الله سبحانه ، هل هناك حديث أفضل منه يؤمنون به؟

[١٨٦] الذي لا يهتدي بهدى الله فان الدليل الوحيد له هو الضلالة الدائمة. لماذا؟

لان عدم ايمانه بهدى الله ناشئ من طغيانه على الله والحق ، وهذا الطغيان باق معه ويسبب له العمه والضلال.


(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

متى تقوم الساعة؟

[١٨٧] إذا كانت شواهد الكون تدل على أن النظام الذي يمسك السماوات والأرض سوف ينتهي في يوم ، وان سفينة الكون سوف ترسو في نهاية المطاف على شاطئ ، فان هذا السؤال سوف يطرح أيّان مرسى هذه الساعة؟ متى؟ وكيف؟ :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها)

ومتى تقف عند الشاطئ النهائي.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)

يبدو لي : أن ساعة كلّ طائفة تنتهي في حين ، فما ذا ينفعها حين ينتهون؟ إن الحياة تستمر في غيرهم ، إن ساعة قوم لوط رست عند ما نزل العذاب عليهم في صورة زلزال عظيم ، وان ساعة فرعون وقومه قد حلت حينما أغرقوا في اليم ، وهذه الساعة تأتي مفاجئة ودون إنذار.

وربما يشير الى ذلك ضمير (كم) ، ذلك لان نهاية الكون لا تأتي الجميع ، بل فقط أولئك الذين يتواجدون آنئذ.

ويبقى السؤال : لما ذا يطرح الناس هذا السؤال على الرسول؟ أو ليسوا هم المسؤولون أولا وأخيرا عن أنفسهم؟ أو لا يهمهم أمر نهايتهم وبلوغ ساعتهم ، أو ان الرسول حفي بها .. مطلع عنها؟

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)


يستقصي السؤال عنها ، ويطلع بجوانبها ، بينما هم المسؤولون وعليهم التقصي كما الرسول.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ)

فهو الذي يقرر متى ينتهي وقت الامتحان ، ويبلو واقع كلّ واحد منا ، فيقرر بمشيئته المطلقة ميعاد الجزاء ..

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

هذه الحقيقة الواضحة وهي : أن مصير البشر بيد الله العزيز الحكيم ، لا بيدهم أو بيد الرسول (صلّى الله عليه وآله).


قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ اَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونْ (١٩٢)


الإنسان : قصة البداية

هدى من الآيات :

لو تدبر الإنسان في كتاب الحياة لعرف الحقيقة ، كذلك لو تدبر في نفسه وما فيها من علائم النقص وآيات الخلقة.

من أنا؟ وكيف خلقت؟ وما أملك؟ ومن يملك أمري؟

إنني موجود لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلّا في حدود الحرية والامكانيات التي وفرها الله لي ، ولا أعلم الغيب بدليل اني أخسر كثيرا بسبب جهلي بالمستقبل وبالغائب عن نظري ، وكثيرا ما تحمل الحوادث السوء لي وانا استقبلها جهلا ، والإنسان بحاجة الى الرسول الذي ينذره بالمستقبل ويجعله يتحذره ، ويعرّفه كيف ينتفع بالمستقبل.

كيف خلقني الله؟

لقد غرز الله شهوة الجنس في والدي ، حيث خلقهما من نفس واحدة وجعل


أحدهما يسكن الى الآخر ، ويتكامل وجوده النفسي والجسدي والمعيشي بالثاني ، وحين أتى الرجل زوجته حملت منه حملا سهلا لم تشعر بثقله حتّى انها كانت تقوم بأعمالها العادية ، حتى أثقلت بالحمل بعد فترة ، وهناك شعرا ـ هي وزوجها ـ بمسؤولية الطفل ودعوا الله أن يرزقهما صالحا غير فاسد ، وتعهدا بشكر الله ، ولكن حين رزقهما الله ولدا صالحا نسيا الله ونسبا ولادة الطفل الى بعض الشركاء ، دون أن يفكرا في أن الشركاء لا يملكون لهما نصرا ولا يمكن الانتصار لهما ، كما أنهم عباد مخلوقون ولا يقدرون على خلق شيء ، كما انهما نسيا تلك الحالة السابقة حيث توسلا عندئذ فقط بالله دون الشركاء!! لأنه في حالة الشعور بالخطر ينسى المرء الشركاء.

بينات من الآيات :

من هو الرسول؟

[١٨٨] من الرسول؟ هل هو شخصية متميزة جسديا؟

كلا .. إنه فقط يتميز بالرسالة الموحى بها اليه ، وبالاتصال بينه وبين ربه ، فما لديه إنما هو من الله سبحانه وبه.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ)

فحين أصاب بالسوء كأي بشر آخر ، وحين لا استكثر الخير لعدم معرفتي بالمستقبل ، فاني بشر مثلهم. نعم أعلم الغيب في حدود تعليم الله لي ووحيه عليّ ، كما أني أملك النفع وادفع الضر في تلك الحدود أيضا.

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)


أما الذين لا يؤمنون فان الوحي لا ينفعهم إذ الوحي انما ينفع من يريد ويصمم على تطبيقه وتنفيذ مناهجه ، وإذا كان الرسول لا يملك نفعا ولا ضرا ، فكيف بسائر الناس؟ ومعرفة الإنسان بنقاط ضعفه تجعله يعود الى واقعه ويعرف انه مربوب مخلوق.

قصة الخلق :

[١٨٩] الآن لا أملك شيئا إلّا بقدر ما ملكني الله ، أما في الماضي فقد كنت نتيجة غريزة جنسية خلقها الله في والديّ ، وربما الوالدين لم يستهدفا من وراء الزواج ولادتي ، بل ربما أرادا قضاء شهوة جامحة!

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)

فلذلك يحن الواحد منا الى الآخر ، ويعطف عليه ويأنس اليه ، ولذلك أيضا لا فوارق بين البشر ونظيره البشر ، وخصوصا لا فرق بين الذكر والأنثى فرقا حقيقيا ..

(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها)

فالرجل خلق متكامل مع الأنثى لذلك لا يسكن إلّا إليها ، ومن مظاهر السكن ، إن كلّ شخص يشعر بنقص حتى يكتمل ، بالزواج ، وآنئذ يكون بإمكان الطرفين تكميل حياتهما معا ، فاذا وفر الذكر للحياة المتكاملة : القوة ، والعزيمة ، وخشونة التحدي ، فان الأنثى توفر لها الرحمة ، والعاطفة ، ونعومة الرفق ، وكلما هو ضروري للتعاون ..

(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ)

أيّ مارست أعمالها العادية بسهولة ويسر ، دون ثقل عليها من قبل الجنين ، الذي يتكامل في رحمها بسرعة ، أو ليس ذلك يدل على إتقان الصنعة ، ولطف


التدبير ، من قبل الرب الحكيم العليم ..

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

إن الشعور بالثقل لا يلازم أبدا الشعور بالصعوبة ، إذ المرأة السليمة لا تشعر بصعوبة بالغة بسبب الحمل إلّا قبيل الولادة ، ولكن هذا الشعور إنما هو بهدف إشعارها بالمسؤولية القادمة ، وذلك للاستعداد لها وتوفير وسائل الراحة والامان للضعيف الجديد ، وهكذا نرى كيف يتغيّر الوالدان ويشعران بمسؤولية بالغة تجاه الوليد ، وأول طلبهم هو : أن يكون خلاصة حياتهما وفلذة كبديهما سالما وصالحا ، جسديا وروحيا ، ولفرط الاحساس بالمسؤولية ينسيان الشركاء المزيفين ويتوجهان الى الله ربهما ، مثلما ينسى البشر كل الشركاء في أوقات العسر الشديد ، بل ويتعهدان بالشكر لله ، والقيام بواجبات الوليد الجديد مثل : التربية السليمة ، والارتفاع الى مستوى الأب والأم إذا آتاهما صالحا ..

الإنسان والنسيان :

[١٩٠] ولكن سرعان ما ينسيا هذه التعهدات حيث يعودان الى الشركاء ، وهي كلّ القوى المادية التي تضغط على البشر باتجاهات منحرفة ، مثل المجتمع الفاسد ورمزه السلطة ، ومثل الثقافة الفاسدة ورمزها الأحبار ، والرهبان ، والشعراء ، ومثل الاقتصاد الفاسد ورمزه أصحاب المال ، والرأسمالية.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

ولذلك لم يطبق ناهج الله في تربية الأولاد ، بل اتّبعا الشركاء ، فافسداه اجتماعيا حينما اخضعا ، للطاغوت ، وأفسداه ثقافيا حيث سلماه بيد أدعياء العلم والدين وهما يعرفان فسادهم ، وأفسداه اقتصاديا حيث ربطاه بعجلة الرأسمالية.


بينما كان الواجب عليهما تربيته على أساس سليم ، وفصله عن سلبيات الشركاء أنى كانوا ، وتحريره لله وجعله مرتبطا به وبرسالاته ، ذلك الرب الذي أعطاهما إياه وجعله صالحا غير فاسد ، ولكنهما هما اللذان أفسداه،وكما قال الرسول(صلّى الله عليه وآله) :

كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه) (١)

والله أعلى من الشركاء ، والحق الموصى من عنده سوف يجرف غثاء الشركاء وزبدهم ، ويحرر الناس من يد الفاسدين.

قابلية الانهزام والاستعمار :

[١٩١] والناس لا يفكرون ما هي قوة الطاغوت ، أو قوة الرأسمالية ، أو علماء السوء؟ إنهم ضعفاء لولا تسليم الناس لهم ، وخضوعهم لسيطرتهم الظالمة ، إن هؤلاء الشركاء لا يخلقون شيئا بل هم الذين يخلقون ، يخلقهم الله ، فيسرقون إمكانات الناس ، ويفرزهم الوضع الفاسد.

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)

إن الطاغوت مخلوق لله ، ولكنه في الوقت ذاته يستغل جهل الناس وغفلتهم ، واطماع طائفة منهم وصغر نفوسهم ، يستغلها في خلق قوة ضاربة له يتسلط بها على المستضعفين ، فكيف يخضع البشر لبشر مثله مخلوق غير خالق؟ خلقه الله وصنعه الوضع الفاسد؟

[١٩٢] أنهدف من وراء اتباع السلطان ، أو التسليم للوضع الفاسد ، الركون الى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ / ٢٨١ / ح ٢٢


قوته ونصرته في الوقت الذي لا يملك الشركاء قوة ونصرا ، بل إذا تدبرنا جيدا عرفنا : أننا نحن الذين ننصر الطاغوت ونعطيه السيطرة علينا ، بسبب سكوتنا عليه وخضوعنا له ..

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً)

إن الطغاة والفاسدين المفسدين من جلاوزتهم يزعمون أبدا : أن وجودهم واستمرار سيطرتهم يضمن للمجتمع الأمن والازدهار ، بينما لا يضمن الطغيان إلا الخراب والدمار ، لأنه يكبت طاقات الناس ، ويضعف إرادتهم ، فلا هم قادرون على عمارة بلدهم لان طاقاتهم مكبوتة ، ولا هم قادرون على المحافظة على بلدهم لأنهم ضعفاء الارادة.

لقد ثبت عليما : أن أبرز الأسباب المباشرة للتخلف هو : الديكتاتورية كما ان جيوش البلاد التي يسودها الطاغوت لم تقدر على الدفاع بمثل الجيوش الحرة ، وربما كان من أبرز أسباب هزيمة النازية ديكتاتوريتها ، بل أن الطاغوت أضعف من الناس العاديين لأنه يعتمد على قوة الناس في الدفاع عن شخصه ، بحيث لو تركه الناس تهاوى وسقط ، لذلك قال ربنا سبحانه :

(وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)

فحتى أنفسهم لا يستطيعون الدفاع عنها ، فكيف نعتمد عليها؟


وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)


لماذا يدعون عبادا أمثالهم

هدى من الآيات :

إن الشركاء الذين يدعون من دون الله لا يرجى هدايتهم ، لأنهم فاسدو الضمير ، ولذلك يجب أن يتركوا ، ثم لا بدّ أن يتحرر الناس من عقدة الذل تجاه الشركاء (الطاغوت وأعوانه من علماء السوء والأغنياء والجنود) لا بدّ أن يعرفوا أنهم عباد كما هم ، لا فرق ، وأنهم لا يستجيبون للناس ، وأن أعضاءهم مشلولة ، وانهم ضعفاء ، دعهم يجتمعون فإنهم لا يفعلون شيئا.

بينما الله ولي الصالحين من عباده ، قد نزل الكتاب يهدي الناس ، فكم هو الفرق بين من لا يهتدي وبين من يهدي الجميع؟!

أما الذين يدعوهم الناس لا يقدرون على الانتصار لأنفسهم ، فكيف ينصرونهم ، وإن قلوبهم قد اسودت حتى انهم لا يسمعون دعوة الإصلاح ولا يبصرون ، بالرغم من استخدامهم لعيونهم ظاهرا.


بينات من الآيات :

آخر الدواء الكي :

[١٩٣] إن أئمة الضلال الذين ينازعون الله سبحانه رداء الحاكمية إنهم قد هبطوا الى الفساد الى الحضيض ، ولذلك فان علينا قتلهم وهذا هو العلاج الوحيد لهم ، وحين يزعم بعض من البسطاء ان الطغاة يمكن ان يهتدوا ، فان هذا الزعم تبرير لتكاسلهم وتقاعسهم عن التمرد عليهم ، ولذلك فان القرآن الحكيم قد قضى على هذا التبرير السخيف بقوله سبحانه :

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)

فلا يجب أن تدعوهم الى الهدى ، فاذا لم يستجيبوا تثورون ضدهم كما فعل موسى (عليه السلام) ، بل يمكن ان يسبب ذلك في فشل خطط الرساليين.

[١٩٤] إن أئمة الضلال هم في واقع أمرهم بشر مثل الآخرين بل هم أقل ، لان الناس العاديين يتقبلون الهدى ، بينما الطغاة لا يستجيبون للهدى.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

أيّ ان كنتم صادقين في نسبة العقل والقدرة الى هؤلاء الشركاء ، ويحتمل أن يكون المراد من الآية الأصنام الحجرية التي لا تعقل وكذلك الآية التالية.

[١٩٥] إن هؤلاء أضعف من الناس العاديين لأنهم لا يقدرون على الاستفادة من أعضائهم بسبب تعودهم على استثمار الآخرين ..

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ


آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ)

من الأصنام البشرية كالطغاة ، أو الأصنام الحجرية ..

(ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)

أي ثم اعملوا جميعا ضدي وضد خططي ولا تمهلوني ، وهذا تحد صارخ لها ، ليعرف الجميع أنها أضعف من المقاومة فيتركونها ، إن الناس يغترون بقوة الأصنام وبقدرتها على حمايتهم من مكاره الطبيعة ، ومن مشكلات الحياة ، فيلتجئون الى الطغاة أو الأصنام ، ولا يعرفون انهم أضعف منهم في المقاومة لولا الاعلام المزيف والإرهاب.

من هو وليّ الصالحين؟

[١٩٦] أما ولي الصالحين ، ومعبودهم ، وناصرهم ، ومن هو أولى بهم ، فهو الله الذي ينزل الكتاب وضمّنه رسالة مفصلة تبلور عقولهم ، وتربي أنفسهم ، وتوضح مناهج الحياة ، وتنذرهم وتبشرهم رهبة ورغبة ..

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)

ولأنه نزل الكتاب فمن عمل به وكان صالحا فقد فاز بولاية الله ، بهدايته وقيادته ونصرته.

[١٩٧] وأما غير الله من سائر الأولياء لا ينصرون أحدا ولا حتى أنفسهم ينصرونها ، بل هم بدورهم يحتاجون الى النصرة.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)

ومن دون اذنه ..


(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)

أما من أمر الله باتباعه كالرسل والأئمة (عليهم السلام) فان المناهج التي يأخذون الناس عليها تنصر التابعين لها وهم الصالحون ، ذلك أن ما ينصر البشر ضد شرور نفسه ومكاره الطبيعة ليس قوة غيبية يعيده عن إرادته ، بل هو عمله الصالح الذي يباركه الرب العزيز الحكيم.

[١٩٨] وهؤلاء ليسوا فقط لا يهدون أحدا بل لا يهتدون أيضا لان قلوبهم مغلقة ونفوسهم فاسدة.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)

فأدوات الإدراك عندهم مشلولة ، فحتى نظرتهم ليست بقصد الاهتداء والتبصر والفهم بل بقصد النظر ذاته ، ذلك لان الطغاة والمستكبرين لا يهدفون من وراء الحياة شيئا ، بل اتخذوها ذاتها هدفا مقدسا ، ونهاية لرغباتهم وتطلعاتهم ، ولذلك فليست نظرتهم للبصيرة ولا آذانهم للسماع.

وقد سبق ان الطغيان سبب مباشر للكفر ، وهؤلاء قد بلغوا حضيض الطغيان فكيف يهتدون؟!!


خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ

____________________

١٩٩ [بالعرف] : العرف ضد النكر ، ومثله المعروف والعارفة وهو كل خصلة حميدة يعرف صوابها العقول ، وتطمئن إليها النفوس.

٢٠٠ [نزع] : النزع الإزعاج بالإغراء وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب ، وأصله الإزعاج بالحركة ، والنزع أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة.

٢٠١ [طائف] : وسوسة ما.

٢٠٢ : [لا يقصرون] : لا يكفّون عن إغوائهم.

٢٠٣ [اجتبيتها] : الاجتباء افتعال من الجباية ، ونظيرها الاصطفاء وهو استخلاص الشيء للنفس ، وأصله الاستخراج.


لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)


كيف تتكامل شخصية الإنسان

هدى من الآيات :

لكي تتكامل شخصية الإنسان عليه أن يأخذ العفو ، ويأمر بالمعروف ، وان يعرف عن الجاهلين ، ولكن السؤال : كيف يمكن للإنسان أن يفعل ذلك والشيطان يفسد قلبه؟

الجواب : عليه أن يستعيد بالله ويتوكل عليه في مقاومة نزعات الشيطان ، ان الله سميع عليم.

ذلك أن المتقين الذين ترسخ الايمان في أنفسهم ، إذا مسهم من الشيطان شيء طائف ، وخاطرة خاطفة فإنهم يتذكرون ربهم ، وبعد التذكر يبصرون ويميزون خواطر الشيطان عن حقائق الايمان.

بينما اخوان الشياطين يمدون أصحابهم ليستمروا في الغي ، وهم لا يقصرون ولا يبخلون في دعم أصحابهم بالضلالة.


بينات من الآيات :

فمثلا : كل الآيات لا يقبلونها ، وانما يطالبون الرسالة بآية معينة ، ويتساءلون لماذا لم يصطف الرسول هذه الآية ، بينما الرسول ليس هو الذي يختار الآيات ، وانما الله الذي أوحى بالكتاب : بصائر ورؤي وهدى ، ورحمة للمؤمنين.

ولذلك على البشر أن يستمع الى القرآن ، وينصت إجلالا له إذا تليت آياته ، وأن يذكر الله تضرعا وخيفة ، حتى يتأصل الايمان في أنفسهم ، وألّا يكون غافلا ولا مستكبرا عن عبادة الله ، بل يسبح له ويسجد له ..

أبعاد الحياة الاجتماعيّة :

[١٩٩] ما هي رسالة الإسلام ، التي لو اتبعها المجتمع حقق أهدافه ، وأحرز المنعة التي يريد؟

تلخص الآية الكريمة هذه الرسالة :

فأولا : أخذ العفو.

ثانيا : الأمر بالمعروف ، الذي تتقبله فطرة الإنسان وتستسيغه ، لان الإسلام دين الوجدان النقي ، والعقل النير البعيد عن مؤثرات الهوى.

ثالثا : الاعراض عن الجاهلين ، وعدم اتباع بعضهم الفاسد ، وعدم الخوض معهم فيما يخوضون.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)

إن الأدوار الثلاث تلخص الحياة الاجتماعية في ثلاث أبعاد : البعد الاقتصادي ـ


والبعد القانوني ـ والبعد الأخلاقي.

ففي البعد الاقتصادي يجب أخذ الأنفال الاضافية التي لا يحتاج إليها الفرد ، لتجعل للخدمة الاجتماعية.

وفي البعد القانوني يجب تنظيم الحياة الاجتماعية وفقا لأفضل ما يراه العقل السليم ، في الظرف الخاص ، مما يعطي التشريع مرونة كافية لاحتواء تطورات الحياة.

أما في البعد الاخلاقي فيجب رفع الجهل والجهالة ، وتكتل المؤمنين الصالحين لقيادة الحياة.

ماذا نحتاج للتطبيق؟

[٢٠٠] ولكن هذه التعاليم بحاجة الى قلب سليم ، وعقل نير ، وشخصية متكاملة ، وذلك كله لا يمكن توفيره إلّا بتخلص البشر من نزع الشيطان وفساده وبعلو البله ، وعلاج ذلك يكون بالتوكل على الله ، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع نجواك ، ويعلم ما في ضميرك ، فاذا قلت ظاهرا وأضمرت واقعا فانه سوف ينصرك على الشيطان.

[٢٠١] الذين تكرست في أنفسهم ملكة الالتزام بالتعاليم الالهية ، وأصبح الدين بالنسبة إليهم عادة بسبب المزيد من العمل فإنهم إذا انزلقوا بسبب ضغط الشهوات فإنهم سرعان ما يتذكرون ويلتزمون بالواجبات مرة ثانية ..

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)


حين يعودون الى الله ترتفع عن أنفسهم غشاوة الشهوات ، فيبصرون حقيقة الذنب فيجتنبونه.

[٢٠٢] بينما الكفار واخوان الشياطين الذين لا يملكون حصانة التقوى فإنهم ، ليس فقط لا يعطيهم الشيطان حصانة ، بل يمدّهم الشيطان في غيهم ، ويبرر لهم سيئاتهم غرورا ..

من الفكر التبريري :

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)

[٢٠٣] من تلك الأفكار التبريرية التي يمد بها الشيطان إخوانه ، ويكرس بها سلبياتهم هي : أن كل آية كانت تنزل عليهم كانوا يكفرون بها ، ويطالبون بآية أخرى ، ويزعمون أن الآيات تنزل عليهم بطلب الرسول.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي)

والقرآن بصائر يرى المرء بسببها ومن خلالها الحياة فمثلا : القرآن يميز للبشر بين العقل والجهل ، الشهوات والغضب ، حتى يلامس وجدان كلّ واحد حقيقة نفسه وما بها من عقل وشهوة ، أو عقل وغضب ، والقرآن يذكر البشر بربه عن طريق إثارة الوجدان ، وبلورة عقه ، ثم يربط بين الايمان بالله وبين ما يرى في الكون من آثار عظمة وجمال ، ومن نقاط ضعف وعجز ، ويربط بعدئذ بين كلّ ذلك وبين ضرورة التسليم لله ولرسالاته ، كلّ تلك بصيرة يرى المرء من خلالها الحياة رؤية واضحة.

وإذا تعذر على المرء رؤية الحياة بسبب أو بآخر ، فان الله هو الذي يعطيه الهدى بصورة مجملة أو مفصلة ، فيكشف له طبيعة الدنيا والآخرة وما فيهما من عوامل تقدم أو تخلف ، حضارة أو دمار.


والبصائر والهدى تعطي البشر رفاها وسعادة هي : الرحمة التي ينزلها الله للمؤمنين باتباع البصائر والهدى.

تعظيم القرآن :

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

[٢٠٤] لان القرآن بصائر وهدى فعلى البشر ان يكبره ويعظمه ، فاذا قريء القرآن فعلى الجميع أن يتركوا كلامهم ويستمعوا الى آيات الذكر.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

أيّ تنالون السعادة والرفاه بالاستماع الى آيات الذكر الحكيم.

كيف نقاوم الانسلاخ عن القرآن :

[٢٠٥] ولكي يقاوم البشر عوامل الانسلاخ من آيات الله ، ولكي لا يصبح مثل الذين لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، وبالتالي لكي لا ينسلخ البشر من إنسانيته ، فان عليه أن يداوم قراءة القرآن ، وأن يتذكر آيات الله وأسمائه ، ولكن ذكر الله له شروط معينة هي :

أولا : أن يكون التذكر في نفس البشر ، لكي لا يكون الذكر رياء أو نفاقا أو قشريا لا يغور في العمق.

ثانيا : أن يكون الذكر تضرعا وتذللا ، ومعرفة من الفرد بأنه عبد ذليل لله ، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

ثالثا : أن يخاف الفرد ربه وما يترتب على معصيته له من عذاب شديد.

رابعا : ألّا يكون ذكر الله جهرا بما يزيد احتمالات الرياء ، ولا يجعل الفرد


يتعمق فيما يقول.

خامسا : أن يكون الذكر بالغدو والآصال ، صباحا ومساء ، كل ذلك يرفع الغفلة عن الإنسان.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)

قاوم التكبّر في نفسك :

[٢٠٦] وعلى الإنسان أن يقاوم روح الاستكبار في ذاته ، ويطيع الله إطاعة كاملة ، وأن يسبح الله وينزهه من آثار النقص والعجز الموجود في خلقه ، وأن يسجد لله رمزا لتلك الطاعة والعبادة.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)

من الملائكة القربين ، والأنبياء ، والشهداء ، والصالحين الذين يتحسسون حضورهم أمام الله وهيمنة الله عليهم ، وأنه سميع بصير ، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد ، إن هؤلاء الذين يعتبرون قدوة صالحة لكلّ واحد منا .. إنهم ..

(لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)

وعند ما يشعر الفرد أنه عند الله ، وان ربه حاضر عنده ، آنئذ يشعر بجلالة الله ومدى عظمته ، فيخضع لله وينزع عن نفسه الاستكبار الزائف ، وعندئذ يعرف الله ويزداد إيمانا بعظمته ، فيسبحه وينزهه عن النقص ، وعندئذ تظهر علامات الخشوع عليه فيسجد لله ، وهذه قمة الانسانية التي كانت سورة الأعراف تهدف إيصال البشر إليها .. جعلنا الله سبحانه ممن يتطلع للوصول إليها بالتوكل عليه.



الفهرس

سورة الانعام

فضل السورة.................................................................. ٥

الاطار العام................................................................... ٧

هكذا تجلى الرب............................................................ ١٢

وهكذا يحتجب الخلق عن الرب................................................ ١٧

آيات الله بشائر رحمة ونذير عذاب............................................. ٢٦

بالله يفلح الانسان........................................................... ٣٢

لقرآن عصمة البشر.......................................................... ٣٧

ينما تكون القلوب في أكنة.................................................... ٤٢

حينما يقصر النظر........................................................... ٤٧

كيف تحدى الرسل اعراض الجاحدين؟.......................................... ٥١

هكذا استجاب من سمع ، وضل الصم البكم.................................... ٥٦

هكذا ترفع المآسي حجب الضلال............................................. ٦١

هل يستوي الأعمى والبصير................................................... ٦٩

حقيقة الايمان وميزات المؤمنين................................................. ٧٦


دور الرسل في مسيرة التوحيد................................................... ٨١

مفتاح الغيب بين العلم والقدرة................................................. ٨٥

عند لحظات الخطر حجة الله................................................... ٩٢

مواقف الناس من آيات الله.................................................... ٩٧

اسباب حيرة المبلسين....................................................... ١٠٣

الشك المنهجي طريق الى اليقين.............................................. ١٠٩

هكذا يتحدى الايمان الخالص................................................ ١١٧

ط ابراهيم (ع) في سلسلة الانبياء (ع)........................................ ١٢٣

اولئك هم قدوة المؤمنين..................................................... ١٢٨

الأفتراء على الله أشد الظلم.................................................. ١٣٤

الطريق الى معرفة الله........................................................ ١٤٠

أسماء الله الحسنى........................................................... ١٤٧

مسؤولية البشر في الهداية.................................................... ١٥٣

لماذا المطالبة بالآيات الجديدة؟................................................ ١٥٨

الاصغاء الى زخرف القول................................................... ١٦٣

اتباع الاكثرية الضالة........................................................ ١٦٨

إتباع الهوى وأكتساب المآثم.................................................. ١٧٤

دور اكابر المجرمين في تضليل الناس........................................... ١٨١

لمن عاقبة الدار؟............................................................ ١٩٥

المظاهرة التشريعية للشرك.................................................... ٢٠١

كيف يحرم الشرك طيبات الحياة؟............................................. ٢١٠

الأفق الايجابي في تشريعات التوحيد........................................... ٢١٧

الشرك بين التصور والتوهم................................................... ٢٢٣

هكذا يفسد الشرك النظام الاجتماعي......................................... ٢٢٩


وهكذا ينظم التوحيد الحياة الاجتماعية........................................ ٢٣٥

اتباع الكتاب شرط التوحيد.................................................. ٢٤١

عقبات في طريق التوحيد..................................................... ٢٤٨

الركائز الأساسية لملة التوحيد................................................. ٢٥٤

سورة الاعراف

فضل السورة............................................................... ٢٦٣

الاطار العام............................................................... ٢٦٥

الرسالة الميزان الحق.......................................................... ٢٧٢

جذور الانحراف في حياة البشر............................................... ٢٧٩

الغرور الشيطاني سبب الهبوط................................................ ٢٨٧

كيف يواري لباس التقوى سوأة الانسان؟...................................... ٢٩٤

تشريعات الرسالة تكامل وواقعية.............................................. ٣٠٠

عاقبة الذين يفترون على الله الكذب.......................................... ٣٠٨

عاقبة المكذبين والمستكبرين.................................................. ٣١٦

جزاء الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله..................................... ٣٢٢

هكذا ينسى الله الذين اتخذوا دينهم لعبا....................................... ٣٢٨

بالدعاء يستنزل المحسنون بركات الله........................................... ٣٣٥

الانسان بين سنن الطبيعة وبصائر التاريخ...................................... ٣٤٢

الانسان بين رسالات الرب والأسماء التافهة.................................... ٣٥٠

رسالة الرب تبير سلطة المستكبرين............................................ ٣٥٨

قوم لوط عاقبة الجريمة الخلقية................................................ ٣٦٥

رسالات الرب وسيلة الاصلاح الاقتصادي.................................... ٣٧٠

المكذبون برسالات الرب هم الخاسرون........................................ ٣٨٠

أسباب الحضارة ومراحل حياة الأمم........................................... ٣٨٧


الظلم بايات الله وعاقبة المفسدين............................................. ٣٩٦

تضليل الملأ ضد رسالات الله................................................. ٤٠٢

الرسالة تتحدى التضليل والارهاب............................................ ٤٠٨

حكمة حياة البشر تجربة إرادته............................................... ٤١٤

وهكذا نصر الله عباده بالغيب............................................... ٤٢٠

بنو إسرائيل والردة الجاهلية................................................... ٤٢٩

تنمية روح الايمان بالله....................................................... ٤٣٦

كيف يضل المتكبر؟........................................................ ٤٤٣

عجل السامري ورواسب الجاهلية الفرعونية..................................... ٤٤٩

عاقبة التقوى في الدنيا وفي الآخرة............................................. ٤٥٦

ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم............................... ٤٦٢

الرجز عقبى الظلم بعد الايمان................................................ ٤٧٠

كيف انتكس بنو إسرائيل بالتبرير............................................ ٤٨٠

الميثاق الإلهي لمواجهة أتباع المبطلين............................................ ٤٨٦

ردة العالم ومثل الكلب اللاهث.............................................. ٤٩٢

كيف ندعو الله بأسمائه الحسنى............................................... ٤٩٧

عسى أن يكون قد اقترب الأجل............................................. ٥٠٥

الانسان : قصة البداية...................................................... ٥١١

لماذا يدعون عبادا أمثالهم.................................................... ٥١٨

كيف تتكامل شخصية الانسان.............................................. ٥٢٤

الفهرست................................................................. ٥٣١

من هدى القرآن - ٣

المؤلف:
الصفحات: 534