(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

اللغة :

(ضِعْفَيْنِ) : مثنى ضعف بكسر الضاد ، يقال ضعف الشيء مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة فقولهم لك ضعفه يعني


لك مثلاه أو ثلاثة أمثاله أو أكثر ، وفي المصباح : «ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله وقال الخليل التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثليه وأكثر وكذلك الأضعاف والمضاعفة ، وقال الأزهري : الضعف في كلام العرب المثل هذا هو الأصل ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد وليس للزيادة حد يقال هذا ضعف هذا أي مثله وهذان ضعفاه أي مثلاه ، قال وجاز في كلام العرب أن يقال هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف زيادة غير محصورة فلو قال في الوصية أعطوه ضعف نصيب ولدي أعطي مثليه ولو قال ضعفيه أعطي ثلاثة أمثاله. حتى لو حصل للابن مائة أعطي مئتين في الضعف وثلاثمائة في الضعفين وعلى هذا جرى عرف الناس واصطلاحهم والوصية تحمل على العرف لا على دقائق اللغة» هذا وللضعف بفتح الضاد والضعف بكسرها والضعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله :

في الرأي والعقل يكون الضّعف

والوهن في الجسم فذاك الضّعف

زيادة المثل كذا والضّعف

جمع ضعيف وهو شاكي الضر

(كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أحد ـ كما يقول الزمخشري ـ في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه وردّ عليه آخرون فقالوا : أما قوله أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد فصحيح وأما قوله وما وراءه فليس بصحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول


واحد لأن واحدا يطلق على كل شيء اتصف بالوحدة واحد المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل وأيضا فيفرق بينهما بأن المختص بالنفي جامد وهذا وصف وأيضا المختص بالنفي مختص بالعقلاء وهذا لا يختص وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري على المجموع.

وفي الإتقان : قال أبو حاتم : أحد اسم أكمل من الواحد ، ألا ترى أنك إذا قلت فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان بخلاف قولك : لا يقوم له أحد وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد تقول ليس في الدار أحد فيكون قد شمل عموم المخلوقين من الدواب والطير والوحش والإنس فيعم الناس وغيرهم بخلاف قولك ليس في الدار واحد فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم قال : ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد فيستعمل في الإثبات والنفي نحو «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» أي واحد و: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» و «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» ولا فضل لأحد على أحد. وأحد يستعمل في المذكر والمؤنث قال تعالى : «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدة. قلت : ولهذا وصف به في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» بخلاف الواحد والأحد له جمع من لفظه وهو الأحدون والآحاد وليس للواحد جمع من لفظه فلا يقال واحدون بل اثنان وثلاثة والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب. بخلاف الواحد.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) : من القرار أي الثبات وأصله اقررن بكسر الراء وفتحها من قررت بفتح الراء وكسرها نقلت حركة الراء الى القاف


وحذفت مع همزة الوصل. وفي القاموس : «وقر بالمكان يقر بالكسر والفتح قرارا وقرورا وقرّا وتقرّة ثبت وسكن كاستقرّ».

(تَبَرَّجْنَ) : بترك إحدى التاءين وأصله تتبرجن أي تتبخترن في مشيكن. وفي القاموس : «تبرجت المرأة : أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب».

(الْجاهِلِيَّةِ) : حالة الجهل والوثنية في بلاد العرب قبل الإسلام أو الزمن الذي تقدمه وسيأتي المزيد من بحث الجاهلية الأولى في باب الفوائد.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) كلام مستأنف مسوق لتقرير موقف الإسلام من أزواج النبي والمرأة عامة. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولأزواجك متعلق بقل وستأتي أسماء أزواج النبي في باب الفوائد وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها والنون علامة التأنيث والتخيير لسبر أغوار نفوسهن حتى إذا اخترن الدنيا فارقهن وجملة تردن خبر كان والنون فاعل والحياة الدنيا مفعول به وزينتها عطف على الحياة. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه أتى جملة طلبية وتعالين فعل أمر مبني على السكون والنون فاعل وأمتعكن مجزوم لأنه جواب الطلب وأسرحكن عطف على أمتعكن وسراحا مفعول مطلق وجميلا صفة وهذا أولى من القول بأن أمتعكن جزم لأنه جواب الشرط وما بين الشرط وجزائه


معترض. (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تردن خبرها والنون فاعل تردن والله مفعول به ورسوله عطف عليه والدار الآخرة عطف أيضا والفاء رابطة وان واسمها وجملة أعد للمحسنات خبرها ومنكن حال وأجرا مفعول به وعظيما صفة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) يا حرف نداء ونساء النبي منادى مضاف ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة ومنكن حال وبفاحشة متعلقان بيأت ويضاعف جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون ولها متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ليضاعف وضعفين مفعول مطلق. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وعلى الله متعلقان بيسيرا ويسيرا خبر كان. (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) عطف على ما تقدم وهو مماثل لما قبله في إعرابه وأجرها مفعول به ثان لنؤتها ومرتين نصب على المفعولية المطلق أو الظرفية الزمانية. (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) الواو عاطفة وأعتدنا فعل ماض وفاعل ولها متعلقان. بأعتدنا ورزقا مفعول به وكريما صفة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) لستن : ليس والتاء اسمها والنون علامة جمع الإناث وكأحد خبر لستن ومن النساء صفة لأحد وإن شرطية واتقيتن فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي فانكن أعظم ويكون قوله : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) مستأنفا لتعليل نفي المساواة ويجوز أن


تكون الفاء رابطة وجملة لا تخضعن في محل جزم جواب الشرط وبالقول حال أو متعلقان بتخضعن.

(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) الفاء للسببية ويطمع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي والذي فاعل يطمع وفي قلبه متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة وقلن الواو عاطفة وقلن فعل أمر والنون فاعل وقولا مفعول مطلق مبين للنوع ومعروفا صفة. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) عطف على ما تقدم وقرن فعل أمر وقد تقدم في باب اللغة وفي بيوتكن متعلقان به ولا تبرجن نهي وتبرج الجاهلية مفعول مطلق والأولى نعت للجاهلية. (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) عطف على قرن في بيوتكن.

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل وليذهب اللام للتعليل ويذهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وجملة إنما يريد تعليل لجميع ما تقدم والجار والمجرور أي ليذهب متعلقان بيريد وعنكم متعلقان بيذهب والرجس مفعول به وأهل البيت نصب على الاختصاص للمدح أي أخص أهل البيت ولك أن تجعله منادى محذوف الأداة أو على البدل من الكاف ، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب ، ويطهركم عطف على يذهب وتطهيرا مفعول مطلق.

الفوائد :

١ ـ أراجيف المغرضين عن تعدد أزواج النبي :

سيطول بنا القول في هذا الصّدد لأنه أثار شكوكا لدى


المغرضين وأصحاب الهوى من المستشرقين والمشهرين بالإسلام ، فقد قالوا في معرض افتراءاتهم وأراجيفهم إن تعدد زوجات النبي مناف لشمائل النبوة ومخالف لما ينبغي أن يتسم به أصحاب الدعوة وهداة الأرواح ، وقال بعض المستشرقين ما نصه بالحرف : إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية ، ونسوا أو تناسوا أنه لا غضاضة على العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمنتها وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى ، نعم قد تكون الغضاضة إذا طغى هذا الحب حتى أخرج العظيم عن سواء السبيل وشغله عما هو معني به من هداية وليس أبعد به صلى الله عليه وسلم عن الاستسلام لنزوات اللذة الجنسية من أنه أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة ، حدث التاريخ أن أبا بكر ذهب إليه يوما يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده فوجد النبي جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسرّي عنه فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة!! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي وقال : هن حولي ، كما ترى ، يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر الى حفصة يجأ عنقها ، ويقولان : تسألن رسال الله ما ليس عنده؟ فقلن : والله لا نسأل رسول الله شيئا ليس عنده ، ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة وعشرين يوما نزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي «يا أيها النبي قل لأزواجك» الآية. فبدأ الرسول بعائشة فقال لها : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم خيّر نساءه كلهن فأجبن كما أجابت عائشة وقنعن بما هن


فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها فعلام يدل هذا؟ لو شاء النبي لأغدق عليهن النعمة ولأغرقهن بتهاويل الزينة وتعاجيب الحلي وأطايب اللذات ، وهل هذا الصدوف عن ذلك فعل مستسلم للذات الحسية المتهالك على حب النساء؟ ولما بنى بأولى زوجاته ـ خديجة ـ لم تكن لذات الحسن هي التي سيطرت على هذا الزواج ولا الباعثة عليه لأنه نبى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين ونيف على الخمسين وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها ولم تبدر عنه أية رغبة في الزواج بأخرى.

قالت له عائشة مرة : هل كانت خديجة إلا عجوزا بدّلك الله خيرا منها فقال لها مغضبا : لا والله ما أبدلني الله خيرا منها : آمنت بي إذ كفر الناس وصدقت إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.

ولو كانت لذات الحسن هي التي سيطرت على زواج النبي بعد بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع إليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية فيسرعن إليه راضيات فخورات وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تسمو إليها مصاهرة ، بيد أن محمدا لم يتزوج بكرا قط غير عائشة ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.

قالت عائشة : لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي : أي رسول الله ألا تتزوج؟ قال : من؟


قالت : إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال : فمن البكر؟ قالت : بنت أحبّ الناس إليك عائشة بنت أبي بكر قال : فمن الثيب؟ قالت : سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك.

ثم كانت سودة هي أولى النساء اللاتي بنى بهن بعد وفاة خديجة وكان زوجها الأول ـ ابن عمها ـ قد توفي بعد رجوعه من الهجرة الى الحبشة وكانت هي من أسبق النساء الى الإسلام فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها الى الحبشة فرارا من إعنات المشركين له ولها فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود الى أهلها فتصبأ وتؤذى أو تتزوج بغير كفء فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفا لأعدائه من آلها وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر الى لذات حسن ومال الى متاع.

وكان للنبي زوجة أخرى اتسمت بالوضاءة والحداثة والغضاضة وهي زينب بنت جحش ابنة عمته التي زوجها زيدا بن حارثة بأمره وعلى غير رضى منها لأنها أنفت ـ وهي ما هي في الحسب والقرابة الى رسول الله ـ من أن يتزوجها غلام عتيق ، هذه أيضا لم يكن للذات الحسن سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما وستأتي قصتها كاملة مدعومة بالتحليل التام لها.

أما سائر زوجاته فما من واحدة منهن إلا كان لزواجه بهن سبب من المصلحة العامة.

إجمال أسماء زوجاته :

قال ابن الكلبي : إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة وجمع بين احدى عشرة وتوفي عن تسع ؛ فأولهن خديجة


بنت خويلدو كانت قبله تحت عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ومات عنها وتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي فولدت له هند ثم مات عنها وتزوجها بعده النبي فولدت له ثمانية :القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.

فأما الذكور فماتوا وهم صغار وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن ولم يتزوج على خديجة أحدا وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين ، ثم بعدها سودة بنت زمعة وقيل عائشة وكانت بنت ست سنين فدخل بها في المدينة وهي ابنة تسع ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة وماتت سنة ثمان وخمسين ، وأما سودة فكانت امرأة ثيبا وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس ومات عنها فخلف عليها رسول الله ودخل بها بمكة ، ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان بدريا وماتت بالمدينة في خلافة عثمان ، ثم تزوج بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية المخزومية وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي شهد بدرا وأصابته جراحة يوم أحد فمات عنها فتزوجها رسول الله قبل الأحزاب ، ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة ويقال لها أم المساكين وتوفيت في حياته ولم يمت غيرها وغير خديجة في حياته وكانت زينب قبله تحت الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب ، ثم تزوج جورية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق وكانت تحت مالك بن صفوان ، ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها فأرسل رسول الله الى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة وساق النجاشي المهر لها عن رسول الله وماتت في خلافة أخيها معاوية ، ثم تزوج زينب بنت جحش (وستأتي قصتها) ثم تزوج عام


خيبر صفية بنت حيي بن أخطب ، ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية وكانت قبله تحت عمير بن عمرو الثقفي فمات عنها وخلف عليها أبو زهير بن عبد العزى ثم رسول الله وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد ، ثم تزوج امرأة من بني كليب يقال لها شاة بنت رفاعة وقيل سنا بنت الصلت وقيل ابنة الصلت بن حبيب توفيت قبل أن يدخل بها وقيل الشنباء دخل بها ومات ابنه ابراهيم فقالت لو كان نبيا ما مات ولده فطلقها ، ثم تزوج غزية بنت جابر الكلابية ، قال ابن الكلبي : غزية هي أم شريك فلما قدمت على النبي وأراد أن يخلو بها استعاذت منه فردها ، ثم تزوج العالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها ، ثم تزوج قتيلة ابنة قيس أخت الأشعث فتوفي عنها قبل أن يدخل بها فارتدت ، ثم تزوج فاطمة ابنة الضحاك وقيل تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة ، وليلى ابنة الحطيم عرضت نفسها عليه فتزوجها وفارقها.

قال ابن الكلبي : أما من خطب النبي من النساء ولم ينكحها فأم هانىء بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها وضباعة ابنة عامر من بني قشير وصفية بنت بشامة الأعور العنبري وأم حبيبة ابنة عمه العباس فوجد العباس أخا له من الرضاعة فتركها وجمرة ابنة الحارث ابن أبي حارثة خطبها فقال أبوها بها سوء ولم يكن بها وجع فرجع إليها فوجدها قد برصت.

وأما سرارية فمارية ابنة شمعون القطبية ولدت له ابراهيم وريحانة ابنة زيد القرظية وقيل هي من بني النضير وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش واسمها نفيسة والرابعة أصابها في بعض السبي ولم يعرف اسمها.


وفي المواهب رواية أخرى تختلف فيها الأسماء بعض الاختلاف ويطول بنا القول لو نقلناها فليرجع إليها من يشاء.

وكان إعزاز من ذلوا بعد عزة سنة النبي في معاملة جميع الناس ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقربين ، ولهذا خيّر صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها فاختارت الزواج منه.

هذا وتتكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه الصلاة والسلام عن أسباب حفزته الى الزواج بهن واستجماع لهذا العدد منهن ولا حرج على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه ، ولكن الواقع أن المتعة لم تكن قط مقدّمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها أو بعد تجاوز الكهولة وانما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه لا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرا موسومة بالجمال وهي السيدة عائشة.

٢ ـ الجاهلية الأولى :

اختلف الناس في الجاهلية الأولى وأصح ما قيل أنهما جاهليتان أولى وأخيرة ؛ فالأولى هي القديمة ويقال لها الجاهلية الجهلاء وهي تمتد الى أبعد الآماد والجاهلية الأخيرة تمتد من منتصف القرن الخامس الميلادي ، وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي في منتصف الطريق تعرض نفسها على الرجال فنهين عن ذلك.


(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧))

الاعراب :

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) الواو عاطفة


واذكرن فعل أمر والنون فاعل وما مفعول به وجملة يتلى صلة ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على ما وفي بيوتكن متعلقان بيتلى ومن آيات الله حال والحكمة عطف على آيات الله.

(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود على الله ولطيفا خبرها الأول وخبيرا خبرها الثاني.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) كلام مستأنف مسوق لخطاب النساء بما يخاطب به الرجال من شئون الهداية والتعليم السامية فقد قالت أزواج النبي إن الله ذكر الرجال في كتابه ولم يذكر النساء بخير فنزلت. وان واسمها وما بعدها عطف على الاسم الى قوله والذاكرات وليس فيها ما يستدعي التنبيه سوى قوله فروجهم فهو مفعول به للحافظين وكذلك قوله والذاكرين الله فلفظ الجلالة مفعول به للذاكرين وجملة أعد خبر إن والله فاعل أعد ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول أعد وعظيما صفة.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الواو استئنافية والكلام مسوق للشروع في قصة عبد الله بن جحش وأخته زينب وزيد بن حارثة وسيأتي بحث مسهب عنها في باب الفوائد. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولمؤمن خبر كان المقدم ولا مؤمنة عطف على لمؤمن وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقضى الله ورسوله صلة والجواب محذوف يدل عليه النفي المتقدم ولك أن تجعل إذا للظرفية المحضة فتتعلق بالاستقرار الذي


تعلق به خبر كان وأن يكون مصدر مؤول هو اسم كان ولهم خبر يكون المقدم والخيرة اسمها المؤخر وذكر يكون لأن المؤنث مجازي وقرىء بالتاء ومن أمرهم حال من الخيرة والخيرة مصدر تخير كالطيرة من تطير وجمع الضمير في أمرهم وفي لهم لوقوعهما في سياق النفي وقد تقدم أن النكرة إذا وقعت في سياق النفي دلت على العموم ليشمل كل مؤمن ومؤمنة كما غلب المذكر على المؤنث. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويعص فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة وفاعل يعص مستتر تقديره هو يعود على من ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه والفاء رابطة للجواب لأنه اقترن بقد وضل فعل ماض وفاعله مستتر أيضا وضلالا مفعول مطلق ومبينا صفة.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) عطف على ما سبق وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر مقدرا وجملة تقول في محل جر بإضافة الظرف إليها وللذي متعلقان بتقول وجملة أنعم الله عليه صلة وأنعمت عليه عطف على الصلة وجملة أمسك مقول القول وعليك متعلقان بمحذوف حال كما قيل في اللام في سقيا لك وإما متعلقان بأمسك على حذف مضاف أي أمسك على نفسك وزوجك مفعول به واتق الله عطف على أمسك. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) الواو واو الحال أو للعطف وفي نفسك متعلقان بتخفي وما مفعول به والله مبتدأ ومبديه خبر والجملة صلة ما. (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) الواو حالية أو عاطفة أيضا وتخشى الناس فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والواو عاطفة أو حالية والله مبتدأ وأحق خبر وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل اشتمال من


اسم الله وقد تقدم هذا الاعراب في سورة التوبة ونزيد هنا أنه يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض متعلق بأحق واختار أبو البقاء وجها ثالثا وهو أن يكون أن تخشوه مبتدأ وأحق خبره مقدم عليه والجملة خبر عن اسم الله.

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وقضى زيد فعل وفاعل ومنها متعلقان بقضى ووطرا مفعول به وزوجناكها فعل ماض وفاعل والكاف مفعول به أول والهاء مفعول به ثان والجملة لا محل لها. وقضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) اللام حرف جر للتعليل وكي حرف مصدري ويكون فعل مضارع منصوب بكي والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بزوجناكها على أنه تعليل للتزويج وعلى المؤمنين خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وفي أزواج أدعيائهم صفة لحرج. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) كان واسمها وخبرها والجملة معترضة أو معطوفة على ما تقدم.

الفوائد :

وعدناك ببسط القول في قصة زواج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش وبرا بالوعد ودحضا للأراجيف التي أثارها المتشككون والذين في قلوبهم مرض وهوى نقول : تقدم القول في ترجمة زيد بن حارثة وأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش وكان قد خطبها عليه فكره عبد الله وزينب ذلك لظنهما قبل ذلك أن النبي خطبها لنفسه ثم


رضيا فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر كما يروى ، فمن الجدير بالملاحظة أن زينب كانت بنت عمة النبي وربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت من والدها ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم كما يزعم المتشككون لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ونضرة جدته وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة بيد أنه لم يرغبها لنفسه ورغبها لمولاه فكيف يستهويه جمالها ويصيبه سهم حبها بعد أن صارت زوجا لعبد أعتقه وأنعم عليه بالحرية؟

هذا ولم يعرف في الطبائع أن تغلب الشهوة على الإنسان حتى يعشق من هو قريب منه أو من عايشه في صغره ، فكيف يسوغ لنا أن ندعي وجود هذه الشهوة في رجل عرف بالعفة والاستقامة طوال عمره وصوت الله يهتف في أذنه : «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا» بل كيف يسمح لنفسه بالانزلاق الى هذه الوهدة السحيقة وهو يتهيأ لبث رسالة ونشر تعاليم دين جديد يتغاير مع مألوف قومه ويهدم ما ألفوه من عادات وترسموه من نظم وطقوس؟الواقع أنه ، صلى الله عليه وسلم ، لم يبال بإباء زينب الاقتران بزيد ورغبتها عنه ، وقد كان يعلم حق العلم ، أن زواجا يقوم على التنافر أمر يفقد طبيعة الانسجام بين الزوجين التي لا بد منها ليسود الوئام بينهما وتستقر الحياة الزوجية على أوطد الدعائم ، ولكنه أراد تنفيذ أمر الله في محو عادة جاهلية رديئة درج عليها العرب آنذاك وهي إعطاء الدعي جميع حقوق الابن واجراء جميع الاحكام المعتبرة للابن


عليه وله حتى في الميراث وحرمة النسب وقد تقدم قوله تعالى بهذا الصدد ناعيا على العرب ما كانوا يدينون به : «ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» وليس أحد أجدر من النبي يختصه الله بهذا التكليف الذي يبطل تلك العادة ويحمل العرب على التقصي منها ، فعمد بوحي منه تعالى الى خرق هذه العادة وإبطالها فأرغم زينب أن تتزوج بزيد وهو مولاه وصفيه تمهيدا لإقامة شرع جديد وتنفيذ حكم إلهي لا محيد عن تنفيذه ، وبعد أن صارت زينب الى زيد لم يسلس قيادها ولم يلن إباؤها بل شمخت عليه وتعالت ، وتعمدت إيلام قلب زوجها ، بالتعالي عليه في النسب والحرية فاشتكى زيد ذلك إلى النبي المرة بعد المرة والنبي في خلقه السمح وسجاياه الطاهرة يهدهد من آلام زيد ويقول له «أمسك عليك زوجك واتق الله» إلى أن أتى أمر الله وغلب على ذلك كله فسمح لزيد بطلاقها بعد أن استحال جو البيت جحيما لا يطاق كما قال تعالى «لكيما يكون على المؤمنين من حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا» وأكد ذلك كما يأتي ، بقوله : «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما».

وعلى هذا النحو يمكن القول بصورة جازمة أن الله تعالى ذكر نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق وليدفع عنه ما حاك في صدور ضعاف العقول فقال : «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه» بالإسلام «وأنعمت عليه» بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة وتزويجه بنت عمتك وتعظه عند ما كان يشكو إليك من إيذاء زوجه : «أمسك عليك زوجك واتق الله» واخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد


يؤذي قلبها وارع حق الله في نفسك أيضا فربما لا تجد بعدها خيرا منها ، تقول ذلك وأنت تعلم أن الطلاق أمر لا بد منه لما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة حسنة لمن معك ولمن يأتي بعدك وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا : تزوج محمد مطلقة متبناه فأنت في هذا «تخفي في نفسك ما الله مبديه» من الحكم الذي ألهمك «وتخشى الناس والله» الذي أمرك بذلك كله «أحق أن تخشاه» فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقرير شرعه ثم زاده بيانا بقوله : «فلما قضى زيد منها وطرا» أي حاجة بالزواج «زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا» لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل زوجات لأدعيائهم «وكان أمر الله مفعولا».

هذا هو التعليل الصحيح ، والتفسير القويم ، لهذه القصة وأما ما رووه من أن النبي مرّ ببيت زيد وهو غائب فرأى زينب فوقع منها في قلبه شيء فقال : سبحان مقلب القلوب فسمعت زينب التسبيحة فنقلتها إلى زيد فوقع في قلبه أن يطلقها إلى آخر هذا الهراء الذي يترفع النبي عنه فقد فنده المحققون من العلماء وقال الإمام أبو بكر بن العربي : انه لا يصح وان الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية لم يقدروا مقام النبوة حق قدره ، ولم تصب عقولهم من معنى الصحة كنهها ، وأطال ابن العربي في ذلك إلى أن يقول :«فأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ولم يكن حينئذ حجاب فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها


زوج وقد وهبته نفسها وكرهت غيره فلم يخطر ذلك بباله ، فكيف يتجدد هوى لم يكن؟ حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وقد قال سبحانه «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه» والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين؟ ولم يخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات المحبوسات» إلى أن يقول : «فإن قيل لأي معنى قال له : أمسك عليك زوجك وقد أخبره الله أنها زوجته؟ قلنا أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبة عنها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها ، فإن قيل كيف يأمره بإمساكها وقد علم أن الفراق لا بدّ منه وهذا تناقض؟ قلت : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة كإقامة الحجة ومعرفة العاقبة ، ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما وهذا من نفيس العلم فاقبلوه».

قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : «إنما عتب الله عليه من أجل أنه قد أعلمه بأنه ستكون هذه من أزواجك فكيف قال بعد ذلك لزيد أمسك عليك زوجك وأخذتك خشية الناس أن يقولوا تزوج زوجة ابنه والله أحق أن تخشاه». وقال النحاس : «قال بعض العلماء ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة ، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن به الناس» وروي عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها فلما شكا


زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وانها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك وهذا هو الذي أخفي في نفسه وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه لو أمره بطلاقها فعاتبه الله على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله تعالى وأعلمه أن الله أحق بالخشية».

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : «أما والله لو لا ما أدخل الضعفاء والمدلسون من مثل هذه الرواية ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه فإن نصّ الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر والتريث به وان الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه بأن يهدم تلك السعادة المتأصلة في نفوس العرب وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له ولم يكن يمنعه من من إبداء ما أبدى الله إلا حياء الكريم وتؤدة الحليم مع العلم بأنه سيفعل لا محالة لكن مع معاونة الزمان».

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ


رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

الاعراب :

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) استئناف مسوق لنفي الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في زواجه بزينب وهي امرأة زيد الذي تبناه وما نافية وكان فعل ماض ناقص وعلى النبي خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه اسم كان المؤخر وفيما صفة لحرج وجملة فرض الله صلة لما. (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) سنة الله اسم موضوع موضع المصدر لأن السنة بمعنى الطريقة والسيرة وتأتي أيضا بمعنى الطبيعة والشريعة والوجه أو دائرته ، وهذا ما جنح إليه الزمخشري في إعرابه واختار غيره أن يكون نصبا على المصدر أو على نزع الخافض أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل وسيأتي مزيد من القول في هذا الصدد في باب الفوائد ، وفي الذين متعلقان بمحذوف حال أي متبعة وجملة خلوا صلة الذين ومن قبل متعلقان بخلوا وكان أمر الله كان واسمها وقدرا خبرها ومقدورا صفة لازمة للتأكيد كيوم أيوم وليل أليل وظل ظليل. (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) الذين لك أن تجعلها صفة للأنبياء أي في الأنبياء الذين خلوا من قبل والذين يبلغون رسالات الله ولك أن تقطعها فتعربها خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يبلغون صلة ورسالات الله مفعول يبلغون.


(وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ويخشونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية ويخشون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول يخشون وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا وحسيبا تمييز أو حال. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ما نافية وكان محمد كان واسمها وأبا أحد خبرها ومن رجالكم صفة لأحد (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف ، ورسول الله عطف على أبا أحد أو نصب على تقدير كان لدلالة كان السابقة عليها أي ولكن كان رسول الله ، وخاتم النبيين عطف على رسول الله ، والخاتم هو الطابع بفتح التاء وكسرها وكان واسمها وخبرها وبكل شيء متعلقان بعليما.

البلاغة :

في قوله «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم» الآية فن التلفيف ، وفي محيط المحيط : التلفيف عند البلغاء هو التناسب وهو عبارة عن إخراج الكلام مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وإنما قصد ذكر حكم داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه ، وأوضح من هذا أن يقال انه جواب عام عن نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة إلى بيانها كلها فيعدل المجيب عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع الى جواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره مما تدعو الحاجة الى بيانه فإن قوله :«ما كان محمد ... إلخ» جواب عن سؤال مقدر وهو قول قائل :أليس محمدا أبا زيد بن حارثة؟ فأتى الجواب يقول : ما كان محمد


أبا أحد من رجالكم ، وكان مقتضى الجواب أن يقول : ما كان محمد أبا زيد وكان يكفي أن يقول ذلك ولكنه عدل عنه ترشيحا للإخبار بأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا يتم هذا الترشيح إلا بنفي أبوته لأحد من الرجال فإنه لا يكون خاتم النبيين إلا بشرط أن لا يكون له ولد قد بلغ فلا يرد أن له الطاهر والطيب والقاسم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ثم احتاط لذلك بقوله من رجالكم فأضاف الرجال إليهم لا إليه فالتف المعنى الخاص في المعنى العام وأفاد نفي الأبوة الكلية لأحد من رجالهم وانطوى في ذلك نفي الأبوة لزيد ثم ان هناك تلفيفا آخر وهو قوله ولكن رسول الله فعدل عن لفظ نبي الى لفظة رسول لزيادة المدح لأن كل رسول نبي ولا عكس على أحد القولين فهذا تلفيف بعد تلفيف.

الفوائد :

المفعول المطلق والمصدر :

المفعول المطلق هو الحاصل بالمصدر أي الأثر لا المصدر الذي هو التأثير فإطلاق المصدر على المفعول بضرب من المسامحة وعدم التمييز بين التأثير والأثر وإيضاح ذلك أن صيغ المصادر موضوعة للأثر الحاصل بتأثير الفاعل المسمى بلفظ المصدر كما أنها موضوعة لإيقاع ذلك الأثر وإلا يلزم التجوز في كل مفعول مطلق ولا سبيل إليه لوجود أمارة الحقيقة من تبادر معناه من غير حاجة الى القرينة وفي عدم التمييز بين التأثير والأثر وإن صرح به ابن سينا نظرا لأنهما من مقولتين مختلفتين فالأول من مقولة الفعل والثاني من مقولة الانفعال وقال بعض المحققين : الاتحاد أمر موجود لكن لا ينافي الاختلاف بحسب


المفهوم فإن الضوء الحاصل من الشمس في البيت أمر موجود لكن إذا نسب الى الشمس يسمى اضاءة وإذا نسب الى البيت يسمى استضاءة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الذكر ليس له حدود ينتهي إليها ويقف عندها إذ ما من عبادة إلا ولها حدود معلومة ورسوم مرسومة ، ما عدا الذكر فانه يتجاوز حدود الزمان والمكان. واذكروا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وذكرا مفعول مطلق وكثيرا صفة. (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) فعل أمر


وفاعل ومفعول به وبكرة ظرف لأول النهار متعلق بسبحوه ، وأصيلا عطف على بكرة وهو ظرف لآخر النهار وسيأتي سر تخصيصهما وتخصيص التسبيح بالذكر في باب البلاغة. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) تعليل لما تقدم من الأمر بالذكر والتسبيح وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصلي صلة الموصول وعليكم متعلقان بيصلي وملائكته عطف على الضمير المستكن في يصلي. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) اللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر والكاف مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيخرجكم وكان الواو اعتراضية وكان واسمها المستتر وبالمؤمنين متعلقان برحيما ورحيما خبرها والاعتراض بمثابة التقرير لمضمون ما تقدم.

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) استئناف مسوق لبيان ما أعد لهم في الآجلة ، وتحيتهم مبتدأ والهاء مضاف لتحية من إضافة المصدر إلى مفعوله أي يحيون يوم لقائه بسلام والظرف متعلق بمحذوف حال وجملة يلقونه في محل جر باضافة الظرف إليها وسلام خبر تحيته والواو استئنافية وأعد فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول به وكريما صفة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ان واسمها وجملة أرسلناك خبرها وشاهدا حال مقدرة وسيأتي ذكر الحال المقدرة وسرها في باب الفوائد ومبشرا ونذيرا عطف على شاهدا. (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) وداعيا عطف أيضا على شاهدا والى الله متعلقان بداعيا وبإذنه حال وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة.

وسراجا منيرا عطف أيضا والكلام تشبيه بليغ سيأتي حكمه في باب البلاغة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) عطف على ما تقدم وبشر


فعل أمر والمؤمنين مفعول به وبأن متعلقان ببشر ولهم خبر أن ومن الله حال وفضلا اسم إن المؤخر وكبيرا صفة لفضلا.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) عطف على ما تقدم ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به والمنافقين عطف على الكافرين ودع أذاهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به من باب إضافة المصدر الى فاعله أو مفعوله فيكون المعنى على الأول دع أذيتهم إياك من غير مجازاة وعلى الثاني دع ما آذوك ولا تؤاخذهم حتى تؤمر بذلك وقد جاء الأمر بعد ذلك بالقتال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض والباء زائدة والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز أو حال وقد تقدم نظيره.

البلاغة :

التخصيص :

خص البكرة والأصيل في قوله «وسبحوه بكرة وأصيلا» بالذكر لإظهار فضلهما والتنويه بهما لأن العبادة فيهما آكد على الإنسان كما خص التسبيح وهو من أنواع الذكر ليبين فضله على سائر الأذكار ، روى الترمذي في خطابه صلى الله عليه وسلم لجويرية أم المؤمنين : «ألا أعلمك كلمات تقولينها : سبحان الله عدد خلقه ، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» قال الجلال السيوطي في التعليق على هذا الحديث : «سئلت قديما عن إعراب هذه الألفاظ ووجه النصب فيها فأجبت بأنها منصوبة على الظرف بتقدير قدر»


وقد نص سيبويه على أن من المصادر التي تنصب على الظرف قولهم زنة الجبال ووزن الجبل وقد صنف الجلال السيوطي كتابا لطيفا سماه «رفع السنة عن نصب الزنة» وقيل بل يعربان نصبا على المصدرية وعليها فقدره بعضهم أعد تسبيحه بعدد خلقه وقدره آخرون : سبحته تسبيحا يساوي خلقه عند التعداد ، قال ابن حجر في المشكاة : «والأول أوضح» وأعربه آخرون نصبا بنزع الخافض. هذا وللنووي كتاب لطيف في الأذكار اسمه : «الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار» فارجع إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ


عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) إذا ظرف مستقبل وجملة نكحتم المؤمنات في محل جر بإضافة الظرف إليها وسيأتي معنى نكحتم المؤمنات في باب البلاغة. (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ثم حرف عطف وتراخ وطلقتموهن فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع الضمة ومن قبل متعلقان بطلقتموهن وأن تمسوهن المصدر المؤول مضاف لقبل ولمراد بالمس الجماع والفاء رابطة لجواب إذا وما نافية ولكم خبر مقدم وعليهن متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدة ومن حرف جر زائد وعدة مجرور لفظا مبتدأ محلا وجملة تعتدونها صفة لعدة وتعتدونها من العدد أي تستوفون عددها من قولك عد الدراهم فاعتدها. (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) الفاء الفصيحة ومتعوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به وسرحوهن عطف على متعوهن وسراحا جميلا مفعول مطلق ، وأحكام التمتيع مبسوطة في كتب الفقه فليرجع إليها من شاء هناك. والسراح الجميل الذي لا ضرر فيه.


(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) كلام مستأنف مسوق لاختصاص النبي بالأطيب الأزكى بعد أن خيّر نساءه فاخترنه. وان واسمها وجملة أحللنا خبرها ولك متعلقان بأحللنا وأزواجك مفعول به واللاتي صفة وجملة آتيت صلة وأجورهن أي مهورهن مفعول به.

(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) وما عطف على أزواجك وجملة ملكت صلة ويمينك فاعل ملكت ومما حال مبينة لما ملكت وأفاء الله فعل وفاعل والفيء الغنيمة وعليك متعلقان بأفاء وسيأتي ما يزيد ذلك وضوحا في باب الفوائد. (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) عطف على ما تقدم واللاتي صفة وجملة هاجرن صلة ومعك ظرف متعلق بهاجرن وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن كما قال تعالى : «فيهما فاكهة ونخل ورمان» (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) وامرأة معطوف على مفعول أحللنا أي وأحللنا لك امرأة وهبت نفسها لك بغير صداق اما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه ، وإن شرطية ووهبت فعل الشرط ونفسها مفعول به وللنبي متعلقان بوهبت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي أحللنا وإن شرطية مقيدة للأولى وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنبي فاعل وأن يستنكحها مصدر مؤول مفعول أراد. والاستنكاح مثل النكاح يقال نكحها واستنكحها قال النابغة :

وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة

أبا جابر واستنكحوا أم جابر


وهو في اللغة بمعنى الضم والجمع ومنه تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها الى بعض. قال عمر بن أبي ربيعة :

واستنكح النوم الذين نخافهم

ورمى الكرى بوّابهم فتجدلا

والجملة الشرطية الثانية في محل نصب حال لأن الحال قيد فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها نكاحها كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول وما به تتم. (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مصدر مؤكد لفعل محذوف أي خلصت لك خالصة وقد ورد المصدر على هذه الزنة كالعاقبة والكاذبة ، وفاعل المصدر مستتر تقديره النكاح بلفظ الهبة وأل عوض عن الضمير المحذوف أي خالصا لك نكاحها وعلى هذا الوجه اقتصر الزمخشري ، واختار الزجاج وأبو البقاء أن تكون حالا من امرأة لأنها وضعت فتخصصت جريا على القاعدة المشهورة وقيل حال من فاعل وهبت أي حال كونها خالصة لك دون غيرك ولا يبعد أن تكون نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة ، ولك متعلقان بخالصة ومن دون المؤمنين حال. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل وما مفعول علمنا وجملة فرضنا صلة وعليهم متعلقان بفرضنا وفي أزواجهم حال وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة ، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أن الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة يجب أن يكون ففرضه كما علم اختصاص رسوله بما تتوفر فيه المصلحة فاختصه بذلك.


(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لكيلا متعلقان بأحللنا أو بخالصة باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له وعليك خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وكان واسمها وخبراها. (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) كلام مستأنف للشروع في بيان حكم معاشرته لنسائه بعد بيان حلهن له.

وترجي أي تؤخر فعل مضارع مرفوع وقرىء بالهمزة أي ترجىء والفاعل مستتر تقديره أنت ومن تشاء مفعول به ومنهن حال وتؤوي أي تضم عطف على ترجىء وإليك متعلقان بتؤوي ومن تشاء مفعوله أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيّرا في أزواجه.

(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) الواو استئنافية ومن يجوز أن تكون موصولة فهي في محل رفع مبتدأ وجملة ابتغيت صلة والعائد محذوف والفاء رابطة لما تقدم من أن في الموصول رائحة الشرط وجملة لا جناح عليك خبر من ويجوز أن تكون شرطية فهي في محل نصب مفعول مقدم لابتغيت وقوله فلا جناح عليك جوابها ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليك خبرها.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ) ذلك مبتدأ والاشارة الى التخيير والتفويض الى مشيئته صلى الله عليه وسلم وأدنى خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي الى أن تقرّ وهو متعلق بأدنى وأعينهن فاعل تقر ولا يحزن عطف على تقر أي وأقرب الى قلة حزنهن وأقرب الى رضائهن جميعا لتسويته بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء فلم يكن بينهن ثمة تفاضل وتمايز. (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) ويرضين عطف على ما تقدم وبما متعلقان بيرضين وجملة آتيتهن صلة وكلهن تأكيد


للنون في يرضين والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول يعلم وفي قلوبكم متعلقان بمحذوف صلة ما أي استقر في قلوبكم وكان واسمها وخبراها. (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) كلام مستأنف مسوق لتبيان ما يحل له ولا نافية ويحل فعل مضارع مرفوع وبك متعلقان بيحل والنساء فاعل ، ومن بعد حال وبني بعد على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى والمعنى من بعد التسع المجتمعات في عصمتك وهن نصابه كما أن الأربع نصاب أمته ، والواو عاطفة ولا نافية وأن تبدل مصدر مؤول معطوف على النساء ونائب فاعل تبدل مستتر تقديره أنت وبهن متعلقان بتبدل ومن حرف جر زائد وأزواج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به ، قال ابن زيد : هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم : خذ زوجتي وأعطني زوجتك.

(وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) الواو للحال والجملة حالية من الضمير في تبدل أي مفروضا إعجابك بهن ، ولو شرطية وأعجبك حسنهن فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ، قال ابن عطية : «وفي هذا اللفظ أعجبك حسنهن دليل على جواز أن ينظر الرجل الى من يريد زواجها» وإلا ما ملكت يمينك : في هذا الاستثناء وجهان أحدهما انه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان النصب على الاستثناء والرفع على البدلية وهو الأرجح والثاني انه مستثنى من أزواج فيجوز فيه النصب على الاستثناء والجر على البدلية منهن على اللفظ أو النصب على المحل وجملة ملكت يمينك صلة ما وكان واسمها وخبرها وعلى كل شيء متعلقان برقيبا.


البلاغة :

في قوله «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ... إلخ» تسمية العقد نكاحا مجاز مرسل علاقته الملابسة من حيث أنه طريق إليه ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنها سبب في مقارفة الاسم.

وفي قوله تمسوهن كناية عن الوطء ومن آداب القرآن الكناية عن الوطء بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.

وفي قوله «إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين» الالتفات من الغيبة الى الخطاب وقد تقدم بحث الالتفات مفصلا في أكثر من موضع ، والسر في الالتفات هنا أنه رجوع الى أصل الكلام فقد صدر الكلام بمخاطبة النبي بقوله : يا أيها النبي إنا أحللنا لك إلخ ثم عدل عن الخطاب الى الغيبة في قوله إن أراد النبي أن يستنكحها للإيذان بأنه مما خص به وأوثر وأن هذا الاختصاص تكرمة له من أجل النبوة. وهذا من أسرار البيان فتنبه له.

الفوائد :

في قوله «لا يحل لك النساء من بعد» قلنا في باب الاعراب أن الظرف بني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى ، وأراد من بعد التسع اللواتي اخترنك واللواتي توفي عنهن وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بنت أخطب


الخيبرية وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجورية بنت الحارث الصطلقية ، رضي الله عنهن والمعنى أن التسع في حقه كالأربع في حقنا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣))

اللغة :

(إِناهُ) بكسر الهمزة وفتحها حلول الوقت والنضج وهو مصدر أنى يأني أي مصدر سماعي لأنه من باب رمى وقياس مصدره أني كرمي ولكنه لم يسمع ولكن المسموع إنى بالكسر والقصر بوزن رضا.


الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما يجب على الناس من رعاية حقوق نساء النبي. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوت النبي مفعول به على السعة. (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) إلا أداة حصر وأن يؤذن المصدر استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأذونا لكم ، واختار الزمخشري أن يكون استثناء مفرغا من أعم الظروف أي لا يدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم وليس اختياره ببعيد.

ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول ولكم متعلقان بيؤذن وكذلك قوله إلى طعام لتضمن يؤذن معنى الدعاء واختار السمين أيضا أن يكون المصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي إلا بسبب الإذن لكم وتكون الباء للسببية ، وغير ناظرين حال من لا تدخلوا وقع الاستثناء على الظرف والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين ، وإناه أي نضجه فهو مفعول به لناظرين وهم قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه.

(وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مخفف مهمل وإذا ظرف مستقبل وجملة دعيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها ، فادخلوا الفاء رابطة وادخلوا فعل أمر وفاعل ، فإذا الفاء عاطفة وجملة طعمتم مضاف إليها الظرف ، فانتشروا جواب إذا ، ولا مستأنسين الواو عاطفة


ولا نافية ومستأنسين معطوف على غير ناظرين وقيل هو معطوف على حال مقدرة أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين واختار الزمخشري وغيره انه مجرور عطفا على ناظرين ، ولحديث متعلقان بمستأنسين فاللام للعلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضا ويجوز أن تكون لتقوية العامل أي ولا مستأنسين حديث أهل البيت وغيرهم.

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) الجملة تعليل للنهي وإنّ حرف مشبه بالفعل وذلكم اسمها وجملة كان يؤذي النبي خبرها والاشارة الى المكث واللبث وجملة يؤذي النبي خبر كان ، فيستحيي عطف على يؤذي ومنكم متعلقان به ولا بد من تقدير مضاف أي من إخراجكم والواو حالية أو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يستحيي من الحق خبره والمراد بالحق الإخراج وسيأتي معنى هذا المثل في باب البلاغة. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة سألتموهن في محل جر بإضافة الظرف إليها فاسألوهن الفاء رابطة واسألوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به ومتاعا مفعول به ثان لسأل ومن وراء حجاب متعلقان باسألوهن. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) اسم الاشارة مبتدأ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث وسؤال المتاع من وراء حجاب ، وأطهر خبر ولقلوبكم متعلقان بأطهر وقلوبهن عطف على قلوبكم.

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وان وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع اسمها المؤخر ورسول الله مفعول به ولا أن تنكحوا عطف على أن تؤذوا


وأزواجه مفعول به ومن بعده حال وأبدا ظرف. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) إن واسمها والاشارة الى ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده وجملة كان خبر إن واسم كان مستتر وعظيما خبر وعند الله متعلق بمحذوف حال.

البلاغة :

المجاز في قوله «والله لا يستحيي من الحق» وعلاقة هذا المجاز السببية لأن من استحيا من شيء تركه عادة والكلام جار مجرى المثل ليكون تأديبا يتعظ به الثقلاء ، وما أجمل قول عائشة : «حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم».

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

الاعراب :

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إن شرطية وتبدوا فعل الشرط والواو فاعل وشيئا مفعول به ، أو


تخفوه عطف على تبدوا وهو فعل وفاعل ومفعول به ، فإن الله الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة كان خبرها وبكل شيء متعلقان بعليما وعليما خبر كان. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ) لا نافية للجنس وجناح اسم لا وعليهن خبرها وفي آبائهن حال أي لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء (وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله ولا نسائهن أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن نسائهن أي النساء المسلمات.

(وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) الواو عاطفة واتقين فعل أمر معطوف على محذوف أي امتثلن ما أمرتن به ، واتقين الله على طريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة ، ونون النسوة ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وجملة كان واسمها المستتر وخبرها في محل رفع خبر ان.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق لتشريفه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا. وان واسمها وملائكته عطف على الله وجملة يصلون على النبي خبر إن. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) تسليما مصدر مؤكد

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ


وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

اللغة :

(جَلَابِيبِهِنَّ) : الجلابيب : الملاحف والواحد جلبات ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا :

تمشي النسور إليه وهي لاهية

مشي العذارى عليهن الجلابيب

وقال أبو الطيب :

من الجآذر في زي الأعاريب

حمر الحلي والمطايا والجلابيب

وفي القاموس وغيره : «الجلباب والجلباب بتشديد الباء الأولى وهو القميص أو الثوب الواسع» وفي الكشاف : «الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها».

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إن واسمها وجملة يؤذون الله ورسوله صلة ومعنى إيذاء الله ورسوله


فعل ما يسخطهما وجملة لعنهم الله خبر إن وفي الدنيا والآخرة متعلقان بلعنهم. (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) عطف على جملة الخبر وعذابا مفعول أعد ولهم متعلقان بأعد. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) الذين مبتدأ وجملة يؤذون المؤمنين والمؤمنات صلة وبغير متعلقان بيؤذون وما موصولة أو مصدرية وعلى كل فهي أو المصدر مضافان الى غير. (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وقد حرف تحقيق واحتملوا فعل وفاعل والجملة خبر الذين وبهتانا مفعول احتملوا وإثما عطف على بهتانا ومبينا صفة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق لأمر المستهدفات للأذى بفعل ما يبعد الأذى عنهن من التستر. ولأزواجك متعلقان بقل وما بعده عطف عليه.

(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) جملة يدنين مقول القول محذوف يدل عليه جوابه أي قل لهن أرنيه ويحتمل أن يكون مجزوما بجواب الأمر وجوزوا أن يكون يدنين بمعنى ليدنين فهو مجزوم بلام الأمر ويكون هذا اهو المقول وقد تقدم في الرعد بحث نظيره مفصلا فارجع اليه. وعليهن حال ومن جلابيبهن متعلقان بيدنين على أنه مفعوله ، قال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى من في جلابيبهن قلت هو للتبعيض إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين أحدهما أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب والمراد أن لا تكون الحرة مبتذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها والثاني أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة» وقوله الماهنة مؤنث الماهن وهو الخادم. وذلك


مبتدأ وأدنى خبر وأن يعرفن المصدر المؤول نصب بنزع الخافض أي أقرب إلى أن يعرفن والفاء عاطفة ولا نافية ويعرفن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهو معطوف على أن يعرفن.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة وكان واسمها وخبراها.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣))

اللغة :

(الْمُرْجِفُونَ) : قال في الأساس : «وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. وهذا من أراجيف الغواة والإرجاف مقدمة الكون ، وتقول :إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف» وجاء في غيره ما نصه :«أرجف : خاص في الأخبار السيئة والفتن قصد أن يهيج الناس ، وأرجف القوم بالشيء وفيه : خاضوا فيه ، وأرجفت الريح الشجر :حركته ، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول : زلزلت ، وأصل الإرجاف


التحريك مأخوذ من الرجفة وهي الزلزلة ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة».

وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، ومنه قول الشاعر :

المطعون اللحم كلّ عشية

حتى تغيب الشمس في الرّجاف

(مَلْعُونِينَ) : قال في الأساس واللسان : «لعنه أهله : طردوه وأبعدوه وهو لعين طريد وقد لعن الله إبليس : طرده من الجنة وأبعده من جوار الملائكة ، ولعنت الكلب والذئب : طردتهما ويقال للذئب : اللعين ولعنّه وهو ملعّن : مكثّر لعنه ، وتلاعن القوم وتلعّنوا والتعنوا والتعن فلان : لعن نفسه ورجل لعنة ولعنة كضحكة وضحكة ، ولا تكن لعّانا : طعّانا ، ولاعن امرأته ولا عن القاضي بينهما ، ووقع بينهما اللعان وتلاعنا والتعنا ، ومن المجاز : أبيت اللعن وهي تحية الملوك في الجاهلية أي لا فعلت ما يستوجب به اللعن وفلان ملعّن القدر ، قال زهير :

ومرهّق النيران يحمد في اللأ

واء غير ملعّن القدر

ونصب اللعين في مزرعته وهو الفزّاعة ، والشجرة الملعونة :كل من ذاقها لعنها وكرهها».

(ثُقِفُوا) : وجدوا وأدركوا وفي الأساس : «وطلبناه فثقفناه في مكان كذا أي أدركناه وثقفت العلم أو الصناعة في أوحى مدة : إذا أسرعت أخذه وغلام ثقف لقف وثقف لقف وقد ثقف ثقافة وثاقفة مثاقفة : لاعبه بالسلاح وهي محاولة أخذ الغرّة في المسايفة


وغيرها وفلان من أهل المثاقفة وهو مثاقف : حسن الثّقافة بالسيف بالكسر ولقد تثاقفوا فكان فلان أثقفهم ، وخلّ ثقيف وثقّيف وفي كتاب العين : ثقيف وقد ثقف ثقافة ومن المجاز : أدّبه وثقّفه ولو لا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئا وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك» وعبارة القاموس : «ثقف ككرم وفرح ثقفا وثقفا وثقافة صار حاذقا خفيفا فطنا فهو ثقف كحبر وكتف وأمير».

الاعراب :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وينته فعل مضارع مجزوم بلم وهو بمثابة فعل الشرط والمنافقون فاعله والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) والمرجفون عطف أيضا فاستوفى به الأوصاف الثلاثة لشيء واحد فقد كانوا اقساما ثلاثة فمنهم المنافقون وأهل الفجور مرضى القلوب والمرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله أو هو عام في كل إرجاف وتأليف لأخبار السوء. وفي المدينة متعلقان بالمرجفون واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم ونغرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبهم متعلقان بنغرينك.

(ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإنما أوثر حرف العطف الدال على التراخي لأن الجلاء عن


الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه ، وفيه إشارة الى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد. ولا نافية ويجاورونك فعل مضارع معطوف على نغرينك فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله والكاف مفعوله وفيها متعلقان بمحذوف حال وإلا أداة حصر وقليلا ظرف زمان متعلق بيجاورونك أو مصدر ـ أي إلا جوارا ـ أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم. (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) ملعونين حال من مقدر حذف هو وعامله أي ثم يخرجون أو من فاعل يجاورونك وقد دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا كما في قوله «إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه» وقال الزمخشري :«ولا يصح أن ينتصب عن أخذوا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها وقيل في قليلا هو منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين» وأجاز الكسائي والفراء أن ينتصب عن أخذوا لأنهما يجيزان تقديم معمول الجواب على أداة الشرط نحو : خيرا إن تأتيني تصب. وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بأخذوا أي بجوابه وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وأخذوا فعل ماض مبني للمجهول أيضا وهو جواب الشرط وقتلوا فعل ماض مبني للمجهول وتقتيلا مفعول مطلق.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) سنة الله في موضع نصب على المصدرية أي أنه مصدر مؤكد أي سن


الله في الذين ينافقون أن يقتلوا حيثما ثقفوا ، وفي الذين حال وجملة خلوا صلة ومن قبل متعلقان بخلوا ولن الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول به. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود الذين كانوا يسألون النبي عن الساعة استعجالا بطريق الاستهزاء. ويسألك فعل مضارع ومفعول به مقدم والناس فاعل وعن الساعة متعلقان بيسألك. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) إنما كافة ومكفوفة وعلمها مبتدأ وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الواو عاطفة وما اسم استفهام للانكار مبتدأ وجملة يدريك خبره ولعل واسمها وجملة تكون خبرها والجملة معلقة بالاستفهام فهي في محل نصب مفعول ثان وقريبا خبر تكون على أن الموصوف محذوف أي شيئا قريبا ، وقل قريبا كثر استعماله استعمال الظروف فهو هنا ظرف في موضع الخبر ، وقد أشار الزمخشري الى الوجهين بقوله «قريبا شيئا قريبا أو لأن الساعة في معنى اليوم أو في زمان قريب».

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا


سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

اللغة :

(سادَتَنا) : جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام نحو كامل وكملة وساحر وسحرة وسافر وسفرة وبار وبررة ، قال الله تعالى : «وجاء السحرة» «بأيدي سفرة ، كرام بررة» فخرج بالوصف الاسم نحو واد وباز ، وبالتذكير نحو حائض وطالق ، وبالعقل نحو سابق ولا حق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو قاض وغاز فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطراد وشذّ في غير فاعل نحو سيد وسادة فوزنها فعلة ، ويجوز أن يكون جمعا لسائد نحو فاجر وفجرة وكافر وكفرة وهو أقرب الى القياس كما رأيت ، على أن صاحب القاموس لم يلتزم بالقاعدة فقال : «والسائد السيد أو دونه والجمع سادة وسيايد وقرأ ابن عامر ساداتنا فجمعه ثانيا بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضا».

الاعراب :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) إن واسمها وجملة لعن الكافرين خبرها وأعد عطف على لعن ولهم متعلقان بأعدّ وسعيرا مفعول به والسعير النار المسعورة الشديدة الإيقاد ولذلك أعاد الضمير


عليها مؤنثة. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) حال من الكافرين وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا وجملة لا يجدون حال ثانية ووليا مفعول يجدون ولا نصيرا عطف على وليا. (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) يوم ظرف زمان متعلق بيقولون أو متعلق بمحذوف تقديره اذكر وعلقه أبو البقاء بقوله لا يجدون أو بنصيرا وجملة تقلب في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو فعل مضارع مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بتقلب وجملة يقولون إما مستأنفة وإما حالية من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه وسيأتي في باب البلاغة سر تخصيص الوجوه ومعن تقليبها ، ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة أطعنا الله خبرها وأطعنا الرسولا عطف على أطعنا الله.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) كلام مستأنف مسوق لامتهاد العذر لأنفسهم ولك أن تعطفه على يقولون على طريق العدول عن المضارع الى الماضي للدلالة على أن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب من الاعتذار غير الوارد وغير المقبول. وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة أطعنا سادتنا وكبراءنا خبرها ، فأضلونا عطف على أطعنا وأضلونا فعل ماض وفاعل ومفعول به أول والسبيلا مفعول به ثان يقال ضل السبيل وأضله إياه وزيادة الألف لإطلاق الصوت ؛ جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر وفائدتها الوقف والاشارة الى أن الكلام قد انقطع وأن وما بعده مستأنف. (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) آتهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول وضعفين مفعول به ثان ومن


العذاب صفة لضعفين والعنهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولعنا مفعول مطلق وكبيرا نعت للعنا.

البلاغة :

في قوله «يوم تقلب وجوههم في النار» تخصيص الوجوه بالذكر لإنافة الوجه على جميع الأعضاء وهو مثابة المقابلة ، ومعنى تقليبها تصريفها في الجهات المختلفة كاللحم يشوى في النار أو توضع في ماء القدر وهو يغلي فيترامى بها الغليان الى كل جانب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))


اللغة :

(وَجِيهاً) : الوجيه : سيد القوم ذو الجاه والوجاهة يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه.

(سَدِيداً) : صوابا ، يقال سدّ يسدّ من باب ضرب صار سديدا والسداد بفتح السين : القصد الى الحق والقول بالعدل أما السداد بالكسر فكل شيء سددت به شيئا وذلك مثل سداد القارورة وسداد الثغر ، وجاء في أخبار النحويين أن النضر بن شميل المازني استفاد بإفادة هذا الحرف ثمانين ألف درهم قال : كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلة وعليّ قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين بهذه الخلقان؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحرّ مرو شديد فأبترد بهذه الخلقان.

قال : لا ولكنك قشف ، ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل الزوجة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز فأورده بفتح السين. قال : فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشيم ، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي ابن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز. قال : وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال : يا نضر كيف قلت سداد؟ قلت : لأن السّداد هنا لحن. قال : أو تلحنني؟ قلت : إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين لفظه. قال فما الفرق بينهما؟ قلت : السداد


بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سدادة قال : أو تعرف العرب ذلك؟ قلت : نعم هذا العرجي يقول :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

فقال المأمون : قبح الله من لا أدب له وأطرق مليا ثم قال :ما مالك يا نضر؟ قلت : أريضة لي بمرو أتمزّزها ، قال : أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت : إني الى ذلك لمحتاج ، قال : فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال : كيف تقول إذا أمرت أن يترب؟ : أترب ، قال : فهو ماذا؟ قلت : مترب ، قال : فمن الطين؟ قلت : طنه ، قال : فهو ماذا؟ قلت : مطين ، قال : هذه أحسن من الأولى ثم قال : يا غلام أتربه وطنه. ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه : تبلغ معه الى الفضل ابن سهل. قال : فلما قرأ الفضل الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني ؛ هذا وقد نظم بعضهم هذا الفرق بين الفتح والكسر مع ذكر الضم بقوله :

والاستقامة هي السّد

وبلغة من عيش السّداد

وجمع سدّة أتى سداد

وهي زكام مانع للنشر

وقال في القاموس : السّداد : داء في الأنف يمنع تنشم الريح.

(أَشْفَقْنَ) : خفن.


الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) لا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين خبرها على أن الكاف اسم بمعنى مثل والذين مضاف إليه ويجوز أن تكون جارة والجار والمجرور خبر تكونوا وجملة آذوا موسى صلة قيل انهم قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة وسيأتي حديث مسلم بهذا الصدد في باب الفوائد. (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) الفاء عاطفة وبرأه الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومما : يجوز أن تكون ما موصولة أو مصدرية أي من الذي قالوه أو من قولهم وعلى كل هو متعلق ببراءة والواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على موسى وعند الله متعلق بوجيها ووجيها خبر كان. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعوله وقولوا فعل أمر وفاعل وقولا مفعول مطلق وسديدا نعت.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جزم يصلح جوابا للطلب ولكم متعلقان بيصلح وأعمالكم مفعول به وجملة ويغفر لكم ذنوبكم عطف على الجملة السابقة. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع الله فعل الشرط ، فقد الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وفاز فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على من وفوزا مفعول مطلق وعظيما نعت والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بشأن


الأمانة وتفخيم أمرها وسيأتي مزيد بسط فيها في باب البلاغة ، وان واسمها وجملة عرضنا خبرها والأمانة مفعول عرضنا وعلى السموات متعلقان بعرضنا وما بعده عطف على السموات. (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) الفاء عاطفة وأبين فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبين وأشفقن عطف على أبين ومنها متعلقان بأشفقن.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الواو عاطفة وحملها فعل ماض ومفعول به مقدم والإنسان فاعل مؤخر وإن واسمها وجملة كان خبرها وظلوما خبرها الأول وجهولا خبرها الثاني.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) اللام متعلقة بحملها وقيل بعرضنا فاللام للتعليل على طريق المجاز لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة ويعذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والله فاعل والمنافقين مفعول به وما بعده عطف عليه.

(وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ويتوب الله عطف على يعذب الله وعلى المؤمنين متعلقان بيتوب والمؤمنات عطف على المؤمنين وكان واسمها وخبراها.

البلاغة :

التمثيل :

في قوله «إنا عرضنا الأمانة على السموات إلخ» فن التمثيل والمراد بالأمانة الطاعة عامة ولا مجال لتخصيصها ، وعرضها على السموات والأرض والجبال تمثيل فهي استعارة تمثيلية وقد سبق القول فيها ، ولكن عبد القاهر جعل فرقا بين الاستعارة والتمثيل فهو يفرق


أول ما يفرق بينهما بأن الاستعارة تكون في لفظ ينقل عن أصله اللغوي ويجري على ما لم يوضع له من أجل شبه ما نقل اليه وما نقل عنه فإذا قلت رأيت أسدا تريد به الرجل الشجاع كانت الاستعارة في كلمة الأسد ، أما التمثيل فهو التشبيه المنتزع من مجموع أمور لا تحصل إلا بجملة من الكلام أو أكثر وقد تجد الألفاظ في الجمل التي يعقد منها جارية على أصولها وحقائقها في اللغة ، هذا ويقوم التمثيل هنا على ما هو متخيل في الذهن فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم فالمشبه به إذن غير معقول ولكنك تتخيل حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، والأمانة التي هي الطاعات كأنها راكبة للمؤمن وهو حاملها ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ولي عليه حق فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها ، ونحوه قولهم لا يملك مولى لمولى نصرا يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل على حد قول القطامي وقيل ذي الرمة.

أخوك الذي لا تملك الحس نفسه

وترفض عند المحفظات الكتائف

أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده بل يبذل ذلك ويسمح به ، وحسّ له حسا رقّ وعطف والحس أيضا العقل والتدبير والنظر في العواقب والارفضاض من الترشرش والتناثر.

واحفظه إحفاظا فالمحفظات المغضبات والكتائف جمع كتيفة وهي الضغينة والسخيمة والحقد. يقول : هو أخوك الذي لا تملك نفسه


الرحمة بل يبذلها لك أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأني كي يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك لأنها تغضبه أيضا.

الفوائد :

هذه الآيات نزلت في شأن زيد وزينب وما راج فيه من قالة الناس وما أرجف به بعض المرجفين ، وقيل في أذى موسى أقوال شتى ، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى سوءة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا : والله ما منع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ، قال : فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجعل موسى عليه السلام يعدو أثره يقول ثوبي حجر ، ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل الى سوءة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظروا إليه قال : فأخذ ثوبه فاستتر به وطفق بالحجر ضربا. قال أبو هريرة : والله إن به ندبا ستة أو سبعة من ضرب موسى ، وفي القاموس : «الندبة أثر الجرح الباقي على الجلد والجمع ندب مثل شجرة وشجر وأنداب وندوب» والأدرة بضم الهمزة وسكون الدال المهملة وراء مفتوحة مرض تنتفخ منه الخصيتان وتكبران جدا لانصباب مادة أو ريح غليظ فيهما ورجل آدر بالمد كآدم به أدره.


سورة سبإ

مكيّة وآياتها اربع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))


اللغة :

(يَعْزُبُ) : في المصباح : «وعزب الشيء من بابي قتل وضرب غاب وخفي» وفي الأساس : «يقال : عزب عنه حلمه وأعزب حلمه كقولك أضل بعيره وأعزب الله عقلك وروض عازب وعزيب ومال عزب وجشر ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع ، وفلان معزاب ومعزابة لمن عزب بإبله ، ويقال عزب ظهر المرأة إذا أغابت ، ومن المستعار قول النابغة :

وصدر أراح الليل عازب همه

تضاعف فيه الحزن من كل جانب

ولك أن تقول امرأة عزبة والمعزابة الذي طالت عزوبته وتمادت ويقال ليس لفلان امرأة تعذبه أي تذهب بعزوبته» وفي القاموس :«العزب محركة من لا أهل له كالمعزابة والعزيب ولا تقل أعزب أو قليل جمعه أعزاب وهي عزبة وعزب والاسم العزبة والعزوبة بضمتين والفعل كنصر وتعزّب ترك النكاح والعزوب الغيبة يعزب ويعزب والذهاب» ومن غريب أمر العين والزاي أنهما إذا كانتا فاء وعينا للكلمة دلت على معنى الذهاب والبعد والانفراد والغلبة وفي الحديث : من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزّب أي أبعد العهد بأوله. وعز الرجل صار عزيزا أي أبعد عن غيره بصفاته حتى سما عليهم وعز الشيء قلّ فكاد لا يوجد وعز عليّ أن أسوءك أي اشتد وغلب وتقول للرجل : أتحبني؟ فيقول لعزّما ولشدّما واستعزّ به المرض أي غلب واشتد. وتعزز لحم الناقة اشتد وصلب «فعززنا بثالث»


أي قوينا وعزّز بهم أي شدد عليهم ولم يرخّص ومنه حديث عمر رضي الله عنه : أن قوما اشتركوا في صيد فقالوا له : أعلى كلّ واحد منا جزاء أم جزاء واحد؟ فقال : إنه لمعزّز بكم إذن بل عليكم جزاء واحد. وعزف عن الشيء عافه وزهد فيه والعزف صوت الرياح وصوت الدف تقول : فلان ألهاه ضرب المعازف عن ضروب المعازف ، وسلكت مفازة فيها للجن عزيف. وعزله يعزله من باب ضرب عن كذا نحاه عنه وعزل فلانا عن منصبه : نحاه عنه وصرفه وتقول : مالي أراك في معزل عن أصحابك؟ وأنا بمعزل عن هذا الأمر واعتزلت الباطل وتعزلته قال الأحوص :

يا بيت عاتكة الذي أتعزل

حذر العدا وبه الفؤاد موكل

وأعوذ بالله من الأعزل على الأعزل أي من الرجل الذي لا سلاح معه على الفرس المعوج العسيب فهو يميل ذنبه الى شق قال امرؤ القيس :

ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

واعتزم الفرس في عنانه إذا مرّ جامحا لا ينثني ، قال :

سبوح إذا اعتزمت في العنان

مروح ململمة كالحجر

وعزمت على الأمر واعتزمت عليه ولا يكون ذلك إلا عن شدة وغلبة وهو عزهاة عن اللهو والنساء إذا لم يردهنّ وابتعد عنهنّ ، قال :


إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا

فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

وعزا الشيء أو فلانا الى فلان نسبه ورفعه إليه ، وإن فلانا ليعزى الى الخير ويعتزي اليه وهذا الحديث يعزى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيتهم حوله عزين أي جماعات. وهذا من أسرار لغتنا الشريفة.

(رِجْزٍ) : بكسر الراء وضمها العذاب أو سيئه والإثم والذنب والقذر.

الاعراب :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره والذي نعت وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي الآخرة حال وهو مبتدأ والحكيم خبر أول والخبير خبر ثان. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) لك أن تجعلها جملة خبرية فتكون خبرا ثالثا لهو كأنها تفصيل لبعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية ولك أن تجعلها حالا مؤكدة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم. ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وجملة يلج صلة وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج عطف على ما يلج في الأرض. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ


وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) عطف على ما تقدم وضمن العروج معنى الاستقرار فعدّاه بفي دون إلى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا نافية وتأتينا الساعة فعل مضارع ومفعول به وفاعل وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبلى حرف جواب لاثبات النفي أي ليس الأمر إلا إتيانها وربي : الواو حرف قسم وجر وربي مجرور بواو القسم ، أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد وهو القسم بالله عز وجل واللام جواب للقسم وتأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف مفعول به وهو تأكيد ثالث.

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) عالم صفة لربي أو بدل ويجوز أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره جملة لا يعزب وقد قرىء بهما وجملة لا يعزب إما خبر أو حال وعنه متعلقان بيعزب ومثقال ذرة فاعل وفي السموات حال ولا في الأرض عطف على في السموات. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ولا نافية وأصغر من ذلك مبتدأ ومن ذلك خبر ولا أكبر عطف على ولا أصغر وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر أصغر ولك أن تنسق الكلام فتعطف ولا أصغر على مثقال ويكون في كتاب في محل نصب على الحال والأول أولى. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ليجزي اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجارّ والمجرور متعلقان بتأتينكم كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها أو بقوله لا يعزب فكأنه قال يحصي ذلك ليجزي والذين مفعول به وجملة آمنوا


صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) الواو إما عاطفة فيكون الذين منسوقا على ما قبله أي ويجزي الذين سعوا ويجوز أن تكون استئنافية فيكون الذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا على تقدير مضاف أي في إبطال آياتنا بالطعن فيها أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك ومعاجزين حال ، قال الراغب : «أصل معنى العجز التأخر لكون المتأخر خلف عجز السابق أو عنده ثم تعورف فيما هو معروف ظاهرا فالمراد هنا بالمعاجزة التأخر المسبوق بتقدم السابق ومعنى المفاعلة غير مقصود هنا إذ المقصود السبق وعدم قدرة غيرهم عليهم لغلبتهم وذلك كله بناء على مزاعمهم الفاسدة وأهوائهم المتخيلة. وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول أو خبر الذين على الوجه الثاني ومن رجز صفة لعذاب وأليم صفة ثانية. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ويرى في موضع الرفع على أنه مستأنف أو في موضع النصب فهو منسوق على يجزي والذين فاعل يرى وجملة أوتوا العلم صلة والذي مفعول يرى الأول لأنها قلبية وجملة أنزل صلة وإليك متعلقان بأنزل ومن ربك حال أو متعلقان بأنزل أيضا وهو ضمير فصل لا محل له والحق هو المفعول الثاني ليرى.

(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويهدي عطف على الحق وساغ العطف لأن الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل وهاديا ولك أن


تجعل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة وفاعل يهدي ضمير مستتر يعود على الذي أنزل إليك وإلى صراط متعلقان بيهدي والعزيز مضاف الى صراط والحميد نعت.

البلاغة :

١ ـ في قوله «الحمد لله» التعبير بالجملة الاسمية يفيد الاستمرار والثبوت ، والحمد لغة الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم ، والوصف لا يكون إلا باللسان فيكون مورده خاصا ، وهذا الوصف يجوز أن يكون بإزاء نعمة وغيرها فيكون متعلقه عاما ، والشكر اللغوي على العكس لكونه فعلا ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الشاكر فيكون مورده اللسان والجنان والأركان ومتعلقه النعمة الواصلة الى الشاكر فكل منهما أعم وأخص من الآخر بوجه ، ففي الفضائل حمد فقط وفي أفعال القلب والجوارح شكر فقط وفي فعل اللسان بإزاء الانعام حمد وشكر.

٢ ـ شكر المنعم واجب أم لا :

قال الأشاعرة : شكر المنعم ليس بواجب أصلا ومثلوها بتمثيل فقالوا : ليس مثله إلا كمثل الفقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقا وغربا ، ويعم البلاد وهبا ونهبا ، فتصدق عليه بلقمة خبز فطفق يذكره في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته دائما لأجله فإنه يعد استهزاء بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة الى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة الى الله ، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصابعه. وقالت المعتزلة : التمثيل


المناسب للحال أن يقال : إذا كان في زاوية الخمول وهاوية الذهول رجل أخرس اللسان مشلول اليدين والرجلين فاقد السمع والبصر بل جميع الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة فأخرجه الملك من تلك الهاوية وتلطف عليه بإطلاق لسانه وإزالة شلل أعضائه ووهب له الحواس لجلب المنافع ودفع المضار ورفع رتبته على كثير من أتباعه وخدمه ثم إن ذلك الرجل بعد وصول تلك النعم الجليلة اليه وفيضان تلك التكريمات عليه طوى عن شكر ذلك الملك كشحا وضرب عنه صفحا ولم يظهر منه ما ينبىء عن الاعتناء بشيء من غير فرق بين وجودها وعدمها فلا ريب أنه مذموم بكل لسان ، مستحق للإهانة والخذلان.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

الاعراب :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة أي قال بعضهم لبعض وهل حرف استفهام وندلكم فعل مضارع وفاعل


مستتر ومفعول به وعلى رجل متعلقان بندلكم والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي سر تنكيره في باب البلاغة ، وجملة ينبئكم صفة لرجل وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره تبعثون أو تحشرون خلفا جديدا ولا يجوز تعليقه بينبئكم لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت ولا بمزقتم لأنه مضاف اليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا بجديد لأن إن ولام الابتداء يمنعان من ذلك لأن لهما الصدر ، وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا يسوغ أن يقال قدرها خالية من معنى الشرط فتغني عن جوابها وتكون معمولة لما قبلها وهو قال أو ندلكم أو ينبئكم لأن هذه الأفعال لم تقع وقت التمزيق فلا تكون إذا ظرفا لها إذ لا يقال لهم بعد تمزيقهم وإنما وقعت حال حياتهم ، وكان الرجل من الكفار يقول لأصحابه استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم : هل أدلكم على رجل ... إلخ. ومزقتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وكل ممزق مفعول مطلق لأن كلّا بحسب ما تضاف إليه وقد أضيفت الى ممزق وهو مصدر ميمي بمعنى تمزيق ، وأجاز الزمخشري أن يكون اسم مكان قال : «فإن قلت قد جعلت الممزق مصدرا كبيت الكتاب :

ألم تعلم مسرحي القوافي

فلا عيابهن ولا اجتلابا

فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم ومعناه ما حصل في بطون الطير وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب وما سفته الريح فطرحته في كل مطرح» وعلى هذا يكون كل ظرف مكان. (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إن وما بعدها سدت مسد مفعولي ينبئكم وإنما كسرت همزتها لدخول اللام المزحلقة في خبرها وان واسمها واللام المزحلقة


المؤكدة وفي خلق خبر إن وجديد صفة خلق وهو فعيل بمعنى فاعل وقيل بمعنى مفعول. (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول افترى وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام وبه خبر مقدم وجنة مبتدأ مؤخر أي جنون.

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) بل حرف عطف وإضراب والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وفي العذاب خبر المبتدأ والضلال عطف على العذاب والبعيد نعت للضلال وسيأتي معنى هذا النعت في باب البلاغة.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه وقالوه والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام أي أعموا فلم يروا أو أن الهمزة مقدمة على حرف العطف وقد تقدم تقرير هذا ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والى ما متعلقان بيروا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم ومن السماء حال والأرض عطف على السماء.

(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) إن شرطية ونشأ فعل الشرط ونخسف جوابه وبهم متعلقان بنخسف والأرض مفعول به وأو حرف عطف ونسقط عطف على نخسف وعليهم متعلقان بنسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا.


(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكل عبد صفة لآية ومنيب صفة لعبد.

البلاغة :

المجاز العقلي في قوله «والضلال البعيد» لأن البعد وصف الضال إذا بعد عن الجادة المستقيمة وكلما أوغل في البعد عنها أوغل في الضلال.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))


اللغة :

(أَوِّبِي) : فعل أمر من التأويب والأوب أي رجعي معه التسبيح أو راجعي معه في التسبيح لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه.

(سابِغاتٍ) : دروعا واسعة ضافية.

(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : السرد نسج الدرع قال في الأساس :«سرد النعل وغيرها خرزها ، قال الشماخ يصف حمرا :

شككنا باحساء الذناب على هوى

كما تابعت سرد العنان الخوارز

أي تتابعن على هوى الماء. وثقب الجلد بالمسرد والسّراد وهو الأشفى الذي في طرفه خرق وسرد الدرع إذا شك طرفي كل حلقتين وسمرهما ودرع مسرودة ولبوس مسرّد» وقال أبو الطيب يصف قميصه :

مفرشي صهوة الحصان ولكن

قميصي مسرودة من حديد

المسرودة المنسوجة من الحديد وهي الدروع. ومعنى التقدير في السرد أي لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق والمراد جعل السرد على قدر الحاجة ، وذهب الخطيب في تفسيره مذهبا طريفا قال : «قوله تعالى : وقدر في السرد أي انك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام


والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب» ولكن سياق الحديث يبعد هذا التأويل لأنه في صدد الحديث عن الدروع ونسجها وأحكامها وتقدير صنعها.

وفي المختار : «سرد الدرع أي نسجها وهو إدخال الحلق بعضها في بعض يقال سرد الدرع سردا من باب نصر».

(غُدُوُّها) : سيرها غدوة وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس ، يقال : غدا يغدو غدوا ذهب غدوة ويستعمل بمعنى صار فيرفع المبتدأ وينصب الخبر.

(رَواحُها) : سيرها في الرواح أي العشي.

(الْقِطْرِ) : بكسر القاف النحاس المذاب وسيأتي سر تسميته بعين القطر في باب البلاغة.

(مَحارِيبَ) : المحاريب : المساكن والابنية الشريفة المصونة عن الابتذال سميت محاريب لأنه يذب عنها ويحارب عليها ثم نقل الى الطاق التي يقف الامام فيها وهي مما أحدث في المساجد والمفرد محراب.

(تَماثِيلَ) : جمع تمثال وهو الصورة المصوّرة أو هو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة ، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.

(جِفانٍ) : جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة.


(كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحوض الكبير وسمي جابية لأن الماء يجبى فيه أي بجمع ، قال الأعشى يمدح المحلق :

نفى الذم عن آل المحلق جفنة

كجابية السيح العراقي تفهق

الجفنة قصعة الثريد والجابية الحوض يجبي الماء أي يجمعه الى الحوض والسيح الماء الكثير الجاري وفهق يفهق كفرح يفرح اتسح وامتلأ حتى يتصبب ، قيل كان يقعد على الجفنة ألف رجل.

(قُدُورٍ راسِياتٍ) : القدور جمع قدر بكسر القاف وهو إناء يطبخ فيه ، وراسيات ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها.

الاعراب :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا داود فعل ماض وفاعل ومفعول به ومنا متعلقان بآتينا أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفضلا وفضلا مفعول به ثان. (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جملة النداء معمول قول محذوف أي وقلنا ، وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من فضلا ويا حرف نداء وجبال منادى نكرة مقصودة وأوّبي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل ومعه ظرف مكان متعلق بأوّبي والطير عطف على محل جبال وهو النصب وقرىء بالرفع عطفا على اللفظ وسيأتي حكم المنسوق على المنادى في باب الفوائد ، وألنّا عطف على آتينا وألنّا فعل ماض وفاعل وله


متعلقان بألنّا والحديد مفعول به. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أن مصدرية مؤولة بما بعدها بمصدر منصوب بنزع الخافض أي لأن أعمل واختار أبو البقاء أن تكون مفسرة وتبعه الجلال وهذا مردود لأن شرط أن المفسرة أن يتقدم عليها ما هو بمعنى القول دون حروفه وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال : التقدير أمرناه أن اعمل ، وسابغات صفة لمفعول به محذوف أي دروعا سابغات ، والسابغات الكوامل الواسعات ، وقدر فعل أمر وفي السرد متعلقان بقدر.

(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) واعملوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وصالحا مفعول به أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملوا عملا صالحا وإن واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بالفعل المحذوف أي وسخرنا لسليمان الريح فالريح مفعول للفعل المحذوف وذلك على قراءة النصب وعلى قراءة الرفع هي مبتدأ مؤخر ولسليمان خبر مقدم وجملة غدوها شهر المؤلفة من المبتدأ والخبر حال من الريح وقيل هي مستأنفة وجملة ورواحها شهر عطف عليها. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) عطف على سخرنا المقدرة وأسلنا فعل ماض وفاعل وله متعلقان بأسلنا وعين القطر مفعول به. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) لك أن تعلق من الجن بفعل مقدر تقديره وسخرنا له فتكون من مفعولا به للفعل المقدر ولك أن تجعل الجار والمجرور خبرا مقدما فتكون مبتدأ مؤخرا وجملة يعمل صلة وبين يديه الظرف متعلق بيعمل وبإذن ربه متعلقان بمحذوف حال. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)


الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويزغ فعل الشرط ومنهم حال وعن أمرنا متعلقان بيزغ ونذقه فعل الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ومن عذاب السعير متعلقان بنذقه.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الجملة بدل من يعمل لتفصيل ما ذكر من عملهم وله متعلقان بيعملون وما مفعول به وجملة يشاء صلة ومن محاريب في موضع الحال من مفعول يشاء المحذوف أي يشاؤه ومنعت محاريب من الصرف لأنها جمع على صيغة منتهى الجموع وتماثيل عطف على محاريب وجفان عطف أيضا وكالجواب صفة لجفان وحذفت ياء الجواب في خط القرآن وقدور راسيات عطف أيضا. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) كلام مستأنف مسوق للمنة على آل داود واعملوا فعل أمر وفاعل وآل داود منادى محذوف منه حرف النداء وشكرا مفعول لأجله أي لأجل الشكر وقيل مصدر من معنى اعملوا كأنه قيل اشكروا شكرا أو على الحال أي شاكرين وأجاز الزمخشري أن ينتصب باعملوا مفعولا به ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة والواو حالية وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر ومن عبادي صفة لقليل.

الفوائد :

لتابع المنادى أقسام أربعة :

١ ـ ما يجب نصبه مراعاة لمحل المنادى وهو ما اجتمع فيه أمران أحدهما أن يكون التابع نعتا أو بيانا أو توكيدا ، والثاني أن يكون التابع مضافا مجردا من ال.


٢ ـ ما يجب رفعه مراعاة للفظ المنادى وهو تابع أي وتابع اسم الاشارة.

٣ ـ ما يجوز رفعه ونصبه وهو نوعان أحدهما النعت المضاف المقرون بأل ، والثاني ما كان مفردا من نعت أو بيان أو توكيد أو كان معطوفا مقرونا بأل ومنه الآية التي نحن بصددها.

٤ ـ ما يعطي تابعا ما يستحقه إذا كان منادى مستقلا وهو البدل والمنسوق المجرد من أل فيضم ان كان مفردا وينصب ان كان مضافا.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

اللغة :

(مِنْسَأَتَهُ) : المنسأة مفعلة اسم آلة وهي العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقعصة وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة منساته بألف.

الاعراب :

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة قضينا مضاف إليها الظرف على الوجه الأول ونا فاعل


وعليه متعلقان بقضينا والموت مفعول به وما نافية ودلهم فعل ماض ومفعول به وعلى موته متعلقان بدلهم وإلا أداة حصر ودابة الأرض فاعل دلهم والجملة لا محل لها لأنها جواب لما على الوجهين ودابة الأرض هي الدويبة التي يقال لها السرقة فأضيفت إليه يقال أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة وجملة تأكل منسأته حال من دابة الأرض. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الفاء عاطفة ولما تقدم القول فيها قريبا وخرّ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على سليمان وجملة تبينت الجن جواب لما لا محل لها وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولو شرطية وجملة كانوا خبر أن وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن على حد قولك تبين زيد جهله ، وقدره أبو البقاء بدلا من محذوف أي تبين أمر الجن وهو أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ، وأجاز أيضا أن يكون موضع أن وصلتها النصب أي تبينت الجن جهلها ولا مانع من هذين التقديرين ، وجملة يعلمون الغيب خبر كانوا وجملة ما لبثوا لا محل لها لأنها جواب لو وفي العذاب متعلقان بلبثوا والمهين صفة للعذاب.

الفوائد :

أفاض المفسرون في الحديث عن قصة وفاة سليمان مما يخرج بنا عن نطاق كتابنا ولكننا نورد بعضا مما قيل في دابة الأرض لعلاقته باللغة ، ويتلخص مما أوردوه أن فيها وجهين : أظهرهما ما قدمناه في باب البلاغة من أنها الدويبة التي تأكل الخشب وفي القاموس والتاج : «والدابة ما دبّ من الحيوان وغلب على ما يركب ويقع على المذكر ، ودابة الأرض من أشراط الساعة أو أولها تخرج بمكة من جبل الصفا


ينصدع لها والناس سائرون الى منى أو من الطائف أو بثلاثة أمكنة ثلاث مرات معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام تضرب المؤمن بالعصا وتطبع وجه الكافر بالخاتم فينتقش فيه هذا كافر» والثاني أن الأرض مصدر قولك أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا بفتح عين المصدر وقد قرأ بها ابن عباس والعباس ابن الفضل وقد تقدم البحث في حركة عين فعل الثلاثي فجدد به عهدا.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

اللغة :

(الْعَرِمِ) : لم نجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة


ولذلك ، سنورد ما نختاره من أقوال ثم نعمد الى الترجيح بينها ؛ ونبدأ بما ذكره صاحب القاموس قال في مادة عرام : «عرام الجيش حدتهم وشدتهم وكثرتهم ومن العظم والشجر العراق وما سقط من قشر العوسج ومن الرجل الشراسة والأذى ، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم عرامة وعراما بالضم فهو عارم وعرم اشتد والصبي علينا أشر ومرح أو بطر أو فسد ويوم عارم نهاية في البرد وعرم العظم نزع ما عليه من لحم كتعرّمه والصبي أمه رضعها والإبل الشجر نالت منه وفلانا أصابه بعرام وعرم العظم كفرح فتر والعرم محركة والعرمة بالضم سواد مختلط ببياض في أي شيء كان أو هو تنقيط بهما من غير أن تتسع كل نقطة وبياض بمرمة الشاة وهو أعرم وهي عرماء وبيض القطا عرم والعرماء الحية الرّقشاء والأعرم المتلون والأبرش والقطيع من ضأن ومعزى والأقلف والجمع عرمان وجمع الجمع عرامين والعرمة محركة رائحة الطبيخ والكدس المدوس لم يذرّ ومجتمع الرمل وأرض صلبة تتاخم الدّهناء ويقابلها عارض اليمامة وكفرحه سد يعترض به الوادي والجمع عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الأحباس تبنى في الأودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد وبكل فسر قوله تعالى : سيل العرم» واختار الجلال أن يكون العرم جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره الى وقت حاجته وهذا ما نعبر عنه اليوم بالسدود وهو أولى ما تفسر به الآية وقد يحدث تصدع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة.

(ذَواتا) : مثنى ذوات أو ذات ولفظ ذوات مفرد لأن أصله ذوية فالواو عين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو وذو أصله ذوى فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار ذوات ثم حذفت


الواو تخفيفا فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر للفظه فيقال ذاتان ويجوز أن ينظر الى أصله فيقال ذواتان.

هذا وذات مؤنث ذو ومثناها ذواتان والجمع ذوات ويعرب المؤنث والمثنى والجمع إعراب نظيره من الأسماء المفردة والمثناة والمجموعة ، يقال لقيته ذات يوم أو ذات ليلة أو ذات مرة أي يوما ما ومرة ما ، وكان ذلك ذات العويم أي السنة الماضية وجلس ذات اليمين أي عن اليمين ولقيته أول ذات يدين أي بادىء بدء وذات الصدر الفكر أو السر وذات اليمين أي جهتها وذات البين : الحال يقال أصلحوا ذات بينكم أي حالكم التي تجتمعون عليها وذات شفة كلمة يقال : كلمته فماردّ عليّ ذات شفة وذات اليد ما تملكه يقال : قلّت ذات يده أي ما ملكت يده ويقال ألقت الدجاجة ذات بطنها أي باضت أو سلحت وذات الجنب عند الأطباء : التهاب يحدث في غلاف الرئة فيحدث منه سعال وحمى ونخس في الجنب وذات الرئة وذات الصدر وذات الكبد علل فيها ، والذات أيضا : ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه وذات الشيء : نفسه وعينه وجوهره واسم الذات عند النحاة ما علق على ذات كالرجل والأسد ويقابله اسم المعنى كالعلم والشجاعة ، والذوات عند المولدين : أكابر القوم.

(أُكُلٍ خَمْطٍ) : الأكل بضمتين وبضم فسكون الثمر أو ما يؤكل والخمط المر والحامض يقال خمر خمطة : حامضة ولبن خامض :قارص متغير وفي المختار : «الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل» وعن أبي عبيدة : «كل شجر ذي شوك» وقال الزجاج : «كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله».

(أَثْلٍ) : الأثلة : السمرة وقيل شجر من العضاه طويلة


مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح فوقعت مجازا في قولهم :نحت أثلته إذا تنقّصه ، وفلان لا تنحت أثلته ، قال الأعشى :

ألست منتهيا عن نحت أثلتنا

ولست ضائرها ما أطّت الإبل

ولفلان أثلة مال أي أصل مال ثم قالوا أثّلت مالا وتأثلته وشرف مؤثّل وأثيل.

(سِدْرٍ) : السدر : شجر النبق يطيب أكله ولذا يغرس في البساتين وقيل ان السدر صنفان صنف يؤكل ثمره وينتفع بورقه في غسل الأيدي وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلا وهو الضال.

الاعراب :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولسبأ خبرها المقدم وفي مسكنهم حال من سبأ أي حال كونهم في مسكنهم وآية اسم كان المؤخر وقد تقدم القول مفصلا في سبأ في سورة النمل فجدد به عهدا.

(جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جنتان بدل من آية أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان وعن يمين وشمال صفة لجنتان ويبدو أن في بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا مظروفة لهما. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) الجملة مقول قول محذوف أي وقيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال وكلوا فعل أمر وفاعل والمراد بهذا الأمر الإباحة ومن رزق ربكم متعلقان بكلوا وبلدة خبر لمبتدأ محذوف يعني هذه البلدة بلدة طيبة وطيبة صفة ورب غفور عطف على ما تقدم أي وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور.

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) الفاء عاطفة وأعرضوا فعل ماض


وفاعل ومتعلقه محذوف أي عن شكره فأرسلنا عطف على فأعرضوا وعليهم متعلقان بأرسلنا وسيل العرم مفعول به.

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وبدلناهم الواو عاطفة وبدلناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وبجنتهم متعلقان ببدلناهم وجنتين مفعول به ثان وذواتى صفة وأكل مضاف إليه وخمط صفة كأنه قيل أكل بشع وقرىء بالإضافة وعبارة أبي البقاء : «أكل خمط : يقرأ بالتنوين والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف لأن الخمط شجر والأكل ثمره وقيل التقدير أكل ذي خمط وقيل هو بدل منه وجعل خمط أكلا لمجاورته إياه وكونه سببا له ويقرأ بالإضافة وهو ظاهر» وأثل عطف على أكل وشيء عطف أيضا ومن سدر صفة لشيء وقليل صفة ثانية. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ذلك مفعول ثان لجزيناهم مقدم عليه لأنه ينصب مفعولين أي جزيناهم ذلك التبديل وجزيناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وبما متعلقان بجزيناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صبرهم وهل حرف استفهام بمنى النفي ونجازي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والكفور مفعول به.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وبين القرى عطف على بينهم والتي صفة للقرى وجملة باركنا فيها صلة للموصول وقرى مفعول به أول وظاهرة نعت والجملة معطوفة على ما قبلها عطف قصة على قصة فقد ذكر أولا ما أسبغ


عليهم من نعمة الجنتين ثم تبديلهما بما سلف ذكره ثم جعل بلادهم متفاصلة متشتتة بعد أن كانت متواصلة ملمومة الشمل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) وقدرنا الواو عاطفة وقدرنا فعل ماض وفاعل وفيها متعلقان بقدرنا أو بالسير والسير مفعول به وجملة سيروا في محل نصب مقول قول محذوف وفيها متعلقان بسيروا وليالي وأياما ظرفان متعلقان بسيروا أيضا وآمنين حال ولم يتوجه معنا إعراب القرطبي لليالي وأياما فقد قال أنهما منصوبان على الحال وسيأتي سر تنكيرهما في باب البلاغة. (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وباعد فعل أمر وبين ظرف متعلق بباعد وأسفارنا مضاف إليه وظلموا عطف على فقالوا وأنفسهم مفعول وذلك لأنهم بطروا وبشموا من طيب العيش وبلهنة الحال فطلبوا الكد والتعب والتنقل في البلاد ، فجعلناهم عطف على ظلموا أنفسهم وأحاديث مفعول به ثان لجعلناهم.

(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ومزقناهم عطف أيضا وكل ممزق نائب مفعول مطلق أي فرقناهم تفريقا لا التئام بعده. قال الشعبي «فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول تفرقوا أيادي سبأ وقد تقدم معنى هذا المثل وإعرابه في النمل فجدد به عهدا. وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولكل صبار صفة لآيات وشكور صفة لصبار.


البلاغة :

١ ـ المشاكلة :

في قوله «جنتين» فن المشاكلة وقد تقدم أنه ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته فقد سمى البدل جنتين للمشاكلة وفيه نوع من التهكم بهم ، قال أبو تمام :

والدهر ألأم من شرقت بلؤمه

إلا إذا أشرقته بكريم

أي اقتصرت عليه بكريم فقال أشرقته مشاكلة.

٢ ـ التنكير :

وفي تنكير ليالي وأياما إلماع إلى قصر أسفارهم فقد كانت قصيرة لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش ورغد منه لا يحتاجون إلى مواصلة الكد وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم.

٣ ـ التذييل :

وفي قوله : «ذلك جزيناهم» الآية فن التذييل وقد تقدم بحثه أيضا وهو قسمان الأول ما جرى مجرى المثل وقد تقدم بحثه أيضا ، والثاني ما لم يخرج مخرج المثل وهو أن تكون الجملة الثانية متوفقة على الأولى في إفادة المراد أي وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص ، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور وفرق بين قولنا


جزيته بسبب كذا وبين قولنا ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢))

الاعراب :

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصدق فعل ماض وعليهم متعلقان بصدق وإبليس فاعله وظنه مفعوله كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه وقرىء صدق بالتخفيف على المعنى نفسه فيكون ظنه منصوبا بنزع الخافض ويصح أن يكون مفعولا به أيضا ، وقرىء بنصب إبليس على المفعولية ورفع ظنه على الفاعلية وقرىء برفعهما معا على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس ، فاتبعوه الفاء عاطفة واتبعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به ،


ويجوز أن يكون الكلام خاصا فالضمير يعود على أهل سبأ وأن يكون عاما فالضمير يعود على بني آدم ، وإلا أداة استثناء وفريقا مستثنى يجوز أن يكون منقطعا ويجوز أن يكون متصلا ومن المؤمنين صفة لفريقا. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم وعليهم حال لأنه كان في الأصل نعت لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم ليس المؤخر محلا.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) إلا أداة حصر واللام للتعليل وقيل للعاقبة والاستثناء مفرغ من أعم العلل فهو في محل نصب مفعول لأجله ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، ومن يجوز أن تكون استفهامية فتسد مسد مفعولي العلم وتكون في محل رفع مبتدأ وجملة يؤمن بالآخرة خبر ، ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول نعلم وهذا أرجح وجملة يؤمن صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمن وممن جار ومجرور متعلقان بنعلم لأنه متضمن معنى نميز وهو مبتدأ ومنها حال لأنه كان في الأصل صفة لشك وفي شك خبر والجملة صلة. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وربك مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر ربك. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) قل فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين وجملة ادعوا الذين مقول القول وجملة زعمتم صلة ومن دون الله صفة للمفعول الثاني المحذوف والمفعول الأول محذوف أيضا تقديره زعمتوهم آلهة فحذف الأول لطول الموصول بصلته وحذف الثاني لقيام صفته ، أعني من دون الله مقامه. وهذا من أعجب الكلام وأوكده ونحن ننقل لك عبارة الزمخشري بنصها في هذا


الصدد قال : «فإن قلت أين مفعولا زعم؟ قلت : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه الى الموصول وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون من دون الله أو لا يملكون أو محذوفا فلا يصح الأول لأن قولك هم من دون الله لا يلتئم كلاما ولا الثاني لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد فبقي أن يكون محذوفا تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع الى الموصول كما حذف في قوله : أهذا الذي بعث الله رسولا استخفافا لطول الموصول بصلته وحذف آلهة لأنه موصوف صفته من دون الله والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما فإذن مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين».

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الجملة حال من الذين زعمتموهم آلهة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لبيان حالهم ولا نافية ويملكون فعل مضارع وفاعل ومثقال ذرة مفعول به وفي السموات والأرض متعلقان بيملكون أو بمحذوف حال. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفيهما حال ومن حرف جر زائد وشرك مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم ما على رأي من يجيز تقدم خبرها على اسمها والواو عاطفة أيضا وما نافية وله خبر مقدم ومنهم حال ومن ظهير مبتدأ مؤخر كما تقدم.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ


مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

اللغة :

(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : بالبناء للمجهول وفزّع عنه بالتشديد أذهب عنه الفزع والفزع بفتحتين : الذعر والمخافة والإغاثة ، وفي الأساس : «وفزع عن قلبه : كشف الفزع عنه» فالتضعيف هنا للسلب كما يقال :قرّدت البعير أي أزلت قراده.

الاعراب :

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين إلا لمن سبق القلم بالإذن له. ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل وعنده ظرف متعلق بتنفع أو بمحذوف حال وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بالشفاعة إذ يقال شفعت له أو بتنفع ، وللزمخشري بحث لطيف في متعلق هذه اللام نورده بنصه قال : «تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول : الكرم لزيد وعلى معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل


قوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك أذن لزيد لعمرو أي لأجله وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه» وأذن فعل ماض مبني للمعلوم والفاعل مستتر يعود على الله وله متعلقان بأذن وقرىء أذن بالبناء للمجهول.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حتى حرف غاية وجر والغاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام كأنه قيل يتربصون ويتوفقون حائرين مشدوهين وجلين تتفارسهم المخاوف وتتقاذفهم الشكوك أيؤذن لهم أم لا حتى إذا فزع. وفزع بالبناء للمجهول ونائب الفاعل هو الجار والمجرور أي عن قلوبهم وقرىء بالبناء للمعلوم فيتعلق الجار والمجرور به أي فزع الله عن قلوبهم. (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قالوا جواب إذا وما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر والجملة مقول قال مقدم عليه وقال ربكم فعل وفاعل والجملة مقول قالوا الأولى وقالوا فعل وفاعل والحق منصوب بقول مقدر أي قال ربنا القول الحق ولك أن تعرب القول مفعولا مطلقا أو مفعولا به والحق صفة وهو مبتدأ والعلي خبر أول والكبير خبر ثان وهو تتمة كلام الشفعاء. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر يعود على الرسول تبكيتا للمشركين وإلزاما لهم بالاعتراف بالعجز ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السموات متعلقان يرزقكم والأرض عطف على السموات وقل فعل أمر والله مبتدأ خبره محذوف أي الله يرزقنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله.


(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وان واسمها أو إياكم ضمير منفصل معطوف على اسم إن واللام المزحلقة وعلى هدى خبر إن وأو حرف عطف على بابها عند البصريين وليست للشك وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة أو في ضلال عطف على قوله لعلى هدى ومبين صفة. (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لا نافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعما متعلقان بتسألون وما موصولة أو مصدرية وأجرمنا فعل وفاعل ولا نسأل عما تعملون عطف على لا تسألون عما أجرمنا وسيأتي المزيد من بحثه أيضا في باب البلاغة. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) جملة يجمع مقول القول وبيننا ظرف متعلق بيجمع وربنا فاعل يجمع ثم يفتح بيننا عطف على ما تقدم وبالحق حال وهو مبتدأ والفتاح خبر أول والعليم خبر ثان.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أروني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به أول لأن الرؤية علمية متعدية قبل النقل الى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة ، والذين اسم موصول مفعول به ثان لأروني وجملة ألحقتم صلة والعائد محذوف أي ألحقتموهم وهو المفعول الثاني وبه متعلقان بألحقتم وشركاء مفعول به ثالث لأروني ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل الى واحد فلما جيء بهمزة النقل تعدت لاثنين أولهما ياء المتكلم والثاني الموصول وشركاء نصب على الحال من العائد المحذوف أي بصروني الملحقين به حال كونهم شركاء وسيأتي معنى الأمر هنا في باب البلاغة.

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب وهو ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان والعزيز الحكيم خبراه


والجملة خبر هو ، ولك أن تجعل هو ضميرا عائدا على الله وتعربه مبتدأ خبره الله والعزيز الحكيم صفتان.

البلاغة :

حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي :

١ ـ الفرائد :

في قوله «حتى إذا فزع عن قلوبهم» فن طريف يسمى فن الفرائد وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها بحيث لو سقطت من الكلام لم يسدّ غيرها مسدها وقد مرت نماذج منها ، وفي لفظة فزع عن قلوبهم من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه. ومن شواهد هذا الفن في الشعر قول أبي تمام :

ومعترك للشوق أهدى به الهوى

إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا

فالفريدة في لفظة معترك وقد اقتبسها الشيخ عمر بن الفارض فقال :

ما بين معترك الأحداق والمهج

أنا القتيل بلا إثم ولا حرج


٢ ـ الاستدراج :

في قوله : «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه لأنه يستدرج الخصم ويضطره الى الإذعان والتسليم والعزوف عن المكابرة واللجاج فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه للمخاطب به قد أنصفك صاحبك ونحوه قول الرجل لصاحبه :مني ومنك وإن أحدنا لكاذب ، ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت :

أتهجوه ولست له بكفء

فشر كما لخير كما الفداء

وهو من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه والهمزة للاستفهام التوبيخي والواو حال أي لا ينبغي ذلك وشر وخير من قبيل أفعل التفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان والجملة دعائية دعا عليه بأن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا : هذا أنصف بيت قالته العرب.

٣ ـ المخالفة في الحروف :

وفي هذه الآية مخالفة بين حرفي الجر فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء وصاحب الباطل كأنه


منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه ، وهذا معنى دقيق قلمّا يراعى مثله في الكلام وكثيرا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له : أنت على ضلالك القديم كما أعهدك فيأتي بعلى في موضع في ، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال «في» هنا أولى لما أشرنا إليه والاستعارة التصريحية واضحة وقد تقدمت في غير هذا الموضع.

٤ ـ معنى الأمر :

قوله «أروني» أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهار لخطئهم واطلاعهم على بطلان رأيهم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا


بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

الاعراب :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وكافة حال من الكاف في أرسلناك أو من الناس أي للناس كافة على رأي من يجيز تقدم الحال على الجار والمجرور ، أو صفة لمصدر محذوف أي إرسالة كافة للناس وسيأتي المزيد من بحث «كافة» في باب الفوائد وهو بحث ممتع. وللناس صفة لكافة أو بكافة وبشيرا ونذيرا حالان من الكاف ولكن حرف مشبه بالفعل وأكثر الناس اسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهذا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم خبر مقدم وميعاد يوم مبتدأ مؤخر وهو مصدر مضاف إلى الظرف وجملة لا تستأخرون صفة ليوم أو لميعاد وعنه متعلقان بتستأخرون وساعة ظرف متعلق بتستأخرون أيضا ولا تستقدمون عطف على لا تستأخرون.


(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن والجملة مقول القول وبهذا متعلقان بنؤمن والقرآن بدل ولا بالذي عطف على بهذا القرآن وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة للذي ويديه مضاف الى الظرف والمراد بما بين يدي القرآن ما تقدمه من كتب الله عز وجل. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) لو شرطية وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وهو فعل الشرط والجواب محذوف أي لرأيت العجب العجاب أو لرأيت حالا مذهلة وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري والظالمون مبتدأ وموقوفون خبر أي محبوسون جمع موقوف اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي فقد جاء في المصباح ما يلي : «وقفت الدابة تقف وقفا ووقوفا سكنت ووقفتها أنا يتعدى ولا يتعدى ووقفت الرجل عن الشيء وقفا منعته عنه» وعند ربهم ظرف متعلق بموقوفون وجملة يرجع حال من ضمير موقوفون وبعضهم فاعل والى بعض متعلقان بيرجع والقول مفعول به ليرجع لأنه يتعدى (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) جملة يقول مفسرة ليرجع فلا محل لها والذين فاعل يقول وجملة استضعفوا صلة وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة.

(لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لو لا حرف امتناع لوجود وأنتم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي موجودون واللام رابطة لجواب لو لا وجملة كنا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ومؤمنين خبرها. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) قال


الذين فعل وفاعل وجملة استكبروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة استضعفوا صلة وهو بالبناء للمجهول والجملة مستأنفة. (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم أنكروا أن يكونوا هم الذين ارتكبوا جريرة صدهم عن الإيمان. ونحن مبتدأ وجملة صددناكم خبر وعن الهدى متعلقان بصددناكم وبعد ظرف متلعق بمحذوف حال لوقوعه بعد المعرفة وإذ ظرف أضيف الى مثله توسعا في الظروف وقيل : إذ بمعنى أن المصدرية وهو مفهوم تفسير الزمخشري وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبل حرف إضراب وعطف وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها ومجرمين خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تقدم إعرابها وأثبتت حرف العطف هنا بينما حذفها في الجملة الآنفة لأنه كلام آخر للمستضعفين (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بل حرف إضراب ومكر الليل مبتدأ خبره محذوف أي مكر الليل والنهار ، صدنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار ، وإضافة المكر الى الليل والنهار من باب الاسناد المجازي وقد تقدمت له نظائر فهو مصدر مضاف لمرفوعه وقال الزمخشري : «ومعنى مكر الليل والنهار مكر كم في الليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر اليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي» وأصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة.

(إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) الظرف متعلق بمكر وجملة تأمروننا في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض متعلق بتأمروننا ونجعل عطف على نكفر وله حال لأنه كان في الأصل صفة لأندادا وأندادا مفعول به ويجوز


أن يكون الجار والمجرور مفعول نجعل الثاني وأندادا مفعول نجعل الأول. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية أو استئنافية وأسروا فعل وفاعل والندامة مفعول به والضمير راجع الى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة ولما ظرفية حينية متعلقة بأسروا وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها والعذاب مفعول به. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل والأغلال مفعول جعلنا الأول وفي أعناق الذين كفروا مفعوله الثاني والكلام من باب القلب والأصل وجعلنا أعناق الذين كفروا في الأغلال. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الجملة حال من الذين كفروا وهل حرف استفهام والاستفهام بمعنى النفي ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل وإلا أداة حصر وما مفعول يجزون الثاني وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا.

الفوائد :

الأصل في الحال أن تتأخر عن صاحبها ، وقد تتقدم عليه جوازا نحو : جاء راكبا علي ، ومنه قول طرفة بن العبد :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي

وقد تتقدم عليه وجوبا في موضعين :

١ ـ أن يكون صاحبها نكرة غير مستوفية للشروط نحو :

لعليّ مهذبا غلام وقول الشاعر :


لمية موحشا طلل

يلوح كأنه خلل

وقول الآخر :

وفي الجسم مني بينا لو علمته

شحوب وإن تستشهدي العين تشهد

٢ ـ أن يكون محصورا فيها نحو : ما جاء ناجحا إلا عليّ وإنما جاء ناجحا علي تقول ذلك إذا أردت أن تحصر المجيء بحالة النجاح في علي.

وتتأخر عنه وجوبا في ثلاثة مواضع :

١ ـ أن تكون هي المحصورة نحو ما جاء خالد إلا ناجحا وإنما جاء خالد ناجحا تقول ذلك إذا أردت أن تحصر مجيء خالد في حالة النجاح ومنه قوله تعالى «وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين».

٢ ـ أن يكون صاحبها مجرورا بالاضافة نحو يعجبني وقوف علي خطيبا ، وسرني عملك مخلصا ، أما المجرور

بحرف جر أصلي فقد منع الجمهور تقديم الحال عليه فلا يقال مررت راكبا بعلي وأخذت عاثرا بيد خليل. وأجاز الفارسي وابن كيسان وابن جني وغيرهم التقديم ، قال ابن مالك والتقديم هو الصحيح لوروده في الفصيح كقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور ، ونحو قول الشاعر :


تسليت طرا عنكم بعد بينكم

بذكراكم حتى كأنكم عندي

وقال المانعون والحق أن هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وان كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وأن التاء للمبالغة لا للتأنيث قاله الزجاج وردّه ابن مالك بأن إلحاق التاء للمبالغة مقصور على السماع ولا يتأتى غالبا إلا في أبنية المبالغة كعلاقة ، وكافة خلاف ذلك.

هذا ولزيادة الفائدة نورد أقوالا لبعض الأعلام في صدد إعراب كافة قال الزمخشري «ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم نرى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يكتفي به حتى يضم اليه أن يجعل اللام بمعنى إلى فيرتكب الخطأين معا».

وقال أبو علي : «وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز».

وقال الفيروز بادي صاحب القاموس : «وجاء الناس كافة أي كلهم ولا يقال جاءت الكافة لأنه لا يدخلها أل ووهم الجوهري ، ولا تضاف». واستدرك عليه شارحه فقال في تاج العروس ما ملخصه : «عبارة الجوهري : الكافة الجميع من الناس يقال لقيتهم كافة أي كلهم. وهذا كما ترى لا وهم فيه لأن النكرة ، إذا أريد لفظها جاز تعريفها وما ذكره المصنف هو الذي أطبق عليه الجمهور وأورده


النووي في التهذيب وعاب على الفقهاء استعماله بأل أو الاضافة قال شيخنا : ويدل على أن الجوهري لم يرد ما قصده المصنف أنه إنما مثل بما هو موافق للجمهور على أن قولهم ذلك رده الشهاب في شرح الدرة وصحح انه يقال وإن كان قليلا» هذا وقد أطال الشهاب الخفاجي في تصحيح إدخال أل على كافة وإضافتها وقال شارح اللباب :انه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب : «قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مئتي مثقال ذهبا إبريرا».

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧))

الاعراب :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. وما أرسلنا فعل وفاعل وفي قرية


متعلقان بأرسلنا ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإلا أداة حصر وجملة قال مترفوها حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي ومترفوها فاعل قال أي المتنعمون فيها. (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الجملة مقول قولهم ، وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وما موصولة وجملة أرسلتم صلة وأرسلتم بالبناء للمجهول والتاء نائب فاعل وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إن والتقدير إننا كافرون بالذي أرسلتم به. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأكثر خبر وأموالا تمييز وأولادا عطف على أموالا وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إن واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط ومعناه يضيقه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها ومفعول يعلمون محذوف أي وجه الحكمة في ذلك فهو يبسط الرزق للعاصي بطريق الاستدراج والإملاء ويقدره على المطيع بطريق الاختبار والابتلاء.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) الواو عاطفة أو استئنافية وما حجازية وأموالكم اسمها ولا أولادكم عطف على أموالكم والباء حرف جر زائد والتي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس ووصف الأموال والأولاد بالتي لأن جمع التكسير العاقل وغير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وجملة تقربكم صلة وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال وزلفى مصدر من معنى العامل فهو مفعول


مطلق على المعنى أي تقربكم قربة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) إلا بمعنى لكن فالاستثناء منقطع لأن الخطاب للكفار ومن آمن ليس منتظما في سلكهم ومن مستثنى ويجوز أن يكون متصلا مستثنى من المفعول في يقربكم ويجوز أن يعرب مبتدأ وما بعده الخبر وجملة آمن صلة وعمل عطف على آمن وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق أي عملا صالحا. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) الفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ والاشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن افراد الفعلين باعتبار لفظها ، ولهم خبر مقدم وجزاء الضعف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا ، والإضافة إما من إضافة المصدر الى مفعوله أو من إضافة الموصوف الى صفته والمعنى على الأول أن يجازيهم الله الضعف وعلى الثاني لهم الجزاء المضاعف وبما متعلقان بجزاء وما موصولة أو مصدرية.

(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وفي الغرفات حال أو متعلقان بآمنون وآمنون خبرهم.

البلاغة :

في قوله «وما أموالكم ولا أولادكم الآية» التفات من الغيبة الى الخطاب والسرّ فيه المبالغة في تحقيق الخبر وأن ذلك الذي تسرون به وتحبرون من كثرة الأولاد والأموال لن يجديكم فتيلا ، ولن يقربكم منّا ما دمتم مصرّين على ما أنتم فيه مسترسلين في تلبية دواعي الغي والضلال ، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى إنفاق الأموال في سبيل الله وأوجه الخير وتهذيب الأولاد وتأهيلهم لما يصلح دينهم ودنياهم. والزلفى القربى والزلفة القربة.


(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

الاعراب :

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم والذين مبتدأ وجملة يسعون صلة وفي آياتنا متعلقان بيسعون ، والسعي فيها بإبطال أحكامها ، ومعاجزين حال أي مقدرين عجزين وقد تقدمت في مكان آخر وجملة أولئك خبر الذين وأولئك مبتدأ وفي العذاب متعلقان بمحضرون ومحضرون خبر أولئك.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تقدم إعرابها وإنما أعادها لأنها سيقت هنا في شخص واحد بدليل قوله له وما سبق في شخصين فلا تكرار ، وهبه كان تكرارا فهو للتأكيد. (وَما أَنْفَقْتُمْ


مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يجوز في ما أن تكون شرطية وهو أظهر في محل نصب مفعول مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل الشرط ومن شيء حال والفاء رابطة للجواب ، ويجوز أن تكون موصولة في موضع رفع بالابتداء ودخلت الفاء على الخبر لما في الموصول من رائحة الشرط وهو مبتدأ وجملة يخلفه خبر والجملة الاسمية إما في محل جزم على أنها جواب الشرط وإما في محل رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.

رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا وجملة يحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجميعا حال وثم حرف عطف ويقول فعل مضارع مرفوع عطفا على يحشرهم وللملائكة متعلقان بيقول والهمزة للاستفهام التقريعي وهؤلاء مبتدأ وإياكم ضمير منفصل في محل نصب مفعول مقدم ليعبدون وجملة كانوا خبر المبتدأ والواو اسم كانوا وجملة يعبدون خبرها.

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحانك مفعول مطلق وأنت مبتدأ وولينا خبر ومن دونهم حال.

(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) بل حرف إضراب وكانوا كان واسمها وجملة يعبدون خبرها والجن مفعول به وأراد بالجن الشياطين التي كانت في اعتقادهم تتقمص الأصنام التي يعبدونها وأكثرهم مبتدأ وبهم متعلقان بمؤمنون ومؤمنون خبر والجملة بدل من جملة يعبدون الجن. (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بيملك ولا نافية ويملك فعل مضارع مرفوع وبعضكم فاعل ولبعض متعلقان بنفعا ونفعا مفعول


به ولا ضرا عطف على نفعا. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الواو عاطفة ونقول فعل مضارع معطوف على لا يملك وللذين متعلقان بنقول وجملة ظلموا صلة وذوقوا فعل أمر وفاعل والجملة مقول القول وعذاب النار مفعول به والتي صفة للنار وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

اللغة :

(مِعْشارَ) : قال في القاموس : «والعشير جزء من عشرة كالمعشار والعشر» وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره وقال في الكشاف :«والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع» وعبارة البحر : «المعشار مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير


المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر» وقال الماوردي : «المعشار هنا هو عشر العشير والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف» قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.

الاعراب :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا والتالي هو النبي صلى الله عليه وسلم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وما نافية وهذا مبتدأ والاشارة الى التالي وهو النبي وإلا أداة حصر ورجل خبر هذا وجملة يريد صفة لرجل وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول يريد وعما متعلقان بيصدكم وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يعبد خبرها وآباؤكم فاعل والمسألة من باب التنازع وأعمل الثاني لقربه ولو أعمل الأول لقال يعبدونه. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر ومفترى صفة وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وللحق متعلقان


بقال ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين صفة.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) الواو عاطفة ويجوز جعلها حالية كما سيأتي في حلّ المعنى وما نافية وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن حرف جر زائد وكتب مجرور لفظا في محل نصب مفعول ثان لآتيناهم وجملة يدرسونها صفة لكتب. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) عطف على ما تقدم وإعرابها مماثل للجملة قبلها والمعنى : انتفاء العذر عن هؤلاء المشركين لأنهم لم يؤتوا كتبا يدرسونها ولم ترسل إليهم رسل بالنذر بخلاف أهل الكتاب فإنهم قد يتشبثون بما آتاهم وبما هم عاكفون عليه فلا يريدون تركه وان كان تشبثهم باطلا أما هؤلاء فليس لهم أدنى عذر وليس لها أي مبرر في جنوحهم الى التنطع ولجوئهم الى التكذيب. (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الواو عاطفة وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة والواو حالية وما نافية وبلغوا فعل وفاعل ومعشار مفعول به وما اسم موصول مضاف اليه وجملة آتيناهم صلة.

(فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل ورسلي مفعول به والفاء عاطفة وكيف اسم استفهام خبر مقدم لكان ونكيري اسمها واختار البيضاوي أن تكون جملة فكيف كان نكير معطوفة على محذوف قدره بقوله : «فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم أي عليهم فليحذر هؤلاء من مثله» ولا مانع من ذلك.


البلاغة :

في هذه الآيات تكرار يدل على الغضب والإنكار ، فقد تكرر الفعل وهو قولهم وصرح باسمهم وهو «الذين كفروا» وجاء باللام المؤذنة بالقوة وصرح بقوله «لما جاءهم» للعجب من مبادهتهم بالكفر وذلك للدلالة على مدى السخط عليهم والزراية بأقدارهم والتعجب من ارتكاس عقولهم ونبوها عن الحق وطمسها لمعالمه ، ثم أضفى على ذلك ما هو أبلغ في الدلالة على رسوخهم في الكفر وتماديهم في الباطل وهو أن من قبلهم من أصحاب الكتاب لم يؤتوا مثلما أوتوا ، بل لم يبلغ ما أوتوه معشار ما أتاهم وهو جزء من عشرة بل من مائة على رأي بعضهم بل جزء من ألف على رأي آخرين. وللتكرار مواضع يحسن فيها ومواضع يقبح فيها فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني وهو في المعاني دون الألفاظ أقل ، ومما ورد فيه التكرار على جهة الوعيد والتهديد قول الأعشى ليزيد بن مهر الشيباني :

أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا

أبا ثابت أقصر وعرضك سالم

وذرنا وقوما إن هم عمدوا لنا

أبا ثابت واقعد فإنك طاعم

وسيأتي المزيد من بحث التكرار.


(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩))

الاعراب :

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإنما كافة ومكفوفة وأعظم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبواحدة متعلقان بأعظكم وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل جر عطف بيان لواحدة أو بدل منها أو رفع على تقدير هي أن تقوموا أو نصب على تقدير أعني ، ومثنى وفرادى نصب على الحال وسيأتي السر في تقديم مثنى على فرادى في باب البلاغة.

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بثم في باب البلاغة ، وتتفكروا معطوف على أن تقوموا وما نافية وبصاحبكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وجنة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ والجملة مستأنفة ويجوز أن تتضمن تتفكروا معنى تعلموا فتكون من أفعال القلوب وما استفهامية


علقت تعلموا عن العمل فهي مبتدأ خبره بصاحبكم ومن جنة حال أي جنون.

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر هو ولكم متعلقان بنذير وبين ظرف متعلق بمحذوف حال أو صفة لنذير ويدي مضاف اليه وشديد صفة.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول ثان مقدم لسألتكم وسألتكم فعل وفاعل ومفعول به أول وهو في محل جزم فعل الشرط ومن أجر حال والفاء رابطة لجواب الشرط وهو مبتدأ ولكم خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط ، هذا ويحتمل أن تكون ما موصولة مبتدأ وجملة سألتكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وجملة هو لكم خبر.

(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر هو. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها وجملة يقذف خبرها وبالحق متعلقان بيقذف وعلام الغيوب خبر ثان لإن أو خبر لمبتدأ محذوف واختار الزمخشري أن يكون مرفوعا على محل إن واسمها أو على المستكن في يقذف على أنه بدل منه ، وقال ابن هشام : «فقدر علام نعتا للضمير المستتر في يقذف» وتعقبه الدسوقي قائلا : «وحمله الجمهور على البدل منه» (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) جملة جاء الحق مقول القول والواو عاطفة وما نافية ويبدىء الباطل فعل مضارع وفاعل وما يعيد عطف على ما يبدىء.


البلاغة :

١ ـ الطباق :

في قوله «مثنى وفرادى» طباق بديع أتى به احترازا من القيام جماعة لأن في الاجتماع تشويشا للخواطر ، وحئولا دون التأمل والاستغراق في التفكير ، أما قيامهم مثنى وفرادى فيتيح لهم أن يفكروا ويعملوا الروية فإن تبين الحق للاثنين جنح كل فرد الى إعمال رأيه ، وكثيرا ما يؤدي التعصب الى طمس الحقائق وضياع الفوائد إذ يصبح الفرد كالببغاء ينقاد للآخرين على حد قول شوقي :

يا له من ببغاء

عقله في أذنيه

٢ ـ الكناية :

في قوله «وما يبدىء الباطل وما يعيد» كناية عن هلاكه والتطويح به لأنه إذا هلك لم يعد له إبداء أو إعادة ، ومنه قول عبيد :

أفقر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

فقد كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه وفي آخر فيقتل أول من يلقاه فصادفه فيه عبيد فقيل له امدحه بشعر لعله يعفو عنك فقال : حال الجريض دون القريض.

فضرب مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا ، وروي أن المنذر قال له : أنشدني أفقر من أهله ملحوب ، فقال أقفر من أهله عبيد إلخ أي لا قدرة لي على إبداء شعر جديد ولا على إعادة شعر قديم وفي قوله يبدىء ويعيد أيضا طباق.


الفوائد :

قال النحاة : ويعطف على أسماء الأحرف المشبهة بالفعل بالنصب قبل مجيء الخبر وبعده كقول رؤبة :

إن الربيع الجود والخريف

يدا أبي العباس والصيوفا

فعطف الخريف بالنصب على الربيع وقبل مجيء الخبر وهو يدا أبي العباس وعطف الصيوف جمع صيف على الربيع بالنصب بعد مجيء الخبر ، والجود بفتح الجيم وسكون الواو وبالدال المطر الغزير ويروى الجون بالنون بدل الدال والمراد به السحاب الأسود. والمراد بالربيع والخريف والصيوف أمطارهن والمراد بأبي العباس السفاح أول الخلفاء من بني العباس ، وهذا من عكس التشبيه مبالغة لأن الغرض تشبيه يديه بالأمطار الواقعة في الربيع والخريف والصيف ، ويعطف بالرفع على محل هذه أسماء هذه الأحرف بشرطين : استكمال الخبر وكون العامل إن أو أن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة نحو إن الله بريء من المشركين ورسوله فعطف رسوله على محل الجلالة بعد استكمال الخبر وهو بريء ، والمحققون على أن الرفع في ذلك ونحوه على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الناسخ عليه.

قال اللقاني : «قال الرضي : والوصف وعطف البيان كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء في جواز الحمل على المحل ولم يذكر غيرهم في ذلك منعا ولا إجازة والأصل الجواز إذ لا فارق ولم يذكروا البدل والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع» وفي شرح المفصل لابن الحاجب : «أجاز الزجاج جعل ارتفاع علام الغيوب في


قوله تعالى : قل إن ربي الآية على أنه صفة لربي بالتأويل الذي في العطف قال : ويمكن حمله على غير ما ذكره بأن يكون علام الغيوب فاعلا بيقذف ولا ضمير فيه فاستغنى عن العائد بظاهر موافق للأول في المعنى» وارجع الى المطولات.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

اللغة :

(التَّناوُشُ) : قال الزمخشري : «والتناوش والتناول اخوان إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم ويقال تناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضا» وفي المصباح :«ناشه نوشا من باب قال تناوله والتناوش التناول يهمز ولا يهمز وتناوشوا بالرماح تطاعنوا بها» وقال ابن السكيت : «يقال للرجل


إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ناشه ينوشه نوشا ومنه المناوشة في القتال إذا تدانى الفريقان».

الاعراب :

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) إن شرطية وضللت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة وأضل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وعلى نفسي متعلقان بأضل وهي في قوة بنفسي فيصح مقابلتها مع ما بعدها.

(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) عطف على ما سبق وما من قوله فيما يوحي إلي ربي يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة فعلى الأول يكون التقدير بسبب إيحاء ربي إليّ وعلى الثاني يكون التقدير : بسبب الذي يوحيه إلي ربي ، وجملة يوحي لا محل لها على كل حال وإلي متعلقان بيوحي وربي فاعل يوحي وان واسمها وسميع خبرها الأول وقريب خبرها الثاني. (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال الكفار عند نزول الموت واضطرارهم الى الإخلاد للحق والرجوع إليه. ولو شرطية وترى فعل مضارع وفعل مستتر تقديره أنت والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وجملة فزعوا بالبناء للمجهول في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول ترى والتقدير : ولو ترى حالهم وقت فزعهم لرأيت أمرا عظيما مذهلا والفاء عاطفة أو استئنافية ولا نافية للجنس وفوت اسمها المبني على الفتح والخبر محذوف أي لهم والمعنى لا يفوتوننا ولا ينجيهم منا هرب أو ملجأ وقد كثر حذف


خبر لا النافية للجنس أو العاملة عمل ليس ، حتى قيل أنه لا يذكر ، وصيغ الماضي الواردة في إذ ، وأخذوا أريد بها الاستقبال وأخذوا الواو عاطفة وأخذوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعناه الاستقبال أيضا ومن مكان متعلقان بأخذوا وقريب صفة ومعنى من مكان قريب أي من ظهر الأرض الى بطنها إذا ماتوا.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقالوا عطف على ما تقدم وجملة آمنا مقول قولهم وبه متعلقان بآمنا وأنى اسم استفهام معناه من أين أو كيف في محل نصب خبر مقدم والتناوش مبتدأ مؤخر ولهم متعلقان

بمحذوف حال ومن مكان متعلقان بالتناوش وبعيد صفة أي عن محله وهو الدنيا. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل وبه متعلقان بكفروا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويقذفون معطوف على قد كفروا على أنها حكاية حال ماضية أي وكانوا يتكلمون ويرجمون بالظن ومن مكان بعيد متعلقان به والبعد المكاني هنا معناه البعد المعنوي أي وهمهم الفاسد وظنهم الكاذب الذي هو بعيد عن الحقيقة والواقع كل البعد وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وحيل فعل ماض مبني للمجهول ومعناه الاستقبال أيضا لأن ما يفعله الله في المستقبل بمثابة ما قد حصل والظرف نائب فاعل ولم يرفع لأنه أضيف إلى غير متمكن وهو الضمير ، وفعل حال لازم لا يبنى للمجهول إلا مع الظرف أو الجار والمجرور وقيل نائب الفاعل هو ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل وحيل هو أي الحول والظرف متعلق بحيل ، وبين عطف على الظرف الأول


وما موصولة أو مصدرية والتقدير وبين الذي يشتهونه أو وبين مشتهاهم ، ويشتهون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها على كل حال والكاف نعت لمصدر محذوف أي فعل بهم فعلا كما فعل بأشياعهم أي أتباعهم ، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره أو أشباههم لأن من أشبه الثاني تبعه ، وبأشياعهم متعلقان بفعل ومن قبل حال. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وفي شك خبرها ومريب صفة.

البلاغة :

في قوله «وأنى لهم التناوش من مكان بعيد» استعارة تمثيلية وقد تقدم تعريف هذه الاستعارة ونقول في إجرائها هنا أنه شبه طلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم بالدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه فقد كانوا يتكلمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر كذاب ، وهذا رجم بالظن ، وقذف بالباطل لأنهم لم يشاهدوا منه شعرا ولا سحرا ولا كذبا ، ولو أنهم رجعوا الى قرارة نفوسهم يسألونها عن حقيقة ما يرجفون ويرجمون لكذبتهم وأدانتهم.

الفوائد :

تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أنه ينوب عن الفاعل واحد من أربعة : وهي المفعول به نحو وغيض الماء ، والثاني المجرور نحو


ولما سقط في أيديهم ، والثالث مصدر متصرف مختص بالصفة نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقد ينوب عن المصدر ضميره نحو قول طرفة بن العبد :

فيا لك من ذي حاجة حيل دونها

وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله

فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود وليس النائب الظرف لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين ، وعن الأخفش أنه يجوز مع فتحه ، قال أبو علي وتلميذه ابن جني فتحة اعراب ، وقال غيرهما فتحة بناء ، وعلى ذلك توجه الآية التي نحن بصددها ، أما الرابع فهو ظرف مختص نحو صيم رمضان.


سورة فاطر

مكّيّة وآياتها خس وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

اللغة :

(فاطِرِ السَّماواتِ) خالقها على غير مثال وأصل الفطر الشقّ مطلقا وقيل الشق طولا وبابه نصر كما في المختار وعن مجاهد عن ابن عباس : ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم


إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وابتدعتها ، وقد جمع بعضهم معنى هذه المادة على اختلافه فقال :

الابتداء والابتداع فطر

والصّدع والغمز وأما الفطر

فترك صوم بعض كمء فطر

وما بدا من عنب في الشجر

(تُؤْفَكُونَ) : تصرفون من الأفك بالفتح وهو الصرف يقال :ما أفكك عن كذا أي ما صرفك عنه وقيل هو من الإفك بالكسر وهو الكذب وفي المختار : «والأفك بالفتح مصدر أفكه أي قلبه وصرفه عن الشيء وبابه ضرب ومنه قوله تعالى : «قالوا أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا».

الاعراب :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره وفاطر السموات صفة له والأرض عطف على السموات وأل في الحمد جنسية استغراقية أي جنس الحمد ، والاضافة في فاطر السموات محضة لأنه للماضي. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) جاعل الملائكة صفة ثانية والإضافة هنا محضة أيضا واعتبرها بعضهم غير محضة لأنها حكاية حال ولهذا ساغ اعمال اسم الفاعل لأنه لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، ولهذا جعل بعضهم رسلا منصوبة بفعل مضمر ، وجوز الكسائي عمله على كل حال. ورسلا مفعول ثان لجاعل وإذا كانت جاعل بمعنى خالق كانت رسلا حالا مقدرة وأولي أجنحة نعت لرسلا ومثنى وثلاث ورباع صفات لأجنحة


وقد منعت من الصرف للوصف والعدل عن المكرر أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وقد تقدم الكلام في هذه الصفات في سورة النساء وأعربها الكازروني في حاشيته بدلا من أجنحة. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كلام مستأنف مقرر لما قبله وفي الخلق متعلقان بيزيد وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليفتح ويفتح فعل الشرط والله فاعل وللناس متعلقان بيفتح ومن رحمة حال والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وممسك اسمها ولها خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط. (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وما اسم شرط جازم في محل نصب أيضا مفعول مقدم ليمسك ويمسك فعل الشرط والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرسل اسمها وله خبرها وفي قوله أولا فلا ممسك لها حمل التأنيث على معنى ما لأن المراد الرحمة وفي الثاني حمل على اللفظ ، ومن بعده حال أي بعد إمساكه وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والناس بدل واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ومضاف إليه وعليكم متعلقان بنعمة لأنها بمعنى الإنعام وإذا كانت بمعنى المنعم به تعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال.


(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هل حرف استفهام ومن حرف جر زائد وخالق مبتدأ مجرور لفظا مرفوع محلا وغير الله صفة لخالق على المحل أو على اللفظ أو منصوب على الاستثناء وقرىء بها جميعا وخبر خالق محذوف أي لكم ويجوز أن تكون جملة يرزقكم نصبا على الحال أو رفعا صفة لخالق على المحل أو جرا صفة لخالق على اللفظ ويجوز أن تكون خبرا لخالق ، ومن السماء متعلقان بيرزقكم والأرض عطف وسيأتي المزيد من إعراب هذه الآية وما قيل فيها في باب الفوائد ومعنى الاستفهام التقرير والتوبيخ.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام وقد تقدم إعراب لا إله إلا الله مفصلا ، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام في محل نصب حال وتؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

الفوائد :

١ ـ معنى «نزيد في الخلق ما نشاء» :

اشتملت هذه الآيات على فوائد كثيرة أولها معنى الزيادة في الخلق ، ونرى أن خير ما قيل فيها ما أورده الزمخشري في كشافه فبعد أن أورد ما قاله العلماء فيها قال : «والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأنّ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف» وهذا


الكلام على وجازته وبلاغته جامع مانع وفيه تعليل مرض لما تراه من تفاوت في مخلوقات الله.

واستعار الفتح للإطلاق والإرسال كأنما هي أبواب موصدة لا يفتح مغالقها إلا الله من صنوف النعم وضروب الآلاء كالرزق والمطر والصحة والأمن في الأوطان وغير ذلك مما لا يحصى عدده.

وفي تنكير الرحمة ما يدل على الاشاعة والإبهام لتندرج في مطاويها ضروب النعم كما تقدم.

٢ ـ إعراب هل من خالق :

منع بعضهم أن تكون جملة يرزقكم خبرا لخالق لأن هل لا تدخل على مبتدأ مخبر عنه بفعل على الأصح.

٣ ـ مواضع زيادة «من» :

قلنا في مكان آخر أن «من» الجارة تزاد قبل النكرة إذا سبقت بنفي أو نهي أو استفهام ونضيف هنا أن ذلك يطرد في تسعة أوجه :

١ ـ في الابتداء.

٢ ـ في الفاعل.

٣ ـ في اسم كان.

٤ ـ في مفعول ما يتعدى لواحد.

٥ ـ في أول مفعولي ظننت.


٦ ـ في أول مفاعيل علمت.

٧ ـ في أول مفعولي أعطيت.

٨ ـ في ثاني مفعولي أعطيت.

٩ ـ في مفعول ما لم يسم فاعله.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

الاعراب :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بأن له فيمن تقدمه من الأنبياء أسوة حسنة. وإن حرف شرط جازم ويكذبوك فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة قد كذبت في محل جزم جواب الشرط وهي من وضع السبب موضع المسبب وهو التأسي والتقدير فتأس بتكذيب الرسل من


قبلك ، ورسل نائب فاعل ومن قبلك صفة لرسل وبهذا التقدير يجاب عن الاعتراض بأن من حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو عاطفة والى الله متعلقان بترجع والأمور نائب فاعل. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) يا أيها الناس : تقدم إعرابها كثيرا وان واسمها وخبرها. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به والحياة فاعل والدنيا صفة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم والغرور بفتح الغين صيغة مبالغة كالصبور والشكور والمراد بها الشيطان لأن ذلك ديدنه.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) إن واسمها ولكم متعلقان بعدو أو حال منه وعدو خبر إن والفاء الفصيحة واتخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به أول وعدوا مفعول به ثان.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) إنما كافة ومكفوفة ويدعو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وحزبه مفعول به واللام للتعليل ويكونوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل ويجوز أن تكون اللام هي لام الصيرورة أو العاقبة ، والواو اسم يكونوا ومن أصحاب السعير خبرها. (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين وشديد صفة ويجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من الواو في ليكونوا أو صفة لحزبه فيكون موضعه النصب كما يجوز أن يكون محله الجر على أنه بدل


من أصحاب أو انه نعت لأصحاب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذين وأجر عطف على مغفرة وكبير صفة.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

الاعراب :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التباين بين عاقبتي الفريقين ببيان تباين حالهما المؤدي إلى تينك العاقبتين.

والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدمت نظائرها ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام والتقدير كمن هداه الله ، وأعربه بدر الدين بن مالك اسم شرط وجواب الشرط محذوف تقديره : ذهبت نفسك عليهم حسرة ، وجملة زين صلة من وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل ، فرآه الفاء عاطفة ورآه عطف على زين والهاء مفعول رأى الأول وحسنا مفعول رأى الثاني لأنها قلبية والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وان واسمها وجملة يضل خبرها ومن يشاء مفعول يضل وجملة ويهدي من يشاء عطف على جملة يضل من يشاء. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ


عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتذهب فعل مضارع مجزوم بلا ونفسك فاعل وعليهم متعلقان بتذهب كما تقول هلك عليه حبا ومات عليه حزنا ، ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ، وحسرات مفعول لأجله والمعنى فلا تهلك نفسك للحسرات وقال المبرد انها تمييز وقال الزمخشري : «يجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير :

مشق الهواجر لحمهن مع السرى

حتى ذهبن كلا كلا وصدورا

يصف نوقا بالهزال يقال فرس ممشوق أي طويل مهزول وجارية ممشوقة القوام والهاجرة شدة الحر والسرى بالضم سير الليل والكلكل والكلكال الصدر أي صرن من شدة الحر كأنهن عظام فقط لا لحم عليهن وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.

وان واسمها وخبرها وبما يصنعون متعلقان بعليم.

البلاغة :

في قوله : «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» فن الإيغال وهو الإتيان بكلام يعتبر بمثابة التتمة لكلام سبقه احتياطا ؛ فقد أقسم الله تعالى بحياة الرسول أكثر من مرة ان الذين أعرضوا عنه وخالفوه قد تجاوزوا كل حدّ بإعراضهم ودللوا على أنهم مفرطون في الغباوة


موغلون في الضلال كما قال تعالى في أكثر من موضع «لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون» وقوله أيضا «ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» وقوله «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» وذهاب النفس حسرة وأسفا تعبير مرموق رمقه الشعراء كثيرا فقال شاعر قديم :

فعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام

لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه وسيطر بدمه ، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة ، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها فكأنها هي ، أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان ، وذكرهم أي تذكرهم سقام لي وهو بالفتح مصدر كالسقم. وقال ابن الرومي مقتبسا هذه اللفظة البديعة في رثاء ابنه محمد وهو أوسط أولاده :

وظل على الأيدي تساقط نفسه

ويذوي كما يذوي القضيب من الزند

وإنما يحمل المريض على الأيدي إذا كان صغيرا وقد مات ابنه محمد منزوفا وهو فيما بين الرابعة والخامسة.

أقول روى التاريخ أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام لما زين له سوء عمله فرآه صوابا أو جميلا فهام في الضلال ، وأطلق آمر النهي واعتنق طاعة الهوى حتى رأى الحسن قبيحا والقبيح حسنا كأنما ران عليه وسلبه عقله ولبه وتمييزه وقد رمق أبو نواس سماء هذا المعنى فقال :


اسقني حتى تراني

حسنا عندي القبيح

يقول لساقي الخمر : اسقني حتى أسكر فيحسن عندي القبيح ، وحسنا هو المفعول الثاني لتراني والقبيح فاعل حسنا لأنه صفة مشبهة.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

اللغة :

(بَلَدٍ) : في المصباح : «البلد يذكر ويؤنث» والبلدة البلد وتطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وفي التنزيل : «الى بلد ميت» أي الى أرض ليس بها نبات ولا مرعى فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى وأطلق الحياة على وجودهما».

(الْكَلِمُ) : اسم جنس لأنه يدل على الماهية من حيث هي هي وليس بجمع خلافا لصاحب القاموس ولغيره من النحاة لأنه يجوز تذكير ضميره والجمع يغلب عليه التأنيث ولا اسم جمع لأن له واحدا من لفظه والغالب على اسم الجمع خلاف ذلك وواحدة كلمة والكلمة


فيها ثلاث لغات : كلمة بفتح الكاف وكسر اللام وكلمة بكسر الكاف وسكون اللام وكلمة بفتح الكاف وسكون اللام.

(يَبُورُ) : يهلك ويفسد يقال : بار يبور بورا وبوارا : هلك وبارت السوق أو السلعة كسدت وبار العمل : بطل وبارت الأرض : لم تزرع وبوّر الأرض تركها أو صيرها بائرة وأباره : أهلكه وتبوّر نفسه رثاها وناح من البوار ، والبائر : ما بار من الأرض والجمع بور يقال : حائر بائر أي لا يطيع مرشدا ولا يتجه لشيء والبور أيضا :الفاسد الهالك الذي لا خير فيه يقال امرأة بور وقوم بور ، والبور من الأرض : ما لم يزرع والبوار الهلاك والفساد ودار البوار : جهنم.

الاعراب :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل الرياح صلة الموصول والرياح مفعول به والفاء عاطفة وتثير فعل مضارع وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي وكيف جاء مخالفا لما قبله وما بعده في باب البلاغة وسحابا مفعول به. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) فسقناه عطف أيضا على طريق الالتفات وسقناه فعل وفاعل ومفعول به والى بلد متعلقان بسقناه وميت صفة ، فأحيينا به الأرض عطف أيضا والظرف متعلق بمحذوف حال وكذلك خبر مقدم والنشور مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على ما وجملة يريد خبرها والعزة مفعول به والفاء


رابطة لجواب الشرط ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وساغ قيام هذه الجملة مقام الجواب لدلالتها عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه ونظيره قولك من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه ، ومعنى فلله العزة جميعا أن العزة كلها مختصة لله ، وقال آخرون : «ومن شرطية مبتدأ وجواب الشرط محذوف تقديره فليعطه وقوله فلله العزة تعليل للجواب المحذوف» وقدر البيضاوي جواب الشرط المحذوف بقوله «فليطعه» ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر من.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الجملة نصب على الحال وإليه متعلقان بيصعد ويصعد الكلم فعل مضارع وفاعل والطيب صفة للكلم والعمل مبتدأ ، ويجوز رفعه على العطف والصالح صفة وجملة يرفعه خبر العمل وفاعل يرفعه ضمير مستتر يعود على العمل أي العمل الصالح يرفع الكلم وقيل الفاعل ضمير الله فتعود الهاء على العمل ، وعن ابن المقفع «قول بلا عمل كثريد بلا دسم وسحاب بلا مطر وقوس بلا وتر» (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الكلم الخبيث والعمل السيّء بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح وأهلهما. والذين مبتدأ وجملة يمكرون صلة الذين والسيئات صفة مفعول مطلق وتقديره المكرات السيئات ولا يجوز نصبه على أنه مفعول به لأن مكر فعل غير متعد والمكرات بفتحات جمع مكرة بسكون الكاف وهي المرة من المكر الذي هو الحيلة والخديعة وقال بعضهم يجوز تضمين يمكرون


السيئات معنى يكسبون السيئات فيجوز نصبها على أنها مفعول به ، ومكر مبتدأ وأولئك مضاف إليه ووضع اسم الاشارة موضع الضمير للإيذان بتميزهم بالشر والفساد عن سائر المفسدين أي هم لا غيرهم ، وهو ضمير فصل لا محل له وجملة يبور خبر مكر ويجوز أن يكون هو مبتدأ وجملة يبور الخبر والجملة الاسمية خبر مكر وقد اختلف في وقوع ضمير الفصل قبل الخبر فمنعه قوم وأجازه آخرون ونحن أميل الى الجواز.

البلاغة :

١ ـ الالتفات :

في قوله «والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلخ» التفاتان : الأول في الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي فقد قال «فتثير» مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لحكاية الحال الماضية واستحضار لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب وغير ذلك كما قال تأبط شرا :

فمن ينكر وجود الغول إني

أخبر عن يقين بل عيان

بأني قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرت

صريعا لليدين وللجران

والغول أنثى الشياطين والعيان المشاهدة بالعين والهوي الهبوط والمراد سرعة العدو والسهب بالفتح الفضاء المستوي البعيد الأطراف


والصحيفة الكتاب والصحصحان بالفتح المستوي من الأرض والجران ككتاب مقدم عظم العنق من الحلق الى اللبة وجمعه جرنه ككتبه وأجرنة كأفئدة يقول : من ينكر وجود الغول فقد كذب فإني أخبر عن يقين أو المعنى فيا من تنكر وجود الغول إني أخبر إخبارا ناشئا عن يقين وهو ما كان بدليل قاطع بله عيان ومشاهدة بالعين.

وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام في غزوة بدر فإنه قال : لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول : أنا أبو ذات الكئوس ، وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه فوقع وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة. فقوله فأطعن بها في عينه وأطأ برجلي معدول به عن لفظ الماضي الى المستقبل ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم ، ألا ترى أنه قال أولا لقيت عبيدة بلفظ الماضي ثم قال بعد ذلك فأطعن بها في عينه ولو عطف كلامه على أوله لقال فطعنت بها في عينه.

والالتفات الثاني في قوله : «فسقناه الى بلد ميت فأحيينا إلخ» ولو جرى على نمط الكلام لقال فسقى وأحيا ولكنه عدل بهما عن لفظ الغيبة الى لفظ التكلم وهو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه وإنما عبر بالماضيين بعد المضارع للدلالة على التحقق.

٢ ـ التشبيه :

وفي قوله «كذلك النشور» تشبيه مرسل لوجود الأداة أي كمثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية أو في كيفية الاحياء.


٣ ـ المجاز الاسنادي :

وفي قوله «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» مجاز في المسند ومجاز في الاسناد فالصعود مجاز عن العلم لأن الصعود صفة من صفات الاجرام والكلم معلوم فأسند الفعل للمفعول به.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))


اللغة :

(فُراتٌ) : شديد العذوبة وفي القاموس «وفرت الماء ككرم فروتة عذب».

(أُجاجٌ) : شديد الملوحة وفي القاموس «وأجّ الماء أجوجا بالضم يأجج كيسمع ويضرب وينصر إذا اشتدت ملوحته» وتقول هجير أجاج للشمس فيه مجاج وهو لعاب الشمس وماء أجاج يحرق بملوحته.

(قِطْمِيرٍ) : القطمير لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها وقيل هي النكتة في ظهرها ، ومعلوم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة : الفتيل وهو ما في شق النواة والقطمير وهو اللفافة والنقير وهو ما في ظهرها والثفروق وهو بين القمع والنواة وقال الجوهري : «ويقال هو النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة».

الاعراب :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) كلام مستأنف مسوق لإيراد تقرير آخر أو دليل آخر على صحة البعث والنشور. والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ومن تراب متعلقان بخلقكم ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ومن نطفة عطف على من تراب ، ثم جعلكم أزواجا عطف على خلقكم من تراب وأزواجا مفعول ثان لجعل أي أصنافا ذكورا وإناثا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)


بعمله) الواو عاطفة وما نافية وتحمل فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائد وانثى وأنثى مجرور بمن لفظاً مرفوع محلاً على أنه فاعل ولا تضع عطف على وما تحمل وإلا أداة حصر وبعمله في موضع نصب على الحال أي معلومة له ز (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) واو عاطفة وما نافية ويعمر فعل مضارع مبني للمجهول ومن حرف جر زائد ومعمر نائب فاعل ولا ينقص عطف على وما يعمر ومن ـ متعلقان بينقص وإلا أداة حصر وفي كتاب في محل نصب على الحال وسيأتي معني هذا الكلام المتسامح في باب البلاغة. (إن ذلك على الله يسير) إن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن وفي المصباح : «ويسر الشيء مثل قرب قلّ فهو يسير الأمر ييسر يسراً من باب تعب ويسر يسراً من باب قرب فهو يسير أي سهل ويسره الله فتسير واستيسؤ بمعنى».

(وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل للمؤمن والكافر وما نافية ويستوى فعل مضارع مرفوع والبحران فاعل مرفوع وعلامة رفعة الألف مثنى وهذا مبتدأ وعذب خبر وفرات خبر ثان أو صفة وسائغ شرابه يجوز أن يكون سائغ صفة ثالثة وشرابه فاعل لسائغ لأنه صفة مشبهة أي سهل انحداره ويجوز أن يكون سائغ خبر مقدم وشرابه مبتدأ مؤخر والجملة صفة ثانية وجلمة هذا عذب الخ في محل نصب حال من البحران وهذا ملح أجاج عطف على عذب فرات وسيأتي مزيد بسط عن هذا المثل في باب البلاغة.

(ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها) الواو إما عاطفة والجملة بمثابة والتكميل للتمثيل وإما استئنافية


فتكون الجملة مستأنقة استطرادية وسيأتي تفصيل كل من المعنين في باب البلاغة ، ومن كل متعلقان بتأكلون ومنهما صفة للمحذوف بعد كل أي كل واحد منهما وتأكلون فعل مضارع وفاعل ولحماًََ مفعول به ولحماً مفعول به وطرياً صفة وتستخرجون عطف على تأكلون وحلية مفعول به وجملة تلبسوننا نعت لحية وتلبسونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به.

(وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) الواو عاطفة وترى الفلك فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت والفلك مفعول به وفيه متعلقان بمواخر حال لأن الرؤية بصرية ولتبتغوا اللام للتعزيل وتبتغوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمواخر ومن فضله متعلقان بتبتغوا ولعل واسمها وجلمة تشكرون خبرها.

(يولج الليل في النهار في اليل) لك أن تجعلها مستأنفاً ولك أن تجلعها في محل نصب على الحال من فاعل خلقكم أي الله تعالى والليل مفعول به ليولج وفي النهار متعلقان بيولج النهار في الليل عطف على الجملة التي سبقته. (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) الواو عاطفة وسيأتي سر تغاير المتعاطفين في باب البلاغة ، وسخر الشمس فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به والقمر عطف على الشمس وكل مبتدأ أي كل واحد منهما وجملة يجري خبر ولأجل متعلق بيجري ومسمى نعت لأجل. (ذلكم الله ربكم له الملك) ذلكم مبتدأ وأخبر عنه بأخبار ثلاثة وهي الله وربكم وجملة له الملك ، وله خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر. (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قمطير) الواو حالية أو استئنافية مبتدأ وجملة تدعون صلة ومن دونه حال وما نافية


ويملكون فعل مضارع وفاعل وجملة ما يملكون خبر الذين ومن حرف جر زائد وقمطير مجرور لفظاً منصوب محلاً على أنه مفعول به.

(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم) كلام مستأنف مسوق لتقرير المضمون المتقدم وإن حرف شرط جازم وتدعوهم فعل ماض والواو فاعل وما نفية واستجابوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) الظرف متعلق بيكفرون وبشر ككم متعلقان بيكفرون والكاف مضافة الى المصدر من اضافة المصدر الى فاعلة أي يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم. (ولا ينبئك مثل خبير) الأحسن أن يكون الخطاب عاماً أي أيها السامع كائناً من كنت ، ولا نافية وينبئك فعل مضارع والكاف مفعوله ومثل خيبر فاعله أي عالم ببواطن الأمور.

البلاغة :

١ ـ الكلام المتسامح :

في قوله «وما يعمر من معمر الخ» فن الكلام المستامح الذي يثق فيه المتكلم بأفهام السامعين وأذواقهم ، لأنه لا يلتبس عليهم ، ولا يعزب عنهم إدراك منطوياته واكتناه مراميه ، فظاهر الكلام يوهم أن المتعاطفين مما يتعاوران كل إنسان وإن التعمير وخلافه يتعاقبان علهي وذلك محال في حد ذاته ، بيد أنه من البدائه التي تدرك لأول


وهلة ، وعليه كلام الناس المستقيض يقولون : لا يثيب عبداً ولا يعاقبه إلا بحق وما تنعمت بلداً ولا اجتويته إلا قل فيه ثورايي ، وفيه ـ كما يقول الزمخشري ـ تأويل آخر وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب ، وصورته أن يكتب في اللوح : إن حج فلان فعمره أربعون سنة وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهي الستون.

٢ ـ التمثيل :

وفي قوله «وما يستوي البحران الخ» ويسميه بعضهم الاستعارة التمثيلة وهو تركيب استعمل في غير موضعه لعلاقة المشابهة وليس فيه ذكر للمشبه ولا لأداة التشبيه وهذا مثال يوضحه وهو قولهم : «أنت تضرب في حديد بارد» فقد شبهت حال من يلح في الحصول على شيء يتعذر تحقيقه بحال من يضرب حديداً بارداً بجامع أن كلا منهما يكون عملاً لا يرجى من ورائه أثر ، وليس في هذا التركيب ذكر للمشبه ولا لأداة التشبيه فهو إذن استعارة تمثيلية لأنه تركيب استعمل في غير ما وضع له ، والمشابهه ظاهرة بين المعنين المجازي والحقيقي وهذا النوع يكثر في الأمثال السائرة النثرية والشعرية كقولهم «إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً» يضرب لمن يتطاول عليك أو للقوي يقع فيمن هو أقوى منه وأعنف والمخاطب لم يكن ريحاً ولم يلاق إعصاراً.

ولعبد القاهر الجرجاني فصل ممتع في التمثيل نلخصه فيما يلي قال : «وهل يشك في أنه يعمل عمل السحر حتى يختصر بعدما بين


المشرق والمغرب» وقال : «وهو يريك للمعاني الممثلة في الأوهام شبهاً في الأشخاص الممالثلة وينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأجم ، ويريك الحياة في الجماد ويريك التنام عين الأضداد ، ويجعل الشيء البعيد قريباً».

وأورد عبد القاهر في كتاب أسرار البلاغة مثالاً شعرياً رائعاً قال : «وتأمل كذلك بيت أبي تمام :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

مقطوعاً عن البيت الذي يليه برغم أن البيت واضح المعنى ثم أتبعه بالبيت التالي وهو :

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

وانظر هل نشر المعنى تمام حلته وأظهر المكنون من حسنه وزينته واستحقق التقديم كله إلا بالبيت الأخير ، وما فيه من التمثيل والتصوير».

هذا وليس كل تشبيه يحول الى استعارة كما يوهم الكلام المتقدم وإنما يجوز ذلك إذا كان الشبه بين الشيئين مما يقرب مأخذه ويسهل متناوله ويكون في الحاول دليل عليه حتى يمكن المخاطب إذا أطلقت له الاسم أن يعرف ما أردت فإذا لم يكن سبيل الى معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل التي يعقد بها التمثيل فإن الاستعارة لا تدخلة لأن الشبه إذا كان غامضاً لم يجز أن تقتسر


الاسم وتنقله إلى ما هو أهله من غير أن يكون معك شاهد ينبيء عن الشبه ومثل عبد القاهر لذلك ببيت للنابغة الذيباني قال : «فلو حاولت أن تحول قول الشاعر :

فإنك كلليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

الى استعارة وان تعامل الليل معاملة الأسد في قولك : «رأيت أسداً» لم تجد له مذهباً في الكلام ، لأنك لا تخلو من أحد أمرين : إما أن تحذف الصفة وتقتصر على ذكر الليل مجرداً فتقول : إن فررت أظلني الليل ، وهذا محاول لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التي قصدها الشاعر من أنه لا يفوته وإن أبعد في الهرب لسعة ملكه وطول يده ، وإن لم تحذف الصفة وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدي الى تعسف اذ لو قلت : إن فررت منك وجدت ليلاً يدركني وإن ظننت أن المتنادي واسع والمهرب بعيد ، قلت مالا تقبله الطباع لأن العرف لم يجر الممدوح هكذا».

ونعود الى ذكر الآية التي نحن بصدد الكلام عليها فقد مثل الله للمؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك بما ينفع الناس والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى : «ثم قسمت قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة» ثم قال : «وإن من الحجارة لما يتفجر من الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان لما يهبط من خشية الله» ويقال أيضاً إن المؤمن والكافر وإن


اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية.

٣ ـ الاستطراد :

وعلى ذكر الاستطراد نقول لقد تقدمت الاشارة إليه في هذا الكتاب ونزيده هنا بسطاً فنقول انه أن يبني الشاعر أو الكاتب كلاماً كثيراً على كلام من غير ذلك النوع يقطع عليه الكلام وهو مراده دون جميع ما تقدم ويعود الى كلامه الاول ، وجلّ ما يأتي تشبيها فقد استطراد في الآية الى ذكر البحرين المالح والعذب وما علق بهما من نعمته وعطائه فمن كل منهما تأكلون لحماً طرياً وهو السمك وتستخرجون حلية تلبسونها فالخاتم يجعل في الإصبع والسوار في المعصم والقلادة في العنق والخلخال في الرجل وترى الفلك في كل منهما مواخر أي شواق للماء بجريها بها ، يقال مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بنات مخر لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَ‌اءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْ‌بَىٰ إِنَّمَا تُنذِرُ‌ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَ‌بَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ‌(١٨)


الغة :

(حملها) : الحمل بالكسر ما يحتمل والجمع أحمال وحمولة والحمل أيضاًَ : واحد الحمول وهي الهوادج أو الإبل التي عليها الهوادج وفي المصباح : «الحمل بالكسر ما يحمل على الظهر ونحوه والجمع أحمال وحمول وحملت المتاع حملاً من باب ضرب فأنا حامل والأنثى حاملة بالتاء لأنها صفة مشتركة» وفي المختار : «قال ابن السكيت : الحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس شجرة ، والحمل بالكسر ما كان على ظهر أو رأس ، قال الأزهري : وهذا هو الصواب وهو قول الأصعمي وقال : امرأة حامل أو حاملةإذا كانت حبلى فمن قال حامل قال : هذا نعت لا يكون إلا للإناث ومن قال حاملة بناه على ما حملت فهي حاملة وذكر ابن دريد أن حمل الشجرة فيه لغتان الفتح والكسر» وقد نظم بعضهم ضابطاً لهذه المادة العجبية فقال :

ما كان في بطن فذاك حمل

وإن على ظهر ورأس حمل

والكفلاء والديات حمل

جمع حمال وحميل فادر

كثير حمل اسمه الحمال

جمع لحامل لأي وقر

الاعراب :

(يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله) يا أيها الناس تقدم إعرابها كثيراً وأنتم مبتدأ والفقرأ خبر والى الله متعلقان بالفقراء لأنه جمع فقير صفة مشبهة. (والله هو الغني الحميد) الله مبتدأ وهو


مبتدأ ثان أو ضمير فصل والغني الحميد خبر ان للمبتدأ أو لهو والجملة الاسمية خبر الله. (إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد) إن شرطية ويشاء فعل شرط ويذهبكم جواب الشرط وجزاؤه ويأت عطف على يذهبكم وبخلق متعلقان بيأت وجديد نعت. (وما ذلك على الله بعزيز) الواو عاطفة وما نافية حجازية وذلك اسم ما وعلى الله متعلقان بعزيز والباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لظفاً منصوب محلاً خبر ما. (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لا نافية وتزر فعل مضارع ووازرة فاعل أو هو وصف لفاعل محذوف والتقدير نفس وزراة ووزر مفعول به وأخرى مضاف إليه وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (وإن تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) إن شرطية وتدع فعل الشرط ومثقلة وصف لفاعل محذوف أي نفس مثقلة الى حملها متعلقان بتدع والمفعول به محذوف للعلم به ولا نافية ويحمل بالبناء للمجهول جواب الشرط ومنه متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء والواو حالية ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره المدعو وذا قربى خبر أي ذا قرابة.

(إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقامو الصلاة) إنما كافة ومكفوفة وتنذر فعل مضارع وفاعلة مستتر تقديرة أنت والذين مفعول به وجملة يخشون صلة وربهم مفعول به وبالغيب حال من الفاعل أي يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابة غائباً عنهم وأقاموا الصلاة فعل ماض وفاعل ومفعول. (ومن تزكى يتزكى لنفسه وإلى الله المصير) والواو اعتراضية


ويجوز أن تكون استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتزكى فعل ماض في محل جزم فعل الشراط والفاء رابطة للجواب وإنما كافة ومكفوفة ويتزكى فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو ولنفسه متعلقان بيتزكي على أنه تعليق له والى الله خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر.

البلاغة :

١ ـ في قوله «أنتم الفقراء الى الله» تعريف الفقراء ، والسر فيه المبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم هم الموسومون بالفقراء وان افتقار غيرهم بالنسبة لفقرهم لا يعتبر افتقاراً أو كأنهم قد أصبحوا وقد بلغوا من الفاقة غايتها ، ومن العوز نهاية جنس الفقراء وهذا من روائع علم البيان.

٢ ـ وفي قوله «ولا تزر وازرة وزر أخرى» جناس الاشتقاق بين تزر ووازرة ووزر والوزر كما في المصباح الاثم والوزر الثقل أيضاً ومنه يقال وزر يزر من باب وعد إذا حمل الاثم. وهنا يرد سؤال كيف يتفق هذا القول مع قوله تعالى : «وليحملن أثقالاًَ مع أثقالهم» فإن هذه الآية في الضالين المضلين فهم يحملون أثقال ضلالهم وأثقال إضلالهم لغيرهم أما الآية التي نحن بصدد ها فهي مقتصرة على الذين يحملون أوزار وأثقال أنفسهم ، وعن ابن عباس : يلقى الأب الابن فيقولان له يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا فيقول لا أستطيع حسبي ما علي.


وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ‌ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ‌ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُ‌ورُ‌ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّـهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ‌ (٢٢) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ‌ (٢٣) إِنَّا أَرْ‌سَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرً‌ا وَنَذِيرً‌ا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ‌ (٢٤)

اللغة :

(الحرور) : عبارة الزمخشري : «الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار وقيل بالنهار خاصة» وفي المصباح «الحرّ بالفتح خلاف البرد يقال حر اليوم والطعام يحجر من باب تعب وحرّ حروراً من بابي ضرب وقعد لغة والاسم الحرارة» فهو حار وحرت النار تحر من باب تعب توقدت وأسعرت والحرّّ بالفتح : أرض ذات حجارة سود والجمع حرار مشل كلبة وكلاب والحرور وزان رسول الريح الحارة ، قال الفراء : تكون ليلاًَ ونهاراًَ وقال أبو عبيدة أخبرنا رؤية أن الحرور بالنهار والسموم بالليل وقال أبو عمرو بن العلاء : الحرور والسموم بالليل والنهار والحرور مؤنثة» وعبارة القاموس : «والحرور : الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار والحرّ الدائم والنار».


الاعراب :

(وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل للمؤمن والكافر والتنافي بينهما في الذات والوصف والمسقتر في الآخر. وما نافية ويستوي فعل مضارع لا يكتفي بفاعل واحد ولذلك يجب أن يعطف عليه أو يتعدد والأعمى فاعل والبصير عطف عليه وما بعده عطف أيضاً ولا زائدة للتأكيد. (وما يستوي الأحياء والا الأموات إن الله يسمع من يشاء) الواو عاطفة وما نافية ويستوي الأحياء فعل مضارع وفاعل ولا للأموات عطف وإن واسمها وجملة يسمع خبرها ومن موصول مفعول به وجلمة يشاء صلة. (وما أنت بمسمع من في القبور) ولواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها وبمسمع الباء حرف جر زائد ومسمع مجرور لفظاً منصوب محلاً على أنه خبر ما ومن مفعول مسمع لأنه اسم فاعل وفي القبور متعلقان بمحذوف صلة من. (إن أنت إلا نذير) إن نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر أنت.

(إنا ارسلناك بالحق بشيراً ونذيراً) إن واسمها وجملة أرسلناك خبرها وبالحق متعلقان بأرسلناك وقيل في محل نصب على الحال من الفاعل أي محقين أو من المفعول أي محقاً أو نعت لمصدر محذوف أي إرسلاً ملتبساً بالحق وبشيراً حال ونذيراً عطف على بشير. (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) الواو عاطفة وإن نافية ومن حرف جر زائد وأمة مجرور لفظاً مرفوع محلاً على أنه مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة خبر إن أي سلف وفيها متعلقان بخلا ونذير فاعل.


البلاغة :

التمثيل والطباق :

في قوله «الأعمى والبصير» مثل للمؤمن والكافر «والظلمات والنور» مثل للحق والباطل وكذلك «الظل والحرور» و «الأحياء والأموات» مثل للذين دخلوا في الاسلام والذين لم يدخلوا فيه وأصرورا على الكفر وقد تقدم البحث مستوفياً في التمثيل ولا يخفى الطباق الموجود في كل مما ذكر.

الفوائد :

الواو في النفي :

قال الزمخشري : «فإن قلت لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت : إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي».

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُ‌سُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ‌ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‌ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‌ (٢٦) أَلَمْ تَرَ‌ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَ‌جْنَا بِهِ ثَمَرَ‌اتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ‌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَ‌ابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ


مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ‌ (٢٨)

اللغة :

(جُدَدٌ) : بضم الجيم وفتح الدال جمع جدة وهي طريق في الجبل أو غيره أو هي الخطة والطريقة من قولك جددت الشيء أي قطعته ، قال لبيد بن ربيعة : «أو مذهب جدد على ألواحه» وقال أبو الفضل : «هي ما يخالف من الطرائق لون ما يليها ومنه جدة الحمار للخط الذي في ظهره» والمراد في الجبال ما هو ذو جدد يخالف لونها لون الجبل.

(غَرابِيبُ) : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد يقال أسود غربيب وأسود حلكوك وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب وفي القاموس «وأسود غربيب حالك فأما غرابيب سود فالسود بدل لأن توكيد الألوان لا يتقدم» وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الاعراب.

الاعراب :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الواو عاطفة وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به ، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم


متعلقان بمحذوف صلة وجملة فقد كذب في محل جزم جواب الشرط والأولى أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فاصبر كما صبر واو قوله فقد كذب دليل عليه (جاء تهم رسلهم بالبينات والزبر وبالكتاب المنير) جملة جاءتهم حال وهو فعل ماض ومفعول به ورسلهم فاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وما بعده عطف عليه والمنير صفة لكتاب والمراد بالزبر صحف إبراهيم وبالكتاب المنير التوراة والانجيل. (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) ثم حرف عطف وأخذت الذين كفروا فعل وفاعل ومفعول به والفاء استئنافية وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم عليها ونكيري اسمها وحذفت الياء في الرسم لمراعاة الفاصلة والنكير بمعنى النكار أي إنكاري عليهم بالعقوبة والاهلاك ، والاستفهام هنا معناه التقرير أي انه وقع موقعه وصادف أهله.

(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما تقدم من ذكر اختلاف أحوال الناس وأنه أمر مطرد في جميع الكائنات. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وان واسمها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أنزل من السماء خبرها وماء مفعول أنزل. (فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها) الفاء عاطفة وأخرجنا عطف على أنزل على طريق الالتفات من الغيبة الى التكلم وبه معتلقان بأخرجنا وثمرات مفعول أخرجنا ومختلفاً صفة لثمرات وهو نعت سببي وألوانها فاعل به ولذلك لم يؤنث لأنه أسند الى جمع تكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة. (ومن الجبال جدد بيض وحمر مخلتف ألوانها وغرابيب سود) ومن


الجبال الواو استئنافية ومن الجبال الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجدد مبتدأ مؤخر وسيرد سر هذه الجملة الاسمية في باب البلاغة ، وبيض صفة لجدد وحمر عطف على بيض ومختلف صفة لجدد أيضا وألوانها فاعل بمختلف ، وقد تقدم نظيره ولذلك لا يجوز أن تعرب مبتدأ مؤخرا وخبرا مقدما لأن المطابقة واجبة حينذاك ، وغرابيب عطف على جدد وسود بدل من غرابيب وجعله الزمخشري معطوفا على بيض أو جدد ، قال «كأنه قيل ومن الجبال مخطط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد» ثم قال «ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ومن الجبال جدد بمعنى ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يئول الى قولك ومن الجبال مختلف ألوانها كما قال ثمرات مختلفا ألوانها» ولم يذكر بعد غرابيب سود مختلف ألوانها كما ذكر ذلك بعد بيض وحمر لأن الغربيب هو البالغ في السواد فصار لونا واحدا غير متفاوت بخلاف ما تقدم.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) الواو عاطفة ومن الناس خبر مقدم والدواب والأنعام معطوفان على الناس ومختلف ألوانه نعت لمحذوف هو المبتدأ أي صنف مختلف ألوانه من الناس وكذلك نعت لمصدر محذوف لمختلف أي اختلاف كذلك.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) الجملة تعليل للرؤية لأن الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله فمن كان أعلم به كان أخشى منه. وإنما كافة ومكفوفة ويخشى الله فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن عباده حال والعلماء فاعل ، وسيأتي سر هذا الحصر في باب البلاغة ، وان واسمها وخبراها.


البلاغة :

انطوت هذه الآيات على فنون رفيعة من البيان نورد منها :

١ ـ الالتفات في قوله «فأخرجنا» فقد التفت عن الغيبة الى التكلم لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء ، ولإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة.

٢ ـ التدبيج في قوله «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود» وقد تقدم أن التدبيج هو أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون ، وقد أراد الله تعالى بذلك الكناية عن المشتبه من الطرق لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جدا وهي أوضح الطرق وأبينها يأمن فيها المتعسف ولا يخاف اجتيازها الموغل في الاسفار والممعن في افتراش صعيد المغاور ، ولهذا قيل ركب بهم الحجة البيضاء ودونها الحمراء ودون الحمراء السوداء كأنها في خفائها والتباس معالمها ضد البيضاء في الظهور والوضوح ، ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة بينهما ، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأدنى في الخفاء السواد والأحمر بينهما على وضح الألوان والتراكيب ، وكانت ألوان الجبال لا تخرج ، في الغالب ، عن هذه الألوان الثلاثة ، والهداية بكل علم نصب للهداية منقسمة هذه القسمة ، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم فحصل فيها التدبيج مع صحة التقسيم وهي مسرودة على نمط متعارف ، مسوقة للاعتداد بالنعم على ما هدت اليه


من السعي في طلب المصالح والمنافع وتجنب المعاطب والمهالك الدنيوية والأخروية.

٣ ـ العدول الى الاسمية :

وذلك في قوله «ومن الجبال» فإن إيراد هذه الجملة والجملة التي بعدها وهي «ومن الناس» اسميتين مع مشاركتهما للجملة الفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل من هذه الجمل على تباين الناس في الأحوال ، كما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار ، وأما إخراج الثمرات المختلفة فأمر حادث متجدد فعبر عنه بما يدل على الحدوث.

٤ ـ التقديم والتأخير والحصر :

في قوله «إنما يخشى الله من عباده العلماء» لحصر الخشية بالعلماء كأنه قيل : إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، أما إذا قدمت الفاعل فإن المعنى ينقلب الى أنهم لا يخشون إلا الله وهما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))


الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إن واسمها وجملة يتلون صلة وكتاب الله مفعول يتلون وأقاموا الصلاة فعل ماض وفاعل ومفعول به وهي عطف على الصلة داخلة في حيزها. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) عطف أيضا وأنفقوا فعل وفاعل ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أي في السر والعلانية وفي ذلك إلماع الى الإنفاق كيفما تهيأ ولك أن تنصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين وقيل هو إلماع الى الصدقة المطلقة والأحسن فيها أن تكون سرا والزكاة وهي لا تكون إلا علانية.

(يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) جملة يرجون خبر إن وتجارة مفعول به ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتبور فعل مضارع منصوب بلن وجملة لن تبور صفة لتجارة.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) اللام للعاقبة والصيرورة أو للتعليل ويوفيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بلن تبور على معنى أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ، وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دل عليه السياق أي فعلوا ذلك ليوفيهم والهاء مفعول يوفيهم الأول وأجورهم مفعول به ثان ويزيدهم عطف على يوفيهم وان واسمها وغفور خبرها الأول وشكور خبرها الثاني وجملة إن تعليل لما تقدم من التوفية والزيادة ، وأجاز الزمخشري جعل جملة يرجون في محل نصب على الحال أي وأنفقوا راجين ، وخبر إن قوله إنه غفور شكور. (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) الذي مبتدأ


وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا ومن الكتاب حال وهو مبتدأ أو ضمير فصل والحق خبر هو والجملة الاسمية خبر الذي أو الحق خبر الذي. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) مصدقا حال مؤكدة أي وموافقا لما تقدمه من الكتب ولما متعلقان بمصدقا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما ويديه مضاف اليه أي من الكتب التي تقدمته وإن واسمها وبعباده متعلقان بخبير واللام المزحلقة وخبير وبصير خبران لإن أي عالم بما ظهر وما بطن منهم.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

اللغة :

(نَصَبٌ) : تعب وفي القاموس : «نصب كفرح أعيا» وفي المختار : «ونصب تعب وبابه طرب».


(لُغُوبٌ) : إعياء من التعب وفي القاموس : «لغب لغبا ولغوبا كمنع وسمع وكرم أعيا أشد الإعياء» وفي المختار : «اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه دخل ولغب بالكسر لغوبا لغة ضعيفة» فظاهر ما ورد في كتب اللغة أنهما متفقان في المعنى ولكن الزمخشري فرق بينهما تفريقا دقيقا فقال : «فإن قلت : ما الفرق بين النصب واللغوب؟

قلت : النصب والتعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب فالنصب نفس المشقة والكلفة واللغوب نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة».

الاعراب :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأورثنا الكتاب فعل وفاعل ومفعول به ثان وإنما قدم المفعول الثاني قصد التشريف والتعظيم للكتاب وسيأتي معناه في باب البلاغة والذين هو المفعول الاول وجملة اصطفينا صلة الذين ومن عبادنا حال. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) الفاء تفريعية لأنه قسم عبادة الذين أورثهم الكتاب كما سيأتي ومنهم خبر مقدم وظالم مبتدأ مؤخر ولنفسه متعلقان بظالم وهؤلاء هم القسم الأول ومنهم مقتصد عطف على ما قبله وهم القسم الثاني ومنهم سابق بالخيرات عطف أيضا وهم القسم الثالث وبإذن الله حال أو متعلقان بسابق وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل والفضل الكبير خبر هو والجملة خبر ذلك ، أو خبر ذلك.


(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات عدن مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وأعربها الزمخشري بدلا من الفضل وليس ثمة مانع ولكن الزمخشري تسلل من هذا الاعراب الى تثبيت عقيدته الاعتزالية كما سيأتي في باب الفوائد لطرافته. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) الجملة خبر ثان وقد تقدم إعرابها في سورة الحج فقد وردت هناك بلفظها فجدد به عهدا. ومن العجيب أن الزمخشري الذي أعرب لؤلؤا منصوبة بفعل محذوف في سورة الحج أي ويؤتون قد أعربها هنا عطفا على محل من أساور فقال :«ولؤلؤا معطوف على محل من أساور ومن داخلة للتبعيض أي يحلون بعض أساور من ذهب» ولباسهم مبتدأ وفيها حال وحرير خبر.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض أراد به المضارع وعدل الى الماضي للدلالة على التحقيق ، والحمد مبتدأ ولله خبر والذي نعت وجملة أذهب عنا صلة والحزن مفعول به لأذهب الذي تعدى بالهمز وعنا متعلقان بأذهب. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) ان واسمها واللام المزحلقة وغفور خبر أول لإن وشكور خبر ثان (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) بدل من الذي المتقدمة وجملة أحلنا صلة وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ودار المقامة مفعول به ثان أي أنزلنا دار المقامة ومن فضله متعلقان بأحلنا ومن للابتداء أو للتعليل. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) جملة لا يمسنا حال من مفعول أحلنا الأول ويجوز أن تكون حالا من المفعول الثاني والأول أرجح ويمسنا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بيمسنا ونصب فاعل ولا يمسنا فيها لغوب عطف على ما تقدم.


البلاغة :

١ ـ في قوله «ثم أحدثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» استعارة مكنية تبعية ، شبّه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد أو تعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث.

٢ ـ وفي هذه الآية أيضا فن «الجمع مع التقسيم» وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم ثم يقسم ما جمعه أو يقسم أولا ثم يجمع ، فالأول كالآية المذكورة وقوله تعالى «يوم تأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد» إلى آخر الآية.

الفوائد :

١ ـ الترتيب على مقامات الناس :

قال الزمخشري : «فإن قلت : لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت : للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وان المقتصدين قيلل بالاضافة إليهم والسابقين أقل من القليل» وأوضح الخازن هذا المعنى بعبارة أكثر بسطا فقال : «فإن قلت : لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت : قيل : رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاثة : معصية وغفلة وتوبة ، فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين».

٢ ـ بين المعتزلة وأهل السنة :

قال الزمخشري : «فإن قلت كيف جعلت جنات عدن بدلا من


الفضل الكبير؟ قلت : لأن الاشارة بالفضل الى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب ، فأقام السبب مقام المسبب ، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له فإن شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» وهذا الكلام جار على مذهب المعتزلة أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل ، قال ابن المنير في الرد على الزمخشري : «وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله ثم قسمتهم الى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحّدين في المصطفين وانه لمنهم ، وأي نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع فما بال المصنف (أي الزمخشري) يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ.

قبسة عن المعتزلة :

هذا والمعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الإنسان وأن الله تعالى يجب عليه رعاية الأصلح للعباد وان القرآن محدث مخلوق ليس بقديم وأن الله تعالى ليس بمرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الكبيرة كان في منزلة بين المنزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن من دخل النار لم يخرج منها وأن الايمان قول وعمل واعتقاد وأن إعجاز القرآن في الصرف عنه لا أنه


في نفسه معجز ولو لم يصرف العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن المعدوم شيء وأن الحسن والقبح عقليان وأن الله تعالى حيّ لذاته لا بحياة وعالم لذاته لا بعلم وقادر لذاته لا بقدرة.

ومن مشهوري المعتزلة وأعيانهم الجاحظ وأبو الهذيل العلاف وابراهيم النظام وواصل بن عطاء وأحمد بن حابط وبشر بن المعتمر ومعمر بن عباد السلمي ، وأبو موسى عيسى الملقب بالمزداد ويعرف براهب المعتزلة وثمامة بن أشرس وهشام بن عمر الفوطي وأبو الحسن ابن أبي عمر والخياط وأستاذ الكعبي وأبو علي الجبائي أستاذ الشيخ أبي الحسن الأشعري أولا وابنه أبو هاشم عبد السلام ، هؤلاء هم رءوس مذهب الاعتزال وغالب الشافعية أشاعرة والغالب في الحنفية معتزلة والغالب في المالكية قدرية والغالب في الحنابلة حشوية ومن المعتزلة أبو القاسم الصاحب إسماعيل بن عباد والزمخشري والفراء النحوي والسيرافي.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨))


اللغة :

(يَصْطَرِخُونَ) : يتصارخون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة ، قال الأعشى :

قصدت الى عنس لأحدج رحلها

وقد حان من تلك الديار رحيلها

فأنّت كما أنّ الأسير وصرخت

كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها

أي أنّت كأنين الأسير في الأول ورفعت برفع صوتها ثانيا كصرخة حبلى عند الطلق تركتها قبيلها التي تخدمها عند الولادة والقبيل والقبول والقابلة التي تقوم بمصلحة المرأة عند الولادة وتتلقى الولد عند خروجه. والفعل المبدوءة بأحد أحرف الاطباق وهي الصاد والضاد والطاء والظاء إذا صيغ منها على وزن افتعل وما يتصرف منه أبدلت تاء الافتعال طاء مثال ذلك الأفعال : صلح ، ضرب ، طرد ، ظلم إذا بنينا منها صيغة افتعل قلنا : على القياس : اصتلح ، اضترب ، اطترد ، اظتلم ، ولتخفيف اللفظ أبدلت التاء طاء والمجانسة بينهما ظاهرة فنقلت الى اصطلح ، اضطرب ، اطرد ، اظطلم ، ويجوز في نحو اظطلم وجهان آخران اظّلم واطّلم.

الاعراب :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) عطف على قوله «إن الذين يتلون كتاب الله» والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم


ونار جهنم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) الجملة خبر ثان للذين أو حال منهم ولا نافية ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول أي لا يحكم عليهم بالموت وعليهم متعلقان بيقضى والفاء السببية ويموتوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولا يخفف عطف على لا يقضى وعنهم يجوز أن يقوم مقام الفاعل ومن عذابها متعلقان بيخفف ويجوز العكس. (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعل مستتر وكل كفور مفعول به.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يصطرخون خبر وفيها متعلقان بيصطرخون وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وجملة النداء وما بعدها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال أي قائلين ربنا ، وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء والفاعل مستتر ونا مفعول ونعمل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره نحن وصالحا غير الذي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول به محذوف ويجوز أن يكون صالحا نعتا للمصدر وغير الذي هو المفعول وجملة كنا صلة الموصول وكان واسمها وجملة نعمل خبر كنا.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) الجملة مقول قول محذوف أي فيقال لهم أولم نعمركم ، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو للعطف على مقدر أي ألم نمهلكم ونؤخركم عمرا يتذكر فيه من تذكر أي وقتا يتيح لكم التفكير لو خطر لكم أن تتفكروا ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ونعمركم فعل مضارع مجزوم


بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وما نكرة مقصودة بمعنى وقتا فهي في محل نصب على الظرفية الزمانية أو على المصدرية أي تعميرا وجملة يتذكر صفة لما وفيه متعلقان بيتذكر ومن فاعل وجملة تذكر صلة. (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) الواو عاطفة وجملة جاءكم النذير عطف على أولم نعمركم لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه معنى إخبار كأنه قيل قد عمرناكم وجاءكم النذير ، فذوقوا الفاء الفصيحة

لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير ، والفاء في فما للتعليل وما نافية وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونصير مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا ويجوز أن تكون ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ان واسمها وعالم خبرها وما بعده مضاف اليه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ان واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم وقد تقدم القول مسهبا في ذات.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠))


اللغة :

(خَلائِفَ) : جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا وعبارة الزمخشري : «يقال للمستخلف خليفة وخليف فالخليفة تجمع خلائف والخليف خلفاء» هذا ولم نجد مادة توزعت على كثير من المعاني كهذه المادة ومن يرجع إليها في معاجم اللغة ير العجب ، ولذلك جمع بعضهم معانيها في هذه الأبيات :

عديم خير حدّ سيف خلف

والاستقا والقرن أما الخلف

فاسم لعشب الصيف ثم الخلف

للوعد ليس من صفات الحر

ذهاب شهوة الطعام خلفه

ورقعة ونبت صيف خلفه

كذا اختلاف الوحش ثم الخلفة

اسم الى العيب وذاك يزري

الولد الصالح هذاك خلف

وجمع خلفة لرقعة خلف

وخلفة بالضم جمعها خلف

لعنب وذاك أصل الخمر


الاعراب :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكافرين الذين غمطوا نعمة الله عليهم بعد أن استخلفهم في الأرض ، وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعلكم صلة وجعلكم فعل وفاعل ومفعول به أول وخلائف مفعول به ثان وفي الأرض متعلقان بخلائف أو بمحذوف صفة له. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وعليه خبر مقدم وكفره مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط والواو عاطفة ولا نافية ويزيد الكافرين كفرهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وكفرهم فاعل مؤخر وعند ربهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وإلا أداة حصر ومقتا مفعول به ثان أو تمييز.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) عطف على الجملة السابقة وكررت للتوكيد ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين وهما المقت والخسار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أرأيتم تقدم القول فيها أنها بمعنى أخبروني والرؤية هنا تتعدى لاثنين كما سيأتي وقيل الاستفهام هنا حقيقي ولم تضمن الكلمة معنى أخبروني ، ورأيتم فعل وفاعل وشركاءكم مفعول به أول لرأيتم والذين صفة وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال.

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أروني فعل أمر وفاعل ومفعول به والمراد بالأمر التعجيز والجملة معترضة وأعربها الزمخشري بدلا من أرأيتم ورد عليه أبو حيان بما لا يتسع له المجال. وجملة ماذا خلقوا في محل نصب مفعول به ثان إما لرأيتم وإما لأروني فالمسألة من


باب التنازع أو أن جملة أروني اعتراضية وماذا يجوز فيها الوجهان المعروفان لها أو إن جملة أروني بدل من جملة أرأيتم كأنه قيل أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا ومن الأرض متعلقان بخلقوا.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم حرف عطف وهي منقطعة فهي بمعنى بل ويكون قد أضرب عن الاستفهام الأول وشرع في استفهام الآخر والاستفهام إنكاري ولهم خبر مقدم وشرك مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بشرك أي شركة. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) عطف على ما تقدم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وكتابا مفعول به ثان والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وعلى بينة خبر ومنه صفة لبينة.

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) إن نافية ويعد الظالمون فعل مضارع وفاعل وبعضهم بدل من الظالمون بدل بعض من كل وبعضا مفعول يعد وإلا أداة حصر وغرورا منصوب بنزع الخافض أو نعت لمصدر محذوف أي إلا وعدا باطلا وذلك بقولهم إن الأصنام تشفع لنا عند الله.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))


الاعراب :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إن واسمها وجملة يمسك السموات والأرض خبرها ، وأن تزولا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تزولا وقيل ضمن يمسك معنى يمنع فتكون أن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان أو على نزع الخافض أي عن أن تزولا والجار والمجرور متعلقان بيمسك قاله الزجاج وقيل أن وما في حيزها في محل نصب بدل اشتمال من السموات أي يمسك زوالهما. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وزالتا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإن نافية وأمسكهما فعل ماض ومفعول به ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا فاعل أمسكهما محلا ومن بعده حال أو صفة لأحد ، فعلى الأول يكون المعنى من بعد إمساكه وعلى الثاني يكون المعنى سواه أي من أحد غيره ، وجملة إن أمسكهما لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور على حد قوله في الخلاصة :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ان واسمها وجملة كان خبرها وحليما خبر كان وغفورا خبر ثان. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أقسموا فعل وفاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم منصوب على المصدرية أو على الحال


أي جاهدين ، قال الفراء : «الجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك أي ابلغ غايتك والجهد بالضم الطاقة وعند غير الفراء كلاهما بمعنى الطاقة واللام واقعة في جواب القسم وان شرطية وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل واللام جواب القسم أيضا ، ويكونن فعل مضارع مرفوع لعدم اتصاله المباشر بنون التوكيد وأصله ليكونونن حذفت إحدى النونات كراهة توالي الأمثال فلما التقى ساكنان حذفت الواو وبقيت الضمة دليلا عليها فهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة اسمها وأهدى خبرها ومن إحدى الأمم متعلقان بأهدى أي من كل واحدة منها.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل وجملة ما زادهم جواب لما لا محل لها ، قال الشهاب الحلبي :«وفيه دليل على أنها ـ أي لما ـ حرف لا ظرف إذ لا يعمل ما بعد ما النافية فيما قبلها» وإلا أداة حصر ونفورا مفعول به ثان أو تمييز.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) استكبارا مفعول لأجله أي لأجل الاستكبار أو بدل من نفورا أو حال أي حال كونهم مستكبرين وفي الأرض متعلقان باستكبارا ومكر السيّء عطف على استكبارا أو على نفورا وهو من إضافة الموصوف الى صفته والأصل المكر السيّء أو أن هناك موصوفا محذوفا أي مكر العمل السيء. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الواو حالية ولا نافية ويحيق المكر فعل مضارع وفاعل والسيّء صفته وإلا أداة حصر وبأهله متعلقان بيحيق.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وينظرون فعل مضارع


وفاعل أي ينتظرون وإلا أداة حصر وسنة الأولين مفعول به وسنة مصدر أضيف الى مفعوله تارة كما هنا ولفاعله أخرى كقوله : فلن تجد لسنة الله لأنه تعالى سنها بهم فصحت إضافتها الى الفاعل والمفعول ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول تجد.

البلاغة :

١ ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى :

في قوله «وأقسموا بالله جهد أيمانهم» فن ائتلاف اللفظ مع المعنى أي أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضا ليس فيها لفظة نافرة عن إخوانها غير لائقة بمكانها أو موصوفة بحسن الجوار بحيث إذا كان المعنى غريبا قحا كانت ألفاظه غريبة محضة وبالعكس ، ولما كانت جميع الألفاظ المجاورة للقسم في هذه الآية كلها من المستعمل المتداول لم تأت فيها لفظة غريبة تفتقر الى مجاورة ما يشاكلها في الغرابة ، وقد تقدم هذا البحث بتفصيل واف في سورة يوسف.

٢ ـ إرسال المثل :

وفي قوله «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» فن إرسال المثل وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن مع إيراد أمثال كثيرة وخاصة في شعر أبي الطيب وهو هنا واضح لأن المكر لا يقع إلا على أهله ، وفي أمثالهم :«من حفر مغواة وقع فيها» قال في الصحاح : وقع الناس في أغوية أي في داهية والمغوّيات بفتح الواو المشددة جمع المغواة وهي حفرة


كالزبية ، يقال من حفر مغويات وقع فيها. قال كعب لابن عباس : في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ، فقال له ابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله : «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله».

٣ ـ الاسناد المجازي :

وفي قوله : «ما زادهم إلا نفورا» إسناد مجازي لأن إسناد الزيادة للنذير مجاز مرسل لأنه سبب في ذلك.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

الاعراب :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مسوق للاستشهاد على جريان سنته تعالى على تعذيب المكذبين ، والهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي ألزموا مساكنهم ولم يسيروا ، ولم حرف نفي وقلب


وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا ، فينظروا الفاء عاطفة وينظروا عطف على يسيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والجملة في محل نصب مفعول ينظروا والذين مضاف إليه ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صفة الذين. (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الواو للحال وكانوا كان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز والجملة في محل نصب على الحال. (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويعجزه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والهاء مفعول به ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مرفوع على أنه فاعل شيء وفي السموات صفة لشيء ولا في الأرض عطف على في السموات.

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما وقديرا خبراها. (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الواو عاطفة ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بيؤاخذ وما موصولة أو مصدرية أي بالذي كسبوه أو بكسبهم وعلى كل فجملة كسبوا لا محل لها وجملة ما ترك لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلى ظهرها متعلقان بترك ومن حرف جز زائد ودابة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول ترك. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة فهي للاستدراك ويؤخرهم فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر والى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى نعت لأجل ، فإذا الفاء


عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء أجلهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب إذا العامل فيها محذوف تقديره فيجازيهم والفاء رابطة وان واسمها وجملة كان خبرها وبعباده متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كان.

البلاغة :

في قوله «ما ترك على ظهرها إلخ» استعارة مكنية فقد شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها ثم حذف المشبه به وهو الدابة وأبقى لها شيئا من لوازمها وهو الظهر ، ولزاده في حاشيته على البيضاوي سؤال لطيف نورده بنصه قال : «فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابل الوجه فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد قلت صح ذلك باعتبارين فإنه يقال لظاهرها ظهر الأرض من حيث أن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال ويقال له وجه الأرض لكون الظاهر منها كالوجه للحيوان وإن غيره كالبطن هو الباطن منها».


سورة يس

مكيّة وآياتها ثلاث وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩))

اللغة :

(الْحَكِيمِ) : ذو الحكمة يقال قصيدة حكيمة أي ذات حكمة ، والحكمة تقدم القول فيها وحكم الرجل من باب كرم أي صار حكيما ومنه قول النابغة :


واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثمد

وأحكمته التجارب جعلته حكيما ، وقال آخر :

وقصيدة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

وعبارة الكرخي : «فعيل بمعنى مفعل كقولهم عقدت العسل فهو عقيد بمعنى معقد وليس بمعنى مفعول كشيطان رجيم بمعنى مرجوم وليس هو في الآية كذلك لأنه إنما يقال محكوم به ونحو ذلك ولا بمعنى فاعل أي حاكم لأن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى فظهر بذلك أن القرآن الحكيم محكوم فيه لا حاكم وان الحاكم المطلق هو الله تعالى أو على معنى النسب أي ذي الحكم لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة والمتصف بها على الاسناد المجازي».

(الْأَذْقانِ) : جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين من أسفلهما.

(مُقْمَحُونَ) : المقمح هو الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره ، يقال قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وفي المختار : «الاقماح : رفع الرأس وغض البصر يقال أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه» وفي القاموس : «وأقمح الغل الأسير ترك رأسه مرفوعا لضيقه».


(سَدًّا) السد والسد بفتح السين وضمها : الحاجز بين الشيئين والجبل والجمع أسداد قال علي بن أبي طالب «وضرب على قلبه بالأسداد» أي سدت عليه الطرق وعميت عليه المذاهب.

(فَأَغْشَيْناهُمْ) : أي فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح الى مرئي وسيأتي المزيد من هذه الصور في بابي البلاغة والاعراب.

الاعراب :

(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) يس تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا. والواو حرف قسم وجر والقرآن مقسم به والحكيم صفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على صراط خبر ثان لإن وقيل حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين ومستقيم صفة لصراط أي الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة ولا بأس بهذا الاعراب.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) تنزيل مفعول مطلق لفعل محذوف أي نزل القرآن تنزيلا وأضيف لفاعله أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وعبارة الزمخشري : «قرىء تنزيل العزيز الرحيم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على أعني وبالجر على البدلية من القرآن».

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور


متعلقان بتنزيل أو بمعنى قوله من المرسلين أي مرسل لتنذر ، وقوما مفعول به وما نافية لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأنذر فعل ماض مبني للمجهول وآباؤهم نائب فاعل فالجملة على هذا صفة لقوما أي قوما لم ينذروا ويجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية فتعرب هي وصفتها أو صلتها مفعولا ثانيا لتنذر على الأولين ومفعولا مطلقا على الثالث وسنورد لك التأويلات الثلاثة :

الموصولة : لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم.

النكرة : لتنذر قوما عذابا أنذره آباؤهم.

المصدرية : لتنذر قوما إنذار آبائهم.

الزائدة : وأورد أبو البقاء وجها رابعا وهو أن تكون زائدة وتكون جملة أنذر صفة لقوما.

فهم الفاء تعليلية للنفي إذا جعلت ما نافية أي لم ينذروا فهم غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم أو تعليلية للارسال كما تقول أرسلتك الى فلان لتنذره فإنه غافل وهم مبتدأ وغافلون خبر.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وحق القول فعل وفاعل وعلى أكثرهم متعلقان بحق والفاء تعليلية أيضا وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر والمعنى والله لقد ثبت وتحقق عليهم القول بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار. (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل تصميمهم على الكفر وانه لا سبيل الى


ارعوائهم عن غيهم وان واسمها وجملة جعلنا خبرها وجعلنا فعل وفاعل وفي أعناقهم في محل نصب مفعول جعلنا الثاني وأغلالا مفعول جعلنا الأول فهي الفاء للعطف والتعقيب أو للعطف والتعليل وسيرد الفرق بين المعنيين ، وهي مبتدأ والى الأذقان متعلقان بمحذوف خبر أي مجموعة أو مرفوعة ، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التعبير في باب البلاغة ، فهم الفاء كالفاء الأولى وسماها بعضهم فاء النتيجة وهم مبتدأ ومقمحون خبر.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل ومن بين أيديهم في موضع نصب مفعول جعلنا الثاني وسدا مفعول جعلنا الأول ومن خلفهم سدا عطف على من بين أيديهم سدا. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة وأغشيناهم فعل وفاعل ومفعول به والفاء تعليلية وهم مبتدأ وجملة لا يبصرون خبر هم.

البلاغة :

في قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» الآية فنون شتى نوردها فيما يلي :

١ ـ الاستعارة التمثيلية :

تقدم القول كثيرا في الاستعارة التمثيلية وهي هنا تمثيل لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد بأن جعلهم كالمغلولين المقموحين في أنهم لا يلتفتون الى الحق ولا يثنون أعناقهم نحوه ، لأن


الأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها فلا تخليهم يطأطئون فهم دائما مقمحون رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم ، أي شبهت حالتهم وهيئتهم في عدم إتاحة الايمان لهم بهيئة من غلت يده وعنقه فلم يستطع أن يتعاطى ما يريدون ، والجامع مطلق المانع. بقي هناك مبحث هام وهو هل يعود الضمير وهو قوله فهي الى الأذقان على الأغلال أو على الأيدي ، وقد رجح الزمخشري عودة الضمير على الأغلال قال :«فالأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادر من الحلقة الى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا» واستطرد الزمخشري داعما رأيه في عودة الضمير على الأغلال فقال : «فإن قلت فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق ، وبذلك يسمى جامعة ، كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي؟ قلت : الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله : فهم مقمحون ، ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة قوله فهي الى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى الى نفسه الى الباطل الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج الى الباطل اللجلج» ولعل الزمخشري قد بلغ الذروة في هذا التقرير الفريد ودل على اطلاعه وتمكنه من علم البيان ، على أن الوجه الثاني وهو عودة الضمير على الأيدي لا يخلو من وجاهة وسمو بيان وفيها مبالغة في تصوير الهول تتلاءم مع سياق الكلام فإن اليد وإن لم يجر لها ذكر في العبارة فإن الغل يدل عليها بل ويستلزمها ، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في العنق يوجب الاقماح ، أضف الى ذلك أن اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرح


بإطلاقها ، ولعله يتحيل بها ويستعين على فكاك الغل وليس الأمر كذلك إذا كانت مغلولة فيضاف الى ما تقدم من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدي لأن اليد ـ كما قلنا ـ آلة الحيلة والوسيلة الى الخلاص.

٢ ـ استعارة تمثيلية ثانية :

وفي قوله «وجعلنا من بين أيديهم سدا الآية» استعارة تمثيلية ثانية فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم وورائهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية والتأمل في المغاب الآتية والعواقب المستقبلة قد أحيطوا بسد من أمامهم وسد من ورائهم فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس ولا تتوسم بصيصا من أمل.

٣ ـ القلب :

وفي قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» القلب وهو من فنون كلام العرب إذ حقيقته جعلنا أعناقهم في الأغلال ، وقال ثعلب : في قوله تعالى : «ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه» ان المعنى اسلكوا فيه سلسلة أي ادخلوا في عنقه سلسلة.

٤ ـ التنكير :

وفي تنكير أغلالا مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها.


(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

الاعراب :

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان شأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل ولك أن تعطفه على ما قبله فتكون الواو عاطفة ، وسواء خبر مقدم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام وهي همزة التسوية وقد تقدم بحثها مفصلا في سورة البقرة المماثلة وهي مع الفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي مستو عندك إنذارك إياهم وعدمه ، وأم حرف عطف معادل للهمزة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر والهاء مفعول به وجملة لا يؤمنون استئناف مؤكد لما قلبه أو حال مؤكدة له أو بدل منه.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) إنما كافة ومكفوفة وتنذر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة اتبع الذكر صلة وجملة خشي الرحمن عطف على اتبع الذكر وبالغيب حال من الفاعل أو من المفعول به ، ونتساءل : ما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول مع أن الأول إثبات والوجه هو أن


البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الايمان فقفّى بقوله إنما تنذر على معنى انما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم الذين اتبعوا الذكر وهو القرآن والخاشون ربهم فالمحصور إنما هو الانذار النافع فلا ينافيه وجود غيره لمن لم ينتفع به.

(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمغفرة متعلقان ببشره وأجر عطف على بمغفرة وكريم صفة لأجر. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) إن واسمها ونحن مبتدأ أو ضمير فصل وجملة نحيي الموتى خبر نحن والجملة خبر إن أو الجملة خبر إنا ونكتب عطف على نحيي وما مفعول به وجملة قدموا صلة ما وآثارهم عطف على ما والمراد بها ما استن بعدهم وفي الحديث : «من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من وزرهم شيء».

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) نصب كل شيء بفعل محذوف يفسره ما بعده فهو نصب على الاشتغال وأحصيناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة مفسرة لا محل لها وفي إمام متعلقان بأحصيناه ومبين نعت إمام أي في كتاب بيّن.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))


اللغة :

(الْقَرْيَةِ) : القرية بفتح القاف وكسرها : الضيعة والمصر الجامع وجمع الناس والجمع قرى وقرى بضم القاف وكسرها والنسبة إليها قرويّ وقريي والمراد بها هنا انطاكية وسيأتي شيء عنها في باب الفوائد.

(فَعَزَّزْنا) : قوينا.

(طائِرُكُمْ) : تقدم ذكره في هذا الكتاب وفي المختار : «وطائر الإنسان عمله الذي قلده والطير أيضا الاسم من التطير ومنه قولهم :لا طير إلا طير الله كما يقال لا أمر إلا أمر الله وقال ابن السكيت : يقال : طائر الله لا طائرك ولا تقل طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء.


الاعراب :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية ، واضرب فعل أمر بمعنى اجعل ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لمثلا وتقدمت عليه ومثلا مفعول به ثان لاضرب وأصحاب مفعول به أول ، ومن المفيد أن نورد عبارة أبي السعود في تفسيره وهي : «ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد الى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى : «وضربنا لكم الأمثال» فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي طبق حالهم بحالهم ، على أن مثلا مفعول ثان لاضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه ، وعلى الثاني اذكر وبيّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل» وعلى هذا تكون اضرب بمعنى اذكر ومثلا مفعول به وأصحاب بدل على حذف مضاف أي مثل أصحاب والأول أولى ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن ومحله بدل اشتمال من أصحاب القرية وجملة جاءها المرسلون في محل جر بإضافة الظرف إليها.

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) إذ ظرف بدل من إذ الأولى أي بدل مفصل من مجمل وهو يدخل في نطاق البدل المطابق أو بدل الكل من الكل وجملة أرسلنا في محل جر بالإضافة وإليهم متعلقان بأرسلنا واثنين مفعول به لأرسلنا والفاء عاطفة وكذبوهما فعل ماض


وفاعل ومفعول به. (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة وعززنا فعل ماض وفاعل ، بثالث متعلقان بعززنا ، فقالوا عطف على فعززنا وان واسمها وإليكم متعلقان بمرسلون ومرسلون خبر إن والجملة مقول القول ومفعول عززنا محذوف وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة. (قالُوا : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر أنتم ومثلنا صفة لبشر والخطاب للثلاثة وجملة ما أنتم مقول القول. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) الواو عاطفة وما نافية وأنزل الرحمن فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا بمن منصوب محلا على أنه مفعول أنزل وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة تكذبون خبر.

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ربنا مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وإن واسمها وكسرت همزتها لمجيء اللام في خبرها وإليكم متعلقان بمرسلون واللام المزحلقة ومرسلون خبر إنا وجملة إنا إليكم لمرسلون سدت مسد مفعولي يعلم وسيأتي بحث تأكيد الخبر في باب البلاغة. (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وما نافية وعلينا خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (قالُوا : إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وكسرت همزتها لوقوعها بعد القول وجملة تطيرنا خبرها وبكم متعلقان بتطيرنا وسبب تطيرهم أنهم توقعوا الشرّ وأوجسوه بعد أن كذبوهم وقد ترامت إليهم مصائر الأقوام الهالكة بسبب تكذيبها الأنبياء.

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنتهوا فعل


مضارع مجزوم بلم والواو فاعل واللام واقعة في جواب القسم ونرجمنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثفيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به والجملة لا محل لها وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفاقا للقاعدة المشهورة وليمسنكم عطف على لنرجمنكم ومنّا متعلقان بيمسنكم وعذاب فاعل وأليم صفته. (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) طائركم مبتدأ ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وإن شرطية وذكرتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وجواب الشرط محذوف والقاعدة عند سيبويه أنه إذا اجتمع شرط واستفهام يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط وذهب غيره الى إجابة الشرط ، والتقدير عند سيبويه تتطيرون وعند الآخرين تطيروا بالجزم وبل حرف عطف وإضراب أي ليس الأمر كذلك وأنتم مبتدأ وقوم خبر ومسرفون صفة.

البلاغة :

١ ـ الحذف :

في قوله «فعززنا بثالث» فن الإيجاز بالحذف فقد حذف مفعول عززنا والتقدير فعززناهما بثالث وإنما جنح الى هذا الحذف لانصباب الغرض على المعزز به الثالث وإذا كان الغرض هو المراد وكان الكلام منصبّا عليه كان ما سواه مطروحا ، ونظيره قولك حكم


الحاكم اليوم بالحق والغرض المسوق اليه قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه وإنما اهتمامك كله هو مراعاة جانب الحق ، وستأتي أسماء الثلاثة في باب الفوائد.

٢ ـ التأكيد :

وفي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صوره للخبر فقد قال أولا «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما» فأورد الكلام ابتدائي الخبر ثم قال إنا إليكم مرسلون فأكده بمؤكدين وهو إن واسمية الجملة فأورد الكلام طلبيا ثم قال إنا إليكم لمرسلون فترقى في التأكيد بثلاثة وهي إن واللام واسمية الجملة فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابا عن إنكارهم ، قيل وفي قوله ربنا يعلم تأكيد رابع وهو اجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم. وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان.

الفوائد :

ذكرنا في باب اللغة أن القرية انطاكية بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة ، روى التاريخ ما ملخصه : بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين الى أهل انطاكية وهما يحيى وبولس بفتح الباء الموحدة ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال لهما الشيخ من أنتما؟ فقالا رسولا عيسى فقال أمعكما آية فقالا نشفي المرضى ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فقام


على الفور فآمن حبيب وفشا الخبر في المدينة فشفي على أيديهما خلق كثير ورقى حديثهما الى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا قالا نعم من أوجدك وآلهتك. فتبعهما الناس وضربوهما وقيل حبسا ، ثم بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفي على أثرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره الى الملك فدعاه وأنس به فقال له شمعون ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما؟ قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال : صفاه وأوجزا. قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال وما آيتكما؟ قالا ما يتمنى الملك.

فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مغلقتين ينظر بهما ، فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال : ليس لي عنك سر ، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبونه أنه منهم ، ثم قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك : ومن هم؟ قال : شمعون وهذان. فتعجب الملك ، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه أخبره بالحال أنه رسول عيسى ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم الى طاعة المرسلين.


قال وهب : اسمهما يوحنا وبولس وقيل صادق ومصدوق والثالث شمعون.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))

الاعراب :

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) الواو عاطفة أو استئنافية وجاء فعل ماض ومن أقصى المدينة متعلقان بجاء وأراد بالمدينة القرية الآنفة الذكر أي انطاكية ورجل فاعل وجملة يسعى صفة والرجل هو حبيب النجار وستأتي لمحة عنه في باب الفوائد. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا


الْمُرْسَلِينَ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحثه واتبعوا فعل أمر وفاعل والمرسلين مفعول به أي الذين هم رسل عيسى عليه السلام. (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) اتبعوا تأكيد للأول وهو فعل أمر وفاعل ومن مفعول به وجملة لا يسألكم صلة والكاف مفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والواو واو الحال وهم مبتدأ ومهتدون خبر والجملة نصب على الحال ، وأجاز بعضهم أن تكون من بدلا من المرسلين ولا أدري ما هو مسوغه بعد وجود عامله وكأنهم تصوروا حذف مفعول اتبعوا ولا أرى داعيا إليه ، وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة لا أعبد حالية والفاعل مستتر تقديره أنا والذي مفعوله وجملة فطرني صلة واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويجوز أن يكون معنى الاستفهام النفي واتخذ فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومن دونه مفعول به ثان وآلهة مفعول به أول. (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) إن شرطية ويردن فعل الشرط والنون للوقاية والياء المحذوفة لاتباع خط المصحف مفعول به والرحمن فاعل وبضر متعلقان بيردن ولا نافية وتغن جواب الشرط وعني متعلقان بتغن وشفاعتهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم ذكرها كثيرا ولا ينقذون عطف على لا تغن وحذفت الياء أيضا مراعاة لسنة المصحف والجملة الشرط استئنافية ويجوز أن تكون صفة لآلهة. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها وإذن حرف جواب


وجزاء لا عمل لها واللام لام المزحلقة وفي ضلال خبر إن ومبين صفة وسيأتي بحث هام عن إذن في باب الفوائد.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) إن واسمها وجملة آمنت خبرها وبربكم متعلقان بآمنت والفاء الفصيحة واسمعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة مفعول به ، ومعنى اسمعون اسمعوا قولي واتبعوا المرسلين وفيه دليل على تصلبه لمبدئه وصدق إيمانه وقيل اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول ومتعلقه محذوف أي قيل له عند قتله ورؤيته ما أعد له جزاء على صدق إيمانه وقال فعل ماض ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة يعلمون خبرها. (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بما متعلقان بيعلمون وما مصدرية أو موصولة أي بغفران ربي أو بالذي غفره لي ربي من الذنوب وقال الفراء هي استفهامية ورد عليه بأنها لو كانت كذلك لحذفت ألفها كما هي القاعدة ، وقيل ان حذف الألف أكثري لا كلي وهبه كذلك لا يسوغ حمل القرآن على الضعيف من الوجوه ، وجعلني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول ومن المكرمين مفعول به ثان.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لاحتقار أمرهم أي لا حاجة الى إرسال جنود لهم فأقل شيء كاف لإبادتهم واستئصال شأفتهم ، وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا ومن بعده متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وجند مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به ومن السماء صفة لجند والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها


ومنزلين خبرها. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مضمر والتقدير ما كانت الصيحة إلا صيحة واحدة والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وخامدون خبر.

البلاغة :

١ ـ الالتفات في قوله «ومالي لا أعبد الذي فطرني» وفائدته أن انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم الى التكلم تلطفا بهم من جهة ووعيدا لهم من جهة ثانية ، فقد صرف الكلام أولا الى نفسه وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه ، ثم التفت الى مخاطبتهم ثانيا مقرعا مهددا بالعواقب التي تنتظرهم ، ثم عاد أخيرا الى التلطف في النصيحة لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ، وقد وضع قوله : «ومالي لا أعبد الذي فطرني» مكان قوله : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، ألا ترى الى قوله «وإليه ترجعون» ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال : «إني آمنت بربكم فاسمعون» فانظر أيها المتأمل الى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها.

٢ ـ ائتلاف الفاصلة :

وفي قوله : «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» فن ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام ، فإن ذكر الجنة مهد لفاصلتها وفي ذلك تنبيه عظيم على


وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمير فيه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ولمن ترصدوا له وتربصوا به الدوائر ونصبوا له الغوائل والمهالك ، هذا من جهة ثم إن في تمنيه أن يعلموا ليروعوا إلى أنفسهم بعد أن ينجلي الرين عن صدورهم وتنجاب الغواشي عن عيونهم فيبدو الصبح لذي عينين ، وتتبدد حنادس الشك والمين ، وفي ذلك انتصار له وقوز لدعوته وما بعد ذلك غبطة لمستزيد.

٣ ـ التشبيه البليغ في قوله «فإذا هم خامدون» شببهم بالنار الخامدة التي صارت رمادا على حد قول لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا إذ هو ساطع

أي ليس حال المرء وحياته وبهجته ثم موته وفناؤه بعد ذلك إلا مثل حال شهاب النار وضوئه يصير رمادا بعد إضاءته. وبعد هذا البيت :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدّ يوما أن ترد الودائع

شبه مال الشخص وأقاربه بالودائع تشبيها بليغا بجامع أنه لا بد من أخذ كل منها.

٤ ـ في قوله : «قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون» وإنما ختم بقوله «وهم مهتدون» مع تمام الكلام بدونه لزيادة الحث على الاتباع ففيه إطناب.


الفوائد :

بحث هام عن إذن :

تحدثنا في هذا الكتاب عن إذن ونضيف الى ما تقدم ما قاله الرضي ففيه جلاء لموقعها من الآية ، قال : «إنها اسم وأصلها إذ ، حذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين وفتح ليكون في صورة ظرف منصوب وقصد جعله صالحا لجميع الأزمنة بعد ما كان مختصا بالماضي وضمن معنى الشرط غالبا وإنما قلنا غالبا لأنه لا معنى للشرط في نحو «قال فعلتها إذن وأنا من الضالين» ثم قال الرضي : وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز اجراؤه مجرى لو في قرن جوابه باللام نحو «إذن لأذقناك» أي لو ركنت شيئا قليلا لأذقناك ، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز قرن جوابه بالفاء كقول النابغة :

ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذن فلا رفعت سوطي الي يدي

أي إن أتيت ، وقد تستعمل بعد لو وإن توكيدا لهما نحو لو زرتني لأكرمتك وإن جئتني إذن أزورك» ثم قال : ولما احتملت إذن التي يليها المضارع معنى الجزاء فالمضارع مستقبل واحتملت معنى مجرد الزمان ، فالمضارع حال وقصد التنصيص على معنى الجزاء في إذن نصب المضارع بأن المقدرة لأنها تخلصه للاستقبال فتحمل إذن على الغالب فيها من الجزاء لانتفاء الحالية المانعة من الجزاء بسبب النصب بأن» وقد أطال الرضي في البحث فحسبنا ما اقتبسناه من كلامه ليضاف الى ما تقدم عنها.


(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

الاعراب :

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في هذا النداء وجهان أولهما أنه منادى شبيه بالمضاف ولذلك نصب وإنما كان شبيها بالمضاف لأنه اتصل به شيء من تمام معناه وهو على العباد ولك أن تجعله منادى نكرة مقصودة كأنما المنادى حسرة معينة وإنما نصبت لأنها وصفت بالجار والمجرور وقد تقدم معنا أن المنادى النكرة المقصودة إذا وصف نصب والوجه الثاني أن المنادى محذوف وحسرة مصدر أي أتحسر حسرة واختلف المفسرون في المتحسر ولا داعي للاختلاف فالحسرة جديرة بهم والمستهزءون بالرسل أحرياء بأن يتحسر عليهم المتحسرون أو يتحسروا على أنفسهم. والنداء هنا مجازي أي يا حسرة احضري فهذا أوانك. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل التحسر عليهم وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حصر وجملة كانوا استثناء من أعم الأحوال فهي جملة في محل نصب على الحال من الهاء في يأتيهم وكان واسمها وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.


(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي لقد علموا ذلك جيدا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وقد علقت يروا عن العمل لأن الرؤية هنا قلبية علمية وكم خبرية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا والجملة في محل نصب مفعول يروا ويجوز أن تكون كم استفهامية وقبلهم ظرف متعلق بأهلكنا ومن القرون حال وأن وما في حيزها بدل من معنى كم أهلكنا والتقدير : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ويجوز أن يكون المصدر المؤول معمولا لفعل محذوف دل عليه السياق والمعنى تقديره وقضينا وحكمنا أنهم إليهم لا يرجعون وان واسمها وإليهم متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة يرجعون خبر ان وللزمخشري فيها كلام لطيف نورده في باب الفوائد. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة وإن نافية وكل مبتدأ ولما بمعنى إلا وجميع خبر كل ولدينا ظرف متعلق بجميع أو بمحضرون ومحضرون خبر ثان وسيأتي مزيد من إعراب هذه الآية وقراءاتها.

الفوائد :

١ ـ كلام الزمخشري في الآية :

للمعربين كلام طويل في إعراب قوله تعالى : «ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون» وقد أوردنا لك ما رأيناه أمثل الأوجه في إعرابها ونرى من المفيد أن نورد لك الكلام الذي أورده الزمخشري بهذا الصدد قال : «ألم يروا : ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في كم لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها سواء كانت


للاستفهام أو لمضمر لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم يروا إن زيدا لمنطلق وان لم يعمل في لفظه وانهم إليهم لا يرجعون بدل من كمّ أهلكنا على المعنى لا على اللفظ تقديره ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم».

هذا وقد قرىء بتخفيف «لما» فتكون إن مخففة من الثقيلة وإن مهملة عن العمل وكل مبتدأ وما بعده خبره ولزمت اللام في الخبر فرقا بين المخففة والنافية وما مزيدة.

٢ ـ مناقشة لطيفة :

اعلم أن الزمخشري أورد سؤالا في الآية فقال : كيف أخبر عن كل بجميع مع أن الفارسي نص على أنه لا يجوز : إن الذاهبة جارية صاحبها ، واستشكلوا قوله تعالى «فإن كانتا اثنتين» لأنه أخبر عن ضمير الاثنين بالاثنين فلا فائدة فيه ، وانتقد بعض الناس على الفارسي وقال إن الجارية مضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة فلا تدل إضافة

الجارية إليه على أنها ملكه بل قد تكون جارته فأضافها باعتبار الجوار فقط ثم قل صاحبها فأفاد أنها ملكه ، وأجاب الزمخشري عن السؤال بأن كلا لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع وهذا قد نصّ عليه ابن عصفور فإنه فرق بين أجمع وجميع بأن أجمع لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع لكن إنما ادعى ذلك في حالة النصب نحو جاء الزيدون جميعا أما في الرفع فلا فرق بين جاء الزيدون أجمعون أو جميع فما قاله الزمخشري مشكل لأن جميعا لا يفيد الجمعية إلا إذا انتصب على الحال فيبقى السؤال واردا ، وأجاب عنه الفخر الرازي بجواب حسن وهو أنه إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة تقييد صح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك الرجل رجل صالح.


(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

الاعراب :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) كلام مستأنف مسوق لإيراد آية على البعث والتوحيد. وآية خبر مقدم ولهم صفة والأرض مبتدأ مؤخر وجملة أحييناها يجوز فيها أن تكون حالية وأن تكون صفة وسيأتي السر في وصفيتها في باب الفوائد. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) عطف على أحييناها وأخرجنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بأخرجنا وحبا مفعول به والفاء استئنافية ومنه متعلقان بيأكلون.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) وجعلنا فعل وفاعل والجملة عطف على أحييناها وفيها متعلقان بجعلنا أو بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل وفجرنا عطف أيضا وفيها متعلقان بفجرنا ومن العيون صفة لمفعول فجرنا المحذوف أي ينابيع كائنة من العيون ، وقدره أبو البقاء بقوله : ما ينتفعون به من العيون فمن للتبعيض. (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ليأكلوا تعليل لما تقدم ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بيأكلوا وما


موصولية أو نكرة موصوفة عطف على من ثمره وجملة عملته أيديهم صلة أو صفة ولك أن تجعلها مصدرية أي ومن عمل أيديهم فهو بمعنى ما تقدم ، وإعرابه : قال الزمخشري : «ولك أن تجعل ما نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه» والهمزة للاستفهام الانكاري لأنه لا شيء أقبح من إنكار النعمة وغمط الصنيع والفاء تقدم أنها في مثل هذا المقام عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي أيرون هذه النعم ويستمتعون بها فلا يشكرونها ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف كما أشرنا.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم القول فيه والجملة مستأنفة مسوقة لتنزيهه تعالى عما لا يليق به والذي مضاف إليه وجملة خلق صلة والأزواج مفعول به وكلها تأكيد ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة تنبت الأرض صلة.

(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) عطف على قوله مما تنبت الأرض وبهذا استمر في الأمور الثلاثة التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات وهي على التوالي :

١ ـ ما تنبته الأرض من الحبوب وأصناف الشجر.

٢ ـ ما يتوالده الناس من ذكر وأنثى.

٣ ـ من أزواج لم يطلع الله عباده عليها بعد ولم يكتنهوا حقيقتها.

البلاغة :

في قوله : «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» الآية فن التناسب


بين المعاني أو صحة التفسير وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه ، فإما أن يكون مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه إلى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه ، ووقوع التفسير في الكلام على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره ، وقد أتت صحة التفسير في هذه الآية مقترنة بصحة التقسيم واندمج فيهما الترتيب والتهذيب فكان فيها أربعة فنون ؛ فقد قدم سبحانه النبات كما ذكرنا في الإعراب وانتقل على طريق البلاغة إلى الأعلى فثنى بأشرف الحيوان وهو الإنسان ليستلزم ذكره بقية الحيوان ثم ثلث بقوله :

«ومما لا يعلمون» فانتقل من الخصوص إلى العموم ليندرج تحت العموم فسبحان منزل القرآن.

الفوائد :

ذكر الزمخشري أن الثمر يجمع على ثمر بفتحتين وثمر بضمتين وثمر بضمة فسكون ولم يذكر غيره الاثنين الأولين.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))


اللغة :

(نَسْلَخُ) : نفصل يقال سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها وأزاله ، وسلخ الحية. وفي معاجم اللغة : سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخا الخروف كشط جلده وسلخت المرأة درعها : نزعته وسلخت الحية انكشفت عن سلختها وسلخها أي قشرها فاستعير السلخ لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.

(العرجون) : بضم العين ويقال له أيضا العرجد والعرجد بتشديد الدال أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ ، والجمع عراجين. وقال الزجاج : هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف. وسيأتي سر تشبيه القمر به في باب البلاغة.

الاعراب :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) الواو عاطفة وآية خبر مقدم ولهم صفة والليل مبتدأ مؤخر وجملة نسلخ حالية ومنه متعلقان بنسلخ والنهار مفعول والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ ومظلمون خبر ومعنى مظلمون أي داخلون في الظلام. يقال أظلمنا كما يقال أعتمنا وأدجينا وأظهرنا وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) الشمس مبتدأ وجملة تجري خبر ولمستقر متعلقان بتجري وسيرد في باب الفوائد معنى المستقر ولها


متعلقان بمحذوف صفة. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ذلك مبتدأ والاشارة الى جريها وتقدير خبره والعزيز مضاف اليه والعليم صفة ثانية. (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) الواو عاطفة والقمر مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي فهو منصوب على الاشتغال وجملة قدرناه من الفعل والفاعل والمفعول به مفسرة وقرىء بالرفع على أنه معطوف على المبتدأ المقدم أو على انه مبتدأ خبره قدرناه ومنازل فيه أوجه : أحدها أنه حال على حذف مضاف أي ذا منازل لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل وثانيها أنه مفعول ثان لقدرناه أي صيّرناه منازل والثالث انه ظرف أي قدرنا سيره في منازل وقد جنح الى هذا الوجه الزمخشري والجلال ، وحتى حرف غاية وجر وعاد فعل ماض وفاعله هو أي القمر في آخر منازله ولك أن تجعل عاد ناقصة فيكون الاسم مستترا والكاف اسم بمعنى مثل خبر عاد وان اعتبرتها تامة كانت في محل نصب على الحال والقديم صفة للعرجون وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لا نافية والشمس مبتدأ وجملة ينبغي خبر ولها متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي والقمر مفعول ومعنى ادراك الشمس للقمر الإخلال بالسير المقدر والنظام المتبع لئلا يختل تكوين الكون ونظامه. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) عطف على ما تقدم والليل مبتدأ وسابق خبر والنهار مضاف اليه وسيأتي المزيد من معناه. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن التنوين عوض عن كلمة مضافة أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب ، وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر والواو فاعل لأنه نزلها منزلة العقلاء وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة.


البلاغة :

اشتملت هذه الآيات على العديد من فنون البلاغة :

١ ـ الاستعارة :

فأولها الاستعارة المكنية في قوله «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» فقد شبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ وذلك انه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن يقال نخرج مثلا لأن السلخ لا يتأتى إلى بجهد ومشقة لفرط التحامه باللحم والعظام ، والجامع بينهما الإزالة والتعرية فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوءه وبدت ظلمته الحالكة تغمر الكون بسوادها.

٢ ـ التوشيح :

وفي قوله : «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» الآية فن التوشيح وهو أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية أو السجعة بلفظه أو من لوازم لفظه فإن من كان حافظا للسورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة تكون مظلمون لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.


٣ ـ التشبيه المرسل :

وذلك في قوله «حتى عاد كالعرجون القديم» فقد مثل الهلال بأصل عذق النخلة والعذق بكسر العين وهو الكباسة والكباسة عنقود النخل وهو تشبيه بديع للهلال فإن العرجون إذا قدم دق وانحنى واصفر وهي وجوه الشبه بين الهلال والعرجون فهو يشبهه في رأي العين في الدقة لا في المقدار والاستقواس والاصفرار.

٤ ـ الاستعارة أيضا :

واستعار الإدراك للشمس والسبق لليل والنهار ليبين ما هو مقرر في علم الجغرافيا من دورات الشمس والقمر والأرض وتكون الليل والنهار ، وجعل الشمس غير مدركة والقمر غير سابق لأن الشمس ثابتة لا تدور إلا دورة لم تعرف مدتها حول شيء مجهول لنا بالكلية ولها أيضا دورة على محورها كالأرض تقطعها في خمسة وعشرين يوما أو هي بالضبط خمسة وعشرون يوما وست ساعات وست عشرة دقيقة وثماني ثوان ، أما القمر فله حركتان : إحداهما حول محوره وثانيتهما حول الأرض وكل منهما يتجه من المغرب إلى المشرق ويقطع مداره حول الأرض في تسعة وعشرين يوما ونصف تقريبا وهذا هو المسمى بالشهر القمري فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها والقمر خليق بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.

٥ ـ التغليب :

وغلب العقلاء لأنه نزل الشمس والقمر والنجوم والكواكب


منزلتهم والسر فيه انه لما وصفهم بالسباحة وهي من أوصاف العقلاء ساغ له ذلك.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦))

اللغة :

(الْمَشْحُونِ) : شحن السفينة ملأها وأتم جهازها كله «في الفلك المشحون» وبينهما شحناء : عداوة وهو مشاحن لأخيه ويقال للشيء الشديد الحموضة انه ليشحن الذباب أي يطرده وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر ، يقال :شحنت الكلاب أي أبعدت الطرد ولم تصد شيئا وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب.

(صَرِيخَ) : مغيث ويطلق أيضا على الصارخ أي المستغيث فهو من الأضداد ويكون مصدرا بمعنى الإغاثة وكل منهما مراد هنا وفي الأساس : «وصرخ يصرخ صراخا وصريخا وهو صارخ وصريخ وقد نقع الصريخ قال :


قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم

من بين ملجم مهره أو سافع

والصراخ : صوت المستغيث وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة.

قال سلامة :

إنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

أي كان الغياث له وتقول : جاء فلان صارخا وصريخا ومستصرخا : مستغيثا وأقبل صارخا وصارخة وصريخا ومصرخا :مغيثا قال :

وكانوا مهلكي الأبناء لو لا

تداركهم بصارخة شفيق

وفي المثل : «عبد صريخه أمة» أي مغيثه وأصرخته أغثته ، واستصرخني استغاثني وتصارخوا واصطرخوا : تصايحوا».

(الذرية) : سيأتي بحثها في باب الإعراب.

الاعراب :

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) اختلف في عود الضمير ونرى أن الأصوب أن يكون عاما وأن يكون بمثابة امتنان عليهم بأصناف من النعم منها حملهم في السفن فتكون الألف واللام في الفلك للجنس لا لسفينة نوح خاصة. وآية خبر مقدم ولهم صفة وأنا أن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وأن واسمها وجملة حملنا خبرها


وحملنا فعل وفاعل وذريتهم مفعول به وفي الفلك متعلقان بحملنا والمشحون صفة وقد أطلقت الذرية على الأصول وهي تطلق أيضا على الفروع لأن لفظ الذرية مشترك بين الضدين لأن الذرية من الذرء أي الخلق والفروع مخلوقون من الأصول والأصول خلقت منها الفروع وقال البغوي : «واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد» وفي القاموس : «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين» واستدرك في التاج فقال : «وقد يطلق على الآباء والأصول قال الله تعالى : أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري» فليس في الآية إشكال كما زعم القرطبي وسيأتي نص عبارته في باب الفوائد.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) الواو عاطفة وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا ومن مثله في محل نصب على الحال من المفعول المؤخر وهو ما وجملة يركبون صلة ما والضمير في مثله يعود على الفلك فإما أن يراد بالمثل ما اصطنعوه بعد ذلك من وسائل الركوب أو أنه مقتصر على الإبل لأنهم كانوا يسمونها سفائن الصحراء وهناك أقوال يرجع إليها في المطولات. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) الواو عاطفة وإن شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ونغرقهم جواب الشرط والفاء عاطفة واختار ابن عطية أن تكون استئنافية وفي ذلك قطع للكلام ، ولا نافية للجنس وصريخ اسمها مبني على الفتح ولهم خبرها والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينقذون خبر وينقذون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) إلا أداة حصر ورحمة مفعول لأجله فهو استثناء مفرغ من أعم العلل وقيل هو


استثناء منقطع وقيل هو مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل منصوب بنزع الخافض ومتاعا عطف على رحمة وإلى حين صفة وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان إعراضهم عن هذه الآيات الآنفة الذكر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتقوا مقول القول واتقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديكم مضاف إليه وما خلفكم عطف على ما بين أيديكم ولعلكم لعل واسمها وجملة ترحمون خبرها وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله الآتي والتقدير أعرضوا وأشاحوا. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن آيات ربهم صفة ومعنى من التبعيض وإلا أداة حصر وجملة كانوا عنها معرضين في محل نصب حال وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبرها.

البلاغة :

في قوله : «وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم» إلى قوله :«ومتاعا إلى حين» سلامة الاختراع وهي الإتيان بمعنى لم يسبق إليه فإن نجاتهم من الغرق برحمة منه تعالى هي في حد ذاتها متاع يستمتعون به ولكنه على كل حال إلى أجل مقدر يموتون فيه لا مندوحة لهم عنه ، فهم إن نجوا من الغرق فلن ينجوا مما يشبهه أو يدانيه ، والموت


لا تفاوت فيه. وقد رمق أبو الطيب ، كعادته ، سماء هذا المعنى فقال من قصيدة قالها بمصر يذكر بها حماه التي كانت تغشاه :

وإن أسلم فما أبقى ولكن

سلمت من الحمام إلى الحمام

يقول : فإن أسلم من مرض لم أبق خالدا ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرض آخر وهذا معنى بديع تداوله الشعراء ، فقال آخر :

إذا بلّ من داء به خال أنه

تجاذبه الداء الذي هو قاتله

وقد دندن أبو الطيب لتصوير المتاع المستعجل ببيتين ولم يسم إلى الآية فقال :

تمتع من سهاد أو رقاد

ولا تأمل كرى تحت الرجام

فإن لثالث الحالين معنى

سوى معنى انتباهك والمنام

أراد بثالث الحالين الموت يقول ما دمت حيا تمتع من حالتي النوم والسهاد فإنك لا تنام في القبر ، والموت غير اليقظة والرقاد فلا تحسبن الموت نوما.

الفوائد :

عبارة القرطبي في تفسير الآية :

وعدناك أن ننقل لك عبارة القرطبي وبرا بهذا الوعد نوردها لك : «هذه الآية من أشكل ما في هذه السورة لأنهم هم المحمولون


فقيل : المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون فالضميران مختلفان ، ذكره المهدوي وحكاه النحاس عن علي ابن سليمان انه سمعه يقوله وقيل الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون المراد بذرياتهم أولادهم وضعفاءهم فالفلك على القول الأول سفينة نوح وعلى الثاني يكون اسما للجنس أخبر تعالى بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يضعف عن المشي والركوب من الذرية والضعفاء فيكون الضميران على هذا متفقين ، وقيل الذرية الآباء والأجداد حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام فالآباء ذرية والأبناء ذرية بدليل هذه الآية قاله أبو عثمان وسمي الآباء ذرية لأنه ذرأ منهم الأبناء ، وقول رابع أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ذكره الماوردي» والقول الصحيح والوجيه ما أسلفناه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠))


اللغة :

(يَخِصِّمُونَ) : بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة وأصله يختصمون فلما حذفت حركة التاء صارت ساكنة فالتقت ساكنة مع الخاء فحركت الخاء بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين وهناك قراءات أخرى يرجع إليها في المطولات.

الاعراب :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة وجملة أنفقوا مقول القول ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا وجملة رزقكم الله صلة. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة والهمزة للاستفهام ومعناه الاستهزاء : كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟وقيل نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله :أعطونا مما زعمتم من أموالكم إنها لله يعنون قوله : «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا» فحرموهم وقالوا : لو شاء الله لأطعمكم استهزاء منهم بالمؤمنين أي فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. ونطعم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن مفعول به ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل وجملة أطعمه لا محل لها وجملة لو يشاء الله أطعمه لا محل لها لأنها صلة من.


(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إما أن يكون تتمة كلام المشركين وإما أن يكون من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وإما أن يكون من قول الله تعالى لهم ، وروى القرطبي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال : يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال : نعم ، قال : فما باله لم يطعمهم؟ قال : ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالإعطاء ، فقال أبو جهل : والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت الآية. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف لبيان ضرب آخر من تعسفهم وركوبهم متن الضلالة ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل من اسم الإشارة وإن شرطية وكنتم صادقين كان واسمها وخبرها وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فمتى هذا الوعد؟(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ما نافية وينظرون فعل مضارع وفاعل ومعناه ينتظرون : جعلهم منتظرين وقوعها مع أنهم كانوا قاطعين بعدمها محاكاة لكلامهم. وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة وجملة تأخذهم صفة ثانية أو حالية والواو حالية وهم ضمير منفصل مبتدأ وجملة يخصمون خبر والجملة نصب على الحال والمعنى أنها تبغتهم وهم سادرون في الغفلة مسترسلون في الخصومات حول المتاجر والمعاملات. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل


مضارع وفاعل وتوصية مفعول به والواو عاطفة ولا نافية وإلى أهلهم جار ومجرور متعلقان بيرجعون والجملة معطوفة على فلا يستطيعون.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

اللغة :

(الصُّورِ) : هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق وهو شيء مجوف مستطيل ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقات.

قال أبو الفتح بن جني : عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب جمع بوق على بوقات في قوله :

إذا كان بعض الناس سيفا لدولة

ففي الناس بوقات لها وطبول

والقياس يعضده إذ له نظائر كثيرة مثل حمام وحمامات وسرادق وسرادقات وجواب وجوابات وهو كثير في جميع ما لا يعقل من المذكر.


(الْأَجْداثِ) : القبور جمع جدث كفرس وأفراس وقرىء من الأجداف بالفاء وهي لغة في الأجداث يقال جدث وجدف.

(يَنْسِلُونَ) : يعدون بكسر السين وضمها يقال نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب وقيل ينسل بالضم أيضا وهو الاسراع في المشي وفي القاموس : «نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلا ونسلا ونسلانا في مشيه أسرع».

ومنه قول امرئ القيس :

فإن تك ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

الاعراب :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير البعث يوم القيامة. ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ ومن الأجداث متعلقان بينسلون وإلى ربهم متعلقان بينسلون أيضا وجملة ينسلون خبرهم. (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) قالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه ونا مضاف إليه ويجوز أن يكون منادى مضافا من النداء المجازي أي يا ويل احضر فهذا أوانك ، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة بعثنا خبر ومن مرقدنا متعلقان ببعثنا ويجوز في المرقد أن يكون مصدرا ميميا أي من رقادنا ويجوز أن يكون اسم مكان


وقد أقيم المفرد مقام الجمع. (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هذا مبتدأ وما اسم موصول خبر وجملة وعد الرحمن فعل وفاعل ومفعول وعد محذوف أي وعدنا وصدق المرسلون فعل وفاعل والمفعول محذوف وعلى هذا الاعراب يكون الوقوف على مرقدنا تاما ، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها خبر هذا ، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون اسم الاشارة نعتا لمرقدنا فيوقف عليه وما وعد مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير على الأول حق وعلى الثاني هذا أو بعثنا.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره الصيحة وإلا أداة حصر وصيحة خبر كانت والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ وجميع خبر ولدينا ظرف متعلق بمحضرون ومحضرون خبر ثان أو صفة لجميع. (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بتظلم ولا نافية وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق ولا تجزون عطف على لا تظلم على طريق الالتفات وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم.

البلاغة :

في قوله : «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» استعارة تصريحية أصلية فقد استعار الرقاد للموت والجامع بينهما عدم ظهور الفعل لأن كلّا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل والمراد الفعل الاختياري المعتد به فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل وإنما قلنا انها


أصلية لأن المرقد مصدر ميمي كما تقدم وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية.

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

اللغة :

(شُغُلٍ) : بسكون الغين وضمها وقد قرىء بهما معا وفي القاموس : «الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ وجمعه أشغال وشغول وشغله كمنعه شغلا ويضم ، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة واشتغل به وشغل كعني ويقال منه ما أشغله وهو شاذ لأنه لا يتعجب من المجهول» وأنكر شارح القاموس أشغل وقال :لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة.

(فاكِهُونَ) : ناعمون أو متلذذون في النعمة من الفكاهة بالضم وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه :الفكاهة بالضم : المزاح والفكاهة بالفتح مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه


إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم فإذا فسرنا قوله «فاكهون» بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح وفي القاموس : «الفاكهة : الثمر كله وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلا بقوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان باطل مردود وقد بينت ذلك مبسوطا في اللامع المعلم العجاب ، والفاكهاني بائعها وكخجل : آكلها والفاكه صاحبها وفكههم تفكيها أتاهم بها والفاكهة : النخلة المعجبة واسم والحلواء وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها والاسم : الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها وفكاهة فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدث صحبه فيضحكهم ومنه تعجب كتفكه والتفاكه التمازح».

(الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وقيل الفرش الكائن في الحجلة بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء وقيل مع كسرها والمراد بها نحو قبة تغلق على السرير وتزين به العروس.

(يَدَّعُونَ) مضارع ادعى بوزن افتعل من دعا يدعو وقد اشرب معنى التمني ، قال أبو عبيدة : «العرب تقول : ادع علي ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعي أن يتمنى» وقال الزجاج : «هو من الدعاء أي ما يدعونه يأتيهم ، وقيل افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه» وقال الزمخشري : «يدعون يفتعلون من الدعاء أي يدعون به لأنفسهم كقولك اشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه قال لبيد :

وغلام أرسلته أمه

بألوك فبذلنا ما سأل

أرسلته فأتاه رزقه

فاشتوى ليلة ريح واجتمل»


أي ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله وبين ذلك بقوله : أرسلته فأتاه رزقه وفيه دلالة على انه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم الغلام أي فأتاه رزقه من الصيد فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود واجتمل أي أذاب الشحم ، وفي الصحاح : حميت الشحم واجتملته إذا أذبته.

الاعراب :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال أهل الجنة إغاظة للكفار وتقريعا لهم وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وفي شغل خبر إن الثاني وفاكهون خبرها الأول ويجوز العكس ، ويجوز أن يتعلق في شغل بفاكهون أو في محل نصب على الحال ، وسيأتي معنى الشغل والفكاهة في باب البلاغة. (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) هم مبتدأ وأزواجهم عطف على هم وفي ظلال خبر أي لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية وعلى الأرائك متعلقان بمتكئون ومتكئون خبر ثان لهم ، ويجوز أن يتعلق قوله في ظلال بمحذوف حال. (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال وفاكهة مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة السابقة ويجوز في ما أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية وجملة يدعون لا محل لها أو صفة.


(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) اختلفت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وأوصل بعضهم القول فيها إلى ستة أوجه ، ونرى أن نثبت نص عبارة الشهاب السمين لوجاهتها قال : «قوله سلام : العامة على رفعه وفيه أوجه أحدها أنه خبر ما يدعون. الثاني أنه بدل من ما ، قاله الزمخشري ، قال الشيخ : وإذا كان بدلا كان ما يدعون خصوصا والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموما لم يكن بدلا منه.

الثالث أنه صفة لما وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفا وتنكيرا ، الرابع أنه خبر ابتداء مضمر أي هو سلام. الخامس أنه مبتدأ خبره الناصب لقولا أي سلام يقال لهم قولا وقيل تقديره سلام عليكم. السادس أنه مبتدأ وخبره من رب» وقولا مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقال الزمخشري «والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه» وجعله السيوطي الجلال منصوبا بنزع الخافض وقال آخرون هو مصدر منصوب بفعل محذوف وهو مع عامله صفة لسلام أي يقول لهم وجملة سلام قولا من رب رحيم في محل نصب معموله لقول محذوف ومن رب صفة لقولا ورحيم صفة لرب.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وهذه الجملة معمولة لقول محذوف أيضا أي ويقول لهم الله. وامتازوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل أي وانفردوا عن المؤمنين ، واليوم ظرف متعلق بامتازوا وأيها منادى نكرة مقصودة محذوف منه حرف النداء والهاء للتنبيه والمجرمون بدل. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) جملة منتظمة في سلك المقول لهم جارية مجرى التقريع والتوبيخ والتبكيت والإلزام.


والهمزة للاستفهام المتضمن هذه المعاني ولم حرف نفي وقلب وجزم وأعهد فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وإليكم متعلق بأعهد ويا حرف نداء وبني منادى مضاف وآدم مضاف إليه.

(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أن مفسرة لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والشيطان مفعول به ويجوز أن تكون أن مصدرية فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض ، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان. وان واسمها ولكم متعلقان بعدو أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفه له وتقدمت وعدو خبر إن ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها. (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عطف على أن لا تعبدوا واعبدوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة والجملة تعليلية للأمر وسيأتي سر تقديم النهي على الأمر في باب البلاغة.

البلاغة :

في هذه الآيات ضروب من أفانين البلاغة نشير إليها فيما يلي :

١ ـ تنوين شغل وفيه تنويه بأن ما هم فيه من شغل أعلى من أن ترقى إليه رتبة البيان أو يستطيع وضعه اللسان كما أن في إبهامه إيجازا انطوى تحته مالا يعد ويحصى من ضروب الملاذ التي يستمتعون بها في الجنان ، وأن ما عداها يعتبر كلا شيء كما أن فيه تصويرا لما أعده الله لعباده المتقين من ضروب المتعة وأفانين اللذة من افتضاض أبكار ، وسماع أوتار ، وتزاور في العشايا والأسحار ، وقد أكده بأنهم فاكهون ناعمون لا يشغل بالهم ما يشغل بال أهل الدنيا من تصاريف


الحياة ومشاغل السنين ولا ينغص صفوهم همّ طارئ أو غم نازل ، وان كل ما تمتد إليه الأعين وتسافر نحوه الظنون من صنوف الملاذ حاضر لديهم ينالونه وهم متكئون على الأرائك متمددون تحت الظلال مما ورد وصفه مجسّدا. وذلك كله على طريق الكناية ؛ وقد تقدم القول فيها مطولا.

٢ ـ تنوين صراط وفيه تفخيم كما تقدم وإيجاز يشير إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن إذ لا صراط أقوم منه ومن نماذج هذا التنوين في الشعر قول كثير عزة :

لئن كان يهدي برد أنيابها العلا

لأفقر مني انني لفقير

وقيل هذا البيت من أبيات المجنون وقبله :

دعوت إلهي دعوة ما جهلتها

وربي بما تخفي الصدور بصير

وبعده :

فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت

فهل يأتيني بالطلاق بشير

وقوله لئن كان يهدي بيان للدعوة التي دعاها عن قصد وحضور قلب وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر أي لئن كان يعطي برد أسنانها العليا وخصها بالذكر لأنها أول ما يبدو عند التبسم لأحوج مني إنني لبليغ الفقر حقيق بأن أوصف به لكمال


شرائطه فيّ ، ويجوزان «برد أنيابها» كناية عن ذاتها كلها و «إنني لفقير» خبر مؤكد يدل على شدة الاحتياج وعظم الفاقة وأي فاقة أشد على العاشق من احتياجه إلى من يعشق يداوي أوصابه. وان في قوله «أن قد تزوجت» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهي على تقدير حرف الجر أي أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب أي أتمنى ذلك أو أتعجب من عدمه.

٣ ـ تقديم النهي على الأمر في قوله «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم» وذلك لأن حق التخلية التقديم على التحلية كما هو مقرر في علم التوحيد وليتصل به قوله «هذا صراط مستقيم».

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧))


اللغة :

(جِبِلًّا) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل ، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام ، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء ، وجبلا بكسر الجيم وسكون الباء وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق أو طائفة منه أقلها عشرة آلاف والكثير لا يتناهى.

(اصْلَوْهَا) : ذوقوا حرّها.

(مَكانَتِهِمْ) : المكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام والمعنى لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون على مبارحته.

الاعراب :

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنكم جار ومجرور متعلقان بأضل وجبلا مفعول به وكثيرا صفة والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها وجملة تعقلون خبرها. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) كلام مستأنف مسوق لمجابهتهم بالمصير الهائل الذي يصيرون اليه بعد أن بلغ الغاية في توبيخهم وتقريعهم. واسم الاشارة مبتدأ وجهنم خبره والتي صفة وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وجملة توعدون خبرها.


(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اصلوها فعل أمر وفاعل ومفعول به واليوم ظرف متعلق باصلوها وبما متعلقان باصلوها أيضا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكنتم تكفرون كان واسمها وخبرها وجملة كنتم تكفرون لا محل لها. (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بنختم ونختم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وعلى أفواههم متعلقان بنختم أيضا.

(وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وتكلمنا أيديهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيأتي سر تكليم الأيدي ، وتشهد أرجلهم عطف على تكلمنا أيديهم وبما متعلقان بتكلمنا وما مصدرية أو موصولة وكانوا كان واسمها وجملة يكسبون خبرها.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي لو نشاء طمسها واللام واقعة في جواب لو وجملة طمسنا لا محل لها وعلى أعينهم متعلقان بطمسنا والطمس شق العين حتى تعود ممسوحة وفي المصباح «طمست الشيء طمسا من باب ضرب محوته».

(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة واستبقوا فعل وفاعل والجملة عطف على لطمسنا والصراط قال الزمخشري : «لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل ، والأصل فاستبقوا الى الصراط أو يضمن معنى ابتدروا أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه أو ينتصب على الظرف ، والمعنى أنه لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه الى مساكنهم والى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرا كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره أو لو شاء


لأعماهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا أو لو شاء لأعماهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا» وقال السمين : «والصراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول به مجازا جعله مسبوقا له وتضمين استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط» والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويبصرون فعل مضارع وفاعل والاستفهام هنا معناه النفي أي لا يبصرون.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) عطف على ما ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول نشاء محذوف أيضا أي لو نشاء مسخهم واللام واقعة في جواب لو وجملة مسخناهم لا محل لها وعلى مكانتهم حال أي لمسخناهم على حالتهم فهم ممسوخون في محالهم وفي منازلهم ، فما الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومضيا مفعول به ولا يرجعون عطف أيضا أي فما يبرحون مكاناتهم ولا يستطيعون الفرار منها بإقبال ولا بإدبار.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ


مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

اللغة :

(نُعَمِّرْهُ) : نطيل أجله ، وعمره الله بالتشديد أبقاه وقد تقدم ذكر هذه المادة بتفصيل واف.

(نُنَكِّسْهُ) نقلبه أي فنجعله على عكس ما خلقناه فيتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي. وفي القاموس وغيره «نكسه تنكيسا بالتشديد بمعنى نكسه ونكسه ينكسه من باب نصر نكسا قلبه على رأسه وجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره» وفي المصباح :«نكسته نكسا من باب قتل قلبته ومنه قيل ولد منكوس إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مقلوب مخالف للعادة ، ونكس المريض نكسا بالبناء للمجهول عاوده المرض كأنه قلب الى المرض» وقد جمع بعضهم معاني هذه المادة فقال :

قلب على رأس فهذا نكس

والرجل الفسل الضعيف نكس


رجوع داء بعد برء نكس

والناكس المرخي لرأس فادر

ومن ريب أمر النون مع الكاف أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلت على أثر في الشيء ويكون مصحوبا بالايلام والايجاع : فنكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ فنكسها قال :

ولم تنسني أوفى المصيبات بعده

ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع

ونكب عنه عدل ونكب الإناء أراق ما فيه والنكبة المصيبة وأثرها بليغ ومنه الريح النكباء وهي التي تهب بين الصبا والشمال خاصة. ونكت الأرض بقضيبه أو بأصبعه ومرّ الفرس ينكت إذا نبا عن الأرض في عدوه ونكت العظم أخرج مخه وفلان نكّات في الأعراض أي طعّان فما يستعمله العامة قريب من الصحيح. ونكث الحبل والسواك والسأف في أصول الأظفار وقد انتكث بنفسه أي انتقض واختل وهذه نكاثة الحبل : لما انتكثت من طرفه ونكاثة السواك لما تشعّث من رأسه ، ومن مجازه نكث العهد والبيعة نقضهما وهو نكاث للعهود. ونكح المرأة واستنكحها. قال النابغة :

وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة

أبا جابر واستنكحوا أم جابر

واستنكح النوم عيونهم. قال عمر بن أبي ربيعة :


واستنكح النوم الذين تخافهم

ورمى الكرى بوّابهم فتجدّلا

ونكد فلانا حاجته منعه إياها أو لم يعطه إلا القليل منها ونكد الغراب استقصى في شحيحه ونكد العيش بكسر الكاف اشتد وعسر ونكد عيشه بالتشديد أي جعله نكدا وعطاء منكود ومنكّد أي قليل غير مهنأ. قال :

وأعط ما أعطيته طيبا

لا خير في المنكود والناكد

ونكّد عطاءه بالمنّ. وأنكر الشيء ونكره واستنكره وقيل نكر بالكسر أبلغ من أنكره وهذا غريب وقيل : نكر بالقلب وأنكر بالعين ، قال الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

ونكزت الحية تنكز بأنفها ونكز البحر غاض. ونكش البئر نزفها أو أخرج ما فيها من الطين فما تستعمله العامة لا غبار عليه.

ونكص على عقبيه معروف ويقال : فلان حظه ناقص ، وجده ناكص.

ونكف منه بكسر الكاف واستنكف : امتنع وانقبض أنفا وحمية.

ونكل عن اليمين وعن العدو نكولا ونكلته عن كذا فطمته ونكلت به بالتشديد أصبته بنازلة أو جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله والقعاب النكال. ونكهته تشممت ريح فيه ونكه الشارب في وجهه ولا يخفى ما يحدثه من أثر وقد يأتي بمعنى الطيب يقال هو طيب النكهة وقد


استعملها أبو الشمقمق في المعنيين بقوله يهجو داود بن بكر وكان والي الأهواز :

وله لحية تيس

وله منقار نسر

وله نكهة ليث

خالطت نكهة صقر

ونكيت في العدو نكاية إذا أكثرت الجراح ، تقول : فلان قليل النكاية طويل الشكاية ، قال :

قليل النكاية أعداءه

يراعي الفرار يراخي الأجل

الاعراب :

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لاستعراض حال الإنسان كيف يستحيل إلى ضعف بعد قوة وإلى نقص بعد تمام. ومن اسم شرط جازم ونعمره فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وننكسه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الخلق متعلقان بننكسه أو بمحذوف حال والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية ويعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعله. (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) كلام مستأنف مسوق للرد على من زعموا أن القرآن شعر. وما نافية وعلمناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والشعر مفعول به ثان وما عطف وينبغي فعل مضارع معطوف على علمناه وله متعلقان بينبغي وسيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع.


(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وقرآن عطف على ذكر ومبين صفة. (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تدل عليه قرينة الكلام أي أنزل عليه لينذر ومن مفعول به وجملة كان صلة واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وحيا خبرها ويحق عطف على لينذر والقول فاعل والمراد به العذاب وعلى الكافرين متعلقان بيحق.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري وقد تقدم أن في هذا التركيب وجهين صحيحين أو لهما أن أصل التركيب وألم يروا ولكن لما كان الاستفهام له الصدارة قدمت الهمزة

على الواو ، والوجه الثاني أن يكون الكلام على حاله والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وقد جرينا على هذا الوجه في أكثر ما قدمناه والتقدير ألم يتفكروا ولم يروا وقد أعدناه هنا لطول العهد به. ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية علمية وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة خلقنا خبرها وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا أي لأجلهم وانتفاعهم ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته وأيدينا فاعل وأنعاما مفعول خلقنا والفاء عاطفة وهم مبتدأ ولها متعلقان بمالكون ومالكون خبر هم وهي كالابل والبقر والغنم والخيل والحمير.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) وذللناها فعل ماض وفاعل ومفعول ولهم متعلقان بذللناها والفاء للتفريع ومنها خبر مقدم


وركوبهم مبتدأ مؤخر وفيها متعلقان بيأكلون ويأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وفيها حال ومنافع مبتدأ مؤخر ومشارب عطف على منافع وهو جمع مشرب مصدر ميمي واسم مكان والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة كما تقدم ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) الواو عاطفة على مقدر يستدعيه السياق أي ما فعلوا الشكر. واتخذوا فعل أمر وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذوا وآلهة مفعوله الأول ولعل واسمها وجملة ينصرون خبرها والواو نائب فاعل وجملة الرجاء حالية أي حال كونهم راجين النصر من آلهتهم.

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) لا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل ، أسند ضمير العقلاء إلى آلهتهم تنزيلا لها منزلة العقلاء ونصرهم مفعول به والواو للحال وهم مبتدأ ولهم حال من جند لأنه كان في الأصل صفة له وقدمت عليه وجند خبرهم ومحضرون خبر ثان لهم أو نعت لجند.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) الفاء الفصيحة أي ان علمت ما تقدم وأيقنت أنهم يعلّقون أطماعهم الفارغة على ما يستوجب الخسران ويستدعي تقويض الأحلام وتبديد الأوهام فلا يحزنك قولهم. ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وقولهم فاعل ثم علل النهي فقال : إنا بكسر الهمزة ولو فتحت لفسد المعنى ، وان واسمها وجملة نعلم خبرها والفاعل مستتر تقديره نحن وما مفعول به وهي موصولة أو مصدرية وجملة


يسرون لا محل لها على كل حال أي الذي يسرونه أو أسرارهم وما يعلنون عطف على ما يسرون أي والذي يعلنون أو واعلانهم وللزمخشري فصل ممتع بين كسر همزة إن وفتحها نورده في باب الفوائد.

الفوائد :

حاول بعض المنتصرين للنثر ، الطاعنين على الشعر ، أن يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور ، وان النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر لقوله تعالى : «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» ويرى أنه قد أبلغ في الحجة ، ولكن الواقع أن الله تعالى لما بعث رسوله أميا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك حين استوت الفصاحة واشتهرت البلاغة آية للنبوة ، وحجة على الخلق ، وإعجازا للمتعاطين ، وجعله منثورا ليكون أظهر برهانا لفضله على الشعر الذي يترتب على صاحبه أن يكون قادرا على ما يحبه من الكلام ، وتحدي جميع الناس من شاعر وغيره بمثل مثله فأعجزهم ذلك ، فمن هنا قال الله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبلكم الدليل ، ويدحض أباطيلكم البرهان ، والمعنى : ان القرآن ليس بشعر ، وما هو من الشعر في شيء وأين هو عن الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلا منهم عن نظمه وأساليبه؟

فإذن لا مناسبة بينه وبين الشعر ، قال الزمخشري : «فإن قلت فقوله :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب


وقوله :

هل أنت إلّا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة ولا تكلف إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه أن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر ، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز ، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرا».

قلت : وقد تقدم في موضع آخر بحث مستفيض عن الشعر فجدد به عهدا.

بين كسر همزة إن وفتحها :

وقال الزمخشري في صدد قوله تعالى : «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون» : «فإن قلت : فما تقول فيمن يقول :إن قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح انتقضت صلاته وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى كفر؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يكون على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن وفي الشعر وفي كل كلام وقياس مطّرد ، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء ، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ان الحمد والنعمة لك ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل. والثاني أن يكون بدلا من قولهم كأنه قيل فلا


يحزنك أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول فقد تبين أن تعلّق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها وإنما يدوران على تقديرك ، فتفصل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية ثم إن قدرته كاسرا وفاتحا على ما عظم فيه من الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم وليس النهي عن ذلك مما يوجب شيئا ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : «فلا تكونن ظهيرا للكافرين ، ولا تكونن من المشركين ، ولا تدع مع الله إلها آخر».

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))


اللغة :

(خَصِيمٌ) : مخاصم مجادل والخصومة الجدل قال في القاموس :«خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه وهو شاذ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره وأما المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلا ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كراضيته فرضوته أرضوه وخاوفني فخفته أخوفه وليس في كل شيء يقال نازعته لأنهم استغنوا عنه بغلبته واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم والجمع خصوم وقد يكون للاثنين والجمع والمؤنث ، والخصيم المخاصم والجمع خصماء وخصمان ورجل خصم كفرح مجادل والجمع خصمون ومن قرأ «وهم يخصمون» أراد يختصمون فقلب التاء صادا فأدغم ونقل حركته إلى الخاء ومنهم من لا ينقل ويكسر الخاء لاجتماع الساكنين وأبو عمرو يختلس حركة الخاء اختلاسا وأما الجمع بين الساكنين فلحن ، والخصم بالضم الجانب والزاوية والناحية وطرف الزاوية الذي بحيال العزلاء في مؤخرها والجمع أخصام وخصوم واخصام العين ما ضمت عليه الأشفار» وإنما نقلنا لك هذه المادة بطولها لفائدتها ولنبين لك مدى الوهم الذي وقع فيه صاحب المنجد فقد خلط فيها خلطا عجيبا وجعل الأخصام جمعا للخصم والخصيم وهو كما رأيت وهم من أوهام هذا الكتاب العجيب!! (رَمِيمٌ) : بالية وفي المختار «رم بالفتح يرم بالكسر إذا بلي وبابه ضرب» فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث ، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام أن فعيلا


بمعنى فاعل لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفية وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية أي صار بالغلبة اسما لما بلي من العظام.

الاعراب :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لتقبيح إنكارهم البعث وقد سما الزمخشري في تقرير هذا المعنى كما سيأتي في باب الفوائد. والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي ، والواو عاطفة وقد تقدم القول فيها مسهبا ولم حرف نفي وقلب وجزم وير فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والإنسان فاعل وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي ير لأن الرؤية هنا علمية وأن واسمها وجملة خلقناه خبرها وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن نطفة جار ومجرور متعلقان بخلقناه والفاء حرف عطف وإذا فجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة وجملة إذا هو خصيم مبين عطف على جملة لم ير الإنسان داخلة معها في حيز الإنكار والتعجب. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الواو عاطفة وضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولنا متعلقان بضرب ومثلا مفعول به ونسي عطف على ضرب وخلقه مفعول به والعطف داخل في حيز التعجب والإنكار أو الواو للحال بتقدير قد أي وقد نسي خلقه.

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يحيي العظام خبر والواو حالية وهي مبتدأ ورميم خبر والجملة في موضع نصب على الحال. (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) جملة يحييها مقول القول وهو فعل مضارع ومفعول


به والذي فاعل وجملة أنشأها صلة وأول مرة نصب على الظرف متعلق بأنشأها والواو استئنافية أو حالية وهو مبتدأ وبكل متعلقان بعليم وعليم خبر هو. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) الذي بدل من الذي الآنفة الذكر وجملة جعل صلة ولكم في موضع المفعول الثاني ومن الشجر الأخضر حالا لأنه كان في الأصل صفة لنارا ونارا مفعول جعل الأول ، فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وأنتم مبتدأ ومنه متعلقان بتوقدون وجملة توقدون خبر أنتم.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض بقادر ، وليس فعل ماض ناقص والذي اسمها وجملة خلق السموات والأرض صلة والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعلى حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادر وفاعل مستتر تقديره هو ومثلهم مفعول به.

(بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) حرف جواب لإثبات النفي والواو عاطفة على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو قادر على ذلك وهو الخلاق ، وهو مبتدأ والخلاق خبر والعليم خبر ثان. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وأمره مبتدأ وإذا ظرف مستقبل وجملة أراد مضاف إليها الظرف وشيئا مفعول به وأن وما في حيزها خبر أمره وله متعلقان بيقول وجملة كن مقول القول وكن فعل


أمر تام وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء عاطفة ويكون فعل مضارع مرفوع لأنه وفاعله جملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف والجملة عطف على أمره وقرىء بالنصب عطفا على يقول.

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وبيده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وإليه الواو عاطفة وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

البلاغة :

حسن البيان :

في قوله : «وضرب لنا مثلا ونسي خلقه» الآيات. حسن البيان ، وحقيقته إخراج المعنى في أحسن الصور الموضحة له وإيصاله إلى فهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها ، وقد تأتي العبارة عنه من طريق الإيجاز وقد تأتي من طريق الإطناب بحسب ما تقتضيه الحال ، وقد أتى بيان الكتاب العزيز في هذه الآية من الطريقين فكانت جامعة مانعة في الاحتجاج القاطع للخصم ، وقد أتى منفصلا عما قبله لأنه سبحانه ذكر المثل وليس في الكلام كله لا قبله ولا بعده ما خرج مخرج المثل ولا ما يصح أن يكون مثلا وهو أن أمية بن خلف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم نخر في يده وقال يا محمد أنت تزعم ربك يحيي هذا بعد أن صار إلى هذه الحال فنزلت ، وفي رواية أنه العاصي بن وائل وقيل هو أبي بن خلف الجمحي.


وقد آن أن ننقل الفصل البليغ الذي أورده الزمخشري في صدد هذه الآيات قال : «قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ وأدل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي ، وتوغله في الخسة ، وتغلغله في القحة حيث قرر أن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار ، وشرز صفحته لمجادلته ، ويركب متن الباطل ويلج ويمحك ويقول : من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها.

وروي أن جماعة من قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك فقال لهم أبي ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال : واللات والعزّى لأصيرن إليه ولأخصمنه ، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ! قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.


سورة الصّافات

مكيّة وآياتها ثنتان وثمانون ومائة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

اللغة :

(دُحُوراً) : مصدر دحره أي طرده وأبعده وهو من باب خضع.

وللدال مع الحاء فاء وعينا للفعل معنى القذف والطرد والدفع فمن ذلك دح الشيء في الأرض أي دسه فيها ودح الطعام بطنه ملأه حتى


يسترسل إلى أسفل ودح الرجل : دعّه في قفاه والعامة تستعمله بهذا المعنى فيقولون : دحّه على ظهره فهي من العامي الفصيح. ودحرج الشيء فتدحرج : أي قلبه وأداره على نفسه متتابعا في حدور فانقلب.

ودحس بين القوم أفسد بينهم ودحس الشيء ملأه ودحس برجله فحص ويقال ما بي من داحس وهو تشعث الإصبع وسقوط الظفر وما تسميه العامة ورم حار في طرف الإصبع فهي عربية فصيحة قال مزرّد :

تشاخت إبهاماك إن كنت كاذبا

ولا برئا من داحس وكناع

وخرج الحجاج في بعض الليلي فسمع صوتا هائلا فقال : إن كان هذا صاحب عائر أو قادح أو داحس فلا تحدث شيئا وإلا فأخرج لسانه من قفاه أي صاحب رمد أو وجع ضرس ، ويقال للرجل والدابة إذا أصابهما الجرح فارتكضا للموت : تركته يفحص ويدحص الأرض برجله. ودحضت رجله زلقت دحضا ودحوضا وأدحض فلان قدمه ومزلقة مدحاض وهذه مدحضة القدم ودحض الحجة أبطلها.

ودحقه يدحقه من باب فتح دحقا : طرده وأبعده ودحقت الرحم بساء الفحل رمت به فلم تقبله ودحقت الحامل بولدها أجهضته وولد دحيق وقيل : دحقت به : ولدته وأصابها دحاق وهو أن تخرج رحمها بعد الولادة وهي دحوق وداحق وأدحقه الله باعده من الخير وهو دحيق تقول : أسحقه الله وأدحقه وهو سحيق دحيق. ودحل : توارى في دحل وهو حفرة غامضة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل تقول : طلبوا بالذحول فتواروا في الدحول ودحل البئر : حفر في جوانبها ونصب الصائد الدواحيل وهي مصائد للحمر الواحد داحول وبئر دحول


ذات تلحف وهو تكسر جوانبها مما أكلها من الماء فما يستعمله العامة منها محرف ولم يرد في اللغة بهذا المعنى إلا على مجاز بعيد وتسميتهم أخيرا المدحلة بالمعنى الشائع فيه تسامح ولكننا نتسامح به أيضا.

ودحمه دحما دفعه دفعا شديدا فاستعمال العامة لها بهذا المعنى لا غبار عليه. ودحمس الليل أظلم أو ألقى بظلامه على كل شيء. ودحمل به دحرجه على الأرض. ودحا الله الأرض : افترشها وبسطها ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض أي دفعها وبابه نصر وفتح يقال دحا يدحو ودحى يدحى وليس معنى البسط أنها ليست كالكرة ولكنها ممدودة متسعة كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها. قال ابن الرومي :

ما أنسى لا أنسى خبازا مررت به

يدحو الرّقاقة مثل اللمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفه كرة

وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرة

في لجة الماء يرمي فيه بالحجر

وهذا من أعاجيب لغتنا العربية الشريفة.

(واصِبٌ) : دائم وفي المختار وصب الشيء يصب بالكسر وصوبا دام ومنه قوله تعالى «وله الدين واصبا» وقوله تعالى «ولهم عذاب واصب».


(فَأَتْبَعَهُ) : في المختار : تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مرّ به فمضى معه وكذا اتبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل وقال الأخفش :تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه ومنه قوله تعالى «فأتبعه شهاب ثاقب».

(ثاقِبٌ) : أي يثقبه أو يحرقه ونقل القرطبي في تفسير الثاقب قولين : قيل بمعنى المضيء وقيل بمعنى المستوقد من قوله : اثقب زندك أي استوقد نارك وقال البيضاوي : ثاقب مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه» ولهذه المادة عجائب في التنويع والتصرف ففي الأساس واللسان : «ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل وثقب اللّآل الدر ، ودر مثقب وعنده در عذارى : لم يثقّبن وثقبّن البراقع لعيونهن قال المثقب العبدي :

أرين محاسنا وكننّ أخرى

وثقبن الوصاوص للعيون

وبه سمي المثقّب. وكوكب ثاقب ودرّيء : شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب الظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثقيب وامرأة ثقيبة مشبهان للهب النار في شدة حمرتهما وفيهما ثقابة وحسب ثاقب :شهير ، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظّارا ، وأتتني عنك عين ثاقبة أي خبر يقين وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكاك وثقّب الشيب في اللحية أخذ في نواحيها.

الاعراب :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) الواو حرف قسم وجر والصافات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ،


والصافات اسم فاعل من صف قيل هم الملائكة المصطفون في السماء يسبحون لهم مراتب يقومون عليها صفوفا كما يصطف المصلون وقيل هم المجاهدون وقيل هم المصلون وقيل هي الطير الصافات أجنحتها كقوله والطير صافات ، وفي الصافات ضمير مستتر هو الفاعل والمفعول به محذوف أي نفوسها أو أجنحتها وصفا مفعول مطلق مؤكد.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) الفاء حرف عطف ، قال الزمخشري : «فإن قلت ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت : إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله :

يا لهف زيابة للحارث الصا

بح فالغانم فالآيب

كأنه قيل الذي أصبح فغنم فآب ، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله : رحم الله المحلقين فالمقصرين ، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات ، وسيأتي تعقيب مفيد على هذا التقرير في باب البلاغة.

والزاجرات عطف على الصافات والمراد بها قيل نفوس العلماء لأنها تزجر العصاة بالنصائح والمواعظ أو الملائكة ترجر السحاب أي تسوقه وزجرا مصدر مؤكد أيضا. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قيل أراد نفوس العلماء لأنها تتلو آيات الله وتدرس شرائعه وقيل نفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل وذكرا مفعول مطلق لأنها في معنى التاليات ويجوز أن تكون مفعولا به للتاليات ، وسيأتي معنى القسم بهذه الأشياء في باب الفوائد.


(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وواحد خبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) رب السموات بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ورب المشارق عطف على رب السموات وسيأتي سر إعادة الرب وعدم ذكر المغارب في باب البلاغة.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير لطائف صنعه وبديع خلقه. وان واسمها وجملة زينا خبرها وزينا فعل ماض ونا فاعل والسماء مفعول به والدنيا صفة أي القريبة منكم والتي تتراءى لأعينكم وهي الجديرة بالتدبر والاعتبار وبزينة جار ومجرور متعلقان بزينا والكواكب عطف بيان أو بدل لزينة وهناك قراءات أخرى وأعاريب طريفة سنوردها في باب الفوائد. (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) الواو عاطفة وحفظا في نصبه أوجه أرقاها من جهة المعنى ما نحا إليه الزمخشري قال : «وحفظا مما حمل على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشيطان كما قال تعالى :«ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب وقيل وحفظناها حفظا» وهذا الوجه الثاني أسهل من حيث الاعراب وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين : «وحفظا إما منصوب على المصدر بإضمار فعل أي حفظناها حفظا وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زينا أو على أن يكون العامل مقدرا أي لحفظها زيناها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا» واقتصر أبو البقاء على المفعولية المطلقة ومن كل


شيطان متعلقان بحفظا إن لم يكن مصدرا مؤكدا وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا ويجوز أن يكون صفة لحفظا.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) في إعراب هذه الجملة كلام كثير ونقاش طويل نرجئه إلى باب الفوائد. ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلى الملأ الأعلى متعلقان بيسمعون وسيأتي سر هذا التعدي في باب الفوائد ، والأعلى صفة للملأ ويقذفون الواو عاطفة ويقذفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن كل جانب متعلقان بيقذفون أي من أي جهة صعدوا ليسترقوا السمع. (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دحورا مفعول من أجله أي يقذفون للدحور أو مدحورين على الحال أو مفعول مطلق وينوب عن المصدر مرادفه والقذف والطرد متقاربان والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وواصب نعت لعذاب. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) إلا أداة حصر واستثناء لأن الكلام تام منفي ومن في محل رفع بدل من الواو على الأول أو في محل نصب على الاستثناء على الثاني ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فيتعين النصب على الاستثناء والخطفة مفعول مطلق فهو مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية ، فأتبعه الفاء عاطفة وأتبعه فعل ومفعول به مقدم وشهاب فاعل مؤخر وثاقب نعت لشهاب.

البلاغة :

التقديم والتأخير :

أثبتنا في باب الإعراب تقرير الزمخشري عن الفاء العاطفة


للصفات وقد انتهى الزمخشري من تقريره الى القول ، فعلى هذا إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصفات في التفاضل وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتيب الموصوفات فيه ، ومعنى توحيدها أن تعتقد أن صنفا مما ذكر في التفاسير المذكورة جامع للصفات الثلاث ، على أن الأول هو الأفضل أو على العكس ، ومعنى تثليثها أن تجعل كل صفة لطائفة ويكون التفاضل بين الطوائف إما أن الأول هو الأفضل أو على العكس. ووجهة الزمخشري قوية وتقريره ممتع مفيد ولكنه لم يبين وجه كل واحد منهما وخلاصة ما يقال فيه أن للعرب في التقديم مذهبان أولهما :

١ ـ الاعتناء بالأهم فهم يقدمون ما هو أولى بالعناية وأجدر بأن يقرع السمع.

٢ ـ الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ومنه قوله :

بهاليل منهم جعفر وابن أمه

علي ومنهم أحمد المتخير

ولا يقال إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة فإن هذا غايته أنه عذر وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة.

كلمة عامة في التقديم والتأخير :

هذا وقد عقد عبد القاهر فصلا مطولا في كتابه دلائل الإعجاز عن التقديم والتأخير يرجع إليه القارئ إن شاء ، ونلخص هنا ما قاله علماء المعاني في صدد التقديم والتأخير ؛ فمن المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة بل لا بد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر


لاشتراك جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ في درجة الاعتبار فلا بد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه وهذه الدواعي كثيرة فمنها :

١ ـ التشويق إلى المتأخر إذا كان المتأخر مشعرا بغرابة كقول أبي العلاء :

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

٢ ـ تعجيل المسرة أو المساءة نحو العفو عنك صدر به الأمر أو القصاص حكم به القاضي.

٣ ـ كون المتقدم محط الإنكار والتعجب نحو : أبعد طول التجربة تنخدع؟

٤ ـ النص على عموم السلب أو سلب العموم فالأول يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي نحو : كل ذلك لم يقع أي لم يقع هذا ولا ذاك والثاني يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم نحو :لم يكن كل ذلك أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد.

٥ ـ التخصيص نحو : ما أنا قلت ، وإياك نعبد.

٦ ـ ومما يرى عبد القاهر تقديم الاسم فيه كاللازم (مثل) و (غير) في نحو قوله :

مثلك يثني المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه


وقول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

وتشجب عنده بيض الأيادي

وفي التعبير الأول لا يقصد بمثل الى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس ، وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر وأن لا يفعل وكذلك في التعبير الثاني لا يراد بغير أن يومىء الى إنسان فيخبر عنه بأنه يفعل بل لم يرد إلا أن يقول : لست ممن يأكل المعروف سحتا.

الفوائد :

١ ـ الواو في هذا التركيب :

مذهب سيبويه والخليل في مثل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى» ان الواو الثانية وما بعدها عواطف وغير الخليل وسيبويه يذهب الى أنها حروف قسم ، فوقوع الفاء في «والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا» موقع الواو والمعنى واحد إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم.

٢ ـ معنى القسم :

اختلف الناس في المقسم به والراجح هو أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل وأما النهي عن الحلف بغير الله فهو نهي للمخلوق عن ذلك ، والقول الثاني أن المقسم به هو رب هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى


فلا بد من إضمار كلمة «رب» وتقدير الكلام ورب الصافات صفا إلخ وعلى كل حال ففي هذا القسم تنويه بهذه الأشياء وتعظيم لها وسيرد المزيد من هذا الحديث.

٣ ـ في إعراب «بزينة الكواكب» :

قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين : «قوله بزينة الكواكب» قرأ أبو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب وفيه وجهان أحدهما أن تكون الزينة مصدرا وفاعله محذوف تقديره بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها ، والثاني أن الزينة اسم لما يزان به كالليقة لما تلاق به الدواة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو تكون بدلا من سماء الدنيا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل بزينة ، وحمزة وحفص كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به والكواكب بدل أو بيان للزينة والباقون بإضافة زينة الى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن تكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو ثوب خز والثاني أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زينت الكواكب السماء بضوئها والثالث أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها.

٤ ـ إعراب جملة لا يسمعون :

أفاض المعربون والمفسرون والنحاة في إعراب هذه الجملة ، ونورد هنا مختارات من أقوال المشهورين منهم ونبدأ بالزمخشري :«فإن قلت لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت : لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان أو استئنافا فلا


تصح الصفة لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له وكذلك الاستئناف لأن سائلا لو سأل : لم تحفظ من الشياطين فأجيب بأنهم لا يسمعون لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا الى كلام الملائكة أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك ، إلا أن من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة فعندها تعاجله الهلكة باتباع الشهاب الثاقب» ومضى الزمخشري في تقريره قائلا : «فإن قلت : هل يصح قول من زعم أن أصله لئلا يسمعوا فحذف اللام كما حذفت في قولك جئتك أن تكرمني فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في قول طرفة :

ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى

وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي

قلت : كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب».

وتعقبه ابن المنير صاحب الانتصاف فقال : «كلا الوجهين مستقيم والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع وإحدى الحالين لازمة للأخرى فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسمه. ونظير هذه الآية قوله تعالى : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، فقوله مسخرات


حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر ومعناه مستقيم لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك ، وما أشار إليه الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزّق وجعل المعنى وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير وفيما ذكرناه كفاية ومن هذا النمط : ثم أرسلنا رسلنا ، وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ وأما الجواب على إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا ، وأصله لئلا تضلوا فحذف اللام ولا جميعا من محليهما».

وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين : «وهذه الجملة منقطعة عما قبلها في الإعراب ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير من كل شيطان ما رد غير سامع أو مستمع وهو فاسد ولا يجوز أيضا أن يكون جوابا لسؤال سائل لم تحفظ من الشيطان إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت اللام وإن وارتفع الفعل وفيه تعسف ، وقد وهم أبو البقاء فجوز أن تكون صفة وأن تكون حالا وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهرا الفساد والثالث إن عني به الاستئناف البياني فهو فاسد أيضا وإن أراد الانقطاع على ما قدمته فهو صحيح.

أما عبارة أبي البقاء التي شجبها السمين فهي : «قوله تعالى :لا يسمعون جمع على معنى كل وموضع الجملة جر على الصفة أو نصب على الحال أو مستأنف وعدّاه بإلى حملا على معنى يصفون».


أما ابن هشام فقد عقد في المغني تنبيها خاصا حول هذه الجملة فقال : من الاستئناف ما قد يخفى وله أمثلة كثيرة أحدها لا يسمعون من قوله تعالى : وحفظا من كل شيطان ما رد لا يسمعون الى الملأ الأعلى ، فإن الذي يتبادر الى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال منه وكل منهما باطل إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع وإنما هي للاستئناف النحوي ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا ، وقبل يحتمل أن الأصل لئلا يسمعوا ثم حذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن فارتفع الفعل كما في قوله :

ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى

 ......

فحين رفع أحضر ، واستضعف الزمخشري الجمع بين الحذفين ، فإن قلت اجعلها حالا مقدرة أي وحفظا من كل شيطان مارد مقدرا عدم سماعه بعد الحفظ قلت الذي يقدر وجود معنى الحال هو صاحبها كالممرور به في قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقيدا حال المرور به أن يصيد غدا ، والشياطين لا يقدرون عدم السماع ولا يريدونه.

ملاحظة هامة :

الاستئناف قسمان : بياني ونحوي : أما البياني فهو ما كان جوابا لسؤال مقدر نحو قوله تعالى : «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا : سلاما قال سلام قوم منكرون» فإن جملة القول الثانية جواب لسؤال مقدر تقديره فماذا قال لهم ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها ، وأما النحاة فقالوا : هي المقتطعة عما قبلها سواء كانت جوابا عن سؤال أم لا ، فالاستئناف عندهم أعم.


هذا وقد ردّ الدماميني على ابن هشام فقال : إذا كانت للاستئناف النحوي فيكون قد أخبر عن الشياطين المتحفظ منهم بعدم السماع وحينئذ يعود الإشكال بأنه كيف يتحفظ من شيطان لم يسمع في نفس الأمر ، إذ المتحفظ منه من يسمع ، فإن قلت : إن المراد لا يسمعون بعد الحفظ قلنا قدر ذلك في الصفة ويكون المعنى لا غبار عليه فما بالك قدرته في الاستئناف النحوي دون الصفة مع أن المعنى على كل حال ظاهر فهذا تحكم. وأجاب الشمني بأنه إخبار عن حال الشياطين لا يوصف كونه محفوظا منهم وفيه أنه لا يصح الإخبار عنهم بعدم السماع مع قطع النظر عن الحفظ لأنهم يحفظون في نفس الأمر وما الى عدم السماع إلا من الحفظ وإلا لما كان للحفظ معنى.

والذي حدانا إلى إيراد هذه الأقوال ما فيها من رياضة ذهنية ولعل ابن المنير كفانا مئونة الرد على هذه الأقوال فارجع إليه وتمعن فيه فإنه قد أصاب المحز.

فرق دقيق :

قال الزمخشري : «فإن قلت أي فرق بين سمعت فلانا يتحدث وسمعت إليه يتحدث ، وسمعت حديثه والى حديثه؟ قلت : المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك».

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣)


وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))

اللغة :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : فاستخبرهم يقال استفتى استفتاء العالم في مسألة : سأله أن يفتيه فيها والفتوى والفتوى والفتيا اسم من أفتى العالم إذا بيّن الحكم والجمع الفتاوي والفتاوى.

(لازِبٍ) : لازم لاصق يقال لزب يلزب لزوبا من باب دخل : اشتد وثبت ولزب به : لصق ولزب يلزب لزبا من باب تعب ولزب يلزب لزبا ولزوبا من باب كرم الطين : لزق وصلب ولزب الشيء : دخل بعضه في بعض واللازم اسم فاعل الثابت يقال صار الأمر ضربة لازب أي صار لازما ثابتا وطين لازب يلزق باليد لاشتداده وفي المختار :«تقول : صار الشيء لازبا أي ثابتا وهو أفصح من لازما».

وقال النابغة :

ولا تحسبون الخير لا شر بعده

ولا تحسبون الشر ضربة لازب

(داخِرُونَ) : صاغرون يقال دخر يدخر من باب فتح ودخر يدخر من باب تعب دخرا ودخورا أي ذل وصغر.


الاعراب :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الفاء الفصيحة أي أن شئت أن تبكتهم وترد عليهم في أمر اثبات المعاد فاستفتهم لأن الفرق بيّن والبون بعيد بين المعاد وهو الأجزاء الأصلية كما سيأتي ولك أن تجعلها الفاء العاطفة المعقبة أي استفتهم عقب عدّ هذه الأشياء المذكورة آنفا. واستفتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر وجوبا تقديره أنت والهاء مفعول به والهمزة للاستفهام وهم مبتدأ وأشد خبر وخلقا تمييز وأم حرف عطف وهي هنا متصلة عطفت من على هم وجملة خلقنا صلة الموصول. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إن واسمها وجملة خلقناهم خبر وخلقناهم فعل وفاعل ومفعول ومن طين جار ومجرور متعلقان بخلقناهم ولازب نعت لطين ، وناهيك بهذا دليلا على ضعفهم وهو أن أمرهم وضآلة شأنهم وأن من كان بهذه المثابة لا يتأتى له أن يتكبر ويتطاول. (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف والمعطوف عليه مقدر دل عليه الاستفهام أي هم لا يقرون ، وعجبت فعل وفاعل والخطاب للنبي والمتعلق محذوف أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة. وفي قراءة بضم التاء وإسناد العجب الى الله تعالى محال لأن العجب روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء وذلك على الله تعالى محال ولكن الكلام جرى على طريق تخيل العجب وافتراضه على طريق المشاكلة وقد تقدمت لها أمثلة.

والواو حالية وجملة يسخرون خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون والجملة نصب على الحال.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها


وذكروا بالبناء للمجهول والتشديد والواو نائب فاعل ولا نافية وجملة لا يذكرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم أي وديدنهم عدم الاتعاظ بشيء مهما يكن جديرا بالاعتبار. (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) عطف على ما تقدم والمراد بالآية المعجزة التي تدعو الى الإذعان ولكن هؤلاء لا تؤثر فيهم المعاجز ومعنى الاستسخار دعوة بعضهم لبعض بالسخرية أو أن زيادة السين والتاء لمجرد المبالغة في السخر. (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين نعت أي ظاهر للعيان والجملة مقول القول. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة مقول قول محذوف أيضا أي وقالوا منكرين للبعث ، والهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها.

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون وإنما جاز العطف مع أن ما بعد همزة الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله أن الهمزة الثانية مؤكدة للأولى فهي في النية مقدمة فصحّ عمل ما قبلها فيما بعدها ، ولك أن تعرب آباؤنا مبتدأ محذوف الخبر والتقدير أو آباؤنا يبعثون أيضا وقرىء أو بسكون الواو فهي حرف عطف وليس هناك همزة استفهام وفيما يلي تقرير السمين عن هذه الآية :


«قوله أو آباؤنا قرأ ابن عامر بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف وهذا الخلاف جار أيضا في الواقعة وقد تقدم مثل هذا في الأعراف في قوله : «أو أمن أهل القرى» فمن فتح الواو أجاز في أو آبائنا وجهين أحدهما أن يكون معطوفا على محل ان واسمها والثاني أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في لمبعوثون واستغنى بالفصل بهمزة الاستفهام ومن سكنها تعين فيه الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل». (قُلْ : نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ونعم حرف جواب والواو للحال وأنتم مبتدأ وداخرون خبر والجملة نصب على الحال والعامل فيها نعم بالنظر لمعناها أي نعم تبعثون وأنتم داخرون.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) الفاء الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا كان ذلك فإنما ، وإنما كافة ومكفوفة وهي مبتدأ وزجرة خبر وواحدة صفة وهي ضمير مبهم لأنه لا يرجع الى شيء وإنما يوضحه خبره ، وأجازوا أن تعود هي على البعثة المدلول عليها بسياق الكلام لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والزجرة الصيحة المخيفة قال :

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفقن أن يختلطن بالغنم

يريد تصويته بها. والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر ومفعوله محذوف أي ينظرون ما يفعل بهم أو هي بمعنى ينظرون.


(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

الاعراب :

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه أو منادى وجملة النداء مقول قولهم وجملة هذا يوم الدين يحتمل أن تكون من تتمة مقولهم ويحتمل أن يتم الوقف على ويلنا والجملة مستأنفة فتكون من قول الملائكة لهم وهذا مبتدأ ويوم الدين خبره. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) هذا مبتدأ ويوم الفصل خبر ويحتمل أن تكون الجملة من تتمة مقولهم ويكون قوله تكذبون التفاتا من التكلم الى الخطاب والذي صفة ليوم وكنتم كان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) خطاب من الله تعالى للملائكة أو خطاب بعضهم لبعض. واحشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة واسم الموصول عبارة عن المشركين ومفعول ظلموا محذوف تقديره أنفسهم وأزواجهم عطف على الموصول أو مفعول معه وما عطف أيضا أو مفعول معه وكان واسمها وجملة يعبدون خبرها.


(مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) من دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء عاطفة واهدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به والى صراط الجحيم متعلقان باهدوهم. (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقفوهم عطف على ما تقدم أي واحبسوهم عند الصراط وإن واسمها ومسؤولون خبرها والجملة تعليل للأمر.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال توبيخا لهم. وما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تناصرون حالية ولا نافية وتناصرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا. (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) بل حرف إضراب وعطف وهم مبتدأ واليوم ظرف متعلق بمستسلمون ومستسلمون خبر هم أي قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز.

الفوائد :

يجوز في المضارع المبدوء بتاءين زائدتين الإدغام والفكّ ونورد هنا مناقشة بين علماء العربية نورد خلاصتها لفائدتها وطرافتها فقد ذكر ابن مالك في شرح الكافية وتبعه ابنه في شرح الخلاصة انك إذا أدغمت التاء الأولى في الثانية اجتلبت همزة الوصل ليتوصل بها الى النطق بالتاء المسكنة للادغام فتقول في تتجلى اتجلى ورد ابن هشام في أوضح المسالك وتبعه الشيخ خالد الأزهري عليهما بقولهما : «وفيه نظر فإنه لم يخلق الله أحدا من الفصحاء فيما نعلم أدخل همزة وصل في أول الفعل المضارع وإنما ادغام هذا النوع في الوصل دون الابتداء قال الحوفي : فإن وقف ابتدئ بالإظهار ، ولا يجوز إدخال ألف الوصل عليه لأن ألف الوصل لا تدخل على الفعل المضارع ،


وذكر الناظم ـ أي ابن مالك ـ في بعض كتبه هذه المسألة على الصواب فقال : يجوز ادغام تاء المضارعة في تاء أخرى بعد مد أو حركة نحو ولا تيمموا وتكاد تميز».

ورد عليهما بعض العلماء فقال : في هذا النقد نظر لأن ابن مالك وابنه من أجلّ علماء العربية وقد ذكرا أنه يجوز الإدغام في الابتداء وتجتلب همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولا يخلو حالهما من أمرين إما أن يكون استندا فيه الى فهم ذلك من لغة العرب أو استنباط ذلك منها لعدم ما يناقضه وينافيه وعلى كل لا يحسن الرد عليهما بمجرد عدم العلم بأن الله لم يخلق همزة وصل في أول الفعل المضارع لأنهما مثبتان والراد عليهما ناف والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولا تظن بهما أنهما أقدما على ما ذهبا إليه بمجرد التشهي من غير استناد الى شيء يعتمدان عليه ويستندان إليه لأن سوء الظن بالأئمة غير لائق كيف وقد نقل الثقات أن ابن مالك قال : طالعت الصحاح فلم أستفد منه إلا ثلاث مسائل ولا يضرهما عدم ذكرهما المستند في ذلك صريحا وإن ذكراه تلويحا ، قال ابن المصنف : ومنهم من يدغم ويسكن أوله ويدخل عليه همزة وصل فيقول اتجلى لأنهما ثقتان مؤتمنان وقد ذكر صاحب القاموس في فصل الجيم من باب النون لما تكلم على جيان : «ومنها إماما العربية ابن مالك وأبو حيان».

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا


عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤))

الاعراب :

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الواو استئنافية وأقبل فعل ماض وبعضهم فاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية أي يتلاومون وينحي بعضهم باللائمة على بعض. (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وجملة كنتم خبرها وكان واسمها وجملة تأتوننا خبرها وتأتوننا فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن اليمين حال من فاعل تأتونا واليمين إما أن يراد بها الجارحة تعبيرا بها عن القوة وأما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يؤكدون حلفهم بأن يتصافحوا باليمين ويتماسحوا بها. وهناك أقوال كثيرة ضربنا عنها صفحا ويرجع إليها في المطولات وخلاصة المعنى إنكم غررتم بنا وأضللتمونا. (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا أحد أجوبة المتبوعين الخمسة وأولها وهو إضراب ابطالي لما ادعاه التابعون أي انكم لم تتصفوا بالإيمان في وقت من الأوقات. وقالوا فعل وفاعل وبل إضراب ابطالي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو اسمها ومؤمنين خبرها.


(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وهذا هو الجواب الثاني وهو مبني على افتراض أنهم أضلوهم فهم لم يجبروهم عليه. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وعليكم حال ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم كان محلا. (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) بل إضراب ابطالي أيضا وكنتم كان واسمها وقوما خبرها وطاغين نعت لقوما وهو الجواب الثالث. (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) وهذا هو الجواب الرابع والفاء حرف عطف وحق فعل ماض وعلينا جار ومجرور متعلقان بحق وقول ربنا فاعل وان واسمها واللام المزحلقة وذائقون خبرها والجملة الاسمية تعليل لما تقدم ومفعول ذائقون محذوف أي العذاب والفاعل مستتر تقديره نحن.

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) الفاء عاطفة وأغويناكم فعل وفاعل ومفعول به وهذا هو الجواب الخامس وان واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وغاوين خبرها. (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصائر الأتباع والرؤساء المتبوعين ، وان واسمها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ يتساءلون ويتلاومون ويتخاصمون ، وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر انهم.

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على فعله وجملة نفعل خبر إنا وبالمجرمين متعلقان بنفعل.

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ


تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

اللغة :

(بِكَأْسٍ) : يقال للزجاجة فيها الخمر كأس وتسمى الخمر نفسها كأسا ، قال الأعشى :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس أني امرؤ

أتيت المعيشة من بابها

والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر وعلى الخمر مجازا مشهور وهي مؤنثة بدليل ضميرها وصفتها وتجمع على كئوس وأكؤس وكاسات وكئاس ، يقول الأعشى : ورب كأس شربتها مع لذة أو لأجل لذة فضرتني فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها ليعلم الناس أني مجرب للأمور ، وكنى عن ذلك بقوله : «أتيت المعيشة من بابها» وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على


طريق الاستعارة المكنية واثبات الباب تخييل ومن هذا المعنى أخذ أبو نواس قوله المشهور :

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

ويروى عن الأخفش : «كل كأس في القرآن فهي الخمر» وقال أبو حيان : «الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه خمر وإلا فقدح وقد تسمى الخمر كأسا تسمية للشيء باسم محله».

(مَعِينٍ) : قال أبو حيان : «اسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف» أي من شراب معين أو نهر معين ظاهر للعيون أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء وسنتبسط في هذه الكلمة لأنها تستعمل اليوم كثيرا لشكل هندسي فنقول : جاء في معاجم اللغة في مادة معن ما يلي : معن يمعن من باب فتح الماء ومعن يمعن من باب ظرف معنا ومعونا : جرى جريا سهلا فهو معين ومعن الفرس : تباعد في عدوه ومعن المطر الأرض تتابع عليها فأرواها ومعن يمعن من باب شرب معنا المكان أو النبت : روي من الماء والمعين الماء الجاري ويقال ماء معين أي جار وفي مادة عين «الماء المعين : الظاهر الذي تراه العين جاريا على وجه الأرض وعين معيونة لها مادة غزيرة من الماء» أما الشكل الهندسي فالأرجح إنه المعين بضم الميم وتشديد الياء المكسورة فهو اسم فاعل من عين المضعفة الياء وهو في الهندسة شكل مسطح متساوي الأضلاع الأربعة المستقيمة المحيطة به غير قائم الزوايا.


(غَوْلٌ) : ما يغتال العقول يقال غاله يغوله غولا إذا أفسده ، ومنه الغول الذي في تكاذيب العرب وفي أمثالهم «الغضب غول الحلم» ، وغالته الخمر : شربها فذهبت بعقله أو بصحة بدنه والغول مصدر والصداع والسكر وبعد المفازة والمشقة وما انهبط من الأرض والتراب الكثير.

(يُنْزَفُونَ) : بالبناء للمجهول من نزف الشارب إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف ويقال للمطعون نزف فمات إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها وفي أمثالهم «أجبن من المنزوف ضرطا».

وقصة هذا المثل : ان رجلين خرجا في فلاة فلاحت لهما شجرة فقال أحدهما : أرى قوما قد رصدونا فقال الآخر : إنما هي عشرة فظنه يقول عشرة فجعل يقول وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات ويروى من وجه آخر أن نسوة لم يكن لهن رجل فزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة فإذا أتينه بصبوح ونبهنه قال : لو نبهتنني لعاديه فلما رأين ذلك قلن إن صاحبنا لشجاع تعالين حتى نجربه فأتينه فأيقظنه فقال كعادته فقلن هذه نواصي الخيل فجعل يقول الخيل الخيل ويضرط حتى مات وفيه أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا.

وفي الصحاح : «نزفت ماء البئر إذا نزحته كله ونزفت هي يتعدى ولا يتعدى ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله».

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم ويجوز أن يكون من باب الصفة المشبهة أي قاصرات


أطرافهن كمنطلق اللسان وأن يكون من باب اسم الفاعل على أصله وسيأتي الفرق بينهما في الاعراب.

(عِينٌ) : نجل العيون جمع عيناء والنجل جمع نجلاء وهي التي اتسع شقها سعة غير مفرطة.

الاعراب :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة ولهم متعلقان بقيل ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وجملة لا إله إلا الله مقول قول محذوف أي قولوا لا إله إلا الله وقد تقدم إعراب كلمة التوحيد مفصلا وجملة يستكبرون خبر كانوا وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ويقولون عطف على يستكبرون والهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وتاركو خبر إن ولشاعر متعلقان بتاركوا أي لأجل شاعر ومجنون صفة.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) إضراب ابطالي وجاء فعل وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاء وصدق المرسلين عطف على جاء بالحق.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) إن واسمها وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة واللام المزحلقة وذائقو العذاب خبر ان والأليم صفة.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وما نافية وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة


حصر وما مفعول به ثان وهو على حذف مضاف أي جزاء ما وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى من الواو في تجزون والمخلصين صفة لعباد الله. (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) كلام مستأنف لتقرير ما أعد لعباد الله المخلصين وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ورزق مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة لرزق ونائب الفاعل مستتر تقديره وقته أو معلوم ما يتميز به من خصائص منها الديمومة ومحض اللذة وطيب الطعم ، وحسن الرداء والمنظر وجملة لهم رزق معلوم خبر أولئك. (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) فواكه بدل أو عطف بيان للرزق بدل كل من كل وسيأتي المزيد من مزايا هذا البدل في باب البلاغة والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ ومكرمون خبر. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلقان بمكرمون أو هو خبر ثان أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال. (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) على سرر متعلقان بمتقابلين ومتقابلين حال أو كلاهما حال وفي الكلام تصوير لمجالس الشراب سيأتي المزيد منه في باب البلاغة.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الجملة صفة لمكرمون أو حال من الضمير في متقابلين أو جملة مستأنفة وعليهم متعلقان بيطاف وبكأس ناب مناب المفعول المطلق وقد تقدم بحث ذلك مفصلا ومن معين لصفة لكأس. قال الضحاك كل كأس في القرآن فهي الخمر.

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وبيضاء صفة ثانية لكأس ولذة صفة ثالثة لكأس وصفت بالمصدر مبالغة أو على حذف المضاف أي ذات لذة أو


هي تأنيث اللذ يقال لذ الشيء فهو لذ ولذيذ كقولك رجل طب أي طبيب ، قال :

لذّ كطعم الصرخدي تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان

فاللذ وصف واللذة مؤنثة وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس واسم للشيء اللذيذ والصرخد موضع بالشام ينسب إليه الشراب والحدثان مصدر كالحدث إلا أنه يدل على التجدد والتكرر يقول :ورب شيء لذيذ يعني النوم طعمه كطعم الشراب تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) الجملة صفة رابعة لكأس ولا نافية وفيها خبر مقدم وغول مبتدأ مؤخر ولا عطف وهم مبتدأ وعنها متعلقان بينزفون وجملة ينزفون خبر هم وهو مبني للمجهول. (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) الواو عاطفة والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر والطرف مضاف إليه مرفوع المحل على أن قاصرات صفة مشبهة أو منصوب المحل على أن قاصرات اسم فاعل وعين صفة لقاصرات الطرف (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) صفة ثانية لقاصرات وإذا اعتبرت قاصرات صفة كانت صفة ثالثة وكأن واسمها وبيض خبرها ومكنون صفة وسيأتي بحث هذا التشبيه في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ الالتفات :

في قوله «إنكم لذائقو العذاب الأليم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لمجابهتهم بالغضب وانه بلغ أقصى آماده وحدوده.


٢ ـ الإيجاز :

وفي قوله : «فواكه» وإبداله من رزق إيجاز قصر دل على أنهم قد بلغوا غاية ما يتمناه المتمني ويغتبط به المغتبط ، فالفواكه مساوية للرزق فهي تشبه الخبز واللحم لأن أكلهم لا لإقامة الصحة وحفظها وإنما هو للتلذذ والتفكه فأجسامهم هناك محكمة لا يعتورها وهن ولا يتطرق إليها ضعف أو فتور.

وهناك إيجاز آخر بقوله معلوم فقد نابت هذه الكلمة عن الأوقات والمدد واندرجت فيها العشايا والأصائل والبكر ، كما نابت عن الطعوم المتفاوتة والروائح المتباينة التي تختلف في المظهر وتتفق في طيبها وتفاوح أرجها المسكر.

٣ ـ التجسيد :

والصورة الفنية الرائعة تبدو في قوله «على سرر متقابلين» وليس أشهى للشاربين في أويقات الصبوح أو الغبوق وفي البكر والأماسي من أن يتقابلوا فالتقابل أتم للسرور وأدعى الى الحبور وسيأتي أيضا تبادلهم للأحاديث والمتع.

٤ ـ الإيجاز أيضا :

وفي وصف الخمر إيجاز بليغ وهو قوله «لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون» فقد جمعت هاتان الكلمتان جميع عيوب خمر أهل الناس التي حرمت بسببها من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك.


٥ ـ التشبيه المرسل :

وفي قوله «كأنهن بيض مكنون» تشبيه مرسل والمراد بالبيض هنا بيض النعام ، والمكنون من كننته أي جعلته في كن والعرب تشبه المرأة به في لونه وهو بياض مشرب بعض صفرة وهو الذي نطلق عليه اليوم اللون الكافوري. وأول من شبه المرأة بالبيضة امرؤ القيس بقوله :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه أحدها بالصحة والسلامة عن الطمث ومنه قول الفرزدق :

خرجن إلي لم يطمثن قبلي

وهن أصح من بيض النعام

والثاني في الصيانة والستر لأن الطائر يصون بيضه ويحصنه ، والثالث في صفاء اللون ونقائه لأن البيض يكون صافي اللون نقيه إذا كان تحت الطائر. هذا وهو من التشبيهات التي رغب المحدثون عنها اليوم وإن كانت بديعة في ذاتها لأن البيئة لم تعد تستسيغ تلك التشبيهات.

التشبيه بين البيئات المختلفة :

ولإيضاخ الفرق بين البيئات نقول كان العرب يستحسنون تشبيه الأصابع والبنان بدودة تكون في الرمل وتسمى جماعتها بنات النقا فمن ذلك قول امرئ القيس :


وتعطو برخص غير شثن كأنه

أساريع ظبي أو مساويك إسحل

فقد شبه البنانة بالأسروعة أي دودة الرمل. وقال ذو الرمة :

خزاعيب أمثال كأن بنانها

بنات النقا تخفي مرارا وتظهر

فهي كأحسن البنان لينا وبياضا وطولا واستواء ودقة وحمرة رأس كأنه ظفر قد تخضب. إلا أن النفس ما لبثت أن اجتوت هذا التشبيه فعدل أبو نواس عنه بقوله :

تعاطيكها كف كأن بنانها

إذا اعترضتها العين صف مداري

وابن الرومي أيضا بقوله :

سقى الله قصرا بالرصافة شاقني

بأعلاه قصريّ الدلالي رصافي

أشار بقضبان هي الدر قمعت

يواقيت حمرا فاستباح عفافي

أو قول عبد الله بن المعتز :

أشرن على خوف بأغصان فضة

مقومة أثمارهن عقيق

وهكذا يختلف التشبيه باختلاف البيئات. وسيأتي المزيد من هذا البحث الهام وحسبنا الآن ما قدمناه.


(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

الاعراب :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على يطاف عليهم والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب ، قال :

وما بقيت من اللذات إلا

أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض والبيت للفرزدق يقول ما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه. وأقبل بعضهم فعل


وفاعل وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية والتعبير بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع وتلك عادة الله في أخباره. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة لقائل أي من أهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول القول ولي خبر كان مقدم وقرين اسمها مؤخر أي كان لي في الدار العاجلة صاحب. (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) جملة يقول صفة لقرين والهمزة للاستفهام الانكاري وإن واسمها واللام المزحلقة ومن المصدقين خبر إن والجملة مقول القول.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومدينون خبر إن أي مجزيون ومحاسبون. (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) قال فعل ماض ناقص والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل من أهل الجنة أي قال لإخوانه وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومطلعون خبره والاستفهام معناه الأمر أي تعالوا تنطلع من كوى الجنان لنطّلع على حال أهل النار. (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) الفاء عاطفة واطلع فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل ، فرآه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أي رأى قرينه وفي سواء الجحيم متعلقان برآه أي في وسطها ولك أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ولعله أولى أي مرتطما في وسط جهنم.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) قال فعل ماض وفاعل مستتر وتالله التاء حرف قسم وجر وهو مع مجروره متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم


وإن مخففة من الثقيلة ولك أن تعملها فيكون اسمها محذوفا أي انك وجملة كدت خبرها ويجوز أن تهملها فتكون جملة كدت جواب القسم لا محل لها وقد سبق أن قلنا أن إن إذا خففت فالأكثر أن تدخل على كاد كما تدخل على كان ونحوه واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتردين فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت الياء تبعا لسنة المصحف.

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود ونعمة مبتدأ وربي مضاف إليه وخبر المبتدأ محذوف وجوبا والتقدير موجودة واللام واقعة في جواب لولا وكان واسمها ومن المحضرين خبرها أي من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك. (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد وميتين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) إلا أداة حصر والاستثناء مفرغ وموتتنا مفعول مطلق وقيل هو استثناء منقطع فينصب على الاستثناء والأولى صفة أي الموتة التي في الدنيا والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمعذبين الباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والفوز خبر هو والجملة خبر إن ، أو خبر إن والعظيم صفة للفوز.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من كلامه ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات ويحتمل أن يكون من كلام بعضهم لبعض


وقيل يبعد الاحتمال الثاني قوله فليعمل العاملون فإن العمل والترغيب فيه إنما يكون في الدنيا. وعلى كل حال فالجار والمجرور متعلقان بيعمل وهذا مضاف إليه والفاء الفصيحة أي إن تبين حقيقة حال أهل الجنة فليعمل ، واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والعاملون فاعل.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

اللغة :

(نُزُلاً) : النزل بضمتين أو بضم النون وسكون الزاي : المنزل وما هيء للضيف والجمع أنزال والنزل أيضا بضمتين : الطعام ذو


البركة والمنزل والقوم النازلون وريع ما يزرع ونماؤه والعطاء والفضل وقد استعير للحاصل من الشيء وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم.

(الزَّقُّومِ) : قال في القاموس : «الزقم اللقم والتزقّم التلقم وأزقمه فازدقمه : أبلعه فابتلعه والزقوم كتنور : الزبد بالتمر وشجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل وطعام أهل النار» وقال في الأساس : «تقول : من أنكر أن يقوم أطعمه الله الزقوم ، ويقال : إن أهل إفريقية يسمون الزبد بالتمر : زقوما وهو من قولهم :أنه ليزقم اللقم ، ويتزقمها ويزدقمها : يبتلعها وبات يتزقّم اللبن إذا أفرط في شربه». وفي الخازن : والزقوم ثمر شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهية وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وسيأتي المزيد من الحديث عن شجرة الزقوم في باب البلاغة.

(طَلْعُها) : الطلع حقيقة اسم لثمر النخيل في أول بروزه ، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة كما سيأتي في باب البلاغة ، والطلع من النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود وما يبدو من ثمرته في أول ظهورها.

(شوبا) : بفتح الشين وهو مصدر على أصله وقيل يراد به اسم المفعول ويدل له قراءة بعضهم لشوبا بالضم ، قال الزجاج :المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض والفعل منه شابه يشوبه من باب قال إذا خلطه فهو الخلط.

(حَمِيمٍ) : ماء حار وهو المقصود هنا ويطلق على الماء البارد فهو من الأضداد.


الاعراب :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الجملة مقول قول محذوف يعود إلى ذكر الرزق المعلوم أي قل لهم يا محمد على سبيل الإنكار والتوبيخ والتهكم أذلك خير نزلا ، فالهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وذلك مبتدأ وخير خبر ونزلا تمييز لخير وأم حرف عطف وشجرة الزقوم عطف على ذلك وقال الزمخشري : «وانتصاب نزلا على التمييز ، ولك أن تجعله حالا كما تقول : أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا». (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) إن واسمها وجملة جعلنا خبر وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به أول وفتنة للظالمين مفعول به ثان وللظالمين صفة لفتنة أي ابتلاء وتعذيبا ومحنة لهم لأنهم قالوا النار تحرق الشجر فكيف تنبته. (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) إن واسمها وشجرة خبرها وجملة تخرج صفة لشجرة وفي أصل الجحيم متعلقان بتخرج. (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) طلعها مبتدأ وجملة التشبيه خبر وكأن واسمها ورؤوس الشياطين خبر كأن.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء عطف وان واسمها واللام المزحلقة وآكلون خبر إن ومنها متعلقان بآكلون فمالئون الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول مالئون لشدة جوعهم.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان حرف مشبه بالفعل ولهم خبرها المقدم وعليها متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة وشوبا اسمها المؤخر ومن حميم صفة لشوبا. (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها واللام المزحلقة والى الجحيم خبرها. (إِنَّهُمْ


أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) الجملة تعليل لما سبق من ابتلائهم بأفانين العذاب ، وان واسمها وجملة ألفوا خبرها وآباءهم مفعول ألفوا الأول وضالين مفعول ألفوا الثاني. (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الفاء تعليلية وهم مبتدأ وعلى آثارهم متعلقان بيهرعون وجملة يهرعون خبر هم والاهراع السير الشديد بحثّ وانزعاج. وفي المصباح هرع وأهرع بالبناء للمفعول فيهما إذا أعجل. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وضل فعل ماض مبني على الفتح وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال وأكثر الأولين فاعل.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ومنذرين مفعول به. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء الفصيحة وانظر

فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والمنذرين بفتح الذال مفعول به. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى والمخلصين صفة.

البلاغة :

حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة سنبسط القول فيها وسننقل لك خلاصات وافية لما أورده أساطين البلاغة في صددها فأول ما فيها من فنون :

١ ـ التشبيه برؤوس الشياطين :

وهو تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين وهو تشبيه


خيالي وقد سبق ذكره فيما قدمناه من أقسام التشبيه ، ونورد لك هنا خلاصة ما قاله ابن رشيق فيه :«واعلم أن التشبيه على ضربين : تشبيه حسن وتشبيه قبيح فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض الى الأوضح فيفيد بيانا والتشبيه القبيح ما كان خلاف ذلك» قال الرماني : «وشرح ذلك ما تقع عليه الحاسة أوضح مما لا تقع عليه الحاسة ، والمشاهد أوضح من الغائب فالأول في العقل أوضح من الثاني ، والثالث أوضح من الرابع وما يدركه الإنسان من نفسه أوضح مما يعرفه من غيره ، والقريب أوضح من البعيد في الجملة ، وما قد ألف أوضح مما لم يؤلف» ثم انتقل ابن رشيق الى التشبيه الوارد في الآية فقال : «قال الله عز وجل : «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» فقال قوم إن شجرة الزقوم وهي أيضا الأستن لها صورة منكرة وثمرة قبيحة يقال لها رؤوس الشياطين» والأستن كما يقول المجد : «الأستن والأستان بفتح الهمزة وسكون السين فيهما ، أصول الشجر يغشو في منابته فإذا نظر إليه الناظر شبهه بشخوص الناس» الى أن يقول : «والأجود الأعرف انه شبه بما لا يشك انه منكر وقبيح لما جعل الله عز وجل في قلوب الإنس من بشاعة صور الجن».

فصل رائع للجاحظ :

وكم كنا نتمنى أن يكون كتاب «نظم القرآن» موجود بين أيدينا لنطلع على الفصل الرائع الذي كتبه الجاحظ بصدد هذا التشبيه ولكن الكتاب فقد مع ما فقد من آثارنا العربية فلا بد لنا من أن ننقل شذرات منه وردت في كتبه الأخرى ، فقد جاء في كتاب الحيوان ما نصه : «وليس ان الناس رأوا شيطانا قط على صورة ولكن لما كان


الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهيته وقد أجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتنفير وبالإخافة والتقريع إلى ما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم وهذا التأويل أشبه من قول من زعم من المفسرين أن رؤوس الشياطين نبات ينبت باليمن».

وتعرض الجاحظ لهذا التشبيه مرة أخرى فقال : «فزعم ناس أن رؤوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا : ما عنى إلا رؤوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم فقال أهل الطعن والخلاف : لس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه ولا وصفت لنا صورته في كتاب ناطق أو خبر صادق ، ومخرج الكلام يدل على أن التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها ، وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شيء هائل شنيع قد عاينوه أو صوّره لهم واصف صدوق اللسان بليغ في الوصف ونحن لم نعافيها ولا صوّرها لنا صادق ، وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين ، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك ، ولا يقفون عليه ، ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟ قلنا : وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط ولا صور رؤوسها لنا صادق بيده ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين أحدهما أن يقولوا : لهو أقبح من الشيطان ، والوجه الآخر أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطيّر له كما تسمى


الفرس الكريمة شوهاء ، والمرأة الجميلة صمّاء وقرناء وخنساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطيّر له ، ففي إجماع المسلمين والعرب وكل من لقيناه على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح».

لقد فصل الجاحظ في المقال وجوه التشبيه وتصرف الأسلوب القرآني في المشبه به ووجه الشبه ينتزعه من غير مدرك بالحس اعتمادا على ثبوته في الإدراك عن طريق العادة والعرف وتناقل الناس له ، وقد أجاز الجاحظ مثل هذا التشبيه وبين وجهته وناقش آراء غيره في التشبيه في ضرورة الاعتماد على الحس البصري لتصوير المعنى في الذهن ، ومنذ ذلك العهد أو قبله بقليل اهتم الناس بهذين النوعين من التشبيه وتابعوهما في القرآن وفي البيان عامة ودارت بحوث البلاغة حول هذه النقطة وتفرعت من هذين النوعين أنواع أخرى ، وهكذا كان لهذه الآبة ومثلها أثر في تنبيه الناس إلى التشبيه ، فبحثه فيها أبو عبيدة وجدّد الجاحظ البحث وتوسّع فيه وظلت الآية على رأس الشواهد في التشبيه المعنوي في كتب النقد والبلاغة بعدهما.

ورفض الجاحظ تفسير اللغويين الحسي ، وهو يتفق ووجهة نظر أهل الظاهر في التفسير ويعارض وجهة أهل النظر من المتكلمين والمعتزلة أيضا وقد فسر أولئك رؤوس الشياطين برؤوس نبات ينبت باليمن أو شجر كريه المنظر أو حيات قبيحة الشكل وكلها مدلولات مادية لكلمة شيطان قد يكون لها أصل من الواقع وقد تكون من ابتكار هؤلاء ، وهي على الحالين لا تبلغ في أثرها في النفس مبلغ صورة الشيطان التي تثب الى الخيال وتجمع كل سمات الفزع والقبح وإن تكن غير واضحة وضوح النبات والشجر والحيات وهذا الغموض يضفي عليها مزيدا من التخويف.


لهذا كان تفسير الجاحظ أكثر إدراكا لمرمى التعبير القرآني في النفوس وهو إدراك له قيمته من الوجهة النقدية ذلك هو أثر الأدب في النفس وهي لفتات جاءت عابرة في كتب الأقدمين وأولاها النقد الحديث عنايته ، وهو يذكر أمثلة من التشبيه بالحيوان في القرآن وذلك لغلبة صفة ما في كل نوع منها أراد السياق إبرازها فيضرب الله مثلا بالعنكبوت في وهن البيت وضعفه والحمار في الجهل والغفلة وفي قلة المعرفة وغلظ الطبيعة والقرد في القبح والتشويه ونذاله النفس.

ولعل هذه الآية أو قل هذا التشبيه هو الذي حدا بأبي عبيدة الى تأليف كتابه «مجاز القرآن» الذي لم نطلع عليه ولكن ذكره ابن النديم صاحب «الفهرس» والخطيب صاحب «تاريخ بغداد» وابن الأنباري في «نزهة الألباء» وياقوت في «إرشاد الأريب» وابن خلكان في «الوفيات» والسيوطي في «بغية الوعاة» ويذكر ياقوت أن أبا عبيدة ألف كتاب «المجاز» عام ثمانية وثمانين ومائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يذكر على لسان أبي عبيدة :«أرسل إليّ الفضل بن الربيع في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة فقدمت الى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي ثم دخل علي رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه الى جانبي وقال له : أتعرف هذا قال : لا ، قال هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة ، أقدمناه لنستفيد من علمه فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا وقال : إني كنت مشتاقا إليك وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت :هات ، قال : قال الله عز وجل : «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» وانما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا مما لم يعرف ، فقلت : إنما


كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرئ القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وهم لم يروا الغول قط ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه فلما رجعت الى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز».

وعبارة السمين بهذا الصدد : «قوله : كأنه رؤوس الشياطين ، فيه وجهان أحدهما أنه حقيقة وأن رأس الشياطين شجر بعينه بناحية تسمى الاستن وهو شجر مرّ منكر الصورة سمته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلا يشبه به وقيل الشياطين : صنف من الحيات ، وقيل : هو شجر يقال له الصرم فعلى هذا قد خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقي والثاني أنه من باب التمثيل والتخيل وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره ، والشياطين وإن كانوا موجودين لكنهم غير مرئبين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات».

أما الزمخشري فقد جمع بين الأقوال كلها ولكنه قدم ما هو أولى فقال بأسلوبه الممتع : «والطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجر الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيقولون في


القبيح الصورة كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان وإذا صوره المصورون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدروا هوله كما أنهم اعتقدوا في الملك انه خير محض لا شرّ فيه فشبهوا به الصورة الحسنة قال الله تعالى : «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» وهذا تشبيه تخييلي ، وقيل الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا ، وقيل إن شجرا يقال له الأستن خشنا مرا منتنا منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين وما سمت العرب هذا الثمر برؤوس الشياطين إلا قصدا الى أحد التشبيهين ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به.

٢ ـ سر العطف ب «ثم» :

وفي قوله «ثم ان لهم عليها لشوبا من حميم» سر لطيف المأخذ ، دقيق المسلك ، قلّ من يتفطن إليه ، فإن في معنى التراخي وجهين :

أحدهما : انهم يملئون البطون من شجر الزقوم وهو حارّ يحرق بطونهم ويزيد في عطشهم وغلتهم فلا يسقون إلا بعد ملي تعذيبا بذلك العطش ثم يسقون ما هو أحر من العطش وهو الشراب المشوب بالحميم ، والوجه الثاني أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أوغل في الكراهة وأبعد في البشاعة فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه ومعنى الثاني انه يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي اسكنوها الى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يملئوا بطونهم ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون الى دركاتهم ، ومعنى التراخي في ذلك واضح المفهوم.


(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

الاعراب :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل فيما سبق. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونادانا نوح فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ، والفاء عاطفة واللام جواب قسم محذوف وجواب كل من القسين محذوف ، لدلالة السياق عليه والتقدير والله لقد نادانا نوح لما يئس من إيمان قومه بعد أن استنزف ألف سنة إلا خمسين عاما بين أظهرهم فلم يزدادوا إلا عتوا واستكبارا ونفورا فأجبناه أحسن إجابة فو الله لنعم المجيبون نحن. ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والمجيبون فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف تقديره نحن وهذه هي الأولى من قصص ست ستأتي تباعا.

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه ومن الكرب جار ومجرور متعلقان بنجيناه العظيم نعت للكرب. (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وجعلنا عطف على نجيناه وذريته مفعول به وهم ضمير


فصل لا محل له والباقين مفعول جعلنا الثاني. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) الواو عاطفة وتركنا فعل وفاعل وعليه صفة للمفعول المحذوف أي ثناء كائنا عليه وفي الآخرين في موضع نصب مفعول به ثان لتركنا وقيل في إعراب هذه الآية غير ذلك. (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى نوح خبر متعلق بمحذوف صفة لسلام أو متعلق بما تعلق به الأول وجملة سلام على نوح في العالمين مفسرة لتركنا. وقال السمين : «قوله سلام على نوح مبتدأ وخبر وفيه أوجه : أحدها أنه مفسر لتركنا أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام وقيل ثم قول مقدر أي فقلنا سلام وقيل ضمن تركنا معنى قلنا وقيل سلط تركنا على ما بعده ، قال الزمخشري :

وتركنا عليه في الآخرين هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك سورة أنزلناها وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولا بتركنا لا انه ضمن معنى القول بل هو على معناه بخلاف الوجه قبله وهو أيضا من أقوالهم».

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف وجملة نجزي خبر إنا وفاعل نجزي مستتر تقديره نحن والمحسنين مفعول به لنجزي والجملة تعليل لمجازاة نوح بتلك التكرمة السامية وهي خلود ذكره وتسليم العالمين عليه أبد الدهر. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل للإحسان بالإيمان تنويها بشأن الإيمان وتشريفا له وحثا على الازدياد منه. وان واسمها ومن عبادنا خبرها والمؤمنين نعت لعبادنا. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على نجيناه وأهله فالترتيب حقيقي لأن نجاتهم حصلت قبل غرق الباقين ولكن بينهما تراخيا.


(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))


اللغة :

(شِيعَتِهِ) : في المختار : «الشيعة أتباع الرجل وأنصاره» وفي المصباح : «الشيعة : الأتباع والأنصار وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ثم صارت الشيعة اسما لجماعة مخصوصة والجمع شيع سدرة وسدر والأشياع جمع الجمع» وفي الأساس : «شيّعته يوم رحيله وشايعتك على كذا : تابعتك عليه وتشايعوا على الأمر وهم شيعته وشيعه وأشياعه وهذا الغلام شيع أخيه : ولد بعده ، وآتيك غدا أو شيعه قال :

قال الخليط : غدا تصدّعنا

أو شيعه أفلا تشيّعنا

وأقمت عنده شهرا أو شيع شهر وكان معه مائة رجل أو شيع ذلك ونزلوا موضع كذا أو شيعه ، وشاع الحديث والسر وأشاعه صاحبه ورجل مشياع مذياع وقطرت قطرة من اللبن في الماء فتشيع فيه : تفرق ، وأشاعت الناقة بولها وأشاعت به وجاءت الخيل شوائع :متفرقة ، وتشايعت الإبل وله صهم في الدار شائع ومشاع وشيّع بالإبل وشايع بها : صاح بها ومنه قيل لنفاخ الراعي : الشياع وشايع


بهم الدليل فأبصروا الهدى : نادى بهم. ومن المجاز شيعنا شهر رمضان بصوم الستة وشيّعت النار بالحطب وأعطني شياعا كما تقول : شبابا لما تشيّع به وتشبّ ، وشيّع هذا بهذا : قوه به ، قال الراعي :

إليك يقطع أجواز الفلاة بنا

نصّ تشيعه الصّهب المراسيل

ورجل مشيّع القلب : للشجاع ، وقد شيّع قلبه بما يركب كلّ هول وشاع في رأسه الشيب وشاعكم الله تعالى بالسلام وشاعكم السلام قال :

ألا يا نخلة في ذات عرق

برود الظل شاعكم السلام»

لمحة عن الشيعة :

وقول صاحب المصباح : «اسم لجماعة مخصوصة» يقصد الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وقد ظهروا بمذهبهم السياسي في آخر عصر عثمان ونما وترعرع في عهد علي وقوام هذا المذهب أن الإمامة ليست من مصالح العامة التي تفوض الى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفالها وتفويضها الى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويجب أن يكون معصوما عن الكبائر والصغائر وان علي بن أبي طالب كان هو الخليفة المختار من النبي وانه أفضل الصحابة. ولها فرق كثيرة يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني والفصل في الملل والنحل لابن حزم.


(فَراغَ) : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته ، وفي المختار : «راغ الثعلب من باب قال وروغانا بفتحتين والاسم منه الرواغ بالفتح وأراغ وارتاغ أي طلب وأراد ، وراغ الى كذا مال إليه سرا وحاد ، وقوله تعالى : «فراغ عليهم ضربا باليمين أي أقبل وقال الفراء : مال عليهم. وفلان يراوغ في الأمر مراوغة».

(يَزِفُّونَ) : يسرعون في المشي من زفيف النعام ويزفون من أزفّ إذا دخل في الزفيف أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف أي يزف بعضهم بعضا ، وفي الأساس : «زف العروس إلى زوجها وهذه ليلة الزّفاف ، وزف الظليم وزفزف وزفت الريح وزفزفت زفيفا وزفزفة وهي سرعة الهبوب والطيران مع صوت ، وريح زفزف ، وزفزفته الريح حرّكته وبات مزفزفا ، وأنشدني سلامة بن عياش الينبعي بمكة يوم الصّدر :

فبتّ مزفزفا قد أنشبتني

رسيسة ورد بينهم أحاحا

لعلمي أن صرف البين يضحي

ينيل العين قرّتها لماحا

ومن المجاز : زفوا إليه : أسرعوا ويقال للطائش الحلم : قد زفّ رأله ، وجئته زفة أو زفتين مرة أو مرتين وهي المرة من الزفيف كما أن المرة من المرور».

(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد وفي المصباح : «والجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة الى الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة


وشمالها قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين وجمعه جبن بضمتين مثل بريد وبرد وأجبنة مثل أسلحة» وفي القاموس : «تله تلا من باب قتل فهو متلول وتليل صرعه أو ألقاه على عنقه وخده».

(الْجَحِيمِ) : النار الشديدة الوقود وقيل كل نار على نار وجمر فوق جمر فهي جحيم ، وفي القاموس : «الجحيم النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض كالجحمة وتضم ، وكل نار عظيمة في مهواة والمكان الشديد الحر كالجاحم ، وجحمها كمنعها أوقدها فجحمت ككرمت جحوما وكفرح جحما وجحيما اضطرب والجاحم الجمر الشديد الاشتعال».

الاعراب :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الواو عاطفة عطفت القصة الثانية على القصة الأولى ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة إبراهيم بعد قصة نوح. وان حرف مشبه بالفعل ومن شيعته خبرها المقدم واللام المزحلقة وإبراهيم اسمها المؤخر.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لك أن تعلق الظرف بفعل محذوف تقديره اذكر ولك أن تعلقه بما في الشيعة من معنى الاشتقاق فهو معمول له لما فيه من معنى المتابعة ، وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم وربه مفعول به وبقلب متعلقان بجاء وسليم صفة. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) الظرف الثاني بدل من الظرف الأول وأجاز أبو البقاء أن يكون ظرفا


لسليم أو لجاء وجملة قال في محل جر بالإضافة والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ولأبيه متعلقان بقال وماذا تقدم اعرابها كثيرا فما مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو هي بكاملها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون لا محل لها على الأول وجملة ماذا مقول القول على الثاني.

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وإفكا في نصبه أوجه أحدها أنه مفعول من أجله أي أتريدون آلهة دون الله إفكا فآلهة مفعول به ودون الله ظرف متعلق بتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماما به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري والجلال والثاني أنه مفعول به بتريدون ويكون آلهة بدلا منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها والثالث انه حال من فاعل تريدون أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وما اسم استفهام للانكار والتوبيخ أي ليس لكم سبب ولا عذر يحملكم على الظن وهو في محل رفع مبتدأ وظنكم خبره وبرب العالمين متعلقان بظنكم وفي البيضاوي : «والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصدّ عن عبادته أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهي كالحجة على ما قبله».

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) الفاء عاطفة ونظر فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ونظرة مفعول مطلق وفي النجوم متعلق بنظر ، قيل الكلام على حذف مضاف أي في علم النجوم ولم يقل الى النجوم مع أن النظر إنما يتعدى بإلى لأن «في» تأتي بمعنى «إلى» لقوله تعالى «فردوا أيديهم في أفواههم» أي إليها وقيل إن نظر ضمن معنى فكر


وهو يتعدى بفي. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعل مستتر وإني إن واسمها وسقيم خبرها وإن وما في حيزها في محل نصب مقول القول وسيأتي الكلام في تجويز الكذب على إبراهيم.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) الفاء عاطفة وتولوا فعل ماض وفاعل وعنه متعلقان بتولوا ومدبرين حال من الواو في تولوا. (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وراغ فعل ماض وفاعل والى آلهتهم متعلقان براغ فقال عطف على راغ والهمزة للاستفهام ولا نافية وتأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة الاستفهام مقول القول.

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) ما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تنطقون في محل نصب على الحال وجملة مالكم مقول قول محذوف والتقدير فلم ينطقوا فقال مالكم لا تنطقون. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فلم يجيبوا فراغ وعليهم جار ومجرور متعلقان براغ وضربا مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضاربا أو مصدر لفعل مقدر أي يضرب ضربا والجملة في محل نصب على الحال وباليمين متعلقان بضربا أو بعامله.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) الفاء عاطفة وأقبلوا فعل ماض والواو فاعل وإليه متعلقان بأقبلوا وجملة يزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا ويجوز تعلق إليه به. (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتعبدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وما مفعول به وجملة تنحتون صلة والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي نحتكم ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي منحوتكم ، وقيل استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون. (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)


الواو حالية والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر والكاف مفعول به والواو عاطفة وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية وقيل هي استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون وقيل هي نافية أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئا ، وسيأتي مزيد بحث في هذا التركيب الذي شجر فيه الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة ، وجملة والله خلقكم حال ومعناها أتعبدون الأصنام على حالة تنافي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعا ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قالوا فعل وفاعل وابنوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول القول وله متعلقان بابنوا وبنيانا مفعول به ، فألقوه عطف على ابنوا وهو فعل أمر والواو فاعل والهاء مفعول به وفي الجحيم متعلقان بألقوه.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الفاء عاطفة وأرادوا فعل ماض وفاعل وبه متعلقان بأرادوا وكيدا مفعول به ، فجعلناهم عطف على فأرادوا وهو فعل وفاعل ومفعول به أول والأسفلين مفعول به ثان لجعلناهم. (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الواو عاطفة على محذوف تقديره فخرج من النار سالما وقال ، وان واسمها وذاهب خبرها والى ربي متعلقان بذاهب والسين حرف استقبال ويهدين فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء والنون للوقاية وياء الضمير المحذوفة لرعاية الفواصل مفعول به أي سيهديني وسيأتي معنى ذهابه الى ربه في باب الفوائد. (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدمه له نظائر وهب فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ولي متعلقان بهب ومن الصالحين صفة لمفعول به محذوف أي ولدا من الصالحين. (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ


حَلِيمٍ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فاستجبنا له ، وبشرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبغلام متعلقان ببشرناه وحليم صفة وفي الكلام إيجاز سيأتي في باب البلاغة.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) الفاء استئنافية ولما حينية أو رابطة وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والظرف متعلق بمحذوف حال وعبارة الزمخشري : «فإن قلت بم يتعلق معه؟ قلت : لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ أو بالسعي أو بمحذوف فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعي ولا بالسعي. لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه فبقي أن يكون بيانا كأنه لما قال فلما بلغ السعي أي الحد الذي يقدر فيه على السعي قيل مع من فقال مع أبيه والمعنى في اختصاص الأب انه أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده». (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) جملة قال لا محل لها لأنها جواب لما ويا حرف نداء وبني منادى مضاف لياء المتكلم وان واسمها وجملة أرى خبرها وفي المنام متعلقان بأرى وإن واسمها وجملة أذبحك خبرها وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي رأى الحلمية ، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت وماذا ترى يجوز أن تكون ماذا مركبة استفهامية فتكون منصوبة بتري وما بعدها في محل نصب بانظر لأنها معلقة له ويجوز أن تكون ما استفهامية وذا موصولة فتكون ماذا مبتدأ وخبرا والجملة معلقة أيضا وأن تكون ماذا بمعنى الذي فتكون معمولا لأنظر وترى فعل مضارع من الرأي لا من رؤية العين ولا المتعدية الى مفعولين بل كقولك هو يرى رأي الخوار.


(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) يا حرف نداء وأبت منادى مضاف الى ياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدم القول فيها وافيا مرارا والتاء في محل جر لأن المعوض عنه كذلك وافعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول افعل وجملة تؤمر صلة والعائد محذوف تقديره ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف في قولك أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ويجوز أن تكون ما مصدرية أي أمرك على إضافة المصدر للمفعول والسين حرف استقبال وتجدني فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والياء مفعول به ومن الصابرين في موضع المفعول الثاني. (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأسلما فعل ماض والألف فاعل أي استسلما وخضعا وانقادا لأمر الله ، وتله الواو عاطفة وتله فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي إبراهيم والهاء مفعول به وللجبين متعلقان بمحذوف حال وجواب لما محذوف تقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو كان ما كان مما تنطق به الحال. وقال الكوفيون والأخفش الجواب وتله للجبين بزيادة الواو وقيل وناديناه بزيادة الواو أيضا والأول أرجح. (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) الواو عاطفة وناديناه فعل وفاعل ومفعول به وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه ويا حرف نداء وإبراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم.

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قد حرف تحقيق وصدقت فعل وفاعل والرؤيا مفعول به وإن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على عامله وجملة نجزي المحسنين خبر إن وجملة


إنا تعليل لما منّ عليهما من الفرج بعد الشدة والرجاء بعد اليأس.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والبلاء خبر هو أو خبر إن والمبين نعت للبلاء.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة وفديناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على ناديناه وبذبح جار ومجرور متعلقان بفديناه والذبح اسم ما يذبح كبشا كان أم وعلا وعظيم صفة لذبح.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعراب نظير هذه الآية ومفعول تركنا محذوف وفي الآخرين صفة لهذا المحذوف أي ثناء حسنا. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سلام مبتدأ وعلى إبراهيم خبر وساغ الابتداء بالنكرة لما فيها من معنى الدعاء وجملة سلام على إبراهيم مقول قول محذوف أي يقال له هذا في الآخرين.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها ومن عبادنا خبر والمؤمنين صفة والجملة تعليلية لا محل لها.

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وبشرناه فعل وفاعل ومفعول به وبإسحاق متعلقان ببشرناه ونبيا حال من إسحق ومن الصالحين صفة لنبيا أو حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ لأن كل نبي لا بد أن يكون صالحا. (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) وباركنا عطف على ما تقدم وعليه متعلقان بباركنا وعلى إسحق عطف على عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) من ذريتهما خبر مقدم ومحسن مبتدأ مؤخر وظالم عطف على محسن ولنفسه متعلقان بظالم ومبين صفة لظالم.


البلاغة :

انطوت هذه الآية على فنون شتى نورد أهمها فيما يلي :

١ ـ في قوله «فقال إني سقيم» فن الرمز والإيماء وهو أن يريد المتكلم إخفاء أمر ما في كلامه فيرمز في ضمنه رمزا إما تعمية للمخاطب وتبرئة لنفسه وتنصلا من التبعة وإما ليهتدي بواسطته الى طريق استخراج ما أخفاه في كلامه وقد كان قوم إبراهيم نجّامين فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم التنجيم على انه يسقم فقال : إني سقيم أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الأسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى فقال ذلك ليوجسوا خوفا ويتفرقوا عنه فهربوا منه الى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ففعل بالأصنام ما فعل ، وقد يوهم ظاهر الكلام أنه ارتكب بذلك جريرة الكذب والأنبياء معصومون عنه والصحيح أن الكذب حرام إلا إذا عرض عنه وورّى ، ولقد نوى ابراهيم أن من في عنقه الموت سقيم ومنه المثل : «كفى بالسلامة داء» وقال لبيد :

كانت قناتي لا تلين لغامز

فألا منها الإصباح والإمساء

فدعوت ربي بالسلامة جاهدا

ليصحني فإذا السلامة داء

يصف لبيد قوته زمن الشباب ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه وانه طلب فسحة الأجل فكانت سبب اضمحلاله. والقناة الرمح استعارها لإقامته أو قوته على طريق الاستعارة التصريحية والليونة ، والغمز ترشيح للاستعارة والغمز الجس باليد ، ومات رجل فالتف عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي أصحيح من


الموت في عنقه وقيل أراد بقوله إني سقيم النفس لكفركم ، على أن بعض الناس قد جوزه في المكيدة في الحرب والتقية وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين وسيأتي المزيد من هذه القصة الفريدة في باب الفوائد.

٢ ـ الإيجاز :

في قوله «فبشرناه بغلام حليم» إيجاز قصر وقد تقدم تعريفه ، فقد انطوت هذه البشارة الموجزة على ثلاث : أن الولد ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وانه يكون حليما ، وأي حلم أدل على ذلك من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فلم يضطرب ولم يتخاذل ولم يعترض على مشيئة أبيه بل قال : «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ثم استسلم لذلك ولم يكن ليدور له في خلد أن الله سيفديه وسيهيئ له كبش الفداء.

الفوائد :

١ ـ من هو الذبيح؟

اختلف المفسرون في المأمور بذبحه فعن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين انه إسماعيل وحجتهم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابي يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لمّا حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له : أفديناك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل


والثاني إسماعيل ، واحتجوا أيضا بأن الله وصفه بالصبر دون إسحق في قوله تعالى : «وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين» وهو صبره على الذبح ، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وغيرهم أنه إسحق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، والحجة فيه أن الله تعالى أخبر خليله ابراهيم حين هاجر الى الشام بأنه استوهبه ولدا ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ويدل عليه كتاب يعقوب الى يوسف الذي جاء فيه : «من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» وقال الزجاج : «الله أعلم أيهما الذبيحين» وهذا مذهب ثالث وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى ولعل هذا أولى فإن هذه المسأله ليست من العقائد التي كلفنا بمعرفتها فهيي مما ينفع علمه ولا يضر جهله والله أعلم. هذا وللمفسرين والمؤرخين كلام طويل في قصة الذبح يرجع إليها في المطولات.

٢ ـ مناقشة بين أهل السنة والمعتزلة :

وهناك مناقشة يجدر بنا تلخيصها بين أهل السنة والمعتزلة لطرافتها ولعلاقتها الوثيقة بالإعراب ؛ فقد تساءل الزمخشري حول قوله تعالى : «والله خلقكم وما تعملون» فقال : «كيف يكون الشيء الواحد لله تعالى معمولا لهم ، وأجاب بأن هذا كما يقال عمل النجار الباب فالمراد عمل شكله لا جوهره وكذلك الأصنام جواهرها مخلوقة لله تعالى وأشكالها وصورها معمولة لهم فإن قلت : ما منعك أن تكون ما مصدرية لا موصولة ويكون المعنى والله خلقكم وعملكم كما يقول المجبرة» وأجاب : بأن «أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد


بطلانه بالحجج العقلية أن معنى الآية يأباه فإن الله تعالى احتج عليهم بأنه خلق العابد والمعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد فيهما هو الذي عمل صورة المعبود» قال : ولو قلت والله خلقكم وعملكم لم يكن للكلام طباق وشيء آخر وهو أن قوله وما تعملون شرحه في قوله أتعبدون ما تنحتون ولا يقال في أن ما هذه موصولة فالتفرقة بينهما تعسف وتعصب» قال : «فإن قلت اجعلها موصولة ومعناها وما تعملونه من أعمالكم وحينئذ توافق الأولى في أنها موصولة فلا يلزمني التفرقة بينهما» وأجاب «بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق وذلك أنك وان جعلتها موصولة فهي واقعة عندك على المصدر الذي هو جوهر الضم وفي ذلك فكّ للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية».

وتعقبه ابن المنير فقال : «يتعين حملها على المصدرية وذلك انهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم ففي الحقيقة انهم عبدوا عملهم وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه فإذا ثبت ذلك فليتتبع كلامه بالإبطال أما قوله : إنها موصولة وان المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر فإنه مفتقر الى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره : والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته بخلاف توجيه أهل السنة فإنه غير مفتقر الى حذف البتة ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد مع موافقته على


أن جواهر الأصنام ليست من عملهم فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد وعلى ما قررناه يتضح ، واما قوله ان المطابقة تنفكّ على تأويل أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح فإن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية وانهم في الحقيقة انما عبدوا نحتهم لأن هذه الأصنام وهي حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها فلما عملوا فيها النحت عبدوها ففي الحقيقة ما عبدوا سوى نحتهم الذي هو عملهم فالمطابقة إذن حاصلة والإلزام على هذا أبلغ وأمتن ولو كان كما قال لقامت لهم الحجة ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله والله خلقكم وما تعملون : لا ولا كرامة ولا يخلق الله ما نعمل نحن لأنا علمنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله ، وكانوا يجدون الذريعة الى اقتحام الحجة».

٣ ـ معنى الذهاب الى ربه :

اختلف في معنى قوله «إني ذاهب الى ربي سيهدين» والأكثرون على أن هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة أي إني مهاجر من بلد قومي ومولدي الى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه سيهديني سواء السبيل وفي سين الاستقبال إيذان بأن الفعل واقع لا محالة.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا


الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

الاعراب :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في القصة الثالثة ولك أن تجعل الواو عاطفة على ما سبق ، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومننا فعل وفاعل وعلى موسى وهارون متعلقان بمننا أي أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المزايا الدينية والدنيوية. (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة ونجيناهما عطف على مننا وهو فعل وفاعل ومفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وقومهما مفعول معه أو معطوف على الضمير في نجيناهما ومن الكرب متعلقان بنجيناهما والعظيم صفة للكرب والمراد به استعباد فرعون إياهم وسومه إياهم سوء العذاب.

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) عطف على ما تقدم وجمع الضمير لأنه عائد على موسى وهارون وقومهما ، فكانوا الفاء عاطفة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له والغالبين خبر كانوا ، وأجاز بعضهم أن يكون هم تأكيدا للواو أو بدلا منها. (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) عطف على ما تقدم أيضا والكتاب مفعول به ثان والمستبين نعت للكتاب والمراد به التوراة وما اشتملت عليه من تشريعات وأحكام.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) عطف على ما تقدم والصراط مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض كما تقدم والمستقيم نعت للصراط.


(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعرابها أكثر من مرة.

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) سلام مبتدأ وعلى موسى وهارون خبره (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ان واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف وجملة نجزي المحسنين خبر إنا وقد تقدمت لها نظائر. (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها ومن عبادنا خبر والمؤمنين نعت.

الفوائد :

حقيقة القول في موسى :

الصحيح أن موسى علم أعجمي غير مشتق وقول بعضهم انه مشتق من أوسيت الشجر أي أخذت ما عليه من الورق ضعيف ورد ابن السراج هذا كله وقال : من اشتق شيئا من لغة العجم من لغة العرب كان بمنزلة من ادعى أن الطير ولد الحوت ، ومع كون موسى أعجميا اختلف في وزنه فقال سيبويه وزنه مفعل وهو قول أبي عمرو ، وقال الكسائي : وزنه فعلى واحتج لسيبويه بأن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا ورد الفارسي على الكسائي بصرفه في النكرة ولو كانت فعلى لكانت ألفه للتأنيث ولا يصرف نكرة أيضا ومن جوز فعلل في الأبنية كما صار إليه الأخفش يجوز عنده كون ألفه للإلحاق فيصرف في النكرة وتقول في جمعه بالواو والنون موسون وموسين بفتح السين عند البصريين والكوفيين إن كان وزنه مفعلا وتقول على طريقة الكسائي موسون بضم السين قبل الواو وموسين بكسر السين قبل الياء ، هذا كله في موسى اسم لواحد من بني آدم وأما الموسى التي يحلق بها الشعر فعربية ثم قيل إنها مشتقة من أسوت الشيء إذا أصلحته ، والأصل مؤسى بالهمزة فأبدلت الهمزة واوا وقيل من أوسيت حلقت وهذا أشهر ولا أصل


لواوه على هذا في الهمزة والمشهور تأنيثها وقيل هو مذكر ووزنها على الباعث فعلى فيمتنع الصرف سواء سميت بها أو لم تسم إلا إذا اثبت فعللا فيصرف في النكرة والله أعلم.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

اللغة :

(بَعْلاً) : بعل اسم صنم لهم من ذهب وبه سمي البلد أيضا مضافا الى بك اسم البلد في الأصل ثم لما عبد فيها هذا الصنم المسمى ببعل سميت بعلبك وفي تاج العروس : «قال الأزهري : هما اسمان جعلا اسما وأحدا لمدينة بالشام والنسبة إليها بعلي أو بكي على ما ذكر في عبد شمس» وعبارة الزمخشري : «أتدعون بعلا وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل وقيل كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام


وبه سميت مدينتهم بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن يقال : من بعل هذه الدار أي من ربها؟» وسيأتي المزيد من هذه القصة في باب الفوائد.

(تَدْعُونَ) : تنادون.

(تَذَرُونَ) : تتركون وسمعنا عمن له نصاب في العربية أن كلمتي ذر ودع أمران في معنى الترك إلا أن دع أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به وذر أمر له بتركه بعد ما علمه ، وروي أن بعض الأئمة سأل الإمام الرازي عن قوله تعالى : «أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين» لم لم يقل وتدعون أحسن الخالقين وهذا أقرب من الفصاحة للمجانسة بينهما فقال الإمام لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا فلذلك قيل لهم : وتذرون ولم يقل وتدعون ، هذا وقد أمات العرب ماضي دع وذر ومصدرهما ولكن روي في الحديث : «لتنتهين أقوام من ودعهم الجمعات» أي عن تركهم الجمعات. وقال في القاموس :ودعه أي اتركه أصله ودع كوضع وقد أميت ماضيه وإنما يقال في ماضيه تركه وجاء في الشعر ودعه وهو مودوع وقرئ شاذا :«ما ودعك ربك وهي قراءته صلى الله عليه وسلم» وقال الجوهري :ولا يقال وادع وينافيه وروده في الشعر والقراءة به إلا أن يحمل قولهم وقد أميت ماضيه على قلة الاستعمال فهو شاذ استعمالا صحيح قياسا.

(إِلْ ياسِينَ) : قال الزمخشري : «قرىء على الياسين وادريسين وادارسين وادريسين على أنها لغات في الياس وإدريس ولعل لزيادة الياء


والنون في السريانية معنى» وقيل المراد بياسين هذا الياس المتقدم فعلى هذا هو مفرد مجرور بالفتحة لأنه غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو ومن آمن معه فجمعوا معه تغليبا كقولهم للمهلب المهلبون فعلى هذا هو مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم.

الاعراب :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عطف أو استئناف لذكر القصة الرابعة ، وان واسمها والياس علم أعجمي وستأتي ترجمته في باب الفوائد واللام المزحلقة والمرسلين خبر. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر ، واختار بعضهم تعليقه بالمرسلين وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال والهمزة للاستفهام ولا نافية وتتقون فعل مضارع مرفوع وفاعل والجملة مقول القول. (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتدعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وبعلا مفعول به والواو عاطفة وتذرون عطف على تدعون ويجوز أن تكون حالية والجملة في محل نصب على الحال وأحسن الخالقين مفعول به.

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) لفظ الجلالة بدل من أحسن الخالقين فهو منصوب وربكم بدل من الله ورب آبائكم الأولين عطف فالكلمات الثلاث منصوبة وقرئ بالرفع على أنها أخبار لمبتدأ محذوف أي هو أو الله مبتدأ وربكم خبره ورب آبائكم الأولين عطف على ربكم.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول


به والفاء في فإنهم الفصيحة وان واسمها واللام المزحلقة ومحضرون خبر إن. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعباد الله استثناء متصل من فاعل فكذبوه والمخلصين نعت لعباد الله. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا. (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) تقدم إعرابها. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تقدم اعرابها أيضا.

الفوائد :

في قصة الياس النبي طرافة ومتعة وتصوير فني ليكون وسيلة للتأثير الوجداني فهي تخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية لأن القصة في القرآن ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة أدائه وعرضه وسرد حوادثه ، وقبل أن نبدأ بتلخيص القصة كما روتها السير نبدأ بذكر لمحة عن الياس النبي فقد ذكر أهل التفسير أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل قال محمد بن اسحق : «هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران والله أعلم» وجاء في المنجد للآداب والعلوم انه إيليا النبي من أنبياء بني إسرائيل حارب العبادات الوثنية التي أدخلتها في إسرائيل ايزابيل زوجة آحاب فنفي الى صرفت حيث رد الى الحياة ابن امرأة أرملة وبإذن الله أهطل المطر على الأرض بعد انقطاعه عنها ثلاث سنوات قرب جبل الكرمل وخذل كهنة بعل وعشروت وأمر بقتلهم فلحقته ايزابل بوابل غضبها فهرب الى صحراء سيناء ثم عاد فتنبأ لآحاب بانتقام الله عليه لأنه اغتال نابوت وأخذ كرمه رفع الى السماء على مركبة نارية خلفه بالنبوة تلميذه اليشع.

وفيما يلي ما ذكره محمد بن اسحق وعلماء السير والأخبار ملخصا :


لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد ونصبوا الأصنام فبعث الله إليهم الياس نبيا وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على نبي إسرائيل وان سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها وعليهم ملك يومئذ اسمه ارحب وكان قد أضل قومه وكان له صنم من ذهب اسمه بعل فغضب الملك على الياس وهمّ بتعذيبه وقتله فلما أحس الياس بالشر خرج هاربا ولاذ بشواهق الجبال وصعيد المغاور وظل سبع سنين هائما يفترش الأرض ويتوسد الحجارة ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وكانوا قد وضعوا عليه العيون فلما طال عليه الأمر وضاق ذرعا دعا ربه فقيل انظر يوم كذا وكذا فاخرج الى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به إذ أقبل فرس من نار فوثب عليه فانطلق به الفرس فناداه يا الياس ما تأمرني؟ فقذف إليه الياس بكسائه من الجو فكان ذلك علامة استخلافه إلى آخر تلك القصة البديعة التي تصور الجهاد في سبيل العقيدة والثبات على المبدأ.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

الاعراب :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذه هي القصة الخامسة ، والواو استئنافية أو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها.


(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة نجيناه من الفعل والفاعل والمفعول في محل جر بإضافة الظرف إليها وأهله مفعول معه أو عطف على الهاء وأجمعين تأكيد.

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) إلا أداة استثناء وعجوزا مستثنى وفي الغابرين صفة. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ودمرنا الآخرين فعل ماض وفاعل ومفعول به وهم كفار قومه.

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) الواو عاطفة أو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وتمرون فعل مضارع وفاعل وعليهم متعلقان بتمرون ومصبحين حال وهي تامة. (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو عاطفة وبالليل عطف على مصبحين فهو حال أخرى والحال هنا محمول على المكان والباء للملابسة والهمزة داخلة على مقدر عطف عليه قوله فلا تعقلون والتقدير تشاهدون ذلك فلا تعقلون أي تعتبرون به.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا


إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦))

اللغة :

(أَبَقَ) : هرب من قومه بغير إذن ربه وهو للعبد خاصة إذ يهرب من سيده ولكن أطلق على يونس على طريق الاستعارة التصريحية التبعية أو على طريق المجاز المرسل والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق وفي المصباح : «أبق العبد أبقا من بابي تعب وقتل في لغة والأكثر من باب ضرب إذا هرب من سيده من غير خوف ولا كد والإباق بالكسر اسم منه فهو آبق والجمع أبّاق مثل كافر وكفار».

(الْمُدْحَضِينَ) : المغلوبين بالقرعة ، وساهم أي قارع وغالب أهل السفينة بالقرعة ، وستأتي قصة يونس مختصرة في باب الفوائد.

(مُلِيمٌ) : داخل في الملامة يقال : ألام فلان إذا فعل ما يلام عليه وفي المصباح : «لامه لوما من باب قال : عذله فهو ملوم على النقص والفاعل لائم والجمع لوم مثل راكع وركع وألامه بالألف لغة فهو ملام والفاعل مليم والاسم الملامة والجمع ملاوم واللائمة مثل الملامة وألام الرجل إذا فعل ما يستحق عليه اللوم وتلوّم تلوما : تمكث.


(العراء) : المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه وهو مشتق من العري وهو عدم السترة شبهت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتارها بشيء العرا بالقصر الناحية ومنه اعتراه أي قصد عراه وعبارة القاموس : «العراء الفضاء لا يستتر فيه بشيء وجمعه إعراء وأعرى سار فيه وأقام».

(يَقْطِينٍ) : قال في القاموس : «ما لا ساق له من النبات ونحوه وبهاء : القرعة الرطبة» وعبارة الزمخشري : «واليقطين كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجرة البطيخ والقثاء والحنظل وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به وقيل هو الدباء» وانما خص القرع لأنه يجمع بين برد الظل ولين الملمس وكبر الورق وان الذباب لا يقربه.

الاعراب :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) استئناف أو عطف مسوق لسرد القصة السادسة وهي قصة يونس عليه السلام وسأتي خلاصة وافية عنها في باب الفوائد ، وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبر إن. (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) إذ ظرف للمرسلين أي هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وجملة أبق في محل جر باضافة الظرف إليها والى الفلك جار ومجرور متعلقان بأبق والمشحون نعت.

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) الفاء عاطفة وساهم فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو فكان عطف على فساهم واسمها مستتر تقديره هو ومن المدحضين خبر كان. (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الفاء عاطفة على محذوف يدرك من سياق الكلام أي فألقوه في البحر فالتقمه


الحوت ، وقيل فألقى نفسه في الماء. والتقمه فعل ومفعول به مقدم والحوت مبتدأ مؤخر والواو للحال وهو مبتدأ ومليم خبر والجملة في محل نصب على الحال والمعنى أنه أتى ما يستحق عليه اللوم.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الفاء عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وان وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف وجوبا وأن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومن المسبحين خبرها.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) اللام واقعة في جواب لو لا ولبث فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وفي بطنه متعلقان بلبث أو بمحذوف حال أي مستقر والى يوم متعلقان بلبث وجملة يبعثون مضاف إليها الظرف ويبعثون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) الفاء عاطفة على محذوف أي أمرنا الحوت بنبذه فنبذناه ، ونبذناه فعل وفاعل ومفعول به وبالعراء متعلقان بنبذناه والواو حالية وهو مبتدأ وسقيم خبر أي معتل مما حلّ به. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وأنبتنا عطف على فنبذناه وعليه متعلقان بأنبتنا وشجرة مفعول به ومن يقطين نعت لشجرة. (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) الواو حرف عطف وأرسلنا فعل وفاعل ومفعول به والى مائة ألف متعلقان بأرسلناه وأو حرف عطف ويزيدون فعل مضارع مرفوع وسيأتي القول مفصلا في «أو» في باب الفوائد. (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) الفاء عاطفة وآمنوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل والفاء عاطفة ومتعناهم فعل وفاعل ومفعول به والى حين متعلقان بمتعناهم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) الفاء حرف عطف عطفت هذه الجملة على قوله فاستفتهم وان بعد المدى قال البيضاوي : «فاستفتهم : معطوف على مثله في أول السورة فأمر أولا باستفتائهم


عن وجه انكار البعث وساق الكلام في تقديره جارا لما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم الملائكة بنات الله» وقد تقدم أن الفاء الأولى هي الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدر وقد ثار نقاش حول هذا العطف البعيد سنفصل فيه القول في باب الفوائد. واستفتهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والهمزة للاستفهام الإنكاري وسيأتي معناه في باب البلاغة ولربك خبر مقدم والبنات مبتدأ مؤخر والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم والبنون مبتدأ مؤخر. (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أم حرف عطف معادلة للهمزة كأن المستفهم يدعي ثبوت أحد الأمرين ويطلب تعيينه منهم قائلا : أي هذين الأمرين تدعونه. وخلقنا فعل وفاعل والملائكة مفعول به وإناثا حال والواو للحال وهم مبتدأ وشاهدون خبر والجملة نصب على الحال.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) كلام مستأنف مسوق لإبطال مذهبهم الفاسد ببيان انه افك صريح لا دليل يدعمه وألا أداة تنبيه وان واسمها ومن إفكهم متعلقان بيقولون واللام المزحلقة وجملة يقولون خبر إنهم. (وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ولد الله فعل وفاعل والجملة مقول قولهم والواو للحال وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها. (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) الهمزة المفتوحة للاستفهام الانكاري استغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن ، واصطفى فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله والبنات مفعول به وعلى البنين متعلقان باصطفى بعد تضمينه معنى أفضل. (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ما اسم استفهام ولكم خبر أي ما ثبت


واستقر لكم على جهة الإنكار والجملة مستأنفة وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أو المفعولية المطلقة وتحكمون فعل مضارع وفاعل والجملة مستأنفة أيضا فليس لإحدى الجملتين تعلق بالأخرى.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري أيضا والفاء عاطفة على محذوف مفهوم من السياق أي أعميتم عن الحقائق وضللتم عن الشواهد ، ولا نافية وتذكرون فعل مضارع مرفوع وفاعل وأصله تتذكرون ومفعول تذكرون محذوف تقديره أنه منزه عن الولد.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أم حرف عطف بمعنى بل فهو للاضراب الانتقالي ولكم خبر مقدم وسلطان مبتدأ مؤخر ومبين نعت لسلطان.

البلاغة :

في هذه الآيات يبدو الأسلوب المكي واضح الدلالة ، ظاهر المفهوم ، مرهف العاطفة فقد تكرر فيه الاستفهام الانكاري ، ناعيا عليهم جهلهم المفرط في الغباء ، القائم على ثلاث جهالات : أولاها التجسيم لأن الولادة من خصائص الأجسام وثانيتها تفضيل أنفسهم على ربهم حيث جعلوا أوضع الجنسين في اصطلاحهم ومفهومهم له وأرفعهما لهم وتلك جهالة ما بعدها جهالة وثالثتها أنهم استهانوا بأكرم خلق الله وأقربهم إليه حيث أنثوهم وقد كانوا يتعايرون بوصف الأنوثة ويعتبرونه من دلائل المهانة وسمات الخسة.

الفوائد :

١ ـ اختلف في «أو» هذه اختلافا كثيرا فقال الفراء : معناها بل يزيدون فتكون عنده للإضراب ويكون الإخبار الأول بحسب ما يظهر


للناس إذا رأوهم والثاني إضراب لما في الواقع ونفس الأمر فالمعنى أرسلناه الى جماعة يحزرهم الناس مائة الف وهم أزيد من ذلك وفيه نكتة جليلة وهي الانتقال من الأدنى الى الأعلى لما له من الوقع في النفس ولفت النظر إليه بخلاف ما إذا أخبر بالأعلى من أول الأمر ، وقال بعض الكوفيين هي بمعنى الواو ، أما البصريون فلهم فيها أقوال :

١ ـ قيل هي للإبهام.

٢ ـ وقيل هي للتخيير أي إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول هم مائة ألف أو يقول هم أكثر ، قال ابن هشام : نقل ابن الشجري هذا القول عن سيبويه وفي ثبوته عنه نظر ولا يصح التخيير بين شيئين الواقع أحدهما.

٣ ـ وقيل هي للشك مصروفا الى الرائي.

٤ ـ وقيل إنها للإباحة أي لك أن تحزرهم وتقدر عددهم كيف تشاء.

٥ ـ وقيل هي للشك بمعنى أن أصدق الحادسين يشك في عددهم.

وأحسن ما قرأناه قول الزمخشري : في مرآى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر والغرض الوصف بالكثرة.

٢ ـ العطف البعيد :

قوله «فاستفتهم» الآية معطوف على ما قبله وهو قوله «فاستفتهم أهم أشد خلقا» وقد منع النحاة الفصل بجملة فما بالك بجمل بل بسورة ،


ولكن ما استقبحه النحاة وارد في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها وهذا الكلام لتلاحمه وتعانقه صار بمثابة الجملة الواحدة فانتفى عنه البعد.

٣ ـ خلاصة قصة يونس :

غاضب ذو النون قومه لما لم ينزل بساحتهم العذاب الذي وعدهم به فذهب مغاضبا وكان من حقه أن لا يذهب فقد كان ضيق العطن قليل الذرع ولما ركب السفينة وقفت في لج البحر فقال ملاحوها هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة وكان من عادتهم أن السفينة إذا كان منها آبق أو مذنب لم تسر وكان ذلك بدجلة لأنه أرسل الى أهل نينوى من أرض الموصل فلما ساهم أي قارع أهل السفينة كان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر فابتلعه الحوت إلى آخر تلك القصة البديعة.

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤))

اللغة :

(الْجِنَّةِ) : بكسر الجيم الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار وفي الأساس : «جنة : ستره فاجتنّ واستجن بجنة : استتر


بها واجتن الولد في البطن وأجنّته الحامل ، وحبذا مجن ابن أبي ربيعة».

الاعراب :

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبكتابكم متعلقان به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للانحاء عليهم باللائمة واستركاك عقولهم ، بأن من نسبوهم إلى الله تعالى يعلمون مصائرهم المحزنة. وجعلوا فعل وفاعل والظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلوا وبين الجنة عطف ونسبا مفعول جعلوا الأول فهي حكاية يجب أن تذيع وتشيع لتكون شاهد على حقيقة خبالهم. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الواو حالية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمت الجنة فعل وفاعل وإن واسمها واللام المزحلقة ومحضرون خبرها وإن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علمت وإنما كسرت همزتها لدخول اللام في خبرها والضمير في انهم لمحضرون للكفرة والمعنى انهم يقولون ما يقولون في الملائكة والحال أن الملائكة عالمون انهم في ذلك القول الهراء كاذبون.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة والعائد محذوف والجملة معترضة وهي مسوقة لحكاية تنزيه الملائكة الله سبحانه عما


وصفه به المشركون. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعباد الله المخلصين استثناء منقطع من المحضرين كأنهم ليسوا منهم والمستثنى منه إما فاعل جعلوا وإما فاعل يصفون وإما ضمير محضرون أي لكن عباد الله المخلصين ناجون ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا واختاره أبو البقاء وليس ببعيد. (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) الفاء تعليلية وان واسمها والواو واو المعية وما موصول مفعول معه وقد سدت مسد خبر إن أي انكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها على حد قولك كل رجل وصنيعته أي مقترنان ، وسيأتي تفصيل هذه القاعدة في باب الفوائد. وما نافية حجازية وأنتم اسمها وعليه متعلقان بفاتنين والباء حرف جر زائد وفاتنين خبر ما ويجوز أن تكون ما معطوفة على اسم ان وجملة ما أنتم خبر إن والمعنى على هذا انكم ومعبودكم ما أنتم ولا هو فغلب المخاطب ، يقال فتن فلان على فلان امرأته أي أفسدها عليه ورجح الزمخشري والبيضاوي هذا الوجه.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إلا أداة حصر ومن مفعول فاتنين والاستثناء مفرغ ويجوز أن تقدر مفعولا لفاتنين أي أحد فتكون إلا أداة استثناء ومن مستثنى من المفعول المحذوف وهو مبتدأ وصال خبر مرفوع بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين والجحيم مضاف إليه وقد أفرد حملا على لفظ من كما أفرد هو والجملة صلة الموصول. (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الواو استئنافية وما نافية ومنا خبر مقدم والمبتدأ محذوف أقيمت صفته مقامه والتقدير


وما منا أحد إلا له مقام معلوم كقوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

أي أنا ابن رجل جلا الأمور. ويجوز أن تكون منا صفة لمحذوف هو المبتدأ والخبر جملة إلا له مقام معلوم وإلا أداة حصر وله خبر مقدم ومقام مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة وعبارة القرطبي : «وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة : وما منا إلا له مقام معلوم والتقدير عند الكوفيين وما منا إلا من له مقام معلوم فحذف الموصول وهو من وتقديره عند البصريين ، وما منا ملك إلا له مقام معلوم أي مكان معلوم في العبادة».

الفوائد :

يجب حذف الخبر إذا كان المبتدأ معطوفا عليه اسم بواو هي نص في المعية نحو كل رجل وضيعته أي حرفته سميت بذلك لأن صاحبها يضيع فيها وكل صانع وما صنع فكل مبتدأ وصانع مضاف إليه وما صنع معطوف على المبتدأ والخبر محذوف وجوبا أي مقترنان وإنما حذف لدلالة الواو وما بعدها على المصاحبة والاقتران ، أما إذا لم يكن هناك نص على المعية فيجوز حذفه ويجوز ذكره ومن الثاني قول الفرزدق :

تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى

وكل امرئ والموت يلتقيان

فآثر ذكر الخبر وهو جملة يلتقيان. ويشعب : يفرق.


(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣))

الاعراب :

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة ونحن مبتدأ أو ضمير فصل والصافون خبر نحن والجملة الاسمية خبر إنا أو الصافون خبر انا أي نقف صفا واحدا في الصلاة أو في ساحة الجهاد ومفعول الصافون محذوف أي نصفّ أقدامنا.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) عطف على الآية السابقة. (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وإن مخففة من الثقيلة مهملة ، أو اسمها ضمير الشأن وجملة كانوا خبرها إن أعملت ، وكان واسمها واللام الفارقة وجملة يقولون خبر كان وجملة لو وما في حيزها مقول قولهم ولو شرطية وان وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي ثبت وان حرف مشبه بالفعل والظرف متعلق بمحذوف خبر أن المقدم وذكرا اسمها المؤخر ومن الأولين نعت لذكرا. (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) اللام واقعة في جواب لو وكان واسمها وعباد الله خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والمخلصين نعت لعباد


الله. (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة وكفروا فعل ماض وفاعل والفاء عاطفة وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع مرفوع وفاعل.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير الوعيد وتصويره بالقسم لتأكيده والعناية به واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وسبقت كلمتنا فعل وفاعل ولعبادنا متعلقان بسبقت والمرسلين نعت لعبادنا. (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وهم مبتدأ أو ضمير فصل والمنصورون خبر هم والجملة خبر إنهم أو خبر إنهم وضمير الفصل لا محل له. (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) عطف على نظيرتها الآنفة الذكر.

الفوائد :

عودة الى ضمير الفصل :

تقدم في هذا الكتاب بحث ضمير الفصل ونضيف هنا الى ما تقدم ان تسمينه ضميرا مجاز لمشابهة صورته ، وقد اتفق جمهور البصريين على انه ملغى لا محل له لكنهم اختلفوا مع ذلك في كونه اسما أو حرفا فقال جمهورهم هو اسم ألغي كما ألغيت أسماء الأفعال وأل الموصولة ، وقال بعضهم هو حرف وذلك لا ستنكارهم خلو الاسم عن الإعراب لفظا ومحلا ولأن الغرض به دفع التباس الخبر الذي بعده بالوصف وهذا هو معنى الحرف يعني إفادة المعنى في غيره فلذا صار حرفا وانخلع عنه لباس الاسمية نظير كاف الخطاب فإنه لما تجرد عن معنى الاسمية ودخل في معنى الحرف وهو إفادته في غيره


وقيل له محل من الإعراب وهو مذهب الكوفيين ويقولون هو توكيد لما قبله فإن ضمير الرفع قد يؤكد به المنصوب والمجرور نحو ضربتك أنت ومررت بك أنت.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

اللغة :

(بِساحَتِهِمْ) : بفنائهم ، قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم ، وأصل الساحة الفناء الخالي من الأبنية وجمعها سوح فألفها منقلبة عن واو فتصغر سويحة والجمع والتصغير يردان الأشياء الى أصولها. وقال الراغب : إنها من ذوات الياء حيث عدها في مادة سيح ثم قال الراغب : «الساحة المكان الواسع ومنه ساحة الدار والسائح الماء الجاري في الساحة وساح فلان في الأرض مر مر السائح ورجل سائح وسياح» وعلى هذا يكون لها مادتان ولكن كلام الراغب فيه قصور. وفي الأساس ذكرها في مادة سوح ونص عبارته : «عمر


الله تعالى بك ساحتك ، وتقول احمرّ اللّوح ، واغبرّت السوح إذا وقع الجدب وقال أبو ذؤيب :

وكان سيان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرت السوح

ولم يذكر في الأساس الساحة في مادة سيح فهما مادتان. وفي القاموس أورد الساحة من بنات الواو فقال : «الساحة الناحية وفضاء بين دور الحي والجمع ساح وسوح وساحات» ولم يذكرها في مادة ساح يسيح سيحا وسيحانا إلخ.

الاعراب :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) الفاء الفصيحة أي إن تبينت حقيقة أمرهم فتول عنهم وتول فعل أمر مبني على حذف حرف العلة أي أعرض عنهم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بتول وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتول.

(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) الواو عاطفة وأبصرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أي إذا نزل بساحتهم العذاب والفاء رابطة لجواب الطلب وسوف حرف استقبال ويبصرون فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي ما يحيق بهم جزاء كفرهم. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام ومعنى الاستفهام هنا التهديد والوعيد والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام وبعذابنا متعلقان بيستعجلون ويستعجلون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل.


(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ونزل فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي العذاب وبساحتهم متعلقان بنزل والفاء رابطة لجواب إذا وساء فعل جامد لإنشاء الذم وصباح المنذرين فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره صباحهم وقيل إن ضمير ساء يعود على المخصوص وان التمييز محذوف وان المذكور مخصوص لا فاعل وسيأتي المزيد من هذا البحث.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) عطف على ما تقدم وقد سبق اعراب هذه الآية المكررة. (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تقدم اعرابها وحذف مفعول أبصر اختصارا لدلالة الأول عليه. (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان ربك مفعول مطلق لفعل محذوف ورب العزة بدل وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما. (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) سلام مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء وعلى المرسلين خبر. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد مبتدأ ولله خبر ورب العالمين بدل أو صفة.

البلاغة :

في قوله «فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين» استعارة تمثيلية فقد شبه العذاب النازل بهم بعد ما أنذروا به فلم يبالوا الانذار ، وأصموا آذانهم عنه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يكترثوا لإنذاره ولم يتخذوا الأهبة والاحتياط وما عسى أن ينجيهم من هول الكارثة ويمكنهم من تفادي ويلاتها الطارئة وإنما


خصص الصباح لأنه كان من عادة مساعيرهم وكماتهم الإغارة فسميت الغارة صباحا لأنها تقع فيه عادة ولهذا استفصح العرب هذه الآية.

الفوائد :

كل فعل ثلاثي متصرف تام مثبت قابل للتفاوت مبني للمعلوم وليس الوصف منه على وزن أفعل فعلاء صالح للتعجب منه فإنه يجوز استعماله على فعل بضم العين إما بالأصالة كظرف وشرف أو بالتحويل بأن يكون في الأصل مفتوح العين كضرب وقتل أو مكسورها كعلم وفهم بضم العين فيهن وإنما حولت لتلحق بأفعال الغرائز ولتصير قاصرة وجامدة ثم يجري حينئذ مجرى نعم وبئس في إفادة المدح والذم وفي حكم الفاعل وحكم المخصوص تقول في المدح فهم الرجل زيد وفهم رجلا زيد وفي الذم خبث الرجل عمرو وخبث رجلا عمرو ومن أمثلته ساء فإنه في الأصل سوأ بالفتح من السوء ضد السرور من ساءه الأمر يسوءه إذا أحزنه فهو متعد متصرّف فحول الى فعل بالضم فصار قاصرا ثم ضمن معنى بئس فصار جامدا قاصرا محكوما لفاعله بما يحكم لفاعل بئس تقول ساء الرجل زيد وفي التنزيل «وساءت مرتفقا» ومما يحتمل الفاعلية والتميز «ساء ما يحكمون» وقد تقدم بحثه.


سورة ص

مكية وآياتها ثمان وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

الاعراب :

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ص تقدم القول فيها مفصلا وسيرد مزيدا منه في باب الفوائد. والواو حرف قسم والقرآن مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجواب القسم محذوف على الأرجح تقديره إنه لمعجز أو لقد جاءكم الحق وسيرد المزيد من إعراب هذه الآية وما قيل فيها وذي الذكر نعت للقرآن ومعنى الذكر البيان أو الشرف أو الموعظة والذكرى وكلها صحيح. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) بل حرف عطف وإضراب


انتقالي والذين مبتدأ وكفروا صلته وفي عزة خبره وشقاق عطف على عزة أي تكبر وتجبر وشقاق أي امتناع عن قبول الحق. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا وأهلكنا فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بأهلكنا ومن قرن تمييز كم الخبرية والمراد بالقرن الأمة ، فنادوا الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض والواو فاعل والواو حالية ولات حرف مشبه بليس وسيأتي القول عنها وعن التاء المتصلة بها مفصلا في باب الفوائد واسمها محذوف تقديره الحين وحين مناص خبرها أي نجاة.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) الواو عاطفة وعجبوا فعل ماض والواو فاعل وأن مصدرية وهي مع ما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي عجبوا من مجيء منذر ومنذر فاعل مؤخر ومنهم نعت لمنذر والواو حرف عطف وقال الكافرون فعل وفاعل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا للكفر عليهم وامعانا في الغضب عليهم وإشعارا بأن كفرهم حداهم الى هذا القول وهذا مبتدأ وساحر خبر وكذاب خبر ثان أو نعت لساحر.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) الهمزة للاستفهام التعجبي أي تعجبوا من هذا الحصر لأنهم قاسوا الغائب على الشاهد جهلا منهم وارتطاما بسوء الغفلة وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والآلهة مفعول به أول وإلها مفعول به ثان وواحدا صفة وإن واسمها واللام المزحلقة وشيء خبرها وعجاب صفة لشيء. قال الجوهري : العجيب الأمر الذي يتعجب منه وكذلك العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه.


الفوائد :

١ ـ جواب القسم المحذوف وتقديره :

تقدم القول مفصلا في فواتح السور ورجحنا أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه صاد. وأما جواب القسم فقد اختلفوا فيه كثيرا وأصح ما رأيناه هو أنه محذوف وقد اقتصر عليه الزمخشري والبيضاوي ، قال الحوفي تقديره : لقد جاءكم الحق وقال ابن عطية تقديره : ما الأمر كما تزعمون وقال الزمخشري تقديره : إنه لمعجز.

٢ ـ القول في لات :

لات : هي إحدى الحروف العاملات عمل ليس وهي ما ولا ولات وإن لشبهها بها في النفي ، وأما لات فأصلها لا النافية ثم زيدت عليها التاء لتأنيث اللفظ أو للمبالغة في معناه وخصت بنفي الأحيان ، وزيادة التاء هنا أحسن منها في ثمت وربت لأن لا محمولة على ليس وليس تتصل بها التاء ومن ثم لم تتصل بلا المحمولة على إن وهي كلمتان عند الجمهور : لا النافية وتاء التأنيث وحركت لالتقاء الساكنين ، وقال أبو عبيدة وابن الطراوة كلمة وبعض كلمة وذلك انها لا النافية والتاء الزائدة في أول الحين وقيل كلمة واحدة وهي فعل ماض وعلى هذا هل هي ماضي يليت بمعنى ينقص استعملت للنفي أو هي ليس بكسر الياء قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأبدلت السين تاء قولا حكاهما في المغني وعملها إجماع من العرب ، وله شرطان : كون معموليها اسمي زمان وحذف أحدهما والغالب في المحذوف هو الاسم نحو ولات حين مناص أي ليس الحين حين فرار ، ومن القليل قراءة


بعضهم برفع الحين على أنه اسمها وخبرها محذوف أي ليس حين فرار حينا لهم وقرىء أيضا ولات حين مناص بخفض حين فزعم الفراء أن لات تستعمل حرفا جارا لاسم الزمان خاصة كما أن مذ ومنذ كذلك.

وقد جرى المتنبي على هذا القول بقوله :

لقد تصبرت حتى لات مصطبر

فالآن اقحم حتى لات مقتحم

قال أبو البقاء : والجر به شاذ وقد جر به العرب وأنشدوا :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن لات حين بقاء

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))


الاعراب :

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) الواو عاطفة على محذوف سيأتي تقديره في باب الفوائد ويجوز أن تكون استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتقرير تآمرهم بعد انصرافهم من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب. وانطلق الملا فعل وفاعل ومنهم حال وأن مصدرية وهي مع ما بعدها في تأويل مصدر مقول قول محذوف أي انطلقوا بقولهم أن امشوا ورجح الزمخشري أن تكون مفسرة لانطلقوا لأنه متضمن معنى القول ، قال الزمخشري : «لأن المنطلقين من مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم» وعلى كل هي في موضع نصب على الحال أيضا والمعنى انطلقوا حال كونهم قائلين بعضهم لبعض ويجوز أن تكون مصدرية منصوبة هي ومدخولها بنزع الخافض أي بأن امشوا ، واصبروا عطف على امشوا وعلى آلهتكم متعلقان باصبروا على حذف مضاف أي على عبادتها أي ليس لكم يدان في مغالبة محمد فما لكم إلا الصبر. وليس المراد بالانطلاق هنا المشي بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما انه ليس المراد المشي المتعارف بل الاستمرار على الشيء.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) الجملة تعليل للأمر بالصبر وان واسمها واللام المزحلقة وشيء خبرها وجملة يراد صفة لشيء. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا والإشارة الى التوحيد الذي يدعو اليه محمد وفي الملة حال من هذا والآخرة نعت والمراد بها ملة عيسى عليه السلام وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر واختلاق خبر هذا أي افتعال ومحض كذب. (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) الهمزة للاستفهام


الإنكاري وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل والذكر نائب فاعل ومن بيننا حال فهم أنكروا أن يتميز محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وقد كرروا هذا المعنى كثيرا فقالوا : «لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» قالوا ذلك ورددوه مرارا تنفيسا عن الغيظ الذي تجيش به نفوسهم والموجدة التي تعتلج في ضمائرهم.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) بل إضراب انتقالي عن مقدر فكأنه قال : انكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه. وهم مبتدأ وفي شك خبر ومن ذكري نعت لشك وبل إضراب انتقالي أيضا مسوق لبيان سبب الشك الذي ترسّب في ضمائرهم وهو أنهم لمّا يذوقوا العذاب ولو أنهم ذاقوه وعانوا بلاءه وكابدوا هو انه لصدقوا ولما لجئوا الى مدافعة اليقين بالشك. ولما حرف نفي وجزم ويذوقوا فعل مضارع مجزوم بلما والواو فاعل وعذاب مفعول به وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة وعندهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائن رحمة ربك مبتدأ مؤخر والعزيز الوهاب صفتان لربك.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أم حرف عطف بمعنى بل وعبارة الزمخشري والبيضاوي متشابهة قال البيضاوي : «كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأنه ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائن رحمته فمن أين لهم أن يتصرفوا بها» ولهم خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ


مؤخر وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق بمحذوف صلة ما. (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) الفاء الفصيحة أي هي جواب شرط مقدر تقديره إن زعموا ذلك فليصعدوا في المعارج الموصلة الى العرش حتى يستووا عليه ، واللام لام الأمر ويرتقوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وفي الأسباب متعلقان بيرتقوا.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) اختلف المعربون في إعراب هذه الآية اختلافا كثيرا لأنها تحمل عدة وجوه نورد أهمها فيما يلي :جند خبر لمبتدأ محذوف أي هم جند وما نكرة تامة صفة لجند على سبيل التحقير أي هم جند حقير فإن ما إذا كانت صفة تستعمل للتعظيم أو التحقير والثاني هو المراد ولك أن تعربها زائدة وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف صفة لجند ومهزوم نعت ثالث لجند أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف ويجوز أن يكون جند مبتدأ ساغ الابتداء به لوصفه وهنالك خبره واختار هذا الوجه أبو البقاء وسنورد لك عبارته في باب الفوائد ومن الأحزاب جار ومجرور متعلقان بمهزوم.

الفوائد :

١ ـ الفرق بين لمّا ولم :

ونثبت هنا الفرق الدقيق بين لمّا ولم وبه يتبين لما ذا أوثرت لمّا في قوله «بل لمّا يذوقوا عذاب» فهما تشتركان في أمور وهي الحرفية والاختصاص بالمضارع والنفي والجزم والقلب للمضي وجواز دخول همزة الاستفهام عليهما ، وتنفرد لم عن لمّا بمصاحبة أداة الشرط


نحو «وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» لأن الشرط يليه مثبت لم ولا يليه مثبت لمّا ، وتنفرد لم عن لما أيضا بجواز انقطاع نفي منفيها نحو «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» لأن المعنى أنه قد كان بعد ذلك شيئا مذكورا ، وتنفرد لمّا عن لم بجواز حذف مجزومها كقاربت المدينة ولما ، أي ولمّا أدخلها ، ولا يجوز ذلك في لم وحملوا قول إبراهيم بن علي بن محمد الهرمي على الضرورة وهو :

احفظ وديعتك التي استودعتها

يوم الأعازب إن وصلت وان لم

أي وإن لم تصل ، وتنفرد لما عن لم أيضا بتوقع ثبوت منفيها كقوله تعالى «بل لما يذوقوا عذاب» أي الى الآن ما ذاقوه وسوف يذوقونه ، وفرق سيبويه بينها وبين لم في هذا الصدد بأن لم نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد ، ولما نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته قد ، ومن الفرق الدقيق أنه لا يجوز أن تقول الحجر لم يتكلم ويجوز أن تقول الحجر لا يتكلم لأنه ما بعد لم يفيد التوقع وذلك مستحيل.

٢ ـ قصة إسلام عمر :

يروي التاريخ أن هذه الآيات نزلت بعد إسلام عمر ، ولإسلام عمر قصة محبوكة الحلقات فيها متعة ، وفيها طرافة ، ولكن لها روايات كثيرة وطرقا مختلفة نجتزىء منها برواية عطاء ومجاهد التي نقلها ابن اسحق عبد الله بن أبي نجيح وهي تذكر ان عمر قال : كنت للإسلام تباعدا ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أصبها وأشربها وكان


لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش ، فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحدا فقلت لو أنني جئت فلانا الخمار ، فجئته فلم أجده ، قلت لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين ، فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين : الركن الأسود والركن اليماني ، فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول وقام بنفسي أنني لو دنوت منه أسمع لأروعنه فجئت من قبل الحجر ، فلما سمعت القرآن رقّ قلبي فبكيت ودخلني الإسلام. ولما أسلم عمر شقّ ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون من صناديدهم فأتوا أبا طالب فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، يريدون الذين دخلوا في الإسلام ، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأحضره وقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء والانصاف فلا تمل كلّ الميل على قومك فقال النبي : ماذا تسألونني؟ فقالوا ارفضنا وأرفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم قالوا : نعم وعشر أمثالها فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وانطلق الملأ منهم. وقد تبيز بذلك العطف الذي ألمعنا إليه في اعراب وانطلق الملأ منهم إلخ ...

٣ ـ نص عبارة أبي البقاء :

وعدناك بنقل نص عبارة أبي البقاء في إعراب قوله «جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب» قال : «جند مبتدأ وما زائدة


وهنالك نعت ومهزوم الخبر ويجوز أن يكون هنالك اظرفا لمهزوم ومن الأحزاب يجوز أن يكون نعتا لمجند وأن يتعلق بمهزوم وأن يكون نعتا لمهزوم».

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

اللغة :

(الْأَوْتادِ) : في المصباح : «الوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء لغة وأهل نجد يسكنون التاء فيدغمون بعد القلب فيبقى ود ووتدت الوتد أتده وتدا من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض وأوتدته بالألف لغة» وفي الأساس : «ضرب الوتد والودّ والأوتاد بالميتدة ويقال : تد وتدك وأوتده وانتصب كأنه وتد وهو «أذل من وتد» ووتد واتد : ثابت ومن المجاز : وتد الله الأرض بالجبال وأوتدها ووتّدها والجبال أوتاد الأرض وقيل لأعرابي : ما النطشان؟ فقال : يوتد العطشان وروي : شيء نتد به كلامنا» وفي القاموس : «الوتد بالفتح والتحريك وككتف ما رز في الأرض أو الحائط من خشب وما كان في العروض على ثلاثة أحرف


كعلى والهنيّة الناشزة في مقدّم الأذن والجمع أوتاد ووتد واتد تأكيد وأوتاد الأرض جبالها ومن البلاد رؤساؤها ومن الفم أسنانه».

(الْأَيْكَةِ) : الغيضة والأشجار الملتفة المجتمعة وقد تقدم القول فيها مبسوطا.

(فَواقٍ) : بفتح الفاء وضمها أي رجوع وقد قرىء بهما معا فقيل هما نعتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى مالها من توقف قدر فواق ناقة وفي الحديث :«العيادة قدر فواق ناقة» وفي المختار : «الفواق الزمن الذي بين الحلبتين لأنها تحلب ثم تترك ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب ، يقال : ما أقام عنده إلا فواقا وفي الحديث : «العيادة قدر فواق ناقه» وقوله تعالى : من فواق يقرأ بالفتح أي مالها من نظرة وراحة وإفاقة» وعبارة الزمخشري في الكشاف : «مالها من فواق وقرىء بالضم مالها من توقف مقدار فواق وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع يعني إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان كقوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ، وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد من أفاق المريض إذا رجع الى الصحة وفواق الناقة ساعة ترجع الدرّ الى ضرعها يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد» ولهذه المادة خصائص عجيبة ، أنها تتوزع على أنحاء شتى من المعاني وها نحن أولاء نقل لك خلاصة ما ورد في اللسان والأساس منها : «ما بقي في كنانتي إلا سهم أفوق وهو الذي في إحدى زنمتيه كسر أو ميل ، وفوق السهم : جعل الوتر في فوقة عند الرمي ، وتقول : لا زالت للخير موفقا ، وسهمك في الكرم مفوّقا ، وفوّقه :جعل له فوقا ، وفاقه كسر فوقه ، وفاق قومه : فضلهم ، ورجل فائق


في العلم وهو يتفوق على قومه وفوقته عليهم : افضلته ، وأفاق فلان من المرض واستفاق وفلان مدمن لا يستفيق من الشراب ، وتفوّق الفصيل أمه رضعها فواقا فواقا ، وفوّقه الراعي. ومن المجاز تفوقت الماء : شربته شيئا بعد شيء ، وتفوّقت مالي : أنفقته على مهل ، قال :

تفوّقت مالي من طريف وتالد

تفوّقي الصهباء من حلب الكرم

وتفوقت وردي : أخذته قليلا قليلا وأتيته فيقة الضحى وميعته ، وخرجنا بعد أفاويق من الليل ، ومجت السحابة أفاويقها وأرضعني أفاويق بره ، وفوّقني الأماني وما أقام عنده إلا فواق ناقة وفيقة ناقة. ولعل في هذا غنية.

الاعراب :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال الطغاة وبيان مصائر العتاة. وكذبت فعل ماض وقبلهم ظرف متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل وعاد عطف على قوم نوح وفرعون عطف أيضا وذو الأوتاد أي ذو الملك الثابت وسيأتي ذكر استعارة الأوتاد في باب البلاغة. (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ) عطف أيضا وأولئك الأحزاب لك أن تجعل اسم الاشارة بدلا مما قبله والأحزاب بدل منه وإما أن تجعلها جملة مستقلة مؤلفة من مبتدأ هو اسم الإشارة والأحزاب خبره. (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) إن نافية لا عمل لها لانتقاض النفي بإلا وكل مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة كذب الرسل خبر كل ، فحق


الفاء حرف عطف وحق فعل ماض وعقاب فاعله مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتقرير عقاب كفار مكة بعد بيان عقاب من سبقوهم في الغواية. وما نافية وينظر فعل مضارع أي ينتظر وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة لها وما نافية حجازية أو تميمية ولها خبر مقدم ومن حرف جر زائد وفواق اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم ما أو مبتدأ مؤخر.

البلاغة :

في قوله «ذو الأوتاد» استعارة تصريحية أي ذو الملك الثابت الموطّد وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، قال الرفادة الأودي :

البيت لا يبتني إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

يقول : لا ينال الأمر إلا بتوفر أسبابه ، شبه توقف الأمر على أسبابه وتوقف أسبابه بتوقف على أسبابه بتوقف ضرب الخيمة على انتصاب الأعمدة وتوقف انتصابها على اثبات الأوتاد المشدودة بالحبال وبعده :

فإن تجمع أسباب وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا


ثم قال : فإن اجتمعت الحبال المشدودة بالأوتاد الثابتة وانتصبت الأعمدة ووجد الساكن بلغ مراده وهو بمعنى الجمع فصح جمع ضميره ومعنى كادوا عالجوا يقال كاده كيدا أي عالجه علاجا والمعنى بلغوا الأمر الذي كادوه أي عالجوه لتحصيله. وقال الأسود ابن يعفر :

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد إياد

جرت الرياح على مقر ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظل ملك ثابت الأوتاد

فإذا النعيم وكل ما يلهى به

يوما يصير الى بلى ونفاد

يقول : لا أتمنى بعدهم شيئا من الدنيا. ومحرق هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي والإياد في الأصل تراب يجمع حول الحوض والبيت يحفظه من المطر والسيول من الأيد أي القوة أو هو ما أيد به الشيء مطلقا والكنف والجبل الحصين وإياد الجيش جناحاه أي ميمنته وميسرته والأيّد : القوي ، وإياد هنا علم على ابن نزار ابن معد بن عدنان فهو أخو مضر وربيعة وأراد به في البيت القبيلة وروي وآل إياد عطفا على آل محرق وغني بالمكان كرضي : أقام به والبلى : الانمحاق ، والنفاد : الفناء ؛ يقول : تركوا منازلهم وهي جملة مستأنفة لبيان نفي التأميل أو اعتراضية بين المتعاطفين وجملة : جرت الرياح مستأنفة مسوقة لبيان حال القبيلتين يقول : تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم وجريان الرياح على مقر الديار لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح وذلك كناية عن موتهم وأشار الى أن فتاءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله : فكأنهم كانوا على ميعاد واحد ولقد


أقاموا ردحا من الزمن بأرغد عيش وشبه الملك الذي به عزهم وصولتهم بخيمة مضروبة عليهم والظل ترشيح والأوتاد تخييل وإذا فجائية أي فظهر بغتة أن كل نعيم لا محال زائل.

هذا وقيل لا استعارة في الآية وأن فرعون كان يتد لكل من يغضب عليه أربعة أوتاد يشد إليها يديه ورجليه ويعذبه حتى يموت والأول أولى وأبلغ.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

اللغة :

(قِطَّنا) : نصيبنا وحظنا من العذاب وأصله من قطّ الشيء أي قطعه ومنه قط القلم قالوا ذلك استهزاء أي عجل لنا قطعة مما وعدتنا به ويطلق على الصحيفة والصك قط لأنهما قطعتان وقيل للجائزة قط لأنها قطعة من العطية ويجمع على قطوط مثل حمل وحمول وعلى قططة مثل قرد وقردة وقرود وفي القلة على أقططة مثل قدح وأقدحة وأقداح وفي القاموس : «القط : القطع عامة أو عرضا أو قطع شيء صلب كالحقة كالاقتطاط والقصير الجعد من الشعر كالقطط محركة


وقد قطط كفرح وقد قطّ يقط كيمل قططا محركة وقطاطة ، والقطّاط : الخراط صانع الحقق» إلى أن يقول : «والقط بالكسر النصيب والصك وكتاب المحاسبة وجمعه قطوط والسنور وجمعه قطاط وقططه والساعة من الليل» وقال أبو عبيدة والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، وقال الأعشى :

ولا الملك النعمان يوم لقيته

بغبطته يعطي القطوط ويأفق

الاعراب :

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) كلام مستأنف مسوق لسرد أنماط من تمحلهم واستهزائهم بعد أن نزل قوله تعالى :«فأما من أوتي كتابه بيمينه» الآية وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وعجّل لنا فعل أمر ولنا متعلقان به وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت وقطنا مفعول به وقبل يوم الحساب ظرف متعلق بعجل أيضا أو بمحذوف حال. (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) اصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما يقولون متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة والعائد محذوف أي يقولونه واذكر عطف على اصبر أي تأس بقصة داود ومنّ نفسك عن إهمال أمر مصابرتهم وتحمل أذاهم لئلا يستهدف لما استهدف له

وعبدنا مفعول به وداود بدل وذا الأيد نعت لداود أي صاحب القوة وقد تقدم شرح الأيد وجملة إنه أواب تعليل لكونه من أصحاب الأيد أي راجع الى مرضاة الله وان واسمها وخبرها.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) إن واسمها وجملة سخرنا الجبال من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنا وجملة


يسبحن حالية من الجبال وسيأتي سر العدول عن مسبحات إلى يسبحن في باب البلاغة وبالعشي متعلقان بيسبحن والإشراق عطف على بالعشي أي غدوة وعشية وسيأتي حديث ابن عباس عن العشي والإشراق في باب البلاغة أيضا. (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) والطير عطف على الجبال أو مفعول به لفعل محذوف دل عليه ما قبله أي وسخرنا الطير ومحشورة حال أي مجموعة تسبح له وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم أي كل من الجبال والطير وله جار ومجرور متعلقان بأواب وأواب خبر كل أي رجاع مبالغة آئب أي راجع له بالتسبيح. (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) وشددنا ملكه فعل وفاعل ومفعول به أي قويناه بالجنود والحرس وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والحكمة مفعول به ثان وفصل الخطاب عطف على الحكمة وسيأتي معنى فصل الخطاب في باب البلاغة.

البلاغة :

انطوت في هذه الآيات فنون متعددة تبهر السامعين وإليك التفصيل.

١ ـ العدول عن الاسمية الى الفعلية :

في قوله «يسبحن» عدول عن الاسم الى الفعل ، والنكتة فيه الدلالة على التجدد والحدوث شيئا بعد شيء وحالا بعد حال وكأن السامع حاضر تلك الحال يسمع تسبيحها ومثله قول الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء باليفاع تحرق

ولو قال محرقة لم يكن له ذلك الوقع.


٢ ـ الطباق :

وفي قوله «بالعشي والإشراق» طباق بديع بين صلاة العشاء وصلاة الضحى ، وروي عن ابن عباس انه قال : كنت أمرّ بهذه الآية :بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق ، وعن طاوس عن ابن عباس أيضا : قال هل تجدون ذكر الضحى في القرآن؟ قالوا : لا ، فقرأ : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ، وعنه أيضا :ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.

٣ ـ معنى فصل الخطاب :

الفصل التمييز بين الشيئين وقيل للكلام المبين فصل بمعنى المفعول وأصله : انهم يقولون كلام ملتبس ، وفي كلامه لبس والملتبس المختلط الذي لا يبين لتداخله أو معاظلته فقيل في نقيضه كلام فصل أي مفصول بعضه عن بعض وملخصه أن لا يخطىء مظان الوصل والفصل فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ولا يتلو قوله «ويل للمصلين» إلا موصولا بما بعده ولا «والله يعلم وأنتم» حتى يصله بقوله : «لا تعلمون» ونحو ذلك وكذلك مظان العطف وتركه والإضمار والإظهار والذكر والحذف والتكرار وغير ذلك من الفنون التي مرّ بك معظمها في هذا الكتاب ويجوز أن يكون الفصل بمعنى الفاعل أي الفاصل بين الحق والباطل وبين الصحيح والفاسد وبين السمين والغث.


(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

اللغة :

(تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : قصدوا سوره ونزلوا من أعلاه والسور الحائط المرتفع والمحراب سبق تفسيره والخصم : المخاصم والمنازع وقد يقع للاثنين والجمع والمؤنث فيقال هما خصم وهم خصم وهي خصم لأنه مصدر في أصله وقد تقدم له نظير وهو ضيف في قوله :«حديث ضيف ابراهيم المكرمين».

(وَلا تُشْطِطْ) ولا تجر وهو بضم التاء وسكون الشين وكسر الطاء الأولى من اشطط يشطط أشطاطا إذا تجاوز الحد ، قال أبو عبيدة :


شططت في الحكم وأشططت فيه إذا جرت فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل.

(سَواءِ الصِّراطِ) : وسط الطريق الصواب ومحجته.

(أَكْفِلْنِيها) : اجعلني كافلها والمراد ملكنيها وفي المختار : «كفل عنه بالمال لغريمه وأكفله المال ضممنه إياه وكفله إياه بالتخفيف فكفل هو من باب نصر ودخل وكفله إياه تكفيلا مثله».

(وَعَزَّنِي) : وغلبني في الجدال وأتى بحجاج لا أقدر على رده وفي المختار «وعز عليه غلبه وبابه رد وفي المثل «من عزيز» أي من غلب سلب والاسم العزة وهي القوة والغلبة وعزه في الخطاب وعازّه أي غلبه» وقال مجنون ليلى :

قطاة عزها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

وقبله :

كأن القلب ليلة قيل يغدى

بليلى العامرية أو يراح

شبه قلبه حين سمع برحيلها بحمامة أمسك الشرك جناحها في كثرة الخفقان.

(الْخُلَطاءِ) : الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط.

هذا وقد أوردت معاجم اللغة للخليط عدة معان منها المخالط والمشارك والقوم الذين أمرهم واحد والزوج والجار والصاحب وخليط الرجل مخالطه كالجليس المجالس.


الاعراب :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد قصة داود ، وهل حرف استفهام معناه التعجب والتشويق الى استماع ما يرد بعده كما تقول لمن تخاطبه : هل تعلم ما وقع اليوم ثم تذكر له ما وقع ، وأتاك نبأ الخصم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وإذ ظرف لمضاف محذوف أي نبأ تخاصم الخصم إذ تسوروا وعبارة الزمخشري : «فإن قلت بم انتصب إذ؟ قلت لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بالنبإ أو بمحذوف ، فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بالنبإ لأن إتيان النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أردت بالنبإ القصة في نفسها لم يكن ناصبا فبقي أن يكون منصوبا بمحذوف وتقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل» وجملة تسوروا مضاف إليها الظرف وتسوروا فعل ماض وفاعل والمحراب مفعول به.

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إذ بدل من إذا الأولى وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى داود متعلقان بدخلوا والفاء عاطفة وفزع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنهم متعلقان بفزع. (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال نشأ من حكاية فزعه كأنه قيل فماذا قالوا لما شاهدوا أمارات الفزع مرتسمة على وجهه فقال قالوا. ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وخصمان خبر لمبتدأ محذوف أي نحن خصمان وجملة بغى صفة لخصمان وبعضنا فاعل


وعلى بعض متعلقان ببغى. (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) الفاء الفصيحة واحكم فعل أمر وفاعله مستتر وبيننا ظرف متعلق باحكم وبالحق حال أو متعلقان باحكم أيضا ولا تشطط عطف على احكم واهد فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به والى سواء الصراط متعلقان باهدنا.

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) إن واسمها وأخي بدل من هذا أو خبر إن وله خبر مقدم وتسع مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن أو خبر ثان وتسعون عطف على تسع ونعجة تمييز ولي خبر مقدم ونعجة مبتدأ مؤخر وواحدة نعت وسيأتي حديث الكناية بالنعجة في باب البلاغة.

(فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وجملة أكفلنيها من الفعل والفاعل المستتر والمفعولين مقول القول وعزني عطف على فقال وفي الخطاب متعلقان بعزني. (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وظلمك فعل وفاعل مستتر والكاف مفعول به وبسؤال جار ومجرور متعلقان بظلمك ونعجتك مضاف اليه من إضافة المصدر الى مفعوله والفاعل محذوف أي بأن سألك نعجتك والى نعاجه متعلقان بمحذوف تقديره ليضمها. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الواو عاطفة ويجوز أن تكون حالية وإن واسمها ومن الخلطاء نعت لكثيرا واللام المزحلقة ويبغي بعضهم فعل مضارع وفاعل وعلى بعض متعلقان بيبغي. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى متصل وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به والواو حالية وقليل خبر مقدم وما زائدة لتأكيد القلة وهم مبتدأ مؤخر.


(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) عطف على محذوف أي قال الملكان قضى الرجل على نفسه فتنبه. وظن داود فعل وفاعل وانما كافة ومكفوفة وهي مع مدخولها سدت مسد مفعولي وفتناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ، فاستغفر عطف على وظن وربه مفعول به وخر عطف أيضا والفاعل مستتر تقديره هو وراكعا حال وأناب عطف أيضا. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) عطف أيضا وغفرنا فعل وفاعل وله متعلقان بغفرنا وذلك مفعول به أي ذلك الذنب ، وان الواو عاطفة وأن حرف مشبه بالفعل وله خبر مقدم وعندنا ظرف متعلق بمحذوف في محل نصب على الحال واللام المزحلقة وزلفى اسم إن وحسن مآب عطف على زلفى.

البلاغة :

في قوله «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة» الآية كناية عن المرأة فقد كانوا يكنون عن المرأة بالنعجة والشاة في نحو قول عنترة :

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت علي وليتها لم تحرم

وإنما ذكر امرأة أبيه وكان يهواها وقيل بل كانت جاريته فلذلك حرمها على نفسه وهذه الكناية تتمشى مع القول بأن القصة جارية مجرى التمثيل ، وسنورد خلاصتها مع القصة الخرافية الموضوعة تحريرا للأذهان من الأساطير التي تتنافى مع طهارة الأنبياء ونزاهتهم.

القصة كما يرويها المفسرون : كان أهل زمان داود يسأل بعضهم بعضا النزول له عن امرأته


إذا أعجبته فيتزوجها ، وقد روي مثله عن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك فوقعت عين داود على امرأة أوريا فأعجبته فسأله إيثاره بها ليتزوجها فاستحيا منه فنزل عنها فتزوجها وأولدها سليمان فقيل له مع كثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها وكان الأفضل قهر الهوى ، وقيل خطبها أوريا ثم خطبها داود فرغب إليه أهلها فاندرج في الخاطب على خطبة أخيه.

وأما ما يذكر من أن داود تمنى منزلة آبائه فقيل له أنهم ابتلوا فصبروا فسأل الابتلاء ليصبر فقيل له انك تبتلى يوم كذا فاحترس ذلك اليوم وأغلق عليه محرابه فتمثل له الشيطان في صورة حمامة ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت فتبعها فرأى امرأة جميلة قد نقضت شعرها فكتب الى أيوب بن حوريا صاحب بعث البلقاء أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت وكان المتقدم يحرم عليه الرجوع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد فقدم فسلم فأمر بتقديمه مرة أخرى وثالثة فقتل فلم يحزن عليه كما يحزن على الشهداء وتزوج امرأته المذكورة فهذه الرواية مما يقبح الحديث به عن متسم بصلاح من آحاد المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء.

وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال : من حدثكم بقصة داود كما يرويها القصاص جلدته مائة وستين حدّ الفرية مضاعفا.

وروي أن عمر بن عبد العزيز حدثه رجل بذلك بحضرة عالم محقق فكذب الحديث وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فالتماس خلافها فرية وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا لنبيه فما ينبغي لك إظهار ما ستره الله فقال عمر بن عبد العزيز : استماعي الى هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.


قال الزمخشري : والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله أن قصته ليست إلا طلبه الى زوج المرأة أن ينزل له عنها فقط ثم نبه الزمخشري على مجيء الإنكار على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح وذلك أن التعريض داع الى التأمل والتنبيه الى وجه الخطأ مع ما فيه من اجتناب المجاهرة في الإنكار والتوبيخ وألقاه بطريق التمثيل ليستقبح ذلك من غيره فيجعله مقياسا لاستقباح ذلك من نفسه مع البقاء على الحشمة كما أوصى بذلك في سياسة الوالد لولده إذا حصلت منه هنة منكرة قال : وجاء ذلك على وجه التحاكم ليحكم بقوله لقد ظلمك فتقوم الحجة عليه محكمة.

وقال : وقوله وهل أتاك جاء على وجه الاستفهام تنبيها على أن هذه القصة قصة عجيبة من حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد وتشويقا الى سماعها أيضا.

وقال في الخطاب يحتمل أن يكون من المخاطبة ومعناه أتاني بما لم أقدر على ردّه من الجدال ويحتمل أن يكون من الخطبة مفاعلة أي خطبت فخطب على خطبتي فغلبني والمفاعلة لأن الخطبة صدرت عنهما جميعا.

وقال في ذكر النعاج إنها تمثيل فكان تحاكمهم تمثيلا وكلامهم أيضا تمثيلا لأنه أبلغ لما تقدم وللتنبيه على أن هذا أمر يستحيا من التصريح وأنه مما يكنى عنه لسماجة الإفصاح به وللستر على داود عليه السلام ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا برجل له نعجة ولخليطه تسع وتسعون فأراد أن يتمها مائة بالنعجة المذكورة فإن قلت طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة فإن كان من الخطبة فما وجهه؟ قال الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة


كما استعاروا لها الشاة في قوله : يا شاة ما قنص لمن حلت له ... البيت ... قال : والفرق بين التمثيل والاستعارة انه على التمثيل يكون الذي سبق الى فهم داود عليه السلام أن التحاكم على ظاهره وهو التخاصم في النعاج التي هي البهائم ثم انتقل بواسطة التنبيه الى فهم انه تمثيل لحاله وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية ثم استشعر أنه المراد بذلك.

قلت : ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري والثاني معسر وما له إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها وفزع داود وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه الى الظلم قبل مسألته.

قلت : إنما قصد هذا القائل بما قال تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب الى العجلة في نسبة الظلم الى المدعى عليه لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون عليه الباعث عليه الشهوة والهوى ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام : «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى» فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس.

وعبارة أبي حيان : «والظاهر ابقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ولا يكنى بها عن المرأة ولا ضرورة تدعو الى ذلك


لأن ذلك الإخبار كان صادرا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة فمثلوا بقصة رجل له نعجة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة الماء فطمع في نعجة خليطه وأراد انتزاعها منه وحاجّه في ذلك محاجّة حريص على بلوغ مراده ويدل على ذلك قوله : وان كثيرا من الخلطاء ، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد» الى أن يقول : «وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه ونحن كما قال الشاعر :

ونؤثر حكم العقل في كل شبهة

إذا آثر الاخبار جلاس قصاص

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))


الاعراب :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية ما خوطب به داود بعد ما تقدم ، ولك أن تقدر قولا محذوفا معطوفا على قوله غفرنا أو حال من فاعل غفرنا أي وقلنا أو قائلين ، ويا حرف نداء وداود منادى مفرد علم مبني على الضم وإن واسمها وجملة جعلناك خبرها وجعلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وخليفة مفعول جعلنا الثاني وفي الأرض نعت لخليفة. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) الفاء الفصيحة واحكم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبين الناس متعلقان بقوله فاحكم وبالحق حال. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت والهوى مفعول به والفاء هي فاء السببية لوقوعها في جواب النهي ويضلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الهوى والكاف مفعول به وعن سبيل الله متعلقان بيضلك ولا مانع من جعل الفاء عاطفة ويضلك معطوف على تتبع.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) الجملة تعليلية للنهي عن اتباع الهوى وان واسمها وجملة يضلون صلة الذين وعن سبيل الله متعلقان بيضلون ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن وشديد نعت لعذاب والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي بسبب نسيانهم ويوم الحساب مفعول به لنسوا أو ظرف لقوله لهم عذاب شديد أو صفة ثانية له أي لهم عذاب شديد كائن في يوم القيامة بسبب نسيانهم.


(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) كلام مستأنف مسوق لتقرير مضمون ما تقدم من أمر البعث والحساب والجزاء. وما نافية وخلقنا فعل وفاعل والسماء مفعول به والأرض عطف على السماء وما بينهما عطف أيضا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وباطلا نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا ويجوز أن يكون حالا من فاعل خلقنا أي مبطلين أو ذوي باطل.

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ذلك اسم الاشارة مبتدأ أي خلقها باطلا وظن خبره والذين مضاف اليه وجملة كفروا صلة ، فويل : الفاء عاطفة لترتيب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وويل مبتدأ وللذين كفروا خبره وجملة كفروا صلة ومن النار صفة لويل. وفي وضع الموصول موضع ضمير هم اشعار بأنهم استحقوا النار بكفرهم. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم عاطفة منقطعة وفيها معنى الاستفهام الإنكاري ونجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن والذين آمنوا مفعول نجعل الأول وآمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا والكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب مفعول به ثان لنجعل وفي الأرض متعلقان بالمفسدين. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) عطف على ما تقدم وفي الإنكار إبطال لما يدعونه من أن الجزاء غير وارد لأنه لو صح كلامهم لاستوت عند الله حال من أصلح أو أفسد ومن اتقى أو فجر.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب وجملة أنزلناه صفة وإليك جار


ومجرور متعلقان بأنزلناه ومبارك نعت ثان ومنعه بعضهم بحجة أن النعت غير الصريح لا يتقدم على النعت الصريح فهو عندهم خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف ، وقرىء مباركا بالنصب على الحال اللازمة ، وليدبروا اللام لام التعليل ويدبروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بأنزلناه وآياته مفعول به أي ليتفكروا فيها وليذكر عطف على ليدبروا وأولوا الألباب فاعل.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))


اللغة :

(الصَّافِناتُ) : جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث وإقامة الأخرى على طرف الحافر من رجل أو يد وفي المختار : «الصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر وقد صفن الفرس من باب جلس والصافن من الناس الذي يصف قدميه وجمعه صفون» وعبارة الزمخشري «الصفون لا يكاد يكون في الهجن وإنما هو في العراب الخلّص وقيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع ما بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها».

(الْجِيادُ) جمع جواد وهو السابق وقيل جمع جيد ، وفي أدب الكاتب لابن قتيبة «ويقال للفرس عتيق وجواد وكريم ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره والسوابق من الخيل أولها السابق ثم المصلي وذلك لأن رأسه عند صلا السابق ثم الثالث والرابع كذلك الى التاسع والعاشر السّكيت ويقال أيضا السّكّيت مشددا فما جاء بعد ذلك لم يعتد به والفسكل الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل» هذا ما أورده ابن قتيبة وقد سموا الثالث المتلى لأنه يتلى الثاني وسموا الرابع التالي وسموا الخامس المرتاح وسموا السادس العاطف وسموا السابع المؤمل وسموا الثامن الحظي وسموا التاسع اللطيم.

(مَسْحاً) : المسح : القطع وفي المختار «ومسحه بالسيف قطعه» (بِالسُّوقِ) : جمع ساق ومن غريب أمر الساق أن له العديد من المعاني فأولها وهو المراد هنا أنه ما بين الكعب والركبة مؤنث وجمعه


سوق وسيقان وأسوق وساق الشجرة جذعها ، ومن معانيه ساق الحمام والغراب نباتان وساق حر ذكر القماري ويقال كشف الأمر عن ساقه أي اشتدّ وعظم وقامت الحرب على ساق أي اشتدت وولدت المرأة ثلاثة بنين على ساق واحدة أي بعضهم في إثر بعض لا جارية بينهم والحديث في هذه المادة يطول فنحيل القارئ الى المعاجم.

(رُخاءً) : لينة طيبة لا تزعزع.

(أَصابَ) : أراد وقصد وفي الكشاف «حكى الأصمعي عن العرب : أصاب الصواب ، فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقالا : هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب الله بك خيرا» وفي الأساس : «وأصاب الله تعالى بك خيرا : أراده رخاء حيث أصاب».

(الْأَصْفادِ) : الأغلال وفي القاموس «صفده يصفده من باب ضرب يصفده : شده وأوثقه كأصفده وصفّده والصفد محركة العطاء والوثاق وبلا لام بلد بالشام وككتاب ما يوثق به الأسير من قد أو قيد والأصفاد : القيود» فلا معنى لقول بعض المفسرين ردا على الجلال الذي فسر الأصفاد بالقيود إذ قال ذلك المفسر : «من المعلوم أن القيد يكون في الرجل فلا يلتئم هذا التفسير مع قوله يجمع أيديهم إلخ فلو فسر الأصفاد بالأغلال لكان أوضح». وفي المختار : «صفده شده وأوثقه من باب ضرب وكذا صفده تصفيدا والصفد بفتحتين والصفاد بالكسر ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل والأصفاد القيود واحدها صفد».


الاعراب :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبسط قصة سليمان بعد أن بسط قصة داود ووهبنا فعل ماض وفاعل ولداود متعلقان بوهبنا وسليمان مفعول ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والعبد فاعله والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ذكره أي هو وإنه أواب إن واسمها وخبرها والجملة تعليل للمدح علل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجاعا إليه بالتوبة أو مسبحا مؤوبا للتسبيح مرجعا له لأن كل مؤوب أواب. (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) إذ : يجوز أن يكون ظرفا لأواب وأن يكون العامل فيه نعم وأن يكون منصوبا بمقدر أي اذكر يا محمد وقت وقوع هذه القصة وجملة عرض في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بعرض وبالعشي متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في ذلك الوقت والصافنات نائب فاعل والجياد نعت والأولى أن يكون المفعول محذوفا أي الخيل والصافنات الجياد صفتين للخيل والظاهر أن العرض قد استهواه ، وخيل إليه أنه يستطيع الاعتماد على هذه الخيل المطهمة في جهاده العدو إرضاء لربه فشغله حينا من الوقت عن ذكر الله تعالى وكان به لهجا.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر وان واسمها وجملة أحببت خبرها وأحببت ليست جارية على معناها الأصيل وإنما هي متضمنة معنى فعل يتعدى بعن بمعنى آثرت وحب الخير مفعول به لذلك الفعل أو مفعول مطلق وقيل مفعول من أجله وعبارة السمين : حب الخير فيه


أوجه أحدها أنه مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت و «عن» على هذا بمعنى «على» والثاني أن حب مصدر على حذف الزوائد والناصب له أحببت والثالث أنه مصدر تشتهي أي حبا مثل حب الخير والرابع أنه ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعن والخامس أن أحببت بمعنى لزمت والسادس أن أحببت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الاعياء والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون حب الخير على هذا مفعولا من أجله وعن ذكر ربي متعلقان بأحببت والإضافة من إضافة المصدر الى المفعول أي عن أن أذكر ربي أو الى الفاعل أي عن أن يذكرني ربي وسيأتي المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة ، وحتى حرف غاية وجر وتوارت فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هي أي الشمس وقيل الخيل وبالحجاب متعلقان بتوارت.

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ردوها فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول قول محذوف أي قال ردوها وعلي متعلقان بردوها فطفق عطف على محذوف أي فردوها وطفق فعل ماض من أفعال الشروع وهي تعمل عمل كان واسمها ضمير مستتر تقديره هو ومسحا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يمسح مسحا والجملة خبر طفق وبالسوق متعلقان بمسحا والأعناق عطف على بالسوق وسيأتي قول للامام فخر الدين الرازي طريف جدا خالف فيه جمهرة المفسرين وهو جدير بالاعتبار فانظره في باب الفوائد.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وفتنا فعل وفاعل وسليمان مفعول به وألقينا عطف على فتنا وعلى كرسيه جار ومجرور متعلقان بألقينا وجسدا مفعول به ثم أناب عطف أيضا ولكنه بعد تراخ وسيأتي القول في فتنة سليمان ومناقشتها. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ


لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وهب فعل أمر للدعاء ولي متعلقان به وملكا مفعول به وجملة لا ينبغي صفة لملكا ولأحد متعلقان بينبغي ومن بعدي صفة لأحد.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الجملة تعليلية للدعاء بالمغفرة والهبة وان واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والوهاب خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إنك. (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من مضمون الكلام أي فاستجبنا له دعاءه وأعدنا له هذا الملك السليب وسخرنا فعل وفاعل وله متعلقان بسخرنا والريح مفعول به وجملة تجري بأمره في محل نصب على الحال من الريح ورخاء حال من الضمير في تجري وحيث ظرف متعلق بتجري أو بسخرنا وجملة أصاب في محل جر بإضافة الظرف إليها.

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) الواو حرف عطف والشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وغواص عطف على بناء.

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) وآخرين عطف على كل بناء أدخل معه في حكم البدل وهو بدل الكل من الكل ومقرنين نعت لآخرين أي قرن بعضهم مع بعض في الأصفاد. (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الجملة مقول قول محذوف أي وقلنا له ، وهذا مبتدأ وعطاؤنا خبر فامنن الفاء الفصيحة وامنن فعل أمر أي أعط منه من شئت وأو حرف عطف للتخيير وأمسك فعل أمر معطوف على امنن وبغير حساب متعلقان بعطاؤنا أي أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وفيه إلماع الى كثرة العطاء أو متعلقان بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف نصبا على الحال مما تقدم أي حال كونك غير محاسب عليه لأنه يتعالى عن الحساب والضبط. (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) تقدم إعراب مثله كثيرا.


الفوائد :

القول في هذه الآيات وفي فتنة سليمان بالخيل والجياد لا يتسع له صدر هذا الكتاب وهو خارج عن نطاقه ولكننا سنحاول الالماع الى هذه الفتنة وما قيل فيها وما نسج حولها من أكاذيب وأضاليل لفّقتها اليهودية الضالعة مع الأهواء ، وقبل أن نشرع في ذلك ننقل فصلا للإمام فخر الدين الرازي أطاح بكل الأضاليل التي لابست هذا القصص الموشى بنسج الخيال قال :«التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما انه كذلك في ديننا ثم ان سليمان عليه السلام احتاج الى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر باجرائها وذكر أنني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله : عن ذكر ربي ثم انه عليه الصلاة والسلام أمر باعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله : ردوها علي فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور : الأول تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو ، الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ الى أنه يباشر الأمور بنفسه ، الثالث أنه كان أعلم الناس بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، فهذا التفسير الذي ذكرنا ينطبق على لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل : فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه؟ فنقول لنا هاهنا مقامان : المقام الأول أن ندعي أن لفظ الآية


لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه والمقام الثاني أن يقال :هب أن لفظ الآية لا يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وان الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات».

أسطورة خاتم سليمان :

هذا وما يروى عن فتنة سليمان من حديث الخاتم والشياطين وعبادة الوثن في بيت سليمان فقد أبي العلماء المحققون قبوله وقالوا انه من نسج خيال اليهود ، فقد روت الأساطير أن سليمان بلغه خبر صيدون وهذه مدينة في بعض الجزر وان بها ملكا عظيم الشأن معتصما بالبحر لا يقدر عليه أحد فخرج اليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له من أحسن الناس وجها فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقا دمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن إبان حياته فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده الى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا متضرعا وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل عليها للطهارة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان المارد الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر ، على صورة سليمان فقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس ولما أتى سليمان لطلب الخاتم أنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف فإذا قال


أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد الى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن : ما يدع امرأة منّا في دمها ولا يغتسل من جنابة ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا ورجع اليه ملكه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فأتوه به فأدخله في جوف صخرة وسد عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف في البحر الى آخر تلك الأسطورة التي تشبه ما يصوره خيال شهر زاد في ألف ليلة وليلة من حكايات الجن وأساطير القماقم وغيرها وما أجمل ما يقوله القاضي عياض في هذا الصدد : «لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه».

والذي عليه علماء الإسلام أن سبب فتنته ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس مجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه : قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن امرأة إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الله الذي نفسي في يده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا» قال الزمخشري «وهذا ونحوه مما لا بأس به» بقي قوله : «وألقينا على كرسيه جسدا» ما هو؟ ما حقيقته؟ إن الذين يروون الأسطورة على علاتها كالجلال وغيره من أكابر العلماء يقولون : إنه الجني صخر والذين ينكرون الأسطورة يحارون في الجسد الذي ألقي


على كرسيه فتارة يقولون : انه الشق الذي ولدته المرأة قالوا :«والشق هو الجسد الذي القي على كرسيه حين عرض عليه وهو عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل : نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه ، وقيل : إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذ ألقي الولد ميتا على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشياطين حيث لم يتوكل عليه في ذلك فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل : «وألقينا على كرسيه جسدا» إلخ ...».

على أن المسألة ليست مما يمكن البت فيه أو الترجيح بالرأي وإنما هي مسائل تاريخية تضاربت فيها الأقوال والله أعلم.

المراد بالخير :

واختلف العلماء والمفسرون أيضا في المراد بالخير بقوله :«إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي» الآية فقال قوم هو المال مستدلين بقوله تعالى «إن ترك خيرا» أي مالا وقوله «إنه لحب الخير لشديد» وقيل هو مجاز والمراد به الخيل التي شغلته وأنسته ذكر ربه أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخبر بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقال أيضا في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم : «ما وصف لي رجل فرأيته


إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل وسماه زيد الخير» وفي القرطبي :«يعني بالخير الخيل والعرب تسميها كذلك ويعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت ، قال الفراء : الخير في كلام العرب والخيل واحد».

ومن الكلام البليغ الذي رمق الشعراء سماءه قوله تعالى :«هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» فقد كان سليمان يقرن مردة الشياطين بعضهم في بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد وعن السدي كان يجمع أيديهم الى أعناقهم في الجوامع ، والصفد القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي ابن أبي طالب : «من برّك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك» وقال أبو تمام الطائي من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري :

همي معلقة عليك رقابها

مغلولة إن العطاء إسار

وتبعه أبو الطيب فقال من قصيدة يمدح بها سيف الدولة :

وقيدت نفسي في ذراك محبة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))


اللغة :

(بِنُصْبٍ) : النصب بضم فسكون وبفتح فسكون وبضمتين الداء والبلاء قيل جمع نصب كاسد وأسد وقيل هو لغة في النصب وقد تقدم كلام كثير في هذه المادة.

(ضِغْثاً) : حزمة من حشيش وقضبان وفي القاموس : «والضغث بالكسر قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس واضطعثه : احتطبه وأضغاث أحلام رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها (وقد تقدم القول فيها) والتضغيث ما بلّ الأرض والنبات من المطر» وفي المثل «ضغث على إباله» والإبالة بالتشديد الحزمة من الحشيش والحطب ومعناه بلية على أخرى ويضرب أيضا مثلا للرجل يحمل صاحبه المكروه ثم يزيده منه.

الاعراب :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) عطف على اذكر عبدنا داود ولم يذكر ذلك في قصة سليمان لكمال الاتصال بين سليمان وداود كأن قصتهما قصة واحدة. واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعبدنا مفعول اذكر وأيوب بدل أو عطف بيان لعبدنا وإذ الظرف بدل اشتمال من أيوب وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على داود وربه مفعول به.

(أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأني مسني الشيطان حكاية لكلامه الذي نادى ربه به بعبارته وإلا لقيل انه مسه ، ومسني الشيطان فعل ماض ومفعول به


مقدم وفاعل مؤخر وبنصب متعلقان بمسني وعذاب عطف على نصب وسيأتي سر إسناد المس الى الشيطان مع عصمة الأنبياء عن مس الشيطان إياهم وتسلطه عليهم في باب الفوائد كما يأتي فيه ما ذكر من سبب بلائه.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) كلام مقول قول محذوف أي وقيل له ، واركض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومعنى اركض اضرب وبرجلك جار ومجرور متعلقان باركض ومفعول اركض محذوف أي الأرض وفي معاجم اللغة : «ركض الأرض والثوب ضربهما برجله» أي فهو متعد بهذا المعنى ، وهذا مبتدأ ومغتسل خبر وهو اسم مكان للماء الذي يغتسل به سمي الماء باسم مكانه مجازا علاقته المحلية وبارد صفة لمغتسل وشراب عطف. (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) عطف على ما تقدم مما اقتضاه المقام كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر ومسحنا عنه ما ألمّ به من أوصاب. ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا وأهله مفعول به ومثلهم عطف على أهله والظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا معهم ورحمة مفعول من أجله ومنّا صفة لرحمة وذكرى عطف على رحمة أي ان الهبة كانت للرحمة له وللتذاكير لأولي الألباب ولأولي نعت لذكرى والألباب مضاف إليه.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وخذ عطف على ما تقدم وبيدك متعلقان بخذ وضغثا مفعول به ، فاضرب عطف على خذ وبه متعلقان باضرب والمفعول محذوف أي امرأتك ولا تحنث عطف على اضرب ولا ناهية وتحنت فعل مضارع مجزوم بلا وسيأتي القول في ضرب امرأته في باب الفوائد. (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)


إن واسمها وجملة وجدناه فعل وفاعل ومفعول به أول وصابرا مفعول به ثان ونعم العبد فعل وفاعل والمخصوص بالمدح محذوف للعلم به أي هو وإنه أواب إن واسمها وخبرها والجملة تعليل لمدحه.

الفوائد :

إنما أسند ما مسّه من نصب وعذاب الى الشيطان مع انه من البداءة الأولية أن الشيطان لا يسلط على الأنبياء تأدبا مع الله لأن الشيطان كان يوسوس اليه ويغريه على الكراهة والجزع ، وذكر في سبب بلاء أيوب أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه وقيل كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه وقيل أعجب بكثرة ماله ، أما قصة ضرب امرأته فقد كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذ برأ وذلك لا بطائها عليه يوما.

وفي القرطبي : «وفي سبب حلفه أربعة أقوال :

أحدها : ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته الى مداواة أيوب فقال أداويه على أنه إذا برىء يقول أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه ، قالت نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها وقال : ويحك ذلك الشيطان.

ثانيها : ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها.

ثالثها : ما حكاه يحيى بن سلام وغيره أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة.


رابعها : أنها باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله الى أيوب وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام فلهذا حلف ليضربنها فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها بها ضربة واحدة».

وقصة صبر أيوب تدخل في حيز أغراض القصص في القرآن ، وأسمى أغراضها إنشاء العقيدة الدينية الخاصة المجردة وموطن هذه العقيدة الخالدة هو الضمير والوجدان فلم يكن الداعي الى الاستمساك بالصبر والاعتصام به مجردا لقداسته الدينية ولكن اتساع الآفاق النفسية وانفتاح منافذ المعرفة أمام النفس.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨))

الاعراب :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الواو عاطفة اذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي اذكر يا محمد صبرهم على ما أصابهم وثباتهم على عقائدهم وتأسّ بهم وعبادنا مفعول به وإبراهيم بدل أو عطف بيان واسحق ويعقوب عطف على ابراهيم وأولي الأيد أي أصحاب الأيدي مفعول به سيأتي القول مسهبا في معنى أولي الأيد في باب البلاغة والأبصار عطف على الأيد.


(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) الجملة تعليلية لما وصفوا به من علو الرتبة وسموها بالعلم والعمل ، وان واسمها وجملة أخلصناهم خبر أنا وبخالصة متعلقان بأخلصناهم والباء إما للسببية إن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خالصين وإما للتعدية إن كان أخلصناهم بمعنى خصصناهم وخالصة صفة لموصوف محذوف أي بخصلة خالصة وذكرى الدار يجوز فيها أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أو بدل من خالصة وإذا اعتبرت خالصة مقدرا بمعنى الإخلاص فتكون ذكرى مفعولا به لخالصة وإذا كانت مصدرا بمعنى الخلوص فتكون ذكرى فاعلا لها فقد تمت لها أربعة أوجه وأما إضافة ذكرى الى الدار فمن إضافة المصدر إلى المفعول أي ذكرهم الدار الآخرة وهناك قراءة متعددة يرجع إليها في المطولات.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) وانهم ان واسمها وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال ولمن اللام المزحلقة ومن المصطفين خبر إنهم والأخيار صفة. (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) واذكر عطف على ما تقدم واذكر إسماعيل فعل وفاعل مستتر ومفعول به واليسع وذا الكفل معطوفان على إسماعيل وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومن الأخيار خبر.

البلاغة :

الكناية في قوله «أولي الأيد والأبصار» وهي كناية عن العمل الصالح قال الزمخشري «أولي الأعمال والفكر كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في الله ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم


والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم» وفيه أيضا فن التعريض بأن من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله خليق بالتوبيخ وأسوأ المذام ، والأيدي جمع يد وهي الجارحة فالكناية بها لأن جميع الأعمال تزاول بها وإذا كانت جمعا ليد بمعنى النعمة فهي مجاز مرسل علاقته السببية وقد تقدم بحث ذلك لأن اليد هي سبب النعمة وإنما حذفت الياء في خط المصحف اجتزاء عنها بالكسرة وفسر بعضهم الأيد بمعنى القوة وهي وإن كانت جائزة من حيث اللغة إلا أن المقام يضعف استعمالها بهذا المعنى ، قال الزمخشري «وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير ممكن».

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠))


اللغة :

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم.

(أَتْرابٌ) : أسنانهن واحدة ، سمين بذلك كأن التراب مسهن في وقت واحد ويقول البيضاوي «أتراب لأزواجهن لدات لهم أي مساويات لأزواجهم في السن فإن التحاب بين الأقران أثبت ورجح الزمخشري أن يكون التسلوي بينهن دون أزواجهن وفي القاموس :«والترب بالكسر اللدة والسن ومن ولد معك وهي تربي وتاربتها :صارت تربها» قال عمر بن أبي ربيعة :

أبرزوها مثل المهاة تهادى

من خمس كواعب أتراب

وقد نظم بعضهم معاني هذه المادة فقال :

وضع تراب فوق صك ترب

ضرب ترائب كذا والتّرب

مثلك سنا والتراب التّرب

ترائب الشخص عظام الصدر

ومصدر لترب الشيء التّرب

وجمع ترب الشخص في العمر التّرب


وجمع تربة بضم التّرب

أي قطعة من التراب فادر

(وَغَسَّاقٌ) : ما يسيل من صديد أهل النار وفي القاموس :«وغسق الجرح سال منه ماء أصفر» وقيل الحميم يحرق بحرّه والغساق يحرق ببرده.

الاعراب :

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) كلام مستأنف مسوق للإيذان بانتهاء ما تقدم من قصص والشروع في موضوع آخر. وهذا مبتدأ وذكر خبر وإن الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل وللمتقين خبرها المقدم واللام المزحلقة وحسن مآب اسمها المؤخر. (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) جنات عدن بدل أو عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال من جنات عدن والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ولهم متعلقان بمفتحة والأبواب نائب فاعل لمفتحة لأنه اسم مفعول وقال الزمخشري في صدد إعراب هذه الآية : «ومفتحة حال والعامل فيها ما في للمتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال وقرىء جنات عدن مفتحة بالرفع على أن جنات عدن مبتدأ ومفتحة خبره أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف أي هو جنات عدن هي مفتحة لهم».

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) متكئين حال من الهاء في لهم والعامل فيها مفتحة وفيها متعلقان بمتكئين وجملة


يدعو إما مستأنفة لبيان حالهم فيها ويجوز أن تكون حالية مما ذكر وفيها حال من فاعل يدعون أي حال كونهم فيها وبفاكهة متعلقان بيدعون والاقتصار على الفاكهة يفيد الإيذان بأن مطاعمهم هناك ليست للتغذي وإقامة الجسم ولكن لمحض اللذة والتفكه وكثيرة صفة وشراب عطف على فاكهة. (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) الواو عاطفة والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر وأتراب صفة لقاصرات. (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) اسم الاشارة مبتدأ وما خبر وجملة توعدون صلة وليوم الحساب متعلقان بتوعدون واللام للتعليل أي لأجل يوم الحساب وأرى انه يجوز اعراب ما بدلا من اسم الإشارة وليوم الحساب هو الخبر ولعله أولى.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) إن واسمها واللام المزحلقة ورزقنا خبر إن وما نافية حجازية أو تميمية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونفاد اسم مجرور لفظا بمن في محل رفع اسم ما المؤخر أو مبتدأ مؤخر.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) هذا مبتدأ محذوف الخبر أو خبر لمبتدأ محذوف والكلام مستأنف وقد تقدم نظيره قريبا ، قال ابن الأثير :«هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو خير من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام الى كلام آخر» والواو عاطفة وإن حرف مشبه بالفعل وللطاغين خبرها المقدم واللام المزحلقة وشر مآب اسم إن المؤخر. (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) بدل من شر مآب أو عطف بيان له وجملة يصلونها حالية وهو مفعول مضارع والواو فاعل والهاء مفعول به ولك أن تعرب جهنم مفعولا بفعل محذوف دل عليه يصلونها والفاء الفصيحة أي إن أردت أن تعلم حقيقة جهنم فهي بئس المهاد وبئس فعل جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل والمخصوص محذوف


تقديره هي. (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) هذا مبتدأ وحميم وغساق خبراه وجملة فليذوقوه معترضة والفاء اعتراضية واللام لام الأمر ويذوقوه فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والواو فاعل والهاء مفعول به وقد اضطربت أقوال المعربين في هذه الآية كثيرا وفيما يلي ما قاله أبو البقاء :«هذا هو مبتدأ وفي الخبر وجهان أحدهما فليذوقوه مثل قولك زيد اضربه وقال قوم هذا ضعيف من أجل الفاء وليست في معنى الجواب كالتي في قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا ، فأما حميم على هخا الوجه فيجوز أن يكون بدلا من هذا وأن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو حميم وأن يكون خبرا ثانيا والوجه الثاني أن يكون حميم خبر هذا وفليذوقوه معترض بينهما وقيل هذا في موضع نصب أي فليذوقوه هذا ثم استأنف فقال حميم أي هو حميم وأما غساق فيقرأ بالتشديد مثل كفار وصبار وبالتخفيف اسم للمصدر أي ذو غسق أو يكون فعال بمعنى فاعل».

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) وآخر عطف على حميم وغساق ومن شكله نعت له وأزواج خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو صفة للثلاثة.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم عند دخولهم النار وهذا مبتدأ وفوج خبر ومقتحم صفة لفوج ومعكم ظرف متعلق بمحذوف صفة ثانية لفوج أو حال من الضمير من مقتحم أو من فوج لأنه وصف ولا نافية ومرحبا منصوب على المصدر وبهم متعلقان بمرحبا وفي الجملة المنفية وجهان أحدهما أنها مستأنفة سيقت للدعاء عليهم بضيق المكان أو


حالية أي هذا فوج مقتحم مقولا لهم لا مرحبا بهم وفي القرطبي : «فقالت السادة لا مرحبا بهم أي لا اتسعت منازلهم في النار والرحب السعة ومنه رحبة المجد وغيره وهو بمعنى الدعاء ولذلك نصب» وقال أبو عبيدة : العرب تقول لا مرحبا بك أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت وجملة انهم صالو النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم وان واسمها وصالوا النار خبرها.

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود على الاتباع وبل حرف إضراب وأنتم مبتدأ ولا مرحبا مقول قول محذوف هو الخبر أي يقال لكم ، وأنتم مبتدأ وجملة قدمتموه خبره وقدمتموه فعل ماض والتاء فاعل والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع ضمة الميم والهاء مفعول به ولنا جار ومجرور متعلقان بقدمتموه ، فبئس الفاء عاطفة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والقرار فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي النار.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦))


الاعراب :

(قالُوا : رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) قالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ومن اسم موصول مبتدأ وجملة قدّم خبر والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وجملة فزده خبر والأولى أن يكون من مفعولا لفعل محذوف يفسره ما بعده أي فزد من قدّم او الهاء مفعول به أول وعذابا مفعول به ثان وضعفا نعت لعذاب أي مضاعفا وفي النار ظرف لزده أو حال من الهاء أي فزده كائنا في النار أو نعت ثان لعذابا. (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود على كفار مكة كأبي جهل وأمية بن اخلف وغيرهما ، وما اسم استفهام مبتدأ ولنا متعلقان بمحذوف خبر وجملة لا نرى حالية وفاعل نرى ضمير مستتر تقديره نحن ورجالا مفعول به وأرادوا بهم فقراء المسلمين وكان واسمها وجملة كنّا صفة لرجالا وجملة نعدهم خبر كنّا أي نحسبهم في الدنيا ومن الأشرار متعلقان بنعدهم.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها واتخذناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وسخريا مفعول به ثان كأنهم أنكروا على أنفسهم ما كانوا يتخذونه في الدنيا وسخريا يقرأ بكسر السين وضمها والياء للنسب فالسخري أقوى من السخر كما قيل في الخصوص خصوصية للدلالة على قوة ذلك ، فافهمه فإنه جيد ، وأم حرف عطف متصل بقوله مالنا وزاغت عنهم الأبصار فعل وفاعل وعنهم متعلقان بزاغت فلم نرهم ومنهم عمار بن ياسر وبلال وصهيب وسلمان وجملة اتخذناهم مستأنفة ، ونرى من المفيد أن ننقل عبارة الزمخشري قال :


«أم زاغت عنهم الأبصار : له وجهان من الاتصال أحدهما أن يتصل بقوله ما لنا أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل زاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا انه خفي عليهم مكانهم والوجه الثاني أن يتصل باتخذناهم سخريا إما أن تكون أم متصلة على معنى أي الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم والتحقير وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم ، وعن الحسن : كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم ، وإما أن تكون منقطعة كقولك : إنها الإبل أم شاء ، وأزيد عندك عمرو».

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) إن واسمها أي الذي حكيناه عنهم واللام المزحلقة وحق خبر وتخاصم أهل النار بدل من حق أو خبر لمبتدأ محذوف وجملة المبتدأ المحذوف وخبره مفسرة لاسم الاشارة وسيأتي معنى التخاصم في باب البلاغة. (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ومنذر خبر والواو حرف عطف وما نافية ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا وإلا أداة حصر والله خبر والواحد القهار صفتان لله. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) رب نعت أو بدل وما بينهما عطف على السموات والأرض والعزيز الغفار نعتان أيضا.

البلاغة :

١ ـ في قوله «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» تشبيه تقاولهم وما يدور بينهم من حوار ويتبادلونه من سؤال وجواب بما


يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك لأن قول الرؤساء لتابعيهم لا مرحبا بهم وقول التابعين بل أنتم لا مرحبا بكم لا يعدو الخصومة التي يتراشقها المتخاصمون.

٢ ـ فائدة الحرف الزائد في كلام العرب إما معنوية وإما لفظية فالمعنوية تأكيد المعنى الثابت وتقويته وأما اللفظية فتزيين اللفظ وكونه بزيادتها أفصح أو كون الكلمة أو الكلام بها يصير مستقيم الوزن أو حسن السجع أو غير ذلك ولا يجوز خلو الزيادة من اللفظية والمعنوية معا وإلا لعدت عبثا وقد تجتمع الفائدتان في حرف وقد تنفرد إحداهما عن الأخرى.

الفوائد :

تغييرات النسبة :

ذكرنا في الإعراب أن السخري أقوى من السخر والخصوصية أقوى من الخصوص ونذكر هنا أن النسب يحدث في الاسم تغييرات :

١ ـ زيادة ياء النسب في آخره وهذه الياء المشددة حرف بمنزلة تاء التأنيث لا موضع لها من الإعراب.

٢ ـ كسر ما قبلها.

٣ ـ جعل الياء منتهى الاسم.

وإنما تطرق التغيير في اللفظ لتغيير المعنى ، ألا ترى أنك إذا نسبت الى علم استحال نكرة بحيث تدخله أداة التعريف كالتثنية


والجمع وصار صفة بمنزلة المشتق بعد الجود ويرفع الاسم بعده على الفاعلية أما مظهرا أو مضمرا تقول مررت برجل تميمي أبوه وآخر هاشمي جده ، وإذا نسبت الى المصدر زدته قوة كما في قولك سخريا.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨))

الاعراب :

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) قل فعل وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد وتكرير القول لتأكيد النبأ وتضخيمه ، وهو مبتدأ ونبأ خبر وعظيم صفة. (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) الجملة نعت ثان للنبأ ويجوز أن تجعلها مستأنفة للفت الانتباه الى فداحة ما يرتكبونه من جريرة الإعراض عن


ذلك النبأ وهو القرآن وما حفل به من شرائع وتعاليم وأنتم مبتدأ وعنه متعلقان بمعرضون ومعرضون خبر أنتم. (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد أنه نبأ عظيم وارد من الله تعالى وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولي خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وعلم مجرور بمن لفظا في محل رفع اسم كان المؤخر وبالملا متعلقان بعلم على تقدير مضاف أي بأنباء الملا واختصامهم والأعلى صفة للملا وإذ ظرف ماض متعلق بالمصدر أيضا وقال الزمخشري : «بمحذوف لأن المعنى ما كان لي بكلام الملا الأعلى وقت اختصامهم» وجملة يختصمون في محل جر بإضافة الظرف إليها وقيل الضمير في يختصمون عائد على قريش أي يختصمون في أمر الملا الأعلى لأن ذلك أمر تنوء العقول دون معرفته والمدار في الإحاطة به على الوحي.

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية ويوحى فعل مضارع مبني للمجهول وإلي متعلق بيوحى وإلا أداة حصر وانما كافة ومكفوفة وقد سدت مع مدخولها مسد نائب فاعل يوحى أي ما يوحى إلى إلا الانذار والقصر اضافي وقد تكرر هنا وقد تقدم بحث القصر وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين نعت. (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إذ بدل من إذ يختصمون ويجوز أن تنصبها بأذكر محذوفا وجملة قال ربك في محل جر بإضافة الظرف إليها وإن وما بعدها مقول قول وإن واسمها وخالق خبرها وبشرا مفعول به لخالق ومن طين نعت لبشرا وقد أغنى بهذا الوصف عن النعوت البشرية كلها وتلك هي براعة الإيجاز. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن


معنى الشرط وسويته فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفخت عطف على سويته وفيه متعلقان بنفخت وكذلك قوله من روحي والمعنى وأحييته وجعلته حساسا ، فقعوا الفاء رابطة لجواب أذا وقعوا فعل أمر وفاعل وله متعلقان بساجدين وساجدين حال والمراد بالسجود التكرمة والاحترام.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الفاء عاطفة وسجد الملائكة فعل وفاعل وكلهم تأكيد أول وأجمعون تأكيد ثان ، قال الزمخشري :«كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات». (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) إلا أداة استثناء وإبليس مستثنى متصل أو منقطع وذهب الزمخشري مذهبا غريبا قال : «فإن قلت كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجن؟ قلت قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فسجد الملائكة ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا وجملة استكبر مستأنفة لبيان كيفية امتناعه من السجود وكان عطف على استكبر واسم كان مستتر تقديره هو يعود على إبليس ومن الكافرين خبر كان (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) قال فعل ماض وفاعله يعود على الله تعالى ويا حرف نداء وإبليس منادى مفرد علم مبني على الضم وما اسم استفهام مبتدأ وجملة منعك خبر وأن وما في حيزها منصوب على أنه مفعول ثان لمنع وأن حرف مصدري ونصب وتسجد فعل مضارع منصوب بأن وفاعله مستتر تقديره أنت واللام حرف جر وما اسم موصول مجرور باللام وجملة خلقت صلة والعائد محذوف أي خلقته وبيدي متعلقان بخلقت.


(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها واستكبرت فعل وفاعل وأم عاطفة متصلة ولا يمنع من ذلك اختلاف الفعلين ، قال سيبويه :«وتقول أضربت زيدا أم قتلته فالابتداء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أي ذلك كان؟» وكنت كان واسمها ومن العالين خبرها أي من المتكبرين. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أنا مبتدأ وخير خبر ومنه متعلقان بخير والجملة مقول القول وخلقتني فعل وفاعل ومفعول به ومن نار متعلقان بخلقتني وخلقته من طين عطف على خلقتني من نار. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) قال فعل ماض والفاعل هو يعود على الله تعالى ، فاخرج الفاء الفصيحة واخرج فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومنها متعلقان باخرج ، فإنك الفاء تعليل للأمر بالطرد وان واسمها ورجيم خبرها. (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) عطف على فإنك رجيم وان حرف مشبه بالفعل وعليك خبرها المقدم ولعنتي اسمها المؤخر والى يوم الدين متعلقان بمحذوف حال أي مستمرة ومعنى الانتهاء استمرارها في الدنيا حتى إذا كان يوم الدين تضاعفت عليه حتى لتكاد الأولى تنسى فكأنها انتهت لتستأنف من جديد.

البلاغة :

في قوله «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي» تغليب لليدين على غيرهما من الجوارح التي تباشر بها الأعمال لأن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه حتى قيل في عمل القلب هو مما عملت يداك على المجاز


وحتى قيل في المثل «يداك أو كتا وفوك نفخ» وقد أبى فريق من أهل السنة أن يكون من المجاز كالشيخ أبي الحسن الأشعري واحتجوا بأن نعم الله لا تحصى فكيف تحصر بالتثنية وهذا حق ، على أن إمام الحرمين وغيره من أهل السنة جوّزوا حملها على المجاز وأجابا عما ذكره الشيخ أبو الحسن بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة وعلى أن المراد القدرة فالتثنية تعظيم ومثل ذلك كثير في اللغة.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

الاعراب :

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قال : فعل ماض وفاعله مستتر يعود الى إبليس ، فأنظرني الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر وتقديره إذا جعلتني رجيما فأمهلني ، وانظرني فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت


والنون للوقاية والياء مفعول به والى يوم متعلقان بأنظرني وجملة يبعثون في محل جر بإضافة الظرف إليها طلب فسحة لاغواء بني آدم.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة لترتيب مضمون الجملة على الإنظار والباء حرف جر وقسم وعزتك مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف واللام واقعة في جواب القسم وأغويناهم جملة لا محل لها وأغويناهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعبادك مستثنى ومنهم حال والمخلصين نعت لعبادك (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) الفاء استئنافية والحق مبتدأ خبره محذوف تقديره قسمي أو مني أو خبر المبتدأ محذوف أي هو الحق والحق مفعول مقدم لأقول أي لا أقول إلا الحق يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر أو هو مصدر مؤكد لمضمون قوله لأملأن وجملة والحق أقول اعتراضية بين القسم وجوابه. وقد قرىء بنصب الحق الأول.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) اللام جواب للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا والجملة خبر الحق أو لا محل لها لأنها جواب قسم ولم تتمحض لجواب القسم لأنه غير نص في اليمين بخلاف لعمرك ولهذا لم يحذف الخبر ووجوبا وجهنم مفعول به ومنك متعلقان بأملأن وممن تبعك عطف على منك وجملة تبعك صلة من ومنهم حال وأجمعين تأكيد للضمير في منهم أو للكاف في منك وما عطف عليه ، قال الزمخشري : «فإن قلت أجمعين تأكيد لما ذا؟ قلت : لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم أو الكاف في منك مع من تبعك ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك أحدا منهم».


(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ما نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعليه متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أسألكم والواو عاطفة أو حالية وما نافية حجازية وأنا اسمها ومن المتكلفين خبرها أي المتصنعين المتصفين بما ليسوا من أهله حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين صفة لذكر. (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وتعلمن فعل مضارع مرفوع لأن نون التوكيد لم تباشره وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين أيضا فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة ونبأه مفعول به وبعد حين ظرف متعلق بتعلمن وعلم بمعنى عرف فهو متعد لواحد وهو نبأه ويجوز أن تكون على بابها فيكون المفعول الثاني بعد حين.


سورة الزمر

مكية وآياتها خمس وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))

الاعراب :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تنزيل مبتدأ والكتاب مضاف اليه ومن الله خبر والعزيز الحكيم نعتان ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل ومن الله متعلقان بالمصدر أو بمحذوف خبر بعد خبر أو بمحذوف حال من الكتاب. (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) ان واسمها وجملة أنزلنا خبر والجملة مستأنفة


مسوقة لبيان المنزل عليه وما يترتب عليه بعد نزوله وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وبالحق حال من الفاعل أو المفعول أي ملتبسين بالحق أو ملتبسا بالحق. (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة واعبد الله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) كلام مستأنف مقرر لما قيله وألا أداة تنبيه واستفتاح ولله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر والخالص نعت.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) والذين الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة اتخذوا صلة الموصول ومن دونه حال أو مفعول به ثان وأولياء مفعول به أول وجملة ما نعبدهم مفعول لقول محذوف هو خبر الذين أي يقولون وما نافية ونعبدهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وليقربونا اللام للتعليل ويقربونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل ونا مفعول به والى الله متعلقان بيقربونا وزلفى مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه ملاق لعامله في المعنى والتقدير ليزلفونا زلفى وأجاز أبو البقاء أن يعرب حالا مؤكدة. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ان واسمها وجملة يحكم خبرها وأجاز بعضهم أن يكون قوله إن الله يحكم بينهم خبر الذين فيكون موضع القول المضمر نصبا على الحال أي قائلين ذلك ، وبينهم ظرف متعلق بيحكم وفيما متعلقان بيحكم أيضا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبرهم والجملة الاسمية صلة ما.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) إن واسمها وجملة لا يهدي خبرها وفاعل يهدي مستتر يعود على الله ومن مفعول به وهو مبتدأ وكاذب كفار خبران له والجملة الاسمية صلة من.


الفوائد :

حروف التنبيه «ها» و «ألا» و «أما» والفرق بين «أما» و «ألا» أن «أما» للحال أو للماضي و «ألا» للاستقبال ؛ تقول : أما ان زيدا عاقل ، تريد أنه عاقل في الحال ولا تقول ألا ، وتقول ألا ان زيدا لا يخاف أي في المستقبل ولا تقول أما ، والفرق بينهما وبين «ها» أنهما لا يدخلان إلا أول الكلام على الجملة بخلاف «ها» فتدخل على الضمير وأسماء الإشارة وإن لم تكن في أول الكلام وتدخل «أما» على القسم و «ألا» كثيرا على النداء.

إذا تقرر هذا فهل تكون هنا للاستقبال مع أن كون الدين لله هو في كل زمان؟ والجواب أن المراد هنا الاستقبال بالنسبة لمن يعتنقون الدين الخالص ، على أنهما يتعاوران أي تأتي «ألا» لمجرد الاستفتاح ولا يكون التنبيه مقصودا.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))


اللغة :

(يُكَوِّرُ) : التكوير : اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها وفيه أوجه ـ كما يقول الزمخشري ـ :

١ ـ ان الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب :

تلوى الثنايا بحقويها حواشيه

لي الملاء بأبواب التفاريج

والثنايا : العقبات والحقو الخصر والحواشي الجوانب والملاء جمع ملاءة وهي الجلباب والتفاريج جمع تفراج وهو الباب الصغير والثوب من الديباج ، وأسند اللي الى الثنايا لأنها سبب الالتواء ، شبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلي الجلباب في أبواب التفاريج.

٢ ـ ان كل منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار.

٣ ـ ان هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.

الاعراب :

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لو حرف شرط غير جازم وأراد فعل ماض والله فاعل وأن وما في حيزها


مفعول أراد واللام رابطة لجواب لو واصطفى فعل ماض وفاعله هو أي الله تعالى والجملة لا محل لها ومما متعلق باصطفى وجملة يخلق صلة ما وما مفعول به وجملة يشاء صلة ما والعائد محذوف أي يشاؤه (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف تنزيه له تعالى عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه ، وهو مبتدأ والله خبره والواحد القهار نعتان الله. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) خلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال. (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة مبينة لكيفية تصرفه في السموات والأرض ، والليل مفعول به وعلى النهار متعلقان بيكور ويكور النهار على الليل عطف على مثيلتها.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض وكل مبتدأ وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى نعت لأجل وألا أداة تنبيه تصدرت الجملة لإظهار مدى الاهتمام بها ، والاعتناء بفحواها وهو مبتدأ والعزيز الغفار خبران لهو. (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) خلقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم وواحدة نعت لنفس والمراد بها آدم ثم حرف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بها في باب البلاغة وجعل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ومنها متعلقان بجعل لأنه بمعنى خلق وزوجها مفعول به. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وأنزل عطف على خلقكم ولكم متعلقان


بمحذوف حال ومن الأنعام متعلقان بأنزل وثمانية أزواج مفعول به وقد تقدم معنى الزوجين في سورة الأنعام.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) الجملة حالية أو استئنافية مبينة لكيفية خلق ما ذكر ، ويخلقكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي بطون أمهاتكم متعلقان بيخلقكم وخلقا مفعول مطلق ومن بعد خلق صفة له ويجوز أن يتعلق بيخلقكم فيكون المصدر لمجرد التأكيد ، قال البيضاوي : «أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف ، وفي ظلمات متعلقان بخلق المجرور الذي قبله ولا يجوز تعلقه بخلقا المنصوب لأنه مصدر مؤكد فلا يعمل ولا بيخلق لأنه تعلق به جار مثله ولا يتعلق حرفان متحدان لفظا ومعنى إلا بالبدلية والعطف فإن جعلت في ظلمات بدلا من في بطون أمهاتكم بدل اشتمال لأن البطون مشتملة عليها ويكون بدلا بإعادة العامل جاز ذلك وسيأتي المراد بالظلمات الثلاث في باب الفوائد. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ذلكم مبتدأ والله خبره الأول وربكم خبره الثاني وله خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر ثالث وجملة لا إله إلا هو خبر رابع وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا ، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام متعلق بمحذوف حال وتصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

البلاغة :

في قوله «ثم جعل منها زوجها» عطف «ثم» التي تفيد الترتيب مع التراخي في الوجود ، وظاهر الأمر يتنافى مع ذلك لأن خلق


حواء من آدم سابق على خلقنا منه ، وقد استشكل علماء البيان والمفسرون هذا العطف وأجابوا بأجوبة نوردها ثم ترجح ما هو أقرب إلى الرجحان ؛ قال الزمخشري : «فإن قلت ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالّا على وحدانيته وقدرته وتشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصرياه (والقصريان ضلعان يليان الترقوتين) إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها عادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع الى زيادة كونها آية فهو من التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود».

وقال غيره : «المعطوف متعلق بمعنى واحدة فثم عاطفة عليه لا على خلقكم فمعناه خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج فكانت هاهنا على بابها لتراخي الوجود».

ونرى أن كلا الوجهين مستقيم ويصح حمل العطف عليه.

وهنا وقع ابن هشام في خطأ التلاوة فأورد هذه الآية بلفظ «هو الذي خلقكم من نفس واحدة» إلخ .. وقد أوردها شاهدا على أن قوما خالفوا في معناها وهو الترتيب تمسكا بها قال : «والجواب عن الآية من خمسة أوجه : (أحدها) أن العطف على محذوف أي من نفس واحدة أنشأها ثم جعل منها زوجها. (الثاني) ان العطف على واحدة على تأويلها بالفعل أي من نفس توحدت أي انفردت ثم جعل


منها زوجها. (الثالث) ان الذرية أخرجت من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام كالذر ثم خلقت حواء من قصيراه. (الرابع) ان خلق حواء من آدم لما لم تجر عادة بمثله جيء بثم إيذانا بترتبه وتراخيه في الإعجاب وظهور القدرة لا لترتيب الزمن وتراخيه. (الخامس) ان ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم وانه يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب.

الفوائد :

أراد بقوله «في ظلمات ثلاث» ظلمة البطن ، وظلمة الرحم بفتح الراء وكسر الحاء ، والرحم بكسر الراء وسكون الحاء مؤنثة وهي مستودع الجنين في أحشاء الحبلى ، وظلمة المشيمة وهي كما في المصباح «وزان كريمة وأصلها مفعلة بسكون الفاء وكسر العين لكن ثقلت الكسرة على الياء فنقلت الى الشين وهي غشاء ولد الإنسان.

وقال ابن الأعرابي : يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف والجمع مشيم بحذف الهاء ومشايم مثل معيشة ومعايش ويقال لها من غيره السلا».

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ


نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

الاعراب :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) إن حرف شرط جازم وتكفروا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة وإن واسمها وخبرها والجملة جواب الشرط وعنكم متعلقان بغني وان تشكروا عطف على أن تكفروا ويرضه جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به بضم وسكونها وبإشباع ودونه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو حرف عطف ولا نافية وتزر فعل مضارع مرفوع ووازرة فاعل ووزر مفعول به أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى وأخرى مضاف اليه على حذف منعوت أي نفس أخرى ثم حرف عطف للتراخي والى ربكم خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف وينبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بينبئكم وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها وجملة كنتم تعملون صلة الموصول (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن واسمها وخبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم والجملة تعليل للتنبئة بالأعمال.


(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومسّ فعل ماض مبني على الفتح والإنسان مفعول به مقدم وضر مبتدأ مؤخر والمراد بالضر جميع المكاره وجملة دعا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربه مفعول به ومنيبا حال واليه متعلقان بمنيبا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ثم حرف عطف للتراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خوله في محل جر بإضافة الظرف إليها وخوله فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء مفعوله الأول ونعمة مفعوله الثاني ومنه صفة لنعمة ولك أن تعلقه بخوّله وجملة نسي لا محل لها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وما مفعول به وجملة كان صلة ما واسم كان مستتر يعود على الإنسان وجملة يدعو خبر كان وإليه متعلقان بيدعو ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويجوز في ما أن تكون مصدرية أي نسي كونه داعيا.

(وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وجعل عطف على نسي وفاعله مستتر يعود على الإنسان ولله متعلقان بمحذوف هو مفعول جعل الثاني وأندادا مفعول جعل الأول وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وقيل اللام للعاقبة وهي تتمشى مع قراءة يضل بفتح اللام وهما قراءتان سبعيتان وعن سبيله متعلقان بيضل. (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وتمتع فعل أمر أيضا وفاعل مستتر والجملة مقول القول والمقصود بالأمر التهديد وبكفرك متعلقان بتمتع وقليلا ظرف زمان أو مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف وجملة إنك من أصحاب النار تعليل للأمر بالتمتع وإن واسمها ومن أصحاب النار خبرها.


(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

اللغة :

(قانِتٌ) : قائم بوجائب الطاعات ووظائفها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الصلاة طول القنوت» وهو القيام فيها ومنه القنوت في الوتر لأنه دعاء المصلي قائما وفي القاموس : «القنوت :الطاعة والسكوت والدعاء والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام وأقنت دعا على عدوه وأطال القيام في صلاته وأدام الحج وأطال الغزو وتواضع لله تعالى وامرأة قنيت بينة القناتة قليلة الطعم وسقاء قنيت مسيّك» وقول القاموس مسيك بكسر الميم وسكون السين أي يمسك الماء.

(آناءَ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم والقصر والجمع أمعاء وفي المصباح : «الآناء على أفعال هي الأوقات وفي واحدها لغتان : إني بكسر الهمزة والقصر وإني بوزن حمل» وفي المختار : «وآناء الليل : ساعاته قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها إني وإنو يقال مضى من الليل أنيان وأنوان».


الاعراب :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أم يجوز أن تكون متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت وقد دخلت على من الموصولة فأدغمت الميم في الميم ، أو منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كغيره؟ وقرىء بالتخفيف فالهمزة للاستفهام الانكاري ، وعلى كل فمن اسم موصول مبتدأ خبره محذوف كما تقدم وهو مبتدأ وقانت خبره والجملة صلة من وآناء الليل ظرف متعلق بقانت وساجدا حال وقائما عطف عليه وجملة يحذر الآخرة حال ثالثة وجملة يرجو رحمة ربه عطف على جملة يحذر الآخرة.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هل حرف استفهام معناه الإنكار ويستوي الذين فعل مضارع وفاعل وجملة يعلمون صلة والذين لا يعلمون عطف على الذين يعلمون ، وفي هذه الآية تنزيل المتعدي منزلة القاصر ولا يقدر المفعول في قوله يعلمون لأن المقدر كالموجود أي هل يستوي من ثبتت له حقيقة العلم ومن لم تثبت له والاستفهام إنكاري أي لا يستويان لأن المقصود بيان ثبوت الفعل للفاعل لا بيان وقوعه على المفعول وإيضاح الفرق بين المنزل وغيره أن قولك فلان يعطى لبيان كونه معطيا فيكون كلاما مع من جهل أصل الإعطاء وقولك فلان يعطي الدنانير لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا لبيان كونه معطيا ويكون كلاما مع من ثبت له أصل الإعطاء لا مع من جهل إعطاء .. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة


ويتذكر فعل مضارع مرفوع وأولو الألباب فاعل والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عدم تأثير ما تقدم من قوارع وزواجر في قلوبهم لاختلال عقولهم.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة الذين والجملة مقول القول واتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل من اسم الاشارة وحسنة مبتدأ مؤخر وأرض الله مبتدأ وواسعة خبر. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الجملة تعليل لما تقدم ترغيبا في الصبر وإنما كافة ومكفوفة والصابرون نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان وبغير حساب حال من الأجر.

ولو لم يكن في الصبر إلا ما جاء في هذه الآية لكان في ذلك كفاية وفي الحديث : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» وقيل لعلي بن أبي طالب : أي شيء أقرب الى الكفر؟ قال ذو فاقة لا صبر له ، ومن كلامهم : «الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حر» وكان عبد الله بن المقفع يقول : «إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان لك فيه حيلة فلا تعجز ، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع» وما أحسن قوله : تعجز وتجزع وهذا الذي يسمى قلب البعض وهو معدود عند أرباب البديع من الجناس.


(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

الاعراب :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) إن واسمها وجملة أمرت خبرها والجملة مقول القول وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض المتعلق بأمرت ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به.

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وأمرت عطف على أمرت الأولى ولأن أكون متعلقان بأمرت أي بأن أكون فاللام بمعنى الباء واسم


أكون مستتر تقديره أنا وقيل اللام للتعليل أي لأجل أن أكون وللزمخشري تقرير مطول بهذا الصدد ننقله في باب الفوائد لأهميته وأول خبر أكون والمسلمين مضاف اليه. (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبر وفاعل أخاف مستتر تقديره أنا وإن شرطية وعصيت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فإني أخاف وعذاب يوم مفعول أخاف وعظيم صفة ليوم.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) لفظ الجلالة مفعول مقدم لأعبد وأعبد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا وديني مفعول مخلصا أي ليكون سالما من الشرك والرياء وكل ما يشوب الأعمال مما يفسدها. (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) الفاء الفصيحة واعبدوا فعل أمر الغاية منه التهديد والوعيد والواو فاعل وما مفعول به وجملة شئتم صلة ومن دونه حال. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن واسمها والذين خبرها وجملة خسروا صلة الذين وأنفسهم مفعول به وأهليهم عطف على أنفسهم ويوم القيامة ظرف لخسروا أو حال من أهليهم يعني أزواجهم وخدمهم. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ألا أداة تنبيه وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والخسران خبر هو والجملة خبر ذلك والمبين صفة للخسران ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لهم خبر مقدم ومن فوقهم حال وظلل مبتدأ مؤخر وفي الكلام إبهام سيأتي تقريره في


باب البلاغة ومن النار صفة لظلل ومن تحتهم ظلل عطف على من فوقهم ظلل. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ذلك مبتدأ أي ذلك العذاب وجملة يخوف الله به خبر وعباده مفعول يخوف ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف والفاء الفصيحة واتقون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة لما تقدم مفعول به. (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الذين مبتدأ وجملة اجتنبوا صلة والطاغوت مفعول به وقد تقدم القول فيه وأنه يطلق على الواحد والجمع وعلى المذكر والمؤنث وأن يعبدوها مصدر مؤول في محل نصب بدل اشتمال من الطاغوت أي عبادتها وسيأتي مزيد من القول في الطاغوت في باب البلاغة ولهم خبر مقدم والبشرى مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين.

(فَبَشِّرْ عِبادِ) الفاء الفصيحة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعباد مفعول به وعلامة نصبه فتحه مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف وفيه إظهار الضمير أي فبشرهم اهتماما بهم. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الذين صفة لعباد وجملة يستمعون صلة والقول مفعول به والفاء عاطفة ويتبعون عطف على يستمعون وأحسنه مفعول به. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أولئك مبتدأ والدين خبر والاشارة الى الموصوفين بما ذكر وجملة هداهم الله صلة وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل وأولو الألباب خبر هم والجملة خبر أولئك أو خبر أولئك.


البلاغة :

١ ـ التهويل :

في قوله «ألا ذلك هو الخسران المبين» تهويل رائع فقد جعل الجملة مستأنفة وصدرها بحرف التنبيه ووسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران كأنه مما تعورف أمره واشتهر هوله ووصفه بالمبين فجعل خسرانهم غاية في الفظاعة ونهاية في الشناعة.

٢ ـ المبالغة :

وفي تشبيه الشيطان بالطاغوت وجوه ثلاثة من المبالغة :

١ ـ تسميته بالمصدر كأنه نفس الطغيان.

٢ ـ بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت وهي الرحمة الواسعة والملكوت وهو الملك الواسع.

٣ ـ والشبه الثالث تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاصه بهذه التسمية.

الفوائد :

وعدناك بنقل الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري في إعراب قوله «إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأمرت لأن أكون من المسلمين» قال : «فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما


واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء ، وإذا اختلف وجها الشيء ومنعتا ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع ، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وأمرت أن أكون من المسلمين وأمرت أن أكون من المؤمنين أن أكون أول من أسلم وفي معناه أوجه : أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها وأن أكون أول الذين دعوتهم الى الإسلام إسلاما وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون وأن أفعل ما أستحق به الأولوية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب» فتأمله فإنه من غرر الأقوال.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))


اللغة :

(يَنابِيعَ) : في المختار : «نبع الماء : خرج وبابه قطع ودخل ونبع ينبع بالكسر نبعانا بفتح الباء لغة أيضا والينبوع عين الماء ومنه قوله تعالى «حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا» والجمع الينابيع» فما يقوله العامة وهو «نبع» مولّد غير معروف وإنما النبع مصدر وشجر تتخذ منه السهام والقسي يقال : قرعوا النبع بالنبع أي تلاقوا وتطاعنوا وما رأيت أصلب منه نبعا أي أشد منه.

(يَهِيجُ) : ييبس ويتم خفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب وفي المختار : «وهاج النبت يهيج هياجا بالكسر يبس» وفي المصباح : «وهاج البقل يهيج اصفر».

(حُطاماً) : فتاتا وفي المصباح «حطم الشيء حطما من باب تعب فهو حطم إذا تكسر ويقال للدابة إذا أسنت حطمة ويتعدى بالحركة يقال حطمته حطما من باب ضرب فانحطم وحطمته بالتشديد مبالغة».

الاعراب :

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء حرف عطف على محذوف يدل عليه السياق والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، ومن شرطية أو موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف فقدره


أبو البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت مخلصه حذف لدلالة أفأنت تنقذه وقدره غيره تتأسف عليه ، والهمزة الثانية للاستفهام وأعيدت لتأكيد الإنكار والفاء رابطة وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعول به وقد أوقع الظاهر موقع المضمر وهو من في النار وكأن الأصل أفأنت تنقذه ، وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعوله فالآية على هذا جملة واحدة ، واعترض بجمع الاستفهام والشرط ولا مساغ لهذا الاعتراض لأن أداة الاستفهام داخله على جملة محذوفة عطفت عليها جملة الشرط ولم تدخل على جملة الشرط وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لكن حرف عطف وإضراب بمعنى بل وليست للاستدراك لانه لم يسبقها نفي فالكلام إضراب عن موضوع الى موضوع مغاير للأول ، والذين مبتدأ وجملة اتقوا صلة وربهم مفعول به ولهم خبر مقدم وغرف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين ومبنية صفة لغرف أي بنيت بناء المنازل وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة ثانية أو حال من غرف.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) وعد الله مصدر مؤكد لفعل محذوف دل عليه قوله لهم غرف لأنه في معنى وعدهم الله ذلك ولا نافية ويخلف الله الميعاد فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل الحياة الدنيا وسرعة زوالها والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه


حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر أو مفعولها لأنها قلبية أو بصرية وان واسمها وجملة أنزل خبرها ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به ، فسلكه الفاء عاطفة وسلك فعل ماض مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى ، وينابيع ان كان بمعنى المنبع ظرف للمصدر المحذوف أي سلكه سلوكا في ينابيع فلما أقيم مقام المصدر جعل انتصابه على المصدر ، وإن كان بمعنى النابع كان انتصابه على الحال أي نابعات ، واعترض الشهاب الخفاجي على الحالية فقال «الحالية لا تخلو من الكدر لأن حقه حينئذ أن يقال من الأرض وفي الأرض على الوجهين صفة لينابيع ، قلت : ولا أرى مانعا من نصب ينابيع على التمييز على حد قوله «وفجرنا الأرض عيونا» ولم يذكره أي واحد ممن تصدوا لإعراب القرآن ، ومنطوق كلام الزمخشري يؤيد هذا الاعراب قال : «عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام» وأحجم الكثيرون عن إعراب ينابيع لدقتها ، وفي الشوكاني : «فسلكه ينابيع في الأرض : أي فأدخله وأسكنه فيها ، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع ، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع فيها الماء فهو على الوجه الثاني منصوبا بنزع الخافض ، قال مقاتل : فجعله عيونا وركايا في الأرض» (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويخرج فعل مضارع والعدول إليه عن الماضي كما يقتضيه أسلوب العطف لاستحضار الصورة وبه متعلقان بيخرج وزرعا مفعول به ومختلفا نعت لزرعا وألوانه فاعل لمختلف. (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ثم يهيج عطف على ثم يخرج فتراه الفاء حرف عطف والهاء مفعول به


ومصفرا حال لأن الرؤية بصرية. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) عطف على ما تقدم ويجعله حطاما فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وحطاما مفعول به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وذكرى اسمها المؤخر ولألي الألباب صفة لذكرى أو متعلقان بنفس الذكرى لأنها بمعنى التذكرة.

البلاغة :

في قوله «أفأنت تنقذ من في النار» مجاز مرسل علاقته السببية فقد أطلق السبب وأراد المسبب والمعنى أفأنت تهديه بدعائك له الى الايمان فتنقذه من النار.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

اللغة :

(تَقْشَعِرُّ) : اقشعر جلده : ارتعد وتقبّض وتخشن وتغير لونه فهو مقشعر ، واقشعرت السنة : أمحلت وأجدبت ، واقشعرت الأرض :


تقبضت وتجمعت إذا لم ينزل عليها المطر ، ويقال اقشعر الشعر أي قام وانتصب من فزع أو برد والمصدر الاقشعرار وقال الزمخشري :«اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا دالا على معنى زائد ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذه المادة في باب البلاغة.

الاعراب :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق ليجري مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة أي أكل الناس سواء ومن موصولة أو شرطية في محل رفع مبتدأ فعلى الأول يكون خبرها محذوفا تقديره كمن طبع على قبله وعلى الثاني يكون خبرها فعل الشرط وجوابه معا والفاء عاطفة على كل حال وهو مبتدأ وعلى نور خبر ومن ربه صفة لنور. (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الفاء رابطة وويل مبتدأ وساغ الابتداء لما فيها من معنى الدعاء بالعذاب والخسران وللقاسية خبر وقلوبهم فاعل للقاسية ومن ذكر الله متعلقان بالقاسية ومن إما للتعليل أي من أجل ذكره وقيل من بمعنى عن والمعنى غلظت عن قبول الذكر وأولئك مبتدأ وفي ضلال مبين خبره. (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) لفظ الجلالة مبتدأ ، وسيأتي سر التقديم في باب البلاغة ، وجملة نزل أحسن الحديث خبر وكتابا بدل من أحسن الحديث ويجوز أن يكون حالا منه أي قرآنا متشابها ومتشابها


نعت أول ومثاني نعت ثان ، وقد مرّ معنى هذه الكلمة وسيأتي مزيد من النكت البلاغة في باب البلاغة.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) جملة تقشعر نعت ثالث ومنه متعلقان بتقشعر وجلود الذين يخشون ربهم صلة وثم حرف عطف للتراخي وتلين جلودهم فعل مضارع وفاعل وقلوبهم عطف على جلودهم والى ذكر الله متعلقان بتلين لأنه متضمن معنى تسكن وتطمئن الى ذكر الله.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك مبتدأ وهدى الله خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة يهدي إما حال أو خبر وبه متعلقان بيهدي ومن يشاء مفعول به وجملة يشاء صلة والاشارة الى الكتاب فالجملة حال منه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم ليضلل والله فاعل والفاء رابطة وما نافية أو نافية حجازية وله خبر أو خبر هاد المقدم ومن حرف جر زائد وهاد مبتدأ مؤخر مرفوع محلا أو اسم ما مجرور لفظا وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين.

البلاغة :

١ ـ في قوله «مثاني» :

وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات وأقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ، ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب ،


وأجاز الزمخشري وجها لطيفا آخر قال : «ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ويكون منصوبا على التمييز من متشابها كما تقول رأيت رجلا حسنا شمائل والمعنى متشابهة مثانيه».

٢ ـ فائدة التكرير :

وفائدة التثنية والتكرير ترسيخ الكلام في الذهن فإن النفوس تملّ عادة من الوعظ والتنبيه وتسأم النصيحة بادىء الأمر ، ففي تكرير النصح والموعظة تعويد لها على استساغة ذلك والعمل به وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرر عليهم ما يعظ وينصح به ثلاثا وسبعا أحيانا ليركز ذلك في نفوسهم والمعلم النابه لا يفتا يردد ما يلقيه على طلابه من دروس حتى يصبح مستساغا إليهم هشا في نفوسهم بعد أن كان صعبا ممجوجا.

٣ ـ التجسيد الحي :

وفي قوله «تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله» نكت بلاغية بديعة وأهمها التجسيد الحي ، أراد سبحانه أن يجسد فرط خشيتهم فعرض عليك صورة من الجلد اليابس وصورة من الشعر الواقف ، ألا نقول : وقف شعر رأمنه من الخوف ، وفي ذكر الجلود وحدها أولا وقرنها بالقلوب ثانيا لأن ذكر الخشية التي محلها القلوب مستلزم لذكر القلوب فكأنه قيل تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر فإذا ذكروا الله وذكروا رحمته وسعتها استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. وقيل المعنى أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة


فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاما له وتعجبا من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

الاعراب :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستئناف الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة تفهم من مضمون السياق أي أكل الناس سواء فمن يتقي ، ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة يتقي بوجهه صلة وسوء العذاب مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بيتقي وخبر من محذوف تقديره كمن أمن من العذاب وسيأتي معنى الاتقاء بالوجه في باب البلاغة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وقيل عطف على يتقي أي ويقال لهم ذوقوا وإنما عدل إلى الماضي للدلالة على تحقق وقوع القول ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من ضمير يتقي وللظالمين متعلقان بقيل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وجملة


ذوقوا مقول القول وما مفعول ذوقوا وكنتم تكسبون كان واسمها وخبرها والجملة صلة ما. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أصاب الكافرين من قبلهم من عذاب دنيوي ، وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين ، فأتاهم العذاب عطف على ما تقدم وأتاهم فعل ومفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر ومن حييث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون في محل جر بإضافة الظرف إليها.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء عاطفة وأذاقهم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والخزي مفعول به ثان وفي الحياة الدنيا متعلقان بأذاقهم أو بمحذوف حال. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله ومفعول يعلمون محذوف أيضا تقديره عذابها. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وضربنا فعل وفاعل وللناس متعلقان بضربنا على أنه مفعول به ثان لأن ضرب متضمن معنى جعل وفي هذا القرآن حال ومن كل مثل نعت لمفعول ضربنا الأول أي مثلا كائنا من كل مثل ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) قرآنا حال موطئة لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق بينما هي جامدة وهي حال من القرآن والاعتماد فيها على الصفة وقال اللقاني : «قرآنا مصدر بمعنى القراءة فهي مؤولة بمقروءا عربيا فهو مصدر والمصدر الحال يؤول بمشتق» وقال الصفاقسي : «قيل الحال قرآنا وعربيا توطئة ومعنى التوطئة أن الاسم


الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالا صلح أن يكون حالا» وعلى هذا تضبط موطأة بفتح الطاء وقال السمين : «الثالث أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالا موطئة لأن الحال في الحقيقة عربيا وقرآنا توطئة له نحو جاء زيد رجلا صالحا» وهكذا قرر الزمخشري. وأجاز الزمخشري وغيره أن ينتصب قرآنا على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع اتباعه للقرآن وأجاز أبو البقاء أن ينتصب بيتذكرون.

وغير ذي عوج نعت ثان لقرآنا وسيأتي معناه في باب البلاغة ولعلهم يتقون لعل واسمها وجملة يتقون خبرها.

البلاغة :

١ ـ الكناية أو المجاز التمثيلي :

في قوله «أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب» كناية عن عدم الاتقاء لأن الوجه لا يتقى به وأما الذي يتقى به فهما اليدان وهما مغلولتان ولو لم يغلا لكان يدفع بهما عن الوجه لأنه أعز أعضائه وقيل هو مجاز تمثيلي لأن الملقى في النار لم يقصد الاتقاء بوجهه ولكنه لم يجد ما يتقي به النار غير وجهه ولو وجد لفعل فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقي بوجهه فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلي وهو جميل أيضا. قال النابغة :

سقط النصيف ولم تردوا إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد


٢ ـ معنى العوج :

تقدم معنى العوج في الكهف وأن العوج بالكسر مختص بالمعاني دون الأعيان والسرّ فيه ، فارجع إليه هناك وقيل المراد بالعوج الشك واللبس ، قال :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

وعلى كل حال ففي الكلام استعارة تصريحية.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢))

اللغة :

(مُتَشاكِسُونَ) : متنازعون مختلفون قال الزمخشري : «والتشاكس والتشاخس الاختلاف تقول : تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه» وفي المختار : «رجل شكس بوزن فلس أي صعب الخلق وقوم شكس بوزن قفل وبابه سلم وحكى الفراء شكس


بكسر الكاف وهو القياس قلت : وقوله تعالى : فيه شركاء متشاكسون أي مختلفون عسرو الأخلاق» وفي الصحاح : «رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق وقوم شكس مثل رجل صدق وقوم صدق وقد شكس بالكسر من باب سلم شكاسة وحكى الفراء : رجل شكس بكسر الكاف وهو القياس».

وللشين والسين إذا كانتا فاء ولاما للكلمة خاصة الصلابة والامتناع وسوء الخلق : يقال شئس كفرح أي صلب فهو شئس وشأس ، والشحس بالفتح شجر مثل العتم إلا أنه أطول ولا تتخذ منه القسي ليبسه ، والشخس الاضطراب والاختلاف وقد تقدم ، والشرس محركة سوء الخلق وشدة الخلاف كالشراسة والأشرس الجريء في القتال والأسد وهذا جمل لم يشرس أي لم يرض ، والشس الأرض الصلبة كأنها حجر واحد ، والشطس : الدهاء والعلم به والشطسي كجمحيّ الرجل المنكر المارد الداهية ، والشمس معروفة وليس هناك أمنع منها وشمس الفرس شموسا وشماسا منع ظهره فهو شامس وشموس والشموس الخمر لأنه تجعل شاربها شموسا ، والشموس محركة : النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا كالتشاوس. وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة.

(سَلَماً) : مصدر سلم وقرىء سالما على أنه اسم فاعل أي خالصا.

الاعراب :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) كلام مستأنف مسوق لتمثيل من يعبد آلهة


كثيرة ومن يعبد إلها واحدا. وضرب الله فعل وفاعل ومثلا مفعول به ورجلا بدل من مثلا وقد تقدم إعراب نظيره ، وقال الكسائي : انتصب رجلا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل. وفيه خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة رجلا ومتشاكسون نعت لشركاء ورجلا عطف على رجلا وسلما نعت بالمصدر على سبيل المبالغة ولرجل متعلقان بالمصدر وهو حرف استفهام ويستويان فعل مضارع وفاعل ومثلا تمييز محول عن الفاعل أي لا يستوي مثلهما وأفرد التمييز لاقتصاره عليه في الأول وقرىء مثلين لمطابقة حالي الرجلين.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة الاسمية معترضة لأن قوله بل أكثرهم لا يعلمون إضراب انتقالي مرتبط بقوله هل يستويان وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) جملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم فقد كانوا يتربصون موته ويستبطئونه فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص والاستبطاء ولا مبرر لشماتة فان بفان ، وإنك ميت إن واسمها وخبرها وإنهم ميتون عطف على ما تقدم وسيأتي مزيد من الكلام على هذه الآية في باب البلاغة. (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها ويوم القيامة ظرف متعلق بيختصمون وعند ربكم ظرف متعلق بمحذوف حال وسيأتي معنى الاختصام في باب الفوائد. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ومعناه النفي أي لا أحد وممن متعلقان بأظلم وجملة كذب على الله صلة من وكذب بالصدق عطف على كذب على الله وإذ جاءه ظرف متعلق لكذب بالصدق أي كذب بالقرآن وقت مجيئه وجملة جاءه في محل جر بإضافة الظرف إليها.


(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم خبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى أو بنفس مثوى لأنه اسم مكان من ثوى أي أقام.

البلاغة :

١ ـ فن المثل :

في قوله «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء» الآية فن إرسال المثل فقد شبه حال من يعبد آلهة شتى بمملوك اشترك فيه شركاء شجر بينهم خلاف شديد وخصام مبين وهم يتجاذبونه ويتعاورونه في شتى آرابهم ومتباين أهوائهم فهو يقف متحيرا لا يدري لأيهم ينحاز ولأيّهم ينصاع وأيهم أجدر بأن يطيعه وحال من يعبد إلها واحدا فهو متوفر على خدمته يلبي كل حاجاته ويصيخ سمعا لكل ما ينتدبه إليه ويطلبه منه.

٢ ـ الفرق بين ميت وميّت :

قال الفراء : «الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من فارقته الروح» ولذلك لم يخفف في الآية لأنه لمّا يمت ولمّا يموتوا بالنسبة لنزول الآية ، وقال الزمخشري : «والفرق بين الميت والمائت أن الميت صفة لازمة كالسيد وأما المائت فصيغة حادثة تقول زيد مائت غدا كما تقول سائد غدا أي سيموت وسيسود وإذا قلت زيد ميت فكما تقول حي في نقيضه فيما يرجع الى اللزوم والثبوت


والمعنى في قوله : إنك ميت وإنهم ميتون إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى لأنّ ما هو كائن فكأن قد مات».

الفوائد :

وهذه نبذة لا مندوحة عن إيرادها في معنى الاختصام : فقد جاء عن عبد الله بن الزبير قال : لما نزلت : ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير يا رسول الله أتكون علينا الخصومة؟ بعد الذي بيننا في الدنيا قال نعم فقال : إن الأمر إذن لشديد» أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت في أهل الكتابين : ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا : كيف نختصم وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هذا هو.

وعن أبي بكرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قال القسطلاني في شرحه : أي فضرب كل واحد منهما الآخر إذا كان قتالهما بلا تأويل ، بل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا ، أما إذا كانا صحابيين فأمرهما عن اجتهاد لإصلاح الدين وفيه أن من عزم على المعصية أثم وإن لم يفعلها. وفي رواية إذا المسلمان جمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا قال : فقلنا أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ، رواه البخاري ومسلم ، قال العلماء : معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن


أمرهما الى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا وقيل : هو محمول على من استحل ذلك ، وذهب جمهور الصحابة والتابعين الى وجوب نصر الحق وقتال الباغين واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وان المصيب يؤجر أجرين وجعل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ بل بمجرد طلب الملك.

وقد أخرج البزّار في حديث «القاتل والمقتول في النار» زيادة تبين المراد وهي : «إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار» ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ : «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا المقتول فيم قتل؟ فقيل : كيف يكون ذلك؟ قال : الهرج : القاتل والمقتول في النار» هذا والكلام في هذا الباب طويل يرجع فيه الى المطولات لأنه خارج عن نطاق هذا الكتاب.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ


فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨))

الاعراب :

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة جاء بالصدق صلة وصدق عطف على الصلة والذي جنس المراد به بالنسبة للصلة الأولى محمد وبالنسبة للصلة الثانية المؤمنون ولذلك روعي معنى الذي في أولئك هم المتقون ، وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والمتقون خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذي ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود «والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به». (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال والجملة خبر ثان للذي وذلك مبتدأ وجزاء المحسنين خبر والجملة نصب على الحال. (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام للتعليل ويكفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل ومجرورها متعلقان بمحذوف أي يسر لهم ذلك ليكفروا ولك أن تعلق اللام ومدخولها بالمحسنين فتكون للعاقبة أي فكانت عاقبتهم التكفير والله فاعل يكفر وعنهم


متعلقان بيكفر وأسوأ مفعول به والذي مضاف إليه وجملة عملوا صلة وليس المراد هنا باسم التفضيل معناه على بابه وإنما هي من إضافة الشيء الى بعضه من غير تفضيل ومنه قولهم الأشج والناقص أعدل بني مروان لأن اسم التفضيل لو كان على بابه لاقتضى نظم الكلام انه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط وهذا غير مراد طبعا.

(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم وأجرهم مفعول به ثان ليجزيهم وما قيل في معنى اسم التفضيل وهو أسوأ يقال هنا في معنى اسم التفضيل وهو أحسن لأنه تعالى لا يجزيهم على أفضل الحسنات فقط. (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي أثبتته بطريق المبالغة وليس واسمها والباء حرف جر زائد وكاف مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعبده مفعول كاف والمراد به النبي أو الجنس عامة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي : عباده.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لك في الواو أن تجعلها للحال فتكون الجملة حالية والمعنى أليس الله كافيك حال تخويفهم إياك هذا إذا أراد بالعبد نبيه صلى الله عليه وسلم ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما يعمدون إليه من تخويف بالأصنام ، ويخوفونك فعل مضارع ومفعول به وبالذين متعلقان بيخوفونك ومن دونه متعلقان بمحذوف هو الصلة ومن يضلل الله فما له من هاد تقدم إعرابها بنصها قريبا فجدد به عهدا. (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة والإعراب متشابه والهمزة للاستفهام التقريري وليس واسمها وبعزيز الباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وذي انتقام نعت.


(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر والجملة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم المعلقة عن العمل بالاستفهام واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف وفقا للقاعدة المشهورة ويقولن فعل مضارع معرب لعدم مباشرة نون التوكيد له وقد تقدمت له نظائر كثيرة والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي خلقها. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الهمزة للاستفهام والفاء الفصيحة ورأيتم بمعنى أخبروني وقد تقدم القول فيها مفصلا أكثر من مرة وما تدعون مفعول رأيتم الأول ومن دون الله حال ، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم به فرأيتم (... (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) إن شرطية وأرادني الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف وجملة الشرط اعتراضية والجملة الاستفهامية هل هن كاشفات مفعول رأيتم الثاني وهن مبتدأ وكاشفات ضره خبر.

(أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بتنوين كاشفات وممسكات ونصب ضره ورحمته على المفعولية لاسمي الفاعل. (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) حسبي الله مبتدأ وخبر أو بالعكس والجملة مقول القول وعليه متعلقان بيتوكل ويتوكل المتوكلون فعل مضارع وفاعل.


(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

الاعراب :

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة واعملوا فعل أمر وفاعل وعلى مكانتكم حال وسيأتي معنى الاستعارة هنا في باب البلاغة وان واسمها وخبرها وفي الكلام حذف أي على مكانتي والفاء عاطفة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) من اسم موصول مفعول تعلمون والعلم هنا بمعنى المعرفة فينصب مفعولا واحدا وجملة يأتيه صلة وعذاب فاعل يأتيه وجملة يخزيه صفة لعذاب ويحل عطف على يخزيه وعليه متعلقان بيحل وعذاب فاعل يحل ومقيم نعت أي دائم ثابت. (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) إن واسمها وجملة أنزلنا خبرها وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وللناس متعلقان بأنزلنا أي لأجلهم وبالحق حال أي متلبسا به فهو


من الفاعل أو من المفعول. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة ولنفسه خبر لمبتدأ محذوف أي فهدايته لنفسه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ وجملة ومن ضل فإنما يضل عليها عطف على نظيرتها.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بوكيل والباء حرف جر زائد ووكيل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الله مبتدأ وجملة يتوفى الأنفس خبر وحين موتها متعلق بيتوفى والواو حرف عطف والتي معطوف على الأنفس وجملة لم تمت في منامها صلة وفي منامها ظرف ليتوفى والمعنى ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام ومنه قوله تعالى : «وهو الذي يتوفاكم بالليل». (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الفاء عاطفة ويمسك فعل مضارع معطوف على يتوفى والتي مفعول يمسك وجملة قضى عليها الموت صلة والموت مفعول قضى ويرسل عطف على يمسك والأخرى مفعول به وإلى أجل متعلقان بيرسل أو بيمسك ومسمى نعت لأجل.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون نعت لقوم.


البلاغة :

في قوله «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم» الآية استعارة تصريحية فقد شبهت الحال بالمكان القارّ فيه ، ووجه الشبه ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

الاعراب :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أم حرف عطف بمعنى بل واتخذوا فعل ماض والواو فاعل أي قريش ومن دون الله مفعول اتخذوا الثاني وشفعاء مفعول اتخذوا الأول. (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ومدخولها محذوف تقديره أيشفعون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وجملة لا يملكون خبرها والجملة في موضع نصب على الحال والمعنى أيشفعون في حالة كونهم لا يملكون ولا يعقلون وشيئا مفعول به أو


مفعول مطلق وقد تقدم القول فيها ولا يعقلون عطف على لا يملكون ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم أي وان كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لله خبر مقدم والشفاعة مبتدأ مؤخر واللام للملك أي انه مختص بها لا يملكها أحد إلا بتمليكه وجميعا حال وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإليه متعلقان بترجعون.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة ذكر الله في محل جر بإضافة الظرف إليها والله نائب فاعل ووحده حال وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه ، وجملة اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لا محل لها لأنها جواب إذا. (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) عطف على ما تقدم ومن دونه صلة الذين وإذا الفجائية وقد جرينا على أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل وإذا كانت ظرف زمان أو مكان كانت معمولة لما بعدها وهم مبتدأ وجملة يستبشرون أي يستبشرون وقت ذكر الذين من دونه. (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اللهم منادى والميم المشددة عوض عن يا وقد تقدم بحث ذلك مفصلا وفاطر السموات والأرض منادى مضاف وهناك أعاريب أخرى سيرد الكلام عنها مفصلا في باب الفوائد وكذلك قوله عالم الغيب والشهادة.

(أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أنت مبتدأ وجملة تحكم خبر وبين عبادك الظرف متعلق بتحكم وفيما متعلقان بتحكم أيضا وكانوا كان واسمها وجملة يختلفون خبر كانوا وفيه متعلقان بيختلفون وجملة كانوا إلخ صلة ما.


الفوائد :

١ ـ عودة إلى «اللهم» :

مذهب الخليل وسيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه صار عندهم مع الميم بمنزلة الصوت أي غير متمكن في الاستعمال وذهب المبرد والزجاج إلى جواز وصفه بمرفوع على اللفظ ومنصوب على المحل وجعل فاطر السموات والأرض صفة له ، قال أبو حيان : والصحيح مذهب سيبويه لأنه لم يسمع مثل اللهم الرحيم ارحمنا والآية ونحوها محتملة للنداء.

وقال ابن هشام : «وإنما قال في قل اللهم فاطر السموات والأرض : إنه على تقدير يا ولم يجعله صفة على المحلّ لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصلت به الميم المعوضة عن حرف النداء أشبه الأصوات فلم يجز نعته» أي فقد صار مثل هلا إذا الميم بمنزلة صوت مضموم الى اسم الله مع بقائهما على معنييهما.

٢ ـ الاستبشار والاشمئزاز :

قال الزمخشري : «الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل والاشمئزاز أن يمتلىء غما حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه».

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ


(٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩))

الاعراب :

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط من أنماط الهول الذي ينتظرهم والعذاب الشديد الذي أعد لهم.

ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف على الأرجح وقد تقدم تقرير ذلك أكثر من مرة ، وللذين خبرها المقدم وما اسمها المؤخر وفي الأرض صلة ما وجميعا حال ومثله عطف على ما ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال واللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل وفاعل وبه متعلقان بافتدوا ومن سوء العذاب متعلقان بافتدوا أيضا ويوم القيامة الظرف حال من فاعل افتدوا أي حال كونهم في ذلك اليوم العصيب.

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) كلام معطوف على جملة ولو أن للذين ظلموا الآية وبدا فعل ماض ولهم متعلقان به ومن الله حال وما فاعل وجملة لم يكونوا صلة ما وجملة يحتسبون خبر يكونوا والعائد محذوف أي يحتسبونه.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) عطف على ما تقدم ولك أن تجعل الكلامين مستأنفا مسوقا لإبراز وعيدهم في أبلغ ما يكون الوعيد والتهديد وإعرابها مماثل لما تقدم.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها من المناقضة على ما سبق ذكره وسيأتي السر في إيثار الفاء مع أنها


تقدمت في أول السورة معطوفة بالواو وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومس الإنسان ضر فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة دعانا لا محل لها لأنها جواب إذا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خولناه في محل جر بإضافة الظرف إليها وخولناه فعل وفاعل ومفعول به ونعمة مفعول به ثان ومنّا صفة لنعمة وجملة قال لا محل لها وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به وذكر الضمير لأن النعمة بمعنى الإحسان والعطاء ولك أن تعمل ان فتجعل ما موصولة في محل نصب اسمها وعلى علم خبرها والأول أرجح وعلى علم متعلقان بمحذوف حال أي حال كوني عالما أني سأعطاه لما أتمتع به من جدارة واستحقاق.

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بل إضراب انتقالي وهي مبتدأ وفتنة خبر أي مقالته المذكورة أو النعمة وهذا أرجح ، ولكن الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. قال الفراء : أنّث الضمير في قوله هي لتأنيث الفتنة ولو قال : بل هو فتنة لجاز ، وتذكير الأول في قوله أوتيته باعتبار معناها.

البلاغة :

إنما عطف قوله فإذا مس الإنسان ضر في آخر السورة بالفاء وفي أولها بالواو لأن هذه نشأت عن قوله وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم أي أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة.

أما الأولى فلم تنشأ عما قبلها وإنما هو وصف الكلام اقتضى عطفها بالواو لمناسبة ما قبلها.


(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

الاعراب :

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قد حرف تحقيق وقالها فعل ماض ومفعول به مقدم والهاء عائدة على مقالتهم وهي : إنما أوتيته عن علم لأنها كلمة والذين فاعله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل أغنى وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) الفاء عاطفة وأصابهم سيئات فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وما موصولة أو مصدرية في محل جر بالإضافة. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة ظلموا صلة ومن هؤلاء حال وجملة سيصيبهم سيئات ما كسبوا خبر الذين ، وما هم : ما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما.


(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على محذوف تقديره أقالوها ولم يعلموا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلموا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وان واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))


الاعراب :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الإنابة مطلوبة لأن الفسحة عظيمة للمسرف. ويا عبادي منادى مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة وقرىء يا عباد بكسرها وقد تقدم حكم المنادى المضاف لياء المتكلم والذين نعت لعبادي وجملة أسرفوا صلة وعلى أنفسهم متعلقان بأسرفوا ولا ناهية وتقنطوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ومن رحمة الله متعلقان بتقنطوا. وقنط من باب تعب وسلم فيجوز كسر نونه وفتحها في المضارع وقد قرىء بهما وفي المختار : «القنوط :اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قنط وقنوط وقانط» وقد قرىء بالضم شذوذا.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إن واسمها وجملة يغفر خبرها والجملة تعليل للنهي عن القنوط ولذلك قيل : هذه أرجى آية في القرآن وسيأتي بيان ما فيها من أفانين البلاغة ، والذنوب مفعول به وجميعا حال وذلك بعد التوبة من الشرك وإن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن. (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) وأنيبوا الواو عاطفة وأنيبوا فعل أمر وفاعله وإلى ربكم متعلقان بأنيبوا وأسلموا عطف أيضا وله متعلقان بأسلموا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف الى الظرف ويأتيكم فعل مضارع منصوب بأن والكاف مفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر وثم حرف عطف للترتيب مع


التراخي وتؤمرون فعل مضارع مرفوع لأنه لم يعطف على يأتيكم وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) واتبعوا عطف على وأنيبوا وأحسن مفعول به لاتبعوا وما اسم موصول مضاف لأحسن وجملة أنزل إليكم صلة ومن ربكم متعلقان بأنزل أيضا. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها في محل جر بالإضافة وبغتة حال والواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تشعرون خبر والجملة نصب على الحال.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله ، وقدّره الزمخشري كراهة أن تقول وقدّره أبو البقاء أنذر ناكم مخافة أن تقول ، ونفس فاعل تقول وسيأتي السر في تنكيرها في باب البلاغة ويا حرف نداء وحسرتا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا وأصله يا حسرتي أي ندامتي وعلى ما فرطت أي على تفريطي فما مصدرية والمصدر المؤول مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بحسرتا وفي جنب الله متعلقان بفرطت وسيأتي بحث هذه الكناية في باب البلاغة.

(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة أي والحال أني وكان واسمها واللام الفارقة ومن الساخرين خبر كنت ومحل الجملة نصب على الحال. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أو حرف عطف وتقول عطف على أن تقول ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت وأن واسمها وجملة هداني خبرها واللام واقعة في جواب لو وكان واسمها ومن المتقين خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم.


(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أو تقول عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هي يعود على نفس وأو للتنويع لما تقوله النفس في ذلك اليوم العصيب تعللا بما لا يفيد ولا يسفر عن فائدة ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وأن وخبرها المقدم وكرة اسمها المؤخر ، فأكون : الفاء عاطفة وأكون معطوف على كرة فهو عطف على اسم خالص من التقدير بالفعل وقد تقدمت الإشارة إليه وإما تكون الفاء للسببية وأكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة جوابا للتمني المفهوم من قوله لو أن لي كرة والفرق بين الوجهين أنه على الأول يكون فيه الكون من جملة المتمنى وعلى الثاني يكون فيه الكون مترتبا على حصول المتمنى لا متمنى.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب جاء لرد النفي الذي تضمنه قول القائل لو أن الله هداني وقد حرف تحقيق وجاءتك آياتي فعل ومفعول به وفاعل فكذبت بها عطف على جاءتك وكنت كان واسمها ومن الكافرين خبرها.

البلاغة :

١ ـ في قوله : «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» فنون متنوعة من علمي البديع والبيان نلخصها فيما يلي :


١ ـ إقباله سبحانه عليهم وفي ذلك منتهى الاطمئنان لهم لمحو ما سبق لهم من ذنوب وأوضار والإشعار بأن أمامهم مندوحة من الوقت لاستدراك ما فرط ورأب ما انصدع.

٢ ـ نداؤهم ، وفي ذلك من التودّد إليهم والتلطف بهم ما يهيب بذوي المسكة من العقول منهم الى المبادرة بالإنابة والرجوع بالتوبة.

٣ ـ إضافتهم إليه إضافة تشريف لهم ، وأنهم خلقاء بآصرة العبودية يمتون بها اليه سبحانه ، وذلك كاف لمقابلتهم ذلك بالمثل وإعلان التوبة للازدلاف اليه بها.

٤ ـ إضافة الرحمة الى أخص أسمائه تعالى وأجلها وأنها هي الأصل في معاملته لعباده.

٥ ـ إعادة الظاهر بلفظه في قوله إن الله يغفر الذنوب جميعا.

٦ ـ الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله من رحمة الله لتخصيص الرحمة بالاسم الكريم كما تقدم آنفا.

٧ ـ إبراز الجملة من قوله إنه هو الغفور الرحيم مؤكدة بأن وبضمير الفصل وبالصفتين المودعتين للمبالغة فهذه سبعة فنون كاملة في آية واحدة.

٢ ـ الإيضاح :

وذلك في قوله «ثم لا تنصرون» فلقائل أن يقول لم لم يعطف تنصرون على أن يأتيكم المنصوب والجواب عن هذا الإشكال انه أراد ـ وهو أعلم ـ العدة بإخبارهم أنه لن ينصرهم أبدا في الاستقبال


ما داموا مصرين على عدم الإنابة محجمين عن الإسلام وقد تقدمت آية مماثلة لها في هذا الفن في سورة آل عمران.

٣ ـ التنكير :

والسر في تنكير النفس في قوله «أن تقول نفس» التقليل ، لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر وانها نفس متميزة من الأنفس بهذه السمة من اللجاج في الكفر وربما أريد بها التكثير على حد قول الأعشى :

ورب بقيع لو هتفت بجوه

أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا

يريد كراما كثيرين لا كريما واحدا ومثله : رب بلد قطعت ، ورب بطل قارعت وهو يقصد بلادا وأبطالا.

٤ ـ الكناية :

في قوله «على ما فرطت في جنب الله» والجنب الجانب يقال :أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب ثم قالوا فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه ، قال جميل بن معمر :

أما تتقين الله في جنب وامق

له كبد حرى عليك تقطع

غريب مشوق مولع بادكاركم

وكل غريب الدار بالشوق مولع


يستعطف جميل صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها أي أما تخافين الله في جنب وامق أي في حقه الواجب عليك فالجنب كناية عن ذلك والوامق الشديد المحبة يعني نفسه وحرى أي ذات حر واحتراق ، وتقطع : أصله تتقطع والادكار أصله الاذتكار قلبت تاء الافتعال دالا مهملة وأدغمت الذال المعجمة فيها ، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما لها وفي البيت الثاني رد العجز على الصدر وهو من بديع الكلام. وهذه الكناية تسمى كناية نسبة ، وقد تقدم القول في أقسام الكناية ، لأنك إذا أثبتّ الأمر في مكان الرجل وحيّزه فقد أثبتّه فيه ، قال زياد الأعجم :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

يعني انه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.

الفوائد :

ألف الفصل :

ألف الفصل تزاد بعد واو الجماعة مخافة التباسها بواو النسق مثل : «وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له» ومثل : كفروا ووردوا ، ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو ثم اتصلت بكلام بعدها ظن القارئ أنها كفر وورد فحيزت الواو لما قبلها بألف الفصل ، ولما


فغلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها نحو ساروا وجاءوا فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها نحو كانوا وبانوا ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكما واحدا.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

اللغة :

(بمفازة) : المفازة : الفلاة المهلكة سميت باسم المنجاة على سبيل التفاؤل ، وفوّز المسافر : ركب المفازة ومضى فيها ، قال حسان :

لله درّ رافع أنّى اهتدى

فوّز من قراقر إلى سوى

وفوّز بإبله ، وفوّز الرجل مات فصار في مفازة ما بين الدنيا والآخرة من البرزخ الممدود أو لأن المفازة صارت اسما للمهلكة فأخذ


منها فوّز بمعنى هلك ، وفاز سهمه وخرج له سهم فائز إذا غلب ، وفاز بفائزة هنيّة وأجيز بجائزة سنية. وقد سموا اللديغ سليما تفاؤلا ببرئه كما سموا القافلة للمسافرين تفاؤلا بأوبتهم.

(مَقالِيدُ) : المقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل والكلام من باب الكناية وعبارة القاموس : «والإقليد برة الناقة والمفتاح كالمقلاد والمقلد وشريط يشد به رأس الجلة وشيء يطوّل مثل الخيط من الصّفر يقلد على البرة وعلى خوق القرط كالقلاد والعنق وجمعه أقلاد ، وناقة قلداء : طويلتها ، وكسكيت ومصباح : الخزانة ، وضاقت مقالده ومقاليده ضاقت عليه أموره وكمنبر : الوعاء والمخلاة والمكيال وعصا في رأسها اعوجاج» الى أن يقول : «والقلاده : ما جعل في العنق ، وتقلد : لبسها». على أن الزمخشري وغيره من علماء اللغة يقولون إن أصل الكلمة فارسي ، قال في الكشاف : «له مقاليد السموات والأرض أي هو مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ومنه قولهم ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح ولا واحد لها من لفظها وقيل مقلد ويقال إقليد وأقاليد والكلمة أصلها فارسية فإن قلت : ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت : التعريب أحالها عربية كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا».

الاعراب :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) الواو استئنافية والظرف متعلق بتري وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والذين مفعوله وجملة كذبوا على الله صلة


ووجوههم مبتدأ ومسودة خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال من الموصول لأن الرؤية بصرية ويجوز أن تكون الرؤية قلبية فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني لترى والكذب على الله معناه نسبة الشريك إليه. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس وخبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللمتكبرين نعت لمثوى والجملة تعليلية لاسوداد وجوههم. (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) الواو عاطفة وينجي الله الذين فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة اتقوا صلة وبمفازتهم متعلقان بينجي لأنها سببية ففوزهم بالفلاح سبب النجاة. (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا نافية ويمسهم السوء فعل مضارع ومفعول به وفاعل والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يحزنون خبر وجملة لا يمسهم السوء لا محل لها لأنها مفسرة للمفازة كأنه قيل : ما مفازتهم فقيل لا يمسهم السوء ولا يبعد أن تكون في موضع نصب على الحال من الذين اتقوا وأجاز الزمخشري أن تكون مستأنفة.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بوكيل ووكيل خبر هو والجملة مستأنفة. (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خبر مقدم ومقاليد السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة أيضا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة كفروا بآيات الله صلة وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر الذين ولك أن تجعل هم ضمير فصل لا محل له كما تقدم والجملة معطوفة على وينجي الله الذين آمنوا عطف أحد المتقابلين


على الآخر ولا يمنع من هذا العطف كون المعطوف جملة اسمية والمعطوف عليه جملة فعلية. (قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف وغير الله نصب بأعبد وجملة تأمروني اعتراض وسيأتي الكلام في حذف النون وأعبد فعل مضارع والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن وارتفع أعبد كما ارتفع في قول طرفة :

ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى

وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي

وفيما يلي النص الكامل لإعراب أبي البقاء لهذه الآية :«أفغير الله ، في اعرابها أوجه ، أحدها : أنه منصوب بأعبد مقدما عليه وقد ضعف هذا الوجه من حيث كان التقدير أن أعبد فعند ذلك يفضي الى تقديم الصلة على الموصول وليس بشيء لأن أن ليست في اللفظ فلا يبقى عملها فلو قدرنا بقاء حكمها لأفضى الى حذف الموصول وبقاء صلته وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، والوجه الثاني أن يكون منصوبا بتأمروني وأعبد بدلا منه والتقدير قل أفتأمروني بعبادة غير الله عز وجل وهذا من بدل الاشتمال ومن باب أمرتك الخير ، والثالث أن غير منصوب بفعل محذوف أي أفتلزموني غير الله وفسره فيما بعد ، وقيل لا موضع لأعبد من الاعراب وقيل هو حال والعمل على الوجهين الأولين وأما النون فمشددة على الأصل وقد خففت بحذف الثانية وقد ذكر نظائره» ونون تأمروني نون الرفع كسرت للمناسبة وحذفت نون الوقاية لاجتماع المثلين وقرىء بسكون


الياء وفتحها فالقراءات أربع وكلها سبعية. وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والجاهلون بدل من أيها.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأوحي فعل ماض مبني للمجهول وإليك سد مسد نائب الفاعل وقيل نائب الفاعل محذوف يدل عليه سياق الكلام أي أوحي إليك التوحيد والى الذين عطف على إليك ومن قبلك متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللام موطئة للقسم أيضا وإن شرطية وأشركت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم وهذا القسم وجوابه جواب القسم الأول وأما جواب الشرط فمحذوف على حد قول ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

ويحبطن فعل ماض مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وعملك فاعل ولتكونن عطف على ليحبطن واسم تكونن مستتر تقديره أنت ومن الخاسرين خبر. (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) كلام معطوف على مقدر دل عليه السياق أي فلا تشرك ، والله نصب بفعل محذوف دل عليه فاعبد أي إن كنت عاقلا فاعبد الله والفاء الفصيحة واعبد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكن عطف على اعبد واسم كن مستتر تقديره أنت ومن الشاكرين خبر كن.


الفوائد :

أفرد سيبويه في كتابه فصلا خاصا لهذا التركيب وهو «بل الله فاعبد» وهذه خلاصته : الأصل فيه فاعبد الله ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم شرطا محذوفا اقتضى وجودها ولتعطف عليه ما بعدها ويضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ


(٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

الاعراب :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير قدرته تعالى وما نافية وقدروا الله فعل وفاعل ومفعول به أي ما علموا كنهه وما عرفوه حق معرفته ، وحق قدره نصب على المفعولية المطلقة.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الواو للحال والأرض مبتدأ وجميعا حال وقبضته خبره والجملة حال من الله ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال من قبضته أو هي متعلقة بها على تضمينها معنى مقبوضة والسموات مبتدأ ومطويات خبر وبيمينه متعلقان بمطويات وعبارة أبي البقاء : «والأرض مبتدأ وقبضته الخبر وجميعا حال من الأرض والتقدير إذا كانت مجتمعة قبضته أي مقبوضة فالعامل في إذا المصدر لأنه بمعنى المفعول ، وقد ذكر أبو علي في الحجة : التقدير ذات قبضته وقد رد عليه ذلك وأن


المضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهذا لا يصح لأنه الآن غير مضاف اليه وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه ويقرأ قبضته بالنصب على معنى في قبضته وهو ضعيف لأن هذا الظرف محدود فهو كقولك زيد الدار ، والسموات مطويات مبتدأ وخبر وبيمينه متعلقان بالخبر ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الخبر وأن يكون خبرا ثانيا وقرىء مطويات بالكسر على الحال وبيمينه الخبر وقيل الخبر محذوف أي والسموات قبضته» هذا وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة ما. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) الواو حرف عطف على ما تقدم وعبر عما سيأتي بالماضي لتحقق وقوعه ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على النافخ قيل هو إسرافيل أو اسرافيل وجبريل وفي الصور متعلقان بنفخ فصعق عطف على نفخ ومن فاعل وفي السموات ومن في الأرض صلة من وإلا أداة استثناء ومن مستثنى واختلف في المستثنى من هم؟ على أقوال متعددة يرجع إليها في المطولات وجملة شاء الله صلة من. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي لبعد ما بين النفختين ونفخ فعل ماض مبني للمجهول وفيه متعلقان بنفخ وأخرى نائب فاعل نفخ على حد قوله تعالى «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» ويجوز أن يكون الجار والمجرور هو القائم مقام نائب الفاعل وأخرى صفة لمصدر محذوف نابت عنه أي فهي مفعول مطلق والفاء عاطفة وإذا


الفجائية لا محل لها وهم مبتدأ وقيام خبر وجملة ينظرون خبر ثان ومعنى ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت المشدوه إذا فاجأه خطب.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) الواو عاطفة وأشرقت الأرض فعل وفاعل وبنور ربها متعلقان بأشرقت ووضع الكتاب عطف على ما تقدم ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل وأل في الكتاب للجنس أي أعطي كل واحد كتابه أي صحائف أعماله المدونة فيها حسناته أو سيئاته. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وجيء عطف على ما تقدم أيضا وبالنبيين متعلقان بجيء والشهداء عطف على النبيين وقضي فعل ماض مبني للمجهول وبينهم إما ناب مناب الفاعل وإما متعلق بقضي ونائب الفاعل محذوف مقدر من المصدر المفهوم أي وقضي القضاء وبالحق متعلقان بمحذوف حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر والجملة في محل نصب على الحال.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ووفيت عطف أيضا وكل نفس نائب فاعل وما مفعول به ثان لوفيت وجملة عملت صلة ولك أن تجعل ما مصدرية أي عملها فيكون المصدر المؤول هو المفعول الثاني والواو حالية أو عاطفة وهو مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يفعلون صلة. (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) الواو عاطفة وسيق الذين فعل ماض مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة وإلى جهنم متعلقان بسيق وزمرا حال وهي جمع زمرة والزمرة الجماعة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت لأن الجماعة يكون لها صوت دائما يقال زمر يزمر من بابي


دخل وضرب أي غنّى بالنفخ في القصب ونحوه. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى ابتدائية وقد تقدم القول مطولا في حتى وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة فتحت أبوابها لا محل لها لأنها جواب إذا وأبوابها نائب فاعل.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) وقال عطف على فتحت ولهم متعلقان بقال وخزنتها فاعل قال والهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأت فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به ورسل فاعل ومنكم صفة لرسل وجملة يتلون صفة ثانية أو حال وعليكم متعلقان بيتلون وآيات ربكم مفعول يتلون. (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وينذرونكم عطف على يتلون ولقاء يومكم مفعول به ثان أو نصب بنزع الخافض ويومكم مضاف للقاء وأراد به وقت دخولهم النار وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدة وهذا نعت ليومكم أو بدل منه. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب لإثبات النفي أي بلى أتونا وتلوا علينا والواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهملة وحقت كلمة العذاب فعل وفاعل وعلى الكافرين متعلقان بحقت.

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جملة مستأنفة وجملة ادخلوا مقول القول وأبواب جهنم مفعول به على السعة وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعله والمخصوص بالذم محذوف أي هي. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)


تقدم إعرابها بنصها وسيأتي الفرق بين السوقين في باب البلاغة.

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى الابتدائية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجوابها هنا محذوف لأنه في صفة أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يكتنه ولا يحيط به الوصف والواو عاطفة وجملة وفتحت أبوابها معطوفة على جاءوها وسيأتي مزيد من القول فيها.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) الواو عاطفة وقال لهم خزنتها فعل وفاعل وسلام مبتدأ وعليكم خبره وطبتم فعل وفاعل ، فادخلوها الفاء تعليلية وادخلوها فعل وفاعل ومفعول وخالدين حال. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) كلام معطوف على جواب إذا المحذوف أي دخلوها وقالوا ، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول والذي نعت وجملة صدقنا صلة وهي فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ووعده مفعول به ثان. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) جملة وأورثنا عطف على صدقنا والأرض مفعول به ثان وجملة نتبوأ حال من مفعول أورثنا والفاعل مستتر تقديره نحن ومن الجنة متعلقان بمحذوف حال وحيث ظرفية على بابها متعلقة بنتبوأ أو مفعول نتبوأ قال الزمخشري :«يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج الى جنة غيره» والفاء استئنافية ونعم أجر العاملين تقدم إعرابها.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لوصف الملائكة المقربين في ذلك اليوم وترى الملائكة فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وحافين حال أي


محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه ومن حول العرش متعلقان بحافين وجملة يسبحون بحمد ربهم حال ثانية. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وقضي فعل مبني للمجهول وبينهم ظرف نائب عن فاعل الفاعل أو متعلق بقضي ونائب الفاعل مصدر مفهوم من الفعل أي قضي القضاء وبالحق حال والضمير في بينهم يرجع الى العباد والملائكة معا وقيل عطف على قضي وجملة الحمد لله رب العالمين مقول القول.

البلاغة :

تميز ختام سورة الزمر بذكر أحوال القيامة والتحميد والتسبيح كما تميز بالجزالة في اللفظ ولسنا نعني بالجزالة أن يكون اللفظ وحشيا متوعرا عليه عنجهية البداوة بل نعني بها أن يكون اللفظ متينا قويا على عذوبة في الفم وحلاوة جرسه في السمع ، ولو نظرنا الى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا وما جرى هذا المجرى فإننا لا نرى شيئا من ذلك وحشي الألفاظ ولا متوعرا موغلا في الجساوة والنبو ، وسنعمد الى إيضاح ما ورد فيها من فنون.

١ ـ المجاز :

فأولها المجاز في قوله «والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه» فإن قبض الله الأرض عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، يقال : فلان في قبضتي يعني انه في قدرته باعتبار ما يئول اليه لأن القابض يتصرف بما يقبضه كيف يشاء


والقبضة المرة من القبض والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان أولهما قوله جميعا والثاني قوله السموات ، وطي السموات والأرض مجاز أيضا ليس يريد به طيا كما نفهمه وإنما المراد به الذهاب والفناء ، واليمين في كلام العرب تأتي بمعنى القدرة والملك كما قدمنا.

٢ ـ الفرق بين السوقين :

وفي قوله «وسيق» بالنسبة لأهل النار وأهل الجنة إذ عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ واحد فن دقيق المسلك وهو أن يأتي المتكلم بكلمة واحدة فتكون تارة دالة على الهوان والعقاب ثم يأتي بها ثانية فتكون دالة على الإكرام وحسن الثواب ، وما أجمل قول الزمخشري في هذا الصدد قال : «فإن قلت كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت : المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا الى حبس أو قتل والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين وحثها إسراعا الى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك فشتان ما بين السوقين».

الفوائد :

١ ـ أقوال المعربين في جواب إذا :

أفاض المعربون كثيرا في جواب إذا والسر في مجيء الواو بقوله «حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها» وقد أوردنا في باب الإعراب


ما اخترناه ، أما السمين فقد لخص أقوال المعربين بقوله : «في جواب إذا ثلاثة أوجه أحدها قوله وفتحت والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش وإنما جيء هاهنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها والثاني أن الجواب محذوف قال الزمخشري وحقه أن يقدر بعد خالدين يعني لأنه لا يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه والتقدير : اطمأنوا وقدره المبرد سعدوا وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله وفتحت أبوابها في محل نصب على الحال وسمى بعضهم هذه الواو واو الثمانية قال لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى : وثامنهم كلبهم وقيل تقديره حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها يعني ان الجواب بلفظ الشرط ولكنه يزيد بتقييده بالحال فلذلك صح».

٢ ـ فصل ممتع للرماني :

هذا وننقل فيما يلي خلاصة وافية للفصل الذي عقده علي بن عيسى الرماني في تفسيره الكبير المفقود ، وكم يؤسفنا أن يضيع هذا الكتاب بين سمع الأرض وبصرها ، ولكن الذي يعزينا أن السيوطي نقل عنه كثيرا وذكره كل من ترجم للمؤلف فقد كان الرماني نحويا متكلما وكان شيخ العربية في زمانه شغوفا بالمنطق حتى غلب عليه في جميع تآليفه وكلامه ، قيل للصاحب : هلا صنفت تفسيرا؟ فقال :وهل ترك لنا علي بن عيسى شيئا؟ وكان الرماني نفسه يقول :«تفسيري بستان تجتني منه ما تشتهي» وقد اشتهر تفسيره بين الناس


وكثر ذكره في كتبهم ولم يصل إلينا هذا التفسير فهو يقول في صدد دراسته لسر الجمال في القرآن عند ما يتحدث عن هذه الآية : «كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ذكر الجواب لقصر عن الوجه الذي تضمنه البيان.


سورة غافر

مكية وآياتها خمس وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

اللغة :

(حم) : تقدم القول في أوائل السور بما يغني عن المزيد ونضيف هنا الآن ما قاله الجوهري : «وآل حم سور في القرآن فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب» وقال أبو عبيدة :


«الحواميم سور في القرآن على غير قياس» قال «والأولى أن تجمع بذوات حم» ويتلخص من هذا أن هذه السور السبع تسمى الحواميم وتسمى آل حم وتسمى ذوات حم فلها جموع ثلاثة خلافا للجوهري الذي أنكر الأول وقال الكميت يمدح آل البيت :

وجدنا لكم في آل حم آية

تأولها منا تقي ومعرب

فهو بمعنى ذوات أي في السور المنسوبة إلى هذا اللفظ ومن المعلوم أن لفظ آل كما يطلق على الأهل يطلق بمعنى ذو فيذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة المركبة ونحوها كتأبط شرا ، فإذا أرادوا تثنيته وجمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك ولم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظ آل أو ذو فقالوا : جاءني آل تأبط شرا أو ذو تأبط شرا أي الرجلان أو الرجال المسمون بذلك ومنه آل حم بمعنى الحواميم في قول الكميت الآنف الذكر.

(التَّوْبِ) : في المختار : «التوب الرجوع عن الذنب وبابه قال وتوبة أيضا وقال الأخفش التوب جمع توبة كدوم ودومة».

(الطَّوْلِ) : الفضل والزيادة والانعام الواسع في الصحاح :«والطول بالفتح : المن يقال منه طال يطول من باب قال إذا امتن عليه» وقال الماوردي : «الفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب والتفضل إحسان غير مستحق».

الاعراب :

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تقدم القول في


إعراب فواتح السور وأيسر ما فيه أنها خبر لمبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعدها ، وتنزيل الكتاب مبتدأ ومن الله خبره والعزيز العليم صفتان. (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) هذه صفات أيضا للجلالة وسيأتي في باب الفوائد ما قيل في المغايرة بين بعض الصفات والموصوف من حيث التعريف والتنكير. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يجوز أن تكون هذه الجملة صفة كما قال أبو البقاء ولكن يرد عليه أن الجملة لا تكون صفة للمعارف ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب فالأولى أن تكون جملة مستأنفة وأن تكون حالا لازمة وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا ، وإليه خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ما نافية ويجادل فعل مضارع مرفوع وفي آيات الله متعلقان بيجادل وإلا أداة حصر والذين فاعل وجملة كفروا صلة. (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويغررك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وتقلبهم فاعل وفي البلاد متعلقان بتقلبهم والمعنى إذا ثبت عندك أن المجادلين في آيات الله كفار فلا تغترر بتقلبهم في البلاد بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون بكفرهم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال وقوم نوح فاعل والأحزاب عطف على قوم نوح وهم قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم ومن بعدهم متعلقان بمحذوف حال. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) وهمت عطف على كذبت وكل أمة فاعل وبرسولهم متعلقان بهمت واللام للتعليل ويأخذوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والهاء مفعول به ومعنى ليأخذوه ليتمكنوا


من الإيقاع به. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) وحاولوا عطف على همت وبالباطل متعلقان بمحذوف حال وليدحضوا اللام للتعليل ويدحضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبه متعلقان بيدحضوا والحق مفعول به ، فأخذتهم عطف على جادلوا ، فكيف : الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعقاب اسم كان مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الكاف يجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف وقد تقدم تقرير ذلك أكثر من مرة ويحتمل أن تكون خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر كذلك وكلمة ربك فاعل وعلى الذين كفروا متعلقان بحقت وأنهم أصحاب النار المصدر المؤول في محل رفع بدل من كلمة ربك أو في محل نصب بنزع الخافض وهو لام التعليل.

الفوائد :

١ ـ التغاير بين الموصوف والصفة :

من مباحث النحو الجليلة وقوع التغاير ، في الظاهر ، بين الموصوف والصفة ؛ فلقائل أن يقول : كيف جاز وصف المعرفة وهو الله سبحانه بغافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب لأن هذه الثلاث مشتقات ، وإضافة المشتق لا تفيده تعريفا فمن ثم وقع التغاير المشار إليه ، وقد أجاب سيبويه عن ذلك بقوله : «إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة»


أما الكوفيون فلم يستثنوا الصفة المشبهة أيضا فقالوا في نحو حسن الوجه إنه يجوز أن تصير إضافته محضة ، فعلى مذهبهم يصح أن تكون الثلاث نعوتا ، وعلى مذهب سيبويه يعرب شديد العقاب بدلا ، وفيما يلي تقرير الزمخشري بهذا الصدد قال : «فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟ قلت : أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين وانه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غدا حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش وأما شديد العقاب فأمره مشكل لأنه في تقدير شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير وقد جعله الزجاج بدلا وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبو ظاهر والوجه أن يقال لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ومثل ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ، ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج .... على أن الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا ، أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف ، واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى مالا شيء أدهى منه وأمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن


يقال هذه النكتة هي الداعية الى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الابدال».

٢ ـ نكتة زيادة الواو :

وفي زيادة الواو في قوله وقابل التوب نكتة جليلة وهي إفادة الجمع بين رحمتي مغفرة الذنب وقبول التوب ، وروي أن عمر بن الخطاب افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له تتايع في هذا الشراب فقال عمر لكاتبه اكتب من عمر الى فلان سلام عليك وأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله إليه المصير وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته فلما بلغ عمر قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسددوه ووفقوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. قلت :وما فعله عمر رضي الله عنه يجب أن يكون مثالا يحتذى في حسن الأدب وطريقة الهداية التي تهدي بالتي هي أحسن وتتفادى الغلظة والشدة في القول وسوء التنديد بما يفعله المذنب.

٣ ـ الجدال مذموم إلا في الحق :

وفي قوله «ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا» إلماع الى ما ينطوي عليه الجدال المذموم لادحاض الحق وإطفاء نور الله ، أما الجدال في الآيات لإزالة مشكلها وحل ملتبسها ومقارعة العلماء في


استنباط معانيها وطرق إعرابها وحسن بيانها فأمر محمود بل هو مطلوب مفروض وعلى هذا الأساس ورد قوله صلى الله عليه وسلم :«إن جدالا في القرآن كفر» فقد أورده منكرا للتمييز بين جدال وجدال.

٤ ـ البدلية في قوله «إنهم من أصحاب النار» :

أعربنا «انهم من أصحاب النار» بدلا من كلمة ربك ولم نوضح نوع البدل والظاهر أنه يصح أن يكون بدلا مطابقا أو بدل اشتمال فإذا نظرنا الى اللفظ كان مطابقا لاتحاد مدلوله مع مدلول البدل وإذا اعتبرنا المعنى كان بدل اشتمال لأن معناه وعيده إياهم ، وحكمه الأزلي بشقائهم.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

الاعراب :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الذين مبتدأ وجملة يحملون العرش صلة ومن حوله


عطف على الذين وحوله ظرف متعلق بمحذوف صلة الذين وجملة يسبحون بحمد ربهم خبر الذين وبحمد متعلقان بمحذوف حال أي ملابسين للحمد ويؤمنون به عطف على يسبحون والبحث في معنى حملة العرش ومن هم يرجع إليه في المطولات. (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ويستغفرون عطف على ما قبله وللذين متعلقان بيستغفرون وجملة آمنوا صلة وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وهو مقول قول محذوف في محل نصب على الحال أي قائلين ، ووسعت فعل وفاعل وكل شيء مفعول به ورحمة وعلما تمييزان والتمييز هنا محول عن الفاعل أي وسعت رحمتك كل شيء ووسع علمك كل شيء.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الفاء الفصيحة واغفر فعل أمر وفاعله أنت وللذين متعلقان باغفر وجملة تابوا صلة والمعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع السبيل القويمة ، واتبعوا سبيلك عطف على للذين تابوا وقهم : ق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والهاء مفعول به أول وعذاب الجحيم مفعول به ثان. (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأدخلهم عطف على ما تقدم وأدخلهم فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به أول وجنات عدن مفعول به ثان على السعة والتي صفة وجملة وعدتهم صلة التي ومن في محل نصب عطف على مفعول أدخلهم أو على مفعول وعدتهم وقال الفراء والزجاج «نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم وإن شئت على الضمير في وعدتهم وجملة صلح صلة» والأول أرجح ومن آبائهم وما عطف عليه في محل نصب حال.


(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن واسمها وأنت مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الحكيم خبران لأنت والجملة خبر انك أو خبران لإن وأنت لا محل لها كما تقدم. (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) الواو عاطفة وقهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به والسيئات مفعول به ثان والواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وتق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والسيئات مفعول به ويومئذ الظرف متعلق بتق وإذ مضاف ليوم والتنوين عوض من جملة محذوفة وقصده من الكلام السابق أي يوم إذ تدخل من تشاء الجنة ومن تشاء النار والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق ورحمته فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز العظيم خبر ويجوز إعراب هو ضمير فصل لا محل له والإشارة الى ما ذكر من الرحمة ووقاية السيئات.

البلاغة :

في قوله «ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه فن «الاسجال بعد المغالطة» وهو أن يقصد المتكلم غرضنا من ممدوح فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض إسجالا منه على الممدوح به ، وبيان ذلك أن يشترط شرطا يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض ثم يخبر بوقوعه مغالطة وإن لم يكن قد وقع بعد ليقع المشروط ، وقد يقع الاسجال لغير مغالطة وهذا النوع هو الذي وقع في الكتاب العزيز وقد تقدم بحثه ومثاله في آل عمران ، أما النوع الأول فيقع في الشعر كقول ابن نباتة السعدي :


جاء الشتاء وما عندي له عدد

إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني

فإن هلكت فمولانا يكفنني

هبني هلكت فهبني بعض أكفاني

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوال الكفرة بعد دخولهم النار. وإن واسمها وجملة كفروا صلة الذين وجملة ينادون خبر إن وينادون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ، والمنادون هم الملائكة بعد أن مقت الكفار أنفسهم وهم يكتوون بنار جهنم ، واللام لام الابتداء ومقت الله مبتدأ والاضافة من إضافة المصدر لفاعله والمفعول به محذوف أي إياكم وأكبر خبر ومن مقتكم متعلقان بأكبر وأنفسكم مفعول مقتكم. (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) إذ


ظرف متعلق بمقت الله وإن توسط بينهما الخبر لأن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها ومنع ذلك أبو البقاء لما تقدم وجعل الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره مقتكم إذ تدعون ، وجملة تدعون في محل جر بإضافة الظرف إليها وتدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو هي نائب الفاعل وإلى الإيمان متعلقان بتدعون ، فتكفرون الفاء عاطفة وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والمعنى المتحصل من الآية أنهم عند ما يزجون في غيابات النار ويذوقون الهول من احتراقهم بها ينطلقون بالملامة بعضهم على بعض ويتراشقون التهم ويلقي كل واحد الملامة على الآخر فيدعون من مكان سحيق أن مقت الله إياكم أو أنفسكم الأمّارة بالسوء إذ تدعون في الدنيا من جهة الأنبياء فلا تصيخون للسمع ، ولا تبالون بالنصح والإرشاد ، سادرين في مطاوعة أهوائكم الجموح.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) قالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأمتنا فعل ماض والتاء فاعل ونا ضمير متصل في نصب مفعول به واثنتين مفعول مطلق ناب عدده عن المصدر أي إماتتين اثنتين وكذلك وأحييتنا اثنتين ، واعترفنا فعل وفاعل وبذنوبنا متعلقان باعترفنا ، فهل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام والى خروج خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر. (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ذلكم مبتدأ والاشارة الى العذاب وبأنه خبر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعي في محل جر بإضافة الظرف إليها والله نائب فاعل ووحده حال وجملة كفرتم لا محل لها لأنها جواب إذا وجملة الشرط


وجوابه خبر أنه والمراد كفرتم بالتوحيد. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويشرك فعل الشرط مجزوم وهو فعل مضارع مبني للمجهول وبه سد مسد نائب الفاعل وتؤمنوا جواب الشرط والفاء عاطفة لأن هذا الكلام من جملة ما يقال لهم في الآخرة والحكم مبتدأ والله خبره والعلي الكبير صفتان.

البلاغة :

١ ـ المجاز المرسل :

في قوله «ربنا أمتنا اثنتين» مجاز مرسل لأن المراد بالميتتين الاثنتين خلقهم أمواتا أولا واماتتهم عند انقضاء آجالهم ثانيا والمراد بالإحياءتين الاحياءة الأولى واحياءة البعث وقد أوضح سبحانه ذلك بقوله : «وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم» ففي تسمية خلقهم أمواتا إماتة مجاز لأنه باعتبار ما كان ، وقد أوضح ذلك الزمخشري أبلغ إيضاح في فصله الممتع بهذا الصدد ننقله بنصه لنفاسته قال : «فإن قلت كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة ، قلت : كما صح أن تقول : سبحان من صغر حجم البعوضة وكبر حجم الفيل ، وقولك للحفار ضيّق فم الركية ووسّع أسفلها وليس ثم نقل من صغر الى كبر ولا عكسه ولا من ضيق الى سعة ولا عكسه وإنما أرد الإنشاء على تلك الصفات والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجح لأحدهما وكذلك الضيق والسعة فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر فجعل صرفه منه كنقله منه».


٢ ـ الاستفهام بمعنى اليأس :

وفي قوله «فهل الى خروج من سبيل» في هذا الاستفهام يأس مقنط واستحالة مفرطة كأنهم لفرط ما يكابدونه يتمنون الخروج من هذا الأسى المطبق من الهول المستحكم ولكن أي تمن؟ إنه تمني من غلب عليه اليأس والقنوط وتنكير خروج للدلالة على أي خروج كان سواء أكان سريعا أم بطيئا ؛ وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله «ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم» ومعناه أن السبب يعود إلى كفركم فلا تطمعوا في زوال ما أنتم فيه لأنه جريرتكم وعلى أنفسكم تقع الملامة وقد تعلق الشعراء بأهداب هذا التعبير البديع فقال بعضهم :

هل الى نجد وصول

وعلى الخيف نزول

وقصدهم أن هذا أمر غلب فيه اليأس على الطمع وحيل بين المتمني وما يتمناه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨))


اللغة :

(الْآزِفَةِ) : القيامة سميت بذلك لأزوفها أي لقربها من أزف الرحيل أي قرب وفي المصباح : «أزف الرحيل أزفا من باب تعب وأزوفا دنا وقرب وأزفت الآزفة القيامة» وفي الأساس : أزف الرحيل :دنا وعجل ومنه أقبل يمشي الأزفى بوزن الجمزى وكأنه من الوزيف والهمزة عن واو ، وساءني أزوف رحيلهم وأزف رحيلهم ....

والآزفة القيامة لأزوفها. قال هدبة :

وبادرها مصر العشيّة قرمها

ذر البيت يغشاه من القرّ آزف

(الْحَناجِرِ) : في المختار : «والحنجرة بالفتح والحنجور بالضم الحلقوم» وفي القاموس : «والحنجور السفط الصغير وقارورة للذريرة والحلقوم كالحنجرة والحناجر جمعه».

الاعراب :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) كلام مستأنف مسوق للتدليل على أن الحكم له سبحانه وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يريكم صلة وآياته مفعول به وينزل لكم عطف على يريكم ومن


السماء متعلقان بينزل للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل وديمومتهما واستمرارهما. (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) الواو عاطفة وما نافية ويتذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر ومن فاعل وجملة ينيب صلة. (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر فادعوا ، ولفظ الجلالة مفعول به ومخلصين حال وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين والدين مفعول به والواو حالية ولو شرطية وكره الكافرون فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي إخلاصكم أو دعوتكم. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) رفيع الدرجات خبر لمبتدأ محذوف وذو العرش خبر ثان وجملة يلقي الروح خبر ثالث أي الله ومن أمره متعلقان بيلقي أو بمحذوف حال من الروح أي الوحي أي حال كونه ناشئا من أمره والمراد بالروح الوحي وسيأتي السبب في تسميته بذلك في باب البلاغة وعلى من متعلقان بيلقي وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ، ولينذر اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيلقي وفاعل ينذر يجوز أن يكون الله أو الروح أو من يشاء ويوم مفعول به لينذر والتلاق مضاف اليه وحذفت الياء اتباعا لرسم المصحف وقرىء بإثباتها وسمي يوم القيامة بيوم التلاق لأن الخلائق تلتقي فيه.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) يوم بدل من يوم التلاق بدل كل من كل وهم مبتدأ وبارزون خبر والجملة الاسمية في محل جر بإضافة الظرف إليها فحركة يوم حركة اعراب على المشهور وسيأتي تقرير ذلك في باب الفوائد وجملة لا يخفى حال من ضمير بارزون أو خبر ثان وقيل هي مستأنفة ورجح الزمخشري الحالية


ولعله على صواب وعلى الله متعلقان بيخفى ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وشيء فاعل يخفى. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به فالجملة مقول قول محذوف أي يقوله تعالى ويجيب نفسه والقول معطوف على ما قبله أو مستأنف في جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل يقال لمن الملك. ولمن خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر واليوم ظرف متعلق بالملك ولله خبر لمبتدأ محذوف تقديره الملك لله والواحد القهار نعتان لله وقال الزمخشري : «ينادي مناد فيقول لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار».

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الظرف متعلق بتجزى والكلام تتمة للمقول وتجزى فعل مضارع مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وبما متعلقان بتجزى وما موصولة أو ظرفية. (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا نافية للجنس وظلم اسمها المبني على الفتح واليوم ظرف متعلق بمحذوف خبر وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل لعدم الظلم أي أنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب فهو سريع في حسابه عادل في حكمه. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم وأنذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول ويوم الآزفة مفعول به ثان وإذ بدل من يوم الآزفة والقلوب مبتدأ ولدي الحناجر ظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وكاظمين حال من القلوب وعوملت الحناجر في جمعها بالياء والنون معاملة أصحابها وسيأتي تقرير الزمخشري في باب البلاغة. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ


يُطاعُ) الجملة حال من أصحاب القلوب وما نافية حجازية أو مهملة وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد وحميم اسم ما المؤخر أو مبتدأ ولا شفيع عطف على حميم وجملة يطاع صفة لشفيع وفي الكلام مجاز سيأتي تفصيله في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ في قوله «يلقي الروح من أمره» مجاز مرسل لأن المراد بالروح الوحي وسمي الوحي روحا لأنه يجري من القلوب مجرى الأرواح من الأجساد فهو مجاز مرسل علاقته السببية وجعله الزمخشري استعارة تصريحية وليس ببعيد.

٢ ـ التمثيل :

وفي قوله «إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين» استعارة تمثيلية لتجسيد الهول في ذلك اليوم الذي تكون فيه مشارفتهم للنار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ويستريحوا ولا هي ترجع إلى مواطنها فيتنفسوا الصعداء ويتروحوا ولكنها معترضة كالشجا.

٣ ـ عكس الظاهر :

وفي قوله «ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع» عكس الظاهر وقد تقدم ذكر هذا الفن أكثر من مرة إذ لا شفيع لهم أصلا فضلا عن أن يكون مطاعا.


٤ ـ قول الزمخشري في كاظمين :

وقال الزمخشري : «فإن قلت : بم انتصب كاظمين؟ قلت : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى لأن المعنى إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ويجوز أن يكون حالا عن القلوب وان القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر وانما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال تعالى :«رأيتهم لي ساجدين» وقال : فظلت أعناقهم لها خاضعين».

الفوائد :

إضافة الزمان الى الجمل :

يجوز في الزمان إذا أضيف الى جملة الإعراب على الأصل والبناء فإن كان ما وليه فعلا مبنيا فالبناء أرجح للتناسب أو لشبه الظرف حينئذ بحرف الشرط في جعل الجملة التي تليه مفتقرة إليه والى غيره كقول النابغة الذبياني :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت : ألما أصح والشيب وازع

يروى على حين بالخفض على الاعراب وعلى حين بالفتح على البناء وهو الأرجح لكونه مضافا الى مبني أصالة وهو عاتبت وقد يكون البناء حالة عارضة فيجزي لأمر كذلك كقوله :

لأجتذبن منهن قلبي تحلما

على حين يستصبين كل حليم


يروى بخفض حين على الاعراب وفتحه على البناء لكونه مضافا الى مبني وهو يستصبين فإنه مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث وماضيه استصبيت فلانا إذا جعلته في عداد الصبيان وإن كان ما وليه فعلا مضارعا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح من البناء وهو واجب عند البصريين لعدم التناسب وإنما قلنا بأرجحية الاعراب لأن نافعا وهو من كبار القراء قرأ «هذا يوم ينفع» بالفتح على البناء لا على الاعراب وأجاب جمهور البصريين بأن الفتحة فيه ليست فتحة بناء وإنما هي فتحة إعراب مثلها في صمت يوم الخميس والتزموا لأجل ذلك أن تكون الاشارة ليست لليوم وإلا لزم كون الشيء ظرفا لنفسه ولهذا قال الفارسي وابن مالك بأرجحية الاعراب ، قال في الخلاصة :

وقبل فعل معرب أو مبتدأ

أعرب ومن بنى فلن يفندا

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))


الاعراب :

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) الجملة خبر رابع للمبتدأ المحذوف الذي أخبر برفيع الدرجات وما بعده أو هو خبر من أخبار هو الذي يريكم أو هي في محل نصب على الحال أو هي تعليلية لا محل لها. ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى وخائنة الأعين مفعول به والإضافة بمعنى من أي الخائنة من الأعين فعلى هذا تكون خائنة نعت لمحذوف أي العين الخائنة ويجوز أن تكون الخائنة مصدرا كالعاقبة والكاذبة أي يعلم خيانة الأعين ، وسيأتي مزيد بحث عن هذا التعبير في باب البلاغة ، والواو حرف عطف وما عطف على خائنة الأعين وجملة تخفي الصدور صلة ما.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) الواو حرف عطف والله مبتدأ وجملة يقضي بالحق خبره وبالحق متعلقان بيقضي أو بمحذوف حال أي ملتبسا به.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة ومن دونه متعلقان بيدعون والعائد محذوف أي يدعونهم من دونه بمعنى يعبدونهم وجملة لا يقضون بشيء خبر الذين وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع البصير خبر ان لهو أو لإن.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري أنكر عليهم عدم الاعتبار بأحوال غيرهم والواو عاطفة على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا ولم يسيروا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض متعلقان بيسيروا ، فينظروا الفاء سببية أو عاطفة وينظروا


منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية أو مجزوم عطف على يسيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة اسمها والجملة في محل نصب على المفعولية لينظروا وجملة كانوا صلة الذين ومن قبلهم خبر كانوا. (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) كان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له وأشد خبرها وساغ دخول ضمير الفصل بين معرفة ونكرة وهو لا يقع إلا بين معرفتين لأن النكرة هنا ـ وهي أشد ـ بمثابة المعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها لأن اسم التفضيل المقرون بمن لا تدخل عليه أل ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز وآثارا عطف على قوة وفي الأرض صفة لآثارا وجعله الزمخشري منصوبا بمقدر أي أكثر آثارا على حد قوله «متقلدا سيفا ورمحا» (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) الفاء عاطفة وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل وبذنوبهم متعلقان بأخذهم والباء للسببية أي بسبب ذنوبهم والواو حرف عطف وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدم ومن الله متعلقان بواق ومن حرف جر زائد وواق مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم كان المؤخر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) ذلك مبتدأ والاشارة للأخذ والباء حرف جر للسببية وأن ومدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك وأن واسمها وجملة تأتيهم خبر كانت واسمها مستتر تقديره هي ورسلهم فاعل تأتيهم وبالبينات متعلقان بتأتيهم ؛ فكفروا عطف على تأتيهم ؛ فأخذهم الله عطف على قوله فكفروا.

(إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل للأخذ وان واسمها وقوي خبر أول وشديد العقاب خبر ثان.


البلاغة :

فن الفرائد :

في قوله «يعلم خائنة الأعين» فن الفرائد وهو من فنون البديع والمختص بالفصاحة دون البلاغة لأنه عبارة عن إتيان المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها تدل على جزالة منطقه ، وعظم فصاحته ، وقوة عارضته ، وأصالة عربية بحيث تكون هذه اللفظة لو سقطت من الكلام عزت على الفصحاء غرابتها وهي كثيرة في القرآن وقد مر الكثير منها وهي هنا في لفظة «خائنة» فإنها بمفردها سهلة مستساغة كثيرة الجريان على الألسن فلما أضيفت الى الأعين حصل لها من غرابة التركيب ما جعل لها في النفوس هذا الوقع بحيث لا يتاح الإتيان بمثلها ولا يكاد يقع ذو فكر سليم وذهن مستقيم على شبهها ، وقد شغلت هذه الكلمة كبار العلماء وأرباب الفصاحة وسنورد أقوالا منها ، فقال ابن عباس : «هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها» وقال مجاهد : «هي مسارقة نظر الأعين الى ما قد نهى الله عنه» وقال الضحاك «هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى» وقال السدي : «إنه الرمز بالعين» وقال سفيان : «هو النظرة بعد النظرة» وقال الفراء : «خائنة الأعين هي النظرة الثانية وما تخفي الصدور النظرة الأولى» وقال ابن عباس : «وما تخفي الصدور أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا» وقيل «وما تخفي الصدور تكنّه وتضمره».


(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

الاعراب :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة موسى مع فرعون واللام جواب القسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا متعلقان بأرسلنا وسلطان عطف على بآياتنا ومبين نعت ، ولك أن تعلق بآياتنا بمحذوف حال أي ملتبسا بآياتنا ولعله أولى. (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا : ساحِرٌ كَذَّابٌ) إلى فرعون متعلقان بأرسلنا وهامان وقارون عطف على فرعون ، فقالوا عطف على أرسلنا وساحر كذاب خبر ان لمبتدأ محذوف أي هو ساحر كذاب. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة


حرفية وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاءهم ومن عندنا متعلقان بمحذوف حال وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو لما واقتلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول وأبناء الذين مفعول به وجملة آمنوا صلة ومعه ظرف مكان متعلق بآمنوا واستحيوا عطف على اقتلوا أي استبقوا ونساءهم مفعول به.

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الواو حالية وما نافية وكيد الكافرين مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر كيد. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الواو عاطفة وقال فرعون فعل ماض وفاعل وذروني فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وأقتل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعل مستتر تقديره أنا يعود على القائل وهو فرعون لأن قومه كانوا يكفونه عن قتله تهوينا لأمره واستصغارا لشأنه ، وليدع الواو عاطفة واللام لام الأمر ويدع فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمقصود بالأمر هنا التعجيز بزعمه وربه مفعول به. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) الجملة تعليل لمطالبته بقتل موسى وإن واسمها وأن وما في حيزها مفعول أخاف وأن حرف مصدري ونصب ويبدل فعل مضارع منصوب بأن ودينكم مفعول به وأو حرف عطف وأن يظهر عطف على أن يبدل وفي الأرض متعلقان بيظهر والفساد مفعول يظهر. (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) الواو عاطفة وقال موسى فعل وفاعل وان واسمها وجملة عذت خبرها والجملة مقول القول ومن كل متكبر متعلقان بعذت وجملة لا يؤمن نعت لمتكبر وبيوم الحساب متعلقان بيؤمن.


(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

الاعراب :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) كلام مستأنف مسوق لإيراد الحل الملائم للعقدة القصصية بعد أن عاذ موسى بربه ليكفيه شر هذا اللعين. وقال رجل فعل ماض وفاعل ومؤمن نعت لرجل ومن آل فرعون نعت ثان إن كان الرجل قبطيا والتقدير وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون وإن كان الرجل إسرائيليا فمن متعلقة بيكتم في موضع المفعول الثاني ليكتم والأول أرجح ، وجملة يكتم إيمانه صفة ثالثة لرجل وسيأتي مزيد بحث عن هذا الرجل والإعراب في باب الفوائد. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتقتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ورجلا مفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي لأجل هذا القول من غير روية وتدبر وتأمل ، وأجاز الزمخشري أن يكون ظرفا على تقدير مضاف أي وقت أن يقول ، وردّ المعربون ذلك بأنه لا يجوز أن يطرد


هذا التقدير في المصدر المؤول ؛ قالوا : إن ذلك إنما يكون مع المصدر المصرح به نحو جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم لامع المقدر فلا تقول أجيئك أن يصيح الديك تريد وقت صياحه ، وسيرد مزيد بحث في هذا الموضوع في باب الفوائد. وربي مبتدأ والله خبره أو بالعكس والجملة مقول القول والواو حالية وقد حرف تحقيق وجاءكم فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وبالبينات متعلقان بجاءكم ومن ربكم في موضع نصب على الحال.

(وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية ويك فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها ضمير مستتر تقديره هو وكاذبا خبرها ، فعليه الفاء رابطة لجواب الشرط وعليه خبر مقدم وكذبه مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وجملة إن يك صادقا يصيبكم بعض الذي يعدكم عطف على الجملة السابقة ، وبعض فاعل يصيبكم وجملة يعدكم صلة. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ان واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن مفعول به وهو مبتدأ ومسرف خبر وكذاب خبر ثان والجملة صلة من. (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ولكم خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر واليوم ظرف متعلق بما تعلق به الخبر وظاهرين حال من الضمير في لكم وفي الأرض متعلقان بظاهرين أي غالبين في الأرض.

(فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) الفاء الفصيحة ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة ينصرنا خبر ومن بأس الله متعلقان بينصرنا وإن


شرطية وجاءنا فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فمن ينصرنا وفاعل جاءنا يعود على بأس الله. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) قال فرعون فعل وفاعل وما نافية وأريكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وإلا أداة حصر وما اسم موصول مفعول أريكم وجملة أرى صلة الموصول أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي ولا أعلمكم إلا ما علمت. (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) عطف على ما تقدم وسبيل الرشاد مفعول ثان لأهديكم أو نصب بنزع الخافض.

البلاغة :

الكلام المنصف :

في قوله تعالى : «أتقتلون رجلا أن يقول ... الآية» الكلام المنصف وقد استوفاه الزمخشري في تحليله الممتع وسنلخص ما قاله مع تعليق يقتضيه المقام : فقد استدرجهم هذا الرجل المؤمن باستشهاده على صدق موسى عليه السلام من عند من تنسب اليه الربوبية ببينات عدة لا ببينة واحدة وأتى بها معرفة ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم فقال لا يخلو أن يكون صادقا أو كاذبا فإن يك كاذبا فضرر كذبه عائد عليه أو صادقا فأنتم مستهدفون لإصابتكم ببعض ما يعدكم به وإنما ذكر بعض مع تقدير أنه نبي صادق والنبي صادق في جميع ما يعد به لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وأدخل في تصديقهم له ليسمعوا منه ، فهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام


ليريهم أنه لم يتكلم كلام المتعصب له ، المتحيز الى جانبه وكذلك قدم الكاذب على الصادق لهذا الغرض ، ويشبه موقف هذا الرجل المؤمن إلى حد بعيد موقف أبي بكر فقد طاف عليه الصلاة والسلام بالبيت فلقوه فأخذوا بمجامع ردائه وقالوا أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال عليه السلام : أنا ذلك فجاء أبو بكر فالتزمه وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم رافعا صوته وعيناه تسفحان حتى أرسلوه.

الفوائد :

قد يجعل المصدر ظرفا :

قد يجعل المصدر حينا لسعة الكلام فيقال كان ذلك مقدم الحاج وخفوق النجم بمعنى مغيبه وخلافة فلان وصلاة العصر ومنه سير عليه ترويحتين وانتظر به نحر جزورين وقوله تعالى وادبار النجوم ، وإنما يفعلون ذلك توسعا وإيجازا : فالتوسع بجعل المصدر حينا وليس من أسماء الزمان ، والإيجاز الاختصار بحذف المضاف إذ التقدير في قولك خفوق النجم وصلاة العصر وقت خفوق النجم ووقت صلاة العصر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، واختص هذا التوسع بالأحداث لأنها منقضية كالأزمنة وليست ثابتة كالأعيان فجاز جعل وجودها وانقضائها أوقاتا للأفعال وظروفا لها كأسماء الزمان ؛ ومعنى سير عليه ترويحتين زمن ترويحتين ومعنى وانتظر به نحر جزورين أي زمن نحر جزورين والمراد مدة هذا الزمن ، والترويحتين تثنية الترويحة واحدة التراويح في الصلاة يقال صلى ترويحتين وصلى خمس ترويحات


وهي أزمنة موقتة تقع في جواب متى من حيث هي موقتة فيقال متى سير عليه فيقال خفوق النجم ومقدم الحاج وصلاة العصر وتقع في جواب كم من حيث كانت مدة معلومة فإذا قيل كم سير عليه جاز أن يكون جوابه مقدم الحاج وخلافة فلان إن شئت رفعته بفعل ما لم يسم فاعله وإن شئت نصبته على الظرف كل ذلك عربي جيد ، فأما قوله :«وادبار النجوم» قرىء بكسر الهمزة وفتحها فمن كسر كانت مصدرا جعل حينا توسعا فهو من باب خفوق النجم ومقدم الحاج ومن فتح الهمزة كانت جمع دبر على حد قفل وأقفال أو دبر على طنب وأطناب وقد استعمل ذلك ظرفا كقولك : جئتك في دبر كل صلاة وفي أدبار الصلوات ، قال الشاعر :

على دبر الشهر الحرام بأرضنا

وما حولها جدّت عليه سنون تلمّع

فقراءة من كسر الهمزة أدخل في الظرفية في قراءة من فتح ولذلك يقل ظهور في مع المكسورة بخلاف من فتح.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ


يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

الاعراب :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الواو عاطفة وقال الذي آمن فعل ماض وفاعل وجملة آمن صلة وهو الذي قال : أتقتلون رجلا إلخ. ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وان واسمها وجملة أخاف خبر وعليكم متعلقان بأخاف ومثل مفعول به ويوم الأحزاب مضاف اليه. (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) مثل عطف بيان أو بدل لمثل الأول ودأب مضاف إليه ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي مثل جزاء وعادة من كفر قبلكم من تعذيبهم في الدنيا وما بعده عطف عليه ومن بعدهم صلة الموصول. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ولفظ الجلالة اسمها وجملة يريد خبرها وظلما مفعول به والعباد نعت لظلما يعني أن تدميرهم كان استحقاقا بما اجترحوه واقترفوه من آثام. (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) عطف على إني أخاف ويوم التناد مفعول أخاف وهو يوم القيامة والتناد بحذف الياء وإثباتها في كل من الوصل والوقف وذلك لفظا أما خطا فهي محذوفة وقد تقدم في الأعراف أنه يكثر في ذلك اليوم العصيب نداء أصحاب الجنة النار وبالعكس والنداء بالسعادة لأهلها وبالشقاوة لأهلها.


(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يوم بدل من يوم الأول وجملة تولون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومدبرين حال وما نافية حجازية ولكم خبرها المقدم ومن الله متعلقان بعاصم ومن حرف جر زائد وعاصم اسم ما والجملة في محل نصب على الحال ولك أن تهمل ما لتقدم خبرها ومن يضلل الله فما له من هاد تقدم إعرابها بنصها قريبا فجدد به عهدا.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) كلام معطوف على ما تقدم لأنه من تمام وعظ مؤمن آل فرعون ذكّرهم بعتو آبائهم على الأنبياء وقيل هو من كلام موسى فيكون مستأنفا. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءكم يوسف فعل ماض ومفعول به وفاعل ومن قبل متعلقان بمحذوف حال أي من قبل موسى فبناء الظرف على الضم لأن المضاف اليه منوي معناه وبالبينات متعلقان بجاءكم.

(فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) الفاء عاطفة وما زلتم فعل ماض وناقص والتاء اسمها وفي شك خبرها ومما صفة لشك وجملة جاءكم صلة وبه متعلقان بجاءكم. (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) حتى حرف غاية لقوله ما زلتم وإذا ظرف متضمن معنى الشرط وجملة هلك في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قلتم لا محل لها لأنها جواب إذ ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويبعث فعل مضارع منصوب بلن ولفظ الجلالة فاعل ومن بعده حال ورسولا مفعولا به. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) كذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا ويضلل الله فعل مضارع وفاعل ومن مفعول به وهو مبتدأ ومسرف مرتاب خبران له والجملة الاسمية صلة. (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ


مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) هذه الآية شغلت المعربين كثيرا وتشعبت أقوالهم فيها وأوصل السمين أوجه الاعراب فيها إلى عشرة مما يضيع القارئ في متاهاته ولعل أولاها بالذكر وأقربها الى المعقول ما ذكره أبو حيان قال ما نصه : «والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم الى الاسم الغائب لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم وأبرز ذلك في صورة تذكرهم فلم يخصهم بالخطاب وفي قوله كبر ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم».

ونورد فيما يلي الاعراب الذي اختاره الزمخشري قال : «الذين يجادلون بدل من من هو مسرف ؛ فإن قلت : كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت لأنه لا يريد مسرفا واحدا فكأنه قال : كلّ مسرف وجاز إبداله على معنى من لا على لفظها فإن قلت فما فاعل كبر؟ قلت : ضمير من هو مسرف ، فإن قلت : أما قلت هو جمع ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت : بل هو جمع في المعنى وأما اللفظ فموحد فحمل البدل على معناه والضمير الراجع إليه على لفظه وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى وله نظائر ، ويجوز أن نرفع الذين يجادلون على الابتداء ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع اليه الضمير في كبر تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتا ، ويحتمل أن يكون الذين يجادلون مبتدأ وبغير سلطان أتاهم خبرا وفاعل كبر قوله كذلك أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال ويطبع الله


كلام مستأنف ومن قال كبر مقتا عند الله جدالهم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه».

أما أبو البقاء فقد قال ما نصه : «الذين يجادلون فيه أوجه أحدها أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وهم يرجع على قوله من هو مسرف لأنه في معنى الجمع والثاني أن يكون مبتدأ والخبر يطبع الله والعائد محذوف أي على كل قلب متكبر منهم وكذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وما بينهما معترض مسدد والثالث أن يكون الخبر كبر مقتا أي كبر قولهم مقتا ؛ والرابع أن يكون الخبر محذوفا أي معاندون ونحو ذلك والخامس أن يكون منصوبا بإضمار أعني» هذا وسنورد في باب الفوائد مناقشة سريعة لهذه الأقوال.

هذه ومقتا تمييز محول عن الفاعل أي كبر مقت جدالهم وفيما يلي عبارة السمين : «كبر مقتا يحتمل أن يراد به التعجب والاستعظام وأن يراد به الذم كبئس وذلك أنه يجوز أن يبني فعل بضم العين مما يجوز التعجب منه ويجري مجرى نعم وبئس في جميع الأحكام وفي فاعله ستة أوجه» الى أن يقول : «الثاني أنه يعود على جدالهم المفهوم من يجادلون كما تقدم» الى أن يقول : «الخامس أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده وهو التمييز نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو وعند الله ظرف لكبر» وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع ويطبع الله فعل مضارع وفاعل وعلى كل قلب متعلق بيطبع وقلب مضاف ومتكبر مضاف إليه أي على كل قلب شخص متكبر وجبار نعت ثان.


الفوائد :

١ ـ مناقشة قيمة :

ذكر الزمخشري أن «من» في «من هو مسرف» عوملت معاملة لفظها من بعد معاملة معناها وقد استغرب أهل العربية هذا لأن فيه إبهاما بعد إيضاح وهذا غير لائق ببيان القرآن لأن البلاغيين يرون العكس والصواب أن يجعل الضمير في قوله كبر راجعا الى مصدر الفعل المتقدم وهو قوله يجادلون تقديره كبر جدالهم مقتا ويجعل الذين مبتدأ على تأويل حذف المضاف تقديره جدال الذين يجادلون في آيات الله والضمير في قوله كبر مقتا عائد الى الجدال المحذوف والجملة مبتدأ وخبر ومثله في حذف المصدر المضاف وبناء الكلام عليه قوله تعالى : «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله» على أحد تأويله ومثله كثير.

٢ ـ كل قلب :

كل لعموم الضلال جمع القلب لا لعموم القلوب أي شملت الضلالة جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه محل للاهتداء والمعروف أن كلّا إذا دخلت على نكرة مطلقا أو على معرفة مجموعة تكون لعموم الأفراد وإذا دخلت على معرفة مفردة تكون لعموم الأجزاء وهنا عوملت الإضافة غير المحضة معاملة الإضافة المحضة.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ


سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

اللغة :

(صَرْحاً) : الصرح ـ كما في المصباح ـ بيت واحد يبنى مفردا طولا ضخما ، وقال في الكشاف : «الصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر وهذه المادة عجيبة في مدلولها ؛ إنها تدل في جميع مشتقاتها على الظهور


والإبانة ، قالوا : لبن صريح : ذهبت رغوته وخلص وعربي صريح من عرب صرحاء : غير هجناء ونسب صريح وكأس صراح : لم تمزج وصرّحت الخمرة : ذهب عنها الزبد ولقيته مصارحة : مجاهرة وصرّح النهار : ذهب سحابه وأضاءت شمسه قال الطرماح في وصف ذئب :

إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة

ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح

وصرح بما في نفسه وبني صرحا وصروحا وقعد في صرحة داره : في ساحتها.

(الْأَسْبابَ) : جمع سبب وأسباب السموات مراقيها أو نواحيها أو أبوابها والسبب أيضا الحبل وما يتوصل به الى غيره وقد جمع زهير بينهما بقوله :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلم

والسبب أيضا من مقطعات الشعر حرف متحرك وحرف ساكن أو حرفان متحركان والأول يسمى خفيفا والثاني ثقيلا».

(تَبابٍ) : خسار وهوان وفي القاموس «التبّ والتّبب والتّباب والتبيب والتتبيب : النقص والخسار وتبّا له ، وتبّا تبيبا مبالغة».

(لا جَرَمَ) : تقدم بحثها وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد.


الاعراب :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) الواو عاطفة وقال فرعون فعل وفاعل ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد مبني على الضم وابن فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول قول فرعون ولي متعلقان بمحذوف حال أو بابن وصرحا مفعول به ولعل واسمها وجملة أبلغ الأسباب خبر لعل. (أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أسباب السموات بدل من الأسباب بدل كل من كل وفائدة البدل أن الشيء إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيما لشأنه وهذا هو مراد فرعون ، فأطلع الفاء فاء السببية وأطلع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية جوابا للأمر وهو ابن أو جوابا للترجي وهو لعلي أبلغ وقرىء بالرفع على أن الفاء عاطفة فهو داخل في حيز الترجي وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد والى إله موسى متعلقان بأطلع واني الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وأظنه فعل مضارع والهاء مفعول به أول وكاذبا مفعول به ثان والجملة خبر إن.

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) الكاف نعت لمصدر محذوف وزين فعل ماض مبني للمجهول ولفرعون متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل وصدّ عطف على زين وصد فعل ماض مبني للمجهول بضم الصاد وفتحها وكلتا القراءتين سبعية وعن السبيل متعلقان بصد. (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وكيد فرعون مبتدأ وإلا أداة حصر وفي تباب خبر كيد.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) عطف على


ما تقدم وقال الذي فعل ماض وفاعل وجملة آمن صلة ويا قوم نداء تقدم إعرابه واتبعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة لأنها من ياءات الزوائد في محل نصب مفعول وأهدكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وسبيل الرشاد مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض والرشاد اسم للمصدر لرشد.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) سيأتي في باب البلاغة سر تكرير النداء واقترانه بالواو في النداء الثالث كما سيأتي. وإنما كافة ومكفوفة وهذه مبتدأ والحياة بدل والدنيا نعت ومتاع خبر وان الآخرة إن واسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ ودار القرار خبر إن أو خبر هي والجملة خبر إن. (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) من اسم شرط جازم مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وسيئة مفعول به والفاء رابطة ولا نافية ويجزى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر ومثلها مفعول يجزى الثاني. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ). الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ وعمل فعل ماض فعل الشرط وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا ومن ذكر حال أو أنثى عطف على من ذكر ، وهو مؤمن الواو للحال وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة نصب على الحال.

(فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) الفاء رابطة وأولئك اسم إشارة مبتدأ وجملة يدخلون الجنة خبر أولئك والجملة في محل جزم جواب الشرط وجملة يرزقون حال والواو نائب فاعل


وفيها حال وبغير نعت للمفعول به المحذوف أي يرزقون رزقا واسعا بلا حساب ولا تبعة. (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) عطف على ما تقدم وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة أدعوكم حالية والى النجاة متعلقان بأدعوكم وتدعونني الى النار عطف على أدعوكم الى النجاة. (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) جملة تدعونني بدل وجملة وتدعونني بمثابة التعليل ولأكفر اللام للتعليل وأكفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره أنا وبالله متعلقان بأكفر وأشرك عطف على لأكفر وما مفعول به وجملة ليس لي به علم صلة وليس فعل ماض ناقص ولي خبرها المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر.

(وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الواو عاطفة وأنا مبتدأ وجملة أدعوكم خبر وإلى العزيز الغفار متعلقان بأدعوكم. (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) لا نافية وجرم فعل ماض بمعنى حق ووجب وأن وما في حيزها فاعل جرم أي حق ووجب بطلان دعوته وأن واسمها وحقها أن تكتب مفصولة لأن ما اسم موصول بمعنى الذي لكنها رسمت موصولة اتباعا لسنة المصحف وجملة تدعونني صلة وإليه متعلقان بتدعونني وجملة ليس خبر أن وله خبر ليس المقدم ودعوة اسمها المؤخر وفي الدنيا نعت ولا في الآخرة عطف على في الدنيا.

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) عطف على ما تقدم وأن واسمها والى الله خبرها وان المسرفين عطف أيضا وهم ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ وأصحاب النار خبر أن أو خبر هم والجملة خبر أن. (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ)


الفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتذكرون فعل مضارع والواو فاعل وما مفعول به وجملة أقول صلة ولكم متعلقان بأقول وأفوض عطف وأمري مفعول به والى الله متعلقان بأفوض أي إذا نزل بكم العذاب.

(إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) إن واسمها وبصير خبرها وبالعباد جار ومجرور متعلقان ببصير. (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي لما توعدوه بالقتل وقصدوه به فعلا هرب منهم ولاذ بالمغاور وشعاب الجبال فطلبوه فلم يقدروا عليه فوقاه الله. ووقاه الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيئات مفعول به ثان أو نصب بنزع الخافض وما مصدرية أو موصولة أي سيئات مكرهم به أو سيئات الذي مكروا به وحاق فعل ماض وبآل فرعون متعلقان بحاق وسوء العذاب فاعل. (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) النار خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سوء العذاب ويجوز أن تعرب بدلا من سوء العذاب ويجوز أن تعرب مبتدأ وجملة يعرضون خبر وعلى الوجهين الأولين تعرب جملة يعرضون حالا وقرىء النار بالنصب على الاختصاص بفعل محذوف وعليها متعلقان بيعرضون وغدوا وعشيا ظرفان متعلقان بيعرضون أيضا.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم تقوم الساعة وجملة أدخلوا مقول القول ويجوز أن يتعلق بأدخلوا أي ادخلوا يوم تقوم الساعة وعلى هذين الوجهين يكون الوقف تاما على قوله وعشيا ويجوز أن يكون معطوفا على الظرفين قبله فيكون متعلقا بيعرضون والوقف


على هذا الوجه على قوله الساعة وادخلوا مقول قول مقدر أي يقال لهم كذا وكذا وأدخلوا فعل أمر من أدخل وآل فرعون مفعول به أول وأشد العذاب مفعول به ثان وقرىء أدخلوا بهمزة الوصل من دخل يدخل فآل فرعون حينئذ منادى حذف منه حرف النداء وأشد العذاب مفعول به.

البلاغة :

في تكرير نداء قومه مبالغة في التنبيه والتحدي وقرع العصا وإمحاض النصيحة والإيقاظ من سنة الغفلة ، كأنما عز عليه أن يستهدفوا للمصير المحزن الذي سيصيرون إليه وكأنه مترجح بين التلطف بهم لأن ما يحزنهم يحزنه وما يسوءهم يسوءه فهم قومه على كل حال ، وقد سدروا في متاهات الغفلة وقد سبق تقرير هذا الموقف في مناصحة إبراهيم لأبيه عند ما كرر نصيحته إليه متلطفا بقوله : يا أبت مكررا.

هذا وقد جيء بالواو في النداء الثالث خلافا لأن النداء الثاني بمثابة بيان للأول وتفسير له فأعطي حكمه في عدم دخول الواو عليه وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة.

الفوائد :

١ ـ في نصب قوله «فأطلع» ثلاثة أوجه :

أـ انه جواب للأمر وهو قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه ومثاله في الشعر قول أبي النجم العجلي :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا


ب ـ إنه جواب للترجي والى هذا نحا الزمخشري قال : «وقرىء فأطلع بالنصب على أنه جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني».

ج ـ انه معطوف على التوهم لأن خبر لعل كثيرا ما جاء مقرونا بأن في النظم والنثر فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وان كان غير مقيس.

٢ ـ لا جرم :

بسطنا القول في هود حول «لا جرم» وأوردنا الأوجه المستفيضة فيها وقد اخترنا في الإعراب ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وجمهور البصريين فتكون «لا» ردا لما دعاه إليه قومه و «جرم» بمعنى كسب أي وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، ويجوز أن يكون «لا جرم» نظير «لا بد» من الجرم وهو القطع فكما أنك تقول لا بد لك أن تفعل ، والبد من التبديد الذي هو التفريق ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا فكذلك «لا جرم» معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام بل هي باطلة أبدا.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا


رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

اللغة :

(يَتَحاجُّونَ) : يتخاصمون يقال : حاجّه حجاجا ومحاجّة ومحاجة : خاصمه والمحجاج الكثير الخصومة.

(تَبَعاً) : جمع تابع كخدم جمع خادم أو هو مصدر وصف به.

(جَهَنَّمَ) سيأتي القول فيها في باب البلاغة.

الاعراب :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الواو استئنافية وإذ ظرف لما مضى متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يا محمد لقومك وجملة يتحاجون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيتحاجون والفاء تفريعية لتفصيل التحاج والتخاصم ويقول الضعفاء فعل مضارع وفاعل وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) إن واسمها وجملة كنا خبرها والجملة مقول القول وكان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف صفة لتبعا أو متعلقان به إذا اعتبر مصدرا ،


فهل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومغنون خبره وعنا متعلقان بمغنون ونصيبا مفعول لمغنون أي دافعون عنا نصيبا من النار ، وعبارة أبي البقاء «نصيبا منصوب بفعل دل عليه مغنون تقديره : هل أنتم دافعون عنا أو مانعون ويجوز أن يكون في موضع المصدر كما كان شيء كذلك ألا ترى الى قوله تعالى : «لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا» فشيئا في موضع غنى فكذلك نصيبا» ومن النار صفة لنصيبا.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) قال الذين فعل ماض وفاعل وجملة استكبروا صلة الذين وإنا إن واسمها وكلّ مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم وفيها خبر كل والجملة خبر إن وان واسمها وجملة قد حكم خبر إن وبين العباد ظرف متعلق بحكم. (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل ماض وفاعل وفي النار متعلقان بمحذوف صلة الذين ولخزنة جهنم متعلقان بقال ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة وادعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وربكم مفعول به والجملة مقول القول ويخفف فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وعنا متعلقان بيخفف ويوما ظرف متعلق بيخفف أيضا ومن العذاب صفة لمحذوف هو مفعول يخفف أي يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود لخزنة جهنم والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي


والواو عاطفة على مقدر أي ألم تنتهوا عن هذا ولم تك تأتيكم ، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتك فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر وجملة تأتيكم خبر ورسلكم فاعل تأتيكم وقد تنازعه كل من تك وتأتيكم فأعطى فاعلا للثاني وأضمر في الأول ويجوز العكس وبالبينات متعلقان بتأتيكم (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب لإثبات النفي وقالوا فعل وفاعل أيضا ، فادعوا الفاء الفصيحة وادعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والواو للحال وما نافية ودعاء مبتدأ والكافرين مضاف اليه وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر دعاء.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) تعليل لضياع دعائهم لأنه مسلوب الحجة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة ننصر رسلنا خبر إنا والذين عطف على رسلنا وجملة آمنوا صلة وفي الحياة الدنيا متعلقان بننصر ولا يقدح في هذا التأكيد ما يبدو أنهم يغلبون في بعض الأحيان ابتلاء وامتحانا فإن العبرة بالعواقب والأمور بخواتيمها ، ويوم يقوم الاشهاد عطف على في الحياة الدنيا أي لننصرنهم في الحياة الدنيا وفي يوم القيامة وجملة يقوم الاشهاد في محل جر بإضافة الظرف إليها والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يوم بدل من يوم قبله وجملة لا ينفع في محل جر بإضافة الظرف إليها والظالمين مفعول به ومعذرتهم فاعل والواو عاطفة ولهم خبر مقدم واللعنة مبتدأ مؤخر ولهم سوء الدار عطف على لهم اللعنة.


البلاغة :

في قوله «لخزنة جهنم» فيه ـ كما قلنا ـ وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار غورا من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر ، وكان النابغة يسمي الجهنام لبعد غوره في الشعر ، والأول أظهر والتفخيم فيه من وجهين : أحدهما وضع الظاهر موضع المضمر والثاني ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه لأن جهنم أفظع من النار إذ النار مطلقة وجهنم أشدها ، هذا وقد جاء في القاموس ما نصه : «وركية جهنّام مثلثة الجيم وجهنم كعملّس بعيدة القعر وبه سميت جهنم أعاذنا الله تعالى منها» قال شارحه : «قوله وبه سميت جهنم جرى على أنها عربية لم تجر للتأنيث والتعريف وجرى يونس وغيره على أنها أعجمية لا تجري للتعريف والعجمة» وقوله لم تجر بمعنى لم تنصرف وهي عبارة سيبويه واصطلاح البصريين المنصرف وغير المنصرف واصطلاح الكوفيين المجري وغير المجري.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ


وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

الاعراب :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد نموذج عظيم من نماذج النصر الذي وعد الله به أنبياءه وأولياءه في الدنيا واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به والهدى مفعول به ثان وأورثنا عطف على آتينا وهو فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان. (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) هدى وذكرى نصب على أنهما مفعول من أجله أي لأجل الهدى والذكرى أو على أنهما مصدران في موضع الحال ولأولي الألباب نعت لذكرى أو هو متعلق بذكرى. (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه الحقيقة الثابتة وهي أن الله ينصر رسله وأولياءه فاصبر يا محمد على أذى قومك وإن واسمها وخبرها واستغفر لذنبك عطف على فاصبر أي واستدرك المفرطات بذنبك وقيل الكلام على حذف مضاف أي لذنب أمتك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) عطف أيضا وبحمد ربك حال وبالعشي والإبكار متعلقان بسبح. (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) إن واسمها وجملة يجادلون خبر إن وفي آيات


الله متعلقان بيجادلون وبغير سلطان حال أي حال كونهم غير مستندين في جدالهم الى حجة إلا المكابرة واللجاج وهما سلاحان مغلولان وجملة أتاهم نعت لسلطان. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) إن نافية وفي صدورهم خبر مقدم وإلا أداة حصر وكبر مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وما نافية حجازية وهم اسمها وببالغيه الباء حرف جر زائد وبالغيه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والجملة نعت لكبر أي ببالغي مقتضى كبرهم وهو التعاظم. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الفاء الفصيحة واستعذ فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالله متعلقان باستعذ وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع البصير خبر إن.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) اللام لام الابتداء وخلق السموات والأرض مبتدأ وأكبر خبر ومن خلق الناس متعلقان بأكبر ولكن الواو للحال ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها وسيأتي سر تلاحم هذا القول مع ما قبله في باب البلاغة. (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) الواو عطف على ما تقدم وما نافية ويستوي الأعمى فعل مضارع وفاعل والبصير عطف على الأعمى والذين آمنوا عطف على الأعمى والبصير وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات جملة معطوفة داخلة في حيز الصلة ولا المسيء الواو عاطفة ولا زائدة للتوكيد والمسيء عطف على ما قبله وسيأتي ترتيب هذه المنسوقات في باب البلاغة وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان وما زائدة وتتذكرون فعل مضارع مرفوع وفاعله.


(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وآتية خبرها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها والجملة خبر ثان لأن ولكن أكثر الناس لا يؤمنون تقدم إعراب هذه الجملة قبل قليل فجدد به عهدا.

البلاغة :

١ ـ فن الإلجاء :

في قوله «لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس» فن رفيع من فنون البلاغة وهو فن الإلجاء وهو أن يبادر المتكلم خصمه بما يلجئه الى الاعتراف بصحته وبهذا صح التحامه مع ما قبله من الكلام فإن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على أمور كثيرة من الجدال والمغالطة واللجاج والسفسطة وفي مقدمتها إنكار البعث وهو في الواقع أصل المجادلة ومحورها الذي عليه تدور ، فبادر سبحانه الى مبادهتهم بما يسقط في أيديهم ، ويقطع عليهم طرق المكابرة والمعاندة وهو خلق السموات والأرض وقد كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم فخلق الناس بالقياس شيء هين ومن قدر على خلقها مع عظمها كان ولا شك على خلق الإنسان الضعيف أقدر وبه أقمن. هذا والأولوية في هذا الاستشهاد على درجتين : إحداهما أن القادر على العظيم هو على الحقير أقدر وثانيهما أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الإعادة وما من ريب في أن الابتداء أعظم وأبهر من الإعادة.


٢ ـ فن حسن النسق :

وفي قوله «وما يستوي الأعمى والبصير» الآية فن حسن النسق وفي ترتيب النسق ثلاث طرق إحداها أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية فالأعمى يجاور البصير وهذان الوصفان مستعاران لمن غفل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي المحسن يجاور المسيء وقدم الذين آمنوا لمجاورته للبصير وناهيك بهذه المجاورة شرفا للمؤمن ، وثاني الطريقتين أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى «مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع» وثالثتهما أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى : «وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور» وهذه الطرق الثلاث يتخير المتكلم في إيرادها حسب مقتضى الحال ووفق نواميس البلاغة وطرائقها والله أعلم.

الفوائد :

لام الابتداء :

تفيد أمرين : أولهما توكيد مضمون الجملة ولهذا زحلقوها في باب إن عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين ، وثانيهما تخليص المضارع للحال. وتدخل باتفاق في موضعين :

١ ـ على المبتدأ نحو : «لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون».


٢ ـ بعد إن وتدخل في هذا الباب على ثلاثة باتفاق : الاسم نحو «إن ربي لسميع الدعاء» والمضارع لشبهه به نحو «وإن ربك ليحكم بينهم» والظرف نحو «وإنك لعلى خلق عظيم» وعلى ثلاثة باختلاف : الماضي الجامد نحو (إن زيدا لعسى أن يقوم) والماضي المقرون بقد والماضي المتصرف المجرد من قد.

ومن لام الابتداء لام القسم نحو «لينبذن في الحطمة» ونحو «ولسوف يعطيك ربك فترضى».

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

اللغة :

(داخِرِينَ) : صاغرين وفي المصباح : «دخر الشخص يدخر بفتحتين دخورا : ذل وهان وأدخرته بالألف للتعدية».

الاعراب :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق


لبيان فضل الدعاء أي العبادة وسيرد في باب البلاغة المجاز في هذه الكلمة وقال ربكم فعل ماض وفاعل وادعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة مقول القول ، واستجب فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان باستجب. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) إن واسمها وجملة يستكبرون صلة الذين عن عبادتي متعلقان بيستكبرون وجملة سيدخلون خبر إن وجهنم مفعول به على السعة وداخرين حال. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) الله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل لأنه بمعنى خلق والليل مفعول به ولتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وفيه متعلقان بتسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبر إن وعلى الناس متعلقان بفضل ولكن الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبر لكن.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) اسم الإشارة مبتدأ والاشارة الى المعلوم المتميز بالأفعال المقتضية لربوبيته والله خبر أول وربكم خبر ثان وخالق كل شيء خبر ثالث (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا فجدد به عهدا والجملة خبر رابع والفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال وتؤفكون أي تصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي فكيف تصرفون عن الإيمان بعد ما قامت البراهين على ربوبيته؟


(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل إفك هؤلاء إفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون ، والذين نائب فاعل وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وبآيات الله متعلقان بيجحدون وجملة يجحدون خبرها.

البلاغة :

١ ـ المجاز والمشاكلة :

في قوله «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» مجاز مرسل علاقته السببية لأن الدعاء سبب العبادة وفي قوله أستجب لكم مشاكلة لأن الإثابة مترتبة عليها وإنما جعلنا الكلام مجازا بقرينة قوله بعد ذلك «إن الذين يستكبرون عن عبادتي» ويؤيد هذا المجاز حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الدعاء هو العبادة» وقرأ هذه الآية ، وقول ابن عباس : أفضل العبادة الدعاء ، على أن بعضهم حمل الآية على الظاهر وقال إن الدعاء هو السؤال والتضرع وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث في هذا الصّدد.

٢ ـ الإسناد المجازي :

وفي قوله «الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا» إسناد مجازي فقد أسند الإبصار الى النهار لأنه يبصر فيه ولأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار وقرن الليل بالمفعول لأجله والنهار بالحال لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدّى الآخر لأنه لو قيل


لتبصروا فيه فاتت الفصاحة الكامنة في الإسناد المجازي ، ولو قيل ساكنا ـ والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ـ لم تتميز الحقيقة من المجاز.

٣ ـ وضع الظاهر موضع المضمر :

وفي قوله «ولكن أكثر الناس لا يشكرون» وسع الظاهر موضع المضمر فقد كان السياق يقتضي أن يقول ولكن أكثرهم لا يشكرون فلا يتكرر ذكر الناس ولكن في هذا التكرير تخصيصا لكفران النعمة بهم وانهم هم المتميزون بهذه الصفة المنبوّة على الطباع تتوالى عليهم النعم وتترادف الآلاء ، ويتهيأ لهم كل ما يصبون إليه من مناعم العيش وهم مصرون على الجحود والنكران ، أليست هذه سمة الناس في مختلف الظروف والأحوال؟ وقد كرر سبحانه تقرير ذلك فقال : «إن الإنسان لربه لكنود» وقال «إن الإنسان لظلوم كفار».

الفوائد :

١ ـ قال الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته «اختلف الناس في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال : الدعاء عبادة للحديث : «ان الدعاء هو العبادة» ولأن الدعاء إظهار الافتقار الى الله تعالى ، وقالت طائفة : السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم ، والرضا بما سبق به القدر أولى ، وقال قوم يكون صاحب دعاء بلسانه ورضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا» قال القشيري : «والأولى أن يقال الأوقات مختلفة ، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من


السكوت وهو الأدب ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب وإنما يعرف ذلك بالوقت فإذا وجد في قلبه إشارة الى الدعاء فالدعاء أولى به وإذا وجد إشارة الى السكوت فالسكوت أنم».

فإن قيل : كيف قال تعالى «ادعوني أستجب لكم» وقد يدعو الإنسان كثيرا فلا يستجاب له؟ وقيل في الجواب : «الدعاء له شروط منها : الإخلاص في الدعاء ، وأن لا يدعو وقلبه لاه ومشغول بغير الدعاء ، وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان ، وأن لا يكون فيه قطيعة رحم ؛ فإذا كان الدعاء بهذه الشروط كان حقيقا بالإجابة فإما أن يعجلها له وإما أن يؤخرها له ، يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يؤخر له في الآخرة وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا : يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال : يقول : دعوت فما استجاب لي».

وأورد الغزالي سؤالا آخر قال : «فإن قيل : فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مردّ؟ فاعلم أن من جملة القضاء ردّ البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لردّ البلاء ووجود الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح ، والماء سبب لخروج النبات من الأرض ، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء ، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح وقد قال الله تعالى : «وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم» فقدر الله تعالى الأمر وقدر سببه».

وهذا سؤال قد تكون الإجابة متقدمة عليه وقد روينا في كتاب الترمذي : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :


«من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء» ومعنى سره : أعجبه وأوقعه في الفرح والسرور وأن يستجيب الله فاعل سره ومفعول يستجيب محذوف أي دعاءه وقوله عند الشدائد ظرف للاستجابة أي حصول الأمور الشديدة من المكروهات ، والكرب بضم ففتح جمع كربة وهي الغم يأخذ بالنفس ، وقوله فليكثر الدعاء إلخ جواب الشرط ، ولرخاء بفتح الراء سعة العيش وحسن الحال وإنما كان كذلك لأن إكثاره في وقت الرخاء يدل على صدق العبد في عبوديته والتجائه الى ربه في جميع أحواله وانه يشكره في الرخاء كما يشكره في الشدة ويتوجه إليه بكليته ليكون له عدة.

وقال الإمام أبو حامد الغزالي في الاحياء : «آداب الدعاء عشرة : والأول أن يترصّد الأزمان الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار ، الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كحالة السجود والتقاء الجيوش ونزول الغيث وإقامة الصلاة وبعدها ، الثالث استقبال القبلة ورفع اليدين ويمسح بهما وجهه في آخره ، الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر ، الخامس أن لا يتكلف السجع ، السادس التضرع والخشوع والرهبة ، السابع أن يجزم بالطلب ويوقن بالإجابة ، الثامن أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثا ولا يستبطىء الإجابة ، التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى ، العاشر هو الأصل في الإجابة وهو التوبة ورد المظالم والإقبال على الله تعالى».

٢ ـ لمحة عن القشيري :

اقتبسنا في هذا الفصل قبسة من الرسالة القشيرية ولإتمام الفائدة يحسن بنا أن نورد لمحة موجزة عنها وعن مؤلفها لأنها تمدنا


بصورة كاملة عن التصوف ورجاله منذ ظهر التصوف في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حتى عصر المؤلف ، وتعتبر على الرغم من صغر حجمها نسبيا أفضل وثيقة علمية وتاريخية في موضوعها ، وقبل تلخيص الرسالة لا بد من الإشارة الى صاحبها فهو الشيخ عبد الكريم بن هوازن المعروف بزين الإسلام أبي القاسم القشيري ولد سنة ٣٧٦ ه‍ ولد في بيت عربي قح فقد كان أبوه قشيريا من قبيلة قشير بن كعب التي وردت خراسان زمن الأمويين وكانت أمه سلمية وخاله أبو عقيل السلمي من وجوه دهاقين ناحية استوا قريبا من نيسابور وفي هذه المنطقة عاش أجداده الأقربون ، ونحن لا نعلم إلا القليل عن طفولته الأولى ولكننا نعلم أن أباه مات وهو صغير فعهد بأمر تربيته الى أبي القاسم اليماني الذي كان صديقا لأسرة القشيري فقرأ عليه الأدب والعربية ثم انتقل الى نيسابور حيث أخذ العلم عن بعض الأجلاء من علمائها وحضر مجلس الأستاذ الشهير أبي علي الحسن بن علي الدقاق الذي كان من كبار مشايخ الصوفية في عصره فأعجب القشيري به واستحسن كلامه وسلك طريقته فقبله الشيخ وأشار عليه بتعلّم العلم فحضر دروس الشيخ أبي بكر محمد بن بكر الطوسي ثم الأستاذ أبي بكر بن نورك الذي توفي سنة ٤٠٦ ه‍ وكان أصوليا كبيرا وبعد وفاته اختلف الى الأستاذ أبي اسحق الأسفراييني وجمع بين طريقته وطريقة ابن نورك ثم نظر بعد ذلك في كتب القاضي أبي بكر الباقلاني المتوفى سنة ٤٠٣ ه‍ وهو مع كل هذا يداوم على حضور مجلس أبي علي الدقاق إلى أن اختاره لصحبته وزوّجه من ابنته ولما مات الأستاذ أبو علي صحب الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي المؤرخ الصوفي الكبير وأصبح شيخ خراسان غير منازع في الفقه على مذهب الإمام الشافعي والكلام على مذهب الإمام أبي الحسن


الأشعري كما كانت له الصدارة في الحديث والأدب واللغة وقد وصف الباخرزي المتوفى سنة ٤٦٧ مقدرته على الوعظ المؤثر بقوله : «ولو قرع الصخر بسياط تحذيره لذاب ، ولو ربط إبليس في مجلس تذكيره لتاب ، وله فصل الخطاب في فضل المنطق المستطاب».

ويبدو أن الشهرة الواسعة التي تمتع بها القشيري في نيسابور قد أثارت الحقد والحسد في نفوس فقهاء هذه المدينة فشرعوا يعدون العدة للحطّ من قدره وذلك بتلفيق الاتهامات وإذاعة الأكاذيب حوله وقد نجحوا في مسعاهم وحلت بالقشيري محنة شديدة لقي فيها ألوانا من العنت والآلام والتشريد ونحيل القارئ الى طبقات السبكي ليقرأ تفاصيل تلك المحنة التي دامت خمس سنين إلى أن ردّ عليه عضد الدولة شرفه والتأم شمل مجلسه كما كان.

خلاصة الرسالة القشيرية :

تتألف الرسالة من الأقسام الرئيسية الآتية :

١ ـ مقدمة يشرح فيها الباعث على تأليفه الرسالة فقد لاحظ أن بعض صوفية عصره قد ضلوا سبل الرشاد فعقد النية على وضع كتاب يرجع فيه بالتصوف الى سيرته الأولى ، ويخلصه من البدع التي تسربت إليه وهذه هي عبارته نوردها بنصها لما فيها من روعة التصوير لهذه المأساة ، يقول : «اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل :

أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها


ويذكر القشيري في هذه المقدمة أيضا بيانا بأصول العقائد الإيمانية التي دان بها أوائل الصوفية وبنوا قواعد أمرهم في الطريق عليها ثم يلخص وجهة نظره في تسع مسائل يرجع إليها من يشاء في رسالته.

٢ ـ وهو قسم يترجم فيه لطائفة من الصوفية مبتدئا بإبراهيم ابن أدهم ومنتهيا بأحمد بن عطاء.

٣ ـ وهو تفسير ألفاظ تدور بين الصوفية وبيان ما يشكل منها.

٤ ـ وهو في أدب الطريق وما يعرض للسالك من عقبات في سفره الى الله.

٥ ـ خاتمة بها وصيته للمريدين.

هذا وقد كانت الرسالة موضع عناية الدارسين وقد وضعت عليها عدة شروح أشهرها شرح الشيخ زكريا الأنصاري.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ


نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

الاعراب :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان تفضله المتعلق بالزمان والله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بمحذوف حال والأرض مفعول به أول وقرارا مفعول به ثان لأن الجعل هنا بمعنى التصيير وإذا اعتبرت بمعنى الخلق كانت قرارا حالا بمعنى مستقرة والسماء بناء عطف على ما تقدم وصوركم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، فأحسن عطف على صوركم وصوركم مفعول به ومعنى كون السماء بناء إنها مبنية كالقبة المضروبة في نظر العين. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ورزقكم عطف على ما تقدم ومن الطيبات متعلقان برزقكم وذلكم مبتدأ والله خبر وربكم خبر ثان.

(فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الفاء حرف عطف وتبارك فعل ماض والله فاعل ورب العالمين نعت الله. (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هو مبتدأ والحي خبر وكلمة الشهادة التي تقدم اعرابها خبر ثان فادعوه الفاء الفصيحة وادعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول لمخلصين.


(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم إعرابها في مستهل الكتاب والجملة مقول لقول محذوف هو حال من فاعل فادعوه أي قائلين الحمد لله إلخ ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة على أنها من كلامه ذاته سبحانه.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) إن واسمها وخبرها مقول القول وجملة نهيت خبر إن والتاء نائب فاعل وأن أعبد المصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي عن عبادة الذين تدعون وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجاءني البينات فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة جاءني في محل جر بإضافة الظرف إليها.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) عطف على نهيت وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بالإسلام ولرب العالمين متعلقان بأسلم. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم صلة ومن تراب متعلقان بخلقكم والكلام مستأنف مسوق لبيان كيفية تكون البدن وما بعده عطف عليه. (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) عطف أيضا ويخرجكم فعل مضارع وفاعل وطفلا حال من الكاف في يخرجكم. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) عطف أيضا واللام للتعليل وتبلغوا منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم وكذلك لتكونوا شيوخا وشيوخا خبر كان وقرىء بضم الشين وكسرها. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) الجملة مستأنفة ومنكم متعلقان بمحذوف خبر ل «من» ومن قبل متعلقان بيتوفى (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الواو عاطفة


ولتبلغوا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف أيضا تقديره ونفعل ذلك ونحوه وأجلا مفعول به ومسمى نعت ولعلكم تعقلون عطف على قوله لتبلغوا أشدكم.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة يحيي ويميت صلة ، فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قضى في محل جر بإضافة الظرف إليها وأمرا مفعول به ، فإنما الفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويقول فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو وله متعلقان بيقول وكن فعل أمر تام وفاعل مستتر تقديره أنت والفاء استئنافية وجملة يكون خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يكون وقرىء فيكون بفتحها على أن الفاء سببية والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.

الفوائد :

كائنا ما كان :

اختلف في كان وكائنا في قولك : لأضربنه كائنا ما كان فقال الفارسي : هما تامان في الموضعين وما مصدرية وهي وما بعدها فاعل كائنا أي كونه وقيل هما ناقصان في الموضعين وفي كائنا ضمير هو اسمه وخبره ما وهي موصولة وصلتها كان واسمها وخبرها واسمها ضمير مستتر فيها وخبرها محذوف تقديره إياه واسم كائن المستتر فيه وخبر كان عائدان على الشخص المضروب وتقدير الكلام حينئذ لأضربنه كائنا الذي كان إياه وكائنا حال من مفعول لأضربنه وفيه اطلاق ما على العاقل وهو جائز ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة وقد يقال من كان فيكون الكلام جاريا على وجهه.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

اللغة :

(السَّلاسِلُ) : جمع سلسلة وهي الدائرة من حديد ونحوه تتصل أجزاؤها أو حلقاتها بعضها ببعض ومنه سلاسل البرق أي ما استطال منه في عرض السحاب وسلاسل الكتاب : سطوره ، قال الراغب : وتسلسل الشيء اضطرب كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه وماء سلسل أي متردد في مقره.

(يُسْجَرُونَ) : يوقدون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود.

الاعراب :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري التعجبي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع


مجزوم بإلى والفاعل مستتر تقديره أنت والى الذين متعلقان بتر أي تنظر وجملة يجادلون بآيات الله صلة وأنى اسم استفهام في محل نصب حال ويصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومتعلقه محذوف أي يصرفون عن الإيمان بالكلية. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الذين بدل من الذين الأولى وكذبوا صلة وبالكتاب متعلقان بكذبوا وبما عطف على بالكتاب وجملة أرسلنا صلة وبه متعلقان بأرسلنا ورسلنا مفعول به والفاء استئنافية وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع مرفوع والجملة مستأنفة مسوقة للتهديد ، هذا ويجوز أن تعرب الذين خبرا لمبتدأ محذوف فيكون محلها الرفع أو منصوبا على الذم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره فسوف يعلمون والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط. (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيعلمون أو هي في محل نصب مفعول به ليعلمون ولا يتنافى كون الظرف ماضيا وسوف يعلمون مستقبلا ففي جعلها مفعولا به تفاد من استحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي ، ولك أن تقول لا منافاة لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال.

وعبارة السمين «ولا حاجة لإخراج إذ عن موضوعها بل هي باقية على دلالتها على المضي وهي منصوبة بقوله فسوف يعلمون ، نصب المفعول به أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أي وقت سبب الأغلال وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا كأنه قيل سيعرفون وقت معاصيهم التي تجعل الأغلال في أعناقهم وهو وجه صحيح غاية ما فيه التصرف في


إذ تجعلها مفعولا به ولا يضرنا ذلك فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون منصوب باذكر مقدرا ولا تكون حينئذ إلا مفعولا به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي وجوزوا أن تكون منصوبة باذكر مقدر أي اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها».

وعبارة أبي البقاء : إذ ظرف زمان ماض والمراد بها الاستقبال هنا لقوله تعالى : فسوف يعلمون ، والأغلال مبتدأ وفي أعناقهم خبر والسلاسل عطف على الأغلال والظرف في نية التأخير عنهما فهو خبر عنهما معا وجملة يسحبون حال أو مبتدأ وخبره جملة يسحبون والرابط مقدر تقديره بها وقرىء بنصب السلاسل ويسحبون بفتح الياء فهو مفعول مقدم ليسحبون.

وعبارة الزمخشري : «وعن ابن عباس والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء على عطف الجملة الفعلية على الاسمية وعنه والسلاسل يسحبون بجر السلاسل ووجهه أنه لو قيل إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله إذ الأغلال في أعناقهم لكان صحيحا مستقيما فلما كانتا عبارتين متعقبتين حمل قوله والسلاسل على العبارة الأخرى ونظيره :

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا بين غرابها

كأنه قيل بمصلحين وقرىء وبالسلاسل يسحبون» فهو على قراءة الجر من باب عطف التوهم وقد تقدم بحثه. وعندئذ يكون فيه فن القلب وهو كثير شائع في كلامهم وقد تقدم بحثه وفيه عطف التوهم بعد ذلك.


(فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) في الحميم متعلقان بيسحبون ، ثم حرف عطف للتراخي وفي النار متعلقان بيسجرون والجملة عطف على ما قبلها. (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ثم قيل أي ثم يقال أو يقولون وصيغة الماضي لتحقق وقوع القول ولهم متعلقان بقيل وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كنتم صلة وجملة تشركون خبر كنتم. (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) من دون الله حال وقالوا فعل وفاعل وجملة ضلوا عنا مقول القول (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) بل حرف إضراب انتقالي ولم حرف نفي وقلب وجزم ونكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره نحن وجملة ندعو خبرها ومن قبل حال وشيئا مفعول به وكذلك نعت لمصدر محذوف ويضل الله الكافرين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة للإضلال أو العذاب وبما خبر وجملة كنتم صلة وجملة تفرحون خبر كنتم وفي الأرض متعلقان بتفرحون وبغير الحق حال. (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) عطف على قوله كنتم تفرحون والمرح هو الفرح أو أشده كما في المصباح. (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف وأبواب جهنم مفعول به على السعة وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والفاء عاطفة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف أي هي ولم بقل مدخل المتكبرين لإفادة الديمومة والخلود بلفظ الثواء.


الفوائد :

رسمت «أين» مفصولة من «ما» في المصحف ووصلت في مواضع أخرى ، وعبارة ابن الجزري («فأينما كالنحل صل» أي صل «أين» مع «ما» في قوله تعالى «أينما تولوا فثم وجه الله» بالبقرة كالنحل أي كما تصله بها في قوله «أينما يوجهه لا يأت بخير» بالنحل «ومختلف في الأحزاب والنساء وصف» أي والاختلاف في «أين ما كنتم تعبدون» في الشعراء و «أينما ثقفوا» في الأحزاب و «أينما تكونوا يدرككم الموت» في النساء وصف أي ذكر أي ذكره أهل الرسم وما عدا الثلاثة نحو «فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا» و «أين ما كنتم تدعون من دون الله» في الأعراف و «أين ما كنتم تشركون» في غافر و «أين ما كانوا» في المجادلة مقطوع).

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

الاعراب :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) الفاء الفصيحة أي إن بدا لك منهم ما بدا من صد وإعراض فلا تبتئس واصبر فإننا سننتقم لك منهم.

واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن واسمها وخبرها تعليل


للأمر بالصبر. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) الفاء عاطفة وإن الشرطية مدغمة في ما الزائدة ونرينك فعل الشرط مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض الذي مفعول به ثان وجملة نعدهم صلة الذي ، أو نتوفينك عطف على نرينك والفاء رابطة ، وإلينا يرجعون : إلينا متعلقان بيرجعون والجملة جواب للشرط الثاني وهو نتوفينك وجواب الشرط الأول والتقدير فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك أو أن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام.

وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم فالثابت على تقدير وقوعه معلوم وهو حصول المراد على التمام وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك نعت لرسلك أو متعلقان بأرسلنا ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومنهم من لم نقصص عليك عطف على الجملة الأولى وهي نعت لرسلا أو مستأنفة.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله


استثناء من أعم الأحوال. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمر الله في محل جر باضافة الظرف إليها وجملة قضي بالحق لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل قضي مستتر تقديره هو أي الأمر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والمبطلون فاعل خسر.

الفوائد :

ضمير النكرة نكرة أم معرفة؟

تساءل بعضهم عن الضمير في قوله «منهم من قصصنا» والعائد على قوله «رسلا» أهو نكرة أم معرفة؟ وأجاب بأنه نكرة لأن مدلوله كمدلول المرجوع إليه وهو نكرة فوجب أيضا أن يكون الراجع نكرة إذ التنكير والتعريف باعتبار المعنى والصحيح انه معرفة لأن الهاء في قولك : «جاءني رجل وضربته» ليست شائعة شياع رجل لأنها تدل على الرجل الجائي خاصة لا على رجل والذي يحقق ذلك أنك تقول جاءني رجل ثم تقول : أكرمني الرجل ولا تعني بالرجل سوى الجائي ولا خلاف في أن الرجل معرفة فوجب أن يكون الضمير معرفة أيضا لأنه بمعناه.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ


فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

الاعراب :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتعديد بعض آلائه سبحانه ، والله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل لأنها بمعنى خلق والأنعام مفعول به ، وقد تقدم تفسيرها في سورة الأنعام ولا معنى لتخصيص الإبل وحدها ، ولتركبوا اللام للتعليل وتركبوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل لأنها علة الخلق ومنها متعلقان بتركبوا أي من بعضها فمن للتبعيض ولا معنى لجعلها ابتدائية ومنها تأكلون عطف على ما تقدم (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) الجملة معطوفة. (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وعليها متعلقان بتحملون وعلى الفلك عطف على وعليها. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) ويريكم آياته عطف


على جعل لكم الأنعام وآياته مفعول به ثان ، فأي : الفاء عاطفة وأي مفعول مقدم لتنكرون وقدم وجوبا لأن لأسماء الاستفهام الصدارة وتنكرون فعل مضارع مرفوع والاستفهام للتوبيخ قال الزمخشري :«وقد جاءت على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب» قلت وقد ورد تأنيثها كثيرا ومنه قول الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عارا علي وتحسب

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في توبيخهم والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أي في نواحيها وأطرافها والفاء فاء السببية وينظروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والواو فاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مبدأ أحوالهم وعواقبها وكان واسمها وأكثر خبرها ومنهم متعلقان بأكثر وقوة تمييز وآثارا عطف على قوة وفي الأرض نعت لآثارا. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية في محل نصب مفعول أغنى المقدم وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما الثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع على الفاعلية أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.


(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الفاء هذه هي الفاء الثانية من أربع فاءات متعاقبة فالأولى للعطف كما قلنا بيّنت عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم. والثانية عاطفة أيضا تشير الى تفصيل ما أبهم من عدم الإغناء ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجاءتهم رسلهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وجملة فرحوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندهم ظرف متعلق بمحذوف صلة ما ومن العلم حال (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وحاق عطف على فرحوا وبهم متعلقان بحاق وما موصولة فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) وهذه هي الفاء الثالثة وهي لمجرد العطف والتعقيب أي التي تجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقبه ولما حينية ورأوا فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وبأسنا مفعول به وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبالله متعلقان بآمنا ووحده حال.

(وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) وكفرنا عطف على آمنا وبما متعلقان بكفرنا وجملة كنا صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بمشركين ومشركين خبر كنا. (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وهي الفاء الرابعة وهي للعطف وجملة يك معطوفة على آمنّا كأنه قيل فآمنوا فلم ينفعهم إيمانهم وقد أفادت العطف مع التفسير ، ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها مستتر تقديره هو أي الشأن وجملة ينفعهم خبرها وايمانهم فاعل ينفعهم ويجوز رفع إيمانهم اسما لكان وجملة


ينفعهم خبرها المقدم وليست المسألة من باب التنازع ولما حينية وجملة رأوا بأسنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) سنة الله مصدر مؤكد لفعل مقدر من لفظه أي سن تعالى بهم سنة من قبلهم ويجوز أن يكون منصوبا على التحذير أي احذروا سنة الله في المكذبين والتي صفة لسنة وجملة قد خلت صلة وفي عباده متعلقان بخلت أي مضت في عباده والواو استئنافية وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والكافرون فاعل خسر وقد استعير ظرف المكان للزمان أي وخسروا وقت رؤية اليأس ويجوز ابقاؤه على أصله.

البلاغة :

فن التهكم :

في قوله «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم» الآية فن التهكم وهو في الأصل تهدم البناء ، يقال تهكمت البئر إذا انهدمت والغضب الشديد والتندم على الأمر الفائت وهو في اصطلاح البيانيين الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير ، والبشارة في موضع التحذير ، والوعد في موضع الوعيد ، والعلم في موضع الجهل ، تهاونا من القائل بالمقول له واستهزاء به ، وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن كثيرا في كتابنا ، قال الزمخشري : «أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى : بل ادّارك علمهم في الآخرة ، وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربي إن لي


عنده للحسنى ، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ، وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء كما قال عز وجل : كل حزب بما لديهم فرحون» وما أجمل قول الحماسي :

أتاني من أبي أنس وعيد

فثل تغيظ الضحاك جسمي

ثل أهلك ، والتغيظ : الغيظ ، وكني عن أبي أنس بالضحاك الذي كان ملكا قصدا للاستهزاء.

الفوائد :

حذف نون مضارع كان المجزوم :

تقدم القول في حذف نون مضارع كان المجزوم بشرط كونه مجزوما بالسكون غير متصل بضمير نصب ولا بساكن ، وقد وقع ذلك في التنزيل في ثمانية عشر موضعا ، وقد سمع في الشعر حذفها إذ وليها ساكن ، قال الخنجر بن صخر الأسدي :

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

فحذف النون مع ملاقاة الساكن ، والمرآة بكسر الميم ومدّ الهمزة آلة الرؤية فكأنه نظر وجهه فيها فلم يره حسنا فتسلى بأنه يشبه الضيغم وهو الأسد ، والوسامة بفتح الواو : الحسن والجمال وحمله جمهور النحاة على الضرورة واستشهد بقول النجاشي :

فلست يأتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل


فحذف نون لكن ضرورة واستدل الفراء بهذا البيت على أن لكن المشددة مركبة وأصلها لكن ان فطرحت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين ومن طريف ما يروى عن هذا البيت أن النجاشي الشاعر عرض له ذئب في سفره فحكى أنه دعا الذئب الى الطعام وقال له : هل لك من أخ يعني نفسه يواسيك بطعامه بغير من ولا بخل فقال له الذئب دعوتني الى شيء لم تفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم ولست بآتيه ولا أستطيعه ولكن إن كان في مائك الذي معك فضل عما تحتاج اليه فاسقني منه.


سورة فصلت

مكية وآياتها اربع وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

الاعراب :

(حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حم خبر لمبتدأ محذوف وتنزيل خبر لمبتدأ محذوف أيضا أي هو تنزيل ومن الرحمن الرحيم متعلقان بتنزيل وأجاز الزجاج أن يكون تنزيل مبتدأ وقوله كتاب الآتي خبره وساغ الابتداء بتنزيل لأنه تخصص بالصفة وعليه درج


الجلال وشراحه وما ذكرناه أولا أولى (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كتاب بدل من تنزيل أو خبر بعد خبر وجملة فصلت آياته صفة للكتاب أي ميزت وجعلت تفاصيل في شتى المعاني وآياته نائب فاعل وقرآنا حال من كتاب وعربيا نعت وأجاز الزمخشري إعراب قرآنا بالنصب على الاختصاص ولقوم متعلقان بفصلت وجملة يعلمون نعت لقوم وأعرب الزمخشري لقوم بقوله : «والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله».

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) يجوز أن يكونا نعتين لقرآنا وأن يكونا حالين إما من كتاب وإما من آياته وإما من الضمير المنوي في قرآنا ، فأعرض الفاء عاطفة على فصلت وأكثرهم فاعل ، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يسمعون خبرهم.

(وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الواو عاطفة أو استئنافية وقالوا فعل ماض وفاعل وقلوبنا مبتدأ وفي أكنة خبر أي أغطية ومما متعلقان بمحذوف أي تمنعنا مما تدعونا وقال أبو البقاء : «هو محمول على المعنى إذ معنى في أكنة أنها محجوبة عن سماع ما تدعونا إليه ولا يجوز أن يكون نعتا لأكنة لأن الأكنة الأغشية وليست الأغشية مما يدعو إليه» وهذا كلام شامل لا يعين الاعراب ولهذا جنحنا إلى تقدير تمنعنا وقريب من الوجه الذي اخترناه قول زاده في حاشيته على البيضاوي : «في الكلام حذف تقديره في أكنة تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه فحذف المضاف» فما يتعلق به مما هو النعت لأكنة. ولواو حرف عطف وفي آذاننا خبر مقدم ووقر مبتدأ مؤخر.


(وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) الواو حرف عطف ومن بيننا خبر مقدم وبينك معطوف على بيننا وحجاب مبتدأ مؤخر ، فاعمل الفاء الفصيحة أي إن عرفت ما قلناه لك ووعيته فاعمل ، وإننا إن واسمها وعاملون خبرها أي فاستمر على دعوتك فإننا مستمرون على ديننا وهو الإشراك وسيأتي مزيد بسط لهذا الكلام في باب البلاغة. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم نعت وجملة يوحى نعت ثان لبشر ، وإلي متعلقان بيوحى ونائب الفاعل أن وما بعدها وأنما كافة ومكفوفة وهي مع مدخولها نائب فاعل يوحى وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد نعت. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الفاء الفصيحة واستقيموا فعل أمر وفاعل وهو متضمن معنى توجهوا ولذلك عدي بإلى واستغفروه عطف على فاستقيموا وويل الواو عاطفة وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء وللمشركين خبر والذين نعت وجملة لا يؤتون الزكاة صلة ولا يتنافى عطف الاسمية على الفعلية لأن الأول متجدد وهو عدم إيتاء الزكاة والثاني مستمر وهو الكفر (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بهم وهم الثانية تأكيد للأولى وكافرون خبرهم.

البلاغة :

اشتملت الآية «وقالوا قلوبنا في أكنة» الى قوله «عاملون» على نكت بلاغية تستحق أن تكتب بذوب التبر ففيها ثلاث استعارات تمثيلية لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم اليه واعتقاده ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول.


١ ـ فأولها الحجاب الحائل الخارج فقد شبهوا قلوبهم بالشيء المحوى المحاط بالغطاء المحيط له.

٢ ـ وثانيها حجاب الصمم فقد شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث أنها تمج الحق ولا تميل الى استماعه.

٣ ـ وثالثها وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله فقد شبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب عظيم يمنع من وصول أحدهما الى الآخر فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا سدلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا إلا استلبته.

هذا ولا بد من الاشارة الى ما تضمنته من إشارات فهي تفيد الابتداء والمعنى أن حجابا ابتدأ منّا وابتدأ منك. أما بين فقد تكررت ومعناها واحد وقد وهم الزمخشري فجعل بين الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته وليس الأمر كما ظنه بل بين الأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ فوجب تكرار حافظه وهو بين والدليل على هذا أنه لا تفاوت بين أن تقول جلست بين زيد وعمرو وبين أن تقول جلست بين زيد وبين عمرو وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فموقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى : «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا» وذلك للإشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحجاب.


الفوائد :

منع الزكاة وسرها :

تساءل المفسرون جميعا : لم خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ، وأجابوا بأسئلة متشابهة فحواها أن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته ، ونص عبارة الزمخشري في هذا الصدد : «ألا ترى الى قوله عز وجل : «مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم» أي يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال» هذا ولو استعرضنا معنى اسم الزكاة لوجدناه يرمز الى أسمى الخصائص وأعلاها فهي تطهر المال من الخبث وتنقيه من الآفات وتبعد النفس عن رذيلة البخل ، وتنميها على فضيلة الكرم وتستجلب بها البركة ، وتزيد المتصدق ثناء ومدحا ويكفر جاحدها ويقاتل الممتنعون من أدائها وتؤخذ منهم وإن لم يقاتلوا قهرا ، وعن أنس بن مالك قال : «أتى رجل من تميم الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتصرف حق المسكين والجار والسائل».

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ


الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر ما أعد للصالحين بعد ما ذكر ما أعد للجاهلين ، وإن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به منصوب بالكسرة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت والجملة الاسمية خبر إن ومعنى غير ممنون : غير مقطوع وقيل غير ممنون به عليهم. (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة تكفرون خبر إن وبالذي متعلقان وبتكفرون وجملة خلق الأرض صلة وفي يومين متعلقان بخلق والمراد مقدار يومين أو في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وتجعلون عطف على تكفرون وله في محل نصب مفعول تجعلون الثاني وأندادا مفعوله الأول وذلك مبتدأ والإشارة الى الذي باعتبار اتصافه بما دلت عليه الصلة ورب العالمين خبره.


(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) الواو عاطفة على الأصح فقد منع أبو البقاء وغيره العطف قال : «وجعل فيها هو مستأنف غير معطوف على خلق لأنه لو كان معطوفا عليه لكان داخلا في الصلة ولا يجوز ذلك لأنه فصل بينهما بقوله تعالى : وتجعلون الى آخر الآية وليس من الصلة في شيء» ويمكن أن يرد على ذلك بأن قوله وتجعلون وإن كان معطوفا على تكفرون فهو بمثابة الاعتراض بين المتعاطفين والاعتراض كثيرا ما يأتي بينهما فالحق الذي لا مرية فيه أنه معطوف على خلق الأرض فهو من جملة الصلة وفيها في محل المفعول الثاني ورواسي مفعول جعل الأول ، ولك أن تعلق الجار والمجرور بجعل على أنه بمعنى خلق فهو ينصب مفعولا واحدا ومن فوقها نعت لرواسي وما أجمل وقع هذا النعت لئلا يتوهم أنها من تحتها فتكون ممسكة لها ومانعة من الميدان ثم لتكون الجبال معروضة للناظرين بحيث تحتاج هي والأرض الى ممسك لها وبارك فيها عطف على جعل فيها.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وقدر فيها عطف على ما تقدم أي أرزاق أهلها ومعايشهم وفي أربعة أيام متعلقان بقدر أي في تمام ومقدار أربعة أيام وسواء نصب على المصدر أي استوت الأيام الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص وقرىء بالجر على الوصف وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وللسائلين متعلقان بسواء بمعنى مستويات للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم يوم خلقت الأرض وما فيها أو متعلقان بمقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين والمحتاجين إليها من المقتاتين. وأجاز أبو البقاء إعراب سواء حلا بعد أن ذكر الأوجه المتقدمة وهو جائز على أنه حال من الضمير في أقواتها أو فيها أو من الأرض.


(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ثم حرف عطف للترتيب الإخباري لا الزماني واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وإلى السماء متعلقان باستوى من قولك استوى الى مكان كذا إذا قصده وتوجه إليه توجها مستقيما لا يلوي غلى شيء والواو للحال وهي مبتدأ ودخان خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة.

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ولها متعلقان بقال وللأرض عطف على لها وائتيا فعل أمر مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعل وطوعا وكرها مصدران في موضع الحال أي طائعتين أو كارهتين وسيأتي مزيد بحث عن هذه الآية في باب البلاغة.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الفاء عاطفة وقضاهن فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وسبع سموات مفعول ثان لقضاهن لأنه ضمن معنى صير ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من مفعول قضاهن فتكون قضى بمعنى صنع أي معدودة ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير ويجوز أن يكون تمييزا وإليه جنح الزمخشري قال «ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا لسبع سنوات على التمييز» ويعني الزمخشري بقوله مبهما أنه لا يعود على السماء لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالا أو مفعولا ثانيا ، وأوحى عطف على فقضاهن وفي كل سماء متعلقان بأوحى وأمرها مفعول به.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وزينا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة وزينا فعل وفاعل والسماء مفعول به والدنيا نعت وبمصابيح متعلقان بزينا أي بنجوم وحفظا مفعول مطلق لفعل محذوف أي وحفظناها


حفظا من استراق الشياطين السمع للشهب وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا لأجله على المعنى كأنه قال وخلقنا المصابيح زينة وحفظا وذلك مبتدأ والاشارة الى ما ذكر كله بتفاصيله وتقدير العزيز العليم مضاف إليه.

البلاغة :

١ ـ التشبيه البليغ الصوري :

في قوله «ثم استوى الى السماء وهي دخان» تشبيه بليغ صوري لأن صورتها صورة الدخان في رأي العين والمراد بالدخان البخار الذي تتشكل منه الطبقات الهوائية فلا منافاة مع أحدث نظريات العلم.

٢ ـ الاستعارة المكنية :

وفي قوله استوى الى السماء استعارة مكنية فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له هو الحق عز وجل وقد تقدم تفصيل هذه الاستعارة كثيرا فتدبره.

٣ ـ وفي قوله «فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» فنون شتى نجملها بما يلي :

أـ إسناد القول للأرض والسماء وتوجيه الخطاب لهما من باب المجاز العقلي والقصد من هذا المجاز تصوير قدرته سبحانه واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات للطوع والكره لهما ، ويجوز أن يكون هذا من باب الاستعارة المكنية فقد شبههما بكائنين حين عاقلين ثم


حذف المشبه به وأثبت شيئا من لوازمه لتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة الطائع كما تقول نطقت الحال بكذا بدل دلت فيجعل الحال كالانسان الذي يتكلم في الدلالة والبرهان ثم يتخيل له النطق الذي هو من لازم المشبه به وينسب اليه.

ب ـ الطباق بين طوعا وكرها.

ج ـ تغليب المذكر العاقل على المؤنث أو التنزيل منزلته في قوله «قالتا أتينا طائعين».

٤ ـ الالتفات :

وفي قوله «وزينا السماء الدنيا بمصابيح الآية» التفات من الغيبة الى التكلم فقد أسند التزيين الى ذاته سبحانه لإبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))


اللغة :

(صَرْصَراً) : قال الزمخشري : «الصرصر : العاصفة التي تصرصر أي تصوت في هبوبها وقيل : الباردة التي تحرق بشدة بردها ، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض» وفي القاموس «الصرة بالكسر شدة البرد أو البرد كالصرّ فيهما وأشد الصياح وبالفتح الشدة من الكرب والحرب والحر ... وصرّ يصرّ من باب ضرب صرّا وصريرا صوّت وصاح شديدا» وقال ابن قتيبة صرصر يجوز أن يكون من الصرّ وهو البرد ويجوز أن يكون من صر الباب وأن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فأقبلت امرأته في صره» وقال الراغب : «صرصر لفظه من الصر وذلك يرجع الى الشد لما في البرودة من التعقّد».

وللصاد مع الراء فاء وعينا للكلمة معنى الشدة والظهور النصوع ، فصرب : جاء بضربة تزري الوجه وتقول : جزى الله بضربة ، من جاءنا بصربة ، وصرح بما في نفسه وبنى صرحا وصروحا وقعد في صرحة داره أي في ساحتها وصرحت الخمرة : ذهب عنها الزبد ، والصراخ : صوت المستغيث وصوت المغيث إذا خرج بقومه للإغاثة قال سلامة :

إنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

أي كان الغياث له ، وهذا يوم صرد وصرد ويوم صرد وقد صرد يومنا وليلة صردة ورجل صرد وريح مصراد باردة شديدة البرد ، وصرعته تركته صريعا وتركتهم صرعى وصرعهم ريب المنون


وليس أشد من ذلك وبات صريع الكأس ، قال مسلم بن الوليد صريع الغواني :

هل العيش إلا أن أروح مع الصبا

وأغدو صريع الراح والأعين النجل

وحفظك الله من صرف الزمان وصروفه وتصاريفه ، وزرع صريم ومصروم مجزوز وصرم النخل واصطرمه ، وماء صريّ مجموع.

ولا يجتمع إلا ليظهر ، قال ذو الرمة :

صرى آجن يزوي له المرء وجهه

ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر

وهذا من الغريب الذي يبز اللغات.

(نَحِساتٍ) : بكسر الحاء وسكونها وهما قراءتان سبعيتان أي مشئومات عليهم فأما الكسر فهو صفة على فعل وفعله فعل بكسر العين أيضا يقال نحس فهو نحس كفرح فهو فرح وأشر فهو أشر وأما السكون فهو مصدر وصف به كرجل عدل ولكن يشكل على هذه القراءة جمعه فإن الفصيح في المصدر الموصوف به أن يوحد وكأن المسوغ له اختلاف أنواعه في الأصل.

الاعراب :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) كلام مستأنف على طريق الالتفات ، مسوق لتحذيرهم بعد إعراضهم ، وللالتفات سر بليغ نورده في باب البلاغة ، وإن شرطية وأعرضوا فعل


ماض والواو فاعل والفعل في محل جزم فعل الشرط ، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأنذرتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ، وعبّر بالماضي وسياق الكلام يقتضي الاستقبال للدلالة على تحقق الإنذار ، وصاعقة مفعول به ثان ومثل نعت لصاعقة.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الظرف متعلق بصاعقة لأنها بمعنى العذاب وجملة جاءتهم الرسل في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن بين أيديهم متعلقان بجاءتهم ومن خلفهم عطف عليه أي من جميع جوانبهم أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار ومن جهة المستقبل بالتحذير وأعربه بعضهم متعلقا بمحذوف حال من الرسل أي حال كون الرسل من بين أيدي عاد وثمود ومن خلفهم ورجح الزمخشري الأول في تفسيره لمعناه قال : «أي أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة وتقول استدرت بفلان من كل جانب فلم يكن لي فيه حيلة».

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) يجوز في أن هذه ثلاثة أوجه : أحدها أن تكون مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره قائلين وهو حال من الرسل ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به ، والوجه الثاني أن تكون مصدرية تنصب الفعل المضارع ولا نافية وتعبدوا فعل مضارع منصوب بأن بعد لا النافية فإن لا النافية لا تمنع عمل العامل فيما بعدها ، والوجه الثالث أن تكون مفسرة لأن مجيء الرسل يحمل القول وتكون الجملة لا محل لها لأنها مفسرة. (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا فعل ماض وفاعل ولو حرف شرط غير جازم وشاء


ربنا فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إرسال الرسل والأحسن أن يقدر من جنس جوابها أي لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة إلى الإنس لأنزل إليهم بها ملائكة والفاء الفصيحة وان واسمها وبما متعلقان بكافرون وجملة أرسلتم به صلة وكافرون خبر إن والمعنى فإذ أنتم بشر ولستم ملائكة فإننا لا نؤمن بكم.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية ما يختص به كل واحد منهما وأما حرف شرط وتفصيل وعاد مبتدأ والفاء رابطة لجواب أما وجملة استكبروا خبر عاد وفي الأرض متعلقان باستكبروا وبغير الحق حال. (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) وقالوا عطف على فاستكبروا ومن اسم استفهام مبتدأ وأشد خبر والجملة مقول القول ومنا متعلقان بأشد وقوة تمييز. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حرف عطف وجملة لم يروا معطوفة على مقدر يقتضيه السياق أي اغفلوا وضلوا ولم يروا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا لأنها بمعنى العلم وأن واسمها والذي نعت وجملة خلقهم صلة وهو مبتدأ وأشد خبر ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز والجملة خبر أن.

(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف على قوله فاستكبروا أيضا والجملة المعطوفة والمعطوف عليه المقدر اعتراض وبآياتنا متعلقان بيجحدون لأنه متضمن معنى يكفرون. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء عاطفة وأرسلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا مفعول به وصرصرا نعت وفي أيام نعت ثان أو حال ونحسات نعت لأيام ، ولنذيقهم اللام


للتعليل ونذيقهم فعل مضارع منصوب بأن بعد لام التعليل والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا وعذاب الخزي مفعول به ثان لنذيقهم وهو من إضافة الموصوف الى صفته وسيأتي تفصيله في باب البلاغة وفي الحياة متعلقان بنذيقهم والدنيا نعت للحياة.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) الواو استئنافية واللام للابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأخزى خبر والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا ينصرون خبر وينصرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.

البلاغة :

اشتملت هذه الآيات على أفانين متعددة من البلاغة نوردها فيما يلي :

١ ـ الالتفات في قوله : «فإن أعرضوا» الآية فقد خاطبهم أولا بقوله : «أئنكم» بيد أنهم لم يأبهوا لخطابه ولم يستوعبوا نصحه فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لأنهم فعلوا الإعراض فليس له إلا أن يعرض عن خطابهم ليصح التلاؤم ، ويناسب اللفظ المعنى ، وهذا من أرفع أنواع البلاغة وأرقاها وكم للالتفات من أسرار.

٢ ـ العدول عن المضارع المستقبل إلى الماضي بقوله «فقد أنذرتكم» للدلالة على أن ما ينذرهم به أمر متحقق لا مندوحة عنه.

٣ ـ الاسناد المجازي في قوله «عذاب الخزي» فإنه أضاف العذاب إلى الخزي الذي هو الذل ، والخزي الذي هو الذل


والاستكانة في الأصل صفة المعذب ولكنه جنح الى وصف العذاب به للمبالغة فهو كما قلنا في الاعراب من اضافة الموصوف الى صفته.

٤ ـ المشاركة في قوله «ولعذاب الآخرة أخزى» وجعل الخزي هذه المرة خبرا للمشاكلة على حد قول الشاعر :

«قلت اطبخوا لي جبة وقميصا» وقد تقدم بحث هذا الفن.

٥ ـ في قوله «فاستحبوا العمى على الهدى» استعارة تصريحية فقد شبه الكفر بالعمى لأن الكافر ضال عن القصد ، متعسف الطريق كالأعمى ، وشبه الإيمان بالهدى لأن المؤمن مهتد الى محجة القصد وسواء السبيل ثم حذف المشبه في كليهما وأثبت المشبه به.

٦ ـ الطباق بين العمى الهدى وقد تقدم.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ


خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

اللغة :

(يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم وتشير الى معنى الكثرة وفي معاجم اللغة :«وزع يزع من باب فتح ووزع يزع من باب ضرب فلان وبفلان :كفه ومنعه ووزع الجيش حبس أولهم على آخرهم يقال رأيته يزع الجيش أي يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب» وقد تقدم ذكر هذه المادة.

(يَسْتَعْتِبُوا) : يطلبوا العتبي أي الرضا والرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه.

(قَيَّضْنا) : هيأنا ، وأصل التقييض التيسير والتهيئة ، والمقايضة المعاوضة.


الاعراب :

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) عطف على قوله فأما عاد وأما حرف شرط وتفصيل وثمود مبتدأ وجملة فهديناهم الخبر والفاء عاطفة واستحبوا عطف على هديناهم والعمى مفعول به وعلى الهدى متعلقان باستحبوا لأنه متضمن معنى آثروا (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ماض ومفعول به مقدم وصاعقة العذاب فاعل مؤخر والهون نعت للعذاب أو بدل منه وبما متعلقان بأخذتهم والباء معناها السببية وما موصولة وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها والعائد محذوف أي بالذي كانوا يكسبونه من شركهم وتكذيبهم نبيهم صالحا.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الواو حرف عطف ونجينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا عطف على آمنوا وكان واسمها وجملة يتقون خبرها. (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية ويوم مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر يوم وجعله أبو البقاء ظرفا لما دل عليه بعده وهو قوله تعالى «فهم يوزعون» كأنه قال يمنعون يوم نحشر ، وليس ببعيد ، وجملة يحشر في محل جر بالإضافة وأعداء الله نائب فاعل والى النار متعلقان بيحشر والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) حتى حرف غاية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه وهو شهد وما زائدة لتأكيد


الشهادة وما المزيدة تؤكد معنى ما اتصلت به في النسبة التي تعلقت به وهنا أكدت ظرفية الوقت المحدد للشهادة وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة شهد لا محل لها وعليهم متعلقان بشهد وسمعهم فاعل وأبصارهم وجلودهم معطوفان على سمعهم وبما متعلقان بشهد أيضا وجملة كانوا صلة ما وجملة يعملون خبر كان.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ولجلودهم متعلقان بقالوا واللام حرف جر وما اسم استفهام مجرور بما ولذلك حذفت ألفها والجار والمجرور متعلقان بشهدتم وعلينا متعلقان بشهدتم والجملة مقول القول والاستفهام هنا للتوبيخ والتعجب من هذا الأمر (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) قالوا فعل وفاعل وأنطقنا الله فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة مقول القول والذي صفة لله وجملة أنطق كل شيء صلة الذي. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وجملة خلقكم خبر وأول مرة ظرف متعلق بخلقكم وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) عطف على ما تقدم وما نافية وكنتم كان واسمها وجملة تستترون خبرها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتستترون أي من أن يشهد عليكم لأن تستترون لا يتعدى بنفسه وقيل هو مفعول لأجله أي لأجل أن يشهد عليكم سمعكم وعليكم متعلقان بيشهد وسمعكم فاعل ولا أبصاركم ولا جلودكم عطف على سمعكم أي ما كان استتاركم خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم لأنكم لم تكونوا تتصورون شهادتها بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا.


(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل وظننتم فعل وفاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظننتم وان واسمها وجملة لا يعلم خبرها وكثيرا مفعول به ومما نعت لكثير وجملة تعملون صلة والعائد محذوف أي تعملونه.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة وذلكم مبتدأ وظنكم خبر والذي ظننتم نعت أو بدل وبربكم متعلقان بظننتم وجملة أرداكم خبر ثان ويجوز إعراب ظنكم بدلا من ذلكم أو ظنكم خبر وجملة أرداكم حال فأصبحتم عطف على أرداكم وأصبح واسمها ومن الخاسرين خبرها. (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية ويصبروا فعل الشرط والفاء رابطة والنار مبتدأ ومثوى خبر ولهم نعت لمثوى.

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) عطف على الجملة السابقة وما نافية حجازية وهم اسمها ومن المعتبين خبرها. (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فعل وفاعل ولهم متعلقان بقيضنا وقرناء مفعول به أي يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض ، والقيض قشر البيض الأعلى اليابس على البيضة أو هي التي خرج ما فيها من فرخ أو ماء وموضعهما المقيض ، فزينوا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينوا وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم.

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) الواو عاطفة وحق فعل ماض وعليهم متعلقان بحق والقول فاعل وفي أمم متعلقان بمحذوف حال أي كائنين في جملة أمم


أو مندرجين وهو حال من الضمير في عليهم ومثل هذا التعبير قول عروة بن أذينة :

إن تك عن أحسن الضيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

يقول : إن تكن مأفوكا أي مصروفا ومنقلبا عن أحسن العطاء فلا عجب فأنت في جملة أناس آخرين قد أفكوا وصرفوا عن الإحسان.

وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلهم متعلقان بخلت ومن الجن والانس نعت ثان لأمم أو حال لأنها وصفت وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وخاسرين خبر كان وجملة إن وما بعدها تعليلية لاستحقاقهم العذاب.

البلاغة :

الكناية :

في قوله (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) كناية عن موصوب فقد كنى عن الفروج بالجلود وقيل أراد بالجلود الجوارح عامة والعطف من عطف العام على الخاص فليس في الكلام كناية إذن ، فالجلود هنا تفسّر حقيقة ومجازا ، أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا ، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما


كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

اللغة :

(الْغَوْا فِيهِ) : فعل أمر من لغي بالكسر يلغى بالفتح وفيها معنيان أحدهما أنه من لغى إذا تكلم باللغو وهو مالا فائدة فيه والثاني انه من لغي بكذا إذا رمى به فتكون في بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه ، وإما أن يكون من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضا ، حكاه الأخفش وكان قياسه الضم كغزا يغزو ولكنه فتح لأجل حرف الحلق وقرىء بضم الغين من لغا يلغو كدعا يدعو ، هذا ما قرره السمين ، وعبارة الزمخشري «والغوا فيه بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغى ولغا يلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته».

الاعراب :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حالهم ومكابرتهم عند قراءة القرآن وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا ناهية وتسمعوا فعل مضارع مجزوم بلا والجملة مقول القول ولهذا متعلقان بتسمعوا والقرآن بدل والغوا فعل أمر وفاعل وفيه متعلقان بالغوا ولعل واسمها وجملة تغلبون خبرها والمراد بالغلبة حمله على السكوت عن القراءة لئلا يستهوي القلوب ويستميلها بقراءة ما لم يعهده من بيان. (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) الفاء الفصيحة أي إن استمرءوا ذلك


واستمروا فيه فلنذيقن ، واللام موطئة للقسم ونذيقن فعل مضارع مبني على الفتح واجب التأكيد والفاعل مستتر تقديره نحن والذين مفعول به وجملة كفروا صلة وعذابا مفعول به وشديدا نعت.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم وأسوأ الذي كانوا يعملون مفعول ثان لنجزينهم.

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) ذلك مبتدأ والإشارة الى المذكور من الأمرين وهما قوله فلنذيقن وقوله ولنجزينهم وجزاء أعداء الله خبر والنار بدل أو عطف بيان من جزاء ، واعترض بعضهم على هذا الاعراب بأن علامة البدل صحة حلوله محل المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار وهذا لا يصح ولذلك ينبغي العدول عن الإعراب الأرجح الى المرجوح وهو أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره سيأتي فيما بعد.

(لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) لهم خبر مقدم وفيها حال ودار الخلد مبتدأ مؤخر والجملة إما خبر النار بناء على إعرابها مبتدأ أو في محل نصب حال أو مستأنفة مستقلة مقررة لما قبلها وهذا أقعد بمكان البلاغة كما سيأتي ، وجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وهو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء أو منصوب بالمصدر المذكور قبله والمصدر ينصب بمصدر مثله وقد تقدمت له نظائر ولك أن تجعل جزاء مصدرا واقعا موقع الحال وبما متعلقان بجزاء الثاني أو الأول وجملة كانوا صلة وجملة يجحدون خبر كانوا وبآياتنا متعلقان بيجحدون لتضمنه معنى يكفرون وذلك خير من جعلها زائدة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأرنا فعل أمر مبني على حذف حرف


العلة ونا مفعول به أول واللذين مفعول به ثان لأن الرؤية بصرية وقد عديت الى اثنين بالهمزة وجملة أضلّانا صلة ومن الجن والإنس حال قيل هما إبليس وقابيل الأول سن الكفر والثاني سن القتل بغير حق لأنه قتل أخاه كما تقدم. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) نجعلهما فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به أول وتحت أقدامنا الظرف في موضع المفعول الثاني ، ليكونا اللام للتعليل ويكونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والألف اسمها ومن الأسفلين خبرها والجار والمجرور متعلقان بفعل الرؤية لأنه تعليل لها.

البلاغة :

١ ـ في قوله «فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا» استعارة مكنية وقد تقدم اجراؤها كثيرا.

٢ ـ وفي قوله «لهم فيها دار الخلد» تجريد ، وهو أن ينتزع من أمر ذي بال صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة مبالغة لكماله فيها ، فقد انتزع من النار دارا أخرى سماها دار الخلد.

أقسام التجريد :

واعلم أن للتجريد أقسام ذكرها علماء البيان ، وسنحاول أن نورد ما قالوه فيها على سبيل الإيجاز :

١ ـ فمنه ما يكون بمن التجريدية كقولهم لي من فلان صديق حميم أي قد بلغ فلان حدا من الصداقة يصح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها ، ومثاله من الشعر قول القاضي الفاضل :


تمد الى الأعداء منها معاصما

فترجع من ماء الكلى بأساور

٢ ـ ومنه ما يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قولهم : لئن سألت فلانا لتسألن به البحر ، بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة.

٣ ـ ومنه ما يكون بدخول باء المعية والمصاحبة في المنتزع كقول ابن هانىء :

وضربتم هام الكماة ورعتم

بيض الخدور بكل ليث مخدر

وقول أبي تمام :

هتك الظلام أبو الوليد بغرة

فتحت لنا باب الرجاء المقبل

بأتم من قمر السماء إذا بدا

بدرا وأحسن في العيون وأجمل

وأجل من قيس إذا استنطقته

رأيا وألطف في الأمور وأجزل

هذا والمراد بأتم من قمر السماء نفس أبي الوليد كما لا يخفى.

٤ ـ ومنه أن يكون بدخول في على المنتزع منه أو مدخول ضميره كالآية التي نحن بصددها «لهم فيها دار الخلد» أي في جهنم وهي دار الخلد لكنه انتزع منها دارا أخرى مبالغة ، وقول المتنبي :

تمضي المواكب والأبصار شاخصة

منها الى الملك الميمون طائره


قد حرن في بشر في تاجه قمر

في درعه أسد تدمى أظافره

فإن الأسد هو نفس الممدوح لكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة.

٥ ـ ومنه أن يكون بدخول بين كقول ابن النبيه :

يهتزّ بين وشاحيها قضيب نقا

حمائم الحلي في أفنانه صدحت

٦ ـ ومنه أن يكون بدون توسط شيء كقول قتادة بن سلمة الحنفي :

فلئن بقيت لأرحلن بعزة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

يعني بالكريم نفسه فكأنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ولذا لم يقل أو أموت ، وقول أبي تمام :

ولو تراهم وإيانا وموقفنا

في مأتم البين لاستهلاكنا زجل

من حرقة أطلقتها فرقة أسرت

قلبا ومن غزل في نحره عذل

وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرا

عينا طوتهن في أحشائها الكلل


ومراده بالبقر العين الذين أخبر عنهم أولا بقوله ولو تراهم فكأنه انتزع منهم موصوفين بهذه الصفة مبالغة فيها.

٧ ـ ومنه أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام ثم يخاطبه كقول أبي الطيب المتنبي :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

أراد بالحال الغنى فكأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال والحال ، ومنه قول الأعشى :

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

وقول أبي نواس الممتع :

يا كثير النوح في الدمن

لا عليها بل على السكن

سنة العشاق واحدة

فإذا أحببت فاستنن

ومراده الخطاب مع نفسه ولذلك قال بعده :

ظنّ بي من قد كلفت به

فهو يجفوني على الظّن

بات لا يعنيه ما لقيت

عين ممنوع من الوسن

رشأ لولا ملاحته

خلت الدنيا من الفتن


تقسيم آخر للتجريد :

وقسمه آخرون الى قسمين فقط وهما : تجريد محض وتجريد غير محض فالأول ، وهو المحض ، أن يأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك كقول الحيص بيص في مطلع قصيدة له :

إلام يراك المجد في زيّ شاعر

وقد بخلت شوقا فروع المنابر

كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة

ببعضهما ينقاد صعب المفاخر

أما وأبيك الخير انك فارس

المقال ومحيي الدارسات الغوابر

وأنك أعييت المسامع والنهى

بقولك عما في بطون الدفاتر

فهذا من محاسن التجريد ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة وعدّ ما عدّه من الفضائل التائهة ، وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض.

وأما القسم الثاني ، وهو غير المحض ، فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك ، وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر وذاك أولى بأن


يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به وهذا هو نصف تجريد لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك ، ومما جاء منه قول عمرو بن الاطنابة :

أقول لها وقد جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

وقول الآخر وقد قتل أخواه ابنا له فقدم إليه أخوه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشأ يقول :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

كلاهما خلف من فقد صاحبه

هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي

وذكر أبو علي الفارسي كلاما جميلا بصدد التجريد فقال :«إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه نحو قولهم : لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن به البحر وهو عينه الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه» ثم قال «وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى :

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل


وهو الرجل نفسه لا غيره.

وقد عقب ابن الأثير على ما ذكره أبو علي فقال : «والذي عندي أنه أصاب في الثاني ولم يصب في الأول لأن الثاني هو التجريد ، ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه وهو يريدها وأما الأول وهو قوله لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن به البحر فإن هذا تشبيه مضمر الأداة إذ يحسن تقدير أداة التشبيه فيه» الى أن يقول : «ويبطل على أبي علي قوله أيضا من وجه آخر وذاك أنه قال : إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى الى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو ، وهذا ينتقض بقولنا لئن رأيت الأسد لترين منه هضبته. ولئن لقيته لتلقينّ منه الموت فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد فتخصيصه بالإنسان باطل وكلا الصورتين ليس بتجريد وإنما هو تشبيه مضمر الأداة».

والذي نراه أن ابن الأثير تحامل على أبي علي لأن كون هذا المثال من التشبيه المضمر الأداة لا يمنع كونه تجريدا في وقت واحد. وحسبنا ما تقدم.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ


(٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

اللغة :

(يَنْزَغَنَّكَ) : النزغ والنسغ بمعنى وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي والمراد الوسوسة وفي معاجم اللغة : نزغ ينزغ من باب ضرب نزغا بين القوم أفسد ويقال نزغ الشيطان بينهم أي أغرى بعضهم ببعض ونزغه الشيطان الى المعاصي أي حثه ونزغ الشيطان وساوسه وما يحمل الإنسان على المعاصي.

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان حال الكافرين. وان واسمها وجملة قالوا صلة وربنا مبتدأ والله خبر والجملة مقول القول وثم حرف عطف للتراخي في الزمان واستقاموا فعل ماض وفاعل وجملة تتنزل عليهم الملائكة خبر إن.


(أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أن مصدرية أو مخففة فعلى الأول يصح أن تكون لا ناهية وأن تكون نافية وتخافوا منصوب بأن وعلى الثاني لا يصح إلا أن تكون مخففة ولا ناهية وعلى كل حال هي ومدخولها منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في موضع الحال أي قائلين ، وعلى هذا لا يبعد احتمال كونها مفسرة لأن التنزيل فيه معنى القول ولا تحزنوا عطف على لا تخافوا وأبشروا فعل أمر معطوف على ما قبله وبالجنة متعلقان بأبشروا والتي نعت وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة توعدون خبر كنتم.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) تتمة مقول قول الملائكة ونحن مبتدأ وأولياؤكم خبر وفي الحياة الدنيا متعلقان بأولياؤكم لأنه جمع ولي من الولاية وهي الحفظ أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وفي الآخرة ويجوز تعليقه بمحذوف حال وفي الآخرة عطف. (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) الواو عاطفة ولكم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال والضمير يعود على الجنة وما مبتدأ مؤخر وجملة تشتهي أنفسكم صلة ولكم فيها ما تدعون عطف على الجملة السابقة وتدعون من الدعاء بمعنى الطلب والتمني وفي المصباح : «ادعيت الشيء تمنيته وادعيته طلبته» (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) نزلا حال مما تدعون والنزل تقدم شرحه وهو القرى الذي يهيأ لاكرامة وسمي به المكان مجاز فهو مصدر وقال أبو البقاء : «نزلا فيه وجهان أحدهما هو مصدر في موضع الحال من الهاء المحذوفة أو من ما أي لكم الذي تدعونه معدا وما أشبهه ومن نعت له والثاني هو جمع نازل مثل صار وصبر فيكون حالا من الواو في تدعون أو من الكاف في لكم فعلى هذا يتعلق من


بتدعون أي يطلبونه من غفور أو بالظرف أي استقر ذلك من غفور فيكون حالا من ما» هذا وقد نصبه الجلال بجعله مقدرا.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ. وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام مبتدأ ومعناه النفي أي لا أحد أحسن وأحسن خبر وقولا تمييز وممن متعلقان بأحسن وجملة دعا الى الله صلة من وجملة وعمل صالحا عطف على دعا الى الله ، وجعلها أبو حيان حالية وليس ثمة ما يمنع ذلك ، وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عمل عملا صالحا وقال عطف على ما قبله وإنني من المسلمين إن واسمها وخبرها في موضع نصب لأنها مقول القول. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كلام مستأنف مسوق لتشريع المعاملة بين البشر بعد بيان حسن المعاملة بين العبد وبين ربه ولا نافية وتستوي الحسنة فعل مضارع وفاعل ولا السيئة عطف على الحسنة وادفع فعل أمر وبالتي متعلقان بادفع والتي صفة لموصوف محذوف أي بالخصلة وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة وفي هذا الكلام تأويلان ألمع إليهما البيضاوي تبعا للكشاف قال : «أي ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو ادفع بالتي هي أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات» واختار الجلال الأول ومثل له بقوله :«كالغضب بالصبر والجهل بالحلم والإساءة بالعفو».

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) قالوا ان الفاء هي التعليلية الدالة على أن ما بعدها علة ما قبلها وأرى أن الفصيحة هنا أولى لأنها جواب شرط مقدر والتقدير أي إذا دفعت بالتي هي أحسن فإذا الذي ، وإذا للمفاجأة ولا بد من جعلها ظرفا للمكان لمعنى


التشبيه وهذا مبني على القول باسميتها وجاز تقدم هذا الظرف على عامله المعنوي لأنه يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها والذي مبتدأ وبينك ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعداوة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة ، وكأنه كان واسمها وولي حميم خبران كأن والجملة التشبيهية في رفع خبر الذي وعبارة أبي البقاء «كأنه ولي فيه وجهان أحدهما حال من الذي بصلته والذي مبتدأ وإذا للمفاجأة وهي خبر المبتدأ أي فبالحضرة المعادي مشبها للولي الحميم والفائدة تحصل من الحال والثاني أن يكون خبر المبتدأ وإذا ظرف لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على العامل المعنوي».

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) الواو حرف عطف وما نافية ويلقاها فعل مضارع مبني للمجهول والهاء مفعول به ثان والضمير يعود على الخصلة الحسنة وهي مقابلة السيئة بالحسنة وإلا أداة حصر والذين نائب فاعل يلقاها وجملة صبروا لا محل لها لأنها صلة.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) عطف على سابقتها مماثلة لها في اعرابها.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها في ما الزائدة وينزغنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به مقدم ومن الشيطان حال لأنه كان في الأصل صفة لنزغ ونزغ فاعل مؤخر ، فاستعذ الفاء رابطة واستعذ فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت وبالله متعلقان باستعذ وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن.


البلاغة :

في قوله «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا» إيجاز بليغ لأن الاستقامة كلمة شملت جميع صفات التقوى ؛ قال عمر : الاستقامة : أن تستقم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب وأنت تعلم ما ينطوي تحت الأمر والنهي من أوامر ومناه. وأقل انحراف عن الطريق المستقيم يخرجه عن استقامته ، ذلك لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين فهو لا يحتمل الانجراف ولو كان أدنى من اليسير.

وفي الآيات من الطباق وجناس الاشتقاق ما لا يخفى فلذلك اكتفينا بالإشارة إليها.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

اللغة :

(رَبَتْ) : انتفخت وعلت قبل أن تنبت ويقال للموضع المرتفع ربوة ورابية وسيأتي مزيد من شرحه في باب البلاغة.


الاعراب :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كلام مستأنف مسوق لإيراد أربع آيات من آياته تعالى ومن آياته خبر مقدم والليل مبتدأ مؤخر وما بعده عطف عليه. (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لا ناهية وتسجدوا فعل مضارع مجزوم بلا وللشمس متعلقان بتسجدوا ولا للقمر عطف ، واسجدوا لله عطف آخر والذي نعت لله وجملة خلقهن صلة والضمير يعود الى الآيات ولذلك عبّر عن الأربع بضمير الإناث مع أن فيها ثلاثة مذكرة والعادة تغليب المذكر على المؤنث لأنه لما قال ومن آياته فنظم الأربعة في سلك الآيات صار كل واحد منها آية فعبّر عنها بضمير الإناث. وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وهو فعل الشرط وإياه مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون خبر كنتم وجواب الشرط محذوف تقديره فاسجدوا له.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية واستكبروا فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط ، فالذين الفاء تعليل لجواب الشرط المحذوف وتقديره فدعهم وشأنهم والذين مبتدأ وعند ربك الظرف متعلق بمحذوف صلة الذين والظرفية هنا مكانة وتشريف وهي تعبير عن الزلفى والكرامة وجملة يسبحون خبر الذين وله متعلقان بيسبحون والليل والنهار متعلقان بيسبحون أيضا والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يسأمون خبر. (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الواو عاطفة على


ما سبق ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وانك ان واسمها وجملة ترى الأرض خبر وخاشعة حال أي يابسة لا نبات فيها ، وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة ، ولك أن تجعل الرؤية علمية فتكون خاشعة مفعولا به ثانيا ، فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنزلنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليها متعلقان بأنزلنا والماء مفعول به وجملة اهتزت لا محل لها وربت عطف على اهتزت.

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لاهتزاز الأرض اليابسة وربوها وإن واسمها وجملة أحياها صلة واللام المزحلقة ومحيي الموتى خبر إن وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبرها.

البلاغة :

في قوله «أنك ترى الأرض خاشعة» استعارة مكنية فقد استعير الخشوع وهو التذلل والتقاصر لحال الأرض عند قحطها وجفافها كما استعير الهمود لها في قوله «وترى الأرض هامدة» وكذلك يسري القول على الاهتزاز والربو ، يقال اهتز الإنسان أي تحرك ، وربت أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره ربت واهتزت ، والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض وقد يكونان بعد خروج النبات الى وجه الأرض فربوها ارتفاعها ، وقيل : اهتزت أي تحركت حركة عظيمة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه وربت أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطيا لوجهها وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه لما كانت قبل ذلك كالذليل.


الفوائد :

١ ـ تأثير القرآن في نفس عتبة :

أدركت قريش أن أساليبها في صد الدعوة الاسلامية عن المصي في طريقها لم تنجح وانه لا بد من اللجوء الى عمل آخر فتشاوروا على عادتهم وانتدبوا عتبة بن ربيعة لكي يذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم يفاوضه في ترك الدعوة على أن يجمعوا له الأموال حتى يصير أغنى قريش ثم يجعلوا له الرياسات التي يصبح بها أرفعهم مقاما وأعزهم ملكا أو يلتمسوا له الطب حتى يبرأ من هذا الذي يأتيه فينطقه بكلام عجيب ، وقد استمع النبي الى عتبة صابرا ، فلما انتهى قال له :أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال : نعم ، قال له النبي : فاستمع مني ، ثم أخذ يتلو عليه قوله تعالى : «حم تنزيل من الرحمن الرحيم» ومضى رسول الله يتلو على زائره سورة فصلت حتى انتهى الى قوله تعالى :«ومن آياته الليل والنهار» الآية ولما تلا هذه الآية سجد لربه سجودا طويلا ثم رفع رأسه واستوى في مجلسه وأخذ يكمل السورة حتى إذا فرغ منها نظر الى عتبة فإذ هو ملق يديه خلف ظهره يصغي في هدوء وقد بلغت الآيات منه مبلغا عظيما ، قال له النبي :

ـ قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك.

فلم يعقب عتبة بكلمة وانصرف مهموما يفكر أعمق تفكير في هذا الذي سمع ، فما أن رأت قريش صاحبها حتى قال بعضهم لبعض :

ـ فحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس إليهم قالوا له :


ـ ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال :

ـ ورائي اني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس.

فقالت قريش :

ـ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! فأشاح عنهم وقال :

ـ هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم.

٢ ـ موضع السجدة :

اختلف في موضع السجدة ، فهو عند الشافعي «تعبدون» لذكر لفظة السجدة قبلها وعند أبي حنيفة «يسأمون» لأنها تمام المعنى.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ


قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

اللغة :

(يُلْحِدُونَ) : بضم الياء مضارع ألحد في دين الله أي جار وعدل وقرىء بفتح الياء مضارع لحد من باب قطع لغة فيه وقال في الكشاف :«يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. ولم يصب الزمخشري في تقييد المستعار له بقوله في آيات القرآن ، فإنها في الآية الكريمة مستعارة للانحراف من جهة الصحة والاستقامة مطلقا لا للانحراف عنها في آيات الله وإلا لما احتيج الى قوله في آياتنا ، ومن هنا يبدو الفرق بين الملحد والزنديق والدهري والمنافق.

(أَعْجَمِيًّا) : تقدم بحث هذه الكلمة ونضيف هنا ما قالوه في يائه قال أبو حيان : «الياء للمبالغة في الوصف وليس النسب فيه حقيقيا» وقال الرازي في لوامحه : «فهي كياء كرسي» والأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه.


الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الملحدين وإن واسمها وجملة يلحدون صلة الموصول وفي آياتنا متعلقان بيلحدون وجملة لا يخفون علينا خبر إن.

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ومن اسم موصول مبتدأ وجملة يلقى في النار صلة من وخير خبرها وأم حرف عطف ومن عطف على من الأولى وجملة يأتي صلة وآمنا حال وكان السياق يقتضي أن يقول أم من يدخل الجنة ولكن عدل عن مقتضى السياق ليصرح بأمنهم وانتفاء الخوف عنهم وذلك أثلج لصدورهم وأقر لعيونهم ويوم القيامة متعلق بيأتي أو بآمنا.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اعملوا فعل أمر والمراد به التهديد لهم والواو فاعل وما مفعول به وجملة شئتم صلة ما وجملة إنه تعليل للأمر وان واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) الجملة بدل من جملة إن السابقة وان واسمها وجملة كفروا بالذكر صلة ولما حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وفي خبر إن وجوه أظهرها أنه محذوف تقديره لا يخفون علينا ويؤيد هذا الوجه كون إن الثانية بدلا من إن الأولى فيسري عليها ما يسري على الأولى والقاعدة ان المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه وذكر المعربون أوجها أخرى نورد خلاصتها فيما يلي :


١ ـ انه محذوف لفهم المعنى وتقديره معذبون أو مهلكون وهو وجه سديد أيضا.

٢ ـ انه محذوف قدره الجلال بقوله : نجازيهم.

٣ ـ انه موجود مذكور وهو قوله فيما بعد «أولئك ينادون».

٤ ـ انه موجود مذكور وهو قوله : «لا يأتيه الباطل» والعائد محذوف أي لا يأتيه الباطل منهم نحو المشمش منوان بدرهم أي منون منه وتكون أل عوضا من الضمير في رأي الكوفيين تقديره إن الذين كفروا بالذكر لا يأتيه باطلهم.

٥ ـ ان الخبر قوله ما يقال لك والعائد محذوف تقديره : إن الذين كفروا بالذكر ما يقال لك في شأنهم الا ما قد قيل للرسل من قبلك.

وانه الواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وكتاب خبرها وعزيز نعت والجملة نصب على الحال أي ممتنع عن ان ينال منه أحد بحماية الله وكلاءته ويؤيده قوله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» فلا يستطيع أحد أن يبطله أو يخرمه ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الجملة نعت ثان للكتاب ولا نافية ويأتيه الباطل فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن بين يديه متعلقان بيأتيه ولا من خلفه عطف على من بين يديه وتنزيل خبر رابع ومن حكيم متعلقان بتنزيل وحميد نعت لحكيم.

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلّى الله عليه وآله على ما يناله من أذاهم وما نافية ويقال فعل مضارع مبني للمجهول ولك متعلق بيقال وإلا أداة حصر وما نائب


فاعل أي إلا مثل الذي وقد حرف تحقيق وقيل للرسل صلة ومن قبلك حال.

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو مغفرة خبرها وعقاب أليم عطف على ما تقدم.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) كلام مستأنف مسوق للرد على تساؤلهم : هلا أنزل القرآن بلغة العجم ولو شرطية وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وأعجميا نعت واللام واقعة في جواب الشرط وجملة قالوا لا محل لها ولو لا حرف تحضيض أي هلا وفصلت فعل ماض مبني للمجهول وآياته نائب فاعل والمعنى بنيت بلسان نفهمه ونفقهه ، أأعجمي الهمزة للاستفهام الانكاري وأعجمي خبر لمبتدأ محذوف أي أهو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربي وفيه قراءات بتحقيق الهمزة الثانية وقبلها ألفا ممدودة ويقرأ بهمزة واحدة وفتح العين على النسب الى عجم ويجوز أن يعرب أأعجمي مبتدأ والخبر محذوف تقديره أأعجمي وعربي يستويان.

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) قل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت أي قل في الرد عليهم وهو مبتدأ وللذين آمنوا حال لأنه كان نعتا وتقدم ، وهدى وشفاء خبر هو أي انه هاد لهم وشاف لما في صدورهم وكاف في درء الشبه ولهذا ورد معجزا بلسانهم وسيأتي تفصيل واف لهذا الموضوع في باب البلاغة.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) والذين الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة والعائد محذوف أي به وفي آذانهم خبر مقدم ووقر مبتدأ مؤخر


ولا بد من تقدير رابط أي منه والجملة خبر الذين وهو مبتدأ وعليهم متعلقان بمحذوف حال ولا يتعلق بالمصدر لتقدمه عليه وعمى مبتدأ مؤخر وأولئك مبتدأ وجملة ينادون خبر ومن مكان متعلقان بينادون وبعيد نعت لمكان وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ الطباق :

«أأعجمي وعربي» طباق بديع يحتمل معنيين أولهما أن الإنكار واقع على كون القرآن أعجمي والرسول عربي وثانيهما أن القرآن أعجمي والمرسل إليهم أو إليه عربي وإنما جاء مفردا والمرسل إليهم هم أمة العرب لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سبق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر ، ألا تراك تقول وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة : اللباس طويل واللابس قصير ، ولو قلت واللابسة قصيرة جئت بما هو لكنة وفضول قول لأن الكلام يقع في ذكورة اللابس وأنوثته وانما وقع في غرض وراءهما فصح الطباق.

٢ ـ التشبيه البليغ :

وفي قوله «قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء» تشبيه بليغ ، جعل القرآن نفس الهدى ونفس الشفاء يهديهم الى سبل الرشاد ويشفيهم من أوصاب الجنون والالتياث.

٣ ـ الاستعارة التمثيلية :


وفي قوله «أولئك ينادون من مكان بعيد» استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النبوّ عن قبول مواعظ القرآن ودلائله بحال من ينادى من مكان بعيد فكما انه لا يفهم ولا يقبل قول المنادي فكذلك هؤلاء لا يقبلون دعوة من دعاهم الى الرشد والصلاح لاستيلاء الضلالة عليهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

اللغة :

(أَكْمامِها) : جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمر أو ما يسمى فنيا الكأس ، وفي الكشاف «الكم بكسر الكاف وعاء الثمر» ولكن قال الراغب في مفرداته : «الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام» فكلام الراغب يدل على مضموم الكاف إذ جعله مشتركا بين كم القميص وكم الثمرة ، ولا جدال في كم القميص أنه بالضم فلعل في وعاء الثمرة لغتين دون كم القميص جمعا بين قول


الزمخشري وقول الراغب ، أما معاجم اللغة فتفرق بين كم الثوب وكم الثمر فنصوا على ضم الأول وكسر الثاني قال في القاموس : «الكم بالضم مدخل اليد ومخرجها من الثوب والجمع أكمام وكممة وبالكسر وعاء الطلع وغطاء النور كالكمامة والكمة بالكسر فيهما والجمع أكمة وأكمام وكمام» ويؤخذ من الأساس وغيره من المعاجم الكبرى ما يلي لتتدبره :

الكم بضم الكاف مدخل اليد ومخرجها من الثوب جمعه أكمام وكممة بكسر الكاف ، والكمة بضم الكاف القلنسوة المدورة وكل ظرف غطيت به شيئا وألبسته إياه فصار له كالغلاف.

والكم بكسر الكاف الغلاف الذي يحيط بالزهر أو الثمر أو الطلع فيستره ثم ينشق عنه جمعه أكمة وأكمام وكمام وأكاميم ومن ذلك أكمام الزرع أي غلفها التي يخرج منها.

وأكمة الخيل : مخاليها المعلقة على رؤوسها الواحد منها كمام والكمامة بكسر الكاف غطاء الزهر ووعاء الطلع ، والكمامة أيضا بالكسر والكمال ما يكم به فم الحيوان لئلا يعض أو يأكل الى آخر هذه المادة المطولة.

(مَحِيصٍ) : مهرب من حاص يحيص حيصا إذا هرب.

الاعراب :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في أمر الكتب المنزلة ليس بدعا فهو قديم في الأمم ، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل


وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والفاء عاطفة واختلف فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وفيه متعلقان باختلف.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت نعت لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت واللام واقعة في جواب لو لا وقضي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على المصدر المفهوم من قضي أي القضاء وبينهم ظرف متعلق بقضي والضمير في بينهم يعود على كفار قومه ، وانهم الواو حاليه وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر إن ومنه متعلقان بمحذوف نعت ومريب نعت ثان.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) من اسم شرط جازم مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر والفاء رابطة لجواب الشرط ولنفسه متعلقان بفعل محذوف تقديره نفع أو عمل ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي فالعمل الصالح لنفسه ، ومن أساء فعليها عطف على ما تقدم وإعرابه مماثل له والواو يصح أن تكون حالية أو عاطفة وما نافية حجازية وربك اسمها وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام مجرور لفظا منصوب محلّا على انه خبر ما وللعبيد متعلقان بظلام ، ويصح أن تكون ظلام صيغة نسب كتمّار وبقّال وخبّاز كما سيأتي تفصيها في باب الفوائد ويصح أن تكون صيغة مبالغة وعلى الأول يكون معناه ليس بذي ظلم وقد رجحه غير واحد من المعربين. (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) اليه جار ومجرور متعلقان بيرد ويرد فعل مضارع مبني للمجهول وعلم الساعة نائب فاعل.


(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) الواو عاطفة وما نافية وتخرج فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائد وثمرة مجرور بمن لفظا في محل رفع فاعل تخرج ومن أكمامها متعلقان بتخرج وقرىء من ثمرات. وقيل ما موصولة في محل جر عطف على الساعة أي علم الساعة وعلم التي تخرج ، ومن الأولى للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية والواو حرف عطف وما نافية وتضع فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائدة وأنثى مجرور لفظا في محل رفع فاعل وإلا أداة حصر وبعلمه استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي إلا مقرونا بعلمه. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) الظرف متعلق باذكر محذوفا فهو مفعول به أو انه ظرف لمضمر يقصر البيان عنه وجملة يناديهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر وقالوا فعل وفاعل وآذناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أي أعلمناك الآن وعبارة أبي البقاء : «هذا الفعل يتعدى الى مفعول بنفسه والى آخر بحرف جر وقد وقع النفي وما في خبره موقع الجار والمجرور وقال أبو حاتم يوقف على آنذاك ثم يبتدأ فلا موضع للنفي». وما نافية ومنّا خبر مقدم ومن حرف جر زائد وشهيد مجرور لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وضل فعل ماض وعنهم متعلقان بضل وما فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يدعون خبر كانوا ومن قبل حال. (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو عاطفة وظنوا فعل ماض وفاعل وما نافية ولهم خبر مقدم ومن


حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والنفي معلق للظن عن العمل لفظا مع بقائه محلا وجملة النفي سدت مسد المفعولين لآذناك لأنها بمعنى أعلمناك كما سدت. جملة النفي السابقة مسد المفعول الثاني لآذناك وعبارة أبي البقاء : «وأما قوله تعالى : وظنوا فمفعولاها قد أغنى عنهما ما لهم من محيص وقال أبو حاتم يوقف على ظنوا ثم أخبر عنهم بالنفي».

الفوائد :

النسبة على وزن فعّال وفاعل :

اعلم أن العرب نسبوا على غير المنهاج المعروف في النسبة وذلك لأنهم لم يأتوا بياء النسبة ولكنهم يبنون بناء يدل على نحو ما دلت عليه ياء النسبة كقولهم لصاحب البتوت وهي الأكسية وواحدها بت : بتّات ، ولصاحب الثياب : ثواب ، ولصاحب البزّ : بزّاز ، ولصاحب العاج عوّاج ، ولصاحب الجمال التي ينقل عليها : جمّال ، ولصاحب الحمير التي ينقل عليها : حمّار ، وللصيرفي : صراف ، وهو أكثر من أن يحصى كالعطّار والنقّاش ، وهذا النحو إنما يعملون فيما كان صنعة ومعالجة للتكثير إذ صاحب الصنعة مداوم لصنعته فجعل له البناء الدّال على التكثير وهو فعّال بتضعيف العين لأن التضعيف للتكثير. وما كان من هذا ذا شيء وليس بصنعة يعالجها أتوا بها على صيغة فاعل وذلك لأن فاعلا هو الأصل وإنما يعدل عنه الى فعال للمبالغة فإذا لم ترد المبالغة جيء به على الأصل لأنه ليس فيه تكثير ؛


قالوا لذي الدرع : دارع ، ولذي النبل : نابل ، ولذي النشاب :ناشب ، ولذي اللبن : لابن ، ولذي التمر : تامر. وقال الحطيئة :وغررتني وزعمت أنّك لابن بالصيف تامر أي ذو لبن وذو تمر. وإن كان شيء من هذه الأشياء صنعة وما شا يداومها صاحبها نسب على فعّال فيقال لمن يبيع اللبن والتمر :لبّان وتمّار ، ولمن يرمي بالنبل : نبال. قال امرؤ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به

وليس بذي سيف وليس بنبال

وربما جمعوا بين اللفظين في شيء واحد ، قال الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطّاعم الكاسي

والمراد المطعوم المكسوّ ، وهذا القبيل وإن كان كثيرا واسعا ليس بالقياس بل هو مقتصر على السماع فلا يقال لبائع البر : برار :ولا لصاحب الفاكهة : فكاه ، وحمل عليه كثير من المحققين كما قال ابن مالك «وما ربك بظلام للعبيد» أي بذي ظلم والذي حملهم على ذلك أن النفي منصبّ على المبالغة فيثبت أصل الفعل والله تعالى منزه عن ذلك.


فهرس المجلد الثامن

تتمة اعراب سورة الاحزاب الآية ٢٨................................................ ٥

اعراب سورة سبأ................................................................ ٦٠

اعراب سورة فاطر............................................................. ١١٨

اعراب سورة يس.............................................................. ١٧٢

اعراب سورة الصافات......................................................... ٢٣٨

اعراب سورة ص.............................................................. ٣٢٦

اعراب سورة الزمر............................................................. ٣٨٧

اعراب سورة غافر............................................................. ٤٥٤

اعراب سورة فصلت........................................................... ٥٢٩

انتهى المجلد الثامن ويليه المجلد التاسع

بدءا من الآية ٤٩ من سورة فصلت

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ٨

المؤلف:
الصفحات: 579