


(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً
(٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))
الاعراب :
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أصحاب مبتدأ والجنة مضاف ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو
متعلق بخير وخير خبر أصحاب وهو اسم تفضيل ، أو لمجرد الوصف ومستقرا تمييز وأحسن
مقيلا عطف على خير مستقرا ، والمستقر المكان الذين يقضون فيه معظم أوقاتهم والمقيل
المكان الذي يأوون اليه للاسترواح الى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وسيأتي في باب
البلاغة مزيد من بحث هذه الآية. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) الظرف منصوب بتقدير اذكر وجملة تشقق في محل جر باضافة
الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق فحذف بعض القراء التاء وأدغمها بعضهم ، والسماء فاعل
، وبالغمام : في هذه الباء وجوه أولها أنها للسببية بمعنى
أنها تتشقق بسبب طلوعه منها فيتعلق الجار والمجرور بتشقق ، وثانيها أنها
للملابسة فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال ، والثالث أنها بمعنى عن أي
عن الغمام كقوله : «يوم تشقق الأرض عنهم» فتتعلق بتتشقق أيضا ونزل الملائكة فعل
ماض مبني للمجهول والملائكة نائب فاعل وتنزيلا مفعول مطلق.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) الملك مبتدأ والظرف متعلق به والحق صفة للملك وللرحمن
خبر الملك وأجاز بعض المعربين أن يكون الظرف هو الخبر وآخرون أجازوا أن يكون الحق
، وما ذكرناه أولى. وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر
تقديره وكان اليوم ، ويوما خبرها وعلى الكافرين متعلق بعسيرا وعسيرا صفة ليوما. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى
يَدَيْهِ) الظرف منصوب باذكر مقدرا وهو معطوف على قوله يوم يرون
الملائكة وكذا قوله السابق يوم تشقق السماء ، وجملة يعض مجرورة باضافة الظرف إليها
والظالم فاعل يعض وعلى يديه متعلقان ببعض وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً) الجملة نصب على الحال من فاعل يعض أي قائلا ، ويا ليتني
: يا حرف نداء والمنادى محذوف أو هي لمجرد التنبيه ، وليتني ليت واسمها وجملة
اتخذت خبرها ومع الرسول ظرف مكان في موضع المفعول الثاني لاتخذت وسبيلا مفعول
اتخذت الأول تمنى أن لو صاحب الرسول وسلك سبيل الحق. (يا وَيْلَتى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يا حرف نداء وويلتا منادى مضاف الى ياء المتكلم
المنقلبة الفاء وأصله يا وليتي ، وقد تقدم بحث المنادى المضاف الى ياء المتكلم ،
ينادي ويلته أي هلكته. وليتني ليت واسمها وجملة لم أتخذ خبرها
وفلانا مفعول به أول وخليلا مفعول به ثان. (لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضلني فعل
وفاعل مستتر وعن الذكر متعلقان بأضلني والجملة تعليلية لتمنيه المذكور وندائه
هلكته وبعد ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بمحذوف حال وجملة جاءني مجرورة باضافة
الظرف إليها والواو حالية وكان الشيطان كان واسمها وللإنسان متعلقان بخذولا وخذولا
خبر كان.
البلاغة :
الكناية في
قوله «مستقر» و «مقيل» فأما المستقر فهو اسم مكان من الاستقرار وهو المجلس الدائم
لأهل الجنة يستقرون فيه ويقضون معظم أوقاتهم متقابلين يتحادثون ويتسامرون ، وكنى
به عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها ، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور
بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار ، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن
قضائهم وقت الاستجمام والاستراحة مع أزواجهم ، وفي هذا المعنى سيأتي قوله «إن
أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ، هم أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون» قيل في
تفسير الشغل انه افتضاض الأبكار.
ومن روائع
الحديث في وصف غناء الحور العين قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عمر
رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أزواج أهل الجنة
ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط ، إن مما يغنين به : نحن الخيرات الحسان
، أزواج قوم كرام ، ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به : نحن
الخالدات فلا نمتنه ، نحن الآمنات فلا نخفنه ، نحن المقيمات فلا نظعنه».
وفي قوله : «يوم
يعض الظالم على يديه» كناية عن الندم والغيظ والحسرة ، ومثل هذا التعبير عض
الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأرم ، ففي الصحاح حرقت الشيء حرقا : بروته وحككت
بعضه ببعض ، ومنه قولهم حرق نابه أي سحقه حتى يسمع له صريف ، وفلان يحرق عليك
الأرم غيظا من أرم على الشيء أي عض عليه وأرمه أيضا والأرم الأضراس كأنه جمع آرم
يقال فلان يحرق عليك الأرم إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض ، وقيل هو مجاز عبر به
عن التحير والغم والندم والتفجع ، ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم
يعضّ على إبهامه ندما ، وقال الشاعر :
لطمت خدها
بحمر لطاف
|
|
نلن منها
عذاب بيض عذاب
|
فشكى العناب
نور أقاح
|
|
واشتكى الورد
ناضر العناب
|
وفلان كناية عن
علم من يعقل وفل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلانة كناية عن علم من يعقل من
الإناث وفلة كناية عن نكرة من يعقل من الإناث والفلان والفلانة بالألف واللام
كناية عن غير العاقل ولامه واوية أو يائية.
قال أبو حيان :
وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وفل كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل وهو مختص
بالنداء وفلة يعني يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخما من فلان ، خلافا
للفراء ، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان
، وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.
(وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً
(٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً
(٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))
اللغة :
(مَهْجُوراً) : متروكا ، أي تركوه وصدوا عن الايمان به ، وقيل هو من
هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه فحذف الجار ، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين ،
أحدهما : أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين ، وثانيهما : أنهم كانوا إذا
سمعوه هجروا فيه ، فهو إما من الهجر بالفتح أي ضد الوصل وإما من الهجر بالضم وهو
الهذيان وفحش القول. ثم المهجور اما اسم مفعول وإما مصدر بمعنى الهجر أطلق على
القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر.
(وَرَتَّلْناهُ) : فرقناه أو أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لنيسر
فهمه وحفظه ، وأصله الترتيل في الأسنان وهو تفليجها ، يقال : ثغر مرتل ورتل
بفتحتين.
الاعراب :
(وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) عطف على قوله وقال الذين لا يرجون لقاءنا ، وقال الرسول
فعل وفاعل ويا حرف نداء ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم وان واسمها وجملة اتخذوا
خبرها وهذا مفعول أول لا تخذوا والقرآن بدل من اسم الاشارة ومهجورا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله
عليه وسلم بعد الارتماض الذي يعانيه والذي تدل عليه شكواه المريرة. وكذلك نعت
لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلنا ولكل نبي مفعول به ثان لجعلنا وعدوا مفعول به
أول ومن المجرمين نعت لعدوا.
(وَكَفى بِرَبِّكَ
هادِياً وَنَصِيراً) الواو عاطفة وكفى فعل ماض وبربك الباء حرف جر زائد في
الفاعل وربك مجرور لفظا فاعل كفى محلا وهاديا حال ونصيرا عطف عليه. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهته
منهم تتعلق بالقرآن ، والحاكون هم قريش أو اليهود وهو اعتراض متهافت ساقط من أساسه
لأن إعجاز القرآن ليس منوطا بنزوله جملة أو تفصيلا. وقال الذين فعل وفاعل وجملة
كفروا صلة ولولا حرف تحضيض ونزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بنزل والقرآن
نائب فاعل وجملة حال وواحدة صفة. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) الكاف نعت لمصدر محذوف أي نزلناه تنزيلا مثل ذلك
التنزيل ، ولنثبت تعليل لنزلناه المحذوفة وبه متعلقان بنثبت والفاعل مستتر تقديره
نحن وفؤادك مفعول به ورتلناه عطف على نزلناه المحذوفة وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به
وترتيلا مفعول مطلق ،
ومعنى ترتيله أن قدره آية بعد آية بترسل وتثبت وقيل هو أنزله مع كونه
متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة.
(وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الواو عاطفة ولا نافية ويأتونك فعل وفاعل ومفعول به
وبمثل متعلقان بيأتونك أي بسؤال عجيب يشبه في استغرابه وبطلانه المثل السائر ،
وإلا أداة حصر وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بجئناك
والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فمحل الجملة النصب على الحال أي لا يأتونك بمثل في
حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إليك بالحق وبما هو أحسن بيانا. وأحسن عطف على
الحق وجر بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف وتفسيرا تمييز. (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ
إِلى جَهَنَّمَ) الذين رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو نصب على
الذم أي أذم الذين ، وجملة يحشرون صلة وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال أي مقلوبين
على وجوههم وإلى جهنم متعلقان بيحشرون.
(أُوْلئِكَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أولئك مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وأضل سبيلا عطف على
شر مكانا والجملة تفسيرية فلا محل لها ولك أن تعرب الذين مبتدأ والجملة خبره.
البلاغة :
١ ـ وصف المكان
بالشر ، والسبيل بالضلال ، من الإسناد المجازي. وقد مرت له نظائر.
٢ ـ قوة اللفظ
لقوة المعنى :
وذلك في قوله
تعالى : «ورتلناه ترتيلا» فإن لفظة رتل على وزن لفظة قتّل الرباعية ومع هذا ليست
دالة على كثرة القراءة وإنما المراد
بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر ، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا
ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة الحسنة
المخصوصة من القراءة ، فاللفظة إن كانت منقولة أدت الى الكثرة. خذلك مثالا «كلّم»
من قوله تعالى «وكلّم الله موسى تكليما» فإن كلّم على وزن قتّل أيضا ولم يرد بها
التكثير بل أريد بها : خاطبه ، سواء أكان خطابه إياه طويلا أم قصيرا ، قليلا أم
كثيرا ، وهذه اللفظة رباعية وليس لها ثلاثي نقلت عنه الى الرباعي.
لكن قد وردت
بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك أن
تكون كلّم من الجرح أي جرّح ولها ثلاثي وهو كلم مخففا أي جرح فإذا وردت مخففة دلت
على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير. فتدبر هذا فإنه حسن جدا
وقل من يتفطن له.
٣ ـ وفي قوله :
«ولا يأتونك بمثل» استعارة تصريحية. شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان لأن أكثر
الأمثال أمور متخيلة.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا
اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ
وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً
(٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ
كَثِيراً
(٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))
اللغة :
(الرَّسِّ) : اسم بئر معينة ، قال أبو عبيدة : هي البئر المطوية
والجمع الرساس ، ومنه قول الشاعر :
وهم سائرون
إلى أرضهم
|
|
تنابلة
يحفرون الرساسا
|
وقيل : الرس
قرية ، وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله إليهم
شعيبا فدعاهم الى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه ، وقيل هم أصحاب النبي
حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وسيأتي بحثها ، فكانت تسكن جبلهم وتنقض على
صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم انهم قتلوا
حنظلة فأهلكوا ، وقيل هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وقيل الرس بانطاكية قتلوا
فيها حبيبا النجار.
والعنقاء هي
أعظم ما يكون من الطير سميت لطول عنقها ، ويقال لها عنقاء مغرب على الاضافة أو
العنقاء المغرب والمغربة على الوصف وهي طائر مجهول الجسم لم يوجد ، والداهية ،
ويقال في الإخبار عن هلاك الشيء وبطلانه : حلقت به عنقاء مغرب ، وسميت بالمغرب إما
لإتيانها بأمر غريب وهو اختطاف الصبيان وقيل : انها اختطفت عروسا أو
لغروبها أي غيبتها ، ومغرب بضم الميم وفتحها وقيل غير ذلك مما يطول تعداده : وقيل
الرس : ماء ونخل لبني أسد وقيل الثلج المتراكم في الجبال والرس اسم واد ، قال زهير
:
بكرن بكورا
واستحرنا بسحرة
|
|
فهن ووادي
الرس كاليد في الفم
|
(تَبَّرْنا) : فتتنا ، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة.
الاعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما مرّ
من تسلية محمد صلى الله عليه وسلم بحكاية ما جرى للأنبياء وما كابدوه من أقوامهم.
واللام جواب
للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا موسى فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول ثان
لآتينا وجعلنا عطف على آتينا ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعلنا
وأخاه هو المفعول الأول لجعلنا وهارون بدل من أخاه أو عطف بيان ووزيرا حال ، أو
تجعل وزيرا هو المفعول الثاني وتعلق الظرف بمحذوف نصب على الحال. (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) فقلنا عطف على ما تقدم وقلنا فعل وفاعل وجملة اذهبا
مقول القول والى القوم جار ومجرور متعلقان باذهبا والذين نعت للقوم وجملة كذبوا
صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا والفاء عاطفة على محذوف أي فذهبا إليهم
فكذبوهما فدمرناهم ، ودمرناهم فعل وفاعل ومفعول به وتدميرا مفعول مطلق. (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) وقوم نوح مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي وأغرقنا
قوم ولك أن تعطفه على الهاء في دمرناهم أي ودمرنا قوم نوح ولما ظرف بمعنى حين أو
رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال وقد تقدم الإلماع إليها ، وكذبوا الرسل فعل
وفاعل ومفعول به وجملة أغرقناهم جواب شرط غير جازم فلا محل لها. (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً
وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) وجعلناهم عطف على ما تقدم وللناس مفعول جعلناهم الثاني
وآية مفعول جعلناهم الأول وأعتدنا عطف على جعلناهم وللظالمين متعلقان بأعتدنا وهي
تحتمل التعيين والتخصيص فتكون من وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بوصف الظلم.
(وَعاداً وَثَمُودَ
وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وعادا مفعول به لفعل محذوف تقديره أهلكنا أو دمرنا ،
وثمود وأصحاب الرس وقرونا عطف عليه والمراد بقوله قرونا أقواما وكثيرا صفة لقرونا.
(وَكُلًّا ضَرَبْنا
لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) كلّا مفعول به لفعل محذوف يلاقي ضربنا في المعنى أي
خوفنا وأنذرنا كلّا فهو نصب على الاشتغال وجملة ضربنا مفسرة وهو فعل ماض وفاعل وله
متعلقان بضربنا والأمثال مفعول به وكلا مفعول به مقدم لتبرنا لأنه فارغ له لم
يشتغل بضميره وتبرنا فعل وفاعل وتتبيرا مفعول مطلق.
(وَلَقَدْ أَتَوْا
عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وأتوا فعل وفاعل وعلى القرية متعلقان بأتوا والتي صفة للقرية وجملة أمطرت
صلة ومطر السوء مفعول مطلق لأمطرت فهي بمعنى أمطار السوء والمراد بمطر السوء
الحجارة والمعنى أن قريشا عرجوا مرارا كثيرة بمنازل تلك القرية التي أهلكت
بالحجارة من السماء أثناء انتجاعهم للتجارة وفي القاموس : «ساء سوءا بالفتح
فعل به ما يكره والسوء بالضم اسم منه» ، والقرية هنا اسم جنس لأنها تشمل خمسة قرى
كان قوم لوط يسكنونها ما نجت منها إلا واحدة وقيل هي قرية واحدة اسمها سذوم بالذال
المعجمة أو سدوم بالدال المهملة وقد تقدم هذا كله. (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) الهمزة للاستفهام التقريري المتضمن معنى الإنكار
والتقرير هو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه ، والفاء عاطفة لعطف مدخولها على
مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها مرات أثناء
تعريجهم عليها ليعتبروا بمصائر من قبلهم وما جرّ عليهم إمعانهم في الغواية وركوب
متن الشطط من عقوبة لا تقدر وجملة يرونها خبر يكونوا ، بل حرف إضراب وكان واسمها
وجملة لا يرجون خبرها ونشورا مفعول به.
البلاغة :
١ ـ في قوله «لا
يرجون نشورا» مجاز عن التوقع ، وتوقع الشيء يكون في الخير والشر لأنه لما كانت
حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه من سرور وما هو محبب الى النفس احتيج الى توجيه
الرجاء بما ذكرناه ولأنه لا يتصور رجاء النشور إلى الكفار.
هذا وقد أجرى
بعضهم الكلام على الحقيقة فقال : ان الرجاء بمعنى الخوف هنا وهو محض تكلف وفي
المجاز عنه مندوحة.
٢ ـ وفي قوله «فقلنا
اذهبا» الى قوله «فدمرناهم تدميرا»
الحذف ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية فإن تقديره فقلنا اذهبا الى
القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ
كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))
الاعراب :
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط
وجملة رأوك مجرورة بإضافة الظرف إليها وإن نافية ويتخذونك فعل وفاعل ومفعول
والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولم يقترن الجواب بالفاء لأن «إذا»
اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء بخلاف غيرها من
الأدوات. وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان ليتخذونك.
(أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) الجملة في محل نصب على الحال من الواو في يتخذونك على
تقدير القول أي قائلين والهمزة للاستفهام الانكاري وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة
بعث صلة والعائد محذوف
أي بعثه والله فاعل لبعث ورسولا حال ويجوز أن يكون بمعنى مرسل وأن يكون
مصدرا حذف منه المضاف ، أي ذا رسول وهو الرسالة ، وفي الاشارة معنى الاحتقار لأنها
للقريب. (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) إن مخففة من الثقيلة والجملة من تتمة مقولهم واسمها
محذوف أي انه وجملة كاد خبرها ويجوز إهمالها واسم كاد مستتر تقديره هو واللام
الفارقة بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة ، وجملة يضلنا خبر كاد وهو فعل
مضارع وفاعل مستتر ونا مفعول به وعن آلهتنا متعلقان بيضلنا ولو لا حرف امتناع
لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في حيزها مبتدأ وعليها متعلقان بصبرنا والخبر
محذوف أي موجود والجواب محذوف أي لصرفنا عنها. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرد عليهم من
الله تعالى وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل وحين ظرف زمان متعلق بيعلمون
وجملة يرون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن استفهام مبتدأ وأضل خبره وسبيلا
تمييز والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي يعلمون التي علقت عن العمل بالاستفهام أي
أهم أم المؤمنون؟. (أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الهمزة للاستفهام ورأيت فعل وفاعل أي أخبرني ، ومن اسم
موصول مفعول رأيت الأول وجملة اتخذ صلة وإلهه مفعول به ثان لاتخذ وهواه مفعول به
أول وقدم المفعول الثاني لأنه أهم وللاعتناء به لأنه هو المحور الذي يدور عليه
التعجب وستأتي في باب البلاغة مناقشة طريقة حول هذا التقديم. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) الجملة في محل نصب مفعول به ثان لرأيت والهمزة
للاستفهام الانكاري للتيئيس من إيمانهم ، والفاء عاطفة على مقدر أي أنت تحرص على
إيمانه وأنت مبتدأ وجملة تكون خبره واسم تكون ضمير مستتر تقديره أنت وعليه
متعلقان بوكيلا ووكيلا خبر تكون. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أم حرف عطف مقدرة ببل والهمزة فهي منقطعة والهمزة
المقدرة للاستفهام الإنكاري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تحسب وجملة يسمعون
خبر أن وأو حرف عطف ويعقلون عطف على يسمعون. (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) إن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر والكاف خبر هم ، بل
حرف عطف وإضراب وهم مبتدأ وأضل خبره وسبيلا تمييز.
البلاغة :
١ ـ التقديم :
في قوله تعالى «اتخذ
إلهه هواه» التقديم فقد قدم المفعول الثاني ، والأصل اتخذ الهوى إلها للعناية به
كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق ، وفيه إلى جانب هذه النكتة نكتة
ثانية وهي إفادة الحصر ، فإن الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر ، المبتدأ هواه
والخبر إلهه ، وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر فكأنه قال أرأيت من لم يتخذ
معبوده إلا هواه ، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه. هذا وقد زعم بعض المعربين أنه لا
تقديم ولا تأخير في الكلام وإنهما مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير
لاستوائهما في التعريف ولكن هذا مجرد وهم فإنهما وإن تساويا في التعريف فقد غاب عن
أصحاب هذا الزعم أن المفعول الثاني هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل
هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة
الباهرة والبرهان النير بالكلية.
٢ ـ التمثيل :
في قوله «إن هم
إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» فن التمثيل وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الفن الذي
يتلخص في أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظة الخاص ولا بلفظي الإشارة
ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص
لأن المثل لا يشبه المثل من كل الوجوه ، ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا.
ومن التمثيل أيضا نوع آخر ذهب إليه من جاء بعد قدامة وهو أن يذكر الشيء ليكون
مثالا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه ، كأنهم لثبوتهم
على الضلالة بمنزلة الانعام والبهائم بل أضل سبيلا لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها
وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك.
هذا وقد استخرج
ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أمثال أبي تمام من شعره فوجدها
تسعين نصفا وثلاثمائة بيت ، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف
وأربعمائة بيت وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عددا من أمثال المتنبي ونذكر هنا
طائفة أخرى منها :
لعل عتبك
محمود عواقبه
|
|
فربما صحت
الأجسام بالعلل
|
وقوله :
ومكايد
السفهاء واقعة بهم
|
|
وعداوة
الشعراء بئس المقتنى
|
وقوله :
لا يعجبن
مضيما حسن بزته
|
|
وهل تروق
دفينا جودة الكفن
|
وقوله :
وانا الذي
اجتلب المنية طرفه
|
|
فمن المطالب
والقتيل القاتل
|
وقوله :
وما كمد
الحساد شيئا قصدته
|
|
ولكنه من
يرحم البحر يغرق
|
(أَلَمْ
تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ
سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً
وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))
اللغة :
(سُباتاً) : راحة للأبدان بقطع الأعمال وهو من السبت أي القطع سمي
بذلك لقطع الأشغال فيه ، وفي المصباح : «والسبات وزان غراب النوم الثقيل وأصله
الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل» وفي
القاموس : إنه من بابي قتل وضرب ثم قال : والسبات النوم أو خفيفه أو
ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب ، وقال الزمخشري : «والسبات :الموت والمسبوت : الميت
لأنه مقطوع الحياة وهذا كقوله «وهو الذي يتوفاكم بالليل» فإن قلت : هلا فسرته
بالراحة؟ قلت : النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» والعيوف من
الإبل كما في الصحاح : الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان وفيه أيضا : رنقته ترنيقا
كدرته» وفي اللسان والأساس : «وجعل الله النوم سباتا : موتا وأصبح فلان مسبوتا :
ميتا» وفي القاموس والتاج : «السبات : النوم أو أوله ، والدهر ، والرجل الداهية ،
وابنا سبات : الليل والنهار مأخوذ من معنى الدهر ، وسبت يسبت من بابي قتل وضرب
سبتا دخل في السبت وقام بأمر السبت : استراح ، وسبت الشيء قطعه ، وسبت الرأس :
حلقه والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد وجمعه أسبت وسبوت ،
والسبت أيضا : النوام والفرس الجواد والرجل الداهية.
(الرِّياحَ) : في المصباح : «والريح أربع الشمال وتأتي من ناحية
الشام والجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية والثالثة الصبا وتأتي من مطلع الشمس وهي
القبول أيضا والرابعة الدبور وتأتي من ناحية المغرب ، والريح مؤنثة على الأكثر
فيقال هي الريح وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح وهب الريح ، نقله أبو زيد
وقال ابن الأنباري : الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار
فإنه مذكر.
(طَهُوراً) : الطهور على وجهين في العربية : صفة واسم غير صفة
فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك لما يتطهر به
طهور كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار كقولك وضوءا حسنا ذكره
سيبويه.
(أَناسِيَّ) : الأناسي جمع إنسي أو إنسان ونحوه ظرابي في ظربان على
قلب النون ياء والأصل أناسين وظرابين ولعل الثاني هو الأرجح ، قال سيبويه : «إن
الياء في إنسي للنسب وما هي فيه لا يجمع على فعالي» وقال ابن مالك «واجعل فعالي
لغير ذي نسب» وجزم ابن هشام وابن مالك بأنه جمع إنسان لا جمع إنسي ، قالا : وشذ
قباطي جمع قبطي وبخاتي جمع بختي ، وفي الصحاح : القبط أهل مصر ورجل قبطي والقبطية
ثياب بيض رقاق من كتان والبخت من الإبل معرب وقيل هو عربي وينشد لابن قيس الرقيات
:
يهب الخيل
والألوف ويسقي
|
|
لبن البخت في
قصاع الخلنج
|
الاعراب :
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) كلام مستأنف مسوق للشروع في إيراد أدلة محسوسة على
توحيده وستأتي خمسة أدلة أولها امتداد الظل وثانيها جعل الليل لباسا وثالثها إرسال
الرياح ورابعها مرج البحرين وخامسها خلق البشر من الماء. والهمزة للاستفهام
التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر أي تنظر فعل مضارع مجزوم بلم وهي هنا بصرية
وإلى ربك متعلقان بتنظر على حذف مضاف أي إلى صنيع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات
الله ، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أي ألم تر إلى صنيع ربك كيف مد الظل
، أي على أية حالة ، ومعنى مد الظل أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس ، واختار
الزجاج أن تكون الرؤية قلبية والمعنى ألم
تعلم ، قال : وهذا أولى لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله
تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر فحمل
اللفظ على رؤية القلب أولى وقد علقت كيف تر عن العمل فجملة مد الظل في محل نصب
مفعول به على الثاني وعلى الأول مستأنفة.
ولو الواو
حالية ولو شرطية وشاء فعل ماض وفاعل مستتر واللام واقعة في جواب لو وجملة جعله لا
محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول جعل الأول وساكنا مفعوله الثاني أي
ثابتا بأن يجعل الشمس على وضع واحد أو دائما غير زائل. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلاً) ثم هنا للتفاضل بين أوقات الظهور وليست للتراخي الزماني
لأنه لا يصح هنا فهي محمولة على المجاز كما سيأتي في باب البلاغة وجعلنا فعل وفاعل
والشمس مفعول به وعليه حال ودليلا مفعول به ثان أي لولا الشمس لما عرف الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً) وثم هنا للتفاضل أيضا بين الأمور الثلاثة وهي مد الظل
وسكونه وقبضه كأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما ، وقبضناه فعل وفاعل
ومفعول به وإلينا متعلقان بقبضناه وقبضا مفعول مطلق ويسيرا صفة ومعنى قبضه قبضا
يسيرا أي حسبما ترتفع الشمس لتنتظم بذلك مصالح الكون. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم
حال لأنه كان في الأصل صفة للباسا والليل مفعول جعل الأول ولباسا مفعوله الثاني
والنوم سباتا عطف على ما تقدم وجعل النهار نشورا عطف أيضا أي انتشارا ينشر فيه
الناس لتحصيل معاشهم. (وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) بشرا حال وبين ظرف متعلق
بمحذوف صفة لبشرا ويدي رحمته مضاف إليه وسيأتي تحقيق ذلك في باب البلاغة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً) عطف على ما تقدم وفيه إشعار بأن تطهير الظواهر يستلزم
تطهير البواطن وفي ذلك منتهى المنة والنعمة. (لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) لام التعليل متعلق بأنزلنا لبيان العلة في إنزاله وبه
متعلقان بنحيي وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة يستوي فيه المذكر والمؤنث أو لأنه
ذكر على معنى البلد في قوله «فسقناه إلى بلد ميت» ونسقيه عطف على نحيي تبعه في
النصب ويقال سقاه وأسقاه وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ومما متعلقان بمحذوف خال
وأنعاما مفعول به ثان لنسقيه وأناسي كثيرا عطف على أنعاما. وسيأتي سر تقديم
الأنعام على الأناسي في باب البلاغة.
البلاغة :
١ ـ التقديم
والتأخير :
في قوله «وأنزلنا
من السماء ماء» الى قوله «وأناسي كثيرا» فن التقديم والتأخير وهو فن عجيب دقيق
المسلك خفي الدلالة ، وهو قسمان : قسم يختص بدلالة الألفاظ على المعاني وقسم يختص
بدرجة التقدم في الذكر ومنه الآية التي نحن بصددها ، فقد قدم حياة الأرض وإسقاء
الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام
والناس ، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ولما كانت الأنعام من أسباب
التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم
وأنعامهم فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.
٢ ـ في قوله «ثم
جعلنا» و «ثم قبضناه» استعارة تصريحية تبعية استعير فيها لفظة المشبه به وهو البعد
والتراخي للمشبه وهو تفاضل الأمور.
٢ ـ وفي قوله «بين
يدي رحمته» استعارة أيضا أي قدام المطر ، وسيأتي المزيد من ذلك.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ
شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ
وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا
عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً
مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما
أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))
اللغة :
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : جعلهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان وفي المصباح
: «المرج : أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل
فلس وفلوس ، ومرجت الدابة مرجا من باب قتل : رعت في المرج ، ومرجتها مرجا :
أرسلتها ترعى في المرج». وفي المختار : وقوله تعالى : «مرج البحرين» أي خلاهما لا
يلتبس أحدهما بالآخر. وفي الأساس : «أمرج الدواب ومرجها : أرسلها في المرج والمروج
، ومرج السلطان الناس ، ورجل مارج : مرسل غير ممنوع ، ولا يزال فلان يمرج علينا
مروجا : يأتينا مفاجئا ، ومرج الخاتم في الإصبع قلق. ومن المجاز : «مرج الله
البحرين ، ومرج فلان لسانه في أعراض الناس وأمرجه ، وفلان سرّاج مرّاج : كذاب ،
ومرجت عهودهم وقد مرج أمرهم مرجا ومروجا ، وأمر مارج ومريج ، وفي الحديث : «كيف
أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة» قال زهير :
مرج الدين
فأعددت له
|
|
مشرف الحارك
محبوك الثبج
|
يرهب السوط
سريعا فإذا
|
|
ونت الخيل من
الشد معج
|
وأمرجوا عهودهم
ودينهم ، وطلع مارج من نار : لهب ساطع».
هذا وقد سمي
الماء الكثير بحرا ولم يقصد بحرين معنيين.
(فُراتٌ) : الفرات : البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والتاء
فيه أصلية لام الكلمة ووزنه فعال وبعض العرب يقف عليها هاء ويقال سمي الماء العذب
فراتا لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه وفي المصباح : «الفرات الماء العذب يقال فرت
الماء فروتة وزان سهل سهولة إذا عذب ولا يجمع إلا نادرا على فرتان كغربان» والفرات
أيضا نهر عظيم معروف والفرات أيضا البحر.
(أُجاجٌ) : الأجاج : البالغ في الملوحة وقيل في الحرارة وقيل في
المرارة. وفي الأساس «وماء أجاج : يحرق بملوحته» وفي القاموس :
«أجّ يؤج الماء : صار أجاجا أي ملحا مرا ، وهذه نبذة لغوية في تفصيل كمية
الماء وكيفيته : إذا كان الماء دائما لا ينقطع ولا ينزح في عين أو بئر فهو عدّ ،
فإذا كان إذا حرك منه جانب لم يضطرب جانبه الآخر فهو كر ، فإذا كان كثيرا عذبا فهو
غدق وقد نطق به القرآن ، فإذا كان مغرقا فهو غمر ، فإذا كان تحت الأرض فهو غور ،
فإذا كان جاريا فهو غيل ، فإذا كان على ظهر الأرض يستقى بغير آلة فهو سيح ، فإذا
كان ظاهرا جاريا على وجه الأرض فهو معين وسنم ، وفي الحديث : «خير الماء السنم»
فإذا كان جاريا بين الشجر فهو غلل ، فإذا كان مستنقعا في حفرة أو نقرة فهو ثغب ،
فإذا أنبط من البئر فهو نبط ، فإذا غادر السيل منه قطعة فهو غدير ، فإذا كان الى
الكعبين أو أنصاف السوق فهو ضحضاح ، فإذا كان قريب القعر فهو ضحل ، فإذا خاضته
الدواب فغيرته فهو طرق ، فإذا كان منتنا غير أنه شروب فهو آجن ، وإلا فهو آسن ،
فإذا كان باردا منتنا فهو غساق ، أو كان حارا فسخن ، فإذا اشتدت حرارته فحميم ،
فإذا كان ملحا فهو زعاق ، أو مرا فهو قعاع ، فإذا اجتمعت فيه الملوحة والمرارة فهو
أجاج ، فإذا كان فيه شيء من العذوبة وقد يشربه الناس على ما فيه فهو شريب ، فإذا
كان دونه في العذوبة وليس يشربه الناس إلا عند الضرورة وقد تشربه البهائم فهو شروب
، فإذا كان عذبا فهو فرات ، فإذا زادت عذوبته فهو نقاخ ، فإذا كان زاكيا في
الماشية فهو نمير ، فإذا كان سهلا سائغا متسلسلا في الحلق فهو سلسل وسلسال ، فإذا
جمع الصفاء والعذوبة والبرد فهو زلال ، فإذا كثر عليه الناس حتى نزحوه بشفاههم فهو
مشفوه ثم مثمود ثم مضفوف ثم ممكول ثم مجموم ثم منقوص» فما أعجب أمر لغتنا الشريفة.
(بَرْزَخاً) : حاجزا يحول دون اختلاط أحدهما بالآخر دون أن يرى.
(وَحِجْراً مَحْجُوراً) : تقدم تفسيرهما ، وسيأتي البحث عن موقعهما هنا في باب
البلاغة.
(وَصِهْراً) : الصهر بالكسر القرابة كما في القاموس والختن وجعمه
أصهار وفي المصباح : «الصهر جمعه أصهار ، قال الخليل :الصهر أهل بيت المرأة وقال
ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعا أصهارا ، وقال الأزهري : الصهر يشتمل على
قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة وأولادهم والأعمام
والأخوال والخالات فهؤلاء أصهار زوج المرأة ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته
المحارم فهم أصهار المرأة أيضا وقال ابن السكيت : كل من كان من قبل الزوج من أبيه
أو أخيه أو عمه فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين
الاصهار وصاهرت إليهم ولهم وفيهم إذا تزوجت منهم».
(ظَهِيراً) : الظهير : المعين فهو فعيل بمعنى مفاعل ويجوز أن يراد
بالظهير الجماعة كقوله «والملائكة بعد ذلك ظهير» كما جاء الصديق والخليط.
الاعراب :
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) عطف على ما تقدم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وصرفناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الماء أو على القول الذي مرّ
فيه ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر بين الناس ليعتبروا فأبوا إلا الكفور ،
وبينهم متعلقان بصرفناه وليذكروا اللام للتعليل ويذكروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة
بعد اللام فأبى أكثر الناس الفاء عاطفة والجملة عطف على ما تقدم وإلا أداة حصر
وكفورا مفعول به أو مفعول مطلق. (وَلَوْ شِئْنا
لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ومفعول المشيئة
محذوف وقد تقدم انه يكثر بعد فعل المشيئة واللام واقعة في جواب لو وجملة بعثنا لا
محل لها وفي كل قرية متعلقان ببعثنا ونذيرا مفعول به أي ولكننا قصرنا الأمر عليك
وأنطناه بك وحدك ليكون لك فضل إظهاره والتمرس بأعبائه.
(فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتطع مجزوم بلا والفاعل مستتر
تقديره أنت والكافرين مفعول به أي فلا تسايرهم فيما يريدونك عليه ولا تأخذك هوادة
أولين ، وجاهدهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبه متعلقان بجاهدهم والضمير
للقرآن واتل عليهم دائما زواجره وأوامره ونواذره ، وجهادا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم ليتساوق ذكر
الدلائل الخمسة على توحيده وهذا هو الدليل الرابع. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة مرج
البحرين صلة وجملة هذا عذب استئنافية أو مقولا لقول محذوف في موضع الحال أي مقولا
فيهما وهذا مبتدأ وعذب خبره وفرات خبر ثان وهذا ملح أجاج عطف على ما تقدم.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) عطف على مرج داخل في حيز الصلة وجعل فعل ماض وفاعله
ضمير مستتر تقديره هو وبينهما ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لجعل
وبرزخا مفعول به
أول وحجرا محجورا عطف على برزخا وقيل منصوبين بقول مقدر وسيأتي تقرير ذلك
في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) عطف على ما تقدم وقد ذكر فيه الدليل الخامس ومن الماء
جار ومجرور متعلقان بخلق وبشرا مفعول به ، فجعله الفاء عاطفة وجعله فعل وفاعل
مستتر ومفعول به أول ونسبا مفعول ثان وصهرا عطف على نسبا والواو استئنافية وكان
فعل ماض ناقص وربك اسمها وقديرا خبرها. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) الواو استئنافية وجملة يعبدون استئنافية مسوقة للشروع
في تقبيح جنوح المشركين الى عبادة الأوثان بعد أن أورد الدلائل الخمسة على التوحيد
، ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا ينفعهم صلة وجملة ولا يضرهم عطف على
جملة لا ينفعهم. (وَكانَ الْكافِرُ
عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الواو عاطفة وكان الكافر كان واسمها وعلى ربه متعلقان
بظهيرا وظهيرا خبر كان أي معينا للشيطان. (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال رسوله صلى الله عليه وسلم
وما نافية وأرسلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال فالاستثناء
من أعم الأحوال ونذيرا عطف على مبشرا. (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) قل فعل أمر وجملة ما أسألكم مقول القول وعليه حال لأنه
كان في الأصل صفة لأجر وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا في محل نصب
مفعول به لأسألكم. (إِلَّا مَنْ شاءَ
أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) إلا أداة استثناء ومن شاء مستثنى منقطع لأنه من غير
الجنس أي لا أطلب منكم أجرا لنفسي لكن من شاء أن ينفق أمواله في سبيل الله ولوجهه
خالصا فليفعل ، وأن وما في حيزها مفعول المشيئة والى ربه في موضع المفعول الثاني
ليتخذ وسبيلا مفعول به أول ليتخذ.
البلاغة :
الاستعارة
التصريحية في قوله «مرج البحرين» فقد شبه بهما الماءين الكثيرين الواسعين ، وحجرا
محجورا هي كلمة تقال عند التعوذ كما أسلفنا في هذه السورة ، ولكنهما هنا تقالان
على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من الآخر ويقول له حجرا محجورا ،
فإعراب حجرا محجورا مفعولين للقول المحذوف جيد للغاية من الناحية البيانية. وسيأتي
قوله «بينهما برزخ لا يبغيان» في سورة الرحمن فقد شبههما كما قلنا بطائفتين
متعاديتين تريد كل منهما الإيقاع بالأخرى وتتربص بها الدوائر وتنتهن السوانح
والفرص ، ولكنها عند ما تحصل على ما تريد تمتنع من البغي ، فجعل المعنى المستعار
كاللفظ المقول ، وهذا من أبلغ القول وأبينه وأكثره تجسيدا وملاءمة للمعنى المراد.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ
أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))
الاعراب :
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الواو عاطفة على ما تقدم والآية متصلة بقوله «وكان
الكافر على ربه ظهيرا» فإنه
لما بيّن أن الكفار متظاهرون على إيذائه أمره أن يتوكل عليه. وتوكل فعل أمر
وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الحي متعلقان بتوكل والذي صفة وجملة ولا يموت صلة
وسبح عطف على توكل وبحمده متعلقان بمحذوف حال أي متلبسا بحمده. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً) الواو حرف عطف وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والهاء
مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وبذنوب متعلقان بخبيرا وخبيرا تمييز أو حال. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الذي نعت أو بدل من قوله «به» أو مبتدأ وجملة خلق
السموات والأرض صلة وما بينهما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة وفي ستة
أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ثم حرف عطف واستوى عطف على خلق وعلى العرش متعلقان به
والرحمن خبر الذي أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الرحمن ، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل
فعل أمر وبه متعلقان بخبيرا وخبيرا مفعول به ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن والجار
والمجرور متعلقان بقوله فاسأل. ومنه قول الشاعر :
فإن تسألوني
بالنساء فإنني
|
|
خبير بأدواء
النساء طبيب
|
وقول عنترة :
هلا سألت
الخيل يا ابنة مالك
|
|
إن كنت جاهلة
بما لم تعلمي
|
(وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط
وجملة قيل مجرورة بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اسجدوا للرحمن مقول
القول وجملة قالوا جواب شرط غير جازم لا محل لها والواو زائدة
وما الرحمن ما اسم استفهام خبر مقدم والرحمن مبتدأ مؤخر أو بالعكس ويجوز أن
يكون سؤالا عن المسمى به أو عن معناه.
(أَنَسْجُدُ لِما
تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) الهمزة للاستفهام الانكاري ونسجد فعل مضارع وفاعله
مستتر تقديره نحن ولما متعلقان بنسجد أي كيف سجد لما لا نعرفه ، وجملة تأمرنا صلة
ويجوز أن تكون ما مصدرية أي للسجد من أجل أمرك وزادهم فعل وفاعل يعود على القول
والهاء مفعول به ونفورا مفعول به ثان أو تمييز.
البلاغة :
في قوله «ثم
استوى على العرش» استعارة مكنية ويسميها القدامى تخييلية ، فالمستعار الاستواء
والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق عز وجلّ ليتخيل السامع عند سماع هذه
اللفظة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه وجميع ما تحتاج إليه رعاياه وجنده من
عمارة بلاده وتدبير أحوال عباده ، استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة ، فيقيس
السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هو متخيله من أمر المملكة الدنيوية
عند سماع هذا الكلام ، ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الإخبار
بالفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثم سرير منصوب ولا جلوس
محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة.
فائدة :
في الاستواء
مذهبان أحدهما مذهب السلف وهو لا يفسر
الاستواء بل يقول انه استواء يليق به وثانيهما مذهب الخلف وهو يفسره
بالاستيلاء عليه بالتصرف فيه وفي سائر المخلوقات.
الفوائد :
قوله في ستة
أيام : يعني في مقدارها هذه المدة والظاهر أنها من أيام الدنيا وأولها الأحد
وآخرها يوم الجمعة وقد كان لها أسماء عندهم وهي : الأحد : أوهل ، والأثنين : أوهن
، والثلاثاء : جبار ، والأربعاء ، دبار ، والخميس : مؤنس ، والجمعة : عروبة ،
والسبت : شيار.
(تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً
(٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦))
اللغة :
(بُرُوجاً) : أي منازل للكواكب السيارة وهي اثنا عشر ، وأصل البروج
القصور العالية ، سميت هذه المنازل بروجا لأنها للكواكب
السيارة بمثابة المنازل الرفيعة التي هي القصور لسكانها ، هذا ومنطقة
البروج هي منطقة سماوية تحتوي على المدارات التي تجتازها الكواكب السيارة حول
الشمس ، وانحراف هذه المدارات بالنسبة الى بعضها يختلف قلة وكثرة ولا سيما مدارات
الكواكب التي لا تشاهد إلا بالآلة العظيمة الفلكية وهذه المنطقة تقسمها الدائرة
الكسوفية المسماة بمدار الأرض الى قسمين متساويين عرض كل منهما تقريبا ثماني درجات
وينتهيان بدائرتين موازيتين لتلك الدائرة وهي منحرفة عن دائرة الاستواء التي
تقسمها الى قسمين يقربان للتساوي ، وقد قسمت في سالف الأزمان الى اثني عشر قسما
تسمى صورا وكل قسم منها ثلاثون درجة ، ومن سير الشمس بحسب الظاهر في هذه الأقسام
تحصل الفصول ومددها ، وذلك أن هذا الكوكب بتركه النصف الجنوبي من الكرة ودخوله في
نصفها الشمالي تفتتح السنة الشمسية ، أعني بمجرد دخوله في برج الحمل ، وفي ذلك
الوقت يبتدىء الربيع الذي يحيا به الكون ويستمر هذا الفصل مدة اجتياز الشمس البرج
المذكور وبرج الثور والجوزاء ثم تدخل على التعاقب في السرطان والأسد والسنبلة وهذه
تسمى بفصل الصيف فينبعث إلينا مدة إقامتها في تلك البروج أشعة شديدة الحرارة تنضج
الحبوب التي تحصد زمن الصيف ، ثم بعد بلوغها هذا الارتفاع تنزل من جهة النصف
الجنوبي فتجتاز على التوالي الميزان والعقرب والقوس ويقال لهذه البروج الثلاثة فصل
الخريف ، ثم يدخل الشتاء بثلجه وبرده وتكون الشمس حينئذ أبعد نقطة عنا ولا ينبعث
منها إلينا إلا أشعة مائلة فتقطع بروجه الثلاثة أعني الجدي والدلو والحوت ثم ترجع
الى محلها الأول لتعيد الحياة والحركة الى كثير من الكائنات التي كانت كأنها خلية
عنها بسبب بعدها عنها.
فقد عرفت من
ذلك أن الصور الاثني عشرة لمنطقة البروج تنقسم على الفصول الأربعة ، فللربيع الحمل
والثور والجوزاء ، وللصيف السرطان والأسد والسنبلة ، وللخريف الميزان والعقرب
والقوس ، وللشتاء الجدي والساكب والحوت.
(سِراجاً) : السراج الشمس كقوله تعالى «وجعل الشمس سراجا».
(خِلْفَةً) : أي يخلف كل واحد منهما الآخر فالخلفة مصدر هيئة.
وعبارة القرطبي
: قال أبو عبيدة : الخلفة كل شيء بعد شيء فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه ،
ويقال للمبطون : أصابه خلفة أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك ، ومنه خلفة النبات وهو
ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد : خلفة من الخلاف هذا أبيض وهذا
أسود والأول أقوى ، وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان ، وقيل هو
من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة أي اختلاف لمن أراد أن يذكر أي
يتذكر فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله تعالى ويشكر
الله على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم ، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن
معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
(هَوْناً) : الهون : الرفق والسكينة ، وهو مصدر وضع موضع الصفة
للمبالغة وقد مرت له نظائر ، ومنه الحديث : «أحبب حبيبك هونا ما» وقوله «المؤمنون
هينون لينون» ومن أمثالهم «إذا عز أخوك فهن».
(غَراماً) : هلاكا وخسرانا وعذابا لازما ، وفي المختار : «الغرام
:الشر الدائم والعذاب» قال بشر بن أبي خازم :ويوم النسار ويوم الفجا .... ركانا
عذابا وكان غراما والنسار ماء لبني عامر والفجار ماء لبني تميم ، وقد جرت فيهما
هاتان الواقعتان وكانتا عذابا على أهلهما وهلاكا دائما.
الاعراب :
(تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) تبارك فعل ماض جامد والذي فاعله وجملة جعل صلة وفي
السماء متعلقان بجعل وبروجا مفعول به وما بعده عطف عليه ويجوز أن تجعل جعل متعدية
لاثنين بمعنى الجعل أي التصيير. (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ
شُكُوراً) كلام معطوف على ما قبله وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل
الليل والنهار صلة وخلفة مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صير أو حال إن كانت
بمعنى خلق وأفرد لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر فلا يتحقق هذا إلا منهما ، قيل ولا
بد من تقدير مضاف أي ذوي خلفة كما تقدم في باب اللغة ، ولمن صفة لخلفة وجملة أراد
صلة من ، وأن يذكر مصدر مؤول في محل نصب على المفعولية لأراد ومفعول يذكر محذوف أي
ما فاته في أحدهما وأو حرف عطف وأراد شكورا عطف على أراد الأولى. (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) كلام مستأنف مسوق لبيان الأوصاف التي تميز بها عباد
الرحمن المخلصون بعد بيان حال المنافقين وقد وصفهم بثمانية موصولات. وعباد مبتدأ
والرحمن مضاف إليه وما بعده صفات ويجوز أن تكون الموصولات الثمانية أوصافا ، وخبر
عباد في آخر
السورة وهو قوله تعالى «أولئك يجزون الغرفة» كأنه قال وعباد الرحمن
الموصوفون بهذه الصفات أولئك يجزون ولعل الأول أولى لبعده عن التعسف ، والذين خبر
عباد أو صفة وجملة يمشون صلة وعلى الأرض متعلقان بيمشون وهونا مصدر وضع في موضع
الحال أو نصب على المفعولية المطلقة كأنه وصف للمصدر أو ملاقيه في المعنى أي مشيا
هونا. (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها فهي من حيز
الصلة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خاطبهم الجاهلون في محل جر بإضافة
الظرف إليها وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسلاما مفعول مطلق أي
قولا يسلمون فيه من الإثم ، وستأتي مناقشة طريفة بين سيبويه والمبرد حول هذا
المصدر في باب الفوائد. (وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) والذين عطف على الموصول الأول وجملة يبيتون صلة والواو
اسم يبيتون ويضعف جعلها تامة أي يدخلون في البيات كما سيأتي في باب الفوائد ،
ولربهم متعلقان بسجدا وسجدا خبر يبيتون أو حال على جعلها تامة ، وقياما عطف على
سجدا ، وقدم السجود على الفيام وان كان القيام قبله في الفعل لمراعاة الفواصل ،
وسجدا جمع ساجد وهو اسم فاعل ولذلك تعلق الجار والمجرور به وكذلك قياما جمع قائم. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) والذين عطف أيضا وجملة يقولون صلة وربنا منادى مضاف
محذوف منه حرف النداء واصرف فعل أمر معناه الدعاء وعذاب جهنم مفعول اصرف والجملة
مقول القول. (إِنَّ عَذابَها كانَ
غَراماً) الجملة تعليلية لا محل لها فهي تعليل لقولهم ربنا اصرف
عنا عذاب جهنم ، وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وغراما
خبر كان.
(إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) الجملة تعليلية أيضا وحذف العاطف بينهما فالجملتان من جملة
مقولهم ، وان واسمها وجملة ساءت خبرها وفاعل ساءت ضمير مستتر مبهم مفسر بنكرة
ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي ، وقد أجاز
المعربون كالزمخشري والسمين أن تكون ساءت بمعنى أحزنت فلا نكون من أفعال الذم بل
تكون فعلا متصرفا ناصبا للمفعول به وهو هنا محذوف أي وأحزنت أصحابها وداخليها ،
عندئذ يجوز في مستقرا أن يكون تمييزا وأن يكون حالا.
الفوائد :
١ ـ مناقشة حول
«سلاما» :
قال القرطبي في
تفسيره : «قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في
هذه الآية قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على الكفار لكنه على
معنى قوله سلمنا منكم ولا خير بيننا وبينكم ولا شر ، وقال المبرد كان ينبغي أن
يقول :لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم ، وقال أي محمد بن يزيد
المبرد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة ، وقال ابن العربي :لم يؤمر المسلمون
يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل وقد
كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم».
قلت : ولا حاجة
الى ادعاء النسخ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة
والشريعة وأصون للعرض وأوفر له.
٢ ـ فعل بات :
قال في القاموس
: «وبات يفعل كذا يبيت ويبات بيتا وبياتا ومبيتا وبيتوتة أي يفعله ليلا وليس من
النوم» ومعنى قوله : «وليس من النوم» أي وليس الفعل من النوم فإذا نام ليلا لا يصح
أن يقال بات ينام ، ومنه قول الشريف الرضي :
أتبيت ريان
الجفون من الكرى
|
|
وأبيت منك
بليلة الملسوع
|
ذكر ابن هشام
في مغني اللبيب عن رجل كبير من الفقهاء أنه استشكل قول الشريف الرضي الآنف الذكر
وقال كيف ضم التاء من تبيت وهي للمخاطب لا للمتكلم وفتحها من أبيت وهو للمتكلم؟
فبينت للحاكي أن الفعلين مضارعان وأن التاء فيهما لام الكلمة وان الخطاب في الأول
مستفاد من الهمزة والأول مرفوع لحلوله محل الاسم والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو
المصاحبة على حد قول الحطيئة :
ألم أك جاركم
ويكون بيني
|
|
وبينكم
المودة والإخاء
|
هذا ونعود إلى
بيت الشريف فنقول : هو من أرق الشعر وأجمله وفيه استعارة تبعية حيث شبه امتلاء
جفون المحبوب من النوم بالري وهو امتلاء الجوف بالماء المذهب للأوار بجامع حصول
الراحة في كل منهما ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من الري ريان بمعنى
ممتلىء الجفون ، وفيه أيضا كناية وذلك أنه كنى بليلة الملسوع عن ليلة السهر لأن
السهر والأرق من لوازم ذلك ، وفيه أيضا طباق بين النوم المستفاد من الصدر صريحا
والسهر المستفاد من العجز كناية ، فقد استكمل البيت ثلاثة فنون من البيان فإذا
أضفت إلى ذلك خروج
الاستفهام عن معناه الأصلي إلى البث والشكوى فقد استكمل أربعة فنون يضاف
إليها خامس وهو فن حسن النسق وسلاسة الأسلوب.
وهو من أبيات
نذكر منها الباقة التالية :
يا صاحب
القلب الصحيح أما اشتفى
|
|
ألم الجوى من
قلبي المصدوع
|
هيهات لا
تتكلفنّ لي الهوى
|
|
فضح التطبع
شيمة المطبوع
|
كم قد نصبت
لك الحبائل طامعا
|
|
فنجوت بعد
تعرض لوقوع
|
وتركتني ظمآن
أشرب غلتي
|
|
أسفا على ذاك
اللمي الممنوع
|
كم ليلة جرّ
عته في طولها
|
|
غصص الملام
ومؤلم التقريع
|
أبكي ويبسم
والدجى ما بيننا
|
|
حتى أضاء
بثغره ودموعي
|
قمر إذا
استعجلته بعتابه
|
|
لبس الغروب
ولم يعد لطلوع
|
لو حيث يستمع
السرار وفقتما
|
|
لعجبتما من
عزه وخ
|
ضوعي أهون
علي إذا امتلأت من الكرى
|
|
أني أبيت
بليلة الملسوع
|
وتكون بات تامة
مكتفية بمرفوعها عن منصوبها إذا كانت بمعنى عرس وهو النزول آخر الليل نحو قول ابن
عمر رضي الله عنه : «أما رسول الله فقد بات بمنى» أي عرس بها ، وقال امرؤ القيس بن
عانس بالنون وهو غير امرؤ القيس بن حجر الكندي :
وبات وباتت
له ليلة
|
|
كليلة ذي
العائر الأرمد
|
أي وعرس ،
والعائر بالعين المهملة اسم فاعل من العور وهو القذى في العين تدمع له ، وقيل
الرمد والأرمد صفة له ، وقالوا بات بالقوم أي نزل بهم ليلا.
(وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١))
اللغة :
(يَقْتُرُوا) : في المختار «وقتر على عياله أي ضيق عليهم في النفقة
وبابه ضرب ودخل وقتر تقتيرا وأقتر أيضا ثلاث لغات» وقد قرئ بفتح أوله وضمه.
(قَواماً) : بفتح القاف وكسرها وقد قرئ بهما والقوام بالفتح العدل
بين الشيئين لاستقامة الطرفين ، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء ،
والقوام بالكسر : ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا
يزيد عنها ولا ينقص.
(أَثاماً) : الأثام كالوبال والنكال وزنا ومعنى : جزاء الإثم الذي
هو الذنب نفسه ، قال :
جزى الله ابن
عروة حيث أمسى
|
|
عقوقا
والعقوق له أثام
|
وفي المختار : «أثمه
الله في كذا بالقصر يأثمه بضم الثاء وكسرها أثاما عده عليه إثما فهو مأثوم ، وقال
الفراء : أثمه الله يأثمه اثما وأثاما جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم أي مجزي جزاء
إثمه».
الاعراب :
(وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) والذين عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى
الشرط وجملة أنفقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يسرفوا ولم يقتروا لا
محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة أو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها
ضمير مستتر أي وكان الانفاق ، وبين
ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان صفة لقواما وذلك مضاف إليه وقواما خبر كان.
قال الزمخشري : «والمنصوبان أعني بين ذلك قواما جائز أن يكونا خبرين معا ، وأن
يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا ، وان يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة». (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) والذين عطف على ما تقدم أيضا وجملة لا يدعون صلة ومع
الله متعلق بيدعون وإله مفعول به وآخر صفة. (وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ولا يقتلون عطف على ولا يدعون والنفس مفعول به والتي
صفة وجملة حرم الله صلة وإلا أداة حصر وبالحق متعلقان بيقتلون أو بمحذوف حال
فالاستثناء من أعم الأحوال أي إلا مستحقين ، ولا يزنون معطوفة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعل
فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على من وذلك مفعول به ويلق جواب الشرط
وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأثاما مفعول به ويضاعف بدل من يلق لأنهما في معنى
واحد وسيأتي في باب الفوائد بحث إبدال الفعل من الفعل لأن مضاعفة العذاب لقي
الآثام ، وله متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ويوم القيامة ظرف متعلق بيضاعف
أيضا ويخلد عطف على يضاعف وفيه متعلقان بيخلد ومهانا حال من فاعل يخلد.
(إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) إلا أداة استثناء ومن استثناء من الجنس في موضع نصب
وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وكذلك عمل وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا
صفة. (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك
مبتدأ والإشارة الى الموصول وهو من ، والجمع باعتبار معناها ، وجملة يبدل خبر
أولئك والله فاعل وسيئاتهم
مفعول ، وحسنات مفعول ثان ليبدل أو نصب على نزع الخافض وكان الواو
استئنافية وكان واسمها وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني. (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) الواو عاطفة أو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتاب
فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعمل عطف على تاب وصالحا صفة لمفعول مطلق أو لمفعول
به محذوف أي عملا صالحا ، فإنه الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وان واسمها
وجملة يتوب خبر والى الله جار ومجرور متعلقان بيتوب ومتابا مفعول مطلق لأنه مصدر
ميمي.
الفوائد :
إبدال الفعل من
الفعل :
يبدل كل من
الاسم والفعل والجملة من مثله وينطبق عليه أحكام البدل فيكون بدل كل من كل أو بدلا
مطابقا كقوله تعالى «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف» فيضاعف بدل من يلق بدل كل من
كل أو بدلا مطابقا ، قال الخليل لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام ، وبدل البعض نحو
: إن تصل تسجد لله يرحمك ، فتسجد بدل من تصل بدل بعض من كل ، وبدل الاشتمال كقوله
:
إن عليّ الله
أن تبايعا
|
|
تؤخذ كرها أو
تجيء طائعا
|
لأن الأخذ كرها
والمجيء طائعا من صفات المبايعة والله منصوب على نزع الخافض أي والله ، وأن تبايعا
اسم إن والألف في تبايعا للإطلاق وهو من بايع أي عاهد وعلي متعلق بالخبر وتؤخذ وما
عطف
عليه بدل اشتمال من حيث المعنى ، أما ابدال الجملة فيطرد في البدل المطابق
نحو قعدت جلست في دار زيد.
وفي بدل البعض
من الكل كقوله تعالى : «أمدكم بما تعلمون :أمدكم بأنعام وبنين» فجملة أمدكم
الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن «ما تعلمون»
تشمل الأنعام وغيرها ، وبدل الاشتمال كقوله :
أقول له ارحل
لا تقيمنّ عندنا
|
|
وإلا فكن في
السر والجهر مسلما
|
ف «لا تقيمن
عندنا» بدل اشتمال من «ارحل» لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له
لاختلاف لفظيهما ولا بدل بعض لعدم دخوله في الأول ولا بدل كل من كل لعدم الاعتداد
به كما تقدم.
وقد تبدل
الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق :
إلى الله
أشكو بالمدينة حاجة
|
|
وبالشام أخرى
كيف يلتقيان
|
فقد أبدل جملة
كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان ، أما ابدال المفرد من الجملة فقد صرح أبو
حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما»
فقيما بدل من جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما.
(وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا
وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
هَبْ
لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا
وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))
الاعراب :
(وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والذين عطف على الموصولات السابقة وجملة لا يشهدون صلة
، والزور : إن كانت يشهدون بمعنى الشهادة المعلومة فيكون الزور منصوبا بنزع الخافض
أي بالزور وإن كانت يشهدون بمعنى يحضرون فيكون الزور مفعولا به ، وإذا الواو عاطفة
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مروا مجرورة بإضافة الظرف إليها ومروا فعل
وفاعل وباللغو متعلقان بمروا وجملة مروا الثانية لا محل لها لأنها جواب شرط غير
جازم وكراما حال أي ربئوا بأنفسهم عن الوقوف عليه والاسهام فيه. (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) جملة لم يخروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم
وعليها متعلقان بيخروا وسيأتي معنى هذا النفي في باب البلاغة وصما حال وعميانا حال
ثانية. (وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) عطف على ما تقدم وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء
وهب فعل أمر فيه معنى الدعاء ولنا متعلقان
بهب ومن أزواجنا حال وسيأتي بحث هذا التجريد في باب البلاغة وقرة أعين
مفعول هب وتقدم أن قرة العين سرورها والمراد به ما يحصل به السرور وسيأتي سر تقليل
الأعين في باب البلاغة ، واجعلنا فعل أمر متضمن معنى الدعاء وفاعله مستتر ومفعول
أول وللمتقين حال لأنه كان في الأصل صفة لإماما وإماما مفعول به ثان وفيه أربعة
أوجه :
١ ـ انه مصدر
مثل قيام وصيام فلم يجمع لذلك والتقدير ذوي امام.
٢ ـ انه جمع
إمامة مثل قلادة وقلاد.
٣ ـ هو جمع آم من
أم يؤمّ.
٤ ـ انه واحد
اكتفى به عن أئمة كما قال تعالى «نخرجكم طفلا».
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) الجملة حالية من المتقين أو خبر عباد الرحمن على أحد
القولين وأولئك مبتدأ وجملة يجزون الغرفة خبره والغرفة مفعول به ثان ليجزون والواو
نائب فاعل وهو المفعول الأول ، وبما متعلقان بيجزون وما مصدرية والباء للسببية أي
بسبب صبرهم على المشاق في الطاعات والابتعاد عن الشهوات ومكابدة المجاهدات ويلقون
عطف على يجزون وفيها حال وتحية مفعول به ثان ليلقون لأنه مبني للمجهول والواو نائب
فاعل وسلاما عطف على تحية. (خالِدِينَ فِيها
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين وحسنت فعل ماض
والفاعل مستتر يعود على الغرفة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا وجملة حسنت
حال ثانية من الغرفة. (قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) ما اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق ويعبأ فعل مضارع
وبكم متعلقان بيعبأ وربي فاعل أي انه يكترث بكم ويعبأ بكم ويعلي ذكركم لأجل
عبادتكم ولولا عبادتكم لم تكونوا شيئا يؤبه له ، ويجوز أن تكون ما نافية ولولا حرف
امتناع لوجود ودعاؤكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا وجواب لولا محذوف كما قدرناه سابقا
ودعاؤكم مصدر أضيف لفاعله والمفعول محذوف أي إياه. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) الفاء الفصيحة أي إني إذا أعلمتكم أني لا أعتد بكم ولا
أقيم لكم وزنا إلا لأجل عبادتكم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف تتحملون مسؤولية
تكذيبكم. ويكون فعل مضارع ناقص واسمها هو أي التكذيب ولزاما خبرها وهو مصدر بمعنى
اسم الفاعل أي ملازما لكم.
البلاغة :
١ ـ النفي
والإثبات :
في قوله تعالى «لم
يخرّوا عليها صما وعميانا» نفي واثبات ، فقد أثبت الخرور لأنهم طالما خروا ساجدين
خاشعين في هدوء الليل ووسط الدجى ولكنهم إن خروا ساجدين سلمت لهم أبصارهم وآذانهم
فلم يبصروا إلا مرائي الهيبة وتعاجيب الألوهية وأنوار السنا الساطعة ، ولم يسمعوا
إلا الآيات تتردد في آذانهم وتهجس في مخيلاتهم فإذا الورى آي وعبر ، وإذا الحوبة
لا عين ولا أثر ، تقول ما يلقاني زيد ماشيا إنما هو نفي للمشي لا للقاء وعبارة ابن
قتيبة : «المعنى لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يبصروها».
٢ ـ التقريع للكافرين
:
وفيها أيضا
تنديد وتقريع للكافرين لأنهم صم بكم عمي لا ينتفعون بما يقرءون ، ولا يعتبرون بما يشاهدون
، ولا يتجاوز آذانهم ما يسمعون
٣ ـ التنكير والتقليل :
وفي قوله تعالى
«قرة أعين» نكتتان الأولى التنكير ، وإنما جنح إليه لأجل تنكير القرة ، والمضاف لا
يمكن تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه ليكون السرور غير متناه ولا محدود ، وإنما قلل
الأعين أي جمع جمع القلة لأن أعين المتقين قلة بالإضافة الى غيرهم ، يدل على ذلك
قوله «وقليل من عبادي الشكور» وهناك وجه آخر لعله أبلغ مما تقدم وهو أن المحكي
كلام كل أحد من المتقين فكأنه قال : يقول كل واحد من المتقين اجعل لنا من ذرياتنا
قرة أعين ، فإن المتقين وإن كانوا بالإضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم
على كثرة من العدد ، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه
لا بالنسبة والإضافة.
سورة الشّعراء
مكيّة وآياتها سبع
وعشرون ومائتان
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ
مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ
أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ
كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(٩))
اللغة :
(باخِعٌ) : تقدم تفسير هذه الكلمة ، والبخع أن يبلغ بالذبح
البخاع بالباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد للذابح ، وفي المصباح : «وبخع
نفسه بخعا من باب نفع قتلها من وجد أو غيظ وبخع لي بالحق بخوعا انقاد وبذله».
الاعراب :
(طسم ، تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) طسم تقدم إعرابها والحديث عن فواتح السور ، وتلك مبتدأ
وآيات الكتاب خبر والمبين صفة لكتاب.
(لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لعل للاشفاق أي فالترجي هنا بمعنى الأمر أي ارحم نفسك
وارفق بها ، والكاف اسمها وباخع خبرها ونفسك مفعول به لباخع وأن وما في حيزها
مفعول لأجله أي خيفة أن لا يؤمنوا أو لامتناع إيمانهم ، ومؤمنين خبر يكونوا.
(إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه من
الاسترسال في التحسّر والغم على عدم إيمانهم ، وان شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله
مستتر تقديره نحن ومفعول المشيئة محذوف لأنه مضمون الجواب أي إيمانهم وننزل جواب
الشرط وعليهم متعلقان بننزل ومن السماء حال لأنه كان في الأصل صفة لآية والفاء حرف
عطف وظلت فعل ماض ناقص معطوف على ننزل فهو مجزوم محلا ويجوز أن تكون الفاء
استئنافية وظلت بمعنى المضارع أي تظل تدوم ، وإليه جنح الجلال فيكون قد فسره
بالمرفوع ، وأعناقهم اسم ظلت ولها متعلقين بخاضعين وخاضعين خبر ظلت ، وسيأتي سر
المخالفة في العطف وسر مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق في باب البلاغة. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن
حرف جر زائد وذكر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل يأتيهم ومن الرحمن صفة لذكر
ومحدث صفة ثانية أي تجدد انزاله وفق مقتضيات الأحوال وإلا أداة حصر وجملة كانوا
استثناء من أعم الأحوال فهي حالية وكان واسمها وعنه متعلقان بمعرضين
ومعرضين خبر كانوا. (فَقَدْ كَذَّبُوا
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إذا شئت أن تعرف ماذا كان
موقفهم من الذكر حين أعرضوا عنه وصدفوا عن التأمل فيه فقد كذبوا.
وقد حرف تحقيق
وكذبوا فعل ماض وفاعل فسيأتيهم عطف على ما تقدم للوعيد والتهديد ويأتيهم فعل مضارع
ومفعول به وأنباء فاعل وما مضاف إليه وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وبه متعلقان
بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر وقد
تقدم مثل هذا التعبير كثيرا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم
والواو فاعل والرؤية هنا بصرية ولذلك تعدت بإلى والى الأرض متعلقان بيروا وكم
خبرية في محل نصب مفعول أنبتنا وأنبتنا فعل ماض وفاعل ومن كل زوج تمييز كم الخبرية
ويجوز أن يكون حالا كما ذكر أبو البقاء وكريم صفة لزوج ، وأراد بالزوج الصنف من
النبات والنوع وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام
المزحلقة وآية اسم إن وما الواو حالية وما نافية وكان أكثرهم مؤمنين كان واسمها
وخبرها أي سبق ذلك في علم الله ، وقال سيبويه كان زائدة وسيأتي مزيد من هذا البحث
في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير
فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والرحيم خبر ثان.
البلاغة :
انطوت هذه
الآيات على الكثير من فنون البلاغة ندرجها فيما يلي :
١ ـ المخالفة
في العطف :
فقد خالف في
العطف ، فعطف «فظلت» على «ننزل» ولو قيل أنزلنا لكان صحيحا ولعله كان مما يقتضيه
السياق ولكنه خولف لأن في عطف الماضي على المستقبل إشعارا بتحقيقه وأنه كائن لا
محالة ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا ، وله في القرآن نظائر
سترد في مواضعها.
٢ ـ المجاز
العقلي :
المجاز العقلي
في إسناد الخضوع للأعناق ، فقد يقال كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق والخضوع
من خصائص العقلاء ، وقد كان أصل الكلام «فظلوا لها خاضعين» والسر في ذلك انه لما
وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين كما تقدم في قوله «لي ساجدين» وهناك
أقوال أخرى أوصلها علماء البيان إلى سبعة نلخصها فيما يلي :
آ ـ المراد
الرؤساء كما قيل لهم وجوه وصدور.
ب ـ انه على
حذف مضاف أي فظل أصحاب الأعناق ، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف
مراعاة للمحذوف.
ج ـ انه لما
أضيف الى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالاضافة.
د ـ ان الأعناق
جمع عنق من الناس وهم الجماعة يقال جاءنا عنق من الناس أي فوج وليس المراد الجارحة
المعلومة.
ه ـ إقحام
الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله.
وـ ما ذكره من
أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليها ما يكون عادة من أفعال العقلاء على طريق
المجاز العقلي.
ز ـ انه لما
أضاف الأعناق إلى المذكر وكانت الأعناق متصلة بهم في الخلقة والتكوين أجري عليها
حكمهم.
وعن ابن عباس
رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ، قال : ستكون لنا عليهم
الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هو ان بعد عزة.
٣ ـ التتميم :
بقوله «أولم
يروا الى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم» فقد كان يكفي أن يقال كم أنبتنا
فيها من زوج كريم وما معنى الجمع بين كم وكل والجواب أن كلّا إنما دخلت للإحاطة
بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط مفرط بالكثرة ، وبذلك تنبيه على تمام
القدرة وكمالها ، وهذا هو مقتضى التتميم الذي تقدمت الاشارة إليه ، وتعريفه : أن
تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام
كما أن المقصود هنا في الآية آحاد الأزواج ويدل عليه أنه لو أسقطت «كل» فقلت :
انظروا الى الأرض كم أنبت الله فيها
من الصنف الفلاني لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار اليه ، فإذا أدخلت
كلّا فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين.
٤ ـ التتميم
أيضا :
وتمم كذلك بوصفه
الزوج بالكريم وذلك لأمرين :
آ ـ ان النبات
ـ كما هو معلوم ـ نوعان نافع وضار فدل بكلمة كريم أنه يقصد النوع النافع فذكر كثرة
من أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار.
ب ـ أنه يقصد
كلا النوعين النافع والضار ويصفهما جميعا بالكرم تنبيها على أنه ما خلق شيئا إلا
لفائدة وربما خفيت عليكم أسرارها وصعب عليكم اكتناهها ولكنه تعالى عالم بما
تجهلون.
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
(١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا
يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ
فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))
الاعراب :
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى : أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في سرد سبع قصص هي على التوالي
: قصة موسى وقصة ابراهيم وقصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب. والظرف
متعلق بمحذوف تقديره اذكر يا محمد لقومك عساهم يتعظون بها ويعتبرون بما آل اليه
مصير أولئك الأقوام الذين جنحوا الى المكابرة والتعنت ولجئوا الى اللجاج والسفسطة
التي لا طائل تحتها ، وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها وربك فاعل نادى
وموسى مفعول به وأن ائت يجوز في «أن» أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وهي مع
مدخولها في موضع نصب بنزع الخافض وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل
مستتر تقديره أنت والقوم مفعول به والظالمين صفة. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا
يَتَّقُونَ) قوم فرعون بدل من القوم الظالمين أو عطف بيان ولعله
أولى لأنهما عبارتان تعتقبان على مدلول واحد ، ولما كان القوم الظالمين يوهم
الاشتراك أتى عطف البيان بإزالته ، والهمزة للاستفهام الانكاري ولا نافية ويتقون
فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة استئنافية والمقصود منها التعجب أي تعجب من
عدم تقواهم ، ولا بد من تقدير معنى التعجب لأن الاستفهام الإنكاري معناه النفي ولا
نافية ودخول النفي على النفي اثبات فيئول المعنى الى أنهم اتقوا الله وذلك فاسد ،
ويحتمل أن تكون الجملة حالية من الضمير الذي تحمله اسم الفاعل وهو الظالمون أي
يظلمون غير متقين ، واختار بعض المعربين أن تكون ألا للعرض وآخرون اختاروا أنها
للتنبيه. (قالَ رَبِّ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) رب منادى مضاف حذف منه حرف النداء وإني إن واسمها وجملة
أخاف خبرها وأن وما في
حيزها مفعول أخاف وحذفت ياء المتكلم من يكذبوني لمراعاة الفواصل (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) الواو عاطفة ويضيق معطوف على خبر إن أي على أخاف فهو
مرفوع مثله ويجوز عطفه على يكذبون فهو منصوب مثله وقد قرئ به والفرق بين المعنيين
أن الرفع يفيد فيه ثلاث علل أو معاذير وهي : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع
انطلاق اللسان ، وأما الرفع فيفيد أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة ، وصدري فاعل ولا
ينطلق لساني عطف على ما قبله لحبسة في لسانه ، فأرسل الفاء الفصيحة وأرسل فعل أمر
معناه الالتماس والى هارون متعلقان بأرسل وليس مراد موسى الامتناع من أداء الرسالة
أو التلكؤ فيها بل أراد أن يظهر عجزه عن الاضطلاع بهذا العبء الخطير وطلب المعونة
من ربه بأن يعضده بأخيه حتى يتساندا ويتضافرا على تنفيذ الأمر وتبليغ الرسالة. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ) عطف على ما تقدم ولهم خبر مقدم وعلي حال وذنب مبتدأ
مؤخر وهو قتله القبطي الذي قيل إنه كان خباز فرعون ، والمعنى لهم علي تبعة ذنب وهي
قود ذلك القتيل فأخاف أن يقتلوني به فحذف المضاف أو سمى تبعة الذنب ذنبا كما سمى
جزاء السيئة سيئة. (قالَ : كَلَّا
فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) كلا حرف ردع نابت عن الفعل وهو ارتدع يا موسى ولذلك عطف
عليها بالفاء من قوله فاذهبا ، واذهبا فعل أمر وألف الاثنين فاعل وبآياتنا متعلقان
باذهبا وجملة إنا معكم مستمعون تعليلية للأمر وإن واسمها ومستمعون خبرها والظرف
متعلق بمحذوف حال أو خبر ثان أو بمستمعون نفسها ومفعول مستمعون محذوف أي ما يدور
بينكما وبين فرعون وقومه ، وفي هذا الكلام مجاز سيأتي ذكره في باب البلاغة. (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وأتيا فرعون فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا
عطف ، وإنا
ان واسمها أي إن كلا منا ، ليطابق اسم ان خبرها ورسول خبرها ورب العالمين
مضاف إليه وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا التطابق.
(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) الأرجح أن تكون أن هنا مصدرية لأنها مسبوقة بجملة فيها
معنى القول وحروفه والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض ، وأصر الزمخشري على
أنها تفسيرية بمعنى أي وجعلها غير مسبوقة بقوله فقولا بل بما تضمنه لفظ الرسول من
معنى الإرسال ، تقول أرسلت إليك أن أفعل كذا لما في الإرسال من معنى القول كما في
المناداة والكتابة ونحوهما ، والظرف متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به.
البلاغة :
في قوله تعالى «إنا
معكم مستمعون» مجاز معناه : إنا معكم نستمع ما يجري بينكم وبينه وأنا الناصر لكما
عليه ، فالاستماع قرينة للكلام المجازي لأن من سمع محاورة خصمين كان مستطيعا الحكم
بينهما ومشايعة أيهما رآه أقرب الى الحق وأدنى من الصواب ، فإذا اعترض معترض بأن
الله تعالى مستمع حقيقة وسامع ولا يجوز اجراء المجاز عليه تعالى قلنا إن الاستماع
يقتضي الإصغاء بالأذن كما الإبصار يتطلب تقليب الحدقتين من العين ، وكل ذلك من
خواص المحدثين.
الفوائد :
يجوز أن يكون
الرسول بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه إذ وصف به بين الواحد والتثنية والجمع ،
كما يفعل بالصفة بالمصادر نحو صوم وزور قال أبو ذؤيب :
ألكني إليها
وخير الرسو
|
|
ل أعلمهم
بنواحي الخبر
|
فجعله للجماعة
لأن الرسول في الأصل مصدر فجاز افراده مع تعدد معناه ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في
أعلمهم ، وشبه الخبر بمكان ذي جهات على طريق الاستعارة المكنية ، والنواحي تخييل ،
أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحي على طريق الاستعارة التصريحية
، يعني أنه أعلم من غيره بذلك ، وألكني : أرسلني مصحوبا بالرسالة. ومن مجيء الرسول
بمعنى الرسالة قول كثير عزة :
حلفت برب
الراقصات الى منى
|
|
خلال الملا
يمددن كلّ جديل
|
لقد كذب
الواشون ما فهت عندهم
|
|
بسر ولا
أرسلتهم برسول
|
فلا تعجلي يا
عزّ أن تتفهمي
|
|
بنصح أتى
الواشون أم بحبول
|
والراقصات :
المطايا السائرات إلى منى في الحج ، وخلال الملا أي في أثناء الناس فيكون مخففا من
الملأ أو في الصحراء لأن الملا الصحراء والمتسع من الأرض ، والجديل الرسن في عنقها
، والواشي الذي يحسن الكلام ويموهه ويخلط الصدق بالكذب ويحرف الكلم عن مواضعه ،
وما نافية أي ما تفوهت عندهم بسر ، ولا أرسلتهم الى أحد برسول أي برسالة فهو في
الأصل مصدر وقد يطلق على المرسل ، والأصل يا عزة فرخم بحذف التاء ، وأن تتفهمي أي
في أن تتفهمي أو لأجل أن تتفهمي ، وبنصح
أي أبنصح أتى الواشون إليك أم بحبول؟ وهي جمع حبل بالكسر وهي الداهية
العظيمة ولا أدهى من الكذب.
(قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها
إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ
فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))
الاعراب :
(قالَ : أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) لا بد من تقدير مقدر محذوف أي فانطلقا إلى باب فرعون
فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال
:ائذن له لعلنا نضحك منه ، فأديا إليه الرسالة فعرف موسى لأنه نشأ في بيته فقال له
: ألم نربك. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونربك فعل مضارع
مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول
به وفينا متعلقان بنربك ووليدا حال ولبثت فعل وفاعل وفينا متعلقان بلبثت ومن عمرك
حال لأنه كان صفة لسنين وسنين ظرف متعلق بلبثت أيضا.
(وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة وفعلت فعل وفاعل وفعلتك مفعول به أو مفعول
مطلق والتي نعت وجملة فعلت صلة والواو حالية وأنت مبتدأ ومن الكافرين خبر أي
الجاحدين لنعمتي
والفعلة التي فعلها موسى هي قتل خبازه القبطي. (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) قال فعل ماض أي موسى وفعلتها فعل وفاعل ومفعول به أو
مفعول مطلق أي فعلت الفعلة وإذن حرف جزاء بمثابة الجواب والواو واو الحال وأنا
مبتدأ ومن الضالين خبر أي عما آتاني الله بعدها من العلم والرسالة وربأ بمحل
النبوة عن تلك الصفة التي أطلقها عليه فروعون وهي قوله له وأنت من الكافرين فقال
من الضالين أي المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ
فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة وفررت فعل وفاعل ومنكم متعلقان بفررت ولما
حينية كما يقول الفارسي ورابطة كما يقول سيبويه ، وجملة خفتكم مضاف إليها الظرف ،
فوهب عطف على ففررت ولي متعلقان بوهب وربي فاعل وحكما مفعول به وجعلني من المرسلين
عطف على ما تقدم ، دفع قدحه في نبوته بهذا القول أي ان موهبة الحكم والنبوة كانت
بعد تلك الحادثة ، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية فدحضه وأبطله من أصله واجتثه
من أساسه بقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لنسف الاتهام الذي وجهه إليه فرعون ،
وتلك مبتدأ ونعمة خبر وجملة تمنها صفة لنعمة وعلي متعلقان بتمنها وأن وما في حيزها
عطف بيان لتلك لأن الإشارة إلى خطة شنعاء وخصلة شوهاء لا تكتنه حقيقتها إلا
بتفسيرها فجاء عطف البيان مفسرا ما أبهم فاتحا ما أغلق ، ويجوز أن يعرب المصدر
المؤول بدلا من نعمة أو يكون في محل نصب على أنه مفعول لأجله ، ونمنها فعل مضارع
وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء منصوب بنزع الخافض لأن منّ فعل لازم يتعدى
بالباء أي تمن بها.
وأشار الجلال
في تفسيره المختصر الى أن بعضهم قدر أول الكلام همزة أي قبل وتلك وأصل الكلام أو
تلك؟ أي ليست هذه نعمة حتى
تمن بها علي ، والمقدر هو الأخفش ، وهذه الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن
معنى النفي كما شرحنا.
البلاغة :
الإبهام :
في قوله «وفعلت
فعلتك التي فعلت» إبهام من غير تفسير وهو قسمان : إبهام مفسر وإبهام من غير تفسير
فإن قوله «التي فعلت» يذهب فيها الوهم كل مذهب وتحمل الكثير من المعاني وهو كثير
شائع في القرآن الكريم.
(قالَ فِرْعَوْنُ وَما
رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما
بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً
غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١))
الاعراب :
(قالَ فِرْعَوْنُ :
وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) قال فرعون فعل وفاعل والواو عاطفة لتعطف القول على قول
موسى «إنا رسول رب العالمين» وما اسم
استفهام مبتدأ ورب العالمين خبره وانما أجاب بما لأنه سأل عن صفاته وأفعاله
ولو أراد عينه لقال من؟ (قالَ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال موسى هو رب فرب خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على
الجنسين فلا يرد اعتراض على التثنية وهي راجعة على الجمع وبينهما ظرف متعلق بمحذوف
صلة وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكان واسمها وخبرها وجواب
إن محذوف أي إن كنتم ممن يرجى منهم النظر الصحيح والاعتبار السليم نفعكم هذا
الجواب ، أو تقدره إن كنتم توقنون بشيء فهذا أولى ما توقنون به لسطوعه وإنارة
دليله. (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ
أَلا تَسْتَمِعُونَ) قال فرعون ، ولمن متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق بمحذوف
هو الصلة وهم أشراف قومه والهمزة للاستفهام ولا نافية وتستمعون فعل مضارع وفاعله ومفعوله
محذوف أي جوابه الذي لم يطابق السؤال. (قالَ رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قال موسى ، وربكم خبر لمبتدأ محذوف أي هو كان داخلا
ومنتظما في قوله رب السموات والأرض وما بينهما لإغاظته وتحديه ، وسيأتي سر ذكر
الخاص بعد العام في باب البلاغة.
(قالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) قال فرعون ، وجملة إن رسولكم مقول القول وان واسمها
والذي صفة وجملة أرسل إليكم صلة للموصول واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. وهذا شأن
المبطلين المتحكمين عند ما يسقط في أيديهم يلجئون إلى نعت صاحب الحق بالجنون أو
غيره لأنهم لا يملكون الدليل على معارضته. (قالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) قال موسى زيادة في إغاظته والتدليل على إسفافه : هو رب
المشرق والمغرب وما بينهما ، وسيأتي سر هذا الطباق في باب البلاغة ، وإن كنتم
تعقلون شرط وجوابه محذوفه
أي إن كان لكم مسكة من عقل علمتم أن لا جواب لكم غير المكابرة والسفه
والشطط في القول ، قال أولا إن كنتم موقنين لأن المقام مقام تدليل واقناع ثم لما
يئس واشتد اللجاج غالظهم وقابل لجاجتهم ونسبتهم إياه الى الجنون بمثلها فنفى عنهم
العقل الذي يمكنهم من التمييز بين الأمور. (قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قال فرعون ، لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية واتخذت
فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وإلها مفعول به وغيري صفة واللام جواب
القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم بناء على القاعدة المشهورة وأجعلنك
فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره
أنا ومن المسجونين في موضع نصب على أنه المفعول الثاني. (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ
مُبِينٍ) قال موسى ، والهمزة للاستفهام والواو للحال وكل ما كان
على هذا التركيب يكون قد سبقه فعل محذوف أي أتفعل ذلك ولو ... ، ولو شرطية وجئتك
فعل ماض وفاعل ومفعول به وبشيء متعلقان بجئتك ومبين صفة لشيء أي ببرهان ساطع على
نبوتي. (قالَ فَأْتِ بِهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال فرعون ، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا في
دعواك فأت ، وبه متعلقان بقوله فأت وإن شرطية وكنت فعل الشرط وكان واسمها ومن
الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله.
البلاغة :
العموم والخصوص
:
بعد أن ذكر
العموم بقوله «رب السموات والأرض وما بينهما» إذ استوعب به الخلائق كلها عاد الى
التخصيص بذكرهم وذكر آبائهم
والمطابقة بين المشرق والمغرب ليتأملوا في أنفسهم لأن أقرب المنظور فيه من
العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع والناقل من هيئة
الى هيئة ومن حال الى حال من وقت ميلاده الى وقت وفاته ، وطابق بين المشرق والمغرب
لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم ونظام ثابت لا
خلل فيه في فصول السنة وحساب مستقيم أيضا ، من أظهر ما يمكن الاستدلال به.
وعمم ثانيا
بجعله من المسجونين ولم يقل لأسجننك للاشارة الى أن ذلك ديدنه فقد كان يأخذ من
يريد سجنه فيطرحه في وهذة عميقة الغور وحيدا لا يرى الضوء فيها ولا يسمع الصوت من
داخلها فكان ذلك أنكى من القتل ، وهو ديدن المعاند المكابر المحجوج حين تواتيه
الأيام ويبتسم له الزمان يعتقد حين يملك قطرا في غفلة من الدهر أن على أهله أن
يعبدوه ، فاللام في قوله من المسجونين للعهد أي ممن عرفت شأنهم وعهدت حالهم في
سجوني ، فالتعميم هنا أبلغ كما أن التخصيص فيما سبق أبلغ ، ولله أسلوب القرآن إنه
يتعالى على الأذهان السطحية البدائية ويدق على البداءة الأولى.
(فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ
بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))
اللغة :
(ثُعْبانٌ) : الثعبان الحية يطلق على الذكر والأنثى ويجمع على
ثعابين ، واشتقاق الثعبان من ثعب الماء فجره فانثعب ، وقد ظهرت هذه الثعبانية على
العصا حين ألقاها. وللثاء مع العين خاصة التلون والتحيل والارهان ، يقال ثعّ يثع
من باب ضرب ثعا قاء ما أكله ، وانثعّ الأكل من فمه والدم من أنفه أو جرحه أي انصب
، ومن أقوالهم : سالت الثّعبان كما انساب الثعبان جمع ثعب وهو المسيل ، قال :
وما ثعب باتت
تطرّده الصبا
|
|
بسرّاء واد
منجد غير اتهما
|
ومن المجاز :
صاح به فانثعب اليه إذا وثب يجري إليه ، وشدّ أثعوب قال :
لها إذا حرّ
الحرار واللوب
|
|
قوائم «عوج»
وشدّ أثعوب
|
وقال أبو دؤاد
:
وكل قائمة
تهوي لوجهتها
|
|
لها أتي كفرغ
الدلو أثعوب
|
وكلاهما من باب
الاستعارة إلا أن الطريق مختلف ، وثعب عليهم الغارة : شنّها ، وثعب البعير شقشقته
: أخرجها. وثعلت أسنانه تثعل من باب فتح ثعلا تراكبت احداها على الأخرى فهو أثعل
وفيه معنى التلوّن والتحيل ، وأثعل الأمر عظم وتفاقم ، والثّعل بضم الثاء المشددة
دويبة تظهر في السقاء إذا خبثت ريحه ، وثعالة علم على أنثى الثعلب لا ينصرف ،
وثعلب وتثعلب : راغ أو تشبه بالثعلب في روغانه ، والثعلب حيوان مشهور بالتحيل
والرّوغان يتساقط شعره كل سنة ،
ومنه داء الثعلب وهو عملية تساقط الشعر ويقال للأنثى ثعلبة وللذكر ثعلبان
وكلمة ثعلب تقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ثعالب وثعال ، والثعلب أيضا طرف
الرمح الداخل في جبة السنان ، قال بشار :
وجيش كجنح
الليل يزحف بالحصى
|
|
وبالشوك
والخطي حصر ثعالبه
|
والثعلبة أيضا
العصعص والاست. وبالجملة فهذه المادة ظاهرة الثعلبة والثعبانية.
(أَرْجِهْ) : وأرجئه كما قرئ أيضا بالهمز وبالتخفيف وهما لغتان
يقال : أرجأته وأرجيته إذا أخرته ومنه المرجئة.
الاعراب :
(فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة وألقى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو
وعصاه مفعول به فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي ظرف أو حرف وقد تقدم بحثها مفصلا
وهي مبتدأ وثعبان خبر ومبين صفة. وقد تقدم بحث المسألة الزنبورية وخلاف سيبويه مع
الكسائي في حضرة يحيى البرمكي حولها. (وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الجملة معطوفة على سابقتها وهي مماثلة لها في اعرابها.
(قالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قال فرعون ، وللملأ متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق
بمحذوف حال وللزمخشري تفنن في اعرابها نورده لروعته : «فإن قلت : ما العامل في
حوله؟ قلت : هو منصوب نصبين نصب
في اللفظ ونصب في المحل فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل
في النصب المحلي هو النصب على الحال».
وإن حرف مشبه
بالفعل وهذا اسمها واللام المزحلقة وساحر خبر وعليم خبر ثان. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) الجملة صفة لساحر ، وهي بيت كامل من مجزوء الرجز وليس
شعرا لانتفاء القصد وقد تقدم بحث ذلك مفصلا. وأن وما في حيزها مفعول يريد ومن
أرضكم متعلقان بيخرجكم وبسحره متعلقان بيخرجكم أيضا.
(فَما ذا تَأْمُرُونَ) الفاء عاطفة وماذا اسم استفهام مفعول به لقوله تأمرون
أو مفعول مطلق لكونه في معنى المصدر أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة
تأمرون صلة ، قال ذلك بعد أن بهره ما شاهد واستولى عليه الدهش والبهر. (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) قالوا فعل وفاعل وأرجه فعل أمر والهاء مفعول به وأخاه
مفعول معه أو عطف على الهاء وابعث عطف على أرجه وفي المدائن متعلق بابعث وحاشرين
صفة لمفعول به محذوف أي شرطا يحشرون السحرة ويجمعونهم. (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يأتوك فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وبكل سحار
متعلقان بيأتوك وعليم صفة لسحار.
الفوائد :
الشّرط : واحده
شرطي وهم الطائفة من خيار أعوان الولاة ، وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة ورجالها
سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها ، وفي الصحاح : «الشرط محركة
الحرس سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها» والشرط أيضا أول كتيبة
تشهد الحرب وتتهيأ للموت.
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ
(٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ
كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣)
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا
لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤))
الاعراب :
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الفاء عاطفة على مقدر وجمع فعل ماض مبني للمجهول
والسحرة نائب فاعل ولميقات جار ومجرور متعلقان بجمع ويوم مضاف اليه ومعلوم صفة
واليوم المعلوم هو يوم الزينة وميقاته هو وقت الضحى ، وقد مر ذكره في طه فجدد به
عهدا. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ :
هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟) وقيل معطوف على ما تقدم وللناس متعلقان به وهل حرف
استفهام وأنتم مبتدأ ومجتمعون خبر والجملة مقول القول وفي الاستفهام معنى الأمر
كأنهم يستبطئهم ويستحثهم على الاجتماع ومنه قول تأبط شرا :
هل أنت باعث
دينار لحاجتنا
|
|
أو عبد رب
أخا عوف بن مخراق
|
فهل استفهام
استبطائي فيه حث على الفعل ودينار اسم رجل ورب كذلك ونصب لأنه معطوف على محل دينار
لأنه مفعول معنى وأخا عوف نعت له وقيل منادى وعوف ومخراق اسمان لرجلين ويروى
عون بالنون. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) الجملة في محل نصب حال لأن الترجي باعتبار حالة الغلبة
المقتضية للاتباع وان كان مقصودهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى ، والمعنى : راجين أن
تكون الغلبة لهم فلا تتبع موسى. ولعل واسمها وجملة تتبع خبرها والسحرة مفعول به
وإن شرطية وكانوا فعل الشرط وهو كان واسمها وهم ضمير فصل والغالبين خبر كانوا. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا
لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وجاء السحرة فعل
وفاعل وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولفرعون متعلقان بقالوا
والهمزة للاستفهام وإن حرف مشبه بالفعل ولنا خبرها المقدم وأجرا اسمها المؤخر وإن
شرطية وكنا كان واسمها وهو فعل الشرط ونحن ضمير فصل والغالبين خبر كنا وجواب الشرط
محذوف دل عليه ما قبله لأن قوله أئن لنا لأجرا في معنى جواب الشرط لدلالته عليه. (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) قال فرعون ، ونعم حرف جواب أي لكم الأجر وزادهم بقوله
وإنكم فهو عطف وان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء واللام المزحلقة ومن المقربين خبر
إن ، وعدهم بالأجر وبالقربى والزلفى لديه. (قالَ لَهُمْ مُوسى
أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) قال لهم موسى فعل وفاعل ولهم متعلقان بقال وجملة ألقوا
مفول القول وما مفعول به وجملة أنتم ملقون صلة وأنتم مبتدأ وملقون خبر. (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وحبالهم مفعول به وعصيهم
عطف على حبالهم وقالوا عطف على فألقوا ، وبعزة : الباء حرف قسم وجر وعزة مجرور
بالباء والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم ونحلف بعزة فرعون وإنا إن
واسمها وكسرت همزتها وجوبا لوقوعها
بعد القسم كما تقدم واللام المزحلقة ونحن ضمير فصل أو مبتدأ والغالبون خبر
إنا أو خبر نحن والجملة خبر إنا.
(فَأَلْقى مُوسى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ
(٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا
أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))
الاعراب :
(فَأَلْقى مُوسى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء عاطفة وألقى موسى عصاه فعل وفاعل ومفعول به فإذا
الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي مبتدأ وجملة تلقف خبر وما مفعول به وجملة يأفكون صلة
ما أي تبتلع ما يقلبونه بتمويههم عن وجهه ويزورونه. (فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وألقي فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب
فاعل ، والفاعل الذي ناب عنه المفعول به لو صرح به هو الله عز وجل بما ألهمهم من
التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوه من المعجزة الباهرة التي ضؤل أمر السحر عندها ،
وسيأتي مزيد بحث عن الإلقاء في باب البلاغة ، وماجدين حال. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) جملة آمنا من الفعل والفاعل
مقول القول وبرب العالمين متعلقان بآمنا وجملة القول بدل اشتمال من أنقي أو
حالية بتقدير قد. (رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ) رب بدل من رب العالمين أو عطف بيان وموسى وهارون مضاف
اليه. (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول وله متعلقان بآمنتم والظرف كذلك
وأن وما في حيزها في محل جر بالاضافة ولكم متعلقان بآذن.
(إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تعليل لانصياعهم لموسى وهارون وللتلبيس على قومه لئلا
يعتقدوا أن السحرة آمنوا على بصيرة وظهور حق. وان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم
خبر إن والذي صفة وجملة علمكم صلة والكاف مفعول به أول والسحر مفعول به ثان ،
فلسوف : الفاء الفصيحة أي إن استمررتم في فعلكم فلسوف تعلمون وبال ما فعلتموه
واللام موطئة للقسم وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع وفاعل والمفعول محذوف كما
قدرناه.
(لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) اللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح
لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والجملة لا محل لها
لأنها مفسرة بمثابة بيان لما أبهمه بقوله فلسوف تعلمون وأيديكم مفعول به وأرجلكم
عطف على أيديكم ومن خلاف حال أي مضمومة يد كل
واحد اليمنى
ورجله اليسرى وقد تقدم القول فيها ، ولأصلبنكم عطف على لأقطعن وأجمعين تأكيد
للكاف. (قالُوا : لا ضَيْرَ
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) لا نافية للجنس وضمير اسمها المبني على الفتح وخبرها
محذوف أي لا ضمير علينا ولا بأس وجملة إنا تعليل لعدم الضمير وإن واسمها والى ربنا
متعلقان بمنقلبون ومنقلبون خبر إنا. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ
يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها وجملة نطمع خبر والفاعل مستتر تقديره نحن وأن
وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي
في غفران خطايانا أو على تضمين نطمع معنى نرجو فتكون إن وما في حيزها في
محل نصب على المفعولية وربنا فاعل يغفر وخطايانا مفعول به وأن وما في حيزها نصب
بنزع الخافض أي لأن كنا أو الباء فالتقدير بسبب أن كنا ، وكان واسمها وأول
المؤمنين خبرها أي أول من آمن من رعية فرعون.
البلاغة :
في قوله «فألقي
السحرة ساجدين» استعارة مكنية كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم وقد زاد هذه
الاستعارة جمالا المشاكلة لأنه عبر بألقي عن الخرور فلم يقل فخروا ساجدين لمشاكلة
الالقاءات المتقدمة.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ
فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨)
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ
كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا
إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا
مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))
اللغة :
(لَشِرْذِمَةٌ) : الشرذمة : الجماعة القليلة من الناس وتجمع على شراذم
وشراذيم ، وثياب شراذم ممزقة ، وشرذ الجمع بالتشديد فرّقه.
(حاذِرُونَ) : متيقظون وهي مبالغة اسم الفاعل وقد قرئ حاذرون قال
أبو عبيدة : هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحاذر بمعنى وقيل بل بينهما فرق فالحذر
المتيقظ والحاذر الخائف وقيل الحذر المخلوق مجبولا على الحذر والحاذر من عرض فيه
ذلك ، وفي المصباح : «حذر حذرا من باب تعب واحتذر واحترز كلها بمعنى واستعد وتأهب
فهو حاذر وحذر والاسم منه الحذر مثل حمل ، وحذر الشيء إذا خافه فالشيء محذور أي
مخوف ، وحذرته الشيء فحذره» وفي قراءة حادرون بالدال المهملة ، والحادر السمين
القوي قال :
أحب الصبي
السوء من أجل أمه
|
|
وأبغضه من
بغضها وهو حادر
|
أي أن مدار حب
الولد على حب أمه لا على حسن أوصافه ، وضمير أبغضه عائد على الصبي بدون وصفه ولكن
هذه شيمة المنهمك في حب النساء.
(مُشْرِقِينَ) : داخلين في وقت الشروق من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
(فِرْقٍ) : بكسر الفاء أي قطعة.
(الطود) :
الجبل أو عظيمه كما في القاموس والجمع أطواد وطاد يطود إذا ثبت.
(وَأَزْلَفْنا) : قربنا.
الاعراب :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة للشروع في الأمر
الموجه الى موسى بأن يسير بقومه الى جهة البحر ليلا وذلك بعد ثلاثين سنة من
الحوادث الآنفة الذكر. وأوحينا فعل وفاعل والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا
وأن مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وأسر فعل أمر من أسرى أي سار ليلا
، وفي قراءة بكسر النون ووصل همزة أسر من سرى لغة أسرى ، وبعبادي متعلقان بأسر أو
حال أي مصحوبا بعبادي وجملة إنكم متبعون تعليل للأمر بالإسراء. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ
حاشِرِينَ) الفاء عاطفة وإن كان في الوقت انقطاع لأنهم كما يروى
شغلوا بدفن موتاهم من الوباء الذي اجتاح مصر ، وأرسل فرعون
فعل وفاعل وفي المدائن حال وحاشرين مفعول به. (إِنَّ هؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الجملة مقول قول محذوف منصوب على الحال أي قائلا وإن
واسمها واللام المزحلقة وشرذمة خبرها وقليلون صفة لأنهم كانوا أقلية فسئيلة؟؟؟
بالنسبة لقوم فرعون وسيأتي في باب البلاغة سر الجمع بالمذكر السالم لقليل. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) الواو عاطفة أو حالية وإن واسمها ولنا متعلقان بغائظون
واللام المزحلقة وغائظون خبر إن أي فاعلون ما يغيظنا. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) الواو عاطفة أو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وجميع
خبر أول وحذرون خبر ثان أي ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في
الأمور ، أراد فرعون أن يغطي الصدع الذي أصاب هيبته فوصف نفسه ورهطه بأبلغ الأوصاف
الدالة على أصالة المنزلة وقوة الشكيمة. (فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الفاء استئنافية وأخرجناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن
جنات وعيون متعلقان بأخرجناهم ، وأراد البساتين التي كانت على جانبي النيل
والأنهار الصغيرة المتفرعة من النيل والموزعة على الدور ، وسيأتي وصف مسهب لمصر في
باب الفوائد. (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ) عطف على جنات وعيون ، وأراد بالكنوز الأموال التي تحت
الأرض وخصها لأن ما فوقها انطمست معالمه أو لأنهم لم ينفقوها فيما يجب إنفاقه من
خير.
(كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج
ويجوز أن تعرب الكاف صفة لمقام كريم أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم ويجوز أن
تعرب الكاف رفعا على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، وأورثناها الواو عاطفة
أو اعتراضية ولعله أرجح وأورثناها فعل وفاعل ومفعول به أول وبني إسرائيل مفعول به
ثان أي بعد إغراق فرعون وقومه. (فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ) الفاء عاطفة وأتبعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ثان أي
لحقوهم ومشرقين حال. (فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وتراءى الجمعان
فعل ماض وفاعل أي تقابلا ورأى كل واحد منهما الآخر وجملة قال لا محل لها لأنها
جواب لما وأصحاب فاعل قال ، وجملة إنا لمدركون مقول القول. (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي
سَيَهْدِينِ) قال موسى ، وكلا حرف ردع وزجر وأراد موسى أن ينحي عليهم
باللائمة لخور أعصابهم وفتور عزائمهم أي لن يدركونا وإن معي تعليل لهذا الردع وان
حرف مشبه بالفعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وربي اسمها المؤخر وجملة سيهدين
استئنافية وغلط من أعربها حالا وسيأتي التفصيل في باب الفوائد. (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) الفاء عاطفة وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان
بأوحينا وأن مفسرة واضرب بعصاك البحر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعصاك
متعلقان باضرب فانفلق الفاء الفصيحة وقد تقدمت كثيرا أي فضرب فانفلق. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ) الفاء عاطفة وكان واسمها والكاف اسم بمعنى مثل خبرها أو
هو جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والعظيم صفة للطود. (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) الواو عاطفة وأزلفنا فعل وفاعل وثم ظرف بمعنى هناك
والآخرين مفعول به وأراد بهم قوم فرعون أي قربناهم من قوم موسى.
(وَأَنْجَيْنا مُوسى
وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) وأنجينا عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل وموسى مفعول به
ومن عطف على موسى ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من وأجمعين تأكيد لمن. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) تعليل لما تقدم أي إنما جعلنا ذلك وقدرناه ليكون آية
وموعظة للناس
ولكن ما تنبه إليها أكثرهم ، وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة والواو
حرف عطف وما نافية وكان واسمها والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا
على أنه خبر كان وستأتي زيادة الباء في خبر كان في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير
فصل أو مبتدأ والعزيز الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «إن هؤلاء لشرذمة قليلون» الشرذمة هي الطائفة أو الجماعة القليلة كما ذكرنا في
باب اللغة وكان يمكن الاكتفاء بها تعبيرا عن القلة ولكنه وصفها بالقلة القليلة
زيادة في احتقارهم واستصغار شأنهم ثم جمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل واختار
جمع المذكر السالم الذي هو للقلة فهذه أربعة أوجه تتساند لتقليلهم وهناك وجه خامس
وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف
وتناهيه فيه بالنسبة الى غيره من الموصوفين. فتأمل هذا فإنه من روائع النكت.
الفوائد :
١ ـ شروط وقوع
الحال جملة :
تقع الحال جملة
بشروط ثلاثة :
١ ـ أن تكون
الجملة خبرية وهي المحتملة للصدق والكذب ، وهذا الشرط مجمع عليه لأن الحال بمثابة
النعت وهو لا يكون بجملة
إنشائية ، وأما ما ورد في الحديث : «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء هاء»
فهو على إضمار القول أي إلا قائلين هاء وهاء من جهة البائع والمشتري.
وفي شرح
التسهيل للمرادي أن الخبرية تتناول الشرطية وأنه يجوز وقوعها حالا ، ولكن كلام
المغني يخالفه ، والتحقيق أن الكلام في الجملة الشرطية إن كان هو الجزاء والشرط
قيد له فالجزاء إن كان خبرا فالجملة الشرطية خبرية وإن كان إنشاء فإنشائية وان كان
الكلام مجموع الشرط والجزاء فليست خبرية لأن الأداة أخرجتها عن ذلك.
هذا وقد غلط من
قال في قول أحد المولدين :
أطلب ولا تضجر
من مطلب
|
|
فآفة الطالب
أن يضجرا
|
أما ترى
الحبل بتكراره
|
|
في الصخرة
الصمّاء قد أثرا
|
أن لا ناهية
وان الواو للحال ، قال في المغني : وهذا خطأ والصواب في الواو أنها عاطفة ، إما
مصدرا يسبك من أن والفعل على مصدر متوهم من الأمر السابق أي ليكن منك طلب وعدم ضجر
، أو جملة على جملة ، وعلى الأول ففتحة تضجر اعراب ولا نافية ، وعلى الثاني
فالفتحة بناء للتركيب والأصل ولا تضجرن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت للضرورة ولا
ناهية ، والعطف مثل : «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا» ثم استأنف ابن هشام في
المغني كلامه في النوع الثامن من الجهة السادسة فقال «ثم الأصح أن الفتحة يعني
فتحة تضجر اعراب مثلها في لا تأكل السمك وتشرب اللبن لا بناء لأجل نون توكيد
محذوفة».
٢ ـ أن تكون
الجملة غير مصدرة بدليل استقبال لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت
حصول مضمون الحال وذلك ينافي الاستقبال ، وغلط من أعرب «سيهدين» من قوله تعالى : «إني
ذاهب الى ربي سيهدين» حالا ، وبيان غلطه من جهة الصناعة ظاهر ، وأما من جهة المعنى
فلأنه صير معنى الآية سأذهب مهديا ، فصرف التنفيس الى الذهاب وهو في الآية للهداية
، وأجيب بأن مهديا وقع بعد الذهاب الذي فيه تنفيس ، فيلزم أيضا أن يكون فيه تنفيس
كالمقيد.
واما قولهم
لأضربنه إن ذهب وإن مكث فإنما جاز وقوع الشرطية فيه حالا وإن كانت مصدرة بدليل
استقبال وهو إن لأن المعنى لأضربنه على كل حال إذا لا يصح اشتراط وجود الشيء وعدمه
لشيء واحد.
٣ ـ أن تكون
مرتبطة إما بالواو والضمير معا لتقوية الربط نحو «ألم تر الى الذين خرجوا من
ديارهم وهم ألوف حذر الموت» فجملة هم ألوف حال من الواو في خرجوا وهي مرتبطة
بالواو والضمير وهو هم ، أو بالضمير فقط دون الواو نحو «اهبطوا بعضكم لبعض عدو»
فبعضكم مبتدأ وعدو خبره ولبعض متعلقان بعدو أو حال منه والجملة حال من الواو في
اهبطوا أي متعادين يضل بعضكم بعضا وهي مرتبطة بالضمير فقط وهو الكاف والميم ، أو
مرتبطة بالواو فقط دون الضمير نحو «لئن أكله الذئب ونحن عصبة» فجملة ونحن عصبة حال
من الذئب مرتبطة بالواو فقط ولا دخل لنحن في الربط لأنها لم ترجع لصاحب الحال.
٢ ـ وصف مصر
لعمرو بن العاص :
ولما استقر
عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ان صف لي مصر
فكتب اليه :
«ورد كتاب أمير المؤمنين ـ أطال الله بقاءه ـ يسألني عن مصر ، اعلم يا أمير
المؤمنين أن مصر قرية غبراء ، وشجرة خضراء ، طولها شهر ، وعرضها عشر ، يكنفها جبل
أغبر ، ورمل أغفر ، يخطر وسطها نيل مبارك الغدوات ، ميمون الروحات ، تجري فيه
الزيادة والنقصان ، كجري الشمس والقمر ، له أوان يدرّ حلابه ، ويكثر فيه ذبابه ،
تمده عيون الأرض وينابيعها ، حتى إذا ما اصلخمّ عجّاجه ، وتعظّمت أمواجه ، فاض على
جانبيه ، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها الى بعض إلا في صغار المراكب ، وخفاف
القوارب ، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الاصائل ، فإذا تكامل في زيادته نكص على
عقبيه كأول ما بدا في جريته ، وطما في درّته فعند ذلك تخرج أهل ملّة محقورة ، وذمة
مخفورة ، يحرثون الأرض ، ويبذرون بها الحبّ ، يرجون بذلك النماء من الرب ، لغيرهم
ما سعوا من كدهم ، فناله منهم بغير جدّهم ، فإذا أحدق الزرع وأشرق ، سقاه الندى ،
وغذاه من تحته الثرى ، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء ، إذا هي عنبرة
سوداء ، فإذا هي زمردة خضراء ، فإذا هي ديباجة رقشاء فتبارك الله الخالق لما يشاء»
الى آخر تلك الرسالة الممتعة.
وجاء في خطط
المقريزي ما يجلو غوامض هذه الرسالة : «ووصف بعضهم مصر فقال : ثلاثة أشهر لؤلؤة
بيضاء ، وثلاثة أشهر مسكة سوداء ، وثلاثة أشهر زمردة خضراء ، وثلاثة أشهر سبيكة
ذهب حمراء ، فأما اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وتوت يركبها الماء
فترى الدنيا بيضاء وضياعها على روابي وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بالمياه من كل
وجه فلا سبيل الى قرية من قراها إلا بالزوارق ، وأما المسكة السوداء فإن في أشهر
بابه وهاتور وكيهك
ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء وفي هذه الأشهر تقع الزراعات ، وأما
الزمردة الخضراء فإن في أشهر طوبة وأمشير وبرمهات يكثر نبات الأرض وربيعها فتصير
خضراء كأنها الزمردة ، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبئوئة
يتورّد العشب ويبلغ الزرع الحصاد فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة».
٣ ـ زيادة
الباء في خبر كان :
تختص ليس وكان
بجواز زيادة الباء في خبريهما وتكثر زيادتها في خبر ليس وما الحجازية ، أما كان
فلا تزاد إلا إذا سبقها نفي أو نهي كما في الآية ، وكقول الشنفري :
وإن مدّت
الأيدي الى الزاد لم أكن
|
|
بأعجلهم إذا
أجشع القوم أعجل
|
(وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما
تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
(٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ
ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ
يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ
(٨٠)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ
كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا
يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))
الاعراب :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) الواو عاطفة واتل معطوف على اذكر المقدرة عاملا في قوله
: «وإذ نادى ربك موسى» للشروع في القصة الثانية وعليهم متعلقان باتل ونبأ ابراهيم
مفعول به. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو بدل من نبأ بدل اشتمال
فيكون العامل فيه اتل ، وقيل منصوب بنبإ ابراهيم أي وقت فوله لأبيه وقومه : ما
تعبدون ، وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال ولقومه
معطوفة ، وما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون وجملة ما تعبدون مقول
القول.
(قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) جملة نعبد أصناما في محل نصب مقول القول ، فنظل الفاء
عاطفة ونظل فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره نحن ولها متعلقان بعاكفين
وعاكفين خبر نظل ، وفي الكلام اطناب سيأتي في باب البلاغة. (قالَ : هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ) هل حرف استفهام ويسمعونكم فعل مضارع وفاعل والكاف
مفعول به ولا بد من تقدير محذوف أي يسمعون دعاءكم فتكون متعدية لواحد أو
يسمعونكم تدعون فتكون متعدية لاثنين وقد قامت الجملة المقدرة مقام المفعول الثاني
، وإذ ظرف متعلق بيسمعونكم وهو كما يقول الزمخشري ، لحكاية الحال الماضية ومعناه
استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها هل سمعوكم إذ دعوتم ، وهو أبلغ في
التبكيت ، وجملة تدعون مجرورة بإضافة الظرف إليها.
(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ
أَوْ يَضُرُّونَ) عطف على يسمعونكم. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا
آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) بل إضراب انتقالي تفادوا به الاجابة عن استفهامه وكأنهم
وجدوا أنفسهم حقيقة في معزل عن التفكير والمساءلة وانهم لم يرجعوا الى عقولهم
فيناقشوا ما يعبدون ، هل يسمع؟ هل ينفع؟ هل يضر؟ وإنما هو مجرد تقليد درجوا عليه
دون التأمل في مغابّه أو النظر الى عواقبه ونتائجه. ووجدنا فعل وفاعل وآباءنا
مفعول أول لوجدنا وجملة يفعلون هي المفعول الثاني ، وكذلك نعت لمصدر محذوف أي
يفعلون فعلا مثل ذلك أو تجعل الكاف مفعولا به مقدما ليفعلون ولعله أولى. (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى الاستهزاء
والسخرية ، وقد تقدم أن «رأيتم» في مثل هذا التعبير إما أن تكون بمعنى أخبروني
فتكون متعدية لمفعولين أولهما اسم الموصول وثانيهما محذوف وهو جملة تقديرها هل هو
جدير بالعبادة ، وإما أن تكون رأى بمعنى عرف وهي تنصب مفعولا واحدا والمعنى هل
تأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون ، والفاء عاطفة على محذوف كما قدرناه ، وقد تقدمت
نظائر كثيرة له في مثل هذا التركيب ، وجملة كنتم صلة ما وجملة تعبدون خبر كنتم. (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أنتم تأكيد للضمير في تعبدون وآباؤكم عطف على أنتم
والأقدمون صفة لآباؤكم. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) الفاء تعليلية وإن
واسمها وعدو خبرها ولي صفة لعدو والعدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة
والجماعة ، قال :
وقوم عليّ
ذوي مئرة
|
|
أراهم عدوّا
وكانوا صديقا
|
ويروى مرة
بالكسر وهي القوه وشدة الجدال والمئرة العداوة.
يقول : رب قوم
أصحاب قوة عليّ أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
وإلا أداة
استثناء ورب نصب على الاستثناء والاستثناء منقطع ولذلك تقدر إلا بمعنى لكن ، وفي
الآية فن التعريض وسيأتي في باب البلاغة.
(الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ) الذي يجوز فيه النصب على النعت لرب العالمين أو البدل
أو عطف البيان ، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي خلقني ، وغلط أبو
البقاء فأعرب الذي مبتدأ وخبره جملة هو يهدين ولم يتكلم عن الفاء وهذا مردود لأن
الموصول معين ليس عاما ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد فلم يشبه الشرط ، والصحيح
أنها استئنافية وهو مبتدأ وجملة يهديني خبره وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) عطف على ما سبق وهو مبتدأ وجملة يطعمني خبر. (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الواو عاطفة ومرضت فعل وفاعل أضاف المرض إلى نفسه وإن
كان المرض والشفاء من الله تعالى تأدبا ، كما قال الخضر «فأردت أن أعيبها» وقال «فأراد
ربك أن يبلغا أشدهما» وسيأتي مزيد بحث في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) عطف على ما تقدم وعطف يحيين على يميتني بثم خلاف ما
تقدم لتراخي المدة واتساع الأمر بين
الإماتة والإحياء في الآخرة. (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) والذي عطف على ما قبله وجملة أطمع صلة وأن وما في حيزها
نصب بنزع الخافض أي في أن يغفر ولي متعلقان بيغفر وخطيئتي مفعول يغفر ويوم الدين
ظرف متعلق بيغفر أيضا. (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم حذف منه حرف النداء وهب فعل
أمر أراد به الدعاء ولي متعلقان بهب وحكما مفعول به وألحقني عطف على هب وبالصالحين
متعلقان بألحقني. (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) واجعل عطف على ما تقدم ولي مفعول اجعل الثاني ولسان صدق
مفعول اجعل الأول والاضافة من اضافة الموصوف إلى صفته وفي الآخرين حال أي الذين
يأتون بعدي الى يوم القيامة.
(وَاجْعَلْنِي مِنْ
وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) من ورثة مفعول اجعلني الثاني وجنة النعيم مضاف الى ورثة. (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ) لأبي متعلقان باغفر وجملة إنه تعليل لطلب الغفران له
وان واسمها وجملة كان خبرها ومن الضالين خبر كان. (وَلا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ) الظرف متعلق بتخزني وجملة يبعثون في محل جر بإضافة
الظرف إليها.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ) يوم ظرف في محل نصب بدل من يوم الأول وهذا يؤكد أنه من
كلام ابراهيم ، ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى في هذا اليوم ولا مانع من إعرابه
بدلا أيضا أي متعلق بما تعلق به الظرف الأول وجملة لا ينفع مال في محل جر بإضافة
الظرف إليها ولا بنون عطف على مال. (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يجوز في هذا الاستثناء أن يكون منقطعا أي من غير الجنس
ومعناه لكن من أتى الله ، ويجوز أن يكون متصلا وفيه وجهان أحدهما أن يكون بدلا من
المحذوف أو استثناء منه فهو في محل نصب على الوجهين والتقدير لا ينفع مال ولا بنون
أحدا إلا من أتى ، ويجوز أيضا أن يكون بدلا
من فاعل فهو في محل رفع وغلب من يعقل ويكون التقدير إلا مال من وبنو من
فإنه ينفع نفسه أو غيره ، وجعل الزمخشري من مفعول ينفع أي لا ينفع ذلك إلا رجلا
أتى الله. وبقلب متعلقان بأتى أو بمحذوف حال أي مصحوبا وسليم صفة لقلب.
البلاغة :
في هذه الآيات
سمو منقطع النظير من حيث البلاغة البيانية تتقطع دونه الأعناق وتخرس الألسن ،
وسنجنح الى اختصار الكلام لأن فيه متسعا من القول يضيق به صدر هذا الكتاب.
١ ـ الاطناب :
ـ في قوله : «قالوا
نعبد أصناما فنظل لها عاكفين» وكان مقتضى جواب السؤال وهو : «ما تعبدون» أن يقولوا
: أصناما ، لأنه سؤال عن المعبود وحسب كقوله تعالى : «ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل
العفو» و «ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق» ولكنهم أضافوا الى الجواب زيادة شرحوا بها
قصتهم كاملة لأنهم قصدوا إظهار ابتهاجهم ، وإعلان افتخارهم ، وذلك شائع في الكلام
تقول لبعضهم ماذا تلبس؟ فيقول :ألبس البرد الأتحمي فأجر أذياله بين جواري الحي
الحسان. وقالوا نظل لأنهم كانوا يعكفون على عبادتها في النهار دون الليل ، وهذه هي
مزية الاطناب تزيد في اللفظ عن المعنى لفائدة مقصودة أو غاية متوخاة فإذا لم تكن
ثمة فائدة في زيادة اللفظ فإنه يكون تطويلا مملا بادي الغثاثة ظاهر الركاكة.
٢ ـ التعريض :
وذلك في قوله «فإنهم
عدو لي إلا رب العالمين» فإنه صور المسألة في نفسه ، والعداوة مستهدفة شخصه ، كأنه
يعرض بهم قائلا :لقد فكرت في المسألة مليا وأمعنت النظر فيها طويلا فرأيت عبادتي
لها عبادة للعدو الذي يتربص به الدوائر للايقاع ، فاذا بلغ المرء من الاسفاف مدى
يحب فيه عدوا ويؤثره بالعبادة فذلك هو الارتطام في مزالق الغيّ ومهاوي الضلال ،
وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يلفت انتباهه ويسترعي أنظاره
فيتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل ، ومنه ما يحكى عن الشافعي : أن رجلا
واجهه بشيء فقال له : لو كنت بحيث أنت لاحتجت الى أدب.
٣ ـ أسرار حروف العطف :
وهنا موضع دقيق
المسلك لطيف المرمى قلما ينتبه إليه أحد أو بتفطن إليه كاتب ، فإن أكثر الناس
يضعون حروف العطف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر بـ «على» بـ «في» في
حروف الجر ، كما أنهم يعطفون دون أن يتفطنوا الى سر الحرف الذي عطف به الكلام فقد
قال تعالى «والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين»
فالأول عطفه بالواو التي هي لمطلق الجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء ، والإسقاء
على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم ، ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب
المرض بلا زمان خال من أحدهما ، ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت
بزمان ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي. وهذا من الأسرار التي يجدر بالكاتب
الإلمام بها حتى يقيس عليها ويعطف على كل بما يناسبه ويقع موقع السداد منه.
٤ ـ التفويف :
ولم يسبق أن
تحدثنا فيما غبر من كتابنا عن هذا الفن وهو إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح
والوصف والنسيب وغير ذلك من الفنون ، كل فن في جملة منفصلة من أختها بالسجع غالبا
مع تساوى الجمل في الرنّة ، ويكون بالجمل الطويلة والجمل المتوسطة والجمل القصيرة
، فمثال المركب من الجمل الطويلة : «الذي خلقني فهو يهدين» إلى قوله «وألحقني
بالصالحين» ففي هذه الآيات فنون شتى منها :
آ ـ المناسبة :
في قوله : «خلقني»
و «يطعمني».
ب ـ التنكيت :
في قوله : «وإذا
مرضت فهو يشفين» فإن النكتة التي أوجبت على الخليل إسناد فعل المرض الى نفسه دون
بقية الأفعال حسن الأدب مع ربه عز وجل إذ أسند إليه أفعال الخير كلها وأسند فعل
الشر الى نفسه وللاشارة الى أن كثيرا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله
ومشربه وغير ذلك.
ج ـ حسن النسق
:
فإنه قدم الخلق
الذي يجب تقديم الاعتداد به من الخالق على المخلوق واعتراف المخلوق بنعمته ، فإنه
أول نعمة ، وفي إقرار المخلوق بنعمة الإيجاد من العدم إقراره بقدرة الخالق على
الإيجاد والاختراع وحكمته ، ثم ثنى بنعمة الهداية التي هي أولى بالتقديم بعد نعمة
الإيجاد
من سائر النعم ، ثم تلّث بالاطعام والاسقاء اللذين هما مادة الحياة وبهما
من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم ، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبا ،
كما قلنا ، مع ربه ، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندا ذلك الى ربه ، ثم ذكر
الإماتة مسندا فعلها الى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد
والإعدام ، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت وفيه مع الإقرار بهذه النعمة
والاعتراف بالقدرة والايمان بالبعث ، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على
بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة كما تقدم.
د ـ صحة
التقسيم :
فقد استوعبت
هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية والإطعام والاسقاء
والمرض والشفاء والموت والحياة والايمان بالبعث وغفران الذنب.
٥ ـ التخلص :
وهو فن عجيب
يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى غيره آخر وجعل
الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه بل يكون جميع
كلامه كأنما أفرغ إفراغا ، فمما جاء من التخليص هذه الآية التي تسكر العقول وتسحر
الألباب ، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما
يعبدون ، سؤال مقرر لا سؤال مستفهم ، ثم أنحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها
بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تعي ولا تسمع ، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره
وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ، ثم أراد الخروج من ذلك الى ذكر
الإله الذي لا تجب العبادة إلا له ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه ،
فصور المسألة في نفسه دونهم «فإنهم عدو لي» على معنى : إني فكرت في أمري فرأيت
عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها ، وآثرت عبادة من بيده الخير كله ،
وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا : ما نصحنا ابراهيم إلا بما
نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى الى القبول لقوله وأبعث على الاستماع منه ، ولو قال
انهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه الى ذكر الله
تعالى فأجرى عليه تلك الصفات العظام ، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه
إلى حين يتوفاه مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق
بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له والاستكانة لعظمته ، ثم تخلص من ذلك إلى ما
يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين وابتهل اليه ابتهال الأوابين لأن الطالب
من مولاه إذا قدم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للاجابة وأنجح
لحصول الطلبة ، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله من آمن
به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار .. فتدبر هذه التخلصات البديعة المودعة
في أثناء هذا الكلام.
٦ ـ التقديم :
وفي قوله : «رب
هب لي حكما وألحقني بالصالحين» التقديم فقد استوهب الحكم أولا ثم طلب الإلحاق
بالصالحين ، والسر فيه دقيق جدا ، ذلك أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية
لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير ممكن لأن العلم صفة الروح
والعمل صفة البدن وكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أفضل من الإصلاح.
٧ ـ المجاز المرسل :
وفي قوله «واجعل
لي لسان صدق» مجاز مرسل إذا المراد باللسان هنا الثناء وذكر اللسان مجاز لأنه سببه
فالعلاقة هي السببية وقد تقدم ذلك مرارا ، وقيل هو مجاز من اطلاق الجزء على الكل
لأن الدعوة باللسان.
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ
لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ
أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ
كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))
الاعراب :
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على لا ينفع وإنما أورده
بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع عند ما تدنو الجنة من موقف السعداء ينظرون
إليها ويغتبطون بما ينتظرهم فيها من نعيم وعند ما تدنو النار من موقف الأشقياء
ينظرون إليها ويتحسرون على أنهم مسوقون إليها. وأزلفت فعل ماض مبني للمجهول أي
قربت والجنة نائب فاعل وللمتقين متعلقان بأزلفت. (وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) عطف على الجملة المتقدمة. (وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولهم متعلقان
بقيل أي على سبيل التوبيخ ، وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو
متعلق بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كنتم صلة وجملة تعبدون خبر
كنتم. (مِنْ دُونِ اللهِ
هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) من دون الله حال وهل حرف استفهام وينصرونكم فعل مضارع
وفاعل ومفعول به وأو حرف عطف وينتصرون فعل مضارع وفاعل. (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) الفاء حرف عطف وكبكبوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو
نائب فاعل وهم ضمير فصل والغاوون عطف على الواو في كبكبوا وسوغه الفصل بالجار
والمجرور ضمير الفصل. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
أَجْمَعُونَ) وجنود عطف على الواو أيضا وإبليس مضاف اليه وأجمعون
تأكيد للواو وما عطف عليها. (قالُوا وَهُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ) قالوا فعل وفاعل والواو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان
بيختصمون وجملة يختصمون خبرهم ، والتخاصم بين الشياطين ومتبعيهم فالضمير يعود على
الغاوون.
(تَاللهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف
تقديره نقسم وهو متعلق بقالوا وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن
المحذوف أي إنه وجملة كنا خبر إن وكان واسمها واللام الفارقة وفي ضلال خبر كنا
ومبين صفة. (إِذْ نُسَوِّيكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق بمبين أو بفعل محذوف
دل عليه ضلال ولا يجوز أن يتعلق بضلال لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف وصيغة
المضارع لاستحضار الصورة الماضية والمعنى تالله لقد كنا في غاية الضلال المبين وقت
تسويتنا إياكم يا هذه الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة وأنتم أذل
المخلوقات وأعجزهم. (وَما أَضَلَّنا
إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وأضلنا فعل ومفعول به
مقدم وإلا أداة حصر والمجرمون فاعل أضلنا وهم رؤساؤهم وكبراؤهم كما قال تعالى «ربنا
إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا».
(فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ) الفاء الفصيحة وما نافية ولنا خبر مقدم ومن حرف جر زائد
وشافعين مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه خبر مقدم.
(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) عطف على شافعين وحميم صفة لصديق.
(فَلَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء استئنافية ولو حرف للتمني في مثل هذا الموضع كأنه
قيل فليت لنا كرة لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير ، ويجوز أن
تكون على أصلها للشرط ، والجواب محذوف تقديره لفعلنا كيت وكيت ، وأن حرف مشبه
بالفعل وهي وما في حيزها مفعول لفعل محذوف تقديره نتمنى وقد نابت عنه لو ، أو فاعل
لفعل محذوف إن كانت لو للشرط ، ولنا خبر أن المقدم وكرة اسم أن المؤخر ، فنكون
الفاء للسبية ونكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم نكون ضمير مستتر
تقديره نحن ومن المؤمنين خبر نكون. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وما نافية وكان واسمها
وخبرها.
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير
فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والرحيم خبر ثان.
البلاغة :
١ ـ في قوله «فكبكبوا
فيها هم والغاوون» قوة اللفظ لقوة المعنى ، وهذا مما انفرد في التنبيه إليه ابن
جني في كتاب «الخصائص» فإن الكبكبة تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على
التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها
وليست الزيادة في اللفظ دالة على قوة المعنى بصورة مطردة بل ان المدار في ذلك على
الذوق ، خذ لك مثالا زيادة التصغير فهي زيادة نفص فرجيل أنقص من رجل في المعنى
ولكنه أكثر حروفا منه.
٢ ـ الإيضاح :
وقد تقدم ذكره
كثيرا وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه ، والاشكال
الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها ومعاني النفس دون
الفنون وهو هنا في قوله : «ولا صديق حميم» فإن الصديق الموصوف بصفة حميم هو الذي
يفوق القرابة ويربو عليه وهو أن يكون حميما ، فالحميم من الاحتمام وهو الاهتمام أي
يهمه أمرنا ويهمنا أمره وقيل من الحامة وهي الخاصة من قولهم حامة فلان أي خاصته.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ
حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي
وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))
الاعراب :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية القصة الثالثة وكذبت
قوم نوح المرسلين فعل وفاعل ومفعول ، وأنث الفعل باعتبار معنى القوم وهو الأمة
والجماعة وفي المصباح :
«القوم يذكر ويؤنث فيقال قام القوم وقامت القوم وكذا كل اسم جمع لا واحد له
من لفظه نحو رهط ونفر» وفي الزمخشري والبيضاوي : «القوم مؤنث ولذلك يصغر على قويمة»
وهذا محمول على الأغلب فإن قلت : كيف قال كذبت قوم نوح المرسلين وهم لم يكذبوا إلا
نوحا وحده قلت هو كقولهم فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة وبرد. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا
تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف
إليها ولهم متعلقان بقال وأخوهم فاعل قال ونوح بدل وانما جعله أخاهم جريا على
أسلوبهم في قولهم :يا أخا العرب ويا أخا تميم يريدون يا واحدا منهم ومنه بيت
الحماسة :
لا يسألون
أخاهم حين يندبهم
|
|
في النائبات
على ما قال برهانا
|
وألا أداة عرض
وتتقون فعل مضارع وفاعل. (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل لعرضه عليهم الجنوح الى التقوى وان واسمها ولكم
متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر وأمين صفة. (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به
وأطيعون الفاء عاطفة وأطيعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون
للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعول به.
(وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر
ومفعول به وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا منصوب محلا
لأنه مفعول به وإن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى رب العالمين خبر. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها قريبا وقد صدرت القصص الخمس بالأمر
بالتقوى للدلالة على اتفاق الأديان السماوية على وجوب معرفة الحق واتباعه وكررت
الجملة نفسها تأكيدا لهذه
الغاية السامية. (قالُوا : أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ونؤمن فعل مضارع وفاعله
مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بنؤمن والواو للحال واتبعك الأرذلون فعل ومفعول به
وفاعل ، وحق واو الحال هنا أن يضمر بعدها قد وهذا ضرب من السخافة يقيسون كفاءة
الاتباع بمقدار ما يتمتعون به من مال وحطام أو بما يتميزون به من حسب وجاه ولكن
الإسلام سوى بين المسلمين كافة. (قالَ وَما عِلْمِي
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو استئنافية وما يحتمل أن تكون استفهامية وأن تكون
نافية فعلى الأول تكون في محل رفع بالابتداء وعلمي خبرها وبما متعلقان بعلمي على
كل حال وعلى جعلها نافية يكون الخبر محذوفا ليصير الكلام به جملة ، وجملة كانوا
صلة ما وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنْ حِسابُهُمْ
إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) إن نافية وحسابهم مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى ربي خبر
حسابهم ولو امتناعية وتشعرون فعل مضارع مرفوع وجواب لو محذوف كما أن مفعول تشعرون
محذوف تقديره ذلك وتقدير الجواب ما عبتموهم وما نسبتم إليهم أي نقص. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية وأنا اسمها والباء حرف جر زائد
وطارد مجرور لفظا خبر ما محلا والمؤمنين مضاف إليه. (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية وأنا مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر ومبين
صفة. (قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم
وتنته فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ولتكونن اللام جواب
القسم وجواب الشرط محذوف على حسب القاعدة المشهورة :
واحذف لدى
اجتماع شرط وقسم
|
|
جواب ما أخرت
فهو ملتزم
|
وتكونن فعل
مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة واسم تكونن ضمير مستتر تقديره
أنت ومن المرجومين خبر.
(قالَ : رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي كَذَّبُونِ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء
محذوف وان واسمها وجملة كذبون خبرها وكذبون فعل ماض وفاعل ومفعول به وقد حذفت ياء
المتكلم لمراعاة الفواصل. (فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وافتح فعل أمر معناه الدعاء وفاعله مستتر
تقديره أنت وبيني ظرف متعلق بافتح وبينهم عطف على بيني وفتحا يجوز أن يكون مفعولا
مطلقا ويجوز أن يكون مفعولا به والفتح هنا من الفتاحة بمعنى الحكومة ، والفتاح
الحاكم سمي بذلك لفتحه مغالق الأمور وفي القاموس : «الفتاحة بالضم والكسر ويقال
بينهما فتاحات أي خصومات» والمعنى احكم بيننا بما يستحقه كل منا والمراد أنزل
العقوبة بهم ولذلك قال ونجني. ونجني الواو عاطفة ونجني عطف على احكم ومن الواو
عاطفة أو للمعية ومن عطف على الياء أو مفعول معه ومعي ظرف متعلق بمحذوف صلة من ومن
المؤمنين حال. (فَأَنْجَيْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الفاء استئنافية وهو من كلامه تعالى وأنجيناه فعل ماض
وفاعل ومفعول به ومن مفعول معه أو عطف على الهاء ومعه ظرف متعلق بمحذوف صلة وفي
الفلك متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الظرف والمشحون صفة للفلك والمشحون
المملوء.
(ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ الْباقِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأغرقنا فعل وفاعل وبعد ظرف زمان
مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى والمراد بعد انجائهم ، والباقين
مفعول أغرقنا. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف لبيان العبرة من هذه القصة وان حرف
مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر والواو
عاطفة أو حالية وما نافية وكان واسمها ومؤمنين خبرها يعني أن أكثريتهم الساحقة لم
تؤمن ولذلك أخذوا ولو كان نصفهم مؤمنين على الأقل لنجوا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل
أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو هو والرحيم خبر ثان وقد تقدم إعراب نظائرها مرارا.
البلاغة :
التكرير في
قوله : «فاتقوا الله وأطيعون» للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق على كل واحد
منهما بسبب وهو الأمانة في الأول ، وقطع الطمع في الثاني ، ونظيره قولك : ألا تتقي
الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟.
وفيه أيضا
التقديم ، قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته.
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ
(١٣١)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ
وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (١٤٠))
اللغة :
(رِيعٍ) : الريع بكسر الراء وفتحها قال في الأساس واللسان : «ونزلوا
بريع وريع رفيع وريعة وريعة رفيعة وهي المرتفع من الأرض وتقول : يبنون بكل ريعة
وملكهم كسراب بقيعة» وقال في القاموس : «والريع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض أو
كل فج أو كل طريق أو الطريق المنفرج في الجبل والجبل المرتفع الواحدة بهاء ...
وبالكسر
الصومعة وبرج الحمام والتلّ العالي ... وبالفتح فضل كل شيء كريع العجين والدقيق
والبذر» قلت واستعمال بمعنى استغلال الريع صحيح يقال طعام كثير الريع ، وأراعت
الحنطة وراعت زكت ، وأراعها الله تعالى وأراع الناس هذا العام : زكت زروعهم
ويقولون كم ريع أرضك وهو ارتفاعها قال المسيب بن علس :
في الآل
يرفعها ويخفضها
|
|
ريع يلوح
كأنه سحل
|
والضمير في
البيت للظعائن أي هي في الآل وهو السراب يرفعها تارة ويخفضها أخرى ريع أي طريق
مرتفع تارة ومنخفض أخرى أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه. ويقال ليس له
ريع أي مرجوع وغلة.
(آيَةً) : الآية : العلم يهتدي به المارة وكان بناؤها للعبث
واللهو لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها وقيل المراد بها
القصور المشيدة ترفعون بناءها وتجتمعون فيها فتعبثون بمن يمربكم.
(تَعْبَثُونَ) : في المصباح : «عبث عبثا من باب تعب لعب وعمل مالا
فائدة فيه فهو عابث».
(مَصانِعَ) : جمع مصنعة بفتح الميم مع فتح النون أو ضمها وهي الحوض
أو البركة فقوله مصانع أي حيضانا وبركا تجمعون فيها الماء فهي من قبيل الصهاريج ،
وفي المختار : «المصنعة بفتح الميم وضم النون أو فتحها كالحوض يجمع فيه ماء المطر
والمصانع الحصون» وفي القاموس وشرحه التاج : «المصنعة والمصنعة بفتح الميم وفتح
النون وضمها ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض والجمع مصانع والمصانع أيضا : الفري
والحصون والقصور والمصنعة أيضا الدعوة للأكل يقال كنا في مصنعة فلان وموضع يعزل
للنحل بعيدا عن البيوت» وجميع هذه المعاني صالحة للتفسير.
(بَطَشْتُمْ) : البطش : السطوة والأخذ بعنف وللباء مع الطاء فاء
وعينا للكلمة خاصة غريبة فهي تدل على السطوة والقوة وعدم المبالاة بالآخرين يقال :
أبطأ علي فلان وبطؤ في مشيته وتباطأ في أمره وتباطأ
عني وفيه بطء وما كنت بطيئا ولقد بطؤت وفرس بطيء من خيل بطاء وما أبطأ بك
عنا؟ وما بطأ بك؟ وما بطّأك؟ قال عمر بن ربيعة :
فقمت أمشي
فقامت وهي فاترة
|
|
كشارب الرّاح
بطّا مشيه السكر
|
ولا يخفى ما في
ذلك كله من الإدلال بالنفس والزهو بها وعدم المبالاة بالآخرين ، ويقال بطحه على
وجهه فانبطح وفيه كل الاذلال والصّغار والمهانة ونظر حويص الى قبر عامر بن الطفيل
فقال : هو في طول بطحتي أراد في طول قدي منبطحا على الأرض وبطاح بطح واسعة عريضة
وتبطّح السيل اتسع مجراه ، قال ذو الرمة :
ولا زال من
نوء السماك عليكما
|
|
ونوء الثريا
وابل متبطّح
|
وتبطّح فلان
تبوّأ الأبطح قال :
هلّا سألت عن
الذين تبطحوا
|
|
كرم البطاح
وخير سرّة وادي
|
وأبطخ القوم
وأقثئوا كثر عندهم البطيخ والقثاء ونظر الليث الى قوم يأكلون بطيخا فقال :
لما رأيت
المبطخين أبطخوا
|
|
فأكلوا منه
ومنه لطخوا
|
ورأيته يدور
بين المطابخ والمباطخ ولا يفعل ذلك إلا تياه مفتخر
بعناه وثرائه ، وبطر فلان تجاوز الحد في الزهو والمرح ورجل أشر بطر وأبطره
الغنى ومن أقوالهم : «وما أمطرت حتى أبطرت» يعني السماء وان الخصب يبطر الناس كما
قال :
قوم إذا
اخضرّت نعالهم
|
|
يتناهقون
تناهق الحمر
|
وامرأة بطيرة
شديدة البطر وبيطر الدابة بيطره و «أشهر من راية البيطار» والدنيا قحبة يوما عند
عطار ويوما عند بيطار ومن أقولهم أيضا : «وعهدي به وهو لدوابنا مبيطر فهو اليوم
علينا مسيطر» ومن حكمهم المأثورة : «لا تبطرنّ صاحبك ذرعه» أي لا تقلق إمكانه ولا
تستفزه بأن تكلفه غير المطاق وذرعه من بدل الاشتمال وبطر فلان نعمة الله استخفها
فكفرها ولم يسترجحها فيشكرها ومنه «بطرت معيشتها» وذهب دمه بطرا أي مبطورا مستخفا
حيث لم يقتصّ به وهو بهذا الأمر عالم بيطار ، قال عمر بن أبي ربيعة :
ودعاني ما
قال فيها عتيق
|
|
وهو بالحسن
عالم بيطار
|
والبطش معروف
وقد تقدم ومن مجازه : فلان يبطش في العلم بباع بسيط ، وبطشت بهم أهوال الدنيا ،
ومن أقوالهم : «وسلكوا أرضا بعيدة المسالك قريبة المهالك ، وقذوا بمباطشها ، وما
أنقذوا من معاطشها» وجاءت الركاب تبطش بالأحمال أي ترجف بها ، وبطّ القرحة بالمبط
وهو المضع وعنده بطة من السليط والبط والواحدة بطة للمذكر والمؤنث وهو طير مائي
قصير العنق والرجلين وهو غير الإوز وجمعه بطوط وبطاط والبطة أيضا إناء كالقارورة
أبطح ، وهو باطل بين البطلان وبطّال بيّن البطالة بكسر الباء وقد بطل بفتح الطاء
وبطل بيّن
البطالة بفتح الباء وقد بطل بضم الطاء وقد بطل بضم الطاء أيضا يبطل بالضم
بطالة وبطولة صار شجاعا فهو بطل وجمعه أبطال ومؤنثه بطلة وجمعها بطلات ، والبطن
معروف وألقت الدجاجة ذات بطنها ونثرت المرأة للزوج بطنها إذا أكثرت الولد وبطنه
وظهره أي ضربهما منه وقد بطن فلان بالبناء للمجهول إذا اعتل بطنه وهو مبطون وبطين
ومبطان ومبطن أي عليل البطن وعظيمه وأبطن البعير شدّ بطانة وباطنت صاحبي شددته معه
وبطّن ثوبه بطانة حسنة واستبطن أمره عرف باطنه وتبطّن الكلأ : جوّل فيه وتوسطه ،
قالت الخنساء : فجاء يبشّر أصحابه : تبطّنت يا قوم غيثا خصيبا وتبطّن الجارية
جعلها بطانة له ، قال امرؤ القيس :
كأني لم أركب
جوادا للذّة
|
|
ولم أتبطّن
كاعبا ذات خلخال
|
ويقال أنت أبطن
بهذا الأمر خبره وأطول له عشره ، وهو بطانتي وهم بطانتي وفلان عريض البطان أي غني
، وشأو بطين أي بعيد ، قال زهير :
فبصبص بين
أداني الغضى
|
|
وبين عنيزة
شأوا بطينا
|
الاعراب :
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في
القصة الرابعة. (إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وقال لهم أخوهم فعل وفاعل وهود بدل
من أخوهم وألا أداة عرض وتتقون فعل مضارع وفاعل والجملة مقول
القول. (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) الجملة تعليل لعرضه عليهم الجنوح إلى التقوى وإن واسمها
ولكم متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر إن وأمين صفة لرسول. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها كثيرا. (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذه تقدم إعرابها بحروفها قريبا. (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وتبنون فعل مضارع وفاعل
وبكل ريع متعلقان بتبنون وآية مفعول به وجملة تعبثون في محل نصب على الحال. (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) وتتخذون عطف على تبنون وتتخذون فعل مضارع وفاعل ومصانع
مفعول به ولعلكم تخلدون لعل واسمها والجملة خبرها وجملة الرجاء في محل نصب على
الحال أي راجين ومؤملين أن تخلدوا في الدنيا. (وَإِذا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بالجواب وهو بطشتم الثانية
، وجملة بطشتم الأولى في محل جر بإضافة إذا إليها وجبارين حال أي غير مبالين
بالنتائج والعواقب وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم وأما في الحق فالبطش بالسيف
والسوط جائز (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به
وأطيعون عطف على اتقوا.
(وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة أمدكم صلة
وبما متعلقان بأمدكم وجملة تعلمون صلة.
(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ
وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) جملة أمدكم الثانية بدل من جملة أمدكم الأولى بدل بعض
من كل لأنها أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن ما تعلمون
يشمل الانعام وغيرها وقيل هي مفسرة للجملة الأولى فتكون لا محل لها وسيأتي بحث بدل
الجملة من الجملة في باب الفوائد. (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب
مفعول به
ويوم مضاف إليه وعظيم صفة. (قالُوا سَواءٌ
عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) سواء خبر مقدم وعلينا متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام
ووعظت فعل ماض وفاعل وأم لم تكن من الواعظين معادل لقوله أوعظت وهمزة التسوية وما
في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي سواء علينا وعظك ، وأتى بالمعادل هكذا دون
قوله أم لم تعظ لتواخي القوافي وقال الزمخشري : «وبينهما فرق لأن المعنى سواء
علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه فهو أبلغ في
قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ». (إِنْ هذا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وخلق خبر هذا
والأولين مضاف إليه والمعنى ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين
وعادتهم كانوا يدينونه ونحن بهم مقتدون. (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر
زائد ومعذبين مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ما.
(فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به ،
فأهلكناهم عطف على فكذبوه وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن واللام المزحلقة
وآية اسم ان والواو حرف عطف وما نافية وكان فعل ماض ناقص وأكثرهم اسمها ومؤمنين
خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تكرر إعرابها كثيرا.
الفوائد :
تبدل الجملة من
الجملة بشرط أن تكون الجملة الثانية أوفى من الأولى بتأدية المراد ولذلك لا يقع
البدل المطابق في الجمل وإنما يقع بدل البعض من الكل كما تقدم في الآية أو بدل
الاشتمال كقوله :
أقول له ارحل
لا تقيمنّ عندنا
|
|
وإلّا فكن في
السرّ والجهر مسلما
|
فلا تقيمنّ
عندنا بدل اشتمال من ارحل لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له لاختلاف
لفظيهما ، لا بدل بعض من كل لعدم دخوله في الأول ، ولا بدل بدلا مطابقا لعدم
الاعتداد به ، ولم يشترط النحاة الضمير في بدل البعض والاشتمال في الأفعال والجمل
لتعذر عود الضمير عليها ، وقد تبدل الجملة من المفرد بدلا مطابقا كقول الفرزدق :
إلى الله
أشكو بالمدينة حاجة
|
|
وبالشام أخرى
كيف يلتقيان
|
أبدل جملة كيف
يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان وانما صح ذلك لرجوع الجملة الى التقدير بمفرد
أي الى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما ، فتعذر مصدر مضاف الى فاعله وهو
بدل من هاتين ، ولم يسلم بعض النحاة بذلك لاحتمال أن تكون جملة كيف يلتقيان
مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد اجتماع هاتين الحاجتين.
قال بعضهم :
وهل يجوز عكسه؟ أعني ابدال المفرد من الجملة أو لا ، وصرح أبو حيان في البحر بأن
المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما عنده بدل من
جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما ، وقال ابن هشام في
مغني اللبيب : «ان جملة «كيف خلقت» بدل من الإبل بدل اشتمال والمعنى الى الإبل
كيفية خلقها ومثله «ألم تر الى ربك كيف مد الظل» وكل جملة فيها كيف من اسم مفرد».
فائدة هامة :
إذا أبدل اسم
من اسم استفهام أو اسم شرط وجب ذكر همزة الاستفهام أو «إن» الشرطية مع البدل
ليوافق المبدل منه في المعنى نحو : كم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون فكم اسم استفهام في
محل رفع خبر مقدم ومالك مبتدأ مؤخر وعشرون بدل من كم ويسميه النحاة بدل تفصيل وهو
ينحصر في المطابق ، ومن جاءك أعلي أم خالد؟ فمن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ
وجملة جاءك خبره وعليّ بدل من «من» الاستفهامية بدل تفصيل ، ونحو : من يجتهد إن
علي أو خالد فأكرمه : فمن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ والجملة بعده خبره وإن
حرف شرط لا عمل له هنا لأنه جيء به لبيان المعنى لا للعمل وعليّ بدل من الضمير
المستتر في يجتهد وخالد معطوف على عليّ وجملة فأكرمه في محل جزم جواب الشرط ، ونحو
: حيثما تنتظرني في المدرسة وإن في الدار أوافك ، فحيثما اسم شرط جازم في محل نصب
مفعول فيه متعلق بتنتظرني وفي المدرسة جار ومجرور في موضع النصب على البدلية من
محل حيثما.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا
تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ
إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ
هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا
نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(١٥٩))
اللغة :
(نَخْلٍ) : النخل والنخيل شجر التمر المعروف له ساق مستقيم طويل
ذو عقد واحدته نخلة ونخيلة وفي المصباح ما ملخصه : النخل اسم جمع الواحدة نخلة وكل
اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقا.
(طَلْعُها هَضِيمٌ) ما يطلع منها كنصل السيف في جوفها شماريخ القنو ،
وتشبيهه بنصل السيف من حيث الهيئة والشكل وفي المختار : «ويقال للطلع هضيم ما لم
يخرج لدخول بعضه في بعض» من قولهم كشح هضيم ، وفي القاموس والتاج : «الطلع :
المقدار ، تقول :الجيش طلع ألف ومن النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل
بينهما منضود والطرف محدد أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها» والهضيم النضيج
الرخص اللين اللطيف.
(فارِهِينَ) : وقرئ فرهين : بطرين حاذقين في العمل من الفره وهو شدة
الفرح ، وقال في الكشاف : «والفراهة الكيس والنشاط ومنه خيل فرهة».
(شِرْبٌ) : بكسر الشين أي نصيب.
(فَعَقَرُوها) : أي ضربها بعضهم بالسيف في ساقيها وكان اسمه قدار
وسنورد القصة التي نسجت حول هذه القصة لتكون حافزا للأقلام على صوغ قصة فنية منها.
الاعراب :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الخامسة وهي فعل
وفاعل ومفعول وثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح وفي التعبير
عن صالح بالجمع ما تقدم.
(إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت والجملة تقدم إعرابها. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تقدم إعرابها أيضا.
(فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها أيضا. (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم إعرابها أيضا. (أَتُتْرَكُونَ فِي ما
هاهُنا آمِنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتتركون فعل مضارع
مبني للمجهول وفيما متعلقان بتتركون وها حرف تنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب ظرف
مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول وآمنين حال من الواو في تتركون أي في الذي استقر في
هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله : (فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) في جنات بدل من قوله فيما هاهنا بإعادة الجار ، وما
بعده
عطف على جنات وطلعها مبتدأ وهضيم خبر والجملة صفة لنخل.
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) الواو حرف عطف وتنحتون عطف على تتركون فهو في حيز
الاستفهام الانكاري التوبيخي ومحل جملة الاستفهام التوبيخية نصب على الحال ومن
الجبال جار ومجرور متعلقان بتنحتون وبيوتا مفعول به وفارهين حال وقد مرت جملة
مماثلة فيها النحت الذي هو النحر والبري. (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها.
(وَلا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الواو للحال ولا ناهية وتطيعوا فعل مضارع مجزوم بلا
الناهية والواو فاعل وأمر المسرفين مفعول وسيأتي معنى إطاعة الأمر في باب البلاغة.
(الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الذين صفة للمسرفين وجملة يفسدون صلة وفي الأرض متعلقان
بيفسدون ولا يصلحون عطف على قوله يفسدون وسيأتي سر العطف في باب البلاغة. (قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر أي الذين
سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم والجملة مقول القول. وقيل المسحر هو المعلّل
بالطعام والشراب فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة فكأنهم قالوا : إنما أنت بشر
مثلنا تأكل وتشرب.
(ما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا صفة
، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا كما تزعم فأت ، وبآية متعلقان بقوله فأت وإن
شرطية وكنت كان واسمها وهو في محل جزم فعل الشرط ومن الصادقين خبر كنت وجواب إن
محذوف دل عليه ما قبله أي فأت بآية.
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ
لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هذه مبتدأ وناقة خبر والجملة مقول القول ولها خبر مقدم
وشرب مبتدأ مؤخر والجملة صفة
لناقة ولكم خبر مقدم وشرب يوم مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة ليوم.
(وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسوها فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعل والهاء مفعول به وبسوء متعلقان بتمسوها فيأخذكم الفاء هي السببية
ويأخذكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء والكاف مفعول به وعذاب فاعل ويوم
مضاف اليه وعظيم صفة يوم. (فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) الفاء عاطفة وعقروها فعل وفاعل ومفعول به ، فأصبحوا
الفاء عاطفة وأصبحوا نادمين فعل ماض ناقص والواو اسمها ونادمين خبرها ، ولك أن
تجعل أصبحوا تامة والواو فاعل ونادمين حال وسيأتي في قصة صالح ما يرجح أنها تامة. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وأخذهم فعل ماض ومفعول به مقدم والعذاب
فاعل مؤخر وجملة إن في ذلك لآية تعليل للأخذ والواو حالية أو عاطفة وما نافية وكان
واسمها وخبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة :
١ ـ في قوله «ولا
تطيعوا أمر المسرفين» مجاز عقلي لأن الأمر لا يطاع وإنما هو صاحبه أي ولا تطيعوا
المسرفين في أمرهم.
٢ ـ الارداف :
فقد كان يكفي
أن يقول «الذين يفسدون في الأرض» ولكنه لما كان قوله يفسدون لا ينفي صلاحهم أحيانا
أردفه بقوله «ولا يصلحون» لبيان كمال افسادهم وإسرافهم فيه.
الفوائد :
قصة صالح :
في القرطبي : «أوحى
الله إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل ، فقال
لهم صالح : انه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه ، فقالوا
:لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه ، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا
أبناءهم ثم للعاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ، فكان ابن العاشر
أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا
أحياء لكانوا مثل هذا ، وغضب التسعة على صالح لأنه كان سببا لقتلهم أبناءهم
فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله فقالوا : نخرج الى سفر فيرى الناس سفرنا
فنكون في غار حتى إذا كان الليل وخرج صالح الى مسجده أتيناه فقتلناه ثم قلنا ما
شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقونا ويعلمون أنا قد خرجنا الى سفر ، وكان صالح لاينام
معهم في القرية بل كان ينام في المسجد فإذا أصبح أتاهم فوعظهم فلما دخلوا الغار
أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم فرأى ذلك الناس ممن كان قد اطلع على ذلك
فصاحوا في القرية : يا عباد الله أما رضي صالح أن أمر بقتلهم أولادهم حتى قتلهم
فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
رواية عقر
الناقة :
وروي أن مسطعا
ألجأ الناقة الى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار وقيل
انه قال لا أعقرها حتى
ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون :أترضين؟ فتقول :
نعم وكذلك صبيانهم.
هذا وقد ضرب
بقدار المثل في الشؤم فقال زهير مشيرا إليه وقد غلط فجعله أحمر عاد مع أنه أحمر
ثمود وذلك في أبيات له يصف الحرب ويحذر قومه من مغابها ونوردها هنا جملة لأهميتها
:
وما الحرب
إلا ما علمتم وذقتم
|
|
وما هو عنها
بالحديث المرجم
|
متى تبعثوها
تبعثوها ذميمة
|
|
وتضر إذا
ضرّيتموها فتضرم
|
فتعرككم عرك
الرحى بثفالها
|
|
وتلقح كشافا
ثم تنتج فتئثم
|
فتنتج لكم
غلمان أشأم كلهم
|
|
كأحمر عاد ثم
ترضع فتفطم
|
أي أنها تلد
لكم أبناء كل واحد منهم يضاهي في الشؤم عاقر الناقة وهو قدار بن سالف.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ
(١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣)
وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا
لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ
دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))
اللغة :
(الذُّكْرانَ) : أحد جموع الذكر والذكر خلاف الأنثى وفي المختار
:الذكر ضد الأنثى وجمعه ذكور وذكران وذكارة كحجارة» وأورد له في القاموس جموعا
عديدة فقال «وجمعه ذكور وذكورة وذكران وذكار وذكارة وذكرة».
(الْقالِينَ) : المبغضين والقلى البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد
والكبد وفي المصباح : «وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمد
إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وعبارة القاموس : «قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية
أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض».
(الْغابِرِينَ) : قال في الكشاف «ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك :
غير الناجين» وفي المصباح : «غبر غبورا من باب قعد بقي وقد يستعمل فيما مضى أيضا
فيكون من الأضداد ، وقال الزبيدي :غبر غبورا مكث وفي لغة بالمهملة للماضي
وبالمعجمة للباقي وغبّر الشيء وزان سكر بقيته» وفي القاموس : «غبر غبورا مكث وذهب
ضد ، وهو غابر من غبّر كركّع وغبر الشيء بالضم بقيته».
الاعراب :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة السادسة. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا
تَتَّقُونَ) لم يكن لوط أخاهم في النسب وانما جعله أخاهم جريا على
أساليبهم كما تقدم أو باعتبار انه كان ساكنا ومجاورا لهم في قريتهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ،
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) صدّر كل قصة بهذه الآيات وقد تقدم إعرابها فجدد به
عهدا. (أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون الذكران فعل
مضارع وفاعل ومفعول به ومحل جملة الاستفهام التوبيخية النصب على الحال ومن
العالمين حال. (وَتَذَرُونَ ما
خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) وتذرون عطف على تأتون داخل في حيز الاستفهام التوبيخي
وهو فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة خلق لكم ربكم صلة ومن أزواجكم حال على أن «من»
للتبيين ويجوز أن تكون للتبعيض وسيأتي تفصيل هذا كله في باب البلاغة ، وبل حرف
إضراب انتقالي وأنتم مبتدأ وقوم خبر وعادون صفة أي متجاوزون الحلال الى الحرام لأن
معنى العادي
المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد. (قالُوا : لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) قالوا فعل ماض وفاعل ولئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية
ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولتكونن اللام واقعة في جواب
القسم وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والواو اسم
تكونن ومن المخرجين خبر أي من جملة من أخرجناهم وسيأتي تفصيل مسهب عن هذا التعبير
في باب البلاغة. (قالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) إن واسمها ولعملكم متعلقان بالقالين ومن القالين خبر إن
والجملة مقول القول وتشدد بعضهم فقال في حواشي البيضاوي ما يلي : «من القالين»
متعلقان بمحذوف أي لقال من القالين وذلك المحذوف خبر إن ومن القالين صفة ولعملكم
متعلقان بالخبر المحذوف ولو جعل من القالين خبر إن لعمل القالين في لعملكم فيفضي
الى تقديم معمول الصلة على الموصول وهو أل مع أنه لا يجوز. قلت : وهذا على دقته
وملاءمته للقواعد فيه تكلف شديد يخرجه الى الإحالة ولا داعي لهذا التشدد مع أن
استعمال أل موصولا يكاد يكون نادرا.
(رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد حذف منه
حرف النداء ونجني فعل أمر للدعاء والياء مفعول به وأهلي مفعول معه أو معطوف على
الياء ومما متعلقان بنجني وجملة يعملون صلة ما. (فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر لتتساوق القصة ونجيناه فعل
ماض وفاعل ومفعول به وأهله مفعول معه أو معطوف على الهاء وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) إلا أداة استثناء وعجوزا مستثنى بإلا وهي امرأته وفي
الغابرين صفة لعجوزا كأنه قيل إلا عجوزا غابرة. (ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)
وأمطرنا عطف على دمرنا وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به ، فساء الفاء
حرف عطف وساء فعل للذم ومطر المنذرين فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم
والمراد بالمطر الحجارة التي انثالت عليهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر والواو حالية وما نافية
وكان واسمها وخبرها.
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة :
١ ـ قوله تعالى
«وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم» في هذه الآية الإبهام بقوله «ما خلق لكم» وقد
أراد به إقبالهنّ ، وفي ذلك مراعاة للحشمة والتصون و «من» تحتمل البيان وتحتمل
التبعيض.
٢ ـ العدول الى
الصفة :
في قوله «لتكونن
من المخرجين» وقوله «من القالين» عدول عن الجملة الفعلية الى الصفة ، وكثيرا ما
ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل الى التعبير بالصفة
المشتقة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع كقول فرعون «لأجعلنك من المسجونين»
وأمثاله كثيرة ، والسر في ذلك أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة ، وأما
التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه
وهو أن الصفة المذكورة كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به كأنها لقب وكأنه من طائفة
صارت من هذا النوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة ، استمع الى قوله
تعالى «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» كيف ألحقهم لقبا رديئا وصيّرهم من نوع
رذل مشهور بسمة التخلف حتى صارت له لقبا لاصقا به ، وهذا عام في كل ما يرد عليك
وورد فيما مضى من أمثال ذلك فتدبره واقدره قدره.
(كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ
(١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))
اللغة :
(الْأَيْكَةِ) : في اللغة الشجرة الكثيفة وجمعها أيك ، قال في القاموس
«أيك يأيك من باب تعب أيكا واستأيك الشجر : التف وصار أيكة والأيك الشجر الكثيف
الملتف الواحدة أيكة» فتطان الأيكة على الواحدة من الأيك وعلى غيضة شجر ملتفة قرب
مدين ، قالوا : وكان شجرهم الدوم وهي قرية شعيب سميت باسم بانيها مدين بن ابراهيم
بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، وقد اختلف المفسرون واللغويون فيها وسننقل لك
بعض ما قالوه.
قال الزمخشري :
«قرئ أصحاب
الأيكة بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الاضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن
ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة
وفي سورة (ص) بغير ألف ، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه
وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو لان ولو لا
على هذه الصورة لبيان لفظ المخفّف وقد كتبت في سائر القران على الأصل والقصة واحدة
على أن ليكة اسم لا يعرف وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم
الدوم».
وقال الجلال
السيوطي :
«وفي قراءة
بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء وهي غيضة شجر قرب مدين» وهذا
الصنيع يقتضي أن اللام الموجودة
لام التعريف وحينئذ لا يصح قوله وفتح الهاء إذ الاسم المقرون بأل سواء كانت
معرفة أو غيرها يجر بالكسرة سواء وقع فيه نقل أم لا ، ووجه بعضهم فتح الهاء بأن
الاسم بوزن ليلة فاللام من بنية الكلمة ولا نقل بل حركة اللام أصلية فجره بالفتحة
حينئذ ظاهر.
وقال الشهاب
الخفاجي :
«وقد استشكل
هذه القراءة أبو علي الفارسي وغيره بأنه لا وجه للفتح لأن نقل حركة الهمزة لا
يقتضي تغيير الاعراب من الكسر الى الفتح وأجيب بأن ليكة على هذه القراءة اسم
البلدة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث واللام فيها جزء من الكلمة لا المعرفة
لأنها توجب الصرف فقول القائل انها على النقل غير صحيح وبهذا اندفع ما قاله النحاة
فانهم نسبوا هذه القراءة الى التحريف».
وقد أطال
السمين الحلبي في توجيه هذه القراءة جدا ونصه :
قرأ نافع وابن
كثير وابن عامر ليكة بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه
أصحاب هنا وفي «ص» خاصة ، والباقون الأيكة معرفا بأل موافقة لما أجمع عليه في «الحجر»
وفي «ق» وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى وتجرأ بعضهم على قارئها وسأذكر
لك من ذلك طرفا : فوجهها على ما قال أبو عبيدة أن ليكة اسم للقرية التي كانوا فيها
والأيكة اسم للبلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيها بما بين مكة وبكة».
وقال صاحب
القاموس :
«ومن قرأ
الأيكة فهي الغيضة ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية وموضعه اللام ووقع في البخاري
اللائكة جمع أيكة وكأنه وهم».
وقال شارحه في
التاج :
«قوله وكأنه
وهم لأنه ليس له وجه ولم يتكلم به أحد من الأئمة ولكنه رضي الله عنه ثقة فيما ينقل
فينبغي أن يحسن الظن به وقد أجاب عنه شراحة وصححوه».
وقال أبو
البقاء :
«أصحاب الأيكة
يقرأ بكسر التاء مع تحقيق الهمزة وتخفيفها بالإلقاء وهو مثل الأنثى والأنثى قرئ
ليكة بياء بعد اللام وفتح التاء وهذا لا يستقيم إذ ليس في الكلام ليكة حتى يجعل علما
فإن أدعي قلب الهمزة لا ما فهو في غاية البعد».
الأيك والحمام
في الشعر :
هذا وقد استهوى
الأيك وحمامه الشعراء فكثرت أشعارهم فيه ، أنشد أبو حاتم لرجل من بني نهشل :
ألام على فيض
الدموع وإنني
|
|
بفيض الدموع
الجاريات جدير
|
أيبكي حمام
الأيك من فقد إلفه
|
|
وأصبر عنها
إنني لصبور
|
وأنشد الرياشي
عن الأصمعي ، قال : أنشدني منتجع بن نبهان لرجل من بني الصيّداء :
دعت فوق
أفنان من الأيك موهنا
|
|
مطوقة ورقاء
في إثر آلف
|
فهاجت عقابيل
الهوى إذ ترنمت
|
|
وشبت ضرام
الشوق تحت الشراسف
|
بكت بجفون
دمعها غير ذارف
|
|
وأغرت جفوني
بالدموع الذّوارف
|
والطريف في هذا
الباب قول عوف بن محلّم :
ألا يا حمام
الأيك إلفك حاضر
|
|
وغصنك ميّاد
ففيم تنوح
|
أفق لا تنح
من غير شيء فإنني
|
|
بكيت زمانا
والفؤاد صحيح
|
ولوعا فشطّت
غربه دار زينب
|
|
فها أنا أبكي
والفؤاد جريح
|
(القسطاس) : بكسر القاف وضمها وقد
قرئ بهما : الميزان السوي فإن كان من القسط وهو العدل وجعلت العين مكررة فوزنه
فعلاس وإلا فهو رباعي وقيل هو بالرومية العدل.
(وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا يقال عثا في الأرض وعثي وذلك نحو قطع
الطريق والغارة وإهلاك الزروع وفي المختار : «عثا في الأرض
أفسد وبابه سما وعثي بالكسر عثوا أيضا وعثى بفتحتين بوزن فتى قال الله
تعالى : «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» قلت قال الأزهري :القراء كلهم متفقون على فتح
الثاء دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية».
(وَالْجِبِلَّةَ) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام المفتوحة : الخلق
المتحد الغليظ وفي القاموس «الجبلة والجبلة والجبلة والجبلّة وهي التي قرئ بها :
الوجه وما استقبلك منه والخلقة والطبيعة والأصل والقوة وصلابة الأرض» والجبل بفتح
الجيم مع سكون الباء مصدر جبله الله على كذا أي طبعه وخلقه واسم الطبيعة جبلة ،
ولهذه الكلمة بهذا المعنى ألفاظ كثيرة وهي الجبلة والخيم والطبع والنحيزة والطبيعة
والنبيتة والضريبة والسجية والشنشنة والخليقة والسليقة والسليقة والشيمة والغريزة
والنجار وقد نظم بعضهم معاني الجبل فقال :
قد جبل الله
الطباع جبلا
|
|
وسمي المال
الكثير جبلا
|
وعدد الناس
الكثير جبلا
|
|
بالضم إن
أردت أو بالكسر
|
وجه وقوة
وغيث جبلة
|
|
وامرأة غليظة
والجبلة
|
جماعة أو
كثرة كالجبله
|
|
لقدح من خشب
ذي كبر
|
(كِسَفاً) : بكسر الكاف وفتح السين وقرئ كسفا بسكون السين وكلاهما
جمع كسفة نحو قطع وسدر وقال أبو عبيدة : «الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة وقرأ
السلمي وحفص كسفا جمع كسفة أيضا وهي القطعة والجانب مثل كسرة وكسر» وفي الصحاح : «الكسفة
من الشيء يقال أعطني كسفة من ثوبك أي قطعة ويقال الكسف والكسفة واحد» وقال الأخفش «من
قرأ كسفا من السماء جعله واحد ومن قرأ كسفا جعله جمعا».
(الظُّلَّةِ) : المظلة الضيقة وما يستظل به من الحر أو البرد وما
أظلك كالشجر والجمع ظلل وظلال ويوم الظلة اشتهر بعذابهم فقد رنقت فوقهم سحابة
أظلتهم بعد جر شديد أصابهم فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.
الاعراب :
(كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق لذكر القصة السابعة والأخيرة في هذه
السورة. (إِذْ قالَ لَهُمْ
شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) تقدمت هذه الآية وما بعدها في جميع القصص السبع وسيأتي
سر ذلك في باب البلاغة. ولم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله لأنه لم يكن من
أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ،
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) آيات تقدمت في القصص السبع. (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ) أوفوا فعل أمر وفاعل والكيل مفعول به والواو حرف عطف
ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها ومن المخسرين خبر تكونوا
، قال الزمخشري : «الكيل على ثلاثة أضرب : واف وطفيف وزائد ، فأمر بالواجب الذي هو
الإيفاء ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف ولم يذكر الزائد وكأن تركه عن الأمر
والنهي دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه». (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) اعرابها واضح. (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتبخسوا فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعل والناس مفعول به أول وأشياعهم مفعول به ثان.
وفي أقوالهم «لا
تبخس أخاك حقه». ولا تعثوا عطف على ولا تبخسوا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان
بتعثوا ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها وأما لفظهما فمختلف. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة
خلقكم صلة والجبلة عطف على الذي والأولين صفة للجبلة. (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر والجملة
مقول القول. (وَما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر
خبر ومثلنا نعت لبشر والواو حرف عطف وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ونظنك فعل
مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به واللام الفارقة ومن
الكاذبين خبر قال الزمخشري :«فإن قلت إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على
فعل الظن وثاني مفعوليه؟ قلت : أصلهما أن تتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك إن زيد
لمنطلق فلما كان البابان أعني باب كان وباب ظننت من جنس باب المبتدأ والخبر فعل
ذلك في البابين فقيل إن كان زيد لمنطلقا وإن ظننته لمنطلقا». (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وأسقط فعل أمر وعلينا متعلقان بأسقط
وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل
الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي
فأسقط علينا. (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ
بِما تَعْمَلُونَ) ربي مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وبما متعلقان
بأعلم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول. (فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به فأخذهم فعل
ومفعول به وعذاب يوم الظلة فاعل وان واسمها
وجملة كان خبرها ، واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وعذاب خبر كان ويوم مضاف
اليه وعظيم صفة. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) تقدم اعرابها.
البلاغة :
فن التكرير :
في هذه القصص
السبع كرر في أول كل قصة وفي آخرها ما كرر مما أشرنا اليه لأن في التكرير تقريرا
للمعاني في الأنفس وترسيخا لها في الصدور مع تعليق كل واحدة بعلة ، وفن التكرير فن
دقيق المأخذ وربما اشتبه على أكثر الناس بالاطناب مرة وبالتطويل مرة أخرى ، وهو
ينقسم الى قسمين :
القسم الاول من
التكرير :
يوجد في اللفظ
والمعنى كقولك لمن تستدعيه : أسرع أسرع ومنه قول أبي الطيب المتنبي :
ولم أر مثل
جيراني ومثلي
|
|
لمثلي عند
مثلهم مقام
|
القسم الثاني
من التكرير :
يوجد في المعنى
دون اللفظ كقولك : أطعني ولا تعص أوامري ، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية.
وعلى كل حال
ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره.
وزعم قوم أن
أبا الطيب المتنبي أتى بتكرير لا حاجة به إليه في قوله :
العارض الهتن
بن العارض الهتن بن العا
|
|
رض الهتن بن
العارض الهتن
|
وليس في هذا
البيت من تكرير فإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا أي انه عريق
النسب في هذا الوصف ، وقد ورد في الحديث النبوي مثله كقوله صلى الله عليه وسلم في
وصف يوسف النبي : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن
إسحاق بن ابراهيم» فالبيت كالحديث النبوي من جهة المعنى لكنه انحط عن الحديث من
جهة ألفاظه ، وهي ألفاظ إذا استعملت مفردة كانت حسنة ولكن إيرادها على هذا الوجه المتداخل
هو الذي شوه جمالها وأحالها الى ضرب من المغالطة اللفظية غضت منها وهذا أمر مرده
الى الذوق وحده فهو الفيصل الذي يحكم في هذه الأمور وما أحسن ما قال الفيلسوف
الفرنسي فولتير «ذوقك أستاذك».
التكرير غير
المفيد :
أما إذا كان
التكرير غير مفيد فهو العي الفاحش ، ومن العجيب أن يتورط شاعر كأبي الطيب المتنبي
فيورد البيت الذي أوردناه في مستهل هذا البحث وهو :
ولم أر مثل
جيراني ومثلي
|
|
لمثلي عند
مثلهم مقام
|
ألا ترى أنه
يقول لم أر مثل جيراني في سوء الجوار ولا مثلي في
مسايرتهم ومقامي عندهم إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين ، ومثله
قوله :
وقلقلت بالهم
الذي قلقل الحشا
|
|
قلاقل دهر
كلهن قلاقل
|
وكذلك قوله :
عظمت فلما لم
تكلم مهابة
|
|
تواضعت وهو
العظم عظما على عظم
|
قال أحد النقاد
القدامى فيه : «ولو سمي هذا البيت جبانة لكان لائقا به» والظاهر أن هذا الناقد
يكره التكرير وقد صور له كرهه إياه قصيدة ابن الرومي في المرأة التي أولها :
أجنت لك
الوجد أغصان وكثبان
|
|
فيهنّ نوعان
تفّاح ورمان
|
غير جميلة أو
من هذا الضرب فقال : «هذه دار البطيخ فاقرءوا نسيبها تعلموا ذلك».
ولسنا ننكر أن
ابن الرومي قد بالغ في غزلها وأكثر من ذكر العناب والبان والنرجس ولكنه واقع موقعه
ولا سبيل الى النيل منه.
ونعود الى أبي
الطيب فقد أكثر من التكرير حتى أسف في كثير من أبياته مع أنه شاعر العربية الأول
فقال :
أسد فرائسها
الأسود يقودها
|
|
أسد تصير له
الأسود ثعالبا
|
قال ابن رشيق :
«ما أدري كيف تخلص من هذه الغابة المملوءة أسودا» وقال الاصمعي لمن أنشده قوله :
فما للنوى جذ
النوى قطع النوى
|
|
كذاك النوى
قطّاعة لوصال
|
«لو سلط الله على هذا النوى شاة
لأكلته كله».
وأما قول أبي
نواس :
أقمنا بها
يوما ويوما وثالثا
|
|
ويوما له يوم
الترحل خامس
|
فقال ابن
الأثير في المثل السائر : «مراده أنهم أقاموا أربعة أيام ويا عجبا له يأتي بمثل
هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن وهي :
ودار ندامى
عطلوها وأدلجوا
|
|
بها أثر منهم
جديد ودارس
|
مساحب من جر
الزقاق على الثرى
|
|
وأضغاث ريحان
جنيّ ويابس
|
حبست بها
صحبي فجددت عهدهم
|
|
وإني على
أمثال تلك لحابس
|
تدار علينا
الراح في عسجدية
|
|
حبتها بأنواع
التصاوير
|
فارس قرارتها
كسرى وفي جنباتها
|
|
مها تدريها
بالقسيّ الف
|
وارس فللرّاح
ما زرّت عليه جيوبها
|
|
وللماء ما
دارت عليه القلانس
|
وقد أخطأ ابن
الأثير وفهم البيت خطأ ولم يمعن النظر فيه فنقده ولو أنه أمعن النظر لما قال فيه
هذا القول ، والمعنى الصحيح : ان المقام سبة أيام لأنه قال وثالثا ويوما آخر له
اليوم الذي رحلنا فيه خامس.
وأبو نواس أجل
قدرا من أن يسف ويأتي بهذه العبارة لغير معنى طائل وله في الخمر أبيات منقطعة
النظير وقد تدق على الافهام ، حكي عنه أنه ذكر عند الرشيد قوله :
فاسقني البكر
التي اعتجرت
|
|
بخمار الشيب
في الرحم
|
فقال الرشيد
لمن حضر : ما معناه؟ فقال أحدهم : إن الخمر إذا كانت في دنّها كان عليها شيء مثل
الزبد فهو الشيب الذي أراده ، وكان الاصمعي حاضرا فقال : يا أمير المؤمنين إن أبا
علي أجل خطرا وان معانيه لخفية فاسألوه عن ذلك فأحضر وسئل فقال : إن الكرم أول ما
يخرج العنقود في الزرجون يكون عليه شيء يشبه القطن فقال الأصمعي : ألم أقل لكم إن
أبا نواس أدق نظرا مما قلتم.
عود الى الآيات :
ونعود فنقول
إنما كرر القرآن هذه الآيات في أول كل قصة وآخرها لأن هذه القصص قرعت بها آذان
أصابها وقر وقلوب غلف ، فلم يكن بد من مراجعتها بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح
مغالقها ويجلو ما تحيفها من صدأ. وسيأتي من التكرير في القرآن ما يسكر النفوس
ويخلب الألباب.
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))
اللغة :
(الْأَعْجَمِينَ) : قال الزمخشري : الأعجم الذي لا يفصح وفي نسانه عجمة
واستعجام والاعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد ، وقرأ الحسن :
الأعجميين ، ولما كان من يتكلم بلسان غير
لسانهم لا يفقهون كلامه قالوا له أعجم وأعجمي شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين ،
وقالوا لكل ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها أعجم قال حميد :ولا عربيا شاقه صوت
أعجما قلت : وهذا عجز بيت وصدره :«ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها» والبيت من أبيات
لحميد بن ثور وقد رحلت صاحبته ومنها :
وما هاج هذا
الشوق إلا حمامة
|
|
دعت ساق حر
ترحة وتندما
|
عجبت لها
أنّى يكون غناؤها
|
|
فصيحا ولم
تفغر بسنطقها فما
|
ولم أر مثلي
شاقه صوت مثلها
|
|
ولا عربيا
شاقه صوت أعجما
|
وساق حر مركب
إضافي وهو ذكر الحمام مطلقا يقول : وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد في قلبي إلا
حمامة دعت ذكرها ، والترحة :الحزن ضد الفرحة ، والتندم : التأسف على ما فات ،
ويروى وترنما وهو تحسين الصوت وهما نصب على الحالية أي حزينة ومتأسفة أو ذات ترحة
وذات تندم ، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف والاستفهام معناه هنا التعجب وفغر فاه
يفغره من باب نفع فتحه أي والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها وانما يخرج صوتها من
صدرها ، وشاقه تسبب له في الشوق ، والعربي المفصح والأعجم الذي لا يفصح من الحيوان
نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده وربما ألحقوه ياء النسب
للمبالغة في شدة العجمة ، وبينه وبين عربي طباق التضاد.
واستشكل كيف
يجمع الأعجم جمع المذكر السالم وهو وصف على وزن أفعل في المذكر وعلى وزن فعلاء في
المؤنث وشرط الجمع بالياء والنون أو بالواو والنون أن لا يكون الوصف كذلك ، وأجيب
بأنه جمع أعجمي بياء النسب وحذفت للتخفيف كأشعرين في أشعري ، والكوفيون يجيزون جمع
أفعل فعلاء جمع المذكر السالم وقال صاحب التحرير : «قوله على بعض الأعجمين جمع
أعجمي ولو لا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة». وعبارة القاموس : «العجم
بالضم وبالتحريك خلاف العرب رجل وقوم أعجم والأعجم من لا يفصح كالأعجمي والأخرس
وزياد الشاعر والموج لا يتنفس فلا ينضح ماء ولا يسمع له صوت والعجمي من جنسه العجم
وان أفصح وجمعه عجم».
الاعراب :
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حقيقة
تلك القصص وتأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن إخباره عن الأمم المتقدمة وهو
الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يكون إلا عن طريق الوحي والضمير يعود على القرآن
لأن هذه القصص جزء منه. وان واسمها واللام المزحلقة وتنزيل رب العالمين خبرها. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الجملة صفة لتنزيل وبه في موضع الحال أي ملتبسا به
فالباء للملابسة والروح فاعل والأمين صفة وعلى قلبك متعلقان بنزل واللام للتعليل
وتكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام ومن المؤمنين خبر تكون.
(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) بلسان جار ومجرور متعلقان بالمنذرين لأنه اسم مفعول أي
من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي وهم هود وصالح
وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، أو انه بدل من قوله به بإعادة
العامل أي نزل بلسان عربي أي باللغة العربية. (وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وفي زبر
الأولين خبر إن يعني أن ذكره مثبت في الكتب السماوية.
(أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي التقريعي والواو
عاطفة على مقدر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم متعلقان
بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدم عليها وآية خبر يكن المقدم وأن يعلمه
في تأويل مصدر اسم يكن وعلماء بني إسرائيل فاعل بعلمه. وهؤلاء العلماء هم خمسة قد
أخبروا بالقرآن وهم عبد الله بن سلام وأسد وأسيد وثعلبة وابن يامين وقد أسلموا
وحسن إسلامهم.
(وَلَوْ نَزَّلْناهُ
عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الواو عاطفة ولو شرطية امتناعية ونزلناه فعل ماض وفاعل
ومفعول به وعلى بعض الأعجمين متعلقان بنزلناه. (فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وقرأه فعل ماض وفاعل مستتر يعود على بعض
الأعجمين ومفعول به وعليهم متعلقان بقرأه وجملة ما كانوا مؤمنين لا محل لها لأنها
جواب شرط غير جازم وبه متعلقان بمؤمنين ومؤمنين خبر كانوا. (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف مقدم أي مثل هذا السلك سلكناه في
قلوبهم وقررناه فيها وسلكناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان
بسلكناه. (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الجملة مستأنفة أو حالية من الهاء في سلكناه أو من
المجرمين فعلى الأول تكون الجملة بمثابة الإيضاح والتلخيص لما تقدم وعلى الثاني
يكون التقدير سلكناه حالة كونه غير مؤمن به ، ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع
وفاعل وبه متعلقان بيؤمنون وحتى حرف غايه
وجر ويروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به
والأليم صفة. (فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الفاء حرف للتعقيب قال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى
التعقيب في قوله فيأتيهم بغتة فيقولوا ...؟ قلت : ليس المعنى ترادف رؤية العذاب
ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود ، وانما المعنى ترتبها في الشدة كأنه قيل لا
يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة فما
هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة مع القطع بامتناعها ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه ، إن
أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله عقيب مقت
الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء» وهكذا سبر الزمخشري أغوار
القرآن الكريم وألمّ بخفاياه إلمام الخبير بمواقع الأسرار. ويأتيهم معطوف على يروا
والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به وبغتة حال والواو واو الحال وهم مبتدأ
وجملة لا يشعرون خبر. (فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ) الفاء عاطفة كما تقدم والكلام كله مقدم من تأخير
ويقولوا عطف على يأتيهم وهل حرف استفهام ونحن مبتدأ ومنظرون خبر والجملة مقول
القول ومعنى الاستفهام هنا التحسر والاستبعاد لما هو محال وهو إمهالهم بعد حلول
العذاب بهم.
الفوائد :
شروط جمع
المذكر السالم :
يشترط في كل ما
يجمع جمع المذكر السالم من اسم أو صفة ثلاثة شروط :
آ ـ الخلو من
تاء التأنيث فلا يجمع هذا الجمع من الأسماء نحو طلحة ، ولا من الصفات نحو علّامة
بتشديد اللام لئلا يجتمع فيهما علامتا التأنيث والتذكير.
ب ـ أن يكون
لمذكر فلا يجمع هذا الجمع علم المؤنث نحو زينب ولا صفة المؤنث نحو حائض.
ج ـ أن يكون
لعاقل لأن هذا الجمع مخصوص بالعقلاء فلا يجمع نحو وأشق علما لكلب وسابق صفة لفرس ،
ثم يشترط أن يكون إما علما غير مركب تركيبا مزجيا ولا استناديا فلا يجمع المركب
المزجي نحو معدي كرب وسيبويه ، وقيل إن المختوم بويه يجمع هذا الجمع فيقال
سيبويهون ومنهم من يحذف وبه فيقول سيبون ، أما المركب الاضافي فيجمع أول
المتضايفين ويضاف للثاني فيقال غلامو زيد وغلامي زيد ، والكوفيون يجمعونهما معا ،
وأما صفة تقبل التاء المقصود بها معنى التأنيث فلا يجمع هذا الجمع نحو علامة
ونسابة لأن التاء فيهما لتأكيد المبالغة لا لقصد معنى التأنيث ، أو صفة لا تقبل
التاء ولكنها تدل على التفضيل فالصفة التي لا تقبل التاء نحو قائم ومذنب تقول
قائمة ومذنبة والصفة التي تدل على التفضيل نحو أفضل فهذه الصفات الثلاث تجمع هذا
الجمع كما تجمع بالألف والتاء فيقال قائمون ومذنبون وأفضلون كما يقال قائمات
ومذنبات وفضليات ، فلا يجمع هذا الجمع نحو جريح بمعنى مجروح وصبور بمعنى صابر
وسكران وأحمر وأعجم فإنها لا تقبل التاء ولا تدل على تفضيل لأن جريحا وصبورا مما
يستوي فيه المذكر والمؤنث وسكران مؤنثه سكرى وأحمر مؤنثه حمراء وأعجم مؤنثة عجماء
فلا يقال جريحون وصبورون وسكرانون وأحمرون كما
لا يقال جريحات وصبورات وسكرانات وحمراوات وعجماوات فلو جعلت أعلاما جاز
الجمعان.
(أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ
جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ
(٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما
كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
(٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٢٢٠))
الاعراب :
(أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري والفاء
عاطفة على مقدر يقتضيه المقام وقد سبق تقريره والتقدير : أيكون حالهم كما ذكر من
طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون ، هكذا قدره بعض المعربين ولكنه لا
يخلو من إيهام ،
فالأولى أن يقدر : أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون ، وقدم الجار
والمجرور لأمرين : لفظي وهو مراعاة الفواصل ومعنوي وهو الإيذان بأن مصب الإنكار
والتوبيخ كون المستعجل به العذاب ، والجار والمجرور متعلقان بيستعجلون. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ
سِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ورأيت معطوف على
فيقولوا وما بينهما اعتراض والتاء فاعل رأيت ورأيت بمعنى أخبرني فتتعدى الى
مفعولين أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبا وإن شرطية ومتعناهم فعل ماض
وفاعل ومفعول به وسنين ظرف متعلق بمتعناهم.
(ثُمَّ جاءَهُمْ ما
كانُوا يُوعَدُونَ) ثم حرف عطف وجاءهم فعل ومفعول به وما فاعل جاءهم وجملة
كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يوعدون خبرها.
ثم : تنازع أفرأيت
وجاءهم في قوله «ما كانوا يوعدون» فإن أعملت الثاني وهو جاءهم كما تقدم في الاعراب
رفعت به «ما كانوا» فاعلا به ، ومفعول أرأيت الأول ضميره ولكنه حذف والمفعول
الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله «ما أغنى عنهم» ولا بد من رابط بين هذه
الجملة وبين المفعول الاول المحذوف وهو مقدر تقديره : أفرأيت ما كانوا يوعدونه ،
وإن أعملت الاول نصبت به «ما كانوا» مفعولا به وأضمرت في جاءهم فاعلا به والجملة
الاستفهامية مفعول ثان أيضا والعائد مقدر على ما تقرر في للوجه قبله والشرط معترض
وجوابه محذوف. وقد تقدم البحث مستوفى في هذا التعبير في سورة الأنعام وهذا كله
إنما يتأتى على قولنا إن «ما» استفهامية ولا يضيرنا تفسيرهم لها بالنفي فإن
الاستفهام قد يرد للنفي ، وأما إذا جعلتها نافية ، فتكون حرفا ، ولا يتأتى ذلك لأن
مفعول أرأيت الثاني
لا يكون إلا جملة استفهامية وقد ذكر هذا مفصلا كما ذكرت أقوال المعربين في
سورة الانعام فجدد به عهدا. (ما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ما استفهامية كما تقدم مفعول مقدم لأغنى وأغنى فعل ماض
وعنهم متعلقان بأغنى وما مصدرية أو موصولة وعلى كل حال هي ومدخولها أو هي وحدها
فاعل أغنى والتقدير ما أغنى عنهم تمتعهم أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة
الدنيا ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي وقيل ما نافية ولا فرق بينهما كما تقدم. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَها مُنْذِرُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل
ومن حرف جر زائد وقرية مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أهلكنا وإلا أداة
حصر ولها خبر مقدم ومنذرون مبتدأ مؤخر والجملة صفة لقرية أو حال منه وسوغ ذلك سبق
النفي وقد تقدم الزمخشري رأي جميل في مثل هذا التعبير ونعيده هنا قال : «فإن قلت
كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله : وما أهلكنا من قرية إلا
ولها كتاب معلوم؟ قلت : الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد
وصل الصفة بالموصوف كما في قوله : سبعة وثامنهم كلبهم».
(ذِكْرى وَما كُنَّا
ظالِمِينَ) مفعول لأجله على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة
والتذكرة ، وجوز أبو البقاء أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هذه ذكرى والجملة
اعتراضية ، وأعربها الكسائي حالا أي مذكرين ، وأعربها الزجاج مصدر والعامل منذرون
لأنه في معنى مذكرون ذكرى أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية ، وأعرابها الكسائي حالا
أي مذكرين ، (وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ) الواو عاطفة وما نافية وتنزلت فعل ماض وبه جار ومجرور
متعلقان بتنزلت والضمير للقرآن والشياطين فاعل تنزلت (وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) الواو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وفاعله مستتر
يعود على
القرآن ولهم متعلقان بينبغي وما يستطيعون عطف على ما ينبغي ومفعول يستطيعون
محذوف تقديره ذلك. (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الجملة تعليل لعدم استطاعتهم أن يتنزلوا به وان واسمها
وعن السمع متعلقان بمعزولون واللام المزحلقة ومعزولون خبر إن. (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) الفاء الفصيحة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والمقصود غيره ، ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ومع
ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لإلها وتقدم عليه وإلها مفعول به وآخر
صفة لإلها ، فتكون الفاء فاء السببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء
واسم تكون مستتر تقديره أنت ومن المعذبين خبر تكون. (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الواو عاطفة وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وعشيرتك مفعول به والأقربين صفة ، وسيأتي بحث واف عن هذا الانذار في باب الفوائد.
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا واخفض جناحك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به
ولمن متعلقان بأخفض وجملة اتبعك صلة من ومن المؤمنين حال. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وعصوك فعل ماض وفاعل ومفعول به
وهو في محل جزم فعل الشرط ، فقل الفاء رابطة للجواب وان واسمها وبريء خبرها ومما
متعلقان ببريء وجملة تعملون صلة وجملة اني بريء مقول القول ولذلك كسرت همزة إن. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ) عطف على ما تقدم وعلى العزيز متعلقان بتوكل. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) الذي صفة للعزيز الرحيم وجملة يراك صلة وحين ظرف متعلق
بيراك وجملة تقوم مجرورة بإضافة الظرف إليها ومتعلق تقوم
محذوف أي الى الصلاة (وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ) عطف على الكاف في يراك وفي الساجدين حال وفي بمعنى مع
أي مصليا مع الجماعة ، وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه : هل تجد الصلاة
في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية ، وقال بعضهم المراد بالساجدين المؤمنون أي
يراك متقلبا في أصلاب وأرحام المؤمنين منذ زمن آدم وحواء الى عبد الله وآمنة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران
لإن أو للضمير والجملة الاسمية خبر إن.
الفوائد :
أمر الله تعالى
رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الأقرب فالأقرب ، فلما أنزل الله تعالى «وأنذر
عشيرتك الأقربين» دعاهم الى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا
أو ينقصونه وفيهم أعمامه ، فأنذرهم فقال يا بني عبد المطلب : لو أخبرتكم أن بسفح
هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد. وروي انه قال : يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف افتدوا
أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا ، ثم قال : يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا
حفصة بنت عمر ، ويا فاطمة بنت محمد ، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني
لا أغني عنكن شيئا.
وهناك روايات
أخرى لا تخرج عن هذا المعنى نجتزىء بما تقدم منها.
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
(٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))
الاعراب :
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) كلام مستأنف مسوق لإبطال كونه كاهنا يتلقى من الشياطين
، وهل حرف استفهام وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعلى من جار
ومجرور متعلقان بتنزل وقدم للاهتمام به ولأن للاستفهام صدر الكلام ، وهو معلق لفعل
التنبئة عن العمل والجملة سدت مسد المفعولين الثاني والثالث وتنزل فعل مضارع حذفت
إحدى تاءيه والأصل تتنزل ، والشياطين فاعل تنزل.
(تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بتنزل ، وهو بدل من الجار
والمجرور قبله وأفاك مضاف الى كل وأثيم صفة وهم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح
ومسيلمة وطلحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يلقون فعل مضارع والواو فاعل وهو يعود على الشياطين
فتكون الجملة حالية أو يعود على كل أفاك أثيم من حيث أنه جمع في المعنى فتكون
الجملة مستأنفة أو صفة لكل أفاك أثيم ، ومعنى إلقائهم
السمع إنصاتهم الى الملأ الأعلى ليسترقو شيئا أو إلقاء الشيء المسموع الى
الكهنة ، والسمع مفعول به والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وكاذبون خبر والجملة حالية. (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) كلام مستأنف أيضا مسوق لإبطال كونه شاعرا كما زعموا
وسيأتي بحث ضاف عن الشعر ومن هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون في باب الفوائد
والشعراء مبتدأ وجملة يتبعهم خبر ويتبعهم فعل مضارع ومفعول به مقدم والغاوون فاعل
مؤخر. (أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) الجملة مفسرة والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي
وقلب وجزم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وفي كل
واد متعلقان بيهيمون ويهيمون فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أنهم ، ويجوز أن تعلق
الجار والمجرور بمحذوف هو الخبر وجملة يهيمون حالية ، وتمثيل ذهابهم في كل شعب من
القول بالوادي سيأتي بحثه في باب البلاغة.
(وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) جملة معطوفة. (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الشعراء المذمومين
وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة وذكروا الله عطف
أيضا وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ذكروا الله ذكرا كثيرا أو صفة لظرف زمان
محذوف أي وقتا كثيرا.
(وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا) عطف على ما تقدم وما مصدرية أي من بعد ظلمهم من إضافة
المصدر لمفعوله. (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الواو استئنافية والسين حرف استقبال ويعلم فعل مضارع
والذين فاعله وجملة ظلموا صلة وأي منقلب منصوب على المفعولية المطلقة لأن أيا تعرب
بحسب ما تضاف إليه وقد علقت يعلم
عن العمل ، هذا والعامل في أي هو ينقلبون لا يعلم لأن أسماء الاستفهام لا
يعمل فيها ما قبلها ، قال النحاس : «وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما
قبله معنى آخر فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض».
البلاغة :
في قوله تعالى
: «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» استعارة تمثيلية لطيفة وليس ثمة واد ولا شعاب
ولا هيام وانما هو تغلغل الى مناحي القول ، واعتساف في الأوصاف والتغزل والتشبيب
والنسيب وقلة مبالاة بما يهتكونه من أعراض ، ويرجفون به من أقوال ، وسيأتي تفصيل
ذلك عند الكلام على الشعر في باب الفوائد ، وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك
سمع قوله :
فبتن بجانبي
مصرعات
|
|
وبت أفض
إغلاق الختام
|
فقال قد وجب
عليك الحد ، فقال يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله «وأنهم يقولون ما
لا يفعلون».
الفوائد :
١ ـ فضل الشعر
:
واستثناء
الشعراء الصالحين الذين ينافحون دون الأوطان ، ويدعون الى الفضائل والإصلاح ،
ويصورون عيوب المجتمع وسيئاته لرأب صدوعه ، يدل على ما للشعر من مكانة سامية
ومنزلة عالية ، وقد
روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من
الشعر حكمة ، وعن ابن عباس قال : جاء أعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل
يتكلم بكلام فقال : إن من البيان سحرا وان من الشعر حكمة. أخرجه أبو داود ، وقالت
عائشة رضي الله عنها : الشعر كلام منه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح ، وقال
الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان
علي أشعر من الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين.
بين النظم
والنثر :
وقال صاحب
العمدة : «وكلام العرب نوعان : منظوم ومنثور ، ولكل منهما ثلاث طبقات : جيدة
ومتوسطة ورديئة ، فإذا اتفق الطبقتان في القدر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما
فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية لأن كل منظوم أحسن من كل منثور
من جنسه في معترف العادة ، ألا ترى أن الدر ، وهو أخو اللفظ ونسيبه ، إليه يقاس
وبه يشبه ، إذا كان منثورا لم يؤمن عليه ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب ومن
أجله انتخب ، وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا ، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال ،
وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال ، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع
وتدحرج عن الطباع.
الكذب مذموم
إلا من الشعراء :
ومن فضائله أن
الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه ، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه ،
فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل الى أخيه بجير ينهاه
عن الإسلام
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه فأرسل اليه أخوه : ويحك ان النبي
أوعدك لما بلغه عنك وقد كان أوعد رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن
خطل وابن حبابة وان من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا
في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله فإنه لا يقتل من جاء تائبا
وإلا فانج الى نجائك فإنه والله قاتلك ، فضاقت به الأرض فجاء الى رسول الله متنكرا
فما صلى البني صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ثم قال : يا رسول الله إن
كعب بن زهير قد أتى مسنأمنا تائبا أفتؤمنه فآتيك به؟ قال : هو آمن فحسر كعب عن
وجهه وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك أنا كعب بن زهير فأمنه
رسول الله وأنشد كعب قصيدته التي أولها :
بانت سعاد
فقلبي اليوم متبول
|
|
متيّم إثرها
لم يفد مكبول
|
يقول فيها بعد
تغزله وذكر شدة خوفه ووجله :
أنبئت أن
رسول الله أوعدني
|
|
والعفو عند
رسول الله مأمول
|
مهلا هداك
الذي أعطاك نافلة الق
|
|
سر آن فيها
مواعيظ وتفصيل
|
لا تأخذنّي
بأقوال الوشاة فلم
|
|
أذنب وقد
كثرت فيّ الأقاويل
|
فلم ينكر عليه
النبي قوله ، وما كان ليوعده على باطل ، بل تجاوز عنه ووهب له بردته فاشتراها منه
معاوية بثلاثين ألف درهم وقال العتبي بعشرين ألفا وهي التي توارثها الخلفاء
يلبسونها في الجمع والأعياد.
ويروى أن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم قال : أرغاء كرغاء البعير ، فقال حسان : دعني عنك يا عمر فو الله انك
لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد لمن هو خير منك فما يغير عليّ ذلك فقال عمر :
صدقت.
وقال صاحب
العمدة : «فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى «والشعراء يتبعهم
الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وانهم يقولون ما لا يفعلون» فهو غلط
وسوء تأول لأن المقصود بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالهجاء ومسّوه بالأذى فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من
ذلك ، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال : «إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا» يريد شعراء النبي
الذين ينتصرون له ويجيبون المشركين عنه كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن
رواحة وقد قال فيهم النبي صلى الله عليهم وسلم «هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نصح
النبل» وقال لحسان بن ثابت : «اهجهم ـ يعني قريشا ـ وروح القدس معك فو الله لهجاؤك
عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات» فلو أن
الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي شعراء يثيبهم على الشعر ويأمرهم بعمله ويسمعه
منهم.
وأما قوله صلى
الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا»
فإنما هو من غلب الشعراء على قلبه وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فرضه ومنعه
من ذكر الله تعالى.
وقد قال الشعر
كثير من الخلفاء الراشدين والجلّة من الصحابة والتابعين والفقهاء المشهورين : فمن
ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا :واسمه عبد الله بن عثمان ويقال : عتيق
لقب له قال في غزوة عبيدة ابن الحارث :
أمن طيف سلمى
بالبطاح الدمائث
|
|
أرقت أوامر
في العشيرة حادث
|
ترى من لؤي
فرقة لا يصدّها
|
|
عن الكفر
تذكير ولا بعث باعث
|
رسول أتاهم
صادق فتكذّبوا
|
|
عليه وقالوا
: لست فينا بماكث
|
إذا ما
دعوناهم الى الحق أدبروا
|
|
وهرّوا هرير
المجمرات اللواهث
|
فكم قد متتنا
فيهم بقرابة
|
|
وترك التقى
شيء لهم غير كارث
|
فإن يرجعوا
عن كفرهم وعقوقهم
|
|
فما طيبات
الحلّ مثل الخ
|
بائث وإن
يركبوا طغيانهم وضلالهم
|
|
فليس عذاب
الله عنهم
|
بلابث فأولى
برب الراقصات عشية
|
|
حراجيح تخدي
في السريح الر
|
ثائث كأدم
ظباء حول مكة عكف
|
|
يردن حياض
البئر ذات الن
|
بائث لئن لم
يفيقوا عاجلا من ضلالهم
|
|
ولست إذا
آليت قولا ب
|
حانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق
|
|
تحرم أطهار
النساء الط
|
وامث تغادر
قتلى تعصب الطير حولهم
|
|
ولا يرأف
الكفار رأف ابن
|
حارث فأبلغ
بني سهم لديك رسالة
|
|
وكل كفور
يبتغي الشر باحث
|
فإن شتموا
عرضي على سوء رأيهم
|
|
فإني من
أعراضهم غير شاعث
|
هذا ولا بد من
الإلماع الى أن ابن هشام قال في سيرته : «وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لأبي
بكر».
ومن شعر عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة :
هوّن عليك
فإن الأمو
|
|
ر بكف الإله
مقاديرها
|
فليس يأتيك
منهيها
|
|
ولا قاصر عنك
مأمورها
|
ومن شعره أيضا
وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه :
لا شيء مما
ترى تبقى بشاشته
|
|
يبقى الإله
ويفنى المال والولد
|
لم تغن عن
هرمز يوما خزائنه
|
|
والخلد قد
حاولت عاد فما خلدوا
|
ولا سليمان
إذ تجري الرياح له
|
|
والجنّ
والإنس فيما بينها ترد
|
حوض هنالك
مورود بلا كذب
|
|
لا بد من
ورده يوما كما وردوا
|
ومن شعر عثمان
بن عفان رضي الله عنه :
غنى النفس
يغني النفس حتى يكفّها
|
|
وإن عضّها
حتى يضر بها الفقر
|
وما عمرة ـ فاصبر
لها إن لقيتها ـ
|
|
بكائنة إلا
سيتبعها يسر
|
ومن شعر علي بن
أبي طالب ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه :
ولما رأيت
الخيل ترجم بالقنا
|
|
نواصيّها حمر
النحور دوامي
|
وأعرض نقع في
السماء كأنه
|
|
عجاجة دجن
ملبس بقتام
|
ونادى ابن
هند في الكلاع وحمير
|
|
وكندة في لخم
وحيّ جذام
|
تيمّمت همدان
الذين هم هم
|
|
ـ إذا ناب دهر ـ جنتي
وسهامي
|
فجاوبني من
خيل همدان عصبة
|
|
فوارس من
همدان غير لئام
|
فخاضوا لظاها
واستطاروا شرارها
|
|
وكانوا لدى
الهيجا كشرب مدام
|
فلو كنت
بوّابا على باب جنة
|
|
لقلت لهمدان
ادخلوا بسلام
|
ومن شعر الحسن
بن علي وقد خرج على أصحابه مختضبا ، رواه المبرد :
تسوّد أعلاها
وتأبى أصولها
|
|
فليت الذي
يسودّ منها هو الأصل
|
ومن شعر الحسين
بن علي وقد عاتبه أخوه الحسن في امرأته :
لعمرك انني
لأحب دارا
|
|
تحل بها
سكينته والرباب
|
أحبهما وأبذل
جلّ مالي
|
|
وليس للائمي
عندي عتاب
|
ومن الخلفاء
كثيرون قالوا الشعر فمن شعر عمر بن عبد العزيز :
أيقظان أنت
اليوم أم أنت حالم
|
|
وكيف يطيق
النوم حيران هائم
|
فلو كنت
يقظان الغداة لحرقت
|
|
جفونا لعينيك
الدموع الس
|
واجم نهارك
يا مغرور سهو وغفلة
|
|
وليلك نوم
والردى لك
|
لازم وتشغل
فيما سوف تكره غبّه
|
|
كذلك في
الدنيا تعيش البهائم
|
واشتهر من
الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي بالشعر فكان من أحسن الناس افتنانا بالشعر ، وهو
القائل :
ومتعب العيس
مرتاحا إلى بلد
|
|
والموت يطلبه
في ذلك البلد
|
وضاحك
والمنايا فوق مفرقه
|
|
لو كان يعلم
غيبا مات من كمد
|
من كان لم
يؤت علما في بقاء غد
|
|
ماذا تفكره
في رزق بعد غد
|
ومن روائعه
المشهورة قوله في الحظ :
الجدّ يدني
كلّ شيء شاسع
|
|
والجدّ يفتح
كل باب مغلق
|
فإذا سمعت
بأن مجدورا حوى
|
|
عودا فأورق
في يديه
|
فصدق وإذا
سمعت بأن محروما أتى
|
|
ماء ليشربه
فجفّ
|
فحقق وأحقّ
خلق الله بالهم امرؤ
|
|
ذو همة يبلى
برزق
|
ضيق ولربّما
عرضت لنفسي فكرة
|
|
فأودّ منها
أنني لم أخلق
|
وحسبنا ما تقدم
من الاستشهاد فذلك قد يخرج بنا عن الغرض.
نصائح بوالو
للشاعر :
هذا ونختم
المبحث بالنصائح القيمة التي أوردها الكاتب الفرنسي بوالو للشاعر وخلاصتها : انه
على الشاعر أن يتنزه عن الإباحية ، صحيح ان تصوير الحب مباح ولكن بحيث لا يكون في
هذا التصوير أي نوع من أنواع التبذّل ، وينبغي أن يتجرد من الغيرة ، إنها آفة من
آفات رجال الأدب وهي رذيلة إن وجدت في أحدهم دلت على ضعف مواهبه.
ثم ينبغي عليه
أن يكون طيب الصحبة ممتع الحديث ، ثم إن مما يشين شاعرا من الشعراء أن يوجه همه
الى كسب المال ، كما يجدر به ـ على
العكس ـ أن يسعى لبلوغ المجد ، وعليه أن لا يحطّ من قدر الشعر ذلك الفن
الإلهي الذي هذب فيما مضى النفوس وألهب فيها الوطنية وعلم الحكمة والفضيلة.
٢ ـ من هو سطيح
الكاهن :
روى التاريخ أن
سطحيا الغساني كان أكهن الناس وقد أنذر بسيل العرم وكان جسده يدرج كما يدرج الثوب
خلا جمجمة رأسه وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها وكان أبدا منسطحا على الأرض
عاش ١٥٠ سنة على ما قيل ، ومات في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ،
ومن كهانته انه لما كان ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى
فسقطت منه أربع عشرة شرفة فأعظم ذلك أهل المملكة وكتب الى كسرى صاحب الشام أن وادي
السماوة قد انقطع في تلك الليلة وكتب إليه صاحب اليمن أن بحيرة ساوة غاضت تلك
الليلة وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية وكتب إليه
صاحب فارس أن النار خمدت تلك الليلة فلما تواترت عليه الكتب أظهر سريره وبرز الى أهل
مملكته فأخبرهم الخبر فقال الموبذان : أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني
، رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، حتى اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا قال فما
عندك في تأويلها؟ قال :ما عندي شيء ولكن أرسل الى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلا
من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان فوجه اليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني
فأخبره كسرى بالخبر فقال : أيها الملك ما عندي فيها من شيء ولكن جهزني الى خالي
سطيح فجهزه فلما قدم عليه وجده قد احتضر فناداه فلم يجبه فقال :
أصمّ أم يسمع
غطريف اليمن
|
|
أتاك شيخ
الحيّ من آل سنن
|
أبيض فضفاض
الرداء والرسن فرفع اليه سطيح رأسه وقال : عبد المسيح ، على جمل مشيح ، أقبل الى
سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان ، لارتجاج الإيوان ، وخمود
النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، حتى اقتحمت الواد
وانتشرت في البلاد ، يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة ، وفاض وادي السماوة ، وظهر
صاحب الهراوة ، فليست الشام لسطيح بشام يملك منهم ملوك وملكات ، بعدد ما سقط من
الشرفات ، وكل ما هو آت آت ثم قال :
إن كان ملك
بني ساسان أفرطهم
|
|
فإن ذا الدهر
أطوار دهارير
|
منهم بنو
الصرح بهرام وأخوته
|
|
والهرمزان
وسابور وسابور
|
فربما أصبحوا
منهم بمنزلة
|
|
يهاب صولهم
الأسد المهاصير
|
حثوا المطي
وجدوا في رحيلهم
|
|
فما يقوم لهم
سرج ولا كور
|
والناس أبناء
علات فمن علموا
|
|
أن قد أقل
فمحقور وم
|
هجور والخير
والشر مقرونان في قرن
|
|
والخير متبع
والشر محذور
|
فأتى كسرى
فأخبره فغمّه ذلك فقال : الى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يدور الزمان فملكوا كلهم
في أربعين سنة.
سورة النمل
مكيّة وآياتها ثلاث
وتسعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ
فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))
الاعراب :
(طس. تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) طس تقدم الكلام على اعرابها ومعناها في بحث فواتح
السور. وتلك مبتدأ وآيات القرآن خبر وكتاب مبين عطف على القرآن ومبين صفة ، وسيأتي
سر التنكير والعطف في باب البلاغة. (هُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ) يجوز في هدى النصب على الحال والعامل فيها ما في تلك من
معنى الاشارة أي هاديه ومبشرة ويجوز فيها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هي
هدى وبشرى ، ومعنى هداها للمؤمنين وهم مهديون زيادتها في هداهم.
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمؤمنين ولك أن تقطعه على أنه خبر لمبتدأ
محذوف أي هم الذين وجملة يقيمون الصلاة صلة الذين وجملة يؤتون الزكاة عطف على
يقيمون الصلاة وهم الواو للحال وهم مبتدأ أو للعطف وجملة يوقنون خبره وبالآخرة
متعلقان بيوقنون وهم مبتدأ جيء للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة
وسيأتي سر التغيير في النظم في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان السبب في عدم إيمانهم وتحيرهم
وتردّدهم في أعمالهم ، وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الذين وبالآخرة جار ومجرور
متعلقان بيؤمنون وجملة زينا خبر إن وزينا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينا وأعمالهم
مفعول به والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعمهون خبره أي يتحيرون ويترددون بين تركها
لأنها واضحة البطلان ظاهرة السوء وبين الاستمرار عليها ، وقيل معنى يعمهون يستمرون
من غير تردد إذ لم يدر في خلدهم لحظة الإقلاع عنها وهو جميل وقوي ولكن العمه هو
كما يقول الزمخشري وغيره من أئمة اللغة التردد والتحير كما يكون حال الضالّ عن
الطريق ، وعن بعض الأعراب أنه دخل السوق وما أبصرها قط فقال : رأيت الناس عمهين
أراد مترددين في أعمالهم وأشغالهم ، وتكاد تجمع معاجم اللغة على أن العمه مصدر عمه
يعمه ويعمه من باب ضرب وفتح عمها وعموها وعموهية وعمهانا أي تحير في طريقه أو أمره
وتردد في الضلال فهو عمه وجمعه عمهون وعامه وجمعه عامهون وعمّه.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره ولهم خبر مقدم وسوء العذاب
مبتدأ مؤخر
والجملة صلة وهم مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بالأخسرون والأخسرون خبره وهم
مبتدأ جيء به للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وقد تقدم بحثه ، هذا
ولا بد من الاشارة الى أن قوله «الأخسرون» يحتمل أنها على بابها من التفضيل وذلك
بالنسبة للكفار ويحتمل أنها للمبالغة لا للتشريك لأن المؤمن لا خسران له في الآخرة
البتة. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تلقى
خبرها ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والقرآن مفعول به ثان ومن لدن الجار والمجرور
متعلقان بتلقى وحكيم مضاف اليه وعليم صفة.
البلاغة :
١ ـ التنكير :
التنكير فقد
نكر الكتاب المبين ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له ، ومثله في «مقعد صدق عند مليك
مقتدر» أما عطفه على القرآن مع أنه هو القرآن نفسه فهو من قبيل عطف إحدى الصفتين
على الأخرى كقولك : هذا فعل السخي والجواد الكريم ولأن المعطوف فيه صفة زائدة على
مفهوم المعطوف عليه.
٢ ـ تكرير
الضمير :
وفي قوله «وهم
بالآخرة هم يوقنون» كرر الضمير حتى صار معنى الكلام ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان
إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل
المشاق ، وقد سبق لنا أن ذكرنا أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر كما مر في قوله
تعالى : «هم ينشرون» ان معناه لا ينشر إلا هم ، وأما وجه تكراره هنا فهو
انه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع
فاصلا بين المبتدأ والخبر فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما فطري
ذكره ليلية الخبر ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدما
ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التطرية.
٣ ـ التعبير
بالاسمية والفعلية :
قلنا في مواطن
من هذا الكتاب إن التعبير يكون أحيانا بالجملة الاسمية وأحيانا بالجملة الفعلية
على أن ذلك ليس متروكا الى الاعتباط وإنما يعدل عن أحد التعبيرين لضرب من التأكيد
والمبالغة والاستمرار والانقطاع ، فإن الايمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب
دوامه ولذلك أتى به جملة اسمية وجعل خبرها فعلا مضارعا فقال «وهم بالآخرة هم
يوقنون» للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد أما إقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة ولذلك أتى بهما فعلين فقال «الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة».
الفوائد :
أورد الامام
الزمخشري سؤالا في هذا الصدد بناء على قاعدته الاعتزالية وهو «فإن قلت : كيف أسند
تزيين أعمالهم الى ذاته وقد أسنده الى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم.
وقد أجاب بقوله : «قلت : بين الاسنادين فرق وذلك أن إسناده الى الشيطان حقيقة
وإسناده الى الله عز وجل مجاز ، وله طريقان في علم البيان أحدهما : أن يكون من
المجاز الذي يسمى الاستعارة ، والثاني أن
يكون من المجاز الحكمي ، فالطريق الاول انه لما متعهم بطول العمر وسعة
الرزق وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم
وإيثارهم الروح والترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة والمشاق
المتعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، واليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في
قوله «ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر» والطريق الثاني أن إمهاله الشيطان
وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند اليه لأن المجاز الحكمي يصححه
بعض الملابسات. وقيل هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم
فعمهوا عنها وضلوا ، ويعزى الى الحسن.
وقد أجاب أهل
السنة بأن هذا الجواب مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح
وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة ، فمن ثم جعل التزيين الى الله
تعالى مجازا والى الشيطان حقيقة ولو عكس الجواب لفاز بالصواب ، وتأمل ميله الى
التأويل الآخر من أن المراد أعمال البر على بعده لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض ،
على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى : «ولكن الله حبب إليكم الإيمان
وزينه في قلوبكم» على أن غالب وروده في غير البر كقوله :«زين للناس حب الشهوات» ، «زين
للذين كفروا الحياة الدنيا» و «كذلك زين للمسرفين» ومما يبعد حمله على أعمال البر
إضافة الأعمال إليهم في قوله : أعمالهم ، وأعمال البر ليست مضافة إليهم لأنهم لم يعملوها
قط فظاهر الاضافة يعطي ذلك ، ألا ترى الى قوله تعالى : «ولما يدخل الايمان في
قلوبكم» وقوله : «قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان»
فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم ، وأضاف الإسلام
الظاهر إليهم لأنه صدر منهم.
(إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ
بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا
مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ
ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))
اللغة :
(آنَسْتُ) أبصرت من بعيد ، ويقال آنست نارا وآنست فزعا وآنست منه
رشدا ، فهو يطلق على المادي والمعنوي.
(بِشِهابٍ قَبَسٍ) يقرأ بالاضافة وتركها كما سيأتي في الاعراب ، والشهاب
كل مضيء متولد من النار ، وما يرى كأنه كوكب انقض ، والكوكب عموما ، والسنان لما
فيه من البريق ، وجمعه شهب وشهبان
وشهبان وأشهب ، ويقال فلان شهاب حرب إذا كان ماضيا فيها ، والقبس بفتحتين
النار المقبوسة تقول خذ لي قبسا من النار ومقبسا ومقباسا واقبس لي نارا واقتبس ،
ومنه ما أنت إلا كالقابس العجلان أي المقتبس وما زورتك إلا كقبسة العجلان ، وتقول
ما أنا إلا قبسة من نارك ، وقبضة من آثارك ، وقبسته نارا وأقبسته كقولك بغيته
الشيء وأبغيته ومن المجاز قبسته علما وخبرا وأقبست.
(تَصْطَلُونَ) : فيه الابدال لأن أصله تصتلون فلما وقعت تاء الافتعال
بعد حرف الاطباق وهو الصاد قلبت طاء على القاعدة وهو من صلي بالنار بكسر اللام وفي
المصباح «صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها والصلاء بوزن كتاب حر النار
وصليت اللحم أصليه من باب رمى : شويته» وفي الأساس : «وصلي النار وصلي بها» «يصلى
النار الكبرى» وتصلّاها وتصلّى بها وأصلاه وصلّاه ، وشاة مصليّة : مشوية وقد
صليتها».
(جَانٌّ) : حية خفيفة الحركة ، وقال في القاموس والتاج :«والجانّ
اسم جمع للجن ، وحية أكحل العين لا تؤذي كثيرة في الدور» قالوا وهي كبيرة جدا وإن
كانت خفيفة في سرعة الحركة.
(وَلَمْ يُعَقِّبْ) : ولم يرجع ، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال :
فما عقبوا إذ
قيل هل من معقب
|
|
ولا نزلوا
يوم الكريهة منزلا
|
يصف قوما
بالجبن وانهم إن قيل : هل من معقب وراجع على عقبه للحرب لم يرجعوا إليها ، ولا
نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها ،
وفي المختار : «وتقول : ولى مدبرا ولم يعقب بتشديد القاف وكسرها أي لم يعطف
ولم ينتظر».
(جَيْبِكَ) : طوق قميصك وسمي جيبا لأنه يجاب أي يقطع ليدخل فيه
الرأس.
(وَاسْتَيْقَنَتْها) : الاستيقان أبلغ من الإيقان فلا معنى لقول بعض
المفسرين أن السين لمجرد الزيادة.
الاعراب :
(إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ : إِنِّي آنَسْتُ ناراً) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص خمس من قصص الأولين الأولى
قصة موسى وتليها قصة النمل وتليها قصة بلقيس وتليها قصة صالح وتليها قصة لوط.
والظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر وقد تقدم كثيرا تقرير ذلك وجملة قال في محل
جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولأهله متعلقان بقال وجملة إني آنست نارا مقول
القول وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. وأهله عبارة عن زوجه بنت شعيب
وولده وخادمه وذلك عند فقوله من مدين الى مصر ليجتمع بأمه وأخيه في مصر وقيل لم
يكن معه غير امرأته وقد كنى الله عنها بالأهل وتبعا لذلك أورد الخطاب بالجمع. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ
آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) الجملة استئنافية وآتيكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره
أنا والكاف مفعول به وجاء بسين التسويف للاشارة إلى أنه عائد وإن أبطأ فربما كانت
المسافة بعيدة ، ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخبر وبخبر
متعلقان بآتيكم ، وأو حرف عطف ، وللعدول عن الواو الى أو سر سيأتي في باب البلاغة
، وآتيكم عطف على آتيكم الأولى وبشهاب متعلقان بآتيكم وقبس بدل من شهاب أو
نعت له على تأويله بالمفعول أي شهاب مقتبس من نار وقرئ بالاضافة لأن الشهاب
يكون قبسا وغيره كالكوكب فهو من إضافة النوع الى جنسه كخاتم فضة وثوب خز وهي بمعنى
من ، ولعلكم تصطلون جملة الرجاء حالية ولعل واسمها وخبرها أي راجيا تأمين الدفء
لكم وتوفيره.
(فَلَمَّا جاءَها
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) الفاء عاطفة على محذوف للاختصار ولما ظرفية حينية أو
رابطة وجاءها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير
جازم ونائب فاعل نودي ضمير مستتر تقديره هو يعود على موسى ، وأن هي المفسرة لأن في
النداء معنى القول دون حروفه والمعنى قيل له بورك ويجوز أن تكون على حالها أي
ناصبة للفعل المضارع وقد دخلت على الماضي ، أو مخففة من الثقيلة ، وأن وما بعدها
في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن بورك ، وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا
لأنها واهنة ، وبورك فعل ماض مبني للمجهول ومن نائب فاعل وفي النار جار ومجرور
متعلقان بمحذوف صلة من أي في مكان النار ، ومن حولها عطف على من في النار والمراد
بمن إما الله تعالى على حذف أي قدرته وسلطانه وقيل المراد موسى وقيل المراد بمن غير
العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها.
(وَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والله
مضاف اليه ورب العالمين بدل أو نعت.
(يا مُوسى إِنَّهُ
أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم وان واسمها والهاء
إما ضمير الشأن أو راجعة الى ما دل عليه ما قبلها يعني ان مكلمك ، وأنا مبتدأ الله
خبر والجملة خبر إن والعزيز الحكيم صفتان. (وَأَلْقِ عَصاكَ
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو حرف عطف وألق فعل أمر مبني على حذف حرف
العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والكلام معطوف على بورك لأن المعنى
نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك وهذا ما يرجح كون أن مفسرة كما تقدم وعصاك
مفعول ، فلما الفاء عاطفة على محذوف أي فألقاها فاستحالت حية فلما ، ولما ظرف
بمعنى حين أو رابطة وجملة رآها في محل جر بإضافة الظرف اليه ورآها فعل وفاعل
ومفعول به وجملة تهتز في محل نصب على الحال لأن الرؤية هنا بصرية ، وكأنها جان كأن
واسمها وخبرها والجملة في محل نصب حال ثانية أو هي حال من ضمير تهتز فهي حال
متداخلة وجملة ولى لا محل لها ومدبرا حال من فاعل ولى والواو حرف عطف ولم حرف نفي
وقلب وجزم ويعقب فعل مضارع مجزوم بلم. (يا مُوسى لا تَخَفْ
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف لا بد من تقديره أي قال تعالى
ويا موسى منادى مفرد علم ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وان واسمها وجملة لا
يخاف خبرها والجملة تعليلية للنهي عن الخوف ولدي ظرف متعلق بيخاف والمرسلون فاعل. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع ومن
اسم موصول مستثنى في موضع نصب ويجوز أن تكون شرطية فتكون مبتدأ والجملة مستثناة من
أعم الأحوال وظلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ثم بدل عطف على ظلم وحسنا مفعول به
وبعد سوء ظرف متعلق بمحذوف صفة لحسنا. (فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ) الفاء واقعة في جواب «من» على الوجهين وان واسمها
وخبراها.
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ
فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) الواو عاطفة وأدخل عطف على وألق عصاك ويدك مفعول به وفي
جيبك متعلقان بأدخل وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وفاعل تخرج ضمير مستتر
تقديره هي وبيضاء حال من فاعل تخرج ومن غير سوء
متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل وقد تقدم هذا في «طه» واختار أبو
البقاء أن يكون الجار والمجرور حالا أخرى واختار السمين أن يكون صفة لبيضاء. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) كلام مستأنف وحرف الجر يتعلق بالفعل المحذوف أي اذهب في
تسع آيات الى فرعون ، وقدره بعضهم بمحذوف أي مرسلا فيكون محله النصب على الحال
والأول أولى وله نظائر قال :
فقلت الى
الطعام فقال منهم
|
|
فريق يحسد
الإنس الطعاما
|
وهناك أقوال
متشعبة للمعربين سنوردها في باب الفوائد لصقل الأذهان.
وقومه عطف على
فرعون وجملة انهم تعليل للأمر بالذهاب وجملة كانوا خبر إن وقوما خبر كانوا وفاسقين
صفة وقد تقدمت الآيات التسع.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم ذلك كثيرا ومبصرة حال
وسيأتي معناها في باب البلاغة وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وسحر خبر ومبين
صفة والجملة مقول القول. (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وجحدوا عطف على قالوا وبها متعلقان بجحدوا والواو للحال
وقد بعدها مضمرة واستيقنتها أنفسهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وظلما مفعول
لأجله لأنه علة للجحد أو حال من فاعل جحدوا أي ظالمين مستكبرين. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة وأنظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة المفسدين اسم كان والجملة معلقة
لا نظر عن العمل فهي محل نصب بنزع الخافض لأن انظر بمعنى تفكر.
البلاغة :
١ ـ استعمال «أو»
بدل الواو :
في قوله : «آنست
نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون» آثر «أو» على الواو لنكتة
بلاغية رائعة فإن أو تفيد التخيير وقد بنى رجاءه على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا
فلن يعدم واحدة منهما وهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار هضما لنفسه
واعترافا بقصوره نحو ربه ، وقد كانت الليلة شاتية مظلمة وقد ضل الطريق وأخذ زوجته
المخاض ، وهذا موطن تزلق فيه أقلام الكتاب الذين لا يدركون أسرار البيان وخاصة في
استعمال الحروف العاطفة والجارة وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن.
٢ ـ المجاز
العقلي :
في إسناد
الإبصار الى الآيات في قوله «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة» ويجوز أن يكون المجاز
مرسلا والعلاقة السببية لأنها سبب الإبصار وهذا أولى من قول بعضهم إن «مبصرة» اسم
فاعل والمراد به المفعول أطلق اسم الفاعل على المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها
وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر.
الفوائد :
أقوال المعربين
في «في تسع آيات» :
تشعبت أقوال
المعربين في إعراب هذه الآية وهي «في تسع آيات الى فرعون وقومه» وقد اخترنا لك في
الاعراب أمثلها وأسهلها ،
وسنورد بقية الوجوه لأنها واردة ومعقولة لتشحذ ذهنك وتختار منها ما تراه
أدنى الى المنطق فالاعراب منطق قبل كل شيء.
أما الزمخشري
فقد اكتفى بالوجه الذي اخترناه في الاعراب قال : «في تسع آيات كلام مستأنف وحرف
الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات أي في جملة تسع آيات وعدادهن ،
ولقائل أن يقول : كانت الآيات احدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا ، والتسع :الفلق
والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في
مزارعهم».
وقال أبو
البقاء : «في تسع» حال ثالثة ، وأراد بالحالين الأولى والثانية قوله بيضاء وقوله من
غير سوء ، والى فرعون متعلقة بمحذوف تقديره مرسلا الى فرعون ويجوز أن يكون صفة
لتسع أو لآيات أي واصلة الى فرعون.
وجعل الزجاج «في»
بمعنى «من» وعلقها بألق قال : كما تقول خد لي من الإبل عشرا فيها فحلان أي منها
فحلان.
وأما ابن عطية
فقد أيّد الزجاج في تعليقها بألق وجعل «في» بمعنى «مع» لأن اليد والعصا حينئذ
داخلتان في الآيات التسع وقال :تقديره يمهد لك ذلك وينشره في تسع. وقال آخرون هو
كما قال ابن عطية وتكون اليد والعصا خارجتين من التسع.
واختار الجلال
أن تتعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير تخرج ، وقد صرح بهذا المحذوف في سورة «طه» حيث
قال هناك : «تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» فالمعنى هنا حال كونها آية مندرجة في
جملة الآيات التسع.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى
كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
(١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً
تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))
اللغة :
(مَنْطِقَ الطَّيْرِ) المنطق مصدر نطق ينطق من باب ضرب نطقا ومنطقا ونطوقا أي
تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني ، والمنطق الكلام وقد يستعمل في غير الإنسان
يقال : سمعت منطق الطير ، وقال البيضاوي : «والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ
يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد وقد يطلق على كل
ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان
والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث
أنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات لا سيما وفيها ما يتفاوت بتفاوت
الأغراض بحيث يفهمها ما هو من جنسه».
وزاد الزمخشري
على ما قاله البيضاوي : «وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح
فيه إلا مفردات الكلم».
هذا ويبدو أن
الأصل الاشتقاقي لكلمة المنطق يظهرنا على الصلة الوثيقة بين الفكر واللغة فإن
الحيوان المفكر هو وحده الحيوان المتكلم وليست اللغة مجرد أداة اصطنعها العقل
البشري للتعبير عن أغراضه ومراميه بل هي أيضا وسيلة الى التجرد عن الأعراض الحسية
واصطناع بعض الرموز أو الدلالات المعنوية.
وعلم المنطق هو
علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في
الأخطاء وفي الأحكام كما انه يهتم بالتعرف على المناهج المختلفة في دراساتهم
المتعددة وأبحاثهم المتباينة ، حقا ان موضوع المنطق هو التفكير الانساني بصفة عامة
ولكن المنطق لا يقتصر على وصف العمليات الذهنية التي نقوم بها حين نفكر أو نحكم أو
نجرد أو تتذكر أو نحل مشكلة بل هو يريد أيضا أن يعيننا على التمييز بين الحكم
الصحيح والحكم الخاطئ ، بين الاستدلال السليم والاستدلال الفاسد.
وقد اهتم فلاسفة
اليونان الأقدمون بدراسة العلاقة بين صورة الفكر ومادته أي بين الناحية الشكلية
للأحكام أو القضايا ومضمون التفكير نفسه فنشأت من ذلك مباحث جدلية كانت هي النواة
الأولى لعلم المنطق ، وهكذا اهتم سقراط وأفلاطون بالبحث في مغالطات السوفسطائيين
فوضعا للرد عليهم أصول التفكير الجدلي السليم ، ثم
جاء أرسطو فاستفاد من دراسات السابقين عليه في تكوين التصورات والقسمة
المنطقية وطرق إيراد البرهنة ووضع هذا كله في كتاب مشهور أطلق عليه اسم «التحليلات
الأولى» وان كان أرسطو لم يستعمل كلمة المنطق فإن المؤرخين قد أجمعوا على مبايعته
بأمارة المنطق.
أما في العصور
الحديثة فقد ثار كل من بيكون وديكارت على منطق أرسطو بدعوى أنه منطق صوري مجدب ،
ثم فطن المناطقة أخيرا الى ضرورة تخليص الفكر من سحر الألفاظ وتحريره من سلطان
اللغة فحاولوا أن يجعلوا من المنطق علما رياضيا يصوغ العمليات الذهنية في رموز
جبرية.
(يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم
التوالي وسلاف العسكر يعني متقدميهم كما في الصحاح ، وفي المختار : «وزعه يزعه
وزعا مثل وضعه يضعه وضعا أي كفه فاتزع هو أي كفّ ، وأوزعه بالشيء أغراه به
واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني والوازع الذي يتقدم الصف فيصلحه
ويقدم ويؤخر وجمعه وزعة ، وقال الحسن : لا بد للناس من وازع أي من سلطان يكفهم ،
يقال وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم».
(نَمْلَةٌ) : النمل والنمل بضم الميم : حيوان حريص على جمع الغذاء
يتخذ قرى تحت الأرض فيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبا وذخائر
للشتاء ، الواحدة نملة ونملة للذكر والأنثى والجمع نمال.
وحكى الزمخشري
عن أبي حنيفة أنه وقف على قتادة وهو يقول :سلوني فأمر أبو حنيفة شخصا سأل قتادة عن
نملة سليمان هل كانت
ذكرا أم أنثى فلم يجب فقيل لأبي حنيفة في ذلك فقال كانت أنثى واستدل بلحاق
العلامة ، قال الزمخشري : «وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على
المذكر والمؤنث فيميز بينهما بعلامة نحو حمامة ذكر وحمامة أنثى».
ولا أدري أأعجب
منه أم من أبي حنيفة ان يثبت ذلك عنه. وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على
الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس يقال نملة ذكر ونملة أنثى كما يقال حمامة ذكر
وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل
لفظها وان كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل ، ألا ترى الى قوله عليه
الصلاة والسلام لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء ، كيف أخرج هذه الصفات على
اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة ، فحينئذ قوله تعالى «نملة» روعي فيه
تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل على حد سواء. وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا
البحث.
(أَوْزِعْنِي) : ألهمني ، وحقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي واكفه
وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك. وقد تقدم شرح هذه المادة.
الاعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الواو استئنافية والكلام مستأنف للشروع في القصة
الثانية وهي قصة داود وسليمان ، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وآتينا فعل
وفاعل وداود مفعول به وسليمان عطف على داود وعلما مفعول به ثان. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
فَضَّلَنا
عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو حرف عطف وقالا معطوف على مقدر تقديره فعملا بما
أعطيا بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة وعملا به باللسان فقالا. والحمد
مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول والذي اسم موصول صفة لله وجملة فضلنا صلة وعلى
كثير متعلقان بفضلنا ومن عباده صفة لكثير والمؤمنين صفة لعباده.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) الواو استئنافية وورث سليمان داود فعل وفاعل ومفعول به
وقال عطف على ورث ويا أيها الناس تقدم اعرابها وعلمنا فعل ماض مبني للمجهول ونا
نائب فاعل ومنطق الطير مفعول به ثان. (وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) وأوتينا عطف على علمنا ومن كل شيء متعلقان بأوتينا وإن
هذا ان واسمها وهو كلام مستأنف مسوق على سبيل إيراد الشكر والمحمدة واللام
المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والفضل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والمبين
صفة للفضل.
(وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية وحشر فعل ماض مبني للمجهول ولسليمان
متعلقان بحشر وجنوده نائب فاعل ومن الجن والانس والطير حال من جنوده والفاء
الفصيحة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر وسيأتي في باب البلاغة ما يرويه التاريخ عن
معسكر سليمان.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ) حتى حرف غاية لمحذوف تقديره فساروا حتى إذا أتوا ،
ويجوز أن يكون غاية ليوزعون لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض
حتى إذا أتوا ، وعلى وادي النمل جار ومجرور متعلقان بأتوا وسيأتي سر تعليقه بأتوا
في باب البلاغة ، وجملة قالت نملة لا محل لها ويا أيها النمل تقدم اعرابها وادخلوا
مساكنكم فعل
وفاعل ومفعول به على السعة وسيأتي ما قاله السيوطي في الإتقان عن قول
النملة. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله أي لا تكونوا بحيث
يحطمونكم ويجوز أن يكون الكلام بدلا من جملة الأمر مثله وهو ادخلوا مساكنكم.
وقد تصدى
الزمخشري لهذا التعبير فقال «فإن قلت لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا
للأمر وان يكون نهيا بدلا من الأمر والذي جوز أن يكون بدلا منه أنه في معنى لا
تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقه لا أرينك هاهنا» ولا ناهية ويحطمنكم فعل مضارع
مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وسليمان فاعل وجنوده عطف على
سليمان وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسمع قولها
المذكور فتبسم ، وضاحكا حال مؤكدة وسيأتي سر ما أضحكه في باب الفوائد ومن قولها
متعلقان بضاحكا. (وَقالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى
والِدَيَّ) وقال عطف على فتبسم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم
المحذوفة وحرف النداء محذوف وأوزعني فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في
حيزها مفعول ثان لأوزعني لأنه مضمن معنى الإلهام أو نصب بنزع الخافض أي بأن أشكر
نعمتك ، والتي صفة لنعمتك وجملة أنعمت صلة وعليّ متعلقان بأنعمت وعلى والدي عطف
على عليّ. (وَأَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ) جملة معطوفة.
(وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وأدخلني فعل دعاء وفاعل ومفعول به
وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال والباء للسببية وفي عبادك متعلقان بأدخلني والصالحين
نعت لعبادك.
البلاغة :
اشتملت هذه
الآيات على فنون شتى ندرجها فيما يلي :
١ ـ التنكير
وأسراره :
ففي قوله : «وقد
آتينا داود وسليمان علما» التنكير وفائدته إفادة التبعيض والتقليل أو إفادة
التعظيم والتكثير ، والثاني هو المراد هنا ؛ فظاهر قوله في ولقد آتينا داود
وسليمان علما في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه كأنه قال علما أي علم وهو
كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات ،
على أن كل علم بالاضافة الى علم الله قليل ضئيل.
قصة رائعة :
ونورد هنا قصة
مروية جريا على عادتنا في إدراج القصص المروية لتكون مصدر إلهام للكتاب ومعالم صبح
لهم ، قال مقاتل : كان سليمان جالسا في معسكره ، وكانت مساحته مائة فرسخ في مائة ،
خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش ، وقد
نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، فمر به طائر يطوف وفي رواية
رأى بلبلا على شجرة فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ قالوا : الله ونبيه
أعلم قال : يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، ومر بهدهد فوق شجرة فقال :
استغفروا الله يا مذنبون ، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا
، وصاح طاوس فقال يقول : كما تدين تدان ، وصاح طيطوى فقال يقول : كل حي ميت وكل
جديد بال ، وصاح خطاف فقال يقول : قدموا خيرا تجدوه ، وصاح قمري
فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، وقال الحدأ يقول : كل شيء هالك إلا
وجهه ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والديك
يقول : اذكروا الله يا غافلون ، والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت ،
والعقاب يقول في البعد من الناس أنس ، والضفدع يقول : سبحان ربي الأعلى.
٢ ـ استعمال
حرف الجر :
وقال «حتى إذا
أتوا على وادي النمل» فعدّى أتوا بعلى لأن الإتيان كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء
وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية فقال :
فلشد ما
جاوزت قدرك صاعد
|
|
ولشدّ ما
قربت عليك الأنجم
|
فقد عنى
بالأنجم أبيات شعره ويقول : ما أشد ما تجاوزت قدرك حتى بعثت تسألني المديح ومسألتك
إياي مدحك تجاوز منك لقدرك حين طلبت أن تهبط الأنجم من سمواتها لتكون قريبة منك ،
وهذا البيت من أمض الهجاء وأقذعه وهو من قصيدة لأبي الطيب المتبني فقد سافر من
الرملة يريد أنطاكية فنزل بطرابلس وبها اسحق بن ابراهيم الأعور بن كيغلغ وكان
جاهلا يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة ، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة
فقالوا له أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك ، وجعلوا يغرونه فراسله أن يمدحه فاحتج عليه
بيمين لحقته لا يمدح أحدا الى مدة ، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة ، وأخذ عليه
الطريق وضبطها ، ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما فهجاه
أبو الطيب المتنبي وأملاها على من يثق به ، فلما ذاب الثلج
خرج كأنه يسير فرسه وسار الى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا فأعجزهم
وظهرت القصيدة وأولها :
لهوى النفوس سريرة
لا تعلم
|
|
عرضا نظرت
وخلت أني أسلم
|
ومن أبياته
الحكيمة فيها :
ولقد رأيت
الحادثات فلا أرى
|
|
يققا يميت
ولا سوادا يعصم
|
والهم يخترم
الجسيم نحافة
|
|
ويشيب ناصية
الصبيّ ويهرم
|
ذو العقل
يشقى في النعيم بعقله
|
|
وأخو الجهالة
في الشقاوة ينعم
|
والناس قد
نبذوا الحفاظ فمطلق
|
|
ينسى الذي
يولى وعاف يندم
|
لا يخدعنّك
من عدوّ دمعه
|
|
وارحم شبابك
من عدوّ ترحم
|
لا يسلم
الشرف الرفيع من الأذى
|
|
حتّى يراق
على جوانبه الدّم
|
والظلم من
شيم النفوس فإن تجد
|
|
داعفة فلعلّة
لا يظلم
|
ثم تطرق الى
هجاء ابن كيغلغ فقال وأقذع :
يحمي ابن
كيغلغ الطريق وعرسه
|
|
ما بين
رجليها الطريق الأعظم
|
أقم المسالح
وق شفر سكينة
|
|
إن المنيّ
بحلقتيها خضرم
|
وارفق بنفسك
إنّ خلقك ناقص
|
|
واستر أباك
فإنّ أصلك مظلم
|
واحذر مناوأة
الرجال فإنما
|
|
تقوى على كسر
العبيد وتقدم
|
وغناك مسألة
وطيشك نفخة
|
|
ورضاك فيشلة
وربك درهم
|
ثم يعود الى
الحكمة الملائمة فيقول :
ومن البلية
عذل من لا يرعوي
|
|
عن غيّه
وخطاب من لا يفهم
|
يمشي بأربعة
على أعقابه
|
|
تحت العلوج
ومن وراء يلجم
|
وجفونه ما
تستقر كأنها
|
|
مطروفة أو
فتّ فيها
|
حصرم وإذا
أشار محدثا فكأنه
|
|
قرد يقهقه أو
عجوز
|
تلصم يقلى
مفارقة الأكفّ قذاله
|
|
حتى يكاد على
يد يت
|
عمّم وتراه
أصغر ما تراه ناطقا
|
|
ويكون أكذب
ما يكون و
|
يقسم والذل
يظهر في الذليل مودة
|
|
وأودّ منه
لمن يودّ ال
|
أرقم ومن
العداوة ما ينالك نفعه
|
|
ومن الصداقة
ما يضر ويؤلم
|
والقصيدة كلها
من هذا النمط البديع فحسبنا ما أوردناه منها ، ونعود الى ما نحن بصدده فنقول :
ويجوز أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا بلغ آخره.
٣ ـ التوليد :
وقد اشتملت
الآية «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم
لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» على أحد عشر نوعا من البلاغة
يتولد بعضها من بعض وقد ذكرها السيوطي في كتابه «الإتقان» أي قالت قولا مشتملا على
حروف وأصوات والمراد قالته على وجه النصيحة وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر
نوعا من البلاغة :
أولها : النداء
بيا.
وثانيها : كنّت
بأي.
وثالثها :
نبّهت بها التنبيه.
ورابعها : سمّت
بقولها النمل.
وخامسها : أمرت
بقولها ادخلوا.
وسادسها : نصّت
بقولها مساكنهم.
وسابعها : حذرت
بقولها لا يحطمنكم.
وثامنها :
خصّصت بقولها سليمان.
وتاسعها :
عمّمت بقولها وجنوده.
وعاشرها :
أشارت بقولها وهم.
وحادي عشرها :
عذرت بقولها لا يشعرون.
هذا وقد أنشدوا
ملغزين في نملة سليمان وبقرة بني إسرائيل :
فما ميت أحيا
له الله ميتا
|
|
ليخبر قوما
أنذروا ببيان
|
وعجفاء قد
قامت لتنذر قومها
|
|
واهل قراها
رهبة الحدثان
|
الفوائد :
١ ـ ما الذي
أضحك سليمان؟ وانما ضحك سليمان من قول النملة لشيئين :
أولهما : ما دل
على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا
لم يفعلوا.
وثانيهما :
سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه ما قالته النملة وهي مثل في
الضآلة والقماءة ، والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به ضحك.
٢ ـ الحال
المبنية والمؤكدة :
الحال ضربان
مؤسسة وتسمى أيضا مبينة وهي التي لا يستفاد معناها بدونها كجاء زيد راكبا فلا
يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا ، ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها بدون ذكرها ،
وهذه تنقسم الى ثلاثة أقسام :
آ ـ مؤكدة
لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» فرسولا حال من الكاف وهي مؤكدة
لعاملها وهو أرسلنا لفظا ومعنى.
ب ـ مؤكدة
لعاملها معنى فقط واللفظ مختلف نحو «فتبسم
ضاحكا» فضاحكا حال من فاعل تبسم وهي مؤكدة لعاملها معنى فقط لأن التبسم نوع
من الضحك واللفظ مختلف.
ح ـ مؤكدة
لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن وهو من
الموصولة مؤكدة لها. وهناك أقسام أخرى للحال المؤكدة يرجع إليها في المطولات.
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))
اللغة :
(الْهُدْهُدَ) والهدهد والهدهد طائر ذو خطوط وألوان كثيرة الواحدة
هدهدة وهدهدة وهداهدة والجمع هداهد
وهداهيد ، ويقولون أبصر من هدهد لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض ،
والهدهد أيضا كل ما يقرقر من الطير والحمام الكثير وستأتي قصته مع سليمان في باب
الفوائد.
(فَمَكَثَ) : بضم الكاف وفتحها والأول من باب قرب والثاني من باب
نصر وفي القاموس وغيره : مكث يمكث من باب نصر مكثا ومكثا ومكوثا ومكثانا ومكّيثى
ومكّيثاء بالمكان أقام ولبث فهو ماكث والاسم المكث والمكث ومكث يمكث من باب قرب
مكاثة :لبث ورزن.
(سَبَإٍ) : بلاد واقعة جنوب غربي الجزيرة العربية في اليمن ذكرت
في كتب العهد القديم وفي مؤلفات العرب واليونان والرومان كانت على جانب عظيم من
الحضارة ، كان يتعاطى سكانها تجارة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
وقال الزمخشري
في الكشاف : «سبأ قرئ بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء ، وعن ابن كثير في رواية
سبأ بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله
اسما للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسما للحي أو الأدب الأكبر صرف قال :
من سبأ
الحاضرين مأرب إذ
|
|
يبنون من دون
سيله العرما
|
وقال :
الواردون
وتيم في ذرا سبأ
|
|
قد عض
أعناقهم جلد الجواميس
|
ثم سميت مدينة
مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث كما سميت معافر بمعافر بن أد ويحتمل أن
يراد المدينة والقوم».
معنى ذهبوا
أيدي سبا :
هذا ويقال
ذهبوا أيدي سبا وفيه لغتان أيدي سبا وأيادي سبا وله حالتان : إما أن تركب الاسمين
اسما واحدا وتبنيهما لتضمن حرف العطف كما فعلوا بخمسة عشر والثانية أن تضيف الأول
الى الثاني وموضعهما النصب على الحال والمراد ذهبوا متفرقين ومتبددين ونحوهما ،
وإذا اعترض بأن سبا معرفة قيل بأن تركيبهما طاح بمعنى العلمية وصارا اسما واحدا ،
وأصل هذا المثل أن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من
اليمن متفرقين في البلاد فقيل لكل جماعة تفرقت ذهبوا أيدي سبا ، والمراد بالأيدي
الأبناء والأسرة لا نفس الجارحة لأن التفرق وقع بهم واستعير اسم الأيدي لأنهم في
التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي.
(الْخَبْءَ) : مصدر بمعنى المخبوء يقال خبأت الشيء أخبؤه خبئا من
باب نفع أي سترته ، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات.
الاعراب :
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كلام مستأنف للشروع في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء
مسيره الذي كانت فيه قصة النمل. وتفقد فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي
سليمان والطير مفعول به فقال عطف على تفقد وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولي
خبره وجملة لا أرى الهدهد حال وأم منقطعة وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر
يعود على الهدهد
ومن الغائبين خبر كان. (لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) اللام موطئة للقسم وأعذبنه فعل مضارع مبني على الفتح
لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به
وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة أو لأذبحنه عطف على لأعذبنه أو ليأتيني عطف عليه
أيضا وبسلطان متعلقان بيأتيني ومبين صفة. (فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ) الفاء استئنافية ومكث فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
الهدهد أو على سليمان وغير بعيد ظرف زمان متعلق بمكث أو على الأصح صفة لظرف محذوف
نابت عنه أي وقت غير بعيد أو مكانا غير بعيد فهو ظرف مكان ، فقال عطف على مكث وهذا
يؤيد عودة الضمير الى الهدهد وجملة أحطت مقول القول وبما متعلقان بأحطت وجملة لم
نحط صلة وبه متعلقان بتحط وجئتك عطف على أحطت ومن سبأ متعلقان بمحذوف حال لأنه كان
في الأصل صفة لنبأ وبنبإ متعلقان بجئتك ويقين صفة لنبأ. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ان واسمها وجملة وجدت امرأة خبر إني وجملة تملكهم صفة
لامرأة وأوتيت الواو عاطفة أو حالية وجملة أوتيت إما معطوفة على جملة تملكهم وساغ
عطف الماضي على المضارع لأن المضارع بمعنى الماضي أي ملكتهم وإما حالية من فاعل
تملكهم وقد مقدرة ومن كل شيء متعلقان بأوتيت أو بمحذوف هو مفعول أوتيت الثاني
والتقدير أيضا من كل شيء ولها خبر مقدم وعرش مبتدأ مؤخر وعظيم صفة.
(وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) جملة وجدتها بدل من وجدت امرأة فهي داخلة في حيز الخبر
ووجدتها هنا تتعدى لواحد لأنها بمعنى لقيتها والهاء مفعول به وقومها عطف على الهاء
أو
مفعول معه وجملة يسجدون حال من مفعولها وما عطف عليه وللشمس متعلقان
بيسجدون ومن دون الله حال. (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) الواو حرف عطف وزين فعل ماض ولهم متعلقان به والشيطان
فاعله وأعمالهم مفعوله فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم ، فهم الفاء
عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يهتدون خبر. (أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجب حذف النون في الرسم اتباعا لسنة المصحف وأن هي حرف
مصدري ونصب ولا زائدة والمعنى أن يسجدوا ، وهذا المصدر المؤول معمول لقوله لا
يهتدون لكن بنزع الخافض وهو الى والمعنى فهم لا يهتدون الى السجود وعلى هذا
الاعراب لا يصح الوقوف على يهتدون ، ويجوز أن يكون المصدر بدلا من أعمالهم
والتقدير وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود ، ويجوز أن يكون بدلا من السبيل ،
وقرئ بتخفيف ألا فهي حرف تنبيه واستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف واسجدوا فعل
أمر فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يا اسجدوا ولكن الصحابة أسقطوا ألف يا
وهمزة الوصل من اسجدوا خطا لما سقطت لفظا ووصلوا يا بسين اسجدوا فصارت صورته
يسجدوا كما ترى فاتحدت القراءتان لفظا وخطا واختلفتا تقديرا وسيأتي بحث اختلاف
النحويين في «يا» الداخلة على فعل أو حرف في باب الفوائد. ولله متعلقان بيسجدوا
والذي موصول نعت لله وجملة يخرج الخبء صلة وفي السموات والأرض متعلقان بالخبء أي
المخبوء في السموات أو بيخرج على أن «في» بمعنى «من» أي يخرجه من السموات والأرض. (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما
تُعْلِنُونَ) ويعلم عطف على يخرج فهو داخل في حيز الصلة وفاعل يعلم
ضمير مستتر يعود على الله وما موصول مفعول به وجملة تخفون صلة وما تعلنون عطف على
ما تخفون. (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) كلام مستأنف مسوق للثناء على عرش الله العظيم بعد
الالماع الى عرش بلقيس وبينهما بون عظيم.
البلاغة :
جناس التصريف :
في قوله «وجئتك
من سبأ بنبإ يقين» جناس التصريف وهو اختلاف صيغة الكلمتين بابدال حرف من حرف إما
من مخرجه أو من قريب من مخرجه وهو من محاسن الكلام المتعلقة باللفظ شريطة أن يأتي
جاريا مع الطبع بعيدا عن التكلف محتفظا بصحة المعنى ، ولقد جاء هنا زائدا على
الصحة فحسن ورقّ ، ألا ترى أنه لو قال بخبر بدلا من بنبإ لصح المعنى واستقام ،
ولكنه جاء منغوما عذب الجرس لاتفاق سبأ ونبأ وقد تقدم مثله في قوله بسورة الانعام «وهم
ينهون عنه وينأون عنه».
الفوائد :
١ ـ قصة سليمان
والهدهد :
وجريا على
عادتنا نورد إحدى الروايات المذكورة عن قصة سليمان والهدهد لما فيها من جذور قصصية
وتمهيدا للنابغين الملهمين من كتاب القصص :روي أن سليمان حين فرغ من بناء بيت
المقدس تجهز للحج
بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كلّ يوم طول مقامه خمسة آلاف
ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير الى اليمن فخرج من مكة
صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فنزل ليتغدى
ويصلي فلم يجدوا الماء وكان الهدهد قناقنه أي دليله الهادي وكان يرى الماء تحت
الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتفقده لذلك ، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى
هدهدا آخر واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له
صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد وتحت كل قائد مائة ألف وذهب معه
لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر
فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم
قال لسيد الطير وهو العقاب عليّ به فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر الى الدنيا
كالقصعة ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا فانقضّ العقاب يريده وعلم الهدهد
أن العقاب يقصده بسوء فقال بحق الذي قواك وأقدرك إلا ما رحمتني فتركه وقال ويلك
ثكلتك أمك ، إن نبيّ الله قد حلف ليعذبنك قال :وما استثنى نبي الله؟ قال بلى قال :
أو ليأتيني بسلطان مبين فقال :نجوت إذن ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه
يجرها على الأرض متواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه اليه فقال : يا نبي
الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله ما الذي أبطأك عني
فقال الهدهد : أحطت بما لم تحط به إلخ ...
نكتة بيانية :
قال الزمخشري :
«فإن قلت قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه
على فعليه لا مقال فيه ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ومن أين درى أنه
يأتي بسلطان حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت : لما نظم الثلاثة بأو في الحكم
الذي هو الحلف آل كلامه الى قولك ليكونن أحد الأمور ، يعني إن كان الإتيان بسلطان
لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا ادعاء دراية».
٢ ـ من هي
بلقيس؟ :
أما بلقيس فهي
ابنة شراحيل بن أبي سرح بن الحارث بن قيس ابن صيغي بن سبأ وقال ابن الكلبي : كان
أبوها من عظماء الملوك وستأتي قصتها وذكر الحريري في درة الغواص :
ان صواب لفظ
بلقيس أن تكسر باؤه لأن كل أعجمي يعرب فقياسه أن يلحق بأمثلة كلام العرب وعلى ذلك
بلقيس ، وفي أخبار سيف الدولة ان الخالديين مدحاه فبعث إليهما وصيفا ووصيفة مع كل
واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر والشام فكتبا اليه :
لم يغد شكرك
في الخلائق مطلقا
|
|
إلا ومالك في
النوال حبيس
|
خولتنا شمسا
وبدرا أشرقت
|
|
بهما لدينا
الظلمة الحنديس
|
رشنأ أتانا ،
وهو حسنا يوسف
|
|
وغزالة هي
بهجة ، بلقيس
|
هذا ولم تقنع
بذاك وهذه
|
|
حتى بعثت
المال وهو
|
نفيس أتت
الوصيفة وهي تحمل بدرة
|
|
وأتى على ظهر
الوصيف ا
|
لكيس وكسوتنا
مما أجادت حوكه
|
|
مصر وزادت
حسنه
|
تنيس فغدا
لنا من جودك المأكول وال
|
|
مشروب
والمنكوح والملبوس
|
فلما قرأها سيف
الدولة قال : أحسنا إلا في لفظ المنكوح إذ لبست مما يخاطب بها الملوك. هذا وقد
كانت قصة بلقيس وصرحها الممرد مصدر إلهام للشعراء ، فقد أورد البحتري ذلك كله في
قصيدة له يمدح بها المتوكل ويذكر بناء البركة المشهورة ومنها :
يا من رأى
البركة الحسناء رؤيتها
|
|
والآنسات إذا
لاحت مغانيها
|
بحسبها أنها
في فضل رتبتها
|
|
تعدّ واحدة
والبحر ثانيها
|
كأن جن
سليمان الذين ولوا
|
|
إبداعها
فأدقوا في معانيها
|
فلو تمر بها
بلقيس عن عرض
|
|
قالت هي
الصرح تمثيلا وتشبيها
|
٣ ـ سجدات القرآن :
وعلى ذكر قوله «ألّا
يسجدوا لله» أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وانما
اختلفا في سجدة «ص» فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة وعند الشافعي سجدة شكر وفي سجدتي
سورة الحج.
٤ ـ قصة سيل
العرم وتفرق العرب أيادي سبا :
ونورد هنا بعض
الأساطير المروية للطرافة والفائدة :
وسبأ هو أبو
قبائل اليمن المتفرقة من سد مأرب الذين مزقهم الله كلّ ممزّق وسمي سبأ لأنه أول من
سبى السبي وقيل سبأ اسم أمهم ومأرب اسم بلدهم ، وكانت سبأ من أحسن بلاد الله
وأخصبها وأكثرها شجرا وماء وقد ذكر الله أنها كانت جنتين عن يمين وشمال وكانت
مسيرة شهر في شهر للمجدّ الراكب يسير في جنان من أولها إلى آخرها لا تواجهه الشمس
ولا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء ، فمكثوا ما شاء الله
لا يعاندهم ملك إلا قصموه ، وكانت في بدء الزمان تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل
مملكته فشاورهم في دفع السيل فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤديه الى البحر فحشد
أهل مملكته حتى صرف الماء واتخذ سدا في موضع جريان الماء من الجبال ورصفه بالحجارة
والحديد وجعل فيه مجاري للماء في استدارة
الذراع فإذا جاء السيل تصرف في المجاري الى جناتهم ومزروعاتهم بتقدير يعمهم
نفعه ، وذكر الأعشى في شعره أن حميرا بنته فقال :
رخام بنته
لهم حمير
|
|
إذا جاء
ماؤهم لم يرم
|
وأروى الزروع
وأعنابهم
|
|
على سعة
ماؤهم قد قسم
|
فعاشوا بذلك
في غبطة
|
|
فحاق بهم
جارف منهدم
|
ولما انتهى
الملك الى عمرو بن عامر مزيقياء وسمي بذلك لأنه كان يمزق كل ليلة حلة كبرا من أن
تعاد عليه أو يلبسها غيره وقيل سمي بذلك لأنه مزق الأزد في البلاد ، وكان أخوه
عمران كاهنا فأتته كاهنة تدعى ظريفة فأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته ،
فجمع أهل مأرب وعمل لهم طعاما فأخبرهم بشأن السيل فأجمعوا على الجلاء فقال لهم
عمران أخوه إني أصف لكم بلدانا فاختاروا أيتها شئتم فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل
غير شرود فليلحق بالشعب من كرود فلحق به همدان ثم قال ومن كان منكم ذا سياسة ،
وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فلحقت به خزاعة ثم قال : ومن كان منكم يريد
الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فنزلها الأوس
والخزرج ثم قال ومن كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى
وسدير وهي من أرض الشام فنزلها غسان ثم قال ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق
والخيل العتاق والذهب والأوراق فليلحق بالعراق فلحق بها مالك بن فهم بن الأزد
وتخلف مالك بن اليمان في قومه حتى أخرجهم السيل فنزلوا نجران وانتسبوا الى مذحج
ودخلت جماعة منهم الى معد فأخرجتهم معد بعد
حروب فنزلوا بجبال الشراة على تخوم الشام فلما تفرقت البلاد هذا التفرق
ضربت العرب بهم المثل فقالوا ذهبوا أيدي سبا وأيادي سبا.
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ (٣٣))
اللغة :
(أَفْتُونِي) : أشيروا عليّ والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على
طريق الاستعارة من الفتا في السنّ والمراد بالفتوى هاهنا الاشارة عليها بما عندهم
كما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. وفي الأساس : «وفلان من أهل الفتوى
والفتيا وتعالوا ففاتونا ، وتفاتوا إليه : تحاكموا ، قال الطرماح :
هلمّ إلى
قضاة الغوث فاسأل
|
|
برهطك
والبيان لدى القضاة
|
أنخ بفناء
أشدق من عديّ
|
|
ومن جرم وهم
أهل التفاتي
|
وقال عمر بن
أبي ربيعة :
فبتّ أفاتيها
فلا هي ترعوي
|
|
بجود ولا
تبدي إباء فتبخلا
|
أي أسائلها».
هذا ويجوز ضم
الفاء وفتحها كما جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة قال : «قالوا : فتوى وفتيا وبقوى
وبقيا وثنوى وثنيا ورعوى ورعيا».
(أُولُوا قُوَّةٍ) : اسم جمع بمعنى أصحاب ، والواحد ذو بمعنى صاحب وقيل
جمع ذو على غير لفظه وقد تقدم أنها من الملحقات بجمع المذكر السالم والمؤنث أولات
وواحدتها ذات تقول : جاء أولو العلم وأولات الفضل.
الاعراب :
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ عن حكاية الهدهد
وجملة سننظر مقول القول والهمزة للاستفهام وصدقت فعل وفاعل وأم متصلة معادلة
للهمزة وكان واسمها ومن الكاذبين خبرها وعدل عن الفعل المطابق لما قبله الى الاسم
لنكتة بلاغية تقدمت الاشارة إليها أكثر من مرة. وهي جعله واحد من الفئة الموسومة
بالكذب. (اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) لا بد من تقدير كلام محذوف لتتناسق حوادث القصة أي ثم
دلهم على الماء فاستخرجوه وارتووا وتوضئوا وصلوا ، ثم كتب سليمان كتابا هذه صورته
: من عبد الله
سليمان الى بلقيس ملكة سبأ ، بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع
الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ثم ختمه بخاتمه ، ثم قال للهدهد :
اذهب ، فالجملة مقول قول محذوف ، واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبكتابي
متعلقان باذهب وهذا نعت لكتابي أو بدل منه ، فألقه الفاء عاطفة وألقه فعل أمر
وفاعل مستتر ومفعول به وأنهم متعلقان بألفه ثم حرف عطف وتول فعل أمر على حذف حرف
العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بمحذوف حال أي متجاوزا إياهم الى
مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك ، فانظر عطف على تول ، وماذا
يرجعون : في هذا التعبير وجهان :
أولهما : أن
تكون انظر بمعنى تأمل وتفكر فتكون ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم ليرجعون
تقديره أي شيء يرجعون ، أو تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي
خبر ما وجملة يرجعون صلة ذا والعائد محذوف تقديره أي شيء الذي يرجعونه ، وعلى كلا
التقديرين فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل وهو انظر بالاستفهام فمحلها
النصب على نزع الخافض أي انظر في كذا وفكر فيه.
وثانيهما : أن
تكون انظر بمعنى انتظر من قوله تعالى : «انظرونا نقتبس من نوركم» فتكون ماذا كلها
اسم موصول وهو أحد أوجه ماذا التي ستأتي في باب الفوائد وهي مفعول به أي انتظر
الذي يرجعونه وجملة يرجعون صلة والعائد محذوف كما تقدم والمعنى ماذا يردون من
الجواب أو ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لا بد من تقدير كلام محذوف روعي في حذفه الإيجاز
وتقديره كما قال مقاتل : «حمل الهدهد الكتاب بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة
وحولها الجنود والعساكر فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب
في حجرها وسيأتي مزيد من الروايات في تقدير هذا المحذوف.
وإني إن واسمها
وجملة ألقى خبرها وإليّ متعلقان بألقي وكتاب نائب فاعل وكريم صفة وسيأتي سر هذا
الوصف في باب البلاغة.
(إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر كأنهم قالوا
ممن هو؟ وما هي منطوياته؟ فقالت أنه من سليمان وان واسمها ومن سليمان خبرها وانه
الواو عاطفة وان واسمها وجملة البسملة خبرها وقد تقدم اعراب البسملة في صدر هذا
الكتاب. (أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أن مفسرة والمفسر كتاب لتضمنه معنى القول دون حروفه ولا
ناهية وتعلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعليّ متعلقان بتعلوا ويجوز أن تكون
أن مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من
كتاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي مضمونه أن لا تعلوا أو في محل نصب بنزع الخافض أي بأن
لا تعلوا ، وأتوني الواو عاطفة وائتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل
والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلمين حال. (قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون
للوقاية
والياء مفعول به وفي أمري متعلقان بأفتوني. (ما كُنْتُ قاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ما نافية وكنت قاطعة كان واسمها وخبرها وأمرا مفعول به
وحتى حرف غاية وجر وتشهدون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وعلامة نصب حذف
النون والنون الموجودة نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ
وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) جملة نحن مقول القول ونحن مبتدأ وأولو خبر وعلامة رفعه
الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقوة مضاف اليه وأولو بأس شديد عطف على ما تقدم.
(وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ
فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) الواو حرف عطف والأمر مبتدأ وإليك خبر أي موكول إليك
ونحن مطيعون لك ، فانظري الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر كأنما تصوروا أنها قد
تكون راغبة في القتال أو أنهم راغبون فيه فإن أردت ذلك وعزمت على خوض الحرب فنحن
أبناء بجدتها وانظري أي فكري وماذا اسم استفهام وقد تقدم اعرابها وستأتي وجوهها
وهي هنا في محل نصب مفعول مقدم لتأمرين والاستفهام معلق للنظر.
البلاغة :
في هذه
المحاورة التي جرت بين بلقيس وبين الملأ من قومها وفي الوصف لكتاب سليمان بعد ذكر
العنوان والتسمية فنون عديدة نورد أهمها فيما يلي :
١ ـ الاشارة :
وهذا الفن سبقت
إليه الاشارة في هذا الكتاب وقد فرعه قدامة
من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه فقال : هو أن يكون اللفظ القليل دالا على
المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة الى أشياء
كثيرة ، والفرق بينه وبين الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له وألفاظ
الإشارة لمحة خاطفة دالة ، فدلالة اللفظ بالإيجاز دلالة مطابقة ودلالة اللفظ في
الاشارة إما دلالة تضمن أو دلالة التزام ، والدلالة هنا دلالة تضمن ، فقد وصفت
كتاب سليمان بالكرم لأنه من عند ملك كريم أو لأنه مختوم ، وفي الحديث عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال : «كرم الكتاب ختمه» وعن ابن المقفع من كتب الى أخيه كتابا ولم
يختمه فقد استخف به.
وروي أنها كانت
راقدة وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل الهدهد من كوة
وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة ، فلما رأت الخاتم
ارتعدت وقالت لقومها ما قالت.
٢ ـ الإيجاز :
في قولهم : «قالوا
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» إيجاز عجيب فهو أولا
يدل على تعظيم المشورة وتعظيم بلقيس أمر المستشار ، وهو ثانيا يدل على تعظيمهم
أمرها وطاعتها وفي قولهم «والأمر إليك» وقولهم «فانظري ماذا تأمرين» إيجاز يسكر
الألباب ، قال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني
في كتابه إعجاز القرآن : «فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه
والإيجاز ، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه ويتضمن الإيجاز منه
تصرفا يتجاوز محله وموضعه» الى أن يقول : «وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا
ما إذا بسط أفاد وإذا اختصر كمل في بابه وجاد وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره
وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى».
الفوائد :
عقد ابن هشام
في المغني فصلا لـ «ماذا» نلخصه فيما يلي ونعرب أمثلته :
تأتي ماذا في
العربية على أوجه :
١ ـ أن تكون ما
استفهامية وذا اشارة نحو ماذا التواني؟ ماذا الوقوف؟ فما اسم استفهام مبتدأ وذا
خبر والتواني بدل أو عطف بيان أي : أي شيء هذا التواني؟
٢ ـ أن تكون ما
استفهامية وذا موصولة كقول لبيد :
ألا تسألان
المرء ماذا يحاول
|
|
أنحب فيقضي
أم ضلال وباطل
|
فما اسم
استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة يحاول صلة والهمزة للاستفهام ونحب بدل من
ما.
٣ ـ أن يكون
ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لما ذا جئت وقوله :
يا خزر تغلب
ماذا بال نسوتكم
|
|
لا يستفقن
الى الديرين تحنانا
|
فماذا اسم
استفهام مركب مبتدأ وبال نسوتكم خبر.
٤ ـ أن يكون
ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا بمعنى الذي على خلاف تخريج قول الشاعر :
دعي ماذا
علمت سأتقيه
|
|
ولكن
بالمغيّب نبئيني
|
فالجمهور على
أن ماذا كله مفعول دعي ثم اختلف فقيل موصول بمعنى الذي وقيل نكرة بمعنى شيء وهناك
وجهان ذكرهما ابن هشام ولم نر حاجة إليهما لأنهما لا يقعان في فصيح الكلام.
(قالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ
لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))
الاعراب :
(قالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) كلام مستأنف مسوق للرد على مستشاريها أي لم ترض بما
أشاروا به وهو خوض الحرب بل مالت للسلام وعقد الصلح وعللت ذلك بقولها إن الملوك ...
وكأنها تلمع لهم بسوء مغبة الحرب وعواقبها المخيفة وآثارها الكثيرة.
فإن واسمها
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرية
مفعول به على السعة وجملة أفسدوها جواب شرط غير جازم لا محل لها وجملة الشرط
وجوابه خبر ان. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل وأعزة أهلها مفعول جعلوا
الأول وأذلة مفعول جعلوا الثاني وكذلك الواو عاطفة لأن ذلك من جملة كلامها وكذلك
نعت لمصدر محذوف تقدمت له نظائر ، أرادت هذه عاداتهم المستمرة وديدنهم الثابت. (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) ان واسمها ومرسلة خبرها وإليهم متعلقان بمرسلة وبهدية
متعلقان بمرسلة أيضا فناظرة عطف على مرسلة وبم الباء حرف جر وما الاستفهامية
المحذوف ألفها في محل جر بالباء والجار والمجرور بيرجع ولا يجوز تعلقها بناظرة كما
أعربها الحوفي لأن الاستفهام له الصدر ، فلا يعمل ما قبله فيه وإلا خرج عما ثبت له
، وللمفسرين كلام طويل في هذه الهدية لا يحتمل ذكرها صدر هذا الكتاب ، ويرجع
المرسلون فعل وفاعل والجملة مفعول به لناظرة.
(فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ قالَ : أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) الفاء عاطفة على محذوف لا بد من تقديره فأعدت الهدية مع
رسول بكتاب وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. ولما ظرفية حينية أو رابطة
متضمنة معنى الشرط وجاء سليمان فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو أي الرسول وسليمان
مفعول به وجملة قال لا محل لها والهمزة للاستفهام
الانكاري
التوبيخي وتمدونن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون
للوقاية والياء المحذوفة مفعول به وبمال متعلقان بتمدونن أي تعاونونني بالمال. (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا
آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) الفاء حرف تعليل لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه
إياهم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتاني صلة وآتاني الله فعل ماض ومفعول به مقدم
وفاعل مؤخر وخير خبر ما وبل حرف إضراب انتقالي لبيان السبب الذي حداهم الى إمداده
بالمال وأنتم مبتدأ وبهديتكم متعلقان بتفرحون وجملة تفرحون خبر. (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) الخطاب لأمير الوفد وارجع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره
أنت وإليهم متعلقان بارجع وقيل الخطاب للهدهد محملا إياه رسالة أخرى والفاء
استئنافية واللام موطئة للقسم ونأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون
التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والميم علامة جمع الذكور
وبجنود متعلقان بنأتينهم ولا نافية للجنس وقبل اسمها المبني ولهم خبر وبها متعلقان
بقبل لتضمنه معنى المصدر لأن حقيقته المقابلة والمقاومة ، يقال : مالي به قبل أي
طاقة ويقال لي قبل فلان دين أي عنده ، وأتاني من قبله أي من
عنده ، فتكون بمعنى المصدر وبمعنى الظرف. (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ
مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ولنخرجنهم عطف على فلنأتينهم ومنها متعلقان بنخرجنهم
والضمير يعود الى سبأ أي بلادهم وأذلة حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وصاغرون خبر
والجملة حال ثانية من الهاء في لنخرجنهم.
البلاغة :
الإيجاز :
في هذه الآيات
إيجاز بليغ يحسن بنا أن تتدبره لأن المدار فيه على المعاني دون الألفاظ فرب لفظ
قليل ينطوي على معنى كثير وقد تقدم معنا أن الإيجاز قسمان أحدهما إيجاز بالحذف وهو
ما يحذف منه المفرد وإيجاز بالقصر ، وفي هذه الآيات إيجاز بالحذف وهو قوله «بم
يرجع المرسلون» ثم قوله «فلما جاء سليمان» فقد حذف هنا ما لو أظهر لظهر الكلام غثا
لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن ، لأن الخاطر قد يذهب كل مذهب ، وقد
يترك العنان للخيال ليجول في آفاق لا نهاية لها ليتصور الهدية التي أعدتها مما
يتولى الشرح إظهاره. فقد روي أن بلقيس كانت امرأة عاقلة لبيبة قد ساست الأمور ،
وسبرت أغوار الناس وكانت تعرف أن سليمان لو كان نبيا لترفع عن أخذ الهدية ولو كان
ملكا لأخذها ، فأحبت أن تتأكد من هذه المسألة ، وروي أيضا أنها بعثت خمسمائة غلام
عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج
ومحلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك أي إناث
الخيل في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا
بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة
الثقب وبعثت رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي ثم قالت
للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنّك أمره وان رأيته بشا لطيفا فهو
نبي ، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان بما تم فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة
وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب
والفضة وأمر بأحسن الدواب فربطوها عن يمين الميدان ويساره وأمر أولاد الجن وهم خلق
كثير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ثم رد الهدية
وقال للمنذر ارجع إليهم ، فقالت هو نبي وما لنا به من طاقة وتجهزت الى المسير الى
سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثنى عشر ألف قيل أي ملك وهو بفتح القاف سمي
قيلا لأنه ينفد كل ما يقول ، الى أن قربت منه على فرسخ فشعر بها.
هذا والهدية
اسم المهدى كما أن العطية اسم المعطى فتضاف الى المهدي والمهدى اليه ، تقول هذه
هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت اليه والمضاف اليه في قوله «بل أنتم
بهديتكم» هو المهدى اليه.
(قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ
الْكِتابِ أَنَا
آتِيكَ
بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ
تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا
عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا
مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ
مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ
حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ
قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))
اللغة :
(عِفْرِيتٌ) : العفريت : الخبيث المنكر والنافذ في الأمر مع دهاء
وذلك من الانس والجن والشياطين وجمعه عفاريت ومؤنثه عفريتة والعفرية مثله وقد قرئ
به ويقال رجل عفرية وعفر وعفير إذا كان صحيحا شديدا مونق الخلق أخذ من عفر الأرض
وهو التراب أي من علق به من عفره بالأرض ، ومنه ليث عفرين أي ليث ليوث معفر
لفريسته ، قال الخليل ، رجل عفار بين العفارة إذا وصف بالشيطنة ،
والعفير أيضا الظريف الكيس ، ويقال للشيطان عفريت وعفرية وفي الحديث «إن
الله ليبغض العفريت النفريت» قيل هو الجموع المنوع وقال أبو عثمان النهدي دخل رجل
عظيم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : متى عهدك بالحمى قال : ما أعرفها قال
فبالصداع قال :ما أدري ما هو قال : أفأصبت بمالك قال لا قال : أفرزئت بولدك قال لا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ليبغض العفريت النفريت وهو الذي لا يرزأ.
(الصَّرْحَ) : قال في الكشاف : الصرح : «القصر وقيل صحن الدار»
وأصله من التصريح وهو الكشف ، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف ، ولؤم صراح ، ولبن صريح أي
ذهبت رغوته وخلص ، وعربي صريح من عرب صرحاء : غير هجناء ، وكأس صراح : لم تمزج ،
وصرحت الخمرة : ذهب عنها الزبد ، ولقيته مصارحة : مجاهرة ، وصرح النهار : ذهب
سحابه وأضاءت شمسه ، قال الطرماح في وصف ذئب :
إذا امتلّ
يعدو قلت ظلّ طخاءة
|
|
ذرى الريح في
أعقاب يوم مصرح
|
(مُمَرَّدٌ) : الممرّد : المملّس وسيأتي سر بنائه في باب الفوائد
ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم وجود الشعر به وفي القاموس :«التمريد في
البناء التمليس والتسوية وبناء ممرد : مطول والمارد المرتفع والعاتي».
(قَوارِيرَ) : في المصباح : «القارورة إناء من زجاج والجمع القوارير
والقارورة أيضا وعاء الرطب والتمر وهي القوصرة وتطلق
القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في
الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها ، قال الأزهري : والعرب تكنى عن المرأة
بالقارورة والقوصرة» وفي القاموس «والقارورة حدقة العين وما قر فيه الشراب أو نحوه
أو يخصّ بالزجاج ، وقوارير من فضة أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج».
الاعراب :
(قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فاعل قال سليمان والخطاب لكل من هو عنده من الجن والانس
وغيرهما ، وأيكم مبتدأ وجملة يأتيني بعرشها خبر والظرف متعلق بيأتيني أيضا وأن وما
في حيزها مصدر مؤول مضاف اليه ومسلمين حال.
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال فعل ماض وعفريت فاعل ومن الجن صفة وأنا مبتدأ وجملة
آتيك به خبر والظرف متعلق بآتيك ومن مقامك متعلق بتقوم أي قبل أن تبارح مجلسك الذي
تجلس فيه للقضاء من الغداة الى منتصف النهار.
(وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الواو عاطفة وان واسمها وعليه متعلقان بقوي واللام
المزحلقة وقوي خبر وأمين خبر ثان أي قوي على حمله أمين به لا أختلس منه شيئا ولا
أعبث به. (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لا بد من تقدير محذوف على طريق الإيجاز كما تقدم وهو
قال سليمان أريد أن يتم ذلك في أسرع وقت. وقال فعل ماض والذي فاعل والظرف متعلق
بمحذوف خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر ومن الكتاب صفة لعلم والجملة صلة الموصول وأنا
مبتدأ وجملة آتيك به خبر والجملة مقول القول وتقدم اعراب الباقي وسيأتي معنى
ارتداد الطرف في باب البلاغة. (فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ
قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) الفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام ويروى أن آصف
بن برخيا وهو الذي عنده علم من الكتاب المنزل قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي
طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف بالعلم الذي لديه فغار العرش في
مكانه بمأرب ثم نبغ بمجلس سليمان ، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة ورآه فعل وفاعل
مستتر ومفعول به ومستقرا حال لأن الرؤية بصرية أي ثابتا والظرف متعلق بمستقرا
وجملة قال لا محل لها من الاعراب وهذا مبتدأ ومن فضل ربي خبر.
(لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ) اللام للتعليل ويبلوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
لام التعليل وفاعل يبلوني يعود على ربي والياء مفعول وأ أشكر الهمزة للاستفهام
وأشكر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وجملة أأشكر بدل من الياء في يبلوني فهو
بمثابة المفعول به وأم أكفر عطف على أأشكر. (وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشكر فعل ماض في محل
جزم فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية
وهي وما بعدها في تأويل مصدر اسم ان أي فإن ثواب شكره ، ولنفسه هو الخبر وفعل
الشرط وجوابه خبر من ومن كفر فإن ربي غني كريم جملة معطوفة على الجملة السابقة
مماثلة لها في الاعراب. (قالَ : نَكِّرُوا
لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) نكروا فعل أمر والواو فاعل ولها متعلقان ينكروا وعرشها
مفعول به أي غيّروه ، وننظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على
الاستئناف وجملة أتهتدي في محل نصب على المفعولية لأن الاستفهام علق ننظر عن العمل
وأم حرف عطف معادلة للهمزة وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على أتهتدي واسمها
مستتر تقديره هي ومن الذين خبر تكون وجملة لا يهتدون صلة الذين. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ
قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) الفاء عاطفة على محذوف اقتضاه الإيجاز كما تقدم ، أهكذا
: الهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه والكاف حرف جر للتشبيه وذا اسم اشارة في محل جر
بالكاف والجار والمجرور خبر مقدم وعرشك مبتدأ مؤخر ، والأصل اتصال هاء التنبيه
باسم الاشارة فكان مقتضاه أن يقال أكهذا عرشك؟ وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر
كافا ، فلو قلت أبهذا أمرت أو ألهذا فعلت؟ لم يجز فيه ذلك الفصل ، فلا يجوز أن
تقول أها بذا أمرت ، وأ ها لذا فعلت؟ وسيأتي السر في الإتيان بكاف التشبيه وعدم
الاكتفاء بالقول أهذا عرشك في باب البلاغة. قالت : فعل وفاعل مستتر تقديره هي يعود
على بلقيس وكأنه هو وكأن واسمها والضمير هو خبرها وسيأتي السر في عدولها عن مطابقة
الجواب للسؤال في باب البلاغة أيضا.
(وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) الواو عاطفة على كلام محذوف للايجاز أي لما سمعوا قولها
كأنه هو قالوا أصابت في الجواب فقال سليمان : وأوتينا وهو فعل ماض مبني للمجهول
ونا نائب الفاعل والعلم مفعول أوتينا الثاني ومن قبلها متعلقان بأوتينا وكنا الواو
عاطفة وكان واسمها ومسلمين خبرها ، ويحتمل أن يكون وأوتينا من كلام بلقيس فالضمير
في قبلها راجع للمعجزة والحالة التي دل عليها سياق الكلام والمعنى وأوتينا العلم
بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة والأول أرجح.
(وَصَدَّها ما كانَتْ
تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) من جملة كلام سليمان أو من كلام الله ، وصدها فعل ماض
ومفعول به وما موصول فاعل وجملة كانت صلة واسم كانت مستتر تقديره هي وجملة تعبد
خبر ومن دون الله حال ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وصدّها عبادة الشمس عن الإسلام وجملة
إنها تعليل للصد عن الإسلام وعبادة غير الله ، وان واسمها وجملة كانت خبرها واسم
كانت هي ومن قوم خبرها وكافرين صفة وقرئ أنها بالفتح على انه بدل من فاعل صدها أو
نصب بنزع الخافض. (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
الصَّرْحَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول والجملة مستأنفة وجملة ادخلي
الصرح مقول القول والصرح مفعول به على السعة وستأتي قصة الصرح في باب الفوائد. (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز أي فدخلته ، لما حينية
أو رابطة وجملة حسبته لا محل لها والهاء مفعول به أول ولجة مفعول به ثان وكشفت عن
ساقيها عطف على حسبته. (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ
مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) إن واسمها وصرح خبرها وممرد صفة ومن قوارير صفة ثانية
أي إن الذي ظننته ماء فوقه هو صرح ممرد أي مسقف بسطح فمن أراد مجاوزته لم يحتج الى
تشمير ثيابه. (قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) رب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وان واسمها وجملة
ظلمت نفسي خبرها وأسلمت عطف على ظلمت ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنة مع
سليمان وإنما قدر حالا لأن تعليقه بأسلمت يوهم اتحاد اسلاميهما في الزمان ، ولله
متعلقان بأسلمت ورب العالمين بدل من الله أو صفة له.
البلاغة :
١ ـ الكناية في
ارتداد الطرف :
في قوله : «قبل
أن يرتد إليك طرفك» كناية عن الاسراع ، والطرف هو تحريك أجفانك إذا نظرت ، فوضع
موضع النظر ، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف وصف برد الطرف ووصف الطرف
بالارتداد وعليه قوله :
وكنت إذا
أرسلت طرفك رائدا
|
|
لقبلك يوما
أتعبتك المناظر
|
رأيت الذي
لاكله أنت قادر
|
|
عليه ولا عن
بعضه أنت صابر
|
وهذان البيتان
لأعرابية نظرها أعرابي فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها كأنه يراودها عن
نفسها فأجابته بذلك وقيل هو لشاعر حماسي ، وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة
بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب على طريق الاستعارة التصريحية
ورائدا ترشيح للاستعارة ويوما ظرف له.
٢ ـ السر في
التشبيه :
وفي قوله «كأنه
هو» تشبيه مرسل عدلت إليه عن مقتضى السؤال ، ومقتضاه أن تقول : هو هو لسر دقيق جدا
وذلك ان «كأنه» عبارة من قرب الشبه عنده حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين فكاد
يقول هو هو ،
وتلك حال بلقيس ولما كانت هكذا هو عبارة جازم بتغاير الامرين حاكم بوقوع
الشبه بينهما لا غير فلهذا عدلت الى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها
لحالها.
٣ ـ التجنيس :
وهو تآلف
الكلمتين في تأليف حروفهما وهو هنا في قوله «وأسلمت مع سليمان».
الفوائد :
١ ـ قصة الصرح
:
هذا ونلخص ما
يروى من قصة الصرح لانها قصة شعرية مجنحة الخيال فقد روي أن سليمان أمر قبل قدومها
فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر
السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد
إغراقها وتعجبت من كون كرسيه على الماء ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن
ساقيها والمقصود من ذلك كله اختبار عقلها وارهاصها بالمعاجز لا ما يروى انه قيل له
انها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار مما لا يتلاءم ووقار النبوة وترفعها عن
الصغائر.
٢ ـ هل تزوج
سليمان بلقيس؟ :
قيل تزوجها بعد
ذلك وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له ،
وقيل بل زوجها ذاتبع من ملوك اليمن ويقال لهم الأذواء لأن أعلامهم تصدر بكلمة (ذو)
والمراد صاحب هذا الاسم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا
اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))
اللغة :
(اطَّيَّرْنا) : وتطيرنا : تشاءمنا والطائر هنا : ما تيمنت به أو
نشاءمت والمقصود هنا الثاني ، كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر
سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير أو الشر الى الطائر استعير لما
كان سببهما من قدر الله وقسمته أو من عمل العبد ، وقد مر هذا في سورة الأعراف فجدد
به عهدا.
(الْمَدِينَةِ) : البلد من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا قام فيه فهي
فعلية والجمع مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة ، ومن أخذها من دان يدين
فالميم زائدة والياء أصلية وهي مفعولة ويقال دنت الرجل ملكته ودنت له خضعت له وأطعت
ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة ، قال الشاعر :
ثوت وثوى في
كرمها ابن مدينة
|
|
يظل على
مسحاته يتوكل
|
وفي معاجم
اللغة : مدن بالمكان يمدن من باب نصر مدونا أقام وهو فعل ممات ومدن المدينة أتاها
ومدّن المدائن بالتشديد بناها ومصرها ، وتمدّن تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من
الهمجية الى حالة الانس والظرف ، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال ومدن بضمها
ومدائن ، والمدينة علم أطلق على يثرب ومدينة السلام بغداد والمدائن مدينة قرب
بغداد كان فيها ايوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها والنسبة إليها مدائني.
(رَهْطٍ) : الرهط قوم الرجل وقبيلته وعدد يجمع من الثلاثة الى
العشرة وليس فيهم امرأة ، ولا واحد له من لفظه وجمعه أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط
وأراهيط ، وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو عشرون رهطا ،
أي شخصا ، ويقال نحن ذوو رهط أي مجتمعون وفي المصباح «الرهط ما دون العشرة من
الرجال ليس فيهم امرأة وسكون الهاء أفصح من فتحها وهو جمع لا واحد له من لفظه وقيل
الرهط من سبعة الى عشرة وما دون السبعة الى الثلاثة نفر وقال أبو زيد : الرهط
والنفر ما دون العشرة من الرجال
وقال ثعلب أيضا : الرهط النفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا
واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون النساء وقال ابن السكيت :الرهط والعترة بمعنى
ويقال : الرهط ما فوق العشرة الى الأربعين قاله الأصمعي ونقله ابن فارس أيضا ورهط
الرجل قومه وقبيلته الأقربون» وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الاعراب.
الاعراب :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير القصة الثالثة أو الرابعة إذا
استقلت قصة النمل عن قصة سليمان وبلقيس ، وهي قصة صالح. واللام جواب للقسم المحذوف
وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل ماض وفاعل والى ثمود متعلقان بأرسلنا وأخاهم مفعول به
وصالحا بدل من أخاهم أو عطف بيان وأن مصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب
بنزع الخافض ويصح كونها مفسرة لأن الإرسال يتضمن معنى القول واعبدوا الله فعل أمر
وفاعل ومفعول به. (فَإِذا هُمْ
فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الفاء عاطفة وإذا فجائية تقدم القول فيها وهم مبتدأ
وفريقان خبر وجملة يختصمون نعت لفريقان على المعنى نحو قوله تعالى «وان طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا» لأن كل فريق يضم جماعة. (قالَ يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة
ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفه لدخول الجار ، والجار والمجرور
متعلقان بتستعجلون وبالسيئة متعلقان بتستعجلون وقبل الحسنة ظرف متعلق بمحذوف حال
والمراد بالسيئة العذاب وبالحسنة الرحمة كما سيأتي. (لَوْ لا
تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) لو لا حرف تحضيض بمعنى هلا وتستغفرون الله فعل مضارع
مرفوع والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله ولعلكم ترحمون لعل واسمها والجملة خبرها. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ
مَعَكَ) اطيرنا فعل ماض وفاعل وأصله تطيرنا أدغمت التاء في
الطاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل الى النطق بالساكن لأن المدغم ساكن دائما ، وبك
متعلقان باطيرنا وبمن عطف على بك ومعك ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من والجملة مقول
قولهم.
(قالَ طائِرُكُمْ
عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) طائركم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر والجملة
مقول قوله وبل حرف إضراب فقد أضرب عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم الى
ذكر ما هو الداعي اليه وأنتم مبتدأ وقوم خبر وجملة تفتنون نعت لقوم.
(وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وفي المدينة جار
ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وتسعة اسمها المتأخر ورهط مضاف اليه وسيأتي
بحث تمييز العدد مفصلا في باب الفوائد وجملة يفسدون صفة لتسعة ولا يصلحون عطف على
يفسدون ، وسيأتي سر قوله ولا يصلحون في باب البلاغة. (قالُوا تَقاسَمُوا
بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تقاسموا فعل أمر أي احلفوا ، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا
وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا كأنه قيل : ما قالوا؟ فقيل : تقاسموا ، ويجوز أن يكون
مع فاعله جملة في محل نصب على الحال أي قالوا متقاسمين بإضمار قد والتقاسم والتقسم
كالتظاهر والتظهر التحالف ، لنبيتنه : اللام واقعة في جواب القسم ونبيتنه من
البيات ، وقد تقدم معناه في مكان آخر ، فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون
التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر
تقديره نحن والهاء مفعول به أي لنباغتنه ليلا ، وأهله الواو عاطفة وأهله
معطوف على الهاء ويجوز أن يعرب مفعولا معه فتكون الواو للمعية. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما
شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ثم حرف عطف للتراخي واللام موطئة للقسم ونقولن تقدم
اعراب مثيلتها ولوليه متعلقان بنقولن أي الذين لهم ولاية دمه ، ومهلك مفعول به وهو
إما مصدر ميمي أو اسم زمان أو اسم مكان وقرئ بضم الميم وفتح اللام على أنه من
الرباعي وأهله مضاف اليه وإنا الواو عاطفة أو حالية وإنا ان واسمها واللام
المزحلقة وصادقون خبر إن.
(وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ومكروا فعل وفاعل ومكرا مفعول مطلق ومكرنا
مكرا عطف على الجملة السابقة والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب
على مكرهم المبيت وتآمرهم الدنيء فإن البيات مما يستكره ، ويروى عن الإسكندر أنه
أشير عليه بالبيات فقال ليس من آيين الملوك استراق الظفر أي من عادته وطرائقه.
وكيف خبر كان
المقدم وعاقبة اسم كان المؤخر والجملة في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور
متعلقان بانظر المعلقة عن العمل بالاستفهام وإنا جملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إنا
وقرئ بفتحها على أن المصدر بدل من العاقبة أو خبر لمبتدأ محذوف وان واسمها وجملة
دمرناهم خبرها وأجمعين تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه أي صالح وأهله المؤمنين
به وكانوا كما يروى أربعة آلاف.
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها مقررة لها
وتلك مبتدأ وبيوتهم خبر
وخاوية حال من بيوتهم والعامل فيها معنى الاشارة وبما ظلموا متعلقان بخاوية
وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها
المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها ولقوم صفة لآية وجملة يعلمون صفة لقوم. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف
على آمنوا فهو في حيز الصلة وكان واسمها وخبرها.
البلاغة :
١ ـ التمام أو
التتميم :
في قوله «ولا
يصلحون» فن التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر وابن رشيق في العمدة وابن عساكر في
الصناعتين ، أو التتميم كما سماه الحاتمي ، وقد تقدم ذكره في البقرة والنحل ،
ونعيد تعريفه مختصرا هنا وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في
ذاته أو في صفاته ولفظه تام فإن قوله «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض»
شأنهم الإفساد البحت وقد كانوا كما يروى عتاة غلاظا وهم الذين أشاروا بعقر الناقة
لمراغمة صالح وإثارة حفيظته ومنهم قدار بن سالف المشهور بالشؤم وقد تقدم ذكره ،
ولكن قوله يفسدون في الأرض لا يدفع أن يندر منهم أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم
الكلام بقوله «ولا يصلحون» دفعا لتلك العذرة أن تقع أو أن يخالج بعض الأذهان شك في
أنها ستقع وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم وحسن حالهم.
٢ ـ المشاكلة :
في قوله «ومكروا
مكرا ومكرنا مكرا» فن المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لأن الله
تقدس عن أن يستعمل في حقه المكر ، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة وهو كثير في القرآن
ومنه «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» والله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه
لفظة النفس ، أما مكرهم فهو ما بيتوه لصالح وما انتووه من إهلاكه وأهله ، وأما مكر
الله فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة الى المشاكلة ، فقد
شبه الإهلاك بالمكر في كونه إضرارا في الخفاء لأن حقيقة المكر هو الإيقاع بالآخرين
قصدا وعن طريق الغدر والحيلة ، وقد تقدمت قصة إهلاكهم في الشعب.
الفوائد :
١ ـ تمييز
العدد :
مميز الثلاثة
والعشرة وما بينهما إن كان اسم جنس وهو ما يفرق بينه وبين مفرده بالتاء كشجر وتمر
، أو اسم جمع وهو ما دل على الجمع وليس له مفرد من لفظه كقوم ورهط جرّ بمن ، تقول
ثلاثة من التمر أكلتها وعشرة من القوم لقيتهم وتسعة من الرهط صحبتهم ، قال تعالى :«فخذ
أربعة من الطير» وقد يجر بإضافة العدد إليه فاسم الجمع نحو الآية المتقدمة «وكان
في المدينة تسعة رهط» وفي الحديث : «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» وقال الشاعر :
ثلاثة أنفس
وثلاث ذود
|
|
لقد جار
الزمان على عيالي
|
والذود من
الإبل ما بين الثلاث الى العشرة وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كما في الصحاح ،
والأنفس جمع نفس وهي مؤنثة وإنما أنّث عددها وكان القياس تذكيره لأن النفس كثر
استعمالها مقصودا بها الإنسان ، أما اسم الجنس فكقول جندل بن المثنى :
كأن خصييه من
التدلدل
|
|
ظرف عجوز فيه
ثنتا حنظل
|
فحنظل اسم جنس
مجرور بالاضافة على حد تسعة رهط ، هذا ويروي بدل التدلدل التهدل وهو أولى ويروى
سحق جراب وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب حتى يكون في ظرفها ما تتزين به والبيت
من أقذع الهجاء.
وان كان مميز
الثلاثة والعشرة وما بينهما جمعا جر باضافة العدد اليه نحو ثلاثة رجال وثلاث إماء
، ويعتبر التذكير والتأنيث مع اسمي الجمع والجنس بحسب حالهما باعتبار عود الضمير
عليهما تذكيرا وتأنيثا فيعطى العدد عكس ما يستحقه ضميرهما ، فإن كان ضميرهما مذكرا
أنث العدد وإن كان مؤنثا ذكر ، فتقول في اسم الجنس ثلاثة من الغنم عندي بالتاء في
ثلاثة لانك تقول غنم كثير بالتذكير للضمير المستتر في كثير ، وروى صاحب المصباح
أنه يجوز في غنم تذكير ضميره وتأنيثه ، وثلاث من البط بترك التاء من ثلاث لأنك
تقول بط كثيرة بالتأنيث للضمير المستتر في كثير ، وثلاثة أو ثلاث من البقر لأن
ضمير البقر يجوز فيه التذكير والتأنيث وذلك أن في البقر لغتين التذكير والتأنيث ،
قال الله تعالى : «إن البقر تشابه علينا» بتذكير الضمير وقرئ تشابهت بتأنيثه ،
وأما اسم الجمع فحكمه حكم المذكر إن كان لمن يعقل كالقوم
والرهط والنفر وان كان لما لا يعقل فحكمه حكم المؤنث كالجامل والباقر. هذا
ما ذكره النحاة ولكن فيه نظرا لأن نسوة اسم جمع وحكمه حكم المؤنث باتفاق فيقال
ثلاث نسوة ، والتذكير والتأنيث مع الجمع يعتبران بحال مفرده فان كان مفرده مذكرا
أنث عدده وإن كان مؤنثا ذكر عدده فلذلك تقول ثلاثة اصطبلات جمع إصطبل بقطع الهمزة
المكسورة وثلاثة حمامات لأن الاصطبل والحمام مذكران ، وتقول ثلاث سحابات بترك
التاء اعتبارا بالسحابة فهي مؤنثة ولا يعتبر من حال الواحد حال لفظه حتى يقال ثلاث
طلحات بترك التاء ، ولا يعتبر حال معناه حتى يقال ثلاث أشخص بتركها أيضا يريد نسوة
لأن الشخص يقع على المذكر والمؤنث ، بل ينظر الى ما يستحقه المفرد باعتبار ضميره
فيعكس حكمه في العدد فأما قول عمر بن أبي ربيعة :
فكان مجني
دون من كنت أتقي
|
|
ثلاث شخوص
كاعبان ومعصر
|
فضرورة وكان
القياس فيه ثلاثة شخوص بالتاء ولكنه كنى بالشخوص عن النساء والذي سهل ذلك قوله : «كاعبان
ومعصر» فاتصل اللفظ بما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث ، والكاعب الجارية حين
يبدو ثديها للنهود ، والمعصر بضم الميم وكسر الصاد الجارية أول ما أدركت سميت بذلك
لكونها دخلت في عصر الشباب كما قال الخليل.
هذا وقد جمح
بنا عنان القول فحسبنا ما تقدم أوردناه لاهميته وفائدته ولا بد من الرجوع الى
المطولات لمن أراد المزيد.
٢ ـ اعلم أنهم
قد كسروا شيئا من الأسماء لا على الواحد المستعمل بل نحملوا لفظا آخر مرادفا له
فكسروه على ما لم يستعمل فمن ذلك رهط وأراهط قال الشاعر :
يا بؤس للحرب
التي
|
|
وضعت أراهط
فاستراحوا
|
وليس القياس في
رهط أن يجمع على أراهط لأن هذا البناء من جموع الرباعي وما كان على عدته نحو جعفر
وجعافر وجدول وجداول وأرنب وأرانب. وليس أرهط بجمع رهط إذ لو كان كذلك لم يكن شاذا
ويدل على ذلك أن الشاعر قد جاء به لما احتاج اليه قال :
وفاضح مفتضح
في أرهطه
|
|
من أرفع
الوادي ولا من بعثطه
|
والبعثط
والبعثوط : سرّة الوادي وخير موضع فيه.
هذا وقد اختلف
النحويون في أراهط ، فزعم قوم منهم أنه جمع أرهط الذي هو جمع رهط وهو النفر من
ثلاثة الى عشرة ، وزعم أكثر النحويين أن أراهط جمع رهط على خلاف القياس. والبيت
مطلع قصيدة لسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد الشاعر وبعده
:
والحرب لا
يبقى لجا
|
|
حمها التخيل
والمراح
|
إلا الفتى
الصبار في النّ
|
|
نجدات والفرس
الوقاح
|
والنثرة
الحصداء وال ...
|
|
بيض المكلّل
والرماح
|
وتساقط الأوشاظ
والذّ
|
|
نبات إذ جهد
الفضاح
|
والكر بعد
الفر إذ
|
|
كره التقدم
وال
|
نطاح كشفت
لهم عن ساقها
|
|
وبدا من الشر
الصراح
|
لفظ الآيين في
شعر أبي نواس :
وردت في باب
الاعراب كلمة الإسكندر وفيها يقول : ليس من آيين الملوك استراق الظفر ، ونحب أن
نورد أبياتا لأبي نواس استعمل فيها كلمة الآيين فجاءت خفيفة ظريفة رغم غرابتها ،
قال أبو نواس يصف ما جرى له في دير نهراذان :
بدير نهراذان
لي مجلس
|
|
وملعب وسط
بساتينه
|
رحت إليه
ومعي قينة
|
|
نزوره يوم
سعانينه
|
بكلّ طلاب
الهوى فاتك
|
|
قد آثر
الدنيا على دينه
|
حتى توافينا
الى مجلس
|
|
تضحك ألوان
رياحينه
|
والنرجس الغض
لدى ورده
|
|
والورد قد
خفّ بنسرينه
|
وجيء بالدن
على مرفع
|
|
وخاتم العلج
على طينه
|
وطاف بالكأس
لنا شادن
|
|
يدميه مس
الكف من لينه
|
يكاد من
اشراق خديه أن
|
|
يختطف
الابصار من دونه
|
فلم يزل يسقي
ونلهو به
|
|
ونأخذ القصف
بآيينه
|
حتى غدا
السكران من سكره
|
|
كالميت في
بعض أحايينه
|
فقوله نأخذ
القصف بآيينه أي برسومه وقوانينه وشروطه.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ
لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))
الاعراب :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر القصة
الخامسة والأخيرة من قصص السورة ، ولوطا مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر أو
أرسلنا ، فإن جعلته اذكر كانت إذ ظرفا لما مضى من الزمان متعلقا باذكر ، وان جعلته
أرسلنا كانت إذ بدل اشتمال من لوطا وجملة قال مجرورة بإضافة الظرف إليها ، ولقومه
جار ومجرور متعلقان بقال ، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون فعل مضارع
والواو فاعل والفاحشة مفعول به والجملة مقول القول ، وأنتم الواو حالية وأنتم
مبتدأ وجملة تبصرون خبر أنتم والمراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة ومع ذلك
تفعلونها. (أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وكرر التوبيخ زيادة
في التقبيح واستسماج هذه الفعلة الشنعاء المخالفة لنواميس الطبيعة ، وسيرد في باب
الفوائد بحث عن هذه الميول الجنسية الشاذة التي لا يبلغ كنه قبحها ، وان واسمها
واللام المزحلقة وجملة تأتون الرجال خبرها وشهوة مفعول لأجله أو حال من الفاعل أو
المفعول ومن دون النساء متعلقان بمحذوف حال من الفاعل. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) بل حرف إضراب وأنتم مبتدأ وقوم خبر وتجهلون صفة لقوم. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب قومه
خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول في موضع الرفع اسم كان المؤخر
وجملة أخرجوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وآل لوط مفعول به ومن قريتكم متعلقان
بأخرجوا وإنهم تعليل لإخراجهم وان واسمها وأناس خبرها وجملة يتطهرون صفة أي
يتنزهون عن هذا العمل القذر. (فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على مقدر محذوف يفهم من السياق أي فخرج لوط
بأهله من أرضهم بعد أن أحس بمكرهم وكيدهم وتربصهم الدوائر. وأنجيناه فعل ماض وفاعل
ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى
وجملة قدرناها حال وقدرناها فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الغابرين متعلقان
بقدرناها أي الباقين في العذاب. (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الواو عاطفة وأمطرنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأمطرنا
ومطرا مفعول به ، فساء الفاء عاطفة وساء فعل ماض للذم ومطر المنذرين فاعل.
الفوائد :
النرجسية
والشذوذ الجنسي :
يرجع الفلاسفة
المحدثون ظواهر الشذوذ في غرائز الجنس الى النرجسية ، ولهذا كان لا بد من أن نشرح
هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون : كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم
نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل يفتن من يراه ويشقي
بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات ، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن ، ولم
يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن الى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو
يصرفوه عنهن واستجابت «نمسي» ربة القصاص والجزاء الى هذا الدعاء فقضت عليه أن يهيم
بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته ، قال رواة الأساطير : فما هو
إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه فوقف عندها يعجب من جمالها
وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقا الى الماء ليتملّى تلك الصورة ويرتوي
من النظر إليها فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقا ولا تزيده اللهفة إلا هزالا وذبولا
حتى فني ، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو
الى الماء ولا ترفع بصرها الى السماء ، فالنرجس أبدا مطرق مفتوح العين لا يشبع من
النظر الى خياله على حوافي الجداول والغدران. وهناك روايات أخرى حول هذه الأسطورة
تمثل الصدى والحذر والسبات لا تخرج عن هذا الفحوى وتلحق بما تنطوي
عليه آفة النرجسية من الغرائز أو من الميول والأحاسيس ولهذا وقع عليها
اختيار المحللين النفسيين فلم يجدوا اصطلاحا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية
مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في
العلوم ، وأول من أدخل هذا المصطلح في الطب النفسي الدكتور هافلوك أليس رائد
المباحث الجنسية المشهور ، ثم توسّع الأطباء النفسيون في دراسة هذه الآفة وتتبعوا
أعراضها ولوازمها واستقصوا ما هو من لوازمها الأولية وما هو من لوازمها الثانوية
أو التبعية ، وتعنينا هنا من شعابها التي تتصل بدراسة المنحرفين شعبتان :
١ ـ تسمى
إحداهما الاشتهاء الذاتي.
٢ ـ تسمى
ثانيتهما التوثين الذاتي.
فالاشتهاء
الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها ويبلغ
من اختلال هذه الوظائف أن المصاب به يمني إذا أطال النظر الى بدنه عاريا في المرآة
وما إليها وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه ولكنها شهوة يبالغ فيها
المريض.
والتوثين
الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية ، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنا يعبده
ويعزه ويدلله ، فلازمة التلبيس والتشخيص لاغنى في الشذوذ الجنسي ، وهو عشق الإنسان
لذاته من الناحية الشهوية ، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي
مأربه ، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي
مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص ، فهو يلبس شخصيته شخصا
آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محلّ ذاته وكما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة.
هذا ومن المفيد
أن يرجع الذي يتوق الى معرفة تطور النظريات في مسائل الجنس الى الكتب المؤلفة في
هذا الصدد فهي تلقي أضواء على المشكلة ولكنها لا تحلها ، لأنها كلها لم تنته الى
تهوين الفوارق بين الجنسين ولا إلى زعم الزاعمين أن الإنسان مزدوج الجنسين مختلط
الذكورة والأنوثة بطبيعته ، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب
العمر من الطفولة الى تمام النمو في الجنسين كما يقول فرويد ومتبعوه.
وقد صور أبو
نواس وهو قطب من أقطاب النرجسيين هذه الأطوار خير تمثيل وهو يغشى معاهد الدرس على
هذا المثال في عرفه بقوله :
إذا ما وطئ
الأمر
|
|
د للعلم حصى
المسجد
|
فقل حلّ لنا
عقدا
|
|
من الفقه
واستفسد
|
فإن كان
عروضيا
|
|
فقولوا سجد
الهدهد
|
وإن أعجبه
النحو
|
|
فها ذاك له
أجود
|
وإن مال الى
الفقه
|
|
فللفقه له
أفسد
|
وان كان
كلاميا
|
|
فحرّك طرف
المقود
|
وميله الى
الخير
|
|
فقيه قرب ما
يبعد
|
وخذه كيفما
شئت ـ
|
|
اقتضابا أو
على موعد
|
وقل : هذا قضاء
الله هل يدفع أو يجحد وانتهى مصرحا :
فيا من وطئ
المسجد
|
|
من ذي بهجة
أغيد
|
أنا قست على
نفسي
|
|
فهذا الأمر
لا أجحد
|
وننتهي من هذا
البحث وقد كان أمرا لا بد منه وإن لم يكن هذا موضعه.
تصحيح رواية
بيت في الكشاف لأبي نواس : ذكر الزمخشري في كشافه بصدد الحديث عن قوم لوط قال : «...
كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة
وانهماكا في المعصية وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله :
وبح باسم ما
تأتي وذرني من الكنى
|
|
فلا خير في
اللذات من دونها ستر
|
وصواب الرواية «وبح
باسم من تهوى ودعني من الكنى» البيت وهو من قصيدة رائعة أولها :
ألا فاسقني
خمرا وقل لي هي الخمر
|
|
ولا تسقني
سرا إذا أمكن الجهر
|
وبعد البيت :
فعيش الفتى
في سكرة بعد سكرة
|
|
فإن طال هذا
عنده قصر العمر
|
وبعده :
وما الغرم
إلا أن تراني صاحيا
|
|
وما الغرم
إلا أن يتعتعني السكر
|
ولا نمرّ بك
دون أن نقف عند البيت الأول فقد قال «وقل لي هي الخمر» وقد يبدو هذا حشوا للوهلة
الأولى ولكن القارئ إذا ذكر أن للانسان خمس حواس علم أن أبا نواس قصد أن يشرك حاسة
السمع التي تظل محرومة من لذة الخمر حال شربها فطالب ندمانه أن يخاطبه باسمها
ليشرك حاسة سمعه وهذا من أعاجيب فطنته.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ
الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ
بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))
اللغة :
(حَدائِقَ) : جمع حديقة أي بستان من أحدق بالشيء أحاط به ، ولما
كان البستان محوطا بالحيطان سمي حديقة وإلا فلا يسمى بها ، وفي المصباح : «والحديقة
البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها أي أحاط ، ثم
توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع الحدائق» وفي
الصحاح : «الحديقة : كل بستان عليه حائط» ومن أقوالهم : «ورد عليّ كتابك فتنزهت في
آنق رياضه ، وبهجة حدائقه».
الاعراب :
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) كلام مستأنف مسوق لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده
تعالى وبالسلام على
المصطفين الأخيار من خلقه وكأن هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من
البراهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيرد ذكرها وذلك بعد أن فرغ
من قصص هذه السور الخمس. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد ليكون
نموذجا يتأسى به كل كاتب وخطيب ويحتذى على مثاله في كل علم مفاد ، والحمد مبتدأ
ولله خبره وسلام مبتدأ سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى عباده خبر
والذين صفة لعباده وجملة اصطفى صلة والعائد محذوف أي اصطفاهم وهم المؤمنون
المتأهلون للدنيا والآخرة. (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) الهمزة للاستفهام والله مبتدأ وخير خبر وأم عاطفة وما
اسم موصول واقع على آلهتهم وجملة يشركون صلة. (أَمَّنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ
حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أم منقطعة لفقدان شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام وهي
بمعنى بل والإضراب بمعنى التبكيت والتوبيخ ومن مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة
وخبر من محذوف تقديره خير أم ما يشركون فيقدر ما أثبت في الاستفهام الأول تعويلا
عليه وهذا ما اختاره الزمخشري وهو جميل متناسب مع الكلام ، وقال أبو الفضل الرازي
:«لا بد من إضمار جملة معادلة وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه وتقدير
تلك الجملة : أمن خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك أخواتها وقد أظهر في غير
هذه المواضع ما أضمر فيها كقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق» ولا نرى خلافا
بينا بين الوجهين. وأنزل عطف على خلق ولكم حال ومن السماء متعلقان بأنزل وماء
مفعول به والفاء عاطفة وأنبتنا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات ، وسيأتي في باب
البلاغة ، وبه متعلقان بأنبتنا وحدائق مفعول به وذات بهجة صفة لحدائق وسوغ إفراده
أن المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل.
(ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها) الجملة نعت ثان لحدائق أو حال منها لتخصصها بالصفة ،
وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر
وتنبتوا فعل مضارع منصوب بأن والواو فاعل وشجرها مفعول. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي وإله
مبتدأ وساغ الابتداء به لإفادته بسبب الاستفهام ومع الله ظرف متعلق بمحذوف خبر وبل
حرف إضراب معناه التبكيت ، وقد تكرر هذا التعبير خمس مرات كما سترى ، وهم مبتدأ
وقوم خبر وجملة يعدلون صفة. (أَمَّنْ جَعَلَ
الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) تقدم إعراب هذا التركيب فقس عليه ، وقرارا مفعول جعل
الثاني ، وجعل خلالها أنهارا عطف على الجملة الأولى ، وخلالها يجوز أن يكون ظرفا
لجعل بمعنى خلق المتعدية لواحد وأن يكون في محل المفعول الثاني على أنها بمعنى
صيّر وعلى الوجه الأول يكون قرارا حالا. (وَجَعَلَ لَها
رَواسِيَ) جملة معطوفة. (وَجَعَلَ بَيْنَ
الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم وقد تقدم إعرابها.
(أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) تقدم إعرابها وجملة دعاه في محل جر بإضافة الظرف إليها
والمضطر اسم مفعول ، وطاؤه أصلها تاء الافتعال. (وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تقدم إعرابها ، وقليلا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف
وما زائدة لتقليل القليل وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والواو فاعل. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تقدم إعرابها. (وَمَنْ يُرْسِلُ
الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقدم اعرابها أيضا. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تقدم اعرابها أيضا. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ
قُلْ
هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن شرطية وجوابها محذوف تقديره فهاتوا برهانكم ، وقد
قدمنا أن قوله أإله ذكر خمس مرات وختم الأول بقوله «بل هم يعدلون» وختم الثاني
بقوله «بل أكثرهم لا يعلمون» والثالث بقوله : «قليلا ما يذكرون» والرابع بقوله :«تعالى
الله عما يشركون» والخامس بقوله «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».
البلاغة :
الالتفات في
قوله : «فأنبتنا به حدائق ذات بهجة» بعد قوله «أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم
من السماء ماء» فقد انتقل في نقل الإخبار من الغيبة الى التكلم عن ذاته في قوله
فأنبتنا ، والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى وللإيذان بأن إنبات
الحدائق المختلفة الأصناف وما يبدو فيها من تزاويق الألوان وتحاسين الصور ،
ومتباين الطعوم ، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج كل ذلك لا يقدر عليه
إلا قادر خالق وهو الله وحده ، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك «ما كان لكم
أن تنبتوا شجرها» وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة فقال :
تأمل في رياض
الأرض وانظر
|
|
إلى آثار ما
صنع المليك
|
عيون من لجين
شاخصات
|
|
بأنظار هي
الذهب السبيك
|
على قضب الزبرجد
شاهدات
|
|
بأن الله ليس
له شريك
|
هل تاب أبو
نواس؟ :
هذا ولعلك تعجب
من هذه الأبيات تنضح بالإيمان العميق وتصدر عن رجل كأبي نواس لم يظلمه الذين
اتهموه ولم تعوزهم الأدلة على اتهامه بالفساد ولكنهم ظلموا الفلسفة فظنوها مدرجة
المطلعين عليها الى الزندقة ومذاهبها ، ولا زندقة هنا عند أبي نواس ولا مذهب غير
المجون وحب الظهور ، ولقد كان ابراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بما يسمونه علوم
الأوائل وكان أبو نواس يحضر عليه فينهاه عن التبذل ويذكره بالوعيد ويقول له : إن
من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده ، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه
فطرده من مجلسه ، فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالابراهيمية ومطلعها مشهور متداول
:
دع عنك لومي
فإن اللوم إغراء
|
|
وداوني بالتي
كانت هي الداء
|
وفيها يسخر من
النظام :
فقل لمن يدعي
في العلم فلسفة
|
|
حفظت شيئا
وغابت عنك أشياء
|
لا تخطر
العفو إن كنت امرأ حرجا
|
|
فإن خطرك
بالدين إزراء
|
فأبو نواس لم
يكن سوى ماجن مستهتر وقد كان المجون في
عرف بيئته هو الظرف ، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون ،
فقال له : أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن وإنما المجون ظرف ولست أبعد فيه عن
حد الأدب أو أتجاوز مقداره ، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله عز وجل وقوله
تعالى :«يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر
الذنوب جميعا» وقد تلقف أبو نواس أضاليل المرجئة وقولهم :«لا يضر مع الإيمان سيئة
جلت أو قلت أصلا ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا» فنادى بذلك ويظهر أنه استهواه :
ترى عندنا ما
يسخط الله كله
|
|
من العمل
المردي الفتى ما خلا الشركا
|
ثم عدل نظريته
بعض الشيء فاكتفى بالقول إن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار ولا تحرمه الرجاء
بعفو الله وقوله مشهور في ذلك :
تكثر ما
استطعت من الخطايا
|
|
فإنك بالغ
ربا غفورا
|
تعض ندامة
كفيك مما
|
|
تركت مخافة
النار السرورا
|
ومن ذلك قوله :
يا كبير الذنب
عفو الله من ذنبك أكبر على أنه تاب في أخريات عمره ، وقد نستشف من أشعاره التي
نظمها في تلك السن المشارفة على النهاية صدق توبته ، فقال معترفا بتأخيرها بعد
فوات حينها :
دبّ فيّ
الفناء سفلا وعلوا
|
|
وأراني أموت
عضوا فعضوا
|
ذهبت شرّتي
وجدة نفسي
|
|
وتذكرت طاعة
الله
|
نضوا ليس من
ساعة مضت بي إلا
|
|
نقصتني بمرها
لي
|
جزوا لهف
نفسي على ليال وأيا
|
|
م سلكتهن
لعبا و
|
لهوا قد أسأنا
كل الإساءة يا
|
|
رب فصفحا عنا
إلهي وعفوا
|
(قُلْ
لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ
وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ (٧٠))
الاعراب :
(قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين والنحاة وخاضوا فيها
كثيرا وسنختار هنا أسهل أقوالهم على أن نورد في باب الفوائد جميع ما قيل حولها لما
في ذلك من رياضة ممتعة للذهن. والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم وقد سألوه عن وقت
قيام الساعة ، فـ «لا»
نافية ويعلم فعل مضارع ومن اسم موصول فاعل يعلم وفي السموات والأرض صلة من
، أي لا يعلم الذي ثبت واستقر وسكن في السموات والأرض والغيب مفعول به وإلا أداة
استثناء بمعنى لكن اشارة الى أن الاستثناء منقطع والله مبتدأ خبره محذوف تقديره
يعلم ويصح أن تكون من في محل نصب مفعول به والغيب بدل اشتمال منها والله فاعل يعلم
والمعنى قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله
تعالى والواو عاطفة وما نافية ويشعرون فعل مضارع وفاعل وأيان اسم استفهام بمعنى
متى وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة ليشعرون عن العمل فالجملة المؤلفة منها ومما بعدها
في محل نصب بنزع الخافض أي ما يشعرون بذلك. (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقال الجلال هي بمعنى هل وهو غريب
بالرغم من أن شراح الجلال قالوا ان طريقة الجلال أسهل من الطرق التي سلكها غيره ،
وادارك فعل ماض أي لحق وتتابع ، وأورد الزمخشري اثنتي عشرة قراءة لها ، وعلمهم
فاعل وفي الآخرة متعلقان بادارك أو بعلمهم وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل
معنى لأنه كان حتما كقوله «أتى أمر الله» ، بل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ
وفي شك خبر ومنها صفة لشك وبل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ ومنها متعلقان
بعمون وعمون خبر هم ، والعمى هنا عمى القلب ، والأصل عميون استثقلت الضمة على
الياء فنقلت الى الميم بعد حذف كسرتها.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) الواو للعطف وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة
الذين والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
كنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وترابا خبرها وآباؤنا عطف
على اسم كان وسوغ العطف عليه الفصل بالخبر والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وإن
واسمها واللام المزحلقة ومخرجون خبر إن والجملة تأكيد للجملة الأولى. (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا
مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة تأكيد ثان للجملة السابقة واللام جواب للقسم
المحذوف وقد حرف تحقيق ووعدنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وهذا مفعول به
ثان لوعدنا ونحن تأكيد لنا وآباؤنا عطف على الضمير البارز في وعدنا وسوغ العطف
تأكيده بالضمير المنفصل والفصل بالمفعول الثاني ومن قبل متعلقان بوعدنا والظرف
مبني على الضم لانقطاعه على الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل مجيء محمد من الرسل
السابقين ، وهنا لا بد من تقدير حذف اقتضاه الإيجاز فلو كان الموعود به حقا لحصل
وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير خبر هذا والأولين مضاف إليه.
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) سيروا فعل أمر معناه التهديد لهم على التكذيب والتحذير
من أن ينزل بهم ما حاق بالمكذبين من قبلهم وفي الأرض متعلقان بسيروا ، فانظروا عطف
على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المجرمين اسم كان
المؤخر. (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة على قل ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم
بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وعليهم متعلقان بتحزن ولا تكن عطف على لا تحزن واسم
تكن مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة.
الفوائد :
منشأ الاضطراب
في هذه الآية أنهم ـ أي النحاة ـ أعربوا لفظ الجلالة بدلا من «من» وفي ذلك إبدال
المستثنى المنقطع وهي لغة مرجوحة لتميم ، ولما كانت القراءة مما اتفق عليه السبعة
بالرفع حصل ذلك الاشكال ، وفيما ذكرناه أي إعراب لفظ الجلالة مبتدأ مخلص من هذا
كله قالوا : «والله مرفوع على البدلية من «من» لأنه تعالى لا يحويه مكان».
وجوز الصفاقسي
أن يكون الاستثناء متصلا والظرفية في حقه تعالى مجازية وفيه جمع بين الحقيقة
والمجاز في الظرفية وعلى هذا فيرتفع على البدل أو عطف البيان. وقد سبق لنا تقرير
الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة وأرجحنا جواز اجتماعهما وعلى ذلك قولهم «القلم
أحد اللسانين» وجميع أهل الأصول من أتباع الإمام الشافعي لا يشترطون في المجاز
القرنية المانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وفي الجمع بين
الحقيقة والمجاز إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وهو نوع من البديع يسمى
التنويع ، وهو ادعاء أن مسمّى اللفظ نوعان : متعارف وغير متعارف على طريق التخيل
وهو نوع واسع يجري في أبواب كثيرة ، منه أن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه
منزلته بدون تشبيه ولا استعارة كقولهم «تحية بينهم ضرب وجيع» وقولهم عقابه السيف.
وقال ابن
الكمال : فإن قلت : كيف استثني الله وانه تعالى منزه ومتعال عن أن يكون في السموات
والأرض؟ قلت كما استثني «غير أن سيوفهم» من قوله أي النابغة الذبياني :
ولا عيب فيهم
غير أن سيوفهم
|
|
بهن فلول من
قراع الكتائب
|
يعني إن كان
الله تعالى ممن في السموات والأرض كان فيهم من يعلم الغيب ، والغرض المبالغة في
نفي العلم بالغيب عنهم وسد الطريق الى ذلك الاحتمال ، فالاستثناء متصل كما في قوله
تعالى : «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف» فإن شراح الكشاف
قاطبة صرحوا بأن الاستثناء فيه متصل.
والعجب أن
البيضاوي جوّز اتصال الاستثناء في آية النكاح على الوجه المذكور وجزم هنا بانقطاعه
، والظاهر من كلام الزمخشري أيضا القطع بالانقطاع حيث قال : «جاز رفع اسم الله
تعالى على لغة بني تميم حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كأن أحدا لم يذكر
فإنه على تقدير الكلام على النسق المذكور يصح رفع اسم الله على لغة أهل الحجاز
أيضا.
واعترض بعضهم
على الاعراب الثاني أي نصب «من» واعراب الغيب بدلا من «من» بدل اشتمال فقال إن بدل
الاشتمال يحتاج الى ضمير يكون رابطا ولا ضمير هنا وليس البدل بعد أداة الاستثناء
ليقال إن قوة المستثنى بالمستثنى منه تغني عنه ، وعلى هذا فالوجه الأول خال من كل
محذور.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ
لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ
ما تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ
وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي
كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ
أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨))
اللغة :
(رَدِفَ) : في القاموس : «ردفه كسمع ونصر تبعه» ولكنه ضمن هنا
معنى دنا أو قرب ولذلك عدي باللام أو أن اللام زائدة كما سيأتي في الاعراب وقد عدي
بمن أيضا قال :
فلما ردفنا
من عمير وصحبه
|
|
تولوا سراعا
والمنية تعنق
|
ردف كتبع يتعدى
بنفسه وضمن هنا معنى الدفو فعدي بمن ، وأعنق الفرس سار سيرا سريعا سهلا والعنق اسم
منه ، يقول الشاعر فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين والحال أن
الموت يسرع خلفهم من جهتنا ، شبه المنية بالأسد على طريق الاستعارة المكنية فأثبت
لها العنق تخييلا كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال.
ويجوز أنه
استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح أي ونحن نسرع خلفهم فذكر العنق تجريد
لأنه يلائم المشبه والعنق ضرب من سير الدواب كما في الصحاح.
وقال ابن
الشجري :
معنى ردف لكم
تبعكم ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب.
عاد السواد
بياضا في مفارقه
|
|
لا مرحبا
ببياض الشيب إذ ردفا
|
قال الجوهري :
وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد :
إذا الجوزاء
أردفت الثريا
|
|
ظننت بآل
فاطمة الظنونا
|
الاعراب :
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والخطاب للنبي ويقولون فعل مضارع وفاعل
ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا
مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب
الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
(قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) عسى ولعل وسوف إذا خوطب بها من هو أكبر منك قدرا فهي
بمثابة الجزم بمدخولها وإنما يطلقونها للوقار وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء
واسمها مستتر تقديره هو وان يكون مصدر مؤول خبرها واسم يكون مستتر تقديره هو وردف
فعل ماض ضمن فعل يتعدى باللام
وبعض فاعل والذي مضاف اليه وجملة تستعجلون صلة وجملة ردف خبر يكون وقيل إن
ردف على بابها بمع تبع واللام زائدة. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وذو فضل
خبرها وعلى الناس متعلقان بفضل أو صفة له والواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب
وأكثرهم اسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يعلم خبر
إن وما مفعول به وجملة تكن صدورهم صلة والعائد محذوف وما يعلنون عطف على ما تكنّ. (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وما نافية ومن حرف جر زائد وغائبة مجرور
لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لدخول النفي عليها ،
والغائبة كل ما يخفى ، سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيهما
بمنزلتهما في العافية والعاقبة والنصيحة والرمية والذبيحة في أنها أسماء غير صفات
ويجوز أن تكون هذه صفات والتاء فيها للمبالغة كراوية وعلامة ونسابة. وفي السماء
والأرض صفة لغائبة وإلا أداة حصر وفي كتاب خبر غائبة ومبين صفة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الجملة مستأنفة لبيان نوع آخر من ميزات القرآن وان
واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة وجملة يقص خبر إن وعلى بني إسرائيل جار ومجرور
متعلقان بيقص وأكثر مفعول به والذي مضاف اليه وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون
صلة الذي. (وَإِنَّهُ لَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهدى خبرها
ورحمة عطف على هدى وللمؤمنين صفة. (إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال
وبحكمه متعلقان بيقضي وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والعليم خبر ثان.
الفوائد :
أحكام التاء
المتحركة اللاحقة بالأسماء والصفات :
هذه التاء إحدى
علامات التأنيث المختصة بالأسماء لأنه لما كان التأنيث فرعا للتذكير احتاج لعلامة
تميزه ، على أن العرب قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة ويستدل على ذلك التقدير
بالضمير العائد عليها نحو : «النار وعدها الله الذين كفروا» و «حتى تضع الحرب
أوزارها» و «إن جنحوا للسلم فاجنح لها» وبالإشارة إليها نحو : «هذه جهنم» وبثبوتها
في تصغير الاسم نحو عيينة وأذينة مصغر عين وأذن من الأعضاء المزدوجة فإن التصغير
يرد الأشياء الى أصولها ، فإن القاعدة المشهورة هي : أن ما كان من الأعضاء مزدوجا
فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين والمنخرين والخدين فإنها مذكرة ، على أن المرجع
السماع فإن من المزدوج الكف وهي مؤنثة ، وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد :
ولو كفي
اليمين تقيك خوفا
|
|
لأفردت
اليمين عن الشمال
|
ولكن هذا وهم
من المبرد فإن اليمين بمنزلة اليمنى فهي مؤنثة.
وقال ابن يسعون
: على انه رجع الى التأنيث فقال تقيك. ونعود الى طرق الاستدلال فنقول ويستدل على
التقدير أيضا بثبوتها في فعله نحو :«ولما فصلت العير» وبسقوطها من عدده كقول حميد
الأرقط يصف قوسا عربية :
أرمي عليها
وهي فرع أجمع
|
|
وهي ثلاث
أذرع وأصبع
|
فأذرع جمع ذراع
وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث والواو في قوله «وهي» فرع للحال
يقال قوس فرع إذا عملت من رأس القضيب ولم يرد بقوله وإصبع حقيقة مقدار الإصبع
ولكنه أشار بذلك الى كمال القوس كما تقول : الثوب سبع أذرع وزائد تريد أنها موفاة
هذا العدد.
والغالب في هذه
التاء أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم ، ومن غير الغالب في
الأسماء غير الصفات نحو رجل ورجلة وغلام وغلامة وفي الصفات التي تنزل على مقصدين
وهي الصفات المختصة بالمؤنث كحائض وطامث فإن قصد بها الحدوث في أحد الأزمنة لحقتها
التاء فقيل حائضة وطامثة وإن لم يقصد بها ذلك لم تلحقها فيقال حائض وطامث بمعنى
ذات أهلية للحيض والطمث.
وقال في
المفصّل : «للبصريين في نحو حائض وطامث مذهبان : فعند الخليل انه على النسب كلابن
وتامر كأنه قيل ذات حيض وذات طمث ، وعند سيبويه أنه مؤول بانسان أو شيء حائض
كقولهم غلام ربعة على تأويل النفس وانما يكون ذلك في الصفة الثابتة وأما الحادثة
فلا بد لها من علامة التأنيث فتقول حائضة وطالقة الآن أو غدا» وقد أوضحنا الفرق
بين الصفة الحادثة والثابتة في الكلام عن قوله تعالى «يوم ترونها تذهل كل مرضعة
عما أرضعت» بأن المرضع هي التي من شأنها الإرضاع والمرضعة هي التي في حالة الإرضاع
ملقمة ثديها للصبي فانظره هناك.
وقال في المفصل
: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء في حائض للاستغناء عنها» وهذا يوجب اثبات التاء
في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيّب وعانس وهذا الاعتراض بيّن ، وأما الاعتراض
بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة مصيبة وكلبة مجرية على ما في
الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة
الاستغناء عن الأصل كحاملة في المرأة ، قال الجوهري في الصحاح : يقال امرأة حامل
وحاملة إذا كانت حبلى ، فمن قال حامل قال هذا نعت لا يكون إلا للإناث ، ومن قال
حاملة بناء على حملت فهي حاملة ، وأنشد لعمرو بن حسان :
تمخضت المنون
له بيوم
|
|
أتى ولكل
حاملة تمام
|
فإذا حملت شيئا
على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير.
هذا ولا تدخل
هذه التاء في خمسة أوزان :
١ ـ فعول بفتح
الفاء بمعنى فاعل كرجل جسور وامرأة جسور «وما كانت أمك بغيّا» وقد سبق ذكرها في
سورة مريم.
٢ ـ فعيل بمعنى
مفعول نحو رجل جريح وامرأة جريح ، فإن قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية
الالتباس بالمذكر لأنك لم تذكر الموصوف.
٣ ـ مفعال بكسر
الميم نحو منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار.
٤ ـ مفعيل بكسر
الميم كمعطير من العطر وشذّ امرأة مسكينة وسمع امرأة مسكين على القياس.
٥ ـ مفعل كمغشم
وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته.
تاء الفصل :
وتأتي التاء لفصل واحد من الجنس كتمرة وتمر ، أو فصل الجنس من الواحد نحو كماة
وليس منه سيارة في قوله تعالى «وجاءت سيارة» فإنها جمع سيار لا من أسماء الأجناس.
تاء العوض :
وتاء العوض وهي التي تأتي عوضا من فاء كعدة ، أو عين كإقامة ، أو لام كسنة ، أو من
حرف زائد لغير معنى كزنديق وزنادقة فالتاء عوض من ياء زناديق.
تاء التعريب :
وتاء التعريب وهي التي تأتي لتعريب الأسماء الأعجمية كموازجة جمع موزج بفتح الميم
وسكون الواو وفتح الزاي بعدها جيم وهو الخف أو الجورب والقياس موازج فدخلت التاء
في جمعه لتدل على أن أصله أعجمي فعرب.
تاء المبالغة :
وتاء المبالغة في الوصف كراوية لكثير الرواية ونسّابة لكثير العلم بالأنساب.
(فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً
مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))
الاعراب :
(فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الفاء الفصيحة لأنها تفريع على قوله العزيز العليم أي
ان عرفت هذه الصفات لله تعالى وآمنت بها فتوكل. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره
أنت وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل وجملة انك على الحق المبين لا محل لها
لأنها تعليل للتوكيل وإن واسمها وخبرها والمبين صفة. (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تعليل ثان للأمر بالتوكل ، يقطع طمعه عن متابعتهم. وان
واسمها وجملة لا تسمع خبر والموتى مفعول به ولا تسمع الصم عطف على سابقتها والصم
مفعول به أول والدعاء مفعول به ثان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ولوا
مجرورة باضافة الظرف إليها ومدبرين حال. (وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وأنت اسمها
والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والعمي مضاف اليه
وعن ضلالتهم متعلقان بهادي وعدي بعن لتضمنه معنى تصرفهم ، وأجاز أبو البقاء وجها
آخر وهو أن يتعلق بالعمى لأنك تقول عمي عن كذا وهو وجه سائغ مقبول ، ومثل الزمخشري
للوجه الأول بقولهم : سقاه عن العيمة أي أبعده عنها بالسقي ، والعيمة شهوة اللبن
كما في الصحاح. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا
أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة وبآياتنا متعلقان بيؤمن والفاء الفصيحة وهم
مبتدأ ومسلمون خبر.
(وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان بعض أمائر
الساعة الدالة عليها والمراد
بالقول ما نطق به القرآن من الآيات التي تنبيء عن الساعة والمراد بوقوعه
وهو لم يقع قرب حصوله. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة وقع القول في محل
جر بإضافة الظرف إليها والقول فاعل وقع وعليهم متعلقان بوقع وجملة أخرجنا لا محل
لها لأنها جواب شرط غير جازم ولهم متعلقان بأخرجنا ودابة مفعول به ومن الأرض صفة
لدابة وسيأتي ما قيل في دابة الأرض في باب الفوائد.
(تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) جملة تكلمهم صفة ثانية لدابة أو حال منها لأنها وصفت ،
وأن بفتح الهمزة على تقدير الباء أي بأن الناس والجار والمجرور متعلقان بتكلمهم
وقرئ بكسرها على الاستئناف ، وان واسمها وجملة كانوا خبر ان وكان واسمها وبآياتنا
متعلقان بيوقنون ولا نافية وجملة لا يوقنون خبر كانوا والكلام إما من الله تعالى
وإما من كلام الدابة ، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه وردّ على المعترضين بأن قوله
بآياتنا يعكر على ذلك بأن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو
لاختصاصها بالله وأثرتها عنده وانها من خواص خلقه أضافت آيات الله الى نفسها كما
يقول بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وانما هي خيل مولاه وبلاده.
البلاغة :
في قوله «ولا
تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين» فن الإيغال وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه
قبل أن يأتي بمقطعه ، فإذا أريد الإتيان به أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك
الكلام ، فقد انتهى الكلام عند قوله ولا تسمع الصم الدعاء فما معنى قوله ولوا
مدبرين؟
والجواب أنه
أتى بها وقد أغنى عنها ذكر التولي في الظاهر أما في الحقيقة فهو لم يغن عنها لأن التولي
قد يكون بجانب دون جانب كما يكون الاعراض ، ولما أخبر سبحانه بذكر توليهم متمما
للمعنى في حال الخطاب لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الاشارة ، فإن الأصم يفهم من
الاشارة ما يفهمه السامع من العبارة ، ثم علم سبحانه أن التولي قد يكون بجانب دون
جانب كما قدمنا فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به فيدرك بعض الاشارة والمراد
نفي كل الاشارة فجاءت الفاصلة «مدبرين» ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث
صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب إذ صار من ورائه فخفيت من
غيبه الاشارة كما صمّت أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة الكلية في عدم الاسماع
البتة ، وهذا تمثيل مثلت به حال هؤلاء القوم أتى مدمجا في الإيغال وهذا الضرب من
الإيغال يسمى ايغال الاحتياط.
وهناك ضرب آخر
وهو ايغال التخيير وقد مضى شاهده في سورة المائدة ، وقد قدمنا في المائدة ما فيه
الكفاية من أمثلة الإيغال ، ونورد هنا نماذج منه : يحكى أن أخوة ليلى لما علموا
بحب توبة بن الحميّر العقيلي لها نذروا دمه وارتحلوا بها ، فقال توبة :
وان يمنعوا
ليلى وحسن حديثها
|
|
فلن يمنعوا
عني البكا والقوافيا
|
فهلا منعتم
إذ منعتم حديثها
|
|
خيالا
يوافيني مع الليل هاديا
|
فقد تم المعنى
بقوله مع الليل ، ولما أتى بالقافية زاد على ذلك.
ولأبي تمام :
إن المنازل
ساورتها فرقة
|
|
أخلت من
الآرام كل كناس
|
من كل ضاحكة
الترائب أرهفت
|
|
إرهاف خوط
البانة المياس
|
فإن المعنى قد
تمّ قبل إتيانه بالقافية في البيت الثاني فلما أتى بها زاد عليه ، وعلى هذا النحو
الجميل يطرد له ذلك فيقول :
فتوح أمير
المؤمنين تفتحت
|
|
لهن أزاهير
الربا والخمائل
|
لقد ألبس
الله الإمام فضائلا
|
|
وتابع فيها
باللها والفواضل
|
فأضحت عطاياه
نوازع شردا
|
|
تسائل في
الآفاق عن كل سائل
|
مواهب جدن
الأرض حتى كأنما
|
|
أخذن بآداب
السحاب الهواطل
|
الفوائد :
دابة الأرض :
دابة الأرض هي
الجسّاسة وتنوينها وتنكيرها لإبهام تفخيمها ، لتسترعي الانتباه إليها وتلفت
الأنظار الى ترقب خروجها وقد كثر الحديث عنها في المطولات وهي من الأمور المغيبة
التي نؤمن بها ولا يعنينا كنهها ولا حقيقتها.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا
فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى
الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨))
اللغة :
(فَوْجاً) : الفوج : الجماعة والطائفة وجمعه أفواج وفئوج
وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج ، والفائجة : الجماعة ومتسع ما بين كل
مرتفعين من رمل أو غلط ، وقال الراغب في مفرداته :«الفوج الجماعة المارة المسرعة
وكأن هذا هو الأصل ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع والجمع أفواج وفئوج».
(يُوزَعُونَ) : تقدم قريبا في سورة النحل فجدد به عهدا ، أي يحبس
أولهم على آخرهم لأجل تلاحقهم.
(داخِرِينَ) : صاغرين ، وفي القاموس : دخر الشخص كمنع وفرح دخرا
ودخورا صغر وذلّ ، وأدخرته بالألف للتعدية. والدال مع الخاء فاء وعينا تفيدان معنا
خاصا يدل على التضاؤل والتصاغر وما تنبو عنه النفس وتغثى الطباع ، فالدّخ والدّخ
الدخان وهو معروف يعمي العيون ويقذيها وقالت اعرابية لزوجها وكان قد كبر وأسنّ :
لاخير في
الشيخ إذا ما اجلخّا
|
|
وسال غرب
عينيه ولخّا
|
وكان أكلا
قاعدا وشخّا
|
|
تحت رواق
البيت يغشى الدّخا
|
وانثنت الرجل
فصارت فخّا
|
|
وصار وصل
الغانيات أخّا
|
ومعنى يغشى
الدخ انه يكثر التردد على النساء عند التنور يقول اطعمنني ، ومعنى اجلخ سقط ولم
يتحرك وقيل معناه اعوج ، وأخ بفتح الهمزة كلمة تقال عند التأوه كذا قال ابن دريد
ثم قال وأحسبها محدثة وقال الصاغاني : يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذر إخ بكسر
الهمزة بمنزلة قول العجم كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته ، ودخدخ الرجل قارب الخطو
مسرعا وتدخدخ الرجل انقبض ، ودخس
الشيء في الرماد أدخله ودسه ودخس الحافر أصابه داء الدخس وهو ورم في حافر
الدابة والدخس بضم الدال دابة في البحر ، ودخل معروف وهو يفيد التواري والتضاؤل
ودخل في عقله بالبناء للمجهول أو جسده ودخل بكسر الخاء دخلا بفتحتين داخله الفساد
فهو مدخول عليه والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك لتختزنه
وتواريه عن العيون والداء والعيب والدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل
والجسم والخديعة العيب في الحسب والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم
والجمع دخلاء وكل كلمة أعجمية ويقال داء دخيل أي داخل في أعماق البدن ويقال : إنه
لخبيث الدّخلة بكسر الدال المشددة وهي باطن أمره ، ودخمه دخما دفعه بإزعاج ، ودخن
الطعام واللحم من باب تعب أصابهما الدخان في حال الطبخ ولا شيء أخبث من طعمه آنذاك
، وكم لهذه اللغة من عجائب.
الاعراب :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وهو
كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكذابين بصورة اجمالية وجملة نحشر مجرورة بإضافة
الظرف إليها ومن كل أمة متعلقان بنحشر و «من» هنا للتبعيض وفوجا مفعول به وممن صفة
لفوجا و «من» هنا للتبيين وجملة يكذب صلة من والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون
خبر.
(حَتَّى إِذا جاؤُ
قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
جاءوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومتعلق جاءوا محذوف أي الى مكان الحساب
، وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ، أكذبتم : الهمزة للاستفهام
التوبيخي التقريعي وكذبتم فعل وفاعل ، وبآياتي متعلقان بكذبتم ولم الواو حالية ولم
حرف نفي وقلب وجزم وتحيطوا فعل مضارع مجزوم بلم وبها متعلقان بتحيطوا وعلما تمييز
والجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ وإظهار بشاعة التكذيب القائم على الارتجال
وعدم التمعن والتبصر والتحقيق ، وأم حرف عطف وهي هنا منقطعة فهي بمعنى بل وما اسم
استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو ماذا كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم
لتعملون وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) الواو عاطفة ووقع القول فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوقع
وبما ظلموا متعلقان بوقع أيضا أي بسبب ظلمهم وما مصدرية والفاء عاطفة وهم مبتدأ
وجملة لا ينطقون خبر.
(أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والإنكاري ولم حرف نفي وقلب
وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية لا بصرية وأن وما بعدها سدت مسد
مفعولي يروا وأن واسمها وجملة جعلنا خبرها والجعل هنا إن كان بمعنى الخلق لا بمعنى
التصيير فتتعدى لواحد والليل مفعول جعلنا واللام للتعليل ويسكنوا فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور
متعلقان بجعلنا على أنه علة له فهو بمثابة المفعول من أجله ، ولكن لا يجوز النصب
لاختلاف الفاعل ، وفيه متعلقان بيسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال أو مفعول
به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات
اسمها المؤخر ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ويوم معطوف على ويوم نحشر منتظم في حكمه وهو الأمر
بذكره وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي
الصور متعلقان بينفخ ، ففزع عطف على ينفخ وسيأتي سر التعبير بالماضي في باب
البلاغة ، ومن فاعل فزع وفي السموات صلة ومن في الأرض عطف على من في السموات.
(إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى وجملة شاء الله صلة ، وكلّ
: الواو للحال أو هي عاطفة وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم
ولأن تنوينه عوض عن المضاف اليه أي وكلهم بعد احيائهم يوم القيامة ، وجملة أتوه
خبر وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه كأنه وقع فعلا وداخرين حال.
(وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الواو حرف عطف وترى الجبال فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر
تقديره أنت ومفعول به والرؤية بصرية وجملة تحسبها حال من الجبال والهاء مفعول
تحسبها الأول وجامدة مفعول تحسبها الثاني وهي الواو حالية وهي مبتدأ وجملة تمر خبر
والجملة حال من جامدة. (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) صنع مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله وأضيف المصدر
الى فاعله والذي صفة لله وجملة أتقن صلة وكل شيء مفعول أتقن وان واسمها وخبرها
وبما متعلقان بخبير وجملة تفعلون صلة ما.
البلاغة :
في هذه الآيات
فنون متعددة نوجزها فيما يلي :
١ ـ المجاز
العقلي :
في قوله «والنهار
مبصرا» فقد أسند الإبصار الى الزمان وهو لا يعقل ولم يأت بالكلام مقابلا لما قبله
وهو «ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه» بل جعله أحدهما علة والثاني حالا لأن
التقابل قد روعي من جهة المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب والمكاسب ،
وهذا هو النظم المطبوع غير المتكلف.
٢ ـ الاخبار
بالماضي عن المستقبل :
وأخبر بالماضي
عن المستقبل في قوله «ففزع من في السموات ومن في الأرض» وكان السياق يقضي بأن يأتي
بالمستقبل أيضا ولكنه عدل الى الماضي للإشعار بتحقيق الفزع وانه كائن لا محالة لأن
الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.
٣ ـ الطباق :
وفي قوله «وترى
الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة
فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه ولكنه سريع يمر مرورا حثيثا كما
يمر السحاب وهذا شأن الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين
حركتها كما قال النابغة في وصف جيش :
بأرعن مثل
الطود تحسب أنهم
|
|
وقوف لحاج
والركاب تهملج
|
وهذا بيت رائع
فالأرعن الجبل العالي وقد استعاره للجيش ثم شبهه بالطود وهو الجبل العظيم ليفيد
المبالغة في الكثرة والحاج اسم جمع واحده حاجة والركاب المطي لا واحد له من لفظه
والهملجة السير الرهو السريع فارسي معرب وفي الصحاح : «الهملاج من البراذين واحده
الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب» يقول :
حاربنا العدو
بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاج لكثرتهم والحال أن ركابهم تسرع السير.
وللزمخشري وصف
بليغ لهذه الآيات نورده فيما يلي : «فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه
ومكانة إضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، ولأمر
ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق ونحو هذا المصدر «أي صنع الله» إذا جاء عقيب كلام جاء
كالشاهد بصحته والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان ، ألا
ترى الى قوله صنع الله ، ووعد الله ، وفطرة الله ، بعد ما وسمها بإضافتها اليه
بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله : الذي أتقن كل شيء ، ومن أحسن من الله صبغة ، ولا
يخلف الله الميعاد ، لا تبديل لخلق الله».
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ
الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ
أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ
إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))
الاعراب :
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق للتمهيد لختام السورة بإجمال مصير
المحسن والمسيء. ومن اسم شرط جازم مبتدأ وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء أو
بمحذوف حال فالباء للملابسة أي جاء ملتبسا بها والفاء رابطة وله خبر مقدم وخير
مبتدأ مؤخر ومنها صفة لخير أو متعلق به على أنه اسم تفضيل. وهم مبتدأ ومن فزع
متعلقان بآمنون وآمنون خبر ويوم ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بمحذوف صفة لفزع أي
كائن في ذلك اليوم ، وقرئ بإضافة فزع الى يومئذ.
(وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ومن شرطية وجاء بالسيئة فعل الشرط والفاء
رابطة داخلة على «قد» محذوفة أي كبت ليصح اقتران الجواب بها ، وكبت فعل ماض مبني
للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بكبت وجملة فكبت في محل جزم جواب
الشرط وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون على طريق
الالتفات والواو نائب فاعل والجملة حال أي فكبت وجوههم مقولا لهم هل تجزون ، وإلا
أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها.
(إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) الجملة مقول قول محذوف أي قل لهم إنما أمرت ، وإنما
كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن أعبد في تأويل مصدر
منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمرت ورب مفعول به وهذه مضاف لرب
والبلدة بدل من اسم الاشارة والمراد بها مكة حرسها الله والذي نعت لرب هذه البلدة
وجملة حرّمها صلة. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو للحال وله خبر مقدم وكل شيء مبتدأ مؤخر وسيأتي سر
هذا الحال في باب البلاغة ، وأمرت عطف على أمرت الأولى وأن أكون من المسلمين عطف
أيضا على ما تقدم. (وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وأن أتلو عطف على أن أكون أي وأمرت بأن أتلو والقرآن
مفعول به ، فمن الفاء تفريعية ومن شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل
الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو
والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو
ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ
إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها ولا
بد من تقدير فعل طلبي بعد الفاء أي فقل له إنما أنا من المنذرين. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت
والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول ، وسيريكم السين حرف استقبال ويريكم فعل
مضارع والكاف مفعول به أول وآياته مفعول به ثان ، والجملة من تتمة مقول القول
منتظمة في سلكه ، فتعرفونها الفاء عاطفة وتعرفونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به
والواو حرف عطف وما نافية حجازية وربك اسمها وبغافل
الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنها خبر ما وعما متعلقان
بغافل وجملة تعملون صلة.
البلاغة :
الاحتراس :
في قوله تعالى «وله
كل شيء» احتراس بديع وقد تقدم ذكر هذا الفن وأنه يؤتى به دفعا لتوهم يتوجه على
الكلام ، فقد أضاف سبحانه اسمه الى مكة تشريفا لها وذكرا لتحريمها ، ولما أضاف
اسمه الى البلدة والمخصوصة بهذا التشريف أتبع ذلك اضافة كل شيء سواها الى ملكه
قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما
قصد بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة.
الباقلاني يحلل
سورة النمل :
هذا ونحب في
ختام هذه السورة أن نشير إشارة سريعة تحليلية الى كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر
الباقلاني الذي سار ذكره في الناس وهو يجمع الى روحه الكلامية طابعا أديبا إذ لم
يقتصر في الإعجاز على دراسته من الوجهة الكلامية بل تعرض للناحية البيانية
والاسلوبية فقد نشأ الخطيب الباقلاني بارعا في الجدل ، عالي القدر في علوم القرآن
والسنة والكلام وتعرض لكثير من المعارضين والمخالفين وقارعهم الحجج ، وجادل علماء
الروم مما أثار إعجاب معاصريه به.
فقد أرسله
الملك عضد الدولة الى ملك الروم عام ٣٧١ ه في سفارة رسمية وأدخلوه مرة وهو في
عاصمة الروم على بعض القسس فقال القاضي للقسيس : كيف أنت والأهل والأولاد؟ فتعجب
الرومي وقال له : ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء
الملة ، أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟ فأجابه القاضي
أبو بكر : رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد فهل المطارنة عندكم
أقدس وأجل وأعلى من الله سبحانه ، وأراد كبير الروم أن يخزي القاضي فقال له :
أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها؟ فأجابه هما اثنتان قيل فيهما ما قيل
: زوج نبينا ومريم أم المسيح فأما زوج نبينا فلم تلد وأما مريم فجاءت بولد تحمله
على كتفيها وقد برأهما الله مما رميتا به ، فانقطع الرومي ولم يحر جوابا.
خلاصة نظرية
الباقلاني في الإعجاز :
١ ـ يبدأ بعرض
الفكرة عرضا بسيطا فيثبت صحة ما بين أيدينا من نصّ القرآن وأنه هو حقا كتاب الله
المنزّل على نبيه وأنه آية محمد ومعجزته الخالدة.
٢ ـ يثبت عجز
العرب عن الإتيان بمثله على رغم تحديه لهم مرارا.
٣ ـ وينتهي من
المقدمات السالفة إلى نتيجة عامة هي خلاصة نظريته في الإعجاز وهي «خروج نظم القرآن
عن سائر كلام العرب ونظومهم» ثم يشرح هذه النظرية في كتاب الإعجاز فيقول : «والوجه
الثالث انه بديع النظم عجيب التأليف ، متناه في البلاغة على تصرف
وجوهه ، واختلاف مذاهبه ، خارج عن المعهود من نظم جميع كلامهم ، ومباين
للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب خاص به ويتميز في فصوله عن أساليب الكلام
المعتاد».
وقبل أن يلج
الى نظم القرآن وتحليل سوره يتناول قصيدة لامرىء القيس وأخرى للبحتري ليرسم طريقته
في النقد وتطبيق منهجه وينتقل في كلتا القصيدتين من المطلع الى النهاية منبها الى
وجوه الجمال ومواطن الضعف ، وفي تحليله لقصيدة امرئ القيس أو معلقته ـ على الأصح ـ
يوازن بين ما جاء من فنون التعبير والتصرف في القول ونظم الكلام فيها وما جاء
شبيها أو مقاربا لها في القرآن منبها إلى تفوق القرآن دائما ، وكثيرا ما تدخل
النقد الشخصي في رأي الباقلاني في تحليل معلقة امرئ القيس وإن خالف ذلك الرأي آراء
جميع النقاد ، انظر اليه كيف يخطىء الشاعر في قوله :إذا قامتا تضوع المسك منهما ...
يقول : «فوجه
التكلف فيه بقوله : إذا قامتا تضوع المسك منهما ، ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما
طيبا على كل حال فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير» وهذا تحامل ظاهر من أبي بكر
على الشاعر وعلى المعنى الذي تناوله إذ لا شك أن في هذا التعبير لمسة فنية دقيقة
ترتكز على كلمة «قامتا» لأنها مبعث الحركة والحياة في الصورة كلها تريك الفتاتين
غاديتين أو رائحتين وغلائلهما تبعث الأرج فيسري في الأعطاف ويعبق الجو بشذاه لما
تبعثه الحركة في الهواء فيحمل العطر الى الأنوف لتستافه ولا يتسنى ذلك في القعود
والسكون ، ومع هذا لا ننكر بعض ما نبه اليه الباقلاني من هنات في العقيدة بل ونأخذ
برأيه
ونقدر له عمقه وحسن استنباطه ، اسمع الى هذا النقد العجيب الذي يخرس الألسن
فقد تناول مطلع المعلقة في البيتين الأولين وهما :
فقا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الدخول فحومل
|
فتوضح
فالمقراة لم يعف رسمها
|
|
لما نسجتها
من خبوب وشمائل
|
فقال : «لم
يقنع بذكر حد حتى حدده بأربعة حدود كأنه يريد بيع المنزل فيخشى ان أخلّ بحد أن
يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا».
وفي تحليله
لقصيدة البحتري بعض الطرائف الفنية في النقد نلخصها فيما يلي :
١ ـ الرؤيا
الشعرية : فقد أشار الى اختلالها عند البحتري في في تشبيبه الخيال بالبرق وذلك في
قول البحتري :
أهلا بذلكم
الخيال المقبل
|
|
فعل الذي
نهواه أم لم يفعل
|
برق سرى من
بطن وجرة فاهتدت
|
|
بسناه أعناق
الركاب الضلل
|
فقال : «إنه
جعل الخيال كالبرق لإشراق مسراه» والخيال
لا يشبه عنده بالبرق لأن البرق سريع خاطف والخيال يسري مسرى النسيم.
٢ ـ الحشو :
وهو زيادة اللفظ على المعنى المطلوب وهو عيب في النظم.
٣ ـ الابتذال
في الصورة البيانية كالتشبيه أو الاستعارة أو الكناية.
٤ ـ الرونق
اللفظي : إذ يرى في بعض أبيات البحتري رونقا وطلاوة ويرى في بعضها الآخر قلة ماء
ورونق.
٥ ـ الاختلال
في المعنى : ومن هذا قوله في نقد بعض الأبيات «وانما جرى ذكر العذال على وجه لا
يتصل هذا البيت به ويلائمه ثم الذي ذكره من الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو
في المعنى متكلف لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا وانما يقف تحسرا وتذللا وتخيرا»
وهذه الأبيات التي تناولها النقد :
ما الحسن
عندك يا سعاد بمحسن
|
|
فيما أتاه
ولا الجمال بمجمل
|
عذل المشوق
وإن من سيما الهوى
|
|
في حيث تجهله
لجاج العاذل
|
ماذا عليك من
انتظار متيم
|
|
بل ما يضرك
وفقة في منزل
|
إن سيل عيّ
عن الجواب فلم يطق
|
|
رجعا فكيف
يكون إن لم يسأل
|
٦ ـ التضمين : وهو عيب معروف عند
النقاد العرب.
٧ ـ مخالفة
بناء القصيدة العربية القديمة.
٨ ـ التعقيد
وعدم السلاسة في رصف الألفاظ وسبكها وهو عيب في الصياغة والنظم.
٩ ـ الاستهلال
وصلته بالفصل والوصل.
١٠ ـ الاشتراك
في المعاني بينه وبين غيره من الشعراء مع تفاوت في الحسن.
١١ ـ بناء
العبارة وتأليفها واختلافها بين النظم السوي والمضطرب.
تحليل سورة
النمل :
يتناول
الباقلاني السورة جملة : يفسر غريبها ويبين ما فيها من جمال اللفظ والمعنى ويأخذ
في تحليلها من أولها فيقول : «بدأ بذكر السورة إلى أن بين أن القرآن من عنده» ثم
وصل بذلك قصة موسى وانه رأى نارا فقال لأهله «امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بشهاب
قبس لعلكم تصطلون» وقال في سورة طه في هذه القصة :«لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد
على النار هدى» ثم قال : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان
الله رب العالمين» فانظر الى ما أجرى له الكلام الأول وكيف اتصل بتلك
المقدمة وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية وما دلّ عليها من
قلب الفصاحة وجعله دليلا يدله عليه ومعجزة تهديه إليه وانظر الكلمات المفردة
القائمة بنفسها في الحسن وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ثم ما شفع به هذه الآية
وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء ثم انظر في آية
آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الوصف ، فكل كلمة لو أفردت
كانت في الجمال غاية وفي الدلالة آية فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها
تجري في الحسن مجراها وتأخذ في معناها ثم من قصة الى قصة ومن باب الى باب من غير
خلل يقع في نظم الفصل الى الفصل وحتى يصور لك الفصل وصلا ببديع التأليف وبليغ
التنزيل».
ويبين
الباقلاني فضل نظم القرآن على الكلام العادي فيدعو واحدا الى التقليد فلا يصل الى
شيء ويقر بالعجز أمام لفظ القرآن ونظمه ويستطرد في تحليل السورة فيقول «متى تهيأ
للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام بعد ذكر العنوان والتسمية هذه
الكلمة العالية الشريفة «ألّا تعلوا علي وأتوني مسلمين» والخلوص من ذلك إلى ما
صارت اليه من التدبير واشتغلت به من المشورة ومن تعظيمها أمر المستشار ومن تعظيمهم
أمرها وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة ثم كلامها بعد ذلك لتعلم
تمكن قولها :«يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» وذكر
قولهم : «قالوا نحن أولو قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» لا
تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله «الأمر إليك» تعلم براعته بنفسه
وعجيب معناه وموضع إتقانه في هذا الكلام ، وتمكن الفاصلة وملاءمتها لما قبلها وذلك
قوله :
«فانظري ماذا تأمرين» ثم الى هذا الاختصار والى البيان مع الإعجاز فإن
الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز وهذا مما يزيده الاختصار
بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه» الى أن يقول : «وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك
الأمر ولكني قد بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت والنحو الذي قصدت
والغرض الذي إليه رميت والسمت الذي إليه دعوت».
ونحسبك بعد هذا
قد ألممت بكتاب الاعجاز فقد أوردنا لك خير ما فيه.
سورة القصص
مكيّة وآياتها ثمان
وثمانون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))
اللغة :
(شِيَعاً) في القاموس والتاج وغيرهما من كتب اللغة : «شيعة الرجل
أتباعه وأنصاره والجمع شيع وأشياع ، والشيعة : الفرقة وتقع على الواحد والاثنين
والجمع مذكرا ومؤنثا وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته حتى صار
لهم اسما خاصا
الواحد شيعي» وقال الزمخشري : «شيعا : فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه
لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه ، قال الأعشى :
وبلدة يرهب
الجواب دلجتها
|
|
حتى تراه
عليها يبتغي الشيعا
|
أو يشيع بعضهم
بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في
حفر ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية أو فرقا مختلفة ، قد أغرى بينهم العداوة»
ومعنى البيت الذي أورده الزمخشري للأعشى : ربّ مفازة يخاف الجواب أي كثير السفر من
جبت الأرض إذا قطعتها بالسير والدلجة من دلج وأدلج وادّلج إذا سار ليلا والدلجة
ساعة من الليل أي يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات
المساعدين له على سيرها وبعد البيت قوله :
كلفت مجهولها
نفسي وشايعني
|
|
همّي عليها
إذا ما آلها لمعا
|
بذات لوث
عفرناة إذا عثرت
|
|
فالتعس أولى
لها من أن يقال لعا
|
يقول : كلفت
نفسي سير المجهول منها وعاودني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها وهو السراب الذي يرى
عند شدة الحر كأنه ماء مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل ثم قال مع ناقة صاحبة
قوة ويطلق اللوث على الضعف أيضا فهو من الأضداد ، وعفرناة : غليظة
ويقال للعاثر : لعا لك دعاء له بالانتعاش وتعسا له دعاء عليه بالسقوط يريد
أنها لا تعثر ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.
(وَيَسْتَحْيِي
نِساءَهُمْ) : يبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في
بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك.
(هامانَ) : وزير فرعون المذكور هنا وهامان عدو اليهود وزير
احشويروش الفارسي ذكر في سفر استير من كتب العهد القديم.
الاعراب :
(طسم تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول فيها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب المبين خبرها.
(نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نتلو فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره نحن وعليك
متعلقان بنتلو ومن نبأ صفة لمفعول به محذوف أي شيئا من قصة موسى وفرعون وفيه حذف
الموصوف وإقامة الصفة مقامه وبالحق حال من فاعل نتلو أي حال كوننا ملتبسين بالحق
والصدق أو من المفعول أي حال كونه ملتبسا بالحق والصدق ولقوم متعلقان بنتلو فهو
بمثابة التعليل له أي لأجل قوم وجملة يؤمنون صفة لقوم. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) كلام مستأنف مسوق لبيان قصة فرعون أو جملة تفسيرية لنبأ
موسى وكلتاهما لا محل لهما من الاعراب وإن واسمها وجملة علا خبرها وفاعل علا ضمير
مستتر جوازا تقديره هو أي فرعون وفي الأرض متعلقان بعلا وجعل أهلها فعل وفاعل
مستتر ومفعول به أول وشيعا مفعول به ثان. (يَسْتَضْعِفُ
طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ
مِنَ الْمُفْسِدِينَ) جملة يستضعف
حالية من فاعل جعل أو صفة لشيعا ولك أن تجعله كلاما مستأنفا وفاعل يستضعف
هو وطائفة مفعول به ومنهم صفة لطائفة ويذبح بدل اشتمال من يستضعف لأن الاستضعاف
مشتمل على الذبح والاستحياء معا وأبناءهم مفعول يذبح ويستحيي نساءهم عطف على يذبح
أبناءهم وجملة إنه تعليل لهذه الأعمال وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر
تقديره هو ومن المفسدين خبر كان. وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك النساء لأن
المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال
الزجاج : «والعجب من حمق فرعون ، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده
فما ينفع القتل وان كان كاذبا فلا معنى للقتل».
(وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة أو حالية فإن جعلتها عاطفة عطفت الكلام على
قوله إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون
وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، وإن جعلتها حالية فالجملة حال من يستضعف أي
يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم. وأن وما في حيزها مفعول نريد وعلى الذين
متعلقان بنمن وجملة استضعفوا صلة وفي الأرض متعلقان باستضعفوا أو بمحذوف حال أي
حالة كونهم على الأرض ولعله أولى. (وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ونجعلهم عطف على نمنّ والهاء مفعول به أول وأئمة مفعول
به ثان ونجعلهم الوارثين عطف على نجعلهم أئمة. (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا
يَحْذَرُونَ) ونمكن عطف على نجعل وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم
متعلقان بنمكن وفي الأرض حال ونري عطف أيضا وفرعون مفعول به وهامان عطف على فرعون
وجنودهما عطف على فرعون وهامان ومنهم متعلقان بنري أي ونري فرعون وهامان
وجنودهما من بني إسرائيل ما كانوا يحذرون أي يخافونه منهم وقد وقع على يد مولود
منهم ، وما مفعول به ثان لنري وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يحذرون خبر
كانوا.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ
يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ
تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
اللغة :
(وَلا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي) : الخوف هو غم يلحق الإنسان لأمر مكروه متوقع والحزن غم
يلحقه لأمر مكروه واقع وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة وما ورد من الاعتراض على
هذا العطف.
(قُصِّيهِ) : اتبعي أثره وتتبعي خبره وبابه نصر. وسيأتي المزيد من
شرح هذه المادة.
(جُنُبٍ) بضمتين : مكان بعيد ، يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة
بمعنى عن بعد.
الاعراب :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الواو عاطفة وجملة أوحينا عطف على قوله ان فرعون علا في
الأرض وكلتا الجملتين داخلة في حكم تفسير النبأ وأوحينا فعل وفاعل والى أم موسى
متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون
مصدرية على بابها وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور
متعلقان بأوحينا وأرضعيه فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) الفاء عاطفة وخفت فعل وفاعل وعليه متعلقان بخفت ،
فألقيه الفاء رابطة وألقيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول
به وفي اليم جار ومجرور متعلقان بألقيه وأراد باليم النيل. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخافي فعل
مضارع مجزوم بلا ولا تحزني عطف على لا تخافي وجملة إنا رادوه تعليل للأمر
والنهي وان واسمها ورادوه خبرها وإليك متعلقان برادوه وجاعلوه عطف على رادوه وقد
أضيف اسم الفاعل الى مفعوله الأول ومن المرسلين في محل نصب مفعوله الثاني. (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأرضعته وألقته
في نهر النيل في تابوت أعدته له وجرى به النيل الى قبالة قصر فرعون المطل عليه
فالتقطه آل فرعون ، ويعبرون عنها بالفصيحة أيضا. وهو فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل
مؤخر وليكون اللام قيل للتعليل وقيل للعاقبة وسيأتي تفصيل ذلك وبحث هذه اللام في
باب الفوائد ، ويكون على كل حال فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام واسم
يكون مستتر تقديره هو وعدوا خبر يكون وحزنا عطف على عدوا.
(إِنَّ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) كلام لا محل له من الاعراب لأنه تعليل لما سبق من أمور
وقيل هو كلام معترض بين معطوف عليه وهو فالتقطه آل فرعون ومعطوف وهو وقالت امرأة
فرعون. وان واسمها وهامان وجنودهما عطف على فرعون وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها
وخاطئين خبرها. (وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ : قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الواو عاطفة وقالت عطف على فالتقطه آل فرعون وامرأة
فرعون فاعل قالت وهي آسية بنت مزاحم وسيأتي ذكرها في قصة موسى وفرعون ، وقرة عين
خبر لمبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولي ولك صفتان للقرة وقد خبط بعض المعربين خبطا
عجيبا في إعراب هذه الآية سنلمع إليه في باب الفوائد. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا ناهية وتقتلوه فعل مضارع
مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وهي
تعمل عمل كان ، واسمها مستتر تقديره هو وأن ينفعنا مصدر مؤول في محل نصب خبر عسى
أو نتخذه عطف على ينفعنا والهاء مفعول به أول وولدا مفعول به ثان ، وهم : الواو
حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال من آل فرعون وهي من كلام الله
تعالى ويبعد أن تكون من كلام آسية. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) الواو استئنافية وأصبح فعل ماض ناقص وفؤاد أم موسى
اسمها وفارغا خبرها وسيأتي تفسير هذا الكلام في باب البلاغة. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا
أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إن مخففة من الثقيلة وكادت فعل ماض من أفعال المقاربة
واسمها مستتر تقديره هي واللام الفارقة وجملة تبدي خبر كادت وبه متعلقان بتبدي
وإذا أعملت «إن» كان اسمها ضمير شأن محذوف وجملة كادت خبرها والأولى إهمالها ،
ومعنى لتبدي به أي تظهر القول به والضمير لموسى وقيل الباء زائدة والهاء في محل
نصب مفعول به والأول أضبط ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي مع مدخولها مصدر
في محل رفع مبتدأ محذوف الخبر أي لولا ربطنا على قلبها حاصل ، وعلى قلبها متعلقان
بربطنا وجواب لو لا محذوف أي لأبدت به ولتكون اللام للتعليل وتكون فعل مضارع ناقص
منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بربطنا أيضا ومن المؤمنين خبر
تكون.
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ
قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة وقالت فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هي أي أم
موسى ولأخته متعلقان بقالت وقصيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء
مفعول به ، فبصرت الفاء عاطفة على محذوف أي فذهبت ترتاده
وتقص آثاره ، وبه متعلقان ببصرت وعن جنب في موضع الحال من فاعل بصرت أي
بصرت به مستخفية كائنة عن جنب أو من المجرور وهو به أي بعيدا والواو حالية وهم
مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر.
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان
سبب رده الى أمه ، وحرمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بحرمنا والمراضع مفعول به ومن
قبل حال ـ والمراضع جمع مرضع وهي التي تمارس الإرضاع ولم تباشره أو جمع مرضع بفتح
الميم والضاد اسم مكان الرضاع يعني الثدي ـ فقالت الفاء الفصيحة أي لما رأت أخته
ذلك قالت وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول
به وعلى أهل بيت متعلقان بأدلكم وجملة يكفلونه صفة لأهل بيت ولكم متعلقان بيكفلونه
والواو حالية وهم مبتدأ وله متعلقان بناصحون وناصحون خبر.
(فَرَدَدْناهُ إِلى
أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة ورددناه فعل وفاعل ومفعول به والى أمه
متعلقان برددناه وكي حرف تعليل ونصب وتقر فعل مضارع منصوب بكي ولا تحزن عطف على
تقر ، ودمع الفرح بارد وعين المهموم حرى سخينة. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتعلم فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد اللام وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلم وان واسمها وحق خبرها والواو
حالية ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.
البلاغة :
١ ـ معنى الخوف والحزن :
لقائل أن يقول
: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله «ولا تخافي ولا
تحزني»؟ ثم أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله «فإذا خفت عليه» ثم ينفيه بقوله
«ولا تخافي» والجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل
والثاني هو خوف الذبح فاندفع ما يتوهم من تناقض ، وأما الاعتراض الاول فهو مندفع
بأن هذا من باب الاطناب بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه ، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى
فيه بمعان متداخلة إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر ، فقد قلنا في باب اللغة
أن الخوف هو غم يصيب الإنسان الأمر يتوقع نزوله في المستقبل أما الحزن فهو غم
يصيبه لأمر وقع فعلا ومضى فنهيت عنهما جميعا ومنه قول أبي تمام وقد كان بارعا فيه
:
قطعت إليّ
الزابيين هباته
|
|
والتاث مأمول
السحاب المسبل
|
من منة
مشهورة وصنيعة
|
|
بكر وإحسان
أغر محجل
|
فقوله منة
مشهورة ، وصنيعة بكر ، وإحسان أغر محجل تداخلت معانيه ، إذ المنة والصنيعة
والإحسان متقارب بعضه من بعض وليس ذلك بتكرير كما يتوهم لأنه لو اقتصر على قوله
منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريرا ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة
أخرجتها عن حكم التكرير فقال «منه مشهورة» فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها و «صنيعة
بكر» فوصفها بالبكارة أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل و «احسان أغر محجل» فوصفه
بالغرة والتحجيل
أي هو ذو محاسن متعددة فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء
واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا.
وقد اشتملت هذه
الآية «وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا
تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» على أمرين وهما «أرضعيه ، فألقيه»
ونهيين وهما «لا تخافي ، ولا تحزني» وخبرين وهما : «إنا رادوه إليك ، وجاعلوه من
المرسلين» وبشارتين في ضمن الخبرين وهما رده إليها وجعله من المرسلين.
٢ ـ الكناية :
وذلك في قوله «وأصبح
فؤاد أم موسى فارغا» فإن ذلك كناية عن فقدان العقل وطيش اللب والمعنى أنها حين
سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش
ومثله قوله تعالى «وأفئدتهم هواء» أي جوف لا عقول فيها ومنه بيت حسان :
ألا أبلغ أبا
سفيان عني
|
|
فأنت مجوّف
نخب هواء
|
وهذا البيت من
قصيدة مطولة لحسان بن ثابت يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه وبعده :
بأن سيوفنا
تركت عبيدا
|
|
وعبد الدار
سادتها الإماء
|
هجوت محمدا
فأجبت عنه
|
|
وعند الله في
ذاك الجزاء
|
أتهجوه ولست
له بكفء
|
|
فشرّ كما
لخير كما الفداء
|
أمن يهجو
رسول الله منكم
|
|
ويمدحه
وينصره
|
سواء فإن أبي
ووالده وعرضي
|
|
لعرض محمد
منكم وقاء
|
وألا أداة
للتنبيه والاستفتاح والمأمور بالإبلاغ غير معين ، ثم التفت ليثير غيظ أبي سفيان ،
وكان مقتضى السياق أن يقول «فإنه» أي أبا سفيان لكن مخاطبته ومشافهته بالذم أمض
للنفس وأقذع في الهجاء ، والمجوف والنخب والهواء خالي الجوف أو فارغ القلب من
العقل والشجاعة واسناد الترك للسيوف مجاز عقلي لأنها آلة للفعل وعبيد بالتصغير
قبيلة وكذلك عبد الدار سادتها مبتدأ والإماء خبره والجملة في محل المفعول الثاني
لتركت أي صيرت عبيدا لا سادة لها إلا النساء وصيرت عبد الدار كذلك وأتهجوه
الاستفهام إنكاري توبيخي والواو بعده للحال أي لا ينبغي لك ذلك وشر وخير اسما
تفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف
لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان وجملة فشر كما لخير كما الفداء دعائية دعا عليه أن
يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام ولذلك لما
سمعه الحاضرون قالوا هذا أنصف بيت قالته العرب وأمن يهجو استفهام انكاري أي ليس من
يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين ويحتمل أن الهمزة للتنبيه أو للنداء
والمنادى محذوف أي يا قوم أبي سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه
وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما والوقاء ما يتوقى به المكروه وزان
الحزام والرباط فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم آلة.
الفوائد :
١ ـ قصة موسى وفرعون :
نلخص هنا قصة
موسى وفرعون كما رويت لطرافتها وكما جرينا عليه في هذا الكتاب ، فموسى معناه ماء
وشجر لأن مو بالقبطية هو الماء وشا هو الشجر فعربت وسمي موسى لأنهم وجدوه بينهما ،
وهو موسى بن عمران يمت بالنسبة الى يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ولم يزل بنو إسرائيل
من عهد يوسف تحت أيدي الفراعنة حتى كان فرعون الذي بعث موسى اليه ، ولم يكن منهم
فرعون أعتى منه ولا أطول عمرا وكان شديد الغلظة واسمه الوليد بن مصعب وكان قد اتخذ
بني إسرائيل خولا فصنف منهم يبنون ، وصنف يحرثون ومن لا عمل له وظف عليه الجزية ،
فرأى في منامه أن نارا أقبلت من المقدس فأحرقت القبط فسأل عن رؤياه فقيل له : يخرج
من هذا البلد أي الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يديه هلاك مصر فأمر بقتل
كل مولود حتى كاد يفنيهم فقيل له إنما هم خولك وإنك إن تفنهم ينقطع النسل فأمر
بقتل الغلمان عاما واستحيائهم عاما فولد هرون في السنة التي يستحيون فيها وولد
موسى في السنة التي يقتلون فيها فلما وضعته حزنت فأوحى الله إليها أن أرضعيه فإذا
خفت عليه فألقيه في اليم فعملت تابوتا جعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل وقالت
لأخته قصيه فحمله الماء حتى أدخله بين أشجار متكاثفة تحت قصر فرعون فخرجت جواري
فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه الى آسية امرأة فرعون فلما رأته أحبته وأخبرت
به فرعون فأراد ذبحه وخشي أن يكون المولود الذي حذر منه فلم تزل به آسية حتى تركه
لها وذلك قوله «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وستأتي تتمة القصة.
٢ ـ لام العاقبة أو الصيرورة :
واللام في «ليكون»
للعاقبة وقد أبرز مدخولها في معرض العلة لا لتقاطهم تشبيها له في الترتب عليه
بالغرض الحامل له وتسمى لام الصيرورة ولام المآل ، وقد أنكر البصريون لام العاقبة
قال الزمخشري : «والتحقيق أنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز
دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة
والتبني ، غير أن ذلك لما كانت نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل
الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدب الذي هو ثمرة الضرب
في قولك ضربته ليتأدب وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه
التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد».
٣ ـ أعاريب في «قرة أعين» :
تفادينا في هذا
الكتاب إيراد الأعاريب المرجوحة بله المتهافتة لأننا آثرنا اختيار أفضل الوجوه
وأمثلها ، غير أننا لا نرى إغفال بعض الأعاريب المتهافتة التي تبناها بعض المعربين
؛ فقد قلنا إن قرة أعين خبر مبتدأ مضمر ولي ولك صفتان ، وقد أجاز بعضهم وجها لا
يجوز إيراده البتة وهو أن تكون قرة أعين مبتدأ والخبر جملة لا تقتلوه لأن فيه
الإخبار بالانشاء عن الخبر وهذا هين بالنسبة لمخالفة الضمير لأنه يجب أن يقول لا
تقتلوها واحتجوا بأنه لما كان المراد مذكرا ساغ ذلك ، وما أغناها عن ذلك التمحّل
الذي لا يليق بالقرآن ، ونقل ابن الانباري بسنده الى ابن عباس انه وقف على «لا» أي
هو قرة عين لي فقط
ولك لا ، أي ليس هو قرة عين ، ثم يبتدىء بقوله تقتلوه وهذا مضحك لا يمكن أن
ينسب الى ابن عباس ولا إلى ابن الأنباري نفسه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا
مقتضى لحذفها ولذلك قال الفراء :هو لحن.
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ
مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))
الاعراب :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتتمة قصة يوسف
بعد بلوغه الأشد ، ولما حينية أو رابطة وقد تقدم ذلك وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر
تقديره وهو وأشده مفعول به ، وقد مضى تفسير الأشد والأقوال فيه أكثر من مرة ،
واستوى عطف على بلغ ،
والمراد انه انتهى شبابه وتكامل عقله ، وجملة آتيناه لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وحكما مفعول به ثان وعلما عطف
على حكما وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ودخل المدينة عطف على محذوف أي وغاب عن فرعون مدة طويلة
لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب الى مدين وأقام فيها عشر سنين ، ودخل المدينة
فعل وفاعل ومفعول على السعة ، قيل المراد بالمدينة منف بضم فسكون وهي ممنوعة من
الصرف للعلمية والعجمة وقيل غير ذلك ، وعلى حين غفلة حال من المدينة أو من فاعل
دخل أي مختلسا ومن أهلها صفة لغفلة قيل كان الوقت بين العشاءين وقيل وقت القائلة
وقيل يوم عيد ومعنى «على» هنا الظرفية أي على حين. (فَوَجَدَ فِيها
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) فوجد عطف على دخل وفيها متعلقان بوجد ورجلين مفعول به
وجملة يقتتلان صفة لرجلين وهذا مبتدأ ومن شيعته خبر والجملة صفة ثانية لرجلين وقيل
حال ، والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط ، وهذا من عدوه عطف عليها. والعرب
تشير بهذا الى الغائب لأنها حكاية حال ماضية ، فعبر عن غائب ماض باسم الاشارة.
(فَاسْتَغاثَهُ
الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) الفاء عاطفة واستغاثه فعل ماض ومفعول به والذي فاعل ومن
شيعته متعلقان بمحذوف صلة واستغاث يتعدى بنفسه تارة كما هنا وتارة بالباء.
(فَوَكَزَهُ مُوسى
فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فوكزه عطف أيضا أي دفعه بجمع كفه ، وقال الكسائي لكمه ،
وموسى فاعل فقضى عليه عطف على فوكزه ، قال فعل ماض والجملة
مستأنفة وهذا مبتدأ ومن عمل الشيطان خبر والجملة مقول القول ، وجملة إنه
عدو تعليل ، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ ولكونه غير مقصود وإنما عدّه من عمل
الشيطان وسماه ظلما واستغفر منه هضما لنفسه واستعظام الهنات اليسيرة التي تبدر
منهم ، وان واسمها وعدو خبرها ومضل صفة ومبين صفة ثانية. (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها
وجملة ظلمت نفسي خبر إن فاغفر لي الفاء عاطفة واغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر
فغفر له عطف وان واسمها وهو ضمير فصل والغفور خبر والرحيم خبر ثان ، ويجوز أن تعرب
هو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لهو والجملة خبر ان.
(قالَ رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) بما الباء حرف قسم وجر وجواب القسم محذوف تقديره أقسم
بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبن ، وما مصدرية والمصدر في محل جر بباء القسم والفاء
عاطفة على الجواب المحذوف ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأكون فعل مضارع ناقص واسمها
مستتر تقديره أنا وظهيرا خبرها وللمجرمين متعلقان بظهيرا ويجوز أن يكون الكلام
استعطافا كأنه قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من الكفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا
للمجرمين فتتعلق الباء ومدخولها باعصمني المقدر ولا تحتاج الى جواب وتكون الفاء في
فلن أكون هي الفصيحة لأنها جواب شرط مقدر كما ذكرنا ، هذا وهناك أقوال أخرى كلها
سديدة موعدنا بها باب الفوائد.
الفوائد :
١ ـ تتمة قصة
موسى :
واتخذه فرعون
ولدا وارتادوا له المرضعات فلم يقبل ثدي
واحدة منهن ولما غاب أمره عن أمه كاد قلبها يطير وجدا عليه فبعثت أخته كأنها
تلتمس رضاعه فلما رأت أسفهم عليه حيث لم يقبل على مرضعة قالت : هل أدلكم على أهل
بيت يكفلونه لكم فأجابوا ملتمسها فذهبت فجاءت بأمه وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن
كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها فأعطته ثديها فأخذ يرضعه فربته في قصر
فرعون ثم عرضته آسية على فرعون فلما أخذه مد موسى يده إلى لحيته فنتفها فقال فرعون
عليّ بالذباحين فإنما هو هذا فقالت آسية هو قرة عين لي ولك لا تقتلوه فإنه صبي لا
يعقل ودعت له بجمر وياقوت فطرح جبريل يده في النار فوضعها موسى في فمه فأحرقته
فتركه فرعون فكبر في حجره فلما ترعوع تبناه فكان يركب مراكبه ويلبس ملابسه ويدعى
ابن فرعون ، ثم ان موسى أخبر أن فرعون قد ركب فركب أثره فأدركه ببلدة منف فدخلها
وقد أخليت لفرعون وليس في طرقها أحد فرأى إسرائيليا مع قبطي يقتتلان فاستغاثه
الاسرائيلي فوكز القبطي فقضى عليه فكان من قصتهما ما قص الله تعالى في سورة القصص
حتى خرج خائفا يترقب الى مدين وستأتي البقية قريبا.
٢ ـ اختلاف
المعربين في «بما أنعمت عليّ» :
أوردنا الوجهين
الراجحين في إعراب هذه الآية وهي «قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين»
وقد اختارهما الزمخشري أيضا قال : «وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون
وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى
ابن فرعون وأما مظاهرة من أدت مظاهرته الى الجرم والإثم كمظاهرة الاسرائيلي
المؤدية الى القتل الذي لم يحل له»
وكذلك اختارهما أبو البقاء في كتابه «إعراب القرآن» وقيل ليس هذا خبرا بل
هو دعاء أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين.
(فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٢١))
الاعراب :
(فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) الفاء عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص أو تام وعلى الاول
اسمها مستتر تقديره هو وفي المدينة حال وخائفا خبر أصبح أو في المدينة خبر أصبح
وخائفا حال ، وعلى الثاني يكون فاعل أصبح مستترا تقديره هو وفي المدينة متعلقان به
وخائفا حال وجملة يترقب على الوجهين حال ثانية أو خبر ثان أو حال من الضمير في
خائفا فتكون حالا متداخلة ومفعول يترقب محذوف أي
يترقب المكروه ويبعد أن يترقب الفرج لأن السياق يستبعده.
(فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الفاء عاطفة وإذا فجائية وقد تقدم القول في ظرفيتها أو
حرفيتها والذي مبتدأ وجملة استنصره صلة وبالأمس متعلقان باستنصره وجملة يستصرخه
خبر الذي ومتعلق يستصرخه محذوف أي على قبطي آخر. (قالَ لَهُ مُوسى
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال فعل ماض وله متعلقان به وموسى فاعل وانك إن واسمها
واللام المزحلقة وغوي مبين خبران لإن. (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأن زائدة وتطرد
زيادتها بعد لما وقبل لو مسبوقة بقسم كقول الشاعر :
فأقسم أن لو
التقينا وأنتم
|
|
لكان لكم يوم
من الشر مظلم
|
وإنما زاد «أن»
للاشعار بأن موسى لم تكن مسارعته الى قتل الثاني كما كانت مسارعته الى قتل الأول
بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك الإبطاء بزيادة أن وقد تقدم
في سورة يوسف ما يماثل هذا في قوله تعالى «فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه»
فجدد به عهدا.
وأراد فعل ماض
وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أراد وبالذي متعلقان بيبطش وهو مبتدأ وعدو خبر
ولهما صفة والجملة صلة الذي. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على
الاسرائيلي المستغيث قال ذلك وقد ظن أن موسى يريد أن يبطش به ، وقيل يعود على
القبطي وليس ببعيد ورجحه زاده في حاشيته على البيضاوي ، وكأنه توهم من زجر موسى
الاسرائيلي انه هو الذي قتل الرجل بالأمس ، أتريد
الهمزة للاستفهام الانكاري وتريد فعل مضارع مرفوع وان وما في حيزها مفعول
تريد وكما قتلت نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر ونفسا مفعول به وبالأمس
متعلقان بقتلت. (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْمُصْلِحِينَ) إن نافية وتريد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره
أنت وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول تريد وجبارا خبر تكون وفي
الأرض صفة لجبارا وما تريد أن تكون من المصلحين عطف على الجملة المماثلة السابقة. (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ يَسْعى) الواو عاطفة على محذوف يقدر من سياق الكلام أي فذهب
القبطي الذي سمع ما قاله الإسرائيلي وقد علم أن موسى هو قاتل القبطي الأول إلى
فرعون وأخبره بجلية الأمر فغضب فرعون وأمر بقتل موسى وإلقاء القبض عليه. وجاء رجل
فعل وفاعل وهو مؤمن من آل فرعون وردت الإشارة إليه في مكان آخر من القرآن قيل هو
ابن عم فرعون ومن أقصى المدينة صفة لرجل وجملة يسعى صفة ثانية أو حال لأن قوله «رجل»
تخصص بالوصف كما هي القاعدة المشهورة ، ويجوز تعليق من أقصى المدينة بجاء فتكون
جملة يسعى صفة فقط.
(قالَ يا مُوسى إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ) إن الملأ إن واسمها وجملة يأتمرون خبر وبك متعلقان
بيأتمرون أي يتشاورون والائتمار التشاور يقال : الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى
واحد لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر وقيل معناه يأمر بعضهم
بعضا بقتلك ولعل هذا أوضح وقد أورد صاحب التاج المعنيين قال : «ائتمروا وتآمروا :
تشاوروا وائتمروا بفلان هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله» وبك متعلقان بيأتمرون
وليقتلوك اللام تعليلية والمضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ،
فاخرج الفاء الفصيحة أي إن سمعت نصيحتي فاخرج وإني تعليل لأمره بالخروج وإن
واسمها ولك متعلقان بمحذوف حال وعليه اقتصر الزمخشري ومنع تعليقه بالناصحين وأجاز
غيره. أن يتعلق بالناصحين للاتساع في الظروف أو بما يدل عليه لفظ الناصحين أي ناصح
لك من جملة الناصحين. (فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فعمل موسى بنصيحته فخرج ومنها
متعلقان بخرج وخائفا حال وجملة يترقب حال ثانية ومفعول يترقب محذوف أي الشر أو
لحوقهم به وقيل يترقب غوث الله والأول أنسب بالسياق ورب منادى ونجني فعل دعاء
والياء مفعول به ومن القوم متعلقان بنجني والظالمين صفة.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا
نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(٢٥))
اللغة :
(تِلْقاءَ) : تقدم ذكر المصادر التي وردت على هذا الوزن والمعنى
هنا الجهة.
(مَدْيَنَ) : بلدة في مصر تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك فيها
البئر التي استقى منها موسى ومدين اسم قبيلة ذكرها ياقوت ، قال الجلال : «وهي قرية
شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر سميت بمدين ابن ابراهيم ولم يكن يعرف طريقها».
(سَواءَ السَّبِيلِ) : وسطه ومعظم نهجه من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق
الوسط.
(تَذُودانِ) : تدفعان أغنامهما عن الماء. ومنه قول الشاعر :
أبيت على باب
القوافي كأنما
|
|
أذود بها
سربا من الوحش نزّعا
|
(ما
خَطْبُكُما) : ما شأنكما قال الزمخشري : «وحقيقته ما مخطوبكما أي
مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبا كما سمي المشئون شأنا في قولك ما شأنك؟ يقال
شأنت شأنه أي قصدت قصده» وفي القاموس وشرحه «الخطب مصدر والشأن يقال : ما خطبك؟ أي
ما شأنك وما الذي حملك عليه والخطب : الأمر صغر أو عظم وغلب استعماله للأمر العظيم
المكروه» ولهذه المادة معان كثيرة يرجع إليها في المعاجم المطولة ولكثرتها نظم
بعضهم هذه المعاني بقوله :
ومرّة الوعظ
تسمى خطبة
|
|
ثم التماس
للنكاح الخطبة
|
وما به يخطب
فهو الخطبة
|
|
وحمرة أي في
سواد الشعر
|
فحمرة في
كدرة تدعى خطب
|
|
وخطبة النكاح
جمعها خطب
|
وجمع خطبة
بمنبر خطب
|
|
والخطب سهل
أي سبيل الأمر
|
فالأمر مع
صرف الزمان خطب
|
|
والخطبة
الخاطب كل خطب
|
جمع لأخطب
وخطبا خطب
|
|
في كل ذي
اختلاف لون يجري
|
وفي الوعظ قل
وفي النكاح خطبا
|
|
نعم وفي كدرة
لون خطبا
|
وإن ترد صار
خطيبا خطبا
|
|
أتى بسجع في
الكلام النثر
|
(يُصْدِرَ
الرِّعاءُ) : الصدر عن الشيء : الرجوع عنه ، يقال في فعله صدر من
باب نصر وضرب ، والصدر بفتحتين اسم مصدر منه
ويتعدى بنفسه فيقال صدره غيره أي رجعه أي رده ، ويستعمل رباعيا فيقال أصدره
غيره. والرعاء : جمع راع على غير القياس لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه
فعله كقضاة ورماة خلافا للزمخشري في قوله إنه جمع راع على فعال قياس كصيام وقيام ،
أما جمع فعال فيطرد في ستة أنواع نوردها فيما يلي :
١ ـ اسم أو صفة
ليست عينهما ياء على وزن فعل أو فعلة ، فالاسم ككعب وكعاب وثوب وثياب ونار ونيار
وقصعة وقصاع وجنة وجنان ، والصفة كصعب وصعبة وصعاب وضخم وضخمة وضخام ، وندر مجيئه
من معتل العين : كضيعة وضياع وضيف وضياف.
٢ ـ اسم صحيح
اللام غير مضاعف على وزن فعل أو فعلة كجمل وجمال وجبل وجبال ورقبة ورقاب وثمرة
وثمار.
٣ ـ اسم على
وزن فعل كذئب وذئاب وظل وظلال وبئر وبئار.
٤ ـ اسم على
وزن فعل ليست عينه واوا ولا لامه ياء كرمح ورماح وريح ورياح ودهن ودهان ، وأما الدهان
في قوله تعالى : «فكانت وردة كالدهان» فسيأتي انه اسم مفرد ومعناه الجلد الأحمر.
٥ ـ صفة صحيحة
اللام على وزن فعيل أو فعيلة ككريم وكريمة وكرام ومريض ومريضة ومراض وطويل وطويلة
وطوال.
٦ ـ صفة على
وزن فعلان أو فعلى أو فعلانة أو فعلانة كعطشان وعطشى وعطاش وريان وريا ورواء
وندمان وندمى وندام وخمصان وخمصانة وخماص.
وما جمع على
فعال من غير ما ذكر فهو على غير القياس وذلك كراع وراعية ورعاء وقائم وقائمة وقيام
وصائم وصائمة وصيام وأعجف وعجفاء وعجاف وخيّر وخيار وجيّد وجياد وجواد وجياد وأبطح
وبطاح وقلوص وقلاص وأنثى وإناث ونطفة ونطاف وفصيل وفصال وسبع وسباع وضبع وضباع
ونفساء ونفاس وعشراء وعشار.
هذا ولا ندري
كيف ند هذا عن الزمخشري فقال في كشافه :«وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام».
(اسْتِحْياءٍ) : الاستحياء والحياء الحشمة والانقباض والانزواء قال في
المصباح : «يقال استحيت بياء واحدة وبياء واحدة وبياءين ويتعدى بنفسه وبالحرف
فيقال استحيته واستحيت منه».
(الْقَصَصَ) بفتحتين : مصدر بمعنى المقصوص وقد سمي به فيما بعد
المقصوص يقال قص عليه الخبر حدثه به ومصدره قصص بفتحتين أما القصص بكسر القاف فهو
جمع قصة.
الاعراب :
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة وتوجه فعل ماض
وفاعله مستتر تقديره هو وتلقاء مدين ظرف مكان متعلق بتوجه وتلقاء يستعمل مصدرا
واسما للقاء ومكانا له وقد ذكرنا فيما مضى أن لدينا عشرة مصادر أتت مخالفة فجاءت
بكسر أولها ، وجعله شارح القاموس اسما للمصدر فقال تعليقا على القاموس «قوله
والاسم التلقاء أي اسم
المصدر ولكن يعكر عليه قوله ولا نظير له غير التبيان إذ لم يقل أحد بأن
التبيان اسم مصدر بل هو مصدر نادر» وعبارة المحكم : «التلقاء اسم مصدر لا مصدر
وإلا لفتحت التاء وقيل مصدر لا نظير له غير التبيان» ومدين مضاف إليه ومنعت من
الصرف للعلمية والتأنيث وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعسى فعل
ماض جامد من أفعال الرجاء وربي اسمها وان وما في حيزها خبرها وسواء السبيل مفعول
ثان أو منصوب بنزع الخافض. (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وجد فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعليه متعلقان بوجد
لأن وجد بمعنى لقي وأمة مفعول به أي جماعة كثيفة ومن الناس صفة لأمة وجملة يسقون
صفة ثانية أو حال ومفعول يسقون محذوف للعلم به أي مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ) ووجد عطف على وجد الأولى ومن دونهم متعلقان بوجد أيضا
أي في مكان أسفل منهم ، وامرأتين مفعول به أول وجملة تذودان صفة لامرأتين. (قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ما اسم استفهام مبتدأ وخطبكما خبر والجملة مقول القول ،
قالتا فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة وحركت بالفتح لمناسبة ألف التثنية
والألف فاعل وجملة لا نسقي مقول قولهما وحتى حرف غاية وجر ويصدر فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد حتى والرعاء فاعل والواو حالية وأبونا مبتدأ وشيخ خبر وكبير صفة
وسيأتي في باب البلاغة سر الجملة الحالية. (فَسَقى لَهُما ثُمَّ
تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر يفهم من سياق الكلام وسقى
فعل ماض ولهما متعلقان به والمفعول به محذوف أي غنمهما لأجلهما ، ثم حرف عطف وتولى
فعل ماض والى الظل متعلقان بتولي أي الى ظل شجرة كانت هناك. (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) رب منادى
وان واسمها ولما اللام حرف جر وما نكرة بمعنى شيء أو اسم موصول أي لأي شيء
أو للذي أنزلت والجار والمجرور متعلقان بفقير وأنزلت فعل وفاعل والجملة إما صفة
لما إن كانت نكرة أو صلة وإليّ متعلقان بأنزلت ومن خير حال وفقير خبر إن وعدي فقير
بحرف الجر لأنه ضمن معنى سائل أو طالب وإلا فهو يتعدى بإلى.
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام أي فرجعتا
الى أبيهما في زمن أقل مما كانتا تستنز فانه في السقي فسألهما عن سبب ذلك فأخبرتاه
بقصة من سقى لهما فقال لإحداهما أدعية لي فجاءته ، وإحداهما فاعل وجملة تمشي حال
من الفاعل وعلى استحياء حال من الفاعل المضمر في تمشي أي مستحيية خفرة وقيل واضعة
كم درعها على وجهها حياء منه.
(قالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) إن واسمها وجملة يدعوك خبر وليجزيك اللام للتعليل
ويجزيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوك
والكاف مفعول به أول وأجر مفعول به ثان وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر
مضاف لأجر أي أجر سقايتك ولنا متعلقان بسقيت.
(فَلَمَّا جاءَهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فأجابها لا ليأخذ الأجر
ولكن لأجل التبرك بأبيها لما سمع منهما انه شيخ كبير ، فمشت أمامه فجعلت الريح
تضرب ثوبها فتكشف ساقيها أو ألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي
ودليني على الطريق ففعلت الى أن دخل عليه فلما جاءه وقص عليه ، قص فعل ماض وعليه
متعلقان بقص والقصص مفعول به وجملة قال لا محل لها ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم
بلا ونجوت فعل وفاعل ومن القوم متعلقان بنجوت والظالمين صفة وإنما هدأ روعه
وطمأنه لأن مدين لم تكن في سلطان فرعون.
البلاغة :
١ ـ الإيجاز :
كثر الإيجاز في
هذه الآيات فقد حذف المفعول به في أربعة أماكن أحدها مفعول يسقون أي مواشيهم
والثاني مفعول تذودان أي مواشيهما والثالث لا نسقي أي مواشينا والرابع فسقى لهما
أي مواشيهما وعلة الحذف أن الغرض هو أن يعلم انه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود
وأنهما قالتا لا نسقي أي لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وانه كان من موسى سقي
فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فذلك أمر خارج عن نطاق الغرض.
٢ ـ الكناية :
في قوله «وأبونا
شيخ كبير» فقد أرادتا أن تقولا له : إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على
مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه
فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا وأرجائها الى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء وبذلك
طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه وإنما ساغ لنبي
الله شعيب أن يرضى لابنتيه بامتهان سقيا الماشية على ما فيها من تبذل واطراح حشمة
لأن الضرورات تبيح المحظورات مع أن الأمر في حد ذاته ليس بمحظور فالدين لا يأباه
والعادات متباينة ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت
الحالة حالة ضرورة.
٣ ـ الإشارة :
وذلك في قوله «على
استحياء» فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها
الرائع الفتان باستحياء لأن الخفر من صفات الحسان ولأن التهادي في المشي من أبرز
سماتهن ، قال الأعشى :
كأن مشيتها
من بيت جارتها
|
|
مر السحابة
لا ريث ولا عجل
|
وأبدع ابن
الرومي ما شاء له الإبداع إذ قال :
جرت تدافع من
وشي لها حسن
|
|
تدافع الماء
في وشي من الجب
|
وان رمق سماء
امرئ القيس بقوله :
سموت إليها
بعد ما نام أهلها
|
|
سمو حباب
الماء حالا على حال
|
وعمر بن أبي
ربيعة في رائيته البديعة :
فلما فقدت
الصوت منهم وأطفئت
|
|
مصابيح شبت
بالعشي وأنور
|
وغاب قمير
كنت أرجو غيابه
|
|
وروّح رعيان
وهوّم سمر
|
وخفض عني
الصوت أقبلت مشية
|
|
الحباب وركني
خيفة القوم ازور
|
(قالَتْ
إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ
عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ
وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))
الاعراب :
(قالَتْ إِحْداهُما يا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) قالت إحداهما فعل وفاعل وهي الكبرى التي تزوجها موسى
فيما بعد ، ويا أبت تقدم إعرابه كثيرا واستأجره فعل أمر وفاعل ومفعول به (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للأمر قبلها وسيأتي معنى
هذا الكلام الجامع المانع في باب البلاغة ، وإن واسمها ومضاف إليه وجملة استأجرت
لا محل لها لأنها صلة الموصول والقوي خبر أول
والأمين خبر ثان. (قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) إن واسمها وجملة أريد خبرها والجملة مقول القول وأن
أنكحك في تأويل مصدر مفعول أريد وفاعل أنكحك ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول
به أول وإحدى ابنتي مفعول به ثان وابنتي مضاف لإحدى وهاتين صفة لابنتي والاشارة
لتمييزها من بين بقية أخواتهما فقد كان له كما يروى سبع بنات. (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) على حرف جر دخل على أن وما يليها والجار والمجرور
متعلقان بمحذوف في موضع الحال إما من الفاعل أو من المفعول أي مشروطا عليّ أو عليك
ذلك وتأجرني فعل مضارع من أجرته إذا كنت له أجيرا كقولك أبوته أي كنت له أبا
ومفعول تأجرني الثاني محذوف أي نفسك وثماني حجج ظرف لتأجرني وحجج أعوام ، وتكلف
الزمخشري وجها ما أدري كيف استقام له وهو أن يكون ثماني مفعولا ثانيا لتأجرني ،
وقد احتاج الى تقدير مضاف أي رعي ثماني حجج ولا داعي لهذا التكلف ، هذا فضلا عن أن
المعنى لا يستقيم معه لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا الزمان فكيف يوجه
الاجارة على الزمان؟ (فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأتممت فعل ماض في محل جزم فعل
الشرط وعشرا مفعول به والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية ومن عندك جار ومجرور
متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فالتمام من عندك وليس في الأمر إلزام وتحتيم.
(وَما أُرِيدُ أَنْ
أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأريد فعل مضارع وفاعل مستتر
تقديره أنا وأن وما في حيزها مفعول أريد وعليك متعلقان بأشق ، ستجدني فعل مضارع
مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به
وجملة إن شاء الله اعتراضية لا محل لها وجواب ان محذوف ومن الصالحين
متعلقان بتجدني ومعنى أشق عليك أجعل الأمر صعبا ، قال الزمخشري : «فإن قلت : ما
حقيقة شققت عليه وشق عليه الأمر؟قلت : حقيقته ان الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك
ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه» وسيأتي مزيد من ذلك في باب البلاغة.
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى
ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره أي ذلك الذي عاهدتني
وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا لا نحيد عنه كلانا ، وأيما الأجلين :أي اسم شرط
جازم في محل نصب مفعول مقدم لقضيت وما زائدة للإبهام وسيأتي بحث مستفيض عن أي في
باب الفوائد وقيل ان «ما» نكرة بمعنى شيء والأجلين بدل منها وقضيت فعل وفاعل والفاء
رابطة للجواب ولا نافية للجنس وعدوان اسمها المبني على الفتح وعلي خبر لا والله
مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله.
البلاغة :
١ ـ الكلام
الجامع المانع :
في قوله تعالى
: «إن خير من استأجرت القوي الأمين» في هذه الآية فنون عديدة ولذلك أطلق عليها علماء
البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت
هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ
بالك وتم أمرك وسهل مرادك ، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مرّ العصور
وقادمات الدهور ، وفيه التعميم
الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للتحشم
والتصوّن وخصوصا بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه وقد كان عمر بن الخطاب
يعجب بهذا التعبير ويرمق سماءه في دعائه فيقول : «أشكو الى الله ضعف الأمين وخيانة
القوي».
وهذا الإيهام
من ابنة شعيب قد سلكته زليخا مع يوسف ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والحياء
المستعمل ، ليس التكحل في العينين كالكحل حيث قالت : «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا
إلا أن يسجن أو عذاب أليم» وهي تعني ما جزاء يوسف مما أرادني من السوء إلا أن
تسجنه أو تعذبه عذابا أليما ، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر وأن تنطق بالعصمة
منسوبا إليها الخنا إيذانا منها بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا
الأمر من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى ، ففي هذه الآية كما رأيت الإيجاز
والمثل والتعميم والإيهام وفيها أيضا التقديم فقد قدم ما هو أولى بالتقديم وجعل
اسما لـ «إن» وهو خير وورد بلفظ الفعل الماضي للدلالة على أن الأمر ليس بدعا وانه
معروف مبتوت فيه قد جرب وتعورف. ومن التقديم البديع قول أبي الشغب العبسي يتحزّن
على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو.
ألا إن خير
الناس حيا وهالكا
|
|
أسير ثقيف
عندهم في السلاسل
|
لعمري لئن
عمرتم السجن خالدا
|
|
وأوطأتموه
وطأة المتثاقل
|
لقد كان
نهّاضا بكل ملمة
|
|
ومعطي اللهى
غمرا كثير النوافل
|
وخير الناس اسم
تفضيل مضاف الى المعرف بأل وهو اسم إن وحيا وهالكا حالان منه وأسير ثقيف خبر إن ،
وثقيف علم القبيلة والعلم أعرف من المحلى بأل فخبر إن المضاف اليه أعرف من اسمها
المضاف المحلّى بأل وقد قدم الاسم للاهتمام به ، وعندهم في السلاسل حال أو خبر بعد
خبر ، ولعمري قسم إن عمرتم أي أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن وأوطأتموه أي صيرتموه
يطأ الأرض برجله كوطأة المتثاقل أي الحامل لشيء ثقيل لجعل القيد في رجليه فهو
كناية عن ذلك ، لقد كان نهاضا جواب القسم وجواب الشرط محذوف أي كان سريع القيام
بكل نازلة ثقيلة وكان معطى اللهى بالفتح جمع لهاة كحصى وحصاة أي اللحمة في أقصى
الفم لكنها هنا بمعنى الفم نفسه ويجوز أن يكون اللهى بضم اللام جمع لهوة كغرف
وغرفة بمعنى العطية من أي نوع كانت.
٢ ـ الإيجاز :
وفي قوله «وما
أريد أن أشق عليك» إيجاز بليغ فقد ذكرنا معنى شق عليه الأمر وانه مترجح بين اليأس
والرجاء ، وفيه إيماء الى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالا تربو على
طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة ، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة
والأخذ بالأسهل والأيسر ومنه الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي فكان
لا يداري ولا يشاري ولا يماري».
الفوائد :
«أيّ» المشددة
:
تأتي «أيّ»
المشددة على خمسة أوجه :
١ ـ أن تكون شرطا
نحو «أيما الأجلين قضيت» وقد تزاد ما بعدها للتوكيد.
٢ ـ أن تكون
استفهامية : «أيكم زادته هذه إيمانا».
٣ ـ موصولة : «ثم
لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا».
٤ ـ أن تكون
دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي كامل في صفات الرجال
وحالا من المعرفة كمررت بعبد الله أي رجل ، قال أبو العتاهية وقد وردت صفة :
إن الشباب
والفراغ والجده
|
|
مفسدة للمرء
أي مفسده
|
٥ ـ أن تكون وصلة الى نداء ما فيه
أل نحو يا أيها الرجل.
هذا وقد أورد
صاحب المغني بيتا لأبي الطيب فيه «أي» وهو :
أي يوم
سررتني بوصال
|
|
لم ترعني
ثلاثة بصدود
|
وقال : «ليست
فيه أي موصولة لأن الموصولة لا تضاف إلا إلى المعرفة ، قال أبو علي في التذكرة في
قوله :
أرأيت أي
سوالف وخدود
|
|
برزت لنا بين
اللوى فزرود
|
لا تكون أي فيه
موصولة لإضافتها الى نكرة» وتابع صاحب المغني كلامه فقال : ولا شرطية لأن المعنى
حينئذ إن سررتني يوما بوصالك آمنتني ثلاثة أيام من صدودك ، وهذا عكس المعنى المراد
وإنما هي للاستفهام الذي يراد به النفي كقولك لمن ادعى أنه أكرمك :أي يوم أكرمتني؟
والمعنى ما سررتني يوما بوصالك إلا روعتني ثلاثة بصدودك ، والجملة الأولى مستأنفة
قدم ظرفها لأن له الصدر والثانية اما في موضع جر صفة لوصال على حذف العائد أي لم
ترغني بعده كما حذف في قوله تعالى : «واتقوا يوما لا تجزي نفس» الآية ، أو نصب
حالا من فاعل سررتني أو مفعوله والمعنى أي يوم سررتني غير رائع لي أو غير مروع منك
وهي حال مقدرة مثلها في «طبتم فادخلوها خالدين» أو لا محل لها على أن تكون معطوفة
على الأولى بفاء محذوفة كما قيل في «وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة قالوا : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله» وكذا في بقية الآية وفيه بعد ،
والمحققون في الآية على أن الجمل مستأنفة بتقدير : فما قالوا له؟ فما قال لهم؟ ومن
روى ثلاثة بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل سررتني لخلو ترعني من ضمير ذي
الحال.
وقال أبو
البقاء العكبري في شرحه لديوان المتنبي : «أي نصب وهو استفهام خرج مخرج النفي كما
تقول لمن يدعي أنه أكرمك : أي يوم أكرمتني قط كما قال الهذلي :
اذهب فأي فتى
في الناس أحرزه
|
|
من حتفه ظلم
دعج ولا جبل
|
ولا يجوز أن
تكون «أي» شرطية تتعلق الجملة بالجملة تعلق الجزاء بالشرط ، وإذا حملته على الشرط
كان مناقضا للمعنى الذي أراده فكأنه يقول : إن سررتني يوما بوصالك أمنتني ثلاثة من
صدودك وهذا عكس مراده.
وهذا البيت من
جملة أبيات غزلية استهل بها أبو الطيب قصيدة قالها في صباه ونورد هنا الأبيات
الغزلية لنفاستها ونعرب بعض ما فيه فائدة منها :
كم قتيل كما
قتلت شهيد
|
|
ببياض الطّلى
وورد الخدود
|
وعيون المها
ولا كعيون
|
|
فتكت بالمتيم
المعمود
|
درّ درّ الصّبا
أأيام تجر .... ير ذيولي بدار أثلة عودي
عمرك الله هل
رأيت بدورا
|
|
طلعت في
براقع وعقود
|
راميات بأسهم
ريشها الهد .... ب تشقّ القلوب قبل الجلود
يترشّفن في
فمي رشفات
|
|
هن فيه أحلى
من التوحيد
|
كلّ خمصانة
أرقّ من الخم .... ر بقلب أقسى من الجلمود ذات فرع كأنما ضرب العن .... بر فيه
بماء ورد وعود حالك كالغداف مثل دجو .... جيّ أثيث جعد بلا تجعيد تحمل المسك عن
غدائرها الري .... ح وتفتّر عن شتيت برود جمعت بين جسم أحمد والسق .... م وبين
الجفون والتسهيد أهل ما بي من الضنى بطل صي .... د بتصفيف طرّة وبجيد
كل شيء من
الدماء حرام
|
|
شربه ما خلا
دم العنقود
|
فاسقنيها فدى
لعينيك نفسي
|
|
من غزال
وطارفي وتليدي
|
شيب رأسي
وذلتي ونحو لي
|
|
ودموعي على
هواك شهودي
|
أي يوم سررتني
... (البيت) إعراب بعض الكلمات :
(كم) خبرية
وتمييزها مجرور بالاضافة إليها أو بمن وقد تقدم القول فيها مطولا وهي هنا في محل
رفع مبتدأ خبره ببياض ، وكما قتلت نعت لمصدر محذوف ، هذا ولهم في العشق حديث طويل
، وخبره عند أرباب التصوف معقول قال الجنيد : «العشقة ألفة رحمانية وإلهام شوقي
أوجبهما كرم الله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا
بتلك الألفة وهي موجودة في الأنفس مقدرة مراتبها عند أربابها فما أحد إلا عاشق
لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب
الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة ومالوا الى الآخرة مع كونها مغيبة عنهم» وقد وصف
الله تعالى نفسه بالحب فقال : «يحبهم ويحبونه» وقد تقدم القول فيه مطولا ، وأما
العشق فلم يرد في لسان الشرع ، وقال الفضيل بن عياض كلاما جميلا منه : «لو رزقني
الله تعالى دعوة مجابة لدعوته تعالى أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية لا
اختيارية ، وما أحسن قول أبي فراس الحمداني :
وكم في الناس
من حسن ولكن
|
|
عليك لشقوتي
وقع اختياري
|
وقال رجل من
العرب لبعض بني عذرة : ما لأحدكم يموت عشقا في هوى امرأة ألفها وليس ذلك إلا ضعف
نفس أو خور تجدونه ، يا بني عذرة فقال : أما والله لو رأيتم الحواجب الزّجّ ، فوق
النواظر الدعج ، تحتها المباسم الفلج ، لاتخذتموها اللات والعزى» هذا وقد استند
أبو الطيب في قوله «شهيد» الى حديث يروونه هو : «إن من عشق وعف وكتم فمات مات
شهيدا».
(عمرك الله) :
مصدر يقال : أطال الله عمرك وعمرك بالضم والفتح وهما وإن كانا مصدرين بمعنى إلا
أنه استعمل أحدهما في القسم وهو المفتوح العين فإذا أدخلت عليه لام الابتداء رفعته
بالابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي فإن لم تأت باللام نصبته نصب
المصادر وقلت عمر الله ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا فكأنك قلت بتعميرك الله
أي باقرارك له بالبقاء ، ومنه قول عمر ابن أبي ربيعة :
أيها المنكح
الثّريا سهيلا
|
|
عمرك الله
كيف يلتقيان
|
يريد سألت الله
أن يطيل عمرك وهو في قول أبي الطيب مصدر ومعناه : سألت الله أن يعمرك تعميرا.
(أحلى من
التوحيد) قال الواحدي : «كنّ يمصصن ريقي لحبهنّ إياي فكانت الرشفات في فمي أحلى من
كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله وهذا إفراط وتجاوز حد».
قال ابن القطاع
: ذهب كثير من الناس الى أن لفظة أفعل من كذا توجب تفضيل الأول على الثاني في جميع
المواضع وذلك غلط والصحيح أن أفعل يجيء في كلام العرب على خمسة أوجه :
أحدها : أن
يكون الأول من جنس الثاني ولم يظهر لأحدهما حكم يزيد على الأول به زيادة يقوم
عليها دليل من قبل التفضيل فهذا يكون حقيقة في الفضل لا مجازا وذلك كقولك زيد أفضل
من عمرو وهذا السيف أصرم من هذا.
والثاني : أن
يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه ومحتملا للحاق به وقد سبق للثاني حكم أوجب
له الزيادة بالدليل الواضح فهذا يكون على المقاربة في التشبيه لا التفضيل نحو قولك
الأمير أكرم من حاتم وأشجع من عمرو ، وبيت المتنبي من هذا القبيل أي يترشفن من فمي
رشفات هنّ قريب من التوحيد.
والثالث : أن
يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه والثاني دون الاول فهذا يكون على الإخبار
المحض نحو قولك : الشمس أضوأ من القمر والأسد أجرأ من النمر.
والرابع : أن
يكون الأول من غير جنس الثاني وقد سبق للثاني حكم أوجد له الزيادة واشتهر الأول من
جنسه بالفضيلة فيكون هذا على سبيل التشبيه المحض والغرض أن يحصل للأول بعض ما يحصل
للثاني نحو قولك : زيد أشجع من الأسد وأمض من السيف.
والخامس : أن
يكون الأول من غير جنس الثاني والأول دون الثاني في الصفة جدا فيكون هذا على
المبالغة المحضة نحو قامته أتمّ من الرمح ووجهه أضوأ من الشمس وجاء في الحديث : «ما
أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر» ذهب من لا يعرف معاني الكلام
أن أبا ذر أصدق العالم أجمع وليس الأمر كذلك وإنما
نفى عليه الصلاة والسلام أن يكون أحد أعلى منه رتبة في الصدق ولو أراد ما
ذهبوا إليه لقال : أبو ذر أصدق من كل من أظلت وأقلت.
(كل خمصانة) :
يجوز فيه الرفع على البدل من الضمير في يترشفن وعلى هذا يرفع أرق حملا على كل ،
ويجوز نصب كل حملا على النعت لقوله بدورا أو على البدلية منها والخمصانة الضامرة
والذكر خمصان.
(أهل ما بي من
الضنى بطل) أهل مبتدأ خبره بطل أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أنا أهل ما بي وحقيق
به وأنا بطل صيد.
(ما خلا دم
العنقود) : إذا قلت جاء القوم ما خلا زيدا فليس إلا النصب لأن خلا يتحتم كونها
فعلا لدخول ما المصدرية عليها ، وإذا قلت جاء القوم خلا زيد كان الجر لا غير.
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا
رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ
فِي
جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ
الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))
الاعراب :
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق والتقدير فتم
العقد بينهما على الإجارة والنكاح ومارس المهمة التي أنيطت به على أحسن وجه وأكمله
فلما. ولما حينية أو رابطة وجملة قضى موسى الأجل لا محل لها وسار عطف على قضى
وبأهله جار ومجرور متعلقان بسار وجملة آنس لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن
جانب الطور متعلقان بآنس ونارا مفعول به ولك أن تجعل من جانب الطور حالا لأنه كان
صفة لنارا وتقدم عليها. (قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) لأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني
تعليل للأمر بالمكث وإن واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به.
(لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) جملة الرجاء حال أي راجيا ولعل واسمها وجملة آتيكم
خبرها والكاف مفعول به ومنها حال لأنه كان صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم وأو حرف
عطف وجذوة عطف على خبر وهي مثلثة الجيم : الشعلة من النار والقطعة من الحطب وجمعها
جذا ، قال ابن مقبل :
باتت حواطب
ليلى يلتمسن لها
|
|
جزل الجذا
غير خوار ولا ذعر
|
ومن النار نعت
لجذوة وجملة الرجاء حال أيضا ولعل واسمها وجملة تصطلون خبرها. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسار نحوها
فلما أتاها ، وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن شاطىء الوادي
متعلقان بنودي والأيمن صفة لشاطيء وفي البقعة حال من الشاطئ والمباركة صفة للبقعة
ومن الشجرة بدل من قوله من شاطىء الوادي بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على
الشاطئ وقد تقدم نظيره في قوله : «لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم» أي أتاه
النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة.
(أَنْ يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أن مفسرة لأن النداء قول والتقدير أي يا موسى ، وأجاز
أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها محذوف يفسره جملة النداء أي
نودي بأنه أي الشأن ، وإني إن واسمها وهي مكسورة الهمزة باتفاق القراء لأن النداء
قول وأنا ضمير فصل أو مبتدأ والله خبر إن أو خبر أنا والجملة خبر إن ورب العالمين
نعت لله أو بدل منه. (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو عاطفة وأن مفسرة معطوفة على سابقتها وألق فعل أمر
وفاعله مستتر تقديره أنت وعصاك مفعول به ، فلما الفاء عاطفة على مقدر يقتضيه
السياق أي فألقاها فصارت ثعبانا ورآها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة تهتز حالية
وجملة كأنها جان حال من فاعل تهتز وكأن واسمها وجان خبرها وجملة ولى لا محل لها
لأنها جواب شرط غير جازم وفاعل ولى مستتر تقديره هو ومدبرا حال والواو عاطفة وجملة
لم يعقب عطف على ولى أي ولم يرجع. (يا مُوسى أَقْبِلْ
وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أقبل فعل أمر
وفاعله مستتر تقديره أنت ولا تخف لا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وإن
واسمها ومن الآمنين خبرها والجملة تعليل للأمر بالإقبال والنهي عن الخوف. (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) اسلك يدك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وفي جيبك
متعلقان باسلك من سلك الشيء في الشيء أنفذه فيه ، وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب
الطلب والفاعل مستتر تقديره هي وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء وقد تقدم
تعليل ذلك في سورة طه فجدد به عهدا. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قال الزمخشري :«فإن قلت ما معنى قوله واضمم إليك جناحك
من الرهب؟ قلت : فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب العصا حية فزع
واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة
عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقاءك بها ثم
أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى. والمراد
بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد
يده اليسرى فقد ضم جناحه إليه ، والثاني أن يراد بضم جناحه اليه تجلده وضبطه نفسه
وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه
إذا خوّف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران.
ومنه ما يحكى
عن عمر بن عبد العزيز أن كاتبا له كان يكتب بين يديه فانفلت منه فلتة ريح ، فخجل
وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك
فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي».
واضمم فعل أمر
وفاعله مستتر تقديره أنت وإليك متعلقان باضمم وجناحك مفعول به ومن الرهب متعلقان
باضمم بمثابة التعليل له أي من أجل الرهب وقيل بولي أي هرب من الفزع ، وقيل بمدبرا
، وقيل بمحذوف أي يسكن من الرهب ، والرهب بفتح الراء والهاء وبفتح الراء واسكان
الهاء. وسيأتي مزيد تفصيل في باب البلاغة.
(فَذانِكَ بُرْهانانِ
مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا تأملت بذلك واستيقنت منه فذانك ،
وذانك اسم إشارة وهي تثنية ذاك ومن قرأ ذانّك بالتشديد جعلها تثنية ذلك بلام البعد
ويكون التشديد عوضا عنها وبرهانان خبر ومن ربك صفة لبرهانان أي مرسلان من ربك والى
فرعون متعلقان بمرسلان وملئه عطف على فرعون وجملة إنهم تعليل لإرسال البرهانين وان
واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وقوما خبرها وفاسقين صفة لقوما.
البلاغة :
تقدم معظم ما
في هذه الآيات من فنون البلاغة من استعارة واحتراس ، ونضيف الى ما تقدم ما أورده
الامام الزمخشري بأسلوبه الساحر وهذا نصه : «فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في
أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه وذلك قوله : «واضمم إليك جناحك» وفي طه
«واضمم يدك الى جناحك» فما التوفيق
بينهما؟ قلت : المراد الجناح المضموم هو اليد اليمنى والمضموم اليه هو اليد
اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح».
وقال الزمخشري
أيضا : «فإن قلت لم سميت الحجة برهانا؟قلت لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة
البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معا» وهذا تعليل لطيف لا يحسن استنباطه غير هذا
الامام ومعنى ذلك أن النون في البرهان زائدة ، يقولون أبره الرجل إذا جاء بالبرهان
ونظيره تسميتهم الحجة أيضا سلطانا من السليط وهو الزيت لإنارتها ، وفي معاجم اللغة
: وأبره أتى بالبرهان أو بالعجائب وغلب الناس وهذا هو قول الزمخشري والمحققين ،
وزعم صاحب القاموس في أحد قوليه أن النون أصلية قال وبرهن عليه أقام البرهان ،
والبرهان بالضم الحجة فتدبر.
الفوائد :
عصا موسى أيضا
:
قدمنا في سورة
طه بحثا مستفيضا عن العصا ونضيف هنا ما يتعلق بعصا موسى خاصة ، روى التاريخ أن
شعيبا كانت عنده عصي الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك
العصي فأخذ عصا كان شعيب مفتونا بها وكان مكفوفا فضن بها فقال :غيرها فما وقع في
يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا ، وقيل أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع
بها السباع عن غنمه فوقعت في يدها سبع مرات كما تقدم وفي كتب التفسير طرائف عن تلك
العصا لا مجال لها في كتابنا.
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ
لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))
اللغة :
(رِدْءاً) : معينا ، يقال ردأته : أعنته والرّدء اسم ما يعان به
فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة ابن جندل :
وردئي كل
أبيض مشرفي
|
|
شحيذ الحدّ
عضب ذي فلول
|
أي وردئي الذي
أتوقى به المكاره كل سيف أبيض ، وعبّر بكل لأن المراد بيان الجنس لا الشخص ومشرفي
نسبة الى مشارف اليمن وهي قرى منها وقيل من الشام ، وشحيذ الحد مرهفه من شحذ
المدية أي حددها ، والعضب : القاطع ، والفلول : جمع فلّ وهو كسر
في حد السيف وانثلام أي به فلول من قراع الكتائب. وقال النحاس :يقال ردأته
وأردأته.
(العضد) : بفتح
العين وضم الضاد وبالضم وبالكسر : غليظ الذراع وهو من المرفق الى الكتف جمعه أعضاد
وأعضد وهو قوام اليد وبشدته تشتد. قال طرفة ، وقيل لأوس ابن حجر :
أبني لبيني
لستمو بيد
|
|
إلا يدا ليست
لها عضد
|
وللعين مع
الضاد فاء وعينا للكلمة خاصة القوة والصلابة والاصطلام تقول عضه يعضه عضا أمسكه
بأسنانه ويقال أيضا عض به وعض عليه وعضه الزمان اشتد عليه وأعضّ السيف بساق البعير
، قال لبيد :
ولكنا نعض
السيف منها
|
|
بأسوق عافيات
الشحم كوم
|
وعضته الحرب ،
قال الأخطل :
ضجوا من
الحرب إذ عضت غواربهم
|
|
وقيس عيلان
من عاداتها الضجر
|
وملك عضوض :
غشوم ، وعن أبي بكر : «سترون بعدي ملكا عضوضا وأمة شعاعا» وبئر عضوض : بعيدة القعر
كأنها تعض الماتح بما تشق عليه ، وعضبته بلساني شتمته ، ورجل عضّاب : شتام ،
وعضبته عن حاجة : قطعته ، ومالك تعضبني عما أنا فيه ، والعضب بالسيف القاطع والرجل
الحديد الكلام ، وعضبر الكلب : استأسد والعضبارة : حجر الرحى وصخرة يقصر القصّار
الثوب عليها ،
والمعضاد : سكين كبير للقصاب يقطع به العظام ، وأعضل الأمر :اشتد وبه داء
عضال ، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم ، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه
فقال :
واحدة أعضلكم
أمرها
|
|
فكيف لو درت
على أربع
|
وفلان عضلة من
العضل : داهية من الدواهي وعضلت على فلان : ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد
، ومنه «ولا تعضلوهن» ورماه بالعضيهة أي الافك ، وقال عليه السلام :«لا تعضية على
أهل الميراث» أي لا يدخل عليهم الضرر بقسمة نحو السيف والخاتم.
الاعراب :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة كما تقدم وان
واسمها وجملة قتلت خبرها ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت ونفسا مفعول به ،
فأخاف الفاء عاطفة وأخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وان وما في
حيزها مفعول أخاف ويقتلون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والنون
للوقاء وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ) الواو عاطفة وأخي مبتدأ وهارون بدل أو عطف بيان وهو
مبتدأ وأفصح خبر هو والجملة خبر أخي ومني متعلقان بأفصح ولسانا تمييز ، فأرسله
الفاء الفصيحة وأرسله فعل أمر للدعاء وفاعله أنت والهاء مفعول به ومعي ظرف متعلق
بأرسله وردءا حال
وسيأتي معنى التصديق في باب البلاغة ويصدقني فعل مضارع مرفوع ولو جزم لجاز
وقرئ به على أنه جواب للطلب والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة مستأنفة أو
صفة لردءا أو حال من مفعول أرسله وجملة إني أخاف تعليل للملتمس وان واسمها وجملة
أخاف خبر ان وأن وما في حيزها مفعول أخاف. (قالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) جملة سنشد مقول القول وفاعل نشد نحن وعضدك مفعول به
وبأخيك جار ومجرور متعلقان بنشد ونجعل عطف على سنشد ولكما في محل نصب مفعول ثان
لنجعل وسلطانا مفعول نجعل الأول أي غلبة وحجة واضحة وقد مر تفسيره في باب اللغة.
(فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويصلون فعل مضارع مرفوع والواو
فاعل وإليكما متعلقان بيصلون وبآياتنا يجوز فيه أن يتعلق بنحو ما تعلق به في تسع
آيات أي اذهبا بآياتنا أو بنجعل أو بيصلون أو بسلطانا أي نسلطكما بآياتنا أو
بمحذوف حال أو من لغو القسم ولا أرى موجبا للترجيح في هذه الأوجه فاختر منها ما
ترى ترجيحه ، وأنتما مبتدأ ومن اسم موصول معطوف على أنتما وجملة اتبعكما صلة من
والغالبون خبر أنتما.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولما ظرفية حينية أو
رابطة وجاءهم موسى فعل ومفعول وفاعل وبآياتنا متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال وبينات
حال أي واضحات الدلالة وجملة قالوا جواب لما وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر
وسحر خبر ومفترى صفة.
(وَما سَمِعْنا بِهذا
فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان
بسمعنا وفي آبائنا حال من هذا فهو متعلق
بمحذوف تقديره كائنا والأولين نعت لآبائنا. (وَقالَ مُوسى رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وبمن متعلقان بأعلم وجملة جاء
بالهدى صلة من ومن عنده حال. (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ
عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن عطف على من الأولى وتكون فعل مضارع
ناقص وله خبرها المقدم وعاقبة الدار اسمها المؤخر ، ويجوز أن يكون اسم تكون ضمير
الشأن أو ضمير القصة وله خبر مقدم وعاقبة الدار مبتدأ مؤخر والجملة خبر تكون ،
ويجوز أن تكون تامة فتكون جملة له عاقبة الدار حالا وفاعل تكون ضمير يعود على من
وان واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها.
البلاغة :
١ ـ الاسناد
المجازي :
في قوله «فأرسله
معي ردءا يصدقني» إسناد مجازي ، فقد أسند اليه التصديق لأنه السبب فيه ، ومعنى
الإسناد المجازي أن التصديق حقيقة في المصدق فاسناده حقيقة وليس في السبب تصديق
لكن استعير له الاسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة
والدليل على ذلك قوله «إني أخاف أن يكذبون» فليس الغرض من قوله يصدقني أن يقول
صدقت أو يقول للناس صدق أخي وانما طريق تصديقه أن يلخص الحق بلسانه ، ويجادل
الكفار ببيانه وأن يقرر الحجة ويورد البرهان مدعوما بالأرقام كما يفعل الرجل
المنطيق ذو العارضة ، ألا ترى الى قوله : «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا» وفي هذا
دليل على سمو البيان وشرفه وإنافته على الكلام العادي الذي لا يصيب المحز ولا
يتغلغل الى أغوار النفوس.
٢ ـ المجاز المرسل :
وفي قوله «سنشد
عضدك بأخيك» مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين تتبع إحداهما
ثانيتهما فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في
المرتبة الثانية واختار الشهاب في حاشيته على البيضاوي أن يكون كناية تلويحية قال
: «الشد التقوية فهو اما كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشد بشد العضد والجملة
تشد بشد اليد أو استعارة تمثيلية شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في
تقويتها بالعضد» وليس ببعيد.
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))
اللغة :
(أَطَّلِعُ) : الطلوع والاطلاع : الصعود ، يقال طلع الجبل واطلع
بمعنى وإن نفسك لطلعة إلى هذا الأمر وانها لتطّلع إليه أي تنازع.
(الْمَقْبُوحِينَ) : المقبوح : المطرود وقبحه الله : طرده ، وفي المصباح : «قبح الشيء قبحا
فهو قبيح من باب قرب وهو خلاف حسن وقبحه الله يقبحه بفتحتين : نحاه الله عن الخير
وفي التنزيل :«وهم من المقبوحين» أي المبعدين عن الفوز والتثقيل مبالغة وقبح عليه
فعله تقبيحا».
وقال أبو زيد :
قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير ، وقال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف
بمعنى قبّحت بالتشديد ومثله قول الشاعر :
ألا قبح الله
البراجم كلها
|
|
وقبح يربوعا
وقبح دارما
|
الاعراب :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) الواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي وقال فرعون بعد
ما جمع السحرة لمعارضته وكان بينهم وبين موسى ما كان ، ويا حرف نداء وأيها منادى
نكرة مقصودة بني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والملأ بدل وما نافية وعلمت
فعل وفاعل ولكم حال ومن حرف جر زائد وإله
مجرور لفظا بمن منصوب محلا لأنه مفعول به وغيري صفة لإله.
(فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) الفاء الفصيحة وأوقد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد علم وعلى الطين متعلقان بأوقد ، فاجعل عطف على أوقد
ولي في محل نصب مفعول ثان لا جعل وصرحا مفعول أول. (لَعَلِّي أَطَّلِعُ
إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) لعل واسمها وجملة أطلع خبرها والى إله موسى متعلقان
بأطلع وإني الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنه خبر والهاء مفعول به
أول ومن الكاذبين في موضع المفعول الثاني. (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ
وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) عطف على وقال فرعون وهو فاعل استكبر أو توكيد للفاعل
لأن استتار الفاعل في الغائب جائز وجنوده عطف على هو وفي الأرض متعلقان باستكبر
وبغير الحق حال من فاعل استكبر أي ملتبسين بغير الحق.
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) وظنوا عطف على استكبر وأن وما يليها سدت مسد مفعولي
ظنوا وإلينا متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة لا يرجعون خبر أن. (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فأخذناه عطف على ما تقدم وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به
وجنوده عطف على الهاء في أخذناه أو مفعول معه فنبذناهم عطف على فأخذناه وفي اليم
متعلقان بنبذناهم ، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وكيف خبر مقدم لكان وعاقبة
الظالمين اسمها المؤخر. (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وأئمة مفعول به ثان
وجملة يدعون صفة لأئمة والى النار متعلقان بيدعون ويوم القيامة الواو عاطفة ويوم
القيامة ظرف متعلق بينصرون ولا نافية وينصرون
فعل مضارع مبني للمجهول ولك أن تجعل الواو حالية والجملة حال.
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) وأتبعناهم عطف على ما تقدم وفي هذه الدنيا حال والدنيا
بدل من هذه ولعنة مفعول به ثان.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) الظرف متعلق بمحذوف دل عليه قوله المقبوحين كأنه قيل
وقبحوا يوم القيامة وإنما قدرنا محذوفا لأن تعليقه بالمقبوحين وهو الظاهر يمنع منه
وجود أل الموصولية ، على أنهم قد اتسعوا في ذلك فعلقوه بمدخولها ولا مانع من ذلك
ولك أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة وهم مبتدأ ومن
المقبوحين خبره.
البلاغة :
في قوله «فأوقد
لي يا هامان على الطين» إطناب بديع وذلك أنه لم يقل اطبخ لي الآجر وذلك ليتفادى
ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها ـ على سهولة لفظه ـ ليس فصيحا وذلك أمر يقرره الذوق
وحده ، ألا ترى إلى هذه الكلمة وقد وقعت في بيت للنابغة الذبياني من قصيدته
الدالية التي أولها :
من آل مية
رائح أو مغتدي
|
|
عجلان ذا زاد
وغير مزود
|
والبيت هو :
أو دمية من
مرمر مرفوعة
|
|
بنيت بآجر
يشاد بقرمد
|
فلفظة آجر في
البيت قلقة نابية لابتذالها ، فإن شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها
القرآن فانظر الى هذا الموضع فإنه
لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكره بلفظه ولا يلفظ القرمد أيضا لكنه ذكر في
القرآن على وجه آخر فعبر عن الآجر بالوقود على الظين ، ثم ان هذه العبارة أحسن
مطابقة لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره
ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه ؛ «يا» في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر
وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة وذلك على الوجه
التالي :
١ ـ نادى وزيره
بحرف النداء.
٢ ـ توسيط
ندائه خلال الأمر وبناء الصرح.
٣ ـ رجاؤه
الاطلاع الى الله.
٤ ـ الغباء
الذي يلازم الجبابرة العتاة إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون فقد صرح قبل
هنيهة بقوله «ما علمت لكم من إله غيري» فعبر عن نفي المعلوم بنفي العلم وأعلن
تصميمه على الجحود ثم ما عتم أن أعلن رجاءه الاطلاع فهل كان مصمما على الجحود أم
لم يكن.
فصل في اختيار
الألفاظ :
هذا وقد عني
علماء البيان باللفظة وسر اختيارها وخلاصة ما يقال فيه : أن حسن الألفاظ وقبحها
أمر يعود الى الذوق وحده فما استحسنه كان حسنا وما استقبحه كان قبيحا ، فالاستعمال
ليس بدليل الحسن ، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ومن لم يعرف صناعة النظم
والنثر وما يجده صاحبها من الكلفة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول
ما قال :
لا يعرف
الشوق إلا من يكابده
|
|
ولا الصبابة
إلا من يعانيها
|
والصاحب بن
عباد الذي كان من المفتونين بأبي الطيب ، والذي كان يستعمل أشعاره في كتاباته
ويقتبس منها ، عند ما حصلت بينه وبين أبي الطيب المتنبي الجفوة بسبب ترفع هذا عن
مجاوبته فقد ذكروا أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان
وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب ولم يكن قد استوزر بعد ، وقد
كتب الصاحب اليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له
المتنبي وزنا ولم يجبه الى كتابه ولم يحقق مراده ، وقصد المتنبي بعد ذلك الى حضرة
عضد الدولة بشيراز فأسفرت سفرته ـ كما يقول أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر ـ عن
بلوغ الأمنية ، وورود مشروع المنية ، وذلك أن المتنبي قتل عند مغادرته إياه محملا
بالعطايا والهبات.
قال الثعالبي :
«واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته ،
وينعى عليه سيئاته ، وهو أعرف الناس بحسناته ، وأحفظهم لها ، وأكثرهم استعمالا
إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته».
وقد عمل الصاحب
رسالة فيما أخذه على المتنبي ، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة
هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء
منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب ولم يستطع
أن ينال منه إلا من طريق الألفاظ وحدها. ونورد هنا نماذج من هذه الرسالة.
١ ـ أخذ الصاحب
على المتنبي التفاصح بالألفاظ الشاذة فمن ذلك قوله :
أيفطمه
التوراب قبل فطامه
|
|
ويأكله قبل
البلوغ الى الأكل
|
قال : «وما أرى
كيف عشق التوراب حتى جعله عوذة أشعاره» والتوراب : التراب.
ومعنى البيت : أيفطمه
التوراب قبل أن تفطمه أمه ويأكله التراب قبل أن يبلغ سن الآكل.
٢ ـ وأخذ عليه
لفظة ترنج بقوله :
شديد البعد
من شرب الشمول
|
|
ترنج الهند
أو طلع النخيل
|
قال الصاحب
ساخرا : «فلا أدري أاستهلال الأبيات أحسن؟ أم المعنى أبدع؟ أم قوله ترنج أفصح»
ولقد أصاب الصاحب فاللغة الفصيحة هي أترج وأترجة ومنه الحديث مثل المؤمن الذي يقرأ
القرآن كالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، وحكى أبو زيد ترنج وترنجة ، يقول أبو
الطيب : ترنج الهند وطلع النخيل شديد بعدهما عن محلك من شرب الخمر وإن كان غيرك يتخذهما
لذلك لأن هذه الحال غير مظنونة
بك وانما استحضارك لهما ولما يشاكلهما من الرياحين استمتاعا بحسن ذلك.
٣ ـ وانتقد
الصاحب جمع الآخاء في شعره إذ قال.
كل آخائه كرام
بني الدنيا ولكنه كريم الكرام قال : «ولو وقع الآخاء» في رائية الشمّاخ لاستثقل
فكيف مع أبيات منها :
قد سمعنا ما
قلت في الأحلام
|
|
وأنلناك بدرة
في المنام
|
والكلام إذا لم
يتناسب زيّفه جهابذته ، وبهرجه نقاده».
وعلى هذا النحو
يمضي في كشف مساوئ المتنبي وكلها أمور ترجع الى اللفظة وحدها وسيرد معنا الكثير
منها فلنكتف بما ذكرناه الآن منها.
وعاب النقاد
القوافي الملتاثة ، فعابوا على أبي تمام قافيته الثائية في قصيدته التي مطلعها :
قف بالطلول
الدارسات علاثا
|
|
أصخت حبال
قطينهن رثاثا
|
وعلاثا منادى
مرخم وأصله يا علاثة. وعابوا على أبي الطيب قافيته الشينية في قصيدته التي مطلعها
:
مبيتي من
دمشق على فراش
|
|
حشاه لي بحرّ
حشاي حاش
|
وعابوا على ابن
هانىء الأندلسي قافيته الخائية في قصيدته التي مطلعها :
سرى وجناح
الليل أقتم أفتخ
|
|
حبيب ضجيع
بالعبير مضمّخ
|
والأقتم :
المظلم ، والأفتخ : المستطيل.
وحسبنا ما تقدم
فقد كدنا نخرج بالكتاب عن موضوعه.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ
بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ
الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا
وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا
وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦))
اللغة :
(بَصائِرَ) : البصيرة : العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة يقال
: جوارحه بصيرة عليه أي شهود وفراسة ذات بصيرة أي صادقة والجمع بصائر وقوله «بصائر
للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بها بين الحق والباطل بعد أن
كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فالبصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن
البصر نور العين الذي به تبصر وسيأتي المزيد من معناها في باب الاعراب.
(ثاوِياً) : مقيما ، يقال ثوى يثوي من باب ضرب ثواء وثويا المكان
وفيه وبه أقام وثوى الرجل مات قال عبيد بن الأبرص في مطلع معلقته :
آذنتنا
ببنيها أسماء
|
|
رب ثاو يملّ
منه الثواء
|
الاعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن بعد متعلقان
بآتينا وما مصدرية وأهلكنا فعل وفاعل والقرون مفعول به والأولى صفة. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بصائر حال من الكتاب أو مفعول لأجله ، وعلى الحالية لا
بد من تقدير مضاف أي ذا بصائر ، أو على المبالغة ، وللناس نعت لبصائر وهدى ورحمة
عطف على بصائر ولعلهم يتذكرون لعل واسمها وجملة
يتذكرون خبرها. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وكنت كان واسمها
وبجانب خبرها والغربي مضاف إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي فيكون من
حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، واختاره الزجاج ، وقال الكلبي بجانب الوادي
الغربي أي حيث ناجى موسى ربه ، وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به
الجار والمجرور وجملة قضينا مجرورة بإضافة الظرف إليها والأمر مفعول به والواو حرف
عطف وما نافية وكنت كان واسمها ومن الشاهدين خبرها والأمر المقضي هو الوحي الذي
أوحي إليه.
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا
قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أنشأنا خبرها ونا فاعل
وقرونا مفعول به فتطاول عطف على أنشأنا وعليهم متعلقان بتطاول والعمر فاعل. (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ
مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وثاويا خبرها
وفي أهل مدين متعلقان بثاويا وجملة تتلو في موضع نصب خبر ثان لكنت أو حال من
الضمير في ثاويا ، ولكنا الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة كنا خبرها وكان
واسمها وجملة مرسلين خبرها.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبر كنت
والطور مضاف اليه والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو بجانب والخطاب
في الآيتين لمحمد صلى الله عليه وسلم أي وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه الى
موسى عليه السلام ولا كنت من الشاهدين الوحي ولا كنت بجانب الطور حين ناديناه
ليأخذ التوراة ، وجملة
نادينا في محل جر بإضافة الظرف إليها ، ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك
مهمل لأنه خفف ورحمة مفعول لأجله أي أرسلناك وعلمناك هذا كله رحمة ومن ربك صفة
لرحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لتنذر اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة
جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك المحذوفة وإنما جر
المفعول لأجله باللام لاختلاف الفاعل وقوما مفعول به ومن حرف جر زائد ونذير مجرور
لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن قبلك صفة لنذير ولعل واسمها وجملة يتذكرون
خبرها.
البلاغة :
١ ـ جناس
التحريف :
في قوله : «ولكنا
كنا مرسلين» جناس التحريف الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما وقد
مرت له نظائر وستمر نظائر كثيرة ومثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري :
والحسن يظهر
في شيئين رونقه
|
|
بيت من الشعر
أو بيت من الشعر
|
وله أيضا :
لغيري زكاة
من جمال فإن تكن
|
|
زكاة جمال
فاذكري ابن سبيل
|
فالتجنيس في
الأول بين «الشعر» و «الشعر» وفي الثاني بين «جمال» و «جمال» وما ألطف قول بهاء
الدين زهير :
زها ورد خديك
لكنه
|
|
بغير النواظر
لم يقطف
|
وقد زعموا
أنه مضعف
|
|
وما علموا
أنه مضعفي
|
٢ ـ الاشارة :
وقد تقدم بحث
هذا الفن أكثر من مرة وتتناوله الآن بصورة مسهبة كما نتناول الرمز الذي شاع في
العصر الحديث ليكون كتابنا جامعا لأفانين الأدب ، أما الإشارة في الآية فهي : ما
أشارت اليه كلمة «الأمر» من قوله «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا الى موسى الأمر»
فقد أشارت الى ابتداء نبوة موسى وخطاب الحق له وإعطائه الآيات البينات من إلقاء
العصا لتصير ثعبانا وإخراج يده بيضاء وإرساله إلى فرعون ، وسؤاله شدّ عضده بأخيه
هارون ، الى جميع ما جرى في ذلك المقام ، وأمثال هذه المواضيع إذا تقصاها الباحث
خرجت عن حد الحصر في الكتاب العزيز.
الاشارة في
الشعر :
وقد قدمنا
نماذج شعرية من هذا الفن ، ويرى قدامة أن أفضل بيت في الإشارة قول زهير :
وإني لو
لقيتك فاجتمعنا
|
|
لكان لكل
مندية لقاء
|
فقد أشار له
بقبح ما كان يصنع لو لقيه. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه عن حماد عن أبيه
اسحق بن ابراهيم الموصلي :
جعلنا السيف
بين الخدّ منه
|
|
وبين سواد
لمته عذارا
|
فأشار الى هيئة
الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها وانما وصف أنهم
ضربوا عنقه. ومن أنواع الاشارة التفخيم والإيماء فأما التفخيم فكقول الله تعالى «الحاقة
ما الحاقة» وقول كعب بن سعد الغنوي :
أخي ما أخي
لا فاحش عند بيته
|
|
ولا ورع عند
اللقاء هيوب
|
وأما الإيماء
فكقوله تعالى «فغشيهم من اليم ما غشيهم» فأومأ الى ما غشيهم وترك التفسير وتقدم
ذكره بعنوان الإبهام ، وقال كثير صاحب عزة :
تجافيت عني
حين لا لي حيلة
|
|
وخلفت ما
خلفت بين الجوانح
|
فقوله «خلفت ما
خلفت» إيماء مليح.
ومن أنواع
الاشارة الرمز كقول أحدهم يصف امرأة قتل زوجها وسبيت :
عقلت لها من
زوجها عدد الحصى
|
|
مع الصبح أو
مع جنح كل أصيل
|
يريد أني لم
أعطها عقلا ولا قودا بزوجها إلا الهم الذي يدعوها الى عدّ الحصى ، وأصل العقل أخذ
الدية ، وعدد الحصى مفعول عقلت وأصله من قول امرئ القيس :
ظللت ردائي
فوق رأسي قاعدا
|
|
أعد الحصى ما
تنقضي عبراتي
|
يريد أنه لما
غشي ديار الحي فلم يجد أحدا وضع رداءه فوق رأسه وجلس مفكرا يعد الحصى ودموعه لا
ترقأ ، ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كئوسا ممزوجة فيها صور منقوشة وقد تقدم
ذكر هذه الأبيات ومنها هنا :
قرارتها كسرى
وفي جنباتها
|
|
مها تدّريها
بالقسيّ الفوارس
|
فللخمر ما زرّت
عليه جيوبها
|
|
وللماء ما
دارت عليه القلانس
|
يقول : ان حدّ
الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكئوس الى التراقي والنحور وزيد الماء فيها
مزاجا فانتهى الشراب الى فوق رءوسها ، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب الى ذلك الموضع
لما مزجت فأزبدت ، والأول أملح ، وفائدته معرفة حدها صرفا من معرفة حدها ممزوجة
وهذا عندهم مما سبق اليه أبو نواس.
الرمزية في الشعر الحديث :
كان نشوء
الرمزية رد فعلّ ضد الواقعية التي أسرفت في التأثر بالعلم والبعد عن الخيال الشعري
وكما استطاعت الواقعية أن تزحزح الرومانتيكية عن مكانتها كان نشوء الرمزية إيذانا
بتراجع الواقعية لتحل محلها تلك الحركة الجديدة التي احتلت الربع الأخير من القرن
التاسع عشر.
والشعر عند
أصحاب هذا المذهب ـ كما يقول بعضهم ـ «نشوة وحلم يحملان الإنسان الى حيز اللاوعي
حيث يلمح هناك من الحقائق ما لا يستطيع رؤياها عن طريق العقل والمنطق في العالم
الواعي وهو لا يجد في العالم الباطني صورا تامة الوضوح يستطيع التعبير عنها تعبيرا
صريحا ولكنه يعبر عنها بالرمز حتى يستطيع أن يوحي للقارىء بنفس الاحساس وينقله الى
نفس الحالة».
ومن هنا جاء
الغموض في الرمزية ، ثم أمعنوا في الإبهام وغلفوا الشعر بغلاف من الضباب ، فأسقطوا
حروف التشبيه واعتمدوا على الكلمة في ايحائهم يقدمونها ويؤخرونها عن موضعها عن قصد
حتى تزيد من اشعاعاتها الموحية ، وكذلك طابقوا بين الحروف والألوان وبين الألوان
والمعاني فاللون الأحمر يرمز للحياة الصاخبة والدم وشهوة الحبّ والأعاصير. والأخضر
يمثل الكون والطبيعة والبحر ، والأزرق يمثل الانطلاق الى ما وراء المادة الكونية
حيث عالم الملائكة والموسيقى التي تبلغ الأعماق. واللون البنفسجي لون الرؤى
الصوفية ، والأصفر للحزن والتحفز نحو عالم أفضل ، والأبيض يشف عن الهدوء والسكينة
والطهر. ويعبر بودلير الشاعر الفرنسي الرمزي عن العلاقة بين الألوان والعطور
والأصوات في قصيدته التي يتناول فيها وحدة الطبيعة فيقول :
الطبيعة معبد ذو أعمدة حية تنبعث منه أحيانا كلمات غامضة فيمر الإنسان من
خلال غابات الرموز تحدق فيه بنظرات ألفته.
وتتمازج
الأصداء الطويلة البعيدة الغموض في وحدة مظلمة عميقة رحبة كالليل وكالضياء وتتجاوب
العطور والألوان والأصوات وحسبنا ما أوردناه ، ومن أراد المزيد فليرجع الى ما كتب
في هذا الصدد وهو كثير.
٣ ـ الاحتراس :
وفي هذه الآية
نفسها فن الاحتراس وقد تقدم ذكره كثيرا ، ولعل الاحتراس الذي وقع في هذه الآية
أعجب احتراس وقع في القرآن فالخطاب كما قلنا موجه الى الرسول صلى الله عليه وسلم ،
ولما نفى تبارك وتعالى عن رسوله الكريم كونه بالمكان الذي قضى لكليمه موسى الأمر
عرّف المكان بالجانب الغربي ولم يصفه باليمين كما قال في الإخبار عن موسى عليه
السلام : «وناديناه من جانب الطور الأيمن» أدبا منه سبحانه مع نبيه أن ينفي عنه
كونه في الجانب الأيمن ووصف سبحانه الجانب هاهنا باليمين إذ أخبر أنه نادى منه
كليمه موسى تشريفا له.
هذا ولا بد من
الإلماع الى أن قوله «بجانب الغربي» أصله أن يكون صفة أي بالجانب الغربي ولكن حول
عن ذلك وجعله صفة لمحذوف ضرورة امتناع إضافة الموصوف الى الصفة إذ كانت هي الموصوف
في المعنى وإضافة الشيء الى نفسه خطأ والتقدير جانب المكان الغربي.
(وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما
أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا
سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ
مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠))
الاعراب :
(وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها
مبتدأ خبره محذوف
كما هي القاعدة المشهورة أي ولو لا إصابتهم المصيبة لهم وجوابها محذوف
تقديره لما أرسلنا رسولا ومصيبة فاعل وبما متعلقان بتصيبهم وجملة قدمت صلة. (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة ويقولوا عطف على أن تصيبهم وربنا منادى
مضاف ولو لا تحضيضية بمعنى هلا وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا
مفعول به ، فنتبع الفاء فاء السببية ونتبع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء
السببية وفاعل نتبع مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به ونكون عطف على نتبع واسم
نكون ضمير مستتر تقديره نحن ومن المؤمنين خبره.
هذا وقد شغلت
هذه الآية المفسرين والمعربين قال الزمخشري : «فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد
جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت :
القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول
وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها
لولا ، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويئول معناه الى
قولك ولو لا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة
لنكتة وهم أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما الجئوا به الى العلم
اليقين لم يقولوا : «لولا أرسلت إلينا رسولا» وانما السبب في قولهم هذا هو العقاب
لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الايمان بخالقهم ، وفي هذا من الشهادة القوية
على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى».
والسر في جعل
سبب السبب سبا وعطف السبب الأصلي عليه أمران : أحدهما أن مزيد العناية يوجب
التقديم وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه والثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية
كل واحد منهما ، أما الاول فلاقترانه بحرف التعليل وهو أن وأما الثاني فلاقترانه
بفاء السبب ، وكان بعض النحاة يورد إشكالا بهذه الآية فيقول «لولا» عند أهل الفن
تدل على امتناع جوابها لوجو ما بعدها وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا
وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل وجوابها المحذوف غير واقع وهو
عدم الإرسال لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة
فيشكل الواقع بعدها إذ لا ظلم قبل بعثة الرسل فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة
وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع فإن لم يكن شرع فلا مخالفة ولا
عقوبة ، ويشكل الجواب على النحاة لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل
لكن الواقع بعدها يقتضي وقوعه والتحرير في معنى لولا أنها تدل على أن ما بعدها
مانع من جوابها عكس «لو» فإن معناها لزوم جوابها لما بعدها ثم المانع قد يكون
موجودا وقد يكون مفروضا والآية من قبيل فرض وجود المانع وكذلك اللزوم في «لو» قد
يكون الشيء الواحد لازما لشيئين فلا يلزم نفيه من نفي أحد ملزوميه وعلى هذا
التحرير يزول الاشكال.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاءهم الحق فعل ماض
ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن عندنا متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها لأنها
جواب لما ولولا حرف تحضيض أي هلا وأوتي
فعل ماض ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي محمد صلى الله عليه وسلم ومثل
مفعول به ثان وما اسم موصول مضاف لمثل وجملة أوتي صلة وموسى نائب فاعل. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى
مِنْ قَبْلُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري والواو عاطفة على
مقدر يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفروا فعل مضارع مجزوم بلم وبما
متعلقان بيكفروا وجملة أوتي موسى صلة ومن قبل متعلقان بأ ولم يكفروا أو بأوتي
فيكون المعنى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد وبالقرآن فقد
كفروا بموسى وبالتوراة.
(قالُوا سِحْرانِ
تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فجملة قالوا مفسرة وسحران خبر لمبتدأ محذوف أي هما
ساحران وجملة تظاهرا نعت لسحران أي تعاونا بتصديق أحدهما الآخر وقالوا عطف على
قالوا وإنا ان واسمها وبكل متعلقان بكافرون وكافرون خبر انا والجملة مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ
اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء الفصيحة
وأتوا فعل أمر وبكتاب متعلقان بفأتوا ومن عند الله متعلقان بمحذوف صفة وهو مبتدأ
وأهدى خبر ومنهما متعلقان بأهدى والجملة صفة ثانية لكتاب وأتبعه فعل مضارع مجزوم
لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل
ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل
عليه ما قبله أي فأتوا والأمر هنا للتعجيز المشوب بالتوبيخ والتقريع. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا
فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولك متعلقان بيستجيبوا والفاء رابطة لجواب الشرط
واعلم فعل أمر وأنما كافة
ومكفوفة لإفادة الحصر ويتبعون فعل مضارع مرفوع وفاعل وأهواءهم مفعول وإنما
وما في حيزها سدت مسد مفعولي أعلم.
(وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار في
محل رفع مبتدأ وأضل خبره وممن متعلقان بأضل وجملة اتبع هواه صلة من وبغير هدى حال
ومن الله صفة لهدى وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة لا يهدي القوم
الظالمين خبرها.
الفوائد :
نظرا لانغلاق
التراكيب الواردة في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى «ولولا أن تصيبهم مصيبة بما
قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين».
وسمو إعجازه نورد بالإضافة الى ما قدمناه في الاعراب ما قاله الشهاب الخفاجي في
حاشيته الممتعة على البيضاوي ففيه إيضاح لما أوضحناه ، قال ما ملخصه : ان الآية
تقتضي وجود إصابتهم ووجود قولهم المذكور ، والواقع انهم لم يصابوا ولم يقولوا
القول المذكور فحينئذ يشكل هذا الترتيب من حيث أن لولا حرف امتناع لوجود فيصير
المعنى أرسلناك إليهم لنزول المصيبة بهم ووجود قولهم المذكور وهذا غير صحيح ،
وتكلف بعضهم الجواب بأن في الكلام حذف المضاف والتقدير ولولا كراهة أن تصيبهم إلخ
، فالمحقق في الموجود انما هو كراهة مصيبتهم المترتب عليها قولهم المذكور فيكون
المعنى أرسلناك إليهم لأجل كراهة أن يصابوا فيقولوا ما ذكر وقيل إن التحقيق أن
لو لا إنما تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها والمانع قد يكون موجودا وقد
يكون مفروضا وما هنا من الثاني فلا إشكال فيه وان لم يقدر المضاف اه.
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ
قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦))
الاعراب :
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية ولك أن تجعلها عاطفة ليتساوق الكلام
واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووصّلنا فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير
متصل في محل رفع فاعل ولهم متعلقان بوصلنا والقول مفعول به أي اتبعنا بعضه بعضا في
الانزال ليتصل التذكير ، ولعل واسمها وجملة
يتذكرون خبر لعلّ أي جعلناه متنوعا يشتمل على الوعد والوعيد والنصائح
والمواعظ والقصص لعلهم يتعظون به. (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) الذين اسم موصول مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وآتيناهم فعل
وفاعل ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن قبله حال وهم مبتدأ ثان وبه جار
ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة يؤمنون خبر «هم» وجملة هم به يؤمنون خبر الذين وهم
أهل الكتاب الذين آمنوا وكان عددهم أربعين رجلا وقيل ثمانين. (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا
آمَنَّا بِهِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
يتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان
بيتلى ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على القرآن وجملة قالوا لا محل لها لأنها
جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبه متعلقان بآمنا. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا
كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان وتعليل ما استدعى إيمانهم به
وان واسمها والحق خبر إن ومن ربنا حال وإنا كنا إلخ كلام مستأنف أيضا مسوق لبيان
أن إيمانهم ليس بدعا ولا مستحدثا وانما هو أمر متقادم العهد وإن واسمها وجملة كنا
خبرها ومن قبله حال ومسلمين خبر كنا لأن الإسلام صفة كل مؤمن مصدق للوحي.
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أولئك مبتدأ وجملة يؤتون خبر ويؤتون فعل مضارع مبني
للمجهول والواو نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان ومرتين نصب على المصدرية أو الظرفية
وبما صبروا متعلقان بيؤتون والباء حرف جر للسببية وما مصدرية اي بسبب صبرهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
ويدرءون عطف على يؤتون أي يدفعون والواو فاعل وبالحسنة متعلقان بيدرءون
والسيئة مفعول به ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة وينفقون عطف على يدرءون.
(وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
سمعوا مجرورة باضافة الظرف إليها واللغو مفعول به وجملة أعرضوا لا محل لها وعنه
متعلقان بأعرضوا ، وقالوا عطف على أعرضوا ولنا خبر مقدم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم
أعمالكم عطف على ما تقدم. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) سلام مبتدأ وساغ الابتداء به لأن فيه معنى الدعاء
وعليكم خبر والسلام هنا سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية ومواصلة وجملة لا نبتغي
الجاهلين حالية ولا نافية ونبتغي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن والجاهلين
مفعول به. (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حرصه على إيمان عمه أبي طالب
وان واسمها وجملة لا تهدي خبرها والفاعل مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة
أحببت صلة ولكن الله الواو عاطفة أو حالية ولكن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن يشاء
مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم.
الفوائد :
قال الزجاج :
أجمع المسلمون على أن هذه الآية : «انك لا تهدي إلخ» نزلت في أبي طالب لما احتضرته
الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة
أحاج بها لك عند الله ، فقال : يا ابن أخي قد علمت انك لصادق ولكن أكره
أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون غليك وعلى بني أبيك غضاضة لقلتها
ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك وأنشد :
لو لا
الملامة أو حذار مسبة
|
|
لوجدتني سمحا
بذاك مبينا
|
ولقد علمت
بأن دين محمد
|
|
من خير أديان
البرية دينا
|
ولكني سوف أموت
على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف. وهناك روايات أخرى مختلفة لا تخرج عن
هذه الفحوى.
(وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ
حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ
قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٦٠))
الاعراب :
(وَقالُوا : إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على ما تقدم فهي بمثابة
تفريع على قصة أبي طالب ، قالوا : إن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك
وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا. وإن شرطية ونتبع فعل الشرط مجزوم وفاعله
مستتر تقديره نحن والهدى مفعول به ومعك ظرف متعلق بمحذوف حال ونتخطف جواب الشرط
وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ومن أرضنا متعلقان
بنتخطف. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ
لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف
يقتضيه السياق وبه يرد عليهم دعواهم التي لا أساس لها من الصحة بأنه مكن لهم في
الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته وسيأتي المزيد من هذا المعنى في
باب البلاغة. ولم حرف نفي وقلب وجزم ونمكن فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره
نحن ولهم متعلقان بنمكن وحرما مفعول به وآمنا صفة وجملة يجبى صفة ثانية لحرما
ومعنى يجبى اليه يساق ويحمل اليه ويجمع لازدهاره وإليه متعلقان بيجبى وثمرات كل
شيء نائب فاعل ورزقا مفعول مطلق لقوله يجبى لأن معنى الجباية والرزق واحد والمراد
تساق اليه الميرة وأعربه آخرون مفعولا لأجله وأجازه الزمخشري وفي النفس منه شيء
ويجوز أن يكون رزقا مصدرا بمعنى المفعول فينتصب على الحال من الثمرات لتخصصها
بالإضافة ومن لدنا صفة لرزقا والواو حالية أو عاطفة ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة
لا يعلمون خبرها.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) يجوز أن يكون كلاما مستأنفا مسوقا لتخويف أهله من سوء
مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر ، والبطر بفتحتين النشاط والأشر
وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق
الكراهة ، قال في القاموس : «وفعل الكل كفرح وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله»
ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ليتساوق الكلام. وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا
ومن قرية تمييز كم الخبرية المجرور بمن وقد تقدم تقرير ذلك فجدد به عهدا وجملة
بطرت صفة لقرية ومعيشتها منصوب بنزع الخافض على حد قوله :
«واختار موسى
قومه سبعين رجلا» أي في معيشتها وهذا أقرب ما قيل فيه وأقله تكلفا وقال الزجاج هو
نصب على الظرفية الزمانية أي أيام معيشتها ويجوز تضمين بطرت معنى خسرت فتكون
معيشتها مفعولا به واقتصر عليه أبو البقاء. (فَتِلْكَ
مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ
الْوارِثِينَ) فتلك الفاء عاطفة وتلك مبتدأ ومساكنهم خبر وجملة لم
تسكن يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الاشارة وإلا
أداة حصر وقليلا ظرف أي إلا وقتا قليلا فالاستثناء من الظرف أو مفعول مطلق أي إلا
سكنى قليلا فالاستثناء من المصدر ولا مرجح لأحد الوجهين ، والواو عاطفة أو حالية
وكنا كان واسمها ونحن ضمير فصل أو عماد والوارثين خبر كنا وسيأتي مزيد من هذا
المعنى في باب البلاغة.
(وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا) كلام مستأنف مسوق لبيان عادة الله تعالى في عباده ، وما
نافية وكان ربك كان واسمها ومهلك القرى خبرها وحتى حرف
تعليل وجر ويبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والفاعل مستتر
يعود على الله وفي أمها متعلقان بيبعث ورسولا مفعول به وجملة يتلو صفة لرسولا
وعليهم متعلقان بيتلو وآياتنا مفعول به والمراد بأمها أعظمها والتعميم هنا خير من
تخصيصها بمكة. (وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها ومهلكي القرى خبرها
وإلا أداة حصر والواو حالية وأهلها مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية فالاستثناء من
أعم الأحوال أي وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) الواو عاطفة أو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل رفع
مبتدأ وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل
ومن شيء حال مبينة لمن والفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف والحياة مضاف
اليه والدنيا صفة وزينتها عطف على متاع والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل
والجواب خبر ما. (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق
بمحذوف صلة للموصول وخير خبر وأبقى عطف على خير والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء
عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية وتعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعل.
البلاغة :
الإسناد
المجازي :
في قوله «حرما
آمنا» إسناد مجازي لأن المراد أهل الحرم وقد تقدم بحثه كثيرا ومثله «وكم أهلكنا من
قرية» المراد أهلها بدليل
قوله فيما بعد «فتلك مساكنهم لم تسكن إلا قليلا» أي لقد زهوا بها حينا من
الدهر وغرتهم الأماني ، وأبطرتهم النعمة ، وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في
حلل السعادة ، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص ، أطلالا باهتة
، ورسوما محيلة ، تهزأ بهم ، وتدل الآخرين على أفن رأيهم وطيش أحلامهم. وقد رمق
المتنبي سماء هذه البلاغة العالية في قصيدته الخالدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكا
فقال بيته المشهور :
تتخلف الآثار
عن أصحابها
|
|
حينا ويدركها
الفناء فتتبع
|
يريد أن الآثار
، وهي البنيان ، تبقى بعد أربابها لتدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم ثم ينالها بعدهم
ما نالهم من الفناء وأن الخراب سيدركها فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها فهذه هي
عادة الدنيا بأهلها ، وهذا هو المعهود من تصاريفها ، ويحسن بنا أن نورد لك نخبة
مختارة من هذه القصيدة جريا على شرطنا في هذا الكتاب :
الحزن يقلق
والتجمل يردع
|
|
والدمع
بينهما عصيّ طيّع
|
يتنازعان
دموع عيد مسهّد
|
|
هذا يجيء بها
وهذا يرجع
|
النوم بعد
أبي شجاع نافر
|
|
والليل معي
والكواكب ظلّع
|
قال ابن جني «لو
كان الليل والكواكب مما يؤثر فيهما حزن لأثر فيهما موته» وقال الخطيب : «إنما أراد
أن الليل طويل لفقده فالليل معي والكواكب ظلع ما تسير» وقال الواحدي «النوم بعده
لا يألف العين
فلا تنام حزنا عليه والليل من طوله كأنه قد أعيا عن المشي فانقطع والكواكب
كأنها ظالعة لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب ، كل هذا يصف به ليله بعده من الحزن عليه»
وقال الواحدي : وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال
سنة ٣٥٠ ه.
ومضى أبو الطيب
يقول :
إني لأجبن عن
فراق أحبتي
|
|
وتحس نفسي
بالحمام فأشجع
|
ويزيدني غضب
الأعادي قسوة
|
|
ويلم بي عتب
الصديق فأجزع
|
تصفو الحياة
لجاهل أو غافل
|
|
عما مضى منها
وما يتوقّع
|
ولمن يغالط
في الحقائق نفسه
|
|
ويسومها طلب
المحال فتطمع
|
أين الذي
الهرمان من بنيانه
|
|
ما قومه؟ ما
يومه؟ ما المصرع؟
|
تتخلف الآثار
البيت
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ
كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤))
الاعراب :
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة لترتيب إنكار
التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين الجانبين
ومن اسم موصول مبتدأ وجملة وعدناه صلة وكمن خبرها ووعدناه فعل وفاعل ومفعول به
ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة والفاء عاطفة وهو مبتدأ ولاقيه خبر والكاف اسم بمعنى
مثل خبر أو جار ومجرور في موضع الخبر وجملة متعناه صلة من ومتاع الحياة الدنيا
مفعول مطلق وثم حرف عطف وهو مبتدأ ويوم القيامة ظرف متعلق بالمحضرين ومن المحضرين
خبر هو وللزمخشري كلام مفيد في تحليل هذه الآية من الناحية الاعرابية نورده فيما
يلي :
«فإن قلت فسر لي الفاءين وثم وأخبرني عن مواقعها قلت : قد ذكر في الآية
التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ثم عقبه بقوله : أفمن
وعدناه على معنى أبعد ، هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا
فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها وأما الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود
مسبّب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير وأما ثم فلتراخي حال الإحضار عن حال
التمتيع لا لتراخي وقته عن وقته».
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر والكلام مستأنف
وجملة يناديهم مجرورة بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله
والهاء مفعول به ، والقصد من هذا النداء التوبيخ والتقريع ، فيقول عطف على يناديهم
وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم
وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة الذين وكان واسمها وجملة
تزعمون خبرها ومفعولا تزعمون محذوفان تقديرهما تزعمونهم شركائي ، وسيأتي في باب
الفوائد ذكر حذف مفعولي ظننت وأخواتها ، وجملة أين شركائي مقول القول.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا
صدر عنهم حينئذ. وقال الذين فعل وفاعل وجملة حق عليهم صلة والقول فاعل وربنا منادى
مضاف محذوف منه حرف النداء
وهؤلا مبتدأ والذين صفة لهؤلاء وجملة أغوينا صلة وجملة أغويناهم خبر هؤلاء
وكما أغوينا نعت لمصدر محذوف أي أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا وقد جربنا في هذا
الاعراب على ما أعربه الزمخشري وأبو حيان.
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ
ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الجملة مفسرة مقررة لما قبلها وتبرأنا فعل ماض وفاعل
وإليك متعلقان بتبرأنا وما نافية وكان واسمها وإيانا مفعول مقدم ليعبدون وجملة
يعبدون خبر كانوا ، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية والمصدر منصوب بنزع الخافض
أي مما كانوا يعبدون أي من عبادتهم إيانا ولا أرى داعيا لهذا التكلف لأن المعنى ما
كانوا يعبدوننا وانما كانوا يعبدون أهواءهم ويسترسلون مع شهواتهم. (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل
مستتر تقديره هذا القول تهكما بهم وتبكيتا لهم وادعوا فعل أمر وفاعله وشركاءكم
مفعول به فدعوهم الفاء عاطفة ودعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ، والفاء عاطفة
ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا.
(وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به ولو
شرطية وان وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا
العذاب في الآخرة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يهتدون خبرها.
الفوائد :
يجوز بإجماع
النحاة حذف مفعولي ظننت وأخواتها من أفعال القلوب اختصارا لدليل يدل عليهما نحو «أين
شركائي الذين كنتم تزعمون» وقول الكميت يمدح آل البيت :
بأي كتاب أم
بأية سنة
|
|
ترى حبهم
عارا عليّ وتحسب
|
فحذف في الآية
مفعولا تزعمون وفي البيت مفعولا تحسب لدليل ما قبلهما عليهما أي تزعمونهم شركاء
وتحسب حبهم عارا علي ، وأما حذف أحدهما اختصارا لدليل فقد أجازه الجمهور كقوله
تعالى «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم» تقديره ولا
يحسبن الذين يبخلون ما يبخلون به هو خيرا لهم فحذف المفعول الأول للدلالة عليه ،
وكقول عنترة :
ولقد نزلت
فلا تظني غيره
|
|
مني بمنزلة
المحب المكرم
|
تقديره فلا
تظني غيره مني واقعا ، فحذف المفعول الثاني ، والتاء في نزلت مكسورة والحاء والراء
من المحب المكرم مفتوحتان.
وفي الباب
الخامس من المغني بيان انه قد يظن الشيء من باب الحذف وليس منه : جرت عادة
النحويين أن يقولوا : يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف
لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه ينحو «كلوا واشربوا» أي أوقعوا هذين
الفعلين ، وقول العرب فيما يتعدى الى اثنين : من يسمع يخل ، أي تكن منه
خيلة. والتحقيق أن يقال إنه تارة يتعلق الغرض بالاعلام بمجرد وقوع الفعل من
غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندا الى فعل كون عام ، فيقال
حصل حريق أو نهب. وتارة يتعلق بالاعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما
ولا يذكر المفعول ولا ينوى إذ المنويّ كالثابت ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل
لهذا القصد بمنزلة ما لا مفعول له ، ومنه : «ربي الذي يحيي ويميت ، هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون ، كلوا واشربوا ولا تسرفوا ، وإذا رأيت ثم» إذ المعنى ربي
الذي يفعل الإحياء والإماتة ، وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم ،
وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف ، وإذا حصلت منك رؤية هنالك ، ومنه على الأصح
: «ولما ورد ماء مدين» الآية ، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام إنما رحمهما إذ
كانتا على صفة الذياد وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنما ومسقيهم إبلا ،
وكذلك المقصود من قولهما «لا نسقي» لا المسقي ، ومن لم يتأمل قدّر : يسقون إبلهم
وتذودان غنمهما ولا نسقي غنمنا. وتارة يقصد إسناد الفعل الى فاعله وتعليقه بمفعوله
فيذكران نحو «لا تأكلوا الربا ، ولا تقربوا الزنا» وقولك ما أحسن زيدا ، وهذا
النوع إذا لم يذكر مفعوله قيل محذوف نحو «ما ودعك ربك وما قلى» وقد يكون في اللفظ
ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره نحو : «أهذا الذي بعث الله رسولا ، وكل وعد
الله الحسنى» و:
حميت حمى
تهامة بعد نجد
|
|
وما شيء حميت
بمستباح
|
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما
يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى
وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))
الاعراب :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ : ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) كلام معطوف على ما قبله فقد سئلوا أولا عن إشراكهم
وسئلوا ثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك ، فيقول عطف على يناديهم وماذا
اسم استفهام بكاملها في محل نصب لمفعول مطلق لا مفعول به لأن أجاب لا يتعدى الى
الثاني بنفسه بل بالباء ، وإسقاط الجار ليس بقياس والمعنى أجبتموهم أي إجابة ،
والمرسلين مفعول به لأجبتم. (فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة وعميت عليهم الأنباء فعل وفاعل وسيأتي بحث
إسناد العمى للأنباء في باب البلاغة ، ويومئذ ظرف أضيف الى مثله والتنوين في يومئذ
عوض عن جملة ، أي : يوم ، إذ نودوا وقيل لهم ماذا أجبتم المرسلين ، فهم الفاء
عاطفة
وهم مبتدأ وجملة لا يتساءلون خبر. (فَأَمَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين بعد بيان حال
الكافرين وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة تاب صلة وعمل صالحا فعل
وفاعل مستتر ومفعول به أو مفعول مطلق أي عمل عملا صالحا والفاء رابطة وعسى فعل ماض
جامد من أفعال الرجاء التي تعمل عمل كان واسمها مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها
خبرها والرجاء من الكرام بمثابة التحقيق أو يكون الرجاء على بابه ولكنه من قبل
التائب ومن المفلحين خبر يكون. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) الواو استئنافية وربك مبتدأ وجملة يخلق خبر وما مفعول
به ويشاء صلة ويختار عطف على يخلق وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدم
والخيرة اسمها المؤخر والجملة مفسرة لأنها مقررة لما قبلها ، ويجوز أن تكون
مستأنفة ، وقيل إن ما مصدرية أي يختار اختيارهم والمصدر واقع موقع المفعول أي
مختارهم ، وقيل ان ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي ما كان لهم الخيرة فيه ،
وقيل أيضا ان كان تامة ، وجملة لهم الخيرة كلام مستأنف وسبحان الله مفعول مطلق
لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة.
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وربك مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به
وتكن صلة وصدورهم فاعل وما عطف على ما الأولى وجملة يعلنون صلة. (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهو
مبتدأ والله خبر وجملة لا إله إلا هو خبر ثان وقد تقدم اعراب كلمة التوحيد
والاختلاف فيها وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثالث وفي الأولى حال
والآخرة عطف على الأولى واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول
مرفوع والواو نائب فاعل.
البلاغة :
١ ـ إسناد
العمى الى الأنباء مجاز عقلي وقد تقدم كثيرا والمراد أن الأنباء صارت كالعمى لا
تهتدي إليهم وقيل انه من باب القلب وان أصله فعموا عن الأنباء والقلب ، كما تقدم ،
من محسنات الكلام.
٢ ـ الادماج :
في قوله «له
الحمد في الأولى والآخرة» الادماج ، وحدّه أن يدمج المتكلم إما غرضا في غرض أو
بديعا في بديع بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين والآخر
مدمج في الغرض الذي هو موجود في الكلام ، فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في
المطابقة لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخرة وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه
مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد وهذه وإن خرج الكلام فيهما مخرج المبالغة في
الظاهر فالأمر فيها حقيقة في الباطن لأنه أولى بالحمد في الدارين ورب الحمد والشكر
والثناء الحسن في المحلين حقيقة ، وغيره من جميع خلقه إنما يحمد في الدنيا مجازا ،
وحقيقة حمده راجعة الى ولي الحمد سبحانه.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ
(٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤)
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا
أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))
اللغة :
(سَرْمَداً) : السرمد : الدائم المتصل وقد اختلف العلماء في اشتقاقه
فقيل هو من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة ووزنه فعمل كما في دلامص من الدلاص
يقال درع دلاص أي ملساء متينة وهذا ما رجحه الزمخشري وغيره واختار صاحب القاموس
وبعض النحاة أن الميم أصلية ووزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط
والآخر.
الاعراب :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستفهام ورأيتم فعل وفاعل أي أخبروني وإن
شرطية وجعل
الله عليكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والله فاعل وعليكم حال والليل
مفعول جعل الأول وسرمدا مفعوله الثاني والى يوم القيامة صفة لسرمدا وقد علقت
أرأيتم عن العمل بسبب الاستفهام وجواب الشرط محذوف يقدر بما يقتضيه السياق وتقديره
فأخبروني.
(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول أرأيتم ومن اسم
استفهام مبتدأ وإله خبر وغير الله صفة إله وجملة يأتيكم صفة ثانية لإله وبضياء جار
ومجرور متعلقان بيأتيكم ، أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة
على محذوف مقدر ولا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعل.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقدم اعرابها.
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) من رحمته خبر مقدم وجعل لكم مؤول بمصدر بتقدير أن مبتدأ
مؤخر وهو كثير في كلامهم ومنه المثل :تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وجعل فعل ماض
وفاعله مستتر تقديره هو ولكم مفعول جعل الثاني والليل مفعول جعل الأول والنهار عطف
على الليل ، وزواج بينهما لنكتة سيرد تفصيلها في باب البلاغة ، ولتسكنوا اللام
للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وفيه متعلقان
بتسكنوا ولتبتغوا من فضله عطف على لتسكنوا ولعلكم لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقدم اعرابها بلفظها قريبا فجدد به عهدا. (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً
فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام ونزعنا فعل وفاعل أي أخرجنا
ومن كل أمة متعلقان بنزعنا وشهيدا مفعول به ، فقلنا عطف على نزعنا وجملة
هاتوا مقول القول وهاتوا فعل أمر وفاعل وبرهانكم مفعول به. (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الفاء عاطفة وعلموا فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها سدت
مسد مفعولي علموا وأن واسمها ولله خبرها وضل فعل ماض وعنهم متعلقان بضل وما فاعل
وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبرها.
البلاغة :
١ ـ المناسبة :
في قوله «أرأيتم
إن جعل الله عليكم الليل سرمدا» الى قوله «أفلا تبصرون» فن المناسبة وهي ضربان :
مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ فالمعنوية هي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم
يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ ، فإنه سبحانه لما أسند جعل الليل سرمدا الى
يوم القيامة لنفسه وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال «أفلا
تسمعون» لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار لعدم
نفوذ البصر في الظلمة ، ولما أسند جعل النهار سرمدا الى يوم القيامة لنفسه كأن لم
يخلق فيه ليل البتة قال في فاصلة هذه الآية «أفلا تبصرون» لمناسبة ما بين النهار
والإبصار.
أما المناسبة
اللفظية فسيأتي حديثها في هذا الكتاب.
٢ ـ اللف والنشر :
اللف والنشر في
قوله «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون» وقد تقدم بحث هذا الفن وذكرنا انه عبارة عن ذكر متعدد على وجه التفصيل أو
الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل
واحد منها ويرده الى ما هو له ، فقد زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة أولها :
لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل في ثانيهما وهو النهار ، ولإرادة
شكركم وهذا من أطرف ما يتفنن به المتكلم نثرا أو شعرا.
٣ ـ صحة المقابلات :
وفي هذه الآية
أيضا فن عرفوه بأن صحة المقابلات ، وهو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما
ينبغي فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها أو بأغيارها من المخالف
والموافق على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني ولا يخرم من ذلك
شيئا في المخالف والموافق ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة ، وهذه
الآية من معجز هذا الباب ، فقد جاء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان وجاء
السكون والحركة في عجزه وهما ضدان ومقابلة كل طرف منه بالطرف الآخر على الترتيب ،
وعبر سبحانه عن الحركة بلفظ الارداف فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدا على
المقابلة والذي أوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ ابتغاء الفضل كون الحركة تكون
لمصلحة ولمفسدة وابتغاء الفضل حركة للمصلحة دون المفسدة وهي اشتراك الإعانة بالقوة
وحسن الاختيار
الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحسّ ويستلزم إضاءة الطرف الذي تلك الحركة
المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك الى بلوغ المآرب ووجوه المصالح ويتقي أسباب المعاطب
، والآية سيقت للاعتداد بالنعم فوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ هو ردفه وتابعه
ليتم حسن البيان فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي
لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها الى ألفاظ كثيرة فحصل بهذا
الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل
والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال «لتسكنوا» و «لتبتغوا» بلام التعليل فجمعت هذه
الكلمات المقابلة والتعليل والاشارة والإرداف والائتلاف وحسن النسق وحسن البيان
لمجيء الكلام فيها متلاحما آخذة أعناق بعضه بأعناق بعضه ، ثم أخبر بالخبر الصادق
أن جميع ما عدده من النعم التي هي من لفظي الإشارة والإرداف بعض رحمته حيث قال
بحرف التبعيض «ومن رحمته» وكل هذا في بعض آية عدتها إحدى عشرة لفظة ، فالحظ هذه
البلاغة الظاهرة والفصاحة المتظاهرة.
٤ ـ التفسير :
وفي قوله «ومن
رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» فن التفسير وهو
أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن حيوس.
ومقرطق يغني
النديم بوجهه
|
|
عن كأسه
الملأى وعن إبريقه
|
فعل المدام
ولونها ومذاقها
|
|
في مقلتيه
ووجنتيه وريقه
|
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ
لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ
اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ
(٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ
مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا
لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))
اللغة :
(لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ) أي تنوء بها العصبة أن تتكلف النهوض بها وسيأتي مزيد عن
القلب في هذا التعبير في باب البلاغة ، يقال ناء ينوء نوءا وتنواء : نهض بجهد
ومشقة وناء به الحمل أثقله وأماله وناء النجم سقط في المغرب مع الفجر وطلع آخر
يقابله من ساعته في المشرق وفي المصباح : «وناء ينوء نوءا مهموز من باب قال : نهض»
وفي القاموس : ناء بالحمل نهض متثاقلا وناء به الحمل أثقله وأماله كأناءه وناء
فلان أثقل فسقط ضد.
(المفاتح) :
جمع مفتاح وكان حقه أن يجمع على مفاتيح ولكن هذه الياء قد تحذف كما أنهم قد
يجتلبون ياء في الجمع الذي لا ياء فيه وقيل إن مفاتحه جمع مفتح فلا حذف فيه.
الاعراب :
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى) كلام مستأنف مسوق لذكر قصة قارون وما تنطوي عليه من
عظات وعبر ، وإن حرف مشبه بالفعل وقارون اسمها وهو علم أعجمي مثل هارون ولم ينصرف
للعلمية والعجمة ولو كان فاعولا من قرن لانصرف ، وستأتي قصته قريبا ؛ وجملة كان
خبر إن واسم كان مستتر يعود على قارون ومن قوم موسى خبر كان أي ابن عمه أو ابن
خالته وآمن به كما سيأتي. (فَبَغى عَلَيْهِمْ
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي
الْقُوَّةِ) الفاء عاطفة وبغى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على قارون
وعليهم متعلقان بيبغى وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الكنوز
متعلقان بآتيناه وما اسم موصول مفعول به ثان لآتيناه وإن حرف مشبه بالفعل
ومفاتحه اسم إن ولتنوء اللام المزحلقة وتنوء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي
يعود على المفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به والجملة خبر إن وجملة إن مفاتحه
لتنوء بالعصبة لا محل لها لأنها صلة وبالعصبة متعلقان بتنوء وأولي القوة صفة
للعصبة. (إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الظرف متعلق بتنوء وقيل باذكر مضمرا وقال أبو البقاء : «ظرف
لآتيناه ، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام أي بغى إذ قال له قومه»
وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وله متعلقان بقال وقومه فاعل وجملة لا
تفرح مقول القول ولا ناهية وتفرح فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تفرح مستتر تقديره أنت
وجملة إن الله تعليل للنهي وسيأتي سر هذا التعليل في باب البلاغة وان واسمها وجملة
لا يحب الفرحين خبرها.
(وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الواو عاطفة وابتغ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة
وفاعله مستتر تقديره أنت وفي حرف جر وما مصدرية أو موصولية والجار والمجرور
متعلقان بمحذوف حال أي متقلبا فيما آتاك ومعنى «في» هنا السببية وجملة آتاك الله
لا محل لها وآتاك الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والدار مفعول ابتغ
والآخرة صفة للدار ولا تنس لا ناهية وتنس فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره
أنت ونصيبك مفعول به ومن الدنيا متعلقان بمحذوف على أنه حال والنصيب ما يكفيك ويسد
حاجتك ويصلح أمورك ، وسيأتي مزيد
بحث من النصيب والمراد منه في باب البلاغة. (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الواو عاطفة وأحسن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وكما نعت لمصدر محذوف أي إحسانا مثل الإحسان الذي أحسن الله به إليك وإليك متعلقان
بأحسن ولا تبغ الفساد عطف على ما تقدم وفي الأرض متعلقان بالفساد أو بتبغ وجملة إن
الله تعليل للنهي المتقدم وان واسمها وجملة لا يحب المفسدين خبرها. (قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ
عِنْدِي) استئناف مسوق للإجابة عن قولهم إن ما عندك تفضل وإنعام
من الله فأنفق منه شكرا لمن أنعم به عليك ، وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض
مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به ثان وعلى علم في موضع الحال من
نائب الفاعل في أوتيته وعندي ظرف متعلق بمحذوف صفة لعلم أي إنما أوتيته حال كوني
متصفا بالعلم الذي عندي. قالوا : لم يكن في بني إسرائيل أعلم منه بالتوراة بعد
موسى وهارون. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر دخلت
عليه الهمزة ، أي أعلم ما ادعاه أو لم يعلم ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلم فعل
مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على قارون وأن وما في حيزها سدت
مسد مفعولي يعلم وأن واسمها وجملة قد أهلك خبرها وفاعل أهلك ضمير مستتر تقديره هو
يعود على الله ومن قبله متعلقان بأهلك ومن القرون حال من «من هو أشد» مقدمة عليه
ومن اسم موصول مفعول به لأهلك وهو مبتدأ وأشد خبر والجملة صلة الموصول وقوة تمييز
ومنه متعلقان بأشد وأكثر جمعا عطف على أشد منه قوة.
(وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة لتربط الجملة بما قبلها على سبيل التهديد
والوعيد أي ان الله مطلع على ذنوب المجرمين لا يحتاج الى سؤال عنها ، ولا نافية
ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنوبهم متعلقان بيسأل والمجرمون نائب فاعل.
(فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الفاء عاطفة على قال «إنما أوتيته على علم» وما بينهما
اعتراض وعلى قومه متعلقان بخرج وفي زينته متعلقان بمحذوف حال أي متبخترا في زينته
متقلبا في تعاجيبه ، وسيأتي وصف مسهب للزينة التي خرج حاليا بها. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الجملة مستأنفة
مسوقة لبيان
الشعور الذي خالج المؤمنين والكافرين على السواء عند ما رأوا هذا النعيم المتدفق
والرواء العجيب جريا على ديدن البشر من تمني المناعم. وقال الذين فعل وفاعل وجملة
يريدون صلة والحياة مفعول به والدنيا صفة للحياة ويا حرف نداء والمنادى محذوف وليت
حرف تمن ونصب ولنا خبرها ومثل اسمها المؤخر وما اسم موصول مضاف اليه وجملة أوتي
صلة وهو فعل ماضي مبني للمجهول وقارون نائب فاعل وهذا التمني على سبيل الغبطة وهي
أن يتمنى الإنسان مثل نعمة صاحبه من غير أن يتمنى زوالها منه أما الحسد فهي تمني
النعمة التي يتمتع بها المحسود وزوالها عنه ، وفي الحديث :«قيل لرسول الله صلى
الله عليه وسلم : هل يضر الغبط؟ فقال : لا إلا كما يضرّ العضاة الخبط» والعضاة كل
شجر يغطلم فيه شوك والخبط ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. وان واسمها واللام
المزحلقة وذو حظ خبرها وعظيم صفة لحظ. والحظ : البخت والجد يقال رجل مبخوت ومجدود
كما يقال فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ وما الدنيا إلا أحاظ قسّمت وجدود.
(وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ) وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا العلم صلة وويلكم
مفعول لفعل محذوف على سبيل الردع أي ألزمكم الله ويلكم. (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) ثواب الله مبتدأ وخير خبر ولمن متعلقان بخير وجملة آمن
صلة وعمل صالحا عطف على آمن والواو عاطفة ولا نافية ويلقاها فعل مضارع مبني
للمجهول والهاء مفعول به ثان وإلا اداة حصر والصابرون نائب فاعل مؤخر وهو المفعول
الأول والضمير يعود على الإثابة أو الأعمال الصالحة. (فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) الفاء هي الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصيره وما آل اليه
أمره ، وخسفنا فعل وفاعل وبه متعلقان بخسفنا وبداره عطف على به والأرض مفعول به ،
والخسف له معان كثيرة منها خسف المكان يخسف خسوفا من باب ضرب أي ذهب في الأرض وغرق
وخسف القمر ذهب ضوءه وخسفت العين ذهب ضوءها وغابت وخسف في الأرض وخسف به فيها غاب
، وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من لبس
ثوبا جديدا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها» قال في
فتح الباري : «ان مقتضى الحديث أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز ويقال لنا :
كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون» وفي القاموس : التجلجل السوخ في الأرض
والتحرك والتضعضع والجلجلة التحريك. (فَما كانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها
المقدم ومن حرف جر زائد وفئة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه اسم كان وجملة
ينصرونه صفة لفئة أو هي خبر كان وله متعلقان بمحذوف حال ويجوز أن تكون
كان تامة وفئة فاعل كان ومن دون الله حال من فئة وما نافية وكان فعل ماض
ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على قارون ومن المنتصرين خبر كان. (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) الواو عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص والذين اسمها وجملة
تمنوا صلة ومكانه مفعول به وبالأمس متعلقان بتمنوا وجملة يقولون خبر أصبح ويجوز أن
تكون أصبح تامة والذين هو الفاعل وجملة يقولون في محل نصب على أنها حال أي قائلين.
(وَيْكَأَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وي فيه مذاهب نختار منها واحدا وسنورد الباقي في باب
الفوائد ، فهي اسم فعل مضارع معناه أتعجب والكاف حرف جر وان حرف مشبه بالفعل وهي
مع ما في حيزها في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بوي ومعنى الكاف هنا
التعليل لا التشبيه والله اسمها وجملة يبسط الرزق خبر أن والرزق مفعول به ولمن
متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر عطف على يبسط. (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا
لَخَسَفَ بِنا) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في
حيزها مصدر مؤول مرفوع بالابتداء والخبر محذوف وجوبا ومنّ الله فعل وفاعل وعلينا
متعلقان بمنّ واللام واقعة في جواب لولا وجملة خسف بنا لا محل لها لأنها جواب شرط
غير جازم ومفعول خسف محذوف أي الأرض. (وَيْكَأَنَّهُ لا
يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) تقدم اعرابها وسيأتي المزيد منه قريبا وهو تأكيد لما
قبله.
البلاغة :
١ ـ القلب :
في قوله تعالى
: «(وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)
في هذا التعبير فن القلب وقد تقدم القول فيه ، والأصل لتنوء العصبة
بالمفاتح أي لتنهض بها بجهد ، قال أبو عبيد : هو كقولهم عرضت الناقة على الحوض
وأصله عرضت الحوض على الناقة وقول حسان بن ثابت :
كأن سبيئة من
بيت رأس
|
|
يكون مزاجها
عسل وماء
|
على أنيابها
أو طعم غضّ
|
|
من التفاح
هصره اجتناء
|
ويروى كأن
سلافة ، والسلافة أول ما يسيل من ماء العنب أما سبيئة فمعناه مشتراة يقال سبأ
الخمر كنصر إذا اشتراها ويروى أيضا خبيئة أي مصونة في الخابية وبيت رأس قرية
بالشام اشتهرت بجودة الخمر ، وقد وقع بين صاحب القاموس وصاحب الصحاح خلاف بين
سبيئة فقال صاحب القاموس وقد وهم الجوهري وانما سبى الخمر سبيا وسباء حملها من بلد
الى بلد ، ومزاجها خبر يكون مع أنه معرفة وعسل اسمها مع أنه نكرة وكان القياس العكس
فقلب الكلام ، وتأوله الفارسي بأن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية ، وروي برفع
الكلمات الثلاث على أن اسم كان ضمير الشأن وجملة يكون صفة سبيئة وعلى أنيابها في
البيت الثاني خبر كأن المشددة والمزاج ما يمزج به غيره والمراد بالانياب الثغر كله
فهو مجاز ، والغض الطري الرطب وهو صفة لموصوف محذوف أي طعم عضن غض ، والهصر عطف
الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجني ثمره والتهصير مبالغة فيه ويروى جناء بدل
اجتناء وهو الجنى بالقصر ومدّه هنا ضرورة واسناده التهصير الى الاجتناء مجاز عقلي
من باب الاسناد للسبب ، شبّه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصنه
الجاني ليجتنيه إشارة الى انه مجني الآن لم يمض عليه شيء من الزمان وتلويحا
لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرقة واللين والتثني.
هذا وقد قيل
أنه لا قلب في الآية وان الباء للتعدية كالهمزة والأصل لتنوء المفاتح العصبة
الأقوياء أي تثقلهم ، وهو رأي صاحب العمدة أيضا.
٢ ـ المبالغة :
وذلك في وصف
كنوز قارون حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة قيل
كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح وهذه المبالغة في القرآن من
أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق ، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد
ما يتعلق بما يملكه ، استمع الى عمرو بن الأيهم التغلبي كيف أراد أن يصف قومه
بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال :
ونكرم جارنا
ما دام فينا
|
|
ونتبعه
الكرامة حبث كانا
|
٣ ـ بلاغة التعليل :
وفي قوله «إذ
قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» حسن تعليل جميل بجمله «إن الله لا
يحب الفرحين» لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق ، وأي
فرح بشيء زائل وظل حائل. وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله البديع :
كأن الحزن
مشغوف بقلبي
|
|
فساعة هجرها
يجد الوصالا
|
كذا الدنيا
على من كان قبلي
|
|
صروف لم يد
من عليه حالا
|
أشد الغم
عندي في سرور
|
|
تيقّن عنه
صاحبه انتقالا
|
ألست تراه كيف
جعل الحزن عالقا بفؤاده حتى كأنه يعشقه ولكنه لا يواصلني إلا حين تهجرني فإذا
هجرتني واصل الحزن قلبي؟ ثم كيف يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا
ومكانة لعلمه أنه زائل عما حين ، والسرور الذي يعرف صاحبه أنه منحسر عنه قريبا هو
أشد الغم ، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه وأدله على عبقرية شاعر الخلود.
ومن جميل ما
قيل في هذا المعنى قول هدبة بن خشرم لما قاده معاوية الى الحرة ليقتصّ منه في زياد
بن زيد العذري فلقيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فاستنشده فأنشده :
ولست بمفراح
إذا الدهر سرني
|
|
ولا جازع من
صرفه المتقلب
|
ولا أبتغي
شرا إذا الشر تاركي
|
|
ولكن متى
أحمل على الشر أركب
|
والمفراح كثير
الفرح والمراد نفي الفرح من أصله وصرف الدهر حدثانه وإذا شرطية فلا بد بعدها من
فعل أي إذا سرني الدهر وإذا كان الشر تاركي ، وأحمل مبني للمجهول وأركب للفاعل
والأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه.
٤ ـ التتميم :
وفي قوله «ولا
تنس نصيبك من الدنيا» تتميم لا بد منه لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له
نصيب في الآخرة ففي الحديث : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل
سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك» وقد عاد أبو الطيب
فرمق سماء هذه البلاغة مرة ثانية فقال من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة وقد
توفيت بميّافارقين وجاءه الخبر بموتها الى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، وأنشد
أبو الطيب قصيدته في جمادى الآخرة من السنة ونورد نخبة مختارة منها :
نعد المشرفية
والعوالي
|
|
وتقتلنا
المنون بلا قتال
|
وترتبط
السوابق مقربات
|
|
وما ينجين من
خبب الليالي
|
ومن لم يعشق
الدنيا قديما
|
|
ولكن لا سبيل
الى الوصال
|
نصيبك في
حياتك من حبيب
|
|
نصيبك في
منامك من خيال
|
رماني الدهر
بالأرزاء حتى
|
|
فؤادي في
غشاء من نبال
|
فصرت إذا
أصابتني سهام
|
|
تكسرت النصال
على النصال
|
والشاهد المراد
هو في قوله : نصيبك في حياتك البيت ، أي إن نصيب الإنسان من وصال حبيبه في حياته
كنصيبه من وصال خياله في منامه ، ووجه الشبه : اتفاق الأمرين في سرعة انقضائهما ،
واشتباههما في عجلة زوالهما.
الفوائد :
١ ـ قصة قارون
:
نسج المؤرخون
والقصاصون روايات شتى وأساطير عجيبة حول هذه القصة الفريدة التي تصلح نواة لمسرحية
عالمية تمثّل الزهو الذي يصيب المتمولين ، وقد اختلف في نسبه ، قيل كان ابن عم
موسى بن عمران وقيل كان ابن خالته ، وهو أول من ضرب به المثل في كثرة المال ، وفي
قوله تعالى «وكان من قوم موسى» دليل على إيمانه وقرابته وكان من أحسن الناس وجها
وقراءة للتوراة ويسمّى المنور لحسنة وقيل إنه كان من السبعين الذين اختارهم موسى
من قومه ، قيل انه خرج راكبا بغلة شهباء ومعه سبعمائة وصيفة على بغال شهب عليهن
الحلي والحلل والزينة فكاد يفتن بني إسرائيل ثم بغى وتكبر وركب رأسه حتى أهلكه
الله. وقد أخطأ صاحب المنجد فزعم أنه وزير فرعون كأنه ظنه هامان وهذا من نتائج
التسرع وعدم التحقيق. وكان سبب هلاكه أنه حسد هرون على الحبورة ، وذلك أن موسى لما
قطع البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة ، والحبورة بضم الحاء :
الإمامة ، مأخوذة من الحبر بمعنى الرئيس في الدين ، فوجد قارون من ذلك في نفسه
وقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر على هذا ، فقال
موسى : والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله له ، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى
تأتيني بآية فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها
فألقى موسى بها في قبّة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى أن يريهم الله بيان ذلك ،
فباتوا
يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال
موسى : يا قارون أما ترى صنع الله تعالى لهارون فقال : والله ما هذا بأعجب مما
تصنع من السحر ثم اعتزل بمن معه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع فدعا عليه
موسى.
وقيل : انه لما
نزلت آية الزكاة على موسى جاء موسى اليه وصالحه على كل ألف دينار دينار وألف شاة
وعلى هذا الأسلوب فحسب ذلك فوجده مالا عظيما فجمع قومه من بني إسرائيل وقال إن
موسى يأمركم بكل شيء فتطيعونه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا
فمرنا بما شئت فقال عليّ بفلانة البغي فأعطاها مائة دينار وأمرها أن تقذف موسى
بنفسها وجاء الى موسى وقال :إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتناههم فخرج فقام فيهم
خطيبا فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن زنى جلدناه ، فإن كانت له امرأة
رجمناه فصاح به قارون وقال له وان كنت أنت؟ فقال نعم. قال : فإن بني إسرائيل
يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي ، فقال : عليّ بها ، فلما جاءت قال لها موسى : يا
فلانة أنا فعلت ما يقول هذا؟ فقالت :لا والله يا نبي الله وانما جعل لي جعلا حتى
أقذفك بنفسي ، فسجد موسى يبكي ويتضرع ، فأوحى الله إليه : مر الأرض بما تشتهيه ،
فقال : يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيبت بعضه ثم لم يزل يقول خذيه وهو يغيب حتى لم
يبقى من جسده إلا القليل وهو يتضرع الىّ موسى ويسأله وهو يقول خذيه الى أن غاب.
الى آخر هذه القصة التي ينفسح فيها الخيال ويمتد الى أبعد مداه.
٢ ـ وي كأنه :
وعدناك بالمزيد
من بحث «وي كأنه» فنقول : ذهب الخليل
وسيبويه الى أن «وي» منفصلة معناها أعجب ثم ابتدأ فقال : كأنه لا يفلح
الكافرون وكأن هاهنا لا يراد بها التشبيه بل القطع واليقين ، وعليه بيت الكتاب :
وي كأن من
يكن له نشب يجب
|
|
ومن يفتقر
يعش عيش حر
|
لم يرد هاهنا
التشبيه بل اليقين ، وذهب أبو الحسن إلى أن ويك مفصولة من أنه ، وكان يعقوب يقف
على ويك ثم يبتدىء «أنه لا يفلح الكافرون» كأنه أراد بذلك الاعلام بأن الكاف من
جملة «وي» وليست التي في صدره «كأن» انما هي «وي» على ما ذكرنا أضيف إليها الكاف
للخطاب على حدها في ذلك وأولئك ويؤيد ذلك قول عنترة :
ولقد شفى
نفسي وأبرأ سقمها
|
|
قيل الفوارس
ويك عنتر أقدم
|
فجاء بها متصلة
بالكاف من غير «أن» فهي حرف خطاب وليست اسما مخفوضا كالتي في غلامك وصاحبك لأن «وي»
إذا كانت اسما للفعل فهي في مذهب الفعل فلا تضاف لذلك وأن وما بعدها في موضع نصب
باسم الفعل الذي هو «وي» ولذلك فتحت أن والتقدير أعجب لأنه لا يفلح الكافرون ،
فلما سقط الجار وصل الفعل فنصب ، وذهب الكسائي الى أن الأصل «ويلك» فحذفت اللام
تخفيفا وهو بعيد وليس عليه دليل ، وقد ذهب بعضهم الى أن
«ويكأنه» بكساله اسم واحد ، والمراد شدة الاتصال وانه لا ينفصل بعضه عن
بعض.
وهذا ونص عبارة
سيبويه : «وسألت الخليل عن قوله :«ويكأنه لا يفلح» وعن قوله «ويكأن الله» فزعم
أنها مفصولة من «كأن» والمعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو
نبهوا فقيل لهم أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا.
وقال الأعلم : «الشاهد
في قوله «ويكأن» وهي عند الخليل وسيبويه مركبة من «وي» ومعناها التنبيه مع «كأن»
التي للتشبيه ومعناه : ألم تر ، وعلى ذلك تأولها المفسرون.
وزعم بعض
النحويين أن قولهم «ويكأن» بمعنى ويلك اعلم ان ، فحذفت اللام من «ويلك» كما قال
عنترة «ويك عنتر أقدم» وحذف اعلم لعلم المخاطب مع كثرة الاستعمال وهذا القول مردود
لما يقع فيه من كثرة التغيير.
وقال أبو سعيد
السيرافي : في «ويكأن» ثلاثة أقوال : أحدها قول الخليل تكون «وي» كلمة يقولها
المنتدم ويقولها المندّم غيره ومعنى «كأن» التحقيق ، والثاني قول الفراء تكون «ويك»
موصولة بالكاف و «أن» منفصلة ومعناه عنده تقرير كقولك : أما ترى ، والقول الثالث
يذهب الى أن «ويك» بمعنى «ويلك» وجعل «أن» مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال : ويلك اعلم
أن الله.
وقال الفراء : «ويكأن»
في كلام العرب تقرير كقول الرجل :أما ترى الى صنع الله ، وقال الشاعر :
وي كأن من يكن له نشب (البيت).
وأخبرني شيخ من
أهل البصرة قال : سمعت أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ويلك؟ فقال : ويكأنه وراء
البيت ، معناه : أما ترينه وراء البيت؟ وقد يذهب بعض النحويين الى أنهما كلمتان
يريد :«ويك ، انه» أراد ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك
اعلم انه وراء البيت فاضمر اعلم ، ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في
أن وذلك انه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة ، فلما أضمره جرى مجرى
الترك ، ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول يا هذا إنك قائم ولا يا هذان فمت
تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن ، وأما حذف اللام من «ويلك» حتى تصير «ويك» فقد
تقوله العرب لكثرتها في الكلام قال عنترة : ولقد شفى نفسي (البيت) وقد قال آخرون
ان معنى «وي كأن» أن «وي» منفصلة كقولك لرجل «وي» تريد أما ترى ما بين يديك فقال :
وي ثم استأنف كأن يعني أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وهي تعجب وكأن في مذهب الظن
والعلم فهذا وجه مستقيم ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة
، وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليست منه وقال أبو الفتح ابن جني :
في «ويكأنه» ثلاثة أقوال :
ـ فمنهم من
جعلها كلمة واحدة فلم يقف على «وي».
ـ ومنهم من يقف
على «وي».
ـ ويعقوب يقف
على «ويك» وهو مذهب أبي الحسن.
والوجه عندنا
قول الخليل وسيبويه وهو أن «وي» اسم سمي به
الفعل على قياس مذهبهما فكأنه اسم اعجب ثم ابتدأ فقال : «كأنه لا يفلح
الكافرون» فـ «كأن» هنا إخبار عار من معنى التشبيه ومعناه ان الله يبسط الرزق و «وي»
منفصلة من «كأن» وعليه قول الشاعر : وي كأن من (البيت) ومما جاءت فيه «كأن» عارية
من معنى التشبيه قوله :
كأنني حين أمسي
لا تكلمني
|
|
متيم أشتهي
ما ليس موجودا
|
أي أنا حين
أمسي متيم من حالي كذا وكذا.
وقال البغدادي
في خزانة الأدب : «وأما قول أبي الفتح أن «وي» عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب
فمردود وكذا قوله : ان «كأن» عندهما عارية عن التشبيه ، وأما تنظيره لخلو التشبيه
بقوله : كأنني حين أمسي (البيت) فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر «كأن» مشتقا لا
تكون للتشبيه لئلا يتحد المشبه والمشبه به. وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي
كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه».
وقال التبريزي
في شرح المعلقات «وقوله «ويك» قال بعض النحويين معناه ويحك وقال بعضهم معناه ويلك
وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب أن يقرأ «ويك انه» كما يقال ويلك انه وويحك انه».
وقال الزمخشري
في كشافه : «وي مفصولة عن كأن وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم ومعناه أن القوم قد
تنبهوا على خطئهم في
تمنيهم ، وقولهم : «يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون» وتندموا ثم قالوا «كأنه
لا يفلح الكافرون» أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح وهو مذهب
الخليل وسيبويه قال :وي كأن من يكن له نشب (البيت).
وحكى الفراء أن
اعرابية قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : وي كأنه وراء البيت ، وعند الكوفيين أن «ويك»
بمعنى «ويلك» وان المعنى ألم تعلم انه لا يفلح الكافرون ويجوز أن تكون الكاف كاف
الخطاب مضمومة الى «وي» كقوله «ويك عنتر أقدم» وانه بمعنى لأنه واللام لبيان
المقول لأجله هذا القول ، أو لأنه لا يفلح الكافرون كأن ذلك وهو الخسف بقارون ومن
الناس من يقف على وي ويبتدىء كأنه ، ومنهم من يقف على ويك».
رأي الشهاب
الحلبي :
وقال الشهاب
الحلبي المعروف بالسمين وهو مطلع جدا : «وي كأنه ، فيه مذاهب :
أحدها : أن وي
كلمة برأسها وهي اسم فعل معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل وأن وما في حيزها
مجرورة بها أي أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ وقياس هذا أن يوقف على وي وحدها وقد
فعل هذا الكسائي :
الثاني : قال
بعضهم : كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه وصارت للخبر واليقين وهذا أيضا
يناسبه الوقف على وي.
الثالث : أن
ويك كلمة برأسها والكاف حرف خطاب وأن معمولة لمحذوف أي اعلم أن الله يبسط الرزق
إلخ قاله الأخفش وهذا يناسب الوقف على ويك وقد فعله أبو عمرو.
الرابع : أن
أصلها ويلك فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف أيضا كما فعل أبو عمرو.
الخامس : أن
ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابن عباس ونقل
الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى الى صنع الله ، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى
رحمة لك في لغة حمير ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين
فعامة القراء اتبعوا الرسم والكسائي وقف على وي وأبو عمرو على ويك».
وقال ابن هشام
في أوضح المسالك وشرحه للشيخ خالد الأزهري : «ووا ووي وواها الثلاثة كلها بمعنى
أعجب كقوله تعالى «وي كأنه لا يفلح الكافرون» فوي اسم فعل مضارع بمعنى أعجب والكاف
حرف تعليل وأن مصدرية مؤكدة أي أعجب لعدم فلاح الكافرين» وهذا ما اخترناه في
الاعراب ورأيناه أبعد من الارتياب وأدنى الى الصواب.
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً
وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ
إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ
بِالْهُدى
وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ
الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ
(٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ
إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ
الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))
الاعراب :
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الآخرة أعدت للذين لا يريدون
علوا في الأرض. وتلك مبتدأ والدار بدل من اسم الاشارة والآخرة صفة للدار وجملة
نجعلها خبر تلك وللذين متعلقان بنجعلها على أنه مفعوله الثاني وجملة لا يريدون صلة
للذين وعلوا مفعول يريدون وفي الأرض صفة لعلوا ولا فسادا عطف على علوا والعاقبة
مبتدأ وللمتقين خبر. (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) كلام مستأنف مسوق لوعد المحسنين ووعيد المسيئين بعد ذكر
أن العاقبة للمتقين. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجاء فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط وبالحسنة متعلقان بجاء والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وله
خبر مقدم وخير منها مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب معا
خبر من.
(وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم ويجزى فعل مضارع مبني للمجهول والذين
نائب فاعل وجملة عملوا السيئات صلة الموصول وإلا أداة حصر وما مفعول ثان ليجزى
وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إن واسمها وجملة فرض صلة وعليك متعلقان بفرض والقرآن
مفعول به ، ومعنى فرض عليك القرآن : أوجب عليك تلاوته وتبليغه ، واللام المزحلقة
ورادك خبر إن والكاف في محل جر بالإضافة والى معاد متعلقان براد لأنه اسم فاعل ،
وتنكيره يدل على أمور ستأتي في باب البلاغة.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وهو بمعنى عالم ولذلك نصب من جملة
جاء صلة وبالهدى متعلقان بجاء ومن عطف على من الأولى وهو مبتدأ وفي ضلال خبره
ومبين صفته. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا
أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وجملة ترجو
خبرها وأن وما في حيزها مفعول ترجو وإليك متعلقان بيلقى والكتاب نائب فاعل وإلا
أداة حصر بمعنى لكن للاستدراك ورحمة مفعول لأجله ومن ربك صفة لرحمة ، ويجوز أن
يكون الاستثناء على حاله أي متصلا ولكنه محمول على المعنى. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع ناقص مجزوم
بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها والكاف مفعول به والنون المذكورة
نون التوكيد الثقيلة وظهيرا خبر تكونن وللكافرين متعلقان بظهيرا. (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيره ، ونعيده
لوجود فارق بسيط ، فلا ناهية ويصدنك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة
جزمه حذف النون وحذفت الواو لأن النون لما حذفت التقى ساكنان الواو والنون المدغمة
فحذفت الواو لاعتلالها ووجود دليل يدل عليها وهو الضمة وأصله يصدونك ، وعن آيات
الله متعلقان بيصدنك والظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى أضيف الى مثله وإذ
تضاف اليه أسماء الزمان كقولك حينئذ ويومئذ وقد تقدم بحث ذلك ، وجملة أنزلت في محل
جر باضافة الظرف إليها وإليك متعلقان بأنزلت. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو عاطفة وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة
والفاعل مستتر تقديره أنت والى ربك متعلقان بادع ولا ناهية وتكونن مجزوم بها وقد
تقدم إعرابه واسمها مستتر تقديره أنت ومن المشركين خبرها.
(وَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا
والفاعل مستتر تقديره أنت يعود على محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب له والمراد
غيره على حد قوله «لئن أشركت ليحبطن عملك» ومع الله ظرف مكان متعلق بتدع وإلها
مفعول به وآخر نعت لإلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابها والجملة في محل نصب حال. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وهالك خبر المبتدأ وإلا أداة
استثناء ووجهه مستثنى وسيأتي معنى الاستثناء في باب البلاغة ، له خبر مقدم والحكم
مبتدأ مؤخر واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب
الفاعل.
البلاغة :
١ ـ سر التنكير
في قوله «الى معاد» للتفخيم كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر ، قيل
المراد به مكة وهو يوم الفتح فمعاد الرجل بلده لأنه ينصرف منه فيعود اليه فالمعاد
على هذا اسم مكان ، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار ليلا سار في غير
الطريق مخافة الطلب فلما رجع الى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف
الطريق الى مكة تنزى الحنين في صدره وهاجه الشوق الى موطنه وحنّ الى مولده ومولد
آبائه فنزلت عليه تطمينا لقلبه ، وفيها يتجلى مقدار الحنين الى الأوطان ، وقد رمق
الشعراء جميعا سماء هذا المعنى فقال ابن الرومي :
بلد صحبت به
الشبيبة والصبا
|
|
ولبست ثوب
العيش وهو جديد
|
فإذا تمثل في
الضمير رأيته
|
|
وعليه أغصان
الشباب تميد
|
وقال أبو تمام
:
نقل فؤادك
حيث شئت من الهوى
|
|
ما الحب إلا
للحبيب الأول
|
كم منزل في
الأرض يألفه الفتى
|
|
وحنينه أبدا
لأول منزل
|
والقول في حب
الأوطان كثير ، ومما يؤكد ما قلناه في حب الأوطان قول الله عز وجل «ولو أنا كتبنا
عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم» فسوّى بين
قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم ، وقال تعالى : «وما لنا أن لا نقاتل في سبيل
الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا».
وقال بعضهم «من
أمارات العاقل بره لإخوانه ، وحنينه لأوطانه ، ومداراته لأهل زمانه».
وقيل لأعرابي :
كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال : وهل العيش إلا ذاك ،
يمشي أحدنا ميلا فيرفضّ عرقا ثم ينصب عصاه ويلقي عليه كساءه ويجلس في فيئه يكتال
الريح فكأنه في إيوان كسرى.
وقال يحيى بن
طالب الحنفي من شعراء الدولة العباسية :
ألا هل إلى
شم الخزامى ونظرة
|
|
إلى قرقرى
قبل الممات سبيل
|
فأشرب من ماء
الحجيلاء شربه
|
|
يداوى بها
قبل الممات عليل
|
فيا أثلات
القاع قلبي موكل
|
|
بكن وجدوى
خيركنّ قليل
|
ويا أثلات
القاع قد مل صحبتي
|
|
مسيري فهل في
ظلكنّ مقيل
|
أريد انحدارا
نحوها فيردّني
|
|
ويمنعني دين
عليّ ثقيل
|
أحدث نفسي
عنك إذ لست راجعا
|
|
إليك فحزني
في الفؤاد دخيل
|
والأبيات
المشهورة للصمة القشيري :
تمتع من شميم
عرار نجد
|
|
فما بعد
العشية من عرار
|
ألا يا حبذا
نفحات نجد
|
|
وريا روضة
بعد القطار
|
وعيشك إذ يحل
الحي نجدا
|
|
وأنت على
زمانك غير زار
|
شهور ينقضين
وما شعرنا
|
|
بأنصاف لهن
ولا سرار
|
فأما ليلهن
فخير ليل
|
|
وأقصر ما
يكون من النهار
|
وحسبنا ما
قدمناه الآن.
٢ ـ المجاز
المرسل :
في قوله تعالى «كل
شيء هالك إلا وجهه» أي إلا إياه ، من ذكر البعض وإرادة الكل ، وقد جرت عادة العرب
في التعبير بالأشرف عن الجملة.
سورة العنكبوت
مكيّة وآياتها تسع
وستون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))
اللغة :
(يُفْتَنُونَ) : يختبرون من فتن فلان يفتنه من باب ضرب :خبره وأحرقه
وأضلّه ، يقال فتن الصائغ الذهب : أذابه بالبوتقة
ليختبره وليميز الجيد من الرديء ويقال فتنه يفتنه من باب ضرب أيضا أعجبه
واستماله وأوقعه في الفتنة.
الاعراب :
(الم ، أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ألم تقدم اعرابها والقول فيها وفي فواتح السور ، وأحسب
الهمزة للاستفهام التقريري أو التوبيخي وحسب فعل ماض ينصب مفعولين قال الزمخشري : «الحسبان
لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل» ولذلك احتاج الى مفعولين
والناس فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب وأن يقولوا مصدر مؤول منصوب بنزع
الخافض وهو متعلق بمحذوف حال إذا قدر حرف الجر باء ، ولك أن تقدر حرف الجر لاما
فيكون تعليلا للترك متعلقا به أي لأجل قولهم ، وجملة آمنا مقول القول والواو حالية
وهم مبتدأ وجملة لا يفتنون خبر هم والجملة حالية ومعنى الآية أحسب الذين نطقوا
بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين لا بل يمتحنون ليتبين الراسخ في الدين من
غيره ، وهذا أحد أعاريب رأيناه أسهلها ، ونورد هنا عبارة الزمخشري لنفاستها قال : «تقديره
أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو
الخبر وأما غير مفتونين فتتمة الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله «فتركنه جزر
السباع ينشنه» ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين
لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فإن قلت : أن يقولوا هو
علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت كما تقول خروجه
لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك خرجت مخافة الشر
وضربته تأديبا تعليلين ، وتقول أيضا حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب
فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا» وسيأتي المزيد من أبحاث هذه الآية في
باب الفوائد.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
وفتنا فعل وفاعل والذين مفعوله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف هو صلة الذين والفاء
عاطفة واللام موطئة للقسم وليعلمن فعل مضارع مبني على الفتح والله فاعل والذين
مفعوله وجملة صدقوا صلة وليعلمن الكاذبين عطف على ما تقدم وسيأتي سر المخالفة بين
صدقوا والكاذبين في باب البلاغة والمعنى أن الفتنة والامتحان أمران لا بد منهما
لابتلاء الخلق وقد تعرضت لهما الخلائق في مختلف ظروف الزمان والمكان. (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أم منقطعة ومعناها بل وهي للاضراب الانتقالي ولا بد من
همزة في ضمنها للتقرير والتوبيخ ، وحسب فعل ماض والذين فاعل وجملة يعملون السيئات
صلة وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب ، قال الزمخشري : «فإن قلت أين مفعولا
حسب؟قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين كقوله تعالى «أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة» ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة ومعنى الاضراب فيها
أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الاول لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن
انه لا يجازى بمساويه» وساء فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مستتر تقديره
هو وما نكرة منصوبة على التمييز وجملة يحكمون صفتها والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم
ويجوز أن تعرب ما اسم موصول فاعل وجملة يحكمون صلتها ، ويجوز أن تكون مصدرية أي
حكمهم وعلى هذا يكون التمييز محذوفا أي ساء حكما حكمهم. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ
فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل ماض ناقص في محل جزم
فعل الشرط واسم كان مستتر يعود على من وجملة يرجو خبر كان ولقاء الله مفعول به
والفاء رابطة لجواب الشرط ، وإن أجل الله ان واسمها واللام المزحلقة وآت خبر إن
والواو حرف عطف وهو مبتدأ والسميع العليم خبران لمن ، وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية
في باب البلاغة ، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من.
(وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ وجاهد فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وانما كافة ومكفوفة ويجاهد فعل مضارع وفاعله ضمير
مستتر تقديره هو ولنفسه جار ومجرور متعلقان بيجاهد وإن واسمها واللام المزحلقة
وغني خبر إن وعن العالمين متعلقان بغني والجملة تعليلية لما سبق من تقرير أن جهاد
الشخص لا يصل منه الى الله نفع. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا
الصالحات عطف على آمنوا واللام موطئة للقسم ونكفرن فعل مضارع مبني على الفتح
والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة خبر الذين وعنهم متعلقان بنكفرن وسيئاتهم مفعول
به. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَحْسَنَ الَّذِي
كانُوا
يَعْمَلُونَ) ولنجزينهم عطف على لنكفرن وأحسن مفعول به ثان والذي
مضاف اليه وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا.
البلاغة :
١ ـ التعبير
بالصيغة الفعلية والصيغة الاسمية :
في قوله تعالى «فليعلمن
الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين» مخالفة بين الصيغة الفعلية وهي «صدقوا»
والصيغة الاسمية في قوله «الكاذبين» والنكتة في هذه المخالفة أن اسم الفاعل يدل
على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه لأن وقت نزول
الآية كانت حكاية عن قوم قريبي عهد بالإسلام وعن قوم مستمرين على الكفر فعبر في حق
الأولين بلفظ الفعل وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات ، أما بالنسبة لعلم
الله فلا يقال ان فيه تجددا في علم الله تعالى بهم قبل الاختبار وإيهاما بأن العلم
بالكائن غير العلم بأنه سيكون ، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بما لموجود
زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه وفائدة ذكر العلم هاهنا وان كان سابقا على
وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء كأنه قال : لنعلمنهم فلنجازيهم
بحسب علمه فيهم.
٢ ـ الحذف :
جرينا في اعراب
قوله تعالى «من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت» على أن الفاء رابطة لجواب
الشرط وان جملة ان أجل الله لآت هو الجواب وساغ وقوعه جوابا للشرط مع أن أجل الله
آت
لا محالة من غير تقييد بشرط وانه ينعدم بانعدام الشرط ساغ وقوعه جوابا
لأننا نعني بلقاء الله تلك الحالة الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل
المضروب للموت كأنه قال من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت لأن الأجل واقع
فيه اللقاء كما تقول من كان يرجو لقائي فإن يوم الجمعة قريب إذا علم وتعورف انك
تقعد للاستقبال يوم الجمعة ، هذا ويجوز أن يكون من باب الحذف البلاغي والتقدير
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
الفوائد :
أطال المعربون
في التماس وجوه الاعراب لهذه الآية وهي «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم
لا يؤمنون» وقد اخترنا أمثل هذه الوجوه وأدناها الى المنطق كما أوردنا نص قول
الزمخشري فيها وكلا الوجهين سائغ مراد ونريد أن نفصل لك القول في الظن والحسبان
وغيرهما من الأفعال التي تسمى «أفعال القلوب» وانما قيل لها ذلك لأن معانيها قائمة
بالقلب ، وليس معنى هذا أن كل فعل قلبي ينصب مفعولين بل القلبي ثلاثة أقسام ما لا
يتعدى بنفسه نحو فكر في الأمر وتفكر فيه ، وما يتعدى لواحد بنفسه نحو عرف الحق
وفهم المسألة ، وما يتعدى لاثنين بنفسه وهو المقصود بالتسمية وأصل المفعولين
المبتدأ والخبر ، ورد بعضهم وهو السهيلي هذا القول وقال كيف يكون نحو ظننت زيدا
عمرا أصلهما مبتدأ وخبر وأجيب بأن المراد هو التشبيه بدليل أنه يقال : ظننت زيدا
عمرا فتبين خلاف فالظن المذكور لتشبيهه به ، وأجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنه متأول
بمعنى ظننت الشيء المسمى بزيد مسمى بعمر كما أن قولك
زيد حاتم متأول بمعنى زيد مثل حاتم في المعنى ، استمع الى قول زفر ابن
الحارث الكلابي :
وكنا حسبنا
كل بيضاء شحمة
|
|
عشية لاقينا
جذام وحميرا
|
فكل بيضاء
مفعول حسبنا الأول وشحمة مفعوله الثاني وهو كناية عن أنه كان يظنهم شجعانا فتبينوا
بخلاف ذلك وبعد هذا البيت :
فلما لقينا
عصبة تغلبية
|
|
يقودون جردا
في الأعنّة خمرا
|
سقيناهم كأسا
سقونا بمثلها
|
|
ولكنهم كانوا
على الموت أصبرا
|
فلما قرعنا
النبع بالنبع بعضه
|
|
ببعض أبت
عيدانه أن تكسّرا
|
إذا عرفت هذا
كله فهمت معنى الآية بوضوح أي : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم ،
وتبجحوا بها ، واستطالوا على من سواهم انهم سيتركون غير ممتحنين؟ لا بل سوف
يمتحنهم الله بضروب الابتلاء وأنواع المحن حتى يسبر أغوارهم جميعا ، ويبلو صبرهم
وثبات أقدامهم ورسوخها في الايمان ، فليس الايمان كلمات تتردد على الألسنة وحسب
لكنه يحتاج الى عمل أصيل ، وجهاد مستمر ، ليسفر عملهم عما فيه نفع أمتهم ، وجهادهم
عن تأثيل أوطانهم.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ
فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا
أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ
بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))
الاعراب :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) كلام مستأنف للشروع في تقرير حق الأبوين وتحديد طاعتهما
بعدم معصية الله. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصينا
وحسنا نعت لمصدر وصينا على حذف مضاف أي إيصاء ذا حسن أو هو في نفسه حسن على
المبالغة ، وقال الزجاج : «ومعناه : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه وما يحسن». (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وان شرطية وجاهداك فعل ماض في محل جزم فعل
الشرط والألف فاعل والكاف مفعول به ولتشرك اللام لام التعليل وتشرك فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره أنت والجار والمجرور
متعلقان بجاهداك وبي
متعلقان بتشرك وما اسم موصول مفعول به لتشرك ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف
خبر مقدم وبه متعلقان بعلم وعلم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة ما ، فلا الفاء
رابطة لجواب الشرط لأن الجواب جملة ولا ناهية وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل
مستتر تقديره أنت والميم والألف حرفان دالان على التثنية والجملة المقترنة بالفاء
في محل جزم جواب إن. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلي خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف
وأنبئكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم
وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) الذين مبتدأ خبره «لندخلنهم في الصالحين» أي في زمرة
الراسخين في الصلاح ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال. وجملة آمنوا صلة
وجملة عملوا الصالحات معطوفة على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم وندخلن فعل مضارع
مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الصالحين متعلقان
بندخلهم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المنافقين بعد أن بين حال
المؤمنين والكافرين فيما تقدم ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة مبتدأ مؤخر أي
ناس وهو أولى من جعلها موصولة وجملة يقول صفة لمن على اللفظ وجملة آمنا مقول القول
وبالله متعلقان بآمنا. (فَإِذا أُوذِيَ فِي
اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) الفاء حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وفي
الله متعلقان بأوذي وجملة أوذي في محل جر بإضافة الظرف إليها أي في سبيل الله
وجملة جعل لا محل لأنها جواب إذا وفتنة الناس مفعول جعل الاول
وكعذاب الله في موضع المفعول الثاني ، أو الكاف اسم بمعنى مثل في موضع
المفعول الثاني والمعنى جزع من أذى الناس ، فأطاعهم كما يطيع الله من يخافه. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان حرف شرط جازم
وجاءهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به ونصر فاعل ومن ربك متعلقان
بجاءهم أو بمحذوف صفة لنصر ، ليقولن : اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع
مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء
الساكنين فاعل وجملة إنا مقول القول وان واسمها وجملة كنا خبرها ومعكم ظرف متعلق
بمحذوف خبر كنا. (أَوَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي والواو عاطفة على
محذوف يقتضيه السياق وليس فعل ماض ناقص والله اسمها والباء حرف جر زائد وأعلم
مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وبما متعلقان بأعلم وفي صدور العالمين صلة
ما. (وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويعلمن فعل مضارع مبني
على الفتح والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وليعلمن المنافقين عطف على
وليعلمن الذين آمنوا.
الفوائد :
روى التاريخ أن
سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الى الإسلام حين أسلم قالت أمه وهي وهي حمنة بنت
أبي سفيان بن أمية ابن عبد شمس : يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فو الله لا يظلني سقف
بيت من الضح والريح وان الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر
بمحمد ، وكان أحبّ ولدها إليها ، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي
في الأحقاف ، فأمره رسول الله أن يداريها ويترضّاها بالإحسان.
وفي رواية
للقرطبي أن سعدا قال لها : والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت
بمحمد فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي ، فلما رأت ذلك أكلت ، هذا ومعنى قوله فو
الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح كما في الصحاح الضح الشمس وفي الحديث لا
يقعدن أحدكم بين الضح والظل فإنه مقعد الشيطان. وقيل نزلت في عياش بن ربيعة
المخزومي وذلك انه هاجر مع عمر بن الخطاب مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل
بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة
فنزلا بعياش وقالا له إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا
تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه
في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم
مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال له عمر : أما إذ عصيتني
فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منها ريب فارجع ، فلما انتهوا الى
البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال نعم فنزل ليوطىء لنفسه وله
فأخذاه وشدا وثاقه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به الى أمه فقالت : لا
تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت.
وسواء أكانت
المناسبة هذه أم تلك فالمسألة عامة ، وبر الوالدين مطلوب شرعا وطاعتهما واجبة إلا
في المعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقوله «وفتلا منه في الذروة
والغارب» قال الجوهري في صحاحه : «ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب أي
يدور من وراء خدعته».
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما
هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً
إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))
الاعراب :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نموذج آخر من أضاليلهم.
وقال الذين فعل
وفاعل وجملة كفروا صلة الموصول وللذين متعلقان يقال وجملة آمنوا صلة الموصول وجملة
اتبعوا مقول القول واتبعوا فعل وفاعل وسبيلنا مفعول ولنحمل الواو عاطفة واللام لام
الأمر
ونحمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وخطاياكم مفعول به وسيأتي معنى الأمر في
باب البلاغة. (وَما هُمْ
بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو حالية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وهم اسمها
والباء حرف جر زائد وحاملين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما ومن خطاياهم حال
لأنه كان في الأصل صفة لشيء وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب
محلا لأنه مفعول حاملين وجملة إنهم لكاذبون تعليل للجزم بعدم حملهم شيئا من خطاياهم
وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها.
(وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويحملن فعل مضارع مرفوع
بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل
وأثقالهم مفعول به وأثقالا عطف على أثقالهم ومع أثقالهم ظرف متعلق بمحذوف صفة
لأثقالا.
(وَلَيُسْئَلُنَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة ويسألن عطف على يحملن ويوم القيامة ظرف
متعلق بيسألن وعما متعلقان بيسألن أيضا وجملة كانوا صلة ما وجملة يفترون خبر
كانوا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كلام مستأنف مسوق لتأييد التكليف الذي ألزم محمد صلى
الله عليه وسلم به أتباعه أي أنه ليس مختصا بالنبي وأتباعه واللام جواب للقسم
المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان
بأرسلنا ، فلبث الفاء عاطفة ولبث فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على نوح
وفيهم متعلقان بلبث وألف سنة نصب على الظرف لأنه عدد أضيف الى الظرف فأخذ منه
ظرفيته وهو متعلق بلبث أيضا وإلا أداة استثناء وخمسين منصوب على الاستثناء وعاما
تمييز وقد روعيت هنا نكتة نذكرها في باب البلاغة.
(فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) الفاء عاطفة وأخذهم الطوفان فعل ومفعول به مقدم وفاعل
مؤخر والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر. والطوفان ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من
سيل أو ظلام ليل أو نحوهما قال العجاج :
حتى إذا ما
يومها تصببا
|
|
وعم طوفان
الظلام الأثأبا
|
والبيت للعجاج
يصف بقرة وحشية وما زائدة بعد إذا عم بالمهملة ويروى بالمعجمة والمعنيان متقاربان
والأثأب نوع من الشجر يشبه شجر التين الواحدة أثأبة ونسبة التصبب لليوم مجاز عقلي
من باب الإسناد للزمان أي تصبب المطر وستر ظلامه الشجر الذي كان فيه.
(فَأَنْجَيْناهُ
وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأصحاب عطف
على الهاء أو مفعول معه وجعلناها الواو عاطفة وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به آية
مفعول به ثان وللعالمين صفة لآية.
البلاغة :
١ ـ مجيء الأمر
بمعنى الخبر :
في قوله «ولنحمل
خطاياكم» الكلام أمر بمعنى الخبر يعني أن أصل ولنحمل خطاياكم : إن تتبعونا نحمل
خطاياكم ، فعدل عنه الى ما ذكر مما هو خلاف الظاهر من أمرهم بالحمل ، وفي قوله :«انهم
لكاذبون» نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من
أنكره ولا حجة له لأن الله تعالى أردف قولهم
ولنحمل خطاياكم على صيغة الأمر بقوله : انهم لكاذبون ، والتنكيت إنما يتطرق
الى الاخبار.
٢ ـ نكتة العدد
:
وذلك في قوله «فلبث
فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» فإن الإخبار بهذه الصيغة يمهد عذر نوح عليه السلام
في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم إذ لو قيل : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين
عاما لما كان لهذه العبارة من التهويل ما للعبارة الأولى لأن لفظة الألف في
العبارة الأولى في أول ما يطرق السمع فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام من الاستثناء
وإذا راجع الاستماع لم يبق للاستثناء بعد ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر
الألف فتعظم كبيرة قوم نوح عليه السلام في إصرارهم على المعصية مع طول مدة الدعاء.
وعبارة
الزمخشري في صدد هذا العدد «فإن قلت هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة قلت : ما أورده
الله أحكم لأنه لو قيل كما قلت لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا
التوهم زائل مع مجيئه كذلك ، وكأنه قيل تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا
أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة. وفيه نكتة أخرى وهي أن القصة مسوقة لذكر
ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع
وأوصل الى الغرض من استطالة السامع مدة صبره».
نكتة ثانية في العدد :
وهناك نكتة
ثانية وهو انه غاير بين تمييز العددين فقال في الأول «سنة» وقال في الثاني «عاما»
لئلا يثقل اللفظ ثم انه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله صلى الله عليه
وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن والعرب تعبر عن الخصب بالعام وعن الجدب
بالسنة.
نكتة ثالثة في العدد :
وهناك نكتة
ثالثة اكتشفها الرازي قال : «فإن قلت ما الفائدة في مدة لبثه؟ قلت : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام فقال له الله تعالى
: إن نوحا لبث في قومه هذا العدد الكبير ولم يؤمن من قومه إلا القليل فصبر وما ضجر
فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك».
الفوائد :
في قوله «ولنحمل
خطاياكم» الأصل دخول لام الأمر ولا الناهية على فعل الغائب معلوما ومجهولا وعلى
المخاطب والمتكلم المجهولين ويقل دخولها على المتكلم المفرد المعلوم فإن كان
المتكلم غيره فدخولهما عليه أهون وأيسر كالآية المتقدمة وقول الشاعر :
إذا ما خرجنا
من دمشق فلا نعد
|
|
لها أبدا ما
دام فيها الجراضم
|
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ
رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ
يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))
الاعراب :
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ) كلام مستأنف لسوق قصة ثانية بعد قصة نوح والطوفان.
وابراهيم منصوب بفعل محذوف تقديره
أذكر ، وإذ الظرف بدل اشتمال من ابراهيم ولك أن تجعله كلاما معطوفا فتعطف
ابراهيم على نوحا وتعلق الظرف بأرسلنا والمعنى عندئذ أرسلنا إبراهيم حين بلغ من
السن مبلغا يخاطب فيه قومه بعبارات الوعظ والإرشاد ، وجملة قال لقومه في محل جر
بإضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان بقال. (اعْبُدُوا اللهَ
وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة مقول قول ابراهيم لقومه ، واعبدوا فعل أمر مبني
على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله واتقوه عطف على اذكروا الله وذلكم
مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط
والتاء اسمها وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فاعبدوا
الله واتقوه. (إِنَّما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) إنما كافة ومكفوفة وتعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون
الله حال وأوثانا مفعول به وتخلقون إفكا عطف على ما قبله ويجوز في الإفك أن يكون
مصدرا وأن يكون صفة أي خلقا إفكا أي ذا إفك وباطل.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) إن واسمها وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال وجملة لا
يملكون خبر إن ولكم متعلقان برزقا ورزقا مفعول به ليملكون لأنه بمعنى المرزوق أو
مصدر مؤول من إن والفعل أن لا يقدرون أن يرزقوكم ويجوز نصبه على المصدر وناصبه لا
يملكون لأنه في معناه.
(فَابْتَغُوا عِنْدَ
اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وابتغوا فعل أمر وفاعل وعند الله متعلقان
بابتغوا والرزق مفعول ابتغوا واعبدوه واشكروا له عطف على ابتغوا واليه متعلقان
بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا
فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) عطف على ما تقدم منتظم في سلك حديث ابراهيم عليه السلام
لقومه ، وان شرطية وتكذبوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ، فقد
الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وكذب أمم فعل وفاعل ومن قبلكم صفة لأمم وقيل جواب
الشرط محذوف أي فلا يضرني تكذيبكم فقد كذّب أمم من قبلكم أنبياءهم ورسلهم ، وما
الواو حالية أو استئنافية وما نافية وعلى الرسول خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ
مبتدأ مؤخر والمبين صفة لبلاغ. (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف
يقتضيه السياق ولم حرف نفي وجزم وقلب وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وجملة يبدىء
الله الخلق في محل نصب مفعول يروا لأنها علقت عن العمل بالاستفهام والرؤية قلبية
والمراد بها العلم الصحيح الواضح لأنه كالرؤية البصرية ، ثم يعيده كلام مستأنف أو
هو كلام معطوف على أولم يروا وسبب امتناع عطفه على يبدىء لأن المقصود الاستدلال
بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم لكان تحصيلا
للحاصل ولا يقال انه من قبيل عطف الخبر على الإنشاء لأن الاستفهام متضمن معنى
الإنكار والتقرير فهو بمثابة الإخبار وإن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير
خبر إن.
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) الكلام حكاية قول ابراهيم لقومه أو حكاية قول الله
لابراهيم وسيروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بسيروا
، فانظروا عطف على سيروا وكيف حال وبدأ الخلق فعل وفاعل مستتر
ومفعول به والجملة في محل نصب مفعول انظروا المعلقة بسبب الاستفهام. (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم حرف عطف والله مبتدأ وجملة ينشىء خبر والنشأة الآخرة
نصب على المصدرية المحذوفة الزوائد والأصل الإنشاءة وقرىء النشاءة بالمد وهما
لغتان كالرأفة والرآفة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر ان. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) الجملة حالية أو خبر ثان لإن أو مستأنفة ويعذب فعل
مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومن مفعوله وجملة يشاء صلة من ويرحم
من يشاء عطف على يعذب من يشاء وإليه متعلقان بتقلبون وتقلبون فعل مضارع مبني
للمجهول والواو نائب فاعل ومعنى تقلبون : تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنتم اسمها والخطاب لأهل
الأرض والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وفي الأرض
حال ومفعول معجزين محذوف للعلم به أي الله تعالى أي لا تفوتونه إن حاولتم الهرب من
قضائه ، ولا في السماء عطف على في الأرض ان حمل السماء على العلو فجائز ، أي في
البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصا بعد تعميم وما نافية ولكم خبر
مقدم ومن دون الله حال ومن ولي من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه
مبتدأ مؤخر ولا نصير عطف على من ولي.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآيات الله متعلقان
بكفروا ولقائه عطف على آيات وأولئك مبتدأ وجملة يئسوا من رحمتي خبر أولئك
وجملة أولئك يئسوا خبر الذين. (وَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) وأولئك الواو عاطفة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب
مبتدأ مؤخر وأليم صفة لعذاب وجملة لهم عذاب أليم خبر أولئك.
البلاغة :
١ ـ نكر الرزق
في قوله (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ
رِزْقاً) ثم عرفه بقوله «فابتغوا عند الله الرزق» لأن الأول
مقصور عليهم فاستوجب أن يكون ضئيلا قليلا فنكره تدليلا على قلته وضآلته ، ولما كان
الثاني مبتغى عند الله استوجب أن يكون كثيرا لأنه كله عند الله فعرفه تدليلا على
كثرته وجسامته.
٢ ـ الإضمار
والإظهار :
في قوله «أولم
يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض
فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة» فن قل من يتفطّن اليه لأنه
دقيق للغاية ولا يجنح إليه الكاتب أو الشاعر إلا لفائدة تربو على البداهة وهي
تعظيم شأن الأمر. ألا ترى أنه صرح باسمه تعالى في قوله «ثم الله ينشىء النشأة
الآخرة» مع إيقاعه مبتدأ ، وقد كان القياس أن يقول : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء
النشأة الآخرة فأفصح باسمه بعد إضماره والفائدة في ذلك أنه لما كانت الإعادة عندهم
من الأمور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم في الإبداء وقرر لهم أن ذلك من الله
احتج عليهم بأن الاعادة إنشاء مثل الإبداء وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو
الذي لا يعجزه الإبداء فوجب أن لا تعجزه الإعادة
فللدلالة وللتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الاعادة أبرز اسمه تعالى
وأوقعه مبتدأ ، والأصل في الكلام الأظهار ثم الإضمار ويليه لقصد التفخيم الإظهار
بعد الإظهار ويليه وهو أفخم الثلاثة الإظهار بعد الإضمار كما في الآية.
وعلى هذا يقاس
ما ورد من كلامهم كقول بعضهم يصف لقاء مع بني تميم قال : «ولما تلاقينا وبنو تميم
أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسودا ثكلا تسابق الأسنة الى الورود ، ولا ترتد
على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسود وتناجد بنو تميم علينا بجملة فلذنا
بالفرار واستبقنا الى تولية الإدبار» فإنه إنما قيل «وتناجد بنو تميم» مصرحا
باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل «أقبلوا» للدلالة على التعجب من إقدامهم عند
الحملة وثباتهم عند الصدمة لا سيما وقد أردف ذلك بقوله «لذنا بالفرار ، واستبقنا
الى تولية الأدبار» كأنه قال : وتناجد أولئك الفرسان المشاهير ، والفرسان الكماة
المناكير وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين.
ولقد أشار
الامام الرازي الى هذه النكتة ولكنه أوردها موردا آخر ولذلك ننقل عبارته بنصها : «أبرز
اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال : كيف يبدىء الله الخلق وأضمره عند
الإعادة ، وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال : ثم الله
ينشىء النشأة لأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند اليه البدء
فقال يبدىء الله ثم قال : ثم يعيده وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا الى
الله تعالى فاكتفى به وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال : ثم الله ينشىء
النشأة ، فليقع في ذهن السامع كمال قدرته
وعلمه وإرادته ولم يقل يعيده بل قال ينشىء للتنبيه على أن البدء يسمى نشأة
كالإعادة والتغاير بينهما بالوصف حيث قالوا : نشأة أولى ونشأة ثانية».
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))
الاعراب :
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبرها
المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول هو اسم كان المؤخر أي قال بعضهم لبعض
فكانوا جميعا في حكم القائلين ، واقتلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول
القول وأو حرف عطف وحرّقوه عطف
على اقتلوه. (فَأَنْجاهُ اللهُ
مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة أي فقذفوه في النار فأنجاه الله ، وأنجاه
الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن النار متعلقان بأنجاه وإن حرف مشبه بالفعل
وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة
يؤمنون صفة لقوم. (وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال عطف على أنجيناه وإنما كافة ومكفوفة
واتخذتم فعل وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذتم وأوثانا مفعول به
أول لاتخذتم ومودة مفعول لأجله أو منصوبة بفعل محذوف تقديره أعني وبينكم مضاف الى
مودة وفي الحياة الدنيا متعلقان باتخذتم أو بمحذوف حال.
وهذه الآية شغلت
المعربين كثيرا لاختلاف قراءاتها وتباين وجهات النظر فيها وقد ابتسرنا الكلام في
الاعراب على قراءة حفص واخترنا أمثل الأوجه وأسهلها وسننقل في باب الفوائد غيضا من
فيض مما قيل فيها شحذا للأذهان. (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ثم حرف عطف للتراخي ويوم القيامة ظرف متعلق بيكفر
وبعضكم فاعل وببعض متعلقان بيكفر أيضا ويلعن بعضكم بعضا فعل مضارع وفاعل ومفعول
به. (وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مأواكم مبتدأ أو خبر مقدم والنار خبر أو مبتدأ مؤخر
والواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مبتدأ مؤخر وهو
مجرور لفظا.
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وآمن فعل ماض ولوط فاعله وله متعلقان بآمن
وقال عطف على فآمن وفاعله مستتر يعود على ابراهيم ولذلك يجب الوقف على
لوط لأن قوله إني مهاجر مقول ابراهيم فلو وصل لتوهم أن الفعل الثاني للوط
فيفسد المعنى وان واسمها ومهاجر خبرها وإلى ربي متعلقان بمهاجر أي الى حيث يأمرني
ربي ، ففي الكلام مجاز ، وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إني أو خبر
هو والجملة خبر إني والحكيم خبر ثان. (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول به
ويعقوب عطف عليه وجعلنا فعل وفاعل وفي ذريته في موضع المفعول الثاني والشجرة هي
المفعول الأول والكتاب عطف على النبوة. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به والواو عاطفة وأجره مفعول
به ثان وفي الدنيا حال وانه وان واسمها وفي الآخرة حال واللام المزحلقة ومن
الصالحين خبر إنه.
الفوائد :
قدمنا لك أمثل
الأوجه في إعراب قوله تعالى «وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في
الحياة الدنيا» ووعدناك أن ننقل شيئا مما قالوه فيها وكله من الكلام الجيد والمنطق
الحصيف ونبدأ بما قاله الزمخشري قال : «قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة وعلى
الرفع كذلك ، فالنصب على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتوصلوا لاجتماعكم على
عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم ،
وأن يكون مفعولا ثانيا كقوله :«اتخذ إلهه هواه» أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم
على تقدير حذف المضاف أو اتخذتموها مودة بينكم بمعنى مودودة بينكم
كقوله تعالى : «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله»
وفي الرفع وجهان : أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف
والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة ، وعن عاصم : مودة بينكم
بفتح بينكم مع الإضافة كما قرىء «لقد تقطع بينكم» ففتح وهو فاعل ، وقرأ ابن مسعود
رضي الله عنه «أوثانا انما مودة بينكم في الحياة الدنيا» أي إنما تتوادون عليها أو
تودونها في الحياة الدنيا».
وقال الشهاب
الحلبي المعروف بالسمين : «وقال انما اتخذتم : في ما هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف وهو المفعول الأول وأوثانا مفعول ثان والخبر مودة
في قراءة من رفع كما سيأتي والتقدير إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة أي ذو مودة ، أو
جعل نفس المودّة مبالغة ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي الذي اتخذتموه أوثانا
لأجل المودة لا ينفعكم أو يكون عليكم لدلالة قوله ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض.
والثاني : أن
تجعل ما كافة وأوثانا مفعول به ، والاتخاذ هنا متعد لواحد أو لاثنين والثاني هو من
دون الله فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة أو جعلت نفس
المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة لأوثانا أو مستأنفة ، ومن نصب كان مفعولا له أو
بإضمار أعني.
الثالث : ان
تجعل ما مصدرية وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول أي إن سبب اتخاذكم أوثانا مودة
فيمن رفع مودة ويجوز
أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة ، وفي قراءة من نصب يكون
الخبر محذوفا على ما مر في الوجه الأول ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع
مودة غير منونة وجر بينكم ، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب مودة منونة ونصب بينكم
، وحمزة وحفص بنصب مودة غير منونة وجر بينكم ، فالرفع قد تقدم والنصب أيضا تقدم
فيه وجهان ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولا ثانيا على المبالغة للاتساع في الظرف
، ومن نصبه فعلى أصله ، ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على
إضافة مودة للظرف وإنما بني لإضافته الى غير متمكن كقراءة «لقد تقطع بينكم» بالفتح
إذا جعلنا بينكم فاعلا».
وفي كتاب أبي
البقاء جاء قوله «قوله تعالى «انما اتخذتم» في ما ثلاثة أوجه أحدها هي بمعنى الذي
والعائد محذوف أي اتخذتموه و «أوثانا» مفعول ثان أو حال و «مودة» الخبر على قراءة
من رفع والتقدير ذو مودة ، والثاني هي كافة وأوثانا مفعول ومودة بالنصب مفعول له
وبالرفع على إضمار مبتدأ وتكون الجملة نعتا لأوثان ويجوز أن يكون النصب على الصفة
أيضا أي ذوي مودة ، والوجه الثالث أن تكون ما مصدرية ومودة بالرفع الخبر ولا حذف
في هذا الوجه في الخبر بل في اسم ان والتقدير ان سبب اتخاذكم مودة ، ويقرأ مودة
بالاضافة في الرفع والنصب و «بينكم» بالجر وبتنوين مودة في الوجهين جميعا ، ونصب
بين وفيما يتعلق به «في الحياة الدنيا» سبعة أوجه : (الاول) أن يتعلق باتخذتم إذا
جعلت ما كافة لا على الوجهين الآخرين لئلا يؤدي الى الفصل بين الموصول وما في
الصلة بالخبر و (الثاني) أن يتعلق بنفس مودة إذا لم تجعل
بين صفة لها لأن المصدر إذا وصف لا يعمل و (الثالث) أن تعلقه بنفس بينكم
لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم و (الرابع) أن تجعله صفة ثانية لمودة إذا نونتها
وجعلت بينكم صفة و (الخامس) أن تعلقها بمودة وتجعل بينكم ظرف مكان فيعمل مودة
فيهما و (السادس) أن تجعله حالا من الضمير في بينكم إذا جعلته وصفا لمودة و (السابع)
أن تجعله حالا من بينكم لتعرفه بالاضافة ، وأجاز قوم منهم أن تتعلق في بمودة : وإن
كان بينكم صفة لأن الظروف يتسع فيها بخلاف المفعول به».
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))
اللغة :
(نادِيكُمُ) النادي والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارا أو المجلس ما
داموا مجتمعين فيه وجمعه أندية ولا تقل نواد ، وغلط صاحب المنجد فجمعه على نواد ،
وما يندوهم النادي أي ما يسعهم المجلس من كثرتهم. وقال الزمخشري : «ولا يقال
للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا».
الاعراب :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ) عطف على إبراهيم أو منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر ،
والظرف بدل اشتمال من لوطا وجملة قال في محل جر باضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان
بقال وجملة إنكم لتأتون مقول القول وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون خبرها
والواو فاعل والفاحشة مفعول به وجملة ما سبقكم مستأنفة مسوقة لتقرير فحشها وهجنة
فاعلها ورجح أبو حيان أن تكون حالية كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير
مسبوقين بها ، وما نافية وسبقكم فعل ماض ومفعول به وبها متعلقان بسبقكم ومن حرف جر
زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل سبقكم ومن العالمين صفة لأحد.
(أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وانكم إن واسمها واللام
المزحلقة وجملة تأتون خبر إن والرجال مفعول به وتقطعون السبيل عطف على تأتون
الرجال ، قيل انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين ، فلما فعلوا
ذلك ترك الناس المرور بهم فقطعوا السبيل بهذا السبب ، وتأتون عطف أيضا وفي ناديكم
متعلقان بتأتون والمنكر مفعول به.
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبر كان
المقدم وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وجملة ائتنا مقول القول
وائتنا فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب الله متعلقان بائتنا وإن شرطية وكنت
فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبرها وجواب إن
محذوف
دل عليه ما قبله أي فائتنا بعذاب الله. (قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف
وانصرني فعل دعاء والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به وعلى القوم
متعلقان بانصرني والمفسدين صفة للقوم.
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ
كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ
(٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))
اللغة :
(ذَرْعاً) : الذرع : الطاقة والقوة وفي المصباح : «ضاق بالأمر
ذرعا عجز عن احتماله وذرع الإنسان طاقته التي يبلغها» وعبارة الزمخشري : «وقد جعلت
العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا رحب الذراع بكذا إذا كان
مطيقا له والأصل فيه
أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في
العجز والقدرة» وفي الأساس واللسان العجيب من مجاز هذه الكلمة إذ يقال : ضاق
بالأمر ذرعا وذراعا إذا لم يطقه وأبطرت ناقتك ذرعها كلفتها ما لم تطق واقصد بذرعك
واربع على ظلعك :ارفق بنفسك ، وما لك عليّ ذراع أي طاقة وطفت في مذارع الوادي وهي
أضواحه ونواحيه وقد أذرع في كلامه هو يذرع فيه إذراعا وهو الإكثار وفلان ذريعتي
إليك وقد تذرعت به إليه أي توسلت وسألته عن أمره فذرّع لي منه شيئا وذرعت لفلان
عند الأمير :شفعت له وأنا ذريع له عنده ووقع فيهم موت ذريع : سريع فاش وذلك إذا لم
يتدافنوا واستوى كذراع العامل وهو صدر القناة وهو لك مني على حبل الذراع أي حاضر
قريب وجعلت أمرك على ذراعك أي اصنع ما شئت.
هذا والذراع من
الرجل من طرف المرفق الى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكّر والذراع
من المقاييس طوله بين الخمسين والسبعين سنتيمترا.
(رِجْزاً) : الرجز والرجس : العذاب من قولهم ارتجز وارتجس إذا
اضطرب لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب.
الاعراب :
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) الواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فاستجاب الله
دعاء لوط وأرسل ملائكة لإهلاكهم وأمرهم أن يبشروا ابراهيم بالذرية
الطيبة فجاءوا أولا إلى ابراهيم. ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءت رسلنا
ابراهيم فعل وفاعل ومفعول به وبالبشرى متعلقان بجاءت وجملة قالوا لا محل لها لأنها
جواب شرط غير جازم وجملة إنا مقول القول وإن واسمها ومهلكو خبرها وأهل هذه مضافين
والقرية بدل من هذه وهي سذوم أو سدوم وقد تقدم تفصيل ذكرها فجدد به عهدا. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للإهلاك وان واسمها
وجملة كانوا خبرها وظالمين خبر كانوا.
(قالَ : إِنَّ فِيها
لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) إن حرف مشبه بالفعل وفيها خبرها المقدم ولوطا اسمها
المؤخر وسيأتي معنى هذا الإخبار في باب البلاغة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأعلم
خبر وبمن متعلقان بأعلم وفيها صلة من. (لَنُنَجِّيَنَّهُ
وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وننجينه فعل مضارع مبني على الفتح
وفاعله مستتر تقديره نحن وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء
وامرأته مستثنى وقد تقدم هذا وجملة كانت حالية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر
تقديره هي ومن الغابرين خبرها أي الباقين في العذاب.
(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أن زائدة بعد لما تفيد المهلة مع الترتيب في وقتين
متجاورين لا فاصل بينهما وقد تقدم نظيرها في يوسف وجملة سيء بهم لا محل لها وسيء
فعل ماض مبني للمجهول وبهم متعلقان بسيء ونائب الفاعل هو ضمير المصدر أي جاءته
المساءة والغم بسببهم على حد قوله :
يغضي حياء
ويغضى من مهابته
|
|
فما يكلّم
إلا حين يبتسم
|
وسيأتي تفصيل
لهذا في باب الفوائد. وضاق بهم عطف على سيء وذرعا تمييز محول عن الفاعل أي ضاق
ذرعه بهم ، ويحتمل أن نائب الفاعل ضمير يعود على لوط (وَقالُوا لا تَخَفْ
وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وإنا وإن واسمها
ومنجوك خبرها والكاف في موضع جر بالإضافة وعلى هذا تنصب وأهلك بفعل محذوف أي وننجي
أهلك ، وما بعده تقدم إعرابه. (إِنَّا مُنْزِلُونَ
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ان واسمها ومنزلون خبرها وعلى أهل هذه القرية متعلقان
بمنزلون ورجزا مفعول به لمنزلون لأنه اسم فاعل ومن السماء صفة لرجز وبما الباء
سببية وما مصدرية أي بسبب فسقهم ، وكان واسمها وجملة يفسقون خبرها. (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً
بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وتركنا
فعل وفاعل ومنها متعلقان بتركنا أو هو المفعول الثاني لها وآية مفعولها الاول
وبينة صفة لأن «ترك» اختلف فيها النحاة فمنهم من جعلها تتعدى الى واحد ومنهم من جعلها
بمعنى صير فإلى مفعولين وهو اختيار ابن مالك وأنشد :
وربيته حتى
إذا ما تركته
|
|
أخا القوم
واستغنى عن المسح ساربه
|
ولقوم متعلقان
ببينة وجملة يعقلون صفة لقوم.
البلاغة :
فن الاشارة :
في قوله «ان
فيها لوطا» فن الاشارة وقد تقدم ذكره كثيرا في هذا الكتاب فليس المراد إخبارهم
بكون لوط في القرية وانما هو جدال في شأنه لأنهم ذكروا أن أهلها سيهلكون بسبب
امعانهم في الظلم فاعترض عليهم بأن فيها من هو بريء الساحة من الذنب لم يجترح ذنبا
ولم يقترف إثما ولم يشارك قومه فيما هم ممعنون فيه من غي وارتكاس وفي هذا كله أيضا
إشارة الى أن من واجب الإنسان المؤمن أن يتحزن لأخيه وأن يسارع الى رد الحيف عنه
ويتشمر للدفع عنه وهذا من بليغ الاشارة وخفيها.
الفوائد :
نائب الفاعل :
ينوب عن الفاعل
بعد حذفه واحد من أربعة :
١ ـ المفعول به
نحو «وغيض الماء وقضي الأمر».
٢ ـ المجرور
بحرف الجر نحو «ولما سقط في أيديهم» شريطة أن لا يكون حرف الجر للتعليل فلا يقال
وقف لك ولا من أجلك ويقال في إعرابه انه مجرور لفظا بحرف الجر مرفوع محلا على أنه
نائب فاعل ، غير انه إذا كان مؤنثا لا يؤنث فعله بل يبقى مذكرا فلا يقال ذهبت
بفاطمة بل ذهب بفاطمة.
٣ ـ الظرف
المتصرف المختص نحو مشي يوم كامل وصيم رمضان ، والمراد بالظرف المتصرف ما يصح
الإسناد اليه كيوم وليلة
ودهر وشهر وغير المتصرف ما لا يصح الاسناد اليه كحيث وعند ، والمراد
بالمختص أن يكون مفيدا غير مبهم ويكون مختصا بالوصف نحو جلس مجلس مفيد أو بالاضافة
نحو سهرت ليلة القدر أو بالعلمية نحو صيم رمضان فلا تنوب عن الفاعل الظروف المبهمة
نحو زمان ووقت ومكان غير مضافة.
٤ ـ المصدر
المتصرف المختص نحو «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» فنفخة نائب الفاعل وهو مصدر
متصرف يصح الإسناد إليه ومختص لكونه موصوفا ويمتنع سير سير لعدم الفائدة ، وقد
ينوب عن الفاعل في المصدر المتصرف المختص ومنه قول الفرزدق :
يغضي حياء
ويغضى من مهابته
|
|
فما يكلّم
إلا حين يبتسم
|
فيكون المعنى
يغضي الإغضاء المعهود وهو إغضاء الإجلال من مهابته فنائب الفاعل ضمير الإغضاء
المفهوم من يغضي ، ولا يجوز أن يكون من مهابته في موضع الرفع على أنه نائب الفاعل
لأن حرف الجر هنا للتعليل فهو في محل نصب على أنه مفعول من أجله ، ومن أمثلته أيضا
قول طرفة بن العبد البكري :
فيا لك من ذي
حاجة حيل دونها
|
|
وما كل ما
يهوى امرؤ هو نائله
|
فيكون المعنى
حيل الحول المعهود ، ولا يصح أن يكون الظرف لأنه غير متصرف.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٤٠))
اللغة :
(وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا وفي المصباح : «عثا يعثو وعثي يعثى من باب
قال وتعب أفسد فهو عاث» وفي القاموس : «وعثا كرمى وسعى ورضي عثيّا وعثيّا وعثيانا
، وعثا يعثو عثوّا أفسد».
(الرَّجْفَةُ) : الزلزلة الشديدة وفي الأساس : «ورجفت الأرض «فأخذتهم
الرجفة» «يوم ترجف الأرض والجبال» ورجف الشجر وأرجفته الريح ورجف البعير تحت الرحل
والمطي تحت رحالها رواجف ورجّف ، وجاءنا شيخ ترجف عظامه. ومن المجاز : خرجوا
يسترجفون الأرض نجدة وارتجفت بهم دفتا الشرق والغرب وأرجفوا في المدينة بكذا إذا
أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصيح عندهم وهذا من أراجيف
الغواة والإرجاف مقدمة الكون وتقول : إذا وقعت المخاويف ، كثرت الأراجيف».
(حاصِباً) : ريحا عاصفة فيها حصباء وفي المختار : «عصفت الريح
اشتدت وبابه ضرب».
الاعراب :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ) الواو عاطفة والى مدين متعلقان بمحذوف معطوف على أرسلنا
في قصة نوح أي وأرسلنا الى مدين شعيبا وأخاهم مفعول به وشعيبا بدل أو عطف بيان
والفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف
الى ياء المتكلم المحذوفة وقد مر حكم المنادى المضاف الى ياء المتكلم واعبدوا الله
فعل أمر وفاعل ومفعول به وارجوا عطف على اعبدوا واليوم مفعول به والآخر صفة لليوم.
(وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا
الناهية والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بتعثوا ومفسدين حال. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به ، فأخذتهم
الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ماض ومفعول به مقدم والرجفة فاعل مؤخر فأصبحوا
عطف على فأخذتهم والواو اسم أصبح وفي دارهم متعلقان بجاثمين وجاثمين خبر
أصبحوا. (وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) الواو عاطفة وعادا مفعول به لفعل محذوف معطوف على ما
قبله أي وأهلكنا عادا ، وثمودا عطف على عادا بالصرف وتركه والواو عاطفة وقد حرف
تحقيق وتبين فعل ماض وفاعل مستتر تقديره إهلاكهم وقدره بعضهم آيات بينات تتعظون
بها وتتفكرون فيها ومن مساكنهم متعلقان بتبين أي من جهة مساكنهم إذا عرجتم بها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) الواو عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان
فاعل وأعمالهم مفعول به فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم والواو حالية
وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومستبصرين خبرها أي والحال أنهم كانوا متمكنين
من النظر والاستبصار ولكنهم أصموا آذانهم وأغشوا عيونهم عن الحق ورؤية معالمه.
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) وقارون معطوف على عاد ، وفرعون وهامان عطف عليه وقدم
قارون لقرابته من موسى أي أهلكناهم جميعا والواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف
تحقيق وجاءهم فعل ومفعول به مقدم وموسى فاعل وبالبينات متعلقان بجاءهم فاستكبروا
عطف على جاءهم وفي الأرض متعلقان باستكبروا والواو حالية وما نافية وكانوا كان
واسمها وسابقين خبرها أي أنهم لجوا في طغيانهم ولكنهم لم يكونوا فائتين فأدركهم
عذابنا. (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصيرهم فقد أخذنا كلا
منهم بذنبه. وكلّا مفعول مقدم
لأخذنا وأخذنا فعل وفاعل ، فمنهم الفاء عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ
مؤخر وهي نكرة موصوفة وأرسلنا صفة وعليه متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول أرسلنا. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة أخذته
الصيحة صفة ، ومنهم من خسفنا به الأرض : عطف على سابقتها وكذلك ومنهم من أغرقنا. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان الله كان واسمها واللام لام
الجحود ويظلمهم منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود والواو حالية ولكن مخففة
مهملة وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم وجملة يظلمون خبر كانوا.
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
(٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما
يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))
اللغة :
(الْعَنْكَبُوتِ) : دويّبة معروفة تنسج من لعابها خيوطا وتصيد بذلك
النسيج طعامها والجمع عناكب وعنكبوتات والعنكب ذكرها
والجمع عناكب وعناكيب والعنكبة والعنكباة والعكنباة أنثاها والجمع عناكب
وعناكيب ، وقال علماء التصريف «والعنكبوت معروف ونونه أصليه والواو والتاء مزيدتان
بدليل قولهم في الجمع عناكب وفي التصغير عنيكيب ويذكر ويؤنث وهذا مطرد في أسماء
الأجناس» وقال ابن يعيش في شرح المفصل «ومن ذلك فعللوت قالوا عنكبوت وتخربوت ولم
يأت صفة فالعنكبوت معروفة وهي دويبة تنسج لها بيوتا من خيوط واهية والتخربوت
الناقة الفارهة والواو والتاء في آخرهما زائدتان زيدا في آخر الرباعي كما زيدا في
آخر الثلاثي من نحو ملكوت ورهبوت» وسيأتي البحث عن التشبيه المتعلق ببيت العنكبوت
في باب البلاغة.
الاعراب :
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها واعتمدها راجيا
نفعها وشفاعتها كحال العنكبوت كما سيأتي في باب البلاغة. ومثل مبتدأ والذين مضاف
اليه وجملة اتخذوا صلة وهو فعل وفاعل ومن دون الله حال وأولياء مفعول به وكمثل خبر
وقد تقدم نظيره ، العنكبوت مضاف اليه وجملة اتخذت بيتا حالية.
(لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو
محذوف تقديره لما عبدوها. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجملة تعليل لما قبله وان واسمها وجملة يعلم خبرها وما
اسم موصول مفعول يعلم وجملة يدعون صلة والعائد محذوف أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم
أحوالهم والمراد بالتعليل التوكيد لما ضربه من مثل ومن دونه حال ومن شيء متعلقان
بيدعون ويجوز أن تكون ما نافية ومن شيء مفعول يدعون على أن من زائدة لسبقها
بالنفي وجملة ما يدعون في محل نصب مفعول يعلم وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم
خبر ثان. وقال بعضهم :«ما استفهامية أو نافية أو موصولة ومن للتبعيض أو مزيدة
للتوكيد ، وقيل ان هذه الجملة على إضمار القول أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء
يدعون من دونه». (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والأمثال بدل وجملة نضربها
للناس خبر ويجوز أن يكون الأمثال خبرا وجملة نضربها حال يكون أو خبرا ثانيا ،
والواو حالية وما نافية ويعقلها فعل مضارع ومفعول به وإلا أداة حصر والعالمون فاعل
يعقلها وسيأتي بحث الأمثال في باب البلاغة.
(خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف للشروع في تسلية المؤمنين بعد أن خامرهم
اليأس من إيمان الكفار. وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والباء
للملابسة وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن
المؤخر وللمؤمنين صفة لآية.
البلاغة :
في قوله «وإن
أوهن البيوت لبيت العنكبوت» فن التمثيل وقد تقدمت نماذج مختارة منه وبعضهم يجعله
ضربا من ضروب الاستعارة ويمثل له بقول امرئ القيس :
وما ذرفت
عيناك إلا لتضربي
|
|
بسهميك في
أعشار قلب مقتّل
|
فمثّل عينيها
بسهمي الميسر يعني المعلّى وله سبعة أنصباء ، والرقيب وله ثلاثة أنصباء فصار جميع
أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها ، ومثّل قلبه بأعشار الجزور فتمت له
جهات الاستعارة والتمثيل. وفي الآية مثّل ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه
من دون الله بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة وهو نسج العنكبوت ، أي كما
صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فقد صح أن دينهم أضعف الأديان وأوهنها.
ومن جيد
التمثيل قول عمر بن أبي ربيعة وكانوا يسمون شعره «الفستق المقشر» :
أيها المنكح
الثريا سهيلا
|
|
عمّرك الله
كيف يلتقيان
|
هي شامية إذا
ما استهلت
|
|
وسهيل إذا
استقل يماني
|
يعني الثريا
بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر.
وكانت نهاية في
الحسن والكمال ، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف وكان غاية في القبح والدمامة ، فمثّل
بينهما وبين سمييهما ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة لأن سهيلا اليماني
قبيح لا دميم.
وعليه ورد قول
المتنبي أيضا من قصيدة يذكر فيها خروج شبيب الخارجي ومخالفته كافورا :
برغم شبيب
فارق السيف كفه
|
|
وكانا على
العلات يصطحبان
|
كأن رقاب
الناس قالت لسيفه
|
|
رفيقك قيسي
وأنت يماني
|
فإن شبيبا
الخارجي الذي خرج على كافور الاخشيدي وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها كان من
قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب ، وأخبار ذلك مشهورة والسيف الذي يقال له
يماني في نسبته الى اليمن ، ومراد المتنبي أن شبيبا لما قتل وفارق كفه السيف فكأن
الناس قالوا لسيفه : أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه.
التمثيل في رأي
عبد القاهر :
وسبب آخر يذكره
عبد القاهر مبينا به روعة التمثيل ويراه محيطا بأطراف الباب وذلك ان لتصور الشبه
من الشيء في غير جنسه وشكله بابا آخر من الظرف واللطف ومذهبا من مذاهب الاحساس لا
يخفى موضعه من العقل وإذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان
أشد كانت الى النفوس أعجب ، وكانت النفوس لها أطرب والتمثيل أخص شيء بهذا الشأن.
قال عبد القاهر
: «وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين
المشرق والمغرب وهو يريك المعاني الممثلة شبها في الاشخاص الماثلة ، وينطق لك
الأخرس ، ويعطيك البيان من الأعجم ، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين
الأضداد ، ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا» ونكتفي الآن بهذا القدر على أن نعود إلى
هذا البحث في موطن آخر من هذا الكتاب.
(اتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا
وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
(٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))
الاعراب :
(اتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) كلام مستأنف مسوق للحث على تلاوة الكتاب وتدبر منطوياته
والعمل بأحكامه ، وإقامة الصلاة المكتوبة المؤداة بالجماعة لتوحيد الكلمة وتصفية
النفس من أدران الشوائب ، وأتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر
تقديره أنت أي يا محمد والخطاب له ليشمل كل فرد من أفراد أمته وما مفعول به وجملة
أوحي صلة وإليك متعلقان بأوحي
ومن الكتاب حال وأقم فعل أمر معطوف على أتل والفاعل مستتر تقديره أنت أيضا
والصلاة مفعول به. (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ
يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) الجملة تعليل للأمر بإقامة الصلاة ، وان واسمها وجملة
تنهى عن الفحشاء والمنكر خبرها والواو استئنافية واللام لام الابتداء وذكر الله
مبتدأ وأكبر خبر والله الواو وعاطفة والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعله مستتر
تقديره هو وما مفعول به وجملة تصنعون صلة. (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان إرشاد أهل الكتاب
وكيفية مجادلتهم ، ولا ناهية وتجادلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل
وأهل الكتاب مفعول به وإلا أداة حصر وبالتي متعلقان بتجادلوا وموصوف الموصول محذوف
أي بالمجادلة التي ، وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة التي وإلا أداة استثناء
والذين استثناء من الجنس وفي المعنى وجهان أوردهما أبو البقاء قال : «أحدهما إلا
الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالحسنى بل بالغلظة لأنهم يغلظون لكم فيكون مستثنى
من التي هي أحسن لا من الجدل والثاني لا تجادلوهم البتة بل حكّموا فيهم السيف لفرط
عنادهم».
(وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الواو عاطفة وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة آمنا مقول القول وبالذي متعلقان
بآمنا وجملة أنزل صلة وإلينا متعلقان بأنزل وأنزل إليكم عطف على أنزل إلينا ففي
الكلام حذف الموصول الاسمي أي والذي أنزل إليكم وإلهنا الواو عاطفة وإلهنا مبتدأ
وإلهكم عطف على إلهنا وواحد خبر ونحن مبتدأ وله متعلقان بمسلمون
ومسلمون خبر نحن وفي هذا القول منتهى المناصحة والنصفة والاقناع.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلنا ،
وأنزلنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وهو فعل
وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول به ثان وجملة يؤمنون به خبر الذين. (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما
يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) الواو عاطفة ومن هؤلاء خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة
يؤمن به صلة وهذا من قبيل الاخبار بالمغيبات وهي إحدى ميزات القرآن الكريم والواو
حالية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به وإلا أداة حصر
والكافرون فاعل يجحد. (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) كلام مستأنف للشروع في إيراد الدليل على إعجاز القرآن ،
وما نافية وكنت كان واسمها وجملة تتلو خبرها وفاعل تتلو مستتر تقديره أنت ومن قبله
حال لأنه كان صفة لكتاب ويجوز تعليقه بتتلو ومن حرف جر زائد وكتاب مجرور بمن لفظا
منصوب محلا على أنه مفعول تتلو والواو حرف عطف ولا نافية وتخطه فعل مضارع معطوف
على تتلو وبيمينك متعلقان بتخطه وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وقد تضمن معنى الجواب
لشرط محذوف أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط ، ولارتاب اللام واقعة في
جواب إذن وارتاب المبطلون فعل ماض وفاعل.
(بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل إضراب عن ارتيابهم أي ليس فيه ما يدعو الى الارتياب
فيه وهو محفوظ في الصدور وهو مبتدأ وآيات خبر وبينات صفة لآيات وفي صدور
متعلقان بمحذوف خبر ثان لهو أي هو مثبت محفوظ في صدورهم والذين مضاف اليه
وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا. (وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) تقدم اعراب نظيرها قريبا.
البلاغة :
الاطناب :
في قوله «ولا
تخطه بيمينك» إطناب لا بد منه فذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط فيه
زيادة في التصوير واستحضار لنفي كونه كاتبا ، وقد قدمنا أن الاطناب يرد حقيقة
ومجازا ، وهذا من النوع الاول ومثله قولهم : رأيته بعيني وقبضته بيدي ، ووطئته
بقدمي ، وذقته بفمي ، وكل هذا يظنه الظان المبتدئ والسطحي انه من قبيل الزيادة
والفضول وانه لا حاجة اليه ويقول : إن الرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون
إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس الأمر كما
توهم بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله ويعز الوصول اليه وهو كثير في القرآن
الكريم وقد تقدم بعضه وسيأتي الكثير منه أيضا.
الفوائد :
١ ـ أثارت
دائرة المعارف إشكالا في قوله تعالى : «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه
بيمينك إذن لارتاب المبطلون» فتقول : «إنها تدل على أنه تعلم القراءة في الكبر أي
بعد نزول القرآن وإن كان التعبير غامضا أيضا» وليس التعبير غامضا ولكن التخريج
الذي خرجته دائرة المعارف الاسلامية فاسد من أساسه ، إذ أن لفظ
الآية صريح كل الصراحة في الدلالة على أن أهل مكة عرفوا عن النبي قبل نزول
الوحي أنه لم يكن يتلو كتابا ولا يكتب بيمينه ولو أنه كان كذلك إذن لارتاب
المبطلون بأن يذكروا للناس انه كان يخلو الى نفسه فيكتب القرآن ويعده ثم يخرج
للناس فيتلوه عليهم ، ولم تقف دائرة المعارف الاسلامية عند هذا الحد فأوردت آية
الفرقان وهي «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» وواضح أن
مفهوم هذه الآية لا يدل على شيء مما تخرصت به دائرة المعارف الاسلامية إذ أنها تدل
في بساطة تامة على أن كفار قريش كانوا يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب
ما يملى عليه من أساطير الأولين وليس كل ما يدعي الكفار صوابا بل هو هجوم يقصد منه
تجريح القرآن وإضعاف شأنه ويدل على مغالطة دائرة المعارف الاسلامية انها تغافلت
الآية السابقة إذ يقول تعالى : «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه
عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ، وقالوا أساطير الأولين» ... الآية وقد
أوردنا حملة فقهاء الشرق والغرب على أبي الوليد الباجي لزعمه أنه عليه السلام كتب
يوم الحديبية.
٢ ـ كيف تمّ
تدوين القرآن :
ورد في كتاب
الإتقان للسيوطي عن زيد بن ثابت قال «قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن
جمع في شيء» وعن زيد ابن ثابت أيضا قال : كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع»
قال الخطابي : «إنما يجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان
يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله
الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بعهده
الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على بد الصديق بمشورة عمر».
وأخرج مسلم في
صحيحه من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكتبوا عني
شيئا غير القرآن» وعلق السيوطي على هذا الحديث بقوله : «لا ينا في ذلك لأن الكلام
في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور».
وقال الحارث
المحاسبي في كتاب فهم السنن : «كتابة القرآن ليست بمحدثة فانه صلى الله عليه وسلم
كان يأمر أصحابه بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب فانما أمر
الصديق بنسخها من مكان الى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول
الله فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع جامع وربطها بخيط لا يضيع منها شيء».
قال السيوطي : «وقد
تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف وفي رواية والرقاع وفي أخرى
وقطع الأديم وفي أخرى الأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والاقتاب والعسب».
جمع عسيب وهو
جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض ، واللخاف جمع لخفة وهي
الحجارة الرقاق ، وقال الخطابي : صفائح الحجارة ، والرقاع جمع رقعة وقد تكون من
جلد أو ورق أو كاغد ، والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبصير ليركب عليه.
وروى البخاري
في تفسيره في ذلك رواية له : «قال علي عليه السلام أن رسول الله أوصاني إذا واريته
في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف
الإبل» والذي نراه ونستخلصه من مجموع هذه الأقوال أن النبي كان يبيح للمسلمين
كتابة القرآن لمن كان يستطيع الكتابة منهم وانه كان يأمر كتابه بتدوينه ولكن
التدوين لم يكن وفق نظام مقرر بحيث يقطع الى أن النبي خلف القرآن كله مدونا مرتب
السور مجموعا.
ولما قبض
الرسول بدأ التفكير في جمع المصحف ، وفي البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال : أرسل
إليّ أبو بكر عقب مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر :
ـ إن عمر أتاني
فقال إن القتل قد استحر بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع
القرآن ، فقال زيد لعمر :
ـ كيف تفعل ما
لم يفعله رسول الله؟ قال عمر :
ـ هذا والله
خير.
فلم يزل
يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، قال أبو بكر :
ـ إنك رجل «شاب
عاقل» لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد :
فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع
القرآن.
قلت : فلم يزل
أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح
له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال
حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره «لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص» الى آخر براءة.
وواضح من هذا
أن أبا بكر وعمر وغيرهما خشوا وقد اندفع المسلمون في حروب الردة ثم في حروب الفتح
أن يهمل أمر القرآن وهو معجزة رسول الله الكبرى ودعامة الإسلام الأولى فاتفقوا على
جمعه من هذه الصحائف المتفرقة التي كان يكتبها عارفو الكتابة من الصحابة ومن صدور
الناس فكتب القرآن أو على الأصح نقل ما كان منه مكتوبا وأكمل بما كان محفوظا في
صدور الرجال.
وعلى الرغم من
كثرة النصوص التي نقلنا بعضها ، لا يزال هناك بعض الغموض يحيط بالطريقة التي
اتبعها زيد بن ثابت في جمع صحف القرآن ، فقد ذكر أنه كان يحفظ القرآن كله ، ومن
المرجح أن عددا من الصحابة كانوا يحفظون القرآن منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي
طالب وربما أبو بكر وعمر فلما ذا لم يجتمع هؤلاء ويتموا عملهم مستعينين بالصحف
التي أملاها النبي وبذاكرتهم؟ ويظهر لنا أن هذه الطريقة الطبيعية التي اتبعت حتى
تم لهم جمع المصحف بطريقة هادئة لا ارتجال فيها وهو ما عنته الآية الكريمة «إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ولما كان عهد عثمان بن عفان جد من المناسبات ما
دعا الى إعادة النظر في أمر هذه الصحف التي كتبها زيد بن ثابت.
روى البخاري عن
أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية
وأذربيجان مع أهل العراق
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا
فأرسل عثمان الى حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أرسلي إلينا هذه الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة الى عثمان
فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن
هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم
وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة وأرسل عثمان الى كل أفق
بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد :«ففقدت
آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف وقد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها
فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وهي «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله
عليه» فألحقناها مع سورتها في المصحف.
ترتيب المصحف :
أما بصدد ترتيب
المصحف فيقول السيوطي : «الإجماع والنصوص على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في
ذلك ، وذلك أن رسول الله كان يدل على مكان كل آية في سورتها ويؤيد هذا الرأي قول
عثمان بن أبي العاص : «كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره
ثم صوبه ثم قال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة :
«إن الله يأمر بالعدل
والإحسان وإيتاء ذي القربى» الى آخرها وقد التزم عثمان في تدوين المصحف ما
علم أنه رأي رسول الله في ترتيب الآيات.
وأما ترتيب
السور فهو متروك لاجتهاد المسلمين ولكننا نثبت رواية عن ابن عباس : روى ابن عباس
قال : قلت لعثمان ما حملكم على أن عدتم الى الأنفال وهي من المثاني والى براءة وهي
من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها
في السبع الطوال؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة
ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات
في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت
براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول
الله ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرئت بينهما ولم أكتب سطر بسم الله
الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.
وفي كتاب
الإتقان طائفة هامة جدا من الترتيبات حسب أسباب النزول وفيما يلي الترتيب التاريخي
كما رواه ابن عباس.
«السور المكية»
١ ـ اقرأ ، ٢ ـ
ن ، ٣ ـ المزمل ، ٤ ـ المدثر ، ٥ ـ تبت ، ٦ ـ الشمس ، ٧ ـ الأعلى ، ٨ ـ الليل ، ٩
ـ الفجر ، ١٠ ـ الضحى ، ١١ ـ ألم نشرح ، ١٢ ـ العصر ، ١٣ ـ العاديات ، ١٤ ـ الكوثر
، ١٥ ـ التكاثر ، ١٦ ـ الماعون ، ١٧ ـ الكافرون ، ١٨ ـ الفيل ،
١٩ ـ الفلق ، ٢٠ ـ الناس ، ٢١ ـ الإخلاص ، ٢٢ ـ النجم ، ٢٣ ـ عبس ، ٢٤ ـ القدر
، ٢٥ ـ الضحى ، ٢٦ ـ البروج ، ٢٧ ـ التين ، ٢٨ ـ قريش ، ٢٩ ـ القارعة ، ٣٠ ـ القيامة
، ٣١ ـ الهمزة ، ٣٢ ـ المرسلات ، ٣٣ ـ ق ، ٣٤ ـ البلد ، ٣٥ ـ الطارق ، ٣٦ ـ الساعة
، ٣٧ ـ ص ، ٣٨ ـ الأعراف ، ٣٩ ـ الجن ، ٤٠ ـ يس ، ٤١ ـ الفرقان ، ٤٢ ـ الملائكة ،
٤٣ ـ مريم ، ٤٤ ـ طه ، ٤٥ ـ الواقعة ، ٤٦ ـ الشعراء ، ٤٧ ـ النمل ، ٤٨ ـ القصص ،
٤٩ ـ بني إسرائيل ، ٥٠ ـ يونس ، ٥١ ـ هود ، ٥٢ ـ يوسف ، ٥٣ ـ الحجر ، ٥٤ ـ الانعام
، ٥٥ ـ الصافات ، ٥٦ ـ لقمان ، ٥٧ ـ سبأ ، ٥٨ ـ الزمر ، ٥٩ ـ المؤمنون ، ٦٠ ـ السجدة
، ٦١ ـ الشورى ، ٦٢ ـ الزخرف ، ٦٣ ـ الدخان ، ٦٤ ـ الجاثية ، ٦٥ ـ الأحقاف ، ٦٦ ـ الذاريات
، ٦٧ ـ الغاشية ، ٦٨ ـ الكهف ، ٦٩ ـ النحل ، ٧٠ ـ نوح ، ٧١ ـ ابراهيم ، ٧٢ ـ الأنبياء
، ٧٣ ـ المؤمنون ، ٧٤ ـ السجدة ، ٧٥ ـ الطور ، ٧٦ ـ تبارك ، ٧٧ ـ الحاقة ، ٧٨ ـ المعارج
، ٧٩ ـ النبأ ، ٨٠ ـ النازعات ، ٨١ ـ الانفطار ، ٨٢ ـ الانشقاق ، ٨٣ ـ الروم ، ٨٤
ـ العنكبوت ، ٨٥ ـ المطففين.
«السور المدينة»
٨٦ ـ البقرة ،
٨٧ ـ الأنفال ، ٨٨ ـ آل عمران ، ٨٩ ـ الأحزاب ، ٩٠ ـ الممتحنة ، ٩١ ـ النساء ، ٩٢
ـ الزلزلة ، ٩٣ ـ الحديد ، ٩٤ ـ القتال ، ٩٥ ـ الرعد ، ٩٦ ـ الرحمن ، ٩٧ ـ الإنسان
، ٩٨ ـ الطلاق ، ٩٩ ـ البينة ، ١٠٠ ـ الحشر ، ١٠١ ـ النصر ، ١٠٢ ـ النور ، ١٠٣ ـ الحج
، ١٠٤ ـ المنافقون ،
١٠٥ ـ المجادلة ، ١٠٦ ـ الحجرات ، ١٠٧ ـ التحريم ، ١٠٨ ـ الجمعة ، ١٠٩ ـ التغابن
، ١١٠ ـ الصف ، ١١١ ـ الفتح ، ١١٢ ـ المائدة ، ١١٣ ـ براءة.
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا
أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))
الاعراب :
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف لتقرير نوع آخر من أنواع لجاجهم ومكابرتهم
، وقالوا فعل ماض والواو فاعل يعود على كفار مكة ولو لا حرف تحضيض بمنزلة هلا
وأنزل
فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآيات نائب فاعل ومن ربه صفة
لآيات أو متعلقان بأنزل. (قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إنما كافة ومكفوفة والآيات مبتدأ وعند الله ظرف متعلق
بمحذوف هو الخبر أي ينزلها كيف يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا ، وإنما الواو
عاطفة أو حالية وإنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري والواو عاطفة على
محذوف مقدر يقتضيه المقام أي أقصّر محمد ولم يكفهم ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفهم
فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وأن وما بعدها فاعل يكفهم وان واسمها وجملة
أنزلنا عليك الكتاب خبر أن وجملة يتلى عليهم حالية. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة
ورحمة اسمها المؤخر وذكرى عطف على رحمة ولقوم صفة لذكرى وجملة يؤمنون صفة لقوم. (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور
بالباء لفظا فاعل كفى المرفوع محلا وبيني ظرف متعلق بشهيدا وبينكم عطف على شهيدا
وشهيدا تمييز وجملة يعلم حال وما مفعول يعلم وفي السموات صلة والأرض عطف على
السموات.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالباطل متعلقان بآمنوا
وكفروا بالله عطف على آمنوا بالباطل وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ أو ضمير فصل والخاسرون
خبر هم أو خبر أولئك والجملة خبر الذين.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) كلام
مستأنف مسوق للتعجب أو الاستهزاء بهم ويستعجلونك فعل مضارع مرفوع بثبوت
النون والواو فاعل والكاف مفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك ولو لا حرف امتناع
لوجود وأجل مبتدأ ومسمى صفته والخبر محذوف واللام رابطة للجواب وجاءهم العذاب فعل
ومفعول به وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويأتينهم فعل مضارع
مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره هو والهاء
مفعول به وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر وجملة هم لا
يشعرون حالية.
(يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يستعجلونك بالعذاب تقدم اعرابها وكرر الجملة للتعجب من
حماقاتهم لأن من هدد بشيء التمس أسباب الوقاية منه أما هؤلاء فيستعجلونه. والواو
حالية وان واسمها واللام المزحلقة ومحيطة خبر إن وبالكافرين متعلقان بمحيطة ، وعبر
بالحال وأراد الاستقبال أي ستحيط بهم وذلك للدلالة على التحقق والمبالغة ، ويجوز
أن يراد بجهنم أسبابها المؤدية إليها فلا تأويل في قوله محيطة.
(يَوْمَ يَغْشاهُمُ
الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الظرف متعلق بمحيطة وجملة يغشاهم العذاب في محل جر
بإضافة الظرف إليها ومن فوقهم حال ومن تحت أرجلهم عطف على من فوقهم.
(وَيَقُولُ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ويقول فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو
يعود على الموكل بالعذاب وقرئ ونقول وعلى كل حال الجملة معطوفة على يغشاهم وجملة
ذوقوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وما مفعول به على تقدير مضاف أي جزاء ما وجملة
كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم.
البلاغة :
خص سبحانه
وتعالى نار جهنم بالجانبين الأعلى والأسفل ولم يذكر اليمين ولا الشمال ولا الخلف
ولا الأمام لإظهار الفرق بينها وبين نار الدنيا التي تحيط بجميع الجوانب ، فنار
جهنم لا تطفأ بالدوس عليها ولكنها تنزل من فوق.
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))
الاعراب :
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف لياء المتكلم والذين صفة
لعبادي وجملة آمنوا صلة وإن واسمها وخبرها والفاء الفصيحة أي إن ضاق بكم موضع
فإياي فاعبدوا ، وإياي مفعول لفعل محذوف تقديره اعبدوا إياي فاستغنى بأحد الفعلين
عن الفعل الثاني ، فاعبدوني الفاء عاطفة على الفاء الأولى وجملة اعبدوني مفسرة وهي
فعل أمر وفاعل ومفعول به وهي الياء المحذوفة. (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) كل نفس مبتدأ وذائقة الموت خبرها والمراد مرارته ومشقته
ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإلينا متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع
مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف
على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم ونبوئنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله
بنون التوكيد الثقلية والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وجملة القسم خبر
الذين ، ولك أن تنصب الذين بفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور بعده وهو نبوئنهم ومن
الجنة حال وغرفا مفعول به ثان لأن بوأ يتعدى لاثنين وقد مرّ نظيره في يونس والحج
وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لغرفا وخالدين فيها حال ونعم فعل ماض جامد لانشاء
المدح وأجر العاملين فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي أجرهم.
(الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين نعت للعاملين ولك أن تقطعه فترفعه على أنه خبر
لمبتدأ محذوف أو تنصبه على أنه منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح وجملة
صبروا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون
والواو فاعله والصبر هنا عام يشمل الهجرة ومفارقة الوطن وأذى المشركين وغير ذلك
مما استهدف له المسلمون في مستهل أمرهم وتجري أحكامه على كل من امتحنته نوائب
الأيام وحدثان الزمان.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ
وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
(٦٤))
اللغة :
(يَقْدِرُ) : يضيق ويقتر ، ولهذا الفعل خصائص عجيبة فهو يتوزع على
طائفة من المعاني سنتنا ولها فيما يلي :يقال : قدر الرزق : قسمه وباب نصر وضرب
وقدر وقدّر على عياله ضيق وقتر ، قال في الأساس : «وقدر عليه رزقه وقدّر :قتر»
وقدر يقدر من باب علم قدرا وقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدارا وقدارة وقدورة
وقدورا وقدرانا وقدارا وقدرا على الشيء قوي عليه ، وقدر يقدر من باب ضرب قدرا
الأمر دبره وقدر الشيء بالشيء فاسه به وجعله على مقداره وقدر يقدر ويقدر من بابي
نصر وجلس الله عظمه ، وقدر الرجل فكر في تسوية أمره وتدبيره وقدر يقدر من باب تعب
قدرا بفتحتين قصرت عنقه ، وقدر على الشيء اقتدر.
(الْحَيَوانُ) : مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا كما
قال سيبويه ، سمي ما فيه حياة حيوانا ، قالوا : اشتر الموتان
ولا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ولا تشتر الرقيق الدواب ، وفي بناء
الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة
والاضطراب كالنزوان واللهبان وما أشبه ذلك والحياة حركة كما أن الموت سكون فمجيئه
على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ولذلك اختيرت على الحياة في
هذا المقام المقتضى للمبالغة.
الاعراب :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) كلام مستأنف مسوق لتقرير التوكل على الله وعدم الجزع ،
وكأين تقدم إعرابها مفصلا وهي هنا مبتدأ ومن دابة تمييزها المجرور بمن وجمل لا
تحمل رزقها صفة لدابة وقوله : (اللهُ يَرْزُقُها
وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هو الخبر والله مبتدأ وجملة يرزقها خبر الله وإياكم عطف
على الهاء والواو عاطفة وهو مبتدأ والسميع خبر أول والعليم خبر ثان. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم
فعل ماض والتاء فاعل والهاء مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في
محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر من والجملة في محل نصب مفعول ثان
لسألتهم المعلقة للاستفهام وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض واللام
واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال
وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة
والله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ والخبر محذوف تقديره الله خلق السموات
والفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام في محل نصب حال ويؤفكون فعل مضارع مبني
للمجهول والواو نائب فاعل. (اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) الله مبتدأ وجملة يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط
وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر فعل مضارع معطوف على يبسط وله متعلقان بيقدر
والضمير راجع لمن وان واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها
لَيَقُولُنَّ اللهُ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول وبل حرف إضراب
وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعقلون خبر.
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) الواو استئنافية وما نافية وهذه مبتدأ والحياة بدل
والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر ولهو خبر هذه ولعب عطف على لهو. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة وان واسمها والآخرة نعت للدار واللام
المزحلقة وهي مبتدأ والحيوان خبر والجملة خبر إن ولو شرطية وكان واسمها وجملة
يعلمون خبرها وجواب لو محذوف أي ما آثروا الحياة الدنيا.
(فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ
وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا
حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
الاعراب :
(فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف دل عليه ما وصفهم
وشرح من أمرهم هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد ولا يبعد أن تكون استئنافية
ليتطرق الى نمط آخر من عنادهم. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ركبوا في
محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الفلك متعلقان بركبوا وجملة دعوا الله لا محل لها
لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول به لمخلصين
لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ونجاهم فعل
وفاعل مستتر ومفعول به والى البر جار ومجرور متعلقان بنجاهم وإذا فجائية وهي مع
مدخولها جملة لا محل لها من الاعراب لأنها جواب لما وهم مبتدأ وجملة يشركون خبر
هم. (لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) اللام لام كي ويتمتعوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
لام كي وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة ما وليتمتعوا عطف على ليكفروا فهي
مثلها ويجوز أن تكون اللام فيهما لام العاقبة والمآل ويحتمل أن تكون اللام فيهما
لام الأمر وقرى وليتمتعوا
بسكون اللام أمر تهديد وسيأتي بحث واف عن معنى الأمر في باب البلاغة كما
سيأتي بحث الخليل بن أحمد عن أقسام اللام في اللغة العربية في باب الفوائد والفاء
الفصيحة وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل. (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير لأن همزة
الاستفهام الانكاري إذا دخلت على النفي أفادت التقرير لأن الكلام يصير إيجابا ،
والواو عاطفة على محذوف تقدير لقد جعلنا آمنين قارين في مكة ولم يعلموا ذلك ولم
حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وان وما بعدها سدت مسد
مفعولي يروا وان واسمها وجملة جعلنا خبرها ومفعول جعلنا الأول محذوف أي جعلنا
بلدهم مكة وحرما مفعول به ثان وآمنا صفة والواو حالية ويتخطف فعل مضارع مبني للمجهول
والناس نائب فاعل ومن حولهم حال.
(أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف
وبالباطل متعلقان بيؤمنون وبنعمة الله يكفرون معطوف على ما قبله. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام متضمن معنى النفي في
محل رفع مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى على الله صلة وكذبا مفعول
به وأو حرف عطف وكذب عطف على افترى وبالحق متعلقان بكذب ولما ظرفية حينية أو رابطة
وجاءه فعل وفاعل مستتر ومفعول به. (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم
خبر ليس المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى
وسيأتي معنى التقرير في باب البلاغة. (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) والذين مبتدأ وجملة جاهدوا صلة ومفعول جاهدوا محذوف
وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة وفينا متعلقان بجاهدوا في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا
خالصا واللام موطئة للقسم وجملة نهدينهم خبر الذين سبلنا مفعول به ثان أو منصوب
بنزع الخافض وان واسمها ومع المحسنين ظرف متعلق بمحذوف خبر إن.
البلاغة :
١ ـ معنى الأمر
:
قال الزمخشري :
«فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله بالكفر وبأن يفعل العصاة ما شاءوا وهو ناه عن ذلك
ومتوعد عليه؟ قلت :هو مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط الى غاية ،
ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي الى ضرر
جسيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت
عليه (أي غضبت) وقلت : أنت وشأنك وافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر وكيف
والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسّر ولكنك كأنك تقول له : فإذا قد
أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي
الناصح وفساد رأيك».
٢ ـ الاستفهام
التقريري :
قلنا إن همزة
الإنكار إذا دخلت على النفي صار إيجابا فيرجع
الى معنى التقرير ومنه في الشعر قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :
ألستم خير من
ركب المطايا
|
|
وأندى
العالمين بطون راح
|
قال بعضهم لو
كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل وقيل لما بلغ جرير هذا البيت في
القصيدة كان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا فرحا وقال هكذا مدحنا وأعطاه مائة من
الإبل.
٣ ـ الحذف :
تقدم القول في
حذف المفعول به للإيجاز وهو هنا في قوله «والذين جاهدوا فينا» فقد أطلق المجاهدة
ولم يقيدها بمفعول لتتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطان
وهذا أحسن من تقدير مفعول به خاص كما فعل الكثيرون من المفسرين ليتناول جميع
الطاعات والمزدلفات.
الفوائد :
ذكر اللامات
للخليل بن أحمد الفراهيدي :
ذكر الخليل بن
أحمد شيخ سيبويه في مصنف صغير له أن عدد اللامات إحدى وأربعون لاما ونوردها مع
إلماع يسير إلى أحكامها كما أوردها الخليل ثم نعلق على ما بعض نراه جديرا بالتعليق
منها :
١ ـ لام القسم
وهي مفتوحة وبعدها نون مشددة وذلك مثل قوله عز وجل «لترون الجحيم ثم لترونها عين
اليقين ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم».
٢ ـ لام جواب
القسم وهي تشبه لام القسم وتقوم مقامها.
٣ ـ لام الأمر
وهي لا تأتي أبدا إلا بعد واو أو فاء مثل قوله تعالى «فليعبدوا ربّ هذا البيت» «ولتأت
طائفة» وما أشبه ذلك فإن عدمت واو أو فاء كانت اللام مكسورة نحو قوله عز وجل : «لينفق
ذو سعة من سعته».
٤ ـ لام جواب
الأمر وهي تشبه لام الأمر ، وأنا لا أعرف إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل : «ولنحمل
خطاياكم» لا غير.
٥ ـ لام الوعد
وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها ، وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفين وهما في قوله
تعالى :«فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي».
٦ ـ لام الوعيد
وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها ، وأنا لا أعرف في القرآن إلا أربعة أحرف وهي في
قوله عز وجل : «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفّر» ومثلها : «فليضحكوا قليلا وليبكوا
كثيرا» لا غير.
٧ ـ لام
التوكيد وهي مفتوحة وقبلها نون مشددة لا تأتي إلا بعد إن وإنا وأ إنك وإنكم وإنهم
، وانهما ، وإنه ، وذلك مثل قوله تعالى «وإن الله لعليم حليم» و «إن الله لغفور
رحيم» و «إننا لفي شك» و «يقول أإنك لمن المصدقين» «وإنكم لتمرون عليهم مصبحين» «وإنه
لحب الخير لشديد» «إن هؤلاء لشرذمة قليلون».
٨ ـ لام العماد
وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الكيد أعني «وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم»
«وإن كادوا ليستفزونك» وما أشبه ذلك.
٩ ـ لام الجحد
وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي إلا بعد كان وما كنا وما كانوا أعني
بذلك الكون وذلك مثل قوله : «وما كان الله ليطلعكم على الغيب» «وما كانوا ليؤمنوا»
وما أشبه ذلك.
١٠ ـ لام كي
وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي أبدا إلا بعد فعل قد مضى وذلك مثل قوله
عز وجل : «ولتجري الفلك» وما أشبه ذلك.
١١ ـ لام إن
الخفيفة وهي مكسورة وتشبه لام كي وتقوم مقامها مثل قوله تعالى : «وأمرنا لنسلم لرب
العالمين» «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم» «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى».
١٢ ـ لام
الغاية وهي تشبه لام كي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله عز وجل «ليضلوا عن سبيلك».
١٣ ـ لام
الترجي وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» «لعلك باخع
نفسك» «لعله يذكّر أو يخشى».
١٤ ـ لام
التمني وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «يا ليتني كنت ترابا» «يا ليتنا نرد ولا
نكذب بآيات ربنا».
١٥ ـ لام
التحذير ، فلم أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل : «لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» لا غير ذلك.
١٦ ـ لام المدح
وهي مفتوحة ومن ذلك «لنعم دار المتقين».
١٧ ـ لام الذم
وهي مفتوحة أيضا ومن ذلك «لبئس المولى ولبئس العشير».
١٨ ـ لام كما
وهي مفتوحة وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله : «وإذا أخذ الله
ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» والمعنى كما آتيتكم.
١٩ ـ لام
المنقول وهي مفتوحة وذلك مثل قوله عز وجل : «يدعو لمن ضره أقرب من نفعه» «ولمن صبر
وغفر» والمعنى من يضره ومن يصبر.
٢٠ ـ لام
الجزاء وهي مفتوحة أبدا ولا تأتي إلا بعد لو ولو لا وذلك مثل قوله تعالى «ولو شئنا
لبعثنا» «ولو شئنا لرفعناه بها» وما أشبه ذلك.
٢١ ـ لام
الإيجاب وهي مفتوحة ولا تأتي أبدا إلا بعد إن الخفيفة وذلك مثل قوله تعالى : «وإن
كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا» «وإن كلّ لما جميع لدينا محضرون» وما أشبه ذلك.
٢٢ ـ لام
الشفاعة وهي مكسورة في ذاتها ، وأنا لا أعرف في
القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل «ليقض علينا ربك».
٢٣ ـ لام
الاستغاثة فهي لام الخفض الزائدة نحو : يا لزيد.
٢٤ ـ لام الجر
وهي مكسورة في ذاتها خافضة لغيرها وذلك مثل للمؤمنين للعالمين وما أشبه ذلك.
٢٥ ـ لام الصفة
وهي مفتوحة في ذاتها خافضة لغيرها ومثل ذلك : ولنا ولكم ولك وله وما أشبه ذلك
وإنما فتحت هذه اللام وكسرت لام الجر للفرق بين الضمير والظاهر.
٢٦ ـ لام الأصل
وهي ساكنة نحو : الحسنة ، السيئة ، والوالدات وما أشبه ذلك.
٢٧ ـ لام
المعرفة وهي ساكنة وزائدة وتكون للتعريف وذلك مثل الرجل والغلام والجارية
والمؤمنين والمتقين وما أشبه ذلك.
٢٨ ـ لام
التكثير وهي مفتوحة وهي لام أصلية وذلك مثل : أولئك ، أولئكم وأولات حمل وما أشبه
ذلك ، وإنما سميت لام التكثير لأنك تخاطب الواحد بلفظ الجمع.
٢٩ ـ لام
الابتداء وهي مفتوحة نحو «ولذكر الله أكبر» «لقالوا إنما سكرت أبصارنا» «لعمرك
إنهم لفي سكرتهم يعمهون».
٣٠ ـ لام
التفضيل وهي تشبه لام الابتداء وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى : «ولعبد مؤمن
خير من مشرك» ومثله : «لمسجد أسس على التقوى» وما أشبه ذلك.
٣١ ـ لام ليس
وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لا يعلمون» «لا يسمعون» «لا يألونكم خبالا» وما
أشبه ذلك.
٣٢ ـ لام النفي
وهي مفتوحة تشبه لام ليس وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى : «ولا أقول لكم عندي
خزائن الله ولا أعلم الغيب» «ولا أقول للذين تزدري أعينكم» والمعنى : ولا أقول
لكم.
٣٣ ـ لام غير
وهي مفتوحة وتعطف ما بعدها على ما قبلها وذلك مثل قوله تعالى «لا فارض ولا بكر
عوان بين ذلك» «لا شرقية ولا غربية» «لا ظليل ولا يغني من اللهب» وما أشبه ذلك.
٣٤ ـ لام
التبرئة وهي مفتوحة وتنصب النكرات نحو قوله تعالى «لا ريب فيه» «لا إكراه» «لا
تثريب» «لا جرم» وما أشبه ذلك.
٣٥ ـ لام الصلة
وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الجحد وذلك مثل قوله تعالى : «لا الشمس ينبغي لها أن
تدرك القمر ولا الليل سابق النهار» وما أشبه ذلك.
٣٦ ـ لام النهي
وهي مفتوحة في ذاتها جازمة لغيرها وذلك مثل قوله : «فلا يسرف في القتل»
٣٧ ـ «ولا تطرد
الذين يدعون ربهم» «ولا تتبع الهوى» وما أشبه ذلك.
٣٨ ـ لام
الدعاء وهي تشبه لام النهي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى : «ولا تحملنا ما لا
طاقة لنا به» «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا».
٣٩ ـ لام
الاستحقاق وهي مضمومة في آخر الكلام وذلك مثل ويل حيث وقعت. قال الخليل : «تمت
اللام والحمد لله رب العالمين».
ملاحظات :
١ ـ هذا ولم
يذكر في الشرح لام الإلحاق ولام الفصاحة وقد عدّها أولا.
٢ ـ عدّ «لا»
لاما وهذا خلاف ما درج عليه النحاة.
أما ابن هشام
فقد قسم اللام المفردة إلى ثلاثة أقسام : عاملة للجر ، وعاملة للجزم ، وغير عاملة
، وليس في القسمة أن تكون عاملة للنصب خلافا للكوفيين ، فالعاملة للجر مكسورة مع
كل ظاهر نحو لزيد ولعمرو إلا مع المستغاث المباشر لها فمفتوحة نحو يا لله ومفتوحة
مع كل مضمر نحو لنا ولكم ولهم إلا مع ياء المتكلم فمكسورة.
وللام الجارة
اثنان وعشرون معنى ذكرها في كتاب المغني فليرجع إليه من شاء.
ثم تكلم عن
اللام العاملة للجزم ، وأما اللام غير العاملة فسبع :
لام الابتداء ،
واللام الزائدة ، ولام الجواب واللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب
بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط ومن ثم تسمى اللام الموطئة للقسم ، ولام أل
، واللام اللاحقة لأسماء الاشارة للدلالة على البعد ، ولام التعجب غير الجارة
والتفاصيل في كتاب المغني.
سورة الرّوم
مكيّة وآياتها ستون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) غُلِبَتِ
الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
(٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))
اللغة :
(الرُّومُ) : سيأتي ما يقوله التاريخ عنهم في باب الفوائد.
(بِضْعِ سِنِينَ) : تقدم معنى البضع في سورة يوسف واختلاف العلماء في
عدده ، واختار الأصمعي أنه من الثلاث الى العشر.
الاعراب :
(الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) ألم تقدم القول في إعرابها ، وغلبت فعل ماض مبني
للمجهول والروم نائب فاعل. (فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) في أدنى متعلقان بغلبت والواو عاطفة وهم مبتدأ ومن بعد
غلبهم الجار والمجرور متعلقان بقوله سيغلبون وغلبهم مصدر الفعل المبني للمجهول وقد
أضيف الى مفعوله وجملة سيغلبون خبر المبتدأ. (فِي بِضْعِ سِنِينَ
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) في بضع سنين متعلقان بقوله سيغلبون أيضا وسيأتي سر
إبهام عدد السنين في باب البلاغة ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة
كأنه جواب لسؤال مقدر وهو أي فائدة في ذكر قوله من بعد غلبهم لأن قوله سيغلبون لا
يكون إلا بعد الغلبة؟ فأجيب بأن فائدته اظهار تمام القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله
تعالى وحده ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر وقبل وبعد ظرفان بنيا على الضم
لقطعهما عن الاضافة لقظا لا معنى ثم جرّا بمن وبقيا على ضمهما أي من قبل غلب الروم
ومن بعده (وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) الواو عاطفة ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بيفرح
والتنوين عوض عن جملة كما تقدم أي يوم تغلب الروم وبنصر الله متعلقان بيفرح أيضا
وجملة ينصر من يشاء مستأنفة لاظهار صدق المؤمنين ومن اسم موصول مفعول لينصر وجملة
يشاء صلة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والرحيم خبر ثان.
(وَعْدَ اللهِ لا
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت وهي قوله
سيغلبون ويفرح المؤمنون وجملة لا يخلف الله وعده إما مفسرة مقررة
لمعنى المصدر فلا محل لها وإما حالية من المصدر والواو حالية ولكن واسمها
وجملة لا يعملون خبرها. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) جملة يعلمون قيل هي مستأنفة وهو قول سليم لا اعتراض
عليه وقال الزمخشري : «بدل من قوله يعلمون وفي هذا الابدال من النكتة أنه أبدله
منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو
الجهل وبين وجود الجهل الذي لا يتجاوز الدنيا ، وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد
أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم
بملاذها وباطنها وحقيقتها أنها مجاز الى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال
الصالحة» وقول الزمخشري أقعد بالفصاحة وأملى بالبلاغة ولكن ابدال المثبت من المنفي
لا يصح كما تنص عليه قواعد النحو. وهم مبتدأ وعن الآخرة متعلقان بغافلون وهم تأكيد
لهم الأولى وغافلون خبرهم الأولى ويجوز أن تكون هم الثانية مبتدأ ثانيا خبره
غافلون والجملة خبر هم الأولى.
البلاغة :
١ ـ الإبهام :
في قوله «في
بضع سنين» إبهام وفائدة التفخيم وإدخال الرهبة في قلوب المشركين في كل وقت
والاشعار بأن زهوهم بأنفسهم واعتدادهم بقوتهم ليس إلا حين يطول أو يقصر ولكنه آيل
الى الانتهاء ومفض الى العاقبة الحتمية وهي الارتداد والانتكاس ، وقد تقدم ذكر
الإبهام كثيرا.
٢ ـ التنكير :
وذلك في قوله «يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا» وفائدته تقليل معلومهم ، وتقليله يقربه من النفي حتى
يطابق المبدل منه وهو قوله «لا يعلمون» وهذا ما يرجح البالية ولله در الزمخشري ما
أبعد غوره ، وأصقل ذهنه ، وعن الحسن انه قال في تلاوته هذه الآية : بلغ من صدق
أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم رديء وفي
هذا تعليل للعلم الذي بلغ أبعد آماده فغاص في الدأماء ، وحلق في أجواز الفضاء ،
وفطن الى أبعد السرائر ، ومكنون الضمائر ، ولكنه حين يعرض لما استسر من أسرار
الكون كالمبدأ والمعاد والمنتهى وقف ضئيلا لا يبدىء ولا يعيد.
٣ ـ التعطف :
في قوله : «وهم
عن الآخرة هم غافلون» فن التعطف وهو إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام أو
البيت من الشعر فقد ردد «هم» للمبالغة في تأكيد غفلتهم عن الآخرة.
الفوائد :
ما يقوله
التاريخ :
(الرُّومُ) اسم أطلقه العرب على البيزنطبيين ويطلق اليوم على
المسيحيين الشرقيين الملكيين من كاثوليك وأرثوذكس ، والامبراطورية الرومانية
الشرقية عرفت بالبيزنطية نسبة الى بيزنطية اسم القسطنطينية
القديم سمى العرب سكانها الروم ، وأول أباطرة البيزنطين قسم أبوه ثيودوسيوس
الامبراطورية الى غربية وعاصمتها روما والى شرقية وعاصمتها القسطنطينية. وسبب نزول
الآية أنه كان بين فارس والروم قتال ، فاحتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى فغلبت
فارس الروم فبلغ الخبر مكة فشق على النبي والمسلمين لأن فارس مجوس لا كتاب لهم
والروم أهل الكتاب وفرح المشركون وشمتوا وقالوا للمسلمين انكم أهل كتاب والنصارى
أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من
الروم ولنظهرن عليكم فنزلت فقال لهم أبو بكر : لا يقرر الله أعينكم فو الله لتظهرن
الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف : كذبت ، فقال له الصديق : أنت
أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه ، والمناحبة بالحاء
المهملة المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين
فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما
بين الثلاث الى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلاها مائة قلوص الى تسع
سنين فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر أتاه ولزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من
مكة فأقم لي كفيلا فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبيّ أن يخرج الى
أحد أتاه عبد الله فلزمه وقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا
ثم خرج الى أحد ثم رجع الى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه إياها النبي حين
بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم فأخذ
أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به الى رسول الله فقال له تصدق به
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا
السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))
الاعراب :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر
يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتفكروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل
وفي أنفسهم متعلقان بيتفكروا وما نافية وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به
والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها وقيل هي في محل نصب معلقة للتفكر فتكون في
محل نصب على إسقاط الخافض وإلا أداة حصر وبالحق حال أي مصحوبة بالحق قال الزمخشري
: «والباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر واشترى الفرس
بسرجه ولجامه تريد
اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام غير منفك عنهما وكذلك المعنى ما خلقها إلا
وهي ملتبسة بالحق مقترنة به» وأجل عطف على الحق ومسمى نعت لأجل. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) الواو حالية وإن واسمها ومن الناس صفة لكثيرا وبلقاء
ربهم متعلقان بكافرون واللام المزحلقة وكافرون خبر إن. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على
مقدر يقتضيه السياق أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا ، ولم حرف نفي وقلب وجزم
ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا فينظروا الفاء
عاطفة على يسيروا ولك أن تجعل الفاء سببية ويسيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
الفاء وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة اسمها والذين مضاف اليه
ومن قبلهم صلة الذين.
(كانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) جملة كانوا إما تفسيرية لا محل لها ولك أن تجعلها تابعة
على البدلية ، وكان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز وأثاروا
الأرض عطف على كانوا وعمروها عطف أيضا وهو فعل وفاعل ومفعول به وأكثر نعت لمصدر
محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم ومما متعلقان بأكثر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها
بمصدر مجرور بمن (وَجاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجاءتهم رسلهم فعل ومفعول بهم وفاعل وبالبينات متعلقان
بجاءتهم والفاء عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويظلمهم فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود
والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف وقد تقدم تقريره ولكن الواو حالية
ولكن حرف استدراك مهمل وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وأنفسهم مفعول مقدم
ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) ثم الفاء عاطفة للتراخي والشروع في بيان هلاكهم في
الآخرة بعد هلاكهم في الدنيا وكان فعل ماض ناقص وعاقبة خبر كان المقدم والذين مضاف
اليه وجملة أساءوا صلة والسوءى نعت لمصدر أساءوا.
(أَنْ كَذَّبُوا
بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أن وما في حيزها اسم كان المؤخر ولك أن تجعل السوءى هي
الاسم وأن وما في حيزها نصب بإسقاط الخافض أو هي بدل من السوءى وفيما يلي نص اعراب
أبي البقاء وهو أوضح الأعاريب : «قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى
يقرأ بالرفع والنصب فمن رفع جعله اسم كان وفي الخبر وجهان أحدهما السوءى وأن كذبوا
في موضع نصب مفعولا له أي لأن كذبوا أو بأن كذبوا أو في موضع جر بتقدير الجار على
قول الخليل والثاني أن كذبوا أي كان آخر أمرهم التكذيب والسوءى على هذا صفة مصدر ،
ومن نصب جعلها خبر كان وفي الاسم وجهان أحدهما السوءى والآخر أن كذبوا على ما تقدم
ويجوز أن نجعل أن كذبوا بدلا من السوءى أو خبر مبتدأ محذوف والسوءى فعلى من الأسوأ
وهي صفة لمصدر محذوف والتقدير أساء الإساءة السوءى.
وان جعلتها
اسما أو خبرا كان التقدير الفعلة السوءى أو العقوبة السوءى.
وكانوا كان
واسمها وبها متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.
(اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ
شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ
(١٦))
اللغة :
(يُبْلِسُ) : أبلس فلان فهو مبلس إذا سكت عن يأس ويقال :أبلس الرجل
انقطعت حجته فسكت فهو لازم لا يتعدى ، وفي الكشاف :«الإبلاس أن يبقى ساكنا يائسا
متحيرا يقال ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس التي
لا ترغو» وفي القاموس :«وأبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي» فقول صاحب المنجد
انه يقال «أبلسه» غلط فظيع وقد علل علساء التصريف قراءة يبلس بالبناء للمفعول بأن
القائم مقام الفاعل مصدر الفعل ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه إذ الأصل
يبلس إبلاس المجرمين.
(رَوْضَةٍ) : الروضة : كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة وفي
أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون بيضة النعامة. وفي الأساس واللسان : «بأرضه
روضة وروضات ورياض وروّض الغيث الأرض وأراض المكان واستراض أي كثرت رياضه ومن
المجاز :أنا عندك في روضة وغدير ، ومجلسك روضة من رياض الجنة».
(يُحْبَرُونَ) : يسرون يقال حبره إذا سره سرورا تهلّل له وجهه فيه
أثره ، وفي الأساس : «وحبره الله سره «فهم في روضة يحبرون» وهو محبور : مسرور» قال
ابن الرومي يصف العنب :
ثم جلسنا
مجلس المحبور
|
|
على حفافي
جدول مسجور
|
وفي الكشاف : «ثم
اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسار ، فعن مجاهد رضي الله عنه : يكرمون
، وعن قتادة : ينعمون ، وعن ابن كيسان : يحلون ، وعن أبي بكر بن عياش : التيجان
على رؤوسهم ، وعن وكيع : السماع في الجنة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر
الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابي فقال : يا رسول الله هل في الجنة
سماع؟ قال : نعم يا أعرابي إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية
يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة ، قال الراوي :
فسألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح. وروي أن في الجنة لأشجارا عليها
أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك
الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعتها أهل الدنيا لماتوا طربا» هذا ويأتي
فصل ممتع عن السماع وأثره في باب الفوائد.
الاعراب :
(اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يبدأ الخلق خبره ، ثم يعيده
عطف على يبدأ. (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) الظرف متعلق بيبلس وجملة تقوم في محل
جر بإضافة الظرف إليها والساعة فاعل تقوم ويبلس المجرمون فعل وفاعل. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ
شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص
مجزوم بلم ولهم خبر يكن المقدم ومن شركائهم حال لأنه كان صفة لشفعاء في الأصل
وتقدم عليه وشفعاء اسم يكن وكانوا كان واسمها وبشركائهم متعلقان بكافرين وكافرين
خبر كانوا. (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) الظرف متعلق بيتفرقون وقد تقدم اعراب نظيرها ويومئذ
تأكيد لفظي للظرف. (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة
آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة والفاء رابطة لما في الموصول من
رائحة الشرط وهم مبتدأ وفي روضة متعلقان بيحبرون وجملة يحبرون خبر هم والجملة خبر
الذين.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ
مُحْضَرُونَ) عطف على الجملة السابقة ونظيرها في الاعراب ومعنى
محضرون أي لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.
الفوائد :
الغناء في
الجنة وغناء الحور العين :
روي عن علي رضي
الله عنه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لمجتمعا للحور
العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن
الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له».
وعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : «إن في الجنة نهرا طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات
يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها ، قلنا يا
أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال : إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على
الرب عز وجل».
لمحة عن تاريخ
الغناء :
لم يكن الغناء
في غابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان ساذجا ، وأول
من جعل له قواعد وضوابط ـ على ما قيل ـ بطليموس وهو فيلسوف رياضي اشتغل بالرياضيات
والموسيقى وإليه ينسب أول سلم موسيقي ، وكان أول من غنى في العرب من النساء قينتان
لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما :
ألا يا قين
ويحك قم وهينم
|
|
لعل الله
يصبحنا غماما
|
وأول من غنى من
الرجال في اليمن ذو جدن وهو قيل من أقيال حمير وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم
ساذجا كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد
ذكر الغناء في شعرهم ، قال طرفة بن العبد :
إذا نحن قلنا
: اسمعينا انبرت لنا
|
|
على رسلها
مطروفة لم تردّد
|
أي لم تتكلف ،
وقوله مطروفة هي التي أصيب طرفها بشيء أي كأنها أصيب طرفها لفتور نظرها ويروى
مطلوقة ومطروقة.
قال ابن رشيق
القيرواني في كتاب العمدة : «غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه : النصب والسناد
والهزج ، فأما النصب فغناء الركبان والفتيان قال اسحق بن ابراهيم وهو الذي يقال له
المرائي وهو الغناء الجنابي اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل
فنسب إليه ومنه كان أصل الحداء وكله يخرج من أصل الطويل في العروض ، وأما السناد
فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات وهو على ست طرائق : الثقيل الأول
وخفيفه والثقيل الثاني وخفيفه والرمل وخفيفه ، وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه
ويمشى بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم.
قال اسحق : هذا
كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس
والروم فغنوا الغناء المجزّا المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعا بالعيدان
والطنابير والمعازف والمزامير.
وقال الجاحظ :
العرب تقطّع الألحان الموزونة على الاشعار الموزونة والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض
وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون.
ولم يزالوا على
طريقتهم هذه حتى جاء الإسلام فكانوا إذ ذاك لا يطربون إلا بالقراءة والشعر الحماسي
لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح ، فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم
الرفه والترف فمالوا الى الدعة ، ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من
الفرس والروم فوقعوا الى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعا
بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها
أشعارهم.
تأثير الغناء :
قال الغزالي في
الإحياء : «لله سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى انها لتؤثر فيها تأثيرا
عجيبا ، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج
من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم
معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل : من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود
وأوتاره ، فهو فاسد المزاج ، ليس له علاج ، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره
مشاهد في الصبي في مهده فانه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه
الى الإصغاء إليه ، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال
الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما
يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت
المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمدّ أعناقها ، وتصغي الى الحادي ناصبة
آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من
شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها» ثم ذكر الغزالي دليلا على ما قاله
قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسيرة ثلاثة أيام في ليلة
واحدة وبعد ذلك قال : «فإن تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو
ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية ، زائد في غلظ الطبع وكثافته
على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات
الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان
النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز مطلقا أن يحكم فيه بإباحة ولا
تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والاشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب».
ومن غريب ما
ينقل في تأثير الغناء : خرج مخارق المغني مع بعض أصحابه الى بعض المتنزّهات فنظر
الى فوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسئول ضنّ بها وسنحت ظباء
بالقرب منه فقال لصاحب القوس : أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك خدود هذه الظباء أتدفع
إليّ هذه القوس؟ قال نعم ، فاندفع يغني :
ماذا تقول
الظباء
|
|
أفرقة أم
لقاء؟
|
أم عهدها
بسليمى
|
|
وفي البيان
شفاء
|
مرت بنا
سانحات
|
|
وقد دنا
الإمساء
|
فما أحارت
جوابا
|
|
وطال فيها
الغناء
|
فعطفت الظباء
راجعة إليه حتى وفقت بالقرب منه مستشرفة تنظر اليه مصغية الى صوته فعجب من حضر من
رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت
راجعة على سننها.
قصة المليحة
صاحبة الخمار الأسود :
وقصة المليحة
صاحبة الخمار الأسود مشهورة وهي من خير ما يتمثّل به ويرويها الاصمعي فيقول : «قدم
أعرابي بعدل من خمر العراق فباعها كلها إلا السّود فشكا ذلك الى الدارمي (وهو
مسكين الدارمي الشاعر) وكان قد تنسّك وترك الشعر ولزم المسجد فقال :
ما تجعل لي؟
على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك.
قال ما شئت.
قال : فعمد الدارمي الى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد الى مثل شأنه الاول وقال شعرا
ورفعه الى صديق له من المغنين فغنّى به وكان الشعر :
قل للمليحة
في الخمار الأسود
|
|
ماذا فعلت
بناسك متعبّد
|
قد كان شمر
للصلاة ثيابه
|
|
حتى خطرت له
بباب المسجد
|
ردّي عليه
صلاته وصيامه
|
|
لا تقتليه
بحق دين محمد
|
فشاع هذا
الغناء في المدينة وقالوا : قد رجع الدارمي وتعشّق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق
مليحة في المدينة إلا اشترت خمارا أسود وباع التاجر جميع ما كان معه فجعل اخوان
الدارمي من النساك يمرون فيقون : ما صنعت فيقول ستعلمون بعد حين فلما أنفد العراقي
جميع ما كان معه رجع الدارمي الى نسكه ولبس ثيابه.
هذا ولو أردنا
استقصاء ما ورد في هذا الباب من التأثير العجيب لطال بنا البحث ولكنا اكتفينا بما
أوردناه لئلا نخرج عن الموضوع.
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢))
الاعراب :
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفاء الفصيحة كأنها أبانت وأفصحت عما تقدم من عظمته في
الخلق وابتداء وقيام الساعة انتهاء فإذا تبين لك ذلك فسبح الله واحمده على كل حال
لأن التسبيح والتقديس هما الذريعتان الى النجاة ، وقيل أشار الى الصلوات الخمس في
هذه الآية لما روي عن ابن عباس عند ما سئل : «هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال
: نعم وتلا هذه الآية» ففي تمسون صلاتا المغرب والعشاء وفي تصبحون صلاة الفجر وفي
العشي صلاة العصر وفي تظهرون صلاة الظهر أي تدخلون في الظهيرة. وسبحان الله مفعول
مطلق لفعل محذوف وحين تمسون ظرف متعلق بسبحان وجملة
تمسون في محل جر بإضافة الظرف إليها وتمسون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل
لأنها تامة ومعناها تدخلون في المساء وسيأتي بحث التمام في باب الفوائد وحين
تصبحون عطف على حين تمسون. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الواو اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه نكتة
أوردها الرازي وستأتي في باب الفوائد ، وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي السموات
حال والأرض عطف على السموات والجملة معترضة وعشيا عطف على حين تمسون وكذلك قوله
وحين تظهرون. (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) الجملة مستأنفة أو حالية ويخرج فعل مضارع وفاعله مستتر
تقديره هو يعود على الله والحي مفعول به ومن الميت متعلقان بيخرج أي كالانسان من
النطفة والطائر من البيضة ويخرج الميت من الحي عطف على ما سبق أي كالنطفة من
الإنسان والبيضة من الطائر.
(وَيُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الواو عاطفة ويحيي الأرض فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول
به وبعد موتها الظرف متعلق بيحيي وإحياؤها إخراج النبات منها وكذلك نعت لمصدر
محذوف أي مثل ذلك الإخراج تخرجون ، وتخرجون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب
فاعل وقرئ بالبناء للمعلوم فالواو فاعل.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ
مؤخر ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقكم وثم حرف عطف للتراخي وإذا فجائية وأنتم
مبتدأ وبشر خبر وجملة تنتشرون حال وسيأتي وقوع إذا الفجائية بعد ثم في باب
الفوائد. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها وقد ذكر سبحانه
ست آيات من آياته ، وأزواجا مفعول خلق واللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد اللام وإليها متعلقان بتسكنوا. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وجعل عطف على خلق وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني
لجعل ومودة هو المفعول الأول ورحمة عطف على مودة وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك
خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون
صفة لقوم.
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) عطف أيضا على ما تقدم وستأتي حكمة الاختلاف بين الألسنة
والألوان في باب الفوائد.
الفوائد :
١ ـ معنى التمام
في أفعال النقصان عند سيبويه والجمهور هو دلالتها على الحدث والزمان ، ومعنى
النقصان عندهم هو سلب الدلالة على الحدث والتجرد للدلالة على الزمان ، وذهب ابن
مالك وابن هشام الى أن معنى التمام هو الاستغناء بالمرفوع عن المنصوب قال ابن مالك
في الخلاصة : «وذو تمام ما برفع يكتفي» ومعنى النقصان هو عدم الاستغناء بالمرفوع
عن المنصوب ، وقد أورد ابن مالك عشرة أمور ليبطل بها مذهب الجمهور وهي مذكورة في
شرحه على التسهيل فليرجع إليها هناك من يجب الاستقصاء ، إذا عرفت هذا فاعلم أن لـ
«أصبح وأمسى وأضحى» ثلاثة معان :
١ ـ أن تقرن
مضمون الجملة بالأوقات الخاصة التي هي الصباح والمساء والضحى على طريقة كان.
٢ ـ أن تفيد
معنى الدخول في هذه الأوقات كأظهر وأعتم وهي في هذا الوجه تكون تامة يسكت على
مرفوعها قال حميد الأرقط :
فأصبحوا
والنوى عالي معرسهم
|
|
وليس كلّ
النوى تلقي المساكين
|
وقبله :
باتوا وجلتنا
الصهباء بينهم
|
|
كأن أظفارهم
فيها السكاكين
|
والجلة فقة
التمر تتخذ من سعف النخل وليفه ولذلك وصفها بالصهبة يقول : لما أصبحوا ظهر على
معرسهم وهو موضع نزولهم نوى التمر وعلاه لكثرته على انهم لحاجتهم لم يلقوا إلا
بعضه.
٣ ـ أن تكون
بمعنى صار كقولك : أصبح زيد غنيا وأمسى فقيرا تريد أنه صار كذلك مع قطع النظر عن
وقت مخصوص ، قال عدي بن زيد :
ثم أضحوا
كأنهم ورق جفّ
|
|
فألوت به
الصبا والدّبور
|
٢ ـ الاعتراض :
تقدم القول في
الجمل المعترضة والواو الاعتراضية وقوله
«وله الحمد في السموات والأرض» الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه
لنكتة أوردها الرازي وهي أن تسبيحهم لنفعهم لا له فعليهم أن يحمدوه إذا سبحوه لأجل
نعمة هدايتهم الى التوفيق.
٣ ـ الفاء قبل
إذا الفجائية :
تقدم القول في
إذا الفجائية ونقول هنا إن الغالب فيها أن تقع بعد الفاء لأنها تقتضي التعقيب ووجه
وقوعها مع ثم بالنسبة الى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوار التي قصها
علينا في مواضع أخر من كوننا نطفة ثم مضغة ثم عظما مجردا ثم عظما مكسوا لحما فاجأ
البشرية بالانتشار أي انهم انما يصيرون بشرا بعد أطوار كثيرة.
٤ ـ الحكمة في
اختلاف الألوان والألسنة :
خالف سبحانه
بين الألوان والألسنة حتى ما تكاد تسمع منطقين متفقين في جرس واحد ولا جهارة واحدة
وحتى ما تكاد ترى صورتين متشابهتين تمام التشابه في الألوان والسمات والقسمات
لحصول التعارف وإلا فلو كانت على مسلاخ واحد وبلون واحد وتقاسيم وتقاطيع واحدة لحصل
الخلل والالتباس ولا نعدم التمييز بينها جميعا حتى أن التوأمين مع توافق موادهما
وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك محالة مهما
يتقاربا في وجوه الشبه.
(وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً
وَطَمَعاً
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ
إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ
لَهُ قانِتُونَ (٢٦))
الاعراب :
(وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم ومنامكم مبتدأ مؤخر
وبالليل متعلقان بمنامكم وابتغاؤكم عطف على منامكم ومن فضله متعلقان بابتغاؤكم.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام
المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً) من آياته خبر مقدم ويريكم مبتدأ مؤخر على أنه فعل مضارع
مؤول مع ان المصدرية المحذوفة والأصل أن يريكم وسيأتي المزيد من هذا المبحث الهام
في باب الفوائد ويريكم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله والكاف مفعول به أول
والبرق مفعول به ثان وخوفا وطمعا نصب على أنهما مفعول لأجله وقد اعترض على هذا
الاعراب بأن من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل ، والخوف والطمع
ليسا كذلك ، والجواب عن هذا الاعتراض يأتي من جهتين إما ان المفعولين فاعل في
المعنى لأنهم راءون فكأنه قيل يجعلكم رائين البرق
خوفا وطمعا والثاني أن يكون على تقدير حذف المضاف أي إراءة خوف وإراءة طمع
فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ويجوز أن يكونا حالين أي خائفين طامعين
وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وينزل عطف على يريكم ومن السماء جار ومجرور متعلقان
بينزل وماء مفعول به فيحيي عطف على ينزل وبه متعلقان بيحيي والأرض مفعول به وبعد
موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم إعرابه. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) عطف على ما تقدم. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن
معنى الشرط وجملة دعاكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ودعاكم فعل ماض وفاعل مستتر
ومفعول به ودعوة مفعول مطلق ومن الأرض متعلقان بدعاكم ، يقال دعوته من أسفل الوادي
فطلع إلي ، وإذا الفجائية وهي تقوم مقام الفاء في جواب الشرط وأنتم مبتدأ وجملة
تخرجون خبر. (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) له خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وكل
مبتدأ وله متعلقان بقانتون وقانتون خبر كل أي مطيعون طاعة انقياد.
البلاغة :
في قوله تعالى «ومن
آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله» فن اللف وقد تقدم بحثه كثيرا قال
الزمخشري : «هذا من باب اللف وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل
والنهار. إلا أنه فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين لأنهما
زمانان والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد ، ويجوز أن يراد
منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن وأشدّ
المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية» أقول ما ذكره الزمخشري مشكل
من جهة الصناعة النحوية لأنه إذا كان المعنى ما ذكره يكون النهار معمول ابتغاؤكم
وقد تقدم عليه وهو مصدر وذلك لا يجوز ثم يلزم العطف على معمولي عاملين فالتركيب لا
يسوغ.
وشجب ابن هشام
قول الزمخشري فقال : «قول الزمخشري ومن مناكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله
إنه من اللف والنشر وان المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، وهذا
يقتضي أن يكون النهار معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه وعطفه على معمول منامكم وهو
بالليل وهذا لا يجوز في الشعر فكيف في أفصح الكلام؟».
أقول : إن
الزمخشري لم يرد العمل الذي قاله ابن هشام بل مراده أن الليل مرتبط معنى بالمنام
والنهار مرتبط معنى بالابتغاء وبالليل خبر لمبتدأ محذوف والتقدير وذلك كائن بالليل
والنهار والجملة معترضة حقها التأخير.
الفوائد :
١ ـ شرط اتحاد
الفاعل في المفعول لأجله :
أشرنا في
الاعراب الى الاعتراض الموجه الى اعراب خوفا وطمعا مفعولا لهما والرد على الاعتراض
وشرط اتحاد الفاعل قاله المتأخرون
من النحاة وخالفهم ابن خروف فأجاز النصب مع اختلاف الفاعل محتجا بهذه الآية
قائلا إن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الخوف والطمع المخاطبون وأجاب عنه ابن
مالك في شرح التسهيل فقال : «معنى يريكم يجعلكم ترون ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل
الخوف والطمع».
ومن أمثلة حذف
أن وإنزال الفعل منزلة المصدر المثل المعروف «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وهذا
المثل يضرب لمن خبره خير من مرآه ، أول من قاله المنذر بن ماء السماء وكان يسمع
بمشقة بن خمرة المعيدي ويعجبه ما يبلغه عنه فلما رآه ، وكان كريه المنظر ، قال هذا
المثل فخير خبر للمصدر المنسبك من أن المضمرة في تسمع أي سماعك ، ومنه قول طرفة بن
العبد :
ألا أيهذا
الزاجري أحضر الوغى
|
|
وأن أشهد
اللّذات هل أنت مخلدي
|
وقد روى أحضر
بالنصب والرفع ووجه النصب بأن مضمرة ويؤيده وأن أشهد ، وقول الآخر :
وقالوا : ما
تشاء؟ فقلت ألهو
|
|
إلى الإصباح
آثر ذي أثير
|
وهذا البيت
لعروة بن الورد العبسي من جملة أبيات منها :
أرقت وصحبتي
بمضيق عمق
|
|
لبرق من
تهامة مستطير
|
سقوني الخمر
ثم تكنفوني
|
|
عداة الله من
كذب وزور
|
وقالوا ما تشاء
البيت ..
وأرقت : سهرت
والواو للمعية والمضيق المكان الضيق وعمق بكسر فسكون شجر ببلاد الحجاز وبضم ففتح
موضع منخفض عند مكة ولعله سكن هنا للوزن والبرق متعلق بأرقت أي سهرت في هذا الموضع
لأجل برق من تهامة جهة محبوبتي ويحتمل أن الواو حالية وحجتي مبتدأ خبره بمضيق عمق
وإذا كان أصحابه فيه فهو فيه فرجع الى الاول ومستطير : منتشر وتكنفوني أحاطوا بي
وعداة جمع عاد بمعنى عدو وقيل جمع عدو أي هم أعداء الله من أجل كذبهم وزورهم وهي
جملة اعتراضية ويحتمل أن عداة بدل من ضمير الفاعل أي أحاطوا بي وقالوا : ما الذي
تريده؟ فقلت ألهو أي هو أن ألهو فأن مقدرة معنى ان ولم ينتصب الفعل لفظا وقال
الجوهري في الصحاح : «يقال افعل هذا آثر ذي أثير أي أول كل شيء» فأشار الى أن آثر
نصب على الظرفية المجازية أو الحالية أي افعله حال كونه أول كل شيء يؤثر فهو أفعل
تفضيل بمعنى المفعول.
٢ ـ خاض
المعربون كثيرا في اعراب هذه الآية وقد لخص أبو البقاء أقوالهم جميعا في ثلاثة
نوردها فيما يلي بنص كلامه :«ومن آياته يريكم البرق» فيه ثلاثة أوجه أحدها أن من
آياته حال من البرق أي يريكم البرق كائنا من آياته إلا أن حق الواو أن تدخل هنا
على الفعل ولكن لما قدم الفعل وكانت من جملة المعطوف أولاها الواو وحسن ذلك أن
الجار والمجرور في حكم الظرف فهو كقوله : آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة ، والوجه
الثاني أن أن محذوفة أي ومن آياته أن يريكم وإذا حذفت أن في مثل هذا جاز رفع الفعل
والثالث أن يكون الموصوف محذوفا أي ومن آياته آية يريكم فيها البرق فحذف
الموصوف والعائد ويجوز أن يكون التقدير : ومن آياته شيء أو سحاب ويكون الفاعل ضمير
شيء المحذوف» والوجه الثاني هو الذي اخترناه وهو الظاهر والأبعد عن التكلف وهو
الموافق لاخواته التي ذكر فيها الحرف المصدري.
(وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ
لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي
مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))
الاعراب :
(وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يبدأ الخلق صلة
الذي والخلق في الأصل مصدر ولكنه إعادة الضمير في يعيده عليه بمعنى المخلوق فهو
استخدام وسيأتي بحث هذا الفن الرفيع في باب البلاغة وهو الواو حالية أو عاطفة وهو
مبتدأ وأهون خبره وعليه متعلقان بأهون وسيأتي السر في تذكير الضمير في قوله وهو مع
أن المراد به الاعادة كما سيأتي
معنى أهون عليه وسر تأخير الجار والمجرور وهو عليه. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والمثل مبتدأ مؤخر والأعلى
صفة وفي السموات حال والأرض عطف على السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم
خبر ثان.
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومعنى ضرب هنا جعل
ولكم في محل نصب مفعول ثان ومثلا هو المفعول الأول ومن أنفسكم صفة لمثلا أي كائنا
من أنفسكم فمن معناه الابتداء كأنه قال أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم.
(هَلْ لَكُمْ مِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) هل حرف استفهام ولكم خبر مقدم ومما حال من شركاء لأنه
في الأصل نعت نكرة فقدم عليها وجملة ملكت صلة وأيمانكم فاعل ملكت ومن حرف جر زائد
وشركاء مبتدأ مؤخر وفيما رزقناكم متعلقان بشركاء وما في مما ملكت بمعنى النوع
والتقدير هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم مستقرون لكم ،
فكائنون هو الوصف المتعلق به مما ملكت فلما قدم صار حالا ومستقرون هو الخبر الذي
تعلق به ولكم.
(فَأَنْتُمْ فِيهِ
سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الفاء واقعة في جواب الاستفهام وأنتم مبتدأ وفيه
متعلقان بسواء وسواء خبر وجملة تخافونهم خبر ثان لأنتم أو في موضع الحال من ضمير
الفاعل في سواء أي فتساووا خائنا بعضكم من بعض مشاركته له في المال ، وكخيفتكم نعت
لمصدر محذوف أي خيفة مثل خيفتكم والمصدر مضاف لفاعله وأنفسكم مفعول به للمصدر
وكذلك نعت لمصدر محذوف أيضا ونفصل الآيات فعل مضارع وفاعل
مستتر تقديره نحن والآيات مفعول به ولقوم متعلقان بنفصل وجملة يعقلون صفة لقوم.
(بَلِ اتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حرف إضراب وعطف واتبع عطف على طريق الالتفات والذين
فاعل اتبع وجملة ظلموا صلة الذين وأهواءهم مفعول به وبغير علم حال. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الفاء الفصيحة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة
يهدي خبر ومن مفعول يهدي وجملة أضل الله صلة والعائد محذوف أي أضله الله والواو
حرف عطف وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور لفظا مبتدأ مؤخر
محلا ويجوز أن تجعل ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها.
البلاغة :
١ ـ فن
الاستخدام :
في قوله «وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده» فن الاستخدام كما قررنا في الاعراب وهو فن دقيق غامض
المسلك وفيه قولان : الأول أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنين اشتراكا أصليا
متوسطة بين قرينتين أو متقدمة عليهما أو متأخرة عنهما يستخدم كل قرينة منهما في
معنى من معنيي تلك الكلمة المشتركة وهذا مذهب ابن مالك سواء كان الاستخدام بضمير
أو بغير ضمير ، قال الله تعالى «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت» فإن لفظة
كتاب تحتمل الأجل المحتوم والكتاب المكتوب وقد توسطت بين لفظي أجل ، ويمحو إذ
استخدمت أحد مفهوميها وهو الأجل بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو
المكتوب بقرينة يمحو.
والقول الثاني
انه اطلاق لفظ مشترك بين معنيين مطلقا فيريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم يعيد عليه
ضميرا يريد به المعنى الآخر أو يعيد عليه ضميرين يريد بأحدهما أحد المعنيين
وبالآخر المعنى الآخر بعد استعماله في معناه الثالث وهذا هو المذهب المشهور في
الاستخدام وهو طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه ومنه الآية التي نحن بصددها فقد أعاد
الضمير وهو قوله «وهو أهون عليه» على الخلق بمفهومه الآخر وهو المخلوق لا بمفهومه
الأول وهو المصدر ومنه قول البحتري :
فسقى الغضا
والساكنيه وان هم
|
|
شبوه بين
جوانحي وضلوعي
|
فقد أعاد ضمير
شبوه على الغضا بمفهومه الآخر وهو الشجر تكون ناره قوية وبها يضرب المثل فيقال جمر
الغضا مع أنه يريد مكانا معينا تنزل فيه محبوبته.
٢ ـ وفي هذه
الآية أيضا فن «المذهب الكلامي» وقيل ان أول من اخترعه الجاحظ وزعم أنه لا يوجد
منه شيء في القرآن الكريم وهو مشحون به وتعريفه انه احتجاج المتكلم على ما يريد
إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام ومنه نوع منطقي تستنتج فيه
النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة وقد ساق الرماني في إعجازه المترجم بالنكت
وفي تفسيره الجامع الكبير في الضرب الخامس من باب المبالغة من الاعجاز : إخراج
الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل للاحتجاج.
٣ ـ سر تذكير
الضمير :
تذكير الضمير :
تذكير الضمير
في قوله «وهو أهون» مع أنه عائد على الاعادة
باعتبار كونها ردا وارجاعا أو مراعاة للخبر وهو أهون قال الكرخي :«وذكر
الضمير فيه مع أنه راجع الى الاعادة المأخوذة من لفظ يعيده نظرا الى المعنى دون
اللفظ وهو رجعه أو رده كما نظر اليه في قوله :«لنحيي به بلدة ميتا» أي مكانا ميتا
أو تذكيره باعتبار الخبر.
٤ ـ تأخير
الصلة وتأخير الجار والمجرور وهو «عليه» مع أنه مقدم في قوله :«هو عليّ هين» لأن
المقصود مما نحن فيه هنا خلاف المقصود هناك فإنه اختصاص الله بالقدرة على إيلاد
الهم والعاقر ، وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه كيف والأمر مبني على ما
يعتقدونه في المشاهد من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى
، وهذا سؤال مشهور تعورف بينهم وهو انه كيف قال تعالى «وهو أهون عليه» والافعال
كلها بالنسبة الى قدرته تعالى متساوية في السهولة؟ وإيضاحه أن الأمر مبني على ما
ينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم من أن الاعادة للشيء أهون من ابتدائه لأن من
أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها فالإعادة محكوم عليها بزيادة
السهولة وهناك جواب آخر وهو أن تكون أهون ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى هين كقولهم
الله أكبر أي كبير.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))
اللغة :
(حِزْبٍ) : الحزب : الجماعة من الناس ، السلاح ، جند الرجل
وأصحابه الذين على رأيه ، النصيب ، القسم من القرآن أو غيره والجمع أحزاب وكل قوم
تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضا.
الاعراب :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم وحنيفا حال من فاعل أقم أو من مفعوله أو من
الدين. (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) مفعول به لفعل محذوف أي الزموا فطرة الله أي خلقته
وإنما أضمرناه على خطاب الجماعة لقوله فيما بعد منيبين اليه كما سيأتي وقيل هي
مصدر لفعل محذوف أي فطركم فطرة والتي صفة للفطرة وجملة فطر الناس صلة وعليها
متعلقان بفطر. (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) الجملة تعليل للأمر بلزوم فطرته ولا نافية للجنس وتبديل
اسمها المبني على الفتح ولخلق الله خبر. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبره والقيم صفة والواو حالية أو
استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) منيبين حال من فاعل الزموا المضمر كما أشرنا اليه آنفا
وهو أحسن من جعله حالا من فاعل أقم واتقوا الله عطف على الزموا المضمرة وكذلك قوله
وأقيموا الصلاة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية
والواو اسمها ومن المشركين خبرها. (مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) من الذين بدل من قوله من المشركين بإعادة العامل وجملة
فرقوا دينهم صلة وكانوا شيعا كان واسمها وخبرها. (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كل حزب مبتدأ وبما متعلقان بفرحون ولديهم الظرف متعلق
بمحذوف صلة للموصول وفرحون خبر كل والجملة مفسرة مقررة لما قبلها.
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))
اللغة :
(سُلْطاناً) : السلطان : الحجة تقول له سلطان مبين أي حجة والملك
وعبارة القاموس : «والسلطان الحجة وقدرة الملك وتضم لامه ، والوالي مؤنث لأنه جمع
سليط للدهن كأن يضيء الملك أو لأنه بمعنى الحجة وقد يذكر ذهابا الى معنى الرجل»
وفي الأساس : «وله
عليهم سلطان» ، «وما كان لي عليكم من سلطان» وله سلطان مبين :حجة وسنابك
سلطات : طوال قال الجعدي يصف فرسا :
مدلّا على
سلطات النسو
|
|
رشمّ السنابك
لم تقلب
|
وروّى ذباله
بالسليط وهو الزيت الجيد» وقال أبو البقاء :«والسلطان يذكر لأنه بمعنى الدليل
ويؤنث لأنه بمعنى الحجة وقيل هو جمع سليط كرغيف ورغفان» (يَقْنَطُونَ) : ييئسون من الرحمة وفي المصباح هو بفتح النون وكسرها
سبعيتان وبابه ضرب وتعب وفي القاموس : «قنط كنصر وضرب وحسب وكرم قنوطا وكفرح قنطا
وقناطة وكمنع وحسب وهاتان على الجمع بين اللغتين يئس فهو قنط كفرح وقنّطه تقنيطا
آيسه والقنط المنع وزبيب الصبي».
الاعراب :
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير طبائع الناس المتقلبة وترجحهم
بين الرجاء والقنوط ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مس في محل جر بإضافة
الظرف إليها والناس مفعول به مقدم وضر فاعل مؤخر وجملة دعوا ربهم لا محل لها لأنها
جواب شرط غير جازم وربهم مفعول به ومنيبين حال من فاعل دعوا واليه متعلقان
بمنيبين. (ثُمَّ إِذا
أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإذا شرطية وجملة أذاقهم
في محل جر بإضافة الظرف إليها ومنه حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة ورحمة مفعول
به ثان وإذا الفجائية
وهي رابطة لجواب إذا الأولى بشرطها فهي تخلف الفاء في الربط وفريق مبتدأ
ومنهم صفة وبربهم متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر.
(لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اللام للتعليل أو العاقبة والصيرورة وقيل هي لام الأمر
والمراد بالأمر التهديد والوعيد ويكفروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبما
متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة ، فتمتعوا الفاء عاطفة وتمتعوا فعل أمر التفت
فيه من الغيبة الى الخطاب للمبالغة في زجرهم والفاء واقعة في جواب الأمر وسوف حرف
استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أم حرف عطف منقطعة فهي بمعنى بل وأنزلنا فعل وفاعل
وعليهم متعلقان بأنزلنا وسلطانا مفعول به والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وجملة يتكلم
خبر وبما جار ومجرور متعلقان بيتكلم وجملة كانوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية وكان
واسمها وبه متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر كانوا.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) عطف على ما تقدم وجملة فرحوا بها لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم وجملة أذقنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) عطف أيضا وتصبهم فعل الشرط وسيئة فاعل والباء سببية وما
اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتصبهم وجملة قدمت لا محل لها
وإذا الفجائية وقد نابت عن الفاء في ربط الجواب بالشرط وهم مبتدأ وجملة يقنطون خبر
وجملة إذا هم يقنطون في محل جزم جواب الشرط. (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير والواو
عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع
مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وان واسمها وجملة يبسط الرزق
خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) تقدم إعراب نظائرها كثيرا.
البلاغة :
في قوله (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً
فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) مجاز عقلي كما تقول كتابه ناطق بكذا وهذا مما نطق به
القرآن ومعناه الدلالة والشهادة فهو يشهد بشركهم أو بالذي يشركون به.
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً
لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ
مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ
مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))
الاعراب :
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر تقديره إن عرفت أن
السيئة أصابتهم بما قدمت
أيديهم فآت. وآت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت
وذا القربى مفعول به أول وحقه مفعول به ثان ، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية على
وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين وعاجزين عن الكسب والشافعي قاس القرابات
على ابن العم لأنه لا ولادة بينهم. والمسكين عطف على ذا القربى وكذلك ابن السبيل.
(ذلِكَ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ذلك مبتدأ وخير خبر وللذين متعلقان بخير وجملة يريدون
صلة والواو فاعل ووجه الله مفعول به أي ثوابه وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان
والمفلحون خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) الواو عاطفة وما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم لآتيتم
وآتيتم فعل وفاعل ومن ربا حال وليربوا اللام للتعليل ويربوا فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بآتيتم وفي أموال الناس متعلقان بيربوا
وسيأتي معنى الظرفية في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويربوا
فعل مضارع مرفوع والجملة في محل جزم جواب الشرط وعند الله متعلق بيربوا. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله فأولئك هم المضعفون ذوو
الأضعاف من الثواب وسيأتي سر الالتفات في باب البلاغة.
(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الله مبتدأ والذي خلقكم خبره وجملة خلقكم صلة وما بعده
عطف عليه.
(هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) هل حرف استفهام ومن شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض ، ومن
يفعل مبتدأ مؤخر ومن ذلكم متعلق بمحذوف حال من شيء لأنه
كان في الأصل صفة له ومن حرف جر زائد وشيء مجرور بمن لفظا مفعول به ليفعل
محلا وزيدت له لأن النكرة في حيز الاستفهام المتضمن معنى النفي وسبحانه مفعول مطلق
لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما متعلقان بتعالى وما مصدرية أو موصولية.
البلاغة :
١ ـ الكناية :
في قوله «ليربوا
في أموال الناس» كناية لأن الزيادة التي يأخذها المرابي من أموال الناس لا يملكها
أصلا فالظرفية هي موضع الكناية.
٢ ـ الالتفات :
في قوله «فأولئك
هم المضعفون» التفات عن الخطاب الى الغيبة للتعظيم فهو أمدح من أن يقول لهم فأنتم
المضعفون وفيه حذف المفعول به أي ثوابهم.
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ
كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
(٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))
الاعراب :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما عم في مختلف الأنحاء من
البر والبحر من مفسدة وظلم ولهو ولعب وسائر ما يطلق عليه الفساد الذي هو ضد
الصلاح. وظهر الفساد فعل وفاعل وفي البر والبحر متعلقان بظهر أو بمحذوف حال ولعله
أرجح وبما متعلقان بظهر أي بسبب كسبهم فما مصدرية أو بسبب الذي كسبوه فهي موصولية
وأيدي الناس فاعل كسبت. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) اللام لام التعليل ويذيقهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة
والأولى أن يعلق الجار والمجرور بمحذوف أي عاقبهم بذلك وقيل اللام ليست للتعليل بل
للصيرورة لأن ذلك هو مآلهم وصيرورتهم وأجاز أبو البقاء تعليقه بظهر ، والهاء مفعول
به أول ليذيق وبعض الذي عملوا مفعوله الثاني ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) جملة سيروا في الأرض مقول القول فانظروا عطف على سيروا
وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان واسمها والجملة في محل نصب
بانظروا المعلقة بالاستفهام ومن قبل متعلقان بمحذوف صلة الذين. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما أصابهم كان لفشو الشرك في
أكثرهم والفساد والمعاصي في أقلهم. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره
أنت يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ووجهك مفعول به وللدين
متعلقان بأقم والقيم صفة للدين أي اجعل وجهتك اتباع الدين القيم البليغ الاستقامة
وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وان وما بعدها في تأويل مصدر
مضاف اليه ويوم فاعل يأتي ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها والجملة صفة ليوم
ومن الله لك أن تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يوم لا يرده أحد ولك أن تعلقه بمحذوف
يدل على المصدر المنسبك من أن ويرده ولا يجوز تعليقه بمرد لأنه يصبح عندئذ شبيها
بالمضاف فيعرب ، ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بيصدعون والتنوين عوض عن جملة
ويصدعون مضارع حذفت إحدى تاءيه أي يتفرقون يوم إذ يأتي هذا اليوم ، يقال : تصدع
القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر :
وكنا كندماني
جذيمة حقبة
|
|
من الدهر حتى
قيل لن يتصدعا
|
(مَنْ
كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) الجملة مفسرة لا محل لها مسوقة لتفسير قوله يصدعون ومن اسم شرط جازم في محل
رفع مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وعليه خبر مقدم
وكفره مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من ، ومن
عمل صالحا عطف على ما سبقه مماثل له في إعرابه وقوله صالحا يجوز أن يكون مفعولا به
وأن يكون نعتا لمصدر أي عملا صالحا والفاء رابطة ولأنفسهم متعلقان بيمهدون والجملة
جواب الشرط أي يمهدون فرشهم الوثيرة ويوطئونها لئلا تنبوبهم فتتجافى مضاجعهم
ويتنغص عيشهم. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بيمهدون أو بيصدعون
أو بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك كائن ليجزي والذين مفعول يجزي وجملة
آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على يجزي ومن فضله متعلقان بيجزي وان واسمها وجملة
لا يحب خبرها والكافرين مفعول به والجملة لا محل لها من الاعراب لأنها تعليلية.
البلاغة :
في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) جناس المناسبة اللفظي لأن للجناس أصلين وهما جناس
المزاوجة وجناس المناسبة وقد تقدم ذكر هذا مستوفى.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا
نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))
اللغة :
(الرِّياحَ) : أحد جموع الريح والريح مؤنثة وتجمع أيضا على أرواح
وأرياح وريح ، وجمع الجمع أراويح وأراييح ، والرياح أربع : الجنوب وهي القبلية ،
والشمال وهي الشمالية ، والصبا وهي الشرقية ، والدبور وهي الغربية ، والثلاثة
الأول رياح الرحمة والرابعة هي ريح العذاب ، وقد تقدم أن لفظ الريح لم يأت في
القرآن إلا في الشر وجاء الجمع في الخير ومن ذلك نرى أن العربية غنية بمدلولاتها
واننا إذا أوغلنا في الألفاظ المخصصة لبعض الأمور استنبطنا مفاهيم ربما كنا لا
نعيرها التفاتا في كتابتنا الحديثة.
(كِسَفاً) : بكسر ففتح ويجوز تسكين السين جمع كسفة أي قطعة وفي
القاموس : «الكسفة بالكسر القطعة من الشيء والجمع كسف وكسف وجمع الجمع أكساف وكسوف
وكسفه يكسفه قطعه».
(الْوَدْقَ) : المطر.
الاعراب :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) كلام مستأنف مسوق لعرض آياته تعالى ومن آياته خبر مقدم
وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر والرياح مفعول به ومبشرات حال وهذا هو الغرض الأول في
إرسالها.
(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة والجملة عطف على قوله مبشرات لأن الحال
والصفة تتعاوران في إفهام العلة فكأن التقدير ليبشركم وليذيقكم ، وعبارة
الزمخشري بهذا الصدد : «فإن قلت بم يتعلق وليذيقكم؟قلت : فيه وجهان : أن يكون
معطوفا على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم وليذيقكم وأن يتعلق بمحذوف تقديره
وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها» ومن رحمته متعلقان بيذيقكم وسيأتي معنى هذا
المجاز في باب البلاغة ولتجري الفلك عطف أيضا وبأمره حال ولتبتغوا من فضله عطف
أيضا ولعلكم تشكرون لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وتأنيسا
له وإيذانا بالنصر ، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك
حال ورسلا مفعول به والى قومهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا فجاءوهم عطف على أرسلنا
وبالبينات متعلقان بجاءوهم أو بمحذوف حال. (فَانْتَقَمْنا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فكذبوهم فانتقمنا ومن
الذين متعلقان بانتقمنا وجملة أجرموا صلة وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص
وحقا خبرها المقدم وعلينا متعلقان بحقا أو بمحذوف صفة له ونصر المؤمنين اسمها
المؤخر وهذا هو الاعراب المستقيم وقد تكلف بعض المعربين فأجازوا أن يكون حقا مصدرا
وعلينا الخبر وأن يكون في كان ضمير الشأن وحقا مصدر وعلينا نصر مبتدأ وخبرا في
موضع نصب خبر كان وفي هذا الكلام من تعظيم أمر المؤمنين وتأهيلهم للكرامة واستحقاق
الاثابة والنصر ما فيه وفي تعريف المؤمنين تنويه بهم وإلماع الى أن من تخلّف عن
مراتبهم لا يستحق هذه
المنّة الكبرى. (اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) كلام مستأنف أيضا لتفصيل ما أجمله من ذكر الرياح
وأحوالها والله مبتدأ والذي خبره وجملة يرسل الرياح صلة فتثير عطف على يرسل وسحابا
مفعول به والفاء عاطفة ويبسطه عطف على تثير أيضا وفي السماء متعلقان بيبسطه وكيف
أداة شرط وتعليق كقولهم كيف تصنع أصنع وكيف تكون أكون إلا أنه لا يجزم بها وجوابها
محذوف لدلالة ما قبلها عليه وكذلك مفعول يشاء وقد تقدم أن المفعول بعد يشاء يكون
محذوفا في الغالب والتقدير كيف يشاء بسطه يبسطه فحذف بسطه لأنه مفعول يشاء وحذف يبسطه
لدلالة يبسطه الأول عليه وكيف منصوب على الحال بالفعل بعده والمعنى على أي حال شاء
أن يبسطه يبسطه وسيأتي مزيد بحث عن كيف الشرطية في باب الفوائد. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ويجعله عطف على يبسطه والهاء مفعول يجعل الاول وكسفا
مفعوله الثاني ، فترى عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والودق مفعول به
وجملة يخرج حالية لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج.
(فَإِذا أَصابَ بِهِ
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
أصاب في محل جرّ بإضافة الظرف إليها وبه متعلقان بأصاب ومن يشاء مفعول أصاب ومن
عباده حال وإذا فجائية واقعة في جواب إذا الاولى وهم مبتدأ وجملة يستبشرون خبر. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) الواو حالية أو عاطفة وإن مخففة من الثقيلة مهملة أو
عاملة في ضمير شأن محذوف وكان واسمها ومن قبل متعلقان بمحذوف حال
وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف لقبل وينزل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب
بأن وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر تقديره هو واللام الفارقة ومبلسين خبرها
ومن قبله الثانية قيل هي تكرير وتوكيد لمن قبل الأولى قال الزمخشري : «من باب
التكرير والتوكيد كقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها. ومعنى
التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى
إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك» وقال ابن عطية : «وفائدة هذا
التأكيد الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس الى الاستبشار وذلك أن قوله :
من قبل أن ينزل عليهم يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثير فجاء قوله
من قبله بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد».
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ
رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الفاء الفصيحة أي إذا أردت أن تعرف ما يترتب على إنزال
المطر فانظر ، وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والى آثار رحمة الله متعلقان
بانظر وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وهي معلقة لانظر عن العمل والأرض
مفعول به وبعد موتها ظرف متعلق بيحيي والجملة بدل من آثار فهي في حيز النصب بنزع
الخافض والمعنى بعد كل هذا فانظر الى إحيائه البديع للأرض بعد موتها والمراد
التنبيه على عظيم قدرته وسعة رحمته. (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ
الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها أي إن ذلك القادر واللام المزحلقة ومحيي
الموتى خبرها وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو.
البلاغة :
في قوله «وليذيقكم
من رحمته» استعارة ومجاز فالاستعارة
في قوله ليذيقكم وقد تقدمت كثيرا وهي استعارة مكنية والمجاز المرسل في قوله
من رحمته وهو مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الرحمة تحل في الخصب والمطر فأطلق
الحال وأريد المحل وفسر بعضهم الرحمة بقوله : «أي من نعمته من المياه العذبة
والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله».
الفوائد :
كيف أيضا :
جاء في المغني
ما نصه : «وتستعمل على وجهين : أحدهما أن تكون شرطا فيقتضي فعلين متفقي اللفظ
والمعنى غير مجزومين نحو كيف تصنع أصنع ولا يجوز كيف تجلس أذهب باتفاق ولا كيف
تجلس أجلس بالجزم عند البصريين إلا قطربا لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة
جوابها لشرطها كما مر ، وقيل يجوز مطلقا وإليه ذهب قطرب والكوفيون ، وقيل يجوز
بشرط اقترانها بما ، قالوا ومن ورودها شرطا «ينفق كيف يشاء» «يصوركم في الأرحام
كيف يشاء» «فيبسطه في السماء كيف يشاء» وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبلها
وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشروطها» وقد استدرك بعض المعلقين
على المغني فقال «أجاب بعضهم بأنه يمكن أن يقدر الجواب موافقا للشرط بأن يقدر
الجواب فعل مشيئته متعلقة بالفعل السابق وهو دال عليه لأن الفعل الاختياري يستلزم
المشيئة والأصل كيف يشاء أمرا يشاء التصوير في الأرحام ، كيف يشاء أمرا يشاء
الانفاق ، كيف يشاء أمرا يشاء بسطه ، غاية الأمر أن متعلق الفعلين مختلف وهذا جواب
بعيد لأنهم قالوا لدلالة ما قبلها لأن المتبادر انه دال على الجواب وعلى دفع
الاشكال فيكون
ما قبلها دالا على متعلق جوابها لا على نفس جوابها وقد علمت دفع هذا بأن
الفعل الاختياري وهو الفعل الواقع قبلها يستلزم المشيئة وهو الجواب المحذوف».
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
(٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))
الاعراب :
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط
وأرسلنا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط وريحا مفعول أرسلنا فرأوه عطف على أرسلنا
وهو فعل وفاعل ومفعول به ومصفرا حال ولظلوا اللام واقعة في جواب القسم وظلوا فعل
ماض ناقص والواو اسمها والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وقد أغنت عن جواب
الشرط حسب القاعدة المشهورة :
واحذف لدى
اجتماع شرط وقسم
|
|
جواب ما أخرت
فهو ملتزم
|
ومن بعده حال
وجملة يكفرون خبر ظلوا. (فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) الفاء تعليلية والجملة تعليل لمحذوف أي لا تجزع ولا
تحزن على عدم ايمانهم فإنهم موتى صم عمي ، وان واسمها وجملة لا تسمع الموتى خبرها
ولا تسمع الصم الدعاء عطف على الجملة السابقة والصم مفعول تسمع الاول والدعاء
مفعول تسمع الثاني وإذا ظرف مستقبل متعلق بتسمع وجملة ولوا مضاف إليها الظرف وولوا
فعل وفاعل ومدبرين حال من الواو.
(وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر
زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم
متعلقان بالعمي أو بهادي على تضمين هادي معنى صارف وقد تقدم نظيره.
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره
أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة من وبآياتنا متعلقان بيؤمن ، فهم
الفاء عاطفة على المعنى وهم مبتدأ ومسلمون خبر. (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الله مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم صلة ومن ضعف متعلقان
بخلقكم.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ثم حرف عطف وتراخ وجعل فعل ماض ومن بعد ضعف مفعول جعل
الثاني أو متعلق بجعل وقوة مفعول جعل.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ) ثم وما بعدها عطف على ما تقدم وجملة يخلق ما يشاء حالية
وهو مبتدأ والعليم خبر أول والقدير خبر ثان.
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي
هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ
عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))
اللغة :
(السَّاعَةُ) : القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات
الدنيا أو لأنها تقع بغتة وبديهة وجرت علما لها كالنجم للثريا والكوكب للزهرة وفي
القاموس : «والساعة جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والجمع ساعات وساع
والقيامة أو الوقت الذي تقوم فيه القيامة والهالكون كالجاعة للجياع» والساعة أيضا
آلة يعرف بها الوقت بحسب الساعات (موالدة) ومنها الساعة الرملية والساعة الشمسية.
(يُسْتَعْتَبُونَ) : يطلب منهم العتبى أي الرجوع ، من قولك استعتبني فلان
فأعتبته أي استرضاني فأرضيته وذلك إذا كنت جانيا عليه وحقيقة أعتبته أزلت عتبه ،
ألا ترى الى قوله :
غضبت تميم أن
تقتل عامرا
|
|
يوم النسار
فأعتبوا بالصيلم
|
كيف جعلهم
غضابا ثم قال فأعتبوا أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والصيلم ماء لبني
عامر والصيلم الداهية والسيف كما في الصحاح. وفي المصباح : «عتب عليه عتبا من بابي
ضرب وقتل ومعتبا أيضا لامه في سخط فهو عاتب وعتاب مبالغة وبه سمي ومنه «عتّاب ابن
أسيد» وعاتبه معاتبة وعتابا ، قال الخليل : حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة
الموجدة ، وأعتبني الهمزة للسلب أي أزال الشكوى والعتاب واستعتب طلب الإعتاب
والعتبى اسم من الإعتاب».
(يَسْتَخِفَّنَّكَ) : يحملنك على الخفة والطيش بترك الصبر.
الاعراب :
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) الظرف متعلق بيقسم وجملة تقوم الساعة في محل جر باضافة
الظرف إليها ويقسم المجرمون فعل وفاعل وما نافية ولبثوا فعل وفاعل والجملة لا محل
لها لأنها واقعة في جواب القسم وغير ساعة ظرف متعلق بلبثوا.
(كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي يصرفون عن الحق وهو الصدق كما
صرفوا عن الحق وهو البعث وكان واسمها
وجملة يؤفكون خبرها ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول.
(وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ
الْبَعْثِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا صلة
والعلم مفعول به ثان لأوتوا والايمان عطف على العلم وجملة لقد لبثتم مقول القول
واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ولبثتم فعل وفاعل وفي كتاب الله حال أي
محسوبة في علم الله وقدره والى يوم البعث متعلقان بلبثتم. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قال إن
كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث أي فقد تبين بطلان قولكم. ولكنكم الواو حالية
ولكن واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة لا تعلمون خبر كنتم.
(فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الفاء تفصيل لما قبلها مما يفهم من أن تقليل مدة اللبث
فهي الفصيحة أيضا ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بينفع والتنوين عوض عن جملة
محذوفة أي يوم إذ قامت الساعة وحلف المشركين كاذبين ورد عليهم الذين أوتوا العلم
والايمان من الملائكة وغيرهم ولا نافية وينفع فعل مضارع والذين ظلموا مفعوله
المقدم ومعذرتهم فاعل ينفع وقرئ ينفع بالياء والتاء لأن معذرتهم مؤنث غير حقيقي أو
بمعنى العذر والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر ويستعتبون فعل
مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق
وللناس متعلقان بضربنا وفي هذا القرآن متعلقان بمحذوف حال ومن كل مثل صفة لمفعول
به محذوف أي موعظة أو قصة من كل مثل أو تكون من
للتبعيض ويكون الجار والمجرور في موضع نصب على أنه مفعول ضربنا أي وصفنا
لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وطرافتها.
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وجئتهم فعل
وفاعل ومفعول به في موضع فعل الشرط وبآية متعلقان بجئتهم وليقولن اللام واقعة في
جواب القسم ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية فاللام
مفتوحة باتفاق القراء والفاعل هو الاسم الموصول من باب اقامة الظاهر مقام المضمر
وقد تقدم ذكره كثيرا وجملة كفروا صلة وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر ومبطلون
خبر أنتم والجملة مقول القول. (كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على
قلوب الجهلة الذين لا يعلمون وجملة لا يعلمون صلة الذين.
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمت أن حالهم بهذه المثابة فاصبر
، واصبر فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة إن وعد الله حق تعليل للأمر
بالصبر ولا الواو عاطفة ولا ناهية ويستخفنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون
التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به مقدم والذين فاعل
يستخفنك المؤخر وجملة لا يوقنون صلة.
البلاغة :
في قوله «ويوم
تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» جناس تام وقد تقدم البحث في هذا
الفن ونريد الآن أن نستوفي أبحاثه فهو ضروب كثيرة منها الماثلة وهي أن تكون اللفظة
واحدة باختلاف
المعنى نحو قول زياد الأعجم وقيل الصلتان العبدي يرثي المغيرة ابن المهلب :
فانع المغيرة
للمغيرة إذ بدت
|
|
شعواء مشعلة
كنبح النابح
|
فالمغيرة
الاولى : رجل ، والمغيرة الثانية : الفرس وهي ثانية الخيل التي تغير ، وقال أبو
نواس في ابن الربيع :
عباس عباس
إذا احتدم الوغى
|
|
والفضل فضل
والربيع ربيع
|
وقال أبو تمام
:
ليالينا
بالرقمتين وأهلنا
|
|
سقى العهد
منك العهد والعهد والعهد
|
فالعهد الأول
المسقى : هو الوقت ، والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ماله عهد ، والعهد
الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت إليه أي وصّاني ووصيّته ، والعهد
الرابع المطر وجمعه عهاد ، واستثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم.
هذا وقد ولع
أبو تمام بالتجنيس كثيرا فأجاد في بعضه وأسف في بعضه الآخر وقد أوردنا فيما سبق من
هذا الكتاب نماذج من حسناته وسيئاته ويبدو التكلف ظاهرا فيه.
أما ابن الرومي
فليس من هواة الصناعة اللفظية ولم يكن يشغل باللفظ كثيرا وانما كان يجانس لمعنى
يراه هو ولا يجانس لتزويق فارغ ولهو سخيف ، ومن مليح ما جاء له :
للسود في
السود آثار تركن بها
|
|
لمعا من
البيض تثني أعين البيض
|
فالسود الأول :
الليالي ، والسود الآخر : شعرات الرأس واللحية والبيض الأول الشيبات والبيض الآخر
النساء.
وقوله :
فيسبيك
بالسحر الذي في جفونه
|
|
ويصبيك
بالسحر الذي هو نافثه
|
أو مثل هذا
البيت :
تصيب إذا
حكمت وإن طلبنا
|
|
لديك العرف
كنت حيا تصوب
|
أو مثل هذا
البيت :
ليس ينفكّ
طيرها في اصطحاب
|
|
تحت أظلال
أيكها واصطخاب
|
وهكذا كان في
كل تجنيسه الذي لا تعسف فيه وليس هو بالكثير البارز في ديوانه الكبير فإذا جنس في
غير ذلك فهو عابث متعمد للعبث وليس بملفق محسّنات ولا بطالب تزويق كما قال :
لو تلفّفت في
كساء الكسائي
|
|
وتلبّست فروة
الفرّاء
|
وتخلّلت
بالخليل وأضحى
|
|
سيبويه لديك
رهن سباء
|
وتكوّنت من
سواد أبي الاسو
|
|
د شخصا يكنى
أبا السوداء
|
لأبى الله أن
يعدك أهل العلم إلا من جملة الأغبياء ومن علماء البيان من جعل له اسما سماه به وهو
الترديد أي أن اللفظة الواحدة رددت فيه ، وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى
ثم يرددها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه أو في قسم منه ، قال أبو تمام :
خفّت دموعك
في إثر القطين لدن
|
|
خفّت من
الكثب القضبان والكثب
|
الترديد في خفت
ولو جعلت الكثب ترديدا لجاز.
وقال أبو الطيب
المتنبي وأحسن ما شاء :
أمير أمير
عليه الندى
|
|
جواد بخيل
بأن لا يجودا
|
والترديد في
أول البيت ، والعلماء بالشعر مجمعون على تقديم أبي حية النميريّ في قوله :
ألا حيّ من
أجل الحبيب المغانيا
|
|
لبسن البلى
مما لبسن اللياليا
|
إذا ما تقاضى
المرء يوما وليلة
|
|
تقاضاه شيء
لا يملّ التقاضيا
|
وما أجمل قول
أبي نواس :
دع عنك لومي
فإن اللوم إغراء
|
|
وداوني بالتي
كانت هي الداء
|
صفراء لا
تنزل الأكدار ساحتها
|
|
لو مسها حجر
مستها سراء
|
وكذلك قول أبي
تمام :
راح إذا ما
الراح كنّ مطيّها
|
|
كانت مطايا
الشوق في الأحشاء
|
ردد مطيّها
ومطايا الشوق.
ونعود للآية
الكريمة فنذكر أن ابن أبي الحديد قد نازع في كتابه المسمى بالفلك الدائر على المثل
السائر في هذا وقال :ان المعنى واحد في الآية ، فان يوم القيامة وان طال فهو عند
الله تعالى كالساعة الواحدة عند أحدنا ، وحينئذ فاطلاق الساعة عليه مجاز كقولنا
رأيت أسدا وزيد أسد ، وأردنا بالأول حيوانا وبالثاني الرجل الشجاع.
ولم نر أحدا
نازع فيما ذكرناه غير ابن أبي الحديد ، فتدبر.
سورة لقمان
مكيّة وآياتها اربع
وثلاثون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))
اللغة :
(لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللهو كل باطل ألهى عن الخير يقال لهوت لهوا وفلان
مشتغل بالملاهي وفيهن ملهى وملعب ، قال زهير :
وفيهن ملهى
للصديق ومنظر
|
|
أنيق لعيّن
الناظر المتوسم
|
الملهى اللهو
أو موضعه ، يقول : وفي هؤلاء النسوان لهو أو موضع لهو للمتأنق الحسن المنظر ومناظر
معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن.
(وَقْراً) : صمما.
الاعراب :
(الم تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) ألم تقدم اعرابها ، وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر
والحكيم صفة للكتاب وسيأتي معنى إسناد الحكمة اليه في باب البلاغة ، وهدى ورحمة
حالان من الآيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الاشارة ، وقرأ حمزة بالرفع على
أنهما خبر لمبتدأ محذوف أي هو هدى ورحمة وللمحسنين متعلقان بمحذوف صفة أو بنفس
المصدر. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمحسنين وجملة يقيمون الصلاة صلة ويؤتون
الزكاة عطف عليها داخل في حيز الصلة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم
الثاني تأكيد للأول وجملة يوقنون خبر هم. (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدمت الآية بلفظها في سورة البقرة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال اللاهين الذين يستنزفون
أوقات فراغهم باللهو ومضاحيك الكلام ولغو الحديث وباطله ، وسيأتي في باب الفوائد
ما قالوه في أسباب نزولها. ومن الناس خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر ومن مفرد
لفظا جمع معنى وروعي لفظها أولا في ثلاثة ضمائر يشتري ويضل ويتخذ وروعي معناها في
موضعين
وهما أولئك لهم ثم رجع الى اللفظ في خمسة ضمائر وهي وإذا تتلى الى آخر
الآية كما سيأتي وجملة يشتري لهو الحديث صلة وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيشتري وعن سبيل الله
متعلقان بيضل وبغير علم حال من فاعل يشتري أي يشتري غير عالم بحال ما يشتريه وقد
تقدم تقرير الاستعارة في الاشتراء في سورة البقرة. (وَيَتَّخِذَها
هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ويتخذها بالنصب عطفا على ليضل وقرئ بالرفع عطفا على
يشتري والضمير للسبيل لأنها مؤنثة ويتخذها فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والهاء
مفعول يتخذ الاول وهزوا مفعوله الثاني وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ
مؤخر ومهين صفة والجملة خبر أولئك.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
تتلى في محل جر باضافة الظرف إليها وتتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليه متعلقان
بتتلى وآياتنا نائب فاعل وجملة ولى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومستكبرا
حال. (كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) كأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة
لم يسمعها خبرها والجملة نصب على الحال من فاعل ولى وكأن حرف تشبيه ونصب وفي أذنيه
خبر كأن المقدم ووقرا اسم كان المؤخر والجملة حال أيضا من فاعل لم يسمعها أو بدل
من جملة كأن لم يسمعها وأجاز الزمخشري أن تكون جملتا التشبيه استئنافيتين ، فبشره
الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والأمر
بالبشارة هو للتهكم وبعذاب متعلقان ببشره وأليم صفة.
البلاغة :
١ ـ الاسناد
المجازي :
في قوله تعالى «الكتاب
الحكيم» إسناد مجازي ويجوز أن يكون بمعنى ذي الحكمة ، وقال الزمخشري : «ويجوز أن
يكون الأصل الحكيم قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فبانقلابه مرفوعا
بعد الجر استكن في الصفة المشبهة بعد» وهذا من أروع التعليل.
٢ ـ الإيجاز :
وفي قوله : «للمحسنين»
إيجاز بليغ أي الذين يعملون الحسنات وهي لا تحصى ولكنه خص منها هذه الثلاث ، ونظير
هذا الإيجاز قول أوس بن حجر في مرثاته لفضالة بن كلدة :
الألمعي الذي
يظن بك الظن
|
|
كأن قد رأى
وقد سمعا
|
حكي عن الأصمعي
أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد ، وهذه المرثاة من أفضل ما سمع في الرثاء
وأولها :
أيتها النفس
أجملي جزعا
|
|
إن الذي
تحذرين قد وقعا
|
إن الذي جمع
السماحة والنجد
|
|
ة والبر
والتقى جمعا
|
الألمعي الذي
يظن إلخ ...
أودى فلا
تنفع الاشاحة من
|
|
أمر لمن
يحاول البدعا
|
يقول : يا نفس
احتملي جزعا عظيما إن الذي تخافين منه قد حصل ، وبيّنه بقوله إن الذي جمع ....
وأودى : هلك ، وجمعا بالضم توكيد للصفات قبله والألمعي نصب على النعت للذي وفسره
بأنه الذي يظن بك يعني كل مخاطب أي يظن الظن الحق كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن
الظن فيصيب كأنه قد رآه إن كان فعلا أو سمعه إن كان قولا وفيه نوع من البديع يسمى
التفسير وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته دون تفسيره.
الفوائد :
١ ـ قصة النضر
بن الحارث :
اعلم أن
المقصود بآيات الله أن يتوجه الخطاب فيها الى العموم ولكن أسباب النزول خاصة ، ثم
تسري أحكامها فيما بعد على العموم وقد ذكروا في أسباب نزول قوله «ومن الناس من
يشتري لهو الحديث» الآية أن النضر بن الحارث كان يأتي الحيرة فيتجر ويشتري كتب
أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول : إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود وأنا
أحدثكم بأحاديث فارس والروم فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. والحيرة بكسر
الحاء مدينة بقرب الكوفة.
٢ ـ معنى
الإضافة :
إضافة اللهو
الى الحديث معناها التبيين وهي الاضافة بمعنى من وضابطها أن يكون المضاف بعد
المضاف إليه صالحا للاخبار به عنه كخاتم فضة ، وقد مر هذا البحث في مكان آخر من
هذا الكتاب.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها
وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))
الاعراب :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين وان واسمها وجملة
آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم وجنات النعيم مبتدأ مؤخر
والجملة الاسمية خبر إن. (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ
اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خالدين حال مقدرة من المجرور باللام في لهم أي مقدرا
لهم الخلود فيها إذا دخلوها وفيها متعلقان بخالدين ووعد الله حقا : مصدران مؤكدان
الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن معنى لهم جنات النعيم وعدهم الله بها فأكد
معنى الوعد بالوعد وحقا دال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ، وعاملها مختلف
فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعدا وتقدير الثانية وحقه حقا ومؤكدهما جميعا واحد وهو
قوله لهم جنات النعيم وهو مبتدأ والعزيز. خبر أول والحكيم خبر ثان. (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها) الجملة مستأنفة مسوقة للتدليل على قدرته وعزته سبحانه.
وخلق فعل ماض
وفاعله مستتر تقديره هو والسموات مفعول به وبغير عمد في موضع نصب على الحال
أي حالية من عمد وقد مر نظيره في الرعد وجملة ترونها صفة لعمد أي بغير عمد مرئية. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وألقى عطف على خلق وفاعله مستتر تقديره هو يعود على
الله وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة مفعول به محذوف أي جبالا رواسي وان وما
في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي أن لا تميد بكم أو كراهة أن تميد بكم وبكم
متعلقان بتميد وبثّ عطف على ألقى وفيها متعلقان ببث ومن كل دابة صفة لمفعول به
محذوف أي حيوانات من كل دابة.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وأنزلنا عطف على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم
وأنزلنا فعل وفاعل ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأنبتنا عطف على
أنزلنا وفيها متعلقان بمحذوف حال ومن كل زوج متعلقان بأنبتنا أو صفة لمفعول محذوف
أي نباتا من كل زوج وكريم صفة لزوج. (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هذا مبتدأ والاشارة الى ما ذكر من مخلوقاته وخلق الله
خبر والخلق بمعنى المخلوق ، فأروني الفاء الفصيحة وأروني فعل أمر يحتاج لثلاثة
مفاعيل الياء أولها وجملة الاستفهام المعلقة سدت مسد المفعولين الباقيين ويجوز أن
تكون أروني بمعنى أخبروني فتتعدى لمفعولين الأول مفرد صريح وهو ضمير المتكلم
والثاني الجملة الاستفهامية ، وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لخلق أو ما
اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر وخلق الذين فعل وفاعل ومن دونه صلة الذي. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بل إضراب انتقالي والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين
صفة لضلال.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ
لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣))
الاعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك واللام جواب للقسم
المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل ولقمان مفعول به أول والحكمة مفعول به ثان
وسيأتي الكلام مفصلا عن لقمان وترجمته. (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يجوز أن تكون أن هي المفسرة لأن الإيتاء فيه معنى القول
أي قلنا له اشكر ويجوز أن تكون على بابها فهي في تأويل مصدر في موضع نصب كما حكى
سيبويه كتبت إليه أن قم والأول أظهر ، ولله متعلقان باشكر ومن الواو استئنافية ومن
اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشكر فعل الشرط والفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة
والجملة في محل جزم جواب الشرط ومن كفر عطف على ومن يشكر داخلة في حيزها والجملة
خبر من.
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة قال لقمان في محل جر
باضافة الظرف إليها ولابنه متعلقان بقال والواو واو الحال وهو مبتدأ وجملة يعظه
خبر والجملة حالية.
(يا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الجملة مقول القول ولا ناهية وتشرك فعل مضارع مجزوم بلا
وبالله متعلقان بتشرك وجملة
إن الشرك تعليل للنهي لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وظلم خبرها
وعظيم صفة.
الفوائد :
لقمان وترجمته
ولمح من أخباره :
قيل هو اسم
أعجمي فهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل عربي فهو ممنوع من الصرف للعلمية
وزيادة الألف والنون والأول أظهر وأورده صاحب القاموس في مادة لقم وقال «ولقمان
الحكيم اختلف في نبوته وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا».
ولطرافة شخصيتة
وما نسج حولها من الأساطير نورد الأقوال السبعة فيه باختصار :
١ ـ قال قتادة
: خيّره الله بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة فقذفت عليه وهو نائم فأصبح ينطق
بالحكمة فسئل عن ذلك فقال :لو أرسل الله إليّ النبوة عزمة لرجوت الفوز بها ولكنه
خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة.
وقيل : كان من
النوبة قصيرا أفطس الأنف وقيل كان حبشيا.
٢ ـ قال سعيد بن
المسيّب : كان أسود من سودان مصر ذا مشفر حكمته من حكمة الأنبياء ، وقيل كان
خيّاطا وقيل راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال : ألست عبد بني فلان؟ كنت ترعى
بالأمس؟ قال : بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : وما يعجبك من أمري؟ قال : وطء
الناس بساطك وغشيانهم بابك ورضاهم بقولك ،
قال : يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك ، قال : وما أصنع؟قال : غضّ
بصري ، وكف لساني وعفة طمعي وحفظ فرجي وقيامي بعهدي ووفائي بوعدي وتكرمة ضيفي وحفظ
جاري وترك مالا يعنيني فذلك الذي صيرني كما ترى ، ويروى أنه قال : قدر الله وأداء
الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني.
٣ ـ وقال أنس :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحكمة تزيد الشرف شرفا وترفع المملوك حتى
يجلس مجالس الملوك ، قال الله تعالى : «ولقد آتينا لقمان الحكمة».
٤ ـ وقال
الثعالبي المفسر : اتفق العلماء على أن لقمان لم يكن نبيا إلا عكرمة تفرد بأنه
نبي.
٥ ـ وقال وهب
بن منبه : كان لقمان ابن أخت داود عليه السلام وقيل ابن خالته وكان في زمنه وكان
داود يقول له : طوبى لك أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلوى ، وأوتي داود الخلافة وبلي
بالبلية ، وكان داود يغشاه ويقول : انظروا الى رجل أوتي الحكمة ووقي الفتنة.
٦ ـ وقال عبد
الوارث : أوتي لقمان الحكمة في قالة قالها ، فقيل : وهل لك أن تكون خليفة فتعمل
بالحق؟ فقال : إن تختر لي فسمعا وطاعة وان تخيرني أختر العافية وإنه من يبع الآخرة
بالدنيا يخسرهما جميعا ولأن أعيش حقيرا ذليلا أحبّ إليّ من أن أعيش قويا عزيزا ،
وقيل كان عبدا نجارا ، فقال له سيده اذبح شاة وائتني
بأطيب مضغتين فأتاه بالقلب واللسان ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين
فأخرج القلب واللسان ، فقال له : ما هذا؟ فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا
أخبث منهما إذا خبثا.
٧ ـ وقال أبو
اسحق الثعالبي : كان لقمان من أهون مماليك سيده عليه فبعثه مولاه مع عبيد له الى
بستانه يأتونه بشيء من ثمر فجاءوه وما معهم شيء وقد أكلوا الثمر وأحالوا على لقمان
، فقال لقمان لمولاه : ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها فاسقني وإياهم ماء حميما
ثم أرسلنا لنعدو ففعل فجعلوا يتقيئون تلك الفاكهة ولقمان يتقيأ ماء فعرف مولاه
صدقه وكذبهم. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع فأراد أن يسأله
فأدركته الحكمة فسكت فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت ، فقال : الصمت
حكمة وقليل فاعله ، فقال له داود : بحق ما سميت حكيما.
هذا وأخبار
لقمان وحكمته أكثر من أن تستوعبها ترجمة فحسبنا ما تقدم.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ
جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))
اللغة :
(وَهْناً) : الوهن : الضعف وفي المختار : «الوهن الضعف وقد وهن من
باب وعد ووهنه غيره يتعدى ويلزم ووهن بالكسر يهن وهنا لغة فيه وأوهنه غيره ووهنه
توهينا والوهن والموهن نحو من نصف الليل ، قال الاصمعي : هو حين يدبر الليل».
(وَفِصالُهُ) : فطامه وفي القاموس : «الفصال : فطم الولد» وفيه أيضا
: «وفصل الولد عن الرضاع وبابه ضرب».
الاعراب :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) كلام معترض على سبيل الاستطراد في أثناء وصية لقمان
مؤكد لما اشتملت عليه من النهي عن الشرك. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه
متعلقان بوصينا وجملة حملته أمه اعتراضية بين المفسّر والمفسّر وحملته أمه فعل ماض
ومفعول به وفاعل ووهنا على وهن حال من أمه أي ذات وهن أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال
أي تهن وهنا وعلى وهن صفة للمصدر أي كائنا على وهن وقيل منتصب بنزع الخافض أي
حملته بضعف على ضعف ، وقال الزجاج : المعنى لزمها بحملها إياه أن يضعف مرة بعد مرة
، وقال الزمخشري : «أي حملته أمه تهن وهنا على وهن كقولك رجع عودا على بدء وهو في
موضع الحال والمعنى أنها تضعف ضعفا فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل
كلما ازداد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا» والواو عاطفة وفصاله مبتدأ وفي عامين خبر.
(أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أن مفسرة والجملة تفسير لوصّينا كما تقدم واختار الزجاج
أن تكون أن على بابها أي مصدرية ومحل المصدر النصب بنزع الخافض والجار والمجرور
متعلقان بوصينا وليس قوله ببعيد واشكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي
متعلقان باشكر ولوالديك عطف على لي وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ والجملة
استئنافية. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وجاهداك فعل ماض وفاعل ومفعول به
وهو في محل جزم فعل الشرط وعلى حرف جر وأن تشرك المصدر المؤول مجرور بعلى والجار
والمجرور متعلقان بجاهداك وبي متعلقان بتشرك وما موصول مفعول به وجملة ليس صلة ولك
خبر ليس المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر ، فلا الفاء رابطة ولا ناهية
وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والميم
والألف حرفان دالان على التثنية وجملة فلا تطعهما في محل جزم جواب الشرط.
(وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً) الواو عاطفة وصاحبهما فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت
ومفعول به وفي الدنيا حال ومعروفا صفة لمصدر محذوف أي صحابا معروفا واختار بعضهم
أن ينصب بنزع الخافض أي بالمعروف. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وسبيل مفعول به
ومن مضاف اليه وجملة أناب صلة من وإليّ متعلقان بأناب ، ثم حرف عطف للترتيب مع
التراخي وإليّ خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر ، فأنبئكم الفاء عاطفة وأنبئكم فعل
مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم وكنتم تعملون
كان واسمها وجملة تعملون خبرها.
البلاغة :
في قوله «ما
ليس لك به علم» فن عكس الظاهر أو نفي الشيء بإيجابه وقد تقدم القول فيه مرارا ،
فقد أراد بنفي العلم نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام على حد قوله «على
لا حب لا يهتدى بمناره» أي ما ليس بإله فيكون لك علم بالإلهية.
(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ
تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ
أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))
اللغة :
(خَرْدَلٍ) : الخردل : نبات له حب صغير جدا أسود مقرّح الواحدة
خردلة ويقال خردل الطعام أكل خياره وخردل اللحم قطع أعضاءه وافرة صغارا ، ولحم
خراديل : مقطع ومفرد ويضرب بها المثل في الضآلة وقد تقدم هذا في الأنبياء.
(وَلا تُصَعِّرْ) : لا تحل وجهك تكبرا ، قال أبو عبيدة : وأصل الصعر داء
يصيب البصير ويلتوي عنقه ، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم
أشار الى المقصود به بقوله للناس بلام العلة أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم.
وفي المصباح : الصعر بفتحتين ميل في العنق وانقلاب في الوجه الى أحد الشدقين وربما
كان الإنسان أصعر خلقة أو صعره غيره بشيء يصيبه وهو مصدر من باب تعب وصعر خدّه
بالتثقيل وصاعره أماله عن الناس إعراضا وتكبرا» وفي الأساس : «في عنقه وخده صعر :
ميل من الكبر ، يقال :لأقيمنّ صعرك ، ويقول : في عينه صور ، وفي خده صعر ، وهو
أصعر ، وصعّر خده وصاعره ولا تصاعر خدك وفلان متصاعر وقد تصاعر ، قال حسان :
ألسنا نذود
المعلمين لدى الوغى
|
|
ذيادا يسلّي
نخوة المتصاعر
|
والنعام صعر
خلقة والإبل تصاعر في البرى وفي الحديث :«يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر
أو أبتر».
وللصاد مع
العين فاء وعينا للكلمة خاصة الصلف والاستعلاء يقال أمر صعب وخطة صعبة وعقبة صعبة
وهي من العقاب الصعاب ووقع في خطط صعاب ولا يخفى ما في ذلك من الصلف والاستعلاء
وأصعب الجمل لم يركب ولم يمسسه حبل فهو مصعب ومن مجاز هذه المادة : فلان مصعب من
المصاعب كما تقول قرم من القروم ويقال صعد السطح وصعد الى السطح وصعد في السلم وفي
السماء وتصعد وتصاعد وصعّد في الجبل وطال في الأرض تصويبي وتصعيدي
وأصعد في الأرض ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى وأصعدت السفينة مدّ شراعها
فذهبت بها الريح وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها وتنفّس
الصعداء إذا علا نفسه وذهب السهم صعدا وكأن قامته صعدة وهي القناة النابتة مستقيمة
، قال الأحنف :
إن على كل
رئيس حقّا
|
|
أن يخضب
الصّعدة أو تندقّا
|
ومن المجاز :
له شرف صاعد وجد مساعد ، ورتبته بعيدة المصعد والمصاعد ، وعنق صاعد : طويل ،
وجارية صعدة : مستقيمة القامة ، وجوار صعدات بالسكون ، وأخذ مائة فصاعدا بمعنى
فزائدا ، وأرهقته صعودا : حملته مشقّة.
والصعافقة هم
الذين يحضرون السوق بغير رأس مال فإذا اشترى أحد شيئا دخلوا معه فيه. وصعقتهم
السماء وأصعقتهم :أصابتهم بصاعقة وهي نار لا تمر بشيء إلا أحرقته مع وقع شديد ،
والصعلكة معروفة وهي الفقر والذهاب في الأرض بعيدا ، قال أبو داود :
مثل عير الفلاة
صعلكه البقل مشيح بأربع عسرات أربع أتن ، وقال ذو الرمة :
تخيل في
المرعى لهنّ بشخصه
|
|
مصعلك أعلى
قلّة الرأس نقنق
|
(وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ) : أي توسط فيه ، قال الزمخشري :«واعدل فيه حتى يكون
مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأما قول عائشة في عمر رضي الله
عنهما :«كان إذا مشي أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة على دبيب المتماوت».
(وَاغْضُضْ مِنْ) طرفك) : وانقص منه واقصر ، من قولك فلان يغض من فلان
إذا قصر به ووضع منه ، وفي الأساس : «واغضض من صوتك : اخفض منه ، وغضّ طرفك ، وطرف
غضيض ، وغضّ من لجام فرسك أي صوبه وطأ منه لتنقص من غربه ، واغضض لي ساعة أي احبس
علي مطيتك وقف عليّ ، قال الجعدي :خليلي غضّا ساعة وتهجرا أي احبسا عليّ ركابكما
ساعة ثم ارتحلا متهجّرين ، وفلان غضيض : ذليل بين الغضاضة وعليك في هذا غضاضة فلا
تفعل ولحقته من كذا غضاضة أي نقص وعيب».
الاعراب :
(يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) يا بني تقدم إعرابه كثيرا وهذا من تتمة وصية لقمان ،
وان واسمها وإن شرطية وتك فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وعلامة جزمه السكون
المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر يعود الى الخطيئة وذلك
أن ابن لقمان قال : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يعلمها أحد كيف يعلمها
الله؟ فقال يا بني انها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل ، ومثقال خبر تك وحبة مضاف
اليه ومن خردل صفة لحبة أي فكانت مثلا لحبة الخردل في الصغر والقماءة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فتكن عطف على تك واسم تكن مستتر تقديره هي أي الخطيئة
والهنة وفي صخرة خبر تكن ، أو في السموات أو في الأرض عطف على في صخرة أي في أخفى
مكان من الثلاث المذكورات ويأت جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وبها متعلقان
بيأت والله فاعل وإن واسمها وخبراها.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أقم فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والصلاة
مفعول به وأمر بالمعروف عطف وكذلك وانه عن المنكر. (وَاصْبِرْ عَلى ما
أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر ومعنى عزم الأمور : من
معزوماتها فهو مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى الفاعل أي من عازمات الأمور أي مما
جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده.
(وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتصعر فعل مضارع مجزوم بلا
وفاعله مستتر تقديره أنت وللناس متعلقان بتصعر ولا تمش عطف على ولا تصعر وفي الأرض
متعلقان بتمش ومرحا مصدر وقع موقع الحال أو نعت لمصدر محذوف أي مشيا مرحا أو مفعول
لأجله أي لا تمش لأجل المرح والأشر.
وعبارة
الزمخشري «أراد ولا تمش تمرح مرحا أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا ويجوز أن
يراد لأجل المرح والأشر».
(إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إن واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل مفعول يحب وفخور عطف
على مختال. (وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) الواو عاطفة واقصد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي
مشيك متعلقان بأقصر واغضض من صوتك عطف على ما تقدم. (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الجملة تعليل للأمر بخفض الصوت بصورة مؤكدة كما سيأتي
في باب البلاغة وإن واسمها والأصوات مضاف اليه واللام المزحلقة للتأكيد وصوت
الحمير خبر إن.
البلاغة :
في قوله : «إنها
إن تك مثقال حبة من خردل» الآية فن التمام أو التتميم وقد تقدمت الاشارة الى الفن
في مواطن من هذا الكتاب ، والمعنى انه تمم خفاء الهنة أو الخطيئة في نفسها بخفاء
مكانها من الصخرة والأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة مستقرة في أغوار الأرض
السحيقة أو في الأعالي من أجواز الفضاء ، ومنه في الشعر قول الخنساء :
وإن صخرا
لتأتمّ الهداة به
|
|
كأنه علم في
رأسه نار
|
فقولها «في
رأسه نار» تتميم جميل لا بد منه لتجسيد الظهور والشهرة للسارين والغادين.
وقول عنترة
العبسي :
أثني عليّ
بما علمت فإنني
|
|
سهل مخالقتي
إذا لم أظلم
|
فقوله «لم أظلم»
تتميم حسن.
ومن التتميم
الحسن قول امرئ القيس يصف الفرس :
على هيكل
يعطيك قبل سؤاله
|
|
أفانين جري
غير كزّ ولا واني
|
فقوله «قبل
سؤاله» تتميم عجيب لقوله «أفانين جري» وما أجمل قول زهير بن أبي سلمى في هذا الباب
:
من يلق يوما
على علاته هرما
|
|
يلق السماحة
منه والندى خلقا
|
والتتميم هنا
في قوله «على علاته» وهو تتميم عجيب تضمن مبالغة أعجب. ويجري على هذا المنوال قول
ابن محكان السعدي حين قدم الى القتل :
من ولست ـ وإن
كانت إليّ حبيبة ـ
|
|
بباك على
الدنيا إذا ما تولت
|
قال أبو العباس
المبرد : فاستثنى : «وإن كانت إليّ حبيبة» استثناء مليحا ، ونوى التقديم والتأخير
فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدّما على مظهره.
٢ ـ التأكيد
بأن وفنون أخرى :
ومن بديع هذه
الآية «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنون عديدة نشير إليها :
أ ـ فقد أتى
بالتمثيل مؤكدا بإن أولا وعزز هذا التأكيد باللام فصار الكلام خبرا إنكاريا كأن
التمثيل أمر مبتوت فيه لا يتطرق اليه الشك ، فقد تدخل إن في الجملة فترى الكلام
بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا ، واستخدامها على هذا الوجه يحتاج الى
تدبر وروية معا ، وقد خفي سر هذا الاستخدام حتى على أفراد العلماء ؛ روي عن
الأصمعي أنه قال : كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر وكانا يأتيان بشارا
فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما
ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان ، وأتياه يوما
فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال :هي التي بلغتكم. قالوا
: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب ، قال :نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر
بالغريب فأحببت أن أرد عليه مالا يعرف ، قالا : فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما :
بكّرا يا صاحبيّ
قبل الهجير
|
|
إن ذاك
النجاح في التبكير
|
حتى فرغ منها
فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير» «بكّرا فالنجاح
في التبكير» كان أحسن فقال بشار : إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت : «إن ذاك
النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت : بكرا في النجاح كان هذا
من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف
فقبل بين عينيه. قال عبد القاهر في تعليقه على هذه القصة : «فهل كان هذا القول من
خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟».
ومضى عبد
القاهر في تحليله لبيت بشار فقال : أما ان الجملة مستأنفة مع إنّ فلأنها غير
معطوفة على ما قبلها بالواو وهي واقعة في جواب سؤال مقدر فكأن سائلا سأل : ولما ذا
يطلب الى صاحبيه أن يبكرا قبل الهجير فكان الجواب : إن ذلك النجاح في التبكير واما
انها تصل جملتها بالجملة السابقة فالدليل عليه أنك لو أسقطت «إن» من الجملة لرأيت
الجملة الثانية لا تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول : بكرا
صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير ولعل ذلك هو سر لطفها ودقتها وجزالة
التعبير بها وهو سمة البناء الأعرابي الوحشي على عكس ما لو قال : بكرا فالنجاح في
التبكير فهو بناء سهل واضح الترابط بالفاء وذلك سمة بناء الجمل عند المولّدين وإذا
كانت الفاء تفيد الربط فانها لا تفيد التوكيد الذي تدل على «إن» وهذا البناء الجزل
هو الذي جاء في القرآن الى درجة لا يدركها الإحصاء.
ويروي عبد
القاهر في دلائل الاعجاز حديث يعقوب بن اسحق الكندي المتفلسف إذ ركب الى أبي
العباس وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس : في أي موضع
وجدت ذلك؟فقال : أجد العرب يقولون : عبد الله قائم ثم يقولون : إن عبد الله قائم
ثم يقولون : إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.
كلام العرب
حشوا فقال أبو العباس : في أي موضوع وجدت ذلك؟فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة
لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم
جواب عن سؤال سائل وقولهم : إن عبد الله لقائم جواب عن انكار منكر قيامه فقد تكررت
الألفاظ لتكرر المعاني.
وانما أطلنا في
الاقتباس لدقة هذا البحث وخفائه وهو في الآية التي نحن بصددها واقع أجمل موقع
وألطفه ، موضح لتعليل الأمر بخفض الصوت مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير
وتمثيل أصواتهم بالنهيق وافراط في التنفير عن رفع الصوت وقد أجاد الخطيب في تعليله
لهذا التعليل وننقل فصله بطوله لروعته وابداعه قال :«فإن قيل : لم ذكر المانع من
رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع
الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي في داخل الأذن وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن
آذت فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن المشي
يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينقل
من السمع الى القلب ولا كذلك المشي ، وأيضا فلان قبيح القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه
أحسن لأن اللسان ترجمان القلب ، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكرا كما أن خفضه
دونها يعتبر تماوتا وتكبرا وكان قد أشار الى النهي عن هذا بمن فأفهم أن الطرفين
مذمومان علّل النهي عن الأول بقوله إن أنكر أي أفظع وأشنع الأصوات برفعها فوق
الحاجة لصوت الحمير أي هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإن كل حيوان
قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت
الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله
شهيق وآخره شهيق».
ب ـ توحيد
الصوت :
وقال الزمخشري
: «لم وحّد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا
الجنس حتى يجمع وانما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه
الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده».
الاستعارة
التصريحية :
وفي هذه الآية
الاستعارة التصريحية حيث أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة فجعلوا
حميرا وجعل صوتهم نهاقا مبالغة في الذم والتهجين وإفراط في النهي عن رفع الصوت
والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة الموجعة وكذلك نهاقه.
ومن استفحاشهم
لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه انهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون
الطويل الأذنين ، وعن عبد الحميد الكاتب انه قال : لا تركب الحمار فإنه إن كان
فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك. وقال أعرابي : بئس المطية الحمار إن
وفقته أدلى وإن تركته ولى ، كثير الروث ، قليل الغوث ، سريع الى الفرارة ، بطيء في
الغارة ، لا توقى به الدماء ، ولا تمهر به النساء ، ولا يحلب في الإناء. ومن العرب
من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد.
الصوت مصدر :
وفي القرطبي : «لصوت
الحمير اللام للتأكيد ووحد الصوت وإن كان مضافا الى الجماعة لأنه مصدر والمصدر بدل
على الكثرة وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت ويقال صوّت تصويتا فهو مصوت ورجل صات
أي شديد الصوت بمعنى صائت».
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ
يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ
كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى
عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))
اللغة :
(وَأَسْبَغَ) : وأتم ، يقال : أسبغ الله عليه النعمة أتمها وأسبغ
الثوب : أوسعه وأطاله وأسبغ الرجل لبس درعا سابغة وأسبغ له النفقة وسّع عليه وأنفق
تمام ما يحتاج اليه ، وفي المصباح : «وسبغت النعمة سبوغا اتسعت وأسبغها الله
أفاضها وأتمها وأسبغت الوضوء أتممته» وقرئ بالسين وبالصاد ، وهكذا كل سين اجتمع
معه الغين والخاء والقاف تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ ومعنى سالغ من
سلغت البقرة والشاة إذا أسقطت السنّ التي خلقت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف
بمنزلة البزول في ذوات الأحقاف.
(بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) : جاء في القاموس ما يلي : «العروة من الدلو والكوز
المقبض ومن الثوب أخت زره كالعري ويكسر ومن الفرج لحم ظاهره يعرض فيأخذ يمنة ويسرة
مع أسفل البظر وفرج معرّى والجماعة من العضاة والحمض يرعى في الجدب والأسد والشجر
الملتفّ تشتوفيه الإبل فتأكل منه أو مالا يسقط ورقه في الشتاء والنفيس من المال
كالفرس الكريم وموالي البلد» وفي الأساس واللسان : «وتستعار العروة لما يوثق به
ويعوّل عليه فيقال للمال النفيس والفرس الكريم : لفلان عروة ، وللابل عروة من
الكلأ وعلقة :لبقية تبقى منه بعد هيج النبات تتعلق بها لأنها عصمة لها تراغم إليها
وقد أكل غيرها قال لبيد :
خلع الملوك
وسار تحت لوائه
|
|
شجر العرا
وعراعر الأقوام
|
أي هم عصم
للناس كالعضاه التي تعتصم بها الأموال ، ويقال لقادة الجيش : العرا ، والصحابة
رضوان الله عليهم عرى الإسلام ، وقول ذي الرّمة :
كأن عرا
المرجان منها تعلّقت
|
|
على أمّ خشف
من ظباء المشاقر
|
أراد بالعرا :
الأطواق ... والعروة من أسماء الأسد».
الاعراب :
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف للرجوع الى ما سلف قبل قصة لقمان ووصيته من
خطاب
المشركين. والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على ما تقدم
من خطابهم ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون
والواو فاعل والرؤية قلبية وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تروا وأن واسمها وجملة
سخر خبرها ولكم متعلقان بسخر وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة ما
وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وأسبغ عطف على سخر وعليكم متعلقان بأسبغ ونعمه مفعول به
وظاهرة حال وباطنة عطف على ظاهرة وسيأتي معنى الظاهرة والباطنة في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) الواو استئنافية ومن الناس خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر
وجملة يجادل صلة من إذا كانت موصولة أو صفة لها إذا كانت نكرة تامة بمعنى ناس وفي
الله متعلقان بيجادل أي في توحيده وصفاته وبغير علم حال ولا هدى معطوفة ولا كتاب
منير عطف على علم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
فيل في محل جر باضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتبعوا مقول القول وما
مفعول به وجملة أنزل الله صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبل
حرف إضراب وعطف ونتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما مفعول به وجملة
وجدنا صلة وعليه متعلقان بوجدنا أو بمحذوف هو مفعول وجدنا الثاني وآباءنا هو مفعول
وجدنا الاول أي وجدنا آباءنا عاكفين عليه.
(أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو فيها وجهان
أحدهما أن تكون
عاطفة على محذوف وثانيهما انها حالية ، وعلى كل حال لا بد من تقدير محذوف
معناه : أيتبعونه ولو كان الشيطان يدعوهم ، ولو شرطية وجوابها محذوف أي يدعوهم
فيتبعون ومحل الجملة النصب على الحال ، وكان الشيطان كان واسمها وجملة يدعوهم
خبرها والى عذاب السعير متعلقان بيدعوهم. (وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويسلم
فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووجهه مفعول به والى الله
متعلقان بيسلم ويسلم يتعدى باللام ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه
كما يسلم المتاع الى الرجل إذا دفع اليه والمراد التوكل عليه والتفويض اليه ،
والواو واو الحال وهو مبتدأ ومحسن خبر ، فقد الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق
واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبالعروة جار ومجرور متعلقان باستمسك
والوثقى صفة للعروة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
(وَإِلَى اللهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الى الله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على سابقتها ولا ناهية
ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ
بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر فننبئهم الفاء عاطفة
وننبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به وبما متعلقان بننبئهم وجملة
عملوا صلة ما وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) جملة نمتعهم يجوز أن تكون حالية من
فاعل نمتعهم وأن تكون مستأنفة وقليلا ظرف أو صفة لمصدر محذوف أي زمانا
قليلا أو متاعا قليلا ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونضطرهم فعل وفاعل مستتر
ومفعول به والى عذاب متعلقان بنضطرهم وغليظ صفة لعذاب.
البلاغة :
١ ـ الطباق :
في قوله «وأسبغ
عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» طباق وقد مرّ بحثه ؛ والمراد بالنعم الظاهرة كل ما يعلم
بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، وجميل قوله صلى الله عليه وسلم لابن
عباس وقد سأله عن هذه الآية : «الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك والباطنة ما ستر
عليك من سيىء عملك» وقد أفاض المفسرون فيها مما يرجع اليه في المطولات.
٢ ـ الاستعارة
التمثيلية :
وذلك في قوله «فقد
استمسك بالعروة الوثقى» فقد مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق
فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وقيل هو تشبيه
تمثيلي لذكر طرف التشبيه.
٣ ـ الاستعارة
المكنية :
وفي قوله «ثم
نضطرهم الى عذاب غليظ» استعارة مكنية فقد شبه إلزامهم التعذيب وارهاقهم إياه
باضطرار المضطر الى الشيء الذي
لا يقدر على الانفكاك منه أي يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ والغلظ مستعار
من الأجرام الغليظة والمراد الشدة والثقل على المعذّب.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ
أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (٢٧))
الاعراب :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان تناقضهم مع أنفسهم واعترافهم
بما لا يسع المكابرين إنكاره من دلائل التوحيد الساطعة. واللام موطئة للقسم وإن
شرطية وسألتهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعل ومفعول به ومن اسم استفهام
مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول
به ثان لسألتهم واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع حذفت منه نون الرفع
لتوالي الأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله
أو مبتدأ حذف خبره أي الله خالقها. (قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول قول والأمر للالزام
لهم على قرارهم بأن الذي خلق السموات والأرض هو
الله وحده وأنه يجب أن يكون الحمد والشكر مصروفين له وبل حرف إضراب انتقالي
للتنبيه بأنهم إذا ألزموا بذلك لم يلتزموا به ولم ينتبهوا ، وأكثرهم مبتدأ وجملة
لا يعلمون خبر. (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة
وإن حرف مشبه بالفعل ولفظ الجلالة اسمها وهو ضمير فصل والغني خبرها الأول والحميد
خبرها الثاني. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) كلام مستأنف مسوق للتنبيه على أن معاني كلامه سبحانه لا
تنفد ، ولو حرف شرط غير جازم وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وأن وما بعدها
فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت وأن واسمها وفي الأرض صلة ما ومن شجرة في موضع الحال من
ضمير الاستقرار أو من ما وأقلام خبر أن.
(وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والبحر الواو حالية أو عاطفة والبحر مبتدأ خبره جملة
يمده أو معطوف على موضع أن ومعمولها إذ هو مرفوع على الفاعلية كما تقدم وقرئ
والبحر بالنصب عطف على اسم أن ، وبمده فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن بعده حال
وسبعة أبحر فاعل يمده وجملة ما نفدت جواب لو فلا محل لها وإن واسمها وعزيز خبرها
الاول وحكيم خبرها الثاني.
الفوائد :
١ ـ تكلمنا
فيما سبق عن «لو» ووعدناك بأن ننقل لك الخلاف الذي شجر بين النحاة والمعربين حول
هذه الآية التي طال
حولها الجدل وسنقدم لك خلاصة لأقوالهم لتقف على ما يذهلك من براعة
الاستنتاج ودقة المنطق.
قال الشيخ شهاب
الدين القرافي : «قاعدة «لو» أنها إذا دخلت على ثبوتين كانا منفيين وعلى نفيين
كانا ثبوتين وعلى نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي ، تقول لو جاءني لأكرمته فهما
ثبوتان فما جاءك ولا أكرمته ، ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان وقد استدان وطولب
، ولو لم يؤمن أريق دمه التقدير انه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل ،
وإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله قد نفدت وليس كذلك لأن «لو» دخلت
على ثبوت أولا ونفي آخرا فيكون الأول نفيا وهو كذلك فإن الشجرة ليست أقلاما ويلزم
أن يكون النفي الأخير ثبوتا فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه
الصلاة والسلام : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إذ يقتضي انه خاف وعصى
مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذنبا لكن الحديث سبق وعادة الفضلاء الولوع بالحديث
كثيرا ، أما الآية فقليل من يتفطن لها وقد ذكروا في الحديث وجوها وأما الآية فلم
أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أنه ظهر لي جواب عن
الحديث والآية جميعا وسأذكره فيما بعد ، وقال ابن عصفور : «لو» في الحديث بمعنى «إن»
لمطلق الربط وان لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال الشيخ
شمس الدين الخسروشاهي : إن «لو» في أصل اللغة لمطلق الربط وانما اشتهرت في العرف
بانقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس ، والحديث انما ورد بمعنى اللفظ في اللغة ، وقال
الشيخ ابن عبد السلام : الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد
يكون له
سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف الأول كقولنا في
زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فانهما سببان لا يلزم من عدم
أحدهما عدم الآخر وكذلك هاهنا إذ الناس في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا
ذهب الخوف عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صهيبا رضي الله
عنه اجتمع له سببان يمنعانه من المعصية وهذا مدح جليل وكلام حسن ، وأجاب غيرهم بأن
الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله ، ويدلّ على ذلك قوله : لم يعصه ،
وهذه الأجوبة تتأتى في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وانها غير
متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلّل بالأسباب فتأمل ذلك. هذا كلام
الفضلاء الذي اتصل بي.
ويتابع القرافي
: والذي ظهر لي أن «لو» أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين نحو ما تقدم ثم أنها أيضا
تستعمل لقطع الرابط فتكون جوابا لسؤال محقّق ومتوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت
لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل لو لم يكن ذلك زوجا لم يرث فتقول أنت
: لو لم يكن زوجا لم يحرم ، تريد أن ما ذكرته من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث
ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربط كلامه وتقول لو لم يكن زيدا عالما لأكرم أي
لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهمه أو سمعته يقول إنه إذا لم يكن عالما لم يكرم
فيربط بين عدم العلم وعدم الإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين
عدم العلم والإكرام لأن ذلك غير مناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا
الى عدم الربط ، فكذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوف
الله
تعالى وان ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربط وقال
لو لم يخف الله يعصه وكذلك لما كان الغالب أن الأشجار كلها إذا صارت أقلاما والبحر
الملح مع غيره يكتب به الجميع والوهم يقول ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن
يكون قطع الله هذا الربط وقال ما نفدت إلخ ... وهذا الجواب أصلح من الاجوبة
المتقدمة لوجهين أحدهما شموله لهذين الموضعين وبعضها لم يشمل كما تقدم وثانيهما أن
لو بمعنى خلاف الظاهر وما ذكرته من الجواب ليس مخالفا لعرف أهل اللغة فانهم
يستعملون ما ذكرته ولا يفهمون غيره في تلك الموارد ونعم هذا الجواب الواجب لذاته
لصفات الله تعالى وكلماته والممكن القابل للتعليل كطاعة صهيب رضي الله عنه» انتهى
كلام شهاب الدين.
أما ابن هشام
فبعد أن ذكر أن «لو» المستعملة على خمسة أوجه قال : «الثاني انها تفيد امتناع
الشرط وامتناع الجواب جميعا وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين ونص عليه
جماعة من النحويين وهو باطل بمواضع كثيرة منها قوله تعالى : «ولو أننا نزلنا إليهم
الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» «ولو أن ما في
الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» وقول عمر
رضي الله عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وبيانه أن كل شيء امتنع
ثبت نقيضه فاذا امتنع «ما قام» ثبت «قام» وبالعكس ، وعلى هذا فيلزم على هذا القول
في الآية الاولى ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى لهم وحشر كل شيء
عليهم وفي الثانية نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما في الأرض من شجرة أقلاما تكتب
الكلمات وكون
البحر الأعظم بمنزلة الدواة وكون السبعة الأبحر مملوءة مدادا وهي تمد ذلك
البحر ، ويلزم في الأثر ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف وكل ذلك عكس المراد ، والثالث
أنها تفيد امتناع الشرط خاصة ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته ولكنه
إن كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا
، لزم انتفاؤه لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي انتفاء مسببه وإن كان أعم كما في
قولك : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا فلا يلزم انتفاؤه وانما يلزم انتفاء
القدر المساوي منه للشرط وهذا قول المحققين» الى أن يقول : «ويتلخص على هذا أن
يقال إن «لو» تدل على ثلاثة أمور :عقد السببية والمسببية وكونهما في الماضي
وامتناع السبب ثم تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب وتارة لا يعقل فالنوع الاول
على ثلاثة أقسام :ما يوجب فيه الشرع أو العقل انحصار مسببية الثاني في سببية الأول
نحو قوله تعالى : «ولو شئنا لرفعناه بها» ونحو لو كانت الشمس طالعة كان النهار
موجودا ، وهذا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني قطعا. وما يوجب أحدهما فيه
عدم الانحصار المذكور نحو : لو نام لانتقض وضوءه وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأول
امتناع الثاني كما قدمنا.
وما يجوز فيه
العقل ذلك نحو : لو جاءني زيد أكرمته فإن العقل يجوز انحصار سبب الإكرام في المجيء
ويرجحه أن ذلك هو الظاهر من ترتيب الثاني على الأول وأنه المتبادر الى الذهن
واستصحاب الأصل وهذا النوع يدل فيه العقل على انتفاء المسبب المادي لانتفاء السبب
لا على الانتفاء مطلقا ويدل الاستعمال والعرف على الانتفاء المطلق ، والنوع
الثاني (وهو ما لا يعقل فيه بين الجزأين ارتباط مناسب) قسمان : أحدهما ما يراد فيه
تقرير الجواب وجد الشرط أو فقد ولكنه مع فقده أولى وذلك كالأثر المروي عن عمر في
صهيب رضي الله عنهما : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإنه يدل على
تقرير عدم العصيان على كل حال وعلى انتفاء المعصية مع ثبوت الخوف أولى وانما لم
تدل «لو» على انتفاء الجواب لأمرين :
أحدهما : أن
دلالتها على ذلك انما هو من باب مفهوم المخالفة وفي هذا الأثر دل مفهوم الموافقة
على عدم المعصية لأنه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف أولى وإذا تعارض
هذان المفهومان قدم مفهوم الموافقة.
الثاني : انه
لما فقدت المناسبة انتفت العلّية فلم يجعل عدم الخوف علة عدم المعصية فعلمنا أن
عدم المعصية معلل بأمر آخر وهو الحياء والمهابة والإجلال والإعظام وذلك مستمر مع
الخوف فيكون عدم المعصية عند عدم الخوف مستندا الى ذلك السبب وحده وعند الخوف
مستندا اليه فقط أو اليه والى الخوف معا وعلى ذلك تتخرج آية «لقمان» السابقة لأن
العقل يجزم بأن الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن لا تنفد مع قلتها
وعدم بعضها أولى».
هذا ومن نسب
الأثر بهذا اللفظ الى النبي صلى الله عليه وسلم فقد وهم وإنما الوارد ما رواه أبو
نعيم في الحلية أن النبي قال في سالم مولى أبي حذيفة أنه شديد الحب لله تعالى لو
كان لا يخاف الله ما عصاه.
٢ ـ لما ذا وحد الشجرة؟ :
وقال الزمخشري
: «فإن قلت لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد
تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت
أقلاما».
ووحد الشجرة
لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل فكأنه قال كل شجرة شجرة حتى لا
يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاما وجمع الأقلام لقصد التكثير أي لو أن
يعد كل شجرة من الشجر أقلاما.
(ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ
اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما
يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))
اللغة :
(كَالظُّلَلِ) : الظلل : جمع ظلة بضم الظاء كل ما أظلك من جبل أو سحاب
أو شجر أو غيرها.
(خَتَّارٍ) : مبالغة من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم : انك لا
تمد لنا شبرا من الغدر إلا مددنا لك باعا من ختر ، قال :
وانك لو رأيت
أبا عمير
|
|
ملأت يديك من
غدر وختر
|
وقوله ملأت
يديك من غدر وختر شبه المعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة المكنية وملء اليدين
تخييل ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عدّ بأصابع يده اليمنى :
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم وبأصابع اليسرى : اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني فقال
رسول الله : ملأت يديك خيرا.
الاعراب :
(ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ما نافية وخلقكم مبتدأ ولا بعثكم عطف على خلقكم وإلا
أداة حصر والكاف خبر خلق أو الجار والمجرور خبر خلق ولا بد من تقدير مضاف أي إلا
كخلق نفس واحدة وما بعثكم إلا كبعث نفس واحدة ، والكلام مستأنف مسوق للرد على
المتشككين الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم
علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة ، وان
واسمها وسميع
خبرها الأول وبصير خبرها الثاني. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب
وجزم وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة يولج الليل في النهار
خبرها وجملة يولج النهار في الليل عطف عليها. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ) الواو عاطفة وسخر عطف على يولج وستأتي علة المخالفة في
الصيغة في باب البلاغة والشمس مفعول سخر والقمر عطف على الشمس وكل مبتدأ وجملة
يجري خبر والى أجل متعلقان بيجري ، وسيأتي سر هذا الحرف في باب البلاغة ، وان
واسمها وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ذلك مبتدأ وخبره بأن الله وأن اسمها وهو ضمير فصل أو
مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة خبر أن وأن عطف على بأن وأن واسمها وجملة
يدعون صلة ما ومن دونه حال والباطل خبر أن. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) عطف على ما تقدم.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري أيضا ولم حرف نفي
وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها في محل نصب مفعول تر وأن واسمها
وجملة تجري في البحر خبرها وبنعمة الله حال أي مصحوبة بنعمته.
(لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) اللام للتعليل ويريكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام ومن آياته في محل نصب مفعول به ثان ليريكم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر
إن المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولكل صفة لآيات وصبار مضاف لكل وشكور صفة
لصبار. (وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا
اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
غشيهم في محل جر باضافة الظرف اليه وغشيهم فعل ماض ومفعول به وموج فاعل وكالظلل
صفة لموج وجملة دعوا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله
متعلقان بمخلصين والدين مفعول لمخلصين لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة ونجاهم فعل ماض
ومفعول به وفاعل مستتر تقديره هو والى البر متعلقان بنجاهم والفاء تفريعية ومنهم
خبر مقدم ومقتصد مبتدأ مؤخر أي متوسط في الكفر والظلم لأنه انزجر بعض الانزجار ،
وقيل المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات والظالم لنفسه وفي الكلام إيجاز سيأتي
في باب البلاغة. (وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الواو استئنافية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع
وبآياتنا متعلقان بيجحد وإلا أداة حصر وكل فاعل وختار مضاف اليه وكفور صفة لختار.
البلاغة :
المخالفة في
الصيغة وفي حرفي الجر :
في قوله «وسخر
الشمس والقمر» مخالفة في الصيغة بين سخر المعطوف ويولج المعطوف عليه لأن إيلاج أحد
الملوين في الآخر متجدد كل حين فعبر عنه بالصيغة المتجددة حينا بعد حين وأما تسخير
النيرين فهو أمر لا يتجدد ولا يتعدد بل هو ديمومة متصلة متتابعة فعبر عنه بالصيغة
الماضية الكائنة.
وفي قوله : «إلى
أجل غير مسمى» مخالفة بين حرف الجر «إلى» المستعمل هنا وحرف الجر «اللام» المستعمل
في مكان آخر فليس هو من تعاقب الحرفين فالاول للانتهاء والثاني للاختصاص وكل واحد
منهما واقع موقعه ملائم لصحة الغرض الذي هدف اليه ، لأن قولك يجري الى أجل مسمى
معناه يبلغه وينتهي إليه وقولك يجري لأجل مسمى معناه يجري لإدراك أجل مسمى ، فما
ينتهي هنا غاية ما ينتهي اليه الخلق فناسب ذكر «الى» ، وما في فاطر والزمر ليس من
هذا الوادي فناسب ذكر اللام وهذا من الدقائق البديعة فتأمل.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣)
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي
الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))
الاعراب :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) اتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به واخشوا عطف على
اتقوا ويوما مفعول به وجملة لا يجزي والد عن ولده صفة ليوما. (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ
شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) ولا مولود عطف على والد
وهو مبتدأ وجاز خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء
الساكنين والجملة صفة ليوما وشيئا مفعول جاز أو يجزي فالمسألة من باب التنازع وإن
وعد الله حق ان واسمها وخبرها.
(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على
الفتح في محل جزم بلا الناهية والحياة فاعل تغرنكم والكاف مفعوله والدنيا صفة
للحياة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه والغرور بفتح
الغين كل ما يسبب الانخداع والافتتان. (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تفرد الله بالاحاطة بالمغيبات
، وسبب نزولها ان الحارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا
رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها وإني قد ألقيت حياتي في الأرض وقد أبطأت
عنا السماء فمتى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها أذكر أم أنثى؟وإني
علمت ما علمت أمس فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟.
وان واسمها
وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وينزل
الغيث عطف على عنده علم الساعة فهو بمثابة خبر ثان ويعلم ما في الأرحام عطف أيضا.
(وَما تَدْرِي نَفْسٌ
ما ذا تَكْسِبُ غَداً) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع ونفس فاعله
وماذا اسم استفهام مركب في محل نصب مفعول مقدم لتكسب وجملة تكسب سادة مسد مفعولي
تدري المعلقة بالاستفهام وغدا ظرف متعلق بتكسب ويجوز أن تكون ما مبتدأ وذا اسم
موصول في محل رفع خبر ، وقد تقدم القول في ماذا.
(وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع مرفوع ونفس
فاعل وبأي أرض متعلق بتموت وهو معلق للدراية فالجملة في محل نصب والباء ظرفية
بمعنى في أي في أي أرض وان واسمها وخبرها.
البلاغة :
للضمائر شأن
كبير في الفصاحة والبلاغة ولها تأثير في قوة الكلام وضعفه ، أو توكيده وعدم توكيده
، ومن ذلك قوله «ولا مولود هو جاز عن والده شيئا» فقد ورد الضمير بعد مولود ولم
يرد بعد والد في قوله «لا يجزي والد عن ولده شيئا» وذلك لسر يتجاوز الاعراب ، وقد
أجاب الامام الزمخشري بجواب في غاية الدقة ولكنه أغفل أمرا هاما يرد عليه ، وفيما
يلي نص قوله :
«فإن قلت :
قوله ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو
معطوف عليه؟ قلت الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية وقد انضم الى ذلك
قوله هو وقوله مولود والسبب في مجيئه على هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم
قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم أن
ينفعوا آباءهم في الآخرة وأن يشفعوا لهم وأن يغنوا عنهم من الله شيئا فلذلك جيء به
على الطريق الآكد» وواضح من هذا التعليل الجميل أنه يتمشى على الموجودين في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه خاص بهم والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطبق عليهم
اسم الناس فالأولى أن يقال في جواب السؤال ان الله تعالى
لما أكد الوصية على الآباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد
أن يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه وغاية طوقه قطع هنا وهم الوالد في أن
يكون الولد في القيامة مظنة لأنه يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة
كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه ، ولما كان إجزاء الولد عن الوالد ظنة
الوقوع وموطن الأمل لأن الله حضه عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة
هذا الوهم وهذا غير وارد في حق الولد على الوالد وهذا من الحسن بمكان فتأمله.
سورة السجدة مكيّة
وآياتها ثلاثون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ
بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥))
الاعراب :
(الم ، تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ألم خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول مفصلا في ذلك
وتنزيل الكتاب مبتدأ ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من الكتاب
ومن
رب العالمين خبر تنزيل وهناك أعاريب أخرى ضربنا صفحا عنها وقد تقدم في أول
البقرة ما يشبه هذا. (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل الاضرابية وهمزة
الاستفهام الانكارية ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة افتراه مقول القول
وافتراه فعل ومفعول به والفاعل مستتر تقدير هو يعود على محمد وبل إضراب ثان يفيد
ابطال قولهم وهو مبتدأ ولحق خبر ومن ربك حال. (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوان
بعد لام التعليل وفاعل تنذر مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول والمفعول الثاني
محذوف إذ التقدير لتنذر قوما العقاب ، وما نافية وآتاهم فعل ومفعول به ومن حرف جر
زائد والجملة صفة لقوما ومن قبلك صفة لنذير ويجوز أن يتعلق بآتاهم وجملة ما آتاهم
المنفية في محل نصب صفة لقوما ويجوز العكس ، ومفعول تنذر الثاني محذوف أي لتنذر
قوما العقاب ، وجوز بعضهم أن تكون ما موصولة والتقدير لتنذر قوما العقاب الذي
أتاهم من نذير من قبلك ، ومن نذير متعلقان بأتاهم أي أتاهم على لسان نذير من قبلك
وبواسطته فما مفعول به ثان وانذر يتعدى الى اثنين قال تعالى : «فقل أنذرتكم صاعقة»
ولعل واسمها وجملة يهتدون خبرها وجملة الترجي حال من فاعل لتنذر أي لتنذرهم راجيا
لاهتدائهم.
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة
وما عطف على السموات وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة لما وفي ستة أيام متعلقان بخلق.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ
وَلا
شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره
هو يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دونه حال
لأنه كان في الأصل صفة لولي ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه
مبتدأ مؤخر ولا شفيع عطف على ولي ، ويجوز أن تكون ما حجازية على رأي بعض النحاة ،
والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولا نافية
وتتذكرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الجملة حالية والأمر مفعول يدبر ومن السماء متعلقان
بيدبر والى الأرض متعلقان بيدبر أيضا ومن ابتدائية والى انتهائية ، ثم حرف عطف
وتراخ ويعرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو أي الأمر أي يرجع اليه واليه
متعلقان بيعرج وفي يوم حال من فاعل يعرج أي كائنا في يوم وجملة كان واسمها وخبرها
صفة ليوم وسيأتي مزيد بيان لمعنى هذا الزمان في باب البلاغة ، ومما صفة لألف سنة
وجملة تعدون صلة.
البلاغة :
قال النحاس :
اليوم في اللغة بمعنى الوقت ، فاندفع الإشكال الذي أورده بعضهم مع قوله تعالى في
سورة سأل «خمسين ألف سنة» فالعرب تعبر عن مدة العصر باليوم ، ويوم القيامة فيه
أيام متباينة الأوقات فمنها ما هو مقداره ألف سنة ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة
فالمراد من ذكر الألف والخمسين التنبيه على طوله والتخويف منه لا العدد بخصوصه ومن
شواهد التعبير باليوم عن المدة قول الشاعر :
يومان : يوم
مقامات وأندية
|
|
ويوم سير الى
الأعداء تأويب
|
(ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ
(٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ
هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))
الاعراب :
(ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذلك مبتدأ والاشارة إلى الله الخالق المدبر وعالم الغيب
والشهادة خبر أول والعزيز خبر ثان والرحيم خبر ثالث. (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) يجوز في اسم الموصول أن يكون خبرا رابعا أو نعتا أو
خبرا لمبتدأ مضمر وأن يكون منصوبا على المدح وجملة أحسن صلة وكل شيء مفعول به
وخلقه فعل ماض ومفعول به والفاعل ضمير مستتر تقديره يعود على الله وجملة خلقه صفة
لشيء في محل جر أو صفة لكل فهي في محل نصب وقرئ خلقه بسكون اللام فيكون بدل اشتمال
من كل شيء والضمير عائد على كل شيء. (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) وبدأ عطف على أحسن وخلق الإنسان مفعول به ومن طين
متعلقان بخلق والمراد بالإنسان آدم.
(ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع
التراخي وجعل نسله فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به ومن سلالة
متعلقان بجعل أو في محل نصب على أنه مفعول ثان ، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه
كما سميت النطفة سلالة لأنها تسل منه ، وفي الصحاح : النجل : النسل ونجله أبوه أي
ولده فالولد سليل ونجل ، ومن ماء صفة لسلالة ومهين صفة لماء وهي النطفة الضعيفة.
(ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ثم حرف ترتيب وتراخ وسواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به
والمراد بالتسوية تقويمه في أحسن تقويم ونفخ عطف على سواه وفيه متعلقان بنفخ ومن
روحه متعلقان بنفخ أيضا وجعل عطف ولكم متعلقان بجعل والسمع مفعول به والأبصار
والأفئدة معطوفان على السمع وقليلا مفعول مطلق وما زائدة مؤكدة للقلة وتشكرون فعل
مضارع مرفوع ، ويجوز أن يعرب قليلا ظرف زمان فعلى الأول يكون التقدير شكرا قليلا
وعلى الثاني زمانا قليلا.
(وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان ضروب من أباطيلهم وسيأتي سر
الالتفات في باب البلاغة والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى
الشرط متعلق بمحذوف تقديره نبعث وهو جواب إذا أو نخرج بدلالة خلق جديد عليه وجملة
ضللنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ، وفي الأرض متعلقان بضللنا والهمزة للاستفهام
الانكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبرها وجديد صفة لخلق. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب انتقالي من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أطم وأدل
على سوء ما هم مترددون فيه ، وهم مبتدأ وبلقاء ربهم متعلقان بكافرون وكافرون خبر
هم. (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يتوفاكم فعل مضارع والكاف مفعول به
مقدم وملك الموت فاعل والذي نعت لملك الموت وجملة وكل بكم صلة ، ثم حرف عطف
وتراخ والى ربكم متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب
فاعل.
الفوائد :
التفعل
والاستفعال :
قال الزمخشري :
«والتوفي استيفاء النفس وهي الروح قال الله تعالى : «الله يتوفي الأنفس» ومعلوم أن
التفعل والاستفعال يلتقيان في مثل تقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته» وللتفعل
معان أخرى ندرجها فيما يلي :
١ ـ مطاوعة
الرباعي المضعف نحو نبّهته فتنبّه وجمعته فتجمّع.
٢ ـ التكلف نحو
تصبّر وتكرّم أي تكلّف الصبر والكرم.
٣ ـ الاتخاذ
نحو توسّد ذراعه أي اتخذه وسادة وتورّك البعير أي اتخذ وركه مطية.
٤ ـ التجنّب
نحو تأثّم أي تجنب الإثم وتهجّد أي تجنب الهجود وهو النوم.
٥ ـ التدريج
نحو تحفّظت الدرس أي حفظته قسما بعد قسم وتجرعت الدواء أي أخذته جرعة بعد جرعة.
وأشهر معاني
الاستفعال ما يأتي :
١ ـ الطلب نحو
استقدمت فلانا أي طلبت قدومه واستخرجت حل المسألة أي حصلت عليه بعد طلب.
٢ ـ الصيرورة
نحو استحجر أي صار حجرا واستنوق الجمل أي صار كالناقة واسترجلت المرأة أي صارت
كالرجل.
٣ ـ النسبة نحو
استصوبت رأيه أي نسبت اليه الصواب واستقبحت فعله أي نسبت اليه القبح.
٤ ـ اختصار
اللفظ نحو استرجع القوم أي قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.
٥ ـ القوة نحو
استهتر أي اشتد هتاره واستكبر أي قوي كبره.
وقد تأتي هذه
الصيغة بمعنى أفعل نحو استجاب وأجاب وقد تكون مطاوعا له نحو أحكمت البناء فاستحكم
وأقمت اعوجاجة فاستقام.
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا
بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ
(١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً
وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))
اللغة :
(تَتَجافى) : تجافى : تنحى ولم يلزم مكانه يقال تجافى السرج عن ظهر
الفرس وتجافى جنبه عن الفراش وقال في الأساس : «جفاني فلان : فعل بي ما ساءني
واستجفيته ، والأدب صناعة مجفوّ أهلها ، وجفت المرأة ولدها فلم تتعاهده ، وثوب جاف
: غليظ وقد جفا ثوبه ، وهو من جفاة العرب ، وجفا السرج عن ظهر الفرس ، وجنب النائم
عن الفراش وتجافى «تتجافى جنوبهم عن المضاجع» وأجفاه صاحبه وجافاه ، قال :
وتشتكي لو
أننا نشكيها
|
|
غمز حوايا
قلّما نجفيها
|
ومن المجاز :
أصابته جفوة الزمان وجفاوته. وللجيم مع الفاء خاصة الانكماش والجفاف يقال جف يجف
من باب تعب جفافا وجفوفا : يبس ونشف والانكماش واضح في هذا المعنى ، واجتف مافي
الإناء : أتى عليه ، وجفأ يجفأ من باب فتح النهر رمى بالزبد والقذى وجفجف الإبل :
ساقها بشدة حتى ركب بعضها بعضا أي انكمش بعضها على بعض ، وجفخ تكبر والمتكبر منكمش
عن الناس ترفعا وتيها منه ، وجفل القوم وأجفلوا هربوا مسرعين ووقعت في الناس جفلة
إذا خافوا فانجفلوا وليس مثل الخائف في الانكماش والاسراع ، وجفن الناقة : نحرها
وأطعم لحمها في الجفان وجفن نفسه كفها عن الخبائث وتجفّن الكرم صار له أصل والجفنة
بفتح الجيم القصعة الكبيرة والخمرة والبئر الصغيرة فما تطلقه العامة على جفنة
الكرم له أصل صحيح.
الاعراب :
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاستحضار صورة المجرمين عامة يوم
القيامة والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له ولتجسيد الفظاعة
التي حلت بهم. ولو شرطية وترى فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت وإذ ظرف لما مضى
من الزمن متعلق بتري وانما جاز ذلك لترقب وقوعه وتحققه نحو أتى أمر الله ، وجعله
أبو البقاء مما وقعت فيه إذ موقع إذا ، والمجرمون مبتدأ وناكسو رءوسهم خبر وسيأتي
سر التعبير بالجملة الاسمية في باب البلاغة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال ومفعول
ترى محذوف لأن الرؤية بصرية أي لو ترى المجرمين ، وقد أغنى عن ذكره المبتدأ ،
وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يمكن وصفه ، وأجاز الزمخشري أن تكون لو
للتمني والمضي فيها وفي إذ لأن الثابت في علم الله بمثابة الواقع ، وناكسو رءوسهم
اسم فاعل مضاف الى مفعوله. (رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) الكلام مقول قول محذوف في موضع الحال أي قائلين وربنا
منادى مضاف حذف منه حرف النداء وأبصرنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي أبصرنا صدق
وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك ، وسمعنا عطف على أبصرنا ويجوز عدم تقدير مفعول
أي صرنا ممن ببصر ويسمع وكنا من قبل صما وعميانا وهو جميل ، فأرجعنا الفاء الفصيحة
وارجعنا فعل أمر المقصود منه الدعاء ومفعول به ونعمل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب
وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وان واسمها وخبرها.
(وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ولآتينا اللام
واقعة في جواب لو وآتينا فعل وفاعل وكل نفس مفعول آتينا الاول وهداها مفعول آتينا
الثاني. (وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي لمجرد الاستدراك وحق
القول فعل وفاعل ومني حال ولأملأنّ اللام موطئة للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على
الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا وجهنم مفعول به ومن الجنة متعلقان بأملأن والناس
عطف على الجنة وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير لهم وأجمعين تأكيد وسيأتي القول في
معنى أجمعين هنا في باب الفوائد. (فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الفاء الفصيحة أي إن نسيتم هذا كله فذوقوا ، وذوقوا فعل
أمر وفاعله وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية والمصدر الاول مجرور بالباء
والجار والمجرور متعلقان بذوقوا ومفعول ذوقوا محذوف تقديره العذاب ولقاء يومكم
مفعول نسيتم وهذا صفة ليومكم أي المشار اليه.
(إِنَّا نَسِيناكُمْ
وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كلام مستأنف لزيادة إيلامهم ومقابلة نسيانهم اللقاء
بنسيان أمضى وأنكى ، وان واسمها وجملة نسيناكم خبرها وذوقوا فعل أمر والواو فاعل
والجملة مقول قول محذوف أي ونقول ذوقوا وعذاب الخلد مفعول ذوقوا ، وكرر الذوق مع
مفعوله للتأكيد وتبيين المفعول المطوي للذوق ، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا
وقدمر قريبا وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) كلام مستأنف مسوق لبيان الذين إذا قرئ عليهم القرآن
خروا سجدا وإنما كافة ومكفوفة ويؤمن فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به
والذين فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر
بإضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل وبها متعلقان بذكروا وجملة خروا جواب إذا
وسجدا حال من فاعل خروا.
(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وسبحوا عطف على خروا وبحمد ربهم حال والواو حالية وهم
مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر والجملة في محل نصب على الحال. (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الجملة مستأنفة أو حالية أيضا وجنوبهم فاعل وعن المضاجع
متعلقان بتتجافى. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) جملة يدعون إما مستأنفة وإما حالية أيضا ويدعون ربهم
فعل مضارع وفاعل ومفعول به وخوفا وطمعا إما مفعول من أجله وإما حالان وإما مصدران
لفعل محذوف ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة ما.
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة أي تتجافى جنوبهم ويدعون ربهم
فلا ، ويجوز أن تكون فصيحة أي إن حلول أحد أن يعلم مصيرهم وما أعد الله لهم من قرة
أعين فلا يعلم. ولا نافية وتعلم نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم موصول مفعول تعلم أي
لا تعلم الذي أخفاه الله ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع مبتدأ وأخفي لهم خبره
وعلى قراءة أخفي بسكون الياء تكون ما مفعول أخفي لأنه فعل مضارع وفاعله أنا وتكون
ما الاستفهامية معلقة لمتعلم ولهم متعلقان بأخفي ومن قرة أعين حال من ما وجزاء
مفعول مطلق لفعل محذوف أي جوزوا جزاء أو مفعول لأجله أي أخفي لهم لأجل جزائهم وبما
متعلقان بجزاء وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
البلاغة :
العدول عن
الفعلية الى الاسمية :
في قوله «ولو
ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم» عدول عن الجملة الفعلية الى الجملة الاسمية لتقرير
ثباتهم على نكس رءوسهم خجلا وحياء وخزيا عند ما تبدو مثالبهم وهناتهم بصورة دميمة
شوهاء تبعث على الهزء بهم والسخرية منهم كأنما استمر ذلك منهم ، لا يرتفع لهم رأس
، ولا يمتد منهم طرف.
وكذلك عدل عن
الفعلية الى الاسمية المؤكدة في قوله «إنا موقنون» أي انهم ثابتون على الإيقان
راغبون فيه بعد أن ظهرت لهم المغاب منادية عليهم بالويل والثبور.
الفوائد :
التوكيد
بأجمعين :
يجوز إذا أريد
تقوية التوكيد أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن بجمع فتقول جاء
الجنس كله أجمع والقبيلة كلها جمعاء والقوم كلهم أجمعون والنساء كلهن جمع ، وقد
يؤكد بهن وإن لم يتقدم كل نحو الآية المتقدمة وقوله «لأغوينهم أجمعين».
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا
فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))
الاعراب :
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف
يقتضيه السياق ومن مبتدأ وجملة كان صلة واسمها مستتر تقديره هو ومؤمنا خبرها وكمن
خبر من وجملة كان صلة من الثانية وفاسقا خبر كان وجملة لا يستوون مستأنفة لا موضع
لها من الاعراب ويستوون فعل مضارع مرفوع وفاعل ومتعلقه محذوف أي في المآل ، وروي
أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمّد الوقف على قوله فاسقا ثم يبتدىء بقوله لا
يستوون.
قال الزجاج :
جعل الاثنين جماعة حيث قال : لا يستوون ، لأجل معنى من ، وقيل لكون الاثنين أقل
الجمع. (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة
عملوا الصالحات معطوفة على الصلة داخلة في حيزها فلهم الفاء رابطة ولهم خبر مقدم
وجنات المأوى مبتدأ مؤخر ، والمأوى المكان تلجأ إليه ويقال المأواة والمأوي ،
ونزلا حال من جنات المأوى أي حالة كونها مهيأة ومعدة
لهم ، والنزل بضمتين عطاء النازل ثم صار عاما فاستعماله بمعنى الفندق لا
غبار عليه بل لعله أولى بالنسبة للفنادق الرفيعة لأن الفندق كقنفذ هو الخان كما في
القاموس ويقال فيه الفنتق ، قال ابن عباد هو خان السبيل لغة في الفندق وأنكره
الخفاجي في شفاء الغليل قال شارح القاموس : «وهو ـ أي كلام الخفاجي ـ غير متجه فقد
قال الفراء سمعت أعرابيا من قضاعة يقول فتق للفندق وهو الخان» ، وبما صفة لنزلا
وما مصدرية أو موصولية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو عاطفة وأما شرطية تفصيلية كما تقدم والغالب
تكريرها وسيرد في باب الفوائد إلماع إليها والذين مبتدأ وفسقوا صلة والفاء رابطة
ومأواهم النار ابتداء وخبر والجملة خبر الذين.
(كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم القول في كلما
كثيرا وأرادوا فعل وفاعل والجملة مستأنفة لبيان كيفية مأواهم فيها وأن وما في
حيزها مفعول أرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا وجملة أعيدوا لا محل لها وفيها متعلقان
بأعيدوا وقيل عطف على أعيدوا والواو نائب فاعل ولهم متعلقان بقيل وجملة ذوقوا عذاب
النار مقول القول والذي صفة للعذاب وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتكذبون وجملة
تكذبون خبر كنتم. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ونذيقنهم فعل مضارع
مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء
مفعول به ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بنذيقنهم والأدنى صفة للعذاب
والمراد بالأدنى عذاب الدنيا وما يستهدفون له من محن ونكبات ، ودون ظرف
زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال والعذاب مضاف إليه والأكبر نعت والمراد بالأكبر
عذاب الآخرة ولعل واسمها وخبرها وجملة الترجي حالية والمراد بها ترجي المخاطبين
كما قال سيبويه في تفسيرها. (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال من قابل النعمة بالإعراض
والإشاحة عنها ومن اسم استفهام معناه النفي مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم
وجملة ذكر صلة لمن وبآيات ربه متعلقان بذكر وثم حرف عطف وتراخ وأعرض عطف على ذكر
وعنها متعلقان بأعرض وسيأتي معنى التراخي في باب البلاغة وإنا ان واسمها ومن
المجرمين متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن.
البلاغة :
١ ـ ذكرنا فيما
سبق أن لحروف العطف أسرارا لا يدركها إلا المبين ، فلا يصح وضع بعضها موضع بعض
للفوارق بينها ، وكلمة «ثم» خاصة بالاستبعاد والتطاول في المدة وقد ناسب ذكرها في
قوله «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها» لأن الإعراض عن الآيات مع غاية
وضوحها وإشراقها مستبعد في حكم البداءة الثابتة وموازين العقول الراجحة. وقد رمق
الشعراء سماء هذه البلاغة فقال جعفر بن علبة الحارثي فيما يرويه ديوان الحماسة :
ولا يكشف
الغمّاء إلا ابن حرّة
|
|
يرى غمرات
الموت ثم يزورها
|
نقاسمهم
أسيافنا شر قسمة
|
|
ففينا
غواشيها وفيهم صدورها
|
فقد شبه
الداهية الغماء بأمر محسوس يغشي الناس ويغطيهم على طريق الاستعارة المكنية ، وقال
ابن حرة ليكون حفزا للسامع وتهييجا له على خوض الهيجاء وغمرات الموت شدائده
وأهواله ، والشاهد في قوله ثم يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها
واستيقنها لأن بين رؤية الأهوال المفزعة وبين الانحدار إليها برغبة تشبه الرغبة في
لقاء المحبوب بونا بعيدا في العادة والعقل ، وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء
تجري فيه المقاسمة على طريق الاستعارة المكنية ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم
غواشيها أي ما يغشاهم منها وهي مقابضها أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه
صدورها أي أطرافها المتقدمة منها وصدر كل شيء مقدمه ، وعبر بفي دون اللام لأن «في»
تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم واللام تفيد التملك وليس
مرادا وإن كان مقتضى القسمة فلعله دفع توهمه بالعدول الى «في» وذكرها أولا تمهيدا
للثانية.
٢ ـ في قوله «وأما
الذين فسقوا فمأواهم النار» الآية ، فن من فنون البديع لم يذكره أحد من الذين
كتبوا في فنون البديع ما عدا ابن أبي الإصبع وهو الشماتة ، وهو ذكر ما أصاب عدوك
من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه وما يتخبط به من
أهوال وإظهار اغتباطك بما أصابه شماتة به وتشفيا منه ، وفي هذه الآية من ضروب
التشفي والشماتة ما لا يخفى ، وهو شائع في القرآن وفي الشعر ومنه قصيدة «فتح
الفتوح» لأبي تمام.
الفوائد :
عود على أمّا :
(أَمَّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتوكيد وتفصيل غالبا
ويدل على معنى الشرط مجيء الفاء بعدها غالبا ، ويدل على معنى التفصيل استقراء
مواقعها وعطف مثلها عليها ، ولا بد لها من فاء تالية لتاليها إلا ان دخلت الفاء
على قول قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها منه.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا
لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))
اللغة :
(الْجُرُزِ) : يقال : جرزه الزمان : اجتاحه ، قال تبع :
لا تسقني
بيديك إن لم ألقها
|
|
جرزا كأن
أشاءها مجروز
|
وأرض مجروزة
وقد جرزت : قطع نباتها وأرض جرز وأرضون أجراز وسنون أجراز : جدبة ومفازة مجراز.
قال الراعي :
وغبراء مجراز
يبيت دليلها
|
|
مشيحا عليها
للفراقد راعيا
|
وسيف جراز و «لن
ترضى شانئة إلا بجرزة» مثل في العداوة وأن المبغض لا يرضى إلا باستئصال من يبغضه
وضربه بالجرز وخرجوا بأيديهم الجرزة وجاء بجرزة من قت وبجرز منه وهي الحزمة
والعامة تستعمل هذه الكلمة كثيرا ولا غبار عليها كما ترى ، ومن المجاز رجل جروز :
أكول لا يدع على المائدة شيئا ، وامرأة جارز : عاقر. وفي المختار : «أرض جرز وجرز
كعسر لا نبات بها» أي قطع وأزيل بالمرة وقيل هو اسم موضع باليمن ، وفي المصباح :«الجرزة
: القبضة من القت ونحوه أو الحزمة والجمع جرز كغرفة وغرف وأرض جرز بضمتين قد انقطع
الماء عنها فهي يابسة لا نبات فيها.
الاعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وانما
اختار موسى لأن اليهود والنصارى كانوا مؤمنين به فتمسك بالمجمع عليه ليكون ألزم لإيقاع
الحجة عليهم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى
مفعول به أول لآتينا والكتاب مفعول به ثان والفاء الفصيحة ولا ناهية وتكن فعل
مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها ضمير مستتر تقديره أنت وفي مرية خبرها أي شك ومن
لقائه صفة لمرية والضمير في لقائه يعود على موسى فيكون المصدر وهو لقاء مضافا الى
مفعوله أو على الكتاب وحينئذ تكون الاضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى ، وهناك
أقوال كثيرة في عودة الضمير ضربنا عنها صفحا لتهافتها. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على موسى
والكتاب أيضا وهدى مفعول به ثان ولبني إسرائيل متعلقان بهدى أو صفة له. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) وجعلنا عطف على جعلنا الأول ومنهم مفعول جعلنا الثاني
وأئمة مفعول جعلنا الأول وجملة يهدون صفة لأئمة وبأمرنا حال ولما ظرف بمعنى حين
متعلق بجعلنا أي جعلناهم أئمة حين صبروا وجواب لما محذوف دل عليه ما قبله والتقدير
ولما صبروا جعلنا منهم أئمة وكانوا عطف على صبروا وبآياتنا متعلقان بيوقنون
ويوقنون خبر كانوا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ وجملة يفصل خبر إن أو
خبر هو والجملة خبر إن وبينهم ظرف متعلق بيفصل ويوم القيامة متعلق بمحذوف حال
وفيما متعلقان بيفصل وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون
خبر كانوا.
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر
يقتضيه السياق أي أغفلوا ولم يهد لهم أي يتبين ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويهد فعل
مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ما دل عليه «لم يهد» لأن كم لا
تقع فاعلة والتقدير أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون ، ولك أن تقدره بهذا الكلام
، وكم خبرية في محل نصب مفعول به مقدم لأهلكنا ومن قبلهم حال من القرون ومن القرون
حال أيضا من كم وجملة يمشون إما أن تكون استئنافية مسوقة لبيان وجه هدايتهم وإما
أن تكون حالا من الضمير في لهم والتقدير يمشون أي يمرون في أسفارهم للتجارة على
ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام
المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر
يقتضيه أسلوب الحديث أي أصموا فلا يسمعون ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ
الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر أيضا ولم حرف نفي وقلب
وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعول يروا
وان واسمها وجملة نسوق خبرها والماء مفعول به والى الأرض متعلقان بنسوق والجرز نعت
للأرض.
(فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) فنخرج عطف على نسوق وفاعل نخرج ضمير مستتر تقديره نحن
وبه متعلقان بنخرج وزرعا مفعول به وجملة تأكل صفة لزرعا ومنه متعلقان بتأكل
وأنعامهم فاعل تأكل وأنفسهم عطف على أنعامهم والهمزة للاستفهام الانكاري ، فلا
يبصرون تقدم إعراب نظيره. (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على استهزائهم فقد كانوا يسخرون
من المسلمين الذين يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين ويفصل بيننا وبينهم
فيقولون متى هذا الفتح؟ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو
متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والفتح بدل من اسم الاشارة وإن شرطية وكنتم
كان واسمها في محل جزم فعل الشرط وصادقين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما
قبله. (قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يوم الفتح مبتدأ وجملة لا ينفع خبره والذين كفروا مفعول
ينفع المقدم وإيمانهم فاعل ينفع المؤخر والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر
وينظرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي يمهلون. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ
إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وعنهم متعلقان بأعرض وانتظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف تقديره
النصر عليهم وإن واسمها ومنتظرون خبرها ومفعول منتظرون الذي هو اسم فاعل محذوف
أيضا تقديره النصر عليكم.
البلاغة :
في قوله تعالى «أو
لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم» الآية ، فن المناسبة. والمناسبة قسمان : إما
مناسبة في المعاني وإما مناسبة في الألفاظ ؛ أما الأولى فهي أن يبتدىء المتكلم
بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ وقد مرت أمثلته في الأنعام والقصص
وهذه الآية ، فقد قال تعالى في صدرها أولم يهد لهم وهي موعظة سمعية لكونهم لم
ينظروا الى القرون الهالكة وإنما سمعوا بها فناسب أن يأتي بعدها بقوله «أفلا
يسمعون» أما بعد الموعظة المرئية وهي قوله «أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض
الجرز» فقد ناسب أن يقول «أفلا يبصرون» لأن الزرع مرئي لا مسموع ليناسب آخر كل
كلام أوله ، وأما المناسبة اللفظية فهي الإتيان بألفاظ متزنات مقفاة وغير مقفاة ،
فالمقفاة مع الاتزان مناسبة تامة وغير المقفاة مع الاتزان مناسبة ناقصة وشيوع هذه
في الكلام الفصيح أكثر لعدم التكلف ولأن التقفية غير لازمة فيها فإن وقعت مندرجة
في الكلام من غير تكلف ساغت وكانت آية في الجمال وستأتي أمثلتها في القرآن الكريم
وسبق مثالها في قوله في يونس : «لهم شراب من حميم وعذاب أليم» ومن شواهد التامة في
الحديث قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه من الدعاء مما كان يرقي به الحسن
والحسين «أعيذ كما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامّة»
ولم يقل ملمة وهي القياس لمكان المناسبة ، ومما ورد من المناسبة اللفظية التامة
قول ابن هانىء الأندلسي من أبيات :
وعوانس
وقوانس وفوارس
|
|
وكوانس
وأوانس وعقائل
|
ومن المناسبة
اللفظية غير التامة :
مها الوحش
إلا أن هاتا أوانس
|
|
قنا الحظ إلا
أن تلك ذوابل
|
فقد ناسب بين
مها وقنا مناسبة غير تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل.
سورة الأحزاب
مدنية وآياتها ثلاث
وسبعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))
اللغة :
(تُظاهِرُونَ) : مضارع ظاهر ومصدره الظهار بكسر الظاء وهو ـ كما في
القاموس ـ قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي وقد ظاهر منها وتظهّر وظهّر ،
وخصوا الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج ففي قول المظاهر أنت
عليّ كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر الى المركوب ومن المركوب إلى
المرأة لأنها مركوب الزوج فكأن الظاهر يقول : أنت محرمة عليّ لا تركبين كتحريم
ركوب أمي.
ومن المفيد أن
نورد ما قاله الزمخشري في معنى أنت عليّ كظهر أمي قال : «أرادوا أن يقولوا أنت
عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر
الفرج وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن ومنه حديث عمر رضي
الله عنه : يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره ووجه آخر وهو أن إتيان
المرأة وظهرها الى السماء كان محرما عندهم محظورا وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت
المرأة ووجهها الى الأرض جاء الولد أحول فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم
امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمه فلم يترك ظهر الأم»
وأحكام الظهار مبسوطة في كتب الفقه.
(أَدْعِياءَكُمْ) : جمع دعي وهو من يدعى لغير أبيه ، فعيل بمعنى مفعول
ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعا لفعيل المعتل اللام إذا
كان بمعنى فاعل نحو تقي وأتقياء وغني وأغنياء ، وهذا وإن كان فعيلا معتل اللام إلا
أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في
محل نصب يا والهاء للتنبيه والنبي بدل واتق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة
والفاعل مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة : مفعول به ولا الواو حرف عطف ولا ناهية
وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تطع ضمير مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به
والمنافقين عطف على الكافرين وجملة إن الله تعليل للأمر والنهي لا محل لها وان
واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما خبر كان الأول وحكيما
خبرها الثاني. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) واتبع عطف على اتق وما مفعول به وجملة يوحى صلة ونائب
الفاعل مستتر تقديره هو وإليك متعلقان بيوحى ومن ربك حال وجملة إن الله تعليل
للأمر أيضا وقد تقدم اعرابها قريبا.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض
والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز وأجازوا إعرابه حالا. (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كلام مستأنف مسوق للرد على مزاعم المشركين بأن لبعضهم
قلبين فهو أعقل من محمد وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد. وما نافية
وجعل الله فعل وفاعل ولرجل متعلقان بمحذوف مفعول جعل الثاني أو بنفس جعل وقلبين
مفعول جعل محلا مجرور بمن الزائدة لفظا وفي جوفه صفة لقلبين. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي
تُظاهِرُونَ
مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) الواو عاطفة وما نافية وجعل فعل ماض وفاعل مستتر يعود
على الله وأزواجكم مفعول جعل الأول واللائي اسم موصول صفة وجملة تظاهرون صلة ومنهن
متعلقان بتظاهرون وإنما عدي بمن لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل متباعدين من
نسائهم بسبب الظهار ، وأمهاتكم مفعول جعل الثاني. (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) عطف على ما تقدم وأدعياءكم مفعول جعل الاول وأبناءكم
مفعول جعل الثاني وستأتي قصة زيد بن حارثة في باب الفوائد ، وذلكم مبتدأ والاشارة
للنسب وقولم خبر وبأفواهكم حال أي كائنا بأفواهكم فقط من غير أن تكون له حقيقة.
(وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) الواو للحال أو للاستئناف والله مبتدأ وجملة يقول خبر
والحق صفة لمصدر محذوف أي القول الحق وهو مبتدأ وجملة يهدي السبيل خبر والسبيل
منصوب بنزع الخافض أو مفعول ثان ليهدي كما تقدم. (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) كلام مستأنف لبيان أن نسبة كل مولود الى والده أقوم
وأعدل. وادعوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ولآبائهم متعلقان بادعوهم وهو مبتدأ وأقسط
خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال.
(فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا
فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وآباءهم مفعوله ، فإخوانكم الفاء رابطة للجواب
وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم وفي الدين حال ومواليكم عطف على إخوانكم
أي أبناء عمومتكم ، والمولى يطلق على عدة معان منها ابن العم.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) الواو عاطفة وليس فعل ماض ناقص وعليكم خبر ليس المقدم
وجناح اسمها المؤخر وفيما صفة لجناح وجملة أخطأتم صلة وبه متعلقان بأخطأتم. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف وما عطف
على ما في قوله فيما فمحله الجر ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي تؤاخذون به
أو عليكم الجناح فيه وجملة كان الله حالية أو استئنافية.
الفوائد :
اشتملت هذه
الآيات على فوائد كثيرة نوردها فيما يلي على سبيل الاختصار ونحيل من أراد المزيد
منها على المطولات.
١ ـ معنى ولا
تطع الكافرين والمنافقين :
قال الزمخشري :
«لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة وجانبهم واحترس منهم فانهم أعداء
الله وأعداء المؤمنين لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة ، وروي أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما هاجر الى المدينة وكان يحب اسلام اليهود قريظة والنضير وبني قينقاع
وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم وإذا أتى
منهم قبيح تجاوز عنه وكان يسمع منهم فنزلت» وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن
أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه فنزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين
بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم
عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن
أبيرق فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب : أرفض ذكر آلهتنا وقل إن لها
شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك فشقّ ذلك على النبي فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا
في قتلهم فقال : إني أعطيتهم الأمان فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر
النبي أن يخرجوا من المدينة.
٢ ـ معنى جمع
القلبين :
قام النبي صلى
الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن
له قلبين : قلبا معكم وقلبا معهم ، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال :
كان رجل من قريش يسمى ذا القلبين يقول : لي نفس تأمرني ونفس تنهاني فأنزل الله فيه
ما تسمعون. وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو يعقل
أفضل من عقل محمد وانه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين وأن الآية ردت هذا الزعم
كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب ومعنى القلب اللحمي غير مراد على
كل حال.
هذا ويطلق لفظ
القلب اسما لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى الفؤاد مطلقا ، ويقول بعضهم :
ان القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة كأنه يريد
أن هذا هو الأصل ثم جعله بعضهم اسما لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها
حتى شحمها وحجابها قلبا ويطلق اسما لما في جوف الشيء وداخله واسما لشيء معنوي وهو
النفس الانسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين
وتقسو وتخشى وتخاف ، وقد نسبت إليه كل هذه المعاني في القرآن ، والأصل في هذا أن
أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء الحسية
وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات والوجدانيات كالحب
والبغض والخوف والرجاء ، عدة أسماء منها القلب والروح والنفس واللب ، وهناك مناسبة
أخرى للقلب وهي أن قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها وللوجدانات
النفسية والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان ومهما كانت المناسبة التي
كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة والروح العاقلة
التي يموت الإنسان بخروجها منه قال تعالى «وبلغت القلوب الحناجر» أي الأرواح لا
هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من مكانها وقال «فتكون لهم قلوب فيعقلون بها» أي
نفوس وأرواح وليس المراد أن القلب الحسي آلة العقل وقال «نزل به الروح الأمين على
قلبك» أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية
ولا العقل ، لأن العقل في اللغة ضرب خاص من ضروب العلم والإدراك ولا يقال ان الوحي
نزل عليه ولكن قد تسمى النفس العاقلة عقلا كما تسمى قلبا ، وقد يعزى الى القلب
ويسند اليه ما هو من أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي
كقوله تعالى : «إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» وقوله : «ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم»
وقوله :«ويذهب غيظ قلوبهم».
وقد افتتحت
السورة بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين واتباع الوحي المنزل
خاصة وجاء بعد ذلك قوله تعالى «ما جعل الله لرجل من قلبين» فكان المراد منه أن
الإنسان لا يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين وهما ابتغاء مرضاة الله
وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين بل له قلب واحد إذا صدق في التوجه الى شيء لا
يمكنه أن يتوجه الى ضده بالصدق والإخلاص
فيكون في وقت واحد مخلصا لله ومخلصا لأعداء دينه ، ومن هذا الباب قول
الشاعر وقد رمق سماء هذا المعنى :
لو كان لي
قلبان عشت بواحد
|
|
وتركت قلبا
في هواك يعذب
|
وخلاصة القول
أن أشد ما ذكر فيه من التأويلات انهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين فنفى الله صحة
ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة كجعل الأدعياء أبناء والزوجات
أمهات وهذه الأمور الثلاثة متنافية ، أما الأول فإنه يلزم من اجتماع القلبين قيام
أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك ،
وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام فنافى أن تكون
الزوجة أما ، وأما الثالث فلأن البنوّة أصالة وعراقة في النسب والدعوة لاصقة عارضة
به فهما متنافيان وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع
بالإنكار.
هذا وقد قال
تعالى هنا «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقال في موضع آخر : «رب إني نذرت
لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية ولم يستعمل الجوف
موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدّلالة وهما ثلاثيتان في عدد
واحد ووزنهما واحد أيضا فانظر الى سبك الألفاظ كيف يفعل فعله؟
٣ ـ قصة زيد بن
حارثة :
أجمع أهل
التفسير على أن قوله تعالى «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» أنزل في زيد بن حارثة ،
وكان من أمره ما رواه أنس بن مالك وغيره أنه سبي صغيرا فابتاعه حكيم بن حزام بن
خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فأعتقه وتبناه فأقام عنده مدة ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما رسول الله
: خيّراه فإن اختراكما فهو لكما دون فداء فاختار زيد الرق مع رسول الله على حريته
فقال النبي عند ذلك : يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني ، ولما تزوج النبي زينب بنت
جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي قالوا تزوج محمد امرأة ابنه
فكذبهم الله في ذلك وسترد القصة مع مناقشتها قريبا في هذه السورة.
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ
إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ
مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))
الاعراب :
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) النبي مبتدأ وأولى بالمؤمنين خبر ومن أنفسهم متعلقان
بأولى أيضا. (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) الواو عاطفة وأزواجه مبتدأ وأمهاتهم خبر وسيأتي معنى
هذا التشبيه في باب البلاغة وأولو الأرحام مبتدأ أيضا والأرحام جمع رحم وهي
القرابة وبعضهم مبتدأ ثان أو بدل من أولو وأولى ببعض خبر ولا بد من تقدير مضاف
محذوف أي بإرث بعض وفي كتاب الله متعلقان بأولى أو بمحذوف حال من الضمير في أولى
ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بأولى أيضا أي الأرقاب بعضهم أولى بإرث بعض من أن
يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب ولك أن تعلقها بمحذوف على أنها حال لأنها
بمثابة البيان لقوله أولو الأرحام. (إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) إلا أداة استثناء وأن تفعلوا مصدر مؤول مستثنى من أعم
العام لأنه استثناء من غير الجنس أي إلا في الوصية وهي المعنية بفعل المعروف والى
أوليائكم متعلقان بتفعلوا بعد تضمينها معنى تؤدوا أو تسدوا ومعروفا مفعول به وكان
واسمها ومسطورا خبرها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر والكلام مستأنف ولك أن
تعطفه على محل في الكتاب فيتعلق بمسطورا والأول أولى وجملة أخذنا في محل جر بإضافة
الظرف إليها ومن النبيين متعلقان بأخذنا وميثاقهم مفعول به والمراد به تبليغ
الرسالة وما بعده عطف على من النبيين من عطف الخاص على العام كما سيأتي في باب
البلاغة.
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) عطف على أخذنا السابقة وسيأتي سر وصف الميثاق بالغلظ في
باب البلاغة. (لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) اللام للتعليل ويسأل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بأخذ على طريق الالتفات وفاعل مستتر يعود على الله
والصادقين مفعول به وعن صدقهم متعلقان بيسأل وأعد للكافرين عطف على أخذنا من
النبيين وللكافرين متعلقان بأعد وعذابا مفعول به وأليما صفة.
البلاغة :
١ ـ التشبيه
البليغ :
في قوله «وأزواجه
أمهاتهم» تشبيه بليغ ووجه الشبه متعدد يتعلق ببعض الأحكام وهي : وجوب تعظيمهن
واحترامهن وتحريم نكاحهن ولذلك قالت عائشة : «لسنا أمهات النساء» تعني أنهن إنما
كنّ أمهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم ولهذا كان لا بد من تقدير
أداة التشبيه فيه.
٢ ـ عطف الخاص
على العام :
وفي قوله «وإذا
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك» الآية ، عطف الخاص على العام لأن هؤلاء الخمسة
المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل فآثرهم بالذكر للتنويه
بإنافة فضلهم على غيرهم ، وقدم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مع أنه مؤخر عن نوح
ومن بعده لأنه هو المخاطب من بينهم والمنزل عليه هذا المتلو فكان تقديمه لهذا
السبب لا لأن التقديم في الذكر مقتض لكونه أفضلهم ، فقد ورد في الشعر قوله :
بهاليل منهم
جعفر وابن أمه
|
|
علي ومنهم
أحمد المتخير
|
فأخر ذكر النبي
ليختم به تشريفا.
٣ ـ الاستعارة
المكنية :
وفي وصف
الميثاق بالغلظ استعارة مكنية ، شبّه الميثاق بجرم محسوس واستعار له شيئا من صفات
الأجرام وهو الغلظ للتنويه بعظم الميثاق وجلاله وهو المعني بقوله تعالى «وإذا أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ
قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣))
اللغة :
(الْحَناجِرَ) : جمع حنجرة وهي الحلقوم أو رأس الغلصمة وهي منتهى
الحلقوم وعبارة الزمخشري : «قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو
الغم الشديد ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثمة قيل للجبان انتفخ
سحره ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة».
(زِلْزالاً) : بكسر الزاي وهي القراءة العامة ويجوز فتحها إذ هما
لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان نحو زلزال وقلقال وصلصال ، وقد يراد
بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل وزلزال بمعنى مزلزل.
(يَثْرِبَ) : في القاموس : «يثرب وأثرب مدينة النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يثربي وأثربي بفتح الراء وكسرها فيهما» قيل سميت باسم رجل من العمالقة
كان نزلها في قديم الزمان وقيل يثرب اسم لنفس المدينة وقد نهى النبي أن تسمى بهذا
الاسم لما فيه من التثريب وهو التقريع والتوبيخ فذكروها بهذا الاسم مخالفة للنبي
وفي المختار : التثريب التعبير والاستقصاء في اللوم وثرب عليه تثريبا قبح عليه
فعله.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) اذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليهم
متعلقان بنعمة أو بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا فهو بمثابة
بدل الاشتمال من نعمة الله والمراد بنعمة نصره في غزوة الأحزاب وسيأتي
حديثها في باب الفوائد وجملة جاءتكم جنود في محل جر بإضافة الظرف إليها. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فأرسلنا عطف على جاءتكم وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا
مفعول به وجنودا عطف على ريحا وجملة لم تروها صفة لجنودا وكان الله كان واسمها
وبما متعلقان ببصيرا وجملة تعملون صلة وبصيرا خبر كان. (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الظرف بدل من إذ جاءتكم وجملة جاءوكم مضاف إليها ومن
فوقكم متعلقان بجاءوكم ومن أسفل منكم عطف على من فوقكم.
(وَإِذْ زاغَتِ
الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) عطف على إذ السابقة وكذلك بلغت القلوب الحناجر وتظنون
بالله الظنونا والظنونا مفعول مطلق والألف مزيدة تشبيها للفواصل بالقوافي وسيأتي
سر الجمع مع أقوال النحاة في جمع المصدر في باب الفوائد.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) هنا لك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية
واللام للبعد والكاف للخطاب وهو متعلق بابتلي ويجوز أن يكون ظرف زمان وابتلي فعل
ماض مبني للمجهول والمؤمنون نائب فاعل وزلزلوا عطف على ابتلي والواو نائب فاعل
وزلزالا مصدر مبين للنوع وشديدا صفة. (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا
غُرُوراً) الظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة يقول في محل جر بإضافة
الظرف إليها والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وجملة
ما وعدنا مقول القول والله فاعل ورسوله عطف عليه
وإلا أداة حصر وغرورا صفة لمفعول مطلق محذوف أي إلا وعد غرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا
أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) عطف على ما تقدم وقالت طائفة فعل وفاعل ومنهم صفة
لطائفة ويا حرف نداء وأهل يثرب منادى مضاف ويثرب منعت من الصرف للعلمية ووزن الفعل
وفيها التأنيث أيضا ولا نافية للجنس ومقام اسمها المبني على الفتح ولكم خبرها
ومقام بضم الميم وفتحها أي لا إقامة ولا مكانة ، فارجعوا الفاء الفصيحة أي إن
سمعتم نصحي فارجعوا والقائل هو أوس بن قيظي بكسر الظاء من رؤساء المنافقين.
(وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ويستأذن الواو الاستئنافية ويستأذن فريق فعل مضارع
وفاعل ولك أن تعطف على ما تقدم فتكون صيغة المضارع لاستحضار الصورة ومنهم صفة لفريق
والنبي مفعول به وجملة يقولون حالية أو مفسرة ليستأذن وهو قول جميل وجملة إن وما
في حيزها مقول القول وإن واسمها وخبرها والمراد بعورة الخلل الذي يجعلها مستهدفة
للعدو لأنها تكون غير حصينة والواو للحال وما نافية حجازية وهي اسمها والباء حرف
جر زائد وعورة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وإن نافية ويريدون فعل مضارع
مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به.
الفوائد :
١ ـ غزوة
الأحزاب :
كانت غزوة
الأحزاب في شوال سنة أربع وقيل سنة خمس المصادف لآذار سنة ٦٢٧ م حيث تحرك الى
المدينة جيش مؤلف من
حوالي عشرة آلاف رجل بينهم أربعة آلاف قرشي بقيادة أبي سفيان وكانت حركة
هذا الجيش سريعة فوق العادة ، هذه المرة ، وسببها فيما يذكر المؤرخون انه لما وقع
اجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم بينهم حيي بن أخطب سيدهم الى
أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى
نستأصله فقال أبو سفيان : مرحبا وأهلا وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد
ثم قالت قريش لأولئك اليهود : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فأخبرونا أنحن
على الحق أم محمد؟ فقالوا بل أنتم على الحق وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم
وثنيتهم على محمد يقول الدكتور إسرائيل ولغنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد
العرب» : «كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وأن لا
يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولو أدّى بهم
الأمر الى عدم إجابة مطلبهم لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ عدة قرون حاملي راية
التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا
تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من أدوار التاريخ كان
من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلا
عن أنهم بالتجائهم الى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم ويناقضون
تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة».
تحريض القبائل
وتأليبها :
لم يكّف حيي بن
أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى
تنشط لمحاربته بل
خرج أولئك اليهود الى غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن
أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر وما زالوا
يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون
لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد
وأصحابه.
ما عسى أن يصنع
المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟ لم يكن لهم غير
التحصن بيثرب العذراء سبيل ولكن؟! أفيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة ،
وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب فأشار
بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها وسارع المسلمون الى تنفيذ نصيحته فحفر
الخندق وعمل فيه النبي بيده فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم تشجيع ،
وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد فلم تجد عنده أحد فجاوزته الى
المدينة حتى فاجأها الخندق فعجبت إذ لم تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول منها
وبلغ منها الغيظ حتى زعمت الاحتماء وراءه جبنا لا عهد للعرب به ورأت قريش والأحزاب
معها أن لا سبيل الى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام.
وأيقن أبو
سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها
وكان الوقت آنئذ شتاء قارصا برده ، عاصفة رياحه ، يخشى في كل وقت مطره ، وإذا كان
يسيرا أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان فالخيام
التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا وهم بعد
جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد ثم يعودون أدراجهم
ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب ، وماذا عسى يمسك غطفان على أن تعود أدراجها
وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر ثمار سنة كاملة من ثمار
مزارع خيبر وحدائقه وهذه هي ترى النصر غير ميسور أو هو على الأقل غير محقق وهو
يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارص الى ما ينسيها الثمار والحدائق.
فأما انتقام
قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا
الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة
مددا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا ، أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟
بلى ولكن جمع
هذه الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالميسور ، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب
فالويل لليهود ، قدر حيي بن أخطب هذا كله وخاف مغبّته ورأى أن لا مندوحة له عن أن
يغامر بآخر سهم عنده فأوحى الى الأحزاب انه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم
محمدا والمسلمين وبالانضمام إليهم ، وان قريظة متى فعلت ذلك انقطع المدد والميرة
عن محمد من ناحية وفتح الطريق لدخول يثرب من الناحية الأخرى ، وسارع هو فذهب يريد
كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وما زال به حتى فتح باب الحصن وقال له : ويحك يا
كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام : جئتك بقريش وبغطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا
حتى نستأصل محمدا ومن معه ، وتردّد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده وخشي مغبة ما
يدعوه حيي إليه ، بيد أن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد
وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه حتى لان كعب له
فسأله : وما ذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت غطفان وقريش
ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشد أزره ويشاركه حظه وتحركت في نفس كعب
يهوديته فقبل ما طلب حيي ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج عن حياده.
وسمت روح
الأحزاب المعنوية حتى دفعت بعض فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي
جهل وضرار بن الخطاب أن يقتحموا الخندق فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم
فاجتازت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين
فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم وتقدم عمرو بن عبد ود ينادي من يبارز؟
ولما دعاه علي بن أبي طالب الى النزال قال في صلف : ارجع يا ابن أخي فو الله ما
أحب أن أقتلك ، قال علي : لكني والله أحب أن أقتلك فتنازلا فقتله علي وفرت خيل
الأحزاب منهزمة حتى اقتحمت الخندق من جديد مولية الأدبار لا تلوي على شيء.
وأعظمت الأحزاب
نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وأضعافا لووحهم وبدأ المتحمسون من قريظة ينزلون
من حصونهم وآطامهم الى المدينة ومنازلها القريبة منهم يريدون إرهاب أهلها ، كانت
صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان فيه مع النساء والصبيان
فمر بهم يهودي فقالت صفية مخاطبة حسان : إن هذا اليهودي يطيف بالحصن فانزل إليه
واقتله ، قال حسان : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا
فأخذت صفية عمودا ونزلت من الحصن
وضربت به اليهودي حتى قتلته فلما رجعت قالت يا حسان انزل اليه فاسلبه فانه
لم يمنعني من سلبه إلا انه رجل ، قال حسان مالي الى سلبه من حاجة.
وظل أهل
المدينة في فزعهم بينا جعل محمد صلى الله عليه وسلم يفكر في الوسيلة للخلاص ولم
تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحيلة فلتكن الحيلة وليكن الرأي والتدبير فبعث
الى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت وكانت غطفان قد بدأت تمل فأظهرت
امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه ، ولما كان الليل عصفت ريح
شديدة وهطل المطر هاتنا وقصف الرعد واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وأدخلت
الرعب الى نفوسهم وخيل إليهم أن المسلمين بدءوهم بشر فقام طليحة بن خويلة فنادى :
أن محمد قد بدأكم بشر فالنجاة ، وقال أبو سفيان يا معشر قريش : إنكم والله ما
أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلقتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره
ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا إني مرتحل ، فاستخف القوم ما استطاعوا من
متاع وانطلقوا وتبعتهم غطفان حتى إذا كان الصبح لم يجد محمد منهم أحدا فانصرف
راجعا الى المدينة والمسلمون معه يرفعون أكف الضراعة شكرا أن رفع الله الضر عنهم
وأن كفى الله المؤمنين شر القتال وحين انجلى الأحزاب قال رسول الله : الآن نغزوهم
ولا يغزونا والبقية في السير والمطولات.
٢ ـ هل يثنى
المصدر ويجمع؟
المصدر المؤكد
لعامله لا يثنى ولا يجمع بانفاق فلا يقال ضربت ضربين ولا ضربت ضروبا لأنه اسم جنس
مبهم والمصدر المبهم
لا يتأتى فيه ضمه الى شيء آخر لأنه يدل على مجرد الحقيقة والحقيقة من حيث
هي حقيقة تدل على القليل والكثير فلم يبق شيء يضم إليها فتصح فيها التثنية والجمع
وهذا أمر عقلي وإنما جاز تثنية المصدر المختوم بالتاء وجمعه لأنه بدخول التاء صار
يدل على مرة واحدة من ذلك المصدر فيصح ضمه الى ما المرة الواحدة منه فيثنى ويجمع ،
واختلف في المصدر النوعي والمشهور الجواز فيقال ضربت ضربين ضربا عنيفا وضربا رفيقا
وضربت ضروبا مختلفة ، وظاهر مذهب سيبويه المنع وانه لا يقال منه إلا ما سمع ،
واحتج المجيز بمجيئه في الفصيح كقوله تعالى «وتظنون بالله الظنونا» قالوا : وانما
جمع الظن لاختلاف أنواعه لأن من خلص إيمانه ظن أن ما وعدهم الله به من النصر حق ومن
ضعف إيمانه اضطرب ظنه ومن كان منافقا ظن أن الدائرة تكون على المؤمنين فأخلفت
ظنونهم ، والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :
وما لتوكيد
فوحد أبدا
|
|
وثنّ واجمع
غيره وأفردا
|
٣ ـ اختلف القراء في هذه الألف في
الظنونا فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ورويت هذه القراءة عن أبي
عمرو والكسائي وتمسّكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان ، فإن
الألف فيها كلها ثابتة واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال : لا ينبغي
للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن ، وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من
مثل هذا ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معا وقالوا
هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها وأما في الشعر فهو يجوز فيه
للضرورة ما لا يجوز في غيره ، وقرأ ابن كثير
والكسائي وابن محيص بإثباتها وقفا وحذفها وصلا وهذه القراءة راجحة باعتبار
اللغة العربية وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق والكلام فيها معروف
وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله : الرسولا والسبيلا كما سيأتي في آخر
هذه السورة.
(وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما
تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ
إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))
الاعراب :
(وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) الواو عاطفة ودخلت فعل ماض مبني للمجهول وعليهم متعلقان
به ونائب الفاعل مستتر أي المدينة أو بيوتهم ومن أقطارها حال أي من جميع جوانبها
وثم حرف عطف وتراخ وسئلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والفتنة مفعول به
ثان لسئلوا والمراد بالفتنة الردة والرجعة الى الكفر واللام واقعة في جواب لو
وأتوها فعل
وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَما تَلَبَّثُوا
بِها إِلَّا يَسِيراً) الواو عاطفة وما نافية وتلبثوا فعل ماض وفاعل وبها
متعلقان بتلبثوا وإلا أداة حصر ويسيرا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف فيصح أن تكون
مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (وَلَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكانوا
فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة عاهدوا خبرها ولفظ الجلالة مفعول به ومن قبل
متعلقان بعاهدوا وجملة يولون الأدبار لا محل لها لأنها جواب للقسم والأدبار مفعول
به ثان ليولون والمفعول الاول محذوف أي لا يولون العدو الأدبار والواو عاطفة وكان
واسمها وخبرها أي مطلوبا.
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن
والكاف مفعول به والفرار فاعل وإن حرف شرط جازم يجزم فعلين وفررتم فعل ماض في محل
جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله ومن الموت متعلقان بفررتم وإذن حرف
جواب وجزاء مهمل لوقوعه بعد عاطف كما هو الغالب عليه ولا نافية وتمتعون فعل مضارع
مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا
تمتيعا قليلا أو صفة لظرف محذوف أي إلا زمانا قليلا فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو
ظرف زمان. (قُلْ مَنْ ذَا
الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ
رَحْمَةً) من اسم استفهام مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر
والذي بدل وجملة يعصمكم من الله صلة وإن شرطية وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط
والجواب محذوف دل عليه
ما قبله أي فمن ذا الذي يعصمكم وسوءا مفعول به أو أراد بكم رحمة عطف على ما
تقدم ولا بد من تقدير محذوف أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويجدون فعل وفاعل
ولهم في محل نصب مفعول ثان ليجدون ومن دون الله حال ووليا مفعول به أول ولا نصيرا
عطف على وليا.
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي
يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ
حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ
أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))
اللغة :
(الْمُعَوِّقِينَ) : المثبطين الذين كانوا يخذلون المسلمين وفي الأساس :«وعاقه
واعتاقه وعوقه «قد يعلم الله المعوّقين منكم» وتقول : فلان صحبه التعويق فهجره
التوفيق ، ورجل عوقة : ذو تعويق وترييث عن الخير وتقول : يا من عن الخير يعوق ، إن
أحق أسمائك أن تعوق».
(أَشِحَّةً) جمع شحيح وهو البخيل والحريص وهو جمع غير مقيس لأن قياس
فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن تجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء وظنين
وأظناء وقد سمع أشحاء وهو القياس.
(سَلَقُوكُمْ) : آذوكم أو ضروكم وفي المختار : «سلقه بالكلام آذاه وهو
شدة القول باللسان قال تعالى : «سلقوكم بألسنة حداد» وسلق البقل أو البيض أغلاه
بالنار إغلاءة خفيفة وباب الكل ضرب» وفي المصباح أنه من باب قتل أيضا وعبارة
الراغب : «السلق بسط بقهر إما باليد أو باللسان ويؤخذ من القاموس واللسان : سلق
يسلق من باب قتل البيض أو البقل أغلاه بالنار وطبخه بالماء ، وسلقه بالكلام : آذاه
ومنه سلقه بألسنة حداد ، وسلقه بالرمح طعنه وسلقه بالسوط ضربه الى أن نزع جلده ،
وسلق اللحم عن العظم قشره ، ويجوز أن يكون الكلام مجازيا كما سيأتي في باب البلاغة
وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالا لا غبار عليه.
الاعراب :
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لتصوير حال المنافقين ، وقد حرف تكثير
وأصله للتقليل إذا دخل على فعل المضارع وقد تقدم بحثه ، ويعلم الله المعوقين فعل
وفاعل ومفعول به ومنكم حال والقائلين عطف على المعوقين ولإخوانهم متعلقان
بالقائلين وهلم اسم فعل أمر وإلينا متعلقان به وهي لغة أهل الحجاز يسوون فيه بين
الواحد والجماعة ويستعمل لازما كما هنا ومتعديا كما في الأنعام وقد تقدم القول
فيه. (وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ
إِلَّا
قَلِيلاً) الواو حالية ولا نافية ويأتون البأس فعل مضارع مرفوع
وفاعل ومفعول به أي القتال وإلا أداة حصر وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أشحة حال من فاعل يأتون أو منصوب على الذم بفعل محذوف
تقديره أذم وعبارة الزمخشري : «أشحة عليكم : في وقت الحرب أضناء بكم يترفرفون
عليكم كما يفعل الرجل بالذابّ عنه المناضل دونه عند الخوف» فإذا الفاء استئنافية
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها
وجملة رأيتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة ينظرون إليك حال لأن
الرؤية هنا بصرية وإليك متعلقان بينظرون.
(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) جملة تدور أعينهم حال من فاعل ينظرون وهو الواو وكالذي
نعت لمصدر محذوف أي تدور دورانا كدوران عين الذي ، فبعد الكاف محذوفان وهما دوران
وعين ، وجملة يغشى صلة الذي ويغشى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مصدر
مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويغشى الغشيان المعهود وعليه متعلقان
بيغشى ويجوز أن يكون نائب الفاعل هو الجار والمجرور وقد تقدم بحث ما ينوب عن نائب
الفاعل فجدد به عهدا. (فَإِذا ذَهَبَ
الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
ذهب الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة سلقوكم جواب شرط غير جازم لا محل
لها وبألسنة متعلقان بسلقوكم وحداد نعت لألسنة.
(أَشِحَّةً عَلَى
الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيراً) أشحة نصب على الحال أو على الذم كما تقدم وعلى الخير
متعلقان بأشحة أي على الغنيمة يطلبونها وأولئك مبتدأ وجملة لم يؤمنوا خبر ،
فأحبط عطف على لم يؤمنوا والله فاعل وأعمالهم مفعول به وكان الواو حالية أو
استئنافية وكان واسمها وخبرها وعلى الله حال والاشارة للاحباط والمعنى أن أعمالهم
جديرة بالإحباط لا يصرف عنه صارف وليس هو بالأمر الصعب العسير.
البلاغة :
١ ـ فن التندير
:
في قوله «فإذا
جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه الموت» فن ألمع اليه
صاحب نهاية الأرب وابن أبي الإصبع وهو فن «التندير» وحدّه أن يأتي المتكلم بنادرة
حلوة أو نكتة مستطرفة وهو يقع في الجد والهزل فهو لا يدخل في نطاق التهكم ولا في
نطاق فن الهزل الذي يراد به الجد ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة وذلك واضح في
مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم
حالة الملاحظة كحالة من يغشى عليه من الموت ولو اقتصر على قوله كالذي يغشى عليه من
الموت لكان كافيا بالمقصود ولكنه زاد شيئا بقوله «من الموت» إذ أن حالة المغشي
عليه من الموت أشد وأنكى من حالة المغشي عليه من غير الموت ولو جاء سبحانه في موضع
الموت بالخوف لكان الكلام بليغا لا محالة غير أن ما جاء في التنزيل أبلغ وهو مع
ذلك خارج مخرج الحق متنزل منزلة الصدق فإن من كان قوي النفس شجاع القلب لا يرضى
بالنفاق بل يظهر ما يبطنه الخائف لأنه لا يبالي بالموت.
٢ ـ الاستعارة
المكنية :
وذلك في قوله «سلقوكم
بألسنة حداد» فقد شبه اللسان بالسيف ثم حذف المشبه به واستعار شيئا من خصائصه وهو
الضرب وهذه الاستعارة تتأتى على تفسير السلق بالضرب والحامل عليه وصف الألسنة
بالحداد كما تقدم في باب اللغة.
(يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما
قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا
اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً
وَتَسْلِيماً (٢٢))
اللغة :
(بادُونَ) : جمع باد وهو ساكن البادية يقال : لقد بدوت يا فلان أي
نزلت البادية وصرت بدويا وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري ، ويقال : أين الناس؟
فتقول : لقد بدوا أي خرجوا الى البدو وكانت لهم غنيمات يبدون إليها.
(الْأَعْرابِ) : قال في القاموس وشرحه : العرب بالضم وبالتحريك خلاف
العجم مؤنث وهم سكان الأمصار أو عام والأعراب
منهم سكان البادية لا واحد له ويجمع أعاريب وعرب عاربة وعرباء وعربة صرحاء
ومتعربة ومستعربة دخلاء.
الاعراب :
(يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) الكلام مستأنف مسوق لتصوير خوفهم ولك أن تجعله حالا من
أحد الضمائر المتقدمة أي هم من الخوف بمثابة من لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا
عنهم وتخلوا عن نصرتهم.
ويحسبون فعل
مضارع مرفوع والواو فاعل والأحزاب مفعول به أول وجملة لم يذهبوا مفعول به ثان وإن
الواو عاطفة وإن شرطية ويأت فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والأحزاب
فاعل ويودوا جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون ولو مصدرية ، ولو وما بعدها
في تأويل مصدر مفعول يودوا أي يتمنون لخوفهم مما منوا به أشرتهم خارجين الى البدو
، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره يودوا لو ثبت أنهم بادون
، وسيأتي مزيد بحث عن لو المصدرية في باب الفوائد ، وأن واسمها وبادون خبرها وفي
الأعراب متعلقان ببادون أو بمحذوف حال.
(يَسْئَلُونَ عَنْ
أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) جملة يسألون يجوز أن تكون مستأنفة أو أن تكون حالا من
ضمير يحسبون ، وعن أنبائكم متعلقان بيسألون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها
وفيكم خبرها وما نافية وقاتلوا فعل وفاعل وجملة ما قاتلوا لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم ويتمشى عليها ما أوردناه في قوله «ولو أن ما في البحر من شجرة أقلام»
الآية ،
وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا قتالا قليلا أو نعت لظرف
محذوف أي إلا وقتا قليلا.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كلام مستأنف مسوق لعتاب المتخلفين عن القتال واللام
جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وفي رسول
الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأسوة وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة صفة لأسوة أي
قدوة حسنة بضم الهمزة وقد تكسر.
(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) لمن الجار والمجرور بدل من لكم وأعيدت اللام مع البدل
للفصل أو يكون بدل اشتمال ، وجملة كان صلة من واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو
الله خبرها واليوم الآخر عطف على لفظ الجلالة وذكر عطف على كان ولفظ الجلالة مفعول
به وكثيرا مفعول مطلق أو ظرف وقد تقدم نظيره قريبا.
(وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) لما ظرفية حينية متعلقة بقالوا أو رابطة متضمنة معنى
الشرط على كل حال ورأى المؤمنون الأحزاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة قالوا لا
محل لها وهذا مبتدأ وما خبر والجملة مقول القول وجملة وعدنا الله ورسوله صلة ما. (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما
زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) الواو عاطفة وصدق الله فعل وفاعل وفيه وضع الظاهر موضع
المضمر لتعظيمه والتنويه بوعدهما الكائن ، وما زادهم عطف على صدق وإلا أداة حصر
وإيمانا مفعول به ثان لزادهم وتسليما عطف على إيمانا وفاعل زادهم ضمير الوعد أو
الصدق.
البلاغة :
في قوله : «وصدق
الله ورسوله» فن تكرير الظاهر تعظيما ، ولو أنه أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الله
تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة ، فقال وصدقا ، وقد كره النبي ذلك حين رد على أحد
الخطباء الذين تكلموا بين يديه إذ قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما
فقد غوى فقال النبي له : بئس خطيب القوم أنت قل : ومن يعص الله ورسوله ، قصدا الى
تعظيم الله. وقد استشكل بعض العلماء قوله عليه الصلاة والسلام حتى يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما فقال انه جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب على هذا
الاستشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منّا فليس لنا أن نقول كما
يقول.
الفوائد :
لو المصدرية :
لو المصدرية
ترادف أن المصدرية في المعنى والسبك إلا أنها لا تنصب ، وأكثر وقوعها بعد مفهوم
تمن مثل ودّ وأحب واختار وتمنى وقيل بل بعد ودّ وتمنى خاصة لأن الإنسان قد يحب
الشيء ولا يتمنى حصوله لعارض في طلبه ، وتقع بعد غير التمني قليلا كقول قتيلة
بالتصغير بنت النضر بن الحارث الأسدية تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل
أباها النضر صبرا بعد أن انصرف من غزوة بدر :
ما كان ضرك
المن لو مننت وربما
|
|
منّ الفتى
وهو المغيظ المحنق
|
أي ما كان ضرك
المن وقبل هذا البيت :
أمحمد ولأنت
فحل نجيبة
|
|
في قومها
والفحل فحل معرق
|
وسبب قتل النبي
أباها أنه كان يقرأ أخبار العجم على العرب ويقول محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود
وأنا آتيكم بخبر الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك أذى النبي ، فلما سمع النبي هذا
البيت وهو من أبيات أنشدتها بين يديه قال : لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه
ثم قال لا يقتل قرشي صبرا.
هذا وقد استدل
بقوله صلى الله عليه وسلم : «لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه» بعض
الأصوليين على جواز تفويض الحكم الى المجتهد فيقال له : احكم بما شئت فهو صواب ،
وعلى وقوع ذلك فإن قوله قبل قتله يدل على أن القتل وعدمه مفوضان اليه ، والمانعون
من الوقوع يجيبون بأن يجوز أن يكون النبي خيّر فيهما معا فقيل له : لك أن تأمر
بقتله وأن لا تأمر ونحو ذلك ، ويجوز أن وحيا نزل بأنه لو شفع فيه ما قتله.
والنجيبة الكريمة الحسنة والفحل الذكر من كل حيوان كما في القاموس والمعرق اسم
فاعل من أعرق الرجل صار عريقا وهو الذي له عرق في الكرم ومعنى لو مننت لو أنعمت
وأحسنت ، ثم يحتمل أن يكون المصدر المؤول من لو ومننت أي المنّ اسم كان المؤخر
وجملة ضرك خبرها المقدم ويحتمل أن يكون المصدر فاعل لضرك والجملة خبر كان واسمها
ضمير الشأن ويحتمل أن تكون ما استفهامية محلها الرفع على الابتداء ، وكان يحتمل أن
تكون زائدة وأن لا تكون فعلى الأول تكون جملة ضرك خبرا عن ما الاستفهامية
وعلى الثاني تكون جملة ضرك خبر كان وجملة كان خبر ما ، هذا ويحتمل أن تكون لو
شرطية على بابها وما تقدم دليل الجواب ويطيح هذا كله ، والمغيظ بفتح الميم اسم
مفعول من غاظه يغيظه بالغين والظاء المعجمتين الغضب أو شدته أو سورة أوله ،
والمحنق بضم الميم وفتح النون اسم مفعول من أحنقه بالحاء المهملة إذا أغاظه.
ونعود الى ذكر
لو المصدرية فنقول : لو المصدرية لا جواب لها وإذا وليها فعل ماض بقي على مضيه
وإذا وليها فعل مضارع محضته للاستقبال كما أن المصدرية كذلك.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))
اللغة :
(قَضى نَحْبَهُ) : مات والنحب النذر ووقع قولهم قضى نحبه عبارة عن الموت
لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي
نذره والنذر بفتح النون ، وقد وهم صاحب المنجد فضبطه بكسرها وهذا غريب ، وفي
المصباح :«نحب نحبا من باب ضرب بكى والاسم النحيب ونحب نحبا من باب قتل : نذر وقضى
نحبه مات أو قتل في سبيل الله وفي التنزيل : «فمنهم من قضى نحبه».
(صَياصِيهِمْ) : حصونهم جمع صيصية وفي القاموس :«والصيصية شوكة الحائط
يسوّي بها السدى واللحمة وشوكة الديك التي في رجله وقرن البقر والظباء والحصن وكل
ما امتنع به».
الاعراب :
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الصالحين من الصحابة الذين
نذروا أنهم إذا أدركوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وتقسيمهم الى
قسمين.
ومن المؤمنين
خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر وجملة صدقوا صفة لرجال وما اسم موصول مفعول به وعاهدوا
الله عليه صلة ما وعليه متعلقان بعاهدوا. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قضى
نحبه صلة من ومنهم من ينتظر عطف على ما سبقه والواو عاطفة وما
نافية وبدلوا فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي العهد وتبديلا مفعول مطلق. (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) اللام لام التعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما دعا الى وقوع ما حكى من
الأقوال والتقدير وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين وقيل هو متعلق بما قبله
ومترتب عليه فيتعلق بصدقوا على أنه تعليل له وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى ، والله
فاعل والصادقين مفعول به وبصدقهم متعلقان بيجزي ويعذب المنافقين عطف على ليجزي
الله الصادقين وان شرطية وشاء فعل ماض وهو فعل الشرط والجواب محذوف وكذلك مفعول
شاء أي إن شاء تعذيبهم عذبهم.
(أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أو حرف عطف ويتوب عطف على ما قبله وعليهم متعلقان بيتوب
وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر
تقديره هو وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني.
(وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) الواو عاطفة ورد الله الذين كفروا عطف على ما تقدم وهو
فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة كفروا صلة الموصول وهم الأحزاب وبغيظهم حال أي
مغيظين ولك أن تجعله مفعولا ثانيا لرد وجملة لم ينالوا خيرا حال ثانية أو حال من
الحال الأولى فهي متداخلة. (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) الواو عاطفة وكفى الله المؤمنين فعل وفاعل ومفعول به
أول والقتال مفعول به ثان لأن كفى هنا بمعنى وقى وهي عندئذ متعدية لاثنين وقد مرّ
القول مفصلا في كفى وكان واسمها وخبراها.
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) الواو عاطفة
وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والذين مفعول به وجملة ظاهروهم
صلة ومن أهل الكتاب حال ومن صياصيهم جار ومجرور متعلقان بأنزل ولك أن تجعل الكلام
مستأنفا مسوفا للشروع في سرد قصة غزوة بني قريظة وستأتي خلاصتها في باب الفوائد. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقذف عطف على أنزل وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب
مفعول به لقذف وفريقا مفعول مقدم لتقتلون وتأسرون فريقا فعل وفاعل ومفعول به (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وأورثكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأرضهم مفعول به
ثان وديارهم وأموالهم وأرضا معطوفة على أرضهم وجملة لم تطئوها صفة لأرضا وكان
واسمها وخبرها والمراد بها البلاد التي فتحوها فيما بعد.
البلاغة :
في قوله «ورد
الذين كفروا بغيظهم ...» الآية فن المناسبة وقد تقدم الإلماع الى هذا الفن وأنه
ضربان : مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ ، وما ورد في هذه الآية من الضرب
الأول لأن الكلام لو اقتصر فيه على دون الفاصلة لأوهم ذلك بعض الضعفاء أن هذا
الإخبار موافق لاعتقاد الكفار في أن الريح التي حدثت كانت سببا في رجوعهم خائبين
وكفى المؤمنين قتالهم ، والريح إنما حدث اتفاقا كما تحدث في بعض وقائعهم وقتال
بعضهم لبعض وظنوا أن ذلك لم يكن من عند الله فوقع الاحتراس بمجيء الفاصلة التي
أخبر فيها سبحانه أنه قوي عزيز قادر بقوته على كل شيء ممتنع وأن حزبه هو الغالب
وأنه لقدرته يجعل النصر للمؤمنين أفانين متنوعة ليزيدهم إيمانا وتثبيتا فهو ينصرهم
مرة بالقتال كيوم بدر وتارة بالريح كيوم الأحزاب وطورا بالرعب كبني النضير
وأحيانا ينصر عليهم أولا ويجعل العاقبة لهم أخيرا كيوم أحد وحينا يريهم أن الكثرة
لم تكن ولن تكون كل شيء في المعركة وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ليتحققوا
بأن النصر إنما هو من عند الله كيوم حنين وهذا من أروع ما يتزين به الكلام.
الفوائد :
خلاصة قصة غزوة
بني قريظة :
أوحى الله الى
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أن الله يأمرك
بالمسير الى بني قريظة فأذن في الناس أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في
بني قريظة فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين
ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم النبي : أتنزلون على
حكمي؟ فأبوا ، فقال : أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به فحكم فيهم
فقال : إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي
لقد حكمت بحكم الله ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضرب أعناقهم
وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
فهرس
المجلد السابع
تتمة اعراب سورة الفرقان الآية............................................. ٢٤
اعراب سورة الشعراء...................................................... ٥٢
اعراب سورة النمل...................................................... ١٦٢
اعراب سورة الاحزاب................................................... ٥٩٣
انتهى المجلد السابع ويليه المجلد الثامن من بدءاً من
الآية ٢٨ من
سورة الاحزاب
|