(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤))

الاعراب :

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الواو استئنافية ، ويجوز أن تكون عاطفة ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : «لا يستكبرون» ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة سمعوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ، والواو فاعل ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ، والى الرسول متعلقان بأنزل (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) الجملة لا محلّ لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وترى فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ، وأعينهم مفعول ترى البصرية ، وجملة تفيض حالية ، ومن الدمع جار ومجرور في محل نصب على التمييز ، وسيأتي المزيد من بيان هذا الاعراب في باب البلاغة (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بتفيض ، وجملة عرفوا صلة الموصول ، ومن الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) جملة يقولون في محل نصب حال من الضمير في «عرفوا» وهو الواو ، أو من الضمير المجرور في «أعينهم» ، وجاز مجيء الحال من المضاف اليه لأن المضاف جزؤه ، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة


لجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما حالهم عند سماع القرآن؟ وربنا منادى مضاف ، وآمنا فعل وفاعل ، والجملة في محل نصب مقول القول ، فاكتبنا الفاء استئنافية واكتبنا فعل أمر ومفعول به ، والفاعل مستتر ، ومع الشاهدين ظرف متعلق باكتبنا (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) الواو استئنافية ، وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، ولنا متعلقان بمحذوف خبر ، وجملة لا نؤمن بالله في محل نصب على الحال ، وبالله متعلقان بنؤمن ، وما عطف على الله ، وجملة جاءنا لا محل لها لأنها صلة ، ومن الحق متعلقان بمحذوف حال (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة ونطمع فعل مضارع ، وفاعله نحن ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بنطمع ، وربنا فاعل ، ومع القوم الصالحين الظرف متعلق بيدخلنا ، والجملة كلها معطوفة على جملة نؤمن ، ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة نصب على الحال.

البلاغة :

١ ـ المجاز في فيض الأعين ، والعلاقة هي الامتلاء.

٢ ـ المبالغة في التمييز ، وهي من أبلغ التراكيب ، لأن الترقية فيه تترقى ثلاث مراتب ، فالأولى فاض دمع عينه ، والثانية في تحويل الفاعل تمييزا ، والثالثة في إبراز التمييز في صورة التعليل ، فأفاد الى جانب التمييز التعليل ، وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز ، لأن التمييز في مثله قد استقرّ كونه فاعلا في الأصل ، في مثل : طاب محمد نفسا ، واشتعل الرأس شيبا ، فإذا قلت : فاضت


عينه دمعا ، فهم هذا الأصل مع العادة في أمثاله ، وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

الاعراب :

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الفاء عاطفة ، وأثابهم فعل ومفعول به مقدم ، والله فاعل ، والجملة معطوفة على جملة قالوا آمنا ، وبما متعلقان بأثابهم ، وجملة قالوا صلة ، ونسق الثواب على قولهم : «آمنا» ، لأن القول إذا اقترن بالعمل المخلص فهو الايمان. وجنات مفعول به ثان لأثابهم ، لأنها تضمنت معنى الإعطاء ، وجملة تجري صفة لجنات ، ومن تحتها متعلقان بتجري ، والأنهار فاعل تجري (خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) خالدين حال من الضمير في : «أثابهم» ، وفيها متعلقان بخالدين ، والواو حالية أو استئنافية ، وذلك مبتدأ ، وجزاء المحسنين خبره ، والجملة نصب على الحال أو مستأنفة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الواو استئنافية ، والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ، وكذبوا عطف على كفروا ، ونسق التكذيب على الكفر لأن الكذب ضرب منه ، وبآياتنا متعلقان بكذبوا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) اسم الاشارة مبتدأ ، وأصحاب الجحيم خبر اسم الإشارة ، والجملة خبر الذين.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لخطاب بعض المؤمنين الذين اتفقوا على التقشّف والترهب ، ولبس الصوف والصدوف عن اللذائذ المباحة ، ونهيهم عن ذلك.

ولا ناهية ، وتحرموا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، وطيبات مفعول به ، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة ، وجملة أحل صلة ، والله فاعل ، ولكم متعلقان بأحل (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الواو حرف عطف ، ولا ناهية ، وتعتدوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والجملة عطف على جملة لا تحرموا ، ومعنى الاعتداء هنا تجاوز الحلال الى الحرام ، وإن واسمها ، وجملة لا يحب المعتدين خبرها ، وجملة إن الله إلخ تعليلية لا محل لها (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) الواو عاطفة ، وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون ، ومما متعلقان بكلوا ، وجملة رزقكم الله صلة الموصول ، وحلالا مفعول به ، أو حال من الموصول ، أو من عائده المحذوف ، أو مفعول مطلق ، فهو صفة لمصدر محذوف ، أي : أكلا حلالا ، والأول أسهل (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة ، واتقوا فعل أمر ، معطوف على كلوا ، والله مفعوله ، والذي صفة لله ، وأنتم مبتدأ ،


وبه متعلقان بـ «مؤمنون» ، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

اللغة :

(اللغو) من اليمين : الساقط الذي لا يتعلق به حكم ، وحوله خلاف فقهي فعند الشافعي ما يبدو من المرء من غير قصد ، كقوله : لا والله وبلى والله ، وعند أبي حنيفة أن يحلف على الشيء يرى أنه كذلك ، وليس كما ظن.

(عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) قرئ بالتشديد والتخفيف ، كما قرئ أيضا :«عاقدتم». وتعقيد الأيمان توثيقها بالقصد والنية. وقد نظم الفرزدق هذا المعنى ، فقد روي أن الحسن سئل عن لغو اليمين ، وكان عنده الفرزدق ، فقال : دعني أجب عنك يا أبا سعيد ، وأنشد :

ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم


أي : لست مؤاخذا باللغو الساقط من الكلام. وتعمد أصله : تتعمد ، حذفت منه إحدى التاءين ، وعاقدات العزائم : أي العزائم الجازمات ، ونسبة الجزاء إليها مجاز عقلي.

(فَكَفَّارَتُهُ) الكفّارة : الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ، أي تسترها.

الاعراب :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) كلام مستأنف لتقرير حكم اللغو في الأيمان ، ولا نافية ، ويؤاخذكم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل ، وباللغو متعلقان بيؤاخذكم ، وفي أيمانكم متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) الواو عاطفة ، ولكن مهملة ، وبما الباء حرف جر ، وما مصدرية مؤولة مع عقدتم بمصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم ، والأيمان مفعول به (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا خنثتم فيما عقدتم الأيمان ، فهي جواب شرط مقدر. وكفارته مبتدأ ، والضمير يعود على الحنث المفهوم من الشرط المقدر كما تقدم ، وارتأى الزمخشري أن يعود على ما الموصولية ، ولا بد من تقدير مضاف ، أي : كفارة حنثه. وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لبعدها. وإطعام خبر ، وعشرة مساكين مضاف اليه ، ومن أوسط متعلقان بمحذوف صفة لعشرة مساكين ، وما اسم موصول مضاف إليه ، وجملة تطعمون صلة ، والعائد محذوف ، أي : تطعمونه ، أي : لا هو بالعالي ، ولا الدون وأهليكم مفعول تطعمون.

(أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) عطف على طعام ، وكذلك تحرير رقبة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط


جازم مبتدأ ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويجد فعل مضارع مجزوم بلم ، وهو فعل الشرط ، والفاء رابطة لجوابه ، وصيام مبتدأ خبره محذوف ، أي : فعليه صيام ، أو كفارته ، وثلاثة أيام مضاف إليه (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) الجملة تفسيرية ، واسم الاشارة مبتدأ ، وكفارة خبر ، وأيمانكم مضاف إليه ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف والذي دل عليه ما قبله ، وجملة حلفتم في محل جر بالإضافة (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ، واحفظوا فعل أمر وفاعل ، وأيمانكم مفعول به ، وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال ، ويبين الله فعل مضارع وفاعل ، ولكم متعلقان بيبين ، وآياته مفعول به ، ولعلكم لعل واسمها ، وجملة تشكرون خبرها وجملة الرجاء حالية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ


رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) كلام مستأنف لبيان أن الخمر والميسر لا ينتظمان في الطيبات التي أحلّها الله. وإنما كافة ومكفوفة ، والخمر مبتدأ ، والميسر والأنصاب والأزلام عطف عليها ، ورجس خبر ، ومن عمل الشيطان متعلقان بمحذوف صفة لرجس ، أو هو خبر ثان للخمر (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء الفصيحة ، واجتنبوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ، ولعل واسمها ، وجملة تفلحون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) كلام مستأنف لزيادة التوضيح للأسباب المؤدية الى تحريمهما.

وإنما كافة ومكفوفة ، ويريد الشيطان فعل مضارع وفاعل ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ليريد ، وبينكم ظرف متعلق بيوقع أو بمحذوف حال ، والعداوة مفعول به ، والبغضاء عطف على العداوة ، وفي الخمر متعلقان بمحذوف حال ، والميسر معطوف على الخمر.

(وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الواو حرف عطف ، ويصدكم عطف على يوقع ، وعن ذكر الله متعلقان بيصدكم ، وعن الصلاة متعلقان أيضا بيصدكم ، والفاء استئنافية ، وهل حرف استفهام معناه الأمر ، وأنتم مبتدأ ، ومنتهون خبر.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))


الاعراب :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) الواو عاطفة ، والكلام معطوف على الاستفهام في الآية المتقدمة ، لأن الاستفهام بمعنى الأمر كما تقدم. والمعنى انتهوا وأطيعوا. ولك أن تجعلها استئنافية ، وأطيعوا الله فعل وفاعل ومفعول به ، وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله ، واحذروا عطف أيضا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، وتوليتم فعل ماض وفاعل ، وهو في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، والجواب محذوف تقديره : فجزاؤكم علينا ، وجملة فاعلموا عطف على الجواب ، وأنما كافة ومكفوفة ، وهي مع مدخولها سدت مسد مفعولي اعلموا ، وعلى رسولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والبلاغ مبتدأ مؤخر ، والمبين صفة (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على تساؤل بعض الصحابة الذين قالوا : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم بشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت : ليس ... وليس فعل ماض ناقص ، وعلى الذين متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم ، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة ، وجناح اسم ليس المؤخر ، وفيما متعلقان بمحذوف صفة لجناح ، وجملة طعموا لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وما زائدة ، وجملة اتقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ، والعامل في إذا معنى النفي في ليس ، أي : انتفى الإثم عنهم ، وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فليس عليهم جناح ، وآمنوا عطف


على اتقوا ، وعملوا الصالحات عطف على ما تقدم أيضا (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) عطف أيضا ، وسيأتي سر التكرير البديع في باب البلاغة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وجملة يحب خبر ، والمحسنين مفعول به.

البلاغة :

تقدم البحث في التكرار أو التكرير ، وهما مصدران لكرّر المضعفة ، وقلنا : إن حده أن يكرر الكاتب أو الشاعر الكلمة أو الكلمتين فصاعدا ، لتأكيد ما يتحدث عنه ، ليزداد رسوخا في الذهن ، أو لغرض آخر. وفي هذه الآية يحتمل أن يكون التكرار إشارة إلى العلاقات التي يرتبط بها الإنسان في حياته ، وهي : علاقة الإنسان بنفسه ، وعلاقة الإنسان بغيره ، وعلاقة الإنسان بربه ، ولذلك عقّب عليها بالإحسان في الكرة الثالثة ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مراحل العمر الثلاث التي يجتازها الإنسان في رحلته الحياتية ، وهي : مرحلة البدء بالحياة ، ومرحلة الوسط في العمر ، ومرحلة المنتهى. ولعل الاحتمالين مرادان في هذا التكرار البديع ، زيادة في التقوى والتجمّل وإقامة الموازين القسط في جميع مراحل حياته وحالاته الثلاث ، وسيأتي من التكرير في هذا الكتاب ما يسحر الألباب ، واستمع الى قول البحتري متغزّلا :

ويوم تثنّت للوداع وسلّمت

بعينين موصول بلحظهما السحر

توهمتها ألوى بأجفانها الكرى

كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر


فالكرى هو النوم ، ولكن في تكريره هنا معنى يدرك بالبداهة ، أشبه بأخذة السحر.

واستمع الى قول المساور بن هند :

جزى الله عنّي غالبا من عشيرة

إذا حدثان الدهر نابت نوائبه

فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت

عليّ وموج قد علتني غواربه

فصدر البيت الثاني وعجزه يدلّان على معنى واحد ، لأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من فوقه ، وإنما سوّغ ذلك أنه مقام مدح وإطراء ، ألا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند حدثان دهره ، في التكرير! وفي قبالته لوكان القائل هاجيا فإن الهجاء في هذا كالمدح.

ونحب هنا أن نستدرك فنقول ليس كل تكرير حسنا ، فبعضه يكون غثا كقول أبي الطيب المتنبي من قصيدته البديعة التي يقول في مطلعها :

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن

يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن

وهذا من أجمل الشعر وأروعه ، على أنه ما لبث أن قال :

العارض الهتن ابن العارض ال

هتن العارض الهتن ابن العارض الهتن


فهذا ليس من التكرير المستحسن ، لأنه كقولك : الموصوف بكذا ابن الموصوف بكذا وكذا ، أي إنه عريق النسب بهذا الوصف ، فلم يأت بجديد ، ثم اللفظ ليس بمرضي على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه ، فإن استعمالها في حالة التركيب يذهب بحسنها. ومن طريف التكرير قول المقنع الكندي :

وإنّ الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم

وإن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا

وحسبنا ما تقدم الآن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤))

اللغة :

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : ليختبرن طاعتكم.


الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) كلام مستأنف مسوق لاختبارهم بالنسبة لما يفهم العباد ، أما حقيقة الاختبار فمحال في حقه تعالى ، وليبلونكم اللام جواب لقسم محذوف ، أي : والله ليبلونكم ، فيبلون فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والله فاعله ، وبشيء متعلقان بيبلونكم ، ومن الصيد متعلقان بمحذوف صفة لشيء وجملة يبلونكم لا محل لها لأنها جواب القسم المحذوف (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) الجملة صفة لشيء ، وأيديكم فاعل تناله ، ورماحكم عطف على أيديكم ، واللام للتعليل ، ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والله فاعل يعلم ، ومن اسم موصول مفعول يعلم ، وجملة يخافه لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وبالغيب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل يخاف ، أي : يخاف الله حالة كونه غائبا عن الله ، أو من المفعول به ، أي يخاف الله حال كونه متلبسا بالغيب (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم ، واعتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، وبعد ذلك الظرف متعلق باعتدى ، واسم الاشارة مضاف اليه ، فله الفاء رابطة للجواب ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وعذاب مبتدأ مؤخر ، وأليم صفة ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من».

البلاغة :

في قوله : «بشيء من الصيد» تقليل واحتقار لهذا الابتلاء ،


كأنه يقول : إن هذا الابتلاء ليس من قبيل الفتن العظام ، والمحن العظام ، التي لا تثبت أمامها القوى ولا الأجسام ، هذا ما ذكره المفسرون الكبار ، وخاصة الزمخشري الذي نقل معظمهم عبارته بنصها تقريبا ، وهي وثبة ذهنية قوية ، ولكنها تضؤل وتشيل في الميزان عند ما نذكر أنه سبحانه استعملها في الفتن العظيمة والمحن الجسيمة ، فقال في موضع آخر : «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين». وهذا اعتراض يطيح بما قاله الزمخشري وتناقله عنه الكثيرون من المفسرين كالخازن والنسفي والبيضاوي وغيرهم. وخير ما يقال في الاجابة عن هذا الاعتراض هو أن جميع المحن والأرزاء والبلاء والفتن ليست بالنسبة الى مقدور الله تعالى سوى جزء يسير خليق به أن يحقّر ويصغر ، وأنه سبحانه جنح الى خطاب المؤمنين بهذه الصيغة تخفيفا لهم ، وباعثا لهم على الصبر ، وحافزا لهم على الاحتمال تلطفا بهم ، وترفقا بما يكابدونه منه فسبحان المتفرد بهذه البلاغة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥))


اللغة :

(حُرُمٌ) : جمع حرام. والحرام يستوي فيه المذكر والمؤنث.

تقول : هذا رجل حرام ، وهذه امرأة حرام ، فإذا قيل : محرم قيل للمرأة : محرمة ، والإحرام هو الدخول فيه ، يقال : أحرم القوم إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم. فتأويل الكلام لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

(عَدْلٍ) : مثل.

(وَبالَ) الوبال : بفتح الواو : المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه ، قال الراغب : الوابل : المطر الثقيل القطر ، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره : وبال ، قال تعالى :«فذاقوا وبال أمرهم». ويقال : طعام وبيل ، وكلأ وبيل يخاف وباله ، قال تعالى : «فأخذناه أخذا وبيلا». واستوبلت الأرض : كرهتها خوفا من وبالها.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما تنطوي عليه كلمة الاعتداء في الآية السابقة.

ولا ناهية ، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، والواو فاعل ، والصيد مفعول به ، وأنتم الواو حالية ، وأنتم مبتدأ ، وحرم خبره ، والجملة حال من فاعل تقتلوا (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الواو استئنافية ، ومن اسم شرط جازم في محل


رفع مبتدأ خبره جملة الشرط والجواب ، وقتله فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ، وهو في محل جزم فعل الشرط ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قتل ، ومتعمدا حال من فاعل قتل أيضا ، أي : ذاكرا لإحرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، والتفاصيل في كتب الفقه. فجزاء : الفاء رابطة لجواب الشرط ، وجزاء مبتدأ خبره محذوف ، أي : فعليه جزاء ، ويجوز العكس ، أي : فالواجب عليه جزاء ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، ومثل صفة لجزاء ، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة لمثل ، وجملة قتل صلة ، ومن النعم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من مثل (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) جملة يحكم صفة ثانية لجزاء ، وبه متعلقان بيحكم ، وذوا فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى ، وعدل مضاف اليه ، ومنكم متعلقان بمحذوف صفة لـ «ذوا» ، وهديا حال من جزاء ، أو منصوب على المصدرية ، أي يهديه هديا ، أو منصوب على التمييز ، والأوجه الثلاثة متساوية الرّجحان ، وبالغ الكعبة صفة لـ «هديا» ، لأن الاضافة غير محضة ، وهي لا تقيد تعريفا كما سيأتي في باب الفوائد (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أو عاطفة ، وكفارة عطف على جزاء ، وطعام مساكين بدل من كفارة ، وأو حرف عطف ، وعدل عطف على كفارة ، وذلك مضاف اليه ، وصياما تمييز للعدل ، كقولك : لي مثله رجلا (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) اللام للتعليل ، ويذوق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجار والمجرور متعلقان بالاستقرار المستكن في الخبر ، أي : عليه الجزاء ليذوق ، ويجوز أن يتعلقا بطعام أو صيام ويجوز أن يتعلقا بـ «جزاء» ، أي :


فعليه أن يجازى ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، وجملة عفا الله استئنافية أي : لم يؤاخذ بما سلف لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن يحرم ، وعما جار ومجرور متعلقان بعفا وجملة سلف صلة الموصول ، (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الواو استئنافية ، ومن أسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، وعاد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطه ، وينتقم الله فعل مضارع وفاعل ، والجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهو ينتقم الله منه ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ومنه متعلقان بينتقم ، والواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وعزيز خبر أول وذو انتقام خبر ثان.

البلاغة :

الذوق في الآية استعارة مكنية تبعية ، شبّه سوء العاقبة الناجمة عن هتك حرمة الإحرام بطعام مستوبل مستوخم يذوقه ، فحذف المشبه وأبقى شيئا من خصائصه وهو الذوق ، وقد تقدمت نظائرها.

الفوائد :

الإضافة على ثلاثة أنواع :

١ ـ نوع يفيد تعريف المضاف بالمضاف إليه إن كان معرفة ، أو تخصيصه به إن كان نكرة ، مثل كتاب علي ، وكتاب تلميذ.

٢ ـ نوع يفيد تخصيص المضاف دون تعريفه. وضابطه أن يكون المضاف متوغّلا في الإبهام ، كغير ومثل وشبه ، وتسمى


الإضافة في هذين النوعين محضة أو حقيقية ، ومعنى قولهم : محضة أنها خالصة من تقدير الانفصال.

٣ ـ نوع لا يفيد شيئا من التعريف أو التخصيص ، وهو أن يكون المضاف صفة تشبه الفعل المضارع في الدلالة على الحال أو الاستقبال ، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهه ، وتوصف بها النكرة كالآية التي نحن بصددها فإنّ هديا نكرة منصوبة على الحال ، وبالغ الكعبة صفتها ، فمعنى «بالغ الكعبة» أن يذبح بالحرم ولا توصف النكرة بالمعرفة. ومن خصائصها أيضا أن تأتي حالا نحو : «ثاني عطفه» ، فثاني حال كما سيأتي ، والحال واجبة التنكير ، ومنه قول أبي كبير الهذلي :

فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل

فحوش صفة مشبهة معناها حديد الفؤاد ، وقد نصبت على الحال لأنها لم تكتسب معرفة ولا تخصيصا. ومن خصائصها أيضا دخول «ربّ» عليها ، كقول جرير :

يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا

فأدخل «ربّ» على «غابطنا» ، ولو كان معرفة لما صح ذلك ، ولذلك سميت هذه الاضافة لفظية ، لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو حذف التنوين ونون التثنية والجمع ، وهي أمور مردها الى اللفظ وحده.

وهناك أبحاث أخرى تتعلق بالإضافة يرجع إليها في مظانها من الكتب النحوية.


(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

اللغة :

(وَلِلسَّيَّارَةِ) أي المسافرين. جمع سيار ، وأنّث على معنى الرفقة والجماعة.

الاعراب :

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أحل فعل ماض مبني للمجهول ، ولكم متعلقان بأحلّ ، وصيد البحر نائب فاعل ، وطعامه عطف على «صيد» ، ومتاعا مفعول لأجله ، أي : لأجل تمتعكم ، ويصح أن يكون مفعولا مطلقا ، أي : متعكم تمتيعا. ولكم متعلقان بـ «متاعا» ، وللسيارة عطف على «لكم» ، والجملة مستأنفة ، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الواو عاطفة ، وحرم فعل ماض مبني للمجهول ، وعليكم متعلقان بحرّم ، والجملة عطف على الجملة السابقة ، وصيد البر نائب فاعل ، ما دمتم فعل ماض ناقص و «ما» وما بعدها في محل نصب على الظرفية ، والظرف متعلق بحرم ، والتاء اسم ما دام ، وحرما خبرها (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو عاطفة ، واتقوا الله فعل أمر ومفعول به ، والذي نعت ، واليه متعلقان بتحشرون ، وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وجملة تحشرون صلة الموصول.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ


وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨))

الاعراب :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) كلام مستأنف مسوق لتوضيح الكعبة التي هي البيت الحرام. و «جعل» : لك أن تعتبرها بمعنى «صيّر» ، وأن تعتبرها بمعنى «خلق». وجعل الله فعل وفاعل ، والكعبة مفعول به ، والبيت الحرام بدل من الكعبة ، والفائدة من البدلية المديح ، وقياما على الأول مفعول به ثان ، وعلى الثاني حال من الكعبة ، وهو من ذوات الواو ، وقيل : قياما لكسرة القاف ، وإنما هي في الأصل قواما وصواما. وللناس متعلقان بـ «قياما» أي : يقومون بقصدها بأمر معايشهم ومنافعهم. والشهر عطف على الكعبة ، والحرام صفة ، والهدي والقلائد عطف على الكعبة أيضا. (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة ، واسم الاشارة مبتدأ.

والاشارة الى مجموع ما تقدم ذكره ، ولتعلموا اللام لام التعليل ، وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك أي : ذلك الحكم هو الحق لا غيره ، وقيل : ذلك في موضع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الحكم الذي قررناه ذلك. ويجوز أن يكون اسم الاشارة منصوبا بفعل مقدّر ،


ولتعلموا متعلقان به ، أي : شرعنا ذلك. والأوجه كلها متساوية الرجحان. وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلموا ، وأن واسمها ، وجملة يعلم خبرها ، وما اسم موصول مفعول به ، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عطف على «أن» الأولى ، وأن واسمها ، وبكل شيء متعلقان بـ «عليم» ، وعليم خبر أن (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم ، وغفور رحيم خبران لأن.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

اللغة :

(الْخَبِيثُ) ضد الطيب ، والجمع خبث بضمتين ، وخبثاء وأخباث وخبثة بفتحتين. وخبثت نفسه : ثقلت وغثّت. وللخاء والباء فاء وعينا للفعل خاصة عجيبة ، وهي أنهما تدلان على التأثير والسرعة في الإخفاء ، يقال : خبّ أي خدع وأفسد ، ولا يخفى ما فيه من معنى التأثير في المخدوع وإفساده ، والخبب ضرب من العدو والسير ، وخبأ الشيء ستره وأخفاه ، وخبر الشيء يخبر وخبرا ، بضم الخاء ، وخبرا بكسرها : علمه عن تجربة ، وخبز الخبز عمله ، وخبس


فلانا حقه أي ظلمه وغشمه ، وخبش الأشياء تناولها من هاهنا وهاهنا ، وخبص الشيء بالشيء خلطه ، وخبّص بالتشديد عمل الخبيصة أو الخبيص ، أي : الحلواء المخبوصة ، وخبطه خبطا أي : ضربه ضربا شديدا ، وخبله وخبّله بالتشديد : أفسده ، وخبن الثوب عطفه وخاطه ، وخبن الشاعر أتى بالخبن في شعره ، وهو حذف الثاني الساكن. وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة وخصائصها التي تنفرد بها.

الاعراب :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) الكلام مستأنف مسوق للتشديد على إيجاب القيام بما أمر به ، أي : لقد قامت عليكم الحجة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم إذا تجاوزتم الحدود. وقد جرى هذا الكلام مجرى المثل ، وسيأتي الحديث عنه مفصلا في باب البلاغة. وما نافية ، وعلى الرسول جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وإلا أداة حصر ، والبلاغ مبتدأ مؤخر (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) الواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وجملة يعلم خبر ، وما اسم موصول مفعول تعلمون ، وجملة تبدون صلة الموصول ، وما تكتمون عطف على قوله ما تبدون (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الجملة مستأنفة ، وقل فعل أمر ، وجملة لا يستوي الخبيث والطيب في محل نصب مقول القول ، وهذه الجملة مما سارت مسير الأمثال أيضا (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الواو حالية ، ولو شرطية ، وأعجبك فعل ماض ومفعول به ، وكثرة الخبيث فاعل أعجبك ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لا يستوي ، أي : لا يستويان حالة كونهما على كل حال ، وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فلا يستويان (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي


الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا تبين لكم هذا فاتقوا الله ، واتقوا الله فعل وفاعل ومفعول به ، ويا حرف نداء ، وأولي الألباب منادى مضاف ، ولعلكم : لعل واسمها ، وجملة تفلحون خبرها.

البلاغة :

في الآية إرسال المثل ، وهو عبارة عن أن يأتي المتكلم في بعض كلامه بما يجري مجرى المثل السائر من حكمة أو نعت أو غير ذلك ، ومنه قول أبي الطيب المتنبي :

لأن حلمك حلم لا تكلفه

ليس التكحل في العينين كالكحل

وقد اشتهر أبو الطيب بهذه الميزة حتى صارت مضرب المثل ، قال :

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وسيأتي من أمثاله ما يذهل العقول ، وحسبنا الآن أن نورد مختارات من قصيدة ابن زيدون :

ما على ظني بأس

يجرح الدهر وياسو

ولقد ينجيك إغفا

ل ويرديك احتراس

ولكم أجدى قعود

ولكم أكدى التماس

وكذا الحكم إذا ما

عزّ ناس ذلّ ناس

لا يكن عهدك وردا

إن عهدي لك آس


فأدر ذكري كأسا

ما امتطت كفّك

كاس واغتنم صفو الليالي

إنما العيش اختلاس

٢ ـ الطباق بين «تبدون» و «تكتمون».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن كثرة السؤال عن أمور لا تعنيهم ، لأن التكليف بها مما يشق على النفوس. وفي ذلك من السموّ ما هو حريّ بالاتعاظ والتأدّب. ولا ناهية ، وتسألوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، وعن أشياء جار ومجرور متعلقان بتسألوا ، وأشياء ممنوعة من الصرف ، وسيأتي الحديث عنها مسهبا في باب الفوائد ، وإن شرطية ، وتبد فعل الشرط ، وهو مبني للمجهول ، ونائب الفاعل بعود على أشياء ، ولكم متعلقان بـ «تبد» ، وتسؤكم جواب الشرط ، والكاف مفعول به ، وجملة الشرط صفة لـ «أشياء» (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وتسألوا


فعل الشرط ، وحين ظرف زمان متعلق بتسألوا ، وجملة ينزل القرآن في محل جر بالإضافة ، وتبد جواب الشرط ، ولكم متعلقان بـ «تبد».

(عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) جملة عفا الله عنها مستأنفة ، مسوقة لبيان أن النهي عنها إنما جرى لاستقصائها وتعذر القيام بها على الوجه الأكمل ، وقد عفا الله عنها. ويجوز أن تكون الجملة صفة ثانية لـ «أشياء» ، والواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وغفور خبر أول ، وحليم خبر ثان. (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

الجملة إما مستأنفة وهو الأولى ، ولك أن تجعلها نعتا ثانيا لـ «أشياء» ، وسألها فعل ماض ومفعول به مقدم ، والضمير يعود على «أشياء» ، ولا بد من تقدير مضاف ، أي : سأل مثلها ، باعتبارها مماثلة لها في المغبّة وجرّ الوبال. وقد أطالوا الكلام في عودة الضمير من غير فائدة. وقوم فاعل ، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف صفة قوم ، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، وأصبحوا فعل ماض ناقص ، والواو اسمها ، وبها جار ومجرور متعلقان بـ «كافرين» وكافرين خبر أصبحوا.

الفوائد :

١ ـ روي أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال :يا رسول الله ، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أعاد مسألته ثلاث مرات. فقال صلى الله عليه وسلم :«ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم! والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو


وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

٢ ـ أشياء : ممنوعة من الصرف ، وقد خاض علماء اللغة والنحو في سبب منعها ، ويتلخص مما أوردوه في المذاهب الآتية :

١ ـ مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين :

أنها منعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة ، وهي اسم جمع لـ «شيء» والأصل «شيئاء» بوزن فعلاء ، فقدمت اللام على الألف كراهية اجتماع همزتين بينهما ألف.

٢ ـ مذهب الفرّاء :

وهو أن أشياء جمع لـ «شيء» وإن أصلها «أشيئاء» ، فلما اجتمع همزتان بينهما ألف حذفوا الهمزة الأولى تخفيفا.

٣ ـ مذهب الكسائي :

فقد ذهب الى أن وزن أشياء : أفعال ، وإنما منعوا صرفه تشبيها له بما في آخره ألف التأنيث.

وهناك مذاهب أخرى أضربنا عنها لأنها لا تخرج عن هذه الفحوى.


(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

اللغة :

(بَحِيرَةٍ) : بفتح الباء وكسر الحاء ، فعيلة بمعنى مفعولة ، ولحقتها التاء على غير قياس ، لأنها جردت من الوصفية وأصبحت بمعنى الجوامد. وقد اختلف أهل اللغة فيها اختلافا كثيرا ، وأقوى الأقوال فيها أن أهل الجاهلية كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن ، آخرها ذكر ، شقّوا أذنها وحرموا ركوبها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها ، وهي تختلف باختلاف عادات العرب.

(سائِبَةٍ) : كان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة. وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبدا قال : هو سائبة. فهي اسم فاعل من ساب يسيب أي : سرح ، كسيّب الماء فهو مطاوع سيّبته ، يقال : سيّبه فساب وانساب.

(وَصِيلَةٍ) وقد اختلفوا في معناها اختلافا شديدا لا يتسع له المقام ، وأقرب ما قيل فيها أن الجاهلية كانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، فتاؤها على القياس.

(حامٍ) : اسم فاعل من حمى يحمي إذا منع ، والخلاف شديد حولها فقد كانوا يقولون : إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قد حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ، ولا مرعى. وكلها عادات لم يأمر الله بشيء منها ، وما شرعها.


الاعراب :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كلام مستأنف مسوق لشجب عادات وأعمال من عاداتهم وأعمالهم مبتدعة ، لم يأمر الله بها ولم يشرعها. وما نافية ، وجعل بمعنى خلق ، فهي تتعدى لواحد ، أو بمعنى صيّر فتتعدى لاثنين ، ويكون الثاني محذوفا ، أي : صيرها مشروعة. والله فاعل ، ومن حرف جر زائد ، وبحيرة مجرورا لفظا مفعول به منصوب محلا ، وما بعده عطف عليه (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة أو حالية ، ولكن واسمها ، وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها.

وجملة يفترون خبر لكن ، وعلى الله متعلقان بيفترون ، والكذب مفعول به. والواو عاطفة أو حالية ، وأكثرهم مبتدأ ، وجملة لا يعقلون خبر أكثرهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))


الاعراب :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) الواو استئنافية أو عاطفة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب الآتي ، وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول ، والى ما أنزل الله الجار والمجرور متعلقان بتعالوا ، وأنزل الله فعل وفاعل ، والجملة صلة ، والى الرسول عطف عليه (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وحسبنا مبتدأ ، وما اسم موصول في محل رفع خبر ، وجملة وجدنا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعليه متعلقان بوجدنا ، وآباءنا مفعول به (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، والواو عاطفة على مقدر ، تقديره : أحسبهم ذلك؟ أو حالية ، أي : ولو كان آباؤهم جهلة ضالين. ولو شرطية وجوابها محذوف تقديره : يقولون ذلك. وكان واسمها ، وجملة لا يعلمون خبرها ، وشيئا مفعول به ، وجملة لا يهتدون عطف على جملة لا يعلمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن كل إنسان مسئول عن نفسه ، ولا يرد على هذا أن فيه مندوحة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن ذلك مرهون بالطاقة.

قال صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه». وعليكم اسم فعل أمر منقول بمعنى الزموا ، وأنفسكم مفعول به لاسم الفعل (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الجملة مستأنفة ، ولا نافية ، يضركم فعل مضارع ، والكاف مفعول به ، ومن اسم موصول في محل رفع فاعل بضركم. وجملة ضل صلة الموصول ، وإذا ظرف مستقبل متضمن


معنى الشرط متعلق بالجواب المقدر ، أي : فلا يضركم ، وجملة اهتديتم في محل جر بالاضافة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجملة مستأنفة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومرجعكم مبتدأ مؤخر ، وجميعا حال ، فينبئكم الفاء عاطفة ، وينبئكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وبما متعلقان بينبئكم ، وجملة كنتم صلة الموصول ، والتاء اسم كان ، وجملة تعملون خبرها.

الفوائد :

اختلف النحاة في الضمير المتصل بـ «عليكم» و «إليكم» و «لديكم» و «مكانكم» ، والصحيح أنه في موضع جر ، كما كان قبل أن تنقل الكلمة الى الإغراء ، فإما أن يكون مجرورا بالحرف نحو : «عليكم» بحسب ما كان ، أو بالإضافة نحو : «لديكم». وقيل : إن الكاف حرف خطاب ، وهذا القول عندي أسهل ، وقد أيده ابن بابشاذ ، ونورد هنا تلخيصا هاما لأسماء الأفعال ، فهي ضربان :

١ ـ مرتجل : وهو ما وضع من أول الأمر كذلك ، أي : اسما للفعل ، كشتان وأفّ وصه.

٢ ـ منقول : وهو ما وضع من أول الأمر لغير اسم الفعل ، ثم نقل من غيره إليه ، وهو ثلاثة أنواع :

آ ـ من جار ومجرور نحو : عليك بمعنى الزم.

ب ـ من ظرف المكان نحو : دونك الكتاب ، أي : خذه ، ومكانك ، أي : اثبت ، وأمامك ، أي : تقدم ، ووراءك ، أي : تنح.


ج ـ منقول من مصدر نحو : رويد خالدا ، أي : أمهله ، وبله هذا الأمر ، أي : دعه.

قال يصف السيوف :

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكفّ كأنها لم تخلق

واستعمله أبو الطيب المتنبي فقال :

أقلّ فعالي بله أكثره مجد

وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جدّ

ولأسماء الأفعال تفاصيل أخرى يرجع إليها في مظانها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ


الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

اللغة :

(ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : سافرتم.

(الْأَوْلَيانِ) : مثنى الأولى ، أي : الأحق بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام تتعلق بأمور الدنيا بعد بيان الأحوال المتعلقة بأمور الآخرة. وشهادة مبتدأ ، وبينكم مضاف اليه ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف ، أي : فشهادة اثنين ، وجملة حضر أحدكم الموت في محل جر بالاضافة ، وحين الوصية ظرف متعلق بحضر ، واثنان خبر شهادة ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف ، وذلك ليتطابق المبتدأ


والخبر ، وذلك لأن الشهادة لا تكون هي الاثنان ، إذ الجثة لا تكون خبرا عن المصدر. وجوّز الزمخشري أن تكون شهادة مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فيما فرض عليكم شهادة ، واثنان فاعل بشهادة ، أي : أن يشهد اثنان. وهذا ما جرى عليه ابن هشام أيضا. وذوا عدل صفة لـ «اثنان» ، ومنكم صفة أيضا (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أو حرف عطف ، وآخران عطف على «اثنان» ، ومن غيركم متعلقان بمحذوف صفة لـ «آخران» أي : من غير ملتكم ، وإن شرطية ، وأنتم فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فالشاهدان آخران ، وجملة ضربتم مفسرة لا محل لها ، وفي الأرض متعلقان بضربتم ، وجملة الشرط معترضة لا محل لها (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب ، وأصابتكم عطف على ضربتم ، ومصيبة الموت فاعل أصابتكم ، وتحبسونهما فعل مضارع ومفعول به ، وقد اختلفوا في موضع هذه الجملة ، والأظهر أنها صفة لـ «آخران».

وقال الزمخشري : «فإن قلت : ما موضع تحبسونهما؟ قلت : هو استئناف كلام : كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما : فكيف نعمل إن ارتبنا بهما؟ فقيل : تحبسونهما». وعقب أبو حيّان على ذلك فقال :وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته ، ولا موجب لهذا الزعم.

ومن بعد الصلاة متعلقان بتحبسونهما (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الفاء عاطفة ، ويقسمان عطف على تحبسونهما ، وبالله متعلقان بيقسمان ، وإن شرطية ، وارتبتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط ، والجواب محذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره : إن ارتبتم فيهما فحلفوهما. وفعل الشرط وجوابه المقدر


جملة لا محل لها لأنها معترضة بين القسم وجوابه ، وليست هذه الآية مما اجتمع فيه شرط وقسم فأجيب بالمتقدم منهما ، وحذف جواب الآخر لدلالة جواب الشرط عليه ، لأن تلك المسألة مشروطة بأن يكون القسم صالحا لأن يكون جوابا للشرط ، حتى يسدّ مسد جوابه ، نحو : والله إن تزرني لأكرمنّك ، لأنك إن قدّرت : «إن تزرني أكرمك» صح ، وهنا لا يقدر جواب الشرط ما هو جواب للقسم ، بل يقدر جوابه قسما برأسه. ألا ترى أن تقديره هنا : «إن ارتبتم فحلفوهما» ، ولو قدرته غير ذلك لم يصحّ! وقال آخرون : إن ثمّ قولا محذوفا تقديره : فيقسمان بالله ويقولان هذا القول في أيمانهما.

والعرب تضمر كثيرا القول ، كقوله تعالى : «والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام» ، أي : يقولون : «سلام عليكم» ، ولا نافية ، ونشتري فعل مضارع مرفوع ، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم ، وبه متعلقان بنشتري ، وثمنا مفعول به ، والواو حالية ، ولو شرطية ، وكان فعل ماض ناقص ، واسمها مستتر ، أي : المقسم له ، وذا قربى خبر كان ، وجواب «لو» محذوف دل عليه ما قبله ، أي :فلا نشتري به ، وجملة لو الشرطية وما في حيزها في محل نصب حال (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) الواو عاطفة ، وجملة لا نكتم عطف على منتظم معه في حكم القسم ، وشهادة الله مفعول به ، وإن واسمها ، وإذن حرف جواب وجزاء مهملة ، واللام المزحلقة ، ومن الآثمين متعلقان بمحذوف خبر إن ، وجملة إن وما في حيزها لا محل لها بمثابة التعليل لعدم الكتمان (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، وعثر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ، وعلى أنهما جار ومجرور نائب فاعل ، أي : فإن اطلع


على استحقاقهما الإثم ، وأن واسمها ، وجملة استحقا في محل رفع خبر أن ، والألف فاعل استحقا ، وإثما مفعول استحقا (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، وآخران مبتدأ ، ساغ الابتداء به لأنه وصف ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف ، وجملة يقومان في محل رفع خبر على الأول أو صفة على الثاني ، ومقامهما مفعول مطلق ، ومن الذين صفة لـ «آخران» وجملة استحق لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعليهم متعلقان باستحق ، والأوليان خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هما الأوليان ، أو فاعل استحق ، وجملة فآخران في محل جزم جواب الشرط (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) الفاء عاطفة ، ويقسمان فعل مضارع مرفوع عطفا على يقومان ، والألف فاعل ، وبالله متعلقان بيقسمان ، واللام واقعة في جواب القسم ، وشهادتنا مبتدأ ، وأحق خبر ، ومن شهادتهما متعلقان بأحق ، وجملة شهادتنا لا محل لها لأنها واقعة في جواب القسم (وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية ، وما نافية ، واعتدينا فعل ماض وفاعل ، وإن واسمها ، وإذن حرف جواب وجزاء مهمل ، ومن الظالمين خبر إن ، والجملة تعليلية لا محل لها (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) اسم الإشارة مبتدأ ، وأدنى خبر ، والجملة مستأنفة ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لأدنى ، وبالشهادة متعلقان بيأتوا ، وعلى وجهها متعلقان بمحذوف حال (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أو حرف عطف ، ويخافوا عطف على يأتوا ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ليخافوا ، وأيمان نائب فاعل ترد ، والظرف بعد متعلق بـ «ترد» ، وأيمانهم مضاف إليه (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الواو


استئنافية ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ، واسمعوا عطف على اتقوا ، والواو استئنافية والله مبتدأ ، وجملة لا يهدي خبر ، والقوم مفعول به ، والفاسقين صفة للقوم.

الفوائد :

هذه الآيات الثلاث شغلت المفسرين والمعربين كثيرا فأطالوا الحديث ، وليس ثمة ما يستدعي الإطالة ، فقد ذكر مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى بـ «الكشف» أن هذه الآيات في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي القرآن. وقال السخاوي : لم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها. وقال السمين الحلبي : وأنا أستعين الله في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها ، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه. وقد حاولنا نحن الاختصار جهد الطاقة ، واكتفينا بقراءة حفص ، أما بقية أحكامها فلا بد من النظر في كتب الحديث وكتب التفسير المطوّلة.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ


وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

اللغة :

(الْأَكْمَهَ) : الأعمى المطموس البصر.

الاعراب :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جرى بينه وبين الرسل جميعا. ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، وجملة يجمع في محل جر بالاضافة ، والله فاعل ، والرسل مفعول به ، والفاء حرف عطف ، ويقول فعل مضارع معطوف على يجمع ، ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق ، أي : أيّ إجابة أجبتم ، ولك أن تعرب «ما» اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، و «ذا» اسم موصول خبر «ما» ، وجملة أجبتم لا محل لها على كل حال ، وقد تقدمت نظائره ، وجملة ماذا أجبتم مقول القول.

(قالُوا : لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قالوا فعل وفاعل ، والجملة


مستأنفة ، ولا نافية للجنس ، وعلم اسمها المبني على الفتح ، ولنا متعلقان بمحذوف خبرها ، وجملة لا علم لنا في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، وأنت مبتدأ وعلام الغيوب خبر أنت ، والجملة في محل رفع خبر إن ، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بما تعلق به يوم لأنه بدل منه ، وجملة قال في محل جر بالإضافة ، ويا حرف نداء وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف في محل نصب ، وابن بدل أو نعت لعيسى ، ومريم مضاف إليه (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) الجملة كلها في محل نصب مقول القول ، واذكر فعل أمر ، ونعمتي مفعول به ، وعليك متعلقان بنعمتي ، وعلى والدتك عطف على «عليك» (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) الظرف بدل من نعمتي بدل اشتمال ، ويجوز أن يتعلق بنعمتي أيضا ، وجملة أيدتك في محل جر بالإضافة ، وبروح القدس متعلقان بأيدتك ، وجملة تكلم الناس في محل نصب حال من الكاف في أيدتك ، وفي المهد متعلقان بمحذوف حال ، أي : حالة كونك طفلا ، وكهلا عطف عليه ، فهو حال أيضا ، والمعنى : إلحاق حالة الطفولة بحالة الكهولة ، في كمال العقل ، وتمام الرّويّة (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الواو حرف عطف ، والظرف معطوف على إذ أيدتك ، وجملة علمتك في محل جر بالإضافة ، وهي فعل وفاعل ومفعول به أول ، والكتاب مفعول به ثان ، أي : الكتابة ، وما بعده عطف عليه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) الظرف معطوف على ما سبقه ، وجملة تخلق في محل جر بالإضافة ، ومن الطين متعلقان بتخلق ، وكهيئة الكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب مفعول به لتخلق ، وهيئة مضاف إليه وهو مضاف ، والطير مضاف إليه ، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (فَتَنْفُخُ


فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) الفاء حرف عطف ، وتنفخ عطف على تخلق ، وفيها متعلقان بتنفخ ، فتكون عطف على فتنفخ ، وطيرا خبر تكون ، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على ما تقدم (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف أيضا (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف أيضا ، وبني إسرائيل مفعول كففت ، وعنك متعلقان بـ «كففت» (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الظرف متعلق بكففت لا باعتبار المجيء بالبينات فقط بل باعتبار ما يعقب ذلك ويترتب عليه حين همّهم بقتله ، وجملة جئتهم في محل جر بالإضافة ، وبالبينات متعلقان بجئتهم ، فقال : الفاء عاطفة ، وقال فعل ماض معطوف على جئتهم ، والذين فاعل وجملة كفروا صلة ، ومنهم متعلقان بكفروا ، وإن نافية ، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وسحر خبر هذا ، ومبين صفة ، والجملة في محل نصب مقول القول.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))


اللغة :

(مائِدَةً) المائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، وهذا هو المشهور كما نصّ عليه الثعالبي ، غير أن الراغب قال : المائدة الطبق الذي عليه الطعام. وتقال أيضا المطعام نفسه. إلا أن هذا مخالف لما هو مشهور متعالم عند علماء اللغة.

وهذه المسألة لها نظائر في اللغة : لا يقال للخوان مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان ، بتثليث الخاء. ولا يقال : كأس إلا وفيها خمر ، وإلا فهي قدح. ولا يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دلو ، ولا يقال : جراب إلا وهو مدبوغ ، وإلا فهو إهاب. ولا يقال : قلم إلا وهو مبريّ ، وإلا فهو أنبوب. ولا يقال : كوز إلا إذا كانت له عروة ، وإلا فهو كوب. ولا يقال : فرو إلا إذا كان عليه صوف. وإلا فهو جلده ولا يقال : ريطة إلا إذا كانت ذات لفقين وإلا فهي ملاءة. ولا يقال : رمح إلا إذا كان عليه سنان ، وإلا فهو قناة. ولا يقال : لطيمة إلا إذا كان عليها طيب ، وإلا فهي عير. ولا يقال : خاتم إلا إذا كان فيه فصّ ، وإلا فهو فتخة. هذا ما ذكره الثعالبي نقلا عن أبي عبيدة.

ونقل عن غير أبي عبيدة من أئمة اللغة : أنه لا يقال : نفق إلا إذا كان له منفذ ، وإلا فهو سرب. ولا يقال : عهن إلا إذا كان مصبوغا ، وإلا فهو صوف. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جارية ، وإلا فهو ستر. ولا يقال : ركيّة إلا إذا كان فيها ماء قلّ أو كثر ، وإلا فهي بئر. ولا يقال : وقود إلا إذا تقدمت فيه النار ، وإلا فهو حطب.

ولا يقال : سياع إلا إذا كان فيه تبن ، وإلا فهو طين. ولا يقال : عويل إلا إذا كان فيه رفع صوت ، وإلا فهو بكاء. ولا يقال : ثرى إلا إذا


كان نديا ، وإلا فهو تراب. ولا يقال للعبد : آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كدّ عمل ، وإلا فهو هارب. ولا يقال لماء الفم : رضاب إلا ما دام في الفم ، وإلا فهو بزاق. ولا يقال للشجاع : كميّ إلا إذا كان شاكي السلاح ، وإلا فهو بطل. ولا يقال للمرأة ظعينه إلا ما دامت راكبة في الهودج. هذا وقد اختلف اللغويون في اشتقاق المائدة ، فقال أبو عبيدة. واختاره الزمخشريّ : هي فاعلة بمعنى مفعولة ، مشتقة من : ماده أي أعطاه ، وامتاده بمعنى استعطاه ، فهي بمعنى مفعولة كعيشة راضية.

الاعراب :

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) الواو حرف عطف ، والكلام معطوف على ما تقدم ، وجملة أوحيت في محل جر بالإضافة ، وأن مفسرة ، لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه ، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها مفسرة (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الجملة مستأنفة ، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول ، والباء حرف جر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بـ «اشهد» ، ومسلمون خبر أنّ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الجملة مستأنفة لحكاية حال ماضية ، والظرف متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، وجملة قال في محل جرّ بالإضافة ، والحواريون فاعل ، ويا حرف نداء ، وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم ، وابن بدل من «عيسى» على اللفظ أو على المعنى ، فيجوز ضم النون وفتحها ، كما سيأتي في باب الفوائد ، ومريم مضاف إليه (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الجملة في


محل نصب مقول القول ، وهل حرف استفهام ، ويستطيع ربك فعل مضارع وفاعل ، وأن ينزل أن المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يستطيع ، ومائدة مفعول ينزل ، ومن السماء جار ومجرور متعلقان بينزل ، ولا بأس بأن يتعلقان بمحذوف صفة لمائدة (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قاله لهم بصدد سؤالهم. وجملة اتقوا الله في محل نصب مقول القول ، وإن شرطية ، وكان واسمها وخبرها ، وكان فعل الشرط ، والجواب محذوف يفهم من سياق الكلام ، أي إن كنتم مؤمنين بقدرته تعالى وبصحة نبوتي فتجنبوا هذه السؤالات المتعنتة (قالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) الكلام مستأنف مسوق لبيان ما قالوه تسويفا لسؤالهم ، وجملة نريد في محل نصب مقول القول ، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول نريد ، ومنها متعلقان بنأكل ، وتطمئن قلوبنا الجملة معطوفة على «أن نأكل منها» (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة ، ونعلم عطف على نأكل وتطمئن وتكون حجة لنا أمام الذين لم يشهدوها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون رسوخا في الإيمان ، ويزول الشك من صدور الشّاكّين والمرتابين ، ويؤمن الكافرون. وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وجملة قد صدقتنا خبرها ، ونكون عطف على نعلم ، واسم نكون مستتر تقديره نحن ، ومن الشاهدين متعلقان بمحذوف خبر نكون ، وعليها متعلقان بالشاهدين.

الفوائد :

إذا كان المنادى مفردا علما متبوعا بـ «ابن» ولا فاصل بينهما


و «ابن» مضافا الى علم جاز في المنادى وجهان : ضمه للبناء ونصبه لاتباع حركة «ابن» ، قال عمرو بن كلثوم :

بأي مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

اللغة :

(عِيداً) العيد : معروف ، وهو مشتق من العود ، لأنه يعول كل سنة. وإنما كسرت عينه لأن الواو وقعت بعد كسرة ، والأصل : عويد ، كميزان أصلها : موزان ، فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد الكسرة.

الاعراب :

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) كلام مستأنف مسوق لشروعه بالدعاء بعد أن تبيّن له صدقهم. وقال عيسى فعل وفاعل ، وابن بدل أو نعت ، ومريم مضاف إليه (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)


اللهم أصله : يا الله ، فحذف حرف النداء وعوضت منه الميم المشددة ، وقد تقدم بحثه. وربنا نداء ثان ، وأنزل فعل أمر للدعاء ، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ، وعلينا متعلقان بأنزل ، ومائدة مفعول به ومن السماء متعلقان بمحذوف صفة لمائدة ، أو متعلقان بأنزل أيضا.

(تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) جملة تكون صفة ثانية لمائدة ، أي : يكون يوم نزولها عيدا ، واسم تكون مستتر تقديره هي ، وعيدا خبر تكون ، ولنا متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة تقدمت على موصوفها ، وهو قوله : «عيدا» ، ولأولنا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من «لنا» بتكرير العامل ، وآخرنا عطف على «أولنا» ، وآية عطف على «عيدا» ، ومنك متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو حرف عطف ، وارزقنا فعل أمر للدعاء ، وفاعله مستتر ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، والواو استئنافية أو حالية ، وأنت مبتدأ ، وخير الرازقين خبر ، والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة أو في محل نصب على الحال (قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان استجابة الله لدعائه. وإني وما في حيزها في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، ومنزلها خبر ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمنزلها لأنه اسم فاعل (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، ويكفر فعل الشرط ، وبعد ظرف قطع عن الإضافة لفظا لا معنى فبني على الضمّ وهو متعلق بيكفر ، ومنكم متعلقان بمحذوف حال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الفاء رابطة للجواب ، وإن واسمها ، وجملة أعذبه خبرها ، وجملة إني أعذبه في محل جزم جواب الشرط ، وعذابا مفعول مطلق وهو اسم مصدر بمعنى التعذيب ،


ولا نافية ، وأعذبه فعل مضارع ، والضمير في «أعذبه» الثانية ناب عن المفعول المطلق لأنه يعود عليه ، والتقدير فإني أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أحدا ، وأحدا مفعول به ، والجملة المنفية صفة لـ «عذابا» ، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صفة لـ «أحدا».

وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ «من».

الفوائد :

ينوب عن المصدر ثلاثة عشر شيئا فتعطى حكمه وهي :

١ ـ اسم المصدر : أعطيتك عطاء.

٢ ـ صفته : اذكروا الله كثيرا.

٣ ـ ضميره العائد اليه : كالآية المتقدمة.

٤ ـ مرادفه : فرح جذلا.

٥ ـ مصدر يلاقيه في الاشتقاق : أنبتكم نباتا.

٦ ـ ما يدل على نوعه : رجع القهقرى ، وقول الأعشى :

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل

٧ ـ ما يدل على آلته : ضربت اللص سوطا.

٨ ـ أيّ الاستفهامية وكم الاستفهامية أو الخبرية نحو : «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» ، وقول المتنبي :


كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم

ثم انتفضت فزال القبر والكفن

٩ ـ ما يدل على عدده : «فاجلدوا كلّ واحد منهما مئة جلدة».

١٠ ـ ما ومهما وأي الشرطيات : ما تفعل أفعل ، ومهما تقف أقف وأي عمل تعمله تجاز عليه.

١١ ـ لفظا كل وبعض مضافين إلى المصدر : «فلا تميلوا كل الميل» واجتهد بعض الاجتهاد.

١٢ ـ اسم الاشارة مشارا به إلى المصدر : اجتهدت ذلك الاجتهاد.

١٣ ـ أيّ الكمالية : وهي التي تدل على معنى الكمال إذا وقعت مضافة للمصدر ، نحو : اجتهدت أي اجتهاد. وإذا وقعت بعد النكرة كانت صفة لها ، كقول أبي العتاهية :

إنّ الشّباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده

ف «أي» صفة لـ «مفسدة» ، وإذا وقعت بعد المعرفة كانت حالا ، نحو : مررت بعبد الله أيّ رجل.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ


لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

الاعراب :

(وَإِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الواو حرف عطف ، والكلام منسوق على «إذ قال الحواريون» فالظرف متعلق بمحذوف تقديره :اذكر ، وجملة قال الله في محل جر بالإضافة وجملة يا عيسى بن مريم في محل نصب مقول القول (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي


إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) الهمزة للاستفهام ، وأنت مبتدأ ، وجملة قلت للناس خبر ، والجملة الاستفهامة مقول القول ، وجملة اتخذوني من فعل الأمر والفاعل والمفعول به في محل نصب مقول القول ، وأمي الواو للمعية أو العطف ، وأمي مفعول معه أو معطوف على الياء ، وإلهين مفعول به ثان لاتخذوني ، ومن دون الله متعلقان بمحذوف صفة لإلهين ، أي :كائنين من دونه تعالى ، ولا مانع من تعليقهما بمحذوف حال من فاعل اتخذوني ، أي : متجاوزين (قالَ : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) الجملة مستأنفة مسوقة للتبرؤ مما نسب إليه.

وقال فعل ماض ، وسبحانك مفعول مطلق والجملة مقول القول ، وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ، ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر اسم يكون المؤخر ، وجملة ما يكون لي استئنافية ، وجملة ليس لا محل لها لأنها صلة الموصول ، واسم ليس مستتر تقديره هو ، وبحق الباء حرف جر زائد ، وحق خبر ليس ، ولي متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه ، وما اسم موصول مفعول أقول لأنها متضمنة معنى الجملة وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) الجملة مستأنفة ، وإن شرطية ، وكنت فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها ، والفعل الناقص هو فعل الشرط ، وجملة «قلته» خبر كنت ، والفاء رابطة ، وجملة قد علمته في محل جزم جواب الشرط الجازم ، وعلمته فعل وفاعل ومفعول به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الجملة مستأنفة ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وفي نفسي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وجملة ولا أعلم ما في نفسك عطف على ما تقدم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها ، وأنت


مبتدأ وعلام الغيوب خبر ، والجملة خبر «إن» ، أو «أنت» ضمير فعل ، وعلام خبر «إن» ، والجملة الاسمية خبر إن وجملة إنك وما بعدها لا محل لها لأنها تعليلية (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما نافية ، وقلت فعل وفاعل ، ولهم متعلقان بقلت ، وإلا أداة حصر ، وما اسم موصول مفعول قلت ، وجملة أمرتني به صلة الموصول (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) المصدر المؤول بدل من «ما» ، أو من الهاء في «به» ، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هو» ، وجعلها بعضهم مفسرة ، وأكد أن عيسى عليه السلام نقل معنى كلام الله بهذه العبارة ، كأنه قال : ما قلت لهم شيئا سوى قولك لي : قل لهم أن اعبدوا الله ربي وربكم. وربي بدل من الله أو صفة ، وسيأتي في باب الفوائد مزيد من إعراب هذا الكلام (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) الواو حرف عطف ، وكان واسمها ، وشهيدا خبرها ، وعليهم متعلقان بـ «شهيدا» وما دمت فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها ، وفيهم متعلقان بمحذوف خبرها ، والظرف المنسبك من ما دمت متعلقان بـ «شهيدا» ، أي مدة دوامي مستقرا فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الفاء استئنافية ، ولما حينية أو رابطة ، فهي ظرف أو حرف متضمن معنى الشرط ، وجملة توفيتني في محل جرّ بالإضافة أو لا محل لها ، وتوفيتني فعل وفاعل ومفعول به ، أي :أخذتني أخذا وافيا بالرفع إلى السماء ، وهو الأصل في معنى الوفاة ، وجملة كنت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وكان واسمها ، وأنت ضمير منفصل في محل رفع تأكيد للضمير في كنت ، ولك أن تعربه ضمير منفصل لا محل له ، والرقيب خبر كنت ، وعليهم متعلقان بالرقيب ، والواو استئنافية أو حالية ، وأنت مبتدأ ، وشهيد خبر ،


وعلى كل شيء متعلقان بشهيد (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن شرطية وتعذبهم فعل الشرط والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وإن واسمها وخبرها والجملة الشرطية مستأنفة مسوقة على وجه الاستعطاف ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام ما بدأ الحديث به عند ما قال : يوم يجمع الله الرسل ، وجملة الاشارة في محل نصب مقول القول وهذا مبتدأ ويوم خبر وجملة ينفع في محل جر بالاضافة ، والصادقين مفعول به مقدم ، وصدقهم فاعل مؤخر (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان النفع المذكور ، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وجنات مبتدأ مؤخر ، وجملة تجري صفة لجنات ، ومن تحتها متعلقان بتجري ، والأنهار فاعل ، وخالدين حال ، وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة دعائية معترضة لا محل لها ، وجملة ورضوا عنه عطف عليها ، وذلك مبتدأ ، والفوز خبر ، والعظيم صفة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق ، والله متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وملك السماوات والأرض مبتدأ مؤخر ، والواو عاطفة ، وما اسم موصول معطوف على الملك ، وفيهن متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وأتى بـ «ما» تغليبا لغير العاقل لأنه أدل على العظمة ، وهو مبتدأ ، وقدير خبره ، وعلى كل شيء متعلقان بقدير.

البلاغة :

في قوله : «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت


العزيز الحكيم» فن من فنون البلاغة ، منقطع النظير ، صعب الإدراك ، يحتاج المتأمل فيه الى الكثير من رهافة الحسّ ، وشعوف الطبع ، ويسمى فن التخيير. وحدّده علماء البلاغة بأن يأتي الشاعر أو الناثر بفصل من الكلام أو بيت من الشعر يسوغ أن يقفّى بقواف شتى فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها ، ويستدل بإيثاره إياها على حسن اختياره وصدق حسه ، وقد تقضي البداهة الأولى بأن تكون غير ما اختاره ، ولكنه عزف عن ذلك لسرّ دقيق كقول أحدهم :

إنّ الغريب الطويل الذيل ممتهن

فكيف حال غريب ما له قوت

فإنه يسوغ أن يقول : ما له نشب ، أو ما له سيد ، أو ما له أحد.

وإذا نظرت الى ما قاله وهو : «ماله قوت» وجدتها أبلغ من الجميع ، وأدلّ على الفاقة والعوز ، وأمسّ بذكر الحاجة ، وأشجى للقلوب ، وأدعى للاستعطاف. فذلك رجحت على ما سواها.

القول في الآية :

ونعود بعد هذا التعريف السريع لهذا الفن الى الآية التي نحن بصددها فنقول : إن البداهة البدائية تقضي بأن تكون الفاصلة :«إنك أنت الغفور الرحيم» لملاءمتها لقوله : «إن تغفر» ولمناسبته ما بين الغفران والغفور ، ولكنّ هذا الوهم الناجم عن هذه البداهة سرعان ما يزول أثره عند ما يذكر المتوهم أن هؤلاء قد استحقوا العذاب دون الغفران ، فيجب أن تكون الفاصلة : «العزيز الحكيم» إذ لو


جاءت «الغفور الرحيم» بعد ذكر الغفران ـ وهو لا يغفر لهم ـ فوجب أن تكون الفاصلة كما وردت ، لأن الله سبحانه ممتنع عن القهر والمعارضة ، والعزيز هو الممتنع ، ولا بد من أن يصف نفسه بعد وصفه بالعزة بالحكمة ، لأنه الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه.

طرفة الأصمعي :

وقد مرت معنا في السابق طرفة الأصمعي ، وهي ما ذكره أنه كان يقرأ يوما فقرأ : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم» وكان يسمعه أعرابي ، فاعترضه وغلّطه ، فراجع الأصمعي الآية ، فإذا بها «والله عزيز حكيم» ، فقال للأعرابيّ : كيف عرفت ذلك؟ فقال : يا هذا عزّ فحكم فقطع ، ولو غفر ورحم لما قطع. فدهش الأصمعي وأفحم.

وخفي هذا السر على أبي حيان :

وقد خفي سر هذا الفن على أبي حيان ـ على جلالة قدره ـ فقال في «البحر» محاولا تعليل الاعتراض ما نصه : «وقال أبو بكر ابن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : «فإنك أنت العزيز الحكيم» لا يناسب قوله : «وإن تغفر لهم» لأن المناسب «فإنك أنت الغفور الرحيم». والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ، ومتى نقل إلى ما قاله هذا الطاعن ضعف معناه ، فإن ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلّق.

وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون». ونقول : ولو


عرف أبو حيّان هذا الفنّ لأجاب بما قدّمناه ، ولم يتكلّف الأجوبة البعيدة.

الفوائد :

بين ابن هشام والزمخشريّ :

ذكر ابن هشام في مغني اللبيب ما يلي : «وذكر الزمخشري في قوله تعالى : «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله» أنه يجوز أن تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر ، أي : ما أمرتهم إلا بما أمرتني أن اعبدوا الله ، وهو حسن. وعلى هذا فيقال في الضابط : أن يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره ، ولا يجوز في الآية أن تكون مفسرة لأمرتني ، لأنه لا يصح أن يقال : اعبدوا الله ربي وربكم مقولا لله تعالى ، فلا يصح أن تكون مفسرة لأمره لأن المفسر عين تفسيره.

عبارة ابن يعيش :

وعبارة ابن يعيش : فـ «أن» بمعنى «أي» ، وهو تفسير «ما أمرتني به» ، لأن الأمر في معنى القول ، ولأن هذه إذا كانت تفسيرا ثلاث شرائط :

١ ـ أولها أن يكون الفعل الذي تفسره وتعبر عنه فيه معنى القول وليس بقول.


٢ ـ والثاني أن لا يتصل بـ «أن» شيء من صلة الفعل الذي تفسره ، لأنه إذا اتصل بها شيء من ذلك صارت جملته ، ولم تكن تفسيرا له ، وذلك نحو : أوعزت إليه بأن قم ، وكتبت إليه بأن قم ، لأن الباء هاهنا متعلقة بالفعل ، وإذا كانت متعلقة به صارت من جملته ، والتفسير إنما يكون بجملة غير الأولى.

٣ ـ والثالث أن يكون ما قبلها كلاما تاما لما ذكرناه من أنها وما بعدها جملة مفسرة جملة قبلها ، ولذلك قالوا في قوله تعالى :«أن الحمد لله رب العالمين» أنّ «أن» فيه مخففة من الثقيلة ، والمعنى :أنه الحمد لله ، ولا يكون تفسيرا لأنه ليس ما قبلها جملة تامة ، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله : «وآخر دعواهم» لم يكن كلاما».

قلت : ولهذا جنحنا الى ما اخترناه في إعرابها مصدرية تفاديا للوقوع في هذه المزالق.

٢ ـ إذا وقعت «ما» قبل «ليس» أو «لم» أو «لا» أو بعد «إلّا» فهي موصولة ، وإذا وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية ، وإذا وقعت بعد الباء فهي تحتملهما ، وإذا وقعت بين فعلين والأول علم أو دراية أو نظر احتملت الموصولية والاستفهامية.

٣ ـ كل ما كان من أسماء الزمان مبهما لما مضى تجوز إضافته الى الجملة ، فإن كان ما بعده مبنيا فالبناء على الفتح أرجح للتناسب ، قال النابغة :


على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت : ألمّا أصح والشيب وازع

يروى «على حين» بالجر على الإعراب ، و «على حين» بالبناء على الفتح ، وهو الأرجح. وإن كان ما بعده فعلا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح كما ورد في الآية : «هذا يوم ينفع».


سورة الأنعام

مكيّة وآياتها خمس وستون ومائة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

اللغة :

(جَعَلَ) : تكون بمعنى أنشأ وأحدث فتنصب مفعولا واحدا ، وتكون بمعنى صيّر فتتعدى الى مفعولين. وقال ابن جنّي في الخصائص : «إن العرب قد تتسع فتوقع أحد الفعلين موقع الآخر إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر». والفرق بين الجعل والخلق دقيق يلتقطه الخاطر المرهف ، وهو أن الخلق فيه معنى التقدير ، والجعل فيه معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان الى مكان آخر.


(يمترون) يشكّون ، والامتراء الشك ، وفعله : مرى في الأمر وامترى وتمارى ، وما فيه مرية أي شك ، ومريت الناقة وأمريتها حلبتها فأمرت ، ومن المجاز قرع مروته ، قال أبو ذؤيب الهذلي :

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشقّر كل يوم تقرع

وماريته مماراة : جادلته ولاججته ، وتماروا ومعناه المحالبة.

كأنّ كل واحد يحلب ما عند صاحبه.

الاعراب :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) كلام مستأنف للحث على التفكير والتأمل ، والعدول عن الجدل والمماراة.

والحمد مبتدأ ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره ، والذي اسم موصول في محل جر صفة ، وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول والسموات مفعول به وجملة وجعل الظلمات والنور عطف على الجملة الأولى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والعطف على قوله الحمد لله وما بعده على معنى أن الله خليق بالحمد على ما خلق لأنه خلق ما خلق نعمة للبشر ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته. والذين مبتدأ وكفروا فعل وفاعل والجملة صلة الموصول وبربهم متعلقان بكفروا فيكون يعدلون بمعنى يميلون عنه من العدول ؛ ويجوز أن يتعلقا بيعدلون وقدم الجار والمجرور للفاصلة ويكون يعدلون من العدل وهو التسوية بين الشيئين ، أي : ثم الذين كفروا يسوّون بربهم غيره من المخلوقين فيكون المفعول محذوفا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ


ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) كلام مستأنف مسوق لإقامة الحجة على امترائهم وهو مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول ومن طين جار ومجرور متعلقان بخلقكم ، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقضى أجلا فعل ماض ومفعول به ، والجملة عطف على جملة خلقكم ، وأجل الواو استئنافية ، وأجل مبتدأ ، ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لأنه وصف بقوله : «مسمى» ، وعنده ظرف مكان متعلق بمحذوف خبره ، ثم حرف عطف واستبعاد لتراخي الرتبتين ، وأنتم مبتدأ وجملة تمترون خبر.

البلاغة :

في الآيتين فنون متعددة من البلاغة نوجزها فيما يلي :

١ ـ ثبوت الديمومة التي يستحقها سبحانه ، وهي ديمومة الحمد له بسبب كونه منعما ، والكلام خبري أريد به الأمر.

٢ ـ الطباق بين السموات والأرض ، والظلمات والنور ، وإذا تعدد الطباق سمّي مقابلة.

٣ ـ المخالفة في الإفراد والجمع ، فقد أفرد النور وجمع الظلمات ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، ولها أسباب كثيرة ، ولأن النور من جنس متحد ، وهو النار.

٤ ـ الإظهار في موضع الإضمار : فقد أظهر الضمير فقال :«ربهم» مع أن ذكر الله تقدم ، تفخيما لجلاله. وهي سنة من سنن العرب في كلامهم ، يعيدون الاسم ظاهرا وإن تقدّم ، دون تعبير عنه


بالضمير ، للدلالة على كمال العناية. وقد تقدم هذا البحث والاستشهاد عليه بمطلع سينية البحتري.

٥ ـ التنكير : فقد ابتدأ بالنكرة ، وهو «أجل» ، وكان الظاهر أن يؤخر المبتدأ ، تقول : عندي كتاب ، ولا تقول كتاب عندي.

ولكن الذي أوجب تقديم النكرة تعظيم شأن الأجل المضروب عنده سبحانه ، والمراد به الساعة وتهويل أمرها.

٦ ـ حذف المفعول به لظهوره ، أي : يعدلون به ، أي :يسوون بربهم غيره مما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه. وهذه نهاية الحمق ، وغاية الرّقاعة.

٧ ـ العطف بثمّ لاستبعاد صدور الشك منهم مع وجود ما يقتضي عدمه.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

الاعراب :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ


ما تَكْسِبُونَ) الكلام مستأنف مسوق للتنبيه على صفات الألوهية التي لا يستحقها غيره. وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ أو هو ضمير الشأن ، والله خبر ، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمعنى اسم الله ، أي : المعبود فيها وفي الأرض جار ومجرور متعلقان أيضا بمعنى اسم الله. وسيرد في باب الفوائد المزيد من تعليق هذا الجار والمجرور.

وجملة يعلم خبر ثان أو حالية ، وسركم مفعول به ، وجهركم عطف على سركم ، وجملة ويعلم عطف على جملة يعلم ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة تكسبون صلة لا محل لها (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف لبيان إصرار هم على الكفر ، والإعراض عن الآيات الباهرة الدّالة على التوحيد. وما نافية ، وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم ، ومن حرف جر زائد ، وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل تأتيهم ، ومن آيات ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية ، وإلا أداة حصر ، وكان واسمها ، وعنها جار ومجرور متعلقان بالخبر «معرضين» وجملة كانوا حالية (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) الفاء الفصيحة ، وقد حرف تحقيق ، وكذبوا فعل وفاعل ، وبالحق جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، أي : إذا كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم منها ، وهو الحق. والجملة على كل حال لا محل لها من الاعراب. ولما حينية أو رابطة ، وعلى الأول فهي متعلقة ، وجملة جاءهم في محل جرّ بالإضافة ، وعلى الثاني لا محل لها (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة ، وسوف حرف استقبال ، ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم ، وأنباء فاعل مؤخر ، وما اسم موصول مضاف اليه ، وجملة كانوا صلة ، والواو اسم كان ، وجملة يستهزئون خبرها ، وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون.


الفوائد :

ما اخترناه في تعليق قوله تعالى : «في السموات» هو وجه من اثني عشر وجها أوردها المفسرون والمعربون في إعراب هذا التعبير ، وقد اختاره الزّجاج والزمخشريّ وابن عطية وأبو السعود ، كأنه قيل : وهو المعبود فيها ، وقال ابن عطية : هو عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا. لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى. وفيما يلي بعض الوجوه المستساغة.

١ ـ في السموات : متعلقان بمحذوف صفة لله تعالى ، حذفت لفهم المعنى ، والتقدير : وهو الله المعبود أو المدبر.

٢ ـ الكلام تمّ عند قوله : «وهو الله» ، والجار والمجرور متعلقان بمفعول يعلم وهو : سركم وجهركم فيهما.

٣ ـ متعلقان بيعلم ، وجملة يعلم على هذا الوجه مستأنفة.

ونتجاوز بقية الأوجه لأنها لم تستقم معنا.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))


اللغة :

(مكّن له في الأرض) جعل له مكانا ومكنته أثبته.

(المدرار) : المغزار ، ومفعال صيغة مبالغة تدل على الكثرة ، كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ، ومئناث للتي تلد الإناث.

(قَرْناً) القرن اسم جمع ، كقوم ورهط. وقد اختلف الناس في القرن حالة إطلاقه على الزمان ، فجمهور أهل اللغة على أنه مائة سنة ، ويطلق على الجماعة من الناس أهل زمان واحد ، كما في الآية ، ويجمع على قرون.

الاعراب :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) الكلام مستأنف مسوق للشروع في توبيخ الذين لا يؤمنون ، لأنهم غمطوا نعمة ربهم ، وكذبوا بالحق لما جاءهم. والهمزة للاستفهام التقريري والتوبيخي في وقت واحد ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويروا فعل مضارع مجزوم بلم ، والرؤية بصرية أو علمية ، وكم خبرية أو استفهامية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا ، وجملة أهلكنا سدت مسد مفعول أو مفعولي الرؤية ، ومن قبلهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ومن الجارة ومجرورها في موضع نصب تميز كم. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) الجملة في محل جر صفة لقرن ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم ، ومكناهم فعل وفاعل ومفعول به ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم ، و «ما» يجوز أن تكون نكرة تامة بمعنى


شيء في محل نصب مفعول مطلق ، أي : شيئا من التمكين لم نمكنه لكم ، فتكون الجملة بعدها في محل نصب صفة ، ويجوز أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة تمكنهم أطول من مدة تمكنكم ، وتكون الجملة صفة أيضا. وقيل : «ما» اسم موصول بمعنى الذي ، ويكون التقدير : التمكين الذي لم نمكن لكم ، فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، والجملة بعده صلة ، والضمير العائد على «ما» محذوف ، أي : الذي لم نمكنه لكم ، والأول أسهلها. ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ونكن فعل مضارع مجزوم بلم ، ولكم متعلقان بنمكن (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) الواو عاطفة ، وأرسلنا السماء فعل وفاعل ومفعول به ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ، ومدرارا حال (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) عطف أيضا على ما تقدم ، وجملة تجري من تحتهم في محل نصب مفعول به ثان لجعلنا ، فأهلكناهم الفاء عاطفة ، وأهلكناهم فعل وفاعل ومفعول به ، وبذنوبهم جار ومجرور متعلقان بأهلكناهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) عطف أيضا ، وأنشأنا فعل وفاعل ، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بأنشأنا ، وقرنا مفعول به ، وآخرين صفة.

البلاغة :

١ ـ الالتفات في قوله : «ما لم نمكن لكم» ، والسياق يقتضي :ما لم نمكن لهم ، لتخصيص المرسل إليهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالمواجهة ، فضلا عن تطرية نشاط السامع.

٢ ـ المجاز المرسل : في قوله : «وأرسلنا السماء عليهم مدرارا» ،


والعلاقة المحلية ، يريد المطر الكثير ، عبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها ، وقد رمق هذا المجاز الشاعر بقوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨))

اللغة :

(قِرْطاسٍ) القرطاس : ما يكتب فيه ، وكسر القاف فيه أشهر من ضمها. والقرطس : وزن «جعفر» : لغة فيه ، وفي القاموس :«مثلث القاف ، وكجعفر ودرهم : الكاغد ، والكاغد معروف ، بفتح الغين والدال المهملة ، وربما قيل بالذال المعجمة وهو معرّب» وهو المراد هنا ، وله معان أخرى منها الغرض ، وبرد مصريّ ، والجارية البيضاء المديدة القامة ، والناقة الفتية ، والجمع قراطيس.

الاعراب :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان فرط تعنتهم وتماديهم في المكابرة واللجاج.


ولو شرطية ونزلنا فعل وفاعل ، وعليك جار ومجرور متعلقان بنزلنا ، وكتابا مفعول به ، وفي قرطاس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لـ «كتابا» ، فلمسوه الفاء عاطفة ، ولمسوه فعل وفاعل ومفعول به ، عطف على نزلنا ، وبأيديهم جار ومجرور متعلقان بلمسوه (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) اللام واقعة في جواب لو ، وقال الذين فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإن نافية ، وهذا مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وسحر خبر هذا ، ومبين صفة ، وجملة النفي مقول القول (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد لجاجتهم وتماديهم في التعنت والمكابرة ، وقالوا فعل وفاعل ، ولولا حرف تحضيض لا تحتاج الى جواب ، وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ، وعليه جار ومجرور متعلقان بأنزل ، وملك نائب فاعل ، وجملة التحضيض في محل نصب مقول القول (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للردّ عليهم بجوابين على تعنتهم ومكابرتهم. ولو شرطية ، وأنزلنا ملكا فعل وفاعل ومفعول ، واللام واقعة في جواب لو ، وجملة قضي الأمر لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي لبعد ما بين الأمرين :قضاء الأمر وعدم الإنظار ، أي : إن بعد قضاء الأمر شدة ، أين منها منها ما رأوه! والمفاجأة بالشدة أصعب من الشدة نفسها. ولا نافية ، وينظرون فعل مضارع مرفوع مبني للمجهول معطوف على قضى الأمر ، والواو نائب فاعل.

البلاغة :

الإطناب في قوله : «فلمسوه بأيديهم» ، وإنما ذكر الأيدي


واللمس لا يكون إلا بها حتى يجتمع لهم إدراك الحاسّتين : حاسة البصر وحاسة اللمس.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

اللغة :

(يَلْبِسُونَ) : يقال لبس عليه الأمر يلبسه ، بضم الباء في المضارع ، لبسا : جعله يلتبس في أمره ، وشبهته وجعله مشكلا عليه ، وأصله الستر بالثوب.

الاعراب :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم بالجواب الثاني ، ولو شرطية ، وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به ، وملكا مفعول به ثان ، والضمير يعود على النذير الذي اقترحوه ، والمعنى : لو جعلنا ذلك النذير ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم تمكّن الآحاد من رؤية الملك


بزيه وهيكله ، واللام رابطة لجواب لو ، وجملة جعلناه رجلا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وللبسنا عطف على «لجعلنا» وعليهم متعلقان بلبسنا ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم ، وتكون مفعولا به ؛ ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : وللبسنا عليهم لبسا مثل ما يلبسون على غيرهم ، فتكون منسبكة بمصدر مفعول مطلق ، وجملة يلبسون لا محل لها على الحالين (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، واللام جواب للقسم المحذوف ، وقد حرف تحقيق ، واستهزئ فعل ماض مبني للمجهول ، وبرسل جار ومجرور متعلقان باستهزئ وقد نابا عن نائب الفاعل ، ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة ، وحاق فعل ماض معطوف على استهزئ ، وبالذين جار ومجرور متعلقان بحاق ، وجملة سخروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بسخروا ، وما فاعل حاق ، وهي إما موصولة وإما مصدرية ، وكان واسمها ، وجملة يستهزئون خبرها ، وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون ، والضمير في به يعود على الرسول ، والمعنى أنه حاق بهم عاقبة استهزائهم بالرسول المنتظم في سلك الرسل ، أو على كلمة ما المصدرية أو الموصولية (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) كلام مستأنف مسوق للحض على التفكير والسير في الأرض للتأمل في مغاب الأمم السابقة ومصائرها. وجملة سيروا في محل نصب مقول القول ، وأتى بثم للإشارة الى البعد الكامن في السير المؤدي الى الاستبصار والتأمل ، ولأن وجوب السير لم يكن إلا لبلوغ هذه المرتبة السامية التي هي قصارى ما تطمع إليه الهمم العالية ، وفي الأرض


جار ومجرور متعلقان بسيروا ، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، وانظروا فعل أمر وفاعل (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الجملة في محل نصب مفعول انظروا ، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان ، وعاقبة اسمها ، ولم تؤنث كان لأن العاقبة مؤنث مجازي ، وقد علقت النظر عن العمل لفظا ، والمكذبين مضاف إليه.

البلاغة :

١ ـ المجاز المرسل في قوله : «عاقبة المكذبين» ، والعلاقة هي المصير والمآل الذي ينتهي اليه مصير المكذبين ومآلهم.

٢ ـ في قوله : «ولقد استهزئ» الى قوله : «ما كانوا به يستهزئون» فن يسمى رد الاعجاز على الصدور ، وهو عبارة عن كل كلام بين صدره وعجزه رابطة لفظية غالبا ، أو معنوية نادرا ، ما تحصل بها الملاءمة والتلاحم بين قسمي كل كلام ، وهو ثلاثة أقسام :

١ ـ ما وافق آخر كلمة في الكلام آخر كلمة في صدره أو كانت مجانسة لها ، كقوله تعالى في سورة «النساء» : «أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا».

٢ ـ ما وافق آخر كلمة من الكلام أول كلمة منه ، كقوله تعالى في سورة «آل عمران» : «وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب».

٣ ـ ما وافق آخر كلمة من الكلام بعض كلمات صدره ، حيث كانت كالآية التي نحن بصددها. وهذه الروابط كلها لفظية ، وقد


تكون معنوية كقوله تعالى : «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم».

نماذج شعرية :

ومن أمثلة هذا الفن في الشعر قول البحتري :

ضرائب أبدعتها في السماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا

وقول أبي تمام :

ولم يحفظ مضاع المجد شيء

من الأشياء كالمال المضاع

وأبيات الحماسة المشهورة الرائعة :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهنّ ولا سرار

وتظرّف الثعالبي فجمع بين هذا الفن وفن التجنيس ، فقال ـ ويكاد يكون طريفا لولا مسحة التكلف ـ :

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل

فالبلابل الأولى جمع بلبل ، وهو طائر غرد معروف ، والثانية :جمع بلبال ، وهو الحزن ، والثالثة : جمع بلبلة ، بالضم ، وهي إبريق الخمر. وتظرّف آخر فجمع بين هذا الفنّ وفنّ التجنيس وفن التورية فقال :


لا كان إنسان تيمّم قاصدا

صيد المها فاصطاده إنسانها

فالإنسان الأول هو الشخص المعروف ، والإنسان الثاني بؤبؤ العين. وفيما يلي طائفة من أمثلة هذا الفنّ موزّعة على أقسامه الثلاثة المتقدمة. قال أبو العلاء :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر

والخصر بفتحتين : البرودة.

وقال أبو تمام :

ومن يك بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغريا

وما أجمل قول بعضهم :

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير؟

وقال أبو تمام راثيا :

ثوى بالثّرى من كان يحيا به الثّرى

ويغمر حرف الدهر نائله الغمر

وقد كانت البيض القواضب قبله

بواتر فهي الآن من بعده بتر


(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢))

الاعراب :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتبكيت الكفار وتوبيخهم على ما بدر منهم من تخلّف في الكفر ، وعجز عن التأمل والاستبصار. ولمن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن اسم استفهام للتوبيخ والإنكار ، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة «ما» ، والأرض عطف على السموات (قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) كلام مستأنف مسوق ليبدأ الرسول بالجواب الذي ليس ثمة جواب غيره. ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو لله ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وجملة كتب على نفسه الرحمة مستأنفة ، لأنها مستقلة عما قبلها ، غير مندرجة في سلك المقول ، وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بكتب ، والرحمة مفعول به (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) اللام جواب للقسم المحذوف المفهوم من قوله :«كتب على نفسه» ، كأنه أقسم على ذلك ، وجملة يجمعنكم لا محل لها من الاعراب لأنها جواب للقسم ، وقد اختلف في هذه الجملة كثيرا ولكن ما ارتأيناه أولى بالصواب. والى يوم القيامة جار ومجرور


متعلقان بمحذوف حال ، أي : مبعوثين أو محشورين الى يوم القيامة ، ولا نافية للجنس ، وريب اسمها ، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، والجملة حالية (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين نصب على الذم ، ويجوز أن تعربها مبتدأ خبره جملة فهم لا يؤمنون ، وجيء بالفاء لما في الموصول من رائحة الشرط ، وجملة خسروا أنفسهم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وهم مبتدأ ، وجملة لا يؤمنون خبره ، وجملة الذين خسروا أنفسهم على وجه النصب على الذم في محل نصب على الحال ، وعلى وجه الرفع مستأنفة مسوقة لبيان سبب خسرانهم.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤))

اللغة :

(سَكَنَ) : يحتمل أن يكون من السكنى ، ويتعدى بفي ، ومعناه حل وثبت. ويحتمل أن يكون من السكون ضد التحرك.

واكتفى بأحد الضدين ، لأنه يدل على ضده ، وخصه بالذكر لأن السكون هو الأصل ، والحركة طارئة ، ويتعدى بفي أيضا.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مبدعهما.


ويروى عن ابن عباس قوله : ما عرفت فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي :ابتدعتها. وسيأتي مزيد بحث عن هذه المادة.

الاعراب :

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الواو استئنافية ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وجملة سكن في الليل والنهار صلة الموصول ، واختار الزمخشري أن تكون الواو عاطفة نسقا على قوله : «لله» ، أي على الجملة المحكية بـ «قل» ، أي قل : هو لله ، وقل : وله ما سكن. ولا بأس بذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو عاطفة ، وهو مبتدأ ، والسميع خبر أول ، والعليم خبر ثان (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) كلام مستأنف مسوق لمتابعة الرد عليهم حين دعوه إلى دين آبائه. وقل فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، وغير الله مفعول به أول لأتخذ ، ووليا مفعول به ثان ، والجملة في محل نصب مقول القول (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) فاطر السموات والأرض نعت أو بدل لله ، والواو عاطفة ، وهو مبتدأ ، وجملة يطعم بالبناء للمعلوم خبر ، وجملة لا يطعم بالبناء للمجهول عطف عليها (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لتكرير الرد عليهم. وإن واسمها ، وجملة أمرت خبرها. وإن واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول ، وأمرت فعل ماض مبني للمجهول ، والتاء نائب فاعل ، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بأمرت ، وأول خبر أكون ، ومن


اسم موصول في محل جر بالإضافة ، وجملة أسلم صلة الموصول ، ولا تكونن الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بـ «لا» ، والجملة مقول القول محذوف معطوف على ما تقدم ، أي : وقيل لي : لا تكونن ، ومن المشركين خبر تكونن.

والمعنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

الاعراب :

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) كلام مستأنف ليكون جوابا ثالثا للردّ عليهم. وإن واسمها ، وجملة أخاف خبرها ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وإن شرطية ، وعصيت ربي فعل ماض وفاعل ومفعول به في محل جزم فعل الشرط ، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله ، والجملة الشرطية يجوز أن تكون معترضة بين فعل أخاف ومفعوله ، وهو : عذاب يوم عظيم ، ويجوز أن تكون حالية ، والأول أولى ، ويوم مضاف اليه ، وعظيم صفة (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ


رَحِمَهُ) الجملة صفة لعذاب يوم عظيم ، ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ، ويصرف فعل الشرط وهو مبني للمجهول ، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ، وعنه جار ومجرور متعلقان بيصرف ، ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بيصرف ، والتنوين في «إذ» عوض عن جملة ، وسيأتي بحثه في باب الفوائد. والفاء رابطة لجواب الشرط ، وقد حرف تحقيق ، ورحمه فعل ومفعول به ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من». (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الواو استئنافية أو حالية ، وذلك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، والفوز خبر ، والمبين صفة والجملة مستأنفة أو حالية (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ويمسسك فعل الشرط ، والكاف مفعول به المقدم ، والله فاعله المؤخر لفظا ، وبضرّ جار ومجرور متعلقان بيمسسك ، فلا الفاء رابطة للجواب لأن الجواب جملة اسمية ، ولا نافية للجنس ، وكاشف اسمها المبني على الفتح ، وله جار ومجرور متعلقان بكاشف ، وإلا أداة حصر وهو بدل من محل لا واسمها ، وخبر «لا» محذوف ، أي : موجود والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عطف على ما تقدم ، وجملة : «وهو على كل شيء قدير» تعليلية لجواب الشرط المحذوف ، أي : فلا رادّ له غيره ، وهو مبتدأ ، وقدير خبر ، وعلى كل شيء متعلقان بقدير (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو استئنافية أو حالية ، وهو مبتدأ ، والقاهر خبر ، وفوق عباده ظرف متعلق بالقاهر ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف خبر ثان أو بمحذوف حال ، أي : مستعليا. والصورة رائعة للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة.


الفوائد :

(يَوْمَئِذٍ) التنوين اللاحق لـ «إذ» في نحو : يومئذ وحينئذ ، عوض عن الجملة التي تضاف «إذ» إليها ، والأصل : يوم إذ يصرف عنه فقد رحمه ، فحذفت جملة «يصرف عنه» وجيء بالتنوين عوضا عن الجملة المحذوفة ، إيجازا وتحسينا ، فالتقى ساكنان : ذال «إذ» والتنوين ، فكسرت الذال على أصل التقاء الساكنين ، وليست هذه الكسرة كسرة إعراب باضافة «يوم» إليها لأن «إذ» ملازمة للبناء لشبهها بالحرف في الافتقار الى جملة وفي الوضع على حرفين ، وليست الاضافة في «يومئذ» ونحوها من إضافة أحد المترادفين للآخر ، بل من إضافة الأعم الى الأخص ، كشجر أراك.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

اللغة :

(شَيْءٍ) الشيء : ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ، ويجمع على أشياء. وقد تقدم القول في منع أشياء من الصرف ، والشيء في اصطلاح المتكلمين هو أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يندرج تحته. وقد


شجر بين المتكلمين خلاف نلمح إليه لطرافته ، فقد ذهب الأشاعرة ـ وهم من أهل السنة ـ إلى أنه الموجود ليس إلّا ، وخالفهم المعتزلة بأنه الذي يصح وجوده ، فشمل المعدوم. ولكن الفريقين اتفقا على خروج المستحيل من مفهومه. والمفهوم اللغوي أنه لا يتناوله ، قال أبو الطيب المتنبي :

وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا

الاعراب :

(قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) كلام مستأنف مسوق للردّ على من طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يريهم من يشهد له بأنه رسول الله. وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ، وأي شيء مبتدأ ، وأكبر خبر ، وشهادة تمييز محوّل عن المبتدأ ، والجملة في محل نصب مقول القول (قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لتهيئة الرد عليهم ، والله مبتدأ ، وشهيد خبره ، والظرفان متعلقان بشهيد ، والجملة في محل نصب مقول القول.

وإذا كان الله هو الشهيد بينهم وبينه فهو أكبر شهادة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الواو عاطفة أو استئنافية ، وأوحي فعل ماض مبني للمجهول ، وإلى جار ومجرور متعلقان بأوحي ، وهذا اسم إشارة في محل رفع نائب فاعل أوحي ، والقرآن بدل من اسم الاشارة ، والجملة معطوفة أو مستأنفة بمثابة التعليل ، والمعنى أن شهادة الله لي بأني رسوله كافية في نزول هذا القرآن ، واللام للتعليل ،


وأنذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والكاف مفعول ، ومن الواو عاطفة ، ومن اسم موصول منسوق على الكاف في أنذركم ، أي : لأنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وجملة تشهدون خبرها ، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعول تشهدون ، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول قول محذوف أي : ويقول : أئنكم لتشهدون ، وأن حرف مشبه بالفعل ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر أن المقدم ، وآلهة اسمها المؤخر ، وأخرى صفة لآلهة (قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الردّ عليهم ، لا نافية وأشهد فعل مضارع ، والجملة نصب على أنها مقول القول ، وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ، والجملة مستأنفة أيضا للغرض نفسه ، وإنما كافة ومكفوفة ، وهو مبتدأ وإله خبر ، وواحد صفة ، وإنني الواو عاطفة ، وإن واسمها ، وبريء خبرها ، والجملة منسوقة على ما قبلها ، ومما جار ومجرور متعلقان ببريء ، و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية أو موصولة ، أي : من إشراككم بالله ، أو من الأصنام التي تشركونها مع الله.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))


الاعراب :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) كلام مستأنف مسوق للرد على الذين يزعمون أن أهل الكتاب لا يعرفونه ، أي الرسول ، ويجوز أن يعود الضمير على القرآن. والذين اسم موصول في محل رفع مبتدأ ، وجملة آتيناهم صلة الموصول ، والكتاب مفعول به ثان ، وجملة يعرفونه خبر الذين ، وكما الكاف حرف جر ، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالكاف ، والجار والمجرور نصب على المفعولية المطلقة ، وقد تقدمت له نظائر كثيرة.

وأبناءهم مفعول به (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين مبتدأ أيضا ، وجملة خسروا صلة الموصول ، وأنفسهم مفعول به ، والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط ، وهم مبتدأ ثان وجملة لا يؤمنون خبر «هم» ،والمبتدأ الثاني وخبره خبر الذين ، ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين خسروا أنفسهم ، وأعربها ابن جرير نعتا لـ «الذين» الأولى ، وهو سائغ. وقيل : هو منصوب على الذّم ، وهو محتمل أيضا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الواو استئنافية ، ومن اسم استفهام معناه النفي والتوبيخ ، أي لا أحد أظلم ، وهو مبتدأ ، وأظلم خبر ، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم ، وجملة افترى صلة الموصول ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى ، وكذبا مفعول به (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) عطف على جملة افترى داخلة في حيز الصلة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إن واسمها ، وجملة لا يفلح الظالمون خبر ، والجملة تعليل لما سبق.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ


أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣))

الاعراب :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الواو استئنافية ، ويوم ظرف ناصبه محذوف مبهم زيادة في التخويف والتهويل ، والمعنى : ويوم نحشرهم كان كذا وكذا. ويجوز أن يكون مفعول لـ «اذكر» مقدرا ، وجملة نحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها ، والهاء مفعول به ، وجميعا حال (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ثم حرف عطف للتراخي ، لطول المدة بين الحشر والقول ، وللذين جار ومجرور متعلقان بنقول ، وجملة أشركوا صلة الموصول ، وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان ، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وشركاؤكم مبتدأ مؤخر ، والذين اسم موصول صفة لشركاء ، وجملة كنتم صلة ، والتاء اسم كنتم ، وجملة تزعمون خبرها ، ومفعولا تزعمون محذوفان للعلم بهما ، أي : تزعمونهم شركاء (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) ثم حرف عطف للتراخي ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ، وفتنتهم اسم تكن. وإلا أداة حصر ، وأن ما في حيزها في تأويل مصدر خبر تكن (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الواو حرف قسم وجر ، ولفظ الجلالة مجرور بالواو ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره «نقسم» ، وربنا بدل أو نعت لـ «الله» ، وجملة القسم في محل نصب مقول قولهم ، وما نافية ، وكان واسمها ، ومشركين خبرها.


(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥))

اللغة :

(أَكِنَّةً) الأكنّة : جمع كنان بكسر الكاف ، وهو وقاء كل شيء وستره ، ويجمع على أكنان أيضا. وكنّه وأكنّه : ستره ، قال أبو زيد :الثلاثي والرباعي لغتان في الستر والإخفاء جميعا ، واستكن استتر ، وأكننته في نفسي : سترته وأضمرته. وسميت جعبة السهام كنانة لأنها تسترها فإذا أراد إخراجها نثرها ، ومنه قول الحجاج في خطبته «نثر كنانته بين يديه». وكانون الشتاء الذي هو أشده بردا ، ومن أقوالهم : «أحسن من الكانون في الكانون» ، والكانون الأول المصطلى. والكنة بفتح الكاف امرأة الابن أو الأخ ، وجمعها كنائن ، ومن معاني الكانون : الثقيل ، ومنه قول الحطيئة يهجو أمه :

أغر بالاً إذا استودعت سرّا

وكانونا على المتحدثينا

ومن العاميّ الفصيح قولهم : «كنكن في البيت» أي : رزمه واستقر فيه ، وخاصة في الشتاء.


(وَقْراً) الوقر : بفتح الواو مصدر وقرت أذنه ، أي ثقلت وذهب سمعه ، والكلمة من المجاز. ومن غريب أمر هذه المادة أنها تدل على الثقل والرزانة ، يقال : وقر يقر ـ بكسر عين المضارع ـ العظم :صدعه ، ووقر يقر قرة ووقارة ووقرا الرجل كان رزينا ذا وقار وثبت.

ووقرت أذنه من باب تعب : ثقلت أو ذهب سمعه. والوقار : الحلم والرزانة ، وهو مصدر وقر بالضم ، والمرأة وقور : فعول بمعنى فاعل ، مثل صبور وشكور ، قال أبو فراس :

وقور وريعان الصبا يستفزّها

فتأرن أحيانا كما يأرن المهر

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : في مختار الصحاح : الأساطير : الأباطيل ، والواحدة أسطورة بالضم ، وإسطارة بالكسر. وقال غيره : إنه جمع جمع ، فأساطير جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر بفتح الطاء. وأما سطر بسكونها فجمعه في القلة على أسطر ، وفي الكثرة على سطور ، وقيل : إنه جمع جمع الجمع ، فأساطير جمع أسطار ، وأسطار جمع أسطر ، وأسطر جمع سطر ، وقال المبرّد : إنه جمع أسطورة ، نحو : أرجوحة وأراجيح ، وأحدوثة وأحاديث. ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة.

الاعراب :

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للإخبار عنهم بالكذب. وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ، وكذبوا فعل وفاعل ، والجملة في محل نصب بانظر لأنها معلقة لها عن العمل ، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بكذبوا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يجوز أن تكون الواو


عاطفة ، فتكون الجملة منسوقة على جملة كذبوا ، فتكون داخلة في حيّز النظر ، ويجوز أن تكون الواو استئنافية ، فتكون الجملة مستأنفة ، مسوقة للإخبار بها عن كذبهم. وضلّ فعل ماض ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بضل ، وما يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فتكون فاعلاً لضلّ ، وجملة كانوا يفترون صلة ، ويجوز أن تكون مصدرية فالمصدر المؤوّل هو فاعل ضلّ ، وجملة يفترون خبر كان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الواو عاطفة ، أو استئنافية ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وجملة يستمع صلة ، وإليك جار ومجرور متعلقان بيستمع ، وسيأتي سر إفراد الصلة في باب البلاغة (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) الواو عاطفة على الجملة قبلها من عطف الفعلية على الاسمية. وقيل : الواو للحال بتقدير «قد» ، أي : وقد جعلنا.

وجعلنا فعل وفاعل ، وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بجعلنا على أنه مفعوله الثاني ، هذا إذا اعتبرنا جعلنا للتصيير ، وأما إذا كانت بمعنى خلقنا فتتعدى لواحد وهو أكنة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال منه ، لأنهما لو تأخرا لوقعا صفة له ، وأن يفقهوه مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله على حذف مضاف ، أي : كراهية أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا عطف على الجملة السابقة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) الواو عاطفة ، وإن شرطية ويروا فعل الشرط والواو فاعل وكل آية مفعول به ولا نافية ويؤمنوا جواب الشرط وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يجوز أن تكون «حتى» هنا غاية وجر ، ويكون «إذا جاءوك» في محل الجر ، بمعنى : حتى وقت مجيئهم ، وجملة يجادلونك حال ، ويجوز


أن تكون حتى ابتدائية ، وهي التي تقع بعدها الجمل ، وعلى كل حال جملة يجادلونك حال من الواو في جاءوك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والذين فاعل ، وجملة كفروا صلة ، وإن نافية ، وهذا اسم إشارة مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وأساطير الأولين خبر ، والجملة المنفية في محل نصب مقول القول.

البلاغة :

الكناية ـ في جعل الأكنة ـ على القلوب والوقر في الآذان عن نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبول الحق والاعتقاد بصحته ، ونزيد هنا أن الكناية مزية إعطاء المعاني صورة المحسسات ، وهذه المزية من أبرز خواص الفنون ، فان المصوّر إذا رسم لك صورة للأمل أو اليأس بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحا ملموسا ، وعلى هذا تتضح لك روعة الصورة لهؤلاء الذين ضربت على قلوبهم الأسداد ، وتبلدت منهم الأذهان ، فما تتمخض عن ذوق ولا تسفر عن فنّ ، ولا تهيج إلى معرفة ، ومن هذا القبيل في إظهار الروعة قول البحتريّ :

يغضّون فضل اللحظ من حيث ما بدا

لهم عن مهيب في الصدور محبّب

فإنه كنى عن إكبار الناس للمدوح وهيبتهم إياه بعض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال ، وتظهر هذه الخاصة


جلية في الكنايات التي سترد عليك في القرآن عن الصفة والموصوف والنسبة ، مما سنشير إليه في مواطنه.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧))

الاعراب :

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) الواو استئنافية ، وهم مبتدأ ، وجملة ينهون خبر ، وعنه جار ومجرور متعلقان بينهون ، وضمير «هم» يعود على الكفار ، وضمير «عنه» يعود على القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم وجملة ينأون عنه عطف على ينهون عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) الواو حالية ، وإن نافية ، ويهلكون فعل مضارع وفاعل ، وإلا أداة حصر ، وأنفسهم مفعول به ، والواو حرف عطف ، وما نافية ، وجملة يشعرون معطوفة على يهلكون (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في وصف ما يصدر عنهم يوم القيامة من أحوال متناقضة متهافتة ، والواو شرطية ، وترى فعل مضارع ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : لرأيت شيئا مذهلاً عظيما. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية : أي لو انصرفت إليهم بقلبك وفكرك لتتدبر أحوالهم وتكتنه


حقيقة أمرهم في ذلك الوقت تزداد يقينا. ويجوز أن تكون بصرية ومفعولها محذوف ، أي : لو ترى أحوالهم وتعاينها عن كثب. وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري ، وجملة وقفوا في محل جر بالاضافة ، والواو نائب فاعل ، وعلى النار جار ومجرور متعلقان بوقفوا (فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء حرف عطف ، وقالوا عطف على وقفوا ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، أو هي لمجرد التنبيه ، وليت واسمها ، وجملة نرد خبرها ، والواو للمعية ، ولا نافية ، ونكذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم ، والتقدير : يا ليتنا لنا رد وانتفاء تكذيب والكون من المؤمنين ، وجملة التمني في محل نصب مقول القول ، ولأبي جعفر الطبري كلام مطوّل حول قراءة «ولا نكذب» بالرفع ، وانتهى الى ترجيحها على قراءة النصب ، وهو مجرّد تعسف. والواو حرف عطف ، ونكون عطف على نكذب ، واسم نكون مستتر تقديره نحن ، ومن المؤمنين خبرها.

البلاغة :

في هذه الآية فنان جميلان :

١ ـ الجناس بين ينهون وينأون ، وهو جناس التصريف الذي هو اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف أو من قريب من مخرجه ، سواء أكان الإبدال في الأول أم في الوسط أم في الآخر ، ومن طربف هذا التجنيس في الشعر قول البحتري :


عجب الناس لاغترابي وفي الأطراف تلقى منازل الأشراف

وقعودي عن التقلب والأر

ض لمثلي رحيبة الأكناف

ليس عن ثروة بلغت مداها

غير أني امرؤ كفاني كفافي

وجميل قول أبي فراس الحمدانيّ :

تعس الحريص وقل ما يأتي به

عوضا عن الإلحاح والإلحاف

إن الغنيّ هو الغنيّ بنفسه

ولو انه عاري المناكب حافي

ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا

وإذا قنعت فكلّ شيء كاف

وبلغ الشريف الرضيّ الغاية منه حيث قال :

لا يذكر الرمل إلا حنّ مغترب

له إلى الرمل أوطار وأوطان

٢ ـ والفن الثاني : هو الإيجاز بحذف جواب «لو» في الآية الثانية ، ومفعول ترى فيها أيضا. والحذف كثير شائع في القرآن ، وفائدته أن النفس تذهب في تقدير المحذوف كل مذهب ، والخيال يتسع للتقدير ، ومما جاء من حذف جواب لو قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم بالله عند فتحه عمورية :

لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت

له المنيّة بين السّمر والقضب

أي لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبته ، أو لما أقدم على ما فرط منه.

على أن حذف الجواب لا بد له من دليل يدل عليه ، ولذلك ورد الجواب


في قوله تعالى : «ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلّوا فيه يعرجون لقالوا : إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون» إذ لو حذف الجواب لما علم مكان المحذوف.

الفوائد :

كان المشركون يظنون أنهم يستطيعون أن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستطيعون إيذاءه وكان عمّه أبو طالب يحول بينهم وبين ابن أخيه فقال من نظمه :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقرّ منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبّةً

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

الاعراب :

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) بل حرف إضراب وعطف ،


والمراد بالإضراب هنا إبطال كلام الكفرة ، وبدا فعل ماض ، ولهم جار ومجرور متعلقان ببدا ، وما اسم موصول في محل رفع فاعل بدا ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وكان واسمها ، وجملة يخفون خبر كانوا ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بيخفون (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الواو عاطفة ، ولو شرطية ، وردوا فعل ماض ونائب فاعل ، واللام واقعة في جواب لو ، وجملة لعادوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ولما اللام حرف جر ، وما اسم موصول في محل جر باللام ، والجار والمجرور متعلقان بعادوا ، وجملة نهوا عنه صلة الموصول ، والجار والمجرور متعلقان بنهوا (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو حالية ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة وكاذبون خبر إن (وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة عادوا ، فالجملة داخلة في حيز الجواب ، أو على قوله «وإنهم لكاذبون» ، ويجوز أن تكون استئنافية وإن نافية وهي مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وحياتنا خبر ، والدنيا صفة ، والواو عاطفة ، وما حجازية تعمل عمل ليس ، ونحن ضمير منفصل في محل رفع اسمها ، والباء حرف جر زائد ومبعوثين مجرور لفظا خبر «ما» الحجازية محلاً.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))

الاعراب :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الواو استئنافية ، ولو شرطية ،


وترى فعل مضارع وهو شرط لو ، وجوابها محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : لرأيت شيئا عظيما ، و «ترى» يجوز أن تكون بصرية ومفعولها محذوف ، ويجوز أن تكون قلبية ، والمعنى لو حرفت قلبك وفكرك لتتدبر أحوالهم وتكتنه حقيقة أمرهم في ذلك الوقت لازددت يقينا. وإذ ظرف لما مضى متعلق بتري ، وجملة وقفوا في محل جر بالاضافة ، والواو نائب فاعل ، وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بوقفوا (قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جواب سؤال مقدر تقديره : ماذا قال لهم ربهم إذا وقفوا عليه؟ ويجوز أن تكون حالية وصاحب الحال «ربهم» ، كأنه قيل : وقفوا عليه قائلاً لهم : أليس هذا بالحق؟ والهمزة للاستفهام التوبيخي الإنكاري ، وليس فعل ماض ناقص ، وهذا اسم اشارة في محل رفع اسمها ، والباء حرف جر زائد ، والحق مجرور بالباء لفظا منصوب محلاً على أنه خبر ليس (قالُوا : بَلى وَرَبِّنا) كلام مستأنف مسوق لتأكيد اعترافهم باليمين. وبلى حرف جواب لإثبات النفي ، وربنا الواو حرف قسم وجر ، وربنا مجرور بواو القسم ، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره ، نقسم (قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قال لهم. والفاء الفصيحة ، أي : إذا علمتم هذا ثم انحرفتم عن مقتضاه فذوقوا العذاب ، والعذاب مفعول به لذوقوا ، والباء حرف جر ، وما موصولية أو مصدرية ، أي : بالذي كنتم ، أو بكونكم كفرتم ، وكان واسمها ، وجملة تكفرون خبر كنتم.

البلاغة :

الاستعارة المكنية في قوله : «فذوقوا العذاب» ، وقد تقدم القول فيها ، فجدّد به عهدا : والله يعصمك.


(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١))

اللغة :

(أَوْزارَهُمْ) الأوزار : جمع وزر بكسر الواو ، وهو الحمل الثقيل ، والوزر في الأصل : الثقل ، ومنه وزرته ، ووزير الملك من هذا ، لأنه يتحمل أعباء ما قلده من أمور الرعية ، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وعتادها وآلتها ، قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالاً وخيلاً ذكورا

ووضعت الحرب أوزارها : أي أثقالها ، كناية عن توقفها.

الاعراب :

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصير هؤلاء الذين حكيت أقوالهم. وقد حرف تحقيق ، وخسر فعل ماض ، والذين اسم موصول فاعله ، وجملة كذبوا صلة ، وبلقاء الله جار ومجرور متعلقان بكذبوا (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) تقدم القول قريبا في أن «حتى» في مثل هذا التركيب يجوز أن تكون غاية للتكذيب لا للخسران ، أو ابتدائية ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى


الشرط ، وجملة جاءتهم الساعة في محل جر بالإضافة. وبغتة حال أو منصوب على المصدر ، قال سيبويه : وهي مصدر في موضع الحال ، قال. ولا يجوز أن يقاس عليه. فلا يقال : جاء فلان سرعة (قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. وقالوا فعل وفاعل ، ويا حرف نداء ، وحسرتنا منادى مضاف ، وعلى ما فرطنا متعلقان بالحسرة ، وجملة فرطنا فيها صلة «ما» (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) الواو حالية ، وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ، وجملة يحملون خبر ، وعلى ظهور هم جار ومجرور متعلقان بيحملون (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ألا أداة تنبيه ، وساء فعل ماض لإنشاء الذم ، وما نكرة تامة منصوبة على التمييز ، أو اسم موصول فاعل ، وجملة يزرون صفة على الأول ، وصلة على الثاني.

البلاغة :

١ ـ الاستعارة التصريحية ، فقد شبه الذنوب بالأوزار الثقيلة ، ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به.

٢ ـ فنّ المقارنة : فقد اقترن ضربان من فنون البديع في الكلام ، وهما التنكيت والمبالغة ، فإن لقائل أن يقول : ما النكتة التي رجّحت اختصاص الظهور بالحمل دون الرؤوس؟ والجواب أن النكتة في ذلك الإشارة الى ثقل الأوزار ، لأن الظهور أحمل للثقل من الرؤوس ، وما يلزم من ذكر الظهور عن عجز الرؤوس عن حمل هذه الأوزار من المبالغة في ثقلها مقترن بالتنكيت ، وما اكتنف هذا الاقتران من تجنيس المزاوجة في قوله تعالى : «أوزارهم» قبل قوله : «على ظهورهم» ،


وقوله تعالى : «يزرون» بعدها ، وترشيح هذا التجنيس لتمكين الفاصلة بالتصدير ، واقتران الترشيح بالتصدير.

نموذج شعري :

ومن نماذج هذا الفنّ الشعري قول إدريس بن اليمان :

وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا

نزلت نزول الغيث في البلد المحل

وإن هيّج الأعداء منك حفيظة

وقعت وقوع النار في الحطب الجزل

فإن الشاعر قرن في البيت الاستعارة في قوله «نزلت نزول الغيث» بالتشبيه فقد استعار الشاعر النزول للمدوح ، لأن حقيقة ما أراد : إذا استرضيت رضيت ، وأما التشبيه ففي قوله : «نزول الغيث» فإن التقدير : نزلت نزولا مثل نزول الغيث ، وقرن تجنيس التغاير في قوله «نزلت نزول الغيث» فإن اللفظة الأولى فعل والثانية اسم بالترشيح ، فإنه رشح بذلك التجنيس للإيغال ، وجاءت المبالغة مدمجة في التشبيه ، إذ شبه نزوله بنزول الغيث ، وقرن في البيت الثاني الاستعارة التي في قوله : «وقعت» بالتشبيه الذي في لفظ : «وقوع النار» وأدمج المبالغة في هذا التشبيه ، لأن قوله : «وقعت وقوع النار» مبالغة ، وأدمج في تجنيس التغاير الذي في لفظتي «وقعت» و «وقوع» ، والترشيح للإيغال. وجميلة المقارنة في قول تميم بن مقبل :


لدن غدوة حتى نزعنا عشيّة

وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف

فإنه قرن في هذا البيت الإرداف والاستعارة ، لأنه عبر عن الغروب بموت شطر الشمس في أوائل العجز ، وهذا هو الإرداف ، واستعار للشطر الآخر الدنف وهو شدة المرض ، وهذا بليغ جدا حيث أتت المقارنة في عجز البيت وحده.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣))

الاعراب :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما وراء الطبيعة ، وأن هناك حياة أخرى ، وتبيان حقيقة تينك الحياتين. وما نافية ، والحياة مبتدأ والدنيا صفة ، وإلا أداة حصر ، ولعب خبر الحياة ، ولهو عطف على لعب (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية ، واللام لام الابتداء ، والدار مبتدأ والآخرة صفة ، وخير خبر ، وللذين جار ومجرور متعلقان بخير ، وجملة يتقون صلة الموصول ، والجملة نصب على الحال. ولك


أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لإتمام بيان حال الحياتين ، والهمزة للاستفهام الإنكاري داخلة على مقدر ، والفاء حرف عطف ، والمعطوف عليه محذوف ، والتقدير : أتغفلون فلا تعقلون ، والجملة الاستفهامية مستأنفة (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للتسرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد في الأصل للتقليل ، ولكن أريد بها التكثير ، وسيرد تفسير ذلك في باب البلاغة. ونعلم فعل مضارع متعد لاثنين ، وما بعده سادّ مسدّهما ، فانه معلق عن العمل بلام الابتداء ، وكسرت همزة إن لدخول اللام في حيزها ، وإنه واسمها ، وجملة يحزنك خبر إن ، والذي فاعل يحزنك ، وجملة يقولون صلة (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الفاء تعليلية ، وإن واسمها ، ولا نافية ، وجملة لا يكذبونك خبرها ، ولكن الواو حالية أو عاطفة ، ولكن واسمها ، وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيجحدون ، وجملة يجحدون خبر لكن.

البلاغة :

في الآية الثانية نوعان من البلاغة :

١ ـ الرجوع الى الضد فيما بلغ الغاية ، وهي سنة من سنن العرب ولطائفهم ، فيسمون الجميلة المفرطة في جمالها قبيحة ، ويعبرون عن الشيء بضده ، وقد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه البلاغة بقوله :

ولجدت حتى كدت تبخل حائلا

للمنتهى ومن السرور بكاء


يريد أنك بلغت في الجود أقصى غايته وطلبت شيئا آخر وراءه فلم تجد فكدت تحول أي ترجع عن آخره لما انت هيت اليه ، إذ ليس من شأنك أن تقف في الكرم على غاية بعد بلوغك غايته. وهذا من أحسن الكلام أي إذا تناهى الإنسان في الجود كاد يعود الى البخل.

وفي الآية عبر بـ «قد» التي هي للتقليل إذا دخلت على الفعل المضارع تنبيها على زيادة الفعل ، والمراد بكثرة علمه تعالى كثرة متعلقاته.

وسيرد الكثير منه في هذا الكتاب.

٢ ـ أقام الظاهر مقام المضمر بقوله : «ولكن الظالمين» وقياس الظاهر يقتضي إضماره ، ولكنه عدل عن القياس للإسهاب في ذمهم وللتصريح بلفظ الظلم وتسميتهم به ، ليكون سمة يتميزون بها زيادة في تأكيد ذمهم.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤))

الاعراب :

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للتسرية عنه ، صلى الله عليه وسلم ، واللام جواب للقسم المحذوف ، وقد حرف تحقيق ، وكذبت فعل ماض مبني للمجهول ، والتاء تاء التأنيث الساكنة ، ورسل نائب فاعل ، ومن قبلك


جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) الفاء عاطفة ، وصبروا فعل وفاعل عطف على كذبت ، و «على ما» جار ومجرور متعلقان بصبروا و «ما» مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر ، أي : على تكذيبهم ، وأوذوا عطف على «صبروا» ، وحتى تحتمل الغاية ـ ولعلها هنا أرجح ـ وتحتمل أن تكون ابتدائية ، وأتاهم نصرنا فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الواو حالية ، ولا نافية للجنس ، ومبدل اسمها المبني على الفتح ، ولكلمات الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، والواو استئنافية ، واللام جواب القسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وجاءك فعل ومفعول به ، وفاعل جاءك مشكل ، والظاهر أن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو صفة للفاعل نابت منابه ، أي جاءك بعض أنبائهم أو مزيد من أنبائهم وقصصهم ، ويجوز أن يعلق الجار والمجرور بمحذوف حال من الفاعل المستتر في جاء ، والعائد الى ما هو مفهوم من الجملة السابقة ، أي : ولقد جاءك هذا الخبر كائنا من نبأ المرسلين. والأول أسهل ، وأبعد عن التكلف.

البلاغة :

الالتفات البديع من ضمير الغيبة الى ضمير المتكلم في قوله تعالى :«حتى أتاهم نصرنا» ، إذ قبله : «بآيات الله يجحدون» ، ولو جرى الكلام على نسقه لقيل : نصره ، وفائدة هذا الالتفات ـ بالإضافة الى تطرية الكلام وتنويعه ـ إسناد النصر الى ضمير المتكلم المشعر بالعظمة ، والحافز على وجوب مداومة الجهاد والنضال والصمود في سبيل تحقيق المطمح الكبير ، وتأدية الرسالة السامية المثلى.


(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

اللغة :

(نَفَقاً) النفق : سرب في الأرض له مخرج الى مكان معهود ، ومنه نفق السكة الحديدية. وقد تقدم البحث مستوفى في هذه المادة.

(السلم) : هو المصعد ، وقيل : هو الدّرج ، وقيل : هو السبب أيّا كان ، تقول العرب : اتخذني سلما لحاجتك ، أي : سببا ، وهو مشتق من السلامة ، لأن الصاعد به تكتب له السلامة. والأفصح تذكيره ، وحكى الفرّاء تأنيثه عن العرب.

الاعراب :

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد وجوب صبره صلى الله عليه وسلم. وإن شرطية ، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، واسم كان هو ضمير الشأن ، وجملة كبر عليك إعراضهم خبر ، وعليك جار ومجرور متعلقان بكبر ، وإعراضهم فاعل (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وإن شرطية أيضا ، واستطعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف ، أي : فافعل. والمعنى : إن استطعت منفذا تحت الأرض تنفذ فيه فتطلع لهم بآية ، أو سلما تصعد به الى السماء


فتنزل منها بآية فافعل ، وأن تبتغي مصدر مؤول في محل نصب مفعول استطعت ، والشرط الثاني وجوابه جواب الشرط الأول ، وفي الأرض صفة لـ «نفقا» وفي السماء جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لـ «سلما» (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) الفاء حرف عطف ، وتأتيهم فعل مضارع معطوف على تبتغي ، والواو استئنافية ، ولو شرطية ، وشاء الله فعل وفاعل ، واللام واقعة في جواب لو ، وجملة جمعهم على الهدى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا عرفت هذا فلا تكونن ، ولا ناهية ، وتكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح في محل جزم بـ «لا» ، ومن الجاهلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونن.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))


الاعراب :

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد أن عدم استجابتهم ناشىء عن وجود الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم ، لأنهم يحسبون في عداد الأحياء وهم في الحقيقة موتى. وإنما كافة ومكفوفة ، ويستجيب فعل مضارع مرفوع ، والذين فاعله ، وجملة يسمعون صلة الموصول لا محل لها ، والموتى الواو يجوز أن تكون مستأنفة ، والموتى مبتدأ ، وجملة يبعثهم الله خبره ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة ، والموتى منصوب على الاشتغال بفعل مضمر يفسره الاسم الظاهر بعده وتكون جملة يبعثهم الله مفسرة لا محل لها ، ولعل هذا الوجه أولى ، لينسجم التركيب. وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، واليه جار ومجرور متعلقان بيرجعون ، ويرجعون فعل مضارع عطف على جملة يبعثهم (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو استئنافية ، وقالوا فعل وفاعل ، والجملة مستأنفة لحكاية نمط آخر من أنماط جناياتهم ، ولولا حرف تحضيض ، ونزل فعل ماض مبني للمجهول ، وعليه جار ومجرور متعلقان بنزل ، وآية نائب فاعل ، ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية ، والجملة في محل نصب مقول قولهم. (قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) الجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على إفراطهم في اللجاجة ، وتماديهم في الفساد ، مع ترادف الآيات وتتابعها. وإن واسمها وخبرها ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وعلى حرف جر ، وإن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بعلى ، والجار والمجرور متعلقان بقادر ، وآية مفعول به لينزل (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ، ولكن واسمها ، ولا نافية ، وجملة يعلمون خبرها ،


والجملة نصب على الحال (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى وعلمه وتدبيره.

وما نافية ، ومن حرف جر زائد ، ودابة اسم مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لدابة ، والواو حرف عطف ، ولا نافية ، وطائر اسم معطوف على دابة ، وجملة يطير بجناحيه صفة لطائر ، وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) إلا أداة حصر ، وأمم خبر دابة ، وأمثالكم صفة لأمم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) ما نافية ، وفرطنا فعل وفاعل ، وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان بفرطنا ، ومن حرف جر زائد ، وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على المصدرية أو المفعولية وجملة ما فرطنا استئنافية ، وسيأتي مزيد من إعراب هذا الكلام في باب الفوائد ، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، والى ربهم جار ومجرور متعلقان بيحشرون ، ويحشرون فعل مضارع معطوف على ما تقدم.

البلاغة :

في قوله : «يطير بجناحيه» فن الانفصال لزيادة التعميم والشمول ، فإن لقائل أن يقول : جملة قوله تعالى : «يطير بجناحيه» لا فائدة في الإتيان بها ظاهرا ، إذ كل طائر يطير بجناحيه ، وهذا إخبار بمعلوم ، والانفصال عن ذلك أن يقال : إنه سبحانه أراد أن يدمج في هذا الخبر النهي عن قتل الحيوان الذي لا يؤذي عبثا بدليل قوله : «إلا أمم أمثالكم» ، ففي مساواته بين ذلك وبين المكلفين إشارة الى أن الإنسان يدان بما يفعله مع كل جسم قابل للحياة ، وفي دواب


الأرض ما لا حرج على قاتله ، كالذباب والبعوض والنمل والعقارب والجعلان وسائر الهمج. فأراد تبيين هذا الصنف من هذا النوع ، وهو أشرف أصنافه الذي امتنّ الله سبحانه على نبيّه داود عليه السلام بتسخيره له وعلى ابنه سليمان بتعليم منطقه ، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرحا بأن الإنسان يدان به : «من قتل عصفورا عبثا ...» الحديث ، فخصّص هذا الصنف بصفة مميزة له من بقية الأصناف فقال «يطير بجناحيه» ، لأنه لا يطلق الجناح حقيقة إلا على العضو الذي ليس له ريش وقصب وأباهر وخوافي وقوارم ، ليستدل يكون هذا الصنف من بين جميع أصناف الطائر هو المقصود بالنهي عن قتله وتعذيبه ، على أن المراد بالدابة المذكورة في صدر الآية هي الصنف الشريف من أصناف الدواب ، لتخرج الحشرات من ذلك النوع كما خرجت الهمج من نوع الطائر بتمييز الصنف المشار اليه منه ، واكتفى بتبيين الثاني عن تبيين الأول لعلمه أن العارف بترتيب نظم الكلام يقيس الأول منه على الثاني. وفي صحيح مسلم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لتؤدنّ الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.

الفوائد :

هل تزاد «من» في بقية المفاعيل؟ الجواب إنها لا تزاد في المفعول معه والمفعول لأجله والمفعول فيه ، ووجه منع زيادتها أنهن في المعنى بمنزلة المجرور بالإضافة وباللام وبفي ، ولا تجامعهن «من» ، ولكن لا يظهر وجه للمنع في المفعول المطلق ، وقد خرّج عليه أبو البقاء قوله تعالى : «ما فرطنا في الكتاب من شيء» ، فقال : من زائدة ،


وشيء في موضع المصدر ، أي : تفريطا شيئا ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، ثم زيدت «من» ، قال : ولا يكون مفعولا به ، لأنّ «فرط» إنما يتعدى إليه بـ «في» ، وقد عدّي بها الى الكتاب ، قال : وعلى هذا فلا حجة في الآية لمن ظنّ أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا. والردّ على هؤلاء الظانّين بأن هذا لا يسلم إلا لو كان «من شيء» مفعولا به لأن المعنى : ما فرطنا أي : ما تركنا شيئا في الكتاب ، وأما لو جعل المفعول به «في الكتاب» وجعل قوله : «من شيء» مصدرا ، أي : ما فرطنا في الكتاب فلا دلالة له على ذلك.

وزاد ابن هشام فقال : «وكذا لا حجة فيها لو كان «شيء» مفعولا به ، لأن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، كما في قوله تعالى : «ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين» وهو رأي الزمخشري ، والسياق يقتضيه.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

الاعراب :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لبيان مصير المكذبين. والذين مبتدأ ، وجملة كذبوا صلة الموصول لا محل لها ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، وصم خبر ، وبكم عطف على صم ، وفي الظلمات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان ، وقد وهم أبو البقاء فظنّ أنهما من باب «الرمان حلو حامض» ، فجعل الكلمتين خبرا ، وليس الأمر


كذلك ، لأن الاختلاف واضح بين التعبيرين ، فكلمتا حلو حامض تعبران عن معنى واحد ، وهو مزّ ، أما صم وبكم فلكل واحدة منهما معناها القائم بها ، فالصمم عدم السمع ، والبكم عدم النطق ، وسيأتي مزيد لهذا البحث الفريد. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقدير ما سبق من حالهم ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، ويشأ فعل الشرط ، ويضلله جوابه ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم عطف على الجملة السابقة ، ومفعول المشيئة في كلا الفعلين محذوف ، وهو مضمون الجزاء ، أي : إضلاله وهدايته.

الفوائد :

يجوز أن يتعدد الخبر ، نحو : «زيد كاتب شاعر» ، وليس من تعدّد الخبر ما ذكره بعضهم من قولهم : «الرّمان حلو حامض» لأن معنى الخبرين راجع الى شيء واحد ، إذ معناهما مزّ.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١))

الاعراب :

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لطلب الإخبار عن حالتهم


العجيبة ، وأ رأيتكم تعبير استفاض في كلامهم وكثرت فيهم أقوال العلماء والمعربين ، وسترى تلخيصا مفيدا في باب الفوائد لما قيل فيه ، وهو على وجه الاختصار. الهمزة للاستفهام ، ورأى فعل ماض مبني على السكون ، والتاء فاعل ، والكاف حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب ، والتاء مفتوحة دائما في جميع أحواله ، ومعنى الكلام :أخبروني عن حالتكم العجيبة ، وقد جرى ذلك على سبيل المجاز ، لأنه لما كان العلم بشيء سببا للإخبار عنه أو الإبصار به طريقا للإحاطة به علما والى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي هي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب ، ففيه مجازان :

رأى بمعنى علم أو أبصر في الإخبار ، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار. هذا ولا يلزم من كون «أرأيت» بمعنى «أخبرني» أن يتعدى تعديته لأن أخبرني يتعدّى بـ «عن» ، وأ رأيت يتعدى لمفعول به صريح ، وإلى جملة استفهامية في موضع المفعول الثاني. والمفعول الأول في هذه الآية محذوف ، تقديره :«أرأيتم إياه» أي : العذاب ، والثاني هو الجملة الاستفهامية ، وهي :«أغير الله تدعون» ، (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) إن شرطية ، وأتاكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والكاف مفعول به ، وعذاب الله فاعل ، وأو حرف عطف ، وأتتكم الساعة عطف على أتاكم ، وجواب الشرط محذوف تقديره : «فمن تدعون» ، وقيل : تقديره :«فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه»؟ (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة استئنافية والهمزة للاستفهام ، وغير الله مفعول به مقدم لتدعون ، وإن شرطية ، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، وصادقين خبرها ، وجواب إن محذوف ، أي : إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها


(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) بل حرف إضراب وعطف ، وإياه ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لتدعون ، فيكشف عطف على تدعون ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول يكشف ، وجملة تدعون إليه صلة ، الواو حرف عطف وإن شرطية ، وشاء فعل الشرط ، والجواب محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه ، والمراد بها ما عبد من دون الله مطلقا من العقلاء وغيرهم ، وغلب «غير الله» زيادة في التنديد بهم ، وتنسون معطوفة على تدعون ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة تشركون صلة «ما».

الفوائد :

(أَرَأَيْتَكُمْ) هذه التاء من الأمور الغريبة في لغتنا ، وذلك أنه إذا أريد بـ «أرأيت» معنى «أخبرني» جاز أن تتصل به تاء الخطاب ، فإن لم تتصل به وجب للتاء ما يجب لها مع سائر الأفعال ، من تذكير وتأنيث ، وتثنية وجمع ، عما يلحق التاء مما يلزمها في خطاب المفرد المذكّر ، ولو كان الخطاب لاثنين لقيل : أرأيتكما ، أو للجمع لقيل : أرأيتكم ، أو للإناث لقيل : أرأيتكن ، فتلزم التاء الفتح والتجريد عن الخطاب ، والكاف في هذا حرف خطاب لا موضع لها من الاعراب ، واستدل سيبويه على ذلك بقول العرب : أرأيتك فلانا ما حاله؟ أما إذا لم يرد بـ «أرأيت» معنى أخبرني فإنه يجب للتاء والكاف مجتمعتين ما يجب لهما منفردتين ، فيقال : أرأيتك قادرا أو أرأيتكما قادرين أو أرأيتكم قادرين أو أرأيتكنّ قادرات ، كما تقول :أعلمتك قادرا.


خلاصة المذاهب في هذا التعبير :

إذا قررنا هذا فنقول : اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

المذهب الأول :

إن المفعول الأول والجملة التي سدّت مسد المفعول الثاني محذوفان لفهم المعنى ، والتقدير : أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم؟ أو اتخاذكم غير الله إلها هل يكشف عنكم العذاب؟ ونحو ذلك ، فعبادتكم واتخاذكم مفعول أول ، والجملة الاستفهامية مسد الثاني ، والتاء هي الفاعل ، والكاف حرف خطاب.

المذهب الثاني :

إن الشرط وجوابه قد سدّا مسدّ المفعولين ، لأنهما قد حصلا المعنى المقصود ، فلم يحتج هذا الفعل الى مفعول.

المذهب الثالث :

إن المفعول الأول محذوف ، والمسألة من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم ، والمتنازع فيه هو لفظ العذاب.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ


لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣))

الاعراب :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) الجملة القسمية كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. والواو استئنافية ، واللام جواب قسم محذوف ، وأرسلنا فعل وفاعل ، وإلى أمم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ، ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمم ، وجملة قد أرسلنا لا محل لها لأنها جواب للقسم المحذوف (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الفاء حرف عطف ، وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة معطوفة على محذوف تقديره :فكذبوا فأخذناهم ، وبالبأساء جار ومجرور متعلقان بأخذناهم ، والضراء عطف على قوله : بالبأساء ، ولعل واسمها ، وجملة يتضرعون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) الفاء استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لتوبيخهم وحثهم على الندامة والتخويف من العاقبة واللياذ بالتضرّع إليه تعالى. ولولا وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتضرعوا ، وجملة جاءهم في محل جر بالإضافة ، وبأسنا فاعل تضرعوا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حالية ، ولكن مخففة من الثقيلة مهملة ، فهي لمجرد الاستدراك ، وقست قلوبهم فعل ماض وفاعل ، والجملة حالية ، أي : والحال أنها استمرت على ما هي عليه من القساوة وجفاء الطبع.


وزين فعل ماض ، ولهم جار ومجرور متعلقان بزين ، والشيطان فاعل ، والجملة معطوفة ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة كانوا صلة ، والواو اسم كان ، وجملة يعملون خبرها.

الفوائد :

(لو لا) تكون على ثلاثة أوجه :

١ ـ حرف امتناع لوجود ، يمتنع الشرط لوجود الجواب ، والاسم بعدها مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ، ويجب كون الخبر كونا مطلقا. أما إذا كان مقيدا كالقيام والقعود فيجب ذكره ، ولذلك لحنوا أبا العلاء المعري بقوله يصف السيف :

يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلو لا الغمد يمسكه لسالا

وأجيب عنه بأن جملة يمسكه ليست خبرا وإنما هي بدل اشتمال من الغمد أو حالية ، وإذا وليها مضمر فحقه أن يكون ضمير رفع ، نحو قوله : «لولا أنتم لكنّا مؤمنين». وسمع قليلا : لولاي ولولاك ولولاه فهي عندئذ حرف جر ولا تتعلق بشيء.

٢ ـ حرف تحضيض وعرض ، فتختص بالمضارع أو ما في تأويله ، نحو : «لو لا تستغفرون الله» و «لولا أخرتني إلى أجل قريب».

٣ ـ حرف توبيخ وتنديم ، فتختص بالماضي كهذه الآية ، وكثيرا ما ترافقها إذ الظرفية أو إذا ، كقوله تعالى : «فلو لا إذا بلغت الحلقوم».

وسيأتي مزيد بحث عنها في مواطنه.


(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

اللغة :

(مُبْلِسُونَ) : واجمون متحيرون آيسون.

(دابِرُ) : الدابر : التابع من خلف ، أي آخرهم.

الاعراب :

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الفاء استئنافية ، ولما ظرفية ، ونسوا فعل وفاعل ، وجملة نسوا في محل جر بالإضافة ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة ذكروا صلة الموصول ، وبه جار ومجرور متعلقان بذكروا ، وفتحنا فعل وفاعل. والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بفتحنا ، وأبواب مفعول به ، وكل شيء مضاف إليه (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) حتى ابتدائية أو غائية ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بأخذناهم ، وجملة فرحوا في محل جر بالإضافة ، وبما جار ومجرور متعلقان بفرحوا ، وجملة أوتوا صلة الموصول ، وأوتوا فعل ماض مبني


للمجهول والواو نائب فاعل ، وجملة أخذناهم من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وبغتة حال أو مفعول مطلق ، فإذا الفاء عاطفة ، وإذا هي الفجائية وهي حرف على ما اخترناه ، وهم مبتدأ ، ومبلسون خبر ، والجملة استئنافية.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة ، وقطع فعل ماض مبني للمجهول ، ودابر نائب فاعل ، والقوم مضاف إليه ، والذين اسم موصول في محل جر نعت للقوم ، وجملة ظلموا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، والحمد الواو استئنافية ، والحمد مبتدأ ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، ورب نعت أو بدل ، والعالمين مضاف اليه.

الفوائد :

(إذا الفجائية) فيها ثلاثة مذاهب :

١ ـ مذهب سيبويه : وهو أنها ظرف مكان أو زمان.

٢ ـ مذهب جماعة آخرين من البصريين : وهو أنها ظرف زمان.

وفي الحالين تتعلق بالخبر وهو قوله : مبلسون ، أي أبلسوا في زمان إقامتهم أو مكانها.

٣ ـ مذهب الكوفيين : وهو أنها حرف فلا تتعلق بشيء. وهذا ما اخترناه. وسترد تفاصيل عنها في مواطنها.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ


مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

اللغة :

(يَصْدِفُونَ) في المختار : «صدف عنه : أعرض ، وبابه ضرب وجلس. وأصدفه عنه كذا : أماله عنه» ، وصادفه قابله على قصد وبدونه ، فما تقوله العامة : صدفة خطأ ولحن. وزعم صاحب المنجد أن الصدفة بكسر الصاد : لفظة مولّدة بمعنى المصادفة والاتفاق.

الاعراب :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأخذ الحجة عليهم ، وقطع الطريق على مكابرتهم.

وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد ، والهمزة للاستفهام التقريري ، ومفعول رأيتم الأول محذوف تقديره : أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله؟ والجملة الاستفهامية الآتية وهي : «من إله» في موضع المفعول الثاني ، وإن شرطية ، وأخذ فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والجواب محذوف ، وقد تقدم إعراب نظيره في :«أرأيتكم» ، ولم يؤت هنا بكاف الخطاب كما أتى به هناك لهول التهديد في الأول ، ووحد السمع وجمع الأبصار لسرّ تقدم ذكره في


سورة البقرة ، وقيل : جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع فتكون موحدة لتوحيده ، وجائز أن تكون موحدة لتوحيد «من» ، أي :من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة؟وسمعكم مفعول به وأبصاركم عطف ، وجملة ختم معطوفة وعلى قلوبكم متعلقان بختم. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) من اسم استفهام للتوبيخ ، وهو مبتدأ ، وإله خبره ، وغير الله صفة ، وجملة يأتيكم صفة ثانية ، وبه جار ومجرور متعلقان بيأتيكم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الجملة مستأنفة ، وانظر فعل أمر ، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ، وقد علقت انظر عن العمل ، وجملة نصرف الآيات في محل نصب مفعول به ، والآيات مفعول به ، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، وهم مبتدأ ، وجملة يصدفون خبر (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) تقدم الكلام في أرأيتكم قريبا ، وإعراب بغتة أو جهرة (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) إلا أداة حصر ، والقوم نائب فاعل ، والظالمون صفة.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

الاعراب :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لتبيان مهام الرسالة ، ودقة التكليف الذي يتمرس به المرسلون. ونرسل المرسلين فعل وفاعل مستتر ومفعول به ،


وإلا أداة حصر ، ومبشرين حال ، ومنذرين عطف على مبشرين (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، وآمن فعل ماض وهو فعل الشرط ، وأصلح عطف عليه والفاء رابطة لجواب الشرط ، ولا نافية مهملة وخوف مبتدأ ، وعليهم خبر ، ولا هم يحزنون الجملة عطف على الجملة الأولى ، وجملة «لا خوف عليهم» في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويجوز أن تكون «من» موصولة لمناسبة ما بعدها ، فتكون في محل رفع مبتدأ ، وتكون جملة : «لا خوف عليهم» هي الخبر للموصول ، وجيء بالفاء لما في الموصول من رائحة الشرط (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية ، والذين مبتدأ ، وجملة كذبوا صلة ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، وجملة يمسهم العذاب خبر اسم الموصول ، وبما الباء حرف جر ، وما مصدرية ، والمصدر المؤول مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بيمسهم ، أي : بسبب فسقهم ، وكان واسمها ، وجملة يفسقون خبرها.

البلاغة :

في قوله : «يمسهم العذاب» استعارة تصريحية تبعية كأن العذاب كائن حيّ يفعل بهم ما يريده من الآلام. وقد تقدم أمثالها كثيرا.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ


لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

الاعراب :

(قُلْ : لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) الكلام مستأنف مسوق لتنزيه نفسه مما يقترحونه عليه. وقل فعل أمر ، ولا نافية ، وأقول فعل مضارع ، ولكم جار ومجرور متعلقان بأقول ، وجملة لا أقول مقول القول الأول ، ولكم متعلقان بأقول وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وخزائن الله مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب مقول القول الثاني (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) جملة ولا أعلم الغيب معطوفة على جملة عندي خزائن الله لأنه من جملة مقول القول وجملة لا أقول لكم إني ملك معطوفة على جملة لا أقول لكم الأولى ، وإني ملك : إن واسمها وخبرها مقول القول أيضا. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الجملة داخلة في حيز المقول الذي لم ينته بعد ، وإن نافية ، وإلا أداة حصر ، و «ما» اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة يوحى صلة الموصول ، ونائب الفاعل مستتر ، وإليّ جار ومجرور متعلقان بيوحى (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) كلام مستأنف لتتمة الوصايا ، وهل حرف استفهام معناه النفي ، أي : لا يستويان ، ويستوي فعل مضارع ، والأعمى فاعله ، والبصير عطف على الأعمى ، والجملة في محل نصب مقول القول ، أفلا الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة ، ولا نافية ، وتتفكرون عطف على مقدر محذوف تقديره أي لا يستمعون هذا الكلام الذي يتلى عليكم فلا تتفكرون فيه وتتبينون مغابّه؟


البلاغة :

الطباق بين الأعمى والبصير ، وهما تشبيهان بليغان للضّالّ والمهتدي. ويجوز أن يعتبرا من باب الاستعارة التصريحية ، لأن المشبّه لم يذكر وذكر المشبه به.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))

الاعراب :

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) الواو عاطفة ، والكلام معطوف على ما تقدم معدولا به إلى توجيه الانذار للذين يتفرس فيهم قبول الاتعاظ والاستعداد لتقبّله ، وهم المؤمنون العاصون.

وأنذر فعل أمر ، وبه جار ومجرور متعلقان بأنذر ، والذين اسم موصول مفعول به ، وجملة يخافون صلة الموصول ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يخافون (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ


لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الجملة حال من الضمير في أن يحشروا ، أي : أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير ولا شفيع يشفع لهم من دون الله ، وليس فعل ماض ناقص ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس ، ومن دونه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وولي اسم ليس ، ولا شفيع عطف على ولي ، ولعل واسمها ، وجملة يتقون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) الواو حرف عطف ، ولا ناهية ، وتطرد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت ، والذين اسم موصول مفعول به وجملة يدعون صلة وربهم مفعول به وبالغداة جار ومجرور متعلقان بيدعون ، والعشي عطف على الغداة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الجملة حال من ضمير يدعون ، أي : يدعونه مخلصين ، ووجهه مفعول به (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ما يجوز أن تكون الحجازية العاملة عمل ليس فيكون «علبك» في محل نصب على أنه خبرها ، عند من يجوز إعمالها في الخبر المقدّم ، إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا ، أما في حال المنع فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم ، والمبتدأ المؤخر هو «شيء» زيدت فيه «من». وقوله من حسابهم حال ، وصاحب الحال هو «شيء» لأن الجار والمجرور لو تأخرا عنه لتعلقا بمحذوف صفة له ، وصفة النكرة متى تقدمت انتصبت على الحال ، وجملة ما عليك إلخ حال أيضا (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ، وما من حسابك عليهم من شيء تقدم إعرابها ، إلا أن من حسابك يشكل جعلها حالاً لأنه يلزم تقدم الحال على عامله المعنوي ، وهو ضعيف ، ولو جاءت الجملة الثانية على نمط الأولى لكان التركيب :وما عليهم من حسابك من شيء ، فتقدم المجرور بعلى كما قدمته في الأولى ، لكنه قدمه تشريفا له صلى الله عليه وسلم ليكون الخطاب


مواجها له ، وإذن أنت مضطر أن تجعله صفة مقدمة على موصوفها.

فتطردهم الفاء هي السببية وهي جواب النفي ، وتطردهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة ، فتكون الفاء أيضا سببية ، وهي جواب النهي ، فتأمل دقّة الفرق بين معنى الفاءين. ويجوز أن تجعل الفاء الثانية عاطفة ، وتكون معطوفة على تطردهم على وجه التسبيب ، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم ، ومن الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون.

البلاغة :

١ ـ في قوله : «يريدون وجهه» أي : ذاته وحقيقته : مجاز مرسل ، والعلاقة ذكر البعض وإرادة الكل ، وهو مجاز سائغ في كلامهم.

٢ ـ في قوله : «وما من حسابك عليهم من شيء» فنّ ردّ العجز على الصدر ، وهو أن يجعل المتكلم أحد اللفظين المتفقين في النطق والمعنى ، أو المتشابهين في النطق دون المعنى أو اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق ، في آخر الكلام بعد جعل اللفظ الآخر له في أوله.

ومنه قول البحتري :

ضرائب أبدعتها في السّماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا

وقول أبي تمام :

ولم يحفظ مضاع المجد شيء

من الأشياء كالمال المضاع

وقول المعرّي :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر


وبيت الحماسة المشهور :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار

الفوائد :

روي أن رؤساء المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :لو طردت عنا هؤلاء الأعبد ، يعنون فقراء المسلمين ، وهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال وأرواح جبابهم ـ وكانت عليهم جباب من صوف لمداومة لبسها ولعدم وجود غيرها ـ جلسنا إليك وحادثناك؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا : فأقمهم عنّا إذا جئنا ، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال : نعم ، طمعا في إسلامهم. فقالوا فاكتب لنا كتابا عليك بذلك ، فأتى بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ، فنزل عليه جبريل بقوله : «ولا تطرد ..» الآية. وهذا من أروع مثل المساواة الاسلامية.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤))


اللغة :

(فَتَنَّا) : اختبرنا وابتلينا.

(مَنَّ) : أنعم ، وله عليّ منّة ومنن ، ومنّ عليّ بما صنع ، وامتننت منك بما فعلت منّة جسيمة أي : احتملت منّة ، وليس لقلبه منّة أي : قوّة. ومادة الميم والنون تفيد الإعطاء والمنع على الأغلب ، ومنه : منح وفلان منّاح ، وفلان يعطي المنائح والمنح ، ومنح الشيء ومنه وعنه ، وهو منوع ومنّاع. وهذا من غرائب لغتنا التي لا تقف عند حدّ.

الاعراب :

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الإسلام جعل المساواة شرعة ومنهاجا ، لأن الله ابتلى الغني بالفقير والفقير بالغنيّ ، وكل مبتلى بضده حتى تعم المساواة ، فلا رفيع ولا وضيع ، ولا كبير ولا صغير ، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، أو هي حرف جر ، واسم الاشارة في محل جر ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف ، وقد تقدم بحثه ، وسيبويه يختار إعرابه حالا ، وبعضهم مفعول به ، وببعض جار ومجرور متعلقان بفتنّا (لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) اللام للتعليل ، ويقولوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والتقدير : ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا ، ويجوز أن تكون اللام هي


لام الصيرورة أو العاقبة ، ويكون قوله : «أهؤلاء» صادرا عنهم على سبيل الاستخفاف بالمؤمنين ، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول ، والهمزة للاستفهام التقريري والتهكمي ، وهؤلاء اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، وجملة «منّ» الله خبر ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بـ «منّ» ، ومن بيننا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ويجوز أن نعرب «هؤلاء» نصبا على الاشتغال بفعل محذوف يفسره الفعل الظاهر العامل في ضميره بواسطة «على» ، ويكون المفسر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفضل الله هؤلاء ومنّ عليهم أو اختارهم ، وتكون جملة منّ الله عليهم لا محل لها من الاعراب لأنها مفسرة ، وإنما ساغ هذا الوجه وفضله الكثيرون لأنه ولي همزة الاستفهام ، وهي أداة يغلب إيلاء الفعل بعدها. وقوله : أليس الهمزة للاستفهام التقريري ، وليس فعل ماض ناقص ، والله اسمها ، والباء حرف جر زائد ، وأعلم مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ليس ، وبالشاكرين جار ومجرور متعلقان بأعلم ، والجملة الاستفهامية مستأنفة مسوقة لتكون جوابا للاستفهام التقريري (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق للعودة الى ذكر المؤمنين الذين نهي عن طردهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب ، أي : فقل سلام عليكم وقت مجيئهم ، وجملة جاءك في محل جر بالإضافة ، والذين فاعل ، وجملة يؤمنون صلة ، فقل الفاء واقعة في جواب الشرط ، وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لما فيه من معنى الدعاء ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وجملة قل لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة سلام عليكم في محل نصب مقول القول (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الجملة داخلة في حيز المقول لأنه من جملة ما يقوله


لهم ، وكتب ربكم فعل وفاعل ، وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بكتب ، والرحمة مفعول به (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قرئ بفتح الهمزة ، فتكون أن واسمها في موضع نصب بدل من الرحمة ، وتكون الجملة منتظمة في حيز القول.

وفي قراءة بكسر الهمزة ، فالجملة استئنافية مسوقة لتفسير الرحمة ، وتكون الهاء ضمير الشأن اسم إن. ومن اسم شرط جازم أو موصولية ، وهي مبتدأ على كل حال ، وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، وسوءا مفعول به ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل ، وبجهالة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا من الفاعل نفسه ، أي : عمل وهو جاهل بحقيقة ما ينجم عنه من المضارّ والمثالب ، وسوء العواقب ، ثم حرف عطف ، وتاب عطف على تاب ، وأصلح عطف عليه أيضا ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وأن المفتوحة الهمزة وما في حيزها خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فأمره ومآله غفران الله له ، وغفور رحيم خبران لأن ، وقرئ بكسر همزة إن على الاستئناف ، ورجحها ابن جرير على أنه استئناف لوقوعها بعد الفاء ، وجملة من عمل خبر إن ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من».

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦))


الاعراب :

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان الغاية من تفصيل الآيات. وكذلك في محل نصب مفعول مطلق ، والآيات مفعول به ، والواو عاطفة على محذوف ، والتقدير : ليظهر الحق ولتظهر سبيل المجرمين ، واللام للتعليل ، وتستبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، وسبيل فاعل ، والسبيل مؤنثة وقد تذكر ، وقد قرئ : «ليستبين» ، فتأنيث الفعل لتأنيث السبيل وتذكيره لتذكيره (قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كلام مستأنف مسوق للرجوع إلى مخاطبتهم حسما لأطماعهم الفارغة. وقل فعل أمر ، وإن واسمها ، وجملة نهيت خبرها ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بنهيت ، والمعنى : ونهيت عن عبادة الذين تدعون. والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة تدعون صلة الموصول ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بتدعون (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الكلام مستأنف مسوق ليرجع صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبتهم وكرره مع قرب ذكره زيادة في التأكيد. وجملة لا أتبع أهواءكم في محل نصب مقول القول ، وجملة قد ضللت مستأنفة مسوقة منه صلى الله عليه وسلم لتأكيد انتهائه عما نهي عنه. وإذن حرف جواب وجزاء ، فيه معنى الشرط ، والمعنى : إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت. فهي في قوة شرط وجواب ، والواو حرف عطف ، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس ، وأنا اسمها ، ومن المهتدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وإنما عدل عن الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الديمومة والاستمرار.


(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

الاعراب :

(قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) كلام مستأنف لبيان الحق الذي يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإزهاق الباطل الذي يتبعونه. قل فعل أمر وجملة إني على بينة مقول القول ، وإن واسمها ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، ومن ربي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لاستقباح تكذيبهم ، ويجوز أن تكون حالية ، فالجملة في محل نصب على الحال ، ولا بدّ من تقدير «قد» عندئذ. وكذبتم فعل وفاعل ، وبه متعلقان بتستعجلون ، وما نافية ، وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وما اسم موصول في محلّ رفع مبتدأ مؤخر ، وجملة تستعجلون صلة الموصول ، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون ، وجملة ما عندي مستأنفة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الحكم هو لله سبحانه. وإن نافية ، والحكم مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر الحكم ، وجملة يقصّ الحق في محل نصب على الحال ، والحق مفعول به ، وفي


قراءة : «يقضي الحق» بالضاد ، من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء ، ورجّحها ابن جرير قال : «لأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصيص ، والحق عندئذ صفة لمصدر محذوف أي :ليقضي القضاء الحق ، والواو استئنافية أو حالية ، وهو مبتدأ ، وخير الفاصلين خبر (قُلْ : لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الجملة مستأنفة لبيان أن الأمر راجع إلى الله تعالى ، ولو شرطية. وأن وما في حيزها في محل رفع فاعل لفعل محذوف ، تقديره ثبت ، والجملة في محل نصب مقول القول ، والظرف متعلق بمحذوف خبر أن المقدم ، وما اسم موصول في محل نصب اسم أن المؤخر ، وجملة تستعجلون صلة الموصول ، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون ، واللام واقعة في جواب لو ، وقضي فعل ماض مبني للمجهول. والأمر نائب فاعل ، والجملة لا محل لها لأنها جواب لشرط غير جازم ، وبيني ظرف مكان متعلق بقضي ، وبينكم ظرف أيضا معطوف على الظرف السابق (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) كلام مستأنف ، والله مبتدأ ، وأعلم خبر ، وبالظالمين جار ومجرور متعلقان بأعلم.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))

اللغة :

(المفاتح) : جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، وقرئ


مفاتيح. وقيل : مفاتيح جمع مفتاح ، وهو الذي يتوصل به إلى ما في المخازن المتوثّق منها بالإغلاق. وقيل : هو جمع مفتح : بفتح الميم وكسر التاء ، وهو المخزن ، وزنا ومعنى.

الاعراب :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الأمور الغيبية مختصة به سبحانه والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ومفاتح الغيب مبتدأ مؤخر ، وجملة لا يعلمها في محل نصب على الحال من مفاتح ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به الظرف ، وإلا أداة حصر ، وهو فاعل أو تأكيد للفاعل المستتر ، ولعله أولى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) الواو استئنافية ، وما نافية ، ويعلم فعل مضارع ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وفي البر جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة «ما» والبحر عطف على البر ، والواو حرف عطف وما نافية ، وتسقط فعل مضارع مرفوع ، ومن حرف جر زائد ، وورقة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه فاعل تسقط ، وإلا أداة حصر ، وجملة يعلمها حال من ورقة. وجاء الحال من النكرة لاعتمادها على النفي (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو حرف عطف ، وحبة معطوفة على ورقة بالجر لفظا ، ولو قرئ «حبة» بالرفع بالعطف على المعنى لجاز ، ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة أيضا ، وإلا أداة حصر ، وفي كتاب جار ومجرور وهو تكرار لقوله : إلا يعلمها ، على أنه بدل اشتمال ، فهو في محل نصب على الحال.


البلاغة :

اشتملت هذه الآية على ضروب من البلاغة نلخصها فيما يلي :

١ ـ الاستعارة التصريحية في قوله : «مفاتح الغيب» ، كأن للغيب مفاتيح بيده تعالى يكشف بها ما غمض على الناس.

٢ ـ الاستعارة التصريحية في قوله : «ظلمات» لشدائد البر والبحر وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول ، لأن الظلمات تبطل حاسة البصر ، ومن ثم قيل لليوم الشديد العصيب : يوم مظلم ، ويوم ذو كواكب ، لأن الكواكب لا تظهر إلا في الظلمة ، على طريق الاستعارة التصريحية.

٣ ـ الطباق بين البر والبحر ، والرطب واليابس ، فهي مقابلة.

٤ ـ التكرير في قوله : «إلا يعلمها» ، وفي قوله : «إلا في كتاب مبين» ، لأنه بمثابة «إلا يعلمها» ، وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده ، لأنه لما عطف على «ورقة» بعد أن سلب الإيجاب المقصود للعلم في قوله : «إلا يعلمها» وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم ، وهو المقصود ، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف ، كان ذلك جديرا بتجديد العهد بالمقصود ، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى ، ليتلقّاها السامع غضّة جديدة غير مملولة بالتكرير.

٥ ـ حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي : وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع منه


والأجناس ، فإنه سبحانه بعد أن أخبر بأن عنده مفاتيح كلّ غيب ، إذ اللام للجنس ها هنا مجملا في القول ، تمدّح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد ، وحاصر الكليات المولدات ، ورأى سبحانه أن الاختصار على ذلك لا بكمل به معنى التمدح لاحتمال أن يظنّ ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات ، فإن

المولدات الثلاث ـ وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى العالم ـ فكل واحد منها كليّ بالنسبة الى ما تحته من الأجناس المتوسطة والأنواع وأصنافها ، فقال لكمال التّمدّح : «وما تسقط من ورقة إلا يعلمها» ، وعلم أن علم ذلك قد يشاركه فيه من مخلوقاته كل من خلق له إدراكا وهداه إلى طريق ذلك. فشارك فيه فتمدح بما لا يشارك فيه بقوله : «ولا حبة في ظلمات الأرض» ، ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال : «ولا رطب ولا يابس» لأن جميع المولّدات وعناصرها التي تولدت منها ـ ما كان منها في باطن الأرض وما خرج الى ظاهرها ـ لا يخرج عن هذين القسمين. وألغى ذكر المعتدل فإنه ممتزج من هذين القسمين. فاستغنى بذكر الأصل عن الفرع. ثم قال : «إلا في كتاب مبين» إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مفيد في كتاب مبين. فهو يأمن الضلال والنسيان.

نماذج شعرية :

وقال أبو الطّيّب المتنبي رامقا هذه السّماء العالية من البيان :

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى

ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق


فقد قصد تعظيم ممدوحه ، فجعل منزلة الّذي هو الجزئي كلّيّا.

وهو الدنيا ، وجعل ذاته التي هي جزئية كلية ، وهي الخلائق ، فجعل الجزئيّ كلّيّا. وأما حصر أقسام الجزئيّ فلان العالم إما حيوان بجسمه وعرضه ، والمنزل شامل لهما ، ومثله لأبي الفرج الببغا :

ما بأرض لم تبد فيها صباح

ما بدار حللت فيها ظلام

وإذا ما أقمت في بلد فه

ي جميع الدّنيا وأنت الأنام

فقد حصر جميع أقسام الجزئيّ بالطّريقة التي ذكرناها ، وألحقه بالكليّ. وقال أبو الحسن السّلاميّ :

إليك طوى عرض البسيطة جاعل

قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

فكنت وعزمي والظّلام وصارمي

ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر

فسرت بآمالي لملك هو الورى

ودار هي الدّنيا ويوم هو الدهر

والبيت الأخير هو المراد ، فقد أراد الشاعر تعظيم ممدوحه ، وتفخيم أمر داره التي قصده فيها ، وتبجيل يومه الذي لقيه ، فجعل الممدوح جميع الورى ، وجعل داره التي قصده فيها كل الدنيا ، وجعل


يومه الذي لقيه فيه جملة الدهر ، فجعل الجزئي كلّيّا بعد حصر أقسام الجزئي. أما جعله الجزئيّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى ، وداره جزء من الدنيا ، ويوم لقائه جزء من الدهر. وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان ، وقد حصر ذلك كلّه في ذكر الممدوح ، وذكر داره ، وذكر يوم لقائه. وأما الحاق الجزئي بالكلّيّ فلكونه ألحق الممدوح بجميع الورى في كونه جعله وزن جميع الورى ، على حدّ قول أبي نواس :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))

اللغة :

(جَرَحْتُمْ) كسبتم وفي المصباح : وجرح من باب نفح واجترح : عمل بيده واكتسب : ومنه قيل لكواسب الطير والسّباع : جوارح ، لأنها تكسب بيدها.

الاعراب :

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) كلام مستأنف مسوق لخطاب


الكفرة. وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة يتوفاكم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وبالليل جار ومجرور متعلقان بيتوفّاكم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) الواو حرف عطف ، ويعلم عطف على يتوفاكم ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول يعلم ، وجملة جرحتم لا محل لها لأنّها صلة الموصول ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية والمصدر المؤول مفعول جرحتم (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، ويبعثكم عطف على يتوفاكم ، وفيه جار ومجرور متعلقان بيبعثكم ، واللام للتعليل ، ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجار والمجرور متعلقان بيبعثكم ، وأجل نائب فاعل ومسمى صفة (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عطف على الجملة السابقة ، وإليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومرجعكم مبتدأ مؤخر ، ثم ينبئكم عطف أيضا ، وبما جار ومجرور متعلقان بينبئكم ، وجملة كنتم تعملون لا محل لها لأنها صلة ، وجملة تعملون خبر كنتم.

البلاغة :

في هذه الآية «التنزيل المنظوم» ، وهو ما ورد في القرآن موزونا بغير قصد الشعر ، وذلك في قوله : «ويعلم ما جرحتم بالنهار» فهو شطر بيت من البحر الوافر. وقد وجد في القرآن ما هو بيت تامّ أو مصراع ، فلا يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم الشاعر.

وسنورد لك طائفة من الآيات التي وردت منظومة ، ولا تعرّج على القائلين بأنها شعر. فمن ذلك قوله تعالى من الطويل وهو مصراع بيت : «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». ومن المديد «واصنع الفلك


بأعيننا». ومن البسيط : «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم». ومن الخفيف : «لا يكادون يفقهون حدبثا». وقد يكون بيتا كاملا كقوله وهو من مجزوء الرمل : «وجفان كالجوابي وقدور راسيات».

وجفان كالجوابي

وقدور راسيات

وقوله من البحر نفسه :

لن تنالوا البرّ حتى

تنفقوا مما تحبّون

ومن مجزوء الكامل :

والله يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم

ومن المجتثّ :

نبّىء عبادي أنّي

أنا الغفور الرحيم

وقد تلاعب الشعراء في هذا الموضوع وضمنوا أبياتهم آيات وردت منظومة بغير قصد ، فورد بعضها طريفا حلوا. وقد ذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك بقوله :

وفتية في مجلس وجوههم

ريحانهم قد عدموا التّثقيلا

دانية عليهم ظلالها

وذلّلت قطوفها تذليلا

وهو من الرّجز ولا بد من إشباع الميم في «عليهم» ليستقيم الوزن. ولا مندوحة هنا عن الاشارة إلى أنه قد نشب بين العلماء خلاف حول جواز اقتباس الآيات الكريمة ، والذي عليه الجمهور منهم


أنه جائز شريطة ألا يسف الناظم الى المعاني والموضوعات التي لا تتفق مع جلال القرآن. ومن طريف ما يذكر بهذا الصدد أن بعضهم نظم بيتا قال فيه :

وما حسن بيت له زخرف

تراه إذا زلزلت لم يكن

ثمّ توقّف لأنه استعمل فيه هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ليسأله عن ذلك ، وأنشده البيت ، فقال له الشيخ : قل : فما حسن كهف ، فقال له : يا سيدي أفدتني وأفتيتني.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

الاعراب :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) كلام مستأنف مسوق لبيان أنه سبحانه هو الغالب القاهر المتصرف بأمور العباد.

وهو مبتدأ ، والقاهر خبره ، وفوق ظرف متعلق بمحذوف حال ، أي :مستعليا ، ويرسل الواو استئنافية ، ولا بأس بأن تكون عاطفة ، من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الاسمية ، وعليكم جار ومجرور


متعلقان بيرسل ، وحفظة مفعول به ، ويجوز تعليق الجار والمجرور بحفظة ، لأنه جمع حافظ ، وهو اسم فاعل ، أي : يرسل من يحفظ عليكم أعمالكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) حتى ابتدائية أو غائية ، وقد تقدمت كثيرا ، وإذا ظرف مستقبل متعلق بتوفته ، وجملة جاء في محل جر بالإضافة ، وأحدكم مفعول به مقدم ، والموت فاعل مؤخر ، وجملة توفته رسلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) الواو حالية ، وهم مبتدأ ، وجملة لا يفرطون في محل رفع خبر ، والجملة حال. ولك أن تجعل الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يفرطون بشيء من أمور العباد (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، وردوا فعل ماض مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وجملة ردوا عطف على توفته ، وإلى الله جار ومجرور متعلقان بردوا ، ومولاهم بدل من الله أو نعت له ، والحق نعت لمولاهم (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ألا حرف تنبيه واستفتاح ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والحكم مبتدأ مؤخر ، والواو حرف عطف ، وهو مبتدأ ، وأسرع الحاسبين خبره ، والجملة مستأنفة.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))


الاعراب :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كلام مستأنف لإقامة الحجة على البشر الظالم الذي يبدو ضعيفا حين يقع في الشدة ، فإذا انزاحت عنه رجع إلى غيّه وعنفوانه وغطرسته. وقل فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، وجملة ينجيكم خبر ، ومن ظلمات جار ومجرور متعلقان بينجيكم ، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول ، والبر مضاف إليه ، والبحر عطف على البرّ (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) جملة تدعونه في محل نصب على الحال من الكاف في ينجيكم ، أي : ينجيكم حال كونكم داعين إياه. أما ما جنح إليه الجلال من تقدير ظرف ، وجعلها في محل جر بالإضافة ، فهو بعيد جدا ، لأن حذف المضاف إلى الجملة لم يسمع في كلامهم. وتدعونه فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون ، والواو فاعل ، والهاء مفعول به ، وتضرعا وخفية مصدران في موضع الحال من الواو ، أي : تدعونه حال كونكم متضرعين مسرّين.

ويجوز إعرابهما على أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه ، كقولهم : قعدت جلوسا (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) هذه الجملة منصوبة بإرادة القول ، والقول حال ، أي : تدعونه قائلين ذلك. ويجوز أن تكون لا محل لها من الاعراب لأنها مفسرة للدعاء ، واللام موطئة للقسم ، وإن شرطية وأنجانا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والفاعل هو ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، ومن هذه جار ومجرور متعلقان بأنجانا ، والإشارة الى الظلمات ، وهي تجري مجرى الواحدة ، ولنكونن اللام واقعة في جواب القسم ، وجملة نكونن من الشاكرين لا محل لها لأنها جواب القسم لتقدمه


حسب القاعدة ، وحذف جواب الشرط لتأخره ، على حد قول ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

ومن الشاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر نكونن (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) الجملة مستأنفة ، والله مبتدأ ، وجملة ينجيكم خبره ، ومنها جار ومجرور متعلقان بينجيكم ، أي من الظلمات ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الواو حرف عطف ، ومن كل كرب عطف على الضمير المجرور وإعادة حرف الجر ، كما هي القاعدة ، وثم حرف عطف ، وأنتم مبتدأ ، وجملة تشركون خبر.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥))

اللغة :

(يَلْبِسَكُمْ) : يخلطكم ، ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا أو يشتبكوا في ملاحم القتال ، على حد قوله :

وكتيبة لبّستها بكتيبة

حتى إذا التبست نفضت لها يدي


(شِيَعاً) : جمع شيعة ، كسدرة وسدر ، قال الراغب ، والشيعة من يتقوى بهم الإنسان ، والجمع شيع أشياع.

الاعراب :

(قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى على التطويح بهم في المتالف والمهالك. وهو مبتدأ والقادر خبر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ، وعلى حرف جر ، وأن يبعث مصدر مؤول مجرور بعلى ، والجار والمجرور متعلقان بالقادر ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيبعث ، وعذابا مفعول به ، ومن فوقكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله «عذابا» ، أو من تحت أرجلكم عطف على قوله من فوقكم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أو حرف عطف ، ويلبسكم معطوف على يبعث ، وشيعا نصب على الحال ، ويذيق عطف على يلبس ، وبعضكم مفعول به أول ليذيق وبأس بعض مفعول يذيق الثاني (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) الجملة مستأنفة.

وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أو مفعول مطلق ، ونصرف الآيات فعل مضارع ومفعول به ، والجملة في محل نصب مفعول لانظر ، ولعلهم لعل واسمها ، وجملة يفقهون خبرها ، وجملة الرجاء حالية.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))


اللغة :

(مُسْتَقَرٌّ) اسم زمان ، ويجوز أن يكون اسم مكان ، ومن استقر بمعنى ثبت.

الاعراب :

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) كلام مستأنف لبيان تكذيبهم بالعذاب المتقدم ذكره. ويجوز أن يعود الضمير على القرآن. والجار والمجرور متعلقان بكذب ، وقومك فاعل ، والواو استئنافية أو حالية ، فتكون الجملة مستأنفة أو حالية من الهاء في : «به» ، أي : حال كونه حقا ، وهو أشد إيغالا في القبح (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم. وجملة لست في محل نصب مقول القول ، وليس فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بوكيل ، والباء حرف زائد ، ووكيل اسم مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على أن الأمور مرهونة بأوقاتها أو أماكنها. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ونبأ مضاف إليه ، ومستقر مبتدأ مؤخر ، والواو حرف عطف وسوف حرف استقبال ، وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى


يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨))

الاعراب :

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) الكلام مستأنف مسوق لأمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم في خوضهم في آياتنا. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب ، وهو : فأعرض عنهم ، ورأيت فعل وفاعل ، والرؤية هنا بصرية ، ولذلك تعدّت لواحد ، ولا بد حينئذ من تقدير حال محذوفة ، أي : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا متلبسين بالخوض فيها ، ويجوز أن تكون الرؤية قلبية ، وحذف المفعول الثاني للاختصار ، والذين مفعول به ، وجملة يخوضون صلة الموصول ، وفي آياتنا جار ومجرور متعلقان بيخوضون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، وأعرض فعل أمر ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بأعرض ، وحتى حرف غاية وجر ، ويخوضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، وفي حديث جار ومجرور متعلقان بيخوضوا ، وحتى الجارة ومجرورها المؤول متعلقان بـ «أعرض» ، وغيره صفة لحديث ، والضمير يعود على الآيات ، والتذكير باعتبارها قرآنا أو حديثا (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكلام مستأنف مسوق لتقدير طروء النسيان بوسوسة الشيطان. وإن شرطية ، وما زائدة ، أدغمت فيها نون «إن» ، أي : إن شغلك الشيطان بوسوسته حتى تنسى النهي عند مجالستهم. وينسينك فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط ، والنون نون التوكيد الثقيلة ،


والكاف مفعول ينسينّك ، والشيطان فاعله ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، ولا ناهية ، وتقعد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وبعد الذكرى ظرف زمان متعلق بتقعد ومع ظرف مكان متعلق بتقعد أيضا ، والقوم مضاف اليه ، والظالمين صفة.

البلاغة :

١ ـ الاستعارة في الخوض لأنه في اللغة : الشروع في خوض الماء والعبور فيه ، وقد استعير للأخذ في الحديث والشروع فيه على أفانين متنوعة ، وأساليب متعددة ، على وجه العبث واللهو ، فهي استعارة مكنية تبعية.

٢ ـ الاختلاف في الشرط : قيل في الآية : «وإذا رأيت» فجاء الشرط بإذا لأن خوضهم في الآيات أمر غير مشكوك فيه ، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان أمر مشكوك فيه ، قد يقع وقد لا يقع ، لأنه معصوم منه ، وقد تقدمت القاعدة ، فسبحان قائل هذا الكلام.

٣ ـ وضع الظاهر موضع المضمر. وقد تقدم بحثه للتنبيه على ظلمهم.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ


دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

اللغة :

(ذِكْرى) مصدر ذكر ، ولم يجيء على فعلى بكسر الفاء غيره.

(عَدْلٍ) بفتح العين ، أي : فداء لأن الفادي يعدل المفديّ بمثله.

والعدل الفدية.

(تُبْسَلَ) من البسل ، وأصله في اللغة التحريم والمنع ، يقال :هذا عليك بسل ، أي ، حرام ممنوع. والإبسال : مصدر مثل البسل ، وهو المنع. ومنه : أسد باسل ، لأن فريسته لا تفلت منه ، أو لأنه ممتنع. والباسل : الشجاع لامتناعه من قرنه. وفي المختار : «وأبسله :أسلسه للهلكة ، فهو مبسل ، وقوله تعالى : «أن تبسل نفس بما كسبت» قال أبو عبيدة : أي أن تسلم ، والمستبسل هو الذي يوطّن نفسه على الموت أو الضرب. وقد استبسل أي استقتل ، وهو أن يطرح نفسه في الحرب ، ويريد أن يقتل أو يقتل لا محالة».

الاعراب :

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يجوز في الواو أن تكون عاطفة لتتمة الحديث ، وأن تكون مستأنفة مسوقة للغرض


نفسه. وما نافية ، وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وجملة يتقون صلة الموصول ، ومن حسابهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. ومن حرف جر زائد ، وشيء مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الواو عاطفة ، ولكن مخففة مهملة ، وذكرى يجوز أن تكون نصبا على المصدرية بفعل مضمر ، أي : ولكن يذكرونهم ذكرى ، وأن تكون رفعا على أنها خبر لمبتدأ محذوف. أي : هي ذكرى ، أو أنها مبتدأ والخبر محذوف ، أي : ولكن عليهم ذكرى ، ولعل واسمها ، وجملة يتقون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) الواو عاطفة ، وذر فعل أمر ، أمات العرب ماضيه ، وسيأتي بحثه في هذا الكتاب. وفاعله مستتر تقديره أنت ، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة اتخذوا صلة الموصول ، ودينهم مفعول به أول لاتخذوا ، ولعبا مفعول به ثان ، ولهوا عطف عليه. ويجوز أن تكون اتخذوا بمعنى اكتسبوا ، فتتعدى لمفعول واحد ، وتكون لعبا ولهوا نصبا على المفعول لأجله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الجملة معطوفة ، وهي فعل ومفعول به وفاعل وصفة (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) وذكّر فعل أمر وبه جار ومجرور متعلقان بذكّر وأنّ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول لأجله ، أي : مخافة أن تسلم إلى العذاب والهلكة ، والباء حرف جر ، وما مصدرية ، والمصدر المؤول في محل جر بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بتبسل. وجملة ليس وما في حيزها صفة لنفس أو مستأنفة ، ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وولي اسم ليس ، وشفيع عطف على ولي (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) الواو


عاطفة ، وإن شرطية ، وتعدل فعل الشرط ، وكل عدل نصب على المصدرية ، ولا نافية ، ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول ، ومنها جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل يؤخذ ، ولا يجوز أن يكون نائب الفاعل ضمير العدل لأنه هنا باق على مصدريته ، لأن الفعل تعدّى اليه بغير واسطة ، ولو كان المراد المعدى به لكان مفعولا به ، فلم يتعدّ إليه الفعل إلا بالباء ، وكان وجه الكلام : وإن تعدل بكل عدل ، فلما عدل عنه علم أنه مصدر ، وهذا من الدقائق التي تندّ عن الأذهان (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبح ما ارتكبوه. وأولئك مبتدأ ، والذين خبره ، وجملة أبسلوا صلة الموصول ، وبما كسبوا جار ومجرور متعلقان بأبسلوا ، وما مصدرية ، أي : بسبب كسبهم ، ويجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من اسم الإشارة ، فيكون قوله : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) هو الخبر والاشارة الى الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وشراب مبتدأ مؤخر ، وعلى الإعراب الأول تكون الجملة خبرا ثانيا أو حالا أو استئنافية ، ومن حميم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشراب ، وعذاب عطف على شراب ، وأليم نعت. وقوله : «بما كانوا يكفرون» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف ، تقديره : أعدلهم ، فيكون بمثابة التفسير لأبسلوا ، وما مصدرية ، وجملة كانوا لا محل لها ، وجملة يكفرون في محل نصب خبر كانوا.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا


بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١))

اللغة :

(اسْتَهْوَتْهُ) : أصله من الهويّ ، وهو النزول من علوّ إلى سفل ، فكأن الشياطين حين استهوته في الأرض طلبت هويّه فيها.

(حَيْرانَ) تائها ضالا عن جادة الطريق ، وهو صفة مشبهة ، ومؤنثة حيرى ولذلك لم ينصرف ، وفعله حار يحار حيرة وحيرانا وحيرورة ، وتخطىء العامة فتقول : احتار.

الاعراب :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الذي يدعو إلى عبادة الأصنام ، كما سيأتي في باب البلاغة. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، وندعو فعل مضارع ، والجملة مقول القول ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بندعو ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول ندعو ، وجملة لا ينفعنا صلة الموصول ، وكذلك جملة ولا يضرنا المعطوفة عليها (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) الواو عاطفة ، ونرد فعل مضارع معطوف على ندعو ، داخل في حكم الإنكار والنفي ، ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ، وعلى


أعقابنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه ، وبعد ظرف متعلق بـ «نردّ» ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل جر بالإضافة ، وجملة هدانا الله في محل جر بالإضافة لـ «إذ» ، وهدانا الله فعل ومفعول به وفاعل (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) يجوز في هذه الكاف أن تكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : نردّ ردّا مثل ردّ الذي استهوته الشياطين ، ويجوز أن تكون حالا من نائب فاعل نرد ، أي : نرد مشبهين الذي استهوته الشياطين ، وجملة استهوته الشياطين صلة الموصول ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان باستهوته ، وحيران حال من مفعول استهوته (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) له جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وأصحاب مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب حال من ضمير حيران ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، وجملة يدعونه صفة لأصحاب ، وإلى الهدى جار ومجرور متعلقان بيدعونه ، وائتنا فعل أمر ونا مفعوله ، والجملة في محل نصب مقول قول محذوف ، أي : يقولون : ائتنا ، وجملة القول في محل نصب حال (قُلْ : إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الجملة مستأنفة ، وإن واسمها ، وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ، والهدى خبره ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن ، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول ، وأمرنا الواو حرف عطف ، وأمرنا فعل ماض مبني للمجهول ، ونا ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل ، والجملة عطف على جملة : إن هدى الله هو الهدى ، منتظمة في حيز القول ، ولنسلم الواو حرف عطف ، وفي هذه اللام أقوال كثيرة لا طائل تحتها ، ضربنا عنها صفحا ، وأقرب ما يبدو فيها أنها على بابها من التعليل ، فهي تعليل للأمر ، والمعنى قيل لنا : أسلموا لأجل أن نسلم ، والغرض من


دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق ، إذ لا يتعلق الأمر والإرادة إلا بمستقبل ، ونسلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ، ولرب العالمين جار ومجرور متعلقان بنسلم.

البلاغة :

التشبيه التمثيلي المنفي في قوله : «كالذي استهوته الشياطين في الأرض» ، والمشبه هو أنه لا ينبغي لنا ولا يمكن أن نعبد غير الله بعد أن هدانا ، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا مثل من حيرته الشياطين ، فهو تشبيه جملة بجملة ، واستفيد النفي من الإنكار في قوله : «أندعو».

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

اللغة :

(الصُّورِ) : القرن ينفخ فيه ، وهو المعروف اليوم بالبوق.

الاعراب :

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو


حرف عطف ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، أي : وأمرنا بأن أقيموا الصلاة ، وقد اختلف في هذا العطف ، فقيل :إنه في محل نصب بالقول نسقا على قوله : إن هدى الله هو الهدى ، أي : قل هذين الشيئين ، وقال سيبويه : إنه نسق على : لنسلم ، والتقدير : أمرنا بكذا للإسلام ولنقيم الصلاة ، و «أن» توصل بالأمر كقولهم : كتبت إليه بأن قم ، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه قال :«فإن قلت علام عطف قوله : وأن أقيموا؟ قلت : على موضع «لنسلم» ، كأنه قيل : أمرنا أن نسلم وأن أقيموا». وأقيموا فعل أمر ، والصلاة مفعول به ، واتقوه عطف على أقيموا ، وهو الواو استئنافية ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة تحشرون صلة ، وإليه جار ومجرور متعلقان بتحشرون (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) الواو استئنافية ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول ، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : محقا جادا لا هازئا ولا عابثا (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) الواو استئنافية ، والظرف متعلق بـ «اذكر» مقدرة ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سرعة التكوين ، وجملة يقول في محل جر بالإضافة ، وكن فعل أمر تام لا ناقص ، فيكتفي بمرفوعه ، وفاعل كن ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة ، والفاء عاطفة ، ويكون فعل مضارع تام معطوف على كن (قَوْلُهُ الْحَقُّ) اختلفوا كثيرا في إعراب هذا الكلام ، والذي أختاره أن يكون مبتدأ وخبرا ، والجملة مستأنفة ، ولا طائل تحت الأوجه التي أوردها ، أخبر سبحانه عن قوله بأنه لا يكون إلا حقا (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الواو عاطفة ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والملك مبتدأ مؤخر ، ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف بدل من الظرف الأول في قوله :


«يوم يقول» ، وجملة ينفخ في محل جر بالإضافة ، وفي الصور جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل ينفخ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) عالم خبر مبتدأ محذوف ، والواو حرف عطف ، والحكيم الخبير خبراه. والجملة استئنافية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥))

اللغة :

(آزَرَ) : اختلف المفسرون وعلماء اللغة في لفظة آزر بما لا طائل تحته ، وأقرب ما يقال فيه أنه علم أعجمي ، ولذلك منع من الصرف.

(مَلَكُوتَ) : يعني ملكه ، وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت.

الاعراب :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) الواو حرف عطف ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر مضمرة ، عطفا على : قل أندعو ، أي :واذكر لقريش ، بعد أن أنكرت عليهم عبادة مالا ينفع ولا يضر ، وقت قول إبراهيم الذي يدعون أنهم على ملته. وجملة قال إبراهيم في محل


جر بالإضافة ، ولأبيه جار ومجرور متعلقان بقال ، وآزر بدل من أبيه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وأصناما مفعول تتخذ الأول ، وآلهة مفعول به ثان ، وإن واسمها ، وجملة أراك خبرها ، والجملة تعليل للإنكار ، وقومك عطف على الكاف ، أو مفعول معه ، وفي ضلال : إما مفعول به ثان إذا كانت الرؤية قلبية ، وإما بمحذوف حال إذا كانت الرؤية بصرية ، ومبين صفة (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو اعتراضية ، والكاف مع مجرورها في محل نصب نعت لمفعول مطلق محذوف تقديره : ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض. وقد اعترض أبو حيان على هذا التقدير فقال : «وهذا بعيد من دلالة اللفظ». وتعقبه بعضهم فقال : وإنما كان بعيدا لأن المحذوف من غير الملفوظ به ، ولو قدره بقوله : وكما أريناك يا محمد الهداية ، لكان قريبا لدلالة اللفظ والمعنى عليه معا ، وقدره أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : قال : «هو نصب على إضمار «أريناه» وتقديره :وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبين أريناه ، ذلك ويجوز أن يكون منصوبا بـ «نري» التي بعده ، على أنه صفة لمصدر محذوف ، تقديره :نريه ملكوت السموات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه. ويجوز أن تكون الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : والأمر كذلك ، وابراهيم مفعول به أول ، وملكوت السموات والأرض هو المفعول الثاني ، والجملة كلها لا محل لها لأنها معترضة بين قوله : «وإذ قال» وبين الاستدلال على ذلك بقوله : «فلما جن عليه الليل». (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الواو عاطفة ، والمعطوف محذوف ، أي : وفعلنا ذلك ليكون ، فاللام للتعليل ، ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة


بعد لام التعليل ، والجار والمجرور متعلقان بالمعطوف المحذوف ، واسم يكون مستتر تقديره هو ، ومن الموقنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨))

اللغة.

(جَنَّ) تقدم اشتقاق هذه المادة عند ذكر الجنة ، وهنا ما يختص بالفعل المسند إلى الليل ، يقال : جنّ عليه الليل وأجنّ عليه : بمعنى أظلم ، فيستعمل لازما ، وجنّه وأجنّه ، فيستعمل متعديا. فهذا ما اتفق عليه الثلاثي والرباعي ، غير أن الأجود في الاستعمال : جنّ عليه الليل ، وأجنّه الليل ، فيكون الثلاثي لازما والرباعي متعديا.

(أَفَلَ) : الشيء وأفولاً من بابي ضرب وقعد : غاب.

(بازِغاً) : البزوغ : الطلوع ، يقال : بزغ بفتح الزاي ، يبزغ بضمها ، يستعمل لازما ومتعديا. وللباء مع الزاي ، فاء وعينا للفعل ،


خاصة متشابهة ، تلك هي معنى الطلوع والبروز. يقال : بزّه ثوبه وابتزّه : سلبه على مرأى منه ، وابتزت من ثيابها تجردت فظهرت يعريها ، ومنه قول امرئ القيس :

إذا ما الضجيع ابتزّها من ثيابها

تميل عليه هونة غير متعال

وبزل الشراب من المبزل : أساله منه ، قال زهير بن أبي سلمى :

سعى ساعيا غيظ بن مرّة بعد ما

تبزّل ما بين العشيرة بالدم

والبازي طائر معروف ، ويقال : فلان يتحيّن كالحازي ، ثم ينقضّ كالبازيّ. وهذا من العجب بمكان.

الاعراب :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ : هذا رَبِّي) الفاء حرف عطف ، والجملة معطوفة على جملة قال إبراهيم لأبيه ، فيكون قوله :«وكذلك نري إبراهيم» معترضا كما تقدم ، ولما حينية أو رابطة ، وجن فعل ماض ، وعليه جار ومجرور متعلقان بجن ، والليل فاعل ، وجملة جن في محل جر بالإضافة ، أو لا محل لها على الثاني ، وجملة رأى كوكبا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة : قال هذا ربي مستأنفة ، وجملة هذا ربي في محل نصب مقول القول (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فلما الفاء عاطفة ، ولما حينية أو رابطة ، وجملة


أفل في محل جر بالإضافة ، أو لا محلّ لها ، وجملة قال جواب شرط غير جازم ، وجملة لا أحب الآفلين في محل نصب مقول القول ، وإنما قال ذلك لأن الربّ لا يجوز عليه التغير والانتقال (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) الفاء عاطفة ، وبازغا حال ، لأن الرؤية بصرية ، وهذا مبتدأ ، وربي خبره ، والجملة في محل نصب مقول القول وجملة قال هذا ربي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) اللام موطئة للقسم ، وإن شرطية ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويهدني فعل مضارع مجزوم بلم ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، وربي فاعل ، واللام جواب القسم ، وجملة أكوننّ جواب القسم لا محل لها ، ومن القوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر أكونن ، والضالين نعت (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ : هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) تقدم إعرابها ، وجعل المبتدأ نظير الخبر وإن كانت الاشارة الى الشمس لكونهما عبارة عن شيء واحد ، ولصيانة الربّ عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفته :علام ، ولم يقولوا : علامة ، وإن كان علّامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث ، وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب الفوائد (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مما جار ومجرور متعلقان ببريء ، وما مصدرية أي بريء من اشراككم ، ويجوز أن تكون موصولة ، أي من الذي تشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد. ويلاحظ أن إبراهيم عليه السلام احتجّ على قومه بالأفول دون البزوغ ، مع أن كليهما يفيد الانتقال من حال إلى حال ، لسرّ دقيق وهو أن الأفول انتقال مع الخفاء والانطماس ، والبزوغ انتقال مع الظهور والسطوع والائتلاق.


البلاغة :

في الآية فن التعريض ، وقد تقدم بحثه ، وإنما عرض بضلالهم.

ويلاحظ أنه عرض بضلالهم في أمر القمر لأنه أيس منهم في أمر الكوكب ، ولهذا أعلن في أمر الشمس البراءة منها عن طريق استدراج الخصم وإيقاعه تحت الحجة.

الفوائد :

قيل : الشمس تذكر وتؤنث ، فأنثت أولا على المشهور ، وذكرت في الاشارة على اللغة القليلة ، مراعاة ومناسبة للخبر ، فرجحت كفة التذكير ـ التي هي أقل ـ على لغة التأنيث.

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠))

الاعراب :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لإعلان إبراهيم عليه السلام


تمسكه بالهدى ودين الحق. وإن واسمها ، وجملة وجهت خبرها ، ووجهي مفعول به ، وللذي جار ومجرور متعلقان بوجهت ، وجملة فطر السموات والأرض صلة الموصول ، والسموات مفعول به ، والأرض عطف على السموات ، وحنيفا حال من التاء في وجهت ، والواو حرف عطف ، وما نافية حجازية ، تعمل عمل ليس ، وأنا اسمها ، ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) كلام مستأنف مسوق لذكر المحاجّة بين إبراهيم عليه السلام وقومه. روي أنه لما كثر استهزاؤه بالأصنام والتنديد بها جادله قومه ، وأرادوا أن يقيموا عليه الحجة.

وحاجّه فعل ماض ، والهاء مفعول به ، وقومه فاعل ، وقال فعل ماض ، وفاعله مستتر تقديره هو ، والجملة مستأنفة ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، وتحاجوني بالنون المشددة على إدغام نون الرفع في نون الوقاية ، والأصل أتحاجونني! وفي الله جار ومجرور متعلقان بتحاجوني ، والواو حالية ، وقد حرف تحقيق ، وهدان فعل ماض ، والنون للوقاية ، والياء المحذوفة رسما مفعول به ويجوز حذفها وإثباتها في الوصل ، والجملة في محل نصب على الحال من الياء في أتحاجّوني ، أي :أتجادلونني في الله حال كوني مهديا من لدنه؟ ويجوز أن تكون حالا من الله ، أي : أتجادلونني فيه حال كونه هاديا لي؟ فحجتكم متهافتة من أساسها (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) الواو يجوز أن تكون استئنافية ، والجملة مستأنفة ، أخبرهم عليه السلام أنه لا يخاف ما يشركونه بالله ثقة به وارتكانا على دعمه وكلاءته ، ويحتمل أن تكون عاطفة ، فهي تابعة لجملة : «وقد هدان» ، أي :في النصب على الحال ، وما اسم موصول مفعول به ، والضمير في «به» يعود على «ما» ، والمعنى : ولا أخاف الذي تشركون الله به. وإلا


أداة استثناء ، والمصدر المؤول من أن والفعل مستثنى متصل ، لأنه من جنس الأول ، والمستثنى منه الزمان ، وقد قدره الزمخشري بقوله :إلا وقت مشيئة ربي شيئا يخاف ، فحذف الوقت. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، فتكون «إلا» بمعنى «لكن» ، فإن المشيئة ليست مما يشركونه به. والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : لكن مشيئة ربي أخافها وشيئا مفعول به (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الجملة تعليل للاستثناء لا محل لها ، ووسع ربي فعل وفاعل ، وكل شيء مفعول به ، وعلما تمييز ، محوّل عن الفاعل ، والتقدير : وسع علم ربي كل شيء ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة ، ولا نافية ، وتتذكرون معطوف على محذوف ، أي :أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضرّ ولا تنفع فلا تتذكرون أنها بهذه المثابة؟

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))

الاعراب :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ


يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لنفي الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ، وأخاف فعل مضارع ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة أشركتم صلة ، ويجوز أن تكون ما مصدرية ، والمصدر المؤول مفعول أخاف ، ولا تخافون عطف على أخاف ، فتكون داخلة في حيز الإنكار ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في محل نصب على الحال ، أي : وكيف أخاف الذي تشركون به غيره ، وإشراككم حال كونكم أنتم غير خائفين. وأن واسمها ، وجملة أشركتم بالله خبرها ، وما اسم موصول مفعول به لأشركتم ، وبه جار ومجرور متعلقان بينزل ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لقوله : سلطانا ، فلما تقدم أعرب حالا ، وسلطانا مفعول به (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة ، وأي أداة استفهام مبتدأ ، وأحق خبرها ، وإن شرطية ، وكان فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والتاء اسمها ، وجملة تعلمون خبرها ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : فأخبروني أي الفريقين أحق بالاتباع؟ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الذين خبر لمبتدأ محذوف ، بناء على أن الكلام مسوق من إبراهيم جوابا عن السؤال في قوله : فأي الفريقين؟ ويجوز أن تكون مبتدأ بناء على أن الكلام من الله تعالى ، وجملة آمنوا صلة ، ولم الواو عاطفة ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويلبسوا فعل مضارع مجزوم بلم ، معطوف على الصلة ، وبظلم جار ومجرور متعلقان بيلبسوا (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أولئك مبتدأ ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والأمن مبتدأ مؤخر ثان ، والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة ، وجملة الاشارة وما في حيزها في محل نصب مقول قول


محذوف على الوجه الأول ، أو مرفوعة على أنها خبر الذين على الوجه الثاني ، والواو حرف عطف ، وهم مبتدأ ، ومهتدون خبره ، والجملة عطف على ما تقدم.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧))

الاعراب :

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق للاشارة الى الدلائل المتقدمة ، والأنبياء التي أنزلت على أيديهم ، وتلك :اسم إشارة مبتدأ ، وحجتنا خبره ، وجملة آتيناها خبر ثان أو حال ،


والعامل فيها معنى الاشارة ، وآتيناها فعل وفاعل ومفعول به ، وإبراهيم مفعول به ثان ، وعلى قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بحجتنا (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة لا محل لها ، وأعربها أبو البقاء حالا من فاعل آتيناها ، أي : في حال كوننا رافعين ، ودرجات مفعول فيه ، ومن اسم موصول مفعول به ، وجملة نشاء صلة الموصول ، والمعنى نرفع من نشاء في درجات ، أي :مراتب. وإن واسمها وخبراها ، والجملة تعليلية لا محل لها (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) الواو عاطفة على قوله : وتلك حجتنا ، ولا مشاحة في جواز عطف كل من الفعلية والاسمية على الأخرى ، ووهبنا فعل وفاعل ، وإسحق مفعول به ، ويعقوب عطف على إسحق ، وكلا مفعول به مقدم لهدينا ، وهدينا فعل وفاعل ، والجملة عطف على وهبنا (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) ونوحا مفعول مقدم لهدينا ، والجملة معطوفة على ما تقدم ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بهدينا ، وبني قبل على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى ، أي : قبل ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الواو حرف عطف ، ومن ذريته جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : وهدينا داود وسليمان إلى آخر من ذكرهم من الأنبياء حال كونهم من ذريته ، فجملة الأربعة عشر نبيا بعد نوح منصوبة بفعل الهداية الذي نصب «نوحا» ، والواو استئنافية ، وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق ، ونجزي فعل مضارع ، والمحسنين مفعول به (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة ، وكل مبتدأ ، وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ، والتنوين في كل عوض عن كلمة ، أي : كل واحد ، ومن الصالحين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ


وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) كلّا مفعول به مقدم لفضلنا ، وعلى العالمين جار ومجرور متعلقان بفضلنا (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي : وهدينا كلّا من آبائهم. واجتبيناهم فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة عطف على ما تقدم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو عاطفة ، وكرر الهداية لتكرير التأكيد وتمهيدا لبيان ما هدوا إليه ، وإلى صراط جار ومجرور متعلقان بهديناهم ، ومستقيم صفة.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

الاعراب :

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أشير إليه ، وهو إما الاجتباء وإما الهداية. وذلك اسم إشارة مبتدأ ، وهدى الله خبر ، وجملة يهدي حالية أو خبر ثان ،


ويجوز إعراب هدى الله بدلا من اسم الإشارة وجملة يهدي خبر ، وبه جار ومجرور متعلقان بيهدي ، ومن اسم موصول مفعول به ، وجملة يشاء صلة الموصول ، ومن عباده جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من اسم الموصول (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حالية ، ولو شرطية ، وأشركوا فعل وفاعل ، وهو فعل الشّرط ، واللام واقعة في جواب الشرط ، وجملة حبط لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بحبط ، وما اسم موصول فاعل ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وجملة يعملون خبر كانوا (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الجملة مستأنفة ، وأولئك اسم إشارة مبتدأ والإشارة الى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين والذين خبر اسم الإشارة ، وجملة آتيناهم صلة الموصول ، والكتاب مفعول به ثان ، وما بعده عطف عليه (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، ويكفر فعل الشرط ، وبها جار ومجرور متعلقان بيكفر ، وهؤلاء فاعل ، والإشارة الى أهل مكة الذين أرسل محمد عليه الصلاة والسلام لهدايتهم ، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط ، وقد حرف تحقيق ، ووكلنا فعل وفاعل ، وبها جار ومجرور متعلقان بوكلنا ، وقوما مفعول به ، وجملة ليسوا صفة ، وبها جار ومجرور متعلقان بكافرين ، والباء حرف جر زائد ، وكافرين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليسوا (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الجملة مستأنفة ، وأولئك مبتدأ ، أي الأنبياء المذكورون ، والذين اسم موصول في محل رفع خبر ، وجملة هدى الله صلة ، فبهداهم الفاء الفصيحة ، أي إذا شئت سلوك الطريق القويم والارتفاع الى أسمى المسئوليّات فاقتد بهداهم ، وقد جمع الله له خصائص الأنبياء الكبرى التي كانت متوزعة عليهم ، اقتد فعل


أمر مبني على حذف حرف العلة ، والهاء للسكت. وقد تقدّم بحثها والجملة الواقعة بعد الفاء الفصيحة جواب شرط لا محل لها (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) جملة قل مستأنفه ، وجملة لا أسألكم في محل نصب مقول القول ، وعليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، والضمير في «عليه» يعود على التبليغ المفهوم من سياق الكلام ، وأجرا مفعول به ثان لأسألكم ، وإن نافية ، وهو مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وذكرى خبر ، وللعالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة. وجملة إن هو إلا ذكرى استئنافية.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١))

الاعراب :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كلام مستأنف مسوق للرّد على اليهود الذين قالوا ما يأتي مما ينسجم مع طبعهم الأصيل في التّعنّت والملاحاة. وما نافية ، وقدروا الله فعل وفاعل ومفعوله ، وحق قدره مفعول مطلق ، والأصل : قدره الحقّ ، ثم أضيفت الصّفة الى الموصوف ، يقال : قدر الشيء إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ومداه ،


ثم استعمل في صفة الشّيء (إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقدروا ، وجملة قالوا : في محل جر بالإضافة ، والقائلون هم اليهود ، فلم تكن ثمّة مندوحة عن إلزامهم ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التّوراة على موسى ، وأدرج تحت إلزامهم تبويخهم والانحناء عليهم باللائمة ، ووصمهم بالغباء المفرط والجهالة الرعناء ، وجملة ما أنزل الله في محل نصب مقول القول ، ومن حرف جر زائد ، وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا ، (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرّد عليهم وإسقاطهم في حضيض المذلة. ومن اسم استفهام مبتدأ ، وجملة أنزل الكتاب خبر ، والذي اسم موصول صفة للكتاب ، وجملة جاء به موسى صلة ، ونورا منصوب على الحال ، وهدى عطف على : نورا وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لهدى (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) الجملة حالية من الكتاب ، أو من الضمير في به ، وتجعلونه فعل وفاعل ومفعول به أول ، وقراطيس مفعول به ثان ، نزلوه منزلة القراطيس ، وقد تقدم القول في القرطاس ، وجملة تبدونها في محل نصب صفة لـ «قراطيس» ، وجملة وتخفون كثيرا عطف على جملة تبدونها ، وكثيرا مفعول به لـ «تخفون» (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الواو عاطفة ، وجملة علمتم عطف على جملة تجعلونه في نطاق الحال ، وعلمتم فعل ماض مبني للمجهول ، والتاء نائب فاعل ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثاني. وجملة لم تعلموا صلة الموصول ، وأنتم تأكيد للفاعل وهو الواو في : «لم تعلموا» ولا الواو حرف عطف ، وآباؤكم عطف على قوله «أنتم». (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لمتابعة الرّدّ عليهم ، والله مبتدأ حذف خبره ،


أو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الله أنزله ، أو وهو الله ، ثم حرف عطف ، وذرهم فعل أمر أمات العرب ماضيه ، وفي خوضهم جار ومجرور متعلقان بذرهم ، أو بيلعبون أو بمحذوف حال ، وجملة يلعبون في محل نصب على الحال من مفعول ذرهم.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

اللغة :

(أُمَّ الْقُرى) سميت مكة أم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا.

وأنشد الزمخشري لبعض المجاورين ، ولعله يريد نفسه ، فهو من نظمه :

فمن يلق في بعض القريّات رحله

فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي

الاعراب :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) الواو استئنافية ، وهذا اسم اشارة مبتدأ ، وكتاب خبره ، وجملة أنزلناه في محل رفع صفة أولى لـ «كتاب» ، ومبارك صفة ثانية ، ومصدق صفة


ثالثة ، والذي اسم موصول في محل جر بالإضافة ، والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ، ويديه مضاف إليه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الواو عاطفة واللام للتعليل ، وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بأنزلناه ، أي : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدّمه من الكتب وأم القرى مفعول به ومن عطف على أم القرى ، وحولها ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) الواو استئنافية ، والذين اسم موصول مبتدأ ، وجملة يؤمنون بالآخرة صلة الموصول ، وجملة يؤمنون به خبر ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة ، والذين اسم موصول معطوف على أم القرى ، أي : لتنذر أهل أم القرى ولتنذر الذين آمنوا ، فتكون جملة يؤمنون الثانية حالا من الموصول ، والواو حالية ، وهم مبتدأ ، وجملة يحافظون خبر ، والجملة نصب على الحال.

البلاغة :

جاء بالصفة الأولى فعلية ، وهي جملة أنزلناه ، لأن الإنزال يتجدد وقتا بعد وقت ، على حد قوله :

وقال رائدهم : أرسو نزاولها

فحتف كل امرئ يجري بمقدار

ووقعت الصفة الثانية اسما ، وكذلك الثالثة ، للدّلالة على الثبوت والاستمرار وديمومة البركة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ


فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣))

اللغة :

(غَمَراتِ الْمَوْتِ) : شدائده وسكراته ، والغمرات : جمع غمرة ، وهي الشدة الفظيعة ، من غمره الماء إذا ستره ، وفي المختار : «وقد غمره الماء أي علاه وبابه نصر ، والغمرة : الشدة ، والجمع غمر ، كنوبة ونوب ، وغمرات الموت شدائده». ومن غريب أمر اشتقاق هذه الأحرف الثلاثة ـ وهي الغين والميم والرّاء ـ أنك تعقد على تراكيبها معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرّف منها ، فلهذه الأحرف ستة تراكيب وهي : غمر وغرم ومرغ ومغر ورغم ورمغ ، ويجمعها معنى واحد وهو التغطية والستر والإخفاء وإزالة الأثر.

وفي اجتماع الغين والميم فاء وعينا معنى التغطية تقول : سيف مغمود ومغمد ، أي موضوع في غمده ، وتغمّده الله برحمته أي : ستره ، والغمز معروف ، تقول : ما فيه مغمز ولا غميزة أي : أمر مغطّى معاب ، وله جارية غمّازة أي : حسنة الغمز للأعضاء ، وغمسه في الماء فانغمس واغتمس أي : أخفاه فيه ، وغمس النجم غموسا غاب ، ومه اليمين الغموس لشدتها ، وغمض الأمر : خفي ، وكلام غامض : غير واضح ، وغمط النعمة : احتقرها ولم يشكرها ، وغمّ الشيء إذا غطّاه.


(الْهُونِ) : بضم الهاء : مصدرها هوانا وهونا ، أي : ذلّ ، والعرب إذا أرادت بالهون معنى الهوان ضمّت الهاء ، وإذا أرادت به الرفق والدّعة وخفّة المئونة فتحت الهاء ، فقالوا : هو قليل هون المئونة.

الاعراب :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لذكر بعض المتنبّئين ضلالة ، ومن اسم استفهام يفيد معنى النفي ، أي : لا أحد ، في محل رفع مبتدأ ، وأظلم خبره ، وممّن جار ومجرور متعلقان بأظلم ، وجملة افترى صلة الموصول ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى ، وكذبا يجوز فيه أن يكون مفعولا به لفعل افترى ، وأن يكون مصدرا على المعنى ، أي افتراء ، فيكون مفعولا مطلقا ، وأن يكون مفعولا لأجله ، وأن يكون مصدرا في موضع الحال (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أو حرف عطف ، وقال عطف على افترى ، وأوحي فعل ماض مبني للمجهول ، وإليّ الجار والمجرور في موضع رفع على أنهما نائب فاعل أوحي ، والواو حالية. وجملة لم يوح في موضع نصب على الحال من ضمير الفاعل في «قال» ، أو الياء في «إليّ» ، وشيء نائب فاعل لـ «يوح» (وَمَنْ قالَ : سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أو حرف عطف ، ومن اسم موصول معطوف على المجرور بـ «من» ، أي : ممّن افترى ، وجملة سأنزل في محل نصب مقول القول ، ومثل : يجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول به ، وما اسم موصول في محل جر بالإضافة ، وجملة أنزل الله صلة الموصول ، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير


سأنزل إنزالا مثل ما أنزل الله ، و «ما» على هذا الوجه مصدرية ، وجملة أنزل الله لا محل لها لأنها وقعت بعد موصول حرفي (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) الواو استئنافية ، ولو شرطية ، وترى فعل مضارع شرطه لو ، وجواب لو محذوف أي :لرأيت أمرا عظيما. وقد تقدمت نظائر لذلك. والرؤية بصرية ، ومفعولها محذوف ، أي : ولو ترى الظالمين إذ هم في غمرات الموت ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري ، والظالمون مبتدأ ، وفي غمرات الموت جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «الظالمون» ، ، والجملة الاسمية في محل جر بالإضافة ، والملائكة الواو حالية ، والملائكة مبتدأ وباسطو خبر ، وأيديهم مضاف اليه وهو مفعول به في المعنى ، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في الخبر ، وهو في غمرات الموت (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ) جملة أخرجوا أنفسكم منصوبة بقول مضمر ، أي : يقولون لهم تعنيفا وتقريعا ، وهذا القول في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في اسم الفاعل ، وهو باسطو ، وأنفسكم مفعول به ، واليوم ظرف زمان منصوب متعلق بأخرجوا أو بتجزون ، وجملة تجزون مستأنفة ، وهو فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وعذاب الهون مفعول به ثان ، وبما الباء حرف جر ، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بتجزون ، أي : بسببه ، وكان واسمها ، وجملة تقولون خبر كنتم ، وغير الحق نعت لمصدر محذوف ، أي : تقولون القول غير الحق (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) عطف على كنتم الأولى ، داخلة في حيز صلة الموصول ، وهو ما ، وعن آياته جار ومجرور متعلقان بتستكبرون ، وجملة تستكبرون خبر كنتم.


البلاغة :

في قوله : «غمرات الموت» استعارة تصريحية تمثيلية ، فقد استعار ما يغمر من الماء للشدة البالغة.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

اللغة :

(فُرادى) : اختلف علماء اللغة في فرادى : هل هو جمع أم لا! والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده ، فقال الفراء : فرادى جمع فرد وفريد وفردان ، وقال ابن قتيبة : هو جمع فردان كسكران وسكارى وعجلان وعجالى ، وقال قوم : هو جمع فريد كرديف وردافى ، وأسير وأسارى ، قاله الراغب. وقيل : هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى ، وقول من قال : إنه جمع له ، فإنما يريد في المعنى ، ومعنى فرادى : فردا فردا.

الاعراب :

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو استئنافية ،


واللام جواب قسم محذوف ، وجئتمونا فعل وفاعل ومفعول به ، والواو لإشباع ضمة الميم التي هي علامة جمع الذكور وفرادى منصوب على الحال من التاء ، أي فاعل جاء ، وكما خلقناكم يصح في الكاف ومجرورها ـ وهو المصدر المؤوّل من ما المصدرية والفعل ـ أن تكون في محل نصب نعت لمصدر محذوف ، أي : مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة ، وأن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جئتمونا ، وأول مرة منصوب على الظرفية الزمانية ، والعامل فيه خلقناكم ، ومرة في الأصل مصدر لمرّ يمرّ مرّة ، ثم اتسع فيها فصارت زمانا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) يجوز في الواو أن تكون استئنافية أو حالية ، والجملة إما مستأنفة لا محل لها ، أو في محل نصب على الحال من فاعل جئتمونا ، بتقدير : قد ، وتركتم فعل وفاعل ، وترك هنا يجوز أن تتعدى لواحد لأنها بمعنى التخلية لا التصيير ، أو بمعنى التصيير فتتعدى لمفعولين ، أولهما «ما» الموصولية ، والثاني الظرف ، فيتعلق بمحذوف أي : وصيّرتم بالترك الذي خوّلناكموه كائنا وراء ظهوركم ، وعلى الأول يتعلق الظرف بتركتم (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) الواو عاطفة ، وما نافية ، ونرى فعل مضارع مرفوع ، ومعكم ظرف مكان متعلق بنرى ، وشفعاءكم مفعول به ، والذين نعت ، وجملة زعمتم صلة الموصول ، وأن وما في حيزها سد مسد مفعولي زعم ، وأن واسمها ، وفيكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشركاء وقدم عليه ، وشركاء خبر أن (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) اللام جواب لقسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وتقطع فعل ماض وفاعله مضمر يعود على الاتصال الذي تدل عليه لفظة «شركاء» ، إذ يفهم منها الوصل ، أي :


الارتباط والتعلق ، والمعنى : لقد تقطع الاتصال بينكم ، وقرئ بالرفع ، وبينكم فاعل لأنه اسم غير ظرف ، وهو من الأضداد يستعمل للوصل والفراق ، أي : لقد تقطّع وصلكم. وضل الواو عاطفة ، وضل فعل ماض ، وعنكم جار ومجرور متعلقان بضل ، وما اسم موصول فاعل ، وجملة كنتم صلة الموصول ، وجملة تزعمون خبر كنتم ، ومفعولا تزعمون محذوفان ، والتقدير : تزعمونهم شفعاء ، وحذفا للدلالة عليهما ، على حدّ قول الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنّة

ترى حبهم عارا عليّ وتحسب

أي : وتحسبه عارا.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦))

اللغة :

(فالِقُ) اسم فاعل من فلق ، أي : شقّ الشيء ، وفيده الراغب بإبانة بعضه عن بعض ، أي : شاق الحبّ عن النبات ، فيشق الجبة فيخرج منها ورق أخضر ، ويشقّ النواة اليابسة فيخرج منها شجرة صاعدة في الهواء. والفرق بين الحب والنوى معروف ، فالأول كالحنطة والشعير ، والثاني كالخوخ والمشمش.


(تُؤْفَكُونَ) : تصرفون ، أي : كيف تصرفون عن الإيمان.

(الْإِصْباحِ) بكسر الهمزة : مصدر سمي به الصبح ، وقرئ بفتح الهمزة على أنه جمع صبح ، قال :

أفنى رياحا وبني رياح

تناسخ الإمساء والإصباح

وسيأتي المزيد من معناهما في باب البلاغة.

(حُسْباناً) : بضم الحاء مصدر حسب الحساب ، وتكسر هاؤه أيضا ، والحساب العدّ.

(سَكَناً) السكن : ما يسكن إليه من أهل ومال وغير ذلك ، وهو مصدر سكنت إلى الشيء من باب طلب. قال أبو الطيب :

بم التّعلّل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كأس ولا سكن

الاعراب :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كلام مستأنف مسوق لذكر الدلائل على كمال قدرته تعالى ، وأنه المبدع للأشياء. ومن كان هذا شأنه فهو المستحق للعبادة. وإن واسمها وخبرها ، والحب مضاف لفالق ، والإضافة غير محضة ، على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال ، فيكون الحب مجرور اللفظ منصوب المحل ، ويجوز أن تكون الإضافة محضة على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي ، لأن ذلك قد كان. والنوى عطف على الحب ، وجملة يخرج الحي يجوز أن تكون مستأنفة ، فلا محل لها ، ويجوز أن تكون في


محل رفع خبر ثان لإن ، ومن الميت جار ومجرور متعلقان بيخرج ، ومخرج عطف على فالق ، أي : الله فالق ومخرج ، ويجوز أن يعطف على يخرج ، لممالأة الكلام بعضه لبعض ، ولا بد حينئذ من تأويل الفعل بالاسم ليصح عطف الاسم عليه أو بالعكس. ومن الحي جار ومجرور متعلقان بمخرج (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الله هو فاعل ذلك كله ، والفاء استئنافية ، واسم الاشارة مبتدأ ، والله خبره ، والفاء استئنافية ، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال ، وتؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) فالق الإصباح نعت لله ، والإصباح مضاف إليه ، وجعل الواو عاطفة ، جعل فعل ماض ، والليل مفعوله الأول ، وسكنا مفعوله الثاني ، وفي قراءة ينسبونها إلى الجمهرة : «جاعل» بجر «الليل» بالإضافة مناسبة لقوله : «فالق الإصباح» ، ولك أن تنصب سكنا على الحال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) الواو عاطفة ، والشمس عطف على الليل ، وحسبانا عطف على سكنا ، ولك أن تنصب حسبانا على نزع الخافض ، والجار والمجرور في محل نصب على الحال ، أي : يجريان بحسبان ، وتدل عليه آية الرحمن كما سيأتي (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) الكلام مستأنف ، واسم الاشارة مبتدأ ، وتقدير خبره ، والعزيز مضاف إليه ، والعليم صفة.

البلاغة :

انطوت هذه الآية على فنون رائعة من فنون البيان :

١ ـ فن مخالفة الظاهر :

فقد جاءت «يخرج الحي من الميت» بالفعل ، وكان الظاهر


ورودها بصيغة اسم الفاعل ، أسوة بأمثالها من الصفات المذكورة من قوله : «فالق الإصباح» و «مخرج الميت من الحي» ، إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده ، وهو قوله.

«يخرج الحي من الميت» إرادة لتصوير إخراج الحيّ من الميت كالانسان والطائر من النطفة والبيضة ، واستحضاره في ذهن السامع كأنه يشهده بعيان ، وقد سبق التمثيل لهذا الفن بقوله : «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة» فعدل عن الماضي المطابق لقوله «أنزل» لهذا المعنى. ولا شك في أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة وأدل عليها من عكسه ، والنظر أول ما يبدأ فيه كإخراج النطفة والبيضة من الحيوان.

٢ ـ فن الاشكال :

وقد تقدمت الاشارة إليه في «آل عمران» ، والإشكال هنا مجيء «مخرج» على خلاف ما جاء عليه أمثاله ، ولم يأت كما أتى في آل عمران : «وتخرج» ، ولا كما جاء في «يونس» وكما جاء في «الروم». وعلى هذا يرد السؤال التالي : ما النكتة التي أوجبت مجيء هذا المكان على ما جاء عليه مخالفا لأمثاله؟ والجواب الذي يتضح به هذا الإشكال أن يقال : إنما جاء توخيا لحسن الجوار في النظم ، لأنه قال : فالق الحب والنوى ، وفالق الإصباح. والآية إنما سيقت للتمدّح بالقدرة المطلقة التي هي صفة ذاتية لله تعالى ، فكان التمدّح بها مع الإتيان بصيغة اسم الفاعل أبلغ من الإتيان بصيغة الفعل ، لما يدل عليه اسم الفاعل من المضيّ المطلق الدالّ على القدم ، فإن مجيء ذلك على ما جاء عليه يستفاد منه قدم القدرة ، ويلزم من


قدمها قدم الموصوف بها. ولما علم سبحانه أن تمدّحه بمجرد فلق الحب والنوى في بطن الأرض غير تام ، لأنه لا ينتفع به حتى يخرج نباته إلى ظاهر الأرض ، ويشاهد الناس قدرة مخرجه ومخترعه ، وصار قوله : «ومخرج الميت من الحي» مكملا ، وأتى في هذه الجملة باسم الفاعل ، وهذا من المعاجز التي تتقطّع دونها الأعناق.

٣ ـ فن الاستعارة التمثيلية :

وذلك بقوله : «فالق الإصباح» ، وخلاصتها أنه تعالى شبّه انشقاق عمود الفجر وانصداع الفجر بفلق الإصباح. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة ، فقال أبو تمام وتلاعب بهذا المعنى :

وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه

وأول الغيث قطر ثم ينسكب

يقول : إن أوائل الأمور تبدو قليلة ، ثم تكثر ، فينبغي الحرص من أول الأمر قبل بلوغ غايته. وأتبعه ببيت آية في الحسن فقال :

ومثل ذلك وجد العاشقين هوى

بالمزح يبدو وبالإدمان ينتهب

ومن النقاد من ينسب هذين البيتين إلى ابن الرومي ، يريد أن الوجد في أوله هوى وفي آخره نار.

٤ ـ تشبيه الليل بالسكن :

وفي تشبيه الليل بالسكن إعجاز يتجسد فيه عجز الإنسان ، فالكلمة القرآنية في تعبيرها عن المعنى المراد تمتاز عن سائر مرادفاتها


اللغوية بتطابق أتمّ من المعنى المراد ، ومهما استبدلت بها غيرها لم يسدّ مسدّها ، ولم يغن غناءها ، ولم يؤدّ الصورة التي كانت تؤدّيها.

وانظر الى طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة «سكنا» وتوالي الفتحات على حروفها ، كل ذلك يشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث على الطمأنينة ، وينشر الراحة في النفس.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨))

اللغة :

(يَفْقَهُونَ) : مضارع فقه الشيء ، بكسر القاف : إذا فهمه ولو أدنى فهم ، قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن «فقه» أنزل من «علم». وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته : فقهت؟أي فهمت؟ كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل : لا يفقه فلان شيئا ، كان أوغل في الذمّ في العرف من قولك : لا يعلم شيئا ، وكأن معنى قولك : لا يفقه شيئا ، ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك : لا يعلم شيئا ، فغايته نفي حصول العلم له ، وقد تكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم ، وسيأتي سرّ استعمال يفقهون هنا في باب البلاغة.


(مستقر) بفتح القاف ، لأنه اسم مكان أو مصدر ميمي بمعنى الاستقرار.

(مُسْتَوْدَعٌ) بفتح الدّال ، لأنه اسم مكان من استودع ، وسيأتي مزيد من معناهما في باب الاعراب.

الاعراب :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الواو حرف عطف ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجعل هنا بمعنى خلق فتتعدّى لواحد ، ولكم جار ومجرور متعلّقان بجعل ، والنجوم مفعول به ، ولتهتدوا اللام للتعليل والجر ، وتهتدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التّعليل ، والجار والمجرور متعلقان بجعل أيضا ، عن طريق البدلية الاشتمالية ، بإعادة العامل ، والتقدير : جعل لكم النجوم لاهتدائكم ، وفي ظلمات البر والبحر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : حال كونكم مدلجين في ظلمات الليل بالبر والبحر (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الجملة مستأنفة ، مسوقة للتأكيد على وجوب إفراغ الجهد في سبيل التعليم والهداية ، والآيات مفعول به ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بفصلنا ، وجملة يعلمون صفة لقوم (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) الواو عاطفة على ما تقدم ، وهو مبتدأ ، واسم الموصول خبره ، وجملة أنشأكم صلة الموصول ، ومن نفس جار ومجرور متعلقان بأنشأكم ، وواحدة صفة ، فمستقر الفاء واقعة في جواب الموصول لما فيه من رائحة الشرط ، ومستقر قرئ بفتح القاف ، فهو مبتدأ حذف خبره ، والتقدير : فلكم مستقر ، لأنه اسم مكان أو


مصدر ميمي ، ومن قرأ بكسر القاف والدال فهما اسم فاعل ، والتقدير : فمنكم مستقر ومستودع (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) تقدم إعرابها ، وسيأتي المزيد منها في باب البلاغة.

البلاغة :

التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بما خلق. ومعلوم أن للجهل حالين متغايرين : أولهما جهل لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها ، وثانيها جهل خارج عن أنفس النظار اي النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية ، فاذا تمهد ذلك سهل عليك أن تعرف أن جهل الإنسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر في تطوراتها أبشع من جهله الأمور الخارجة عنه ، كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم خصّ به أسوأ الفريقين ، وصار بالتالي تخصيص نفي أعلاها بالعلم بأسوأ الفريقين حالا.

وهذا من دقائق لغتنا العربية ، فاحرص عليه.

الفوائد :

وللشوكاني عبارة في «المستقر والمستودع» تروى الغليل قال :«قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي : بكسر القاف ، والباقون بفتحها ، وهما مرفوعان على أنها مبتدآن ، وخبرهما محذوف ، والتقدير : فمنكم مستقر ، أو فلكم مستقر ، التقدير الأول على القراءة الأولى ، والثّانية على الثّانية ، أي :فمنكم مستقر على ظهر الأرض ، أو فلكم مستقر على ظهرها ، ومنكم


مستودع في الرحم أو في باطن الأرض أو في الصلب. وقيل : المستقر ما كان في الرحم ، والمستودع ما كان في الصلب. وقيل : المستقر من خلق. والمستودع من لم يخلق والاستيداع إشارة الى كونهم في القبور الى البعث».

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

اللغة :

(خَضِراً) بكسر الضّاد ، صفة مشبهة ، يقال : أخضر وخضر كأعور وعور.

(مُتَراكِباً) يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها.

(قِنْوانٌ) جمع تكسير ، مفرده قنو كصنو وصنوان. وهذا الجمع يلتبس بالمثنّى في حال الوقف ، ويتميز بحركة النّون ، فنون المثنى مكسورة دائما ، ونون هذا الجمع تتوارد عليها الحركات الثلاث بحسب الإعراب. ويتميّزان أيضا في النسب ، فإذا نسبت الى المثنّى رددته الى المفرد فقلت : قنويّ ، وإذا نسبت الى الجمع أبقيته على حاله لأنه


جمع تكسير ، فنقول : قنوانيّ. ويتميزان أيضا بالإضافة ، فنون المثنّى تسقط لها بخلاف نون جمع التكسير ، فتقول في المثنى : هذان قنواك ، وفي الجمع : هذه قنوانك ، ويقال مثل هذا في : صنوان ، مثنى وجمعا ، والقنو بكسر القاف ، ويقال : بضمها : العذق ، وهو من النخل كالعنقود من العنب.

(دانِيَةٌ) سهلة المتجنى ، قريبة للقاطف.

(يَنْعِهِ) مصدر ينع بكسر النون ، فهي مكسورة في الماضي مفتوحة في المضارع ، أي : نضج واستوى. وقال أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن : إذا فتحت ياؤه هو جمع يانع ، كما التجر جمع تاجر ، والصّحب جمع صاحب ، وقد يجوز في مصدره ينوعا ، ومسموع من العرب : وأينعت الثمرة تونع إيناعا. ومن لغة الذين قالوا : ينع قول الشاعر يزيد بن معاوية في نصرانية ترهّبت في دير خرب عند الماطرون ، وهو موضع بالشام ، قال :

آب هذا الهمّ فاكتنفا

وأترّ النوم فامتنعا

راعيا للنجم أرقبه

فإذا ما كوكب طلعا

في قباب عند سكرة

حولها الزيتون قد ينعا

الى آخر هذه القصيدة الممتعة.

الاعراب :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) الواو عاطفة ، والكلام معطوف على ما قبلها لمناسبة أول الكلام آخره وذكر ما يحتاج اليه الناس في معاشهم ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ،


وجملة أنزل من السماء صلة ، وماء مفعول به ، والفاء عاطفة ، وأخرجنا فعل وفاعل ، وبه جار ومجرور متعلّقان بأخرجنا ، ونبات كل شيء مفعول به (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) الفاء : حرف عطف ، وأخرجنا فعل وفاعل ، ومنه جار ومجرور متعلقان بأخرجنا ، وخضرا مفعول به وجملة نخرج صفة لـ «خضرا» وعبر بالمضارع مع أن المقام للماضي لاستحضار الصورة القريبة ، وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة. ومنه جار ومجرور متعلقان بنخرج ، وحبا مفعول به ، ومتراكبا صفة. (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) الواو اعتراضية ، ومن النّخل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن طلعها بدل من الجار والمجرور قبله بإعادة الجار ، والبدل هنا بدل بعض من كل ، لأن الطلع أول ما يبدو للعيون منها ، وقنوان مبتدأ مؤخر ، ودانية صفة لقنوان ، والجملة معترضة سيقت للمنّة ، لأنه من أعظم أقوات العرب ، ولأنه جامع بين اللذة والقوت (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) الواو عاطفة ، وجنات عطف على نبات ، فهو منصوب ، أي : فأخرجنا بالماء النّبات ، وجنات ، فهو من عطف الخاص على العام ، ومن أعناب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، وكذلك الزيتون والرمان ، واختار الزمخشري أن ينصب الزيتون والرمان على الاختصاص تنويها بهذين الجنسين وتمييزا لهما ، ومشتبها حال ، والمراد تشابه أوراقهما ، وغير متشابه عطف عليه ، وقرأ بعضهم «وجنات» بالرفع ، وضعفها أبو جعفر الطّبري ، والرفع على عطفها على قنوان ، أو على أنها مبتدأ خبره محذوف ، أي : وثمّ جنات من أعناب ، وقدره أبو البقاء ومن الكرم جنات (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم مقدم ، وانظروا فعل أمر والواو فاعل ، وإلى ثمره جار ومجرور


متعلقان بانظروا ، وإذا ظرف مستقل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو انظروا وجملة أثمر في محل جر بالإضافة ، وينعه عطف على ثمره (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الكلام مستأنف مسوق لتعليل عبادته سبحانه ، وبيان قدرته البالغة. وإن حرف مشبه بالفعل ، وفي ذلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم ، واللّام المزحلقة ، وآيات اسم إن ، لقوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات ، وجملة يؤمنون صفة لقوم ، والإشارة تقع على جميع ما تقدم ذكره من قوله : «إن الله فالق الحب والنوى» إلى هنا.

البلاغة :

في الآية التفات بليغ بقوله : «فأخرجنا» ، وسره العناية بشأن هذا الإخراج والتنويه بالعظمة والقدرة البالغتين.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١))

اللغة :

(وَخَرَقُوا) : اختلقوا ، يقال : خلق الإفك وخرقه ، واختلقه وافتراه وافتعله ، بمعنى كذب ، وهو من باب ضرب.


(بَدِيعُ) وردت كلمة بديع في القرآن مرتين ، الأولى في البقرة ، في قوله : «بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» ، والثانية في هذه الآية ، ومعنى بديع في الآيتين منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق ، ولهذه المادة معان كثيرة تنتهي الى أمرين اثنين :

١ ـ الجدّة الّتي يدلّ عليها إنشاء الشيء ابتداء وعلى غير مثال سابق.

٢ ـ البراعة والغرابة التي يدلّ عليها العجيب ، قال عمر بن أبي ربيعة :

فأتتها فأخبرتها بعذري

ثم قالت : أتيت أمرا بديعا

الاعراب :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) كلام مستأنف مسوق في بيان موقفهم من خالقهم ، بعد أن بين المنن المسبغة عليهم ، وكيف خالفوا ما يقتضيه العقل السّليم. وجعلوا فعل وفاعل ، ولله : جار ومجرور متعلقان بشركاء أو حال منه ، وشركاء مفعول جعلوا الثاني ، وقدمه لاستعظام أن يتخذ لله شريك ، والجن هو المفعول الأول. (وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو حالية ، ولا بد من تقدير قد بعدها وخرقوا الواو حرف عطف ، وخرقوا فعل وفاعل ، وله جار ومجرور متعلقان بخرقوا ، وبنين مفعول به ، وبنات عطف على بنين ، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل خرقوا ، أي :


افتعلوا الكذب مصاحبين للجهل وهو عدم العلم ، والجملة عطف على جملة وخلقهم (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) سبحانه : مفعول مطلق لفعل محذوف ، أي تنزه تنزيها ، وتعالى عطف على الفعل المقدر العامل في سبحانه ، وعما جار ومجرور متعلقان بتعالى ، وجملة يصفون صلة الموصول ، والجملة التنزيهية مستأنفة (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان استحالة ما ينسونه إليه ، وتقرير تنزيهه عنه ، وبديع السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو بديع ، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف أو من أين ، في محل نصب حال ، ويكون فعل مضارع ناقص ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم ، وولد اسمها المؤخر وجملة أنى يكون له ولد استئنافية (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو عاطفة ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ولكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكن المقدم ، وصاحبة اسمها المؤخر ، وخلق كل شيء : هذه الجملة إما مستأنفة أو حالية ، وعلى الاعراب الأخير يكون المعنى : كيف ومن أين يكون له ولد والحال أنه خلق جميع الأشياء ومن جملتها ما سموه ولدا له ، فكيف يدور بخلد أحد أن يكون المولود ولدا لخالقه؟وهو : الواو عاطفة أو حالية ، وهو مبتدأ ، وبكل شيء جار ومجرور متعلقان بعليم ، وعليم خبر «هو».

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))


الاعراب :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الكلام مستأنف ، وهو وما بعده سرد لتقرير نعته سبحانه بهذه الأوصاف السّامية ، واسم الإشارة مبتدأ ، والله خبر أول ، وربكم خبر ثان ، وجملة لا إله إلا هو خبر ثالث ، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة ، فجدّد به عهدا (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) خالق كل شيء خبر رابع ، فاعبدوه : الفاء تعليلية ، واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها لبيان سبب العبادة ، وهو الواو عاطفة ، وهو مبتدأ ، وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بوكيل ، ووكيل خبر هو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الجملة خبر خامس ، وتدركه الأبصار فعل ومفعول به مقدم وفاعل ، وهو يدرك : الواو عاطفة ، وهو مبتدأ ، وجملة يدرك الأبصار خبره ، وهو : الواو حرف عطف ، وهو مبتدأ ، واللطيف خبر أول ، والخبير خبر ثان.

البلاغة :

في الآية الثانية فنون عديدة من البلاغة نوجزها فيما يلي :

١ ـ المناسبة :

وهي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ، ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ ، فإن معنى نفي إدراك الأبصار للشيء يناسب اللطف ، وهذا الكلام خرج مخرج التمثيل ، لأن المعهود عند المخاطب أن البصر لا يدرك الأجسام اللطيفة كالهواء وسائر العناصر ، ولا الجواهر


المفردة ، إنما يدرك اللّون من كلّ متلوّن ، والكون من كلّ متكوّن ، فجاء هذا التّمثيل ليتخيّله السّامع فيقيس به الغائب على الشّاهد ، وكذلك قوله تعالى : «وهو يدرك الأبصار» فإن ذلك يناسبه وصف المدرك بالخبرة.

٢ ـ فن الاحتراس :

فإنه سبحانه لما أثبت له إدراك الأبصار اقتضت البلاغة فن الاحتراس تفاديا لأن يظنّ ظانّ أنه إذا لم يكن مدركا لم يكن موجودا ، فوجب أن تقول «وهو يدرك الأبصار» لتثبت لذاته الوجود.

٣ ـ فن اللفّ والنّشر :

وسماه بعضهم «فن تشابه الأطراف» ، فقوله : «اللّطيف» راجع الى قوله : «لا تدركه الأبصار» ، وقوله : «الخبير» راجع الى قوله : «وهو يدرك الأبصار».

٤ ـ فن التّعطّف :

الذي هو قوله : «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» لمجيء الأبصار في أول الكلام وآخره.

٥ ـ فن المطابقة :

بين قوله «لا تدركه الأبصار» وقوله : «وهو يدرك الأبصار».

فقد استكملت الآية خمسة فنون تامة من فنون البلاغة.


الفوائد :

هذه الآية أقوى دلائل المعتزلة في الأدلّة السّمعيّة على أن الله تعالى لا يرى ، لأنها صريحة. والجواب : إن الآية الأخرى تناقضها وهي قوله تعالى : «وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة» وأما شبهتهم في قوله تعالى : «لا تدركه الأبصار» فقد أجاب الأشاعرة عنها ، بأن قوله : «لا تدركه الأبصار» نقيض لقوله تعالى : «يدرك الأبصار» يقتضي أن كلّ أحد لا يبصره ، لأن الألف واللّام إذا دخلتا على الجمع أفادتا الاستغراق ، ونقيض السالبة الكلّية الموجبة الجزئية ، فكان معنى قوله : «لا تدركه الأبصار» : لا تدركه كل الأبصار ، ونحن نقول بموجبه ، فإن جميع الأبصار لا تراه ، ولا يراه إلّا المؤمنون ، وهذه النكتة هي معنى قولهم : سلب العموم لا يفيد السلب.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))


اللغة :

(بَصائِرُ) : جمع بصيرة ، وهي نور القلب الذي به يستصر ، والبصر نور العين الذي به تبصر ، وتطلق على العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة ، يقال : جوارحه بصيرة عليه ، وفراسة ذات بصيرة أي : صادقة. وفي القاموس : البصر محركة : حس العين ، والجمع أبصار ، مثل : سبب وأسباب.

الاعراب :

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق على لسان النبي ، والمراد بها آيات القرآن ، وقد حرف تحقيق ، وجاءكم بصائر فعل ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخّر ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بجاءكم ، أو بمحذوف صفة لبصائر (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) الفاء استئنافية للتفصيل ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، وأبصر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطة للجواب ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فالإبصار لنفسه ، ومثله : ومن عمي فعليها ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) الواو استئنافية ، ويجوز أن تكون حالية ، وما نافية حجازية ، وأنا ضمير منفصل في محل رفع اسمها ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بحفيظ ، والباء حرف جر زائد ، وحفيظ اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية ، والكاف في


محل نصب نعت لمصدر محذوف ، أي : تصريفا مثل ما صرفناها فيما يتلى عليكم ، والآيات مفعول به ، والواو حرف عطف ، واللام هي لام التعليل ، والفعل بعدها يقولوا منصوب بإضمار أن ، وسماها ابن عطية وأبو البقاء : لام العاقبة أو الصيرورة ، وجملة ليقولوا معطوفة على مقدر ، أي : ليعتبروا وليقولوا ، وجملة درست في محل نصب مقول القول ، ولنبينه : الواو عطف على اللام الأولى ، والجار والمجرور متعلقان بنصرف ، وسيأتي الفرق بين اللامين في باب البلاغة.

والضمير في «لنبينه» يعود للقرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنبينه ، وجملة يعلمون صفة لقوم (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الجملة مستأنفة لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ، و «ما» يجوز فيها أن تكون اسم موصول في محل نصب على المفعولية لاتبع ، والعائد هو نائب فاعل أوحي ، والجملة صلة الموصول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، فيكون الجار والمجرور هما نائب الفاعل ، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي كائنا من ربك ، وجملة لا إله إلا هو معترضة ، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة كثيرا. وأعرض عطف على اتبع ، وعن المشركين جار ومجزور متعلقان بأعرض (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) الواو استئنافية أو حالية ، ولو شرطية ، وشاء ربك فعل وفاعل ، ومفعول المشيئة محذوف ، والتقدير عدم إشراكهم ، وجملة ما أشركوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الواو عاطفة ، وما نافية ، وجعلناك فعل وفاعل ومفعول به أول ، وحفيظا مفعول جعلنا الثاني ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بـ «حفيظا». (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) عطف على ما تقدم ، وقد تقدم إعرابها قريبا.


البلاغة :

قال الزمخشري : وهو من عيون النكت التي جاء بها : «فإن قلت : أي فرق بين الامين في ليقولوا ولنبينه؟ قلت : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صرفت للتبين ، ولم تصرف ليقولوا ، درست ، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين به شبه به فسيق مساقه».

الفوائد :

في قوله «درست» ثلاث عشرة قراءة ، ثلاث منها متواترة ، وعشر منها شاذة ، وقد أدرجناها باختصار :

الثلاث المتواترة :

١ ـ درست بوزن ضربت ، مبنيا للفاعل ، والتاء للفاعل ، أي : درست يا محمد.

٢ ـ درست والتاء تاء التأنيث الساكنة ومعناها بليت وتكررت في الأسماع.

٣ ـ دارست : بوزن قاتلت ، أي : دارست يا محمد غيرك.

العشر الشّاذّة :

١ ـ درّست : بالتشديد والخطاب ، أي : درست الكتب القديمة.

٢ ـ درّست : مشدّدا مبنيا للمجهول المخاطب.


٣ ـ دورست : بالتخفيف والواو مبنيا للمجهول.

٤ ـ دورست : مبنيا للمجهول مسندا لضمير الآيات.

٥ ـ دارست : بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل.

٦ ـ درست : بفتح الدال وضم الراء ، مسندا إلى ضمير الآيات.

٧ ـ درس : فاعله النبيّ.

٨ ـ درسن : مسند لنون الإناث ، وهي ضمير الآيات.

٩ ـ درّسن : كالذي قبله ، إلا أنه بالتشديد ، بمعنى : اشتد درسها.

١٠ ـ دارسات : جمع دارسة ، بمعنى : قديمات ، أو بمعنى : ذات دروس.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩))

اللغة :

(عَدْواً) : ظلما واعتداء.


(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : الجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة.

(يُشْعِرُكُمْ) : يدريكم ويعلمكم.

الاعراب :

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن أمر هو واجب في حد ذاته ، ولكنه يؤدّي إلى سبّ الله تعالى ، فلذلك جرى النهي عنه ، ورب طاعة جرت إلى معصية. ولا ناهية ، وتسبوا فعل مضارع مجزوم بها ، والواو فاعل ، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة يدعون صلة الموصول ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء هي السببية ، ويسبوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ، لأنها مسبوقة بالنهي ، أي : لا تسبوا آلهتهم فقد يترتب على ذلك ما تكرهون من سب الله. ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ، ويسبوا معطوفة على تسبوا ، ولفظ الجلالة مفعول به ، وعدوا منصوب على المصدر لأنه مرادفه ، ويصح أن يكون مفعولا لأجله ، أي : لأجل الاعتداء ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، لأن السب لا يكون إلا عدوا. وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال مؤكدة (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) كذلك الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف ، أي : زينا لهؤلاء أعمالهم تزيينا مثل تزييننا لكل أمة عملهم ، وزينا فعل وفاعل ، ولكل أمة جار ومجرور متعلقان بزينا ، وعملهم مفعول به ، والجملة نصب على الحال (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم عاطفة للترتيب مع التراخي ، والعطف على محذوف تقديره : فأتوه ، وإلى ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف


خبر مقدم ، ومرجعهم مبتدأ مؤخر ، فينبئهم الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب لتقرير أن التوبيخ والتقريع تابعان للمرجع بسرعة لا هوادة فيها ، وينبئهم فعل مضارع والهاء مفعول به أول ، وبما جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لينبئهم ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وجملة يعلمون خبر كانوا (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الواو استئنافية ، وأقسموا فعل وفاعل ، وبالله جار ومجرور متعلقان بأقسموا ، وجهد أيمانهم منصوب على المصدرية ، أي : أقسموا جهد اقساماتهم ، والأيمان بمعنى الاقسامات ، كما تقول : ضربته أشدّ الضربات ، وقيل :مصدر في موضع الحال ، أي : أقسموا مجتهدين في أيمانهم ، وقال المبرد : منصوب بفعل من لفظه ، وأيمانهم مضاف إليه ، من إضافة المصدر لمفعوله (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) اللام موطئة للقسم ، وإن شرطية وجاءتهم فعل الشرط ومفعوله ، وآية فاعل ، وليؤمنن : اللام واقعة في جواب القسم ، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم ، لأنه متقدم على الشرط ، ويؤمنن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال ، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل ، والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة ، وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنن ، قل فعل أمر ، والجملة مستأنفة ، وإنما كافة ومكفوفة ، والآيات مبتدأ ، وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة التي دعت إلى أن يكون الجواب على هذا الشكل ، وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ، وجملة يشعركم خبرها ، والكاف مفعول أول ليشعركم ، وأنّ وما في حيزها في موضع المفعول الثاني ، وإذا ظرف متعلق بيؤمنون ، وجملة لا يؤمنون خبر أنها. وسيأتي مزيد من القول في هذا التركيب المعجز.


الفوائد :

كثر اختلاف العلماء حول هذا التركيب المعجز ، وسنختار ما هو أكثر ملاءمة للمنطق والذوق ، فقد مثل بعضهم لهذا التركيب بمثال وهو : إذا قال لك قائل أكرم فلانا فإنه يكافئك ، وأنت تعلم منه نفيها ، قلت في الجواب : وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني ، فتنكر عليه إثبات المكافأة ، فإن انعكس الأمر فقال لك : لا تكرمه فإنه لا يكافئك ، وكنت تعلم منه المكافأة ، فأنكرت على المشير بحرمانه ، قلت : وما يدريك أنه لا يكافئني ، تريد : وأنا أعلم منه المكافأة ، فكان مقتضى الإنكار على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المقترحة أن يقال : وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، بإسقاط «لا» ، فلما جاءت الآية على هذا الشكل ، اختلف العلماء ، فحمل بعضهم «لا» على أنها زائدة ، وبعضهم أوّل «أنّ» بـ «لعل» من قول العرب : أئت السوق أنك تشتري لحما ، واستشهدوا بقول امرئ القيس :

عوجا على الطّلل المحيل لأننا

نبكي الديار كما بلى ابن حزام

أي : لعلنا ، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف ، وقد تفتح همزة أن بعد القسم ، فقال : التقدير : والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. والأصح أن الآية باقية على ظاهرها ، وأن هذا كله مجرد تكلّف ، ولإيضاح ذلك يقال : إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام ، بناء على أن المشير يظن المكافأة ، فلك معه حالتان : حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه ، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علما ، فان أنكرت عليه قلت : وما يدريك أنه


بكافئ ، وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافىء قلت : وما يدريك أنه لا يكافىء؟ يعني ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته ، وأنت لم تخبر أمره خبري ، ولم تسبر غوره سبري؟ فكذلك الآية ، إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى ، وهو عدم إيمان هؤلاء ، فاستقام دخول «لا» وتبيّن أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار ، وهذا من أسمى دلائل الإعجاز.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

اللغة :

(يَعْمَهُونَ) : مضارع «عمه» في طغيانه عمها ، من باب تعب :إذا تردّد متحيرا ، وهو مأخوذ من قولهم : أرض عمهاء ، إذا لم تكن فيها أمارات النجاة ، فهو عمه وأعمه.

الاعراب :

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو استئنافية أو عاطفة ، ونقلب فعل مضارع ، وأفئدتهم مفعوله ، وأبصارهم عطف على أفئدتهم ، وكما الجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره : فلا يؤمنون كما كانوا عند نزول الآيات على مقترحهم الأول ،


لكونهم مطبوعا على قلوبهم ، فهو مفعول مطلق ، وما مصدرية ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويؤمنوا فعل مضارع مجزوم بلم ، وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا وأول مرة ظرف زمان متعلق بيؤمنوا (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو عاطفة ، ونذرهم عطف على لا يؤمنون ، داخل في نطاق الإنكار ، مقيّد بما تقيد به ، وفي طغيانهم جار ومجرور متعلقان بيعمهون ، وجملة يعمهون حال ، أي متحيرين.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١))

اللغة :

(قُبُلاً) بضمتين جمع قبيل ، ونظيره : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب ، أو جمع قبيل ، بمعنى كفيل.

الاعراب :

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) الواو استئنافية ، ولو شرطية ، وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف ، أي : يثبت.

وجملة نزلنا إليهم الملائكة خبر أن ، وكلّمهم عطف على نزلنا ، وذلك ما اقترحوه عند ما قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة والموتى فاعل (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) الواو عاطفة أيضا ، وحشرنا فعل


وفاعل ، معطوف على نزلنا ، أي : كما قالوا أيضا. وعليهم جار ومجرور متعلقان بحشرنا ، وكل شيء مفعول به ، وقبلا حال ، أي :فوجا فوجا ، أو كفلاء ، كما تقدم في باب اللغة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وما نافية ، واللام لام الجحود ، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود ، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو الخبر ، أي :ما كانوا أهلا للإيمان ، وإلا أداة استثناء من أعم الأحوال ، فهو استثناء متصل ، والمعنى : ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله ، فأن وما بعدها مصدر في موضع نصب على الحال ، أو استثناء من أعم الأزمنة ، فالمصدر في موضع نصب على الظرفية الزمانية ، إلا في زمان مشيئة الله ، أو استثناء من علة عامة ، أي :ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله الإيمان ، فهو مفعول لأجله ، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا ، وتكون أن ومدخولها في تأويل مبتدأ محذوف الخبر ، أي : لكن مشيئة الله تحصل ، وحجة القائلين بذلك أن مشيئة الله ليست من جنس إرادتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الواو حالية أو استئنافية ، ولكن واسمها ، وجملة يجهلون خبرها.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ


بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

الاعراب :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عمّا شاهده من عداء قريش له ، وما يبيتونه من مؤامرات. والكاف في محل نصب على أنها مع مدخولها نعت لمصدر محذوف مؤكد لما بعده ، وجعلنا فعل وفاعل وهو يتعدى لمفعولين ، ولكل نبي جار ومجرور في موضع نصب على الحال لأنه كان في الأصل صفة لـ «عدوا» ، وعدوا مفعول جعلنا الثاني ، وشياطين الإنس والجن مفعول جعلنا الأول (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) يجوز أن تكون الجملة مستأنفة لبيان حال العدو ، وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية بينهم ، وجعل تمويههم زخرفا من القول لتزيينهم إياه ، ويجوز أن تكون حالا منه ، ويوحي فعل مضارع ، وبعضهم فاعل ، وإلى بعض جار ومجرور متعلقان بيوحي ، وزخرف القول مفعول به ، وغرورا مفعول لأجله ، أي : ليغرّوهم ، أو مصدر في موضع نصب على الحال ، أي غارّين ، أو على المفعولية المطلقة ، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض : يغرونهم بذلك غرورا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الواو استئنافية ، ولو شرطية ، وشاء ربك فعل وفاعل وهو شرط لو ، ومفعوله محذوف ، وقد تقدم بحثه ، وجملة ما فعلوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والفاء هي الفصيحة ، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ، والهاء مفعول به ، والواو عاطفة ، وما اسم موصول معطوف على الهاء في


فذرهم ، أي : اتركهم واترك الذي يفترونه ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، وما مفعول معه ، ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي :اتركهم واترك افتراءهم. وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الواو عاطفة ، واللام للتعليل ، وتصغى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور عطف على «غرورا» ، وإنما لم ينصب على أنه مفعول لأجله لاختلاف الفاعل ، ففاعل تصغى المغرور وفاعل الأول الفارّون ، ولأنه ليس صريح المصدرية ، ففات شرطان من شروط نصب المفعول لأجله ، ومعنى تصغى : تميل ، وإليه جار ومجرور متعلقان بتصغى ، وأفئدة فاعل تصغى ، والذين مضاف إليه ، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول ، وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) عطف على «غرورا» أيضا ، أي : فاللام للتعليل ، وهي مكسورة ، و «أن» مقدرة بعدها جوازا في الأفعال الثلاثة ، وترتيبها حسن للغاية وفي منتهى الفصاحة ، لأنه يكون أولا الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الاقتراف ، فكل واحد مسبّب عما قبله ، وجنح الزمخشري إلى تسمية هذه اللامات بلام الصيرورة أو العاقبة ، وليس ببعيد.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ


بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))

اللغة :

(حَكَماً) : حاكما لا يحكم إلا بالعدل ، وهو أبلغ من حاكم ، لأن الحكم لا يحكم إلا بالعدل ، والحاكم قد يشتطّ ويجور ، أو لأن الحكم تكرر منه ، بخلاف الحاكم فإنه يصدق بمرّة واحدة ، وقد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه الكلمة بقوله :

يا أعدل الناس إلّا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

الاعراب :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) الجملة عطف على مقدّر يقتضيه سياق الكلام ، أي قل لهم : أأميل إلى زخارف الدنيا فأبتغي حكما؟ والهمزة للاستفهام الإنكاري ، فهي مقول قول محذوف ، وجملة القول مستأنفة ، وغير الله مفعول به مقدم لأبتغي ، وحكما حال أو تمييز ، ويجوز أن يكون «حكما» هو المفعول به ، و «غير» حال من «حكما» لأنه في الأصل وصف له (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) الواو للحال ، والجملة حال مؤكدة للإنكار ، وهو مبتدأ ، والذي خبر ، وجملة أنزل صلة لا محل لها ، وإليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل ، والكتاب مفعول به ، ومفصلا حال من الكتاب


(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة من الله تعالى لتقرير كون الكتاب حقيقة منزلة من عنده تعالى ، والذين اسم موصول مبتدأ ، وجملة آتيناهم صلة الموصول ، والكتاب مفعول به ثان ، وجملة يعلمون خبر اسم الموصول ، وأنّ واسمها وخبرها ، وقد سدت مسد مفعولي يعلمون ، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمنزل ، بالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المرفوع في «منزل» والذي هو نائب فاعل ، والفاء في «فلا» الفصيحة ، أي : إذا علمت هذا وتأكدت منه فلا تكونن ، ولا ناهية ، وتكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية ، واسمها ضمير مستتر تقديره أنت ، ومن الممترين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، والخطاب ، وإن كان في ظاهر الكلام موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه موجّه في الواقع إلى أمته (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان كمال الكتاب ، وكلمة ربك فاعل تمت ، وصدقا وعدلا حال ، وأعربهما أبو البقاء والطبريّ تمييزا ، وتبعهما الجلال ، وردّ ابن عطية هذا القول ، وقال : «وهو غير صواب». ولعل مراده أن كلمات الله من شأنها الصدق والعدل ، والتمييز إنما يفسر ما انبهم ، وليس في ذلك إبهام. وأعربهما الكواشي حالا من «ربك» أو على المفعولية من أجله ، وإذا أعربناهما حالين فلا بد من تأويلهما بمعنى المشتق ، أي صادقا وعادلا ، واقتصر الزمخشري على الحالية.

قلت : ولا أرى بعيدا أن ينصبا على نزع الخافض ، أي بالصدق والعدل ، تفادا للتأويل ، أو على أنهما نعتان لمصدر محذوف ، أي :


نمام صدق وعدل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الجملة حالية من فاعل تمت ، أو مستأنفة ، ولا نافية للجنس ، ومبدل اسمها المبني على الفتح ، ولكلماته جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «لا».

وهو السميع العليم الواو استئنافية ، وهو مبتدأ ، والسميع خبر أول ، والعليم خبر ثان.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

اللغة :

(يَخْرُصُونَ) : يكذبون ، من الخرص : وهو الحزر والتخمين.

وسمي الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكواذب ، وقد خرص يخرص وبابه نصر ، واخترص القول وتخرّصه : افتعله.

الاعراب :

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الواو عاطفة. وإن شرطية ، وتطع فعل الشرط ، وأكثر مفعول به ، ومن اسم موصول في محل جر بالإضافة ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، ويضلوك جواب الشرط مجزوم ، والواو


فاعل ، والكاف مفعول به ، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيضلوك (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الجملة مستأنفة لا محل لها وإن نافية ، ويتّبعون فعل مضارع مرفوع ، والواو فاعله ، وإلا أداة حصر ، والظن مفعول به والواو حرف عطف ، وإن نافية ، وهم مبتدأ وإلا أداة حصر ، وجملة يخرصون خبرهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الجملة مستأنفة لتقرير مضمون الجملة الشرطية. وإن واسمها ، وهو مبتدأ وأعلم خبر ، والجملة خبر «إن» ، أو «هو» ضمير فصل ، وأعلم خبر «إن» ، ومن اسم موصول منصوب بفعل مقدر لا بنفس أعلم ، لأن اسم التفضيل لا ينصب الظاهر في مثل هذه الصورة وسيأتي مزيد من بحث هذا الإعراب في باب الفوائد ، والتقدير : يعلم من يضل ، وجملة يضل صلة الموصول ، وعن سبيله جار ومجرور متعلقان بيضل ، وهو مبتدأ ، وأعلم خبر وبالمهتدين جار ومجرور متعلقان بأعلم.

الفوائد :

شغلت هذه الآية المعربين والمفسرين ، وسنلخص لك ما قيل في هذا الصدد. فقد قال بعضهم : إن «أعلم» في الموضعين بمعنى يعلم قال حاتم الطائي :

فحالفت طيء من دوننا حلفا

والله أعلم ما كنا لهم خولا

وقيل : إن اسم التفضيل على بابه ، والنصب بفعل مقدر ، كما اخترنا في باب الإعراب ، وقيل : إنها منصوبة باسم التفضيل على مذهب الكوفيين. ويشكل على ذلك أن الإضافة تقتضي أن الله بعض الضالين ، تعالى عن ذلك ، وقيل : في محل نصب بنزع الخافض ، أي : بمن يضل ،


وقيل في محل جر بإضافة اسم التفضيل إليها ، وقيل : «من» في موضع رفع ، وهي استفهامية في محل رفع مبتدأ ، والخبر جملة يضل : والجملة في موضع نصب أو معلقة عن العمل بـ «أعلم» ، أي : أعلم أي الناس يضل : كقوله تعالى : «لنعلم أي الحزبين»؟ فتدبّر ، والله يعصمك.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩))

الاعراب :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) الفاء هي الفصيحة ، لأنها أفصحت عن شرط مقدر ، والتقدير : إذا كنتم متحقفين بالإيمان فكلوا. وهذا الأمر مرتب على النهي عن اتباع المضلّين الذين يحرّمون الحلال ويحللون الحرام. ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا ، وجملة ذكر اسم الله عليه صلة الموصول ، واسم الله نائب فاعل ذكر ، وعليه جار ومجرور متعلقان بذكر ، وإن شرطية ، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، والتاء اسمها ، ومؤمنين خبرها ، وبآياته جار ومجرور متعلقان بمؤمنين ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : فكلوا (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)


كلام مستأنف مسوق للتأكيد على إباحة ما ذبح على اسم الله. وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «ما» ، وأن لا تأكلوا مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض ، أي : في أن لا تأكلوا ، ولما حذف حرف الجر كان في موضع نصب ، والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به «لكم» الواقع خبر لـ «ما» الاستفهامية ، ومما جار ومجرور متعلقان بتأكلوا ، وجملة ذكر اسم الله عليه صلة الموصول (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الواو حالية ، وقد حرف تحقيق ، وفصل فعل ماض وفاعل مستتر ، ولكم جار ومجرور متعلقان بفصّل ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة حرم عليكم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإلا أداة استثناء ، وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، وجملة اضطررتم إليه صلة الموصول ، ولك أن تجعله استثناء من ضمير «حرّم» ، وما مصدرية في معنى المدة ، أي الأشياء التي حرّمت عليكم إلا اضطرارا إليها ، كما فصله في آية حرمت عليكم الميتة ، فيكون الاستثناء متصلا ، ولعل هذا أولى ، لأن الاستثناء من الجنس ، وجملة اضطررتم لا محل لها على كل حال ، وإليه جار ومجرور متعلقان باضطررتم المبني للمجهول ، والتاء نائب فاعل ، والجملة كلها نصب على الحال (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو عاطفة أو حالية ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وجملة يضلون خبر إن ، وبأهوائهم جار ومجرور متعلقان بيضلون ، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : متلبسين بالجهل.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها ، وإن واسمها ، وهو مبتدأ ، أو ضمير فصل وأعلم خبر هو ، أو خبر إن ، وبالمعتدين جار ومجرور متعلقان بأعلم.


(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

الاعراب :

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الواو عاطفة على ما تقدم ، وذروا فعل أمر ، والواو فاعل ، وظاهر الإثم مفعول به ، وباطنه عطف على ظاهر (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها ، وإن واسمها ، وجملة يكسبون صلة الموصول ، والإثم مفعول به ، وجملة سيجزون خبر إن ، وبما جار ومجرور متعلقان بيجزون ، وجملة كانوا صلة الموصول ، والواو اسم كان ، وجملة يقترفون خبرها ، والعائد محذوف ، أي : يقترفونه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، ومما جار ومجرور متعلقان بتأكلوا ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويذكر فعل مضارع مجزوم بلم ، واسم الله نائب فاعل يذكر ، وعليه جار ومجرور متعلقان بيذكر ، وإنه الواو حالية ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وفسق خبر إن ، والضمير في «إنه» يعود إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي ،


أي : الأكل ، أو من «ما» ، أي : من متروك التسمية. وسيأتي مزيد من القول في هذه المسألة (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الواو عاطفة على «وإنه لفسق» ، أو استئنافية ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وجملة يوحون خبر «إن» ، وإلى أوليائهم جار ومجرور متعلقان بيوحون ، واللام للتعليل ، ويجادلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بـ «يوحون» أيضا (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وأطعتموهم فعل وفاعل ومفعول به ، في محل جزم فعل الشرط ، والتاء فاعل ، والواو لإشباع الضمة ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، ومشركون خبرها ، ولم يقترن جواب الشرط بالفاء لأمرين : أولهما أن لام التوطئة للقسم مقدرة قبل إن الشرطية ، لذلك أجيب القسم المقدر بقوله : «إنكم لمشركون» ، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسدّه ، وقال أبو البقاء : حذف الفاء من جواب الشرط ، وهو حسن ، إذا كان الشرط بلفظ الماضي ، وسيأتي مزيد بحث بهذا الصدد في باب الفوائد.

الفوائد :

١ ـ شغلت الواو في قوله تعالى : «وانه لفسق» المفسرين والمعربين والفقهاء بما لا يتسع صدر هذا الكتاب له ، وقد اخترنا ما رأيناه أدنى إلى الفهم ، ونرى من المفيد أن نلمح إلى خلافهم إلماحا سريعا ، وعلى من يريد الاستيعاب أن يرجع إلى المطوّلات.


عبارة السمين :

قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين : «قوله : وإنه لفسق ـ هذه الجملة فيها أوجه :

١ ـ انها مستأنفة : قالوا لا يجوز أن تكون نسقا على ما قبلها ، لأن الأولى طلبية ، وهذه خبرية ، وتسمى هذه الواو واو الاستئناف.

٢ ـ أنها منسوقة على ما قبلها ، ولا يبالي نتجا لفهمها ، وهو مذهب سيبويه.

٣ ـ أنها حالية : لا تأكلوه والحال أنه فسق».

وعلى أساس هذه الأوجه اختلف الفقهاء في جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه :

١ ـ فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركها عمدا أو نسيانا ، وهو قول ابن سيرين والشعبي ومالك بن أنس ، ونقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام ، واحتجوا عليه بظاهر هذه الآية.

٢ ـ وقال الثوري وأبو حنيفة : إن ترك التسمية عامدا لا تحل ، وإن تركها ناسيا حلّت.

٣ ـ وقال الشافعي : تحل الذبيحة سواء أترك التسمية عامدا أو ناسيا. ونقله ابن الجوزيّ عن أحمد بن حنبل.


ما نقله الرازي عن الشافعي :

وذكر الرازي في كتابه : مناقب الشافعي : أن مجلسا ضمه وجماعة من الحنفية ، وأنهم زعموا أن قول الشافعي بحل أكل متروك التسمية مردود بقوله تعالى : «ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق» ، فقال : فقلت لهم : لا دليل فيها ، بل هي حجة للشافعي ، وذلك لأن الواو ليست للعطف ، لتخالف الجملتين الاسمية والفعلية ، ولا للاستئناف ، لأن أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها ، فبقي أن تكون للحال ، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي ، والمعنى : لا تأكلوا منه في حالة كونه فسقا ، ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقا.

ما يقوله الزمخشري :

وقال الزمخشري في كشّافه : «فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد قلت : قد تأوّله هؤلاء بالميتة ، وبما ذكر غير اسم الله عليه ، كقوله : «أو فسقا أهل لغير الله به». وواضح أن الزمخشري حنفي ، فهو ينتصر لمذهبه. ويطول بنا القول إن رحنا نورد حجج الفريقين ، مما لا يندرج في نطاق كتابنا ، وحسبنا ما تقدم.

٢ ـ كل جواب يمتنع جعله شرطا فإن الفاء تجب فيه ، لأن معناها التعقيب بلا فصل ، كما أن الجزاء يتعقب فعل الشرط كذلك ، وذلك في المواضع الآتية :

١ ـ الجملة الاسمية نحو قوله تعالى : «وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير».


٢ ـ الجملة الطلبية ، نحو قوله تعالى : «إن كنتم تحبون الله فاتبعوني».

٣ ـ الجملة التي فعلها ماض ، لفظا ومعنى ، وحينئذ يجب أن يكون مقترنا بـ «قد» ظاهرة ، نحو قوله تعالى : «إن يسرق فقد سرق» ، أو مقدّرة ، نحو قوله تعالى : «إن كان قميصه قد من قبل فصدقت» أي : فقد صدقت.

٤ ـ الجملة التي فعلها جامد ، نحو قوله تعالى : «إن ترني أنا أقلّ منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنّتك».

٥ ـ الجملة التي فعلها مقترن بـ «قد» ، نحو قوله تعالى : «إن يسرق فقد سرق».

٦ ـ الجملة التي فعلها مقترن بما النافية ، نحو قوله تعالى : «فإن توليتم فما سألتكم من أجر».

٧ ـ الجملة التي فعلها مقترن بـ «لن» ، نحو قوله تعالى : «وما يفعلوا من خير فلن يكفروه».

٨ ـ الجملة التي فعلها مقترن بالسين ، نحو قوله تعالى : «ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا».

٩ ـ الجملة التي فعلها مقترن بسوف ، نحو قوله تعالى : «وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله».

١٠ ـ الجملة التي فعلها مصدر بـ «ربّ» ، نحو : «إن تجيء فربما أجيء».


١١ ـ الجملة التي فعلها مصدر بكأنما ، نحو قوله تعالى :«أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».

١٢ ـ الجملة التي فعلها مصدّر بأداة شرط ، نحو قوله تعالى :«وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية».

وقد تحذف الفاء في الندرة كقوله صلى الله عليه وسلم لأبّي ابن كعب لما سأله عن اللقطة : «فإن جاء بها صاحبها وإلا استمتع بها».

أو في الضرورة كقول حسان بن ثابت :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

أراد فالله يشكرها.

هذا وقد تخلف فاء الجزاء إذا الفجائية إن كانت الأداة «إن» ، نحو قوله تعالى : «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون».

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢))


الاعراب :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) كلام مستأنف مسوق للتمثيل لحال الكافر والمؤمن. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والواو عاطفة على جملة منتزعة من قوله : «وإن أطعتموهم» والتقدير : أأنتم مثلهم ، لتستوي الجملتان في الاسمية.

من اسم موصول في محل رفع مبتدأ ، وجملة كان صلة الموصول ، وميتا خبر كان ، فأحييناه الفاء عاطفة ، وأحييناه فعل وفاعل ومفعول به ، وجعلنا عطف على قوله فأحييناه ، وله جار ومجرور في موضع نصب مفعول جعلنا الأول ، ونورا مفعول به ثان ، أو تكون «جعلنا» بمعنى : خلقنا ، فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال ، لأنه كان في الأصل صفة له ، نورا مفعول به إذا كانت جعلنا بمعنى خلقنا ومفعول ثان إذا كانت على حالها وجملة يمشي في محل نصب صفة لـ «نورا» ، وبه جار ومجرور متعلقان بيمشي ، وفي الناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : كائنا بينهم (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) كمن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «من» ، ومثله مبتدأ ، وفي الظلمات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، والجملة الاسمية صلة الموصول ، وجملة ليس بخارج منها نصب على الحال ، وليس فعل ماض ناقص ، واسمها مستتر ، والباء حرف جر زائد ، وخارج مجرور بالباء لفظا منصوب على أنه خبر ليس محلا ، ومنها جار ومجرور متعلقان بخارج (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كذلك جار ومجرور في محل نصب نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدمت نظائره كثيرا. وزين بالبناء للمجهول ، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بزين ، وما اسم موصول نائب فاعل ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وجملة يعملون خبر كانوا.


البلاغة :

في الآية التشبيه التمثيلي ، وقد سبقت الاشارة إليه كثيرا. وإن وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر ، فبّين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه ، وإن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها ، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للتمثيل ، ولم تتصادف هذه الأشياء المتباينة على حكم المشبه ، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين ، ولكن ما يستحضر العقل ، ولم يعن بما تنال الرؤية بل بما تعلق به الرّويّة. ونحن نعتقد أن ما ورد في القرآن من أمثال هو عام بحق كل إنسان في مختلف ظروفه وأحواله ، وهو الصحيح الذي يتناسب مع مدلول الهداية التي جاء بها القرآن ، ولكن المفسرين ، رحمهم الله ، يتوسعون ، فيجعلون لكل آية مناسبة تتعلق بها ، وليس ثمة مانع من ذلك ما دامت أحوال الناس متناسبة متشابهة في مختلف ظروف الزمان والمكان. وقد ذكر غير واحد منهم أن في الآية رجلين معنيين ، الأول هو حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني هو أبو جهل بن هشام. ويوردون قصة طريقة لا بأس بإيرادها ، وخلاصتها أن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ـ وكان حمزة قد رجع من صيد ، وبيده قوس ، وحمزة لم يؤمن بعد ـ فأقبل حمزة غضبان حتّى علا أبا جهل ، وجعل يضربه بالقوس ، وجعل أبو جهل يتضرّع إلى حمزة ويقول : يا أبا يعلى! أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا! فقال حمزة : ومن أسفه منكم عقولا؟ تعبدون الحجارة من دون الله! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. فأسلم حمزة يومئذ.


(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

اللغة :

(صَغارٌ) الصغار : بفتح الصاد الذل والهوان. يقال فيه صغر ككرم صغرا بكسر الصاد وفتح الغين ، وصغرا بضمّ الصاد وسكون الغين ، وصغار بفتح الصاد والغين ، وصغارة وصغرانا بضم الصاد وسكون الغين. وأما صغر بفتح الصاد وكسر الغين ، وصغر بضم الغين أيضا : فهو ضد كبر وعظم.

الاعراب :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) كلام مستأنف للشروع في تقسيم الناس إلى أقوياء وضعفاء ، وخص الأكابر بالإجرام لأنهم أقدر على بثّ الإجرام والفساد. وقيل عاطفة على ما قبلها.

وليس ثمة مانع. وكذلك نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدم. وجعلنا


فعل وفاعل ، وفي كل قرية مفعول جعلنا الثاني ، وأكابر مفعول جعلنا الأول ، ومجرميها مضاف لأكابر (لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) اللام للتعليل ، وقيل للعاقبة أو الصيرورة ، وكلاهما صحيح ، والجار والمجرور متعلقان بجعلنا ، والواو للحال ، وما نافية ، ويمكرون فعل مضارع ، والجملة نصب على الحال من فاعل يمكروا ، وإلا أداة حصر ، وبأنفسهم جار ومجرور متعلقان بيمكرون ، والواو حالية ، وما نافية ، وجملة ما يشعرون في محل نصب من ضمير يمكرون (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) الواو عاطفة نسقا على ما تقدم ، وإذا ظرف مستقبل متعلق بقالوا ، وجملة جاءتهم في محل جر بالإضافة ، وآية فاعل ، وجملة قالوا لا محلّ لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم ، ولن حرف نفي ونصب واستقبال ، ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن ، والجملة في محلّ نصب مقول القول ، وحتى حرف غاية وجر ، ونؤتى فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، ونائب الفاعل مستتر ، ومثل مفعول به ثان ، وما اسم موصول في محل جر بالإضافة ، وجملة أوتي لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ورسل الله نائب فاعل (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الله مبتدأ ، وأعلم خبره ، وحيث :اختلفت آراء المعربين فيها فقال قوم : إنها ليست ظرفا ، لأنه تعالى أن يكون في مكان أعلم منه في مكان آخر ، ولأن علمه لا يختلف باختلاف الأمكنة ، وإنما هو مفعول به لفعل دل عليه «أعلم» ، أي : يعلم الموضع الصالح لوضع رسالته ، وهؤلاء ليسوا أهلا لوضعها فيهم.

وقال أبو حيّان في البحر : «الظاهر إقرارها على الظرفية المجازية ، وتضمين «أعلم» معنى ما يتعدّى إلى الظرف ، فيكون التقدير :الله أنفذ علما حيث يجعل ، أي هو نافذ العلم في هذا الموضع الذي


يجعل فيه رسالته». وقال السفاقسي : «الظاهر أنه باق على معناه من الظرفية ، والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف ، وكم من موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل عليه ، لا سيما وقد قام في هذا الموضع». وجملة يجعل رسالته في محل جر بالإضافة ، ورسالته مفعول به (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) الجملة مستأنفة ، مسوقة لبيان ما يصل بهم يوم القيامة. والسين حرف استقبال ، ويصيب فعل مضارع مرفوع ، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة أجرموا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وصغار فاعل ، وعند الله ظرف متعلق بيصيب أو صفة لصغار ، أي : ثابت عند الله ، وعذاب شديد معطوفة على صغار ، والباء حرف جر للسببية ، وما مصدرية ، أو موصولة ، بمعنى الذي ، وجملة كانوا لا محل لها من الإعراب على كل حال ، وجملة يمكرون في محل نصب خبر كانوا.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

الاعراب :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الفاء استئنافية ،


ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، ويرد فعل الشرط ، والله فاعله ، وأن يهديه مصدر مؤول منصوب لأنه مفعول به ، أي : هداية ، ويشرح جواب الشرط ، وصدره مفعول به ، وللاسلام جار ومجرور متعلقان بيشرح وفعل الشرط وجوابه خبر «من». (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الواو عاطفة ، ومن اسم شرط جازم معطوفة على «من» الأولى ، وأن يضلّه مصدر مؤول مفعول يرد ، ويرد فعل الشرط ، ويجعل جواب الشرط مجزوم ، وصدره مفعول به ، وضيقا مفعول به ثان ، وحرجا نعت لـ «ضيقا» ، وجملة كأنما التشبيهية في محل نصب على الحال من صدره ، أو من الضمير المستكن في «ضيقا» ، وهي كافة ومكفوفة ، ويصعّد فعل مضارع ، وفي السماء جار ومجرور متعلقان بيصّعد (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الجملة مستأنفة ، وكذلك الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف ، ويجعل فعل مضارع ، والله فاعل ، والرجس مفعول به ، وعلى الذين في موضع المفعول الثاني ، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن ما يسير عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الإسلام.

وهذا مبتدأ ، وصراط ربك خبر ، ومستقيما حال مؤكد للجملة ، والعامل فيه اسم الإشارة ، باعتبار ما فيه من معنى الفعل ، فإنه في معنى أشير (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) الجملة مستأنفة ، وقد حرف تحقيق ، وفصلنا الآيات فعل وفاعل ومفعول به ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بفصّلنا ، وجملة يذكرون صفة لقوم.

البلاغة :

في قوله : «كأنما يصّعد في السماء» تشبيه تمثيلي منتزع من


متعدد ، أي : إن حال من جعل صدره ضيقا حرجا كحال من يكلف الصعود إلى السماء. وقد مرت له نظائر.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

الاعراب :

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جملة مستأنفة لا محل لها ، كأنها جاءت جوابا عن سؤال سائل عما أعده الله لهم ، فقيل له ذلك. ويحتمل أن تكون نصبا على الحال من فاعل يذكرون. ولهم جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم ، ودار السلام مبتدأ مؤخّر ، وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من «دار السلام» والعامل فيها معنى الاستقرار المستكن في «لهم» ، والواو حالية ، وهو مبتدأ ، ووليهم خبر ، والباء جارّة سببية ، وما اسم موصول أو مصدرية ، وجملة كانوا لا محلّ لها على كل حال ، وجملة يعملون في محل نصب خبر كانوا (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ


الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الواو استئنافية ، ويوم ظرف منصوب بفعل محذوف ، أي : واذكر يوم نحشرهم ، وجملة نحشرهم ـ بالنون والياء ، فهما قراءتان ـ في محل جر بالإضافة بعد الظرف ، وجميعا حال ، وقال أبو حيان : «أعرب بعضهم «يوم» مفعولا باذكر محذوفا ، والأولى أن يكون الظرف معمولا لفعل القول المحكيّ به النداء ، أي : ويوم نحشرهم نقول : يا معشر الجن ، وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولا به لخروجه عن الظرفية» ويا معشر الجن منادى مضاف ، مقول قول محذوف ، أي : ونقول لهم : يا معشر الجن ، وقد حرف تحقيق ، واستكثرتم فعل وفاعل ، ومن الإنس جار ومجرور متعلقان باستكثرتم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) الواو عاطفة ، وقال أولياؤهم فعل وفاعل ومن الإنس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وربنا منادى مضاف ، حذف منه حرف النداء ، واستمتع بعضنا فعل وفاعل ، وببعض جار ومجرور متعلقان باستمتع ، والجملة في محل نصب القول. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) الواو حرف عطف ، وبلغنا فعل وفاعل ، وأجلنا مفعول ، والذي اسم موصول في محل نصب صفة لـ «أجلنا» ، وجملة أجلت لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ولنا جار ومجرور متعلقان بأجلت (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لرد الله تعالى عليهم. وقال فعل ماض ، وفاعله يعود على الله ، والنار مبتدأ ، ومثواكم خبر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ، وخالدين حال من الكاف في «مثواكم» ، وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين ، وإلا ما شاء الله : إلا أداة استثناء ، وما اسم موصول أو مصدرية في محل نصب على الاستثناء من الجنس باعتبار الزمان أو المكان أو العذاب لدلالة خالدين عليهم ، أي : خالدين في كل زمان


من الأزمن زمن مشيئة الله ، أو خالدين في مكان وعذاب مخصوصين إلا أن يشاء الله نقلهم إلى غيرهما. وسيأتي مزيد من البحث عن هذا الاستثناء المذهل في باب البلاغة (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) إن واسمها ، وحكيم خبرها الأول ، وعليم خبرها الثاني ، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة التعليل.

البلاغة :

تحدثنا في باب الإعراب عن الاستثناء المذهل حسب ما يرشد إليه سياق الكلام والنصوص النحوية ، ولكن رائد البلاغة المثلى لا يقتنع بمثل هذه السهولة ، ومن أجل ذلك عني العلماء البلاغيون بهذه الآية وبأختها من سورة هود ، كما سيأتي ، وكثرت الخلافات والمناقشات حولها ، وسنجتزئ بأهمّ ما توصلنا إليه.

رأي الزمخشري :

١ ـ وللزمخشري رأي طريف بعيد عن التأويلات المتعسفة ، وأدنى إلى الدقة قال : «أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب إليه أن ينفّس عن خناقه :أهلكني الله إن نفست عليك إلا إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد ، فيكون قوله :إلا إذا شئت ، من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد ، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع». وهذا الذي ذكره الزمخشري أولى من الروايات والتأويلات المتعسفة ، مثل قولهم : «فقد روي أنهم يدخلون


واديا فيه من الزمهرير ما يميّز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد الى الجحيم».

رأي الزّجّاج :

وقد عثرنا على رأي طريف للزجاج ، ينقع الغليل. ولكنه مبتسر يحتاج إلى الإبانة والكشف ، فقد قال الزجاج : «والمراد والله أعلم إلا ما شاء من زيادة العذاب». بيد أنه ـ أي : الزجاج ـ لم يبيّن وجه استقامة الاستثناء ، والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم ، والظاهر أن العذاب على درجات متباينة ، ومراتب متفاوتة ، ومقادير غير متناسبة ، وكأن المراد أنهم مخلدون في حبس العذاب ، إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية ، وتربو على النهاية ، حتى تكاد لبلوغها أقصى الغايات تعدّ خارجة عن العذاب ، وكأنها ليست منه ، ولا داخلة في حيّزه. والمعروف عن العرب في سنن كلامهم أنهم يعبرون عن الشيء إذا بلغ الغاية بالضّدّ ، فكأنّ هؤلاء المعذبين وقد طمّ عليهم البلاء ، وبلغوا من الشدة غايتها ، ومن اللأواء نهايتها ، وقد وصلوا إلى المدى الذي يكاد يخرجه من العذاب المطلق ، فساغت معاملته في التعبير بمعاملة المغاير ، وهذه وثبة من الزجاج ، لا نتبين فحواها إلا بهذا البسط الذي يحتاج فهمه إلى رهافة ذوق ، وشفوف طبع ، والله الموفّق.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)


اللغة :

(نُوَلِّي) من الولاية ، أي : الإمارة. يقال : ولّى فلانا الأمر تولية : جعله واليا عليه ، وأصله من «ولي» بتخفيف اللام وكسرها ، يلي ولاية بكسر الواو ، وولاية بفتحها : الشيء ، وعليه : قام به وملك أمره ، وولي البلد : تسلّط عليه.

الاعراب :

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو استئنافية ، وكذلك نعت لمصدر محذوف كما تقدم في نظائره ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر مثل تولية بعض الظالمين ، وإليه جنح الزّجّاج. ونولي فعل مضارع ، وبعض الظالمين مفعوله الأول ، وبعضا مفعوله الثاني ، أو منصوب بنزع الخافض ، أي : على بعض ، والجار والمجرور متعلقان بنولي ، وبما الباء حرف جر ، وما اسم موصول في محل جر بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بنولّي ، وكان واسمها ، وجملة يكسبون خبرها ، وجملة كانوا صلة الموصول (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) يا حرف نداء ، ومعشر الجن منادى مضاف ، وجملة


النداء مقول قول محذوف ، أي : يقال لهم ، وجملة القول المحذوف استئناف مسوق لحكاية حال توبيخهم ، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم ، والكاف مفعول به ، ورسل فاعل مؤخر ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) جملة يقصون صفة ثانية لرسل ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيقصون ، أو بمحذوف حال ، لتخصص النكرة بالوصف. وآياتي مفعول به ، والواو حرف عطف ، وجملة ينذرونكم عطف على يقصون ، والواو فاعل والكاف مفعول به ، ولقاء مفعول به ثان ، أو منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بينذرونكم ، ويومكم مضاف إليه ، وهذا صفة ليومكم ، أو بدل منه (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال كأنه قيل لهم : فماذا قالوا بعد التوبيخ؟وجملة شهدنا على أنفسنا في محل نصب مقول قولهم ، وعلى أنفسنا جار ومجرور متعلقان بشهدنا ، أي : اعترفنا وأقررنا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الواو اعتراضية ، وجملة غرتهم الحياة الدنيا معترضة لبيان مدى تماديهم في الغرور ، وكرر شهادتهم على أنفسهم لأنه في الأولى حكى قولهم وكيف يقولون ويعترفون ، وفي الثانية أراد مجرّد ذمهم وتسفيه آرائهم ، ووصمهم بقلة النظر ، وأن وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض ، أي : بأنهم كانوا كافرين ، وجملة كانوا خبر أن ، وكافرين خبر كانوا.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)


وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))

الاعراب :

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) الجملة مستأنفة بمثابة التعليل ، واسم الاشارة مبتدأ ، خبره ما بعده أي :ذلك ثابت ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، والاشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم. وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، هي مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف ومتعلقان بمحذوف بدل من ذلك ان كانت خبرا لمبتدأ محذوف ، ولم حرف نفي ، ويكن فعل مضارع مجزوم بلم ، وجملة «لم يكن» خبر «أن» وربك اسم يكن ، ومهلك القرى خبرها ، وبظلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ذلك ، أي ملتبسا بظلم ، أو من فاعل مهلك ، وكلاهما بمعنى واحد ، أو من القرى ، أي ملتبسة بذنوبها. وأهلها الواو حالية ، وأهلها مبتدأ ، وغافلون خبر ، والجملة في موضع نصب على الحال (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المؤمنين والكفار. ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه ، أي : ولكل فريق ، وسيأتي في باب الفوائد بحث هام عن التنوين وأقسامه. ودرجات


مبتدأ مؤخّر ، وما : من حرف جر ، وما مصدرية أو موصولة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لدرجات ، وجملة عملوا لا محل لها على كل حال ، وما ربك الواو استئنافية أو حالية ، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس ، وربك اسمها ، والباء حرف جر زائد ، وغافل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما» ، وعما جار ومجرور متعلقان بغافل ، وجملة يعملون صلة «ما» الموصولية (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) كلام مستأنف ، وربك مبتدأ ، والغني خبر أول ، وذو الرحمة خبر ثان (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) الجملة الشرطية خبر ثالث ، ويجوز أن نعرب «الغني» و «ذو الرحمة» صفتين لـ «ربك» ، وتكون الجملة الشرطية خبرا لـ «ربك» ، وإن شرطية. ويشأ فعل الشرط مجزوم ، ويذهبكم جواب الشرط ، ويستخلف الواو حرف عطف ، ويستخلف فعل مضارع معطوف على يذهبكم. ومن بعدكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة يشاء صلة الموصول لا محل لها (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) كما الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدمت نظائره ، وأنشأكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، ومن ذرية جار ومجرور متعلقان بأنشأكم ، وقوم مضاف إليه. وآخرين نعت لقوم (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد ما تقدم. وإن واسمها ، وجملة توعدون صلة الموصول ، وهو بالبناء للمجهول ، والعائد محذوف ، أي : به من الساعة والعذاب ، واللام المزحلقة ، وآت خبر إن ، وما الواو عاطفة ، وما نافية حجازية ، وأنتم اسمها ، والباء حرف جر زائد ، ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا خبرها.


الفوائد :

التنوين : هو نون ساكنة تلحق الآخر لفظا لا خطّا لغير توكيد ، وأنواعه المشهورة أربعة وهي :

١ ـ تنوين التمكين :

وهو اللاحق للأسماء المعربة ، وفائدته الدلالة على تمكن الاسم في الاسمية ، نحو : جاء زيد ، ورأيت زيدا ، ومررت بزيد.

٢ ـ تنوين التنكير :

وهو اللاحق لبعض الأسماء المبنية للفرق بين ما هو معرفة منها وما هو نكرة ، وذلك قياسي في باب العلم المختوم بويه ، نحو : مررت بسيبويه وسيبويه آخر ، وسماعي في باب أسماء الأفعال إذا نكرت ، نحو إيه بكسر الهمزة وكسر الهاء بلا تنوين ، وكقول حافظ ابراهيم في رثاء سعد زغلول :

إيه يا ليل هل شهدت المصابا

كيف ينصبّ في النفوس انصبابا

فإذا أردت الاستزادة من حديث ما نوّنته فقلت : إيه.

٣ ـ تنوين المقابلة :

وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم ، نحو : رأيت مؤمنات. وسمّي كذلك لأنه في مقابلة النون من جمع المذكر السالم.


٤ ـ تنوين العوض :

وهو ما يأتي به إما عوضا عن كلمة هي مضاف إليه في كل وبعض ، نحو الآية المتقدمة «ولكلّ» أي : لكل فريق ، وإما عوضا عن حرف يقضي القياس بحذفه ، وهو اللاحق للاسم المنقوص غير المنصرف ، نحو : جوار وغواش. وإما عوضا عن جملة ، وهو اللاحق لفظة «إذ» عند وقوعها مضافا إليه ، نحو : وأنتم حينئذ تنظرون ، فالتنوين عوض عن جملة ، أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم.

وهذه الأقسام الأربعة هي الأصل في التنوين ، وزاد جماعة ـ منهم ابن هشام في مغني اللبيب ، وابن الخباز في شرح الجزولية ـ على هذه الأنواع الأربعة :

١ ـ تنوين التّرنّم :

وهو اللاحق للقوافي المطلقة ، أي : التي آخرها حرف مد ، وهي الألف والواو والياء المولّدات من إشباع الحركة ، وتسمى أحرف الإطلاق ، كقول جرير :

أقلّى اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

فلحق التنوين العروض والقافية ، وهما : العتابن وأصابن ، والأصل العتابا وأصابا ، فجيء بالتنوين بدلا من الألف ، والأول اسم ، والثاني فعل. وقد يدخل الحرف أيضا كقول النّابغة الذّبيانيّ :

أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد

والأصل : قدي ، فجيء بالتنوين بدلا من الياء.


٢ ـ التنوين الغالي :

وهو الّلاحق للقوافي المقيّدة ، أي : التي يكون حرف رويّها ساكنا ليس حرف مدّ ، زيادة على الوزن ، ومن أجل هذا سمّي غاليا ، اي : لتجاوزه حدّ الوزن ، كقول رؤبة الرّجّاز :

وقاتم الأعماق خاوي المخترقن

مشتبه الأعلام لمّاع الخفقن

٣ ـ تنوين الضرورة :

وهو اللاحق لما لا ينصرف كقول امرئ القيس :

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت : لك الويلات إنّك مرجلي

وللمنادى المضموم كقول الأحوص :

سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السلام

٤ ـ التنوين الشاذّ :

كقول بعضهم حكاه أبو زيد : هؤلاء قومك.

٥ ـ تنوين الحكاية :

مثل أن تسمي رجلا بعاقلة ، فإنك تحكي اللفظ المسموع ، فقد نحصّل تسعة أنواع. وجعل ابن الخباز كلا من تنوين المنادى المضموم


وتنوين الممنوع من الصرف قسما برأسه ، فتحصّل لديه عشرة أنواع أوردناها لمجرد الاطلاع والطرافة ، وإلا فبعضها غير سائغ ، ولا يقبله الذوق ، وذلك مدرك بالبداهة.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦))

اللغة :

(مَكانَتِكُمْ) : اختلف في ميم «مكان» و «مكانة» ، فقيل :هي أصلية ، وهما من مكن يمكن. وقيل : هي زائدة ، وهما من الكون ، فالمعنى على القول الأول : على ممكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، فالمكانة مصدر. وعلى الثاني : اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.

(ذَرَأَ) : خلق ، وذرأ الله الخلق وذرأنا الأرض وذروناها ، أي :بذرناها. وقد علته ذرأة ، وهي : بياض الشيب أول ما يبدو في الفودين منه ، ورجل أذرأ ، وامرأة ذرآء ، قال :

فمرّ ولمّا تسخن الشمس غدوة

بذرآء تدري كيف تمشي المنائح


أي : منحت كثيرا فاعتادت ذلك ، فهي تسامح بالمشي لا تأبى.

(الزعم) بفتح الزاي وضمها ، وفي المصباح : زعم زعما من باب قتل ، وفي الزعم ثلاث لغات : فتح الزاي لأهل الحجاز ، وضمها لبني أسد ، وكسرها لبعض قيس. ويطلق الزعم بمعنى القول ، ومنه : زعمت الحنفية ، وزعم سيبويه ، أي : قال ، وعليه قوله تعالى : «أو تسقط السماء كما زعمت» أي : قلت. ويطلق على الظنّ ، يقال : في زعمي كذا. وعلى الاعتقاد ، ومنه قوله تعالى : «زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا». قال الأزهري : وأكثر ما يكون الزعم فيما يشكّ فيه ، ولا يتحقق. وقال بعضهم : هو كناية عن الكذب ، وقال في أساس البلاغة : «وزعموا مطيّة الكذب ، وفي قوله مزاعم : إذا لم يوثق به ، وأفعل ذلك ولا زعماتك» وهذا القول : ولا زعماتك ، أي : ولا أتوهم زعماتك. قال ذو الرمة :

لقد خطّ رومي ولا زعماته

لعتبة خطّا لم تطبّق مفاصله

روميّ : عريف كان بالبادية ، قضى عليه لعتبة بن طرثوث ، رجل كان يخاصمه في بئر ، وكتب له سجلا.

الاعراب :

(قُلْ : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) كلام مستأنف مسوق للوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه. ويا حرف نداء ، وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة ، وقد تقدّم بحثه.


واعملوا فعل أمر ، والمقصود منه التهديد والزجر ، وعلى مكانتكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وإن واسمها ، وعامل خبرها ، والجملة بمثابة التعليل للأمر (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الفاء للتعليل ، والجملة تعليلية لا محل لها ، وإنما أتت لتأكيد مضمون الجملة وفحواها ، ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به لتعلمون التي هي بمعنى العرفان ، فهي تتعدى لواحد ، وجملة تكون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ويجوز أن تكون «من» استفهامية في محل رفع مبتدأ ، وخبرها جملة تكون ، والجملة في محل نصب مفعول تعلمون ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون المقدم ، وعاقبة الدار اسمها المؤخر ، وإن واسمها ، وجملة لا يفلح الظالمون خبرها ، والجملة تعليلية أيضا ، وكأنها في جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : وما عاقبتهم؟ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع أو نمط من أحكامهم الفاسدة ، وجعل هنا بمعنى : صير ، فهي تنصب مفعولين ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف هو المفعول به الثاني ، والمفعول الأول نصيبا ، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان صفة لـ «نصيبا» ، وتقدمت عليه ، وجملة ذرأ لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ومن الحرث جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا من «نصيبا» ، والأنعام عطف على الحرث (فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) الفاء حرف عطف ، وقالوا عطف على جعلوا ، واسم الإشارة مبتدأ ، والله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ، وبزعمهم جار ومجرور متعلقان بما تعلق به الاستقرار من قوله «لله» ، وهذا لشركائنا مبتدأ وخبر ، والجملة معطوفة على : هذا لله (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) الفاء


تفريعية ، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة الاستئنافية ، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ ، وجملة كان صلة لا محل لها ، وكان فعل ماض ناقص ، واسمها مستتر ، ولشركائهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط ، ولا نافية ، وجملة لا يصل إلى الله في محل رفع خبر «ما» (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) الواو عاطفة ، وما كان لله تقدم إعرابها ، والفاء رابطة ، وهو مبتدأ ، وجملة يصل إلى شركائهم خبره (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) الجملة مستأنفة ، وساء فعل ماض جامد من أفعال الذم ، وما اسم موصول فاعل ، وقيل : ما نكرة تامة بمعنى شيء منصوبة على التمييز ، والتقدير : ساء حكما حكمهم ، وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد.

الفوائد :

اختلف النحاة في كلمة «ما» بعد أفعال المدح والذم : نعم وبئس وساء ، فقال ابن مالك في الخلاصة :

و «ما» مميّز ، وقيل : فاعل

في نحو : نعم ما يقول الفاضل

وتفصيل ذلك أن يقال : إنّ «ما» هذه على ثلاثة أقسام :

١ ـ مفردة : أي غير متلوّة بشيء.

٢ ـ متلوّة بمفرد.

٣ ـ متلوّة بجملة فعلية.

فالأولى : نحو : دققته دقّا نعمّا ، وفيها قولان :


آ ـ معرفة : فهي اسم موصول فاعل.

ب ـ نكرة تامة : وعليها فالمخصوص محذوف أي : نعم الدقّ.

والثانية نحو : فنعمّا هي وبئسما تزويج بلا مهر ، وفيها ثلاثة أقوال :معرفة تامة فاعل ، ونكرة تامة ، ومركبة مع الفعل قبلها تركيب «ذا» مع «حبّ» ، فلا موضع لها ، وما بعدها فاعل.

والثالثة المتلوّة بجملة فعلية ، نحو : «نعمّا يعظكم به» ، و «بئسما اشتروا به أنفسهم» ، وفيها أقوال ، أهمها أربعة :

آ ـ أنها نكرة في موضع نصب على التمييز.

ب ـ أنها في موضع رفع على الفاعلية.

ج ـ أنها هي المخصوص.

د ـ أنها كافّة.

فأما القائلون بأنها في موضع نصب على التمييز فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال :

آ ـ أنها نكرة موصوفة بالفعل بعدها ، والمخصوص محذوف.

ب ـ أنها نكرة موصوفة والفعل بعدها صفة لمخصوص محذوف.

ج ـ أنها تمييز ، والمخصوص «ما» أخرى موصولة محذوفة ، والفعل صلة لـ «ما» الموصولة المحذوفة ، وهذا ما نختاره للسهولة في الإعراب.


وأما القائلون بأنها في موضع رفع على الفاعلية فاختلفوا فيها على خمسة أقوال :

آ ـ أنها اسم معرفة تام ، أي : غير مفتقر إلى صلة ، والفعل بعدها صفة لمحذوف.

ب ـ أنها موصولة ، والفعل صلتها ، والمخصوص محذوف.

ج ـ أنها موصولة ، والفعل صلتها ، مكتف بها وبصلتها عن المحذوف.

د ـ أنها مصدرية سادة بصلتها ـ لاشتمالها على المسند والمسند إليه ـ مسد الفاعل والاسم المخصوص جميعا.

ه ـ أنها نكرة موصوفة ، والمخصوص محذوف.

وأما القائلون بأنها هي المخصوص فقالوا : إنها موصولة ، والفاعل مستتر ، و «ما» أخرى محذوفة هي التمييز ؛ وأما القائلون بأنها كافّة كفّت «نعم» عن العمل كما كفت : قلّ وطال وكثر وشدّ عنه ، فصارت تدخل على الجملة الفعلية.

تطبيق الخلاف على الآية :

فإذا أردنا تطبيق ما أجملناه على «ساء ما يحكمون» فإن جعلنا «ما» تمييزا فهي نكرة موصوفة ، أي : ساء شيئا يحكمونه ، وإن جعلناها فاعلا فهي معرفة ناقصة ، أي ساء الذي يحكمونه ، وعليهما فالمخصوص بالذم محذوف دائما. أطلنا في هذا النقل لأن النحاة اضطرب كلامهم فيه اضطرابا شديدا.


(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))

الاعراب :

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان التأثر بأقوال دعاة السوء المرجفين بالأكاذيب. وكذلك جار ومجرور في محل نصب نعت لمصدر محذوف كنظائره ، ولكثير جار ومجرور متعلقان بـ «زيّن» ، ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لكثير ، وقتل مفعول به مقدم ، وأولادهم مضاف إليه ، وشركاؤهم فاعل زين المؤخر (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) اللام للتعليل ، ويردوهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بزيّن ، وليلبسوا عطف على ليردوهم ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيلبسوا ، ودينهم مفعول به ، فعلل التزيين بشيئين : بالإرداء ، أي : بالإهلاك ، وبإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجملة مستأنفة على الأصح ، أي : وهكذا زين.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الواو استئنافية ، ولو شرطية ، وشاء الله فعل وفاعل والمفعول به محذوف ، أي : عدم فعلهم ، وما نافية ، وفعلوه فعل وفاعل ومفعول به ، والضمير المرفوع يعود على «كثير» ، والضمير المنصوب يعود على القتل ، لأنه هو المسوق للحديث عنه ، فذرهم الفاء الفصيحة ، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر


ومفعول به ، والواو حرف عطف أو للمعية ، وما اسم موصول أو مصدرية ، أي : ذرهم والذي يفترونه من الكذب ، أو ذرهم وافتراءهم.

الفوائد :

في هذه الآية قراءات كثيرة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب ، وقد درجنا على عدم الإشارة الى قراءة ما إلا إذا كانت تنطوي على بحث هام ، فاكتفينا في باب الإعراب بقراءة العامة وقرأ ابن عامر وهو من السبعة : «وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم» برفع «قتل» على النيابة عن الفاعل بزين المبني للمجهول ، ونصب «أولادهم» وجر «شركائهم». فـ «قتل» على قراءة ابن عامر مصدر مضاف وشركائهم مضافة الى «قتل» من إضافة المصدر الى فاعله ، وأولادهم مفعوله ، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه ، وحسن ذلك ثلاثة أمور :

١ ـ كون الفاصل فضلة ، فإن ذلك مسوغ لعدم الاعتداد به.

٢ ـ كونه غير أجنبي لتعلّقه بالمضاف.

٣ ـ كونه مقدر التأخير من أجل أن المضاف إليه مقدر التقديم بمقتضى الفاعلية المعنوية.

وبذلك يتبين مدى تهافت الزمخشري في قوله :

ما قاله الزمخشري :

«وأما قراءة ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء ، على إضافة القتل الى الشركاء والفصل


بينهما بغير الظرف ، فشيء لو كان في مكان الضرورات ـ وهو الشعر ـ لكان سمجا مردودا ، فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسب لفظه وجزالته»؟.

الفصل بين المتضايفين :

هذا وقد زعم كثير من النحويين أنه لا يفصل بين المتضايفين إلا في الشعر خاصة ، لأن المضاف منزل من المضاف إليه منزلة جزئه ، لأنه واقع موقع تنوينه ، فكما لا يفصل بين أجزاء الاسم لا يفصل بينه وبين ما نزّل منزلة الجزء منه ، وهذا قول البصريين. وعند الكوفيين أن مسائل الفصل سبع ، منها ثلاث جائزة في السعة ، أي : النثر ، وهي :

١ ـ أن يكون المضاف مصدرا والمضاف إليه فاعله ، والفاصل إما مفعوله كقراءة ابن عامر الآنفة الذكر ، وقول الشاعر :

عتوا إذ أجبناهم الى السلم رأفة

فسقناهم سوق البغاث الأجادل

فسوق مصدر مضاف ، والأجادل مضاف إليه ، من إضافة المصدر إلى فاعله ، والبغاث مفعوله ، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه ، والأصل : سوق الأجادل البغاث. وإما ظرفه كقول بعضهم : «ترك يوما نفسك وهواها موبق لها» ، فترك مصدر مضاف ، ونفسك مضاف إليه ، من إضافة المصدر إلى فاعله ، ومفعوله محذوف ، ويوما ظرف للمصدر ، بمعنى أنه متعلق به ، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه.


٢ ـ أن يكون المضاف وصفا والمضاف إليه مفعوله الأول ، والفاصل مفعوله الثاني ، كقراءة بعضهم : «فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله» بنصب وعده وجر رسله ، فمخلف اسم فاعل وهو متعد لاثنين ، وهو مضاف ، ورسله مضاف إليه ، من إضافة الوصف إلى مفعوله الأول ، ووعده مفعوله الثاني ، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه.

٣ ـ أن يكون الفاصل قسما كقولهم : «هذا غلام والله زيد» ، يجر زيد بإضافة الغلام إليه وفصل بينهما بالقسم.

والمسائل الأربع الباقية من السبع تختص بالشعر وهي :

١ ـ الفصل بالأجنبي كقول جرير :

تسقي امتياحا ندى المسواك ريقتها

كما تضمّن ماء المزنة الرّصف

فتسقي مضارع سقى متعد لاثنين ، وفاعله ضمير يرجع الى المحبوبة في البيت قبله ، وندى مفعوله الأول وهو مضاف ، وريقتها مضاف إليه والمسواك مفعوله الثاني ، فصل به بين المضاف والمضاف إليه ، أي : تسقي ندى ريقتها المسواك ، والمسواك أجنبي من «ندى» لأنه ليس معمولا له وإن كان عاملهما واحدا.

٢ ـ الفصل بفاعل المضاف كقوله :

ما إن وجدنا للهوى من طبّ

ولا عدمنا قهر وجد صبّ

فأضاف «قهر» الى مفعوله وهو «صب» ، وفصل بينهما بفاعل المصدر وهو «وجد».


٣ ـ الفصل بنعت المضاف ، بنعت المضاف ، كقول معاوية بن أبي سفيان ، لما اتفق ثلاثة من الخوارج على أن يقتل كل واحد منهم واحدا من علي بن أبي طالب وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ، فقتل علي ، وسلم عمرو ومعاوية :

نجوت وقد بل المرادي سيفه

من ابن أبي شيخ الأباطح طالب

ففصل بين المتضايفين ، وهما : أبي وطالب ، بنعت المضاف وهو :شيخ الأباطح ، أي : من ابن أبي طالب شيخ الأباطح. والمرادي بفتح الميم نسبة الى مراد ، بطن من مذحج ، وهو عبد الرحمن بن ملجم ، بضم الميم وفتح الجيم ، على صيغة اسم المفعول.

٤ ـ الفصل بالنداء كقوله :

كأن برذون أبا عصام

زيد حمار دقّ باللجام

فأضاف برذون الى زيد ، وفصل بينهما بالمنادى الساقط حرفه ، وحمار خبر كأن ، والأصل كأن برذون زيد حمار يا أبا عصام. والى هذا كله أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :

فصل مضاف شبه فعل ما نصب

مفعولا أو ظرفا أجز ولم يعب

فصل يمين واضطرارا وجدا

بأجنبي أو بنعت أو ندا

بين أبي حيّان والزمخشري :

هذا وقد رد أبو حيان على الزمخشري ، وأغلظ في الردّ ، قال


بعد أن أورد كلام الزمخشري الذي أوردناه في مستهل هذا البحث :«وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة ، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيّرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا».

بين أبي حيان والفارسي :

ومضى أبو حيان يرد على أبي علي الفارسي قال : «ولا التفات أيضا لقول أبي علي الفارسي : هذا قبيح قليل في الاستعمال ، ولو عدل عنها ـ يعني ابن عامر ـ كان أولى ، لأنهم لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف ، وإنما أجازوه في الشعر».

لمحة عن عقبة بن عامر :

أما عقبة فهو الصحابي الجليل والقائد الأمير الذي اشترك في فتح مصر ، ثم حكمها نيابة وأصالة. وهو رجل مستنير ذكي يتمتع بمزايا فكرية واضحة ، وقد كلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي بين خصمين اختصما إليه ، وكان شاعرا قارئا كاتبا.

أبو الطيّب المتنبي فصل بين المتضايفين :

هذا وقد استعمل أبو الطيب المتنبي الفصل بين المتضايفين ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، فقال من قصيدة يمدح بها أبا القاسم طاهر بن الحسين :


حملت إليه من لساني حديقة

سقاها الحجا سقي الرياض السحائب

فقد فصل بالمفعول. ومعنى البيت أنه جعل القصيدة حديقة لما فيها من المعاني كما يكون في الروضة من الزهر والنبات ، وجعل العقل ساقيا لها ، لأن المعاني التي فيها إنما تحسّن بالعقل ، فجعل العقل ساقيها كما تسقي الرياض السحاب ، وهو جمع سحابة.

كلمة ابن جنّي :

وقال أبو الفتح ابن جني : «إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به ، فإن كان فصيحا وكان ما أورده يقبله القياس ، فالأولى أن يحسن به الظنّ ، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها».

كلمة أبي عمرو بن العلاء :

وقال أبو عمرو بن العلاء : «ما انتهي إليكم مما قالت العرب إلا أقله ، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير».

رواية عن عمر بن الخطاب :

وروى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك ، وذهب عنهم كثيره. يعني الشعر ، في حكاية فيها طول.


(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩))

اللغة :

(حِجْرٌ) : فعل بكسر الفاء ، بمعنى مفعول ، كالذبح والطحن ، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث ، والواحد ، والجمع ، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث ، ومعناه الحجر ، أي : المنع. كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلتهم قالوا : لا يطعمها إلا من نشاء ، فجعلوا نصيب الآلهة أقساما ثلاثة : الأول ما ذكره بقوله : حجر ، أي : ممنوعة محرّمة. والثاني ما ذكره بقوله : «وأنعام حرمت ظهورها». والثالث قوله : «لا يذكرون اسم الله عليها» فجعلوها أجناسا بهواهم ، ونسبوا ذلك التجنيس الى الله.

(خالِصَةٌ) التاء في خالصة للمبالغة ، مثلها في راوية وعلامة ونسّابة والخاصة والعامة ، أو تكون مصدر على وزن فاعلة ، كالعافية والعاقبة.


الاعراب :

(وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من أنواع كفرهم. وهذه اسم اشارة في محل رفع مبتدأ ، وأنعام خبر ، والجملة الاسمية مقول القول ، وحرث عطف على أنعام ، وحجر وصف لهما ، أي : محجورة ممنوعة محرّمة ، وجملة لا يطعمها صفة ثانية لأنعام ، ويطعمها فعل مضارع ومفعول به ، وإلا أداة حصر ، ومن اسم موصول في محل رفع فاعل يطعمها ، وجملة نشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وبزعمهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قالوا ، أي :قالوا ذلك ملتبسين بزعمهم الباطل (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) الواو عاطفة ، وأنعام خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذه والجملة معطوفة على قوله : «هذه أنعام» ، أي قالوا مشيرين الى طائفة أخرى من أنعامهم ، ويريدون بها البحائر والسوائب والحوامي. وقد تقدمت في المائدة.

وجملة حرمت ظهورها صفة ، أي : لا تركب ، وظهورها نائب فاعل حرمت (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ) الواو حرف عطف ، وأنعام خبر لمبتدأ محذوف أيضا ، والجملة عطف على ما تقدم ، فالمقولات ثلاث ، وجملة لا يذكرون صفة لأنعام ، واسم الله مفعول به ، وعليها جار ومجرور متعلقان بيذكرون ، وافتراء يجوز فيه أن يكون مفعولا لأجله ، أي : فعلوا ذلك كله لأجل الافتراء ، ويجوز أن يكون حالا ، أي : مفترين ، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا ، لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء ، فهو نظير قولك : رجع القهقرى ، وقعد القرفصاء. وعليه جار ومجرور متعلقان بافتراء ، أو بمحذوف صفة له (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير جزائهم ،


وبما جار ومجرور متعلقان بيجزيهم ، ويجوز في «ما» أن تكون مصدرية أو موصولة ، والباء للسببية ، أي : بسبب افترائهم أو بسبب الذي كانوا يفترونه على الله (وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) كلام مستأنف مسوق للشروع في قول آخر من مفترياتهم وأباطيلهم ، فقد كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور ، ولا تأكل منه الإناث ، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ ، وفي بطون جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وهذه اسم إشارة في محل جر بالإضافة ، والأنعام بدل من اسم الإشارة ، وخالصة خبر عن «ما» ولذكورنا جار ومجرور متعلقان بخالصة ، ومحرم عطف على خالصة ، وعلى أزواجنا جار ومجرور متعلقان بمحرّم (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) الواو حرف عطف ، وإن شرطية ، ويكن فعل الشرط ، واسم يكن مستتر تقديره : وإن يكن ما في بطونها ، وميتة خبر ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وهم ضمير منفصل في محلّ رفع مبتدأ ، وشركاء خبر ، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لشركاء ، ولك أن تعلقه بشركاء (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) كلام مستأنف بمثابة التعليل ، مسوق لبيان تلاعبهم بأحكام التحريم والتحليل بما تقتضيه حكمته ، ويتطلبه علمه. والسين حرف استقبال ، ويجزيهم فعل مضارع مرفوع ، والفاعل مستتر يعود على الله تعالى ، والهاء مفعول به أول ، ووصفهم مفعول به ثان ليجزيهم ، وجملة إنه حكيم عليم تعليلية لا محل لها ، ولا بد من تقدير مضاف ، والتقدير : سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم.


(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

الاعراب :

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من جهالاتهم ، فقد كان بعض العرب من ربيعة ومضر يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر. وقد حرف تحقيق ، وخسر الذين فعل وفاعل ، وجملة قتلوا أولادهم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وسفها مفعول لأجله ، أي لخفة عقولهم وجهلهم ، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قتلوا ، أي : جاهلين أن الله هو الرازق لهم ولأولادهم (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ) الواو عاطفة ، وحرموا فعل وفاعل ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة رزقهم الله صلة ، وافتراء مفعول لأجله أو حال ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافتراء (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) الجملة تأكيد لقوله : «قد خسر الذين» ، والواو حرف عطف ، وما نافية ، وكانوا مهتدين : كان واسمها وخبرها.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا


إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))

اللغة :

(مَعْرُوشاتٍ) : عرش يعرش ويعرش من بابي تعب ونصر بنى بناء من خشب. وعرش البيت : بناه. وعرش العرش عمله. والعرش سرير الملك ، وركن الشيء. وأصل العرش في اللغة : شيء مسقّف يجعل عليه الكرم ، وجمعه عروش. واستوى على عرشه إذا ملك. وثلّ عرشه :إذا هلك. قال زهير :

تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل

والعروش : البيوت ، قال القطامي :

وما لمثابات العروش بقيّة

إذا استلّ من تحت العروش الدّعائم

ومكتنسات في العرائش : أي الهوادج. واختلفوا في معناها فقال ابن عباس : «المعروشات ما انبسط على الأرض وانتشر ، مثل الكرم والقرع والبطيخ ونحو ذلك ، وغير معروشات : ما قام على ساق.

كالنخل والزرع وسائر الشجر» ، وقال الضحاك : «كلاهما في الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش ، بل يبقى على وجه الأرض منبسطا». وقال في الكشاف : «معروشات : مسموكات. وغير


معروشات ، متروكات على وجه الأرض لم تعرش. وقيل : المعروشات ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به ، فعرّشوه.

وغير معروشات مما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال ، فهو غير معروش».

الاعراب :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) الواو استئنافية ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة أنشأ لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجنات مفعول به ، ومعروشات صفة ، وغير معروشات عطف على معروشات (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) والنخل والزرع :عطف على جنات ، ومختلفا حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، وأكله فاعل «مختلفا» لأنه اسم فاعل (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) عطف على ما سبقه أيضا ، وخصّ هذه الأجناس لما فيها من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات ، ومتشابها حال ، وغير متشابه عطف عليه (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان إباحته. وكلوا فعل أمر والواو فاعل ، ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بكلوا ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وآتوا فعل أمر معطوف على كلوا ، وحقه مفعول به ، ويوم ظرف زمان متعلق بآتوا ، وحصاده مضاف إليه ، والمراد بالحق هنا الزكاة ، ولا يشكل كون السورة مكية ، والزكاة فرضت بالمدينة ، لأن هذه الآية مدنية ، والمراد به أيضا ما كان يتصدق به على المساكين وقت الحصاد ، وكان ذلك معروفا (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ،


وتسرفوا فعل مضارع مجزوم بلا ، أي : لا تجاوزوا الحدّ ، قال الزّجاج : وعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ، ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف. وإن واسمها ، وجملة لا يحب المسرفين خبرها ، وجملة إن وما في حيزها تعليل لما تقدم.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

اللغة :

(حَمُولَةً) الحمولة بفتح الحاء : ما أطاق الحمل عليه من الإبل.


(فَرْشاً) والفرش : صغارها. هذا هو المشهور في اللغة ، قال في الأساس : «ومرت الحمولة : وهي الإبل التي يحمل عليها ، «ومن الأنعام حمولة وفرشا» ، وقال عنترة :

ما راعني إلّا حمولة أهلها

وسط الديار تسفّ حبّ الخمخم

قال شارحه الزوزني : «الحمولة : الإبل التي تطيق أن يحمل عليها». وقيل : «الحمولة : كبار النعم ، أعني الإبل والبقر والغنم ، والفرش صغارها». وقال الزّجّاج : «أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل». وقال أبو زيد : «يحتمل أن يكون تسميته بالمصدر ، لأن الفرش في الأصل مصدر ، والفرش لفظ مشترك بين معان كثيرة ، منها : متاع البيت ، والفضاء الواسع ، واتساع خفّ البعير قليلا ، والأرض الملساء ، ونبات يلتصق بالأرض». وقيل : الحمولة : كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش : ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش». وقال الزمخشري : «أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال ، وما يفرش للذبح ، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل : الحمولة التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار ، كالفصلان والعجاجيل والغنم ، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها ، مثل : الفرش المفروش عليها».

(الضَّأْنِ) : قيل : هو جمع ضائن للذكر وضائنة للمؤنث ، وقيل :اسم جمع ، وكذا يقال في المعز ، سواء سكّنت عينه أو فتحت. وفي القاموس : أضئن ضأنك : اعزلها من المعز. والضأن اسم جنس بخلاف الماعز من الغنم ، والضائن : ذو الصوف ، خلاف الماعز من الغنم ،


وجعمه ضأن وضأن وضئين وضئين. وفي الأساس : ماله الضّأن والمعز والضّئين والمعز ، وعنده ضأئنة من الغنم ولحم وجلد ضائن وماعز ، وأضأن فلان وأمعز كثر ضأنه ومعزه ، وتقول العرب : اضأن ضأنك وامعز معزك أي : اعزلها».

(الْمَعْزِ) في المصباح : المعز اسم جنس لا واحد له من لفظه ، وهي ذوات الشعر من الغنم ، الواحدة : شاة ، وهي مؤنثة ، وتفتح العين وتسكن ، وجمع الساكن أمعز ومعيز مثل : عبد : أعبد وعبيد ، والمعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث ، ولهذا ينوّن في النكرة ، ويصغر على معيز ، ولو كانت الألف للتأنيث لم تحذف. والذكر ماعز ، والأنثى ماعزة.

الاعراب :

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) الواو حرف عطف ، ومن الأنعام جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لـ «حمولة وفرشا» ، وتقدم عليهما ، وحمولة عطف على جنات ، أي :وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جمجموا به واضطربت به أقوالهم ، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة ، وإناثها تارة ، فأنكر عليهم ذلك. وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون ، والواو فاعل ، ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا ، وجملة رزقكم الله لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ولا ناهية ، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، وخطوات الشيطان مفعول به ، والجملة معطوفة على جملة كلوا ، وإن واسمها ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وعدو خبر إن ، ومبين صفة ، والجملة


تعليلية لا محل لها (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ثمانية أزواج بدل من حمولة وفرشا ، وقيل : هو منصوب بكلوا مما رزقكم الله ، أو بـ «أنشأ» مقدرة ، وإلى هذا ذهب الكسائي.

والزوج : ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل ، والمراد أربعة ذكور من كل من الإبل والبقر والغنم ، وأربع إناث كذلك ، ومن الضأن جار ومجرور متعلقان بفعل أنشأ مقدرا ، واثنين بدل من ثمانية أزواج ، وقد عطف على بقية الثمانية (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) قل فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، والجملة معترضة لا محل لها ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والذكرين مفعول به مقدم لحرّم ، وأم حرف عطف ، والأنثيين عطف على الذكرين ، والجملة في محل نصب مقول القول (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم الثانية عاطفة ، عطفت «ما» الموصولية بعدها على الأنثيين ، فهي في محل نصب ، فلما التقت ميم ساكنة مع ما بعدها وجب الإدغام ، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة معترضة أيضا مسوقة لتعجيزهم ، وقد وقعت هاتان الجملتان الاعتراضيتان بين المعدودات للتأكيد على بطلان أقوالهم ، ونبئوني فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وبعلم جار ومجرور متعلقان بنبئوني ، وإن شرطية ، وكان واسمها ، وهي فعل الشرط ، وصادقين خبرها ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) تقدم إعراب نظيرها تماما (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أم منقطعة وهي تقدر ببل والهمزة والتقدير : بل أكنتم شهداء ، وإذ ظرف متعلق بشهداء وجملة وصاكم الله في محل جر بالاضافة وبهذا متعلقان بوصاكم (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء هي الفصيحة ، أي :


إذا عرفتم هذا ورسخ في عقولكم ، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، وأظلم خبر ، والجملة لا محل لها ، والاستفهام معناه النفي ، أي : لا أحد أظلم ، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم ، وجملة افترى لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى ، وكذبا مفعول به أو مفعول مطلق ، وقد تقدم إعراب نظيره. واللام للتعليل ، ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والناس مفعول به ، ولام التعليل ومدخولها متعلقان بافترى ، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل افترى ، أي : افترى عليه تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن واسمها ، وجملة لا يهدي خبرها ، والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم ، والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها من الإعراب.

الفوائد :

الإدغام : هو إدخال حرف في حرف آخر من جنسه ، بحيث يصيران حرفا وأحدا مشددا ، وله ثلاث أحوال :

١ ـ وجوب الإدغام :

وذلك إذا كانا متجانسين في كلمة واحدة ، وأما قول الشاعر :

الحمد لله العليّ الأجلل

الواسع الفضل الوهوب المجزل

فمن الضرورات الشعرية. ويجب إدغام المثلين المتجاورين أولهما إذا كانا في كلمتين ، كما كانا في كلمة واحدة ، مثل : سكتّ وسكّنا وعنّي وعليّ ، واكتب بالقلم ، واستغفر ربك ، وكالآية التي نحن


بصددها «أمّا اشتملت عليه». وشذت ألفاظ لا يقاس عليها ، مثل :ألل السّقاء والأسنان إذا تغيرت رائحتها وفسدت ، ودبب الإنسان إذا نبت الشعر في جبينه ، وضببت الأرض إذا كثر ضبابها ، وقطط الشعر إذا كان قصيرا جعدا ، ويقال قطّ بالإدغام ، ولححت العين إذا ألصقت أجفانها بالرّمص ، والخخت إذا كثر دمعها وغلظت أجفانها.

٢ ـ جواز الإدغام وتركه :

ويكون في أربعة مواضع :

آ ـ أن يكون الحرف الأول من المثلين متحركا والثاني ساكنا بسكون عارض للجزم ، أو للبناء في الأمر المفرد ، فتقول : لم يمدّ ومدّ بالإدغام ، ولم يمدد وامدد ، والفكّ أجود ، وبه نطق القرآن ، قال تعالى : «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار». وقال : «واشدد على قلوبهم». وتكون حركة ثاني المثلين المدغمين في المضارع المجزوم والأمر اللذين لم يتصل بهما شيء تابعة لحركة فائه ، وهذا هو الأكثر ، ونرى أن يحرك بالفتح للتخفيف.

ب ـ أن يكون عين الكلمة ولامها ياءين ، لازما تحريك ثانيهما ، مثل : عيي وحيي. فتقول : عيّ وحيّ ، فإن كانت حركة الثانية عارضة للإعراب مثل : لن يحيي ، امتنع إدغامه.

ج ـ أن يكون في أول الفعل الماضي تاءان مثل : تتابع وتتبّع ، فيجوز الإدغام مع زيادة همزة وصل في أوله ، دفعا للابتداء بالساكن ،


مثل : اتّابع واتّبع ، فإن كان مضارعا لم يجز الإدغام ، بل يجوز تخفيفه ، بحذف إحدى التاءين فتقول في : تتلظّى : تلظّى ، وفي تتجلّى : تجلّى ، قال تعالى : «تنزّل الملائكة والرّوح» وقال :«نارا تلظّى» وقال أبو تمّام يصف الربيع :

أضحت تصوغ بطونها لظهورها

نورا تكاد له القلوب تنوّر

د ـ أن يتجاوز مثلان متحركان في كلمتين ، مثل : جعل لي ، وكتب بالقلم ، فيجوز الإدغام بإسكان المثل الأول ، فتقل : جعل لي وكتب بالقلم ، غير أن الإدغام يجوز هنا لفظا لا خطّا.

٣ ـ امتناع الإدغام : وذلك في سبعة مواضع : آ ـ أن يتصدر المثلان كددن ، أي : لعب.

ب ـ أن يكونا في اسم على وزن فعل (بضم ففتح) كدرر ، أو فعل (بضمتين) كسرر ، أو فعل (بكسر ففتح) كلمم ، أو فعل (بفتحتين) كطلل.

ج ـ أن يكون المثلان في وزن مزيد فيه للإلحاق كجلبب وهيلل.

د ـ أن يتصل بأول المثلين مدغم فيه ، كهلّل. وذلك لأن الإدغام الثاني بمثابة تكرّر الإدغام ، وهو ممنوع.


ه ـ أن يكون المثلان على وزن (افْعَلْ) في التعجب ، نحو : أحبب بالعلم.

و ـ أن يعرض سكون أحد المثلين لا تصاله بضمير رفع متحرك كمددت.

ز ـ أن يكون مما شذت العرب في فكه اختيارا ، وهي ألفاظ محفوظة تقدم ذكرها في مستهل البحث.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

اللغة :

(مَسْفُوحاً) : السفح : الصبّ ، وسفح يأتي لازما ومتعديا ، يقال : سفح فلان دمعه ودمه أي : أهرقه ، إلا أن الفرق بينهما وقع


باختلاف المصدر ، ففي المتعدي يقال : سفحا ، وفي اللازم يقال : سفوحا ، وفي هذه الآية وقع متعديا لأن اسم المفعول لا يبنى إلا من متعد ، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثيّر عزة :

أقول ودمعي واكف عند رسمها

عليك سلام الله والدمع يسفح

ومن المجاز في هذه المادة : وبينهم سفاح : أي قتال أو معاقرة ، لأنهم يتسافحون الدماء ، وسافحها مسافحة زاناها ، لأن كلّا منهما يسفح ماءه ويضيعه. ومن أقوالهم : «في النكاح غنية عن السفاح».

وقد مر ذكر هذه المادة وخصائص اجتماع السين والفاء فاء وعينا للكلمة.

(الْحَوايا) : الأمعاء والمصارين.

الاعراب :

(قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما حرمه الله تعالى عليهم ، وجملة لا أجد مقول القول ، وفيما جار ومجرور متعلقان بأجد ، وجملة أوحي إليّ لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإليّ جار ومجرور في موضع رفع على أنه نائب فاعل أوحي ، ومحرما مفعول به لأجد ، أي : شيئا محرما ، وعلى (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) الاستثناء متصل ، طاعم جار ومجرور متعلقان بمحرّم ، وجملة يطعمه صفة لطاعم لأنه استثناء من الجنس ، وموضعه نصب ، ويجوز أن يكون استثناء


منقطعا ، لأنه كون وما قبله عين ، وموضعه نصب أيضا ، وميتة خبر يكون. واسمها مستتر يعود على قوله : «محرما» وجملة الاستثناء نصب على الحال ، ودما منسوق على ميتة ، ومسفوحا صفة ، أي :سائلا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال ، وأو لحم خنزير معطوف عطف نسق أيضا (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) الفاء للتعليل ، وإن واسمها ، ورجس خبرها ، وأو حرف عطف ، وفسقا معطوف عطف نسق على لحم خنزير ، وجملة أهل صفة ، وأهل فعل ماض ، ولغير الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وبه جار ومجرور متعلقان بأهل ، وجملة «فإنه رجس» تعليلية لا محل لها (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ، والجواب محذوف ، أي : فلا مؤاخذة عليه. ومعنى اضطر أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر ، وغير باغ حال ، أي : غير ظالم. ولا عاد عطف على باغ ، أي غير معتد. وقد سبق تحقيق كلام مماثل له في سورة البقرة. والفاء تعليلية وإن واسمها ، وغفور خبر أول ، ورحيم خبر ثان ، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب تحريم كل ذي ظفر على اليهود لظلمهم ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة البقرة ، وليشمل كل ذي ظفر ، وهو النعامة والبعير ونحو ذلك من الدواب ، وكل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير ، مثل البعير والنعامة والأوز والبط. وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بحرمنا ، وهادوا فعل وفاعل ، وحرمنا فعل وفاعل أيضا ، وكل مفعول به ، وذي مضاف إليه ، وظفر مجرور بإضافة «ذي» إليه (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الواو عاطفة ، ومن البقر


جار ومجرور متعلقان بحرمنا والغنم عطف على البقر ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بحرمنا ، وشحومهما مفعول به ، والمعنى أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه ، وكل شيء منه ، وترك البقر والغنم على التحليل ، ولم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة ، وهي الثروب ، أي : الشحوم الرقيقة التي تغشى الكرش والأمعاء وشحم الكلى. جمع كلية أو كلوة ، بضم الكاف فيهما. (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) إلا أداة استثناء ، وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم ، وجملة الاستثناء حالية ، وجملة حملت لا محل لها لأنها صلة ، وأو حرف عطف والحوايا عطف على ظهورهما ، أو ما اختلط بعظم أو حرف عطف ، وما اسم موصول معطوف على ظهورهما ، واختلط فعل ماض وفاعله هو ، وبعظم جار ومجرور متعلقان باختلط (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة لبيان علة التحريم ، وذلك اسم الاشارة مبتدأ ، وجملة جزيناهم خبر ، وببغيهم جار ومجرور متعلقان بجزيناهم ، ولا بد من تقدير ضمير ، أي : جزيناهم به ، بسبب بغيهم. وسيأتي مزيد من إعراب هذا التعبير. والواو استئنافية أو حالية ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وصادقون خبر إن.

الفوائد :

قال أبو البقاء : «ذلك في موضع نصب بجزيناهم ، وقيل : مبتدأ ، والتقدير جزينا هموه ، وقيل : هو خبر لمحذوف ، أي الأمر ذلك» ويلاحظ أن أبا البقاء لم يبّين على أي شيء انتصب؟ هل على المصدر أو على المفعول به؟ وقال الزمخشري : «ذلك الجزاء جزيناهم ، وهو


تحريم الطيبات» : وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر. وقال أبو حيّان : «وزعم ابن مالك أن اسم الاشارة لا ينتصب مشارا به الى المصدر إلا وأتبع بالمصدر ، فتقول : قمت هذا القيام ، وقعدت ذلك القعود. ولا يجوز قمت هذا ، ولا قعد ذلك» فعلى هذا لا يصح انتصاب «ذلك» على أنه إشارة الى المصدر. قلت : وذهب سيبويه والجمهور الى أن ذلك لا يشترط ، ومن كلام العرب : «ظننت ذلك» ، يشيرون به الى الظنّ.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨))

الاعراب :

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) الفاء استئنافية ، وإن شرطية ، وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به ، وهو في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وقل فعل أمر ، وربكم مبتدأ


مرفوع ، وذو رحمة خبر ، وواسعة صفة لرحمة ، والجملة في محل نصب مقول القول ، وجملة القول وما في حيزه في محل جزم جواب الشرط (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الواو عاطفة ، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية داخلة في حيز القول ، ويرد فعل مضارع مبني للمجهول ، وبأسه نائب فاعل ، وعن القوم جار ومجرور متعلقان بيرد ، والمجرمين نعت للقوم ، (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) الجملة مستأنفة مسوقة للإخبار بما يصدر عنهم من قول. والسين حرف استقبال ، ويقول فعل مضارع ، والذين فاعل ، وجملة أشركوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة لو شاء الله في محل نصب مقول القول ، ولو شرطية ، وشاء الله فعل وفاعل ، ومفعول المشيئة محذوف ، أي : لو شاء عدم إشراكنا ، وقد تقدمت له نظائر. ولا آباؤنا عطف على الضمير في أشركنا ، وجاز العطف لوجود «لا» (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) عطف على ما أشركنا ، ومن زائدة في المفعول به (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدم ، أي : كذب الذين من قبلهم تكذيبا مثل ذلك التكذيب (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) حتى حرف غاية وجر ، أي : استمروا على التكذيب حتى ذاقوا ، وبأسنا مفعول به ، وهل حرف استفهام ، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ومن زائدة في المبتدأ المؤخر ، والجملة مقول القول. والفاء فاء السببية ، وتخرجوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ، والواو فاعل ، والهاء مفعول به ، ولنا جار ومجرور متعلقان بتخرجوه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) الجملة استئنافية ، وإن نافية ، وتتبعون فعل مضارع مرفوع ، والواو فاعل ، وإلا أداة حصر ،


والظن مفعول به ، وإن الواو عاطفة ، وإن نافية ، وأنتم مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وجملة تخرصون خبر أنتم.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

الاعراب :

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) جملة القول مستأنفة ، والفاء هي الفصيحة ، لأنها أفصحت عن شرط مقدر ، أي قل : فإن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البالغة ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والحجة مبتدأ مؤخر ، والبالغة صفة ، أي : التي بلغت غاية النهاية والوضوح ، وقطعت كل عذر للمحجوج والجملة مقول القول (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة ، ولو شرطية ، وشاء فعل وفاعل مستتر ، والمفعول به محذوف ، أي : هدايتكم ، واللام واقعة في جواب لو ، وهداكم فعل وفاعل مستتر ، ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وأجمعين تأكيد للضمير ، وسيأتي حكم التأكيد بأجمع في باب الفوائد (قُلْ : هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ


يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) الجملة مستأنفة ، وقل فعل أمر ، وهلم اسم فعل أمر ، وسيأتي بحث عنها في باب الفوائد ، وشهداءكم مفعول به ، فان اسم الفعل يعمل عمل مسماه من تعد ولزوم ، والذين صفة ، وجملة يشهدون صلة ، وأن الله أن واسمها في محل نصب بنزع الخافض ، وجملة حرم هذا خبر أن (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) الفاء عاطفة ، وإن شرطية ، وشهدوا فعل ماض ، والواو فاعل ، وهو في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، ولاناهية ، وتشهد فعل مضارع مجزوم بلا ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، ومعهم ظرف مكان متعلق بتشهد (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا ، وأهواء مفعول به ، والذين اسم موصول في محل جر بالإضافة ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا والجملة صلة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الواو عاطفة ، والذين عطف على اسم الموصول المتقدم ، والغرض تعداد صفاتهم القبيحة. والمعنى : ولا تتّبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة والإشراك به.

وجملة لا يؤمنون صلة الموصول ، وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون ، والواو حرف عطف ، وهم مبتدأ ، وجملة يعدلون خبره ، وبربهم جار ومجرور متعلقان بيعدلون.

البلاغة :

في إطلاق اسم الشهادة على التسليم لهم وموافقتهم وتصديقهم في الشهادة الباطلة ، استعارة تصريحية تبعية ويصح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، لأن الشهادة من لوازم التسليم.


الفوائد :

إذا أريد تقوية التوكيد يؤتى بكلمة «أجمع» بعد كلمة «كله» ، وبعد كلمة «كلها» بكلمة «جمعاء» ، وبعد كلمة «كلهم» بكلمة «أجمعين» ، وبعد كلمة «كلهنّ» بكلمة «جمع» ، تقول : جاء الصفّ كله أجمع ، وجاءت القبيلة كلها جمعاء ، وقال تعالى : «فسجد الملائكة كلهم أجمعون» ، وجاءت النساء كلهن جمع. وقد يؤكّد بأجمع وجمعاء وأجمعين وجمع وإن لم يتقدمهن لفظ «كلّ» ، ومنه قوله تعالى : «لأغوينهم أجمعين».

هذا ، ولا يجوز تثنية أجمع وجمعاء ، استغناء عن ذلك بلفظي :كلا وكلتا. قال ابن مالك في ألفيته مجملا قاعدة أجمع :

وبعد كل أكدوا بأجمعا

جمعاء أجمعين ثم جمعا

ودون كل قد يجيء أجمع

جمعاء أجمعون ثم جمع

هلمّ : كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء ، فتكون لازمة وقد تستعمل متعدية ، نحو : هلم شهداءكم ، أي : أحضروهم ، وهي من أسماء الأفعال ، يستوي فيها الواحد والجمع ، والتذكير والتأنيث ، ويصرفونها بأن يجعلوها فعلا ويلحقوها الضمائر ، فيقولون في المثنى : هلما ، وفي المؤنث : هلمي ، وفي الجمع للذكور : هلموا ، وللنساء : هلممن والأول أفصح. وقد توصل باللام ، فيقال : هلمّ لك ، كقولهم : هيت لك. وقد تلحقها نون التوكيد الثقيلة ، فيقال : هلمّنّ يا رجل ، وهلمنّ يا امرأة ، وهلمّانّ يا رجلان ، ويا امرأتان ، وهلمّنّ يا رجال ، وهلمنانّ يا نسوة.


(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))

اللغة :

(تعال) من الخاصّ الذي صار عاما ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر واتسع حتى عم. وهو فعل أمر مفتوح الآخر دائما ، ومن ثم لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله :

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

الاعراب :

(قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتلو عليهم ما حرم ربهم عليهم حقيقة لا ظنا ، ويقينا لا حدسا. وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول ، وهو فعل أمر مبني على حذف النون ، والواو فاعل ، وأتل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ، وابن هشام يؤثر أن يقال : إنه جواب الشرط مقدّر ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة


حرم عليكم لا محلّ لها لأنها صلة الموصول ، والعائد محذوف ، أي :الذي حرّمه. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، أي : اتل تحريم ربكم. والتحريم لا يتلى ، ولكنه مصدر واقع موقع المفعول به.

وربكم فاعل حرم ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم أو بأتل ، على أن المسألة من باب التنازع (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) في «أن» أوجه عديدة ، والمختار منها وجهان : أولهما أنها مفسرة ، لأنه تقدمها ما هو معنى القول دون حروفه ، ولا ناهية ، وتشركوا فعل مضارع مجزوم بها ، والجملة لا محل لها لأنها مفسّرة. والوجه الثاني أنها مصدرية ، وهي وما في حيزها بدل من «ما حرم» ، وبه جار ومجرور متعلقان بتشركوا ، وشيئا مفعول به أو بمعنى المصدر ، فهي مفعول مطلق. وقد تقدمت الإشارة إلى مثيله. وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل المصدر المحذوف ، أي أحسنوا بالوالدين ، وإحسانا مفعول مطلق للفعل المحذوف ، وسيأتي بحث هام لابن هشام في إعراب هذه الآية في باب الفوائد (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا ، وأولادكم مفعول به ، ومن إملاق جار ومجرور متعلقان بتقتلوا ، أي : لأجل الإملاق ، فمن سببية ، ولم ينصب المفعول لأجله لاختلال شرطه ، لأن الإملاق مصدر غير قلبي ، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. ونحن مبتدأ وجملة نرزقكم خبر ، وجملة نحن نرزقكم مستأنفة لتعليل النهي قبله ، وإياهم عطف على الضمير في نرزقكم ، وقدم المخاطبين على ضمير الأولاد بعكس آية الإسراء لسرّ بلاغي ، سيأتي في باب البلاغة (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الواو حرف عطف ، ولا ناهية ، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، والفواحش مفعول به ، وما اسم موصول في محل


نصب بدل من الفواحش ، وهو بدل اشتمال ، وجملة ظهر لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ومنها جار ومجرور متعلقان بظهر ، وما بطن عطف على ما ظهر (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) عطف على ما تقدم ، داخل في حيزه ، لاستيفاء المحرمات ، وهي عشرة أشياء.

ولا ناهية ، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والنفس مفعول به ، والتي اسم موصول في محل نصب صفة ، وجملة حرم الله لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإلا أداة حصر ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق ، فالباء للملابسة ، وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف حال من الواو في «تقتلوا» ويجوز أن يكون الاستثناء المفرّغ من الفعل نفسه ، فيكون الجار والمجرور مفعولا مطلقا ، أي : إلا القتل الملتبس بالحق : كالقود وحدّ الرّدّة ورجم المحصن (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) اسم الاشارة مبتدأ ، والجملة مستأنفة مسوقة للاشارة إلى ما تقدم ، وجملة وصاكم خبر ذلكم ، وبه جار ومجرور متعلقان بوصاكم ، ولعلكم تعقلون لعل واسمها وخبرها ، وجملة الرجاء حالية ، أي : لعلكم تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم ، وتحبسها عن اجتراح هذه المنهيّات.

البلاغة :

اشتملت هذه الآية على أفانين عجيبة من البلاغة ، تستلزم التطويل ، ولكنه التطويل غير المملول ، فحديث الجمال يطول ، وكلما طال ازداد حسنا ، كالجمال نفسه كلما أمعنت النظر فيه ازدادت معالم حسنه :

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا


١ ـ التوهيم :

فالفن الأول في هذه الآية هو فن التوهيم وقد سبقت الاشارة إليه في سورة «آل عمران» ، ونجدد العهد به هنا فنقول : هو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها ، وهو يريد غير ذلك ، وذلك في قوله : «أن لا تشركوا به شيئا».

فإن ظاهر الكلام يدل على تحريم نفي الشرك ، وملزومه تحليل الشرك ، وهذا محال ، وخلاف المعنى المراد ، والتأويل الذي يحلّ الإشكال هو أن في الوصايا المذكورة في سياق الآية وما بعدها ما حرّم عليهم وما هم مأمورون به ؛ فإن الشرك بالله ، وقتل النفس المحرمة ، وأكل مال اليتيم ، مما حرّم ظاهرا وباطنا ، ووفاء الكيل والميزان بالقسط والعدل في القول ، فضلا عن الفعل والوفاء بالعهد واتباع الصراط المستقيم من الأفعال المأمور بها أمر وجوب ، ولو جاء الكلام بغير «لا» لانبتر واختل وفسد معناه ، فإنه يصير المعنى حرّم عليكم الشرك ، والإحسان للوالدين ، وهذا ضد المعنى المراد. ولهذا جاءت الزيادة التي أوهم ظاهرها فساد المعنى ليلجأ إلى التأويل الذي يصح به عطف بقية الوصايا على ما تقدم.

٢ ـ التّغاير :

والفنّ الثاني فيها هو التغاير ، وذلك في قوله : «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق». وحدّه تغاير المذهبين ، إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه ، أو يذم ما مدحه غيره ، وبالعكس ، ويفضل شيئا على شيء ، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا. ومن التغاير


تغاير المعنى لمغايرة اللفظ ، مثل قوله : «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم» فإن ذلك غير قوله في هذا المعنى عينه في بني إسرائيل : «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» فقدّم في آية «الأنعام» للفقراء بدليل قوله تعالى : «من إملاق» ، فاقتضت البلاغة تقديم وعدهم ـ أعني الآباء المملقين ـ بما يغنيهم من الرزق ، واقتضت البلاغة تكميل المعنى بعدة الأبناء بعد عدة الآباء ليكمل سكون الأنفس. وفي بني إسرائيل الخطاب للأغنياء ، بدليل قوله تعالى : «خشية إملاق» ، فإنه لا يخشى الفقر إلا الغني ، أما الفقير ففقره حاصل. فاقتضت البلاغة تقديم وعد الأبناء بالرزق ليشير هذا التقديم إلى أنه سبحانه هو الذي يرزق الأبناء ليزول ما توهم الأغنياء من أنهم بإنفاقهم على الأبناء يصيرون الى الفقر بعد الغنى ، ثم كمل هذا الطمأنينة بعدتهم بالرزق بعد عدة أبنائهم. فسبحان قائل هذا الكلام!

التّغاير في الشّعر العربيّ :

هذا وقد افتنّ الشعراء في هذا المعنى وتلاعبوا به وسلكوا به كل واد ، وسنورد لك فيما يلي طائفة مختارة مما تمّ به التغاير ، ومدح الشعراء ما هو مشتهر بالذّم ، وذمّوا ما من حقه المدح. وأول من أشار إلى ذلك عنترة بن شداد الشاعر العبسي والفارس المشهور عند ما اشتهى تقبيل السيوف لأنها التمعت كبارق ثغر من يهواها ، فقال بيتيه المشهورين :

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منّي وبيض الهند تقطر من دمي


فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

وما أجمل قول أبي فراس الحمدانيّ وقد سلك مسلكا آخر فقال :

مسيء محسن طورا وطورا

فما أدري عدّوي أم حبيبي

يقلّب مقلة ويدير طرفا

به عرف البريء من المريب

وبعض الظالمين وإن تناهى

شهيّ الظلم مغتفر الذنوب

وولع البحتريّ بهذا الفن فقال :

عيّرتني بالشيب من بدآته

في عذاري بالهجر والاجتناب

لا تريه عارا فما هو بالشيب ولكنه جلاء الشباب

وبياض البازيّ أصدق حسنا

إن تأمّلت من سواد الغراب

وقال في المعنى نفسه وأجاد :

عذلتنا في عشقها أمّ عمرو

هل سمعتم بالعاذل المعشوق؟

ورأت لمّة ألمّ بها الشّيب فريعت من ظلمة في شروق

ولعمري لولا الأقاحي لأبصر

ت أنيق الرياض غير أنيق

ومزاج الصهباء بالماء أولى

بصبوح مستحسن وغبوق

وسواد العيون لو لم يكمّل

ببياض ما كان بالموموق

أيّ ليل يبهى بغير نجوم؟

وسماء تندى بغير بروق؟


ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر وقد أجمع الناس على طوله حيث قال :

ولقد تأمّلت الفراق فلم أجد

يوم الفراق على امرئ بطويل

قصرت مسافته على متزوّر

منه لدهر هن صبابة وغليل

أما ابن الرومي فقد سما على المتقدمين والمتأخرين في ذمّ ما تواضع الناس على مدحه ، فقال يهجو البدر :

لو أراد الأديب أن يهجو البد

ر رماه بالخطة الشنعاء

قال : يا بدر أنت تغدر بالسا

ري وتغري بزائر الحسناء

يعتريك المحاق في كل شهر

فترى كالقلامة الحجناء

نمش في بياض وجهك يحكي

كلفا فوق وجنة برصاء

لا لأجل المديح بل خيفة الهجر أخذنا جوائز الخلفاء وقال الشريف الرضي يهجو الشمس :

في خلقة الشمس وأخلاقها

شتى عيوب ستة تذكر

رمداء عمشاء إذا أصبحت

عمياء عند الليل لا تبصر

ويغتدي البدر لها كاسفا

وجرمه من جرمها أصغر

حرورها في القيظ لا يتّقى

ودفؤها في القر مستحقر

وخلقها خلق الملول الذي

ينكث للعهد ولا يبصر

ليست بحسناء وما حسن من

يحسر منه الطرف إذ ينظر


ولو أردنا الاستفاضة لملأنا الكتاب كله من هذا الشعر المستطاب الفريد ، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالجيد.

٣ ـ المجاز المرسل :

في قوله تعالى : «من إملاق» فهو جار مجرى الكناية ، لأنه إذا خرج ماله من يده ركبه الفقر فاستعمل لفظ السبب في موضع المسبب ، قال في أساس البلاغة : «ومن المجاز أملق الدهر ماله : أذهبه وأخرجه من يده ، وأملق الرجل : أنفق ماله حتى افتقر ، ورجل مملق. وقال أعرابي : قاتل الله النساء كيف يمتلقن العلل لكأنها تخرج من تحت أقدامهن ، أي : يستخرجنها».

الفوائد :

لابن هشام كلام مطوّل في هذه الآية قال : «وقوله تعالى :«قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا» فقيل :إن لا نافية ، وقيل : ناهية ، وقيل : زائدة ، والجميع محتمل. وحاصل القول في الآية أن «ما» خبرية بمعنى الذي ، منصوبة بـ «أتل» وحرم ربكم : صلة ، وعليكم متعلقة بحرم. هذا هو الظاهر. وأجاز الزجاج كون «ما» استفهامية منصوبة بحرم ، والجملة محكية بـ «أتل» لأنه بمعنى أقول ، ويجوز أن يعلق «عليكم» بـ «أتل» ، ومن رجح إعمال أول المتنازعين ـ وهم الكوفيون ـ رجحه على تعلقه بحرّم. وفي أن وما بعدها أوجه : أن يكونا في موضع نصب بدلا من «ما» ، وذلك على أنهما موصولة لا استفهامية ، إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام. الثاني أن يكونا في موضع رفع خبر


لـ «هو» محذوفا ، أجازهما بعض المعريين. وعليهما فـ «لا» زائدة ، قال ابن الشجري : والصواب أنها نافية على الأول ، وزائدة على الثاني.

والثالث أن يكون الأصل : بيّن لكم ذلك لئلا تشركوا ، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحله الله سبحانه تعالى فأطاعوهم أشركوا ، لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته. والرابع أن الأصل : أوصيكم بأن لا تشركوا ، بدليل أن وبالوالدين إحسانا ، معناه وأوصيكم بالوالدين ، وإن في آخر الآية «ذلكم وصّاكم به» ، وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر. والخامس أن التقدير : «أتل عليكم أن لا تشركوا» ، مدلولا عليه بما تقدم. وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج. والسادس أن الكلام تم عند «حرم ربكم» ثم ابتدئ «عليكم أن لا تشركوا وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وأن لا تقتلوا ولا تقربوا» ، فعليكم على هذا اسم فعل بمعنى الزموا ، و «أن» في الأوجه الستة مصدرية ، و «لا» في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية. والسابع أنّ «أن» مفسرة بمعنى أي ، ولا ناهية ، والفعل مجزوم لا منصوب ، وكأنه قيل : أقول لكم لا تشركوا به شيئا وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وهذان الوجهان أجازهما ابن الشجري». وقال ابن هشام في موضع آخر من المغني :«وأما قول بعضهم في : «قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم أن لا تشركوا به شيئا» إن الوقف قبل «عليكم» ، وإن «عليكم» إغراء ، فحسن ، ويتخلص من إشكال ظاهر في الآية محوج للتأويل».

وإنما أطلنا في الاقتباس لأن الآية كثر فيها الخوض ، فتدبر والله يعصمك.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ


أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

اللغة :

(الأشد) : يقال : بلغ فلان أشدّه : أي قوّته ، بمعنى الإدراك والبلوغ. وهو ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين من العمر ، وهو جمع لا واحد له. أو واحد جاء على بناء الجمع ، هذا ما يتلخص من القاموس.

وقال غيره : «والأشدّ قيل : هو اسم مفرد لفظا ومعنى. وقيل : هو اسم جمع. وعلى هذا فمفرده : شدّة ، كنعمة ، أو شدّ ككلب ، أو شدّ كضر ، أقوال ثلاثة في مفرده» ويمكن أن يقال فيه : هو استحكام قوة الشباب والسنّ حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال.

(الْكَيْلَ) هي الآلة التي يكال فيها ، وأصله مصدر أطلق على الآلة.

(الْمِيزانَ) في الأصل : مفعال ، من الوزن ، وقد تقدم إعلاله في :ميقات ، بالبقرة ، من الوزن ، فأصله مصدر نقل إلى الآلة. ومثله المصباح والمقياس ، لما يستصبح به ويقاس.


الاعراب :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، ومال اليتيم مفعوله ، وإلا أداة حصر ، وبالتي اسم الموصول نعت لمصدر محذوف ، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا. أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن. وهي مبتدأ ، وأحسن خبره ، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وأتى بصيغة اسم التفضيل تنبيها على أن يتحرى في ذلك غاية التحرّي ويفعل الأحسن. وحتى حرف غاية وجر ، ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا ، وأشده مفعول به (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) الجملة معطوفة وأوفوا الكيل فعل وفاعل ومفعول به والميزان مفعول به معطوف على الكيل ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل أوفوا ، أي : مقسطين عادلين ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول به ، أي : تامّين (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الجملة معترضة بين المتعاطفين لا محل لها ، للتنبيه على أن أمر الكيل والميزان ومراعاة العدل فيهما يتطلب دقة ومغالبة للهوى. ولا نافية ، ونكلف فعل مضارع مرفوع ، ونفسا مفعول به ، وإلا أداة حصر ، ووسعها مفعول به ثان ، كأنه قيل : اعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) الواو عاطفة ، وإذا شرطية ظرفية ، وجملة قلتم في محل جر بالإضافة ، والفاء رابطة ، واعدلوا فعل أمر مبني على حذف النون ، والواو حالية ، ولو شرطية غير جازمة ، وكان فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير مستتر ، وذا قربى خبرها ، وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بأوفوا ، وأوفوا فعل أمر


مبني على حذف النون (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تقدم إعراب نظيرها (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) عطف على ما تقدم ، وأن واسمها ، وصراطي خبرها ، ومستقيما حال مؤكدة من صراطي ، والعامل فيها معنى الإشارة ، والفاء الفصيحة ، واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعوله ، والجملة لا محل لها ، والمعنى إذا أردتم الفوز والنجاة من مهاوي البدع ومساقط الضلالات. واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، والسبل مفعول به ، فتفرّق الفاء السببية ، وتفرق أصله تتفرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب النهي ، وبكم جار ومجرور متعلقان بتفرق ، وعن سبيله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : متنائية عن سبيله. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تقدم إعرابها.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا


أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

اللّغة :

(دِراسَتِهِمْ) : مصدر درس العلم ، من باب قتل ، ودرسا أيضا ، وهذا المعنى هو المراد هنا. ولهذه المادة معان عجيبة ، يقال : درس الحنطة دراسا : داسها. ودرس الناقة راضها وأذلها. ورجل مدرّس ودرس الكتاب للحفظ كرّر قراءته ، درسا ودراسة. ودرس المرأة نكحها. ودرست المرأة حاضت. ودرس الثوب : أخلق ، فهو درس ودريس. وبسط دريسا أي : ثوبا وبساطا خلقا. وقتل رجل في مجلس النعمان بن المنذر رجلا فأمر بقتله ، فقال الرجل : أيقتل الملك جاره؟ ويضيع ذماره؟ قال : نعم إذا قتل جليسه ، وخضب دريسه.

أي : بساطه. وطريق مدروس : كثر مشي الناس فيه حتى ذلّلوه.

وربع دارس ومدروس. فأنت ترى أنها تشير الى معنى الرياضة والتذليل والتعبيد بجميع معانيها ، وهذا من الدقة بمكان.

(صَدَفَ) : أعرض ، ويستعمل لازما في الأكثر ، وقد استعمل هنا لازما. وفي القاموس : صدف عنه : أعرض ، وبابه ضرب أو جلس ، وصدف فلانا : صرفه كأصدفة ، ومن هنا يتبين الخطأ في استعمال صدفة بمعنى المصادفة.


الاعراب :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) الأصل في ثم أن تكون للترتيب مع المهلة والتراخي في الزمان ، ومن ثم توقف المفسرون والنحاة في حقيقة العطف بها هنا ، ولم أجد فيما قالوه مقنعا ، وسأنقل ما قالوه أولا ثم أشير الى ما هو أولى بالأرجحية. فقال بعضهم : إن «ثمّ» تأتي للترتيب في الإخبار ، كأن هذا القائل أراد تفادي سبق موسى عليه السلام في الزمان. وزعم الأخفش : أن «ثم» قد تتخلف عن التراخي ، بدليل قولك : أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب. لأن «ثم» في ذلك لترتيب الإخبار ولا تراخي بين الإخبارين. وجعل ابن مالك من ذلك قوله تعالى : «ثم آتينا موسى الكتاب» وقال في المغني : «والظاهر أن «ثمّ» واقعة موقع الفاء» وقد نصّ النحاة على أن «ثم» توضع موضع الفاء كقول أبي دواد جارية بن الحجاج :

كهزّ الرّدينيّ تحت العجاج

جرى في الأنابيب ثم اضطرب

وقال الزّجّاج : هو معطوف على «أتل» ، تقديره. أتل ما حرّم ثم أتل ما آتينا.

وقال الزمخشري : «فإن قلت : علام عطف قوله : «ثم آتينا موسى الكتاب»؟ قلت : على «وصّاكم به». فإن قلت : كيف صحّ عطفه عليه بـ «ثم» والإيتاء قبل التوصية بزمن طويل؟ قلت : هذه التوصية قديمة ، ولم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيهم ، فكأنه قيل :ذلكم وصّيناكم به يا بني آدم قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك أنّا آتينا


موسى الكتاب. ولعل هذا أقرب ما يقال فيه. وآتينا موسى الكتاب فعل وفاعل ومفعولاه ، وتماما مفعول لأجله ، أي : لأجل تمام النعمة والكرامة ، ويجوز أن يكون مصدرا نصب على المفعولية المطلقة ، لأنه بمعنى آتيناه إيتاء تمام لا نقصان ، أو مصدرا نصب على الحالية من فاعل آتينا ، أي : متممين ، أو من الكتاب ، أي : حال كونه ماما. وعلى الذي جار ومجرور متعلقان بـ «تماما» ، أي : على من أحسن القيام به ، وجملة أحسن صلة لا محل لها ، وتفصيلا عطف على «تماما» ، ولكل شيء جار ومجرور متعلقان بـ «تفصيلا» (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة معطوفان على تماما وتفصيلا ، ولعل واسمها ، وجملة الرجاء حالية ، وبلقاء ربهم جار ومجرور متعلقان

بيؤمنون ، وجملة يؤمنون خبر لعل (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعظيم شأن القرآن ، وهذا مبتدأ ، وكتاب خبره ، وجملة أنزلناه صفة أولى ، ومبارك صفة ثانية ، فاتبعوه الفاء الفصيحة ، أي : إذا أردتم أن تنتفعوا ببركته ، فهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، واتبعوه فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، واتقوا عطف على فاتبعوه ، وجملة الرجاء حالية (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لأجله ، على حذف مضاف ، أي : كراهية أن تقولوا ، وإنما كافة ومكفوفة ، وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ، والكتاب نائب فاعل ، وعلى طائفتين جار ومجرور متعلقان بأنزل ، والمراد بهما اليهود والنصارى ، والجملة في محل نصب مقول القول ، ومن قبلنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفتين (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) الواو حالية ، وإن مخففة من الثقيلة ، وهي مهملة ، وقد تقدم بحثها ، وكان واسمها ، وعن


دراستهم جار ومجرور متعلقان بغافلين ، واللام هي الفارقة بين إن المخففة وإن النافية ، وغافلين خبر كنا (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) عطف على أن تقولوا ، ولو شرطية ، وأن واسمها ، وجملة أنزل علينا الكتاب خبرها ، والكتاب نائب فاعل ، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأنزل ، واللام واقعة في جواب لو ، وكان واسمها ، وأهدى خبرها ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بأهدى (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) الفاء الفصيحة ، لأنها جواب محذوف معلل به ، أي : لا تعتذروا فقد فاتتكم أسباب العذر. فقد جاءكم : قد حرف تحقيق ، وجاءكم فعل ومفعول به مقدم وبينة فاعل ، ويجوز أن يكون المحذوف شرطا ، أي : إذا صدقتم فيما تمنون به أنفسكم من وعود مزيفة وأحلام طائشة ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة أو بجاءكم ، وهدى ورحمة معطوفان على بينة ، وكلا الوجهين جميل سائغ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن نزول القرآن ـ مشتملا على جميع عوامل الهدى والرحمة ـ يقتضي أن يكون من يكذب به ويشيح بوجهه عنه أظلم الناس. ومن استفهامية متضمنة معنى النفي ، أي : لا أحد ، وهي في محل رفع مبتدأ ، وأظلم خبر ، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم ، وجملة كذب صلة الموصول ، وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بكذّب ، وصدف عنها عطف على كذب (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الجزاء المترتب على هذا الموقف المتعنت ، ونجزي فعل مضارع ، وفاعله مستتر ، والذين مفعوله ، وجملة يصدفون صلة الموصول ، وسوء العذاب منصوب على أنه مفعول به ثان لنجزي ، أو منصوب بنزع الخافض ، وإضافة السوء الى العذاب من إضافة الصفة


للموصوف ، أي : العذاب السيّء (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) الباء حرف جر ، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بنجزي ، وكان واسمها ، وجملة يصدفون خبرها ، أي : بسبب صدوفهم وإعراضهم.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

الاعراب :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لاستبعاد تأتّي الإيمان منهم ، وهل حرف استفهام متضمن معنى النفي ، لأنهم كانوا بمثابة المنتظرين لذلك ، وينظرون فعل مضارع مرفوع ، والواو فاعل ، وإلا أداة حصر ، وأن تأتيهم الملائكة مصدر مؤول مستثنى مفرّغ ، فهو في محل نصب مفعول به ، وأو حرف عطف ، ويأتي ربك عطف على تأتيهم الملائكة ، وأو يأتي بعض آيات ربك عطف أيضا ، والمعنى أنهم ينتظرون أن يأتي كل آيات ربك أو بعضها لتنبئهم بالساعة (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ


لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) الظرف متعلق بقوله لا ينفع ، وجملة يأتي بعض آيات ربك في محل جر بالإضافة ، ولا نافية ، وينفع نفسا إيمانها فعل ومفعول به وفاعل ، وجملة لم تكن آمنت صفة لـ «نفسا» ، وجاز الفصل بين الموصوف وصفته لأن الفاعل ليس بأجنبي ، والجملة يجوز أن تكون مستأنفة أو حالية ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وجملة آمنت خبر تكن ، وأو حرف عطف ، وكسبت عطف على آمنت ، وخيرا مفعول به (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) الجملة مستأنفة ، مسوقة لتهديدهم.

وجملة انتظروا في محل نصب مقول القول ، والأمر هنا للوعيد ، وحذف المفعول به المنتظر لزيادة التخويف والترويع ، كأن أكبر من أن يدخل في حدود الحدس والتخمين ، والنفس أرهب من المجهول. وإنا منتظرون إن واسمها وخبرها ، والجملة مستأنفة أيضا ، مسوقة لمقابلة ، انتظارهم بمثله.

البلاغة :

في الآية لفّ ، وقد تقدم الحديث عن اللف والنشر. وأصل الكلام : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد. إلا أنه لف الكلامين فجعلها كلاما واحدا إيثارا للبلاغة والإعجاز ، ولم يعقب عليه بالنشر لأن المآل واحد ، وهو معروف لكليهما.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما


أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) كلام مستأنف مسوق للحث على الوحدة التي أمر الله بها ، والنهي عن التفرقة.

وإن واسمها ، وجملة فرقوا صلة الموصول ، ودينهم مفعول به ، وجملة وكانوا عطف على جملة الصلة ، وشيعا خبر كانوا ، وجملة لست خبر إن ، وليس واسمها ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لتمام الفائدة به ، وفي شيء جار ومجرور متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به منهم ، أي : لست مستقرا منهم في شيء ، ويجوز أن يكون في شيء هو الخبر ومنهم حال مقدمة عليه (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن مردّ الأمور الى الله تعالى. وإنما كافة ومكفوفة ، وأمرهم مبتدأ ، والى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وثم حرف عطف ، وينبئهم فعل مضارع ، والهاء مفعوله ، وبما الجار والمجرور في موضع نصب على أنه المفعول الثاني ، وجملة كانوا صلة «ما» ، وجملة يفعلون خبر كانوا (مَنْ جاءَ


بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) كلام مستأنف مسوق لبيان أجر العاملين ، والتقيد بالعشرة لأنه أقل مراتب التضعيف ، وإلا فالجزاء لا يحصى.

ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، وجاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وعشر مبتدأ مؤخر ، وأمثالها مضاف إليه. ويلاحظ أن «عشر» لم تراع فيها القاعدة وهي معاكسة المعدود إذا أفردت ، وسنتكلم عن ذلك في باب الفوائد (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عطف على ما تقدم ، وإلا أداة حصر ، ومثلها مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حرف عطف ، وهم مبتدأ ، ولا نافية ، ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، والجملة خبر «هم» (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجملة مستأنفة لتكرير ما يجب فعله وقوله. وإن واسمها ، وجملة هداني خبرها ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ، وإلى صراط جار ومجرور متعلقان بهداني على أنه مفعول به ثان (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دينا نصب على البدل من محل «إلى صراط» ، لأن معناه : هداني صراطا ، وهدى كما قلنا سابقا يتعدى تارة بـ «إلى» كما هنا وتارة بنفسه كما في قوله. «ويهديكم صراطا مستقيما» ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية ، أي : هداني هداية دين قيم. ولا أدري كيف ساغ أبو البقاء أن يعرب «دينا» مفعولا ثانيا ، مع أن المفعول الثاني هو «إلى صراط» ، وقيما صفة ، أي : مستقيما. وملة إبراهيم بدل من دينا ، وحنيفا حال من إبراهيم ، وما الواو عاطفة ، وما نافية ، وكان واسمها المستتر ، ومن المشركين


جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، والجملة معطوفة على الحال ، فهي حال بعد حال.

الفوائد :

تذكير العدد وتأنيثه :

إنما ذكّر العدد والمعدود مذكّر لأوجه :

١ ـ إن الإضافة لها تأثير كما تقدم ، فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث ، فأعطي حكم المؤنث في سقوط التاء من عدده ، ولذلك يؤنث فعله في حال إضافته ، نحو : «يلتقطه بعض السيارة» وقال قيس :

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديار

٢ ـ إن هذا المذكر عبارة عن مؤنث ، فروعي المراد منه دون اللفظ ، فالمعتبر في التذكير والتأنيث حال الموصوف المنوي لا حالها ، والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها ، ثم حذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، وترك العدد على حاله.

٣ ـ انه اقترن باللفظ ما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث ، وعلى هذا يحمل قول عمر بن أبي ربيعة :

فكان مجني دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

وكان القياس فيه : ثلاثة شخوص ، ولكنه كنّى بالشخوص عن


النساء. والذي سهل ذلك قوله : كاعبان ومعصر ، أي : هن كاعبان ومعصر.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

اللغة :

(النسك) : بتثليث النون وسكون السين ، وبضم النون والسين ، ومثله النّسوك والنّسكة والمنسكة : التزهّد والتّعبّد والتقشف. والناسك : العابد المتزهّد ، ويجمع على نسّاك ، قال أبو العلاء :


صم ثمّ صلّ وطف بمكّة زائرا

سبعين لا سبعا فلست بناسك

جهل الديانة من إذا عرضت له

أطماعه لم يلف بالمتماسك

(خَلائِفَ الْأَرْضِ) الإضافة على معنى «في» والخلائف جمع خليفة ، كصحيفة وصحائف ، فهو من باب قوله :

والمدّ زيد ثالثا في الواحد

همزا يرى في مثل كالقلائذ

وقد تقدم ذكر الخليفة في البقرة.

الاعراب :

(قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) استئناف مسوق لتأكيد القيام بالشرائع الأصولية والفرعية. وجملة إن وما بعدها في محل نصب مقول القول ، وان واسمها ، ونسكي ومحياي ومماتي معطوفة ، وسيأتي حكم المنادى المضاف الى ياء المتكلم في باب الفوائد ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، ورب صفة ، والعالمين مضاف إليه لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ، وقد تقدم في الفاتحة (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لا النافية للجنس ، وشريك اسمها ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، والجملة حالية من رب العالمين أو صفة له ، والواو حرف عطف ، وبذلك جار ومجرور متعلقان بأمرت ، وأنا الواو عاطفة أيضا ، وأنا مبتدأ ،


وأول المسلمين خبره (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون بدا على دعوة هؤلاء الكفار عند ما قالوا له : ارجع إلى ديننا وعبادة آلهتنا. والهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي ، أي : لا أطلب ربا غيره ، وغير الله مفعول به مقدم ، وربا تمييز ، ويجوز إعرابه حالا (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الواو للحال ، وهو مبتدأ ، ورب كل شيء خبره ، والجملة نصب على الحال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) الواو عاطفة ، ولا نافية ، وتكسب كل نفس فعل وفاعل ومضاف إليه ، وإلا أداة حصر ، وعليها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : إلا حالة كون ذنبها مستعليا عليها بما يضرها ولا ينفعها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الواو عاطفة أيضا ، ولا نافية أيضا ، وتزر وازرة فعل مضارع وفاعل ، وزر مفعول به ، وأخرى مضاف إليه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثم حرف عطف ، وإلى ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومرجعكم مبتدأ مؤخر ، والفاء حرف عطف ، وينبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ، والباء حرف جر للسببية ، وما اسم موصول في محل جر بالباء ، والجار والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وجملة كنتم صلة الموصول ، وكان واسمها ، وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون ، وجملة تختلفون خبر كنتم (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) الواو عاطفة ، وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة جعلكم صلة ، وخلائف الأرض مفعول به ثان لجعلكم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) الواو عاطفة ، ورفع فعل ماض ، وبعضكم مفعول به ، وفوق بعض ظرف مكان متعلق برفع ، ودرجات ظرف ، وقد تقدم إعرابها والقول فيها (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) اللام للتعليل ، ويبلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان برفع ،


وفيما جار ومجرور متعلقان بيبلوكم ، وجملة آتاكم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإن واسمها ، وسريع العقاب خبرها ، والجملة مستأنفة للتعليل ، وإنه لغفور رحيم عطف على ما تقدم ، وقد تقدم إعراب ذلك كثيرا.

البلاغة :

الكناية في قوله : «ورفع بعضكم فوق بعض درجات» عن الشرف والفضل ، وهذا التفاوت ليس ناشئا عن عجز عن المساواة بينهم ولكن للابتلاء والامتحان.

الفوائد :

المضاف إلى ياء المتكلم :

يجب كسر آخر المضاف إلى ياء المتكلم لمناسبة الياء ويجوز فتح الياء وإسكانها ، ويستثنى من ذلك المقصور والمنقوص والمثنى وجمع المذكر السالم ، فهذه الأربعة آخرها واجب السكون والياء معها واجبة الفتح ، قال في الخلاصة :

آخر ما يضاف للياء اكسر إذا

لم يك معتلا كرام وقذى

أو يك كابنين وزيدين ففي

جميعها اليا بعد فتحها احتذي

وندر إسكانها بعد الألف.


حملة على أبي العلاء المعري :

وقد قرأ نافع : محياي ومماتي ، في الوصل بسكون ياء «محياي» كما ندر كسرها بعد الألف ، وقد قرأ الأعمش والحسن البصري : «هي عصاي» بكسر الياء ، على أصل التقاء الساكنين ، والكسر مطرد في لغة بني يربوع في الياء المضاف إليها جمع المذكر السالم ، وعليه قراءة حمزة والأعمش : «وما أنتم بمصرخيّ» بكسر الياء ، وبذلك سقط ما قاله المعري في رسالته : «أجمع أصحاب العربية على كراهة قراءة حمزة». وقد رد عليه ابن هشام فقال : «والمعري له قصد في الطعن على الإسلام ، ولعل الذين كسروا لغتهم على إسكان ياء الإضافة فالتقى معهم ساكنان». وقال المرادي في شرح التسهيل : «إن المعري لم بنفرد بما قاله في رسالته ، فما قاله ابن هشام تحامل عليه وإن كان قد رمي بالإلحاد».

بين أبي العلاء والنحاة :

ونرى من المفيد أن نعرض لهذه الخصومة التي اشتجرت بين أبي العلاء والنحاة ، فأبو العلاء كان نحويا ولكنه لم يرد أن يكون نحويا. وكان إماما من أئمة النحو ، ولكن أسلوب النحو لم يرضه ، فنقدهم نقدا مرا ، وتهكم بإمامهم سيبويه ، وتعرّض له بالنقد والتخطئة في مواضع من رسائله ، مما لا يتسع له المجال في كتابنا ، فاكتفينا بالإشارة. وسيأتي في هذا الكتاب المزيد من هذه الخصومة.


سورة الأعراف

مكيّة وآياتها ستّ ومائتان

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

اللغة :

(المص) : تقدم القول مفصلا في سورة البقرة عن فواتح السّور ، ونضيف إليه الآن ما أورده السيوطي في إحدى رواياته ، ومؤدّاه أن هذه الحروف صوت الوحي عند أول نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما ، ، لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم ، والقرآن كلام لا يشبه الكلام ، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم


تعهد ، لتكون أبلغ في قرع الأسماع. وذكر أيضا أن العرب إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ، ويكون تعجبهم منه سبيلا لاستمالتهم ، وسماعهم له سبيلا لاستماع ما بعده ؛ فترقّ القلوب ، وتلين الأفئدة. وفي هذا الذي أورده السيوطي الكثير من الحصافة ، ودقة النظر ، فالنفس إلى المعجب أهشّ ، وإلى المفاجئ غير المألوف المعتاد أشوق.

الاعراب :

(المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : المص : تقدم إعراب فواتح السور في سورة البقرة ، فجدّد به عهدا. وكتاب خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو كتاب ، وجملة أنزل إليك صفة لكتاب ، وإليك جار ومجرور متعلقان بأنزل ، والفاء عاطفة لتأكيد المبالغة في النهي عن الجرح ، وهو هنا الشك والامتراء ، والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ، فالمراد نهيه عما يورث الحرج. ولا ناهية ، ويكن فعل مضارع مجزوم بلا ، وفي صدرك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن المقدم ، وحرج اسمها المؤخر ، ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحرج ، فمن الجارة سببية (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل ، وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأنزل ، وبه جار ومجرور متعلقان بتنذر ، وذكرى : يحتمل أن تكون معطوفة على «لتنذر» ، وامتنع نصبه على المفعولية لأجله لاختلاف زمنه مع زمن المعلل ، ولاختلاف الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله ، وفاعل الإنذار هو النبي ، ويجوز عطفه على محل «لتنذر» ، على غرار عطف الحال


الصريحة على الحال المؤوّلة ، كقوله تعالى «... دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» ، ويجوز رفع «ذكرى» على أنها خبر لمبتدأ محذوف أو العطف على «كتاب» ، وقد سها أبو البقاء فأجاز أن تكون حالا ، وهذا لا يجوز لدخول الواو على حال صريحة. ويجوز جره عطفا على المصدر المؤول من أن المقدرة والفعل ، والتقدير : للإنزال والتذكير.

وقال الكوفيون : هو مجرور عطفا على الضمير في «به» ، وللمؤمنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكرى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة المكلفين عامة ، وخاصة الكافرين ، بدليل قوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء. واتبعوا فعل أمر مبني على حذف النون ، والواو فاعل ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة أنزل صلة الموصول ، وإليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الموصول (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا ، ومن دونه جار ومجرور متعلقان بتتبعوا ، أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وتقدمت ، وأولياء مفعول به ، وقليلا نعت لمصدر محذوف ، أي تذكرا قليلا ، أو نعت لزمان ، أي زمانا قليلا ، وما مزيدة للإيغال في التوكيد للقلة ، وتذكرون : أصله تتذكرون ، فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه ، وعلامة رفعه ثبوت النون ، والواو فاعل.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا


إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

اللغة :

(بَياتاً) أي : ليلا ، وهو في الأصل مصدر ، يقال : بات يبيت ويبات بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة ومبيتا ومباتا من بابي فتح وجلس في المكان : أقام فيه الليل.

(قائِلُونَ) نائمون وقت الظهيرة ، والقيلولة هي نوم نصف النهار أو استراحة نصفه ، وإن لم يكن معها نوم. وهذا مقيل طيب ، وهو شروب للقيل ، وهو شراب القائلة : وهي نصف النهار. وقالت أمّ تأبّط شرّا : «ما سقيته غيلا ، ولا حرمته قيلا» ، وهي رضعة نصف النهار. واقتال الرجل كما تقول : اصطبح واغتبق.

الاعراب :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للتحدث عن الأمم الماضية ، وماذا كان مصيرها؟ بسبب إعراضها عن الحق وصدوفها عن استماع تعاليمه.

وكم خبرية في موضع رفع على الابتداء ، ومن قرية تمييز كم الخبرية ، وقد تقدّم حكمه ، وجملة أهلكناها خبر «كم». ويجوز إعراب «كم» على أنها في موضع نصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسره


ما بعده ، وجملة أهلكناها لا محل لها لأنها مفسرة ، والفاء عاطفة للترتيب والتعقيب ، وسيأتي بحث طريف عنها في باب الفوائد ، وجاءها بأسنا فعل ومفعول به وفاعل ، والجملة معطوفة على أهلكناها ، وبياتا يجوز أن يكون ظرفا باعتبار المعنى ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، بمعنى بائتين ، وعليه أكثر المعربين ، والأول أمكن في المعنى ، والثاني أقيس في الإعراب. وأو حرف عطف ، وهم مبتدأ ، وقائلون خبر ، والجملة معطوفة على «بياتا» ، فهي حالية. وهنا يرد اعتراض وهو : كيف أتت الجملة حالية من دون واو؟ إذ لا يقال : جاءني زيد هو فارس ، بغير واو؟ والجواب سيأتي في باب الفوائد (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) الفاء استئنافية ، وما نافية ، وكان واسمها ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بدعواهم ، وجملة جاءهم بأسنا في محل جر بالإضافة (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إلا أداة حصر ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر كان ، وإن واسمها ، وجملة كنا ظالمين خبر إن ، وجملة إنا وما في حيزها في محل نصب مقول القول (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة ، والمقصود منها ترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية في الذكر حسب ترتيبها عليها في الوجود. واللام موطّئة للقسم ، ونسألن فعل مضارع مبني على الفتح لاقترانه بنون التوكيد الثقيلة وجوبا ، كما ستعلم في باب الفوائد ، والفاعل مستتر تقديره نحن وجملة لنسألنّ معطوفة والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة أرسل صلة الموصول ، وهو بالبناء للمجهول ، ونائب الفاعل الجار والمجرور وهو إليهم ، ولنسألن المرسلين عطف على ما تقدم. ومعنى سؤل المرسل إليهم التسجيل على الكفار إحجامهم عن الاستماع لما قالوه لهم وأبلغوهم إياه (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) عطف على ما تقدم ، وعليهم جار ومجرور


متعلقان بنقصنّ ، أي : على كل من الرسل والمرسل إليهم ما كان من أمرهم ، وبعلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل نقصنّ ، أي : عالمين بمكنونات أحوالهم ، ومنطويات سرائرهم ، وما ندّت عنه شفاههم. والواو للحال ، وما نافية ، وكان واسمها ، وغائبين خبرها ، والجملة في محل نصب على الحال. وجميع هذه الأسئلة والقصص للتوبيخ والتقريع كما يفعل المحقق مع المجرم لإدانته بما فعلته يداه أمامه.

البلاغة :

المجاز المرسل بقوله وكم من قرية أهلكناها فقد ذكر القرية وأراد أهلها ، وهو مجاز علاقته المحلية. وقد تقدمت له نظائر.

الفوائد :

واو الحال :

هي واو يصحّ وقوع الظرف موقعها ، ولها ثلاث أحوال : وجوب الذكر وامتناعه وجوازه. وفيما يلي مواقع تلك

الأحوال :

١ ـ وجوب الذّكر :

آ ـ أن تكون جملة الحال اسمية مجردة من ضمير يربطها بصاحبها ، نحو قوله تعالى : «لئن أكله الذئب ونحن عصبة».

ب ـ أن تكون جملة الحال مصدرة بضمير صاحبها ، نحو :«لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى».


٢ ـ امتناع الذكر في سبع صور :

آ ـ أن تقع بعد عاطف نحو : «وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون».

ب ـ أن تكون مؤكدة لمضمون الجملة قبلها نحو : «ذلك الكتاب لا ريب فيه» إذا أعربنا جملة «لا ريب» حالية.

ج ـ أن تكون ماضية بعد إلا نحو : «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون».

د ـ أن تكون ماضية قبل «أو» نحو :

كن للخليل نصيرا جاد أو عدلا

ولا تشحّ عليه جار أم بخلا

ه ـ أن تكون مضارعة مثبتة غير مقترنة بـ «قد» ، وحينئذ تربط بالضمير وحده ، نحو : «ولا تمنن تستكثر». وأما قول عنترة :

علقتها عرضا وأقتل قومها

قسما لعمر أبيك ليس بمزعم

فجملة : «وأقتل قومها» حال من التاء في «علقتها» ، وهي مقترنة بالواو مع المضارع المثبت ، واختلف في تخريجها ، فقيل :ضرورة ، وقيل : الواو عاطفة ، والمضارع مؤوّل بالماضي ، والتقدير :وقتلت قومها ، فعدل عن لفظ الماضي إلى لفظ المضارع لحكاية الحال الماضية ، ومعناها أن يفرض ما كان في الزمن الماضي واقعا في هذا الزمان ، فيعبر عنه بلفظ المضارع. وقيل : هي واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ محذوف ، أي : وأنا أقتل قومها.


و ـ أن تكون مضارعة منفية بـ «ما» ، نحو قوله :

عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة

فما لك بعد الشّيب صبّا متيّما

ز ـ أن تكون مضارعة منفية بـ «لا» نحو : «وما لنا لا نؤمن بالله» ، فإن كانت الجملة المضارعة منفية بـ «لم» جاز ارتباطها بالواو كقول النابغة :

سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتّقتنا باليد

وجاز عدم ارتباطها بها ، ولكن بالضمير وحده ، نحو : «فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء» ، وقول زهير :

كأنّ فتات العهن في كلّ موطن

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم

وإن كانت منفية بـ «لما» فالمختار ربطها بالواو نحو : «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين» ، وقول الشاعر :

أشوقا ولما يمض لي غير ليلة

فكيف إذا جدّ المطيّ بنا عشرا

٣ ـ جواز الذكر وعدمه :

وذلك في غير ما تقدم من صور وجوبها وامتناعها. وهناك تفاصيل أعرضنا عنها ، يرجع إليها من شاء في كتب النحو المفصلة.

إذا عرفت هذا أدركت أن اعتراض الزمخشري غير وارد ، وإليك التفصيل.


مناقشة ممتعة :

ما يقوله الزمخشري :

ويقول الزمخشري : «فإن قلت : يقال : «جاء زيد هو فارس» بغير واو فما بال قوله تعالى : «أو هم قائلون»؟ قلت : قدّر بعض النحويين الواو المحذوفة ، ورده الزّجّاج وقال : لو قلت : جاءني زيد راجلا أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس ، لم يحتج فيه إلى واو ، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : جاز زيد راجلا ، أو هو فارس ، كلام فصيح وارد على حدّه. وأما : جاءني زيد هو فارس ، فخبيث».

ردّ أبي حيّان على الزمخشري والزجاج :

وقد رد أبو حيان يقول : «فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء ، وأما قول الزمخشري في التمثيلين : لم يحتج فيه إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول ، ففيه إبهام ، وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الثاني ، فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء ، لأنه في الأول لامتناع الدخول ، وفي الثاني لكثرة الدخول ، ولا لامتناعه.

وأما قول الزمخشري : والصحيح إلى آخره ، فتعليله ليس بصحيح ، لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف ، لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حال على حال ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى العطف. تقول : جاءني زيد


والشمس طالعة ، فجاء زيد ليس بحال ، فتعطف عليه جملة حال ، وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال ، وهي قسم من أقسام الواو ، كما تأتي للقسم ، وليست فيه للعطف إذا قلت : والله لتخرجنّ. أما قوله : «فخبيث» فليس بخبيث ، وذلك أنه بناه على أن الجملة الاسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإن حذف الواو منها شاذ ، وتبع في ذلك الفراء ، وليس بشاذّ ، بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب ، نثرها ونظمها ، وهو أكثر من رمل يبرين وفلسطين.

وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة».

تعقيب على كلام أبي حيان :

أقول : لا يخلو ردّ أبي حيان من تهافت ، فقد تعقب عليه بأن أصل الواو العطف ، ثم استعيرت لربط الحال بعاملها ، كما أن الفاء أصلها العطف ، ثم استعيرت لربط الجزاء بالشرط.

الفاء العاطفة :

الفاء للترتيب. وهو إما معنوي كما في : «قام زيد فعمرو» وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في الواقع. أو ذكريّ وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو : «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه». وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في اللفظ فقط ، وأما في الواقع فتارة يكون حاصلا معه في آن واحد أو قبل ما قبلها. وقال الفراء : إنها لا تفيد الترتيب مطلقا.


واحتج بقوله تعالى : «أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون».

وأجيب بأن المعنى : أردنا إهلاكها. ولا شك أن إرادة الإهلاك قبل مجيء البأس ، فيكون ترتيبا ذكريا إذ هو بيان لقوله : «أهلكناها» إذ هو مجمل. والحاصل أن الجمهور يقولون بإفادتها الترتيب مطلقا ، والفراء يمنع ذلك مطلقا. وقال الجرمي : لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمصار ، بدليل : «بين الدخول فحومل» ، وقولهم : «مطرنا بنوء بمكان كذا» فمكان كذا إذا كان وقوع الأمطار فيهما واحدا.

عودة الضمير :

قد أعربوا المضاف إليه بإعراب المضاف ، ولذلك عاد الضمير مؤنثا ومذكرا ، والمراد : وكم من أهل قرية ، ثم حذف المضاف الذي هو الأهل ، وعاد الضمير على الأمرين ، فأنّث في قوله : «فجاءها بأسنا» نظرا إلى التأنيث في اللفظ ، وهو القرية. وذكّر في قوله : «أو هم قائلون» ملاحظة للمحذوف ، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فباشره العامل فانتصب انتصاب المفعول به ، وإن لم يكن إياه في الحقيقة كذلك أعطوه حكمه في غير الإعراب من التأنيث والتذكير ، فمن ذلك قول حسان بن ثابت :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرحيق السلسل

والشاهد فيه تذكير الضمير الراجع إلى بردى ، وهو مؤنث.

والبريض موضع بأرض دمشق.


(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

اللغة :

(مَعايِشَ) في المصباح : عاش عيشا ، من باب سار : صار ذا حياة ، فهو عائش ، والأنثى عائشة ، وعيّاش أيضا مبالغة ، والمعيش والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعيش به ، والجمع المعايش. هذا على قول الجمهور إنه من عاش ، فالميم زائدة ، ووزن معايش مفاعل ، فلا يهمز ، وبه قرأ السبعة. وقيل : هو من معش ، فالميم أصلية ، ووزن معيش ومعيشة فعيل وفعيلة ، ووزن معائش فعائل ، فيهمز. هذا وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث عن عدم همز معايش.

الاعراب :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الواو استئنافية والكلام مستأنف لتقرير وزن الأعمال يوم القيامة بميزانها الحق الثابت الذي لا يطيش به الموزون ، لامتحان الخلق وإظهار حكم العدل ، وإقامة الحجة على الناس. والوزن مبتدأ ، وفي الخبر وجهان : أحدهما هو الظرف


«يومئذ» ، أي : الوزن الحق كائن أو مستقر يومئذ ، أي يوم يسأل الرسل والمرسل إليهم ، فحذفت الجملة المضاف إليها «إذ» وعوض منها التنوين. وقد تقدم بحث هذه المسألة. وفي الحق على هذا الوجه أوجه : منها أنه نعت للوزن ، أي الوزن الحق كائن في ذلك اليوم ، ومنها أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه جواب سؤال مقدر من قائل يقول :ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحق لا الباطل ، وثاني الوجهين في خبر «الوزن» أن يكون الخبر «الحق» و «يومئذ» على هذا الوجه متعلق بـ «الوزن» ، أي : يقع الوزن يومئذ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، وثقلت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، وموازينه فاعل ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، واسم الاشارة مبتدأ ، وهم مبتدأ ثان ، والمفلحون خبر «هم» ، والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة. ويجوز أن يكون «هم» ضمير فصل لا محل له ، والمفلحون خبر أولئك ، وجملة «فأولئك هم المفلحون» في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الجملة عطف على الجملة المتقدمة ، وأولئك اسم إشارة مبتدأ ، والذين اسم موصول خبر ، والجملة جواب الشرط الجازم المقترن بالفاء ، وجملة خسروا أنفسهم صلة الموصول ، وأنفسهم مفعول به (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) الجار والمجرور متعلقان بخسروا ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بيظلمون ، وقد تعدى يظلمون بالباء لتضمنه معنى التكذيب. وسيأتي المزيد عن التضمين في باب الفوائد. وما مصدرية ، وجملة كانوا لا محل لها لوقوعها بعد موصول حرفي ، وجملة يظلمون خبر كانوا (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لتذكيرهم بما


أفاض عليهم من النعم التي تستوجب الشكر ، ولكنهم لم يقابلوها بما يستوجب ، واللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، ومكناهم فعل ماض وفاعل ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم ، وجعلنا فعل وفاعل ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول جعلنا الأول ، ومعايش مفعول جعلنا الثاني ، وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) قليلا نعت لمصدر محذوف أو لظرف محذوف ، وقد تقدمت نظائره. وما زائدة لتأكيد القلة ، وتشكرون فعل مضارع مرفوع وفاعل ، والجملة حالية أو مستأنفة.

الفوائد :

١ ـ التضمين :

هو إشراب لفظ معنى لفظ ، فيعطى حكمه ، ويسمى ذلك تضمينا.

وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدّى كلمتين. هذا ما قاله ابن هشام ، واستشهد على ذلك بقول الزمخشري «ألا ترى كيف رجع معنى «ولا تعد عيناك عنهم» إلى قولك : ولا تقتحم عيناك مجاوزين الى غيرهم ، «ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم» أي : ولا تضموها إليها آكلين». وواضح أن هذا ثراء لفظي ، يزيد في مرونة لغتنا ، وسعة تصرفها ، ولهذا آثرناه بالإشارة.

رأي ابن جنّي :

وقال ابن جني في الخصائص : «إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر ، إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر


فقط ، وعلى هذا فالتضمين مجاز مرسل ، لأنه استعمل اللفظ في غير معناه لعلاقة بينهما وقرينة».

رأي آخر :

وقيل تعقيبا على قول ابن جني : إن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز ، لدلالة المذكور على معناه بنفسه وعلى المحذوف بالقرينة.

رأي العزّ بن عبد السلام :

وقال العز بن عبد السلام في كتابه «مجاز القرآن» التضمين :هو أن يضمن اسم معنى آخر لإفادة معنى الاسمين ، فتعديه تعديته في بعض المواضع ، كقوله : «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» فيضمّن «حقيق» معنى حريص ، ليفيد أنه حريص عليه ، ويضمن معنى فعل ، فتعديه تعديته في بعض المواضع ، كقول الشاعر «قد قتل الله زيادا عنّي» ضمن «قتل» معنى صرف ، لإفادة أنه صرفه حكما بالقتل دون ما عداه من الأسباب ، فأفاد معنى القتل والصرف جميعا.

وسيأتي من آيات الله غرائب في التضمين ، ولهذا نجتزئ بما قدمناه عنه الآن.

٢ ـ إبدال الهمز من الواو والياء :

١ ـ أن تتطرّف إحداهما وهي لام أو زائدة للإلحاق بعد ألف زائدة ، نحو : كساء وسماء ودعاء ، فالهمزة فيهما مبدلة عن واو ،


والأصل كساو وسماو ودعاو ، ونحو : بناء وظباء وفناء ، فالهمزة فيهنّ مبدلة عن ياء ، والأصل : بناي وظباي وفناي.

٢ ـ أن تقع إحداهما عينا لاسم فاعل أعلت فيه ، نحو : قائل وبائع ، فقلبوا عينهما ألفا.

٣ ـ أن تقع إحداهما بعد ألف «مفاعل» ، وقد كانت مدة زائدة في الواحد ، نحو : عجوز وعجائز ، وصحيفة وصحائف ، بخلاف نحو :قسورة وقساور ، ومعيشة ومعايش ، لأن المدة أصلية في الواحد فلا تبدل وشذّ : مصيبة ومصائب ومنارة ومنائر ، بالإبدال ، مع أن المدة في الواحد أصلية.

٤ ـ أن تقع إحداهما ثاني حرفين لينين بينهما ألف مفاعل ، سواء كان اللينان ياءين كنيائف جمع نيف ، أو واوين كأوائل جمع أول ، أو مختلفين كسيائد جمع سيد ، إذ أصله سيود ، اجتمعت فيه الواو والياء ، وسبقت إحداهما فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء.

وهذا المبحث طويل ، وقد اختصرناه جهد الإمكان.

آراء في قراءة الهمزة :

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية : «معائش» بالهمز ، وليس بالقياس كما تقدم ، ولكن هؤلاء رووه وهم ثقات ، فوجب قبوله.

ولذلك نورد بعض آراء علماء اللغة :


الزّجّاج :

قال الزجاج : جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ، ولا أعلم لها وجها إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة.

المازنيّ :

وقال المازني : أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ، ولم يكن يدري ما العربية ، وكلام العرب التصحيح في نحو هذا.

الفرّاء :

وقال الفراء : ربما همزت العرب هذا وشبهه ، يتوهمون أنها فعلية فيشبهون مفعلة بفعيلة.

أبو حيّان :

أما أبو حيان فقد دافع عنها فقال : لسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة. ورد على المازني فقال : وأما قوله : إن نافعا لم يكن يدري ما العربية ، فشهادة على النفي. إلى آخر تلك المناقشة المفيدة.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ


تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢))

الاعراب :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق للتذكير بالنعمة السارية من آدم الى ذريته ، والتي تستوجب الشكران الدائم. واللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به ، ثم حرف عطف للترتيب والمهلة ، وصورناكم عطف على خلقناكم ، وتوجيه الخطاب الى المخاطبين مع أن المراد آدم هو تأكيد معنى الشكران للنعمة السابغة ، ثم قلنا للملائكة عطف على ما تقدم ، وللملائكة جار ومجرور متعلقان بقلنا ، واسجدوا فعل أمر ، والواو فاعل ، والجملة في محل نصب مقول القول ، ولآدم جار ومجرور متعلقان بقوله : اسجدوا (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) الفاء للترتيب مع التعقيب ، كأنما امتثلوا للأمر فور صدوره ، وسجدوا فعل وفاعل ، وإلا أداة استثناء وإبليس مستثنى من فاعل سجدوا ، وجملة لم يكن من الساجدين إما استئنافية كأنها جواب عن سؤال مقدر ، ويجوز أن تكون حالية ، أي : إلا إبليس حال كونه ممتنعا من السجود ، ومن الساجدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، وجملة منعك في محل رفع خبرها ، والمعنى : أي شيء منعك. وأن وما بعدها في


موضع نصب بنزع الخافض ، أي : ما منعك من السجود. وإذ ظرف ماض متعلق بتسجد ، أي : ما منعك من السجود وقت أمري إياك به.

ولا زائدة لتأكيد معنى النفي ، وجملة أمرتك في محل جر بالإضافة (قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) جملة القول مستأنفة مسوقة لجواب إبليس عن السؤال الناشئ عن حكاية عدم سجوده ، وأنا مبتدأ ، وخير خبر ، ومنه جار ومجرور متعلقان بخير ، وجملة خلقتني لا محل لها لأنها مسوقة لتعليل ما ادعاه غرورا واستكبارا من فضله على آدم. ومن نار جار ومجرور متعلقان بخلقتني ، وجملة خلقتني من طين عطف على سابقتها.

البلاغة :

في قوله : «ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك» فنّ التوهيم ، وقد تقدم الإلماع إليه. أي أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها أو تحريفها أو اختلاف إعرابها أو اختلاف معناها. فإن الظاهر ما منعك من السجود. والتأويل الذي يرد هذا الكلام أن العلماء قالوا : ما منعك أي : ما صيرك ممتنعا من السجود. وقد تقدم في آل عمران قوله في اختلاف الإعراب : «ثم لا ينصرون» ليبقى الفعل دالا على الحال والاستقبال. ومن توهيم التصحيف قول أبي الطيب المتنبي :

وإن الفيام التي حوله

لتحسد أرجلها الأرؤس

فإن لفظة «الأرجل» أوهمت السامع أن المتنبي أراد القيام بالقاف ، ومراده الفيام ، وهي الجماعات ، لأن الفيام يصدق على أقل الجمع ، فتفوت المبالغة منه.


(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦))

اللغة :

(الصَّاغِرِينَ) الصّغار بفتح الصاد : الذل والضيم. وقد صغر الرجل ، من باب طرب ، فهو صاغر ، والصاغر أيضا : الراضي بالضيم.

(أَنْظِرْنِي) : أخّرني.

الاعراب :

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) جملة القول استئنافية ، وفاهبط الفاء عاطفة لترتيب الأمر على ما ظهر من إبليس من المخالفة ، وفما الفاء عاطفة أيضا ، و «ما» نافية أيضا ، ويكون فعل مضارع تام لأنه متضمن معنى ينبغي أو يصح ، ولك جار ومجرور متعلقان بيكون لأنه متضمن معنى يصح ، وأن مع مدخولها في تأويل مصدر فاعل يكون ، وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الفاء عاطفة ، لتأكيد الأمر بالهبوط ، وإن واسمها ، ومن الصاغرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب حال ، أي : ذليلا صاغرا


(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) جملة القول مستأنفة ، وجملة أنظرني في محل نصب مقول القول ، والى يوم جار ومجرور متعلقان بأنظرني ، وجملة يبعثون في محل جر بالإضافة ، ولهذا أعرب الظرف لإضافته لجملة معربة كما تقدم ، ويبعثون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) جملة إنك من المنظرين في محل نصب مقول القول (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الجملة مستأنفة أيضا ، والفاء عاطفة ، والباء حرف جر للسببية ، وما مصدرية ، والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف ، ولا يجوز أن يتعلق الجار والمجرور بـ «أقعدن» ، لأن لام القسم تصد عن ذلك ، لا نقول : والله لأمرن بزيد ، والمعنى : فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم ، أي : فأقسم بإغوائك لأقعدن. وهي مع مجرورها متعلقان بفعله المحذوف ، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ، وأقعدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، ولهم جار ومجرور متعلقان بأقعدن ، وصراطك نصب على الظرفية المكانية ، وسيأتي المزيد من إعرابها في باب الفوائد ، والمستقيم : صفة.

الفوائد :

قال سيبويه في كتابه : وانتصاب «صراطك» على الظرفية ، أي :في صراطك المستقيم. وحكى سيبويه أيضا : ضرب زيد الظهر والبطن.

ورجح أبو حيان انتصابه بنزع الخافض.

عبارة أبي حيّان :

«وانتصب صراطك على إسقاط «على» ، قاله الزّجّاج ، وشبهه


بقول العرب : «ضرب زيد الظهر والبطن» ، أي على الظهر والبطن.

وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا ، لا يقال : «قعدت الخشبة» تريد على الخشبة. قالوا : وعلى الظرف ، كما قال الشاعر فيه : «كما عسل الطريق الثعلب» ، وهذا أيضا تخريج فيه ضعف ، لأن «صراطك» ظرف مكان مختصّ ، وكذلك الطريق ، فلا يتعدى إليه الفعل إلا بواسطة «في» ، وما جاء خلاف ذلك شاذ أو ضرورة». الى أن يقول : «والأولى أن يضمن لأقعدنّ معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب «الصراط» على أنه مفعول به ، والتقدير : لألزمن بقعودي صراطك المستقيم.

الزمخشري وافق سيبويه :

أما الزمخشري فوافق سيبويه قال : «وانتصابه على الظرف كقول ساعدة بن جؤية يصف رمحا :

لدن بهز الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

يصفه بأنه لين يضطرب صلبه بسبب هزه فلا يبس فيه كما عسل أي اضطرب الثعلب في الطريق. فحذف الجار من الثاني للضرورة.

وفي «عسل» معنى الدخول بسرعة.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً


مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

اللغة :

(مَذْؤُماً) في المختار : الذّأم : العيب يهمز ولا يهز ، يقال :ذأمه من باب قطع إذا عابه وحقره ، فهو مذءوم.

(مَدْحُوراً) : دحره : طرده وأبعده ، وبابه قطع.

الاعراب :

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ثم حرف عطف للترتيب والمهلة ، واللام موطّئة للقسم ، وآتينهم : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والفاعل ضمير مستتر ، والهاء مفعول به ، ومن بين أيديهم جار ومجرور متعلقان بآتينهم ، أي : لآتينهم من الجهات الأربع الي يأتي منها العدو ، ولكنه خالف بين حرفي الجر ، فجعل الفعل في الأولين يتعدى بمن ، وهي للابتداء ، وفي الأخيرين بعن ، وهي للمجاوزة ، لأنه يتوجه من الأولين وينحرف من الآخرين متجاوزا ، وسيأتي المزيد من التفصيل في باب البلاغة (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) الواو استئنافية أو عاطفة ، فالجملة بعدها مستأنفة أو معطوفة ، ولا نافية ، وتجد فعل مضارع إمّا من الوجود بمعنى اللّقاء فيتعدّى لواحد ، فيكون «أكثرهم» مفعولا به ، وشاكرين حالا ، وإما من الوجود بمعنى العلم فيكون قوله


«شاكرين» مفعولا به ثانيا (قالَ : اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) الجملة مستأنفة ، وأخرج فعل أمر ، ومنها جار ومجرور متعلقان باخرج ، ومذءوما مدحورا حالان من فاعل اخرج والجملة مقول القول (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) اللام هي الموطئة للقسم المحذوف ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع ، وتبعك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ولأملأن اللام جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه والجملة القسمية مستأنفة.

ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ ، وجملة تبعك صلة ، ولأملأن جواب قسم محذوف ، وذلك القسم وجوابه في محل رفع للمبتدأ ، والتقدير : للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم ، وجهنم مفعول به ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بأملأن ، وأجمعين تأكيد للضمير.

البلاغة :

في هذه الآية فن المخالفة بين حرفي الجر ، فقد ذكر الجهات الأربع ، لأنها هي التي يأتي منها العدوّ عدوّه ، ولهذا ترك جهة الفوق والتحت ، وعدى الفعل الى الجهتين الأوليين بمن ، والى الأخريين بعن ، لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها بكليته ، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا ، فناسب في الأولين التعدية بحرف الابتداء ، وفي الآخرين التعدية بحرف المجاوزة. وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة.


فصل رائع للزمخشري :

وفيما يلي فصل رائع للزمخشري بهذا الصدد ، نقتبس منه الفقرات التالية ، لما تضمنته من تجسيد حي ، قال : «فإن قلت : كيف قيل : «من بين أيديهم ومن خلفهم» بحرف الابتداء ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم» بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته الى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التغدية في ذاك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله ، قلنا : معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، ونحوه من المفعول به قولهم : «رميت عن القوس ، وعلى القوس ، ومن القوس» ، لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدأ الرمي منها. وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه ، بمعنى فيه ، لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، تقول : جئته من الليل تربد يعض الليل».

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا


الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠))

اللغة :

(وسوس) الوسوسة : الكلام الخفي المكرر ، ومثله الوسواس ، وهو صوت الحليّ. والوسوسة أيضا : الخطرة الرديئة ، ووسوس لا يتعدى الى مفعول بل هو لازم ، يقال : هو رجل موسوس بكسر الواو ، ولا يقال بفتحها. قاله ابن الأعرابيّ. وقال غيره : يقال موسوس له ، وموسوس إليه. وقال الليث : الوسوسة : حديث النفس ، والصوت الخفي من ريح تهزّ قضيبا ونحوه ، كالهمس.

وقال الأزهري : وسوس ووزوز بمعنى واحد ، وفي القاموس : رجل موزوز أي مغرّد. وسيأتي سرّ تكرير الحروف في باب البلاغة.

(وُورِيَ) : ستر وغطّي ، وهو ماض مبني للمجهول ، وأصله :وارى كضارب ، فلما بني للمجهول أبدلت الألف واوا كضورب.

(السوآت) : العورات ، وكلّ ما يستحيا منه.

الاعراب :

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الواو عاطفة أو استئنافية ، ويا حرف نداء ، وآدم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ، والكلام معطوف على اخرج ، أو بتقدير عامل ، أي : قلنا : يا آدم ،


واسكن فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، وأنت تأكيد للفاعل المستتر ، وزوجك عطف على الضمير المستتر ، والجنة مفعول به ، على السعة ، أو منصوب بنزع الخافض ، وقد تقدم (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) الفاء حرف عطف ، وكلا فعل أمر مبني على حذف النون ، والألف فاعل ، ومن حرف جر ، وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن ، والجار والمجرور متعلقان بكلا ، وجملة شئتما في محل جر بالإضافة (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتقربا فعل مضارع مجزوم بلا ، والألف فاعل ، وهذه اسم إشارة في محل نصب مفعول به ، وقرب يستعمل لازما ومتعديا كما هنا ، والشجرة بدل من اسم الاشارة ، فتكونا الفاء هي السببية ، وتكونا فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوعها جوابا للنهي ، والألف اسم تكونا ، ومن الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونا (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) الفاء عاطفة ، ووسوس فعل ماض ، ولهما جار ومجرور متعلقان بوسوس ، والشيطان فاعل ، وليبدي اللام لام التعليل ، ويبدي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ويصح أن تكون لام الصيرورة أو العاقبة ، ولهما جار ومجرور متعلقان بيبدي ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة ووري صلة لا محل لها ، وعنهما جار ومجرور متعلقان بووري ، ومن سوءاتهما : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. (وَقالَ : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الواو عاطفة ، وقال فعل ماض معطوف على وسوس ، وما نافية ، ونهاكما فعل ماض ، والكاف مفعول به ، والميم والألف حرفان دالان على التثنية ، وربكما فاعل ، وعن هذه جار ومجرور متعلقان بنهاكما ، والشجرة بدل من اسم


الإشارة. وإلا أداة حصر. وأن وما في حيزها استثناء مفرغ من أعم العلل. فهو مفعول لأجله على حذف مضاف ، أي ، إلا كراهة. وأن تكونا مصدر مؤول في محل جر بالإضافة ، تكونا فعل مضارع ناقص منصوب بأن ، والألف اسمها ، وملكين خبر تكونا ، وأو تكونا من الخالدين عطف على جملة تكونا الأولى ، وجملة ما نهاكما مقول القول.

البلاغة :

سر تكرير الحروف في اللفظ الواحد :

هذا باب من أبواب البلاغة ، قلّ من يتفطن له. وقد المع إليه الزمخشري في كشافه وابن الأثير في مثله السائر وابن جني في خصائصه.

ولكن إلماعهم لا يعدو لغة النظر التي لا تنقع الغلة ، ولا تشفي من الأوام ، ويتلخص هذا الباب في أنه كلما تكررت الحروف في اللفظ الواحد كان ذلك إيذانا بتكرير العمل ونقل الفعل من وزن الى وزن ، لم يجنح إليه الواضح في الأصل إلا لهذا السر الخفي ، واللفظ هنا «وسوس» فهو تجسيد حي وتصوير بليغ لدأب إبليس على الإغواء ، وإجهاده نفسه لحملها على أن تزل بهما القدم ، ويرتطما في مزالق الشر ، فهو يوسوس إليهما المرة بعد المرة.

ومن ذلك قولهم : خشن واخشوشن ، لا تفيد خشن ما تفيد كلمة اخشوشن ، لما فيه من تكرير الحروف. وقل مثل هذا في أعشب المكان واعشوشب. فكأنهم لما رأوا كثرة العشب قالوا : اعشوشب.

وسيرد معنا في القرآن الكريم العجيب منه ، كما في هذه الآية.


نموذج شعري للتكرير :

ويحسن بنا هنا أن نورد الآن نموذجا شعريا تعلق فيه الشاعر بأذيال هذا السر الخفي ، وهو قول البحتري من قصيدة يمدح بها المتوكل على الله ، ويذكر حديث الصلح بين أبناء العمومة والخئولة من بني تغلب ، منها قوله :

رفعت بضبعي تغلب بنة وائل

وقد يئست أن يستقلّ صريعها

فكنت أمين الله مولى حياتها

ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها

تألّفتهم من بعد ما شرّدت بهم

حفائظ أخلاق بطيء رجوعها

فأبصر غاويها المحجّة فاهتدى

وأقصر غاليها ودانى شسوعها

وموضع الاستشهاد قوله : «تألّفتهم من بعد ما شردت بهم» فتثقيل تألّفتهم وشردت بهم أمر يستوجبه المقام ، لأنه مقام الإصلاح وإعادة المياه الى مجاريها بين أبناء العمومة والخئولة. وحسبنا ما تقدم الآن. وسيرد له ما يدعمه ويظهر مكان حسنه في مكان آخر.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا


الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

اللغة :

(وَقاسَمَهُما) : أقسم لهما ، والمفاعلة هنا ليست على بابها بل للمبالغة ، ويجوز أن تبقى على باب المفاعلة كما قرر الزمخشري ، كأنه قال أقسم لكما أني لمن الناصحين ، وقالا له : أتقسم بالله أنك لمن الناصحين؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم.

(فَدَلَّاهُما) التدلية والإدلاء : إرسال الشيء من الأعلى الى الأسفل. وقال الأزهري : وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء ، فلا يجد فيها ماء ، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا مطمع فيه ، ولا فائدة منه. قال الفرزدق :

هما دلّتاني من ثمانين قامة

كما انقض باز أقتم الريش كاسره

(بِغُرُورٍ) الغرور : إظهار النصح وإبطان الغش. وغرّه غرّا وغرّة وغرورا : أي خدعه وأطمعه بالباطل. وفي أمثالهم : «أفرّ من ظبي مقمر» لأنه يخرج في الليلة المقمرة ، يرى أنه النهار ، فتأكله


السباع ، ولم يزل يطلب غرّته حتى صادفها ، وأصاب منه غرّة فبطش به. وما غرّك به؟ كيف اجترأت عليه. و «ما غرّك بربك الكريم»؟وأنا غريرك من هذا الأمر : أي إن سألتني على غرّة أجبك به ، لاستحكام علمي بحقيقته. وهو على غرارة : أي على خطر ، وقال النمر بن تولب :

تصابى وأمسى علاه الكبر

وأمسى لجمرة حبل غرر

أي : غير موثوق به. ورضى أعرابي عن امرأة فقال : هي الغرّاء بنت المخضبة. شبهها بالزبدة. ويقال للسوق درّة غرار : أي نفاق وكساد. و «لا غرار في الصلاة» وأصله : غارّت الناقة غرارا إذا نقص لبنها. وفلان مغار الكف للبخيل. ومنه : ما أذوق النوم إلا غرارا. وهذه المادة عجيبة في تنوع معانيها وتساوقها ، في حين تئول كلها الى أصل واحد.

(طَفِقا) : من أفعال الشروع ، وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد.

(يَخْصِفانِ) : في المختار : «خصف النعل خصفا : خرزها.

وقوله تعالى : «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» : أي يلزقان بعضه ببعض ليسترا به عورتهما». وفي المصباح : «خصف الرجل نعله خصفا من باب ضرب فهو خصّاف ، وهو فيه كرقع الثوب».

الاعراب :

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الواو استئنافية ، وقاسمهما فعل وفاعل مستتر ، والهاء مفعول به ، والميم والألف حرفان


دالان على التثنية ، والجملة مستأنفة ، وجملة إن وما في حيزها مفسرة ، لما تنطوي عليه المقاسمة ، وإن واسمها ، ولكما جار ومجرور متعلقان بالناصحين ، ونصح فعل يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر ، وقال الفراء : «العرب لا تكاد تقول نصحتك ، وإنما يقولون : نصحت لك ، وأنصح لك ، وقد يجوز نصحتك». واللام هي المزحلقة ، ومن الناصحين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) الفاء عاطفة ، ودلاهما فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وبغرور جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي مصاحبين للغرور ، فالفاء للمصاحبة ، ويجوز أن يتعلقا بدلاهما ، فتكون لمجرد السببية ، أي :دلاهما بسبب غروره إياهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) الفاء عاطفة ، ولما حينية ظرفية ، أو حرف لمجرد الربط ، وذاقا الشجرة فعل وفاعل ومفعول به وجملة ذاقا في محل جر بالإضافة ، وجملة بدت لهما لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ولهما جار ومجرور متعلقان ببدت ، وسوءاتهما : فاعل بدت (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) الواو حرف عطف ، وطفقا من أفعال الشروع ، وسيأتي حكمها ، والألف اسمها ، وجملة يخصفان خبرها ، وعليهما : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ومن ورق الجنة جار ومجرور متعلقان بيخصفان ، والجنة مضاف إليه (وَناداهُما رَبُّهُما : أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) الواو عاطفة ، وناداهما ربهما فعل ومفعول به وفاعل ، وجملة ألم أنهكما مفسرة لا محل لها ، والهمزة للاستفهام ، وتفيد العتاب والتقريع على الخطأ ، حيث لم يتحوّطا ويعتصما بالحذر مما حذرهما الله منه ، وعن تلكما جار ومجرور متعلقان بأنهكما ، والشجرة بدل من اسم الاشارة (وَأَقُلْ لَكُما : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو حرف عطف ، وأقل فعل مضارع معطوف على الفعل المجزوم بلم ،


وإن واسمها ، ولكما جار ومجرور متعلقان بعدو أو بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لعدو ، وتقدم عليه ، ومبين صفة لعدو ، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول.

الفوائد :

أفعال المقاربة : يطلق النحاة على الأفعال التي تعمل عمل كان وأخواتها اسم أفعال المقاربة ، من إطلاق الجزء على الكل ، وحقيقة الأمر في ذلك أن هذه الأفعال ثلاثة أنواع :

١ ـ ما وضع للدلالة على قرب الخبر المسمى باسمها ، وهو ثلاثة أنواع : كاد وكرب وأوشك.

٢ ـ ما وضع للدلالة على رجائه ، وهو ثلاثة أنواع : عسى وحرى واخلولق.

٣ ـ ما وضع للدلالة على الشروع فيه ، وهو كثير ، وقد أنهى أفعاله بعضهم الى نيف وعشرين فعلا ، وأشهرها : أنشأ وطفق وطبق ـ بكسر الباء ـ وجعل وعلق وهلهل وقام وابتدأ.

شرط الخبر لهذه الأفعال :

ويجب أن يكون خبر هذه الأفعال جملة ، وشذّ مجيئه مفردا بعد كاد وعسى كقول تأبط شرّا :

فأبت الى فهم وما كدت آئبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر


وقولهم في المثل : «عسى الغوير أبؤسا» ، وقد قالته الزّبّاء ، والغوير اسم موضع بعينه ، وأوله بعضهم بأنه خبر «يكون» محذوفة ، وقال الأصمعي : خبر «يصير» محذوفة ، واختار ابن هشام أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، نحو : «فطفق مسحا» ، أي : يمسح مسحا. وشرط الفعل أن يكون رافعا لضمير الاسم. فأما قول أبي حية النّميريّ :

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب الثّمل

وقول ذي الرّمّة :

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه

ف «ثوبي» في البيت الأول ، و «أحجاره» في البيت الثاني بدلان من اسمي جعل وكاد ، بدل اشتمال لا فاعلان ليثقلني وتكلمني ، بل فاعلهما ضمير مستتر ، والتقدير : جعل ثوبي يثقلني ، وكادت أحجارة تكلمني ، فعاد الضمير على البدل دون المبدل منه. وأن يكون فعلا مضارعا ، وأن يكون مقرونا بـ «أن» إن كان دالا على الترجّي ، وأن يكون مجردا منها إن كان دالا على الشروع. والغالب في خبر عسى وأوشك الاقتران بها ، كقوله تعالى : «عسى ربكم أن يرحمكم» وقوله :

ولو سئل الناس التراب لأوشكوا

إذا قيل : هاتوا أن يملّوا ويمنعوا


والتجرد من «أن» قليل ، كقول هدبة :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

وقول أمية بن أبي الصلت :

يوشك من فرّ من منيّته

في بعض غرّاته يوافقها

وكاد وكرب بالعكس ، فمن الغالب قوله تعالى : «وما كادوا يفعلون» ، وقول كلحبة اليربوعي :

كرب القلب من جواه يذوب

حين قال الوشاة : هند غضوب

ومن القليل قوله :

كادت النفس أن تفيض عليه

مذ غدا حشو ربطة وبرود

تنبيه :

هذه الأفعال ملازمة لصيغة الماضي إلا أربعة استعمل لها مضارع ، وهو كاد ، نحو : «يكاد زيتها يضيء» ، وأوشك ، نحو :

يوشك من فر من منيته

في بعض غرّاته يوافقها

وطفق يطفق ، وجعل. واستعمل اسم فاعل لثلاثة ، وهي : كاد وعليه قول كثير بن عبد الرحمن :


أموت أسى يوم الرجاء وإنني

يقينا لرهن بالذي أنا كائد

وكرب ، قال عبد قيس بن خفاف بن ندبة :

أبنيّ إنّ أباك كارب يومه

فإذا دعيت الى المكارم فاعجل

وأوشك نحو قول كثير بن عبد الرحمن :

فإنّك موشك أن لا تراها

وتعدو دون غافره العوادي

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))


اللغة :

(رِيشاً) الريش : لباس الزينة ، استعير من لباس الطائر لأنه لباسه وزينته. وفيه قولان :

١ ـ أنه اسم لهذا الشيء المعروف.

٢ ـ أنه مصدر ، يقال : راشه يريشه ريشا إذا جعل فيه الريش.

فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين. ومن المجاز رشت فلانا : قويت جناحه بالإحسان إليه ، فارتاش وتريّش. قال :

فرشني بخير طال ما قد بريتني

فخير الموالي من يريش ولا يبري

وقال النابغة :

كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنى

قوما وقد راش قوما بعد إقتار

يريش قوما ويربي آخرين بهم

لله من رائش عمرو ومن بار

وقال جرير :

فريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما

«ولعن الله الراشي والمرتشي والرائش» وهو المتوسط الذي


يريش هذا من مال هذا ، وفلان له رياش : لباس وحسن حال وشارة.

وأجاز النعمان النابغة بمائة من عصافيره بريشها : أي برجالها. وقيل :كانت الملوك يجعلون في أسنمتها ريشا ليعلم أنها حباء ملك. ومن المجاز اللطيف قولهم : أخفّ من ريشة ، يراد خفة اللحم وقلته من الهزال. فما أعجب هذه المادة! (قَبِيلُهُ) القبيل الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا ، من جماعة شتى. هذا قول أبي عبيدة. والقبيل : الجماعة من أب واحد ، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة. وفي المصباح : «والقبيل :الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى ، والجمع قبل بضمتين ، والقبيلة لغة فيها ، وقبائل الرأس : القطع المتصل بعضها ببعض ، وبها سمّيت قبائل العرب ، الواحدة قبيلة ، وهم بنو أب واحد».

الاعراب :

(قالا : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) جملة القول مستأنفة ، مسوقة للإخبار عن اعتراف آدم وحواء على أنفسهما بالذنب وشعورهما بالندم. وقالا فعل وفاعل ، وربنا منادى محذوف منه حرف النداء ، وظلمنا : فعل وفاعل ، وأنفسنا مفعول به ، والجملة نصب على أنها مقول للقول (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، وتغفر فعل الشرط ، ولنا جار ومجرور متعلقان بتغفر ، وترحمنا عطف على تغفر ، ولنكونن : اللام جواب للقسم المقدر ، ونكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، واسمها مستتر تقديره نحن ، ومن الخاسرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وجملة وتكونن


جواب للقسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والتقدير : ولئن لم تغفر لنا وترحمنا. ويجوز العكس ، فلا داعي لتقدير القسم ، وتكون اللام موطئة للقسم (قالَ : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جملة القول مستأنفة ، مسوقة للبت فيما جرى في صفحة المقدور. وجملة اهبطوا في محل نصب مقول القول ، وبعضكم مبتدأ ، ولبعض جار ومجرور متعلقان بعدوّ ، أو حال منه لأنه كان صفة وتقدمت عليه ، وعدو خبر ، والجملة الاسمية حال من الواو في اهبطوا (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الواو عاطفة ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمستقر ، ومتاع عطف على مستقر ، والى حين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع ، أي : ممتد الى حين (قالَ : فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) جملة القول مستأنفة ، وكرر الاستئناف للاعتناء بمضمون ما بعده من الحياة البشرية. وفيها جار ومجرور متعلقان بتحيون ،وما بعده عطف عليه ، والجملة كلها مقول قوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) جملة مستأنفة مسوقة لتذكير أبناء آدم ببعض النعم. ويا حرف نداء ، وبني آدم منادى مضاف ، وقد حرف تحقيق ، وأنزلنا فعل وفاعل ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأنزلنا ، ولباسا مفعول به ، وجملة يواري سوءاتكم صفة لـ «لباسا» وريشا عطف على قوله لباسا (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الواو استئنافية أو حالية ، ولباس مبتدأ ، والتقوى مضاف إليه ، وذلك اسم اشارة مبتدأ ثان ، وخير خبر ذلك ، والرابط هو اسم الإشارة ، لأن أسماء الاشارة تقرب من الضمائر ، وسيأتي تفصيل الروابط في باب الفوائد ، وجملة ذلك خير خبر «لباس» ، (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الجملة مستأنفة لتأكيد ما تقدم. وذلك مبتدأ ، ومن آيات الله جار ومجرور


متعلقان بمحذوف خبر ، ولعل واسمها ، وجملة يذكرون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) كلام مستأنف لمخاطبة بني آدم وتحذيرهم ، ولا الناهية ، ويفتننكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا ، والكاف مفعول به ، والشيطان فاعل (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) كما نعت لمصدر محذوف ، أي : لا يفتننّكم فتنة مثل إخراج أبويكم من الجنة ، وأبويكم مفعول ، ومن الجنة جار ومجرور متعلقان بأخرج (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) الجملة حالية من الضمير في «أخرج» العائد على الشيطان ، أو من الأبوين ، وعنهما جار ومجرور متعلقان بينزع ، ولباسهما مفعول به ، وليريهما : اللام للتعليل ، ويريهما فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بينزع ، وسوءاتهما مفعول به (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) الجملة تعليلية لا محل لها مسوقة لتعليل النهي ، والتحذير من فتنة الشيطان. وإن واسمها ، وجملة يراكم خبرها ، و «هو» تأكيد للضمير المرفوع ، في «يراكم» ، وقبيله عطف على الضمير المرفوع ، أو «هو» مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) من حيث جار ومجرور متعلقان بيراكم ، وجملة لا ترونهم في محل جر بالإضافة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الجملة تعليل لما تقدم ، وإن واسمها ، وجملة جعلنا خبرها ، والشياطين مفعول به أول ، وأولياء مفعول به ثان ، وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأولياء ، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول.

البلاغة :

١ ـ الالتفات :

في قوله تعالى : «ولباس التقوى ذلك خير» ، وقد تقدم بحث.


هذا الفنّ ، فإنه سبحانه لما امتنّ على البشر بما أنزل عليهم من اللباس المواري سوءاتهم بعد سياق قصة خروج أبيهم آدم من الجنة ، وأراد تذكيرهم وتحريضهم على التقوى قال قبل تمام الامتنان : «ولباس التقوى ذلك خير». وكان يمكن في هذه الآية ما أمكن في الآية التي قبلها من تأخير الجملة ، بحيث يقال : قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ذلك من آيات الله ، ولباس التقوى ذلك خير.

وإنما جنح الى تأخير ما كان يجوز تقديمه ليحصل في نظم الكلام نوع من المحاسن يقال له : التعطّف ، وذلك مجيء الكلام مستهلا بذكر اللباس كما استهلّه في أوله ، وتفاديا من أن يفصل بين لآيات التي يلائم بعضها بعضا بألفاظ من غير جنسها ليوصف الكلام بالائتلاف ، وهذا يسميه قدامة الالتفات ، وغيره يرى الالتفات غير ذلك ، كابن المعتز وأضرابه. وقد جرينا على رأي ابن المعتز فيما قدمناه في مكان آخر من أول الكتاب.

تعريف قدامة للالتفات :

أما تعريف قدامة للالتفات فهو كما جاء في كتابه «نقد الشعر» أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظنّ أن رادا ردّه عليه ، أو سائلا سأله عنه أو عن سببه ، فيلتفت قبل فراغه من التعبير عنه ، فإما أن يجلّي شكه أو يؤكده ويقرره ويذكر سببه. والذي نراه أن هذا أشبه بالاعتراض ، وأولى أن يندرج في سلكه.

وهناك التفات آخر في قوله «لعلهم يذكرون» فقد التفت عن الخطاب الى الغيبة وكان مقتضى المقام : لعلكم.


٢ ـ الاستعارة :

في قوله «لباس التقوى» وقد تقدمت الإشارة إليها ، ومثلها كثير الوقوع في كلام الشعراء ، ومنه :

إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى

تقلّب عريانا وإن كان كاسيا

وقول الآخر :

تغطّ بأثواب السّخاء فإنني

أرى كلّ عيب والسّخاء غطاؤه

والاستعارة في الريش ، والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته. أي : أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح.

٣ ـ الطباق :

بين قوله «تحيون» وقوله «تموتون».

٤ ـ التشبيه التمثيلي :

في تمثيل فتنة الشيطان لهم بقصة آدم وحواء حين أخرجهما الشيطان بأحابيله من الجنة ، وجاء بالمضارع في قوله : «ينزع عنهما لباسهما» لاستحضار الصورة التي وقعت في أوغل العصور وتجسيدها أمام السامع.


الفوائد :

روابط الخبر الجملة :

يشترط في الجملة الواقعة خبرا أن تكون مشتملة على رابط يربطها بالمبتدأ ، والروابط أربعة :

آ ـ الضمير البارز ، نحو : الظلم مرتعه وخيم ، أو المستتر نحو :«الحق يعلو».

ب ـ الإشارة إليه ، نحو : «ولباس التقوى ذلك خير».

ج ـ إعادة المبتدأ بلفظه ، نحو : «الحاقّة ما الحاقّة» ، وقول كعب :

أخي ما أخي لا فاحش عند بيته

ولا ورع عند اللقاء هيوب

د ـ العموم ، نحو : زيد نعم الرجل ، فزيد مبتدأ ، وجملة نعم خبره ، والرابط بينهما العموم. ومنه قول ابن ميّادة :

ألا ليت شعري هل الى أمّ معمر

سهيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا

فالصبر مبتدأ ، وعنها جار ومجرور متعلقان به ، ولا نافية للجنس ، وصبرا اسمها مبني على الفتح ، والخبر محذوف تقديره «لي» ، وجملة لا صبر لي خبر المبتدأ ، والرابط بينهما العموم الذي في اسم «لا» لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.


وقد لا تحتاج الجملة الى رابط :

هذا وقد تكون الجملة الواقعة خبرا نفس المبتدأ في المعنى.

فلا تحتاج الى رابط ، لأنها ليست أجنبية عنه ، كقوله تعالى : «قل هو الله أحد» ، فـ «هو» ضمير الشأن مبتدأ ، والجملة الاسمية بعده هي الخبر ، لا تحتاج الى رابط لأنها عينه.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

الاعراب :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا : وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) الواو للاستئناف ، ولعله أظهر ، ويجوز أن تكون عاطفة على الصلة قبلها ، وفيها على الحالين تأكيد على إصرارهم على الفاحشة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن


معنى الشرط ، متعلق بالجواب وهو قالوا ، وجملة فعلوا في محل جر بالإضافة ، وفاحشة مفعول به ، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة وجدنا عليها آباءنا في محل نصب مقول القول (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) والله الواو عاطفة ، والله مبتدأ ، وجملة أمرنا بها خبر ، والجملة معطوفة على الجملة المتقدمة ، داخلة في حيّز القول ، أي : وقالوا : الله أمرنا بها (قُلْ : إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جملة القول مستأنفة مسوقة لردّ قولهم ، وإن التقليد ليس حجة ، وجملة إن وما في حيزها نصب مقول القول ، وإن واسمها ، وجملة لا يأمر خبرها ، وبالفحشاء جار ومجرور متعلقان بيأمر ، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي ، وتقولون فعل مضارع مرفوع ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتقولون ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة لا تعلمون صلة (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أمر الله به حقيقة ، وجملة أمر ربي في محل نصب مقول القول ، وبالقسط جار ومجرور متعلقان بأمر ، وأقيموا الواو عاطفة ، وأقيموا فعل أمر معطوف على الأمر المقدر الذي ينحلّ اليه المصدر ، وهو القسط ، على حد قول ميسون :

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

كأنه قال : أقسطوا وأقيموا ، تفاديا لعطف الإنشاء على الخبر ، وهو ضعيف. ووجوهكم مفعول به لأقيموا ، وعند ظرف مكان متعلق بأقيموا ، وكل مسجد مضاف إليه (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عطف على ما تقدم ، وادعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ، ومخلصين حال ، وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين ، والدين مفعول لمخلصين لأنه اسم


فاعل (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كما نعت لمصدر محذوف تقديره :تعودون عودا مثلما بدأكم ، وجملة بدأكم لا محل لها لوقوعها بعد موصول حرفي (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) فريقا مفعول به مقدم لهدى ، وفريقا الثاني منصوب بإضمار فعل يفسره قوله : حق عليهم الضلالة ، من حيث المعنى والتقدير ، وأضلّ فريقا حق عليهم ، وقدره الزمخشري : وخذل فريقا ، هادفا الى تأييد مذهبه الاعتزالي.

والجملة الفعلية والجملة المعطوفة عليها في محل نصب على الحال من فاعل بدأكم ، أي : بدأكم حال كونه هاديا فريقا ومضلا فريقا ، أو تكون الجملتان مستأنفتين ، ومن التكلف إعراب «فريقا» حالا كما ورد لبعض المعربين ، وجملة حق عليهم الضلالة صفة لـ «فريقا» (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها ، وإن واسمها ، وجملة اتخذوا الشياطين خبر ، والشياطين مفعول به أول لاتخذوا ، وأولياء مفعوله الثاني ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، والواو عاطفة أو حالية ، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يحسبون ، ومهتدون خبر أنهم.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا


فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

الاعراب :

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلام مستأنف مسوق لخطاب العرب وحملهم على الإقلاع عن التشدد وحرمان أنفسهم من الزينة. ويا حرف نداء ، وبني منادى مضاف ، وخذوا فعل أمر مبني على حذف النون ، وزينتكم مفعول به ، وعند كل مسجد الظرف متعلق بخذوا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) عطف على خذوا ، ولا ناهية ، وتسرفوا فعل مضارع مجزوم بلا ، وإن واسمها ، وجملة لا يحب المسرفين خبرها ، والجملة تعليلية لا محل لها (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) جملة القول مستأنفة مسوقة لتأكيد الإباحة والاستمتاع بالزينة ، والأكل والشرب ، مع عدم الإسراف. ومن اسم استفهام للإنكار ، مبتدأ ، وجملة حرم زينة الله خبر من ، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول ، والطيبات عطف على زينة ، ومن الرزق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وخالصة حال ثانية ، ويوم القيامة ظرف متعلق بخالصة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) تقدمت أعاريب مماثلة لهذه الجملة.

الفوائد :

قال ابن عباس : كان العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار


والنساء بالليل ، يقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها ، فنزلت.

ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء؟ فقال له :قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال : وما هي؟ قال : قوله تعالى : «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» ، فقال الطبيب : ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطبّ؟ فقال : قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة. قال : وما هي؟ قال : قوله : «المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء». فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

اللغة :

(أجل) الأجل بفتحتين : مدة العمر من أولها الى آخرها. وأعاد ذكره بقوله : «فإذا جاء أجلهم» للاشارة الى آخر المدة. وفي المصباح :«أجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه ، وهو مصدر أجل الشيء إجلالا من باب تعب ، وأجل أجولا من باب قعد لغة ، وأجّلته


تأجيلا : جعلت له أجلا ، وجمع الأجل آجال ، مثل سبب وأسباب».

ومن أقوالهم : ابن آدم قصير الأجل ، طويل الأمل ، يؤثر العاجل ويذر الآجل. ومن أقوالهم أيضا : «أجلن عيون الآجال ، فأصبن النفوس بالآجال».

الاعراب :

(قُلْ : إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الذين يحرمون ويحللون ، إن الله لم يحرّم ما تحرمونه من أجله وإنما حرم الفواحش. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ، وإنما كافة ومكفوفة ، وجملة حرم ربي الفواحش مقول القول ، وما اسم موصول في محل نصب بدل من الفواحش ، وجملة ظهر صلة ، ومنها جار ومجرور متعلقان بظهر ، وما بطن عطف على ما ظهر (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) من عطف الخاص على العام ، للاعتناء به. وبغير الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بالبغي لأنه مصدر (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) المصدر المؤول من أن وما في حيزها عطف أيضا ، وبالله جار ومجرور متعلقان بتشركوا ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة لم ينزل صلة. وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وسلطانا مفعول به لينزل (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف أيضا ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتقولوا ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة لا تعلمون صلة الموصول (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن الآجال مكتوبة ، والأعمار محسوبة ، لئلا يغتر الإنسان أفاويق اللذات وتعاجيبها الخلوب. ولكل جار ومجرور متعلقان


بمحذوف خبر مقدم ، وأمة مضاف اليه ، وأجل مبتدأ مؤخر (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الفاء استئنافية ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة جاء أجلهم في محل جر بالإضافة ، وجملة لا يستأخرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والمضارع المنفي بلا إذا وقع جوابا لإذا جاز أن يقترن بالفاء ، وأن لا يقترن بها. وساعة ظرف زمان متعلق بيستأخرون ، وهي أقل الأوقات في حساب الناس ، يقول المستعجل : أفي ساعة تريد ذلك؟ يريد غاية القلة في الزمان.

ولا يستقدمون عطف على قوله : لا يستأخرون ، أو الواو استئنافية ، كما ترى في باب الفوائد.

الفوائد :

وفيما يلي خلاصة لأقوال الأئمة حول هذا الكلام :

رأي الواحدي :

قال الواحدي بعد كلام طويل : إن قيل ما معنى هذا مع استحالة التقدم على الأجل وقت حضوره؟ قيل : هذا مبني على المقاربة ، تقول :إذا جاء الشتاء إذا قرب وقته ، ومع مقاربة الأجل يتصور التقدم ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء ، والمعنى لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت ، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء. وهذا بناء على أنه معطوف على قوله : لا يستأخرون.

رأي الكرخي :

وقال الكرخي : «قوله : ولا يستقدمون معطوف على الجملة الشرطية لا على جواب الشرط ، لأن إذا الشرطية لا يترتب عليها إلا


المستقبل ، أي : فلا يترتب على مجيء الأجل إلا مستقبل ، أو لاستقدام سابق ، فالوجه انقطاع «لا يستقدمون» عن الجواب استئنافا ، كما حققه التفتازاني.

رأي البيضاوي :

وحاصل كلام القاضي البيضاوي أن هذا بمنزلة المثل ، أي :لا يقصد من مجموع الكلام إلا أن الوقت لا يتغير ولا يتبدل ، وهو نظير قولهم : الرمان حلو حامض ، يعني فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. وهذا كلام لطيف من البيضاوي ، ولعل فيه حسما للخلاف.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧))


الاعراب :

(يا بَنِي آدَمَ) تقدم إعرابها كثيرا (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لبيان مسألة إرسال الرسل ، وإن شرطية أدغمت في «ما» المزيدة المؤكدة لمعنى الشرط ، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة ، ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، ورسل فاعل ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل ، وجعل الرسل منهم أقطع للحجة ، وأبعد عن العذر (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) الجملة صفة لرسل أيضا ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيقصون ، وآياتي مفعول به (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذه الجملة الشرطية جواب للشرط السابق ، والفاء رابطة ، ومن اسم شرط مبتدأ ، والفاء في قوله : فلا خوف ، رابطة ، وقد تقدم إعراب ما بعد ذلك كثيرا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة ، والذين اسم موصول مبتدأ ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة ، واستكبروا عنها معطوفة ، وأولئك مبتدأ ، وأصحاب النار خبره ، والجملة خبر الذين ، والرابط اسم الاشارة كما تقدم ، وهم مبتدأ ، وفيها جار ومجرور متعلقان بالخبر «خالدون» ، والجملة حالية أو خبر ثان للذين (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الفاء استئنافية ، ومن اسم استفهام معناه النفي ، أي : لا أحد أظلم ، وأظلم خبر «من» ، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم ، وجملة افترى لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى ، وكذبا مفعول به ، أو مفعول مطلق ، وجملة كذب بآياته عطف على جملة افترى (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) اسم الاشارة مبتدأ ،


وجملة ينالهم خبر ، ونصيبهم فاعل ينالهم ، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حتى حرف غاية وجر أو ابتدائية ، وقد تقدم الكلام عن هذا التعبير فجدد به عهدا ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة جاءتهم رسلنا في محل جر بالإضافة ، وجملة يتوفونهم حال من رسلنا ، أي : متوفية إياهم (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية ، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر ، وجملة الاستفهام في موضع نصب مقول القول ، وجملة كنتم صلة الموصول ، والتاء اسم كان ، وجملة تدعون خبرها ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أو متعلقان بتدعون (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الجملة جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونه؟ فأجابوا بأنهم ضلوا. وجملة ضلوا مقول القول ، وجملة شهدوا معطوفة على جملة قالوا ، أو مستأنفة ، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بشهدوا ، وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بشهدوا ، وجملة كانوا كافرين خبر «أن».

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ


النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

اللغة :

(ادَّارَكُوا) : أي : تداركوا ، بمعنى تلاحقوا في النار ، وأصله تداركوا ، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل ، وسيأتي في باب الفوائد كيفية ذلك.

(أخراهم وأولاهم) : يحتمل أن تكون «فعلى» أنثى «أفعل» الدال على المفاضلة ، والمعنى على هذا أخراهم منزلة ، وهم الأتباع والسفلة ، لأولاهم منزلة ، وهم القادة والسادة والرؤساء. ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة ، تأنيث «آخر» ، مقابل «أول» ، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة ، ومنها قوله تعالى : «ولا تزر وازرة وزر أخرى». ولعلها الأظهر في الآية.


(الضِّعْفِ) : قال أبو عبيدة الضعف مثل الشيء مرة واحدة ، وقال الأزهري : هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم. والضعف في كلام العرب : المثل الى ما زاد ، ولا يقتصر به على مثلين ، بل تقول :هذا ضعفه أي : مثلاه وثلاثة أمثاله ، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة ، ألا ترى الى قوله تعالى : «فأولئك لهم جزاء الضعف» ، لم يرد به مثلا ولا مثلين ، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله ، كقوله تعالى : «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» فأقلّ الضعف محصور وهو المثل ، وأكثره غير محصور. وفي القاموس : «وضعف الشيء بالكسر مثله ، وضعفاه مثلاه ، والضعف المثل الى ما زاد ، ويقال : لك ضعفه ، يريدون مثليه ، وثلاثة أمثاله ، لأنه زيادة غير محصورة».

(يَلِجَ) : في المصباح : «ولج الشيء في غيره يلج ، من باب وعد ، ولوجا ، وأولجته إيلاجا أدخلته».

(سَمِّ) السم : بتثليث السين ، وفي المصباح : «السم ما يقتل ، بالفتح في الأكثر ، وجمعه سموم وسمام مثل : فليس وفلوس ، وسمام أيضا ، مثل : سهم وسهام. والضم لغة لأهل العالية ، والكسر لغة لبني تميم ... والسم : ثقب الإبرة ، وفيه اللغات الثلاث ، وجمعه سمام». وهو المراد في الآية ، ولكن السبعة على الفتح ، وقرئ شاذا بالكسر والضم. وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة ، وقالوا للدليل الماهر : خرّيت ، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ، والجمل مثل في عظم الجرم ، قال حسان ابن ثابت :

لا بأس في القوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير


أي : لا بأس ولا ضرر يعتري هؤلاء من جهة الطول والغلظ.

وفيه تهكم بهم ، فأجسامهم كأجسام البغال ، وعقولهم كعقل العصافير ، ان كان لها عقول ، يعني أنهم لا عقل لهم.

(غَواشٍ) : جمع غاشية ، وهي الغطاء.

الاعراب :

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) الكلام مستأنف لحكاية قول الله لهم يوم القيامة. وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ، وجملة ادخلوا في محل نصب مقول القول ، وفي أمم جار ومجرور تعلقان بمحذوف حال ، أي كائنين في جملة أمم ، وفي غمارهم مصاحبين لهم ، وقيل : هما متعلقان بادخلوا ، والمعنى في جملة أمم ، وجملة قد خلت صفة لأمم ، ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية ، ومن الجن والإنس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثالثة ، وفي النار جار ومجرور بدل من قوله : «في أمم» ، والظروف مجاز ، وسيأتي الحديث عنها. وقال أبو حيان :وفي النار جار ومجرور متعلقان بـ «خلت» ، على أن المعنى تقدم دخولها ، أو بمحذوف صفة الأمم ، أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإنس ، كائنة في النار ، وأطال أبو حيان فيما لا طائل تحته (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط ، وجملة دخلت أمة في محل جر بالإضافة أو لا محل لها إذا اعتبرنا «ما» موصولا حرفيا ، وجملة لعنت أختها لا محلّ لها لأنها جواب شرط غير جازم والجملة الظرفية من تتمة مقول القول (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) حتى حرف غاية وجر ، أو ابتدائية ، وإذا ظرف مستقبل


متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب ، أي : بقالت الآتية ، وجملة اداركوا في محل جر بالإضافة ، وفيها جار ومجرور متعلقان باداركوا ، وجميعا حال (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا ، ولأولاهم اللام حرف جر للتعليل أي : لأجلهم ، أو للتبليغ ، والجار والمجرور متعلقان بقالت (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء ، واسم الاشارة مبتدأ ، وجملة أضلونا خبره ، وجملة ربنا هؤلاء في محل نصب مقول القول فآتهم الفاء الفصيحة ، وآتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ، والهاء مفعول به ، وعذابا مفعول به ثان ، وضعفا صفة لـ «عذابا» ، من النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية (قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) جملة القول مستأنفة ، ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وضعف مبتدأ مؤخر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول قوله تعالى ، ولكن الواو حالية ، أو استئنافية ، ولكن حرف استدراك مهمل ، ولا نافية ، وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطف على ما تقدم ، والفاء عاطفة ، عطفت ما بعدها من الكلام على قول الله تعالى للسفلة : لكل ضعف ، فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وما نافية ، وكان فعل ماض ناقص ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان الناقصة ، ومن حرف جر زائد ، وفضل مجرور لفظا اسم كان محلا ، وعلينا جار ومجرور ، أي : إنا وإياكم سيان في الضلال واستحقاق العذاب (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا تبين لكم وعلمتموه ثم أصررتم على موقفكم المغاير فذوقوا ، والعذاب مفعوله ، وبما الباء سببية جارّة ، وما مصدرية ، أي بسبب كسبكم ، وجملة تكسبون خبر كنتم


(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد مصير الكافرين ، وإن واسمها ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة الموصول لا محل لها ، وجملة استكبروا عطف على جملة كفروا ، وعنها جار ومجرور متعلقان باستكبروا ، وجملة لا تفتح خبر إن ، ولهم جار ومجرور متعلقان بتفتح ، وأبواب السماء نائب فاعل ، (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) هذه الجملة معطوفة على جملة لا تفتح لهم ، وحتى حرف غاية وجر ، وفي سم الخياط جار ومجرور متعلقان بيلج (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية ، وكذلك نعت لمصدر محذوف ، أي : جزاء مثل ذلك ، والمجرمين مفعول به (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) الجملة الاسمية تحتمل الحالية والاستئنافية ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومهاد مبتدأ مؤخر ، ومن جهنم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لجهنم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عطف ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وغواش مبتدأ مؤخر ، والضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين ، وسيأتي مزيد من الكلام عنه في باب الفوائد.

البلاغة :

في قوله تعالى : «حتى يلج الجمل سم الخياط» فن بلاغي يسمى المذهب الكلامي. ويقول ابن المعتز في كتابه البديع : إن الجاحظ سماه هذه التسمية ، وعرفوه بأنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تفلّ سلاح المعاند المكابر ، وتقطع بينته ، على طريقة علماء الكلام.

لأن علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بحجج عقلية وبراهين


قاطعة تدحض اللجاج ، ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة. وفي الآية التي نحن بصددها وجه استنتاج النتيجة من المقدّمتين أن يقال : إن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا حتى يلج الجمل في خرم الابرة ، والجمل لا يدخل في خرم لإبرة أبدا ، فهم لا يدخلون الجنة أبدا ، لأن تعليق الشرط على مستحيل يلزم منه استحالة وقوع المشروط. وسيرد الكثير منه في القرآن الكريم.

المذهب الكلامي في الشعر :

وقد جاء هذا الفن في كثير من الشعر العربي ، ولهم فيه روائع فمن ذلك قول أبي تمام :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لو لا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

والقطعة التالية لبهاء الدين زهير حافلة بضروب من هذا الفن ، وتجتزئ بإيرادها :

يا من أكابد فيه ما أكابده

مولاي أصبر حتى يحكم الله

سمّيت غيرك محبوبي مغالطة

لمعشر فيك قد فاهوا بما فاهوا


أقول زيد ، وزيد لست أعرفه

وإنما هو لفظ أنت م

عناه وكم ذكرت مسمّى لا اكتراث به

حتى يجرّ إلى ذكراك ذ

كراه أتيه فيك على العشاق كلهم

قد عزّ من أنت يا مولاي

مولاه والناس فينا ببعض القول قد لهجوا

لو صحّ ما ذكروا ما كنت

آباه كادت عيونهم بالبغض تنطق لي

حتى كأنّ عيون الناس أفواه

فإن جميع هذه العلل المذكورة ضمن هذه الأبيات علل حقيقية أصلية يسلم بها الخصم المعاند عند سماعها من غير مجادلة ، ولا لجوء إلى اللجاج والمكابرة ، وذلك لا يخفى على من له مسكة من ذوق.

الفوائد :

١ ـ إبدال التاء :

في ادّكر : وجهان : أولهما : أن الأصل تداركوا ، كما ذكرنا في باب اللغة. وما كانت فاؤه ثاء أو ذالا أو دالا أو زايا أو صادا أو


ضادا أو طاء أو ظاء مما هو على وزن تفاعل أو تفعّل أو تفعلل ، بحيث تجتمع التاء وهذه الأحرف جاء فيه إبدال التاء حرفا من جنس ما بعدها مع إدغامها فيه ، وذلك نحو : اثّاقل وادّكر وازّيّن واصتبر واضّرع واطّرب واظّلم ، والأصل : تثاقل وتذكّر وتزيّن وتصبّر وتضرّع وتطرّب وتظلّم ، فأبدلت التاء حرفا من جنس ما بعدها ، ثم أسكن لإدغامه. فتعذر الابتداء بالساكن ، فأتي بهمزة الوصل تخلصا من ذلك.

وثانيهما أنه إذا أبدلت تاء افتعل الى حرف مجانس لما بعدها تلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال ، ولا تلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال ، فنقول وزن اصطبر افتعل لا افطعل ، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل ، فكذلك نقول هنا وزن ادّاركوا اتفاعلوا لا افّاعلوا ، فلا فرق بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك.

٢ ـ الجمع المنقوص على وزن مفاعل :

للنحاة في الجمع الذي على وزن مفاعل ـ إذا كان منقوصا ـ مذهبان ، فبعضهم قال : هو منصرف ، لأنه قد زالت عنه صيغة منتهى الجموع ، فصار وزنه وزن جناح ، وقد زال فانصرف. وقال الجمهور : هو ممنوع من الصرف ، والتنوين تنوين عوض ، وقد تقدم بحثه.

واختلفوا في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوض عن الياء المحذوفة ، وذهب المبرد الى أنه عوض عن حركتها ، والكسر ليس كسر إعراب.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها


أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

اللغة :

(الوسع) بتثليث الواو : الطاقة يقال : ليس في وسعه أن يفعل كذا ، أي : لا يقدر عليه. وقال الزجاج : الوسع : ما يقدر عليه.

(الغل) : الحقد.

الاعراب :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم في الآخرة ، بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة. واسم الموصول مبتدأ ، وجملة آمنوا صلة ، وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره ، وقد حسن الاعتراض هنا لأنه من جنس الكلام ، فإنه تعالى لما نوه بعملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن نطاق قدرتهم ، ولا نافية ، ونكلف فعل مضارع مرفوع ، وفاعله مستتر تقديره نحن ،


ونفسا مفعول نكلف الأول ، وإلا أداة حصر ، ووسعها مفعول نكلف الثاني (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الجملة الاسمية خبر الذين ، واسم الاشارة مبتدأ ، وأصحاب الجنة خبره ، وهم مبتدأ ، وخالدون خبره ، وفيها جار ومجرور متعلقان بقوله : خالدون ، وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لأولئك ، أو حال من أصحاب الجنة (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الواو عاطفة ، ونزعنا فعل وفاعل ، وما اسم موصول مفعول به ، وفي صدورهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ومن غلّ جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وجملة تجري حال من الضمير (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الواو عاطفة ، وقالوا فعل وفاعل ، والحمد مبتدأ ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ، والذي اسم موصول نعت لله ، وجملة هدانا لهذا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) يجوز أن تكون الواو للاستئناف أو للحال ، وما نافية ، وكان واسمها واللام لام الجحود ، ونهتدي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ، ولو لا حرف امتناع لوجود ، وأن مصدرية ، وهي مع مدخولها في موضع رفع مبتدأ ، وخبر المبتدأ محذوف ، كما هي القاعدة :

وبعد لو لا غالبا حذف الخبر

حتم وفي نص يمين ذا استقر

وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : لو لا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا أو لشقينا ، والجملة كلها مستأنفة أو حالية (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) اللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وجاءت رسل ربنا فعل وفاعل ، وبالحق جار ومجرور متعلقان


بجاءت (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو استئنافية ، ونودوا فعل ماض مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وأن يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة أو مفسرة ، وتلكم الجنة اسم الاشارة مبتدأ ، والجنة خبر أو بدل من اسم الاشارة ، والخبر جملة أورثتموها. وعلى الأول تكون جملة أورثتموها حالية ، وبما كنتم تعملون تقدم إعراب نظائرها كثيرا.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

اللغة :

(العوج) بكسر العين : في المعاني وفي الأعيان ، ما لم يكن


منتصبا ، وبالفتح فيما كان منتصبا كالرمح والحائط. وسيرد المزيد من البحث لهذه المادة اللغوية.

(الْأَعْرافِ) : سور مضروب بين الجنة والنار ، وهي أعاليه ، جمع عرف ، استعير من عرف الديك والفرس ، وقد أفاض أصحاب المطوّلات في وصفه ، وأنهى بعضهم الأقوال فيه الى ثلاثة عشر قولا.

أما مادة عرف اللغوية فهي عجيبة ، ونورد هنا بعض خصائصها ومعانيها جريا على ما توخيناه في هذا الكتاب. يقال عرف الشيء يعرفه من باب ضرب عرفة وعرفانا ومعرفة علمه ، وعرف يعرف بالضم من باب نصر عرافة على القوم دبرهم وساس أمرهم ، وعرف يعرف بالضم في الماضي والمضارع عرافة : صار عريفا وأكثر من الطيب. ومن المستعار : أعراف الريح والسحاب والضباب لأوائلها ، واعرورف البحر : أي ارتفعت أمواجه ، واعرورف فلان للشرّ : اشرأب له ، وقلة عرفاء مرتفعة ، قال زهير :

ومرقبة عرفاء أوفيت مقصرا

لأستأنس الأشباح فيه وأنظرا

ومقصرا من القصر وهو العشيّ. والعرّاف : دون الكاهن ، قالوا : إذا سال بك الغراف لم ينفعك العراف. وقال عروة :

جعلت لعرّاف اليمامة حكمه

وعرّاف نجد إذ هما شفياني

 (السّيمى) والسّيمة والسّومة والسّيماء والسيمياء : العلامة والهيئة والبهجة والحسن.


الاعراب :

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) الجملة استئنافية مسوقة للتقرير والتبكيت. وأصحاب الجنة فاعل نادى ، وأصحاب النار مفعوله (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) أن مخففة من الثقيلة ، فيكون اسمها ضمير الشأن ، وجملة قد وجدنا خبرها ، أو تكون «أن» مفسرة ، فتكون جملة قد وجدنا لا محل لها لأنها مفسره ، وما مفعول به ، وجملة وعدنا ربنا صلة لا محل لها ، وحقا مفعول به ثان لوجدنا (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) الفاء عاطفة ، وهل حرف استفهام ، ووجدتم وما بعدها تقدم إعرابه ، قالوا فعل وفاعل ، والجملة مستأنفة ، ونعم حرف جواب ، وجملة الجواب المحذوفة في محل نصب مقول القول (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة ، وأذن مؤذن فعل وفاعل ، وأن مخففة من الثقيلة ، وهي مع مدخولها في محل جر بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بأذن ، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة فجملة أن وما في حيزها لا محل لها ، ولعنة الله مبتدأ ، وعلى الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لعنة وان كانت أن مخففة من الثقيلة فتعرب «لعنة» مبتدأ أيضا (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) الذين اسم موصول في محل جر صفة للظالمين ، ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يصدون ، وجملة يصدون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيصدون ، ويبغونها عطف على يصدون ، وهي فعل مضارع وفاعل ومفعول به ، وعوجا حال ، أي : معوجة ، ومعنى الاعوجاج هنا الميل عن الحق ، وذلك بتشويه الدين والتلبيس على الناس وإيهامهم أن فيه انحرافا عن الجادة وميلا عن الحق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) الواو حالية ، و «هم» مبتدأ


وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بـ «كافرون» ، وكافرون خبر «هم» ، والجملة في محل نصب على الحال (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة ، وبينهما الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وحجاب مبتدأ مؤخر ، أي : وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وكذلك قوله : وعلى الأعراف رجال ، وجملة يعرفون في محل رفع صفة لرجال ، وكلا مفعول به ، وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بيعرفون (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن أهل الأعراف ، والقول فيهم ، وعن منزلتهم. مرجعه في المطوّلات ، فارجع إليها إن شئت.

ونادوا فعل وفاعل ، والضمير يعود على أصحاب الأعراف ، وأصحاب الجنة مفعوله ، وأن مخففة من الثقيلة أو مفسرة ، وقد تقدّمت ، وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء فتخصص ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره ، وجملة لم يدخلوها مستأنفة مسوقة لتكون بمثابة جواب عن سؤال سائل عن أصحاب الأعراف ، فكأنه قيل : ما صنع بهم؟ فقيل لم يدخلوها ، والواو حالية ، وهم مبتدأ ، وجملة يطمعون خبر ، وجملة وهم إلخ في محل نصب على الحال (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) الواو عاطفة لاستكمال حديث أصحاب الأعراف ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو قالوا ، وجملة صرفت في محل جر بالإضافة ، وأبصارهم نائب فاعل ، وتلقاء ظرف مكان متعلق بصرفت ، ويأتي مصدرا ولم يأت من المصادر على تفعال بكسر التاء غير مصادر محددة.

(قالُوا : رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الجملة جواب شرط غير جازم ، فلا محل لها ، وربنا منادى مضاف ، ولا ناهية المقصود بها هنا الدعاء ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، ومع ظرف مكان


متعلق بمحذوف مفعول به ثان ، والقوم مضاف إليه ، والظالمين نعت للقوم.

الفوائد :

المصادر كلها من هذا الوزن على تفعال بفتح التاء ، وإنما تجيء تفعال في الأسماء ، وليست كثيرة ، ذكر بعض أئمة اللغة منها ستة عشر اسما ، ومنها التبيان والتلقاء ، ومر تهواء من الليل ، وتبراك وتعشار وترباع وهي مواضع ، وتمساح للدابة المعروفة ، والتمساح الرجل الكذاب أيضا ، والزلزال وتجفاف وتمثال وتمراد والتمراد بيت صغير في بيت الحمام لمبيضه ، وتلفاق وهما ثوبان يلفقان ، وتلقام أي : سريع اللقم ، ويقال أتت الناقة على تضرابها أي : على الوقت الذي ضربها الفحل فيه ، وتضراب كثير الضرب ، وتقصار وهي المخنفة ، وتنبال وهو القصير.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)


الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

الاعراب :

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية ، مسوقة لبيان ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار. ونادى أصحاب الأعراف فعل وفاعل ، ورجالا مفعول به ، وجملة يعرفونهم صفة لـ «رجالا» ، وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بيعرفونهم ، أي : ممن كانوا في الدنيا موسومين بالعظمة والخيلاء (قالُوا : ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) جملة القول لا محل لها لأنها مفسرة ، فسرت النداء. وما اسم استفهام للتوبيخ ، أي : أيّ شيء أغنى عنكم؟ ويصح أن تكون نافية ، وعلى الأول تكون مفعولا مقدما لأغنى ، أي نفعكم ودفع عنكم جمعكم في الدنيا ، وجمعكم فاعل ، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر معطوف على جمعكم ، أي : واستكباركم ، المفهوم قوله «وكنتم تستكبرون» ، وجملة تستكبرون خبر كنتم ، والجملة مقول القول (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي ، وهؤلاء مبتدأ ، والذين اسم موصول خبر ، وجملة أقستم صلة الموصول ، وجملة لا ينالهم الله برحمة لا محل لها لأنها جواب للقسم ، ولا نافية ، وينالهم الله فعل ومفعول به وفاعل ، وبرحمة جار ومجرور متعلقان بينالهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة الأمرية مقول قول محذوف ، أي : قد قيل لهم ، والجملة القولية


المحذوفة خبر ثان لاسم الاشارة ، أو حال منه ، أي مقولا لهم ذلك ، ولا نافية مهملة وخوف مبتدأ ، ساغ الابتداء به لدخول النفي عليه ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وجملة ولا أنتم تحزنون عطف على الجملة المتقدمة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) تقدم إعراب نظيرها (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أن مخففة من الثقيلة أو مفسرة ، وقد تقدمت لها نظائر ، وأفيضوا فعل أمر والواو فاعل ، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفيضوا ، ومن الماء جار ومجرور متعلقان بأفيضوا أيضا ، لأن معنى الإفاضة هنا متضمن معنى الإلقاء ، وأو حرف عطف ، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف معطوف من الماء ، ولا بد من تقدير فعل ، أي : وأطعمونا ، على حدّ قولهم : «علفتها تبنا وماء باردا» ، أو بتضمين أفيضوا معنى ألقوا يصح تعلق المعطوف به ، وجملة رزقكم الله صلة ، والأولى أن تكون «أو» بمعنى الواو ليصح ، ولها نظائر في اللغة (قالُوا : إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) الجملة مستأنفة لتقرير جوابهم ، وجملة إن واسمها وخبرها في محل نصب مقول قولهم ، وجملة حرمهما خبر إن ، وعلى الكافرين جار ومجرور متعلقان بحرمهما ، والمراد بالتحريم لازمه وهو المنع (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) اسم موصول في محل جر صفة للكافرين ، وجملة اتخذوا صلة ، ودينهم مفعول اتخذوا الأول ، ولهوا مفعوله الثاني ، ولعبا عطف على «لهوا» (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الواو عاطفة ، وغرتهم الحياة فعل ومفعول به وفاعل ، والدنيا صفة للحياة ، أي : استهوتهم بزخارفها وشغلتهم بالأطماع (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) الفاء هي الفصيحة ، واليوم ظرف زمان متعلق بننساهم ، والكاف حرف جر ، وما مصدرية ، أي : كنسيانهم ، والجار والمجرور في محل نصب صفة


لمفعول مطلق محذوف ، ولقاء مفعول به لنسوا ، ويومهم مضاف إليه ، وهذا نعت ليومهم أو بدل منه (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) الواو حرف عطف ، وما مصدرية ، والمصدر المنسبك معطوف على المصدر الأول وكان واسمها ، وجملة يجحدون خبرها ، والجار والمجرور متعلقان بيجحدون.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

الاعراب :

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما ورد في الكتاب من تفصيل ما فعلوه. واللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وجئناهم فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم ، وبكتاب جار ومجرور متعلقان بجئناهم ، وجملة فصلناه نعت للكتاب ، وعلى علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال إما من الفاعل في «فصلناه» ، أي : فصلناه عالمين


بتفصيله ، وإما من المفعول ، أي : فصلناه مشتملا على علم (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة حال من مفعول فصلناه ، أي : هاديا وراحما. ويجوز أن يعربا مفعولا من أجله ، أي : فصلناه لأجل الهداية والرحمة ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بالمصدر ، وجملة يؤمنون نعت لقوم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) كلام مستأنف لبيان موقفهم من الكتاب الذي يجحدون ، وفي نفس الوقت ينتظرون ما يؤول إليه وعاقبة أمره. وهل حرف استفهام بمعنى النفي والإنكار ، أي : ما ينتظرون ويتوقعون غير ذلك ، وإلا أداة حصر ، نزلهم منزلة المتوقع المنتظر ، وهم ليسوا كذلك لجحودهم له ، وتأويله مفعول به (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما يقولونه في ذلك اليوم. والظرف متعلق بيقول ، وجملة يأتي تأويله في محل جر بالإضافة ، وتأويله فاعل يأتي ، ويقول الذين فعل وفاعل ، وجملة نسوه صلة الموصول ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بنسوة ، أي : من قبل إتيان تأويله (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) الجملة في محل نصب مقول قولهم ، وجاءت رسل ربنا فعل وفاعل :وبالحق جار ومجرور متعلقان بجاءت (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) الفاء عاطفة ، وهل حرف استفهام ، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن حرف جر زائد ، وشفعاء مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر ، والفاء فاء السببية لوقوعها في جواب الاستفهام ، ويشفعوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء ، ولنا جار ومجرور متعلقان بيشفعوا (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أو حرف عطف ونرد فعل مضارع مبني للمجهول ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، داخلة معها في حكم الاستفهام ، كأنه قيل : هل لنا من شفعاء أو هل نرد؟ ورفع نرد لوقوعه موقع الاسم ، فيكون من


باب عطف الاسم المؤول على الاسم الصريح ، أي : فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا؟ والفاء للسببية أيضا ، ونعمل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب الاستفهام الثاني ، وغير مفعول نعمل ، والذي مضاف إليه ، وجملة كنا نعمل صلة ، وكان واسمها ، وجملة نعمل خبر كان (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير الإجابة عن الاستفهامين السابقين ، وقد حرف تحقيق ، وخسروا فعل وفاعل ، وأنفسهم مفعول به ، وضل عنهم عطف على خسروا ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بضل ، وما اسم موصول فاعل ، وجملة كانوا يفترون صلة الموصول ، وجملة يفترون خبر كانوا.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥))

اللغة :

(يُغْشِي) : يغطّي ، وانجلت عنه غشية الحمّى أي : لمّتها ، ونزلت به غشية الموت ، وغشي عليه ، وأصابه غشي ، قال ذو الرّمة :


وردت وأغباش السّواد كأنها

سمادير غشي في العيون النواظر

وعلى قلبه غشاوة فما يقبل الحق ، واستغش ثوبك كي لا تسمع ولا ترى ، وكثرت غاشية فلان. وللغين مع الشين فاء وعينا للفعل معنى يكاد يكون متشابها ، وهو التغطية والستر ، وغشّ معروف كأنه أخفى كيده ، وغشم الوالي الرعية وهو غشوم إذا خبطهم بعسفه ، وغشمر السيل : أقبل ، والرجل : ركب رأسه في الحق والباطل فلا يبالي بما صنع ، وهذا من دقيق اللغة فتدبره.

الاعراب :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير خلق السموات والأرض. وإن واسمها ، والله خبرها ، والذي اسم موصول في محل رفع نعت الله ، وجملة خلق السموات والأرض صلة ، وفي ستة أيام جار ومجرور متعلقان بخلق (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ، واستوى فعل ماض ، وفاعله مستتر تقديره هو ، أي : تمكن واستقرّ استقرارا مجردا عن الكيفية ، وعلى العرش جار ومجرور متعلقان باستوى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) الجملة حال ، والليل مفعول به أول ليغشي ، والنهار مفعول به ثان ، أو بالعكس ، أي : يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) الجملة حال من الليل ، لأنه هو المحدّث عنه ، أي : يغشي النهار طالبا له ، ويجوز أن تكون حالا من النهار ، أي : مطلوبا ،


ويطلبه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وحثيثا حال من فاعل يطلبه.

أو من مفعوله ، أي : حاثا أو محثوثا ، ويجوز أن يعرب نعتا لمصدر محذوف ، فهو مفعول مطلق ، أي طلبا حثيثا ، والشمس والقمر والنجوم والألفاظ الثلاثة منصوبة عطفا على السموات والأرض ، ومسخرات حال منها ، أي : مذللات لما يراد منها من طلوع وأفول ، وبأمره جار ومجرور متعلقان بمسخرات أو بمحذوف حال ، وتكون الباء للمصاحبة ، أي : مصاحبة لأمره غير خارجة عنه في تسخيره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بالرد على القائلين بأن لهذه الأمور تأثيرات في هذا العالم العجيب. وألا أداة استفتاح وتنبيه ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والخلق مبتدأ مؤخر ، والأمر عطف عليه (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) استئناف آخر مسوق للتنويه بكثرة خيره تعالى وتبارك وتقديسه وتنزيهه. وتبارك فعل ماض ، أي : تقدس وتنزه ، وهو فعل جامد لا يتصرف ، أي لا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل ، والله فاعل ، ورب العالمين صفة أو بدل من الله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بأن الدعاء يجب أن يكون مصروفا إليه تعالى وحده.

وادعوا فعل أمر ، والواو فاعل ، وربكم مفعول به ، وتضرعا نصب على الحال ، أي : ذوي تضرع ، وخفية ، عطف عليه ، ويجوز أن يعرب صفة لمصدر محذوف ، أي ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية ، وأيهما أفضل؟هناك خلاف يرجع إليه في المطولات. ويجوز أن يعربا مفعولا لأجله ، وجملة إنه لا يحب المعتدين تعليلية داخلة في حكم الاستئنافية ، لا محل لها ، ومعنى الاعتداء هنا تجاوز الحدّ ، وجملة لا يحب المعتدين خبر «إن».


(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

اللغة :

(بُشْراً) بضمّ الباء وسكون الشين جمع بشير ، أي مبشرات.

وفيه أربع قراءات سبعية ، والثانية بشرا بضمتين ، والثالثة فشرا بالنون وبضمتين ، والرابعة نشرا بفتح النون وسكون الشين ، ومعنى نشرا متفرقة.

(أَقَلَّتْ) : حملت ورفعت ، واشتقاق الإقلال من القلة ، لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلا.

(نَكِداً) النكد : بكسر الكاف الذي لا خير فيه ، أو الذي اشتدّ وعسر ، وقوم أنكاد ومناكيد ، قال أبو الطيب :


لا تشتر العبد إلا والعصا معه

إنّ العبيد لأنجاس مناكيد

الاعراب :

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) كلام مستأنف مسوق لتحذير البشر من الفساد في الأرض. ولا ناهية ، وتفسدوا فعل مضارع مجزوم بلا ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتفسدوا ، وبعد ظرف متعلق بتفسدوا أيضا ، وإصلاحها مضاف إليه (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) عطف على ما تقدم ، وخوفا وطمعا منصوبان على الحال ، أي : خائفين وطامعين ، أو على أنهما صفة لمصدر محذوف ، أو على أنهما مفعولان لأجلهما (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الجملة تعليل لما ذكر ، وإن واسمها ، وقريب خبرها ، ومن المحسنين جار ومجرور متعلقان بقريب (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الواو عاطفة ، والكلام معطوف على ما قبله ، وهو : إن ربكم إلخ ، وهو مبتدأ ، والذي اسم موصول في محل رفع خبر ، وجملة يرسل الرياح صلة لا محل لها ، وبشرا حال ، أي : مبشرات بالخصب والنماء ، فهو من المفعول به ، وبين ظرف مكان متعلق بيرسل ، وإضافته الى يدي مجاز مرسل ، (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) حتى حرف غاية وجر ، والغاية للإرسال ، وإذا ظرف زمان مستقبل ، وجملة أقلت في محل جر بالإضافة ، والظرف متعلق بسقناه الذي هو جواب الشرط ، وسحابا مفعول به ، وثقالا صفة ، وجملة سقناه لا محل لها ، ولبلد جار ومجرور متعلقان بسقناه ، وميت صفة لبلد (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الفاء عاطفة ، وأنزلنا فعل وفاعل ، وبه جار ومجرور متعلقان بأنزلنا ، والباء للسببية ،


والضمير يعود على البلد الميت ، أو السحاب ، فعلى الأول تكون الباء للظرفية بمعنى أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء ، وعلى الثاني تكون الماء للسببية ، أي فأنزلنا الماء بسبب السحاب ، والماء مفعول به ، والفاء عاطفة ، وأخرجنا عطف على أنزلنا ، والضمير في «به» يعود على الماء أو البلد أو السحاب أيضا كما تقدم ، ومن كل الثمرات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للمفعول به المحذوف ، أي : رزقا أو نباتا (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كلام مستأنف مسوق بأسلوب بلاغي على طريق التشبيه بمعنى أن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على إحياء الموتى. وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف نعت لمصدر محذوف ، فهو مفعول مطلق مقدم ، ونخرج الموتى فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وجملة الرجاء حالية ، وجملة تذكرون خبر لعل (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق لتتميم التشبيه. والبلد مبتدأ ، والطيب صفة ، وجملة يخرج نباته خبر ، وبإذن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، كأنه قيل : يخرج نباته حسنا وافيا ، لأنه في مقابلة قوله : «نكدا» فيما بعد ، ففي الكلام حذف لفهم المعنى ، ولدلالة البلد الطيب ، ولمقابلتها بقوله : نكدا (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الواو عاطفة ، والذي مبتدأ ، وهو وصف لمحذوف ، أي البلد الذي خبث ، وجملة خبث صلة ، وجملة لا يخرج خبر ، وإلا أداة حصر لتقدّم النفي ، ونكدا حال ، أي : عسرا مبطئا ، ويجوز أن ينتصب على المصدرية ، أي أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إلا خروجا نكدا (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدم إعراب نظائر له ، والآيات مفعول نصرف ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنصرف ، وجملة يشكرون نعت لقوم.


البلاغة :

١ ـ المجاز المرسل في قوله : «بين يدي رحمته» التي هي الغيث ، والعلاقة هي السببية ، لأن اليد سبب الإنعام ، والإنعام الرحمة.

٢ ـ التشبيه المرسل في قوله : «كذلك نخرج الموتى». وقد تقدمت الإشارة إليه في الإعراب.

الفوائد :

قال الزمخشري : «وإنما ذكّر «قريب» على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة موصوف محذوف ، أي : شيء قريب ، على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي» وقال أبو عبيدة : تذكير «قريب» على تذكير المكان ، أي : مكان قريب. ورد عليه الأخفش فقال : هذا خطأ ، ولو كان كما قال لكان «قريب» منصوب ، كما تقول إن زيدا قريبا منك. وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة يذكر ويؤنث ، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم ، فيقال : دارك منا قريب ، وفلانة منا قريب ، قال تعالى : «لعل الساعة تكون قريبا».

ومنه قول امرئ القيس :

لك الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا


(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

اللغة :

(الْمَلَأُ) : الأشراف والسادة ، وقيل : الرجال ليس معهم نساء.

وفي المصباح : «الملأ مهموز : أشراف القوم ، سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي ، أو لأنهم يملئون العيون أبهة والصدور هيبة ، والجمع أملاء ، مثل سبب وأسباب». وفي الأساس : وقام به الملأ والأملاء : الأشراف الذين يتمالئون في النوائب.

قال :

وقال لها الأملاء من كل معشر

وخير أقاويل الرجال سديدها


وما كان هذا الأمر عن ملأ منّا : أي ممالأة ومشاورة. ومنه هو مليء بكذا : مضطلع به. وعليها ملاءة الحسن. قال ابن ميّادة :

بذّتهم ميالة تميد

ملاءة الحسن لها جديد

وجمّش فتى من العرب حضرية فتشاحّت عليه ، فقال لها : والله مالك ملاءة الحسن ولا عموده ولا برنسه ، فما هذا الامتناع؟

الاعراب :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص عن الأنبياء السابقين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليتأسّى بمن قبله ، فلا يتحيّفه يأس ، ولا يخالجه فتور أو وهن في أداء رسالته.

واللام جواب للقسم المحذوف ، ولا يكاد العرب ينطقون بهذه اللام إلا مع قد ، وأرسلنا نوحا فعل وفاعل ومفعول به ، وإلى قومه جار ومجرور متعلقان بأرسلنا (فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الفاء عاطفة ، ويا أداة نداء ، وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة بدليل الكسرة ، واعبدوا فعل أمر ، والواو فاعله ، والله مفعوله ، وما نافية ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن حرف جر زائد ، وإله مبتدأ مؤخر محلا ، وغيره صفة لـ «إله» على المحل ، كأنه قيل : ما لكم إله غيره ، وجملة اعبدوا الله في محل نصب مقول القول ، وجملة مالكم من إله غيره استئنافية (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الجملة تعليل للأمر بالعبادة لا محل لها ، وإن واسمها ، وجملة أخاف خبرها ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأخاف ، وعذاب مفعول به ، ويوم مضاف إليه ، وعظيم صفة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ


قَوْمِهِ : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان جواب قومه. وقال الملأ فعل وفاعل ، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، ونراك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ، والجملة خبر «إن» ، وفي ضلال جار ومجرور متعلقان بنراك على أنه مفعول به ثان للرؤية ، والرؤية هنا قلبية ، ومبين صفة (قالَ : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان ردّ نوح عليهم ، وهو من أحسن الكلام وأبلغه. ليس فعل ماض ناقص ، وبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدّم ، وضلالة اسمها المؤخر. (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ، ولكن واسمها ، وقد جاءت في أحسن موقع لأنها بين نقيضين ، ورسول خبر لكن ، ومن رب العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسول (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها ومهمتها. ويجوز أن تكون الجملة صفة ثانية لرسول ، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم ، فقال : أبلغكم ، ولو راعى الاسم الظاهر بعده لقال : يبلغكم ، والكاف مفعول أبلغكم الأول ، ورسالات ربي مفعوله الثاني ، وأنصح لكم عطف على أبلغكم ، ومعلوم أن «نصح» يتعدى بنفسه وباللام ، يقال نصحه ونصح له (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على أبلغكم ، ومن الله جار ومجرور متعلقان بأعلم ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : جهته ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة لا تعلمون صلة الموصول لا محل لها (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) عطف على ما تقدم مسوق في أسلوب الاستفهام الإنكاري في الهمزة ، والواو عاطفة ، وعجبتم معطوف على محذوف لا بد من تقديره ، أي : أكذبتم


وعجبتم ، وأن حرف مصدري ونصب ، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ، أي : من أن جاءكم ، وذكر فاعل ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر أو بجاءكم ، وعلى رجل صفة لذكر ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : على لسان رجل ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجل ، أي من جملتكم ومن جنسكم ، لأنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ، ويقولون : «لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اللام علة للمجيء ، وينذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، ولتتقوا عطف على لينذركم ، وجملة الرجاء حالية ، وجملة ترحمون خبر لعل. جعل العلل لمجيء الذكر على لسان رجل منهم ثلاثا : أولاها لينذركم ، وثانيتها لتتقوا ، وثالثتها لعلكم ترحمون. وهو ترتيب حسن بالغ موقعه من الإجادة والحسن (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) الفاء الفصيحة لأنها وقعت جواب شرط محذوف ، أي : إذا أردت أن تعلم مغبة أمرهم فقد كذبوه. وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به ، وفأنجيناه عطف على فكذبوه ، والواو للمعية ، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول معه ، ولك أن تعطفه على الهاء ، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول ، أي : استقروا معه في الفلك ، وفي الفلك جار ومجرور متعلقان بما في الملك من الاستقرار ، أي بمتعلق الظرف أو بأنجيناه (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) عطف على ما تقدم ، وأغرقنا الذين فعل وفاعل ومفعول به ، وجملة كذبوا صلة ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) الجملة تعليل لما سبق من هلاكهم ، أي : هلكوا لعمى في بصيرتهم.

وإن واسمها ، وجملة كانوا خبرها ، وقوما خبر كانوا ، وعمين صفة لـ «قوما».


البلاغة :

١ ـ المجاز المرسل :

في قوله تعالى : «إنا لنراك في ضلال مبين» وقوله : «ليس بي ضلالة» فقد جعل الضلال ظرفا والضلال ليس ظرفا يحل فيه الإنسان.

لأنه معنى من المعاني ، وإنما يحل في مكانه فاستعمال الضلال في مكانه مجاز مرسل أطلق فيه الحال وأريد المحل ، فعلاقته الحاليّة ، وفائدته المبالغة في وصفه بالضلال وإيغاله فيه ، حتى كأنه مستقر في ظلماته لا يتزحزح عنها. وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بأن صدّروا الجملة بأن وزادوا اللام في خبرها.

٢ ـ نفي الأخصّ والأعمّ :

وأردف ذلك بقوله : «ليس بي ضلالة» للإطاحة بما زعموه ، وتفنيد ما توهموه ، وهو من أحسن الرد وأبلغه وأفلجه للخصم ، لأنه نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة ، فضلا عن أن يحيط به الضلال ، فلم يقل : ضلال ، كما قالوا ، كما يقتضيه السياق. وقد توثّب خيال الزمخشري فقرر أن الضلالة أخص من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل لك : ألك تمر؟ فقلت : مالي ثمرة. ولكن الزمخشري غفل عن نقطة هامة جدا في هذا البحث العظيم ، لأن نفي الأخص أعم من نفي الأعم ، فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم لا يستلزم الأخص ، بخلاف العكس ، ألا ترى أنك إذا قلت : هذا ليس بإنسان ، لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيوانا ، ولو قلت : هذا ليس بحيوان ، لاستلزم أن لا يكون إنسانا.


فنفي الأعم كما ترى أبلغ من نفي الأخص ، إذا تقرر هذا فالتحقيق في الجواب أن يقال : الضلالة أدنى من الضلال وأقل ، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه ، وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه ، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى ، لا من حيث كونه أخص بل من حيث التنبيه بالأدنى على الأعلى ، كما قررنا في مستهل هذا البحث.

الفوائد :

١ ـ الاسم إذا كان سبقه الضمير :

كل اسم سبقه ضمير حاضر من متكلم أو مخاطب يجوز فيه وجهان ، أولهما : مراعاة الضمير السابق ، وثانيهما مراعاة الاسم الظاهر ، تقول : أنا رجل أفعل كذا ، مراعاة للضمير «أنا» ، وان شئت قلت : يفعل كذا ، مراعاة لرجل. ومثله : أنت رجل تفعل العجائب ، ويفعل العجائب ، بالخطاب والغيبة. قال الإمام علي بن أبي طالب :

أنا الذي سمّتن أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظرة

قاله حين بارز اليهودي «مرحبا» يوم خيبر فقال اليهودي :

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

فأجابه علي بذلك. وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها ، لأن حيدرة من أسماء الأسد. فلما حضر أبو طالب سماه عليا.

وسمّي الأسد حيدرة لشدة انحداره على من يصول عليه ، والليث اسم جامد للأسد ، واشتقوا منه : لايثه أي : عامله معاملة الليث.


والغاب بيته الذي يغيب فيه. وكان الظاهر أن يقول : إن الذي سمته أمه ، ليطابق الضمير مرجعه ، وهو الموصول في الغيبة ، ولكنه أتى بضمير المتكلم ذهابا الى المعنى ، وحسنه تقدم ضمير المتكلم ، أي :أنا الشجاع الذي ظهرت عليّ أمارات الشجاعة من صغري فسمتني أمي باسم الأسد. ولا أكذبها ظنا.

وقد استدرك ابن جني على أبي الطيب المتنبي قوله :

أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

عدولا عن لفظ الغيبة ، ولكن الآية الكريمة كفيلة بتسويغ ما استعمله أبو الطيب.

٢ ـ اللام الداخلة على قد :

لا يكاد العرب ينطقون بهذه اللام إلا مع «قد» ، وقل عنهم نحو قول امرئ القيس :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صال

وذلك لأنه لما كانت الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها كانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم ، وقد جرى ابن الرومي الشاعر العباسي على غرار امرئ القيس بقوله :

لرأينا مستيقظين أمورا

حسبنا أن تكون رؤيا منام

وقيل : إذا أجيب القسم بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من


الحال جيء باللام وقد جميعا ، نحو : «تالله لقد آثرك الله علينا» ، وإن كان بعيدا جيء باللام وحدها ، كقول امرئ القيس الآنف الذكر وقول ابن الرومي.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨))

اللغة :

(سَفاهَةٍ) : جهالة وخفة حلم وسخافة عقل.

الاعراب :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) الواو حرف عطف ، والى عاد جار ومجرور متعلقان بالفعل المعطوف على أرسلنا ، وأخاهم مفعول به لأرسلنا ، وهودا بدل مطابق من «أخاهم» (قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) حذف العاطف من «قال» خلافا للآية الأولى في قصة نوح ، والسر في ذلك أن العاطف ينتظم الجمل حتى يصيرها كالجملة الواحدة ، فاجتنب لإرادة استقلال كل واحدة منها في معناها. وجملة النداء والأمر مقول


القول (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الجملة مستأنفة ، وقد تقدم إعراب نظيرها بحروفه (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والاستعباد لعدم اتقائهم العذاب بعد ما علموا ما حل بقوم نوح. والفاء للعطف على مقدر ، أي : ألا تتفكرون؟ أو أتغفلون فلا تتقون؟ ولا نافية ، وتتقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون ، والواو فاعل (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ماذا أجابه قومه على دعوته. وقال الملأ فعل وفاعل ، والذين نعت ، وجملة كفروا صلة ، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ووصف الملأ هنا ولم يصف الملأ في قصة نوح ، لأنه كان في أشراف هود من آمن به ، منهم فيما يروى مرثد بن سعد الذي أسلم ، وكان يكتم إسلامه ، فأريدت التفرقة بالوصف ، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ويجوز أن يكون إيراد الوصف تسجيلا للذمّ ، ونعتهم بالكفران المجرد والإنحاء عليهم بما يتبرأ منه العقلاء (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) جملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول قول الملأ ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وجملة نراك خبر إن ، وفي سفاهة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو مفعول به ثان إن كانت الرؤية قلبية ، ولعلها الأولى (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) عطف على ما تقدم ، وقد سبق إعراب مثيله (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) كلام مستأنف مساق لبيان جواب هود ، وما بعده مقول لقوله ، وليس فعل ماض ناقص ، وبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم وسفاهة اسمها المؤخر (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو حالية ، ولكن واسمها ، ورسول خبرها ، وهو استدراك على ما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد ، ومن رب العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسول (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) سبق إعرابها


قريبا (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) الواو عاطفة ، وأنا مبتدأ ، ولكم جار ومجرور متعلقان بناصح ، وناصح خبر أنا الأول. وأمين خبر أنا الثاني ، ويجوز إعرابه صفة لناصح.

البلاغة :

١ ـ المجاز المرسل :

في جعل السفاهة ظرفا على طريق المجاز المرسل ، وعلاقته الحاليّة كما تقدم في آية نوح ، وهي «إنا لنراك في ضلال مبين». ويقال في تصدير الجملة بإن وزيادة اللام المزحلقة في خبرها ما قيل هناك ، فجدّد به عهدا.

٢ ـ العدول إلى الاسمية :

أتى في قصة هود بالجملة الاسمية ، فقال : «وأنا لكم ناصح أمين» ، وأتى في قصة نوح بالجملة الفعلية ، حيث قال : «وأنصح لكم» ، وذلك لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة ، وكان نوح يكرر دعاءه ليلا ونهارا من غير تراخ ، فناسب التعبير بالفعلية ، وأما هود فلم يكن كذلك وقتا بعد وقت وقت ، فلهذا عبر عنه بالاسمية.

٣ ـ الكناية :

وذلك في قوله : «قال : يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين» ، فقد كنى عن تكذيبهم بقوله لهود عليه السلام : إنا لنراك في سفاهة وقد تقدم البحث عنها كثيرا فجدد به عهدا.


(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩))

اللغة :

(بَصْطَةً) : بفتح الباء : أي قوة وطولا ، وفي معاجم اللغة :البسطة : بفتح الباء التوسع والطول والكمال ، وبسطة العيش : سعته.

(آلاءَ) جمع مفرده إلي بكسر الهمزة وسكون اللام كحمل وأحمال ، أو ألي بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال ، وإلى بكسر الهمزة وفتح اللام كعنب وأعناب ، أو ألى بفتح الهمزة واللام كقفا وأفقاء.

الاعراب :

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري المراد به النهي ، أي : لا تعجبوا وتدبروا في أمركم. والواو حرف عطف ، وعجبتم فعل ماض معطوف على محذوف دل عليه سياق الكلام ، أي : أفكذبتم أو عجبتم ، والمحذوف مستأنف مسوق لنهيهم عن الإمعان فيما هم عليه ، وأن جاءكم مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بعجبتم ، أي :أو عجبتم من مجيء ذكر من ربكم ، وذكر فاعل جاءكم ، ومن ربكم


جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر ، وعلى رجل جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر ، أي : مقول على لسان رجل ، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجل ، ولينذركم اللام لام التعليل ، وينذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والمصدر مجرور باللام ، والجار والمجرور متعلقان بجاءكم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) الواو عاطفة ، والجملة منسوقة على ما قبلها لبيان ترتيب أحكام المناصحة والأمانة والإنذار ، وإذ نصب على المفعولية لا على الظرفية ، أي : واذكروا وقت الجعل المذكور ، لأن المقام مقام تجسيد واستحضار للصورة بكامل تفاصيلها ، وكأنما هي منصوبة أمامهم يستجلبون منه شتى العظات والعبر ، والجملة عطف على مقدر على كل حال ، كأنه قيل : لا تعجبوا أو تدبّروا في أمركم واستبصروا واذكروا ، وجملة جعلكم في محل جر بالإضافة ، والكاف مفعول به أول لجعلكم وخلفاء مفعول به ثان ، ومن بعد قوم نوح جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلفاء (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) عطف على جعلكم ، وفي الخلق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وبسطة مفعول به ثان لزادكم أو تمييز والكاف هي المفعول الأول ، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء هي الفصيحة ، لأنها وقعت جواب شرط مقدر ، أي : إذا عرفتم هذا حق المعرفة وتدبرتموه وتبصّرتم في مغابّه وخوافيه ، فاذكروا ، وآلاء الله مفعول به ، وجملة الرجاء حالية ، وجملة تفلحون خبر لعل.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا


فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

اللغة :

(الدابر) : الآخر ، وقطع الدابر يعني الاستئصال ، لأنه إذا قطع الآخر فقد قطع ما قبله ، فحصل الاستئصال.

الاعراب :

(قالُوا : أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) كلام مستأنف مسوق لينكروا عليه مجيئه ، وقد أرادوا المجيء من متعبّده ، أي : المكان الذي اعتزل فيه للعبادة ، أو أنهم لم يريدوا حقيقة المجيء ولكنهم أرادوا به مطلق التعرض والتصدي ، كما يقال : ذهب ليشتمني ، وليس المراد حقيقة الذهاب ، ولعل هذا أبلغ وأبين. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به ، واللام للتعليل ، ونعبد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والجار والمجرور متعلقان بجئتنا ، والله مفعوله ، ووحده حال مؤولة ، أي : منفردا ، ونذر فعل مضارع معطوف على نعبد ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول


به ، وكان فعل ماض ناقص ، واسمها مستتر ، وجملة بعبد آباؤنا في محل نصب خبر كان ، وجملة كان وما في حيزها صلة الموصول (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة ، وات فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول ، وبما جار ومجرور متعلقان بـ «اتنا» وجملة تعدنا صلة الموصول ، وإن شرطية. وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، وكان واسمها ، ومن الصادقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وجواب إن محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : فأتنا. (قال : قد وقع عليكم رجس من ربكم وغضب) كلام مستأنف مسوق لبيان جواب هود لقومه. وقد حرف تحقيق ، ووقع فعل ماض ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بوقع ، ورجس فاعل ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجس ، وغضب معطوف على رجس ، وجملة قد وما في حيزها مقول القول ، أي : حق عليكم العذاب ووجب ، أو قد نزل عليكم ، جعل المتوقع بمثابة الواقع المتحقق ، ومن هذا الوادي ما يروى عن حسان بن ثابت أن ابنه لسعه زنبور وهو طفل ، فجاء يبكي ، فقال : يا بني ما لك؟ قال : قد لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة ، فضمه الى صدره وقال له : يا بنيّ قد قلت الشعر (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، ولاستقباح إنكارهم مجيئه داعيا إياهم إلى عبادة الله وترك الأصنام.

وتجادلونني فعل مضارع وفاعل ومفعول به ، وفي أسماء جار ومجرور متعلقان بتجادلونني ، وجملة سميتموها صفة لأسماء ، والواو لاسباغ الضمة ، وأنتم تأكيد ، وآباؤكم عطف على أنتم (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) جملة ما نزّل صفة ثانية لأسماء ، وبها جار ومجرور متعلقان بنزل ، أو بمحذوف حال ، لأنه


كان في الأصل صفة لسلطان فلما تقدمت أعربت حالا ، ومن حرف جر زائد ، وسلطان مجرور لفظا منصوب على المفعولية محلا ، فانتظروا الفاء الفصيحة ، وانتظروا فعل أمر وفاعل ، وإن واسمها ، ومعكم ظرف متعلق بالمنتظرين ، ومن المنتظرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الفاء الفصيحة ، كما في قوله فانفجرت ، أي : فوقع ما وقع فأنجيناه ، وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به ، والذين عطف على الهاء في أنجيناه ، أو مفعول معه ، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ، وبرحمة جار ومجرور متعلقان بأنجيناه ، ومنّا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرحمة (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على أنجيناه ، ودابر مفعول به ، والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة ، وجملة كذبوا صلة لا محل لها ، وما كانوا عطف على كذبوا ، ومؤمنين خبر كانوا.

الفوائد :

قصة عاد :

روى التاريخ أن عادا قد تبسّطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها ، وهي صدّاء وصمود والهباء ، فبعث الله إليهم هودا نبيا من أوسطهم وأفضلهم حسبا ، فكذّبوه وازدادوا عتوّا وتجبّرا ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا ، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا الى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم ، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وسيدهم معاوية بن بكر ، فهجّرت عاد الى مكة من أماثلهم سبعين رجلا ، منهم قيل بن عتر ومرثد بن سعد الذي كان


يكتم إسلامه ، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان.

أسطورة الجرادتين :

وهما قينتان كانتا لمعاوية ، فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمّه ذلك ، وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري ، وهؤلاء على ما هم عليه ، وكان يستحيي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا ثقل مقامهم عليه ، فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله ، فقال معاوية بن بكر :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعلّ الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إنّ عادا

قد أمسوا ما يبينون الكلاما

فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وتبتم إلى الله سقيتم ، وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة ، فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة. فقال قيل بن عتر : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله سحابا ثلاثا : بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء :


يا قيل اختر لنفسك ولقومك! فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث ، فاستبشروا بها ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣))

اللغة :

(ثَمُودَ) ثمود بمنع الصرف بتأويل القبيلة ، وبالصرف بتأويل الحيّ ، أو باعتبار الأصل ، لأنه اسم أبيهم الأكبر ، وهو ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل : سميت ثمود لقلة مائها ، من الثمد ، وهو الماء القليل ، قال النابغة :

واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثّمد

وكانت مساكنهم الحجر ، بين الشام والحجاز.

الاعراب :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) تقدم إعراب نظيرها ، وصالحا بدل


من «أخاهم» (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تقدم إعراب نظيرها ، والجملة مقول قوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الجملة مندرجة في مقول قوله ، وجاءتكم فعل ماض ومفعول به ، وبينة فاعل ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بجاءتكم أو بمحذوف صفة لبيّنة (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان البينة. واسم الاشارة مبتدأ ، وناقة الله خبر ، والإضافة لتعظيم أمر الناقة ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان أو حال ، وآية حال والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل ، ويجوز أن تعرب هذه الجملة بدلا من بيّنة ، لأنها بمثابة التفسير لها ، وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في قوته (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) الفاء تفريعية ، لأنها جاءت تفريعا على كونها آية من آيات الله ، مما يستوجب عدم التعرض لها بسوء ، وذروها فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وتأكل فعل مضارع ، وهو مجزوم لأنه جواب الطلب ، وفي أرض الله جار ومجرور متعلقان بتأكل أو بقوله : فذروها ، على أنه من باب التنازع (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتمسوها فعل مضارع مجزوم ، والواو فاعل ، والهاء مفعول به ، وبسوء جار ومجرور متعلقان بتمسوها ، فيأخذكم : الفاء فاء السببية ، ويأخذكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لأنه جواب النهي ، والكاف مفعول به ، وعذاب فاعل ، وأليم صفة.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ


اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥))

اللغة :

(تَنْحِتُونَ) في القاموس : «نحته ينحته كيضربه وينصره ويعلمه : براه».

الاعراب :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) عطف على ما تقدم ، وإذ منصوب على المفعولية لا الظرفية ، أي اذكروا وقت الجعل ، وجملة جعلكم في محل جرّ بالإضافة ، والكاف مفعول به أول ، وخلفاء مفعول به ثان ، ومن بعد عاد جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلفاء (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) عطف على جعلكم ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان ببوأكم ، وجملة تتخذون حالية من المفعول ، ومن سهولها جار ومجرور متعلقان بتتخذون أو بمحذوف حال من «قصورا» ، إذ هو في الأصل صفة لها لو تأخر ، وقصورا مفعول به ، وسمي القصر قصرا لقصور الفقراء عن تحصيله (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) الواو عاطفة ، وتنحتون فعل مضارع وفاعل ، والجبال يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض ، أي : من الجبال ، كقوله تعالى : «واختار موسى قومه سبعين رجلا» ، فيكون «بيوتا»


مفعولا به ، ويجوز أن يضمن معنى ما يتعدى لاثنين ، أي : وتتخذون الجبال بيوتا بالنحت أو تصيرونها بيوتا بالنحت ، ويجوز أن يكون الجبال هو المفعول به ، و «بيوتا» حالا مقدّرة ، كما تقول : خط هذا الثوب قميصا. وابر هذه القصبة قلما. وإنما قلنا مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت ، ولا الثوب قميصا ، ولا القصبة قلما في حال الخياطة والبري. و «بيوتا» وإن لم يكن مشتقا فإنه في معنى المشتقّ ، أي : مسكونة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة ، واذكروا فعل أمر ، والواو فاعل ، وآلاء الله مفعول به ، والواو حرف عطف ، ولا ناهية ، وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتعثوا ، ومفسدين حال (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق ليكون جوابا عن استفهام ، وقال الملأ فعل وفاعل ، والذين اسم موصول في محل رفع صفة ، وجملة استكبروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقال ، وجملة استضعفوا صلة ، ولمن جار ومجرور متعلقان بمحذوف بدل من الذين استضعفوا ، بإعادة العامل ، وفيه وجهان : أحدهما أنه بدل كل من كل إن عاد الضمير في «منهم» على «قومه» ، ويكون المستضعفون كلهم المؤمنين فقط ، كأنه قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح ، وإما بدل بعض من كلّ إن عاد الضمير على المستضعفين ، ويكون المستضعفون ضربين : مؤمنين وكافرين ، كأنه قيل : قال المستكبرون من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) الهمزة للاستفهام التهكمي ، أي : قالوا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ، والجملة


المستفهمة في محل نصب مقول القول ، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي تعلمون ، ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمرسل (قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابهم ، وقد استبقوا الحوادث ، فمقتضى السياق أن يقولوا : نعم أو نعلم أنه مرسل. وإن واسمها ، وبما جار ومجرور متعلقان بالخبر «مؤمنون» ، وجملة أرسل صلة ، وإن وما بعدها جملة في محل نصب مقول القول ، وبه جار ومجرور متعلقان بأرسل.

البلاغة :

في هذه الآية فن طريف اسمه فنّ التغاير ، وقد مرّ طرف منه ، ونعيد الآن تعريفه للذكرى ، وهو تغاير المذهبين إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه ، أو يذمّ ما مدحه غيره وبالعكس ، أو يفضل شيئا أو يذمه أو يذم ما مدحه غيره وبالعكس ، أو يفضل شيئا على شيء ، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا والفاضل مفضولا ، فقد غاير بعضهم في باب الطاعة والعصيان بعد التغاير في مقالهم واعتقادهم في نيّاتهم ، وهذا ما يغاير به الإنسان فيه غيره.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا


تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

اللغة :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) العقر أصله كشف العراقيب في الإبل وهو ـ كما قال الأزهري ـ أن يضرب قوائم البعير أو الناقة فيقع ، وكانت هذه سنتهم في الذبح ، ثم أطلق على كل نحر عقر ، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب ، تسميته للشيء بما يلازمه غالبا ، إطلاقا للسبب على مسببه. وقال ابن قتيبة : العقر : القتل كيف كان ، يقال عقرتها فهي معقورة ، وقيل : العقر الجرح.

(عَتَوْا) تولوا عن أمر ربهم واستكبروا عن الامتثال له.

(جاثِمِينَ) : جثم : أي لزم مكانه ولم يبرح ، أو وقع على صدره.

وقال أبو عبيدة : الجثوم للناس وللطير كالبروك للإبل.

الاعراب :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) فعل وفاعل وصلة الموصول (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تقدم إعراب نظيره ، والجملة مقول قولهم ، ولم يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، كما هو ظاهر السياق ، إظهارا لمخالفتهم ، وإصرارا على عنادهم ، وتحاشيا مما يوهم ظاهره إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) الفاء الفصيحة ، وعقروا الناقة فعل وفاعل ومفعول به ، وعقروا عطف على


عتوا ، وعن أمر ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : مستكبرين أو صادرين عما يوحيه العتو إليهم ، ومثله : «وما فعلته عن أمري» ، وأسند العقر إلى الجميع ، لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشر القيام به إلا بعضهم (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عطف على ما تقدم ، وجملة ائتنا في محل نصب مقول القول ، وبما جار ومجرور متعلقان بائتنا ، وجملة تعدنا صلة الموصول ، وإن شرطية ، والجواب محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فائتنا ، ومن المرسلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنت (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة ، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل ، فأصبحوا عطف على فأخذتهم ، والواو اسم أصبحوا ، وفي دارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين ، وجاثمين خبر أصبحوا (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) الفاء عاطفة للتعقيب ، والظاهر أنه كان مشاهدا بعينه ما حصل لهم ، فتولى مغتمّا متحزّنا لإصرارهم على الكفر. وعنهم جار ومجرور متعلقان بتولي ، وقال عطف على فتولى ، ويا حرف نداء ، وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ، ولقد اللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وأبلغتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول ، ورسالة ربي مفعول به ثان (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) عطف على أبلغتكم ، ولكم جار ومجرور متعلقان بنصحت ، والواو حالية ، ولكن حرف استدراك مخفف مهمل ، ولا نافية ، وجملة لا تحبون الناصحين حالية ، لأنها حكاية حال ماضية.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ


مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١))

الاعراب :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الواو عاطفة على ما تقدم من القصص ، أي : واذكر لوطا في ذلك الوقت. ولوطا مفعول به لفعل محذوف ، أي : واذكر لوطا ، وإذ ظرف مبدل من قوله :«ولوطا» ، أي : واذكر وقت قال لقومه ، وجملة قال في محل جر بالإضافة ، ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال ، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، وتأتون الفاحشة فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة في محل نصب مقول القول (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) هذه الجملة يصح فيها أن تكون مستأنفة مسوقة لتأكيد النكر وتشديد التوبيخ والتقريع ، فإن مباشرة القبيح قبيحة ، واختراعه أقبح ، ويصح أن تكون حالية إما من الفاعل بمعنى أتأتونها مبتدئين بها ، وإما من المفعول به معنى أتأتونها مبتدأ بها غير مسبوقة من غيركم. وسبقكم فعل ماض ومفعول به ، وبها جار ومجرور متعلقان بسبقكم ، أو بمحذوف حال ، أي : ما سبقكم أحد مصاحبا لها ، أي ملتبسا بها ، ومن حرف جر زائد ، وأحد فاعل سبقكم ، ومن العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان النوع من الفاحشة التي ابتدعوها ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وجملة تأتون خبر إن ، والرجال مفعول به ، وشهوة مفعول لأجله ، أي : لا دافع لكم إلا الشهوة المجردة ، وهو ذم بليغ ، لأنه إلحاق لهم بالبهيمية المرتطمة


بالأقذار ، ويجوز أن تعرب حالا بمعنى مشتهين ، أي : تابعين لدواعي الشهوة وحوافزها ، غير آبهين لسماجتها. ومن دون النساء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الواو في «تأتون» ، أي ، متجاوزين النساء ، أو من الرجال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) بل حرف إضراب عن الإنكار الى الإخبار عنهم بالحال التي توجب اقتران الفضائح والمذامّ. وأنتم مبتدأ ، وقوم خبر ، ومسرفون صفة.

الفوائد :

(بَلْ) تكون للإضراب والعطف والعدول عن شيء الى آخر ، إن وقعت بعد كلام مثبت ، خبرا كان أو أمرا ، أو للاستدراك بمنزلة «لكن» إن وقعت بعد نفي أو نهي. ولا يعطف بها إلا بشرط أن يكون معطوفها مفردا غير جملة ، وهي إن وقعت بعد الإيجاب أو الأمر كان معناها سلب الحكم عما قبلها ، حتى كأنه مسكوت عنه ، وجعله لما بعدها ، نحو : قام علي بل خالد ، ونحو : ليقم عليّ بل سعيد ، وإن وقعت بعد النفي أو النهي كان معناها إثبات النفي أو النهي لما قبلها ، وجعل ضدّه لما بعدها ، نحو : ما قام علي بل خالد ، ونحو : لا يذهب عليّ بل خالد. وإن تلاها جملة لم تكن للعطف بل تكون حرف ابتداء مفيدا للإضراب الإبطالي أو الانتقالي. فالأول كقوله تعالى «وقالوا :

اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون» ، أي : بل هم عباد.

والثاني كما في الآية الآنفة. وقد تزاد قبلها «لا» بعد إثبات أو نفي ، فالأول كقول الشاعر :

وجهك البدر لا بل الشمس لو لم

يقض للشمس كسفنة أو أفول


والثاني كقول الآخر :

وما هجرتك لا بل زادني شغفا

هجر وبعد تراخ لا إلى أجل

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

اللغة :

(الْغابِرِينَ) : الباقين ، أي : الذين غبروا في ديارهم ، أي بقوا فيها. والتذكير لتعليب الذكور على الإناث. وكانت امرأته كافرة مولية لأهل سدوم ، بالدال المهملة ، وقيل : هي بالمعجمة. وهي مدينة واقعة على شاطئ بحيرة طبرية.

الاعراب :

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) : الواو عاطفة ، وما نافية ، وكان فعل ماض ناقص ، وجواب خبرها المقدم ، وقومه مضاف إليه ، وإلا أداة حصر. وأن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر اسم كان المؤخر ، أي : إلا قولهم (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)


الجملة في محل نصب مقول قولهم ، ومن قريتكم جار ومجرور متعلقان بأخرجوهم ، وإن واسمها ، وأناس خبرها ، والجملة تعليلية لا محل لها ، أوردها تعبيرا عن سخريتهم واستهزائهم بلوط وقومه ، وجملة يتطهرون صفة لأناس (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على محذوف مفهوم من سياق الكلام ، أي :فحل عليهم العذاب فأنجيناه.

وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به ، وأهله عطف على الهاء ، أو مفعول معه ، وإلا أداة استثناء ، وأهله مستثنى ، وجملة كانت من الغابرين استئنافية مسوقة للرد على سؤال نشأ عن استثنائها ، كأنه قيل : فماذا كانت حالها؟فقيل : كانت من الغابرين. أي الذين غبروا في ديارهم ، أي : بقوا فيها فهلكوا (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) الواو عاطفة ، وأمطر فعل ماض ، مثل مطر ، ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأمطرنا ، ومطرا مفعول به ، لأنه يراد به الحجارة ، ولا يراد به المطر أصلا. وضمن أمطرنا معنى أرسلنا ، ولذلك عدّي بعلى ، ولو أراد المصدر لقال : إمطارا ، كما هو القياس (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الفاء استئنافية ، وانظر فعل أمر ، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم ، وعاقبة اسمها ، والمجرمين مضاف إليه.

الفوائد :

شجر خلاف بين أهل اللغة حول مطر وأمطر ، فقال أبو عبيدة :يقال : مطر في الرحمة ، وأمطر في العذاب. وهذا مردود بقوله تعالى : «هذا عارض ممطرنا» ، فإنهم إنما عنوا الرحمة بذلك ، وقال الزمخشري : «أي فرق بين مطر وأمطر»؟ وأجاب عن هذا السؤال قائلا : يقال : مطرتهم السماء ، وواد ممطور. وفي نوابغ الكلم :


حرى ممطور ، حرى أن يكون غير ممطور» ، وحرى الأول بمعنى ناحية وجانب ، والثاني بمعنى جدير وحقيق ، وممطور الأول مصاب بالمطر ، والثاني بمعنى مذهوب فيه. «ومعنى مطرتهم :أصابتهم بالمطر ، كقوله : غاثتهم وبلتهم وجادتهم ورهمتهم ، ويقال :أمطرت عليهم كذا بمعنى أرسلته إليهم إرسال المطر ، «فأمطر علينا حجارة من السماء» ، «وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل» ، ومعنى «وأمطرنا عليهم مطرا» وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا ، يعني الحجارة». وغاية الزمخشري من ذلك كله الرد على من يقول : مطرت السماء في الخير ، وأمطرت في الشر ، ويتوهم أنها تفرقة وضعية ، فبيّن أن «أمطرت» معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن ماء ، حتى أرسل الله من السماء أنواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن والسلوى لجاز أن يقال فيه : أمطرت السماء خيرات ، أي : أرسلتها إرسال المطر ، فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر ، وإلا كان عذابا ، فظن الواقع اتفاقا مقصودا في الوضع ، فنبه الزمخشري على تحقيق الأمر فيه.

وممن فرّق بين الثلاثي والرباعي الفيروزبادي صاحب القاموس ، قال : وأمطرهم الله لا يقال إلا في العذاب.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها


ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

اللغة :

(مَدْيَنَ) : اسم أعجمي ، وهو اسم قبيلة ، سموا باسم أبيهم مدين بن إبراهيم ، وشعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين ، وهو اسم قبيلة ، فهو أخوهم في النسب ، وليس من أنبياء بني إسرائيل. ومدين أيضا اسم قرية شعيب ، فهو اسم مشترك بين القرية والقبيلة وأبيها.

(تَبْخَسُوا) : تنقصوا ، يقال : بخسته حقه إذا نقصته إياه ، وفي المثل : تحسبها حمقاء وهي باخس. ومن غريب أمر الباء والخاء أنها إذا اجتمعا فاء وعينا للكلمة عبرنا عن التأثير في الأشياء ، فمن ذلك البخت ، وهو الحظ ، وأثره أشهر من أن يذكر ، وبخ لك كلمة إعجاب ومدح للشيء ، وهي بالكسر والتنوين ، وقد تشدد الخاء وتكرر ،


فيقال : بخّ بخّ ، وتبنيان عندئذ على السكون ، وبخر الثوب أحدث فيه رائحة طيبة ، والبخر بفتحتين نتن الفم ، فهو من الأضداد. والبخار وهو الماء في الحالة الغازية ، وكل ما ارتفع من السوائل الحارّة كالدخان. وأثره في تسيير القواطر وغيرها مشهور متعارف ، وبخص عينه قلعها ، وبخع نفسه أهلكها ، وبخل أمسك ومنع.

الاعراب :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تكررت هذه الآية مرارا وقد تقدم إعرابها (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الجملة داخلة في حيز القول ، منصوبة به ، وبينة فاعل جاءتكم ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الفاء الفصيحة. وأوفوا فعل أمر ، والواو فاعل ، والكيل مفعول به ، والميزان عطف على الكيل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتبخسوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، والواو فاعله ، والناس مفعول به ، وأشياءهم مفعول به ثان ، يقال :بخسته حقه إذا أنقصته إياه (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) عطف على ما تقدم ، ولا ناهية ، وتفسدوا فعل مضارع مجزوم بلا ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتفسدوا ، وبعد إصلاحها ظرف زمان متعلق بمحذوف حال ، ولا بد من تقدير مضاف ، أي : إصلاح أهلها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة ، واسم الإشارة مبتدأ ، وخير خبر ، ولكم جار ومجرور متعلقان بخير ، وإن شرطية ، وكنتم كان واسمها في محل جزم فعل الشرط ، ومؤمنين خبر كنتم ، وجواب إن محذوف ، أي : فبادروا الى الايمان (وَلا تَقْعُدُوا


بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) عطف أيضا ، وبكل جار ومجرور متعلقان بتقعدوا ، وصراط مضاف إليه ، وجملة توعدون في محل نصب على الحال ، أي : ولا تقعدوا موعدين (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) عطف أيضا ، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بتصدون ، ومن مفعول لتصدون ، وجملة آمن به صلة ، وبه جار ومجرور متعلقان بآمن (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) وتبغونها فعل وفاعل ومفعول به ، وعوجا حال وقع فيها المصدر موضع الاسم المشتق ، أي : معوجة. ويجوز أن تكون الهاء في محل نصب بنزع الخافض ، وعوجا مفعول به. وهو قول سليم تقدم في آل عمران ، فجدد عهدا به (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) عطف أيضا ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب مفعول به ، أي : واذكروا شاكرين وقت كونكم قليلا عددكم. ويجوز أن تكون ظرفا ، والمفعول به محذوفا ، فيكون الظرف معمولا لذلك المحذوف ، أي : واذكروا نعمته عليكم في ذلك الوقت ، وجملة كنتم في محل جر بالإضافة ، وكان واسمها وخبرها ، فكثركم عطف على كنتم ، أي : كثركم بالغنى بعد الفقر ، وبالقدرة بعد الضعف (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) عطف أيضا ، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم ، وعاقبة المفسدين اسمها ، وقد علق الاستفهام النظر فالجملة في محل نصب بنزع الخافض ، والجار والمجرور متعلقان بانظروا (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وكان واسمها ، منكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة ، وجملة آمنوا خبر كان ، وبالذي جار ومجرور متعلقان بآمنوا ، وجملة أرسلت به صلة (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) طائفة عطف على طائفة الأولى ، وجملة لم يؤمنوا معطوفة على جملة آمنوا التي هي خبر كان ، من عطف الاسم وعطف الخبر على الخبر ، وحذف متعلق لم يؤمنوا


اكتفاء بمتعلق آمنوا (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) الفاء رابطة لجواب الشرط ، وحتى حرف غاية وجر ، ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، والجار والمجرور متعلقان باصبروا ، وبيننا ظرف متعلق بيحكم (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) الواو للحال أو الاستئناف ، وهو مبتدأ ، وخير الحاكمين خبره.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

اللغة :

(لَتَعُودُنَّ) : لفعل «عاد» في لغة العرب استعمالان : أحدهما وهو الأصل : الرجوع الى ما كان عليه من الحال الأول ، وثانيهما : استعمالها بمعنى صار ، وحينئذ ترفع الاسم وتنصب الخبر. وقد جرينا على الإعرابين.


الاعراب :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) تقدم هذا الاعراب بنصه ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قالوه بعد ما سمعوا من المواعظ (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) اللام موطئة للقسم ، ونخرجنك فعل مضارع مبني على الفتح ، والكاف مفعول به ، والذين عطف على الكاف أو مفعول معه ، وجملة آمنوا صلة ، ومعك ظرف مكان متعلق بالإخراج لا بالإيمان ، وتوسيط النداء باسم شعيب زيادة بيان إغراقهم في الوقاحة والطغيان ، ومن قريتنا جار ومجرور متعلقان بنخرجنك (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أو عاطفة ، ولتعودن عطف على جواب القسم الأول ، أي : والله لنخرجنك والمؤمنين أو لتعودن ، وتعودن هنا معرب لأنه لم يتصل مباشرة بنون التوكيد الثقيلة ، وأصله تعودونن ، فحذفت النون لتوالي الأمثال ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، والواو إما فاعل وإما اسم تعود على الاستعمالين ، وفي ملتنا جار ومجرور متعلقان بتعودن أو بمحذوف خبر تعودن (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) جملة القول مستأنفة مسوقة لبيان ردّ شعيب عليه السلام ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، أي إنكار ، ولو شرطية لمجرد الربط لا لانتفاء الشيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه ، وكان واسمها وخبرها ، وجملة لو كنا كارهين في محل نصب حال من ضمير الفعل المقدر ، أي : أنعود ولو كنا كارهين (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة للتعجب من إصرارهم على موقفهم ، وقد حرف تحقيق ، وافترينا فعل وفاعل ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترينا ، وكذبا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف ، وإن شرطية ، وعدنا في ملتكم في محل جزم فعل الشرط ، وتقدم إعراب الباقي على


الاستعمالين ، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فقد افترينا الكذب (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) بعد ظرف زمان متعلق بمحذوف حال ، والظرف مضاف الى ظرف آخر ، وجملة نجانا في محل جر بالإضافة والله فاعل ، ومنها جار ومجرور متعلقان بنجانا (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) الواو استئنافية مسوقة لاستبعاد العود ، وما نافية ، ويكون فعل مضارع ، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وأن وما في حيزها هو اسم يكون ، وفيها جار ومجرور متعلقان بنعود أو بمحذوف خبرها ، على الاستعمالين (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) في هذا الاستثناء وجهان : أحدهما أنه متصل ، فعلى هذا يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو الأحوال ، وثانيهما أنه منقطع ، فيكون التقدير : لكن إذا شاء الله العود ، والله فاعل يشاء ، وربنا بدل من الله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان سعة علم ربنا ، ووسع فعل ماض ، وربنا فاعل ، وكل شيء مفعول به ، وعلما تمييز محوّل عن الفاعل ، أي وسع علمه كل شيء (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) الجملة في موضع نصب على الحال ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكلنا ، وتوكلنا فعل وفاعل (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الجملة مستأنفة ، وربنا منادى مضاف ، وافتح فعل أمر ، وبيننا ظرف مكان متعلق بافتح ، أي : احكم بيننا وبين قومنا ، والواو للحال أو للاستئناف أيضا ، وأنت مبتدأ ، وخير الفاتحين خبر.

الفوائد :

اشتملت هاتان الآيتان على : كثير من الفوائد نلخصها فيما يلي :


١ ـ الشبهة في العود :

إذا كانت «عاد» على معناها الأصلي فكيف يحسن أن يقال :«أو لتعودنّ» أي : ترجعنّ الى حالتكم الأولى ، مع أن شعيبا عليه السلام لم يكن قط على دينهم ولا في ملتهم؟ وقد أجيب عن هذه الشبهة بأمور :

١ ـ إن هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس والإيهام على العوام بأنه كان على دينهم وفي ملتهم.

٢ ـ أن يراد بعوده رجوعه الى حاله قبل بعثته ، وهي السكوت لأنه قبل أن يبعث يخفي إيمانه وهو ساكت.

٣ ـ تغليب الجماعة على الواحد ، لأنهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج أجروا عليهم حكم العود الى الملة تغليبا لهم عليه.

على أن استعمال عاد بمعنى صار لا يستدعي العود الى حالة سابقة بل العكس من ذلك ، وهو الانتقال من حالة سابقة الى حال مؤتنفة ، وحينئذ تندفع الشبهة تماما.

وثمة وجه لطيف فني لردّ الشبهة ليس بعيدا وهو أن تبقى عاد على معناها الأصلي ، وهو أن يكون الكلام من وادي قوله تعالى : «الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات» والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه ، ونحن نعلم أن المؤمن


الناشئ في الإيمان المترعرع على ذراه لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها ، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الايمان ولا كان فيه ، ولكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية كان تعبيرا عن السبب بالمسبب لإقامة حجة الله على عباده.

٢ ـ لزوم ما لا يلزم :

وفي الآية الأولى لزوم ما لا يلزم وهي قوله تعالى : «لنخرجنك يا شعيب والذين معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا» فقد لزمت التاء قبل النون ، وهذا ما يسمى «لزوم ما لا يلزم» ، وهو أن يلتزم الشاعر في شعره والناثر في نثره حرفا أو حرفين فصاعدا قبل حرف الرّويّ على قدر طاقته ، ومقدار قوة عارضته ، مشروطا بعدم الكلفة. وسيرد في القرآن الكثير منه.

أبو العلاء المعرّي واللّزوم :

وقد قال أبو العلاء :

كثيّر أنا في حرفي أهبت له

في التاء يلزم حرفا غير يلتزم

فقد أرخ شاعرنا الفيلسوف في بيته الفنّ الذي أحبه ونذر له نفسه أولا وهو «لزوم ما لا يلزم». ومعنى البيت أنه حذا حذو كثيّر عزة الذي التزم اللام في تائيته التي يقول في مستهلها :

خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا

قلوصيكما ثم احللا حيث حلّت


وهذه القصيدة المستجادة تعدّ حسب رواية القالي خمسة وثلاثين بيتا ، بناها من أولها الى آخرها على التزام حرف معين قبل الرّويّ ، وهو أمر لم يسبق إليه شاعر من شعراء العرب في استخدام هذا النوع ، فقلّده الشعراء ، وهل أراد المعري ذلك؟ الجواب : لا ، ومن رأينا أن المعري في اقتدائه بكثير عزّة لم يفعل ذلك ، لأن كثيّرا أول من استخدم هذا الفن ـ كما توهم فريق من علماء البيان ـ بل لأن لزوم ما لا يلزم لم يرد إلا نادرا في شعر العرب قبل عصر كثير ، كما أنه ورد في نبذ ومقطوعات قصيرة ، أما كثير فقد نظم أشهر وأطول قصيدة لزومية تناقلتها الرواة. وقد أكثر شعراء العرب قبل كثير وبعده من التزام ما لا يلزم قبل تاء التأنيث هذه.

هذا وقد بلغ أبو العلاء الغاية في لزومياته ، فقد بنى قافية على دارهم ، صدارهم ، ملتزما فيها أربعة أحرف ، وبنى أخرى على ضرائرهم ، صرائرهم ، سرائرهم ، ملتزما فيها خمسة أحرف.

ويطول بنا الحديث إن أردنا الاستشهاد فحسبنا ما تقدم.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي


وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

اللغة :

(يَغْنَوْا) مضارع غني بالمكان أقام به فهو غان. والمغني المنزل ، والجمع المغاني ، قال الطائي :

غنينا زمانا بالتصعلك والغنى

وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر

(آسى) : أصله أأسى بهمزتين ، قلبت الثانية ألفا. وفي المصباح : أسي أسى من باب تعب : حزن.

الاعراب :

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) تقدم إعرابها (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) الجملة القسمية في محل نصب مقول قولهم ، واللام موطئة للقسم ، وإن شرطية ، واتبعتم شعيبا فعل وفاعل ومفعول به ، وإن واسمها ، وإذن حرف جواب وجزاء مهمل ، واللام المزحلقة ، وخاسرون خبر إن ، وجملة إنكم جواب القسم لا محل لها ، وهي سادة مسد جواب الشرط كما هي القاعدة في اجتماع شرط وقسم


(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة ، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل ، فأصبحوا عطف على فأخذتهم ، والواو اسم أصبحوا وجاثمين خبرها ، وفي دارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) جملة مستأنفة لبيان حقيقة هؤلاء المكذبين. والذين مبتدأ ، وجملة كذبوا شعيبا صلة ، وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة لم يغنوا فيها خبرها (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) الذين مبتدأ ، وجملة كذبوا شعيبا صلة ، وجملة كانوا خبر الذين ، وهذا التكرير في المبتدأ والخبر مبالغة في الردّ على أشياعهم وتسفيه آرائهم ، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين ، وأسند الى الموصول تعظيما لغير السامعين ، فإن خسران مكذبيه يدل على سعادة مصدقه ، ويلزمه تعظيم شعيب عليه السلام الذي هو غير المتكلم والمخاطب في هذا المقام (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) الفاء عاطفة ، وتولى فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بتولي ، وقال عطف على تولى ، وجملة لقد أبلغتكم رسالات ربي مقول القول ، ورسالات مفعول به ثان لأبلغتكم (وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) عطف على ما سبق ، والفاء استئنافية ، وكيف اسم استفهام معناه النفي في محل نصب حال ، وآسى فعل مضارع ، وفاعله مستتر تقديره أنا ، وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بآسى ، وكافرين صفة لقوم.

البلاغة :

في الآية وصف لحال النفس في ترددها فقد اشتد حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال : كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن


عليهم لكفرهم وتماديهم في الطغيان ، واستحقاقهم لما نزل بهم؟ ثم يتخلل ذلك العودة عليهم بالملامة ، يريد لقد أعذر من أنذر ، وبلغت أقصى ما يستطيعه الغيور على قومه من الارتطام في بوادي الجهل المتشعبة ، ومهالكه الموبقة.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦))

اللغة :

(عَفَوْا) : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم : عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت. ويقال : عفا : كثر ، وعفا :درس ، فهو من أسماء الأضداء. وفي المصباح أنه يتعدى ولا يتعدى ، ويتعدى أيضا بالهمزة ، فيقال : أعفيته.

الاعراب :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) الواو استئنافية ، والكلام


مستأنف مسوق لبيان أحوال الأمم بصورة مجملة لتكون مع القصة نذيرا للمنذرين. وما نافية ، وأرسلنا فعل وفاعل ، ومن حرف جر زائد ، ونبيّ مجرور لفظا منصوب محلّا على أنه مفعول به (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) إلا أداة حصر ، فالاستثناء مفرّغ من أعم الأحوال ، فجملة أخذنا في محل نصب على الحال بتقدير «قد» كما هو الشرط في وقوع الماضي حالا ، وقد تقدّم بحثه.

والتقدير : وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا قد أخذنا. وأهلها مفعول به ، وبالبأساء جار ومجرور متعلقان بأخذنا ، والضراء عطف على البأساء ، ولعلهم لعل واسمها ، وجملة يضّرّعون خبرها ، وجملة لعلهم يضرعون حالية.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) ثم حرف عطف وتراخ ، وبدلنا عطف على أخذنا منتظم في حكمه. ومكان مفعول به لبدلنا ، والسيئة مضاف إليه ، والحسنة مفعول به ثان ، وهذا ما منع من نصبه على الظرفية ، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة ، ومكان السيئة هو المتروك الذاهب ، وهو الذي تصحبه الباء في مثل هذا التركيب ، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة (حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا : قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) حتى حرف غاية وجر ، وعفوا فعل ماض وفاعله ، والمصدر المؤول المجرور بأن متعلقان ببدلنا ، وقالوا عطف على عفوا ، وجملة قد مس مقول القول ، وآباءنا مفعول به ، والضراء والسراء عطف عليه (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فأخذناهم عطف على عفوا ، وبغتة حال أو صفة لمصدر محذوف ، وهم الواو حالية ، وهم مبتدأ ، وجملة لا يشعرون خبر ، والجملة الاسمية في محل نصب حال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية ، ولو شرطية لمجرد الربط ، وأن واسمها ، وجملة آمنوا خبرها ، وأن وما بعدها


فاعل لفعل محذوف ، أي : ثبت إيمانهم ، ولفتحنا اللام واقعة في جواب لو ، وفتحنا فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بفتحنا ، وبركات مفعول به ، ومن السماء والأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبركات (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو حالية ، ولكن حرف استدراك مهمل ، وكذبوا فعل وفاعل ، والجملة نصب على الحال ، فأخذناهم الفاء عاطفة ، وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به ، وبما جار ومجرور متعلقان بأخذناهم ، وما مصدرية أو موصولة ، وكان واسمها ، وجملة يكسبون خبر ، وجملة الكون صلة «ما» أو المصدر المؤول ، لا محل له بعد الموصول الحرفي.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

اللغة :

(بَياتاً) البيات يكون بمعنى البيتوتة ، يقال : بات بياتا ، وقد يكون بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم ، يقال بيته العدو بياتا ، فيجوز أن يراد يأتيهم بأسنا بائتين أو وقت بيات ، أو مبيتا أو مبيتين.

والبيات الهجوم على الأعداء ليلا.


(الضُّحى) : اشتداد الشمس وامتداد النهار ، يقال : ضحي ، ويقال : ضحى وضحاء ، إذا ضممته قصرته ، وإذا فتحته مددته.

الاعراب :

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي ، والفاء عاطفة على أخذناهم بغتة ، وما بينها وهو قوله : «ولو أن أهل القرى» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقد تقدّم أن مثل هذا التركيب يكون حرف العطف في نية التقديم ، وإنما تأخر ، وتقدمت عليه الهمزة لقوة تصدرها في أول الكلام. وأمن أهل القرى فعل وفاعل (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) أن المصدرية وما في حيزها مفعول أمن ، وبأسنا فاعل يأتيهم ، وبياتا حال أو ظرف ، والواو حالية ، وهم نائمون مبتدأ وخبر ، والجملة نصب على الحال من الضمير في يأتيهم (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في الاعراب ، وضحى ظرف زمان متعلق بيأتيهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تقدم إعرابها ، والتكرير لزيادة النكير والتوبيخ ، وقد تقدم القول في المراد بمكر الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الفاء عاطفة ، ولا نافية ، ويأمن مكر الله فعل ومفعول به ، وإلا أداة حصر ، والقوم فاعل ، والخاسرون صفة.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما


كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

اللغة :

(يَهْدِ) : يبين ، من هدى يهدي.

الاعراب :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ومعنى يهدي : أن يتبين وهي مجزومة بـ «لم» وللذين متعلقان بيهد ، وجملة يرثون الأرض صلة ، ومن بعد أهلها جار ومجرور متعلقان بيرثون (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أن هنا هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة نشاء خبر ، وأن وما بعدها فاعل يهد ، ويجوز أن يكون فاعل «يهد» مستترا هو ضمير «الله» أو ضميرا عائدا على المفهوم من سياق الكلام ، أي : أولم يهد ما جرى للأمم السابقة ، وعندئذ تكون أن وما في حيزها في تأويل مصدر في محل المفعول ، والتقدير على الوجه الأول : أولم يهد الله ويبين للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم إصابتنا إياهم بذنوبهم ، ويكون المفعول به محذوفا كما قدرناه.

وعلى الوجه الثاني يكون التقدير : أولم يبين ويوضح الله أو ما جرى


للامم إصابتنا إياهم لو شئنا ذلك. وأصبناهم فعل وفاعل ومفعول به ، وبذنوبهم جار ومجرور متعلقان به (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة ، ولا يجوز عطفه على جواب «لو» لأنه يؤدي الى كون الطبع منفيا بمقتضى «لو» مع أنه ثابت لهم ، وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بنطبع (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الفاء عاطفة لتعقيب عدم السمع بعد الطبع على القلب ، وهم مبتدأ ، وجملة لا يسمعون خبره (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) تلك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، والقرى بدل من تلك ، وجملة نقص خبر تلك. ويجوز أن تكون القرى هي الخبر وجملة نقص حالية ، على حد قوله تعالى : «هذا بعلي شيخا» ، وعليك جار ومجرور متعلقان بنقصّ ، ومن أبنائها ، جار ومجرور متعلقان بنقص أيضا ، ومن للتبعيض ، أي :بعض أنبائها ، ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك ، وجملة الإشارة استئنافية مسوقة لبيان أن هؤلاء لا تجدي فيهم النصائح والعبر ، ولا تؤثر فيهم المواعظ ، فماتوا مصرين على عنادهم ، لم تلن لهم شكيمة ، ولم يهدأ لهم عناد (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الواو استئنافية أو عاطفة ، واللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وجاءتهم فعل ومفعول به ، رسلهم فاعل ، وبالبينات جار ومجرور متعلقان بجاءتهم (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) الفاء عاطفة ، وما نافية ، وكان واسمها ، واللام للجحود ، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود ، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف ، أي فما كانوا مريدين ليؤمنوا ، وبما جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا ، وما اسم موصول أو مصدرية ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، وعلى كون «ما» موصولة فالعائد محذوف ، وهو مجرور ، كقوله تعالى في سورة يونس : «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا


به» ، وهو من اتحاد المتعلق معنى ، وبيان كونه من ذلك أن مجموع «ما كانوا ليؤمنوا» بمعنى «كذبوا به» ، فاتحد المتعلقان معنى.

ويمكن أن يقال : قد تعدى قوله تعالى : «ليؤمنوا» بالياء ، ويؤمن نقيض يكذب ، فأجراه مجراه ، لأنهم قد يحملون الشيء على نقيضه ، كما يحمل على نظيره (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الكاف مع مدخولها صفة لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفى عنهم الايمان كذلك يطبع الله على قلوب الكفرة الآتين بعدهم (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الواو معترضة ، والجملة لا محل لها لأنها اعتراضية ، وما نافية ، ووجدنا فعل وفاعل ، ولأكثرهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعهد ، ومن حرف جر زائد ، وعهد مفعول به محلا لوجدنا ، ويجوز أن يكون لأكثرهم مفعولا ثانيا لوجدنا ، بترجيح أنها علمية لا وجدانية (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) الواو عاطفة ، وإن مخففة من الثقيلة غير عاملة على قلة ، ويجوز أن تكون عاملة واسمها ضمير الشأن ، وسيأتي حكمها في باب الفوائد ، ووجدنا أكثرهم فعل وفاعل ومفعول به ، واللام الفارقة ، وفاسقين مفعول به ثان لوجدنا.

الفوائد :

إذا خففت «إن» المكسورة الهمزة أهملت وجوبا إن وليها فعل ، كقوله تعالى : «وإن نظنك لمن الكاذبين» ، فإن وليها اسم فالغالب إهمالها أيضا ، نحو : إن أنت لصادق ، ويقل إعمالها ، نحو : إن زيدا لمنطلق. ومتى خففت وأهملت لزمتها اللام المفتوحة وجوبا تفرقة بينها وبين «إن» النافية وتسمى اللام الفارقة.


(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦))

الاعراب :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) ثم : حرف عطف وتراخ ، وبعثنا فعل وفاعل ، من بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، والضمير للرسل أو للأمم ، وموسى مفعول به ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان ببعثنا ، والى فرعون جار ومجرور متعلقان ببعثنا أيضا ، وملئه عطف على فرعون ، أي الى قومه ، فظلموا الفاء للعطف والتعقيب ، وبها جار ومجرور متعلقان بظلموا ، وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من شعبة واحدة ، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية ، والجملة مسوقة لتفصيل ما أجمله من قبل. ويا حرف نداء للتوسط ، وفرعون منادى مفرد علم مبني على الضم ، وهو لقبه ، واسمه الحقيقي الوليد بن مصعب


ابن الريان ، أما كنيته فأبو مرة ، وإن واسمها ومن رب العالمين خبرها ، والجملة في محل نصب مقول القول (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) حقيق خبر لمبتدأ محذوف ، أي : أنا حقيق ، بمعنى جدير ، والجملة استئنافية ، وعلى أن لا أقول جار ومجرور متعلقان بحقيق ، لأنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بأقول ، وإلا أداة حصر ، والحق صفة لمصدر محذوف ، أي : إلا القول الحق ، ويجوز أن يكون مفعولا به لأنه يتضمن معنى جملة (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الجلة صفة لرسول ، وقد حرف تحقيق ، وجئتكم فعل وفاعل ومفعول به ، وببينة جار ومجرور متعلقان بجئتكم ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا استمعت كلامي وثبت الى الرشد فخلّ أمرهم واترك سبيلهم حتى يذهبوا معي.

وأرسل فعل أمر ، ومعي ظرف متعلق بأرسل ، وبني إسرائيل مفعول به ، وغاية موسى تحريرهم من العبودية وتخليصهم من ربقة الأسر والهوان (قالَ : إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جملة قال استئنافية لطلب فرعون الإتيان بآية من ربه ، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول ، وإن شرطية ، وكان واسمها ، وجملة جئت خبر كنت ، وبآية جار ومجرور متعلقان بجئت ، والفاء رابطة للجواب ، وأت فعل أمر ، وبها جار ومجرور متعلقان به ، وكنت كان واسمها في محل جزم فعل الشرط ، ومن الصادقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنت ، وجواب إن محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : فأت بها.

البلاغة :

من سنن العرب في كلامهم القلب ، وهو ضربان : الأول قلب


الحقيقة الى المجاز لوجه من المبالغة ، وقد تشبث أبو الطيب المتنبي بأهدابه حين قال :

والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به

وللسّيوف كما للناس آجال

والمراد بشقاء السيف انقطاعه في أضلاع المضروب ، على حد قوله في بيت آخر :

طوال الرّدينيّات يقصفها دمي

وبيض السّريجيّات يقطعها لحمي

والضرب الثاني ضرب معرّى عن هذا المعنى البليغ ، كقولهم : خرق الثوب المسمار ، وأشباهه.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))


الاعراب :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة للتعقيب ، وألقى فعل ماض ، وعصاه مفعول به ، فإذا الفاء عاطفة أيضا ، وإذا الفجائية ، وقد تقدم القول فيها ، وإن النحاة ذهبوا فيها ثلاثة مذاهب : ظرف مكان أو زمان أو حرف ، وهي مبتدأ ، وثعبان خبر ، ومبين صفة (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الواو عاطفة ، ونزع يده فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ، أي : أخرجها من جيبه ، وهو طوق قميصه ، والفاء عاطفة ، وإذا فجائية ، وهي مبتدأ ، وبيضاء خبر ، وللناظرين جار ومجرور متعلقان ببيضاء ، والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظّارة بياضا عجيبا باهرا خارقا للعادة ، مع أنه كان آدم شديد الأدمة ، أي السمرة. ولك أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف صفة لبيضاء (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) كلام مستأنف مسوق ليعلن الملأ من قومه عجبهم ، ولا منافاة بين ما ورد هنا من صدور الكلام عنهم وما ورد في سورة الشعراء من عزوه الى فرعون ، فقد يكون هو القائل فحكوا قوله. وقال الملأ فعل وفاعل ، ومن قوم فرعون جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، وساحر خبر ، وعليم صفة ، والجملة في محل نصب مقول القول (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) جملة يريد صفة ثانية لساحر ، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به ليريد ، ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن ، ومن أرضكم جار ومجرور متعلقان بيخرجكم ، والفاء عاطفة ، وماذا اسم استفهام مفعول مقدم لتأمرون ، أو «ما» مبتدأ و «ذا» اسم موصول خبرها ، وجملة تأمرون لا محل لها ، وقد تقدم القول مشبعا في «ماذا» وإعرابها


(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان رد الملأ من قومه.

وجملة أرجه نصب مقول القول ، وأرجه فعل أمر ، أي : أرجه وأخره ، وقد حذفت الهمزة تسهيلا ، والهاء مفعول به ، وأخاه عطف على الهاء ، ولك أن تنصبها على أنها مفعول معه (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) الواو عاطفة ، وأرسل فعل أمر ، وفي المدائن جار ومجرور متعلقان بأرسل ، وحاشرين صفة لمفعول به محذوف ، أي : رجالا حاشرين السحرة ، وقيل : هو منصوب على الحالية ، ومفعول حاشرين محذوف ، أي : السحرة ، والمدائن جمع مدينة ، فميمها أصلية وياؤها زائدة ، مشتقة من مدن يمدن مدونا : أي أقام ، وإذا كانت الياء زائدة في المفرد تقلب همزة في الجمع (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) يأتوك فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ، والواو فاعل ، والكاف مفعول به ، وبكل جار ومجرور متعلقان بيأتوك ، وساحر مضاف إليه ، وعليم صفة.

الفوائد :

تقدم القول مستوفى في «إذا» الفجائية ، ونورد هنا المسألة الزّنبوريّة ، وهي مناظرة جرت بين سيبويه والكسائي. وكان من خبرهما أن سيبويه قدم على البرامكة ، فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينهما ، فجعل لذلك يوما. فلما حضر سيبويه تقدم إليه الفراء وخلف ، فقال سيبويه : لست أكلمكما حتى يحضر صاحبكما فحضر الكسائي فقال له : تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه : سل أنت. فسأله عن المسألة الزنبورية ، وهي : قالت العرب : «قد كنت أظنّ أن العقرب أشد لسعا من الزنبور فإذا هو هي». وقالوا أيضا : «فإذا هو إياها».


فقال سيبويه : «لا يجوز النصب» فقال يحيى : قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما ، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي : العرب ببابك ، قد سمع منهم أهل البلدين فيحضرون ويسألون. فقال يحيى وجعفر : أنصفت ، فأحضروا فوافقوا الكسائي ، فاستكان سيبويه ، فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم ، فخرج الى فارس فأقام بها حتى مات ، ولم بعد الى البصرة. فيقال : إن العرب قد ارشوا على ذلك ، وأنهم علموا بمنزلة الكسائي عند الرشيد.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

الاعراب :

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة مستأنفة (قالُوا : إِنَّ لَنا لَأَجْراً) قالوا : فعل وفاعل ، والجملة مستأنفة مسوقة لإيراد جوابهم على تقدير : سأل : «ما قالوا» ، وتنكير الأجر يقصد به المبالغة في الكثرة. وإن حرف مشبه بالفعل ، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم ، واللام المزحلقة ، وأجرا


خبرها ، والجملة في محل نصب مقول القول (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إن شرطية ، وكان واسمها ، ونحن تأكيد لـ «نا» ، ويجوز أن يكون ضمير فصل أو عماد ، والغالبين خبر ، وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) الكلام مستأنف مسوق لإيراد جواب فرعون. ونعم حرف جواب تضمن تحقيق ما طلبوه من أجر كثير ، وإنكم الواو عاطفة على محذوف سدّ مسدّه حرف الجواب ، كأنه قال : نعم إن لكم لأجرا ، وإنكم إن واسمها ، واللام المزحلقة ، ومن المقربين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إنّ (قالُوا : يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) جملة مستأنفة تضمنت مخاطبة السحرة لموسى ، وفيه الكثير من الأدب الرفيع المتبادل بين أبناء المهنة الواحدة ، كما يفعل أصحاب الصناعات إذا التقوا. وإما حرف شرط تضمن معنى التخيير ، وفيه يتجلى حسن أدب منهم. وأن مصدرية مؤوّلة مع ما في حيزها بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : إما إلقاؤك مبدوء به ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإما أمرك إلقاء ، ويجوز أن يكون المصدر منصوبا بفعل محذوف ، أي : افعل إما إلقاءنا وإما إلقاءك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) عطف على ما تقدم (قالَ : أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) جملة ألقوا في محل نصب مقول قوله وجملة قال استئنافية والفاء استئنافية ولما رابطة أو حينية وألقوا فعل وفاعل وجملة سحروا جواب لما وأعين الناس مفعول به واسترهبوهم عطف على سحروا كأنهم استدعوا رهبتهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) عطف أيضا وبسحر جار ومجرور متعلقان بجاءوا وعظيم صفة لسحر.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما


يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

اللغة :

(تَلْقَفُ) مضارع لقف ، كعلم يعلم ، يقال : لقفت الشيء ألقفه لقفا وتلقّفته أتلقّفه تلقّفا إذا أخذته بسرعة فأكلته أو ابتلعته.

ويقال : لقف ولقم بمعنى واحد.

(يَأْفِكُونَ) : الإفك : في الأصل قلب الشيء عن وجهه ، ومنه قيل للكذاب : أفّاك ، لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح الى الباطل.

الاعراب :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) الواو استئنافية ، وأوحينا فعل وفاعل ، والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا ، و «أن» يجوز أن تكون مفسرة لوقوعها بعد ما فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز أن تكون أن مصدرية ، فتكون هي وما بعدها مفعول أوحينا ، وألق فعل أمر ، وعصاك مفعول به لألق (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ، والتقدير : فألقاها فإذا هي ، وإذا الفجائية ، وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ، وجملة تلقف خبر ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الذي يأفكونه ، ويجوز أن تكون مصدرية مؤوّلة مع


ما بعدها بمصدر منصوب على المفعولية لتلقف ، وجملة يأفكون لا محل لها على كل حال (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة ، ووقع الحق فعل وفاعل ، وبطل فعل ماض ، و «ما» موصولة أو مصدرية ، وهي في محل رفع فاعل ، أو مع ما في حيزها. وكان واسمها ، وجملة يعملون خبرها (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) الفاء عاطفة ، غلبوا فعل ماض مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية ، أي : غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم ، وانقلبوا عطف على غلبوا ، وصاغرين حال (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) عطف على ما قبله ، والسحرة نائب فاعل لألقي ، وساجدين حال من السحرة (قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الجملة مستأنفة لا محل لها ، ويجوز أن تكون حالية ، أي : ألقوا حال كونهم ساجدين قائلين ، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول ، وبرب العالمين جار ومجرور متعلقان بآمنا (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) رب بدل من رب العالمين أو نعت له ، وقدموا موسى على هارون ـ وإن كان هارون أسنّ منه ـ لأمرين : أولهما ارتفاعه عليه بالرتبة ، ولأنه وقع فاصلة ، ومراعاة الفواصل تكاد تكون مطردة في القرآن.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا


جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

اللغة :

(خِلافٍ) : يكاد المفسرون يجمعون على أن المعنى هو أن يقطع من كل شقّ طرفا فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

وقالوا : إن أول من قطع من خلاف وصلب هو فرعون. وفي اللغة خالفه خلافا بكسر الخاء ومخالفة : ضد وافقه ، وخالف بين رجليه قدم إحداهما وأخر الأخرى ، فلعله مأخوذ من هذا المعنى. ويبعد قول من فسره بالمخالفة أي : لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم لأجل مخالفتكم إياي. فتكون «من» تعليلية لأن هذا يتنافى مع أسلوب القرآن البليغ.

(تَنْقِمُ) في المصباح : نقمت عليه أمره ونقمت منه نقما من باب ضرب ، ونقوما. ونقمته أنقمته من باب تعب لغة : إذا عيبته وكرهته أشد الكراهة لسوء فعله.

الاعراب :

(قالَ فِرْعَوْنُ : آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة قال فرعون استئنافية مسوقة للإنكار على السحرة ، موبخا لهم على ما فعلوه.

وجملة آمنتم في محل نصب مقول القول ، وهي بهمزة واحدة وبعدها الألف التي هي فاء الكلمة ، وهي إحدى القراءات الأربع في هذه الكلمة. وتحتمل الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ ، وتحتمل الاستفهام


المحذوف لفهم المعنى ، وبه جار ومجرور متعلقان بآمنتم وقبل ظرف زمان متعلق بآمنتم أيضا ، وأن وما في حيزها مصدر مضاف ، وآذن أصله أأذن وهو فعل مضارع منصوب بأن ، والهمزة الأولى هي همزة المتكلم التي تدخل على المضارع ، والثانية قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة أخرى ، ولكم جار ومجرور متعلقان بآذن ، وجملة آمنتم في محل نصب مقول قوله (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) كلام مستأنف مسوق أتى به فرعون ليؤكد لهم أن إيمانهم يقوم على تواطؤ بينهم وبين موسى ، وعقب الكلام بأنه قوي ، فجنح الى التهديد. وإن واسمها ، واللام المزحلقة ، ومكر خبرها ، وجملة مكرتموه صفة لمكر ، وفي المدينة جار ومجرور متعلقان بمكرتموه (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اللام للتعليل ، وتخرجوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجار والمجرور متعلقان بمكرتموه ، ومنها جار ومجرور متعلقان بتخرجوا ، وأهلها مفعول به ، والفاء الفصيحة ، وسوف حرف استقبال ، وتعلمون فعل مضارع وفاعل ، ومفعوله محذوف للعلم به ، أي : تعلمون ما يحل بكم من قوارع العذاب (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اللام موطئة للقسم ، وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح ، والجملة لا محل لها لأنها جواب قسم مفسرة للإبهام الناشئ عن حذف المفعول به ، وأيديكم مفعول به ، وأرجلكم عطف على أيديكم ، ومن خلاف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : مختلفة ، ويجوز أن تكون «من» للتعليل ، فيتعلق الجار والمجرور بنفس الفعل (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ثم حرف عطف وتراخ ، لأصلبنكم عطف على لأقطعن ، وأجمعين تأكيد للكاف (قالُوا : إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) كلام مستأنف مسوق للإدلاء بجوابهم عند تهديده إياهم


بأنهم لا يبالون بالموت لانقلابهم الى ربهم ، ورحمته وأنهم ميتون منقلبون الى ربهم ، فما تفعل الا مالا بد منه ، وإن وما بعدها مقول القول ، وإنا : إن واسمها ، والى ربنا متعلقان بمنقلبون ، ومنقلبون خبر إن. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) الواو عاطفة ، والكلام منسوق على ما تقدم من جوابهم ، وما نافية ، وتنقم فعل مضارع ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، ومنا جار ومجرور متعلقان بتنقم ، أي : ما تعيب علينا إلا إيماننا ، وإلا أداة حصر ، وأن مصدرية ، وهي مع مدخولها مصدر مفعول تنقم ، ويجوز أن يكون المصدر مفعولا من أجله ، فهو استثناء مفرّغ على كل حال ، وبآيات ربنا جار ومجرور متعلقان بآمنا ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة جاءتنا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) كلام مستأنف تحولوا فيه عن خطابه الى الفزع لله وتفويض الأمور إليه. وربنا منادى مضاف ، وأفرغ فعل دعاء تأدّبا ، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفرغ ، وصبرا مفعول به ، وتوفنا عطف على أفرغ ، ومسلمين حال ، ومعنى الإفراغ هنا الصب ، أي : صبّ علينا أجرا واسعا يفيض علينا ويغمرنا كما يصب الماء ، وجواب «لما» محذوف تقديره : لما جاءتنا آمنا بها من غير تردد. وجملة الجواب لا محل لها على كل حال.

البلاغة :

في هذه الآية فنّ طريف وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم ، أو المدح في معرض الذم. وهو نوعان :

١ ـ أن يستثنى من صفة ذمّ منفية عن الشيء صفة مدح لذلك


الشيء بتقدير دخولها في صفة الذمّ ، وهذا النوع هو المشهور ، ومنه قول النابغة الذبياني :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ومنه الآية التي نحن بصددها ، وقد مرت آية في المائدة مماثلة لها أيضا.

٢ ـ أن تثبت لشيء صفة مدح ، وتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء نحو : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش. ومنه قول النابغة أيضا :

فتى كملت أوصافه غير أنه

جواد فما يبقي على المال باقيا

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))


اللغة :

(نَسْتَحْيِي) أي : نسبقي نساءهم للخدمة.

الاعراب :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) الواو استئنافية أو عاطفة ، والكلام مستأنف لبيان ما قاله ملأ فرعون وتحريضهم على موسى وقومه ، أو عطف على ما تقدم. وقال الملأ فعل وفاعل ، ومن قوم فرعون جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الملأ (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) الاستفهام إنكاري لتحريض فرعون على موسى وقومه ، وتذر فعل مضارع ، وفاعله مستتر ، والجملة مقول القول ، وموسى مفعول به ، وقومه عطف على موسى ، واللام للتعليل ، ويفسدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، والجار والمجرور وهو لام التعليل والمصدر المؤول بعدها متعلقان بتذر ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيفسدوا ، ويذرك : يجوز أن يكون معطوفا على يفسدوا فينصب مثله ، ويجوز أن تكون الواو للمعية ويذكرك منصوب بأن مضمرة بعد الواو في جواب الاستفهام ، والكاف مفعول به ، وآلهتك عطف على الضمير أو مفعول معه ، والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين في الأرض وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك؟ (قالَ : سَنُقَتِّلُ)

(أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) جملة القول مستأنفة مسوقة لحكاية حال فرعون بعد فرقه من إلحاق أي مكروه بموسى عليه السلام ، وعدل الى إعادة القتل والإثخان في قومه ، وقرئ سنقتّل بالتشديد وضمّ النون ، أما مع التخفيف فتكون النون مفتوحة ، وجملة سنقتل نصب على أنها قول قوله ، وأبناءهم مفعول به ،


ونستحيي نساءهم عطف (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) الواو عاطفة أو حالية ، وإن واسمها ، وقاهرون خبرها ، والظرف متعلق بقاهرون أو بمحذوف حال ، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اسْتَعِينُوا بِاللهِ) جملة مستأنفة مسوقة لحكاية قول موسى لقومه طالبا منهم الاستعانة بالله ، وجملة استعينوا في محل نصب مقول القول (وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) عطف على استعينوا ، وان واسمها ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، والجملة لا محل لها لأنها تعليلية ، وجملة يورثها في محل نصب على الحال من لفظ الجلالة أو خبر بعد خبر لإن ، ومن اسم موصول مفعول به ثان ليورثها ، والعاقبة الواو استئنافية ، والعاقبة مبتدأ ، وللمتقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (قالُوا : أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) كلام مستأنف مسوق لبيان ما قاله قوم موسى ، ويتذمرون منه ، لما كانوا يمتهنون فيه من ضروب الخدم ، ويسامون به من ألوان العذاب قبل مولد موسى عليه السلام ، وبعد مولده ، فقد كان فرعون وقومه يستخدمونهم في الأعمال الشاقة. وجملة أوذينا في محل نصب مقول قولهم ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بأوذينا ، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة ، ومن بعد عطف على من قبل ، وما مصدرية ، مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالإضافة (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان جواب موسى عليه السلام ، على تذمر قومه به جريا على طبيعتهم ، وجملة الرجاء في محل نصب مقول قوله ، وفيه رمز الى البشارة بإهلاك فرعون. وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء ، وربكم اسمها ، وأن يهلك مصدر مؤول في محل نصب خبرها ، وعدوكم مفعول به (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) عطف على ما تقدم (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة للتعقيب ، وينظر


عطف على يستخلفكم ، وكيف استفهام في موضع نصب على الحالية أو المفعولية المطلقة.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

اللغة :

(السنون) : جمع سنة ، وهي اثنا عشر شهرا ، وتجمع على سنين وسنوات وسنهات ، وتصغيرها على سنيّة وسنينة وسنيهة ، والنسبة إليها سنويّ وسنهيّ ، والجمع يعرب بالحروف إلحاقا بجمع المذكر السالم. وربما أعرب بالحركات. والسنة أيضا : الجدب والقحط ، وقد اشتقوا منها ، فقالوا : أسنت القوم بمعنى أجدبوا وأقحطوا.

(يَطَّيَّرُوا) الأصل : يتطيروا ، فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها ، والتطيّر كما في معاجم اللغة : التشاؤم ، وأصله أن يفرق المال ويطير بين القوم ، فيطير لكل واحد حظه وما يخصه ، ثم أطلق على الحظ والنصيب السيء بالغلبة.


الاعراب :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل كيفية إهلاكهم وما سبقه من أحداث. واللام جواب قسم محذوف ، وقد حرف تحقيق ، وأخذنا فعل وفاعل ، وآل فرعون مفعول به ، وبالسنين جار ومجرور متعلقان بأخذنا (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الواو عاطفة ، ونقص عطف على السنين ، ومن الثمرات جار ومجرور متعلقان بنقص ، والمراد إتلاف الغلة بالآفات المختلفة ، ولعل واسمها ، وجملة يذكرون خبرها ، وجملة لعلهم يتذكرون حالية (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ) الفاء عاطفة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة جاءتهم الحسنة في محل جر بالإضافة ، والمراد ما يصيبهم من الرخاء والخصب ، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وهذه اسم إشارة في محلّ رفع مبتدأ مؤخر ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول قولهم (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، وتصبهم فعل الشرط ، والهاء مفعول به ، وسيئة فاعل ، ويطيروا جواب الشرط ، وبموسى جار ومجرور متعلقان بيطّيّروا ، ومن عطف على موسى ، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له من الأعراب لأنه صلة الموصول (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) ألا أداة استفتاح وتنبيه ، وإنما كافة ومكفوفة ، وطائرهم مبتدأ ، وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر ، والجملة مستأنفة مسوقة من قبله تعالى للرد على اقتنائهم ، وأن ما أصابهم هو جزاء وفاق لأعمالهم السيئة المسجلة عنده (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ، ولكن واسمها ، والجملة نصب على


الحال ، وجملة لا يعلمون خبر لكنّ (وَقالُوا : مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) الواو عاطفة ، وقالوا فعل وفاعل ، ومهما اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ، وتأتنا فعل الشرط ومفعول به ، وبه جار ومجرور متعلقان بتأتنا ، ومن آية جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ولتسحرنا اللام للتعليل ، وتسحرنا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، ونا مفعول به ، والجار والمجرور «لام التعليل والمصدر المؤول بعدها» متعلقان بتأتنا وبها جار ومجرور متعلقان بتسحرنا (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، وما نافية حجازية ، ونحن واسمها ، ولك جار ومجرور متعلقان بمؤمنين ، والباء حرف جر زائد ، ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر «ما». والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر مهما.

البلاغة :

في تعريف الحسنة وتنكير السيئة فنّ عجيب من فنون علم المعاني ، فقد عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها ، ونكّر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورتها ، ولعدم القصد إليها ، إلا بالتبع. وفي الحسنة والسيئة طباق جميل.

الفوائد :

١ ـ الطيرة : أوردنا في باب اللغة المفهوم اللغوي للطّيرة ، ثم اصطلح علماء النفس على معنى أثبت لها ، فاعتبروها مرضا من شعبة أمراض الخوف الناشئ عن ضعف الأعصاب واختلالها ، إلا أنها خوف


خاص له بواعثه وأعراضه ، وأولها ضعف الأعصاب ، فالرجل السليم لا يتطيّر ولا يتشاءم ، لأنه ينتظر من الدنيا خيرا ، ولا يحس النفرة بينه وبينها ، ومن ثم لا يحس الخوف ولا التطيّر منها ، ويمكن أن نعتبر الطيرة أنها تشاؤم مؤقت استدعته ظروف طارئة ، وجوّ يلائم حالات اليأس والتشاؤم العارضة ، فاذا بالمتطيّر يتسلف الفزع من الشر قبل وقوعه.

ابن الرومي شاعر التطيّر :

ومن شعرائنا الذين اشتهروا بالطيّرة ابن الرومي ، فقد كان يشعر من قرارة نفسه أنه فروقة حذور ، وهو في الوقت نفسه يشعر أن حذره لا يدفع عنه ما هو مراد به ، ولكنه يرى أنه لا مندوحة له عنه للاعتصام به ، وليستشعر الأمن الذاهب والقلق الواجف :

فآمن ما يكون المرء يوما

إذا لبس الحذار من الخطوب

ويرى بعض النقاد أن من روافد الطيرة في ابن الرومي ذوق الجمال وتداعي الخواطر ، ذلك أن النفس المطبوعة على استذواق الجمال تفرح وتهلل للمناظر المغرية الأخاذة ، وبالعكس تنفر وتنقبض من المناظر الدميمة الشوهاء ، أما تداعي الخواطر فصاحبه فريسة للنوازع عرضة للتأويلات التي لا مسوّغ لها يستخرج من الكلمات المهموسة ، أو الفكر الطارئة أمورا يحذر منها المرء ويخاف ، فقد كان ابن الرومي يتطير من صديقه جعفر في حال مرضه ، ولكنه لم يتطير منه قبل المرض ، ودعواه أن جعفرا مشتق من الجوع والفرار ، والخان يذكّره بالخيانة :


فكم خان سفر خان فانقضّ فوقهم

كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانب

وقال في ابن طالب الكاتب :

وهل أشبه المرّيخ إلا وفعله

لفعل نذير السوء شبه مقارب

وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب

لعينيه لون السيف والسيف قاصب

ويدعى أبوه طالبا وكفاكم

به طيرة أن المنيّة طالب

ألا فاهربوا من طالب وابن طالب

فمن طالب مثليهما طار هارب

وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفال ويكره الطيرة ، روي مرفوعا : «إذا ظننتم فلا تحققوا ، ... وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا». ومن طرائف المتطيّرين ما يروى أن النجوم تساقطت في زمن أحد الخلفاء ، فتطير من ذلك ، وأحضر المنجمين والعلماء ، فما أجابوا بشيء ، فقال شاعر :

هذي النجوم تساقطت

لرجوم أعداء الأمير

فتفاءل به ، وأمر له بصلة سنية.


٢ ـ القول في مهما : قال سيبويه : وسألت الخليل عن «مهما» فقال : هي «ما» أدخلت معها «ما» ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ واحد فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد استدل بعض العلماء على أنها حرف بقول زهير بن أبي سلمى :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فأعرب هؤلاء «خليقة» اسما لتكن ، ومن زائدة ، فتعيّن خلو الفعل من الضمير ، ولم يكن لـ «مهما» محل من الإعراب ، إذ لا يليق بها إلا الابتداء ، والابتداء متعذّر لعدم وجود رابط ، وإذا ثبت أن لا موضع لها تعين كونها حرفا ، والتحقيق أن اسم تكن مستتر ، ومن خليقة تفسير لمهما ، ومهما مبتدأ ، والجملة خبر ، وفي الآية الضميران في «به» و «بها» راجعان لمهما ، إلا أن أحدهما ذكّر على اللفظ ، والآخر أنّث على المعنى ، لأنه في معنى الآية.

وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن «هما» لا تأتي ظرف كان ، قد ذهب إليه ابن مالك ، ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه ، إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان ، بل قال : وقد ترد «ما» و «مهما» ظرفي زمان ، وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية :

وقد أتت مهما وما ظرفين في

شواهد من يعتضد بها كفى

وقال في شرح البيت : جميع النحويين يجعلون «ما» و «مهما» مثل «من» في التجرد عن الظرف ، مع أن استعمالهما ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب ، وأنشد أبياتا عن العرب زعم فيها أن


ما ومهما ظرفا زمان ، وكفانا الرد عليه ابنه الشيخ بدر الدين بن محمد ، وقد تأولنا نحن بعضها ، وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا ، وكفاه ردا نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله ، لكن من يعاني علما يحتاج الى مثوله بين يدي الشيوخ ، وأما من فسر «مهما» في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله.

وعبارة الزمخشري :

«وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها ، ويحسب «مهما» بمعنى «متى ما» ويقول مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من وضعه وليس من كلام واضعي العربية في شيء ، ثم يذهب فيفسر : مهما تأتني به من آية ، بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه».

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ


فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

اللغة :

(الطُّوفانَ) : اختلفت فيه أقوال علماء اللغة فقال بعضهم : هو اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة. وقيل بل هو مصدر كالنقصان والرجحان ، وهذا قول المبرد. وهو يطلق في اللغة على الماء أو السيل المغرق ، وعلى شدة ظلام الليل ، وعلى الموت الذرّيع الجارف.

والطوفان من كل شيء مهما كان كثيرا.

(الْجَرادَ) : جمع جرادة ، الذكر والأنثى فيه سواء ، يقال :جرادة ذكر وجرادة أنثى ، كنملة وحمامة. وهي صنفان الطيار وهو الذي يطير غالبا والزّحاف.

(الْقُمَّلَ) : اختلفت فيه الأقوال كثيرا فقيل : هو القردان وقيل : دابة تشبهها أصغر منها ، وقيل : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقيل : هو نوع من الجراد أصغر منه وقيل : هو القمل بفتح القاف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، فيكون فيه لغتان.

(الضَّفادِعَ) : جمع ضفدع بوزن درهم ، ويجوز كسر داله فيصير بزنة زبرج ، والضفدع مؤنث وليس بمذكّر ، فعلى هذا يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف فيقال : ضفدع ذكر وضفدع أنثى ، والجمع ضفادع وضفادي.

(الرِّجْزُ) : العذاب.


الاعراب :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) الفاء عاطفة ، وأرسلنا فعل وفاعل ، وعليهم : جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ، والطوفان مفعول به ، وما بعده عطف عليه (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) آيات حال من الخمسة المذكورات : ومفصلات صفة ، فاستكبروا عطف على أرسلنا ، وكانوا قوما مجرمين كان واسمها ، وقوما خبرها ، ومجرمين صفة (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) الواو عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، ووقع فعل ماض ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بوقع ، والرجز فاعل ، وجملة وقع لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ويا حرف نداء ، وموسى منادى مفرد علم ، وادع فعل أمر ، ولنا جار ومجرور متعلقان بـ «ادع» ، وربك مفعول به ، وبما جار ومجرور متعلقان بـ «ادع» وما مصدرية أو موصولة ، وجملة عهد لا محل لها على كل حال ، وعندك ظرف مكان متعلق بعهد (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) اللام موطئة للقسم ، وإن شرطية وكشفت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط ، وعنا جار ومجرور متعلقان بكشفت ، والرجز مفعول به ، ولنؤمنن : اللام جواب للقسم ، ونؤمنن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم ، ولك جار ومجرور متعلقان بنؤمننّ (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عطف على ما تقدم ، ومعك ظرف مكان متعلق بنرسلن ، وبني إسرائيل مفعول به (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة كشفنا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة ،


وكشفنا فعل وفاعل ، والرجز مفعول به ، وعنهم جار ومجرور متعلقان بكشفنا (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) الى أجل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وهم مبتدأ ، وبالغوه خبر ، والجملة الاسمية صفة لأجل ، وإذا الفجائية وقد تقدم أننا اخترنا الحرفية لها وجها ، وهم مبتدأ ، وجملة ينكثون خبره ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وقد استدل سيبويه بهذه الآية على أن «لما» حرف وجوب لوجوب ، أي رابطة لا ظرف بمعنى حين ـ كما زعم بعضهم ـ لافتقاره الى عامل فيه ، ولا يحتمل إضمارا ، ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ) فانتقمنا عطف ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بانتقمنا ، فأغرقناهم عطف أيضا ، وفي اليم جار ومجرور متعلقان بأغرقناهم (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) بأنهم الباء وما في حيزها جار ومجرور متعلقان بأغرقناهم ، ومعنى الباء السببية ، أي : بسبب أنهم ، وجملة كذبوا خبر أن ، وكانوا عطف على كذبوا ، وعنها جار ومجرور متعلقان بغافلين ، وغافلين خبر كانوا.

البلاغة :

سر استعمال القمّل :

وردت لفظة «القمّل» في آية من القرآن حسنة مستساغة ، وقد وردت في بيت للفرزدق غير حسنة مستهجنة ، وهو :

من عزّه احتجزت كليب عنده

زربا كأنهم لديه القمّل

وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون البيت لأنها جاءت في الآية


مندرجة في ضمن كلام متناسب ، ولم ينقطع الكلام عندها ، وجاءت في الشعر قافية ، أي : آخرا انقطع الكلام عندها ، فقد تضمنت الآية خمسة ألفاظ هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم ، فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها الطوفان والجراد وأخرت لفظة الدم آخرا ، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط ، ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة ، وينتهي إليه آخرا. ثم إن لفظة «الدم» أحسن من لفظتي «الطوفان» و «الجراد» ، وأخف في الاستعمال ، ومن أجل ذلك جيء بها آخرا. ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨))


اللغة :

(كَلِمَتُ رَبِّكَ) نصّوا على رسم هذه بالتاء المجزورة (أي المبسوطة) وما عداها في القرآن بالهاء على الأصل ، والمراد بالكلمة وعده تعالى لهم بقوله : «ونريد أن نمنّ» إلخ.

(يَعْرِشُونَ) : بضم الراء وكسرها ، وقد قرئ بهما في السبع.

أي يرفعون من البنيان تمهيدا للشروع في قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون من أنواع الكفر وأنماط التعنت والشطط مما لا تزال شواهده نواطق بحقائقهم.

الاعراب :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) الواو عاطفة أو استئنافية ، وأورثنا القوم فعل وفاعل ومفعول به ، والذين صفة للقوم ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وجملة يستضعفون خبر كانوا ، ويستضعفون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، مشارق الأرض مفعول به ثان ، ومغاربها عطف على مشارق (الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) التي اسم موصول صفة للمشارق والمغارب ، وجملة باركنا لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وفيها جار ومجرور متعلقان بباركنا ، وتمت كلمة ربك عطف على «أورثنا» ، وكلمة فاعل ، والحسنى صفة لكلمة ، وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بتمت وبما جار ومجرور متعلقان بصبروا (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) الواو عاطفة ، ودمرنا فعل وفاعل ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة كان صلة ، واسم كان


ضمير مستتر ، وجملة يصنع خبر كان ، وفرعون فاعله ، وقومه عطف على فرعون ، و «ما» عطف على «ما» الأولى ، وجملة كانوا يعرشون صلة «ما» وجملة يعرشون خبر كانوا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق للشروع في قصة بني إسرائيل وما أحدثوه من بدع للاعتبار والاتعاظ بحال الإنسان المفطور على الشرّ. وببني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بجاوزنا ، والبحر مفعول به ، ويجوز أن يتعلق «ببني» بمحذوف حال (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) فأتوا عطف على جاوزنا ، وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بأتوا ، وجملة يعكفون صفة لقوم ، وعلى أصنام جار ومجرور متعلقان بيعكفون ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأصنام (قالُوا : يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنتهم وافتئاتهم وطلبهم الآلهة ورؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع المعاصي. وجملة اجعل مقول القول ، ولنا جار ومجرور متعلقان باجعل ، أو بمحذوف مفعول به أول ، وإلها مفعول به ثان. وكما الكاف حرف جر ، وما اسم موصول بمعنى الذي ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ، وآلهة بدل من الضمير المستكن في «لهم» والتقدير : كالذي استقر هو لهم آلهة ، والكاف ومجرورها صفة لإلها ، واختار الزمخشري أن تكون «ما» كافة للكاف ، فهي كافة ومكفوفة ، ولذلك وقعت الجملة بعدها (قالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) كلام مستأنف لبيان جواب موسى لهم ، وإن واسمها وخبرها ، وجملة تجهلون صفة لقوم ، وجملة إنكم مقول القول.

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ


اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

اللغة :

(مُتَبَّرٌ) مكسّر ، فهو اسم مفعول من تبر ، أي : دمّر وأهلك ، والمصدر التتبير. ومنه التبر وهو كسارة الذهب ، لتهالك الناس عليه.

الاعراب :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصيرهم الذي يئولون إليه. وإن حرف مشبه بالفعل ، وهؤلاء اسم إشارة اسم إن ، ومتبر يجوز أن يكون خبر إن ، وما اسم موصول في محل رفع نائب فاعل لمتبر ، وهم فيه مبتدأ وخبر ، والجملة لا محل لها لإنها صلة ، ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ ، ومتبر خبره المقدم عليه ، والجملة خبر إن (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حرف عطف ، وباطل خبر مقدم ، وما مبتدأ مؤخر ، وكانوا يعملون من كان واسمها وخبرها صلة «ما» ، ولك أن تعطف «باطل» على «متبر» وتجعل «ما» فاعلا لباطل لأنه اسم فاعل (قالَ : أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان شئون الله الموجبة لتخصيص العبادة به. والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، وغير مفعول به لفعل


محذوف ، أي : أأطلب لكم معبودا غير المستحق للعبادة؟ وجملة أبغيكم مقول القول ، وإلها تمييز أو حال ، ويجوز أن يكون «غير» مفعولا مقدما لأبغيكم ، والكاف منصوبة بنزع الخافض ، أي : أأبغي لكم غير الله؟ ويجوز على هذا الوجه إعراب «غير» حالا وإلها هو المفعول به (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو حالية ، وهو مبتدأ ، وجملة فضلكم خبر ، والجملة كلها حالية ، وعلى العالمين جار ومجرور متعلقان بفضلكم ، ويجوز أن تكون الواو للاستئناف ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الواو عاطفة أو استئنافية ، وإذ مفعول به لفعل محذوف ، تقديره : اذكروا وقت أنجيناكم ، وجملة أنجيناكم في محل جر بالإضافة ، ومن آل جار ومجرور متعلقان بأنجيناكم ، وفرعون مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة لمنعه من الصرف (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الجملة نصب على الحال من آل فرعون ، ويسومونكم فعل مضارع وفاعل ومفعول به أول ، وسوء العذاب مفعول به ثان (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) جملة يقتلونكم بدل من جملة يسومونكم ، ويستحيون نساءكم جملة معطوفة عليها (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الواو حالية أو استئنافية ، وفي ذلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وبلاء مبتدأ مؤخر ، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبلاء ، وعظيم صفة ثانية.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا


تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣))

الاعراب :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لتفصيل ما أجمله في سورة البقرة ، وهو قوله تعالى : «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة» ، وواعدنا موسى فعل وفاعل ومفعول به ، وثلاثين مفعول به ثان لواعدنا ، وفيه حذف مضاف تقديره : تمام ثلاثين ، وليلة تمييز ، وذلك ليصومها حتى نكلمه ، وأتممناها عطف على واعدنا ، وبعشر جار ومجرور متعلقان بأتممناها (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الفاء عاطفة ، وتم ميقات فعل وفاعل ، وربه مضاف إليه ، وأربعين حال ، أي تمّ بالغا هذا العدد ، وليلة تمييز ، وسيأتي في باب الفوائد تعليل نصبها على الحال. وقيل : هو مفعول «تم» لأن معناه بلغ ، ولا يصح أن يكون ظرفا للتمام ، لأن التمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) الواو عاطفة ، وقال موسى فعل وفاعل ، ولأخيه جار ومجرور متعلقان


بقال. وهارون : بدل من أخيه أو عطف بيان (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الجملة مقول قول موسى ، واخلفني فعل أمر ومفعول به ، وفي قومي جار ومجرور متعلقان باخلفني ، وأصلح عطف على اخلفني ، ولا تتبع الواو حرف عطف ، ولا الناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وسبيل المفسدين مفعول به (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الواو عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، متضمنة معنى الشرط ، وجملة جاء موسى لا محل لها. أو في محل جر بالإضافة ، ولميقاتنا جار ومجرور متعلقان بجاء ، واللام للاختصاص ، كما تقول : أتيته لعشر خلون من الشهر (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وكلمه ربه عطف على جاء ، وربه فاعل كلمه. وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ورب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ، وأرني فعل أمر للدعاء ، وفاعله مستتر ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به أول ، ومفعول الرؤية الثاني محذوف تقديره : نفسك ، وأنظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وجملة الطلب وجوابه مقول القول ، وإليك جار ومجرور متعلقان بأنظر (قالَ لَنْ تَرانِي) الجملة مقول القول ، ولن حرف نفي ونصب واستقبال ، وتراني فعل مضارع منصوب بلن والياء مفعول به (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الواو عاطفة ، ولكن حرف استدراك مخفف مهمل ، وانظر فعل أمر ، والى الجبل جار ومجرور متعلقان بانظر ، فإن الفاء عاطفة ، وإن شرطية ، واستقر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، ومكانه ظرف مكان متعلق باستقر ، فسوف الفاء رابطة لجواب الشرط ، وسوف حرف استقبال ، وتراني فعل مضارع ، والجملة في محل جزم جواب الشرط (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وتجلى ربه فعل وفاعل ،


وللجبل جار ومجرور متعلقان بتجلى ، وجعله فعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ودكا مفعول به ثان لجعله ، لأنه مصدر بمعنى مفعول ، أي : مدكوك ، ويجوز نصبه على المصدرية ، إذ التقدير : دكه دكا (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) صعقا حال (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة أفاق لا محل لها ، أو في محل جر بالإضافة ، وجملة قال لا محل لها ، وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف ، وتبت فعل وفاعل ، وإليك جار ومجرور متعلقان بتبت ، وأنا الواو عاطفة ، وأنا مبتدأ ، وأول المؤمنين خبر.

الفوائد :

رؤية الله في الآخرة :

استدل الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة على عدم رؤية الله تعالى في الآخر بـ «لن» ، قالوا : هي للتأكيد والتأبيد. ورد عليهم علماء السنة ، وشجر خلاف طويل حول ذلك ، وجر إلى التهاتر والتراشق بالحساب العسير والتهم ، مما لا يتسع المجال له في كتابنا. فارجع إليه في المطولات.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ


يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦))

الاعراب :

(قالَ : يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) كلام مستأنف مسوق لتسلية موسى عليه السلام على ما فاته من الرؤية.

وجملة النداء في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، وجملة اصطفيتك خبر ، وعلى الناس جار ومجرور متعلقان باصطفيتك ، وبرسالاتي جار ومجرور متعلقان باصطفيتك أيضا ، وجمع الرسالة لأن الذي أرسل به ضروب وأنواع مختلفة ، وبكلامي عطف على برسالاتي ، وقدم الرسالة تنويها بالترقي إلى الأشرف ، لأن مكالمته مزية خاصة له ، وأعاد حرف الجر تنويها بمغايرة الاصطفاء للكلام (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الفاء الفصيحة ، والجملة بعدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة آتيتك صلة «ما» ، وكن من الشاكرين عطف على خذ ، ومن الشاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «كن» (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الواو استئنافية ، وكتبنا فعل وفاعل ، وله جار ومجرور متعلقان بكتبنا ، وفي


الألواح جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، ومن كل شيء جاء ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به ، والمراد ألواح التوراة (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) موعظة بدل من محل «من كل شيء» ، لأنه مفعول به كما تقدم ، ويجوز إعراب «موعظة» مفعولا من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياء للموعظة والتفصيل ، ولكل شيء جار ومجرور متعلقان بـ «تفصيلا» أو صفة له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة أو عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والتقدير : فقلنا خذها ، وخذ فعل أمر ، والهاء مفعول به. وبقوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل خذها ، وجملة امر عطف على خذها ، وقومك مفعول به ، ويأخذوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ، وخص الأحسن بالأخذ ، وكل ما فيها مطلوب ، مبالغة في التحري وحسن الأخذ واختيار الأسدّ المحكم ، أو ان التفضيل غير مراد كقولهم : الصيف أحر من الشتاء ، أي هو في حرّه أبلغ من الشتاء في برده ، فتفضيل حرارة الصيف على برد الشتاء غير مراد ، فلما أريد بالأحسن المأمور به ـ لكونه أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح ـ كان اللازم أن لا يجوز الأخذ بالمنهي عنه ، وسأريكم دار الفاسقين جملة مستأنفة مسوقة للتأكيد للأمر بالأخذ بالأحسن والحث عليه ، فهي بمثابة التعليل ، ولا يخفى ما في الالتفات من زيادة في التأكيد والمبالغة للأخذ بالأحسن. أما دار الفاسقين فقيل : هي دار فرعون وأتباعه ، للاعتبار بها ، وقيل : هي غير ذلك ، ولا محل للاجتهاد هنا (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) كلام مستأنف مسوق للتحذير من الاستكبار الصارف للأذهان عن التفكير الحق. وعن آياتي جار ومجرور متعلقان بأصرف ، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول


به ، وجملة يتكبرون صلة ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيتكبرون ، وبغير الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الذين يتكبرون ، أي : حال كونهم ملتبسين بالدين غير الحقّ (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، ويروا فعل الشرط ، والواو فاعل ، وكل آية مفعول به ، وجملة لا يؤمنوا جواب الشرط ، وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) عطف على ما تقدّم ، وسبيلا مفعول به ثان (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) عطف على ما سبق أيضا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) اسم الاشارة في محل رفع أو نصب : فالرفع على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده ، أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم ، والنصب على أنه بمعنى صرفهم عن ذلك الصرف بعينه ، فجعله مصدرا مفعولا به ، وعلى كل حال فالجملة ابتدائية لا محل لها ، وجملة كذبوا خبر أن ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، وكانوا عطف على كذبوا ، والواو اسم كان ، وعنها جار ومجرور متعلقان بغافلين ، وغافلين خبر كانوا.

البلاغة :

١ ـ الالتفات في قوله : «سأريكم دار الفاسقين» لاسترعاء الاهتمام كما أسلفنا.

٢ ـ الطباق بين سبيل الرشد وسبيل الغيّ. ولما كانت المقابلة بينهما بالسلب ظهر حسنها بصورة واضحة.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ


يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨))

اللغة :

(حُلِيِّهِمْ) : جمع حلي كثدي وثديّ ، وأصله حلويّ ، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء وأدغمت في الياء وكسرت اللام لأجل الياء. والحلي اسم لما يتحلى به من الذهب والفضة.

(خُوارٌ) : بضم الخاء كما هي القاعدة الأغلبية في أسماء الأصوات ، إما على وزن فعال أو فعيل كزئير.

الاعراب :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة لبيان نمط آخر من عصيانهم وافتئاتهم على الله. واسم الموصول في محل رفع مبتدأ ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة ، ولقاء الآخرة عطف على بآياتنا ، وجملة حبطت أعمالهم خبر المبتدأ (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الهمزة للاستفهام ، المراد به النفي ، ولذلك دخلت بعدها «إلا» ، ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وإلا أداة حصر ، وما اسم موصول


في محل نصب مفعول به ثان ، وجملة كانوا صلة الموصول ، وجملة يعملون خبر ، ولا أرى داعيا لتقدير محذوف ، كما قال الواحديّ ، ونصه : «وهنا لا بد من تقدير محذوف ، أي إلا بما كانوا ، أو على ما كانوا ، أو جزاء ما كانوا». قلت : والجزاء المقابل أوضح ، فلا داعي لهذا التكلف. (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) الواو استئنافية ، والكلام مستأنف مسوق لسرد نمط آخر من أنماط تجنيهم ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة ، من عطف قصة على قصة. وقوم موسى فاعل ، ومن بعده جار ومجرور متعلقان باتخذ ، ومن حليهم جار ومجرور متعلقان باتخذ ، أو بمحذوف في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، كما هي القاعدة. وعجلا مفعول به ، وجسدا بدل ، وأتى بهذا البدل دفعا لتوهم أنه صورة عجل منقوشة ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وخوار مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب صفة لقوله : «عجلا» (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) كلام مستأنف مسوق لتقريعهم على سوء اختيارهم ، وإمعانهم في ركوب متن الشطط. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، والواو فاعل يروا ، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا ، وجملة لا يكلمهم خبر ، ولا يهديهم سبيلا عطف على لا يكلمهم ، وسبيلا مفعول به ثان ، أو منصوب بنزع الخافض (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال نشأ من سياق الكلام ، أي : فكيف اتخذوه؟ والواو عاطفة ، وكان واسمها ، وظالمين خبرها.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا


رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

اللغة :

(سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : اضطربت أقوال أهل اللغة في أصل هذه الكلمة ، وهي تستعمل للندم والتّحيّر. فقال أبو مروان اللغوي : قول العرب : سقط في يده مما أعياني معناه. وقال الواحدي : قد بان من أقوال المفسرين وأهل اللغة أن سقط في يده : ندم. وأنه يستعمل في صفة النادم. فأما القول في مأخذه وأصله فلم أر لأحد من أئمة اللغة شيئا أرتضيه فيه. وقال الزّجّاج : قوله تعالى : «سقط في أيديهم» : بمعنى ندموا ، وهذه اللفظة لم تسمع قبل القرآن ، ولم تعرفها العرب في النظم والنثر ، جاهلية وإسلاما. فلما سمعوه خفي عليهم وجه استعماله ، لأنه لم يقرع أسماعهم ، فقال أبو نواس : «في نشوة قد سقطت منها يدي» وهو العالم النحرير


فأخطأ في استعماله. وعبارة الفراء : يجوز سقط وأسقط ، وترك الهمزة هو الأكثر الأجود ، وسقط بالفتح والبناء للفاعل لغة قليلة ، قال الأخفش : وقد قرئ بها في الشواذّ كأنه أضمر الندم ، أي : سقط الندم في أيديهم. وقال المطرزي : سقط في يده مثل يضرب للنادم المتحيّر ، ومعناه ندم. لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعضّ يده فتصير يده مسقوطا فيها ، كأن فاه وقع فيها. هذا وترى مزيدا من القول في هذه اللفظة في باب البلاغة.

الاعراب :

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مصيرهم بعد ارتكاب جريرتهم. ولما رابطة أو حينية ، وسقط بالبناء للمجهول ، وفي أيديهم قائم مقام نائب الفاعل ، وفي بمعنى على ، أي : على أيديهم (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) عطف على سقط في أيديهم ، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي رأوا ، لأنها بمعنى علموا ، وجملة قد ضلوا خبر أن (قالُوا : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) جملة قالوا لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم ، واللام موطئة للقسم ، وإن شرطية ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويرحمنا فعل مضارع مجزوم بلم ، ونا مفعول به ، وربنا فاعل مؤخر ، ويغفر الواو حرف عطف ، وجملة يغفر عطف على يرحمنا ، ولنا جار ومجرور متعلقان بيغفر (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللام جواب للقسم ، ونكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، وجملة جواب القسم لا محل لها ، وجملة القسم في محل نصب مقول القول ، ومن الخاسرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر نكونن (وَلَمَّا رَجَعَ


مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) الواو استئنافية ، أو عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة رجع موسى لا محل لها ، أو في محل جر بالإضافة ، والى قومه جار ومجرور متعلقان برجع ، وغضبان حال أولى ، وأسفا حال ثانية من موسى (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وجوبا هنا خاصة. وما نكرة موصوفة في محل نصب تمييز ، والمعنى خلافة ، وجملة خلفتموني صفة لما ، والمخصوص بالذم محذوف أي : خلافتكم ، ومن بعدي جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريعي ، وعجلتم أي : سبقتم فعل وفاعل ، وأمر ربكم مفعول به ، وكلها تتمة مقولهم (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) الواو عاطفة ، وألقى عطف على قال ، والمراد هنا استيلاء الغضب ، وأخذ عطف على ألقى ، وبرأس جار ومجرور متعلقان بأخذ ، وأخيه مضاف إليه ، وجملة يجره إليه حال من ضمير موسى المستتر في أخذ ، أي : أخذه جارّا برأسه إليه (قالَ ابْنَ أُمَّ) ابن أمّ اسمان مبنيان على الفتح لتركبهما تركيب الأعداد ، مثل خمسة عشر أو الظروف مثل صباح مساء ، فعلى هذا ليس ابن مضاف لأم بل هو مركب معها ، فحركتهما حركة بناء. وذهب الكوفيون الى أن ابن مضاف لأمّ ، وأمّ مضاف الى ياء المتكلم ، وقد قلبت ألفا كما تقلب في المنادى المضاف الى ياء المتكلم ، ثم حذفت الألف واجتزئ عنها بالفتحة كما يجتزأ بالياء عن الكسرة ، وحينئذ فحركة ابن حركة إعراب ، وهو مضاف لأمّ ، فهي في محل جر بالإضافة ، وعلى كل فحرف النداء محذوف أي : يا ابن أم ، وانما اقتصر في خطابه على الأم مع أنه شقيقه لأن ذكر الأم أعطف لقلبه (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) الجملة بمثابة التعليل لما عاملوه به. وإن واسمها ، وجملة استضعفوني خبرها ،


وكادوا عطف على استضعفوني ، والواو اسم كاد ، وجملة يقتلونني خبرها (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا علمت عذري فلا تسرّ الأعداء بما تفعل بي من المكروه ، وبي جار ومجرور متعلقان بتشمت ، والأعداء مفعول به (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتجعلني فعل مضارع مجزوم بلا ، ومع ظرف مكان متعلق بتجعلني ، والقوم مضاف إليه والظالمين صفة (قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) الجملة مستأنفة مسوقة لطلب المغفرة له ولأخيه ، ورب منادى محذوف منه حرف النداء ، واغفر فعل دعاء ، ولي جار ومجرور متعلقان باغفر ، ولأخي عطف على «لي» (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) عطف على اغفر ، وفي رحمتك جار ومجرور متعلقان بأدخلنا ، وأنت الواو حالية أو استئنافية ، وأنت مبتدأ ، وأرحم الراحمين خبر.

البلاغة :

الكناية في قوله : «سقط في أيديهم» عن الندم فإن العادة أن الإنسان إذا ندم على شيء عضّ بفمه على أصابعه ، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم ، فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية. وقال الزمخشري : «ولما سقط في أيديهم : ولما اشتد ندمهم ، وحسرتهم على عبادة العجل ، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غما فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها».

وقال القطب في شرح الكشاف : إنه على تفسير الزّجّاج استعارة تمثيلية ، لأنه شبه حال الندم في القلب بحال الشيء في اليد ، وفيل : هو على تفسيره ، استعارة بالكناية في الندم بتشبيهه ما يرى في العين.


(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كلام مستأنف ، مسوق لإخبار موسى بما سينالهم بعد هذه الكبائر المتتابعة. وإن واسمها ، وجملة اتخذوا العجل لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة سينالهم خبر إن ، وغضب فاعل ، ومن ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب ، وذلة عطف على غضب ، وفي الحياة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذلة ، والدنيا صفة للحياة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء نجزيهم ، وقد تقدمت له نظائر كثيرة (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) عطف على الذين السابقة أو مبتدأ ، وجملة عملوا السيئات صلة ، ثم تابوا عطف على عملوا ، ومن بعدها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وآمنوا عطف على عملوا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ


رَحِيمٌ) إن واسمها ، ومن بعدها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، واللام المزحلقة ، وغفور خبر أول لإنّ ، ورحيم خبر ثان ، والجملة كلها خبر الذين (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان المبالغة ، ولما رابطة أو حينية ، وقد تكررت مرارا ، وسكت الغضب فعل وفاعل ، وعن موسى جار ومجرور متعلقان بسكت ، وجملة سكت لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والواو حالية ، وفي نسختها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وهدى مبتدأ مؤخر ، ورحمة عطف على هدى ، وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، وهم مبتدأ ، وجملة يرهبون خبر ، ولربهم جار ومجرور متعلقان بيرهبون ، ودخلت اللام لتقوية المفعول به لأن تأخر الفعل يكسبه ضعفا ، ونحوه : للرؤيا تعبرون ، وقال الكسائي : إنها زائدة. وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور ، والتقدير للذين رهبتهم لربهم يرهبون ، وجملة هم لربهم يرهبون صلة.

البلاغة :

في قوله : «ولما سكت عن موسى الغضب» استعارتان :

١ ـ استعارة تصريحية تبعية :

بتشبيه السكون بالسكوت.

٢ ـ استعارة مكنية :

في تشبيه الغضب بإنسان ناطق يغري موسى ويقول له : قل


لقومك كذا وكذا ، وألق الألواح ، وخذ برأس أخيك. ثم يقطع الإغراء ويترك الكلام.

أقسام أخرى للاستعارة :

وقد تقدم القول في الاستعارة ، ونعود هنا فنقول : إن هذه الاستعارة ، وهي إسناد السكوت الى الغضب فيها ، هي استعارة معقول للمشاركة في أمر معقول ، وهي واحدة من خمس للاستعارات :

فالمستعار السكوت ، والمستعار له الغضب ، والمستعار منه الساكت ، والمعنى «ولما زال عن موسى الغضب» لأن حقيقة السكوت زوال الكلام وحقيقة زوال الغضب عدم ما يدل عليه من الكلام أو غيره في تلك الحال ، وغضب موسى إنما عرف هنالك من قوله : «بئسما خلفتموني من بعدي» فإن هذا الكلام كان مقدمة إلقاء الألواح ، ولما زال الكلام الدال على الغضب ، حسنت استعارة السكوت للغضب ، ولا يلزم من سكوت الغضب حصول الرضا ، فإن موسى لم يرض بمعصيتهم ولا ببقائهم على المعصية حتى تحصل التوبة ، ولهذا أخبر سبحانه عنه بسكوت الغضب دون حصول الرضا ، وهذه الاستعارة ألطف الاستعارات الخمس لأنها استعارة معقول لمعقول للمشاركة في أمر معقول.

الأقسام الأربعة الأخرى :

أما الأقسام الأربعة الأخرى فهي :

٢ ـ استعارة المحسوس للمحسوس للاشتراك في أمر معقول ، وهو الاستعارة المركبة من الكثيف اللطيف ، ومثالها قوله تعالى :


«إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم» فإن المستعار له : الريح ، والمستعار منه : ذات النتاج ، والمستعار العقيم ، وهو عدم النتاج ، والمشاركة بين المستعار له والمستعار منه في عدم النتاج وهو شيء معقول.

٣ ـ استعارة المحسوس للمعقول وهي ألطف من المركّبة.

ومثالها قوله تعالى : «بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق». فالقذف والدفع مستعاران ، وهما محسوسان ، والحق والباطل مستعار لهما ، وهما معقولان ، ومثله قوله تعالى : «ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس» فالمستعار الحبل وهو محسوس ، والمستعار له العهد وهو معقول ، والمشاركة بينهما في الاتصال ، لأن العهد يصل بين المعاهد والمسلم كما يصل الحبل بين المرتبطين ، وهو شيء محسوس ، ومن هذا القسم قوله تعالى : «فاصدع بما تؤمر» ، فالمستعار منه الزجاجة ، والمستعار الصدع وهو الشقّ ، والمستعار له هو عقوق المكلفين ، والمعنى صرّح بجميع ما أوحي إليك ، وبين كل ما أمرت ببيانه ، وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت ، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب ، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التّقبّض والانبساط ، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة من المطروقة في باطنها. يروى أن بعض الأعراب لما سمع هذه اللفظات الثلاث سجد فقيل : لم سجدت؟ فقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام.

٤ ـ استعارة المعقول للمحسوس بالاشتراك في أمر معقول.

ومثالها قوله تعالى : «إنا لماطغى الماء حملناكم في الجارية» فالمستعار له كثرة الماء وهي حسّيّة ، والمستعار منه التكبر وهو عقلي ، والجامع


الاستعلاء المفرط ، وهو عقلي أيضا. وستأتي للاستعارة أبحاث أخرى في محلها من هذا الكتاب.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي


أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

اللغة :

(هُدْنا) تبنا ورجعنا عن المعصية وجئناك معتذرين منها ، من هاد يهود إذا رجع ، وأصل الهود : الرجوع برفق ، وبه سميت اليهود ، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ، وبعده صار اسم ذم لازما لهم أبدا يتّسمون به الى الأبد ، والهود جمع هائد وهو التائب. ولبعضهم ،

يا راكب الذّنب هدهد

واسجد كأنك هدهد

شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب ، وشبه الساجد بالهدهد ، لكثرة ما يطرق برأسه الى الأرض.

(الْأُمِّيَّ) : نسبة الى الأم ، كأنه باق على حالته التي ولد عليها.

والمراد به الذي لا يقرأ الخط ولا يكتب ، وهذا الوصف مما اختصّ به محمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن تكون نسبته الى الأمة ، وهي أمة العرب ، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب ، ويجوز أن يكون نسبة الى الأم مصدر أمّ يؤمّ ، أي قصد يقصد ، والمعنى على هذا : أن هذا النبي العربي الكريم مقصود لكلّ أحد ، فإن قيل : كان ينبغي أن يقال في النسبة أمّيّ بفتح الهمزة ، قلنا إنه من تغيير النسب.

وسيأتي مزيد من هذا الوصف في باب الفوائد.

(الإصر) : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه عن الحركة


لثقله. والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بأحكام التوراة.

(الْأَغْلالَ) : جمع غلّ ، والغل بالضمّ طوق من حديد يجعل في العنق.

الاعراب :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) كلام مستأنف مسوق لسرد قصة الذين لم يعبدوا العجل ، وقد أمره الله باختيار سبعين منهم. والتفاصيل في المطوّلات. واختار موسى فعل وفاعل ، وقومه منصوب بنزع الخافض ، أي من قومه ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، وسبعين مفعول به لاختار ، وقد تقدم حديث الأفعال التي تعدت الى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر ، وهي مقصورة على السماع ، وهي : اختار واستغفر وأمر وكنى ، ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل ، فتقول : اخترت زيدا من الرجال ، واخترت زيدا الرجال ، قال الشاعر :

اخترتك الناس إذ رثّت خلائقهم

واعتلّ من كان يرجى عند السّول

ورجلا تمييز ، لميقاتنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه للاعتذار عن عبادة العجل (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وقد تقدم إعرابها كثيرا ، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل (قالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ


أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) جملة القول مستأنفة لبيان ما قاله موسى ، وجملة النداء في محل نصب مقول القول ، ولو شرطية ، وشئت فعل وفاعل ، والمفعول به محذوف ، أي لو شئت إهلاكهم ، وأهلكتهم فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بأهلكتهم ، وإياي ضمير منفصل معطوف على الهاء (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) الاستفهام هنا معناه النفي مع الاستعطاف ، أي : لا يمكن أن تعذبنا بما فعل غيرنا. وللمبرد عبارة جميلة قال : «والمراد بالاستفهام استفهام الإعظام ، كأنه يقول ، وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره ، ولكنه من وادي قول عيسى : «إن تعذبهم فانهم عبادك». وتهلكنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وبما جار ومجرور متعلقان بتهلكنا ، وما موصولة أو مصدرية ، أي بسبب الذي فعله السفهاء أو بسبب فعل السفهاء ، ومنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) إن نافية ، وهي مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وفتنتك أي : ابتلاؤك خبر (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) الجملة حالية ، أي : مضلا بها وهاديا ، ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وكذلك «من» الثانية (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أنت مبتدأ ، وولينا خبر ، فاغفر الفاء الفصيحة ، واغفر فعل أمر للدعاء ، ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر ، وارحمنا عطف على اغفر ، وأنت الواو حالية أو استئنافية ، وأنت مبتدأ ، وخير الغافرين خبر (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) واكتب عطف على فاغفر ، ولنا جار ومجرور متعلقان باكتب ، وفي هذه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وحسنة مفعول به ، وفي الآخرة عطف على «في هذه الدنيا» ، واكتفى بالمفعول الأول ، أي : وفي الآخرة حسنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل


الدعاء ، لأن ذلك مما يوجب قبوله. وإن واسمها ، وجملة هدنا إليك خبر إن (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) الجملة مستأنفة مسوقة لمعرفة جواب الله. وعذابي مبتدأ ، خبره جملة أصيب ، وإما خبر لمبتدأ محذوف ، وجملة أصيب حالية ، وبه جار ومجرور ، ومن اسم موصول مفعول به ، وجملة أشاء صلة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) عطف على الجملة السابقة (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الفاء استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بقومه ، والسين حرف استقبال ، واكتبها فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وللذين جار ومجرور متعلقان بسأكتبها ، وجملة يتقون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وجملة ويؤتون الزكاة عطف على جملة يتقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) والذين عطف على الذين السابقة ، وهم مبتدأ ، وجملة يؤمنون خبر ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بيؤمنون ، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الذين نعت للذين أو بدل منه ، وجملة يتبعون صلة الموصول ، والرسول مفعول به والنبي صفة أولى والأمي صفة ثانية ، والذي صفة ثالثة ، وجملة يجدونه لا محل لها لأنها صلة الموصول ، ومكتوبا مفعول به ثان ليجدونه ، وعندهم ظرف متعلق بـ «مكتوبا» ، وفي التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة حالية ، وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بيأمرهم ، وينهاهم عن المنكر عطف على الجملة السابقة (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) عطف على ما تقدم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) عطف أيضا ، وإصرهم مفعول به ، والأغلال عطف على إصرهم ، والتي نعت للأغلال ، وجملة كانت عليهم صلة ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانت (فَالَّذِينَ


آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) الفاء : استئنافية ، والذين مبتدأ ، وجملة آمنوا صلة ، وبه جار ومجرور متعلقان بآمنوا ، وعزروه ونصروه معطوفان على آمنوا (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) واتبعوا عطف أيضا ، والنور مفعول به ، والذي نعت ، وجملة أنزل صلة ، ومعه ظرف مكان متعلق بأنزل (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الجملة الاسمية خبر اسم الموصول ، واسم الاشارة مبتدأ ، وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان ، والمفلحون خبر أولئك ، أو خبر «هم» ، والجملة الاسمية خبر أولئك.

الفوائد :

معنى الأميّ :

تكلمنا في باب اللغة بإسهاب عن معنى الأمّيّ ، ونتساءل الآن مع المتسائلين : هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟ أما أكثر المستشرقين فيقولون : إن كلمة «أمّيّ» التي وصف بها النبي غامضة ، ولا تدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن يعرف القراءة ، ويرجحون أن تكون نسبة إلى كلمة أمّة ، كما ذكرنا ذلك في حينه.

أراجيف دائرة المعارف الإسلامية :

أما دائرة المعارف الإسلامية فتثير إشكالا آخر ، وهو أنه ورد في سورة العنكبوت الآية : «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» قالت : «وهي تدل على أنه تعلم القراءة في الكبر ، أي : بعد نزول القرآن ، وإن كان التعبير غامضا».

وواضح أن التعبير ليس غامضا ، ولكن التخريج الذي خرّجته الدائرة


فاسد ، فلفظ الآية صريح كل الصراحة ، واضح كل الوضوح ـ كما سيأتي في حينه ـ وهو يدل ، بلا لبس ، على أن أهل مكة عرفوا قبل نزول الوحي عليه أنه لم يكن يتلو كتابا ، ولا يكتب بيمينه ، ولو أنه كان كذلك إذن لارتاب المبطلون بأن يذكروا أنه كان يخلو الى نفسه ، فيكتب القرآن ويعدّه ، ثم يخرج للناس فيتلوه عليهم.

وآية أخرى أوردتها دائرة المعارف الإسلامية وهي : «وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» ولا يفهم من هذه الآية شيء مما أريد حمله عليها ، إذ أنها تدل ببساطة على أن كفار قريش كانوا يدّعون أن رسول الله يكتب ما يملى عليه من أساطير الأولين ، وليس كل ما يدعي الكفار صوابا ، بل هذا هو هجوم صريح وافتئات واضح يقصد منه التجريح وإضعاف شأن القرآن. ولعلّ القرآن نفسه تولى الكشف عن هذه الأراجيف في الآية السابقة لها وهي : «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ، وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ، قل : أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما».

الباجه جي ودعوى عدم الأمّيّة :

وليست دائرة المعارف الإسلامية وغيرها من كتب المستشرقين وحدها التي تحاول اثارة هذه الشبهات ، فقد تناثرت في كتب المسلمين إشارات تلمح الى هذا الموضوع ، فقد ذكر ابن كثير : «ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجيّ ومن تابعه أن النبي عليه السلام كتب يوم الحديبية : «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» ،


فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : «ثم أخذ فكتب» ، وهذه محمولة على الرواية الأخرى : «ثم أمر فكتب» ، ولهذا اشتد النكير على من قال بقول الباجيّ ، وتبرءوا منه ، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. على أن القول الفصل في هذا ما ورد في القرآن نفسه ، فقد أكد في مواضع كثيرة أن القرآن أنزل على قلب رسول الله ، وأنه كلّف بحفظه ، وبأن يحفظه المسلمون لا أن يكتبوه ، «فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدّقا لما بين يديه» ، وإذن فلم يكن النبي يكتب ما يوحى إليه ، ولا نعلم على وجه دقيق كيف كان يكتب القرآن في العهد المكي.

قصة إسلام عمر :

ولكننا نذكر الرواية الشائعة التي تقصّ إسلام عمر بن الخطاب أنه وجد في يد أخته فاطمة صحيفة فيها آيات من القرآن ، وعلى الرغم من أن هناك روايات أخرى تهمل قصة فاطمة وما حدث بينها وبين عمر ، إلا أن من الممكن أن نعتمد عليها في أن نعلم أنه كانت هناك صحف تكتب فيها أجزاء من القرآن ، سواء أكانت هذه الصحف عند فاطمة أخت عمر أو عند غيرها. وكلمة صحيفة لا تدل على الورق الذي نعرفه اليوم ، ولكنها ـ على كل حال ـ شيء خفيف الحمل يكتب عليه في سهولة. وقد وردت في القرآن كلمة صحيفة ، مثل قوله تعالى : «في صحف مكرّمة مرفوعة مطهرة». على أن الحفظ كان أساس العلم بالقرآن ، وليست التلاوة من صحف مسطورة ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.


هذا وسيرد المزيد من هذا المبحث الدقيق في مواضيع معينة من هذا الكتاب.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠))

اللغة :

(أَسْباطاً) : جمع سبط ، وهو ولد الولد ، فهو كالحفيد. هذا هو المفهوم اللغوي ، وتخصيص السبط بولد البنت والحفيد بولد الابن


أمر عرفي. وفي القاموس وغيره : ولد الولد ، ويغلب على ولد البنت ، مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن. والسبط من اليهود بمنزلة القبيلة من العرب.

(انبجست) : في المصباح : بجس الماء بجسا من باب قتل بمعنى فجرته فانفجر. وقال غيره : الانبجاس هو الانفتاح بسعة وكثرة ، قال العجاج :

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

وكيف غربي دالج تبجّسا

والوكيف : مصدر نصب بانحلبت ، لأن معناه وكفت ، والغرب الدلو العظيمة ، والدالج من يأخذ الدلو من البئر فيفرغها في الحوض ، يقول : انصبّت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض ، تفجّرا بسعة ، وفيه تشبيه العينين بالغربين.

(الْمَنَّ) : هو التّرنجبين ، وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج ، من الفجر الى طلوع الشمس ، فيأخذ كل إنسان صاعا.

(السَّلْوى) : هو الطير السّمانى بتخفيف الميم المقصورة والقصر بوزن حبارى ، وهو نوع من الطيور القواطع ، للواحد والجمع ، وقيل : الواحدة سماناة ، وهو المعروف عندنا بالفري ، ويسمى أيضا السلوى ، ويجمع على سمانيات.


الاعراب :

(قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) كلام مستأنف مسوق لتوجيه الخطاب الى النبي صلى الله عليه وسلم. وجملة النداء في محل نصب مقول القول ، وقد تقدم إعرابها ، وإن واسمها ، ورسول الله خبرها ، وإليكم جار ومجرور متعلقان برسول ، وجميعا حال من ضمير إليكم (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اسم الموصول نعت لله ، ويجوز أن تقطعه فترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم ، وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر ، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه الجملة لا محل لها لأنها بدل من الصلة قبلها ، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلة مع اختلاف الآراء (يُحيِي وَيُمِيتُ) الجملة بدل أيضا فلا محل لها (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) الفاء الفصيحة ، وآمنوا فعل أمر ، وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ، ورسوله عطف على الله ، والنبي صفة ، وكذلك الأميّ ، وكذلك وجملة يؤمن بالله لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وكلماته عطف على الله ، والمراد بها ما أنزل عليه (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطف على الله ، والمراد بها ما أنزل عليه (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطف على آمنوا ، ولعل واسمها ، وجملة تهتدون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الواو استئنافية ، ومن قوم موسى جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم ، وأمة مبتدأ مؤخر ، وجملة يهدون بالحق صفة لحكاية الحال الماضية ، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي :ملتبسين بالحق ، وبه جار ومجرور متعلقان بيعدلون (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) الواو عاطفة ، وقطعناهم فعل وفاعل ومفعول به ،


واثنتي عشرة حال من مفعول قطعناهم ، أي : فرقناهم معدودين بهذا العدد ، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قطعناهم بمعنى صيرناهم ، فيكون اثنتي عشرة مفعولا به ثانيا ، وأسباطا بدل من اثنتي عشرة ، أي فرقة. قال أبو إسحق الزّجاج : ولا يجوز أن يكون تمييزا ، لأنه لو كان تمييزا لكان مفردا. وسيأتي مزيد من القول فيه في باب الفوائد. وأمما بدل من «أسباطا» ، فهو بدل من البدل وهو الأسباط (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) عطف على قطعناهم ، وإلى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بأوحينا أيضا ، وجملة استسقاه قومه في محل جر بالإضافة ، واستسقاه قومه فعل ومفعول به وفاعل (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) يجوز أن تكون «أن» هي المفسرة للإيحاء ، لأن فيه معنى القول دون حروفه ، وأن تكون المصدرية ، وقد تقدم نظيرها ، وبعصاك جار ومجرور متعلقان باضرب ، والحجر مفعول به (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) الفاء الفصيحة ، أي : فضرب فانبجست ، ومنه جار ومجرور متعلقان بانبجست ، واثنتا عشرة فاعل انبجست ، وعينا تمييز (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها ، وقد حرف تحقيق ، وعلم كل أناس فعل وفاعل ، وأناس مضاف إليه ، وهو اسم جمع ، واحده إنسان ، وقيل : هو جمع تكسير له ، ومشربهم مفعول به (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وظللنا فعل وفاعل ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بظللنا ، والغمام مفعول به ، وأنزلنا عطف على ظللنا ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأنزلنا والمن مفعول به ، والسلوى عطف على المنّ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) جملة كلوا في محل نصب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا ، وكلوا فعل أمر ، والواو فاعل ، ومن طيبات جار ومجرور متعلقان بكلوا ،


وما اسم موصول في محل جر بالإضافة لطيبات ، وجملة رزقناكم لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو استئنافية ، وما نافية ، وظلمونا فعل وفاعل ومفعول به ، والواو حالية ، ولكن مهملة مخففة ، وكان واسمها ، وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون ، وجملة يظلمون في محل نصب خبر كانوا.

الفوائد :

بين الزمخشري وأبي حيان :

قال الزمخشري : فإن قلت مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعا؟ وهلا قيل : اثني عشر سبطا؟ قلت : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا ، لأن المراد : وقطّعناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكل قبيلة أسباط لا سبط ، فوضع «أسباطا» موضع «قبيلة» ، ونظيره : «بين رماحي مالك ونهشل».

وردّ أبو حيّان هذا التنظير بقوله : ليس نظيره ، لأن هذا من تثنية الجمع ، وهو لا يجوز إلا في الضرورة. وكأنه يشير الى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصح تثنيته ، كذلك هنا ، لحظ الأسباط ـ وإن كان جمعا ـ معنى القبيلة ، فميز به كما يميز بالمفرد» :

رأي الحوفي :

وقال الحوفيّ : «يجوز أن يكون على الحذف ، والتقدير :اثنتي عشرة فرقة ، ويكون «أسباطا» نعتا لفرقة ، ثم حذف الموصوف


وأقيمت الصفة مقامه». ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى قول عنترة.

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم

ولم يقل سوداء.

رأي التّوضيح والتّصريح :

وفي التوضيح والتصريح : «وأما قوله تعالى : «وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما» فـ «أسباطا» ليس تمييز لأنه جمع ، وإنما هو بدل من «اثنتي عشرة» بدل كلّ من كلّ ، والتمييز محذوف ، أي :اثنتي عشرة فرقة ، ولو كان «أسباطا» تمييزا عن اثنتي عشرة لذكر العددان ولقيل : اثني عشر ، بتذكيرهما وتجريد هما من علامة التأنيث ، لأن السبط ـ واحد الأسباط ـ مذكّر.

رأي ابن مالك :

وزعم ابن مالك في شرح الكافية أنه لا حذف ، وأن «أسباطا» تمييز ، وإن ذكرا مما رجح حكم التأنيث في «أسباطا» لكونه وصف بـ «أمما» ، جمع أمة ، كما رجحه أي التأنيث في «شخوص» ذكر «كاعبان ومعصر» في قول عمر بن أبي ربيعة :

فكان مجّني دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

وكان القياس «ثلاثة شخوص» ، لأن الشخص مذكر ، ولكنه


لما فسره بكاعبان ومعصر ـ وهما مؤنثان ـ رجح تأنيثه ، وما ذكره الناظم في الآية مخالف لما قاله في شرح التسهيل : إن «أسباطا» بدل لا تمييز».

هذا القول بالبدلية من اثنتي عشرة مشكل على قولهم : إن المبدل منه في نية الطرح غالبا ، ولو قيل : وقطعناها أسباطا ، لفاتت فائدة كمية العدد ، وحمله على غير الغالب ، ولا يجوز تخريج القرآن عليه.

والقول بأنه تمييز مشكل على قولهم : إن تمييز العدد المركب مفرد ، و «أسباطا» جمع ، وقال الحوفي «يجوز أن يكون «أسباطا» نعت لفرقة ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، و «أمما» نعت لـ «أسباطا» وأنت العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر ، لأنه بمعنى فرقة وأمة ، كقوله : ثلاثة أنفس ، يعني رجالا» ا ه. فارتكب الوصف بالجامد ، والكثير خلافه. وذهب الفراء الى جواز جمع التمييز ، وظاهر الآية يشهد له.

٢ ـ حكم العدد المركب :

«أحد عشر» الى «تسعة عشر» مبني ، إلا اثني عشر ، وحكم آخر شطريه حكم نون التثنية ، ولذلك لا يضاف إضافة أخواته ، فلا يقال : هذه اثنا عشرك ، كما قيل : هذه أحد عشرك. أما «اثنا عشر» فإن الاسم الأول معرب ، لأن الاسم الثاني حلّ منه محل النون ، فجرى التغيير على الألف مع الاسم الذي بني معه ، كما جرى التغيير عليها مع النون ، وتقول في تأنيث هذه المركبات : إحدى عشرة واثنتا عشرة أو ثنتا عشرة وثلاث عشرة وثماني عشرة ، تثبت علامة التأنيث في أحد الشطرين لتنزلهما منزلة شيء واحد ، وتعرب اثنتين كما أعربت الاثنين.


وشين العشرة يسكّنها أهل الحجاز ويكسرها بنو تميم. والعرب على فتح الياء ، «ثماني عشرة» ومنهم من يسكّنها.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

الاعراب :

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ : اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الواو عاطفة ، والظرف متعلق باذكر محذوفا ، وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ، ولهم جار ومجرور متعلقان بقيل ، وجملة اسكنوا في محل نصب مقول القول ، وهذه اسم إشارة في محل نصب مفعول به على السعة ، والقرية بدل. وقد مرت هذه الآية بلفظها مع تغيير قليل في البقرة. ولا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض بين قوله :«اسكنوا هذه القرية وكلوا منها» وبين قوله : «فكلوا» لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها. وسواء قدموا الحطّة على دخول الباب أو أخّروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما. وترك ذكر الرغد لا يناقض


إثباته (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ) تقدم إعرابها في البقرة ، فجدد به عهدا ، وحطّة قلنا إنها خبر لمبتدأ محذوف ، أي : مسألتنا حطة ، أي : أن تحطّ عنا خطايانا (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) تقدم إعرابها في سورة البقرة أيضا فلا داعي للإعادة.

(سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) الفاء عاطفة ، وبدل الذين فعل وفاعل ، وجملة ظلموا صلة الموصول لا محل لها ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وفي الكلام حذف ، والمحذوف هو المفعول الثاني لبدّل ، وتقديره : بالذي قيل لهم ، وقولا مفعول به ، وغير صفة والذي اسم موصول في محل جر بالإضافة. وجملة قيل لهم صلة لا محل لها ، أي قالوا : حبة بدل حطّة ، ولا داعي لهم الى ذلك إلا قصد السخرية من موسى وإغاظته (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) فأرسلنا عطف على فبدّل ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، وبما جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ، الباء سببية ، وما اسم موصول أو مصدرية ، وكانوا كان واسمها ، وجملة يظلمون خبرها.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا


مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

اللغة :

(حاضِرَةَ الْبَحْرِ) مجاورة له ، وقريبة منه ، وراكبة لشاطئه.

واختلف في هذه القرية فقيل : هي أيلة ، وقيل : مدين ، وقيل : طبريا.

والعرب تسمي المدينة قرية. وعن أبي عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويّين أفصح من الحسن والحجاج. يعني رجلين من أهل المدن.

وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة ، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله ، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار من الله سبحانه ، فيكون دليلا على صدقه.

(يَعْدُونَ) : يعتدون أو يتجاوزون.

(سَبْتِهِمْ) السبت : مصدر سبتت اليهود إذا عظّمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد. والسبت في اللغة : القطع. فكأنهم باختيارهم يوم السبت عيدا قد اختاروا ما فيه قطيعتهم. يقال : سبتوا سبتا من باب ضرب ، وأسبتوا بالألف لغة فيه.


(شُرَّعاً) : جمع شارع ، من شرع عليه إذا دنا وأشرف ، أي :تأتيهم ظاهرة على وجه الماء ، طافية فوقه ، قريبة من الساحل.

(بَئِيسٍ) : شديد ، فعيل من بؤس يبؤس إذا اشتد.

(عَتَوْا) تكبّروا.

(خاسِئِينَ) : صاغرين.

الاعراب :

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الواو عاطفة ، واسألهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ، وعن القرية جار ومجرور متعلقان باسألهم ، والتي اسم موصول نعت للقرية ، وجملة كانت لا محل لها لأنها صلة الموصول ، واسم كانت مستتر ، أي : هي ، وحاضرة البحر خبر كانت (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) إذ ظرف متعلق بالمضاف المحذوف والذي تقديره : عن حال القرية ويعدون فعل مضارع وفاعله والجملة في محل جر بالاضافة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) الظرف بدل من الظرف السابق أو متعلق بيعدون أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم وجملة تأتيهم في محل جر بالإضافة ، وحيتانهم فاعل تأتيهم ، وشرعا حال من حيتانهم ، ويوم عطف على إذ ، وجملة لا يسبتون في محل جر بالإضافة (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الكاف ومجروره في موضع نصب على أنه مفعول مطلق ، أي : مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم ، ويجوز أن يكون حالا ، أي : لا يأتي مثل ذلك الإتيان ، والأول أرجح. والباء سببية ، وما مصدرية ، أي : نبلوهم بسبب فسقهم ، وجملة يفسقون


خبر كانوا (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) عطف على إذ يعدون ، وحكمه حكمه في الإعراب ، أي : بدل من المحذوف ، وهو حال القرية وخبرها أو أهلها ، وجملة قالت في محل جر بالإضافة ، وأمة فاعل ، ومنهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمة (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) اللام حرف جر ، وما الاستفهامية حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها ، وقد تقدم بحثها ، والعلة في هذا الحذف الفرق بين الاستفهام والخبر ، والجار والمجرور متعلقان بتعظون ، وقوما مفعول به لتعظون ، والله مبتدأ ، ومهلكهم خبر ، والجملة الاسمية صفة «قوما» ، وأو حرف عطف ، ومعذبهم عطف على مهلكهم ، وعذابا مفعول مطلق ، وشديدا صفة (قالُوا : مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) جملة القول مستأنفة ، مسوقة لبيان جوابهم. ومعذرة : قرأ حفص وحده بالنصب. وفيه ثلاثة أوجه قوية : الأول أنها مفعول لأجله ، أي : وعظناهم لأجل المعذرة. والثاني أنها منتصبة نصب المصدر بفعل مقدر من لفظها ، أي : نعتذر معذرة. والثالث أنها منتصبة انتصاب المفعول به ، لأن المعذرة تتضمن كلاما ، والمفرد المتضمن لكلام إذا وقع بعد القول نصب نصب المفعول به ، كقلت خطبة. وقرأ العامة برفع معذرة. قال سيبويه في اختياره الرفع : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ، ولكنهم قيل لهم : لم تعظون؟فقالوا موعظتنا معذرة. والمعذرة بمعنى الاعتذار ، وهو التنصّل من الذنب. والى ربكم جار ومجرور متعلقان بمعذرة ، ولعل واسمها ، وجملة يتقون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) الفاء استئنافية ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة نسوا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة ، ونسوا فعل وفاعل ، وما مفعول به ، وجملة ذكروا بالبناء للمجهول لا محل لها لأنها صلة ، والواو نائب فاعل ، وبه جار


ومجرور متعلقان بذكروا (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) جملة أنجينا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والذين مفعول به ، وجملة ينهون صلة الموصول ، وعن السوء جار ومجرور متعلقان بينهون (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على ما تقدم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بعذاب جار ومجرور متعلقان بأخذنا ، وبئيس صفة لعذاب ، بما الباء حرف جر للسبب ، أي : بسبب فسقهم (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وعما جار ومجرور متعلقان بعتوا ، وجملة قلنا لا محل لها ، وجملة كونوا في محل نصب مقول القول ، وقردة خبر كونوا ، وخاسئين صفة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ


عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

اللغة :

(تَأَذَّنَ) : عزم ، تفعّل من الإيذان ، أي الإعلام ، لأن العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها به. قالوا : وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم. قال الواحدي :وأكثر أهل اللغة على أن التأذّن بمعنى الإيذان وهو الإعلام. وقيل :إن معناه حتم وواجب. وفي القاموس : تأذن أقسم.

(عَرَضَ) بفتحتين مالا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وقال أبو عبيدة : العرض بالفتح جميع متاع الدنيا غير النقدين ، وبالسكون المال والقيم ، ومنه : «الدنيا عرض حاضر ، وظلّ زائل». وفسره الزمخشري بالحطام وقال : «أي حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله : هذا الأدنى تخسيس وتحقير. والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة». وقد اجتمع المعنيان في بيت لأبي الطيب :


لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

فأدنى الأولى بمعنى أقل وأحقر ، وأدنى الثانية بمعنى أقرب.

الاعراب :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) الظرف منصوب على المفعولية بفعل مقدر معطوف على واسألهم ، والتقدير : واذكر وقت أن تأذّن ربك ، وجملة تأذّن في محل جر بإضافة الظرف إليها ، وربك فاعل (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) اللام جواب القسم المفهوم من فعل تأذن ، ويبعثن فعل مضارع مبني على الفتح ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيبعثنّ أو بتأذّن ، ومن اسم موصول مفعول يبعثن ، وجملة يسومهم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وسوء العذاب مفعول به ثان ليسومهم (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة إن واسمها وخبرها تعليلية لا محل لها ، وجملة وإنه لغفور رحيم عطف عليها ، واللام المزحلقة (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) الواو عاطفة ، وقطّعناهم فعل وفاعل ومفعول به ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بقطعناهم ، وأمما حال ، أو مفعول به ثان ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) الجملة صفة لـ «أمما» ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

والصالحون مبتدأ مؤخر ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم أيضا ، ودون ظرف متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر ، والمعنى : ومنهم ناس منحطّون عن الصلاح ، ومثله


قوله تعالى : «وما منا إلا له مقام معلوم» ، أي : وما منا أحد إلا له مقام ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، كقولهم : منّا ظعن ومنا أقام (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وبلوناهم عطف على قطعناهم ، وبالحسنات جار ومجرور متعلقان ببلوناهم ، والسيئات عطف على الحسنات ، ولعل واسمها ، وجملة يرجعون خبرها (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) الفاء عاطفة ، وخلف فعل ماض ، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وخلف فاعل ، والخلف ـ بسكون اللام وفتحها ـ من يخلف غيره ، وجملة ورثوا الكتاب صفة لخلف (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) الجملة صفة ثانية ، وعرض مفعول يأخذون ، هذا مضاف إليه ، والأدنى بدل من اسم الإشارة (وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنا) يجوز في الواو أن تكون عاطفة على ما قبلها أو حالية ، وجملة سيغفر لنا في محل نصب مقول القول (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الواو حالية ، أي : والحال انهم إن يأتهم ، ويجوز أن تكون للاستئناف ، وإن شرطية ، ويأتهم فعل الشرط ، والهاء مفعول به ، وعرض فاعل ، ومثله صفة ، ويأخذوه جواب الشرط وعلامة جزمه حذف النون (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) الهمزة للاستفهام التقريري ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويؤخذ فعل مضارع مجزوم بلم ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيؤخذ ، وميثاق الكتاب نائب فاعل (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أن مصدرية ، وهي مع ما في حيزها مصدر محله الرفع على البدلية من ميثاق ، لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب ، أو النصب على أنه مفعول من أجله ، ومعناه لئلا يقولوا ، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة لميثاق الكتاب ، لأنه في معنى القول دون حروفه ، و «لا» عندئذ ناهية ، ويقولوا فعل مضارع مجزوم بها ، أما على أنها مصدرية فـ «لا» نافية ، والفعل


منصوب بأن المصدرية ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولوا ، وإلا أداة حصر ، والحق يجوز أن يكون مفعولا به أو مفعولا مطلقا ، أي : القول الحق (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) الواو عاطفة ، ودرسوا فعل ماض معطوف على «ألم يؤخذ عليهم» ، كأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ، ودرسوا ما فيه. وما مفعول درسوا ، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو استئنافية أو حالية ، والدار مبتدأ ، والآخرة صفة ، وخير خبر الدار ، وللذين جار ومجرور متعلقان بخير ، وجملة يتقون لا محل لها لأنها صلة الموصول ، والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة على محذوف ، وقد تقدمت له نظائر ، ولا نافية ، وتعقلون عطف على هذا المحذوف (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مزية الصلاة وإنافتها في الفضل (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الجملة خبر الذين أو تجعلها اعتراضية فيكون الخبر محذوفا تقديره مأجورون. وإن واسمها ، ولا نافية ، وجملة لا نضيع أجر المصلحين خبر إن ، ونعيد إعرابها لرسوخها في الذهن ، فالذين مبتدأ وجملة يمسكون بالكتاب صلة الذين لا محل لها ، وجملة وأقاموا الصلاة معطوفة على الصلة ، وجملة إنا لا نضيع أجر المصلحين خبر المبتدأ ، والرابط بينهما إعادة المبتدأ بمعناه ، فإن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب ، بالعطف على الذين يتقون ولئن سلم فالرابط العموم ، لأن المصلحين أعمّ من المذكورين ، أو ضمير محذوف ، أي منهم.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ


خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣))

اللغة :

(نَتَقْنَا) : نتق قلع ورفع ، ومنه نتق السقاء إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. هذا وقد اختلف عبارات أهل اللغة في النتق ، فقال أبو عبيدة : هو قلع الشيء من موضعه والرمي ، ومنه نتق ما في الجراب :إذا نفضه فرمى ما فيه ، وامرأة ناتق ومنتاق : إذا كانت كثيرة الولادة.

وفي الحديث : «عليكم بزواج الأبكار ، فإنهن أنتق أرحاما ، وأطيب أفواها ، وأرضى باليسير». وقيل : النتق : الجذب بشدة ، ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقتلع الزبد من فمه. وقال الفراء : هو الرفع. وقال ابن قتيبة : هو الزعزعة. على أن هذه الاختلافات ترجع الى معنى واحد. والذي يلفتت النظر هو أن النون والتاء متى استعملا فاء وعينا للكلمة ، فإن المعنى يحوم حول النزع والقلع والإخراج ، وسنعرض كعادتنا ، تركيب هذين الحرفين ، فمن ذلك نتأ بمعنى رمى ،


ونتأ ثدي الجارية بمعنى برز ونهد ، ونتأ الشيء : خرج من موضعه من غير أن ينفصل ، ونتجت الناقة : وضعت ولدها ، ومن المجاز :الريح تنتج السحاب ، قال الراعي :

أربّت بها شهري ربيع عليهم

جنائب ينتجن الغمام المتاليا

وفي المثل : «إن العجز والتوائي تزاوجا فأنتجا الفقر». وهذه المقدمة لا تنتج نتيجة صادقة إذا لم تكن لها عاقبة محمودة ، ونتح العرق من مناتحه ، ورشح من مراشحه ، وتتخت الشوكة من رجلي بالمنتاخ : أي بالمنقاش ، ونتخ البازي اللحم بمنسره ، ونتخ فلان من أصحابه نزع منهم ، ونتخته المنية من بين قومه ، ونتر الثوب : جذبه في شدة ، ونتر الوتر مدّه حتى كاد ينكسر القوس ، وفي الحديث : «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث نترات» ، ونتش الشوكة بالمنتاش ، ونقشها بالمنقاش ، وما نتش منه شيئا ما أخذ ، وهو ينتش من كل علم ، ونتف شعره وانتتفه ، وفلان منتوف : مولع بنتف لحيته. ومن المجاز : أعطاه نتفة من الطعام وغيره : شيئا منه ، فقول العامة : نتفة ، صحيح ولكن بضم الميم ، وكان أبو عبيدة يقول في الأصمعي : ذاك رجل نتفه. ونتن الشيء : ارتفع نتنه ، وفي الحديث : «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذكر مناتنها» ، وهذا من دقائق العربية ، فتدبره.

(ظُلَّةٌ) الظّلة : بضم الظاء كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب ،

الاعراب :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) الواو عاطفة ، وإذ ظرف زمان


متعلق باذكر المحذوفة والمعطوفة على ما تقدم ، وجملة نتقنا في محل جر بالاضافة ، ونا فاعل ، والجبل مفعول به ، وفوقهم ظرف مكان متعلق بمحذوف على أنه حال من الجبل ، وهي حال مقدرة ، لأنه حال النتق لم يكن فوقهم بالفعل بل صار فوقهم بالنتق ، أو متعلق بنتقنا ، وجملة كأنه ظلة حال من الجبل أيضا ، فيكون الحال متعددا ، وكأن واسمها وخبرها (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) يجوز أن تكون الجملة في محل جر عطفا على جملة نتقنا المجرورة بالاضافة ، ويجوز أن تكون الواو حالية ، وقد مقدرة ، وقد تقدم مثل هذا التعبير والبحث فيه ، وصاحب الحال الجبل ، أي : كأنه ظلة في حال كونه مظنونا وقوعه بهم ، ولك أن تجعل الواو استئنافية ، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها ، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي ظنّ ، وأن واسمها وخبرها ، وبهم جار ومجرور متعلقان بواقع (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) جملة خذوا في محل نصب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وما اسم موصول مفعول به ، وجملة آتيناكم لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وبقوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أي : عازمين على احتمال مشاقه وكثرة تكاليفه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عطف على ما تقدم ، ولعلكم لعل واسمها ، وجملة تتقون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) عطف على ما تقدم ، وقد سبق ذكره ، وربك فاعل أخذ ، ومن بني آدم جار ومجرور متعلقان بأخذ ، ومن ظهورهم جار ومجرور في محل جر بدل اشتمال من بني آدم ، أو بدل بعض من كل بإعادة الجار ، ومعنى إخراج ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وسيأتي بحث ذلك في باب البلاغة. وذريتهم مفعول به (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) عطف على أخذ ، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بأشهدهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) الجملة


مقول قول محذوف ، أي : قائلا ، وجملة القول حالية ، والهمزة للاستفهام التقريري ، والتاء اسم ليس ، والباء حرف جر زائد وربكم مجرور لفظا خبر ليس محلا ، وجملة قالوا مستأنفة ، وبلى حرف جواب ، وتختص بالنفي ، وتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام التقريري ، كما هنا. ولذلك قيل : قالوا : نعم كفروا ، من جهة أن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب ، فكأنهم أقروا بأنه ليس ربهم (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ : إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) شهدنا فعل وفاعل ، وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله ، أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا ، ويوم القيامة ظرف متعلق بتقولوا ، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول ، وجملة كنا خبر إنا ، وغافلين خبر كنا ، وعن هذا جار ومجرور متعلقان بغافلين (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أو تقولوا عطف على أن تقولوا ، أي : وكراهة أن تقولوا ، وإنما كافة ومكفوفة ، وجملة إنما أشرك آباؤنا في محل نصب مقول القول ، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) الواو عاطفة ، وكان واسمها ، وذرية خبرها ، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذرية (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة ، وتهلكنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، والباء حرف جر ، وتفيد السببية ، وما مصدرية ، وفعل المبطلون فعل وفاعل ، والمصدر المؤول في محل جر بالباء.

البلاغة :

١ ـ في قوله «وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة» تشبيه مرسل وفائدته هنا إخراج ما لم تجرية العادة الى ما جرت به العادة.


٢ ـ في قوله : «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» الى آخر الآية ، أجمع علماء البيان المتأخرون على أنه لا إخراج ولا قول ولا شهادة ، وإنما هذا كله محمول على المجاز التمثيلي ، فقد شبّه سبحانه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة الدالة على ربوبيته سبحانه ، المقتضية لأن ينطق ويقرّ بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر. أما المتقدمون فيقولون : إنه تعالى أخرج بعضهم من صلب بعض ، وجعل لهم العقل والمنطق ، وألهمهم ذلك. ولكلّ وجهة نظرهم.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧))


اللغة :

(أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الإخلاد الى الشيء الميل اليه من الاطمئنان به.

وفي المصباح : خلد بالمكان خلودا من باب قعد : أقام ، وأخلد بالألف مثله ، وخلد الى كذا وأخلد إليه : ركن.

(يَلْهَثْ) : يدلع لسانه ، يقال : لهث يلهث بفتح العين في الماضي والمضارع لهثا ولهاثا ، وهو خروج لسانه في حال راحته وإعيائه ، وهي طبيعة لازمة للكلب ، وأما غيره من الحيوان فلا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش. وفي الصحاح لهث الكلب إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش ، وقوله تعالى : «إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا ، وإن تتركه شدّ عليك ونبح ، فيتعب نفسه في الحالين ، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.

الاعراب :

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة ، والكاف ومدخولها صفة لمصدر محذوف ، وقد تقدمت له نظائر كثيرة ، والآيات مفعول به ، ولعلهم الواو عاطفة على محذوف تقديره : ليتدبروها ، ولعل واسمها ، وجملة يرجعون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الواو عاطفة على متعلق «إذ» بقوله : «وإذ أخذ» ، واتل فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بـ «اتل» ، ونبأ مفعول به ، والذي مضاف إليه ، وجملة آتيناه صلة الموصول ، وآياتنا مفعول به ثان ،


فانسلخ عطف على آتيناه ، ومنها جار ومجرور متعلقان بانسلخ (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أتبع فعل ماض رباعي يتعدى لواحد فيكون بمعنى أدركه ، ويتعدى لاثنين ، فتكون الهاء المفعول به الأول ، والمفعول به الثاني محذوف تقديره : فأتبعه الشيطان خطواته ، أي جعله تابعا لها ، والشيطان فاعل ، فكان عطف على أتبعه ، واسمها مستتر ، ومن الغاوين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) والواو حالية ، ولو شرطية غير جازمة ، وشيئا فعل وفاعل ، واللام جواب لو ، وجملة رفعناه لا محل لها ، وبها جار ومجرور متعلقان برفعناه (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الواو عاطفة ، ولكن واسمها ، وجملة أخلد خبر لكن ، وإلى الأرض جار ومجرور متعلقان بأخلد (وَاتَّبَعَ هَواهُ) عطف على أخلد ، وهواه مفعول به (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) الفاء الفصيحة ، ومثله مبتدأ ، وكمثل الكلب خبره ، وإن شرطية ، وتحمل فعل الشرط ، وعليه جار ومجرور متعلقان بتحمل ، ويلهث جواب الشرط ، وأو حرف عطف ، وتتركه عطف على فعل الشرط وجوابه المتقدمين ، وسيأتي مزيد من القول في محل الجملة الشرطية ، لطول الكلام ، في باب الفوائد (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ذلك مبتدأ ، ومثل القوم خبره ، والجملة حالية ، والذين نعت للقوم ، وجملة كذبوا لا محل لها لأنها صلة ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا تحققت أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم ، واقصص فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، والقصص بمعنى المقصوص مفعول به ، وجملة الرجاء في محل نصب حال من الضمير المخاطب المخاطب في «اقصص» ، والمعنى راجيا تفكيرهم (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ساء


فعل ماض جامد لإنشاء الذم ، ومثلا تمييز ، والقوم مبتدأ ، خبره جملة ساء ، ولا بد من تقدير محذوف ليكون التمييز والفاعل والمخصوص بالذم كلها متحدة معنى ، والتقدير : ساء مثل القوم أو ساء أصحاب مثل القوم ، والذين نعت للقوم ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة. وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة ، وأنفسهم مفعول به مقدم ليظلمون ، وكان واسمها ، وجملة يظلمون خبرها ، ويجوز أن يكون ما بعد الواو العاطفة داخلا في الصلة معطوفا على كذبوا ، بمعنى الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم ، أو منقطعا عنها ، بمعنى ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم.

البلاغة :

في هذه الآيات فنون من البلاغة نجملها فيما يلي : وقد سماه الجاحظ :

١ ـ المذهب الكلامي :

هذه التسمية كما ذكر ابن المعتز في كتابه وزعم الجاحظ أنه لا يوجد منه شيء في القرآن. والكتاب الكريم مشحون به. وتعريف هذا الباب هو أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند ، وتفلّ سلاح المكابر المتعنت ، على طريقة علماء الكلام. ومنه منطقيّ تستنتج فيه النتائج من المقدمات الصادقة. والآية المقصودة بهذا الفن هي قوله تعالى : «ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه» وترتيب المقدمتين في هذه الكلمات والنتيجة أنا نقول : ما شاء


الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولو شاء الله رفع بلعام بن باعوراء المقصود بهذه الآية ، فقد بعثه الله الى ملك مدين ليدعوه الى الإيمان ، فأعطاه وأقطعه ، فاتبع دينه وترك دين موسى ، ففيه نزلت هذه الآية وما بعدها.

هذا ولا يكون المقصود ، بالمدح أو الذم إلا من جنس المرتفع بنعم وبئس ، فإن وجد كلام ظاهره مخالف لهذا الحكم فليعلم أن هناك محذوفا يذكره يرجع الكلام الى هذا الأصل المقرر ، فمن قوله سبحانه : «ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا» والقوم ليسوا من جنس المثل ، فالتقدير : ساء مثلا مثل القوم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعلى هذا يقاس.

٢ ـ التشبيه التّمثيليّ :

في قوله : «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه» الى آخر الآية ، فقد شبه حال من أعطي شيئا فلم يقبله بالكلب الذي إن حملت عليه نبح وولى ذاهبا ، وإن تركته شدّ عليك ونبح ، فإن الكلب يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات ، وشبه رفضه وقذفه لها ورده لها بعد الحرص عليها ، وفرط الرغبة فيها ، بالكلب ، إذا رجع ينبح بعد اطرادك له وواجب أن يكون رفض الأشياء الخطيرة النفيسة في خدن طلبها والحرص عليها ، والكلب إذا أتعب نفسه في شدة النباح مقبلا عليك ومدبرا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش.

الفوائد :

الجملة الشرطية في محل نصب على الحال ، أي : لاهثا في الحالتين ،


قاله الزمخشري وأبو البقاء. قال بعضهم : «وأما الشرطية فلا تقع بتمامها موقع الحال ، فلا يقال : جاء زيد إن يسأل يعط ، على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه ، نحو : جاء زيد هو وإن يسأل يعط ، فيكون الواقع موقع الحال ، ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط. وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف ، والأول ترك الواو مستمرا فيه ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرط في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحولان الى معنى التسوية ، كالاستفهامين المتناقضين في قوله : «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» ، وأما الثاني فلا بد فيه من الواو ، نحو : أتيتك وإن لم تأتني ، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة ، فقوله : «إن تحمل عليه يهلث أو تتركه يلهث» من قبيل الأول ، لأن الحمل عليه والترك نقيضان. وهذا من أدق المباحث فتأمله لأنه جدير بالتأمل.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

اللغة :

(ذَرَأْنا) : خلقنا.


الاعراب :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) من اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليهد ، والله فاعله ، والفاء رابطة لجواب الشرط ، وهو مبتدأ ، والمهتدي خبره ، وقد راعى هنا لفظ «من» فأفرد المهتدي (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) عطف على الجملة السابقة ، وراعى هنا معنى «من» فجمع الخاسرين (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الواو عاطفة ليتساوق كلام الله تعالى في وصفهم ووصف مآلهم. واللام جواب للقسم المحذوف ، وذرأنا فعل وفاعل ، ولجهنم جار ومجرور متعلقان بذرأنا ، وكثيرا مفعول به ، ومن الجن والإنس صفة لـ «كثيرا» (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) لهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وقلوب مبتدأ مؤخر ، والجملة حال من «كثيرا» ، وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف ، وجملة لا يفقهون صفة لقلوب.

ومثل ذلك يقال في الجملتين التاليتين (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أولئك مبتدأ ، وكالأنعام جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وبل حرف إضراب وعطف ، وهم مبتدأ ، وأضل خبر ، وأولئك مبتدأ ، وهم ضمير فصل لا محل له ، والغافلون خبر أولئك ، أو «هم» مبتدأ ، والغافلون خبر «هم» ، وجملة هم الغافلون خبر أولئك.

البلاغة :

في الآية التشبيه التمثيلي ، فقد شبه اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه النبي


الموعود بمن عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان ، وجعلهم لإغراقهم في الكفر وإصرارهم على الضلال بمثابة من خلقوا للنار لا ينفكون عنها أبدا ، ثم شبههم بالأنعام بل بما هو دون الأنعام ارتكاسا وسفها وتدنيا في مهابط الرذيلة والآثام.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

اللغة :

(الْحُسْنى) : مؤنث الأحسن ، كالكبرى والصغرى ، وقيل :


الحسنى : مصدر وصف به كالرّجعى ، وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل في قوله : «ولي فيها مآرب أخرى» ، ولو طوبق به لكان التركيب الحسن كقوله : «من أيام أخر».

(يُلْحِدُونَ) : مضارع ألحد بمعنى مال وانحرف.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : سنستدنيهم قليلا الى ما يهلكهم ، والاستدراج النقل درجة بعد درجة ، من الدرج وهو الطيّ ، ومنه درج الثوب : إذا طواه.

(وَأُمْلِي) : الإملاء : الإمهال والتطويل.

(جِنَّةٍ) : بكسر الجيم وتشديد النون : أي جنون.

الاعراب :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) الواو استئنافية ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، والأسماء مبتدأ مؤخر ، والحسنى صفة ، فادعوه الفاء الفصيحة ، وادعوه فعل وفاعل ومفعول به ، وبها جار ومجرور متعلقان بادعوه (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الواو عاطفة ، وذروا فعل أمر وفاعل ، والذين اسم موصول مفعول به ، وجملة يلحدون صلة الموصول ، وفي أسمائه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، والمعنى واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيه (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) سيجزون فعل مضارع مبني للمجهول ، والواو نائب فاعل ، وما مفعول به ثان ، وجملة كانوا يعملون صلة الموصول ، وجملة يعملون خبر كانوا (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الواو عاطفة ، وممن جار ومجرور


متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وجملة خلقنا صلة الموصول ، وأمة مبتدأ مؤخر ، وجملة يهدون بالحق صفة لأمة ، وبه جار ومجرور متعلقان بيعدلون (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية ، والذين مبتدأ وجملة كذبوا صلة الموصول ، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا ، وجملة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون خبر ، ولك أن تنصب الذين بفعل محذوف على الاشتغال ، والتقدير : سنستدرج الذين كذبوا أي سننقلهم درجة بعد درجة من علو الى سفل ، أي نقربهم الى الهلاك بإمهالهم. ومن حيث جار ومجرور متعلقان بنستدرجهم ، وجملة لا يعلمون في محل جر بالإضافة (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) يجوز أن تكون الواو عاطفة ، وأملي معطوف على نستدرجهم ، على نحو من الالتفات ، والذي نراه أنها مستأنفة على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وأنا أملي لهم ، ولهم جار ومجرور متعلقان بأملي ، وإن كيدي متين الجملة بمثابة التعليل لقوته تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والواو عاطفة ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، ويتفكروا فعل مضارع مجزوم بلم ، وما نافية ، وبصاحبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ومن حرف جر زائد ، وجنة مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب معمولة ليتفكروا ، فهو عامل فيها ، لوجود المعلق له وهو «ما» النافية ، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية في محل رفع مبتدأ ، والخبر بصاحبهم ، ومن جنة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية ، وهو مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، ونذير خبر ، ومبين صفة (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) تقدم إعراب نظيرها ، وفي ملكوت السموات والأرض جار ومجرور متعلقان بينظر ،


وما عطف على ملكوت ، وجملة خلق صلة الموصول ، ومن شيء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) الواو عاطفة ، والجملة في محل جر عطفا على «ما» قبلها ، أي : في أن ، وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وخبرها جملة عسى ، واسم عسى مستتر ، وأن وما في حيزها خبرها ، واسم يكون ضمير الشأن أيضا ، وجملة قد اقترب أجلهم خبرها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية ، وبأي جار ومجرور متعلقان بيؤمنون ، والجملة مستأنفة مسوقة للتعجب ، أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره! والضمير عائد على القرآن أو الرسول (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) من اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليضلل ، والله فاعل ، والفاء رابطة ، ولا نافية للجنس ، وهادي اسمها ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو استئنافية ، وجملة يذرهم مستأنفة ، والهاء مفعول به ، في طغيانهم جار ومجرور متعلقان بيعمهون ، وجملة يعمهون حال من الهاء ، وقرئ : «ويذرهم» بالجزم عطفا على محل قوله :«فلا هادي له» المجزوم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا


إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

اللغة :

(السَّاعَةِ) : القيامة ، وسميت بذلك لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو على العكس لطولها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا.

(مُرْساها) مصدر ميمي من أرسى ، والإرساء الاستقرار والإثبات ، والثلاثي منه رسا ، ورسا الشيء ثبت ، ورست السفينة : وقفت عن الجري.

(يُجَلِّيها) : يظهرها.

(حَفِيٌّ) : مبالغ في السؤال ، والمراد كأنك عالم بها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه ورصن ، وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب.

الاعراب :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) جملة مستأنفة مسوقة لبيان نمط من ضلالاتهم. ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به ، وعن الساعة جار ومجرور متعلقان بيسألونك ، وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية ، وسيأتي في باب الفوائد اشتقاقه ، وهو متعلق


بمحذوف خبر مقدم ، ومرساها مبتدأ مؤخر ، والجملة بدل من الساعة.

وقيل : أيان متعلق بمحذوف ، أي يسألونك ، ومرساها فاعل لهذا الفعل المحذوف (قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) إنما كافة ومكفوفة ، وعلمها مبتدأ ، والظرف متعلق بمحذوف خبر ، وجملة لا يجليها حال ، ولوقتها جار ومجرور متعلقان بيجلّيها ، وجملة إنما وما في حيزها في محل نصب مقول القول وإلا أداة حصر ، وهو فاعل يجليها ، أو تأكيد للفاعل المستتر (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجملة مستأنفة ، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بثقلت ، سواء أكان «في» بمعنى «على» أو على بابها من الظرفية ، والمعنى حصل ثقلها ، وهو شدتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين أو عليهما (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ولا تأتيكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ، وإلا أداة حصر ، وبغتة حال أو مفعول مطلق (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) : الجملة مستأنفة ، وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة. ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به ، وجملة كأنك حالية ، وكأن واسمها ، وحفي خبرها ، وعنها جار ومجرور متعلقان بحفي (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تقدم إعرابها قريبا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها (قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لحسم أطماعهم بعد إعلان نفض يده منهم. وجملة لا أملك في محل نصب مقول القول ، ولا نافية وأملك فعل مضارع وفاعل مستتر ، ونفعا مفعول به ، ولنفسي جار ومجرور متعلقان بأملك ، أو بمحذوف حال من «نفعا» ، لأنه كان في الأصل صفة له لو تأخر عنه ، وإلا أداة استثناء ، وما مستثنى من «نفعا وضرا» أو بدل منهما ، وقيل :الاستثناء منقطع ، فهو متعين النصب على الاستثناء


(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) الواو استئنافية ، ولو شرطية ، وكان واسمها ، وجملة أعلم خبرها ، والغيب مفعول به ، ولا ستكثرت اللام واقعة في جواب لو ، واستكثرت فعل وفاعل ، ومن الخير جار ومجرور متعلقان باستكثرت ، والجملة لا محل لها (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الواو عاطفة ، وجملة ما مسني السوء عطف على استكثرت ، وما نافية (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن نافية ، وأنا مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، ونذير خبر ، وبشير عطف على نذير ، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنذير وبشير ، وجملة يؤمنون صفة لقوم.

البلاغة :

في قوله تعالى : «يسألونك كأنك حفيّ عنها» نوع من التكرير لم يدونه علماء البلاغة في معرض حديثهم عن التكرير ، وهو أن الكلام إذا بني على مقصد ما ، واعترض في أثنائه عارض ، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول ، وقد بعد عهده ، طرّي بذكر المقصد الأول ، لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدمت اليه الإشارة ، وهذا منها. فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله : «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله : «قل إنما علمها عند ربي» الى قوله «بغتة» أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله : «كأنك حفيّ عنها» وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده ، فطرّي ذكره تطرية عامة ، ولا نراه أبدا يطرّي إلا بنوع من الإجمال ، كالتذكرة للأول مستغني عن تفصيله بما تقدم ، فمن ثم قيل : «يسألونك» ولم يذكر المسئول عنه ـ وهو الساعة ـ اكتفاء بما تقدم. فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال : «قل إنما علمها عند الله».


الفوائد :

(أَيَّانَ) بمعنى متى ، إن كانت اسم استفهام أو اسم شرط ، وقيل اشتقاقه من «أي» وهي «فعلان» منه ، لأن معناه : أي وقت وأي فعل ، من أويت إليه ، لأن البعض آو الى الكل متساند إليه.

قاله ابن جني ، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان و «أين» مكان.

وقال غيره : أصل أيان «أي آن» فهي مركبة من «أي» المتضمنة معنى الشرط و «آن» بمعنى حين ، فصارتا بعد التركيب اسما واحدا ، للشرط في الزمان المستقبل ، مبني على الفتح ، وكثيرا ما تلحقها «ما» الزائدة للتوكيد ، كقوله :

إذا النعجة الأدماء بانت بقفرة

فأيّان ما تعدل به الريح تنزل

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢))


الاعراب :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) كلام مستأنف لخطاب أهل مكة. وهو مبتدأ ، والذي خبره ، وجملة خلقكم صلة ، ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم ، وواحدة صفة (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) جعل بمعنى خلق معطوف على خلقكم ، وفاعله ضمير مستتر ، ومنها جار ومجرور متعلقان بجعل ، وزوجها مفعول به ، واللام للتعليل ويسكن فعل مضارع منصوب وفاعله هو ، وإليها جار ومجرور متعلقان بيسكن والمراد بالنفس آدم ، وتأنيث الضمير باعتبار لفظ النفس (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، وجملة حملت لا محل لها ، وحملا إن كانت مصدرا فهي معفول مطلق ، وإن كانت بمعنى الجنين فهي مفعول به ، وخفيفا نعت أتى به للإشعار بعدم التأذي به كما يصيب الحوامل عادة من آلام الحمل ، أو إشارة الى ابتدائه وكونه نطفة لا تثقل البطن. والفاء عاطفة ، ومرت عطف على حملت ، وبه جار ومجرور متعلقان بمرت ، أي :ترددت في إنجاز مهامها وإظهارها من غير مشقة ولا إعنات (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) الفاء عاطفة ، ولما رابطة أو حينية ، ودعوا الله فعل ماض وفاعل ومفعول به وربهما بدل (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) اللام موطئة للقسم ، وجملة القسم مستأنفة لتدل على الجملة القسمية ، وإن شرطية ، وآتيتنا فعل وفاعل وهو فعل الشرط ، ونا مفعول به ، وصالحا صفة لمفعول محذوف نابت عنه ، أي : ولدا صالحا ، واللام واقعة في جواب القسم لتقدمه ، ونكونن فعل مضارع ناقص ، مبني على الفتح ، واسمها ضمير مستتر تقديره نحن ، ومن الشاكرين جار


ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ، وجملة لئن آتيتنا تفسيرية لجملة دعوا الله ، كأنه قيل : فما كان دعاؤهما؟ ما قالاه ، ولك أن تجعلها مقولا لقول محذوف تقديره : فقالا : لئن آتيتنا ، وجملة لنكونن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف على ما تقرر (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) شركاء مفعول جعلا ، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه كان في الأصل صفة لشركاء وتقدّم ، وفيما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشركاء ، وجملة آتاهما صلة ، والمعنى : آتى أولادهما ، وقد دل على ذلك قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك.

والفاء حرف عطف ، وجملة تعالى الله عطف على خلقكم ، وما بينهما اعتراض. ويجوز أن تكون الفاء استئنافية ، والجملة مستأنفة ، وسيأتي في باب الفوائد سرّ هذا الخطاب ، وما قاله العلماء فيه. والله فاعله ، وعما جار ومجرور متعلقان بتعالى ، وجملة يشركون لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، ويشركون فعل مضارع ، والواو فاعل ، وما مفعول به ، وجملة لا يخلق صلة الموصول ، والواو حالية ، وهم مبتدأ ، وجملة يخلقون بالبناء للمجهول خبر «هم» ، والواو نائب فاعل ، والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخهم على ما اقترفوه. وهذا الضمير يعود على الأصنام المعبر عنها بـ «ما» ، وعبر عنها بـ «ما» لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء ، ويجوز أن يعود على الكفار ، أي : وهم ومخلوقون لله ، فلو تفكروا في ذلك لآمنوا (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) الجملة معطوفة على سابقتها ، وأنفسهم مفعول به مقدم لينصرون.


الفوائد :

المراد في الخطاب الوارد في هذه الآيات شغل العلماء والمفسرين وخاضوا فيه كثيرا ، ولا يتسع المجال لنقل ما قالوه في هذا الصدد.

وأسلم ما نراه وأقربه الى الصواب والمعقول أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ، لا يقصد فيه الى معين ، ويكون المعنى حينئذ : خلقكم جنسا واحدا ، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من الجنسين كذا وكذا. وقيل : الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهم آل قصيّ ـ ألا ترى الى قوله في قصة أم معبد :

فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم

به من فخار لا يبارى وسؤدد

وقبل هذا البيت :

جزى الله ربّ الناس خير جزائه

رفيقين حلّا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا

فيا فوز من أمسى رفيق محمد

وبعده :

ليهن بني سعد مقام فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد


والقائل مجهول.

روى التاريخ أنه حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا يصحبه أبوبكر ، وجهل أهلهما خبرهما بعد خروجها من الغار ، هتف الهاتفون بهذا القول. وأم معبد امرأة من بني سعد ، نزلا عندها. و «يا لقصيّ» أصله : يا آل قصي ، أو تكون لام الاستغاثة ، والجار والمجرور متعلقان بما في «يا» من معنى الفعل.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

الاعراب :

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب عبدة الأصنام ، أي : وإن تدعوا آلهتكم الى طلب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مرادكم. وإن


شرطية. وتدعوهم فعل الشرط ، والواو فاعل. والهاء مفعول به يعود على الأصنام ، والى الهدى جار ومجرور متعلقان بتدعوهم ، ولا نافية ، ويتبعوكم جواب الشرط المجزوم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) سواء خبر مقدم ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بسواء ، والهمزة للاستفهام ، وهي همزة التسوية التي تؤوّل ما بعدها بمصدر ، وقد مر ذكرها في البقرة ، وهي وما في حيزها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر ، ولك أن تعرب «سواء» خبرا لمبتدأ محذوف ، والمصدر المؤول فاعل لسواء الذي أجري مجرى المصادر ، وأم عاطفة وتسمى متصلة ، وقد سبق ذكرها ، وأنتم مبتدأ ، وصامتون خبر ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدمها ، وإن واسمها ، وجملة تدعون صلة ، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. وعباد خبر إنّ ، وأمثالكم صفة لعباد ، ووصف الأصنام بأنها عباد أمثالهم مع أنها جمادات ، ولفظ العباد إنما يطلق على الأحياء العقلاء ، وعبّر عنها بضرورة في قوله : «فادعوهم» ، وقوله : «فليستجيبوا لكم» ، إنما ساغ ذلك كله لأنهم لما اعتقدوا ألوهيتها لزمهم كونها حية عاقلة وإن كانت في الواقع خلاف ذلك ، ولكن وردت الألفاظ على مقتضى اعتقادهم. وسيأتي مزيد من التحقيق في هذا في باب الفوائد (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا صح ذلك ـ وهو لم يصح إلا في اعتقادهم وعرفهم ـ فادعوهم. وادعوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وقوله : «فليستجيبوا» الفاء عاطفة ، واللام لام الأمر ، ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ، ولكم جار ومجرور متعلقان بيستجيبوا ، وإن شرطية ، وكنتم صادقين فعل الشرط ، والجواب محذوف دلت


عليه الفاء الفصيحة ، أي : فادعوهم ، وصادقين خبر كنتم (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) كلام مستأنف بمثابة التوبيخ لهم على عقولهم القاصرة.

والهمزة للاستفهام الإنكاري مع النفي ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وأرجل مبتدأ مؤخر وجملة يمشون بها صفة (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) أم عاطفة بمعنى بل ، والجملة معطوفة على سابقتها ، وكذلك قوله : (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي : ليس لهم شيء من ذلك البتة مما هو لكم ، فكيف تعبونهم؟ وأنتم أتمّ منهم وأكمل حالا (قُلِ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) جملة ادعوا شركاءكم مقول القول ، وثم حرف عطف وتراخ ، وكيدون عطف على ادعوا ، والفاء عاطفة ولا ناهية ، تنظرون فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وعلامة جزمه حذف النون ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم محذوفة ، وقد تقدم القول في جواز حذفها في البقرة.

البلاغة :

في قوله : «ألهم أرجل يمشون» بها الى قوله : «فلا تنظرون» فنّ بديعي معروف باسم نفي الشيء بإيجابه ، وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا ، ثم ينفي ما هو من سببه مجازا ، والمنفي حقيقة في باطن الكلام ، وهو الذي أثبته لا الذي نفاه ، وفي الآيات المتقدمة يقتضي نفي الإلهية جملة عمن يبصر ويسمع من الآلهة المتخذة من دون الله تعالى ، فكيف من لا يسمع ولا يبصر منها. وقد تقدمت له أمثلة ، وسيأتي المزيد منه.

الفوائد :

لم ير أشهر المفسرين إشكالا في إطلاق لفظ «عباد» على


الأصنام ، فابن جرير ـ الذي هو أشدهم عناية بتقرير كل ما كان يعدّ شكلا والجواب عنه ـ لم يورده في الآية ، وفسر العباد بالأملاك ، وأما من بعده من المفسرين فقد أوردوا ذلك وأجابوا عنه بجوابين نقلهما الرازي.

عبارة الرّازيّ :

أحدها : أن المشركين لما ادّعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعقتدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلا جرم وردت هذه الآية على وفق معتقداتهم ، ولذلك قال : «فادعوهم فليستجيبوا لكم» ، وقال : إن الذين ولم يقل «التي».

والجواب الثاني أن هذا لغو ورد في معرض الاستهزاء بهم ، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإذا ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ، ولا فضل لهم عليكم ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا؟ وجعلتموهم آلهة وأربابا.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ


وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))

اللغة :

(وَلِيِّيَ) : ناصري ومتولي أموري.

(الْعَفْوَ) : اليسر وضدّ الجهد. أي : خذ ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ، وما أتى منهم ، وتسهّل من غير تكلف ولا إعنات ، ولا تحرجهم وتشق عليهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى : «يسّروا ولا تعسّروا». وقال :

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

(العرف) : بضم العين : المعروف وكل جميل من الأفعال ، قال الحطيئة :من يفعل الخير لا يعدم جوازية لا يذهب العرف بين الله والناس (النزغ) : النخس والغرز ، شبه وسوسة الشيطان بغرز السائق لما يسوقه.

الاعراب :

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) إن واسمها وخبرها ، والذي


صفة لله ، وجملة نزل الكتاب صلة الموصول (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) الواو حالية أو عاطفة ، وهو مبتدأ ، وجملة يتولى الصالحين خبر (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) عطف على ما تقدم ، وقد مرّ إعرابه آنفا ، وأنفسهم مفعول به مقدم لينصرون (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) عطف أيضا ، وإن الشرطية وفعلها وجوابها (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الواو استئنافية ، وتراهم فعل مضارع ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، والهاء مفعول به ، وجملة ينظرون إليك حالية ، والواو للحال ، وهم مبتدأ ، وجملة لا يبصرون خبر ، وجملة وهم لا يبصرون حال أيضا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) خذ فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، والعفو مفعول به ، وفعلا الأمر الآخران عطف عليه (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ، أدغمت نونها بما الزائدة ، وينزغنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، وهو في محل جزم فعل الشرط. ومن الشيطان جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، لأنه في الأصل كان صفة لـ «نزغ» ، ونزغ فاعل ، فاستعذ : الفاء رابطة لجواب الشرط ، لأن الجواب بعدها طلبي ، واستعذ فعل أمر ، وفاعله مستتر تقديره أنت ، وبالله جار ومجرور متعلقان باستعذ ، وإن واسمها ، وخبرها ، وجملة إن وما في حيزها للتعليل والاستئناف.

البلاغة :

أعجب العرب كثيرا بقوله تعالى : «خذ العفو» الى آخر الآية ، لما فيها من سهولة سبك ، وعذوبة لفظ ، وسلامة تأليف ، مع ما تضمنته من إشارات بعيدة ، ورموز لا تتناهى ، وأطلقوا على هذا النوع من


الأساليب اسم فنّ يقال له «الانسجام» ، وهو أن يكون الكلام متحدّرا كتحدّر الماء المنسجم ، حتى يكون للجملة من المنثور وللبيت من المنظوم وقع في النفوس ، وتأثير في القلوب ، ما ليس لغيره.

نماذج شعرية من الانسجام :

ومن النماذج الشعرية لهذا الفنّ التي خلت من البديع ، إلا أن يأتي ضمن السهولة ، من غير قصد ، كقول بعضهم ، وينسب الى ديك الجنّ الشاعر الحمصي :

يا بديع الدّلّ والغنج

لك سلطان على المهج

إنّ بيتا أنت ساكنه

غير محتاج إلى السّرج

وجهك المأمول حجّتنا

يوم تأتي الناس بالحجج

ولبهاء الدين زهير :

لحاظك أمضى من المرهف

وريقك أشهى من القرقف

ومن سيف لحظك لا أتّقي

ومن خمر ريقك لا أكتفي

أقاسي المنون لنيل المنى

ويا ليت هذا بهذا يفي

زها ورد خدّيك لكنه

بغير النواظر لم يقطف

وقد زعموا أنه مضعف

وما علموا أنه مضعفي

ومما يستحق أن يغنى به قول صفيّ الدين ، وقد بلغ غاية الانسجام :


قالت : كحلت الجفون بالوسن

قلت : ارتقابا لطيفك الحسن

قالت : تسلّيت بعد فرقتنا

قلت : عن مسكني وعن سكني

قالت : تشاغلت عن محبتنا

قلت : بفرط البكاء والحزن

قالت : تخلّيت ، قلت عن جلدي

قالت : تغيّرت ، قلت : في بدني

قالت : أذعت الأسرار ، قلت لها :

صيّر سري هواك كالعلن

قالت : فماذا تروم؟ قلت لها :

ساعة سعد بالوصال تسعفني

قالت : وعين الرقيب ترقبنا

قلت : فإنّي للعين لم أبن

أنحلتني بالبعاد عنك فلو

ترصّدتني العيون لم ترني

ونختم هذه المختارة بالحكاية الآتية : قيل : إن بعض الأدباء اجتاز


بدار الشريف الرضي ، وقد أخنى عليها الزمان ، وأذهب بهجتها ، وأخلق ديباجتها ، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة. فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وتمثل بهذه الأبيات :

ولقد وقفت على ربوعهم

وطلولها بيد البلى نهب

فبكيت حتى ضجّ من لغب

نضوي وعجّ بعذلي الرّكب

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عني الطّلول تلفّت القلب

فمر شخص فقال له : أتعرف هذه الأبيات؟ فقال : لا قال : والله إنها لصاحب هذه الدار ، فتعجبا من غريب هذا الاتفاق ، والشيء بالشيء يذكر.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ


عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

اللغة :

(طائِفٌ) : يحتمل أن يكون اسم فاعل من طاف به الخيال يطيف طيفا ، أو مصدر منه ، وقد قرأ أهل البصرة «طيف» ، وكذا أهل مكة ، وقرأ أهل المدينة والكوفة : «طائف».

(اجْتَبَيْتَها) اجتبى الشيء : بمعنى جباه لنفسه ، أي : جمعه.

(الغدو) بضمتين جمع غدوة ، بضم الغين وسكون الدال ، وهي من طلوع الفجر الى طلوع الشمس.

(الْآصالِ) جمع أصيل وهو من العصر إلى الغروب.

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) إن واسمها ، وجملة اتقوا صلة ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن ، متضمن معنى الشرط ، وجملة مسهم في محل جر بالإضافة لوقوعها بعد الظرف ، والهاء مفعول به لمسّ ، وطائف فاعله ، ومن الشيطان جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائف ، وإذا وشرطها وجوابها الآتي خبر إن (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) جملة تذكروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، والفاء عاطفة ، وإذا فجائية ، وقد تقدم الكلام عنها ،


وهم مبتدأ ومبصرون خبر (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) اضطربت أقوال المعربين والمفسرين في هذه الآية ، وتفاديا للضياع في متاهات الأقوال المتشعبة نجتزئ بأشهر الأقوال وأقربها الى العقل والمنطق ، فنقول : وإخوانهم : الواو استئنافية ، وإخوانهم مبتدأ ، والضمير فيه يعود على الشيطان ، لأنه لا يراد به الواحد بل الجنس ، والضمير المنصوب في يمدونهم يعود على الكفار ، والمرفوع يعود على الشيطان ، والتقدير وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين ، وعلى هذا فالخبر جار على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أن الإمداد مسند الى الشياطين ، وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم؟ قال الزمخشري : وهذا الوجه أوجه ، لأن «إخوانهم» في مقابلة «الذين اتقوا» ، وفي الغي جار ومجرور متعلقان بيمدونهم ، وثم حرف عطف وتراخ ، ولا يقصرون عطف على يمدونهم ، ولا نافية. وهناك أوجه ترجع من حيث النتيجة إليه ، فنكتفي به (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا : لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) الواو حرف عطف ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة لم تأتهم في محل جر بالإضافة ، وبآية جار ومجرور متعلقان بتأتهم ، وجملة قالوا لا محل لها من الإعراب ، ولو لا حرف تحضيض ، فالكلام طلبيّ ، أي : اجتبها واخترعها من عند نفسك ، كما هي عادتك (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) إنما كافة ومكفوقة ، وأتبع فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة يوحى بالبناء للمجهول لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وإلي جار ومجرور متعلقان بيوحى ، ومن ربي جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هذه الجملة تتمة لقول القول ، داخلة في حيزه ، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، وبصائر خبره ، ومن


ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبصائر ، وهدى عطف على بصائر ، وكذلك رحمة ولقوم جار ومجرور متعلقان برحمة ، وجملة يؤمنون صفة لقوم (وَإِذا قُرِئَ ، الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو استئنافية ، والجملة مستأنفة ، ويحتمل أن تكون عاطفة ، والكلام من جملة المقول المأمور به ، وإذا شرط مستقبل ، وجملة قرئ القرآن في محل جر بالإضافة ، والقرآن نائب فاعل ، والفاء رابطة ، وجملة استمعوا له لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وله جار ومجرور متعلقان باستمعوا ، واختلف في الاستماع والمراد به ، وأظهر الأقوال أنه الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة ، وقيل : معنى «فاستمعوا» :فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. ولعل واسمها ، وجملة ترحمون خبرها ، وجملة الرجاء حالية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) الواو عاطفة ، واذكر فعل أمر ، وربك مفعول به ، وفي نفسك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وهو عام في الأذكار ، وتضرعا وخيفة في نصبهما وجهان : أحدهما أنهما مفعولان لأجلهما ، والثاني أنهما مصدران وقعا موقع الحال ، أي : متضرعين خائفين (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) الواو عاطفة ، ودون ظرف متعلق بمحذوف معطوف على في نفسك ، أي : في السّرّ وفي الجهر ، ومن القول جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، وبالغدو والآصال جار ومجرور متعلقان باذكر ، والواو عاطفة ، ولا ناهية ، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية ، ومن الغافلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) كلام مستأنف مسوق لذكر المؤمنين الذين استأهلوا القرب من الله. وإن واسمها ، وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من


الاعراب ، لأنه صلة الموصول ، وجملة لا يستكبرون خبر إن ، والمراد بالعندية القرب من الله والزلفى إليه ، وعن عبادته جار ومجرور متعلقان بيستكبرون ، ويسبحونه عطف على ما تقدم ، وله الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بيسجدون ، ويسجدون عطف على يسبحونه ، ويجوز ان تكون الواو حالية أو استئنافية ، وجملة يسبحونه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهم يسبحونه.

الفوائد :

وهذا فصل ممتع للإمام الغزالي ننقل بعضه لمناسبته ونفاسته.

قال : «ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشّهادة ، لأنّ المطلوب الخاتمة ، ونعني بالخاتمة وداع الدنيا والقدوم على الله تعالى ، والقلب مستغرق بالله عز وجل ، فلا يقدر على أن يموت على تلك الحالة إلا في صف القتال ، فانه قطع الطّمع عن مهجته وأهله ، وماله وولده ، بل من الدنيا كلّها ، فإنه يريدها لحياته. وقد هون على قلبه حياته في حب الله عز وجل ، وطلب مرضاته ، فلا تجرّد أعظم من ذلك ، ولذلك عظم أمر الشّهادة.

ولما استشهد عبد الله بن عمرو الأنصاريّ يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر : ألا أبشّرك يا جابر؟ قال : بلى بشّرك الله بالخير ، قال : إنّ الله أحيا أباك فأقعده بين يديه ، وليس بينه وبينه حجاب ولا رسول. فقال تعالى : تمنّ عليّ يا عبدي ، ما شئت أعطيكه.

فقال : يا ربّ! إن تردّني إلى الدنيا حتّى أقتل فيك وفي نبيّك مرّة أخرى. فقال الله عزّ وجل : سبق القضاء منّي بأنهم إليها لا يرجعون.

ثم القتل سبب الخاتمة على مثل هذه الحالة.


وصيّة عمر لبعض قوّاده :

وتعجبني دعوة عمر بن الخطاب إلى ذكر الله وخشيته ، رجاء غوثه ورحمته ، في وصية لبعض قواده : «أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو ، وأقوى المكيدة في الحرب ، وأن تكون أنت ومن معك أشدّ احتراسا من المعاصي فيكم من عدوّكم ، فإنّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، ولو لا ذلك لم تكن لنا بهم قوة ، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدّتنا كعدّتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، وإن لا ننصر عليهم بطاعتنا لم نغلبهم بقوتنا ، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله ، يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم ، واسألوا الله العون على أنفسكم ، كما تسألونه النصر على عدوكم».


سورة الأنفال

مدنيّة وآياتها خمس وسبعون

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

اللغة :

(الْأَنْفالِ) : جمع نفل ، بفتح النّون والفاء ، كفرس وأفراس ، والمراد بها الأغنام. والنّفل : الزيادة والغنيمة. ومنه قول لبيد :


إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

شبّه لبيد الثّواب الّذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل ، وهو ما يعده الإمام المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب ، فاستعار النفل نه على طريق الاستعارة التصريحيّة ، وأخبر به عن التّقوى ، لأنّها سببه. ويجوز استعارة النفل للتقوى بجامع النفع. وريثي : بطئي ، وعجل : أي عجلي ، فحذفت الياء لوزن الشعر. وفي المصباح : النّفل :الغنيمة : والجمع أنفال ، مثل سبب وأسباب ، والنّفل بسكون الفاء :مثله.

(وَجِلَتْ) وجل بالكسر في الماضي ، يؤجل بالفتح في المضارع ، وفيه لغة أخرى ، وهي وجل بفتح الجيم في الماضي ، وكسرها في المضارع ، فتحذف الواو ، كوعد يعد.

الاعراب :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تشريع الغنيمة في الجهاد ، ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به ، والضمير الفاعل هو من سأل هذا السّؤال ، ممن حضروا غزوة بدر. وسأل يكون تارة لا قتضاء معنى في نفس المسئول ، فيتعدى الى الثاني بعن ، كهذه الآية ؛ وقد يكون لاقتضاء مادة أو مال ، فيتعدّى لاثنين نحو سألت زيدا مالا. وعن الأنفال متعلقان بيسألونك كما تقدم ، وقل فعل أمر والأنفال مبتدأ ولله خبره والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول والرسول عطف على الله (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء


الفصيحة ، واتقوا فعل أمر وفاعل ، ولفظ الجلالة مفعول به ، وأصلحوا عطف على اتقوا ، وذات بينكم مفعول به ، ومعنى ذات بينكم : ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبّة واتّفاق. فالبين هنا بمعنى الاتّصال ، ويطلق أيضا على الفراق ، فهو من الأضداد.

وإن شرطية ، وكنتم فعل الشرط ، والتاء اسمها ، ومؤمنين خبرها ، والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إنما كافة ومكفوفة ، والمؤمنون مبتدأ ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان من أراد بالمؤمنين ، بذكر أوصافهم الجليلة المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث الآتية ، والذين خبر ، وإذا ظرف لما يستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة ذكر الله في محل جر بالإضافة ، والله نائب فاعل ، وجملة وجلت قلوبهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) عطف على الصفة الأولى ، وجملة زادتهم لا محل لها ، وإيمانا مفعول به ثان أو تمييز (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صفة ثالثة داخلة في نطاق الصلة للموصول ، وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون ، والتقديم يفيد الاختصاص ، أي : عليه لا على غيره (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وأردف الصفات الثلاث المتقدمة ـ وهي من أفعال القلوب ، وهي الخشية والإخلاص والتوكل ـ بصفتين من أعمال الجوارح ، وهما إقامة الصلاة والصدقة. وقد تقدم إعراب نظائرها (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) اسم الاشارة مبتدأ ، وهم ضمير فصل أو خبر ثان ، والمؤمنون خبر على كل حال ، والجملة خبر اسم الإشارة ، والجملة مستأنفة ، وحقا صفة لمصدر محذوف ، أي هم المؤمنون إيمانا حقا ، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لهم جار ومجرور


متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، ودرجات مبتدأ مؤخر ، وعند ربهم ظرف متعلق بدرجات لأنها بمعنى أجور أو يتعلق بمحذوف صفة لدرجات لأنها نكرة ، ومغفرة ورزق كريم عطف على درجات.

الفوائد :

روى التاريخ أن الاختلاف وقع بين المسلمين في غنائم بدر وقسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف نقسم؟ ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟ فقيل لهم : هي للرسول وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء ، ليس لأحد غيره فيها حكم ، وقيل : شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله فتسارع شبّانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، فلما يسر الله الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال الشيوخ الوجوه الذين كانوا عند الرايات : إنا كنا رداءا لكم ، وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم ، وقالوا لرسول الله : المغنم قليل والناس كثير ، وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك فنزلت.

قصة سعد بن أبي وقاص :

وعن سعيد بن أبي وقّاص : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض ، يعني المال المقبوض ، فطرحته وبي مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله وقد أنزلت سورة


الأنفال فقال : يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب وخذه.

رواية عبادة بن الصامت :

وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا معشر أصحاب بدر ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩))


اللغة :

(الشَّوْكَةِ) للشوكة معان كثيرة وهي هنا بمعنى البأس والقوة والسلاح ، وحدته على أن جميع معانيها ترجع الى معنى التفوق والظهور والغلبة ، ومن معانيها إبرة العقرب ، وحمرة تعلو الجسد ، والنكاية في العدوّ ، يقال : لا تشوكك مني شوكة ، أي لا يلحقك مني أذى.

وشوكة الحائك : الآلة التي يسوّى بها السدى واللحمة ، ويقال :شاكت إصبعه شوكة ، وشوّكت النخلة : خرج شوكها ، وشوكت الحائط : جعلت عليه الشوك ، ومن المجاز : شوّك الزرع وزرع مشوّك إذا خرج أوله ، وشوّك ثدي الجارية وتشوّك : إذا بدأ خروجه.

قال :

أحببت هذي قديما وهي ماشية

وما تشوّك ثدياها وما نهدا

وإذا استعرضنا مادة الشين والواو فاء وعينا للكلمة وجدنا خاصة عجيبة لها كأنها قد وضعت خاصة لمعاني الظهور والتأثير والارتفاع والتفوق ، فالشوب : خلط الشيء بغيره بحيث يؤثر فيه ، يقال : شاب العسل بالماء وكأن ريقتها خمر يشوبها عسل ، ولهم المشاجب والمشاوب وهي أسفاط وحقق تتحذ من الخوص ، وشوّرت به فتشوّر ومنه قيل : أبدى الله شوارك أي عورتك ، وفي حديث الزّبّاء : أشوار عروس ترى؟ وهذا من عجيب أمر لغتنا العربية الشريفة فافهم وتدبر.

الاعراب :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) كما يجوز أن تكون الكاف


بمعنى مثل ومحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال اخراجك ، ويجوز أن تكون حرفا جارا ، ومحل الجار والمجرور الرفع كما تقدّم والمعنى : ان حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ، ويجوز أن يكون محلها النصب على أنها صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله : الأنفال لله والرسول ، أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. وقد توسّع المعربون القدامى في التقدير والتأويل ، وأنهاها بعضهم الى عشرين وجها ولكنها لا تخرج عما ذكرناه. ومن بيتك جار ومجرور متعلقان بأخرج ، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسا بالحق والحكمة والصواب الذي لا محيد عنه ، وسيأتي في باب الفوائد ذكر بعض الحوادث التاريخية التي توضح هذا المعنى والاعراب (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الواو حالية وإن واسمها ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، واللام المزحلقة وكارهون خبر إن ، والجملة في محل نصب حال من الكاف في أخرجك ، أي أخرجك في حالة كراهتهم (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) الجملة مستأنفة مسوقة للإخبار عن حالهم بالمجادلة ، ويجوز أن تكون حالا ثانية من الكاف أي أخرجك في حال مجادلتهم إياك أو من الضمير في كارهون أي لكارهون في حال الجدال ، وفي الحق جار ومجرور متعلقان بيجادلونك وبعد ظرف زمان متعلق بيجادلونك وما مصدرية وهي وما في حيزها مصدر مضاف للظرف أي بعد تبينه وخروجه وهو أقبح من الجدال في الشيء قبل اتضاحه (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الجملة حالية من الضمير في «لكارهون» أي حال كونهم مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار الى القتل ، وكأنما كافة


ومكفوفة ، ويساقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الموت جار ومجرور متعلقان بيساقون ، والواو حالية وهم ينظرون جملة في محل نصب على الحال. (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الواو عاطفة وإذ ظرف متعلق بفعل محذوف أي «واذكر إذ» وجملة يعدكم الله في محل جر بالإضافة وإحدى الطائفتين مفعول به ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : الظفر بإحدى الطائفتين ، والطائفتان العير والنفير (أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ان واسمها ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من أحد الطائفتين ، وتودون : الواو حالية أو عاطفة ، وتودون فعل مضارع مرفوع وعلامة بثبوت النون والواو فاعل ، وأن وما في حيزها مفعول تودّون ، وجملة تكون خبر أن ، ولكم جار ومجرور لكم العير لأنها الطائفة التي لا شوكة لها ولا تريدون الطائفة الأخرى (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة ويريد الله فعل وفاعل وأن مصدرية وهي وما في حيزها مفعول يريد ، وبكلماته جار ومجرور متعلقان بيحق. ويقطع دابر الكافرين جملة معطوفة ، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) اللام للتعليل ويحق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة واللام وما في حيزها متعلقان بمحذوف تقديره فعل ذلك ليحق الحق ويبطل الباطل وليس هذا تكريرا لما قبله لأن الأول خاص والثاني عام فالمراد بالأول تثبيت ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر. والمراد بالثاني تدعيم الدين وتقويته وإظهار الشريعة وتثبيتها.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف ، أي : واذكروا ، ويجوز أن يتعلق بيحق ، وعبّر بالحق حكاية للحال الماضية ولذلك عطف عليه : فاستجاب لكم بصيغة الماضي (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الفاء عاطفة كما تقدم ولكم جار ومجرور


متعلقان باستجاب وإن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي :بأني ممدكم ، والجار والمجرور متعلقان باستجاب أيضا ، وممدكم خبر إن ، وبألف جار ومجرور متعلقان بممدكم ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لألف ، ومردفين صفة ثانية ومفعول مردفين محذوف لأنه اسم فاعل أي أمثالهم أي متبعين بعضهم بعضا ، أو متبعين بعضهم لبعض.

الفوائد :

ما يقوله التاريخ؟ :

أقبلت عير قريش من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا ، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقّي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم إن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبدا ، ثم خرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس الى مكة ، فقال : لا والله لن يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ، ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع العرب بمخرجنا ، وإن محمدا لم يصب العير وإنا قد أعضضناه فمضى بهم الى بدر ، وبدر ماء كانت العرب تجمع فيه نوقهم يوما في السنة ، فنزل جبريل فقال : يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إما العير وإما فريشا ، فاستشار النبي أصحابه وقال : ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا


من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّ عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول عليك بالعير ودع العدوّ ، فقام عند غضب النبي أبوبكر وعمر فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فو الله لو سرت بنا الى عدن لسرنا ما تخلّف رجل ، ثم قال المقداد : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيث لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف ، فضحك رسول الله ثم قال : أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا برآء من ذمامك حتى تصل الى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد ابن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ، قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر الى مضارع القوم. وقد أطلنا في الاقتباس لأهمية هذا الفصل وبلاغته.


خلاصة مفيدة لأقوال المعربين في «كما» :

اختلفوا على خمسة عشر قولا :

١ ـ ان «الكاف» بمعنى واو القسم و «ما» بمعنى «الذي» واقعة على ذي العلم وهو الله ، وجواب القسم يجادلونك. قاله أبو عببيدة.

٢ ـ إن الكاف بمعنى «إذا» و «ما» زائدة والتقدير : اذكر إذ جاءك ٣ ـ إن الكاف بمعنى «على» و «ما» بمعنى «الذي».

٤ ـ وقال عكرمة : التقدير : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، كما أخرجكم في الطاعة خير لكم كان إخراجك خيرا إليهم.

٥ ـ قال الكسائي : كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون.

٦ ـ قال الفراء : امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك.

٧ ـ قال الأخفش : الكاف نعت لـ «حقا» والتقدير : هم المؤمنون حقا كما.

٨ ـ ان الكاف في موضع رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر.


٩ ـ قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، والتقدير : الأنفال ثابتة لله ثباتا كما أخرجك ربك.

١٠ ـ إن الكاف في موضع رفع ، والتقدير : لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ، وهذا وعد حق كما أخرجك.

١١ ـ إن الكاف في موضع رفع أيضا ، والمعنى : وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك ، فالكاف نعت لخبر ابتداء محذوف.

١٢ ـ إنه شبه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها ، وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال : «يرتفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال اخراجك».

١٣ ـ ان قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقا.

١٤ ـ إن التشبيه وقع بين اخراجين ، أي : اخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كاخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر.

١٥ ـ الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده : كما وجهتك الى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وقوّيتك فخذهم الآن فعاقبهم بكذا ، وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك فاشكرني عليك.

وواضح أن مرجع هذه الأوجه واحد فتدبر والله يعصمك.


البلاغة :

١ ـ التشبيهات التمثيلية الواردة في الآيات قد أشرنا إليها أثناء الإعراب لعلاقتها الوثيقة به.

٢ ـ العموم والخصوص في قوله تعالى «ليحق الحق ويبطل الباطل» بعد قوله : «يريد الله أن يحق الحق بكلماته». والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكرت فيه الارادة مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة كأنه قيل : وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة ، فبين الكلامين عموم وخصوص واطلاق وتقييد ، ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين : اطلاق وتقييد.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

الاعراب :

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) الواو استئنافية أو عاطفة على ما تقدم ،


وما نافية ، وجعله الله فعل ومفعول به وفاعل ، والضمير يعود للامداد ، وإلا أداة حصر وبشرى مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتطمئن فعل مضارع منصوب أن مضمرة بعدها والجار والمجرور عطف على بشرى ، وجر المفعول من أجله باللام هنا لفقد شرط النصب وهو اتحاد الفاعل ، وقلوبكم فاعل تطمئنّ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) الواو استئنافية أو حالية أيضا ، وما نافية والنصر مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الجملة الاسمية تعليل لما تقدم (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) إذ ظرف مبدل من إذ يعدكم وهو ثاني بدل كما تقدم ، وجملة يغشيكم النعاس في محل جر بالاضافة والنعاس مفعول به وأمنة حال أو مفعول من أجله ، ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمنة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وينزل عطف على يغشيكم وعليكم جار ومجرور متعلقان بينزل وكذلك من السماء ، وماء مفعول به ، وليطهركم : اللام للتعليل ويطهركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها ، وبه جار ومجرور متعلقان بيطهركم (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) جمل معطوفة على ما تقدم والضمير في به يعود على الماء حتى يسهل المشي على الرمال لأن العادة ان المشي عليها عسر فإذا نزل عليه الماء جمد ، وسهل المشي عليه وقيل الضمير يعود على الربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبت الأقدام في مواطن القتال.


(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

اللغة :

(البنان) : الأصابع كما في المصباح أو أطرافها ، الواحدة : بنانة.

وقال أبو الهيثم : البنان : المفاصل وكل مفصل بنانة. وقيل : البنان الأصابع من اليدين والرجلين وجميع المفاصل من كل الأعضاء.

(شَاقُّوا) : خالفوا والمشاقّة مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في عدوة خلاف عدوة صاحبه وكذلك المخاصمة لأن هذا في خصم أي في جانب وذلك في خصم.

الاعراب :

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الظرف يجوز أن يكون بدلا ثالثا من إذ يعدكم ويجوز أن ينتصب بيثبت أو أن يكون معمولا لمحذوف ، أي : «اذكر» وجملة يوحي ربك في محل جر بالاضافة ، والى الملائكة جار ومجرور متعلقان بيوحي ، وأني وما في حيزها مفعول يوحي ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر أني (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الفاء الفصيحة أي إذا ثبت هذا فثبتوا الذين آمنوا بتبشيرهم بالنصر ، والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (سَأُلْقِي


فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) يجوز أن تكون الجملة تفسيرا لقوله :إني معكم فثبتوا ، ولا معونة أوكد وأجدى من إلقاء الرعب في قلوب الأعداء ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، وفي كلتا الحالين لا محل لها من الاعراب ، وفي قلوب جار ومجرور متعلقان بألقي ، والرعب مفعول به لألقي ، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) فعل أمر وفاعل ، وفوق ظرف متعلق باضربوا والمفعول به محذوف ، أي فاضربوهم فوق الأعناق ، ويجوز أن تكون «فوق» مفعولا به على الاتساع لأنه عبارة عن الرأس.

كأنه قيل : فاضربوا فوق رؤوسهم وهذا ما اختاره الزمخشري ، قال : «أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس ، وقيل : أراد الرؤوس لأن نها فوق الأعناق بمعنى ضرب الهام ، قال عمرو بن الاطنابة :

أبت لي عفّتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقدامي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

لأدفع عن مآثر صالحات

وأحجب بعد عن عرض صحيح

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) اسم الاشارة مبتدأ ، والاشارة الى ما أصابهم من الضرب والقتل والعذاب وبأنهم خبره ، وجملة شاقّوا الله ورسوله خبر أن ، ولفظ الجلالة مفعول به ، ورسوله عطف عليه.

(وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الواو استئنافية ، ومن شرطية مبتدأ ، ويشاقون فعل الشرط ، والفاء رابطة ، وإن واسمها ، وخبرها ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، والشرط هنا تكملة لما قبله وتكرير لمضمونه (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) اسم الاشارة مبتدأ ، والخطاب للكفرة على طريق الالتفات ، والخبر محذوف تقديره :


العقاب ، ولك أن تعرب اسم الاشارة خبرا لمبتدأ محذوف ، أي :العقاب ذلكم ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال ، كقولك :زيدا فاضربه ، وعلى كل حال فالفاء استئنافية ، وذوقوه كلام مستأنف ، وأن عطف على ذلكم في أوجهه الثلاثة ، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «أن» المقدم ، وعذاب النار اسمها المؤخر ، والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل.

البلاغة :

في هذه الآيات فنون عديدة من البلاغة ، ألمعنا إليها خلال الاعراب لعلاقتها به ، وهي المجاز والالتفات والاستعارة في قوله : «فذقوه» ، وقد تقدمت هذه الفنون في مواطنها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))


اللغة :

(زَحْفاً) : الزحف مصدر زحف ، وفي المصباح : زحف القوم زحفا من باب نفع وزحوفا ، ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر ، والجمع : زحوف ، مثل فلس وفلوس ، والصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي.

(مُتَحَرِّفاً) : منعطفا ، أو هو الكرّ بعد الفرّ ، ليخيل لعدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها.

(مُتَحَيِّزاً) : منحازا منضما ، والتحيز والتحوّز : الانضمام ، وتحوّزت الحية : انطوت ، وحزت الشيء : ضممته ، والحوزة ما يضم الأشياء. وأصل متحيز : متحيوز ، فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداها بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء بالياء.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : تقدم إعرابها كثيرا (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط ، وجملة لقيتم في محل جر بالإضافة ، والذين مفعوله ، وجملة كفروا صلة ، وزحفا حال من الذين ، أي : حال كونهم زاحفين ، وقيل : انتصب «زحفا» على المصدر بحال محذوفة ، أي : زاحفين زحفا ، وهذا الذي قيل محكم ، فحرم الفرار عند اللقاء بكل حال ، والفاء رابطة ، ولا ناهية ، وتولوهم فعل مضارع مجزوم بلا ، والواو فاعل ، والهاء مفعول به ، والأدبار : مفعول به ثان (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ


دُبُرَهُ) الواو استئنافية ، ومن شرطية مبتدأ ، ويولهم فعل وفاعل مستتر ومفعوله الأول ، ودبره مفعول يولهم الثاني ، ويومئذ ظرف مضاف لظرف وهو متعلق بيولهم (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) «إلا» يجوز أن تكون أداة حصر لتقدم النهي ، ومتحرفا حال ، ويجوز أن تكون «إلا» أداة استثناء ، ومتحرفا مستثنى من ضمير المؤمنين ، ولقتال جار ومجرور متعلقان بـ «متحرفا» ، أو متحيزا الى فئة عطف على سابقه (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط لاقتران الجواب بقد ، وباء : فعل ماض ، وبغضب جار ومجرور متعلقان بباء أو بمحذوف حال ، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية أو عاطفة ، ومأواه مبتدأ ، وجهنم خبره ، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ، والمصير فاعل بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : مصيرهم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) الفاء الفصيحة ، أي : إذا افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، فقد وقعت جوابا لشرط مقدر ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ، وتقتلوهم فعل مضارع مجزوم بلم ، والواو حرف عطف ، ولكن حرف مشبه بالفعل ، وقد جاءت أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات ، والله اسمها ، وجملة قتلهم خبرها (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) عطف على ما تقدم ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق برميت ، والواو عاطفة ولكن واسمها ، وجملة رمى خبرها (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة ، واللام للتعليل ، ويبلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة ، وأن وما في حيزها في محل جر باللام متعلقان بفعل محذوف ، تقديره :فعل ذلك ، والمؤمنين مفعول به ، وبلاء مفعول مطلق ، والبلاء هنا محمول على النعمة لأنه يقع على النعمة والمحنة معا ، لأن أصله الاختبار ،


فهو مردوده ، وحسنا صفة ، وإن الله سميع عليم عطف على ما تقدم ، وإن واسمها وخبراها (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) تقدم إعراب نظير اسم الإشارة ، فهو مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي ذلكم الإبلاء حق ، وأن الله أن وما في حيزها عطف على ذلكم ، وموهن خبر «أن» ، وكيد الكافرين مضاف لموهن ، والإشارة للقتل والرمي والإبلاء ، ويجوز أن تكون «أن» وما في حيزها عطف على «وليبلي» أو في محل نصب بفعل مقدر ، أي : واعلموا أن الله.

البلاغة :

١ ـ فن التعريض :

في قوله تعالى «ومن يولهم يومئذ دبره» فن يقال له : فن التعريض وبعضهم يدخله في ضمن الكناية ، قال السعد التفتازاني : «الكناية إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض ، فقال عرضت لفلان وعرضت بفلان ، إذا قلت قولا وأنت تعنيه فكأنك أشرت الى جانب وتريد جانبا آخر ، ومنه المعاريض في الكلام ، وهي التورية بالشيء عن الشيء» وقال الزمخشري : «الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، فكأنه أمال الكلام الى عرض يدل على المقصود ، وعرض الشيء بالضم ناصيته من أي وجه جئته».

وقال ابن الأثير في المثل السائر : «الكناية ما يدل على معنى يجوز حمله على جانب الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما ، ويكون في المفرد


والمركب ، والتعريض هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح والإشارة ، فيختص باللفظ المركب ، كقول من يتوقع صلة : والله إني. محتاج ، فإنه تعريض بالطلب مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ، وإنما فهم منه المعنى ، من عرض اللفظ ، أي : جانبه».

إذا عرفت هذا سهل عليك أن تعرف سر التعريض في هذا التعبير الرشيق بالآية ، فقد ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها ، فأتى بلفظ الدبر دون الظهر.

وقد ولع أبو الطيب بهذا الفن ، فقد قال يعرض بكافور الاخشيدي :

ومن ركب الثور بعد الجوا

د أنكر أظلافه والغبب

يريد أن من ركب الثور وكان من عادته أن يركب الجواد ينكر أظلاف الثور وغببه ، وأما من كان مثل كافور وقد سبق له ركوب الثور فلا ينكر ذلك إن ركبه بعد الجواد. وقال أيضا يستزيد كافورا من الجوائز بعد مدحه :

أبا المسك هل في الكأس فضل أناله

فإني أغني منذ حين وتشرب

يقول مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب ، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك. ثم قال بعده :

وهبت على مقدار كفّي زماننا

ونفسي على مقدار كفّيك تطلب


٢ ـ فن الاستدراك والرجوع :

وهو الكلام المشتمل على لفظة «لكن» ، وهو قسمان : قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير ، وقسم لا يتقدمه ، ومن القسم الثاني قوله تعالى : «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» ، فقد أتى الاستدراك في هذه الكلمات في موضعين كل منهما مرشح للتعطف ، فان لفظة تقتلوهم وقتلهم ، ورميت ورمى ، تعطف.

وهذا أقرب استدراك وقع في الكلام لتوسط حرفه بين لفظي التعطف في الموضعين. وسيأتي مثال القسم الأول قريبا.

ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب :

هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى

وأحسن منه كرّهم في المكارم

ولو لا احتقار الأسد شبّهتها بهم

لكنّها معدودة في البهائم

وما أحسن قول بعضهم في الرأس المصلوب على الرمح :

وعاد لكنّه رأس بلا جسد

يمشي ولكن على ساق بلا قدم

إذا تراءى على الخطي أسفر في

حال العبوس لنا عن ثغر مبتسم


الفوائد :

روى التاريخ أنه لما كان يوم أحد أخذ أبيّ بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : استأخروا ، فاستأخروا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف وكسر ضلعا من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف الى أصحابه ثقيلا ، فاحتملوه حين ولّوا قافلين ، فطفقوا يقولون : لا بأس. فقال أبيّ حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله. فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه. قال ابن المسيب وفي ذلك أنزل الله :«وما رميت إذ رميت».

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ


الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

اللغة :

(تَسْتَفْتِحُوا) : تطلبوا الفتح ، أي : القضاء والحكم بينكم وبين محمد بنصر المحق وخذلان المبطل ، روي أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة ، وقالوا : اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. أي : أهلكه.

(الدَّوَابِّ) : جمع دابّة. والمراد بها هنا الإنسان. وإطلاق الدابة على الإنسان حقيقي لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا. وفي المصباح : الدابة كل حيوان في الأرض مميز أو غير مميز.

الاعراب :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إن شرطية ، وتستفتحوا فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط ، والفاء رابطة لاقتران الجواب بقد ، وقد حرف تحقيق ، وجاءكم الفتح فعل ومفعول به وفاعل (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) عطف على ما تقدم ، والإعراب مماثل لما قبله ، واقتران الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ وخبر. وجملة الجواب في الموضعين في محل جزم (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) عطف أيضا.

وجملة الجواب لا محل لها. (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ)


عطف أيضا ، وفئتكم فاعل تغني ، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به ، والواو حالية ، ولو شرطية ، وكثرت فعل الشرط ، والجواب محذوف.

(وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا ، وفتح همزة «أن» بتقدير اللام ، والتقدير ولأن الله مع المؤمنين ، والله اسم أن ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الخبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أطيعوا فعل أمر وفاعل ، والله مفعول به ، ورسوله عطف على الله ، وجملة ولا تولوا عطف على جملة أطيعوا ، ولا ناهية ، وتولوا مضارع مجزوم بلا الناهية ، والواو فاعل ، وعنه جار ومجرور متعلقان بتولوا ، وأنتم : الواو حالية ، وأنتم مبتدأ ، وجملة تسمعون خبر (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) عطف على ما تقدم ، والكاف اسم بمعنى مثل خبر تكونوا ، وهي حرف جر ، والجار والمجرور خبر ، وجملة قالوا صلة ، وجملة سمعنا مقول القول ، والواو حالية ، وجملة هم لا يسمعون في محل نصب على الحال.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) إن واسمها ، وعند الله الظرف متعلق بمحذوف حال ، والصم خبر إن ، والبكم خبر ثان ، والذين صفة ، وجملة لا يعقلون صلة (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) الواو استئنافية ، ولو حرف امتناع لامتناع متضمن معنى الشرط ، وعلم الله فعل وفاعل ، وفيهم جار ومجرور متعلقان بعلم ، وخيرا مفعول به ، ولأسمعهم : اللام رابطة لجواب لو ، وأسمعهم فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الواو عاطفة ، ولو لمجرد الربط ولا يصح أن تكون امتناعية ، لأنه يصير المعنى : انتفى توليهم لانتفاء إسماعهم ، وهذا خلاف الواقع فهي حينئذ لمجرد الربط بمعنى إن ، وأسمعهم فعل ماض والهاء مفعول به ، لتولوا : اللام رابطة ، وتولوا فعل ماض وفاعل ، والواو حالية ، وهم


معرضون مبتدأ وخبر والجملة حالية ، والفرق بين الإسماعين أن يراد بالإول : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول ، ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء بل إسماعا مجردا من ذلك لتولوا وهم معرضون.

الفوائد :

قال ابن هشام :

«لهجت الطلبة بالسؤال عن قوله تعالى : «ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا» وتوجيهه أن الجملتين يتركب معهما قياس ، وحينئذ فنتج : لو علم الله فيهم خيرا لتولوا ، وهذا مستحيل.

والجواب من ثلاثة أوجه : اثنان يرجعان الى نفي كونه قياسا ، وذلك بإثبات اختلاف الوسط ، أحدهما أن التقدير لأسمعهم إسماعا نافعا ولو أسمعهم إسماعا لتولوا. والثاني أن يقدر : ولو أسمعهم ، على تقدير عدم علم الخير فيهم. الثالث بتقدير كونه قياسا متحد الوسط صحيح الانتاج ، والتقدير : ولو علم الله فيه خيرا وقتا ما لتولوا بعد ذلك الوقت.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ


تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) استجيبوا فعل أمر وفاعل ، ولله جار ومجرور متعلقان باستجيبوا ، وللرسول عطف على لله ، وإذا ظرف مستقبل ، وجملة دعاكم في محل جر بالإضافة ، ولما جار ومجرور متعلقان بدعاكم ، وجملة يحييكم صلة ما. واختلفوا في قوله «لما يحييكم» ، والأصح أنه عام شامل لكل ما فيه حياة القلوب والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) واعلموا عطف على استجيبوا ، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا ، وجملة يحول خبر أن ، وبين ظرف متعلق بيحول ، والمرء مضاف إليه ، وقلبه عطف على المرء. وسيأتي معنى المجاز في حيلولة الله بين المرء وقلبه في باب البلاغة (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عطف على أنّ الله ، وإليه جار ومجرور متعلقان بتحشرون ، وجملة تحشرون خبر أنّ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) واتقوا عطف على استجيبوا واعلموا ، وفتنة مفعول به ، وجملة لا تصيبن صفة لفتنة ، و «لا» على ذلك نافية ، ويجوز أن تكون معمولا لقول محذوف ، وتكون لا ناهية ، وذلك القول هو الصفة ، أي : فتنة مقولا فيها : لا تصيبن ، والنهي في


الصورة للمصيبة ، وفي المعنى للمخاطبين ، وقد أعربها الزمخشري إعرابا جميلا حيث قال : ما نصه بالحرف : وقوله : «لا تصيبن» لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر أو نهيا بعد أمر ، أو صفة لفتنة. فإذا كان جوابا فالمعنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم.

وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرا فغمهم الله بالعذاب. وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنبا أو عقابا ثم ، قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة ، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنه قيل ، واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن ، ونظيره قوله :

حتى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ

والذين مفعول به ، وجملة ظلموا صلة ، ومنكم حال ، وخاصة منصوبة على الحال من الفاعل المستتر في قوله : لا تصيبن ، وأصلها أن تكون صفة لمصدر محذوف ، تقديره : إصابة خاصة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) واذكروا عطف على اعلموا ، وإذ نصب الظرف هنا على أنه مفعول به لا ظرف ، أي : اذكروا وقت كونكم أقلة مستضعفين ، وجملة أنتم قليل مضافة للظرف ، وأنتم مبتدأ أخبر عنه بثلاثة أخبار ، وهي قليل ومستضعفون وفي الأرض (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) جملة تخافون صفة كالتي قبلها ، أي : خائفون ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في «قليل» و «مستضعفون» ،


وأن وما في حيزها مفعول تخافون ، والناس فاعل يتخطفكم (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الفاء عاطفة ، وآواكم فعل ماض وفاعل مستتر ، وعطف عليه ما بعده ، ولعل واسمها ، وجملة تشكرون خبرها.

الفوائد :

قال ابن هشام في المغني ما نصه : «قوله تعالى : «لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» فإنه يجوز أن تقدر لا ناهية أو نافية ، وعلى الأول فهي مقولة لقول محذوف هو الصفة ، أي : فتنة مقولا فيها ذلك ، ويرجحه أن توكيد الفعل بالنون بعد لا الناهية قياس ، نحو :«ولا تحسبن الله غافلا» وعلى الثاني فهي صفة لفتنة ، ويرجحه سلامته من تقدير القيد الثاني صلاحيتها للاستغناء عنها ، وخرج بذلك الصلة ، وجملة الخبر ، والجملة المحكية بالقول ، فإنها لا يستغنى عنها ، بمعنى أن معقولية القول متوقفة عليها.

وقال أبو حيان : «والجملة من قوله «لا تصيبن» خبرية صفة لقوله : «فتنة» ، أي : غير مصيبة الظالم خاصة. إلا أن دخول نون التوكيد على المنفي بـ «لا» مختلف فيه ، فالجمهور لا يجيزونه ، ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور. والذي نختاره الجواز ، وإليه ذهب بعض النحويين. وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل منفيا بـ «لا» مع الفصل ، نحو قوله :

فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه

وإن قال قرّظني وخذ رشوة أبى


ولا ذا بئيس يتركنّ لبؤسه

فينفعه شكوى إليه إن اشتكى

فلأن تلحقه مع غير الفصل أولى ، نحو : ولا تصيبن.

البلاغة :

١ ـ المجاز في قوله تعالى : «يحول بين المرء وقلبه». فأصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل : حال الشيء يحول ، وباعتبار الانفصال قيل : حال بينهما فحقيقة كون الله يحول بين المرء وقلبه أنه يفصل بينهما ، فهو مجاز مرسل عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب الى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، فالعلاقة المحلية أو السببية. ويجوز أن يكون الكلام استعارة تمثيلية لغاية قربه من العبد ، واطلاعه على مكنونات القلوب وسرائر النفوس.

٢ ـ واختلف في «لا» من قوله تعالى : «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» على قولين :

أ ـ أن «لا» ناهية ، وهو نهي بعد أمر ، أي : إنه كلام منقطع عما قبله ، كقولك : صلّ الصبح ولا تضرب زيدا ، فالأصل : اتقوا فتنة ، أي : عذابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للفتنة فتصيب الذين ... إلخ ، وعلى هذا فالاصابة بالمتعرضين. وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب ، مثل : «ولا تحسبنّ الله غافلا» ، ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع ، فوجب إضمار القول ، أي : واتقوا فتنة مقولا فيها ذلك ، كما قيل في قوله :


حتى إذا جن الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

ب ـ أنها نافية ، واختلف القائلون بذلك على قولين : أحدهما أن الجملة صفة لفتنة ، ولا حاجة إلى إضمار قول ، لأن الجملة خبرية.

فلا الجارة الدنيا بها تلحينّها

ولا الضيف فيها إن أناخ محوّل

بل هو في الآية أسهل ، لعدم الفصل ، وهو فيهما سماعي. والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية ، وعلى هذا الوجه تكون الاصابة عامة للظالم وغيره لا خاصة بالظالمين ، كما ذكره الزمخشري ، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين ، خاصة ، فكيف تكون مع هذا خاصة بهم! والثاني أن الفعل جواب الأمر ، وعلى هذا فيكون التوكيد أيضا خارجا عن القياس وشاذا. وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري ، وهو فاسد ، لأن المعنى حينئذ : فإنكم إن تتقوها لا تصب الظالم خاصة. وقوله : إن التقدير : إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة ، مردود ، لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر ، لا من جنس الجواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا


إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) لا ناهية ، وتخونوا مضارع مجزوم بلا الناهية ، والواو فاعل ، ولفظ الجلالة مفعول به ، والرسول عطف على الله (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الواو يجوز فيها أن تكون واو المعية ، فيكون «تخونوا» منصوبا بأن مضمرة بعدها ، لأنها وقعت جوابا للنهي ، ويجوز أن تكون عاطفة فيكون «تخونوا» مجزوما داخلا في حكم النهي. ولعل الثاني أولى ، لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته ، بخلاف الأول ، فإن فيه النهي عن الجمع بينهما. ولا يترتب على النهي عن الجمع بين الشيئين النهي عن كل واحد على حدته. وأماناتكم مفعول به على تقدير محذوف ، أي أصحاب أماناتكم. وسيأتى بحث استعارة الخيانة في باب البلاغة ، وأنتم الواو للحال ، وأنتم مبتدأ ، وجملة تعلمون خبر ، وجملة أنتم تعلمون حالية ، وحذف مفعول يعلمون للعلم به ، أي تعلمون أن ما وقع منكم خيانة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) واعلموا عطف على مقدم ، وأنما كافة ومكفوفة ، وقد سدت مسد مفعولي اعلموا ، ولذلك فتحت همزتها ، وسيأتي بحث فتح همزة إن وكسرها في باب الفوائد ، وأموالكم مبتدأ ، وأولادكم عطف على «أموالكم» ، وفتنة خبر ، وجعل الأموال والأولاد فتنة لأنهم سبب الوقوع في الفتنة ، وهي الإثم والعذاب ، أو محنة وابتلاء من الله ليسبر ، غوركم ، ويكتنه حقيقتكم ،


فما عليكم ـ والأمر بهذه المثابة ـ إلا توطين النفس على الإخلاص والتزهد في زخارف الدنيا ، وعدم الاغترار بأباطيلها وأفاويقها ، وأن الله عطف على أنما أموالكم وأولادكم ، وأن واسمها ، وعنده الظرف خبر مقدم ، وأجر مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «أن» ، وفي هذا صارف لكم عن حب الدنيا وإيثارها على ما عند الله ، وهو خير وأبقى. وفي هذا كله حث على اكتساب الأجر ، وحسن الأحدوثة ، وخلود الذكر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) إن شرطية ، وتتقوا فعل الشرط ، ولكم جار ومجرور متعلقان بيجعل ، وفرقانا مفعول به ، أي : نصرا يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال مشايعيه ، والإسلام بتعزيز مناجديه ، أو منجاة من الشبهات التي تزيغ فيها الضمائر ، وتضل الأفهام ، وتعشو النواظر عن رؤية الحق.

هذا وقد اختلف في «الفرقان» هنا ، فقال بعضهم : هو ما يفرق به بين الحق والباطل ، والمعنى أنه يجعل لهم من ثبات القلوب ، وثقوب البصائر ، وحسن الهداية ، ما يفرقون به بينهما عند الالتباس. وقيل :الفرقان المخرج من الشبهات ، والنجاة من كل ما يخافونه ، ومنه قول الشاعر :

مالك من طول الأسى فرقان

بعد قطين رحلوا وبانوا

ومنه قول الآخر :

وكيف أرجّي الخلّ والموت طالبي

ومالي من كأس المنية فرقان


وقال الفرّاء : المراد بالفرقان : الفتح والنصر. وقال ابن اسحق : الفرقان الفصل بين الحق والباطل. وقال السّدّيّ : الفرقان النجاة.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الواو استئنافية ، والله مبتدأ ، وذو الفضل خبره ، والعظيم صفة للفضل.

البلاغة :

الاستعارة في «لا تخونوا أماناتكم» فالخون في الأصل هو النقص ، ومنه تخوّنه إذا تنقّصه ، ثم استعير فيما هو ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان عليه.

وقد استعير أيضا في قولهم خان الدلو الكرب. والكرب هو ـ كما في الصحاح ـ حبل يشد في رأس الدلو. وخان المشتار السبب ، والمشتار مجتني العسل ، والسّبب الحبل ، وإذا انقطع الحبل فيهما فكأنه لم يقف. والاستعارة هنا تصريحية تبعية.

الفوائد :

مواضع كسر همزة إن :

يجب أن تكسر همزة (إن) حيث لا يصح أن يسدّ المصدر مسدها ومسد معمولها ، وذلك في اثني عشر موضعا :

١ ـ أن تقع في ابتداء الكلام حقيقة كقوله تعالى : «إنا أنزلناه في ليلة القدر» أو حكما كقوله تعالى : «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».


٢ ـ أن تقع بعد «حيث» ، نحو : اجلس حيث إن العلم موجود.

٣ ـ أن تقع بعد «إذ» ، نحو جئتك إذ إن الشمس تطلع.

٤ ـ أن تقع تالية للموصول ، نحو «وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة».

٥ ـ أن تقع جوابا للقسم نحو : والله إن العلم نور ، وقوله تعالى : «والعصر إن الإنسان لفي خسر».

٦ ـ أن تقع بعد القول محكية به ، كقوله تعالى : «قال : إني عبد الله» فإن كان القول بمعنى الظن لم تكسر ، مثل أتقول أن عبد الله يقول كذا؟ أي : أتظن. وإن كانت غير محكية بالقول لم تكسر أيضا ، نحو : أخصك بالقول أنك فاضل ، فهي هنا بمعنى التعليل ، أي : لأنك فاضل ، فهي مع ما في حيزها منصوبة بنزع الخافض.

٧ ـ أن تقع مع ما بعدها حالا ، نحو : جئت وإن الشمس تغرب ، ومنه قوله تعالى : «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون».

٨ ـ أن تقع مع ما بعدها صفة لما قبلها ، نحو : جاء رجل إنه فاضل.

٩ ـ أن تقع صدر جملة استئنافية ، نحو : فلان يزعم أني أسأت إليه ، إنه لكاذب. وهذه من الواقعة ابتداء.

١٠ ـ أن تقع في خبرها لام الابتداء أو اللام المزحلقة ، كما


يسميها النحاة كقوله تعالى «والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون».

١١ ـ أن تقع مع ما في حيزها خبرا عن اسم ذات ، نحو علي إنه فهفل. ومنه قوله تعالى : «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم» ، فجملة :

«إن الله يفصل بينهم» خبر إنّ الذين آمنوا ، وما عطف عليه ، لأنها أسماء.

١٢ ـ أن تقع بعد «كلّا» الرادعة ، كقوله تعالى : «كلا إن الإنسان ليطغى».

مواضع فتح همزة أن :

ويجب فتح همزة (أن) حيث يصح أن يسد المصدر مسدها ومسد معموليها ، وذلك في أحد عشر موضعا :

١ ـ أن تكون وما في حيزها في موضع الفاعل ، نحو : بلغني أنك مجتهد ، ومنه قوله تعالى : «أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب».

ومن ذلك أن تقع بعد «لو» ، نحو «ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير» فما بعد «أن» في تأويل مصدر مرفوع فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت ، واللام لام الجواب فالجملة بعدها جواب «لو».

٢ ـ أن تكون وما في حيزها في موضع نائب الفاعل ، نحو قوله تعالى «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» أي استماع نفر.


٣ ـ أن تكون هي وما في حيزها في موضع المبتدأ ، كقوله تعالى : «ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة» فالجار والمجرور خبر مقدم ، وما بعد «أن» في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر ، أي : رؤيتك الأرض خاشعة من آياته.

٤ ـ أن تكون هي وما بعدها في موضع الخبر عن اسم معنى غير قول ولا صادق عليه ، أي على اسم المعنى خبرها نحو : اعتقادي أنه فاضل ، فيجب فتحها لأنها خبر «اعتقادي» ، وهو اسم معنى ، غير قول ولا صادق ، على اعتقادي خبرها ، لأن «فاضل» لا يصدق على الاعتقاد.

وانما فتحت لسد المصدر مسدها ومسد معموليها ، والتقدير ، اعتقادي فضله أي معتقدي ذلك. ولم يجز كسرها على أن تكون مع معموليها جملة مخبرا بها عن اعتقادي ، لعدم الرابط ، لأن اسم «أن» لا يعود على المبتدأ الذي هو اعتقادي ، لأن خبرها غير صادق عليه ، فهو يعود على غيره ، فتبقى الجملة بلا رابط ، بخلاف : قولي : إنه فاضل ، فيجب كسرها ، لأنها وقعت خبرا عن «قولي» ولا تحتاج الى رابط لأن الجملة إذا قصد حكاية لفظها كانت نفس المبتدأ في المعنى ، والتقدير : قولي هذا اللفظ لا غيره ، وبخلاف : «اعتقاد زيد إنه حق» فيجب كسر همزة «إنه» أيضا ، لأن خبرها وهو صادق على الاعتقاد ، ولا مانع من وقوع جملة إن ومعموليها خبرا عن المبتدأ ، لأن اسم إن رابط بينهما ، ولا يصح فتحها لأنه يصير اعتقاد زيد كون اعتقاده حقا ، وذلك لا يفيد ، لأن الخبر لا بد أن يستفاد منه مالا يستفاد من المبتدأ.

٥ ـ أن تكون هي وما في حيزها في موضع تابع لمرفوع على أنه معطوف عليه أو بدل منه ، نحو بلغني اجتهادك وأنك حسن الخلق ، والتأويل : بلغني اجتهادك وحسن خلقك ، فهو معطوف عليه ، ونحو :


يعجبني سعيد أنه مجتهد ، والتأويل يعجبني سعيد اجتهاده فالمصدر المؤول بدل اشتمال من «سعيد».

٦ ـ أن تكون هي وما في حيزها في موضع المفعول به ، كقوله تعالى «ولا تخافون أنكم أشركتم بالله» والتأويل : ولا تخافون إشراككم ٧ ـ أن تكون هي وما في حيزها في موضع خبرا لكان أو إحدى أخواتها ، نحو : كان يقيني أنك تتبع الحق ، والتأويل : كان يقيني اتباعك للحق.

٨ ـ أن تكون هي وما في حيزها في موضع تابع لمنصوب بالعطف أو بالبدلية ، كقوله تعالى : «اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين» والتقدير : اذكروا نعمتي عليكم وتفضيلي إياكم.

وقوله تعالى «وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم» ، والتقدير ـ كما تقدم ـ يعدكم إحدى الطائفتين كونها لكم ، فما بعد أن في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من إحدى.

٩ ـ أن تقع بعد حرف الجر كقوله تعالى : «ذلك بأن الله هو الحق».

١٠ ـ أن تقع هي وما في حيزها في موضع المضاف إليه ، كقوله تعالى : «إنه لحق مثلما أنكم تنطقون» ، أي مثل نطقكم.

١١ ـ أن تقع هي وما في حيزها في موضع تابع لمجرور بالعطف أو بالبدلية ، نحو سررت من أدب علي وأنه عاقل ، والتقدير : سررت من أدب علي وعقله. ونحو : عجبت منه أنه مهمل ، والتقدير : عجيب منه إهماله ، والمعنى : عجبت من إهماله. فما بعد «أن» في تأويل مصدر مجرور بدل اشتمال من الهاء في «منه».


المواضع التي يجوز فيها الكسر والفتح :

ويجوز الأمران : كسر همزة إن وفتحها حيث يصح الاعتباران : التأويل بمصدر ، وعدم التأويل ، وذلك في تسعة مواضع :

١ ـ بعد «إذا» الفجائية ، نحو : خرجت فإذا أن سعيدا واقف ، فالكسر على معنى : فاذا سعيد واقف ، والفتح على تأويل ما بعدها بمصدر مبتدأ محذوف الخبر ، والتأويل : فإذا وقوفه حاصل.

وقد روي بالوجهين قول الشاعر :

وكنت أرى زيدا ، كما قيل سيدا

إذا أنه عبد القفا واللهازم

أنشده سيبويه ولم يعزه الى أحد ، وأرى بضم الهمزة ، وأصله : يريني الله ، فعمل فيه العمل المشهور من ضم أوله وفتح ما قبل آخره وحذف الفاعل ، وزيد على ذلك هنا ابدال الياء همزة للاحتياج الى ذلك ، لأنه لما حذف الفاعل وأنيب المفعول به لزم إسناد الفعل الى ضمير المتكلم ، ولا يسندله إلا المبدوء بالهمزة ، فحذفت الياء واتي بالهمزة عوضها ، وهو متعد الى ثلاثة مفاعيل ، الأول هو النائب عن الفاعل ، والثاني «زيدا» ، والثالث «سيدا» ، وجملة «كما قيل» اعتراضية ، فالكسر على معنى الجملة ، أي فإذا هو عبد القفا ، والفتح على معنى الإفراد ، أي : فالعبودية حاصلة ، على جعلها مبتدأ حذف خبره ، كما تقول : خرجت فإذا الأسد ، أي : حاضر. واللهازم جمع لهزمة ، بكسر اللام والزاي ، وهي عظم ناتئ تحت الأذن. والمعنى : كنت أظن سيادته فلما نظرت الى قفاه ولهازمه تبين لي عبوديته وكنى عن ذلك بأنه يضرب على قفاه ولهزمتيه ، والقفا موضع الصفع.


٢ ـ بعد فاء الجزاء ، كقوله تعالى : «من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم» ، قرى بكسر «إن» وفتحها ، فالكسر على جعل ما بعد فاء الجزء جملة تامة ، والمعنى : فالغفران والرحمة حاصلان ، والفتح على تقدير أن ومعموليها خبرا لمبتدأ محذوف ، والمعنى : فالحاصل الغفران والرحمة ، أو مبتدأ والخبر محذوف ، والمعنى : فالغفران والرحمة حاصلان.

٣ ـ أن تقع مع ما في حيزها في موضع التعليل كقوله تعالى :«صل عليهم إن صلاتك سكن لهم» ، فالكسر على أنها جملة تعليلية ، والفتح على تقدير لام التعليل الجارة ، أي : لأن صلاتك سكن لهم.

ومنه الحديث الشريف : «لبيك إن الحمد والنعمة لك» ، يروى بكسر «إن» وفتحها ، فالكسر على أنه تعليل مستأنف ، والفتح على تقدير لام العلة.

٤ ـ أن تقع بعد فعل قسم ولا لام بعدها ، كقول رؤبه :

أو تحلفي بربك العليّ

أني أبو ذيّالك الصّبي

يروى بكسر «إن» وفتحها فالكسر على الجواب للقسم ، والفتح بتقدير «على».

٥ ـ أن تقع خبرا عن قول ، ومخبرا عنها بقول ، والقائل للقولين واحد ، نحو : قولي أني أحمد الله ، بفتح همزة «أن» وكسرها. فالفتح على حقيقته من المصدرية ، أي قولي حمدا لله ، والكسر على معنى المقول ، أي : مقولي إني أحمد الله.


٦ ـ أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح للعطف عليه ، كقوله تعالى : «إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ ولا تضحى» ، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وإنك لا تظمأ» إما على الاستئناف أو العطف على جملة «إن» الأولى ، وعليهما فلا محل لها من الإعراب.

وقرأ الباقون من السبعة بالفتح بالعطف على «أن لا يجوع» من عطف المفرد على مثله ، والتقدير : أن لك عدم الجوع وعدم الظمأ.

٧ ـ أن تقع بعد «حتى» ، ويختص الكسر بالابتدائيه ، نحو :مرض زيد حتى إنهم لا يرجونه ، ويختص الفتح بالجارة والعاطفة ، نحو : عرفت أمورك حتى أنك فاضل فـ «حتى» في هذا المثال تصلح لأن تكون جارة ولأن تكون عاطفة ، وأن فيهما مفتوحة.

٨ ـ أن تقع بعد «أما» بفتح الهمزة وتخفيف الميم ، نحو :أما أنك فاضل فالكسر على أن «أما» حرف استفتاح بمنزلة «ألا» وتلك تكسر «إن» بعدها ، والفتح على أنها مركبة من همزة الاستفهام و «ما» العامة بمعنى شيء ، وصارا بعد التركيب بمعنى : أحقا.

٩ ـ أن تقع بعد «لا جرم» ، نحو قوله تعالى : «لا جرم أن الله يعلم ما يسرون» ، والغالب الفتح ، ووجهه أن تجعل ما بعد «أن» مؤولا بمصدر مرفوع فاعل لجرم ، وجرم معناه ثبت وحق ، وأصل الجرم القطع ، وعلم الله بالأشياء مقطوع به ، لأنه حق وثابت ، ولا حرف نفي للجواب يراد به كلام سابق ، فكأنه قال : لا ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، ثم قال جرم ان الله يعلم ، أي حق وثبت علمه.

وسيأتي مزيد من القول في «لا جرم» عند الكلام عليها في موضعها.


تنبيه لا بد منه :

حيث جاز فتح «إن» وكسرها فالكسر أولى وأكثر لعدم تكلفه ، إلا إذا وقعت بعد «لا جرم» كما علمت.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

اللغة :

(أَساطِيرُ) : جمع أسطورة ، كأحدوثة وأحاديث : ما سطر وكتب من القصص والأخبار.

الاعراب :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الظرف مفعول به لأذكر مقدرة ، والمعنى : واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا. والمكر الاحتيال في إيصال الضرر للآخرين. وقصة هذا المكر في المطولات. وجملة يمكر مضاف إليها الظرف ، وبك متعلق بيمكر ، والذين فاعل يمكر ، وجملة كفروا صلة الموصول ، واللام للتعليل ، ويثبتوك منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ، أو يقتلوك عطف عليه ، أو يخرجوك عطف أيضا. والمعنى : اذكر إذ اجتمعوا في


دار الندوة ـ وهي أول دار بنيت بمكة ـ ليثبتوك ، أي : يوثقوك ويحبسوك ، أو يقتلوك كلهم قتلة رجل واحد ، أو يخرجوك من مكة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الواو استئنافية ، ويمكرون فعل مضارع ، والواو فاعل ، ويمكر الله عطف ، والله مبتدأ ، وخير الماكرين خبره ، وسيأتي بحث هذا في باب البلاغة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا) الواو استئنافية ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ، وجملة تتلى مضاف إليها الظرف ، وعليهم جار ومجرور متعلقان بتتلى ، وآياتنا نائب فاعل ، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وجملة قد سمعنا مقول القول (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) لو شرطية ، ونشاء فعل الشرط ، واللام رابطة ، وجملة قلنا لا محل لأنها جواب شرط غير جازم ، ومثل صفة لمفعول مطلق ، أي : قولا مثل هذا (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية ، وهذا مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وأساطير الأولين خبر هذا.

البلاغة :

١ ـ يحتمل قوله «ويمكر الله» أن يكون استعارة تبعية من إطلاق المكر على الرد ، لأنه لما كان معنى المكر حيلة يجلب بها مضرة الى الآخرين ، وهو ما لا يجوز في حقه تعالى ، كان المراد بمكر الله رد مكرهم ، أي عاقبته ووخامته عليهم. ويجوز أن يكون من باب المشاكلة ، وقد تقدم نظيره ، كما تقدم الحديث عن هذا الفن ، أي : ان المراد بمكر الله مجازاتهم على مكرهم بجنسه ، على سبيل المجاز المرسل ، والعلاقة السببية. ويحتمل أن يكون الكلام استعارة تمثيلية ، بتشبيه حالة تعليل المسلمين في أعينهم الحامل لهم على هلاكهم بمعاملة الماكر المحتال الذي يظهر خلاف ما يبطن.


٢ ـ في قوله تعالى «قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا» فن يسمى التغاير ، وهو تغاير المذهبين ، أما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه أو يذم ما مدحه غيره ، أو بالعكس أو يفضل شيئا على شيء ، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا ، والفاضل مفضولا. وقد تقدمت الإشارة اليه مع ذكر نماذج منه. ونقول إن التغاير هنا المقصود مغايرتهم أنفسهم ، فقد قالت قريش عن القرآن : «ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» إنكارا منهم لغرابة أسلوبه وما بهرهم من فصاحته. ويلزم هذا الكلام إقرارهم بالعجز عن محاكاته ، ثم غايرت قريش نفسها فقالت قد سمعنا «لو نشاء لقلنا مثل هذا» ، ولو كان القولان في وقت واحد لكان ذلك تناقضا ، وهو عيب ، ولم يعد في المحاسن ، لكن وقوعه في زمنين مختلفين ووقتين متباينين اعتد من المحاسن ، ولذلك سمي تغايرا لا تناقضا.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))


الاعراب :

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) إذ منصوب باذكر محذوفة ، وقد تقدم القول فيها مشبعا ، وجملة قالوا مضاف إليها الظرف ، واللهم منادى مفرد علم حذفت منه «يا» وعوضت عنها الميم المشددة ، وإن شرطية ، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ، وهذا اسمها ، وهو ضمير فصل ، والحق خبر كان ومن عندك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الفاء رابطة ، وأمطر فعل أمر ، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأمطر ، وحجارة مفعول به ، ومن السماء صفة لحجارة ، والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أو حرف عطف ، وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ، والفاعل مستتر ، وبعذاب جار ومجرور متعلقان بائتنا ، وأليم صفة. (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الواو استئنافية ، وما نافية ، وكان واسمها ، واللام لام الجحود ، ويعذبهم منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان ، وأنت فيهم الواو للحال ، والجملة الاسمية من المبتدأ والخبر حالية (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) عطف على الجملة السابقة ، وهم يستغفرون في موضع الحال ، ومعناه نفي الاستغفار عنهم ، أي : ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون ، ولا يتوقع ذلك منهم.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) الواو عاطفة ، وما اسم استفهام إنكاري للنفي مبتدأ ، ولهم خبر ، وأن لا يعذبهم الله أن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض ، متعلق بما تعلق به الجار والمجرور السابق ، أو بمحذوف حال ، على حد قوله :


تقول سليمى ما لجسمك شاحبا

كأنك يحميك الطعام طبيب

والمعنى : وكيف لا يعذبون ، وأي شيء ثبت واستقر لهم في أن لا يعذبوا ، أي : ليس ثمة ما يمنع من حيلولة عذابه بهم (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الواو للحال ، وجملة هم يصدون حالية ، والمعنى وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) الواو عاطفة أو حالية ، وكانوا أولياءه كان واسمها وخبرها (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) إن نافية ، وأولياءه مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، والمتقون خبر «أولياؤه» (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لكن واسمها ، والجملة خبرها ، والواو حالية أو استئنافية.

البلاغة :

في قوله تعالى «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» إلخ فن عجيب يسمى «فن التنكيت». وحدّه أن يقصد المتكلم الى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده ، لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه ، فإن لقائل أن يقول : ما النكتة التي رجحت اختلاف الصيغتين من الفعل وهو «يعذبهم» ، واسم الفاعل وهو «معذبهم» على اتفاقهما ، مع اتفاق زمانيهما ، فإن مدة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في المخاطبين منقسمة على الحال والاستقبال ، وكذلك مدة الاستغفار ، وهل يجوز مجيء كل واحدة من الصيغتين في مجاز الأخرى أم لا يجوز إلا ما جاء به الرسل؟ أو هل يجوز الاقتصار على الفعل الدال على الزمانين دون اسم الفاعل أم لا؟ والجواب أن معرفة النكتة رجحت مجيء الكلام على ما جاء عليه بحيث لا يجوز غيره أن المخاطبين به هم المنافقون الذين لم يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في إمهالهم مدة مقامه


فيهم ، لا من قبل نزول الآية ولا من بعدها. والخبر الصادق يجب أن يكون طبق المخبر ، ولما كان الرابع الذي أمر الخبير به نفي تعذيبهم في الماضي والحال دون الاستقبال فإن الخبر الصادق قد أخبر بهم في الاستقبال حيث قال : «وما لهم أن لا يعذبهم الله» اقتضت البلاغة مجيء الفعل المضارع الدال ـ مع الإطلاق ـ على الزمانين مع القرينة على أحدهما بحسب ما يدل عليه واقترن به قوله تعالى : «وأنت فيهم» فأفاد دلالته على الحال دون الاستقبال ، ونفي حصول العلم بنفي تعذيبهم فيما مضى من الزمان قبل نزول الآية ، فأتى سبحانه بصيغة اسم الفاعل المضاف ليدل على الماضي ، فاقتضى حسن الترتيب أن يقدم صيغة الفعل لدلالتها على الحال الذي هو مدة مقامه فيهم ، لأن نفي العذاب فيما هو الأهم. وسيرد من التنكيت في القرآن ما يبهر العقول.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))


اللغة :

(المكاء) : بضم الميم كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر ، ومنه المكّاء كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه. قال عنترة :

وحليل غانية تركت مجدّلا

تمكو فريصته كشدق الأعلم

أي : ورب زوج امرأة بارعة الجمال ، مستغنية بجمالها عن التزين ، قتلته وألقيته على الأرض ، وكانت فريصته تمكو بانصباب الدم منها ، كشدق الأعلم.

(التصدية) : التصفيق ، وقد اختلف في أصله ، فقيل : هو من الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الصلبة الخالية ، يقال منه : صدّى يصدّي تصدية ، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وقيل : هو مأخوذ من التصدد ، وهو الضجيج والصياح والتصفيق ، فأبدلت إحدى الدالين ياء تخفيفا.

وقيل هو من الصدّ أي المنع ، والأصل تصددة بدالين أيضا ، فأبدلت ثانيتهما ياء.

وقال ابن يعيش : «فأما التصدية من قوله تعالى : «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» فالياء بدل من الدال ، لأنه من صد يصد ، وهو التصفيق والصوت ، ومنه قوله تعالى : «إذا قومك منه يصدّون» أي : يضجّون ويعجّون ، فحوّل إحدى الدالين ياء ، هذا قول أبي عبيدة ، وأنكر الرّستمي هذا القول ، وقال : إنما هو من الصدى ، وهو الصوت. والوجه الأول غير ممتنع لوقوع يصدون على الصوت أو ضرب منه ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون تصدية


منه ، فتكون «تفعلة» كالتحة والتعلة ، فلما قلبت الدال الثانية ياء امتنع الإدغام لاختلاف اللفظين».

(ركمه) : يجمعه متراكما بعضه على بعضه. وفي المختار :«ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض ، وبابه نصر. وارتكم الشيء وتراكم اجتمع ، والركام بالضم الرمل المتراكم والسحاب ونحوه».

الاعراب :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) الواو استئنافية أو عاطفة ، وما نافية ، وكان واسمها ، وعند البيت الظرف متعلق بمحذوف حال ، وإلا أداة حصر ، ومكاء خبر كان ، وتصدية عطف على مكاء ، والمعنى أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون. وهذا أسلوب بليغ من أساليب العرب على حد قول الفرزدق :

وما كنت أرجو أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة حمرا

أي : ما كنت أظن أن يكون عطاؤه قيودا سودا أو سياطا مفتولة حمرا ، ويروى : «سمرا» ، فوضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضع الشاعر الرجاء موضع الظن ، وأطلق العطاء على العقاب مجازا.

(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الفاء الفصيحة ، وذوقوا فعل أمر وفاعل ، والعذاب مفعول به ، والباء للسببية ، وما مصدرية ، أي : سبب كفركم ، وقد تقدمت له نظائر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ


لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إن واسمها ، وجملة كفروا صله ، وجملة ينفقون أموالهم خبر الذين ، وليصدوا اللام للتعليل ، ويصدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة ، والواو فاعل ، وعن سبيل الله متعلق بيصدوا (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) الفاء عاطفة ، والسين حرف استقبال ، وينفقونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به ، ثم حرف عطف للتراخي والترتيب ، وتكون معطوف على ينفقونها ، واسمها مستتر تقديره هي ، وعليهم متعلقان بمحذوف حال ، لأنها كانت في الأصل صفة لحسرة وتقدمت ، وحسرة خبر تكون ، ثم يغلبون عطف على ثم تكون ، والواو نائب فاعل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) الذين مبتدأ ، وكفروا صلة ، وجملة يحشرون خبر الذين ، والى جهنم متعلق بيحشرون (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) اللام للتعليل ويميز منصوب بأن مضمرة ، والجار والمجرور متعلقان بأحد الأفعال المتقدمة ، والله فاعل ، والخبيث مفعول به ، ومن الطيب متعلق بيميز ، أي الفريق الخبيث من الفريق الطيب (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) ويجعل عطف على يميز ، والخبيث مفعوله ، وبعضه بدل من الخبيث بدل بعض من كل ، وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أو في محل نصب مفعول به ثان ليجعل ، والتقدير :ويجعل بعض الخبيث عاليا على بعض (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) الفاء عاطفة ، ويركمه عطف على يجعل ، والهاء مفعوله ، وجميعا حال من الهاء في يركمه ، أو توكيد لها ، فيجعله عطف على يركمه ، وفي جهنم مفعول به ثان (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) مبتدأ وخبر ، وهم ضمير فصل ، أو مبتدأ أول وثان ، والخاسرون خبر الثاني ، والجملة الاسمية خبر أولئك.


(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

الاعراب :

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الجار والمجرور متعلقان بقل ، واختلف في معنى هذه اللام ، والأرجح أنها للتبليغ ، أمر أن يبلغهم بالجملة المحكية بالقول ، سواء أوردوها بهذا اللفظ أم بلفظ آخر مؤدّ لمعناها ومضمونها ، واختار الزمخشري أن تكون للتعليل ، أي : قل لأجلهم هذا القول ، وهو : إن ينتهوا إلخ.

وحجة الزمخشري أنه لو كان بمعنى خاطبهم لقيل : إن انتهوا يغفر لكم.

وإن شرطية ، وينتهوا فعل الشرط ، ويغفر بالبناء للمجهول جواب الشرط ، ولهم جار ومجرور متعلقان بيغفر ، وما اسم موصول نائب فاعل ، وجملة قد سلف صلة. (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة ، وإن شرطية ، ويعودوا فعل الشرط ، ومتعلقة محذوف ، أي لقتاله أو للكفر ، وكلاهما مراد فقد الفاء رابطة للجواب ، وقد حرف تحقيق ، ومضت سنة الأولين فعل وفاعل ومضاف إليه (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) عطف على قل للذين ، وأفرد الأمر في الأول لأن الخطاب للنبي وحده بما هو داخل في نطاق مهمته ، وجمع الأمر في الثاني لأن الخطاب للمؤمنين جميعا ، لتهييجهم الى


المحاربة ، ومقاتلة عدوهم ، ومثيري الفتن عامة ، وحتى حرف غاية وجر ، ولا نافية ، وتكون منصوبة بأن مضمرة بعد حتى ، والجار والمجرور متعلقان بقاتلوهم ، وتكون هنا تامة ، وفتنة فاعل ، ويكون عطف على تكون ، وهي هنا ناقصة ، والدين اسمها ، وكله توكيد ، ولله خبر (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الفاء عاطفة. وإن شرطية ، وانتهوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ، والفاء رابطة ، وإن واسمها ، وبصير خبرها ، وبما يعملون جار ومجرور متعلقان ببصير ، وجملة يعملون صلة (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) عطف على سابقه ، والإعراب مماثل ، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي فاعلموا ، ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح ، والمولى فاعل ، والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : هو ، ومثله ونعم النصير.

فهرس المجلد الثالث

تتمة سورة المائدة. الآية (٨٣)..................................................... ٥

سورة الأنعام................................................................... ٦٠

سورة الأعراف................................................................ ٢٩٣

سورة الأنفال................................................................. ٥٢٥

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ٣

المؤلف:
الصفحات: 576