الجزء العاشر

يحوي مناقب الخلفاء والنظرة فيها متناً وإسناداً ، ويتلوها بحث حرّ عن المغالاة في فضائل معاوية ، يوقف القارئ على نفسيّات الرجل وملكاته ، ويميط الستر عن صحائف من تاريخ حياته السوداء ، ويعرّفه بعُجره وبُجره ، ولسنا مجازفين في القول ، منحازين عن الحق ، متعصّبين لمبدإ أو عقيدة.



بسم الله الرحمن الرحيم

سُبحانَكَ نَحنُ نُسبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وَمَا لَنَا لَا نُؤمِنَ بِالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطمَعُ أنْ يُدخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَومِ الصَّالِحينَ. يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءُكُم بُرهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقِينَ ، قَدْ جِئتكُم بِالحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعضَ الَّذِي تَختَلِفُونَ فِيه ، وَإنَّا لَنَعلَمُ أنَّ مِنكُمْ مُكذِّبِينَ ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ اوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ مَا جَاءَتهُم البَيِّنَةُ ، خُذُوا مَا آتَينَاكُم بِقُوَّةٍ ، وَاتَّبِعُوا أحسَنَ مَا انْزِلَ إلَيكُم مِنْ رَبِّكُم ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسألُكُم أجْراً وَهُم مُهتَدُونَ ، نَحْنُ نَقُصُّ عَليَكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ ، وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَأطِيعُوا اللهَ وَرسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ ، إنّهُم أَلفَوا آبَاءهم ضَالِّينَ فَهُم عَلَى آثَارِهِم يُهْرَعُونَ ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبلَهُم أكْثَرُ الأَوّلِينَ ، ويُحاجُّون في اللهِ مِنْ بَعدِ ما استُجِيبَ لَه حُجتَّهُمُ دَاحِضَةٌ ، فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعد مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ : تَعَالوا نَدْعُ أبنَاءَنَا وَأبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا ونِسَاءَكُم وَأنفُسَنَا وَأنفُسَكُم ثُمَّ نَبْتَهِلْ فنَجَعَلْ لَعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِين.

الأميني



بقية البحث

عن مناقب الخلفاء الثلاثة

٤ ـ أخرج البخاري في كتاب المناقب من صحيحه (١) (٥ / ٢٤٣) باب فضل أبي بكر بعد النبيّ من طريق عبد الله بن عمر قال : كنّا نخيّر بين الناس في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنخيّر أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفّان.

وذكر في باب مناقب عثمان (٢) (٥ / ٢٦٢) عن ابن عمر أيضاً بلفظ : كنّا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم. وبهذا اللفظ حكاه الحافظ العراقي عن الصحيحين في طرح التثريب (١ / ٨٢).

وأخرج في تاريخه (١ / قسم ٢ / ١٣) بلفظ : كنّا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده نقول : خير أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.

وأخرج أحمد في مسنده (٣) (٢ / ١٤) عن ابن عمر قال : كنّا نعدّ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ وأصحابه متوافرون : أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت.

وأخرج (٤) أبو داود والطبراني عن ابن عمر : كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ : أفضل أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فيسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فلا ينكره (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٧ ح ٣٤٥٥.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٥٢ ح ٣٤٩٤.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٨٢ ح ٤٦١٢.

(٤) مسند أبي داود : ٤ / ٢٠٦ ح ٤٦٢٨ ، المعجم الكبير : ١٢ / ٢٢٠ ح ١٣١٣٢.

(٥) فتح الباري : ٧ / ١٣ [٧ / ١٦] ، طرح التثريب : ١ / ٨٢ ذكر زيادة الطبراني. (المؤلف)


وروى ابن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن ابن عمر : كنّا نقول : إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس. فيسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فلا ينكره (١).

وفي لفظ البزّار : كنّا نقول في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر وعمر وعثمان ـ يعني بالخلافة (٢) ـ وفي لفظ الترمذي : كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ (٣).

وفي لفظ البخاري في تاريخه (١ / قسم ١ / ٤٩) : كنّا نقول في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يلي هذا الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فيقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نسكت.

قال الأميني : هذه الرواية عمدة ما تمسّك به القوم فيما وقع من الانتخاب الدستوري في الإسلام ، وقد اتّخذها المتكلّمون حجّة لدى البحث عن الإمامة ، واتّبع أثرهم المحدّثون ، ولهم عند إخراجها تصويب وتصعيد ، وتبجّح وابتهاج ، وجاء كثيرون وقد أطنبوا وأسهبوا في القول لدى شرحها ، وجعلوها كحجر أساسي علّوا عليها أمر الخلافة الراشدة ، واحتجّوا بها على صحّة البيعة التي عمّ شؤمها الإسلام ، وحُفّت بهنات ووصمات وشتّتت شمل المسلمين ، وفتّت في عضد الدين ، وفصمت عراه ، وجرّت الويلات على أُمّة محمد حتى اليوم ، فلنا عندئذ أن نبسط القول ، ونوقف القارئ على جليّة الحال (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٤) ، والله وليّ التوفيق.

كان عبد الله بن عمر على العهد النبويّ الذي ادّعى أنّه كان يُخيّر فيه فيختار في

__________________

(١) فتح الباري : ٧ / ١٣ [٧ / ١٦]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٠٥ [٧ / ٢٣٠ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٣) صحيح الترمذي : ١٣ / ١٦١ [٥ / ٥٨٨ ح ٣٧٠٧]. (المؤلف)

(٤) الأنفال : ٤٢.


إبّان شبيبته حتى إنّه كان لم يبلغ الحلم في جملة من سنيه ، ولذلك ردّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجهاد يوم بدر وأُحد واستصغره ، وأجاز له يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة كما ثبت في الصحيح (١) ، وهو على جميع الأقوال في ولادته ، وهجرته ، ووفاته لم يكن مجاوزاً العشرين يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في مثل هذا السنّ لا يُخيّر عادة في التفاضل بين مشيخة الصحابة ووجوه الأُمّة ، ولا يُتّخذ حكماً يُمضَى رأيه في الخيرة ، لأنّ الحكم الفاصل في مثل هذا يستدعي ممارسة طويلة ، ووقوفاً على تجاريب متتابعة مقرونة بعقليّة ناضجة ، وتمييز بين مقتضيات الفضيلة ، وعرفان لنفسيّات الرجال ، وقوّة في النفس لا يتمايل بها الهوى ، وابن عمر كان يفقد كلّ هذه لما ذكرناه من صغر سنّه يوم ذاك المانع عن كلّ ما ذكرناه ، وروايته هذه أقوى شاهد على فقدانه تلكم الملكات الفاضلة. قال أبو غسان الدوري : كنت عند عليّ بن الجعد فذكروا عنده حديث ابن عمر : كنّا نفاضل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقول : خير هذه الأُمّة بعد النبيّ أبو بكر وعمر وعثمان ، فيبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكر. فقال عليّ بن الجعد : انظروا إلى هذا الصبيّ هو لم يحسن أن يطلّق امرأته يقول : كنّا نفاضل (٢).

ومن عرف ابن عمر وقرأ صحيفة تاريخه السوداء عرفه بضؤولة الرأي ، واتّباع الهوى ، وبفقدانه كلّ تلكم الخلال (٣) يوم بلغ أشدّه وكبر سنّه فضلاً عن عنفوان شبابه ، وسيوافيك نزر من آرائه السخيفة.

دع ابن عمر ومن لفّ لفّه يختار ويتقوّل (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٧٤ [٢ / ٤٨ ح ٢٥٢١] ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٩٦ [٢ / ٤٧٧] ، عيون الأثر : ٢ / ٦ ، ٧ [١ / ٤١٠] ، فتح الباري : ٧ / ٢٣٢ [٧ / ٣٩٣]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الخطيب : ١١ / ٣٦٣ [رقم ٦٢١٥]. (المؤلف)

(٣) جمع خَلّة ، وهي الخصلة.


لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (١) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢).

ودع البخاري ومن حذا حذوه يصحّح الباطل ، ولا يعرف الحيّ من الليّ (٣) ، واسمع لغواهم ولا تخف طغواهم ، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) (٤) ، (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٥).

قال أبو عمر في الاستيعاب (٦) في ترجمة عليّ عليه‌السلام (٢ / ٤٦٧) : من قال بحديث ابن عمر : كنا نقول على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نسكت ـ يعني فلا نفاضل ـ وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر : أنّ عليّا أفضل الناس بعد عثمان رضى الله عنه ، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان.

واختلف السلف أيضاً في تفضيل عليّ وأبي بكر ، وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أنّ حديث ابن عمر وهمٌ وغلط ، وأنّه لا يصحّ معناه وإن كان إسناده صحيحاً. انتهى.

وقال ابن حجر (٧) بعد ذكر محصّل كلام أبي عمر هذا : وتعقّب أيضاً بأنّه

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

(٣) يقال : لا يعرف الحيّ من اللي أي : لا يعرف الحقّ من الباطل.

(٤) المؤمنون : ٧١.

(٥) طه : ٤٧.

(٦) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١١٦ رقم ١٨٥٥.

(٧) فتح الباري : ٧ / ١٧.


لا يلزم من سكوتهم إذ ذلك عن تفضيله عدم تفضيله على الدوام ، وبأنّ الإجماع المذكور إنّما حدث بعد الزمن الذي قيّده ابن عمر ، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطاً. انتهى.

عزب عن ابن حجر ومن تعقّب أبا عمر أنّ الإجماع الحادث المذكور لم يكن إلاّ لتلكم السوابق التي كان يحوزها مولانا أمير المؤمنين يوم سكت ابن عمر عن اختياره ولم تكن لها جدّة ؛ وإنّما هي هي التي أثنى عليها الكتاب والسنّة ، فيلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله بعد الثلاثة عدم تفضيله على الدوام ، فإن كان مدار الإجماع على اختياره عليه‌السلام يوم اختاروه هو ملكاته ، ونفسيّاته ، وسبقه في الفضائل والفواضل المفصّلة في الكتاب والسنّة فهي لا تفارقه عليه‌السلام وهو المختار بها على الكلّ في أدوار حياته يوم فارق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدنيا ، وهلمّ جرّا. وإن كان المدار غير ذلك من الشيخوخة والكبر وأمثالهما فذلك شيء لا نعرفه ، ولا نفضّله عليه‌السلام على غيره بهذه التافهات التي هي شرك القوم اقتنصت بها بسطاء أُمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بيعة أبي بكر حتى اليوم.

وليت من تعقّب ابن عبد البرّ إن لم يكن يأخذ بكلّ ما جاء في عليّ أمير المؤمنين من الكتاب والسنّة الصحيحة الثابتة كان يأخذ بما جاء به قومه عن أنس فحسب ثم يحكم فيما جاء به ابن عمر ، قال أنس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله افترض عليكم حبّ أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فمن أنكر فضلهم فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج (١).

الرياض النضرة (٢) (١ / ٢٩).

__________________

(١) أثبتنا في محلّه أنّ هذه المنقبة لا تصحّ في غير عليّ عليه‌السلام ، وهي فيمن سواه تخالف الكتاب والسنّة والعقل والمنطق ، ولا تساعدها سيرتهم مدى حياتهم الدنيا. (المؤلف)

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٤٣.


وشتّان بين رأي ابن عمر وبين قول أبيه في عليّ عليه‌السلام : هذا مولاي ومولى كلّ مؤمن ، من لم يكن مولاه فليس بمؤمن. راجع ما مضى (١ / ٣٤١) الطبعة الأولى و (١ / ٣٨٢) الطبعة الثانية.

ولعلّ القوم ستراً على عوار اختيار ابن عمر ، وتخلّصاً من نقد أبي عمر المذكور ، اختلقوا من طريق جعدبة (١) بن يحيى عن العلاء بن البشير العبشمي ، عن ابن أبي أُويس ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّه قال : كنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفاضل فنقول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ.

واختلقوا من طريق محمد بن أبي البلاط (٢) عن زهد بن أبي عتاب ، عن ابن عمر أيضاً قال : كنّا نقول في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يلي الأمر بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليّ ، ثم نسكت.

ولعلّ الواقف على أجزاء كتابنا هذا ، وبالأخصّ الجزء السادس وهلمّ جرّا ، يعلم ويذعن بأنّ اختيار ابن عمر ومن رأى رأيه باطل في غاية السخافة ، ولو كان معظم الصحابة لم يعدل بأبي بكر أحداً في زمن نبيّهم فما الذي زحزحهم عن رأيهم ذلك يوم السقيفة؟ وما الذي أرجأهم عن بيعته؟ ومن أين أتاهم ذلك الخلاف الفاحش الذي جرّ الأسواء على الأُمّة حتى اليوم؟ وقد عرّفناك في الجزء السابع (ص ٧٦ ، ٩٣ ، ١٤١) الطبعة الأولى (٣).

إنّ عيون الصحابة من المهاجرين والأنصار لمّا لم تكن تجد لأبي بكر يوم

__________________

(١) جعدبة : متروك يروي عن العلاء مناكير ، والعلاء ضعيف حديثه غير صحيح. راجع لسان الميزان : ٢ / ١٠٥ ، ٤ / ١٨٣ [٢ / ١٣٤ رقم ١٩٤٩ ، ٤ / ٢١٢ رقم ٥٦٨٦]. (المؤلف)

(٢) لا يعرف ولا يدري رجال الجرح والتعديل من هو. لسان الميزان : ٥ / ٩٦ [٥ / ١٠٩ رقم ٧١٠٧]. (المؤلف)

(٣) وفي : ص ٧٥ ـ ٨٢ ، ٩٣ ، ١٤١ الطبعة الثانية. (المؤلف)


تقمّص الخلافة فضيلة يستحقّ بها الخلافة ، وتدعم بها الحجّة على الناس في بيعته تقاعست وتقاعدت عنها وما مُدّت إليها منهم يد ، ولم تكن لهم فيها قدم ، وما بايعه يومها الأوّل إلاّ رجلان أو أربعة ، أو خمسة ، ثم حدت الأُمّة إليها الدعوة المشفوعة بالإرهاب والترعيب ، وما كان في أفواه الدعاة إليها إلاّ الترهيب بالقتل والضرب والحرق ، أو قولهم : إنّ أبا بكر السبّاق المسنّ ، صاحب رسول الله في الغار ، وكانت هذه غاية جهدهم في عدّ فضائل أبي بكر. قال ابن حجر في فتح الباري (١) (١٣ / ١٧٨) : وهي ـ فضيلة كونه ثاني اثنين في الغار ـ أعظم فضائله التي استحقّ بها أن يكون الخليفة من بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك قال عمر بن الخطّاب : إنّ أبا بكر صاحب رسول الله ، ثاني اثنين ، فإنّه أولى المسلمين بأموركم. انتهى.

ألا مسائل ابن حجر عن أنّ صحبة يومين في الغار التي تتصور على أنحاء ، وللقول فيها مجال واسع ، صحبة ما أمكنت الرجل من أن يصف صاحبه لمّا جاءهُ اليهود وقالوا : صف لنا صاحبك. فقال : معشر اليهود لقد كنت معه في الغار كإصبعيّ هاتين ، ولقد صعدت معه جبل حراء وإنّ خنصري لفي خنصره ، ولكنّ الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شديد ، وهذا عليّ بن أبي طالب. فأتوا عليّا فقالوا : يا أبا الحسن صف لنا ابن عمّك ، فوصفه. الحديث (٢).

كيف استحقّ الرجل بمثل هذه الصحبة الخلافة وصار بذلك أولى الناس بأمورهم؟ وأمّا صحبة عليّ عليه‌السلام إيّاه منذ نعومة أظفاره إلى آخر نفس لفظه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عاد منه كالظلّ من ذيه ، وعُدّ نفسه في الكتاب العزيز ، وقرنت ولايته بولاية الله وولاية نبيّه ، وجعلت مودّته أجر الرسالة ، فلم تستوجب استحقاقه بها الخلافة والأولويّة بأمور الناس بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» إنّ هذا لشيء عجاب!

__________________

(١) فتح الباري : ١٣ / ٢٠٩.

(٢) الرياض النضرة : ٢ / ١٩٥ [٣ / ١٤٣]. (المؤلف)


وإنّي لست أدري أنّ هذه المفاضلة المتسالم عليها بين الصحابة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ذا نسيها أُولئك العدول بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ولما ذا لم يُصفقوا على ذلك الاختيار الذي كان يسمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكره؟ ووقع الخلاف والتشاحّ والتلاكم والتشاتم والنزاع ، حتى كاد أن يقتل صنو النبيّ الأعظم في تلك المعمعة ، ورأت بضعته الصدّيقة ما رأت ، ووقعت وصمات لا تنسى طيلة حياة الدنيا ، وأُرجئ دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً ، وكانت الصحابة بمعزل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن إجنانه (١) ، وما حضر الشيخان دفنه (٢). قال النووي في شرح صحيح مسلم (٣) : كان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنّهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتّب عليه مفاسد عظيمة ، ولهذا أخّروا دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهمّ الأُمور ، كي لا يقع نزاع في مدفنه ، أو كفنه ، أو غسله ، أو الصلاة عليه ، أو غير ذلك.

ثم لو كان الأمر كما زعم ابن عمر من الاختيار فتقديم أبي بكر يوم السقيفة الرجلين : عمر وأبا عبيدة على نفسه وقوله : بايعوا أحد الرجلين ، أو قوله : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم. لما ذا؟

ولما ذا قول أبي بكر لأبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور : هلمّ أبايعك فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّك أمين هذه الأُمّة؟

تاريخ ابن عساكر (٤) (٧ / ١٦٠).

__________________

(١) يقال : أجنّه في قبره ، أي : دفنه.

(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع : ص ٧٥. (المؤلف)

(٣) [شرح صحيح مسلم : ١٢ / ٧٨] في كتاب الجهاد ، باب قول النبيّ لا نُورَث ما تركنا فهو صدقة ، عند قول عليّ عليه‌السلام لأبي بكر : لكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نحن نرى لنا حقّا لقرابتنا من رسول الله. (المؤلف)

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٥ / ٤٦٣ رقم ٣٠٥١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٦٩.


ولما ذا قول أبي بكر في خطبة له : أما والله ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً؟ أو قوله : ألا وإنّما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم فراعوني؟ أو قوله : إنّي ولّيت عليكم ولست بخيركم؟ أو قوله : أقيلوني أقيلوني لست بخيركم (١)؟

ولما ذا ورم أنف كلّ الصحابة يوم اختيار أبي بكر عمر بن الخطّاب للأمر بعده ، وأراد كلّ منهم أن يكون الأمر له دونه (٢)؟

ولما ذا جابه طلحة بن عبيد الله ـ أحد العشرة المبشّرة ـ أبا بكر يوم استخلف عمر فقال طلحة : ما تقول لربّك وقد ولّيت عليها فظّا غليظاً؟

ولما ذا ندم أبو بكر في أُخريات أيّامه على خلافته قائلاً : وددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً؟ راجع (٧ / ١٧٠).

ولما ذا أتى عمر أبا عبيدة الجرّاح يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ابسط يدك فلُابايعك فإنّك أمين هذه الأُمّة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣)؟

وما الذي دعا عمر بن الخطّاب إلى قوله لابن عبّاس : أما والله يا بني عبد المطّلب ، لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر؟ راجع (١ / ٣٤٦ الطبعة الأولى ، ص ٣٨٩ الطبعة الثانية).

__________________

(١) راجع الجزء السابع : ص ١١٨ الطبعة الأولى. (المؤلف)

(٢) جاء في صحيحة مرّت في ٥ / ٣٥٨ الطبعة الثانية و ٧ / ١٦٨ الطبعة الأولى. (المؤلف)

(٣) أخرجه أحمد في [مسنده : ١ / ٥٨ ح ٢٣٥] وابن سعد [في الطبقات الكبرى : ٣ / ١٨١] وابن جرير [في تهذيب الآثار : ص ٩٢٦ ح ١٣١٧ من مسند عمر بن الخطاب] وابن الأثير [في النهاية : ٣ / ٤٨٢] وابن الجوزي [في صفة الصفوة : ١ / ٢٥٦ رقم ٢] وابن حجر [في الصواعق : ص ١٢] والحلبي [في السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٧]. راجع كنز العمال : ٣ / ١٤٠ [٥ / ٦٥٢ ح ١٤١٤١] ، تاريخ الخلفاء : ص ٤٨ [ص ٦٥] ، الغدير : ٥ / ٣١٦ الطبعة الأولى ، ص ٣٦٩ الطبعة الثانية. (المؤلف)


ولما ذا قال عمر لمّا طعن : إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق الأجلح [المستقيم] (١) ـ يعني عليّا ـ فقال له ابن عمر : ما منعك أن تقدّم عليّا؟ قال : أكره أن أحملها حيّا وميّتاً (٢).

ولما ذا قال لأصحاب الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع ، كيف يحملهم على الحقّ ، قالوا : أتعلم ذلك منه ولا تستخلفه؟ قال : إن استخلف فقد استخلف من هو خير منّي ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي (٣).

ولما ذا تمنّى عمر يوم طعن سالم بن معقل أحد الموالي قائلاً : لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى (٤)؟ وفي لفظ الطبري : استخلفته. وفي لفظ للباقلاني : لرأيت أنّي قد أصبت الرأي ، وما تداخلني فيه الشكوك.

ولما ذا كان يقول : لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبي عبيدة بن الجرّاح (٥)؟

ولما ذا قال ـ للقائلين له : لو عهدت يا أمير المؤمنين ـ : لو أدركت أبا عبيدة الجرّاح ثم ولّيته ، ثم قدمت على ربّي فقال لي : لم استخلفته على أُمّة محمد؟ لقلت : سمعت عبدك وخليلك يقول : لكلّ أُمّة أمين ، وإنّ أمين هذه الأُمّة أبو عبيدة الجرّاح ، ولو أدركت خالداً ثم ولّيته ، ثم قدمت على ربّي فقال لي : من استخلفت على أُمّة

__________________

(١) من الاستيعاب.

(٢) الأنساب : ٥ / ١٦ [٦ / ١٢٠] ، الاستيعاب في ترجمة عمر : ٤ / ٤١٩ [القسم الثالث / ١١٥٤ رقم ١٨٧٨] ، فتح الباري : ٧ / ٥٥ [٧ / ٦٨] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٧٠ [١٢ / ٢٦٠ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) الرياض : ٢ / ٢٤١ [٢ / ٣٥١]. (المؤلف)

(٤) التمهيد للباقلاّني : ص ٢٠٤ ، طرح التثريب : ١ / ٤٩ ، تاريخ الطبري : ٥ / ٣٤ [٤ / ٢٢٧ حوادث سنة ٢٣ ه‍]. (المؤلف)

(٥) طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٣ / ٢٤٨ [٣ / ٣٤٣]. (المؤلف)


محمد؟ لقلت : سمعت عبدك وخليلك يقول : لَخالد سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين (١).

ولما ذا قوله : لو أدركت أبا عبيدة لاستخلفته وما شاورت ، فإن سئلت عنه قلت : استخلفت أمين الله وأمين رسوله (٢)؟

ومرّ في الجزء الخامس (ص ٣١١ الطبعة الأولى ، ص ٣٦٢ الطبعة الثانية) أنّ عائشة قالت لعبد الله بن عمر : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع أُمّة محمد بلا راعٍ ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ، فأتى عبد الله فأعلمه فقال : ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجرّاح باقياً لاستخلفته وولّيته ؛ فإذا قدمت على ربّي فسألني وقال لي : من ولّيت على أمّة محمد؟ قلت : أي ربّ سمعت عبدك ونبيّك يقول : لكلّ أُمّة أمين وأمين هذه الأُمّة أبو عبيدة ابن الجرّاح. ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته ، فإذا قدمت على ربّي فسألني : من ولّيت على أُمّة محمد؟ قلت : أي ربّ سمعت عبدك ونبيّك يقول : إنّ معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة ، ولو أدركت خالد بن الوليد لولّيته ، فإذا قدمت على ربّي فسألني : من ولّيت على أُمّة محمد؟ قلت : أي ربّ سمعت عبدك ونبيّك يقول : خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلّه على المشركين (٣).

ولما ذا ساوى عمر بين أصحاب الشورى ، ولمّا قيل له : استخلف. قال : ما أجد أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنهم راضٍ ، فسمّى عليّا وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن؟

صحيح البخاري (٤) (٥ / ٢٦٧).

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ١٠٢ [١٦ / ٢٤١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ١٦٠ [٢٥ / ٤٦١ رقم ٣٠٥١]. (المؤلف)

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٢٨.

(٤) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٥٥ ح ٣٤٩٧.


وأين هذا من قول عبد الرحمن بن عوف لعليّ وعثمان : إنّي قد سألت الناس لكما (١) فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً. وقوله : أيّها الناس إنّي سألتكم سرّا وجهراً بأمانيكم (٢) فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين : إمّا عليّ وإمّا عثمان (٣)؟

ولما ذا بدأ عبد الرحمن بن عوف بعليّ عليه‌السلام أوّلاً للبيعة وقدّمه على عثمان يوم الشورى ، غير أنّه اشترط عليه ـ صلوات الله عليه ـ القيام بسيرة الشيخين ، فلم يقبله وقبله عثمان فبايعه على ذلك (٤)؟ وقد مرّ الكلام حول هذا الشرط في الجزء التاسع (ص ٨٨ ، ٩٠).

ولما ذا قال أبو وائل لعبد الرحمن بن عوف : كيف بايعتم عثمان وتركتم عليّا؟ أخرجه أحمد في مسنده (٥) (١ / ٧٥).

ولما ذا قال معاوية : إنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنّهم أهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولّى الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة. يأتي تمام كلامه في هذا الجزء.

ولما ذا قال العبّاس عمّ النبيّ لعليّ عليه‌السلام يوم قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابسط يدك فلنبايعك (٦)؟

__________________

(١) في البداية والنهاية : عنكما.

(٢) في تاريخ الطبري : عن إمامكم.

(٣) تاريخ الطبري : ٥ / ٤٠ [٤ / ٢٣٨ حوادث سنة ٢٣ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ١٦٤ [٧ / ١٦٥ حوادث سنة ٢٤ ه‍]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ١ / ٧٥ [١ / ١٢٠ ح ٥٥٨] ، تمهيد الباقلاني : ص ٢٠٩ ، تاريخ الطبري : ٥ / ٤٠ [٤ / ٢٣٨] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٠٤ [ص ١٤٤] ، الصواعق : ص ٦٣ [ص ١٠٦] ، فتح الباري ١٣ / ١٦٨ [١٣ / ١٩٧]. (المؤلف)

(٥) مسند أحمد : ١ / ١٢٠ ح ٥٥٨.

(٦) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢٤٥ [٢٦ / ٣٥٣ رقم ٣١٠٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٤٧]. (المؤلف)


ولما ذا قال العبّاس لأبي بكر : فإن كنت برسول الله طلبت فحقّنا أخذت وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، متقدّمون فيهم. وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين؟ إلى آخر ما مرّ في (٥ / ٣٢٠ الطبعة الأولى).

ولما ذا تقاعد عمّار وشتم ابن أبي سرح لمّا قال : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان؟ وخالف المقداد وجمع آخر من عيون الصحابة بيعة عثمان ، وتمّت بالإرهاب والترعيد ، وقال عمّار لعبد الرحمن : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّا. فقال المقداد : صدق عمّار إن بايعت عليّا قلنا : سمعنا وأطعنا (١). وقال عليّ لعبد الرحمن : «حبوته حبو دهر ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك ، والله كلّ يوم هو في شأن»؟

تاريخ الطبري (٢) : (٥ / ٣٧)

. ولما ذا قال سعد بن أبي وقّاص لعبد الرحمن بن عوف : إن كنت تدعوني والأمر لك وقد فارقك عثمان على مبايعتك كنت معك ، وإن كنت إنّما تريد الأمر لعثمان فعليّ أحقّ بالأمر وأحبّ إليّ من عثمان ، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا؟!

أنساب البلاذري (٥ / ٢٠) ، تاريخ الطبري (٥ / ٣٦) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٢٩) ، فتح الباري (١٣ / ١٦٨) (٣).

ولما ذا قال الزبير : لو مات عمر لبايعت طلحة ، فو الله ما كان بيعة أبي بكر إلاّ

__________________

(١) تاريخ ابن جرير الطبري : ٥ / ٣٧ [٤ / ٢٣٢ حوادث سنة ٢٣ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢٨ [٢ / ٢٢٣ حوادث سنة ٢٣ ه‍]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٣٣ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٣) أنساب الأشراف : ٦ / ١٢٦ ، تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٣٢ حوادث سنة ٢٣ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٢ حوادث سنة ٢٣ ه‍ ، فتح الباري : ١٣ / ١٩٧.


فلتة فتمّت (١)؟!

ولما ذا جابه الزبير يوم قال عمر : أكلّكم يطمع في الخلافة بعدي بقوله : ما الذي يبعدنا منها؟ ولّيتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

شرح ابن أبي الحديد (٢) (١ / ٦٢).

وأين يقع قول عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام على صهوة المنبر : «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى» إلى آخر الخطبة الشقشقية ، إلى كلمات أخرى له تضادّ هذه المفاضلة.

ولما ذا كان أبو عبيدة أحبّ إلى رسول الله بعد الشيخين من أصحابه كما في صحيحة جاء بها (٣) ابن ماجة في سننه (١ / ٥١) ، والترمذي في صحيحه (١٣ / ١٢٦) عن ابن شقيق ، قال : قلت لعائشة : أيّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قالت : أبو بكر. قلت : ثم من؟ قالت : عمر. قلت : ثم من؟ قالت : أبو عبيدة بن الجرّاح. قلت : ثم من؟ فسكتت؟

وأخرجها (٤) : أحمد في مسنده (٦ / ٢١٨) ، وابن عساكر في تاريخه (٧ / ١٦١).

وشتّان بين اختيار ابن عمر وبين ما جاء عن ابن أبي مليكة قال : قيل لعائشة : من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ قالت : أبو بكر. قيل لها : ثم من؟

__________________

(١) أصل الحديث في صحيح البخاري [٦ / ٢٥٠٣ ح ٦٤٤٢] : راجع شرح بهجة المحافل : ١ / ٥٨. (المؤلف)

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٥ خطبة ٣.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٣٨ ح ١٠٢ ، صحيح الترمذي : ٥ / ٥٦٦ ح ٣٦٥٧.

(٤) مسند أحمد : ٧ / ٣١١ ح ٢٥٣٠١ ، تاريخ مدينة دمشق : ٢٥ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ رقم ٣٠٥١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٧٠.


قالت : عمر. فقيل لها : ثم من؟ قالت : أبو عبيدة. وانتهت إلى هذه (١).

وأين كان ابن عمر عن أناس كانوا يفضّلون بلال الحبشي على أبي بكر حتى قال : كيف تفضّلوني عليه وإنّما أنا حسنة من حسناته (٢)؟

وأنّى اختيار ابن عمر من قول كعب بن زهير (٣) :

صهرُ النبيِّ وخيرُ الناسِ كلِّهمُ

وكلُّ من رامه بالفخر مفخورُ

صلّى الصلاةَ مع الأمّي أوّلهم

قبل العبادِ وربُّ الناسِ مكفورُ

ومن قول ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب :

ما كنتُ أحسبُ أنّ الأمرَ منتقلٌ

عن هاشمٍ ثم منها عن أبي حسنِ

أليس أوّلَ من صلّى لقبلتِهمْ

وأعلمَ الناسِ بالآياتِ والسننِ

وآخرَ الناسِ عهداً بالنبيِّ ومن

جبريلُ عونٌ له في الغسلِ والكفنِ

من فيه ما فيهم ما تمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسنِ

ما ذا الذي ردّكم عنه فنعلمه

ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتنِ (٤)

ومن قول الفضل بن أبي لهب :

ألا إنّ خيرَ الناس بعد محمدٍ

مهيمنُه التاليه في العرف والنكرِ

وخيرتُه في خيبرٍ ورسولهُ

بنبذ عهود الشركِ فوق أبي بكرِ

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧ / ١١٠ [٥ / ٩ ح ٩ كتاب فضائل الصحابة] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ١٦١ [٢٥ / ٤٧٢ رقم ٣٠٥١]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٣ / ٣١٤ [١٠ / ٤٧٥ رقم ٩٧٤ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٢٦٧]. (المؤلف)

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٢١.

(٤) تعزى هذه الأبيات إلى عدّة شعراء. راجع المصادر المذكورة في هامش ص ١٢٦ من الجزء السابع ، والاستيعاب : ٣ / ١١٣٣ رقم ١٨٥٥.


وأوّلُ من صلّى وصنوُ نبيّه

وأوّلٌ من أَردى الغواةَ لدى بدرِ

فذاك عليُّ الخيرِ من ذا يفوقه

أبو حسنٍ حلفُ القرابةِ والصهرِ

ومن قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث :

وكان وليّ الأمر بعد محمدٍ

عليّ وفي كلّ المواطن صاحبه

وصيّ رسول الله حقّا وجاره

وأوّل من صلّى ومن لان جانبه (١)

ومن قول النجاشي أحد بني الحارث بن كعب ، من أبيات له (٢) :

جعلتم عليّا وأشياعَهُ

نظير ابن هندٍ أما تستحونا

إلى أفضلِ الناسِ بعد الرسولِ

وصنوِ الرسولِ من العالمينا

وصهرِ الرسولِ ومن مثلُه

إذا كان يومٌ يشيب القرونا

ومن قول جرير بن عبد الله البجلي (٣) ، من أبيات له :

فصلّى الإلهُ على أحمدٍ

رسولِ المليكِ تمام النعم

وصلّى على الطهرِ من بعدِه

خليفتِنا القائمِ المدّعم

عليّا عنيتُ وصيَّ النبيِ

يجالدُ عنه غواةَ الأُمم

له الفضلُ والسبقُ والمكرما

ت وبيتُ النبوّةِ لا يهتضم

ومن قول زحر بن قيس (٤) إلى خاله جرير :

جريرَ بن عبدِ الله لا تردد الهدى

وبايع عليّا إنّني لك ناصحُ

__________________

(١) ونسب ابن شهرآشوب البيتين في المناقب : ٣ / ٦٤ إلى الفضل بن عباس.

(٢) وقعة صفّين : ص ٥٩.

(٣) وقعة صفّين : ص ١٨.

(٤) وقعة صفّين : ص ١٦.


فإنّ عليّا خير من وطئ الحصى

سوى أحمدٍ والموت غادٍ ورائحُ

وممّا قيل على لسان الأشعث بن قيس الكندي (١) :

أتانا الرسولُ رسولُ الوصيِ

عليِّ المهذّبِ من هاشمِ

رسولُ الوصيِّ وصيِّ النبيّ

وخيرِ البريّة من قائمِ

وزير النبيّ وذو صهره

وخير البريّة في العالمِ

له الفضلُ والسبقُ بالصالحاتِ

لهدي النبيّ به يأتمي (٢)

وأنت ترى من جرّاء ذلك الاختيار الباطل الذي جاء به ابن عمر أن تدهورت السياسة فصار الانتخاب نصّا ، وانقلبت الديمقراطيّة ـ إن كانت ـ إلى دكتاتوريّة محضة رضيت الأُمّة أم غضبت ، ثم عاد الأمر شورى ويا لله وللشورى وسيف عبد الرحمن ابن عوف هو العامل الوحيد يوم ذاك ، إلى أن أصبح ملكاً عضوضاً ، ووصلت النوبة إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء ، إلى رجال العيث والفساد ، إلى أبناء الخمور والفجور ، إلى أن تمكّن معاوية الخمر والربا من استخلاف يزيد العرّة والشرة قائلاً : من أحقّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟ وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر (٣).

لم يكن لأعيان الأُمّة ، ووجوه الصحابة ، وصلحاء الملّة ، وخيرة الناس في أمر تلكم الأدوار القاتمة حلّ ولا عقد ، بل كانوا مضطهدين مقهورين مبتزّين يرون حكم الله مبدّلاً ، وكتابه منبوذاً ، وفرائضه محرّفة عن جهات أشراعه ، وسنن نبيّه متروكة.

سبحانك اللهمّ ما أجرأهم على الرحمن وانتهاك حرمة النبيّ وكتابه باختيار

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٢٤.

(٢) يأتمي ، أراد يأتمّ التي أصلها يأتمم ، فقلب إحدى الميمين ياءً كما قالوا في التظنّن التظنّي ، وفي التقصّص التقصّي.

(٣) الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢١٧ [٢ / ٥١١ حوادث سنة ٥٦ ه‍]. (المؤلف)


يضادّه نداء القرآن الكريم ، (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١)! باختيار كذّبه ما جاء عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النصوص على اختيار الله عليّا وأنّه أحد الخيرتين ، وأنّه خير البشر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه أحبّ الناس إلى الله وإليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه منه بمنزلته من ربّه ، وأنّه منه بمنزلة الرأس من جسده ، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعده ، وأنّ لحمه لحمه ودمه دمه والحقّ معه ، وأنّ طاعته طاعته ومعصيته معصيته ، وأنّه سلم لمن سالمه ، وحرب لمن حاربه (٢) وأنّه ممسوس في ذات الله (٣) إلى نصوص كثيرة تضادّ اختيار ابن عمر ومن شاكله في تمنّي الحديث.

أليست هذه الأحاديث إلى أمثالها المعدودة بالمئات إنكاراً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقولهم ـ إن كان هناك قول ـ : إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس؟

أليست آي المباهلة والتطهير والولاية وأضرابها إلى الثلاثمائة آية النازلة في عليّ عليه‌السلام (٤) تضادّ ذلك القول القارص؟

(هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) (٥) (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٦) (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٧) (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ

__________________

(١) فصلت : ٣.

(٢) كلّ هذه الأحاديث مرّت في الأجزاء الماضية. (المؤلف)

(٣) حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني : ١ / ٦٨ [رقم ٤]. (المؤلف)

(٤) تاريخ الخطيب : ٦ / ٢٢١ [رقم ٣٢٧٥] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٢٣٠ [٢ / ٢٠٧]. (المؤلف)

(٥) الرعد : ١٦.

(٦) الزمر : ٩.

(٧) السجدة : ١٨.


مَثَلاً) (١) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (٢) (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (٤) (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٥) (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٦) (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٧) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٨).

ما هذا الاختيار؟ وكيف يتم؟ ولِمَ وبِمَ؟

هل تدري ما الذي دعا ابن عمر إلى رمي القول على عواهنه؟ إلى رمي الصحابة بعزوه المختلق ، ونسبة هذا الاختيار المبير إليهم ، وأنّهم تركوا المفاضلة بعد الثلاثة ، وأنّهم قالوا : ثم نترك أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم ، وقالوا : كنّا نقول : إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس فيسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فلا ينكره؟

أم هل تدري بما ذا تُتَصوّرالمفاضلة والخيرة؟ وبِمَ تتمّ؟ وأنّى تصحّ؟ بعد ثبوت ما جاء في الصحاح والمسانيد مرفوعاً من أنّ عليّا عليه‌السلام كان أعظمهم حلماً ، وأحسنهم

__________________

(١) هود : ٢٤.

(٢) محمد : ١٤.

(٣) الملك : ٢٢.

(٤) المائدة : ١٠٠.

(٥) النساء : ٩٥.

(٦) الحشر : ٢٠.

(٧) غافر : ٥٨.

(٨) محمد : ٢٤.


خلقاً ، وأكثرهم علماً ، وأعلمهم بالكتاب والسنّة ، وأقدمهم سلماً ، وأوّلهم صلاة من رسول الله ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأخشنهم في ذات الله ، وأقسمهم بالسويّة ، وأعدلهم في الرعيّة ، وأبصرهم بالقضيّة ، وأعظمهم عند الله مزيّة ، وأفضلهم في القضاء ، وأوّلهم وارداً عليّ الحوض ، وأعظمهم عناءً ، وأحبّهم إلى الله ورسوله ، وأخصّهم عنده منزلة ، وأقربهم قرابة ، وأولاهم بهم من أنفسهم كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقربهم عهداً به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وجبريل ينادي : لا فتى إلاّ عليّ لا سيف إلاّ ذو الفقار (٢). فهل يبقى هنالك موضوع للمفاضلة بعد هذه كلّها حتى يخيّر فيه الصبيّ ابن عمر أو غيره ، فيختارون على عليّ غيره؟ غفرانك اللهمّ وإليك المصير.

قال الجاحظ : لا يُعلم رجل في الأرض متى ذُكر السبق في الإسلام والتقدّم فيه ، ومتى ذُكرت النجدة والذبّ عن الإسلام ، ومتى ذُكر الفقه في الدين ، ومتى ذُكر الزهد في الأموال التي تتناجز الناس عليها ، ومتى ذُكر الإعطاء في الماعون ، كان مذكوراً في هذه الخصال كلّها إلاّ عليّ رضى الله عنه. ثمار القلوب للثعالبي (٣) (ص ٦٧).

لستُ أدري كيف ترك المخيّرون أصحاب محمد بعد الثلاثة لا تفاضل بينهم ، وبما ذا استوى الناس وفيهم العشرة المبشّرة؟ وفيهم من رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبيه عيسى في أُمّته هدياً وبرّا ونسكاً وزهداً وصدقاً وجدّا وخَلقاً وخُلقاً (٤).

وفيهم من كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراه جلدة ما بين عينيه وأنفه ، طيّباً مطيّباً ، قد مُلئ إيماناً إلى مشاشه ، يدور مع الحقّ أينما دار (٥).

__________________

(١) مرّت هذه الأحاديث كلّها بمصادرها في طيّات الأجزاء الماضية. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثاني : ص ٥٤ ـ ٥٦ الطبعة الأولى وص ٥٩ ـ ٦١ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٣) ثمار القلوب : ص ٨٧ رقم ١٢٤.

(٤) هو سيّدنا أبو ذر. راجع الجزء الثامن. (المؤلف)

(٥) هو سيّدنا عمّار بن ياسر. راجع من الجزء التاسع صحيفة ٢٤ ـ ٢٨. (المؤلف)


وفيهم من رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثقل في الميزان من أُحد ، ويراه رجال الصحابة : أشبه الناس هدياً ودلاّ وسمتاً بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وفيهم من قرّبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأدناه ، وعلّمه علم ما كان وما يكون (٢).

وفيهم من جاء فيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أراد أن ينظر إلى رجل نُوِّر قلبه فلينظر إلى سلمان». وقوله : «إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ من أصحابي أربعة ، أخبرني أنّه يحبّهم ، وأمرني أن أحبّهم : عليّ ، أبو ذر ، سلمان ، المقداد» ، وصحّ فيه قوله : «سلمان منّا أهل البيت». وقال عليّ أمير المؤمنين : «سلمان رجل منّا أهل البيت ، أدرك علم الأوّلين والآخرين ، من لكم بلقمان الحكيم كان بحراً لا ينزف» (٣).

وفيهم العبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلّه إجلال الولد والده ، خاصّة خصّ الله العبّاس بها من بين الناس ، وله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا الفضل لك من الله حتى ترضى». وخطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضيّة فقال : «من أكرم الناس على الله؟» قالوا : أنت يا رسول الله ، قال : «فإنّ العبّاس منّي وأنا منه». مستدرك الحاكم (٤) (٣ / ٣٢٥).

وجاء في حديث استسقاء عمر بالعبّاس عام الرمادة (٥) أنّ عمر خطب الناس فقال : يا أيّها الناس إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده ، يعظّمه ، ويفخّمه ، ويبرّ قسمه ، فاقتدوا أيّها الناس برسول الله في عمّه العبّاس ، واتّخذوه وسيلة إلى الله عزّ وجلّ فيما نزل بكم (٦).

__________________

(١) هو سيّدنا ابن مسعود. راجع من الجزء التاسع صحيفة ٧ ـ ١١. (المؤلف)

(٢) هو سيّدنا حذيفة بن اليمان. راجع : ٥ / ٥٣ الطبعة الأولى ، وص ٦٠ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٦ / ١٩٨ ـ ٢٠٣ [٢١ / ٤٠٨ ـ ٤٢٢ رقم ٢٥٩٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٠ / ٤٠ ـ ٤٥]. (المؤلف)

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٦٧ ح ٥٤١٠ ، ص ٣٦٨ ح ٥٤١٢ ، ص ٣٧١ ح ٥٤٣١.

(٥) راجع ما مرّ في الجزء السابع : ص ٣٠٠ ، ٣٠١. (المؤلف)

(٦) مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، ٣٢٩ ، ٣٣٤ [٣ / ٣٧٧ ح ٥٤٣٨]. (المؤلف)


وفيهم معاذ بن جبل وقد صحّ فيه عند القوم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه أعلم الأوّلين والآخرين بعد النبيّين والمرسلين ، وإنّ الله يباهي به الملائكة (١).

وفيهم أُبيّ بن كعب وقد صحّح الحاكم فيه قول أبي مسهر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّاه سيد الأنصار ، فلم يمت حتى قالوا : سيّد المسلمين (٢).

وفيهم أُسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاء فيه عن ابن عمر نفسه في الصحيحين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا طعن بعض الناس في إمارته وقد أمّره على جيش كان فيهم أبو بكر وعمر : «فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ ، وإنّ هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسامة أحبّ إليّ ما حاشا فاطمة ولا غيرها.

مسند أحمد (٤) : (٢ / ٩٦ ، ١٠٦ ، ١١٠).

إلى أناس آخرين يُعدّون في الرعيل الأوّل من رجالات الفضائل والفواضل من أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل كان ابن عمر يعرف هؤلاء الرجال ومبلغهم من العظمة وما ورد فيهم عن النبيّ الأقدس من جمل الثناء عليهم ثم يساوي بينهم وبين من عداهم نظراء أبناء هند والنابغة والزرقاء؟

فإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبة أعظم

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ٢٧١ [٣ / ٣٠٤ ح ٥١٨٤]. (المؤلف)

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٠٢ [٣ / ٣٤٢ ح ٥٣١٦]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٧٩ [٣ / ١٣٦٥ ح ٣٥٢٤] ، صحيح مسلم : ٧ / ١٣١ [٥ / ٣٨ ح ٦٣ كتاب فضائل الصحابة] ، صحيح الترمذي : ١٣ / ٢١٨ [٥ / ٦٣٥ ح ٣٨١٦] ، مسند أحمد : ٢ / ٢٠ [٢ / ٩٢ ح ٤٦٨٧]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٢٢٧ ح ٥٦٧٤ ، ص ٢٤٦ ح ٥٨١٤ ، ص ٢٥٢ ح ٥٨٥٤.


وكيف يتمّ هذا الاختيار وقد عزا القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من نبيّ إلاّ قد أعطي سبعة نجباء رفقاء وأُعطيت أنا أربعة عشر : سبعة من قريش : علي ، والحسن ، والحسين وحمزة ، وجعفر ، وأبو بكر ، وعمر. وسبعة من المهاجرين : عبد الله بن مسعود ، وسلمان ، وأبو ذر ، وحذيفة ، وعمّار ، والمقداد ، وبلال؟ (١)

نعم ؛ لا يرضى ابن عمر أن يكون عليّ أمير المؤمنين أفضل من أحد من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعد عثمان وليد بيت أُميّة ، قتيل الصحابة العدول ومخذولهم ، ولا يروقه أن يحكم بالمفاضلة بينه عليه‌السلام وبين ابن هند وإن كان عالياً من المسرفين ، يسمع آيات الله تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها ، كأنّ في أُذنيه وقراً ، ولا بينه وبين ابن النابغة الأبتر ابن الأبتر ، ولا بينه وبين مغيرة بن شعبة أزنى ثقيف ، ولا بينه وبين أبناء أميّة أثمار الشجرة الملعونة في القرآن ، من وزغ طريد ، إلى لعين مثله ، إلى فاسق مستهتر ، إلى فاحش متفحّش ، ولا بينه وبين سلسلة الخمّارين رجال الخمور والفجور في الجاهليّة أو الإسلام نظراء :

أبي بكر بن شغوب (٢). راجع الغدير (٧ / ٩٩).

أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري. مسند أحمد (٣) (٣ / ١٨١ ، ٢٢٧) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٨٦) ، الغدير (٧ / ٩٩).

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٢١ [١٥ / ٣٨٠ رقم ١٨٤٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٢٩٥] ، وفي كنز العمّال [١١ / ٧٥٨ ح ٣٣٦٩٠] نقلاً عن أحمد [في مسنده : ١ / ١٤١ ح ٦٦٧] وتمّام وابن عساكر من طريق عليّ عليه‌السلام. (المؤلف)

(٢) في الإصابة : ٢٢ / ٢٢ رقم ١٤٣ أبو بكر بن شعوب الليثي ، اسمه شداد وقيل : الأسود ، وقيل : شداد بن الأسود ، وأما شعوب فهي أمه. وأبوه من بني ليث بن بكر بن كنانة ، أسلم ابن شعوب بعد أُحد.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ٢٥ ح ١٢٤٥٨ ، ص ١٠٢ ح ١٢٩٦٣.


أبي عبيدة بن الجرّاح. مسند أحمد (١) (٣ / ١٨١) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٨٦) ، شرح صحيح مسلم للنووي (٢) (٨ / ٢٢٣) هامش إرشاد الساري ، مجمع الزوائد (٥ / ٥٢).

أبي محجن الثقفي. تفسير القرطبي (٣) (٣ / ٥٦) ، الإصابة (٤ / ١٧٥).

أبيّ بن كعب. مسند أحمد (٤) (٣ / ١٨١) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٨٦).

أنس بن مالك. غير واحد من الصحاح والمسانيد ، راجع الغدير (٧ / ٩٧ ، ١٠٠)

حسّان بن ثابت. تفسير القرطبي (٥) (٣ / ٥٧) وهو القائل :

ونشربها فتتركنا ملوكاً

وأُسداً ما ينهنهنا اللقاء

خالد بن عجير. الإصابة (١ / ٤٥٩).

سعد بن أبي وقّاص. سنن البيهقي (٨ / ٢٨٥) ، تفسير ابن كثير (٢ / ٩٥) ، تفسير أبي حيّان (٤ / ١٢) إرشاد الساري (٦) (٧ / ١٠٤) ، تفسير الخازن (٧) (١ / ٢٥٢) ، تفسير الآلوسي (٢ / ١١١) تفسير الشوكاني (٨) (٢ / ٧١).

سليط بن النعمان. الامتاع للمقريزي (ص ١١٢).

سهيل بن بيضاء. مسند أحمد (٩) (٣ / ٢٢٧) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٩٠) ، الغدير (٧ / ٩٩).

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٢٥ ح ١٢٤٥٨

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ٢٣١ ح ٩ كتاب الأشربة.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٣ / ٣٨.

(٤) مسند أحمد : ٤ / ٢٥ ح ١٢٤٥٨.

(٥) الجامع لأحكام القرآن : ٣ / ٣٩.

(٦) إرشاد الساري : ١٠ / ٢١٦ ح ٤٦١٨.

(٧) تفسير الخازن : ١ / ١٤٧.

(٨) فتح القدير : ٢ / ٧٥.

(٩) مسند أحمد : ٤ / ١٠٢ ح ١٢٩٦٣.


ضرار بن الأزور. تاريخ ابن عساكر (١) (٧ / ٣١ ، ١٣٣).

ضرار بن الخطّاب. تاريخ ابن عساكر (٢) (٧ / ١٣٣).

عبد الرحمن بن عمر. المعارف لابن قتيبة (٣) (ص ٨٠) ، الغدير (٦ / ٢٩٦ ـ ٣٠٠ الطبعة الأولى).

عبد الرحمن بن عوف. أحكام القرآن للجصاص (٤) (٢ / ٢٤٥) ، مستدرك الحاكم (٥) (٤ / ١٤٢) وكثير من التفاسير ، وفي الحديث تحريف أشار إليه الحاكم في المستدرك (٦) (٢ / ٣٠٧). راجع الغدير : (٦ / ٢٣٦ الطبعة الأولى وص ٢٥٢ الطبعة الثانية).

عبد الله بن أبي سرح أخ عثمان من الرضاعة. كتاب صفّين (٧) (ص ١٨٠).

عتبان بن مالك. تفسير الخازن (٨) (١ / ١٥٢).

عمرو بن العاص. الغدير (٢ / ١٣٦).

قيس بن عاصم المنقري. تفسير القرطبي (٩) (٣ / ٥٦).

كنانة بن أبي الحقيق. الإمتاع للمقريزي (ص ١١٢).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٣٩٠ رقم ٢٩٣١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ١٥٤.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق : ٢٥ / ٣٠٣ رقم ٣٠٣٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٢٤.

(٣) المعارف : ص ١٨٨.

(٤) أحكام القرآن : ٢ / ٢٠١.

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ١٥٨ ح ٧٢٢٠.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٣٦ ح ٣١٩٩.

(٧) وقعة صفّين : ص ١٦١.

(٨) تفسير الخازن : ١ / ١٤٧.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ٣٠ : ٣٨.


معاذ بن جبل. شرح صحيح مسلم للنووي (١) (٨ / ٢٢٣) هامش إرشاد الساري ، الغدير (٧ / ١٠٠).

نعيم بن مسعود الأشجعي. الامتاع للمقريزي (ص ١١٢).

نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري. الاستيعاب (١ / ٣٠٨) ، أُسد الغابة (٥ / ٣٦) ، تاريخ ابن كثير (٨ / ٧٠) (٢).

وليد بن عقبة أخ عثمان لأمّه. الغدير (٣) (٨ / ١٢٣ ـ ١٢٨) الطبعة الأولى.

بيعة ابن عمر تارة وتقاعسه عنها أخرى :

هذه عقليّة ابن عمر النابية عن إدراك الحقائق ، وهي التي أرجأته عن بيعة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وحدته إلى بيعة عثمان ، ولم يتسلّل عنه حتى يوم مقتله بعد ما نقم عليه الصحابة أجمع خلا شذاذاً منهم ، بل كان هو الذي أغرى عثمان بنفسه حتى قتل كما جاء في أنساب البلاذري (٤) (٥ / ٧٦) عن نافع قال : حدّثني عبد الله بن عمر ، قال : قال عثمان وهو محصور : ما تقول فيما أشار به عليّ المغيرة بن الأخنس؟ قال : قلت : وما هو؟ قال : قال : إنّ هؤلاء القوم يريدون خلعك فإن فعلت وإلاّ قتلوك فدع أمرهم إليهم. قال : فقلت : أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال : لا. قال : فقلت : فلا أرى أن تسنّ هذه السنّة في الإسلام ، فكلّما سخط قوم على أميرهم خلعوه ، لا تخلع قميصاً قمّصكه الله.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ٢٣١ ح ٧ كتاب الأشربة.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٥٢٩ رقم ٢٦٥٩ ، أُسد الغابة : ٥ / ٣٥٢ رقم ٥٢٧٩ ، البداية والنهاية : ٨ / ٧٦ حوادث سنة ٥٤ ه‍.

(٣) أنظر : ٨ / ١٧٦ ـ ١٨٣ من هذه الطبعة.

(٤) أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٤.


وفي إثر هذا جاء في الأثر : أنّ عثمان لمّا أشرف على الناس فسمع بعضهم يقول : لا نقتله ولكن نعزله ، قال : أمّا عزلي فلا وأمّا قتلي فعسى.

وهذا من أتفه ما ارتآه ابن عمر ، فإنّ أمره عثمان أن لا يخلع نفسه خيفة أن يطّرد ذلك جارٍ في صورة عدم الخلع المنتهي إلى القتل الذي هو أفظع من الخلع ، وفي كلّ منهما سقوط هيبة السلطان وزوال أُبّهة الخلافة ، غير أنّ البقاء مخلوعاً أخفّ وطأة وأبعد عن مثار الفتن ، ومن مشاهد الفتن الثائرة بعد قتل عثمان من قاتليه والحاضّين عليه والمتخاذلين عنه ، فمن قائلة : اقتلوا نعثلاً. قتل الله نعثلاً. تطلب ثاره. ومؤلِّبَينِ عليه ، أخذا بضبعي الهودج يحثّان على الهتاف بثارات عثمان ، وموّها عليها نبح كلاب الحوأب ، ومتقاعد عنه بالشام حتى إذا أُودِي به كتّب الكتائب ، وخرج إلى صفّين ، وأزلف إليه من كان يقول لمّا بلغه أنّه محصور : أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار (١). ولمّا بلغه مقتله قال : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع (٢). قال هذا ثم طفق يثب مع معاوية يطلب الثار ، وكان من ولائد وقعة صفّين مقتل الخوارج بالنهروان ، فمن جرّاء هذه المعامع كانت مجزرة كبرى لزرافات من الصحابة والتابعين ووجهاء الأمصار ورؤساء القبائل وصلحاء المسلمين ، وهل كانت هذه المفاسد إلاّ ولائد ذلك الرأي الفطير الذي أسدى به ابن عمر للخليفة المقتول؟ ولو كان سالم القوم كما أشار إليه المغيرة بن الأخنس فخلعوه ، بقي حلس بيته ولا ثائر ولا مشاغب ، وبقيت بيوت المسلمين عامرة ولم تكن تنتشر الفتن في البلاد.

قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (١٣ / ١٠) : انتشرت الفتن في البلاد ، فالقتال بالجمل وبصفّين كان بسبب قتل عثمان ، والقتال بالنهروان بسبب التحكيم بصفّين ،

__________________

(١) يُضْرب للرجل يخاف الأمر فيجزع قبل وقوعه فيه. مجمع الأمثال : ٢ / ٤٨٠ رقم ٢٨٥٠.

(٢) راجع ما مرّ في الجزء الثاني : ص ١٥٤ ، والجزء التاسع : ص ١٣٦ ـ ١٣٩. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ١٣ / ١٣ ، ٥١.


وكلّ قتال وقع في ذلك العصر إنّما تولّد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولّد عنه. انتهى.

وقال في (ص ٤٢) : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ عثمان : بلاء يصيبنّه. هو ما وقع له من القتل الذي نشأت عنه الفتن الواقعة بين الصحابة في الجمل ، ثم في صفّين وما بعد ذلك. انتهى.

ونحن لا نعرف لابن عمر حجّة فيما ارتكبه من البيعة والقعود إلاّ ما نحته له ابن حجر في فتح الباري (٥ / ١٩) بقوله : لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ لأنّه لم يبايعه لوقوع الاختلاف عليه كما هو مشهور في صحيح الأخبار ، وكان رأي ابن عمر أنّه لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس ، ولهذا لم يبايع أيضاً لابن الزبير ولا لعبد الملك في حال اختلافهما ، وبايع ليزيد بن معاوية ، ثم لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير. انتهى.

وقال في الفتح (١) أيضا (١٣ / ١٦٥) : كان عبد الله بن عمر في تلك المدّة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك كما كان امتنع أن يبايع لعليّ أو معاوية ، ثم بايع لمعاوية لمّا اصطلح مع الحسن بن عليّ ، واجتمع عليه الناس ، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه ، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف ، إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كلّه لعبد الملك فبايع له حينئذٍ.

هذه حجّة داحضة موّه بها ابن حجر على الحقائق الراهنة لتغرير أُمّة جاهلة ، ولعلّه اتّخذها ممّا جاء في الحديث من أنّه لمّا تخلّف عبد الله بن عمر عن بيعة عليّ عليه‌السلام أمر بإحضاره فأُحضر فقال له : «بايع» قال : لا أُبايع حتى تبايع جميع الناس. قال له عليّ عليه‌السلام «فأعطني حميلاً (٢) أن لا تبرح» قال : ولا أعطيك حَميلاً. فقال الأشتر :

__________________

(١) فتح الباري : ١٣ / ١٩٥.

(٢) الحميل ، كفعيل : الكفيل. (المؤلف)


يا أمير المؤمنين إنّ هذا قد أمن سوطك وسيفك ، فدعني أضرب عنقه. قال : «لست أُريد ذلك منه على كره ، خلّوا سبيله». فلمّا انصرف ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لقد كان صغيراً وهو سيّئ الخُلق وهو في كبره أسوأ خُلقاً» وروي أنّه أتاه في اليوم الثاني ، فقال : إنّي لك ناصح ، إنّ بيعتك لم يرضَ بها الناس كلّهم ، فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين. فقال عليّ عليه‌السلام : «ويحك وهل ما كان عن طلب منّي؟ ألم يبلغك صنيعهم بي؟ قم يا أحمق ، ما أنت وهذا الكلام؟» فخرج ثم أتى عليّا عليه‌السلام آتٍ في اليوم الثالث فقال : إنّ ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك ، فأمر بالبعثة في أثره. فجاءت أمّ كلثوم ابنته فسألته ، وضرعت إليه فيه ، وقالت : يا أمير المؤمنين إنّما خرج إلى مكة ليقيم بها ، وإنّه ليس بصاحب سلطان ، ولا هو من رجال هذا الشأن ، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره لأنّه ابن بعلها ، فأجابها وكفّ البعثة إليه ، وقال : «دعوه وما أراد».

جواهر الأخبار للصعدي المطبوع في ذيل كتاب البحر الزخّار (٦ / ٧١).

هلمّوا معي يا أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسائل ابن عمر ، هلاّ بايع هو أبا بكر ولم يجتمع عليه الناس ، وانعقدت بيعته باثنين أو أربعة أو خمسة ، كما مرّ في (٧ / ١٤١) الطبعة الأولى.

والاختلاف هنالك كان قائماً على ساق ، وهو الذي فرّق صفوف الأمّة حتى اليوم ، وكان ابن عمر ينظر إليه من كثب ، ثم لحقتها موافقة الناس بالإرهاب في بعض ، وإطماع في آخرين ، وأمر دبّر بليل بين لفيف من زبانية الخلافة ، وتمّت بعد وصمات مرّ الإيعاز إليها في الجزء السابع (ص ٧٤ ـ ٨٧) ، تمّت وصدور أُمّة صالحة واغرة عليها وعلى من تقمّصها ، وهو يعلم أنّ محلّ عليّ عليه‌السلام منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ، ولا يرقى إليه الطير.


وأمّا أبوه فلم يثبت أمره إلاّ بتعيين أبي بكر إيّاه ، «فيا عجباً [بَينَا هُوَ] (١) يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها» (٢) ، والناس متذمّر على المستخلف ، كلّهم ورم أنفه من ذلك ، قائلين : ما تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّا غليظاً؟ ثم ألحقت الناس به العوامل المذكورة.

وأمّا حديث الشورى ، وما أدراك ما حديث الشورى؟ فسل عنه سيف عبد الرحمن بن عوف الذي لم يكن مع أحد يومئذٍ سيف غيره ، واذكر قوله لعلّي : بايع وإلاّ ضربت عنقك ، أو قوله له : لا تجعلنّ على نفسك سبيلاً. كما ذكره البخاري ، والطبري وغيرهما (٣) ، وزاد ابن قتيبة : فإنّه السيف لا غير. أو قول أصحاب الشورى لمّا خرج عليّ مغضباً ولحقوه : بايع وإلاّ جاهدناك (٤). أو قول أمير المؤمنين : «متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذْ أسفّوا ، وطرت إذْ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال آخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ». إلخ (٥)

لكن ابن عمر ـ على زعم ابن حجر ـ لا يرى كلّ هذه خلافاً في خلافة القوم

__________________

(١) الزيادة من نهج البلاغة.

(٢) جُمل لمولانا أمير المؤمنين من خطبته الشقشقية. راجع : ٧ / ٨١ [نهج البلاغة : ص ٤٨ خطبة ٣]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري باب كيف يبايع الإمام : ١٠ / ٢٠٨ [٦ / ٢٦٣٥ ح ٦٧٨١] ، تاريخ الطبري : ٥ / ٣٧ ، ٤٠ [٤ / ٢٣٣ ، ٢٣٨ حوادث سنة ٢٣ ه‍] ، الإمامه والسياسة : ١ / ٢٥ [١ / ٣١] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٣٠ [٢ / ٢٢٣ سنة ٢٣] ، الصواعق : ص ٣٦ [ص ١٠٦] ، فتح الباري : ١٣ / ١٦٨ [١٣ / ١٩٧] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٠٢ [ص ١٤٣]. (المؤلف)

(٤) أنساب البلاذري : ٥ / ٢٢ [٦ / ١٢٨]. (المؤلف)

(٥) راجع الجزء السابع : ص ٨١. (المؤلف)


ولا في معاوية من إنجاز الأمر بعد أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بين السيف والمطامع ، وفي القلوب منه ما فيها إلى أن لفظ نفسه الأخير ، هذا سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة المبشّرة ومن رجال الشورى الستة تخلّف عن بيعته ، دخل على معاوية فقال له : السلام عليك أيّها الملك ، فقال له : فهلاّ غير ذلك أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فقال سعد : نعم إن كنّا أمّرناك ، وفي لفظ : نحن المؤمنون ولم نؤمّرك. فقال معاوية : لا يبلغني أنّ أحداً يقول : إنّ سعداً ليس من قريش إلاّ فعلت به وفعلت ، إنّ سعداً الوسط في قريش ، ثابت النسب (١).

وهذا ابن عبّاس وهو يجابه معاوية ويدحض حجّته ، قال عبيد الله بن عبد الله المديني : حجّ معاوية فمرّ بالمدينة ، فجلس في مجلس فيه سعد ، وفيه عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عبّاس ، فالتفت إلى عبد الله بن العبّاس فقال : يا أبا عبّاس إنّك لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا ، فكنت علينا ولم تكن معنا ، وأنا ابن عمّ المقتول ظلماً ـ يعني عثمان ـ وكنت أحقّ بهذا الأمر من غيري. فقال ابن عباس : اللهم إن كان هكذا فهذا ـ وأومأ إلى ابن عمر ـ أحقّ بها منك لأنّ أباه قتل قبل ابن عمّك. فقال معاوية : ولا سواء إنّ أبا هذا قتله المشركون ، وابن عمي قتله المسلمون. فقال ابن عبّاس : هم والله أبعد لك وأدحض لحجّتك. فتركه (٢).

وأنكرت عائشة على معاوية دعواه الخلافة ، وبلغه ذلك فقال : عجباً لعائشة تزعم أنّي في غير ما أنا أهله ، وأنّ الذي أصبحت فيه ليس لي بحقّ ، مالها ولهذا يغفر الله لها ، إنّما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجالس وقد استأثر الله به. فقال

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٢٥١ و ٦ / ١٠٦ [٢٠ / ٣٥٩ رقم ٢٤٢٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٦٩]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٦ / ١٠٧ [٢٠ / ٣٦٠ رقم ٢٤٢٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠]. (المؤلف)


الحسن بن علي : «أو عجب ذلك يا معاوية؟» قال : إي والله ، قال : أفلا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟ قال : ما هو؟ قال : «جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك».

شرح ابن أبي الحديد (١) (٤ / ٥).

وهكذا كان أكابر الصحابة مناوئين له في المدينة الطيّبة فأسمعوه النكير ، وسمعوا إدّا من القول. ورأوا إمراً من أمره ، وشاهدوا منه أحداثاً وبدعاً في الدين الحنيف تخلد مع الأبد ، وعاينوا منه جنايات على الأمّة الإسلاميّة وصلحائها وعظمائها ، من هتك ، وحبس ، وشتم ، وسبّ مقذع ، وضرب ، وتنكيل ، وعذاب ، وقتل ، قطّ لا تُغفر له ـ وحاش لله أن يغفرها له ، دع عمر بن عبد العزيز يرى في الطيف أنّه مغفور له (٢) ـ وتذمّرت عليه صلحاء أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه من لعنه والتخذيل عنه ، وأمره الصحابة بقتاله ، وتوصيفه فئته بالقسط ، وأنّها الفئة الباغية ، وقوله السائر الدائر : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» (٤).

ليت شعري أين كان ابن عمر من هذه كلّها؟ ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحاسم لمادّة النزاع : «ستكون خلفاء فتكثر». قالوا : فما تأمرنا؟ قال : «فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل» (٥).

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ١٦ / ١٢.

(٢) سيوافيك تفصيله إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) كنوز الدقائق للمناوي : ص ١٠ [١ / ١٩] ، أخرجه ابن عدي [في الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ١٤٦ رقم ٣٤٣] عن أبي سعيد والعقيلي عن طريق الحسن وسفيان بن محمد من طريق جابر وغيرهم. وسيوافيك الكلام في إسناده إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن كثير : ٦ / ٢٢١ [٦ / ٢٤٧ حوادث سنة ١١ ه‍]. (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٦ / ١٧ [٤ / ١١٩ ح ٤٤ كتاب الإمارة] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٢٠٤ [٢ / ٩٥٨ ح ٢٨٧١] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٤٤ ، عن الشيخين ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٥ عن الشيخين أيضاً [٢ / ٤٢] مسند أحمد : ٢ / ٢٩٧ [٢ / ٥٧٦ ح ٧٩٠٠] ، المحلّى : ٩ / ٣٦٠ [مسألة ١٧٧١]. (المؤلف)


وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأُمّة ـ وهي جميع ـ فاضربوه بالسيف كائناً من كان». وفي لفظ : «فاقتلوه» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم ، فاقتلوه» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطهِ إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».

قال عبد الرحمن بن عبد ربّ : فدنوت منه فقلت له : أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فأهوى إلى أُذنيه وقلبه بيديه. وقال : سمعته أُذناي ووعاه قلبي. فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ، والله عزّ وجلّ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٤) قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله (٥).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦ / ٢٣ [٤ / ١٢٨ ح ٦١ كتاب الامارة] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥٦ [٢ / ١٦٩ ح ٢٦٦٥] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٤٤ ، الفصل لابن حزم : ٤ / ٨٨ ، المحلّى : ٩ / ٣٦٠ ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٥ [٢ / ٤٢]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ٢٢ [٤ / ١٢٧ ح ٥٩] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥٢ [٢ / ١٦٩ ح ٢٦٦٥] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٦٨ ، ١٦٩. (المؤلف)

(٣) صحيح مسلم : ٦ / ٢٣ [٤ / ١٢٧ ح ٦٠ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٦٩ ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٥ [٢ / ٤٢] ، المحلّى : ٩ / ٣٦٠. (المؤلف)

(٤) النساء : ٢٩.

(٥) صحيح مسلم : ٦ / ١٨ [٤ / ١٢٠ ح ٤٦] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٦٩ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٤٦٧ [٢ / ١٣٠٦ ح ٣٩٥٦] ، المحلّى : ٩ / ٣٦٠. (المؤلف)


قال النووي في شرح مسلم (١) هامش إرشاد الساري (٨ / ٤٣) : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» معناه : ادفعوا الثاني فإنّه خارج على الإمام ، فإن لم يندفع إلاّ بحرب وقتال فقاتلوه ، فإن دعت المقاتلة إلى قتله ، جاز قتله ولا ضمان فيه لأنّه ظالم متعدّ في قتاله.

قال : قوله : فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية. إلى آخره. المقصود بهذا الكلام أنّ هذا القائل لمّا سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأوّل وأنّ الثاني يُقتل ، فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية لمنازعته عليّا رضى الله عنه وكانت قد سبقت بيعة علي ، فرأى هذا أنّ نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب عليّ ومنازعته ومقاتلته إيّاه من أكل المال بالباطل ، ومن قتل النفس ، لأنّه قتال بغير حقٍّ ، فلا يستحقّ أحد مالاً في مقاتلته.

وقال (ص ٤٠) في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون خلفاء فتكثر». الحديث : معنى هذا الحديث : إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأوّل صحيحة يجب الوفاء بها ، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ، ويحرم عليه طلبها ، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأوّل أم جاهلين ، وسواء كانا في بلدين أو بلد ، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره ، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء ، وقيل : تكون لمن عقدت في بلد الإمام. وقيل : يقرع بينهم. وهذان فاسدان ، واتّفق العلماء على أنّه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتّسعت دار الإسلام أم لا ، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد (٢) : قال أصحابنا لا يجوز عقدها لشخصين ، قال : وعندي أنّه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد ، وهذا مجمع عليه ، قال : فإن بعد ما بين الإمامين وتخلّلت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال ، وهو خارج عن القواطع. وحكى

__________________

(١) شرح صحيح مسلم : ١٢ / ٢٣٤ ، ٢٣١.

(٢) راجع الإرشاد : ص ٥٢٥ طبع مكتبة الخانجي [ص ٣٥٧]. (المؤلف)


المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصول ، وأراد به إمام الحرمين ، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ، ولظواهر إطلاق الأحاديث ، والله أعلم. انتهى.

فكان من واجب ابن عمر نظراً إلى هذه النصوص أن يبايع عليّا ولا يتقاعد عن بيعته وقد بايعه المهاجرون والأنصار والبدريّون وأصحاب الشجرة على بكرة أبيهم ، قال ابن حجر في فتح الباري (١) (٧ / ٥) : كانت بيعة عليّ بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجّة سنة (٣٥) ، فبايعه المهاجرون والأنصار وكلّ من حضر ، وكتب بيعته إلى الآفاق فأذعنوا كلّهم إلاّ معاوية في أهل الشام فكان بينهم بعدُ ما كان. انتهى.

وكان من واجب الرجل قتال معاوية الخارج على الإمام الطاهر إن كان هو عضادة الدين آخذاً بطقوسه ، تابعاً سننه اللاحب ، مؤمناً بما جاء به نبيّه الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل الأمر كما قال عبد الله بن هاشم المرقال في كلمة له : فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ، ولا جنّة ولا نار ، لكان القتال مع عليّ أفضل من القتال مع معاوية ابن أكّالة الأكباد.

كتاب صفّين (٢) (ص ٤٠٥).

متى اختلف في بيعة عليّ أمير المؤمنين اثنان من رجال الحلّ والعقد من صلحاء الأُمّة؟ ومتى تمّت كلمة الأُمّة في بيعة خليفة منذ أسّس الانتخاب الدستوري مثل ما تمّت لعليّ عليه‌السلام؟ ولم يكن متقاعس عن بيعته سلام الله عليه إلاّ شرذمة المعتزلة العثمانيّين وهم سبعة وثامنهم ابن عمر ، كما مرّ في الجزء السابع (ص ١٤٣) ، فما الذي

__________________

(١) فتح الباري : ٧ / ٧٢.

(٢) وقعة صفّين : ص ٣٥٧.


جعل بيعة أُناس معدودين لم تبلغ عدّتهم عشرة إجماعاً واتّفاقاً في بيعة أبي بكر ، وأوجب على ابن عمر اتّباعهم ، وحرّم عليه التزحزح عنهم؟ وجعل إجماع الأُمّة من المهاجرين والأنصار ورجال الأمصار على بيعة عليّ أمير المؤمنين ، وتخلّف عدّة تعدّ بالأنامل عنها خلافاً وتفرّقاً؟

وليت ابن عمر إن كان لم يأخذ بحكم الكتاب والسنّة في الاستخلاف كان يأخذ برأي أبيه فيه وقد سمعه يقول : هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ، ثم في كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء (١).

وقال في كلام له : لا تختلفوا فإنّكم إن اختلفتم جاءكم معاوية من الشام وعبد الله بن أبي ربيعة من اليمن ، فلا يريان لكم فضلاً لسابقتكم ، وإنّ هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء (٢).

ولعلّ هذا الرأي كان من المتسالم عليه عند السلف ، وبذلك احتجّ مولانا أمير المؤمنين على معاوية في كتاب له كتب إليه بقوله : «واعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ، ولا تعقد معهم الإمامة ، ولا يدخلون في الشورى» (٣).

وكتب ابن عبّاس إلى معاوية : ما أنت وذكر الخلافة؟ وإنّما أنت طليق وابن طليق والخلافة للمهاجرين الأوّلين ، وليس الطلقاء منها في شيء (٤) ، وفي لفظ : إنّ

__________________

(١) طبقات ابن سعد طبعة ليدن : ٣ / ٢٤٨ [٣ / ٣٤٢] ، فتح الباري : ١٣ / ١٧٦ [١٣ / ٢٠٧] ، أُسد الغابة : ٤ / ٣٨٧ [٥ / ٢١٢ رقم ٤٩٧٧]. (المؤلف)

(٢) الإصابة : ٢ / ٣٠٥ [رقم ٤٦٧١]. (المؤلف)

(٣) الإمامة والسياسة : ص ٧١ وفي طبعة ص ٨١ [١ / ٨٥] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٣٣ وفي طبعة ص ٢٨٤ [٤ / ١٣٦] ، نهج البلاغة : ٢ / ٥ ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٨ و ٣ / ٣٠٠ [٣ / ٧٦ خطبة ٤٣ ، ١٤ / ٣٦ كتاب ٦]. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٥ وفي طبعة ص ٩٧ [١ / ١٠٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٨٩ [٨ / ٦٦ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)


الخلافة لا تصلح إلاّ لمن كان في الشورى فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر (١).

ومن كلام لابن عبّاس يخاطب أبا موسى الأشعري : ليس في معاوية خلّة يستحقّ بها الخلافة ، واعلم يا أبا موسى أنّ معاوية طليق الإسلام ، وأنّ أباه رأس الأحزاب ، وأنّه يدّعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة (٢).

ومن كتاب لمسور بن مخرمة (٣) إلى معاوية : إنّك أخطأت خطأ عظيماً ، وأخطأت مواضع النصرة ، وتناولتها من مكان بعيد ، وما أنت والخلافة يا معاوية؟ وأنت طليق وأبوك من الأحزاب؟ فكفّ عنّا فليس لك قبلنا وليّ ولا نصير (٤).

وفي مناظرة لسعنة بن عريض (٥) الصحابي مع معاوية : منعت ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلافة ، وما أنت وهي ، وأنت طليق ابن طليق؟ يأتي تمام الحديث إن شاء الله تعالى.

وعاتب عبد الرحمن بن غنم الأشعري الصحابي (٦) أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليّ رضى الله عنه رسولين لمعاوية ، وكان ممّا قال لهما : عجباً منكما

__________________

(١) كذا في الإمامة والسياسة ، والصواب : من قتلى أُحد.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٥ [٢ / ٢٤٦ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

(٣) نسب هذا الكتاب في كتاب صفّين : ص ٧٠ [ص ٦٣] إلى عبد الله بن عمر وهو وهم ، والأبيات التي كتبها رجل من الأنصار مع الكتاب تكذّب تلك النسبة. فراجع. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٧٥ ، وفي طبعة ٨٥ [١ / ٨٩]. (المؤلف)

(٥) هو سعنة بن عريض بن عاديا التيماوي نسبة لتيماء بين الحجاز والشام ، وهو ابن أخي السموأل ابن عاديا صاحب حصن تيما في الجاهلية. وحكي الخلاف في (صعنة) هل هو بالنون أو بالياء ، كما حكي الخلاف في اسم أبيه هل هو عريض أو غريض.

(٦) قال أبو عمر في الاستيعاب : كان من أفقه أهل الشام ؛ وهو الذي فقّه عامّة التابعين بالشام وكانت له جلالة وقدر. (المؤلف)


كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليّا إلى أن يجعلها شورى؟ وقد علمتما أنّه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق ، وأنّ من رضيه خير ممّن كرهه ، ومن بايعه خير ممّن لم يبايعه ، وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو وأبوه من رءوس الأحزاب. فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه (١).

ومن كلام لصعصعة بن صوحان يخاطب به معاوية : إنّما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنّى تصحّ الخلافة لطليق (٢)؟!

فأين يقع عندئذ معاوية الطليق ابن الطليق من الخلافة؟ وأيّ قيمة في سوق الاعتبار لرأي ابن عمر؟ وما الذي يبرّر بيعته إيّاه إن لم يبرّرها عداء سيّد العترة؟

أيّ إجماع على بيعة يزيد؟

ثم أيّ إجماع صحيح من رجال الدين صحّح لابن عمر بيعة يزيد الممجوج عند الصحابة والتابعين ، المنبوذ لدى صلحاء الأُمّة ، المعروف بالخلاعة والمجون والخمور والفجور على حدّ قول شاعر القضاة الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير (٣) (ص ٢١٧).

رافع الصوت داعياً للفلاحِ

اخفضِ الصوتَ في أذانِ الصباحِ

وترفَّق بصاحبِ العرشِ مشغو

لاً عن اللهِ بالقيانِ الملاحِ

__________________

(١) الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن : ٢ / ٤٠٢ [٢ / ٨٥٠ رقم ١٤٤٩] : أُسد الغابة : ٣ / ٣١٨ [٣ / ٤٨٧ رقم ٣٣٧٠]. (المؤلف)

(٢) مروج الذهب : ١ / ٧٨ [٣ / ٥٢] ؛ يأتي تمام الكلام في هذا الجزء إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) عيد الغدير : ص ٢٢٦.


ألفُ «الله اكبر» لا يساوي

بين كفّي يزيدٍ نهلةَ راحِ

عنست في الدنان بكراً فلم

تدنس بلثمٍ ولا بماءِ قراحِ

والأُمّة مجمعة على شرطيّة العدالة في الإمامة؟ قال القرطبي في تفسيره (١) (١ / ٢٣١) : الحادي عشر ـ من شروط الإمامة ـ أن يكون عدلاً لأنّه لا خلاف بين الأُمّة أنّه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم لقوله عليه‌السلام : «أئمّتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون». وفي التنزيل في وصف طالوت (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (٢) فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوّة.

وقال في (صفحة ٢٣٢) : الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد ، فقال الجمهور : إنّه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم ، لأنّه قد ثبت أنّ الإمام إنّما يقام لإقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، وحفظ أموال الأيتام والمجانين ، والنظر في أُمورهم إلى غير ذلك ممّا تقدّم ذكره ، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأُمور والنهوض فيها ، فلو جوّزنا أن يكون فاسقاً أدّى إلى إبطال ما أُقيم لأجله ، ألا ترى في الابتداء إنّما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنّه يؤدّي إلى إبطال ما أُقيم له وكذلك هذا مثله. انتهى.

أجل : المائة ألف المقبوضة من معاوية لتلك البيعة الغاشمة (٣) جعلت الفرقة لابن عمر إجماعاً ، والاختلاف إصفاقاً ، كما فعلت مثله عند غير ابن عمر من سماسرة النهمة والشره ، فركضوا إلى البيعة ضابحين يقدمهم عبد الله ، فبايعه بعد أبيه ، وكتب إليه ببيعته ، ونصب عينه الناهض الكريم ، والفادي الأقدس ، الحسين السبط ـ سلام

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١ / ١٨٧.

(٢) البقرة : ٢٤٧.

(٣) راجع أنساب الأشراف للبلاذري : ٤ / ٣١. (المؤلف)


الله عليه ـ المتحلّي بآصرة النبوّة ، وشرف الإمامة ، وعلم الشريعة ، وخلق الأنبياء ، والفضائل المرموقة ، سيّد شباب أهل الجنّة أجمعين ، وقد حنّت إليه القلوب ، وارتمت إليه الأفئدة فرحين بكسر رتاج الجور ، رافضين لمن بعده.

لكن الرجل لم يتأثّر بكلّ هذه ولم يرها خلافاً ، ونبذ وصيّة نبيّه الكريم وراء ظهره ولم يعبأ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يقال لها : كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره» (١) نعم : نصر ذلك المظلوم قرّة عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقرير بيعة يزيد. وحسبانها بيعة صحيحة ، كان ينهى عن نكثها عند مرتجع الوفد المدني من الشام ، وقد شاهدوا منه البوائق والموبقات ، معتقدين خروجه عن حدود الإسلام قائلين : إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الحُرّاب والفتيان ، وإنّا نُشِهدُكم أنّا قد خلعناه. فتابعهم الناس (٢). وقال ابن فليح : إنّ أبا عمرو ابن حفص وفد على يزيد فأكرمه وأحسن جائزته ، فلمّا قدم المدينة قام إلى جنب المنبر وكان مرضيّا صالحاً فقال : ألم أحبّ؟ ألم أكرم؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكراً. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة (٣).

وكان مسور بن مخرمة الصحابيّ ممّن وفد إلى يزيد ، فلمّا قدم شهد عليه بالفسق وشرب الخمر ، فكُتب إلى يزيد بذلك ، فكتب إلى عامله يأمره أن يضرب مسوراً الحدّ ، فقال أبو حرّة :

__________________

(١) الإصابة : ١ / ٦٨ [رقم ٢٦٦]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٧ / ٤ [٥ / ٤٨٠ حوادث سنة ٦٢ ه‍] ، أنساب البلاذري : ٤ / ٣١ [٥ / ٣٣٨] ، فتح الباري : ١٣ / ٥٩ [١٣ / ٧٠]. يأتي الحديث على تفصيله في هذا الجزء. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢٨٠ [٢٧ / ١٨ رقم ٣١٤٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٦]. (المؤلف)


أيشربُها صهباءَ كالمسك ريحُها

أبو خالد والحدّ يُضرَبُ مسورُ (١)

قد جبههم ابن عمر بما جاء هو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فصّلناه في الجزء السابع (ص ١٤٦) ، جمع أهل بيته وحشمه ومواليه وقال : لا يخلعن أحد منكم يزيد ، ولا يشرفن أحدمنكم في هذا الأمر فيكون صيلماً وبيني وبينه. وفي لفظ البخاري : إنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلاّ كانت الفيصل بيني وبينه.

وتمسّك في تقرير تلك البيعة الملعونة بما عزاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول : إنّ الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان. جهلاً منه بأساليب الكلام لما هو المعلوم من أنّ مصداق هذا الكلّي هو الفرد المتأهّل للبيعة الدينيّة ، بيع الله ورسوله ، لا من هو بمنتأىً عن الله سبحانه ، وبمجنب عن رسوله ، كيزيد الطاغية أو والده الباغي.

ومهما ننس من شيء فإنّا لا ننسى مبدأ البيعة ليزيد على عهد ابن آكلة الأكباد بين صفيحة مسلولة ومنيحة مُفاضة ، أقعدت هاتيك من نفى جدارة الخلافة عن يزيد ، وأثارت هذه سماسرة الشهوات ، فبايعوا بين صدور واغرة ، وأفئدة لا ترى ما تأتي به من البيعة إلاّ هزواً.

وفي لهوات الفضاء وأطراف المفاوز كلّ فارّ بدينه ، متعوّذين من معرّة هذه البيعة الغاشمة ، وكان عبد الله نفسه ممّن تأبّى عن البيعة (٢) لأوّل وهلة من قبل أن يتذوّق طعم هاتيك الرضيخة ـ مائة ألف ـ وكان يقول : إنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة

__________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري : ٤ / ٣١ [٥ / ٣٣٨ وفيه : فقال أبو حُزَّة : أيشرَبها صهباءَ كالمسكِ ريحُها أبو خالدٍ ويُضربُ الحدَّ مِسْوَر] (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٣ [١ / ١٥٠] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٧٠ [٥ / ٣٠٣] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٧٩ [٨ / ٨٦ حوادث سنه ٥٦ ه‍] ، لسان الميزان : ٦ / ٢٩٣ [٦ / ٣٦٠ رقم ٩٢٨٨]. (المؤلف)


ولا قيصريّة ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء على الآباء (١) ، وبعد أن تذوّقه كان لم يزل بين اثنتين : فضيحة العدول عن رأيه في يزيد ، ومغبّة التمرّد عليه ، لا سيّما بعد أخد المنحة ، فلم يبرح مُصانعاً حتى بايعه بعد أبيه ، ولمّا جاءت بيعته قال : إن كان خيراً رضينا ، وإن كان بلاءً صبرنا (٢) ، ونحت لذلك التريّث حجّة تافهة من أنّ المانع عن البيعة كان هو وجود أبيه. وكان ليزيد أن يناقشه الحساب بأنّ أباه لم يكن يأخذ البيعة له في عرض بيعته ، وإنّما أخذها طوليّة لما بعده ، لكنّه لم يناقشه لحصول الغاية.

هذه صفة بيعة يزيد منذ أوّل الأمر ، ولمّا هلك أبوه ازدلفت إليه روّاد المطامع نظراء ابن عمر في نهيق ورغاء يجدّدون ذلك الإرهاب والإطماع ، فمن جرّاء تقريرهم بيعة ذلك المجرم المستهتر ، وتعاونهم على الإثم والعدوان ، والله يقول (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٣) وشقّهم عصا المسلمين ، وخلافهم الأُمّة الصالحة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، جهزّ يزيد جيش مسلم بن عقبة ، وأباح له دماء مجاوري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأموالهم ، فاستباحها ثلاثة أيّام نهباً وقتلاً ، وقتل من حملة القرآن يوم ذاك سبعمائة نفس ، وحكى البلاذري : أنّه قتل بالحرّة من وجوه قريش سبعمائة رجل وكسر ، سوى من قُتل من الأنصار ، وفيهم ممّن صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة ، وممّن قُتل صبراً من الصحابة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وقتل معه ثمانية من بنيه ، ومعقل بن سنان الأشجعي ، وعبد الله بن زيد ، والفضل بن العباس بن ربيعة ، وإسماعيل بن خالد ، ويحيى بن نافع ، وعبد الله (٤) بن عتبة ، والمغيرة بن عبد الله ، وعياض بن حمير ، ومحمد بن عمرو بن حزم ، وعبد الله ابن أبي عمرو ، وعبيد الله وسليمان ابنا عاصم ، ونجّى الله أبا سعيد وجابراً وسهل بن

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٣ [١ / ١٥٠]. (المؤلف)

(٢) لسان الميزان : ٦ / ٢٩٤ [٦ / ٣٦٠ رقم ٩٢٨٨]. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٢.

(٤) في تاريخ خليفة : ص ١٨٤ ، وأنساب الأشراف : عبيد الله.


سعد (١) ، وقد جاء في قتلى الحرّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّهم خيار أُمّتي بعد أصحابي» (٢) ، ثم بايع من بقي على أنّهم عبيد ليزيد ومن امتنع قُتل (٣) ، ووقعت يوم ذاك جرائم وفجائع وطامّات حتى قيل : إنّه قُتل في تلكم الأيّام نحو من عشرة آلاف إنسان سوى النساء والصبيان ، وافتضّ فيها نحو ألف بكر ، وحبلت ألف امرأة في تلك الأيّام من غير زوج (٤) ، ولمّا بلغ يزيد خبر تلك الواقعة المخزية ، قال :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٥)

فاتّبع ابن عمر في بيعة يزيد إجماع أولئك الأوباش ، سفلة الأعراب وبقيّة الأحزاب ، ولم يعبأ بإجماع رجال الحلّ والعقد من أبناء المهاجرين والأنصار ؛ وخيرة الخلف للسلف الصالح وفيهم من فيهم ، فساهم يزيد وفئته الباغية في دم السبط الشهيد الطاهر ، ومن قُتل يوم الحرّة ، وفي جميع تلكم المآثم التي جنتها يد يزيد الأثيمة ، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.

ألا تعجب من ابن عمر وهو يرى يزيد الكفر والإلحاد ، وأباه الغاشم الظلوم ، ومن يتلوهما في الفسوق ، صلحاء لا يوجد مثلهم؟ أخرج ابن عساكر (٦) من عدّة

__________________

(١) أنساب البلاذري : ٤ / ٤٢ [٥ / ٣٥٠] ، الاستيعاب : ١ / ٢٥٨ [القسم الثاني / ٦٦٥ رقم ١٠٨٩] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢٢١ [٨ / ٢٤٢ سنة حوادث ٦٣ ه‍] ، الإصابة : ٣ / ٤٧٣ [رقم ٨٢٩٥] وفاء الوفا : ١ / ٩٣ [١ / ١٣٢]. (المؤلف)

(٢) الروض الأُنف : ٥ / ١٨٥ [٦ / ٢٥٥]. (المؤلف)

(٣) لسان الميزان : ٦ / ٢٩٤ [٦ / ٣٦٠ رقم ٩٢٨٨]. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢٢١ [٨ / ٢٤١ حوادث سنة ٦٣ ه‍] والإتحاف : ص ٢٢ [ص ٦٦] ، وفاء الوفا : ١ / ٨٨ [١ / ١٣٤]. (المؤلف)

(٥) أنساب الأشراف للبلاذري : ٤ / ٤٢ [٥ / ٣٥١]. (المؤلف)

(٦) تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٤٧٦ ، ٤٧٧ رقم ٤٦١٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٦ / ٢٥٩.


طرق كما قاله الذهبي (١) وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء (٢) (ص ١٤٠) عن ابن عمر أنّه قال : أبو بكر الصدّيق أصبتم اسمه ، عمر الفاروق قرْنٌ من حديد أصبتم اسمه ، ابن عفّان ذو النورين قُتل مظلوماً يؤتى كفلين من الرحمة ، ومعاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة ، والسفّاح ، وسلام ، ومنصور ، وجابر ، والمهدي ، والأمين ، وأمير العصب ، كلّهم من بني كعب بن لؤي ، كلّهم صالح لا يوجد مثله.

وفي لفظ : يكون على هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة : أبو بكر الصدّيق أصبتم اسمه ، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه ، عثمان بن عفّان ذو النورين قُتل مظلوماً أُوتي كفلين من الرحمة ، ملك الأرض المقدّسة ، ومعاوية وابنه ، ثمّ يكون السفّاح ، ومنصور ، وجابر ، والأمين ، وسلام (٣) ، وأمير العصب لا يرى مثله ولا يدرى مثله ، كلّهم من بني كعب بن لؤي ، فيهم رجل من قحطان ، منهم من لا يكون ملكه إلاّ يومين ، منهم من يقال له لتبايعنا أو لنقتلنّك ، فإن لم يبايعهم قتلوه. كنز العمّال (٤) (٦ / ٦٧) ومن جرّاء هذا الرأي الباطل قُتل الصحابيّ ابن الصحابي محمد بن أبي الجهم لمّا شهد على يزيد بشرب الخمر ، كما في الإصابة (٣ / ٤٧٣).

أخبار ابن عمر ونوادره :

هذه عقليّة ابن عمر في باب الخلافة ، فما قيمة رأيه وقوله واختياره فيها وفي غيرها؟ وله أخبار تنمّ عن ضئولة رأيه وسخافة فكرته ، وأخبار تدلّ على مناوأته أمير المؤمنين عليه‌السلام وانحيازه عنه ، وتحيّزه إلى الفئة الأمويّة الباغية ، فلا حجّة فيما يرتئيه في أيّ من الفئتين.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء : ٤ / ٣٨.

(٢) تاريخ الخلفاء : ص ١٩٥.

(٣) سقط من هذا اللفظ (المهدي) وهو ثاني عشرهم. (المؤلف)

(٤) كنز العمّال : ١١ / ٢٥٢ ح ٣١٤٢١.


[الفريق الأول] :

ومن نماذج الفريق الأوّل من أخباره قوله : ما أُعطي أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجماع ما أُعطيت أنا (١) ، وهو يُعطينا أنّه رجل شهويّ لا صلة له بغيرها ، ومن ضعف رأيه أنّه حسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله بل أربى منه في الجماع ، جهلاً منه بأنّ ملكات صاحب الرسالة وقواه كلّها كانت متعادلة ثابتة على نقطة المركز قد تساوت إليها خطوط الدائرة ، فإذا آن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفخر فخر بجميعها على حدّ واحد ، لا كابن عمر شهوة قويّة مهلكة ، وعقليّة ضعيفة يباهي بالجماع وقد ترك غيره ، وهي التي كانت تحذّر أباه من أن يأذن له بالجهاد حين استأذنه له فقال : أي بُنيّ إنّي أخاف عليك الزنا (٢) ، فما قيمة رجل في مستوى الدين ، وهو يُمنع عن مواقف الجهاد حذراً من معرّة شهوته الغالبة ، وسقطات شغبه وشبقه؟

نعم ؛ كان لابن عمر أن يُشبّه نفسه بأبيه ـ ومن يشابه أبه فما ظلم ـ إذ له كلمة قيّمة في النكاح تُعرب عن قوّة شهوته ، قال محمد بن سيرين : قال عمر بن الخطاب : ما بقي فيّ شيء من أمر الجاهليّة إلاّ أنّي لست أُبالي أيّ الناس نكحت وأيّهم أنكحت.

أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (٣) (٣ / ٢٠٨) ، ورواه عبد الرزّاق (٤) كما في كنز العمّال (٥) (٨ / ٢٩٧).

ومن جرّاء تلك النزعة الجاهليّة التي كانت قد بقيت فيه قحم في مآثم سجّلها له التاريخ ، جاء عنه أنّه أتى جارية له فقالت : إنّي حائض فوقع بها فوجدها حائضاً ،

__________________

(١) نوادر الأصول للحكيم الترمذي : ص ٢١٢ [٢ / ٤ الأصل ١٦٥]. (المؤلف)

(٢) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي : ص ١١٥ ، وفي طبعة ص ١٣٨ [ص ١٤٤]. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٨٩.

(٤) المصنّف : ٦ / ١٥٢ ح ١٠٣٢١.

(٥) كنز العمّال : ١٦ / ٥٣٤ ح ٤٥٧٨٧.


فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر له ذلك ، فقال : يغفر الله لك يا أبا حفص ، تصدّق بنصف دينار (١).

وسوّلت له نفسه ليلة الصيام قبل حلّية الرفث فيها وواقع أهله ، فغدا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإنّ نفسي زيّنت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال : «لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر!» فنزلت : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ). الآية (٢).

وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى عن عليّ بن زيد : أنّ عاتكة بنت زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، فمات عنها واشترط عليها ألا تزوّج بعده ، فتبتّلت فجعلت لا تتزوّج ، وجعل الرجال يخطبونها وجعلت تأبى ، فقال عمر لوليّها : اذكرني لها ، فذكره لها فأبت على عمر أيضاً ، فقال عمر : زوّجنيها ، فزوّجه إيّاها ، فأتاها عمر فدخل عليها فعاركها حتى غلبها على نفسها فنكحها ، فلمّا فرغ قال : أف أف أف أفف بها ، ثم خرج من عندها وترك لا يأتيها ، فأرسلت إليه مولاة أن تعال فإنّي سأتهيّأ لك (٣).

أيصحّ عن رجل هذا شأنه ما عزاه إليه الزمخشري في ربيع الأبرار (٤) باب ٦٨ من قوله : إنّي لأُكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله نسمة تسبّحه وتذكره؟!

__________________

(١) المحلّى لابن حزم : ٢ / ١٨٨ [مسألة ٢٦٣] ، سنن البيهقي : ١ / ٣١٦ ، كنز العمّال : ٨ / ٣٠٥ [١٦ / ٥٦٦ ح ٤٥٨٨٩] نقلاً عن ابن ماجة [في سننه : ١ / ٢١٣ ح ٦٥٠] واللفظ له. (المؤلف)

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٩٦ [٢ / ١٦٥] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٢٠ ، تفسير القرطبي : ٢ / ٢٩٤ [٢ / ٢١٠] ، وتفاسير أخرى ، والآية : ١٨٧ من سورة البقرة. (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد [٨ / ٢٦٥] ، كنز العمّال : ٧ / ١٠٠ [١٣ / ٦٣٣ ح ٣٧٦٠٤] ، منتخب الكنز هامش مسند أحمد : ٥ / ٢٧٩ [٥ / ٢٧٠]. (المؤلف)

(٤) ربيع الأبرار : ٣ / ٥٤٠.


ومنها : عن الهيثم ، عن ابن عمر : أتاه رجل فقال : إنّي نذرت أن أقوم على حراء عرياناً يوماً إلى الليل. فقال : أوفِ بنذرك. ثم أتى ابن عباس فقال له : أولست تصلّي؟ قال له : أجل ، قال : أفعرياناً تصلّي؟ قال : لا. قال : أو ليس حنثت؟ إنّما أراد الشيطان أن يسخر بك ويضحك منك هو وجنوده ، اذهب فاعتكف يوماً وكفّر عن يمينك. فأقبل الرجل حتى وقف على ابن عمر فأخبره بقول ابن عبّاس فقال : ومن يقدر منّا على ما يستنبط ابن عبّاس (١)؟

هاهنا يوقفنا السير على مبلغ الرجل من العلم بالأحكام ، أيّ فقيه هذا لا يعرف حكم النذر وأنّه لا بدّ فيه من الرجحان في المنذور ، وأنّ نذر التافهات وما ينكره العقل لا ينعقد قط؟ وهل مثل هذا يُعدّ من المعضلات حتى لا يقدر على عرفانه غير ابن عبّاس؟ ويكفي الرجل جهلاً أنّه ما كان يحسن طلاق زوجته ، وقد عجز واستحمق كما في صحيح مسلم (٢) (٤ / ١٨١) ولم يك يعلم أنّه لا يقع إلاّ في طهر لم يواقعها فيه (٣) ، وفي لفظ مسلم في صحيحه (٤ / ١٨١) : أنّه طلّق امرأته ثلاثاً وهي حائض.

ولذلك لم يره أبوه أهلاً للخلافة بعد ما كبر وبلغ منتهى الكهولة ، لمّا قال له رجل : استخلف عبد الله بن عمر. قال عمر : قاتلك الله والله ما أردت الله بها ، أستخلف من لم يحسن أن يطلّق امرأته (٤)؟ وكأنّ عمر كان يجد ابنه يوم وفاته على

__________________

(١) كتاب الآثار : ص ١٦٨ متناً وتعليقاً. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٢٧٣ ح ٧ كتاب الطلاق.

(٣) صحيح البخاري : ٨ / ٧٦ [٥ / ٢٠١١ ح ٤٩٥٣] ، صحيح مسلم : ٤ / ١٧٩ ـ ١٨٣ [٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٦ ح ١ ـ ١٤ كتاب الطلاق] ، مسند أحمد : ٢ / ٥١ ، ٦١ ، ٦٤ ، ٧٤ ، ٨٠ ، ١٢٨ ، ١٤٥ [٢ / ١٤٨ ح ٥١٠٠ ، ص ١٦٧ ح ٥٢٤٦ ، ص ١٧٣ ح ٥٢٩٩ ، ص ١٩٠ ح ٥٤١٠ و ٥٤١١ ، ص ٢٠١ ح ٥٤٩٩ و ٥٥٠٠ ، ص ٤٨٨ ح ٦٠٨٤ ، ص ٣١٥ ح ٦٢٩٣]. (المؤلف)

(٤) تاريخ الطبري : ٥ / ٣٤ [٤ / ٢٢٨] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ٢٧ [٢ / ٢١٩ حوادث سنة ٢٣ ه‍] ، الصواعق ص ٦٢ [ص ١٠٤] ، فتح الباري ٧ / ٥٤ [٧ / ٦٧] وصحّحه. (المؤلف)


جهله ذاك حين طلّق امرأته وهو شابّ غضّ أيّام حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فكلّ من الخلفاء بالانتخاب الدستوري لم يكن عالماً بالأحكام من أوّل يومه إن غضضنا الطرف عن يوم تسنّمه عرش الخلافة ، وإلى أن أودع مقرّه الأخير ، وعمر نفسه كان في المسألة نفسها لدة ولده لم يك يعلم حكم ذلك الطلاق ، حتى سأل عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «مُرْهُ فليُراجعها ، ثم ليتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعدُ وإن شاء طلّق» (١).

فالمانع عن الاستخلاف هو الجهل الحاضر ، وهذا من سوء حظّ ابن عمر يخصّ به ولا يعدوه.

وإنّي لست أدري أيّ مرتبة رابية من الجهل كان يحوزها ابن عمر حتى عرفه منه والده الذي يمتاز في المجتمع الدينيّ بنوادر الأثر (٢)؟ فمن رآه عمر جاهلاً لا يُقدّر مبلغه من الجهل!

وممّا يدلّنا على فقه الرجل ، أو على مبلغه من اتّباع الهوى وإحياء البدع ، أو على نبذه سنّة الله ورسوله وراء ظهره ، إتمامه الصلاة في السفر أربعاً مع الإمام ، وإعادته إيّاها في منزله قصراً كما في موطّأ مالك (٣) (١ / ١٢٦) تقريراً للبدعة التي أحدثها عثمان في شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّبعه في أُحدوثته رجال الشره والتره وحملة النزعات الأمويّة كابن عمر ، وأبناء البيت الأمويّ ، كما فصّلناه في الجزء الثامن (ص ١١٦). وأخرج أحمد في مسنده (٤) (٢ / ١٦) عنه قوله : صلّيت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان صدراً من إمارته ، ثم أتمّ.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٧٩ [٣ / ٢٧١ ح ١ كتاب الطلاق]. (المؤلف)

(٢) ذكرنا جملة منها في الجزء السادس : ص ٨٣ ـ ٣٢٥. (المؤلف)

(٣) موطّأ مالك : ١ / ١٤٩ ح ٢٠.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٨٦ ح ٤٦٣٨.


ومن نوادر فقهه ما أخرجه أبو داود في سننه (١) (١ / ٢٨٩) من طريق سالم : أنّ عبد الله بن عمر كان يصنع ـ يعني يقطع ـ الخفّين للمرأة المحرمة ، ثم حدّثته صفيّة بنت أبي عبيد : أنّ عائشة حدّثتها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان رخّص للنساء في الخفّين ، فترك ذلك.

وأخرج إمام الشافعيّة في كتابه الأُم (٢) ، أنّ ابن عمر كان يفتي النساء إذا أحرمن أن يقطعن الخفّين ، حتى أخبرته صفيّة ، عن عائشة : أنّها تفتي النساء أن لا يقطعن ، فانتهى عنه.

وأخرجه البيهقي في سننه (٥ / ٥٢) باللفظين ، وأخرجه أحمد في مسنده (٣) (٢ / ٢٩) بلفظ أبي داود.

والأُمّة كما حكى الزركشي في الإجابة (٤) (ص ١١٨) مجمعة على أنّ المراد بالخطاب المذكور في اللباس الرجال دون النساء ، وأنّه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء.

ومنها : ما أخرجه الشيخان من أنّ ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي إمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدراً من خلافة معاوية ، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أنّ رافع بن خديج يُحدّث فيها بنهيٍ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليه فسأله ، فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن كراء المزارع ، فتركها ابن عمر بعدُ ، وكان إذا سُئل عنها بعدُ قال : زعم رافع بن خديج أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ١٦٦ ح ١٨٣١.

(٢) كتاب الأُم : ٢ / ١٤٧.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١٠٩ ح ٤٨٢١.

(٤) الإجابة : ص ١٠٦ ح ٥.


عنها (١).

وفي التعليق على صحيح مسلم (٢) : قوله : وصدراً من خلافة معاوية ، قد أغرب في وصف معاوية بالخلافة بعد ما وصف الخلفاء الثلاثة بالإمارة ، وأسقط رابعهم من البين مع أنّ الخلافة الكاملة خصيصتهم ، وعبارة البخاري : إنّ ابن عمر رضى الله عنه كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدراً من إمارة معاوية ، وكان معاوية كما ذكره القسطلاني (٣) في باب صوم عاشوراء يقول : أنا أوّل الملوك. وقال المناوي في شرح حديث الجامع الصغير (٤) : الخلافة بالمدينة والملك بالشام ، وهذا من معجزاته ـ صلى الله تعالى عليه وسلّم ـ فقد كان كما أخبر ، وقال ـ في شرح حديثه : الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ـ : قالوا : لم يكن في الثلاثين إلاّ الخلفاء الأربعة وأيّام الحسن (ثم ملك بعد ذلك) لأنّ اسم الخلافة إنّما هو لمن صدّق هذا الاسم بعمله للسنّة ، والمخالفون ملوك وإنّما تسمّوا بالخلفاء. انتهى.

ولابن حجر حول الحديث كلمة أسلفناها في (ص ٢٤) من هذا الجزء.

قال الأميني : ألا تعجب من ابن خليفة شبّ ونما وترعرع وشاخ في عاصمة الدين ، في محيط وحي الله ، في دار النبوّة والرسالة ، في مدرسة الإسلام الكبرى ، بين ناشئة الصحابة وفي حجور مشيختهم ، بين أُمّة عالمة استقى العالم من نمير علمهم ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٤٧ [٢ / ٨٢٥ ح ٢٢١٨] ، صحيح مسلم : ٥ / ٢١ [٣ / ٣٦٢ ح ١٠٩ كتاب البيوع] ، سنن النسائي : ٧ / ٤٦ ، ٤٧ [٣ / ١٠٢ ح ٤٦٤٠ ، ٤٦٤١] ، مسند أحمد : ٢ / ٦ [٢ / ٦٧ ح ٤٤٩٠] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٧ [٢ / ٨٢٠ ح ٢٤٥٣] ، سنن أبي داود : ٢ / ٩١ [٣ / ٢٥٩ ح ٣٣٩٤] ، سنن البيهقي : ٦ / ١٣٠ واللفظ لمسلم. (المؤلف)

(٢) راجع صحيح مسلم : ٥ / ٢٢ [٣ / ٣٦٢ ح ١٠٩ كتاب البيوع] من طبع محمد علي صبيح وأولاده. (المؤلف)

(٣) ارشاد الساري : ٤ / ٦٤٨ ح ٢٠٠٣.

(٤) فيض القدير : ٣ / ٥٠٩ ح ٤١٤٧.


واهتدى الخلائق بنور هداهم ، وبقي هذا الإنسان في ظلمة الجهل إلى أُخريات أيّام معاوية ، وعاش خمسين سنة بإجارة محرّمة ، وشدّ بها عظمه ومخّه ، ونبت بها لحمه وجلده ، حتى هداه إلى السنّة رافع بن خديج الذي لم يكن من مشيخة الصحابة وقد استصغره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر؟ وكانت السنّة في المحاقلة والمخابرة (١) تُروى في لسان الصحابة ، وفي بعض ألفاظه شدّة ووعيد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث جابر : «من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله» (٢) وجاءت هذه السنّة في الصحاح والمسانيد بأسانيد تنتهي إلى جابر بن عبد الله ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت (٣).

وليت ابن عمر بعد ما علم الحظر فيما أشبع به طيلة حياته نهمته ، وطبع الحال أنّه كان يعلّم بذلك ويرشد ويهدي أو يهلك ويغوي ، وكان غيره يقتصّ أثره لأنّه ابن فقيه الصحابة وخليفتهم ، الذي أوعزنا إلى موارد من فقهه وعلمه ، في نوادر الأثر في الجزء السادس ، كان يسأل من فقهاء الأُمّة أو من خليفته معاوية عن حكم المال المأخوذ المأكول بالعقد الباطل.

أليس من الغلوّ الفاحش أو الجناية الكبيرة على المجتمع الدينيّ أن يُعدّ هذا الإنسان من مراجع الأُمّة ، وفقهائها ، وأعلامها ، ومستقى علمها ، وممّن يحتجّ بقوله وفعله؟ وهل كان هو يعرف من الفقه موضع قدمه؟ أنا لا أدري.

ومنها : ما أخرجه الدارقطني في سننه (٤) من طريق عروة ، عن عائشة أنّه بلغها قول ابن عمر : في القُبلة الوضوء. فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّل وهو صائم ، ثم

__________________

(١) المحاقلة : بيع الزرع قبل بدو صلاحه. وقيل : بيع الزرع في سنبله بالحنطة. وقيل : الزراعة على نصيب معلوم بالثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر ، وهذا مثل المخابرة.

(٢) سنن البيهقي : ٦ / ١٢٨. (المؤلف)

(٣) راجع سنن النسائي : ٣ / ٥٢ [٣ / ١٠٤ ح ٤٦٥٠] ، سنن البيهقي : ٦ / ١٢٨ ـ ١٣٣. (المؤلف)

(٤) سنن الدارقطني : ١ / ١٣٦ ح ١٠.


لا يتوضّأ.

الإجابة للزركشي (١) (ص ١١٨)

ومنها : قوله في المتعة ، والبكاء على الميّت ، وطواف الوداع على الحائض ، والتطيّب عند الإحرام. وستوافيك أخبارها.

ويُعرب عن مبلغ الرجل من فقه الإسلام ما ذكره ابن حجر في فتح الباري (٢) (٨ / ٢٠٩) من قوله : ثبت عن مروان أنّه قال لمّا طلب الخلافة فذكروا له ابن عمر ، فقال : ليس ابن عمر بأفقه منّي ، ولكنّه أسنّ منّي ، وكانت له صحبة.

فما شأن امرئ يكون مروان أفقه منه؟

ولعلّه نظراً إلى هذه وما يأتي من نوادر الرجل أو بوادره في الفقه ، ترى إبراهيم النخعي لمّا ذُكر له ابن عمر وتطيّبه عند الإحرام قال : ما تصنع بقوله (٣)؟ وقال الشعبي : كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيّد الفقه ، كما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (٤) (رقم التسلسل ٨٩١).

هذا رأي الشعبي ، وأمّا نحن فلا نفرّق بين فقه الرجل وحديثه ، وكلاهما شرع سواء غير جيّدين ، بل حديثه أردأ من فقهه ، ورداءة فقهه من رداءة حديثه ، وكأنّ الشعبي لم يقف على شواهد سوء حفظه أو تحريفه الحديث ، فإليك نماذج منها :

١ ـ أخرج الطبراني (٥) من طريق موسى بن طلحة قال : بلغ عائشة أنّ ابن

__________________

(١) الإجابة للزركشي : ص ١٠٧ ح ٦.

(٢) فتح الباري : ٨ / ٢٦٠.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ٥٨ [٢ / ٥٥٨ ح ١٤٦٤] ، تيسير الوصول : ١ / ٢٦٧ [١ / ٣١٥]. (المؤلف)

(٤) الطبقات الكبرى : ٢ / ٣٧٣.

(٥) المعجم الأوسط : ٤ / ١٠٤ ح ٣١٥٣.


عمر يقول : إنّ موت الفجأة سخطة على المؤمنين. فقالت : يغفر الله لابن عمر ، إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «موت الفجأة تخفيف على المؤمنين وسخطة على الكافرين».

الإجابة للزركشي (١) (ص ١١٩)

. ٢ ـ أخرج البخاري (٢) من طريق ابن عمر قال : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قليب بدر فقال : «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟» ثم قال : «إنّهم الآن يسمعون ما أقول» فذُكِر ذلك لعائشة فقالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّهم الآن ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ».

وفي لفظ أحمد في مسنده (٣) (٢ / ٣١): وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القليب يوم بدر فقال : «يا فلان ، يا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا؟ أما والله إنّهم الآن ليسمعون كلامي». قال يحيى : فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن إنّه وهم ، إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله إنّهم ليعلمون الآن أنّ الذي كنت أقول لهم حقّا (٤) ، وأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٥)

٣ ـ روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٦) من طريق ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ» قال أبو عبد الله : فتأوّل ناس في هذا الحديث وقالوا : العرش سريره الذي حمل عليه ، واحتجّوا بحديث رووه عن ابن عمر أنّه تأوّله ، كذا حدّثنا الجارود قال : حدّثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن

__________________

(١) الإجابة : ص ١٠٨ ح ٧.

(٢) صحيح البخاري : ٤ / ١٤٦٢ ح ٣٧٦٠.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١١٣ ح ٤٨٤٩.

(٤) كذا في المصدر.

(٥) النمل : ٨٠ ، فاطر : ٢٢.

(٦) نوادر الأصول : ١ / ٥٣ الأصل التاسع.


مجاهد ، عن ابن عمر قال : ذُكر يوماً عنده حديث سعد : أنّ العرش اهتزّ لحبّ الله لقاء سعد ، قال ابن عمر : إنّ العرش ليس يهتزّ لموت أحد ، ولكن سريره الذي حُمل عليه. قال : فهذا مبلغ ابن عمر رحمه‌الله من علم ما أُلقي إليه من ذلك ، وفوق كلّ ذي علم عليم (١). انتهى.

وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٦٠٦) ولفظه : قال ابن عمر : اهتزّ لحبّ لقاء الله العرش ـ يعني السرير ـ قال : ورفع أبويه على العرش تفسّخت أعواده.

وأنت تعرف سخافة هذا التأويل ممّا أخرجه البخاري والحاكم في المستدرك من طريق جابر بن عبد الله قال : سمعت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اهتزّ عرش (٣) الرحمن لموت سعد بن معاذ» فقال رجل لجابر : فإنّ البراء يقول : اهتزّ السرير ، فقال : إنّه كان بين هذين الحيّين الأوس والخزرج ضغائن ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» (٤). وأخرجه مسلم بلفظ اهتزّ عرش الرحمن (٥).

وفي فتح الباري (٦) (٧ / ٩٨) : قد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين فلا معنى لإنكاره.

٤ ـ في كتاب الإنصاف لشاه صاحب : روى ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ الميّت

__________________

(١) غيّرنا في ألفاظ هذا الحديث والذي قبله ، وفقاً لما ورد في مصادرهما.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٢٢٨ ح ٤٩٢٤.

(٣) فصّل ابن حجر القول في معنى الحديث في فتح الباري : ٧ / ٩٧ ، ٩٨ [٧ / ١٢٣ ، ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري في المناقب : ٦ / ٣ [٣ / ١٣٨٤ ح ٣٥٩٢] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ٢٠٧ [٣ / ٢٢٩ ح ٤٩٢٨]. (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٧ / ١٥٠ [٥ / ٦٨ ح ١٢٤ كتاب فضائل الصحابة]. (المؤلف)

(٦) فتح الباري : ٧ / ١٢٤.


يعذّب ببكاء أهله عليه ، فقضت عائشة عليه بأنّه لم يأخذ الحديث على وجهه ، مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يهوديّة يبكي عليها أهلها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّهم يبكون عليها ، وإنّها تعذّب في قبرها» وظنّ ـ ابن عمر ـ العذاب معلولاً بالبكاء ، وظنّ الحكم عامّا على كلّ ميّت.

وأخرج أحمد في المسند (١) (٦ / ٢٨١) عن عائشة : أنّه بلغها أنّ ابن عمر يحدّث عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الميت يعذّب ببكاء أهله عليه. فقالت : يرحم الله عمر وابن عمر ، فو الله ما هما بكاذبين ولا مكذّبين ولا متزيّدين ، إنّما قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل من اليهود ، ومرّ بأهله وهم يبكون عليه فقال : «إنّهم ليبكون عليه وإنّ الله عزّ وجلّ ليعذّبه في قبره». ولأحمد في مسنده لفظ آخر يأتي بعد بضع صحائف من هذا الجزء.

أسلفنا الحديث نقلاً عن عدّة صحاح ومسانيد في الجزء السادس (ص ١٥١ الطبعة الأولى) وفصّلنا هنالك القول حول المسألة.

٥ ـ أخرج البخاري في كتاب الأذان من صحيحه (٢) (٢ / ٦) عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أُمّ مكتوم».

هذا الحديث ممّا استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول غلط ابن عمر وصحيحه : «إنّ ابن أُمّ مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذّن بلال» ، وبهذا جزم الوليد وكذا أخرجه ابن خزيمة (٣) وابن المنذر وابن حبّان (٤) من طرق عن شعبة ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٣٩٨ ح ٢٥٨٧١.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٢٢٣ ح ٥٩٢.

(٣) صحيح ابن خزيمة : ١ / ٢١٠ ح ٤٠٤.

(٤) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ٨ / ٢٥١ ح ٣٤٧٣.


وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني (١) من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن.

وفي لفظ البيهقي في سننه (١ / ٣٨٢) : قالت عائشة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابن مكتوم رجل أعمى فإذا أذّن فكلوا واشربوا حتى يؤذّن بلال». قالت : وكان بلال يبصر الفجر ، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر.

وقال ابن حجر : ادّعى ابن عبد البرّ وجماعة من الأئمّة بأنّه مقلوب ، وأنّ الصواب حديث الباب ـ يعني لفظ البخاري ـ وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة ، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله : إذا أذّن عمرو فإنّه ضرير البصر فلا يغرّنّكم ، وإذا أذّن بلال فلا يَطعمنّ أحد. وأخرجه أحمد (٢). وجاء عن عائشة أيضاً : أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول : إنّه غلط ، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها ، فذكر الحديث وزاد : قالت عائشة : وكان بلال يبصر الفجر. قال : وكانت عائشة تقول : غلط ابن عمر.

فتح الباري (٣) (٢ / ٨١).

٦ ـ أخرج أحمد في مسنده (٤) (٢ / ٢١) من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرّتين ، ثم صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن إنّه وَهَل (٥) ، إنّما هجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه شهراً ، فنزل لتسع وعشرين

__________________

(١) المعجم الكبير : ٢٤ / ١٩١ ح ٤٨٢.

(٢) في المسند : ٦ / ١٨٦ [٧ / ٢٦٦ ح ٢٤٩٩٤]. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ٢ / ١٠٢.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ١١٣ ح ٤٨٥١ ، ٢ / ١٥٧ ح ٥١٦٠.

(٥) وَهَل إلى الشيء يَوْهَل ، إذا ذهب وهمه إليه.


فقالوا : يا رسول الله إنّك نزلت لتسع وعشرين؟ فقال : إنّ الشهر يكون تسعاً وعشرين. وفي (ص ٥٦): فقيل له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين. ورواه أبو منصور البغدادي ولفظه : أُخبرت عائشة بقول ابن عمر رضى الله عنه : إنّ الشهر تسع وعشرون ، فأنكرت ذلك عليه وقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما هكذا قال رسول الله ، ولكن قال : إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين.

الإجابة للزركشي (١) (ص ١٢٠).

كان ابن عمر يعمل بوهمه هذا ويرى كلّ شهر تسعة وعشرين يوماً وكان يقول : قال رسول الله : الشهر تسع وعشرون ، وكان إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً (٢).

٧ ـ أخرج الشيخان من جهة نافع قال : قيل لابن عمر : إنّ أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر. فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة ، فبعث إلى عائشة فسألها فصدّقت أبا هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرّطنا في قراريط كثيرة.

وأخرج مسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص : أنّه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال : يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من خرج مع جنازة من بيتها وصلّى عليها ثم تبعها حتى دفن كان له قيراطان من أجر ، كلّ قيراط مثل أحد ، ومن صلّى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أُحد» فأرسل ابن عمر خبّاباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت ، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلّبها في يده حتى رجع إليه الرسول ، فقال : قالت عائشة : صدق

__________________

(١) الإجابة : ص ١٠٩ ح ٩.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٣ [٢ / ٨٠ ح ٤٥٩٧]. (المؤلف)


أبو هريرة. فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وقال : لقد فرّطنا في قراريط كثيرة (١).

ولعلّ الباحث لا يشكّ إذا وقف على هذه الروايات وأمثالها في أنّ رواية ابن عمر لا تقلّ عن فقاهته في الرداءة ، ومن هذا شأنه في الفقه والحديث لا يعبأ به وبرأيه ، ولا يوثق بحديثه.

رأي ابن عمر في القتال والصلاة :

ومنها : أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٢) (٤ / ١١٠) طبعة ليدن عن ابن عمر أنّه كان يقول : لا أُقاتل في الفتنة ، وأُصلّي وراء من غلب. وقال ابن حجر في فتح الباري (٣) (١٣ / ٣٩) : كان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أنّ إحدى الطائفتين محقّة والأخرى مبطلة. وقال ابن كثير في تاريخه (٤) (٩ / ٥) : كان في مدّة الفتنة لا يأتي أميراً إلاّ صلّى خلفه ، وأدّى إليه زكاة ماله.

يتراءى هاهنا من وراء ستر رقيق تترّس ابن عمر بأُغلوطته هذه عن سُبّة تقاعده عن حرب الجمل وصفّين مع مولانا أمير المؤمنين ، ذاهلاً عن أنّ هذه جناية أخرى لا يُغسل بها دنس ذلك الحوب الكبير ، متى كانت تلكم الحروب فتنة حتى يتظاهر ابن عمر تجاهها بزهادة جامدة لاقتناص الدهماء؟ والأمر كما قال حذيفة اليماني ذلك الصحابي العظيم : لا تضرّك الفتنة ما عرفت دينك ، إنّما الفتنة إذا اشتبه

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٢٣٩ [١ / ٤٤٥ ح ١٢٦٠] ، صحيح مسلم : ٣ / ٥٢ ، ٥٣ [٢ / ٣٤٥ ح ٥٦ كتاب الجنائز]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٤ / ١٤٩.

(٣) فتح الباري : ١٣ / ٤٧.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ٨ حوادث سنة ٧٤ ه‍.


عليك الحقّ والباطل (١).

أوَ كان ابن عمر بمنتأى عن عرفان دينه؟ أو كان على حدّ قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (٢) وهل كان ابن عمر لم يعرف من القرآن قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٣) وقد أفحمه رجل عراقيّ بهذه الآية وحيّره ، فلم يحر ابن عمر جواباً غير أنّه تخلّص منه بقوله : مالك ولذلك؟ انصرف عنّي. وسيوافيك تمام الحديث.

هلاّ كان ابن عمر بان له الرشد من الغيّ ، ولم يك يشخّص الحقّ من الباطل؟ وهلاّ كان يعرف الباغية من الفئتين؟ وهل كان يزعم بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن الفتن بعده وأنّها تغشى أمّته كقطع الليل المظلم (٤) ، وترك الأمّة مغمورة في مدلهمّاتها ، هالكة في غمراتها ، ولم يعبّد لها طريق النجاة ، وما رشّدها إلى مهيع الحقّ ، ولم ينبس عمّا ينجيها ببنت شفة؟ حاشا نبيّ الرحمة عن ذلك ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُبق عذراً لأيّ أحد من عرفان الباغية من الطائفتين في تلكم الحروب ، ولم يك يخفى حكمها على أيّ دينيّ ، قال مولانا أمير المؤمنين : «لقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون

__________________

(١) فتح الباري : ١٣ / ٤٠ [١٣ / ٤٩]. (المؤلف)

(٢) النحل : ٨٣.

(٣) الحجرات : ٩.

(٤) صحيح الترمذي : ٩ / ٤٩ [٤ / ٤٢٣ ح ٢١٩٧] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٣٨ ، ٤٤٠ [٤ / ٤٨٥ ح ٨٣٥٤ ، ص ٤٨٧ ح ٨٣١٠] ، كنز العمّال : ٦ / ٣١ ، ٣٧ [١ / ١٥٢ ح ٣٠٩٩٧ ، ١٥٧ ح ٣١٠١٩]. (المؤلف)


بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم» (١).

أكان في أُذن ابن عمر وقر عن سماع ذلك الهتاف القدسيّ بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة «كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّا وأنت له ظالمة»؟

وقوله لزوجاته : «كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أن تكوني أنت يا حميراء»؟

وقوله لها : «انظري أن لا تكوني أنت»؟

وقوله للزبير : «إنّك تقاتل عليّا وأنت ظالم له»؟

وقوله : «سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّا على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء» حقّا جاهد ابن عمر في الخلاف على قول رسول الله هذا ، بلسانه وقلبه ما استطاع؟

وقوله لعليّ : «يا عليّ ستقاتل الفئة الباغية وأنت على الحقّ ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس منّي»؟

وقوله له : «ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين»؟

وقوله له : «أنت فارس العرب وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين»؟

وقوله لأُمّ سلمة لمّا رأى عليّا : «هذا والله قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي»؟

وعهده إلى عليّ عليه‌السلام أن يقاتل بعده القاسطين والناكثين والمارقين (٢)؟

__________________

(١) كتاب صفّين : ص ٥٤٢ [ص ٤٧٤]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثالث [ص ٢٧٢ ـ ٢٧٦]. (المؤلف)


وقوله لأصحابة : «إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» قال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : «لا». قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : «لا ، ولكن خاصف النعل». وكان أعطى عليّا نعله يخصفها (١).

وقوله لعمّار بن ياسر : «تقتلك الفئة الباغية». وقد قتلته فئة معاوية.

وقول أبي أيّوب الأنصاري ، وأبي سعيد الخدري ، وعمّار بن ياسر : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. قلنا : يا رسول الله أمرت بقتال هؤلاء مع من؟ قال : «مع عليّ بن أبي طالب».

إلى أحاديث أخرى ذكرناها في الجزء الثالث (ص ١٩٢ ـ ١٩٥) هب أنّ ابن عمر لم يكن يسمع شيئاً من هذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوَما كان يسمع أيضاً ، أوَما كان يصدّق أُولئك الجمّ الغفير من البدريّين أعاظم الصحابة الأوّلين ، الذين حاربوا الناكثين والقاسطين وملء أسماعهم عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وأمره إيّاهم بقتال أولئك الطوائف الخارجة على الإمام الحقّ الطاهر؟ فأيّ مين أعظم ممّا جاء به ابن عمر في كتاب له إلى معاوية من قوله : أحدث عليّ أمراً لم يكن إلينا فيه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد ، ففزعت إلى الوقوف. وقلت : إن كان هذا هدىً ففضل تركته ، وإن كان ضلالة فشرّ منه نجوت (٢)؟

وهل ابن عمر كان يخفى عليه هتاف الصادع الكريم : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة»؟

أو قوله : «عليّ مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار

__________________

(١) راجع : ٧ / ١٣١. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٧٦ [١ / ٩٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٦٠ [٣ / ١١٣ خطبة ٤٣]. (المؤلف)


عليّ»؟

أو قوله لعليّ : «إنّ الحقّ معك والحقّ على لسانك. وفي قلبك وبين عينيك ، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي»؟

أو قوله مشيراً إلى عليّ : «الحقّ مع ذا ، الحقّ مع ذا ، يزول معه حيثما زال»؟

أو قوله : «عليّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»؟

أو قوله لعليّ : «لحمك لحمي ، ودمك دمي ، والحقّ معك»؟

أو قوله : «ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأمّة ، يفرق بين الحقّ والباطل ، وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» (١)؟

أو قوله لعليّ وحليلته وشبليه : «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».

أو قوله لهم : «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم»؟

أو قوله وهم في خيمة : «معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ ، رديّ الولادة»؟

أو قوله وهو آخذ بضبع عليّ : «هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» (٢)؟

أو قوله في حجّة الوداع في ملأ من مائة ألف أو يزيدون : «من كنت مولاه فهذا

__________________

(١) راجع الجزء الثالث : ص ٢٢ ، ١٧٦ ـ ١٨٠ ، ١٨٧ ، الاستيعاب : ٢ / ٦٥٧ [القسم الرابع / ١٧٤٤ رقم ٣١٥٧] الإصابة : ٤ / ١٧١ [رقم ٩٩٤]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الأوّل : ص ٣٣٦ و ٨ / ٨٨ ، أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٥٦٠. (المؤلف)


عليّ مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأدر الحقّ معه حيث دار» (١).

إلى أخبار جمة ملأت ما بين الخافقين ، فهل ابن عمر كان بمنتأى عن هذه كلّها فحسب تلكم المواقف حرباً دنيويّة أو فتنة لا يعرف وجهها ، قتالاً على الملك (٢)؟ أو كان تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها ، كأنّ في أذنيه وقراً ، وعلى كلّ تقدير لم يك رأيه إلاّ اجتهاداً في مقابل النصّ ، لا يصيخ إليه أيّ دينيّ صميم.

ومن المأسوف عليه أنّ الرجل ندم يوم لم ينفعه الندم عمّا فاته في تلكم الحروب من مناصرة عليّ أمير المؤمنين ، وكان يقول : ما أجدني آسى على شيء من أمر الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية. وفي لفظ : ما آسى على شيء إلاّ أنّي لم أُقاتل مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ : ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ : قال حين حضرته الوفاة : ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئاً إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية مع عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه. وفي لفظ ابن أبي الجهم : ما آسى على شيء إلاّ تركي قتال الفئة الباغية مع عليّ رضى الله عنه (٣).

وأخرج البيهقي في سننه (٨ / ١٧٢) من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر قال : بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجل من أهل العراق فقال : يا أبا عبد الرحمن إنّي والله لقد حرصت أن أتسمّت بسمتك ، وأقتدي بك في أمر فرقة الناس ، وأعتزل الشرّ ما استطعت ، وإنّي أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي فأخبرني عنها ،

__________________

(١) راجع ما مرّ في الجزء الأوّل من حديث الغدير. (المؤلف)

(٢) راجع مسند أحمد : ٢ / ٧٠ ، ٩٤ [٢ / ١٨٢ ح ٥٣٥٨ ، ص ٢٢٥ ح ٥٦٥٧] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٩٢. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى طبعة ليدن : ٤ / ١٣٦ ، ١٣٧ [٤ / ١٨٧] ، الاستيعاب : ١ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ [القسم الثالث / ٩٥٣ رقم ١٦١٢] ، أُسد الغابة : ٣ / ٢٢٩ [٣ / ٣٤٢ رقم ٣٠٨٠] ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٤٢ [٣ / ٢٠١]. (المؤلف)


أرأيت قول الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أخبرني عن هذه الآية. فقال عبد الله : ومالك ولذلك؟ انصرف عنّي ، فانطلق حتى توارى عنّا سواده ، أقبل علينا عبد الله بن عمر فقال : ما وجدت في نفسي من شيء من أمر هذه الأُمّة ما وجدت في نفسي أنّي لم أُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عزّ وجلّ.

هذه حجّة الله الجارية على لسان ابن عمر ونفثات ندمه ، وهل أثّرت تلكم الحجج في قلبه؟ وصدّق الخبر الخبر يوماً ما من أيّامه؟ أنا لا أدري.

هلمّ معي إلى صلاة ابن عمر :

وأمّا صلاته مع من غلب وتأمّر فمن شواهد جهله بشأن العبادات وتهاونه بالدين الحنيف ، ولعبه بشعائر الله شعائر الإسلام المقدّس ، قد استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله ، اعتذر الرجل بهذه الخزاية عن تركه الصلاة وراء خير البشر أحد الخيرتين. أحبّ الناس إلى الله ورسوله ، عليّ أمير المؤمنين المعصوم بلسان الله العزيز ، وعن إقامته إيّاها وراء الحجّاج الفاتك المستهتر ، وقد جاء من طريق سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل قال : اختلفت أنا وذر المرهبيّ (١) في الحجّاج ، فقال : مؤمن. وقلت : كافر. قال الحاكم : وبيان صحّته ما اطلق فيه مجاهد بن جبر رضى الله عنه فيما حدّثناه من طريق أبي سهل أحمد القطان ، عن الأعمش قال : والله لقد سمعت الحجّاج بن يوسف يقول : يا عجباً من عبد هذيل ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ يزعم أنّه يقرأ قرآناً من عند الله ، والله ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب ، والله لو أدركت عبد هذيل

__________________

(١) كان من عبّاد أهل الكوفة ، أحد رجال الصحاح الستّة. (المؤلف)


لضربت عنقه (١) ، وزاد ابن عساكر ، ولأُخْلِيَنَّ منها المصحف ولو بضلع خنزير.

وذكر ابن عساكر في تاريخه (٢) (٤ / ٦٩) من خطبة له قوله : اتّقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة ، واسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين عبد الملك فإنّها المثوبة ، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دماؤهم وأموالهم.

على أنّ ابن عمر هو الذي جاء بقوله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في ثقيف كذّاب ومبير». وقوله : «إنّ في ثقيف كذّاباً ومبيراً» (٣) وأطبق الناس سلفاً وخلفاً على أنّ المبير هو الحجّاج.

قال الجاحط : خطب الحجّاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فقال : تبّا لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله (٤)؟

وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٥) (٤ / ٨١) : اختلف رجلان فقال أحدهما : إنّ الحجّاج كافر ، وقال الآخر : إنّه مؤمن ضالّ. فسألا الشعبي فقال لهما : إنّه مؤمن بالجبت والطاغوت ، كافر بالله العظيم.

وقال : وسئل عنه واصل بن عبد الأعلى فقال : تسألوني عن الشيخ الكافر.

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ٥٥٦ [٣ / ٦٤١ ح ٦٣٥٢] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٦٩ [١٢ / ١٥٩ ـ ١٦٠ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢١٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ١٥٩ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢١٤.

(٣) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٤ و ١٣ / ٢٩٤ [٤ / ٤٣٢ ح ٢٢٢٠ ، ٥ / ٦٨٦ ح ٣٩٤٤] ، مسند أحمد : ٢ / ٩١ ، ٩٢ [٢ / ٢١٨ ح ٥٦١٢ ، ص ٢٢١ ح ٥٦٣٢] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٥٠ [١٢ / ١٢١ ـ ١٢٢ رقم ١٢١٧]. (المؤلف)

(٤) النصائح لابن عقيل : ص ٨١ الطبعة الثانية [ص ١٠٦]. (المؤلف)

(٥) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٢٨.


وقال : قال القاسم بن مخيمرة : كان الحجّاج ينتفض من الإسلام (١).

وقال : قال عاصم بن أبي النجود : ما بقيت لله تعالى حرمة إلاّ وقد انتهكها الحجّاج.

وقال : قال طاووس : عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمّون الحجّاج مؤمناً.

وقال الأجهوري : وقد اختار الإمام محمد بن عرفة والمحققون من أتباعه كفر الحجّاج.

الإتحاف (٢) (ص ٢٢).

دع هذه كلّها وخذ ما أخرجه الترمذي ، وابن عساكر من طريق هشام بن حسّان أنّه قال : أُحصي ما قتل الحجّاج صبراً فوجد مائة ألف وعشرين ألفاً (٣) ، ووجد في سجنه ثمانون ألفاً محبوسون ، منهم ثلاثون ألف امرأة (٤) ، وكانت هذه المجزرة الكبرى والسجن العام بين يدي ابن عمر ينظر إليهما من كثب ، أدرك أيام الحجّاج كلّها ، ومات وهو حيّ يذبح ويفتك.

أمثل هذا الجائر الغادر الآثم يتأهّل للائتمام به ، دون سيّد العرب مثال القداسة والكرامة؟!

وهل ابن عمر نسي يوم بايع الحجّاج ما اعتذر به من امتناعه عن بيعة ابن الزبير ، لمّا قيل له : ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين ـ ابن الزبير ـ فقد بايع له أهل

__________________

(١) كذا في تهذيب تاريخ ابن عساكر ، وفي الطبعة الجديدة من تاريخ مدينة دمشق : كان الحجّاج ينقض عرى الإسلام.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف : ص ٦٧.

(٣) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٤ [٤ / ٤٣٣ ح ٢٢٢٠] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٨٠ [١٢ / ١٨٤ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٢٦] ، تيسير الوصول : ٤ / ٣٦ [٤ / ٤١]. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٨٠ [١٢ / ١٨٥ رقم ١٢١٧] ، المستطرف : ١ / ٦٦ [١ / ٥٣]. (المؤلف)


العروض وعامّة أهل الشام؟ فقال : والله لا أُبايعكم وأنتم واضعو سيوفكم على عواتقكم ، تصيب أيديكم من دماء المسلمين (١).

هلاّ كان ابن عمر ونصب عينيه ما كانت تصيبه أيدي الحجّاج وزبانيته من دماء المسلمين ، دماء أمّة كبيرة من عباد الله الصالحين ، دماء نفوس زكيّة من شيعة آل الله؟ فكيف ائتمّ به وبايعه؟ وبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ساغ له حنث يمينه يوم بايع ابن الزبير ومدّ يده إلى بيعته وهي ترجف من الضعف بعد ما بايعه رءوس الخوارج أعداء الإسلام ، المارقين من الدين : نافع بن الأزرق ، وعطية بن الأسود ، ونجدة بن عامر (٢)؟

ليتني أدري وقومي أفي شريعة الإسلام حكم للغلبة يركن إليه المسلم في الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل أعمال أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو أنّ الائتمام في الجمعة والجماعة يدور مدار تحقّق البيعة وإجماع الأمّة ، وعدم النزاع بين الإمام وبين من خالفه من الخوارج عليه؟ أو أنّ هاتيك الأعذار ـ أعذار ابن عمر ـ أحلام نائم وأمانيّ كاذبة لا طائل تحتها؟ أنظر إلى ضئولة عقل ابن عمر يحسب أنّ الأمّة تتلقّى خزعبلاته بالقبول ، وتراه بها معذوراً في طامّاته ، ذاهلاً عن أنّ هذه المعاذير أكثر معرّة من بوادره ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كان الرجل يصلّي مع الحجّاج بمكة كما قاله ابن سعد (٣) ، وقال ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢١٣) : كان ابن عمر يصلّي خلف الحجّاج ونجدة (٤) ، وكان أحدهما

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ / ١٩٢. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٩٣. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى : ٤ / ١١٠ [٤ / ١٤٩]. (المؤلف)

(٤) نجدة بن عامر ـ عمير ـ اليماني من رءوس الخوارج زائغ عن الحق ، خرج باليمامة عقب موت يزيد ابن معاوية ، وقدم مكة ، وله مقالات معروفة ، وأتباع انقرضوا ، قتل في سنة سبعين. لسان الميزان : ٦ / ١٤٨ [٦ / ١٧٧ رقم ٨٧٥٧]. (المؤلف)


خارجيّا ، والثاني أفسق البريّة. وذكره أبو البركات في بدائع الصنائع (١ / ١٥٦).

أليس أحقّ الناس بالإمامة أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنّة؟ أليس من السنّة الصحيحة الثابتة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة ، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلماً؟» (١).

أم لم يكن منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن سرّكم أنْ تُقْبَل صلاتكم فليؤمّكم خياركم ، فإنّهم وفدكم فيما بينكم وبين ربّكم» (٢)؟

أو لم يكن يسرّ ابن عمر أن تُقبل صلاته؟ أم كان يروقه من صلاة الحجّاج أنّه وخطباءه كانوا يلعنون عليّا وابن الزبير (٣)؟ أم كان يعلم أنّ الصلاة وغيرها من القربات لا تنجع لأيّ مسلم إلاّ بالولاية لسيّد العترة ـ سلام الله عليه ـ (٤) ، وابن عمر على نفسه بصيرة ، ويراه فاقداً إيّاها ، بعيداً عنها ، فائتمامه عندئذ بالإمام العادل أو الجائر المستهتر سواسية؟

إن كان الرجل يجد الغلبة ملاك الائتمام فهلاّ ائتمّ بمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان هو الغالب في وقعة الجمل ويوم النهروان؟ ولم يكن في صفّين مغلوباً ، وإنّما لعب ابن العاصي فيها بخديعته ، فالتبس الأمر على الأغرار ، لكنّ أهل البصائر عرفوها فلم يتزحزحوا عن معتقدهم طرفة عين ، وقبل هذه الحروب انعقدت البيعة بخليفة الحقّ من غير معارض ولا مزاحم حتى يتبيّن فيه الغالب من المغلوب ، فكان إمام العدل عليه‌السلام

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ١٣٣ [٢ / ١١٩ ح ٢٩٠ كتاب المساجد] ، صحيح الترمذي : ٦ / ٣٤ [١ / ٤٥٩ ح ٢٣٥] ، سنن أبي داود : ١ / ٩٦ [١ / ١٥٩ ح ٥٨٢ ، ٥٨٤]. (المؤلف)

(٢) نصب الراية : ٢٦ / ٢. (المؤلف)

(٣) راجع المحلّى لابن حزم : ٥ / ٦٤ [مسألة ٥٢٨]. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء الثاني : ص ٣٠١. (المؤلف)


هو المستولي على عرش الخلافة والمحتبي بصدر دستها ، فلما ذا تركه عليه‌السلام ابن عمر ولم يأتمّ به وقد تمّ أمره ، بتمام شروط البيعة وملاك الائتمام على رأيه هو؟

ومن نجدة الخارجي؟ ومتى غلب على جميع الحواضر الإسلاميّة؟ وما قيمته وقيمة الائتمام به ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرّف الخوارج بالمروق من الدين بقوله : «يخرج قوم من أمّتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم ، وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (١)» (٢).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» (٣).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون في أمّتي اختلاف وفرقة ، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، ثم لا يرجعون حتى يرتدّ على فُوقه ، هم شرّ الخلق ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ، يدعون

__________________

(١) الرميّة : هي الطريدة التي يرميها الصائد ، وهي كلّ دابة مرميّة.

(٢) صحيح الترمذي : ٩ / ٣٧ [٤ / ٤١٧ ح ٢١٨٨] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٧٠ ، وأخرجه مسلم [٢ / ٤٤٣ ح ١٥٦ كتاب الزكاة] ، وأبو داود [٤ / ٢٤٤ ح ٤٧٦٨] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣١ [٤ / ٣٦]. (المؤلف)

(٣) أخرجه الخمسة إلاّ الترمذي [البخاري في صحيحه : ١٣٢١ ح ٣٤١٥ ، ومسلم في صحيحه : ٢ / ٤٤١ ح ١٥٤ كتاب الزكاة ، وابن ماجة في سننه : ١ / ٥٩ ح ١٦٨ ، وأبو داود في سننه : ٤ / ٢٤٤ ح ٤٧٦٨ ، والنسائي في سننه : ٢ / ٣١٢ ح ٣٥٦٥] ، كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣٢ [٤ / ٣٨] ، والبيهقي في السنن الكبرى : ٨ / ١٧٠. (المؤلف)


إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم». قالوا : يا رسول الله ما سيماهم؟ قال : التحليق (٤).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخرج من قبل المشرق قوم كان هديهم هكذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، ثم لا يرجعون إليه ـ ووضع يده على صدره ـ ، سيماهم التحليق ، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم ، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم».

مستدرك الحاكم (٥) (٢ / ١٤٧).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يوشك أن يأتي قوم مثل هذا يتلون كتاب الله وهم أعداؤه ، يقرؤون كتاب الله محلّقة رءوسهم ، فإذا خرجوا فاضربوا رقابهم».

المستدرك (٦) (٢ / ١٤٥).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أقواماً من أمّتي أشدّة ، ذلقة ألسنتهم بالقرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنّ المأجور من قتلهم».

المستدرك (٧) (٢ / ١٤٦).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخوارج كلاب النار» (٨) ، من طريق صحّحه السيوطي في

__________________

(٤) سنن أبي داود : ٢ / ٢٤٣ [٤ / ٢٤٣ ح ٤٧٦٥] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٤٧ ، ١٤٨ [٢ / ١٦١ ح ٢٦٤٩ ، ٢٦٥٠] ، سنن البيهقي : ١٧١ / ٨ وللشيخين عن أبي سعيد نحوه [أخرجه البخاري في صحيحه : ٦ / ٢٧٤٨ ح ٧١٢٣ ، ومسلم في صحيحه : ٢ / ٤٤٠ ح ١٤٩ كتاب الزكاة] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣٣ [٤ / ٣٨]. (المؤلف)

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٦٠ ح ٢٦٤٧.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٥٩ ح ٢٦٤٤.

(٧) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٥٩ ح ٢٦٤٥.

(٨) مسند أحمد : ٤ / ٣٥٥ [٥ / ٤٧٣ ح ١٨٦٥١] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٧٤ [١ / ٦١ ح ١٧٣]. (المؤلف)


الجامع الصغير (١)

فما قيمة صحابيّ لا ينتجع ممّا جاء عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكثير الصحيح في الناكثين والقاسطين والمارقين؟ ولم يرقطّ قيمة لتلكم النصوص ، ويضرب عنها صفحاً ولم يتبصّر بها في دينه ، ويتترّس تجاه ذلك الحكم البات النبويّ عن التقاعس عن تلك المشاهد بأنّها فتنة (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢).

لقد ذاق ابن عمر وبال أمره بتركه واجبه من البيعة لمولانا أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتبرّك بيده الكريمة التي هي يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خليفته بلا منازع ، وبتركه الائتمام به والدخول في حشده ، وهو نفس الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبقيّة منه ، بذلّ البيعة لمثل الحجّاج الفاجر ، فضرب الله عليه الذلّة والهوان هاهنا ، حتى إنّ ذلك المتجبّر الكذّاب المبير لم ير فيه جدارة بأن يناوله يده فمدّ إليه رجله فبايعها! وأخذه الله بصلاته خلفه وخلف نجدة المارق من الدين ، وحسبه بذينك هواناً في الدنيا ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى ، وكان من أخذه سبحانه إيّاه أن سلّط عليه الحجّاج فقتله وصلّى عليه (٣) ويا لها من صلاة مقبولة ودعاء مستجاب من ظالم غاشم.

معذرة أخرى لابن عمر :

ولابن عمر معذرة أخرى ، أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ٢٩٢) من طريق نافع عن ابن عمر أنّه أتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن أنت ابن عمر وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يمنعك من هذا الأمر؟ قال : يمنعني أنّ الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم

__________________

(١) الجامع الصغير : ١ / ٦٣٨ ح ٤١٤٨.

(٢) العنكبوت : ٢.

(٣) الاستيعاب : ١ / ٣٦٩ [القسم الثالث / ٩٥٣ رقم ١٦١٢] ، أُسد الغابة : ٣ / ٢٣٠ [٣ / ٣٤٤ رقم ٣٠٨٠]. (المؤلف)


قال : فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (١). قال : قد فعلنا وقد قاتلناهم حتى كان الدين لله ، فأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى يكون الدين لغير الله.

وأخرج في الحلية (١ / ٢٩٤) من طريق القاسم بن عبد الرحمن : أنّهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى : ألا تخرج فتقاتل؟ فقال : قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عزّ وجلّ من أرض العرب ، فأنا أكره أن أُقاتل من يقول لا إله إلاّ الله.

دع ابن عمر يحسب نفسه أفقه من كلّ الصحابة من المهاجرين الأوّلين والأنصار الذين باشروا الحرب مع أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلكم المعامع ، ولكن هل كان يجد نفسه أفقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أمر أصحابه بمناصرة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها ، وأمره ـ صلوات الله عليه ـ بمباشرة هاتيك الحروب الدامية ، ونهى عن التثبّط عنها. وهل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّ المقاتلين من الفئتين من أهل لا إله إلاّ الله فأمر بالمقاتلة مع عليّ عليه‌السلام؟ أو عزب عنه علم ذلك فأمر بإراقة دماء المسلمين؟ غفرانك اللهمّ.

وهل علم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ نتيجة ذلك القتال أن يكون الدين لغير الله فحضّ عليه؟

أو فاته ذلك لكن علمه ابن عمر فتجنّبه؟ أعوذ بالله من شطط القول.

وما أشبه اعتذار ابن عمر باعتذار أبيه يوم أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل ذي الثدية رأس الخوارج ، فما قتله واعتذر بأنّه وجده متخشّعاً واضعاً جبهته لله. راجع الجزء السابع (ص ٢١٦).

ثم إنّ كون الدين لغير الله ، هل كان من ناحية مولانا أمير المؤمنين علي ، وكان

__________________

(١) البقرة : ١٩٣.


هو وأصحابه يريدونه؟ أو من ناحية مناوئيه ومن بغى عليه من الفئة الباغية؟ والأوّل لا يتّفق مع ما جاء في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة في حقّ الإمام عليّ عليه‌السلام وفي مواليه وتابعيه ومناوئيه ، وفي خصوص الحروب الثلاث ، كما هو مبثوث في مجلّدات كتابنا هذا ، وإن ذهل أو تذاهل عنها ابن عمر.

وإن كان يريد الثاني فلما ذا بايع معاوية بعد أن تقاعد عن بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ هذه أسئلة ووجوه لا أدري هل يجد ابن عمر عنها جواباً في محكمة العدل الإلهي؟ لا أحسب ، ولعلّه يتخلّص عنها بضؤولة العقل المسقط للتكليف.

وأعجب من هذه كلها ما جاء به أبو نعيم في الحلية (١ / ٣٠٩) من قول ابن عمر : إنّما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادّة يعرفونها ، فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة ، فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطأ الطريق ، وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى جلّى الله ذلك عنّا ، فأبصرنا طريقنا الأوّل فعرفنا وأخذنا فيه ، وإنّما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا ، ما أُبالي أن لا يكون لي ما يقتل (١) بعضهم بعضاً بنعلي هاتين الجرداوين.

ليت شعري متى غشيت الأُمّة سحابة وظلمة فأقام الرجل حيث أدرك ذلك؟ أعلى العهد النبويّ وهو أصفى أدوار الجوّ الدينيّ؟ أم في دور الخلافة؟ وقد بايع الرجل شيخ تيم وأباه ، وهما عنده خيرا خلق الله واحداً بعد واحد ، فلا يرى فيه غشيان الظلمة أو قبول السحابة ، واعطف على ذلك أيّام عثمان فقد بايعه ولم يتسلّل عنه حتى يوم مقتله ، كما مرّ في (ص ٢٣) من هذا الجزء ، فلم تكن أيّام عثمان عنده أيّام ظلمة وسحابة وإن كان من مُلقِحي فتنتها بما ارتآه ، فلم يبق إلاّ عهد الخلافة العلويّة وملك معاوية بن أبي سفيان.

__________________

(١) في تعليق الحلية : المعنى ما يقتل بعضهم بعضاً عليه ، والله أعلم. (المؤلف)


أمّا معاوية فقد بايعه الرجل طوعاً ورغبة وإن رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكاً عضوضاً ولعن صاحبه. وبايع يزيد بن معاوية بعد ما أخذ مائة ألف من معاوية ، فلم يبق دور ظلمة عنده إلاّ أيّام خلافة خير البشر سيّد الأمّة مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وفيها أخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطأ الطريق ، وكانت الأدوار مجلاّة قبل ذلك وبعده أيّام إمارة معاوية ويزيد وعبد الملك والحجّاج ، فقد أبصر الرجل طريقه المهيع الأوّل عند ذلك فعرفه وأخذ فيه وبايعهم.

وهل هنا من يُسائل الرجل عن الذين أخطأوا الطريق ببيعتهم وانحيازهم هل هم الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ وهم الصحابة العدول والبدريّون من المهاجرين والأنصار ، والأُمّة الصالحة من التابعين من رجالات المدينة المشرّفة وغيرها من الأمصار الإسلاميّة. أو الذين أكبّوا على تلكم الأيدي العادية فبايعوها؟ من طغام الشام ، سفلة الأعراب ، وبقيّة الأحزاب ، وأهل المطامع والشره ، فيرى هل تحدوه القحّة والصلف إلى أن يقول بالأوّل؟ ونصب عينه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن تولّوا عليّا تجدوه هادياً مهديّا ، يسلك بكم الطريق المستقيم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنْ تؤمّروا علياً ـ ولا أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهديّا يسلك بكم الطريق المستقيم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن تستخلفوا عليّا ـ وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهديّا ، يحملكم على المحجّة البيضاء» إلى أحاديث أخرى أوعزنا إليها في الجزء الأوّل (ص ١٢)

أو أنّ النصفة تُلقى على روعه فينطق وهو لا يشعر بما يقول ، فيقول بالثاني فينقض ما ارتكبه من بيعة القوم جميعاً.

ثم إنّ من غريب المعتقد ما ارتآه من أنّ فتيان قريش كانوا يقتتلون على السلطان ، ويبغون بذلك حطام الدنيا ، وهو يعلم أنّ لهذا الحسبان شطرين ، فشطر


لعليّ أمير المؤمنين وأصحابه ، وهو الذي كانت الدنيا عنده كعفطة عنز ، كما لهج به ـ صلوات الله عليه ـ وصدّق الخبر الخبر ، وكانت نهضته تلك بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد منه إليه وإلى أصحابه ، كما تقدّم في هذا الجزء والجزء الثالث. وشطر لطلحة والزبير ولمعاوية.

أمّا الأوّلان فيعرب عن مرماهما قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له : «كلّ واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه لا يمتّان إلى الله بحبل ، ولا يمدّان إليه بسبب ، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه ، وعمّا قليل يكشف قناعه به ، والله لئن أصابوا الذي يريدون لينزعنّ هذا نفس هذا ، وليأتينّ هذا على هذا ، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون؟» ولمّا خرج طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة جاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير وقال : على أيّكما أُسلّم بالإمارة ، وأُنادي بالصلاة؟ فسكتا ، فقال عبد الله بن الزبير : على أبي. وقال محمد بن طلحة : على أبي. فأرسلت عائشة إلى مروان : أتريد أن ترمي الفتنة بيننا؟ أو قالت : بين أصحابنا ، مروا ابن اختي فليصلّ بالناس. يعنى عبد الله بن الزبير.

مرآة الجنان لليافعي (١ / ٩٥).

وأمّا معاوية فهو الذي صدق فيه ظنّه بل تنجّز يقينه ، وقد عرفه بذلك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتُعرّفه إيّاك بغايته الوحيدة ، ونفسيّته الذميمة كلماتهم ، وابن لا يصيخ إليها وقد أصمّه وأعماه حبّ العبشميّين ، فاتّبع هواه وأضلّه ، وإليك نماذج من تلكم الكلم :

١ ـ قال هاشم المرقال مخاطباً أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام : سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلّوا حرامه ، وحرّموا حلاله ، واستهوى بهم الشيطان ،


ووعدهم الأباطيل ، ومنّاهم الأمانيّ حتى أزاغهم عن الهوى ، وقصد بهم قصد الردى ، وحبّب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة.

كتاب صفّين (ص ١٢٥) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٨٢) ، جمهرة الخطب (١ / ١٥١) (١).

٢ ـ ومن كلام لهاشم المرقال أيضاً : يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جدّ خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجادلوك ، لا يُبقون جهداً مشاحّة على الدنيا ، وضنّا بما في أيديهم منها ، ليس لهم إربة غيرها إلاّ ما يخدعون به الجهّال من طلب دم ابن عفّان ، كذبوا ليسوا لدمه ينفرون ، ولكن الدنيا يطلبون.

كتاب ابن مزاحم (ص ١٠٣) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٧٨) (٢).

٣ ـ من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي : إنّ المسلم من سلم دينه ورأيه ، وإنّ هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه ، ولا على إحياء حقّ رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلاّ على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكاً ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهوراً وسروراً ـ إذن لوليكم مثل سعيد (٣) والوليد (٤) وعبد الله ابن عامر (٥) السفيه ، يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ، ويأخذ مال الله ويقول : لا إثم عليّ فيه ، كأنّما أعطي تراثه من أبيه. كيف؟ إنّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١١٢ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٨٤ خطبة ٤٦ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٢٣ رقم ٢١٢.

(٢) وقعة صفّين : ص ٩٢ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٧٢ خطبة ٤٦.

(٣) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، والي معاوية على المدينة. (المؤلف)

(٤) الوليد بن عقبة السكير ، أخو عثمان لأُمّه. (المؤلف)

(٥) عبد الله بن عامر ، ولاّه معاوية على البصرة ثلاث سنين. (المؤلف)


ورماحنا ، قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومة لائم ، إنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتم ، والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلاّ شرّا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

كتاب صفّين (ص ٢٧٩) ، تاريخ الطبري (٦ / ١٠) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٥) (١).

٤ ـ من مقال لعمّار بن ياسر بصفّين : أمضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم ولو درس هذا الدين : لم قتلتموه؟ فقلنا : لأحداثه. فقالوا : إنّه ما أحدث شيئاً ، وذلك لأنّه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال ، والله ما أظنّهم يطلبون دمه ، إنّهم ليعلمون إنّه لظالم ، ولكنّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها واستمرءوها ، وعلموا لو أنّ صاحب الحقّ لزمهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون فيه منها ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقّون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوماً. ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي ما بايعهم من الناس رجلان.

كتاب صفّين (ص ٣٦١) ، تاريخ الطبري (٦ / ٢١) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٥٠٤) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١٢٣) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ٢٦٦) واللفظ لابن مزاحم (٢).

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٢٤٧ ، تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٩٤ خطبة ٦٥.

(٢) وقعة صفّين : ص ٣١٩ ، تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٣٩ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ٢٥٢ خطبة ٦٥ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٨٠ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٩٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍.


٥ ـ من خطبة لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي : يا أمير المؤمنين إنّ القوم لو كانوا الله يريدون ، ولله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنّما يقاتلوننا فراراً من الأُسوة وحبّا للأثرة ، وضنّا بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحَنٍ في نفوسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

كتاب صفّين (ص ١١٤) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٨١) ، جمهرة الخطب (١ / ١٤٨) (١).

٦ ـ من كلام لشبث بن ربعي مخاطباً معاوية : إنّه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب. إلى آخر ما يأتي في هذا الجزء.

٧ ـ قال وردان غلام عمرو بن العاص له : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : عليّ معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض من الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض الآخرة. فقال عمرو :

يا قاتلَ اللهُ ورداناً وفطنته

أبدى لعمرُك ما في النفس وردانُ

لمّا تعرّضت الدنيا عرضت لها

بحرص نفسي وفي الأطباع إدهانُ

نفسٌ تعفُّ وأخرى الحرصُ يقلبُها

والمرءُ يأكلُ تبناً وهو غرثانُ

أمّا عليٌّ فدينٌ ليس يشركه

دنياً وذاك له دنياً وسلطانُ

فاخترت من طمعي دنياً على بصرٍ

وما معي بالذي أختار برهانُ

إلى آخر أبيات مرّت في (٢ / ١٤١) ، ومرّ لعمرو بن العاص قوله :

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل

بذلك دنيا فانظرنْ كيف تصنعُ

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١٠٢ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٨٠ خطبة ٤٦ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٢٠ رقم ٢٠٨.


فإن تعطِني مصراً فأربح بصفقةٍ

أخذت بها شيخاً يضرّ وينفعُ

وما الدينُ والدنيا سواء وإنّني

لآخذ ما تُعطي ورأسي مقنّعُ

إلى آخر ما أسلفناه في (٢ / ١٤٣).

٨ ـ من كتاب لمحمد بن مسلمة الأنصاري إلى معاوية : وأمّا أنت فلعمري ما طلبت إلاّ الدنيا ، ولا اتّبعت إلاّ الهوى. فإن تنصر عثمان ميتاً فقد خذلته حيّا.

كتاب صفّين (١) (ص ٨٦).

٩ ـ قال نصر : لمّا اشترطت عكّ والأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم (٢) ، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلاّ طمع في معاوية ، وشخص بصره إليه حتى فشا ذلك في الناس ، وبلغ ذلك عليّا فساءه ، وجاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي (٣) ، وكان فارس همدان وشاعرهم فقال : يا أمير المؤمنين إنّ عكّا والأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم ، فباعوا الدين بالدنيا ، وإنّا رضينا بالآخرة من الدنيا ، وبالعراق من الشام ، وبك من معاوية ، والله لآخرتنا خير من دنياهم ، ولعراقنا خير من شامهم ، ولإمامنا أهدى من إمامهم ، فاستفتحنا بالحرب ، وثق منّا بالنصر ، واحملنا على الموت. ثم قال في ذلك :

إنّ عكّا سألوا الفرائض والأش

عر سالوا جوائزاً بثنيَّهْ (٤)

تركوا الدين للعطاء وللفر

ض فكانوا بذاك شرّ البريّهْ

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٧٧.

(٢) اشترطوا على معاوية أن يجعل لهم فريضة ألفي رجل في ألفين ، ومن هلك فابن عمّه مكانه. كتاب صفّين : ص ٤٩٣ [ص ٤٣٣]. (المؤلف)

(٣) الوادعي : نسبة إلى وادعة ، بطن من همدان. (المؤلف)

(٤) البثنيّة : منسوبة إلى قرية بالشام بين دمشق وأذرعات ، وإليها تُنسب الحنطة البثنية ، وهي أجود أنواع الحنطة [معجم البلدان : ١ / ٣٣٨]. (المؤلف)


وسألنا حسن الثواب من اللّ

ه وصبراً على الجهاد ونيّهْ

فلكلٍّ ما ساله ونواه

كلّنا يحسبُ الخلافَ خطيّهْ

ولأَهلُ العراقِ أحسن في الحر

بِ إذا ما تدانت السمهريّهْ

ولأَهلُ العراقِ أحملُ للثق

ل إذا عمّت العبادَ بليّهْ

ليس منّا من لم يكن لك في اللّ

ه وليّا يا ذا الولا والوصيّهْ

فقال عليّ : «حسبك رحمك الله» ، وأثنى عليه خيراً وعلى قومه. وانتهى شعره إلى معاوية ، فقال معاوية : والله لأستميلنّ بالأموال ثقات عليّ ، ولأقسمنّ فيهم المال حتى تغلب دنياي آخرته.

كتاب صفّين (ص ٤٩٥) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٢٩٣) (١).

١٠ ـ من كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى معاوية : «واعلم يا معاوية أنّك قد ادّعيت أمراً لست من أهله لا في القدَم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمرٍ بيّن تُعرف لك به أثرة ، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدّعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذّتها ، وخُلّي فيها بينك وبين عدوّ جاهد ملحّ ، مع ما عرض في نفسك ، من دنياً قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتّبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فأقعس عن هذا الأمر ، وخُذ أُهبة الحساب ، فإنّه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يُجنّك منه مجنّ ، ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعيّة؟ أو ولاةً لأمر هذه الأُمّة بغير قدمٍ حسن؟ ولا شرفٍ سابق على قومكم ، فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تمكّن الشيطان من بغيته فيك ، مع أنّي أعرف أنّ الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلاّ تفعل أُعلمْك ما أغفلك من نفسك ، فإنّك مُترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق».

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٤٣٥ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٧٧ خطبة ١٢٤.


كتاب صفّين (ص ١٢٢) ، نهج البلاغة (٢ / ١٠) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٤١٠) (١).

١١ ـ روي : أنّ الحسن بن علي قال لحبيب (٢) بن مسلمة في بعض خرجاته بعد صفّين : «يا حبيب ربّ مسير لك في غير طاعة الله». فقال له حبيب : أمّا إلى أبيك فلا. فقال له الحسن : «بلى والله ولقد طاوعت معاوية على دنياه وسارعت في هواه ، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول ، فتكون كما قال الله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٣). ولكنّك كما قال الله تعالى : (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٤)» (٥).

١٢ ـ قال القحذمي : لمّا قدم معاوية المدينة ، قال : أيّها الناس إنّ أبا بكر رضى الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده ، وأمّا عمر فأرادته الدنيا ولم يردها ، وأمّا عثمان فنال منها ونالت منه ، وأمّا أنا فمالت بي وملت بها ، وأنا ألينها وهي أُمّي وأنا ابنها ، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.

العقد الفريد (٦) (٢ / ٣٠٠).

إلى كلمات أخرى تعرب عن مدى غايات معاوية وتركاضه وراء حطام الدنيا وملكها العضوض.

ابن عمر يحيي أحداث أبيه :

هاهنا يوقفنا السبر عن أخبار ابن عمر على مواقف اتّباعه أحداث والده ،

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١٠٩ ، نهج البلاغة : ص ٣٦٩ كتاب ١٠ ، شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٧٩.

(٢) نزيل الشام ، كان مع معاوية في حروبه. (المؤلف)

(٣) التوبة : ١٠٢.

(٤) المطفّفين : ١٤.

(٥) الاستيعاب : ١ / ١٢٣ [القسم الأول : ١ / ٣٢١ رقم ٤٧٠]. (المؤلف)

(٦) العقد الفريد : ٤ / ١٥٨.


واتّخاذه آراءه الشاذّة عن الكتاب والسنّة ديناً بعد تبيّن الرشد من الغيّ ، ما بالهم إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها؟!

منها : ذكر الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٦٥) عن ابن عمر لمّا سُئل عن المتعة ، قال : حرام. فقيل : إنّ ابن عبّاس لا يرى بها بأساً. فقال : والله لقد علم ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عنها يوم خيبر وما كنّا مسافحين.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٢٠٦) عن عبد الله بن عمر أنّه سُئل عن متعة النساء فقال : حرام ، أما إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لو أخذ فيها أحداً لرجمه بالحجارة.

إنّ الرجل متقوّل على الله وعلى رسوله بحكمه الباتّ بحرمة المتعة ، والسائل إنّما سأله عن دين الله لا عمّا أحدثه أبوه ، وهو في قوله هذا مكذّب لأبيه ، حيث يقول : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما. ويقول : ثلاث كنّ على عهد رسول الله أنا محرّمهنّ ومعاقب عليهنّ : متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، وحيّ على خير العمل. ولم يستثنِ من ذلك العهد شيئاً ، ونسب التحريم إلى نفسه ، وقد عُدّ من أوليات عمر.

ومكذّب أيضاً ابن عبّاس وقاذف إيّاه بأنّه كان يعلم حكم الله ويحكم بخلافه ، ويحلف بالله في قوله الفاحش ، وحاشا حبر الأمّة عن هذه الطامّة الكبرى.

ومكذّب فحول الصحابة نظراء جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، وعمران بن حصين ، القائلين بإباحة المتعة في السنّة الشريفة ، وإنّهم تمتّعوا على عهد أبي بكر وشطر من خلافة عمر ، وإنّ عمر هو الذين نهى عنها.

ومكذّب سيّد العترة أمير المؤمنين عليه‌السلام في عزوه النهي عن المتعة إلى عمر ، وقوله : «لو لا نهيه عنها ما زنى إلاّ شقيّ».


على أنّ النهي عن المتعة بخيبر يكذّبه إطباق الحفّاظ وشرّاح البخاري على عدم وجود النهي عنها يومئذ ، وقد سبق القول عن السهيلي وأبي عمر والزرقاني في الجزء السادس (ص ٢٢٦) بأنّه وهم وغلط لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر.

مرّ الكلام حول هذا البحث ضافياً في الجزء السادس (ص ١٩٨ ـ ٢٤٠).

ومنها : نهيه عن البكاء على الأموات احتذاء منه سيرة أبيه ، خلاف ما جاء في السنّة الشريفة من فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله وتقريره ، وكان ذلك بعد قيام الحجّة عليهما كما مرّ في الجزء السادس ، وكان الرجل يقول : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقبر فقال : إنّ هذا ليُعذّب الآن ببكاء أهله عليه ، فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن ، إنّه وهم ، إنّ الله تعالى يقول (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) : إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ هذا ليعذّب الآن وأهله يبكون عليه» (٢).

فصّلنا القول في المسألة في الجزء السادس (١٥٩ ـ ١٦٧) وفي هذا الجزء (ص ٤٣ ، ٤٤).

ومنها : استنكافه من الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً برأي أبيه ، السابق ذكره في (٦ / ٢٩٤) ، قال الشعبي : قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفاً فما سمعته يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ حديثاً (٣).

ومنها : قوله في طواف الوداع على الحائض التي أفاضت حذو رأي أبيه خلاف السنّة النبويّة الشريفة ، وكان على ذلك ردحاً من الزمان ، ثم لمّا لم يرَ من وافقه في الرأي لم يجد بدّا من البخوع للحقّ فأخبت إليه ، كما أسلفناه في (٦ / ١١١).

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣١ ، ٣٨ [٢ / ١١٣ ح ٤٨٥٠ ، ص ١٢٥ ح ٤٩٣٩]. (المؤلف)

(٣) سنن الدارمي : ١ / ٨٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ١٥ [١ / ١١ ح ٢٦] ، مسند أحمد : ٢ / ١٥٧ [٢ / ٣٣٥ ح ٦٤٢٩] ولفظه : جالست ابن عمر سنتين ما سمعته روى شيئاً عن رسول الله. (المؤلف)


ومنها : حضّه الناس على ما أحدثه أبوه من المنع عن السؤال عمّا لم يقع (١) ، وقوله : يا أيّها الناس لا تسألوا عمّا لم يكن ، فإنّي سمعت عمر بن الخطّاب يلعن من سأل عمّا لم يكن (٢).

ألا تعجب من سوء حظ أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدعم الأحدوثة فيها بالمسبّة ، وتنهى عن المعروف بالفسوق؟!

ومنها : قوله في المتطيّب عند الإحرام اقتداءً بأحدوثة أبيه خلاف السنّة الثابتة ، أخرج البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه قال : سمعت ابن عمر يقول : لئن أصبح مطليّا بقطران أحبّ إليّ من أن أصبح محرماً أنضخ (٣) طيباً ، قال : فدخلت على عائشة فأخبرتها بقوله فقالت : طيّبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرماً.

وفي لفظ البخاري : ذكرته لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، كنت أطيّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيطوف على نسائه ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً.

وفي لفظ النسائي : سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال : لَأَن أُطلَى بالقطران أحبّ إليّ من ذلك. فذكرت ذلك لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، قد كنت أُطيّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضخ طيباً (٤).

__________________

(١) مرّ البحث عنه في : ٦ / ٢٩٣. (المؤلف)

(٢) كتاب العلم لأبي عمر : ٢ / ١٤٣ [ص ٣٦٩ ح ١٧٩٤] ، مختصر كتاب العلم : ص ١٩٠ [ص ٣٢٦ رقم ٢٣٢]. (المؤلف)

(٣) النضخ : بالخاء المعجمة كاللطخ فيما يبقى له أثر ، يقال : نضخ ثوبه بالطيب. والنضح بالمهملة فيما كان رقيقاً مثل الماء. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ١ / ١٠٢ ، ١٠٣ [١ / ١٠٤ ح ٢٦٤] ، صحيح مسلم : ٤ / ١٢ ، ١٣ [٣ / ٢٢ ح ٤٩ كتاب الحج] ، سنن النسائي : ٥ / ١٤١ [٢ / ٣٤٠ ح ٣٦٨٤]. (المؤلف)


ومنها : ما أخرجه الشيخان (١) من طريق مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلّون الضحى في المسجد ، فسألناه عن صلاتهم فقال : بدعة ، فقال له عروة : يا أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : أربع عمر ، إحداهنّ في رجب ، فكرهنا أن نكذّبه ونردّ عليه ، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة ، فقال عروة : ألا تسمعين يا أمّ المؤمنين إلى ما يقول أبو عبد الرحمن؟ فقالت : وما يقول؟ قال : يقول : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربع عمر إحداهنّ في رجب. فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر رسول الله إلاّ وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط.

الظاهر من الرواية أنّ ابن عمر تعمّد باختلاق عمرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب ، وإن كره مجاهد وعروة أن يكذّباه ، وإنّما فعل ذلك رَوماً لتدعيم ما تأوّل به رأي أبيه الشاذّ في متعة الحجّ ممّا رواه أحمد في مسنده (٢) (٢ / ٩٥) من قوله : إنّ عمر لم يقل لكم إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ، ولكنّه قال : إنّ أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحج.

فأراد ابن عمربعزو عمرة رجب المختلقة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأييداً لتأويله الذي يضادّ صريح قول أبيه : إنّي أُحرّمها وأُعاقب عليها. وقد فصّلنا القول فيها في (ج ٦).

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما اعتمر في رجب قطّ كما جاء في حديث أنس أيضاً : اعتمر

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٤٤ [٢ / ٦٣٠ ح ١٦٨٥] ، صحيح مسلم : ٤ / ٦١ [٣ / ٨٩ ح ٢٢٠ كتاب الحج] ، مسند أحمد : ٢ / ٧٣ ، ١٢٩ ، ١٥٥ [٢ / ١٨٧ ح ٥٣٩٣ ، ص ٢٨٥ ح ٦٠٩١ ، ص ٣٣١ ح ٦٣٩٤] ، [وسنن ابن ماجة : ٢ / ٩٩٧ ح ٢٩٩٨] وفي تيسير الوصول : ١ / ٣٣٦ [١ / ٣٩٤] : أخرجه الخمسة إلاّ النسائي. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٢٢٦ ح ٥٦٦٧.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربع عمر كلّها في ذي القعدة (١) ، وأخرج ابن ماجة في سننه (٢) (٢ / ٢٣٣) من طريق ابن عبّاس قال : لم يعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرة إلاّ في ذي القعدة.

وكان ابن عمر يحسب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتمر مرّتين فأنكرت عليه عائشة أيضاً ، ولعلّه كان قبل إنكارها السابق عليه ، أخرج أبو داود وأحمد (٣) من طريق مجاهد قال : سُئل ابن عمر : كم اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : مرّتين. فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجّة الوداع.

ولعلّ الباحث يقرب من عرفان حقيقة ابن عمر إن أمعن النظر فيما أخرجه ابن عساكر من طريق إمام الحنابلة (٤) عن ابن أبزي : أنّ عبد الله بن الزبير قال لعثمان يوم حُصِر : إنّ عندي نجائب قد أعددتها لك ، فهل لك أن تتحوّل إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك؟ قال : لا ، إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «يُلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله عليه نصف أوزار الناس» ، ولا أراك إلاّ إيّاه أو عبد الله بن عمر.

تاريخ ابن عساكر (٥) (٧ / ٤١٤).

وأخرج أحمد في مسنده (٦) (٢ / ١٣٦) : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال : يا ابن الزبير إيّاك والإلحاد في حرم الله تبارك وتعالى ، فإنّي سمعت

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٤٥ [٢ / ٦٣١ ح ١٦٨٨] ، صحيح مسلم : ٤ / ٦٠ [٣ / ٨٨ ح ٢١٧ كتاب الحج] ، سنن أبي داود : ١ / ٣١٢ [٢ / ٢٠٦ ح ١٩٩٤] ، الإجابة للزركشي : ص ١١٥ [ص ١٠٤ ح ٣]. (المؤلف)

(٢) سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٩٧ ح ٢٩٩٦.

(٣) راجع سنن أبي داود : ١ / ٣١٢ [٢ / ٢٠٥ ح ١٩٩٢] ، مسند أحمد : ٢ / ٧٠ ، ١٣٩ [٢ / ١٨٣ ح ٥٣٦٠ ، ص ٣٠٣ ح ٦٢٠٦] ، فتح الباري : ٣ / ٤٧٣ [٣ / ٦٠١]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ١ / ١٠٤ ح ٤٦٣.

(٥) تاريخ مدينة دمشق : ٢٨ / ٢١٩ رقم ٣٢٩٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٩٥.

(٦) مسند أحمد : ٢ / ٢٩٨ ح ٦١٦٥.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّه سيلحد فيه رجل من قريش لو وُزِنت ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت». قال : فانظر لا تكونه.

الفريق الثاني :

أمّا الفريق الثاني من أخبار ابن عمر فحدّث عنه ولا حرج ، تراه لا يدعه عداؤه المحتدم ونفسيّته الواجدة على أمير المؤمنين ، أو حبّه المعمي والمصمّ للبيت العبشمي ، أن يجري على لسانه اسم عليّ وذكر أيّام خلافته فضلاً عن أن يبايعه ، مرّ حول حديث ذكرناه في هذا الجزء صفحة (٢٤) قول ابن حجر : لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ لأنّه لم يبايعه لوقوع الاختلاف عليه. إلى آخر كلامه.

وسبق في (ص ٣٦) من طريق الحافظ ابن عساكر ، ذكر ابن عمر الخلافة الإسلاميّة وعدّه خلفاءها الاثني عشر من قريش : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية ، ويزيد ، والسفاح ، ومنصور ، وجابر ، والأمين ، وسلام ، والمهدي ، وأمير العصب ، وقوله فيهم : إنّ كلّهم صالح لا يوجد مثله.

أيّ نفسيّة ذميمة أو عقليّة ساقطة دعت الرجل إلى هذه العصبيّة ، عصبيّة الجاهليّة الأولى؟ هب أنّ خلافة أمير المؤمنين كانت غير مشروعة ـ العياذ بالله ـ ولكن هل كانت من السقوط على حدّ هو أسوأ حالاً من أيّام يزيد الطاغية الباغية وملكه العضوض ، الذي استساغ الرجل أن يلهج به دون عهد أمير المؤمنين وخلافته؟ وهل تسوغ تسمية أيّام الفراعنة والجبابرة لدى سرد تاريخ قصّة أو قضيّة ، وقد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القوم أنّ الخلافة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثون عاماً ، ثم ملك عضوض ، ثم كائن عتوّا وجبريّة وفساداً في الأُمّة ، يستحلّون الفروج والخمور (١)؟

__________________

(١) راجع الخصائص الكبرى : ٢ / ١١٩ [٢ / ١٩٧] ، فيض القدير : ٣ / ٥٠٩ [ح ٤١٤٧]. (المؤلف)


وهل كان على لسان الرجل عقال عيّ به عن سرد فضائل أمير المؤمنين وتبكّمت عليه ممّا ملأ بين الخافقين؟ وقد نزلت فيه عليه‌السلام ثلاثمائة آية ، وجاءت في الثناء عليه آلاف من الأحاديث لم يُرْوَ منها عن ابن عمر إلاّ نزر يعدّ بالأنامل ، وذلك بصورة مصغّرة مشوّهة ، يضمّ آراءه السخيفة إليها مثل ما أخرجه أحمد في مسنده (١) (٢ / ٢٦) عن ابن عمر قال : كنّا نقول في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رسول الله خير الناس ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لَأَن تكونَ لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم! زوّجه رسول الله ابنته وولدت له ، وسدّت الأبواب إلاّ بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر.

وفي حديث : قيل لابن عمر : ما قولك في عليّ وعثمان؟ فقال ابن عمر : أمّا عثمان فقد عفا الله عنه فكرهتم أن تعفوا ، وأمّا عليّ فابن عمّ رسول الله وختنه (٢).

وتراه يوازن أبا بكر وعمر وعثمان مع رسول الله ويزنهم بميزان قسطه الذي فيه ألف عين ، ثم يرفعه ولم تلحق الزنة عليّا. أخرج أحمد في المسند (٣) (٢ / ٧٦) من طريق ابن عمر ، قال : خرج علينا رسول الله ذات غداة بعد طلوع الشمس ، فقال : رأيت قُبيل الفجر كأنّي أُعطيت المقاليد والموازين ، فأمّا المقاليد فهذه المفاتيح ، وأمّا الموازين فهي التي تَزِنون بها ، فوُضعت في كفّة ووضعت أُمّتي في كفّة ، فوُزنت بهم فرجَحتُ ، ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن ، ثم جيء بعمر فوزن [فوزن] (٤) ، ثم جيء بعثمان فوزن بهم. ثم رفعت.

يؤيّد ابن عمر بهذه الأسطورة رأيه في المفاضلة بين الصحابة ، وأنّه لا تفاضل

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ١٠٤ ح ٤٧٨٢.

(٢) أخرجه البخاري [في صحيحه : ٤ / ١٦٤١ ح ٤٢٤٣]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١٩٤ ح ٥٤٤٦.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.


بينهم بعد أبي بكر وعمر وعثمان ، وإذا ذهبوا استوى الناس.

نعم ، ثقيل على ابن عمر أن يذكر عليّا بخير ، ويبوح بشيء من فضائله الجمّة ، وهو يأتي في غيره بما لا يقبله قطّ ذو مسكة ، ولا يساعده فيه العقل والمنطق ، مثل قوله : كنت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبو بكر الصدّيق عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال ، فنزل عليه جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال؟ إلى آخر ما مرّ في (٥ / ٢٧٤ الطبعة الأولى وص ٣٢١ الطبعة الثانية).

وقوله مرفوعاً : لو وُزِن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح. لسان الميزان (١) (٣ / ٣١٠).

وقوله مرفوعا : أُتيت في المنام بعسّ مملوء لبناً فشربت منه حتى [إذا] امتلأتُ فرأيته يجري في عروقي فضلت فضلة فأخذها عمر بن الخطّاب فشربها. إلى آخر ما أسلفناه في (٥ / ٢٧٩ الطبعة الأولى وص ٣٢٦ الطبعة الثانية).

وقوله مرفوعاً : أُحْشَرُ يوم القيامة بين أبي بكر وعمر ، حتى أقف بين الحرمين فيأتيني أهل مكة والمدينة.

وقوله مرفوعاً : هبط جبريل فقال : إنّ ربّ العرش يقول لك : لمّا أخذت ميثاق النبيّين أخذت ميثاقك ، وجعلتك سيّدهم ، وجعلت وزيرك أبا بكر وعمر.

وقوله مرفوعاً : لمّا أُسري بي إلى السماء فصرت إلى السماء الرابعة سقطت في حجري تفّاحة فأخذتها بيدي فانفلقت فخرجت منها حوراء تقهقه ، فقلت لها : تكلّمي لمن أنت؟ قالت : للمقتول شهيداً عثمان بن عفّان.

وقوله مرفوعاً : أما إنّ معاوية يبعث يوم القيامة عليه رداء من نور الإيمان.

__________________

(١) لسان الميزان : ٣ / ٣٨٢ رقم ٤٦٤٦.


وقوله مرفوعاً : إنّه أُوحي إليّ أن أُشاور ابن أبي سفيان في بعض أمري.

وقوله : لمّا نزلت آية الكرسي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاوية : اكتبها فقال لي : مالي بكتبها إن كتبتها؟ قال : لا يقرؤها أحد إلاّ كُتب لك أجرها.

وقوله مرفوعاً : الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فطلع معاوية ، فقال : أنت يا معاوية منّي وأنا منك ، لَتزاحمني على باب الجنة كهاتين. وأشار بإصبعيه.

وقوله مرفوعاً : يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك ، فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك ، فطلع معاوية.

وقوله : إنّ جعفر بن أبي طالب أهدى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرجلاً ، فأعطى معاوية ثلاث سفرجلات وقال : تلقاني بهنّ في الجنّة.

إلى روايات أخرى أسلفناها في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ، ونحن وإن ماشينا القوم هنالك وأخذنا بتلكم الطامّات أُناساً آخرين من رجال أسانيدها ، غير أنّ ما صحّ عن ابن عمر من أخباره كحديث المفاضلة ، وما علم من نزعاته الوبيلة ، وما ثبت عنه من أفعاله وتروكه تقرّب إلى الذهن أنّه هو صائغ تلكم الصحاصح (١) ، ولا رجحان لغيره عليه في كفّة الاختلاق والتقوّل ، كما أنّ له في نحت الأعذار لمن انحاز إليهم من الأمويّين قَدَماً وقِدْماً ، وقد مرّ شطر من شواهد ذلك. ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده (٢) (٢ / ١٠١) من طريق عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : جاء رجل من مصر يحجّ البيت ، قال : فرأى قوماً جلوساً فقال : من هؤلاء القوم؟ فقالوا : قريش. قال : فمن الشيخ فيهم؟ قالوا : عبد الله بن عمر. قال : يا بن عمر إنّي سائلك عن شيء أو أنشدك بحرمة هذا البيت ، أتعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال :

__________________

(١) الصحاصح : الباطل ، الترّهات.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٢٣٧ ح ٥٧٣٨.


نعم. قال : فتعلم أنّه غاب عن بدر فلم يشهده؟ قال : نعم. قال : وتعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان؟ قال : نعم. قال : فكبّر المصريّ ، فقال ابن عمر : تعال أُبيّن لك ما سألتني عنه ، أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله قد عفا عنه وغفر له. وأمّا تغيّبه عن بدر فإنّه كانت تحته ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّها مرضت ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لك أجر رجل شهد بدر أو سهمه. وأمّا تغيّبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان ، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان ، فضرب بها يده وقال : هذه لعثمان. قال : وقال ابن عمر : اذهب بهذا الآن معك. وأخرجه البخاري في صحيحه (١) (٦ / ١٢٢).

وفي مرسلة عن المهلب بن عبد الله : أنّه دخل على سالم بن عبد الله بن عمر رجل وكان ممّن يحمد عليّا ويذّم عثمان ، فقال الرجل : يا أبا الفضل ألا تخبرني هل شهد عثمان البيعتين كلتيهما : بيعة الرضوان وبيعة الفتح؟ فقال سالم : لا. فكبّر الرجل وقام ونفض رداءه وخرج منطلقاً.

فلمّا أن خرج قال له جلساؤه : والله ما أراك تدري ما أمر الرجل ، قال : أجل ، وما أمره؟ قالوا : فإنّه ممّن يحمد عليّا ويذمّ عثمان ، فقال : عليّ بالرجل ، فأرسل إليه فأتاه ، فقال : يا عبد الله الصالح إنّك سألتني : هل شهد عثمان البيعتين كلتيهما : بيعة الرضوان وبيعة الفتح ، فقلت : لا. فكبّرتَ وخرجتَ شامتاً ، فلعلّك ممّن يحمد عليّا ويذمّ عثمان؟ فقال : أجل والله إنّي لمنهم ، قال : فاستمع منّي ثم اردد عليّ ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا بايع الناس تحت الشجرة كان بعث عثمان في سريّة ، وكان في حاجة الله وحاجة رسوله وحاجة المؤمنين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إنّ يميني يدي وشمالي يد عثمان ، فضرب شماله على يمينه وقال : هذه يد عثمان وإنّي قد بايعت له ، ثم كان من شأن عثمان في البيعة الثانية : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عثمان إلى عليّ ، فكان أمير اليمن

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٥٢ ح ٣٤٩٥.


فصنع به مثل ذلك.

إلى آخر الرواية وهي طويلة ، أخرجها المحبّ الطبري في الرياض النضرة (١) (٢ / ٩٤) وقد حذف إسنادها تحفّظاً عليها ، وفي متنها شواهد تدلّ على وضعها ، وأنّها مكذوبة مختلقة ، وهي تغنينا عن عرفان رجال السند.

وأخرج الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٩٨) من طريق حبيب بن أبي مليكة ، قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال : أشهِد عثمان بيعة الرضوان؟ قال : لا. قال : فشهد بدراً؟ قال : لا. قال : فكان ممّن استزلّه الشيطان. قال : نعم. فقام الرجل ، فقال له بعض القوم : إنّ هذا يزعم الآن أنّك وقعت في عثمان. قال : كذلك يقول؟ قال : ردّوا عليّ الرجل ، فقال : عقلتَ ما قلتُ لك؟ قال : نعم سألتك هل شهد عثمان بيعة الرضوان؟ قلت : لا ، وسألتك هل شهد بدراً؟ فقلت : لا ، وسألتك هل كان ممّن استزلّه الشيطان؟ فقلت : نعم. فقال : أمّا بيعة الرضوان فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام فقال : إنّ عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله. فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره ، وأمّا الذين تولوا يوم التقى الجمعان إنَّما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إنَّ الله غفور حليم.

ألا تعجب من هذه الأعذار المفتعلة الباردة وقد خفيت على الصحابة الحضور يوم بدر البالغ جمعهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً (٣) ، وعلى الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة أو أكثر (٤) ، لم يك يعلم بها إلاّ رجلان أحدهما ابن عمر الذي كان

__________________

(١) الرياض النضرة : ٣ / ١٩.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٠٤ ح ٤٥٣٨.

(٣) صحيح البخاري : ٦ / ٧٤ [٤ / ١٤٥٧ ح ٣٧٤٠] في المغازي ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٧٢ [٢ / ٤٣١ حوادث سنة ٢ ه‍] ، سيرة ابن هشام : ٢ / ٣٥٤ [٢ / ٣٦٤]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٧ / ٢٢٣ [٤ / ١٨٣١ ح ٤٥٦٠] في تفسير سورة الفتح ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٧٦ [١٦ / ١٨٢]. (المؤلف)


يوم بدر وأُحد صبيّا لم يبلغ الحلم ، وقد استصغره رسول الله في اليومين ، وكان له يوم بيعة الرضوان ستّ عشرة سنة (١) ، وثانيهما نفس عثمان الغائب عن هاتيك المواقف ، فالرواية مدبّرة بين اثنين ، بين صبيّ وغائب يوم حوصر عثمان ، وتبعهما في بعضها أنس فحسب.

ومن الغريب جدّا أنّ عبد الرحمن بن عوف أخا عثمان (٢) وصاحبه الذي أقعده دست الخلافة ، وكان حاضراً في بدر وأُحد لم يكن قرع سمعه شيء من تلكم الأعذار إلى يوم حوصر عثمان ، ولو كانت بمقربة من الصحّة لكانت الألسن تتداولها ، والأندية لا تخلو عن ذكرها ، فجاء عبد الرحمن ينتقد الرجل بعدم حضوره في الغزوتين وتركه سنّة عمر ، فبلغ ذلك عثمان فتخلّص عنه بما خلق له ابن عمر أو اختلق هو. أخرج أحمد في مسنده (٣) (١ / ٦٨) من طريق شقيق قال : لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة ، فقال له الوليد : مالي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه؟ فقال له عبد الرحمن : أبلغه أنّي لم أفرّ يوم عينين ـ قال عاصم : يقول : يوم أُحد ـ ولم أتخلّف يوم بدر ، ولم أترك سنّة عمر رضى الله عنه قال : فانطلق فخبّر ذلك عثمان رضى الله عنه فقال : أمّا قوله : إنّي لم أفرّ يوم عينين فكيف [يعيرّني] (٤) بذنب وقد عفا الله عنه؟ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) (٥) ، وأمّا قوله : إنّي تخلّفت يوم بدر ، فإنّي كنت أُمرّض رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ماتت ، وقد ضرب لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسهمي ، ومن ضرب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسهمه فقد شهد. وأمّا قوله : إنّي لم أترك سنّة عمر رضى الله عنه ؛ فإنّي

__________________

(١) راجع صفحة ٤ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهما يوم المؤاخاة الأولى. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٠٩ ح ٤٩٢.

(٤) الزيادة من المصدر.

(٥) آل عمران : ١٥٥.


لا أطيقها ولا هو ، فأته وحدّثه بذلك.

دع ابن عمر يصوّر لبعث عثمان إلى مكة صورة مكبّرة من أنّه لم يبعثه إلاّ لأنّه أعزّ من في بطن مكة (١) ، فإنّ الواقف على القصّة جدّ عليم بأنّ تلك البعثة ما كانت لها صلة بالعزّة والذلّة ، فإنّها كانت إلى أبي سفيان يريد بها التخفيف من وطأته في استهواء قريش ، واستهدائه على استثارتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان طبع الحال يستدعي أن يبعث إليه رجلاً من حامّته ؛ يأمن من بطشه ، ويؤمّل تنازله له لما بينهما من واشجة الرحم والقرابة ، ولذلك انتخب لها عثمان ، إن لم يقل القائل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما بعثه ليغيب عن بيعة الرضوان وفضلها ، حتى لا يقال غداً : إنّ عدول الصحابة قد أجمعت على قتل رجل من أهل بيعة الرضوان.

هاهنا ننهي البحث عن حديث المفاضلة ـ الذي جاء به ابن عمر وصحّحه البخاري (٢) ـ وأنّه باطل لا يعتمد عليه ، يخالف الكتاب والسنّة والعقل والقياس والإجماع والمنطق ، ونرجع إلى بقيّة ما جاء في المناقب.

٥ ـ عن أنس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أثبت حراء ، فما عليك إلاّ نبيّ وصدّيق وشهيدان.

قال الأميني : أخرجه الخطيب في تاريخه (٥ / ٣٦٥) من طريق محمد بن يونس الكديمي ، ذلك الكذّاب الوضاع الذي وضع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من ألف حديث ، كما مرّ في الجزء الخامس في سلسلة الكذّابين (ص ٢٦٦) ، وفي هذا الجزء فيما يأتي.

عن قريش بن أنس الأموي البصري. قال ابن حبّان (٣) : اختلط فظهر في

__________________

(١) كما مرّ في : ص ٧٠. (المؤلف)

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٧ ح ٣٤٥٥ ، ص ١٣٥٢ ح ٣٤٩٤.

(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٢٢٠.


حديثه مناكير ، فلم يجز الاحتجاج بأفراده. وقال البخاري : اختلط ستّ سنين (١).

عن سعيد بن أبي عروبة البصري. قال ابن سعد (٢) : اختلط في آخر عمره ، وقال ابن حبّان (٣) : بقي في اختلاطه خمس سنين ، ولا يُحتجّ إلاّ بما روى القدماء ، مثل يزيد بن زريع ، وابن المبارك. وقال الذهلي : عاش بعد ما خولط تسع سنين. وقال غيرهم : اختلط سنين ، لم يجز الاحتجاج بحديثه فيما انفرد (٤).

هذا ما في إسناد هذه الأُكذوبة من العلل ، غير أنّ الخطيب مرّ بها كريماً ، لا تسمع منه حولها ركزاً ، ولم ينبس فيها ببنت شفة ، عادته في فضائل من أعماه حبّه وأصمّه.

٦ ـ أخرج الدارقطني في سننه (٥) ، عن إسماعيل بن العبّاس الورّاق ، عن عباد ابن الوليد أبي بدر ، عن الوليد بن الفضل ، عن عبد الجبّار بن الحجّاج الخراساني ، عن مكرم بن حكيم ، عن سيف بن منير ، عن أبي الدرداء قال : أربع سمعتهنّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تكفّروا أحداً من أهل قبلتي بذنب وإن عملوا الكبائر ، وصلّوا خلف كلّ إمام ، وجاهدوا أو قال : قاتلوا ، ولا تقولوا في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ إلاّ خيراً ، قولوا : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (٦). (٧)

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٧٥ [٨ / ٣٣٥]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٧ / ٢٧٣.

(٣) الثقات : ٦ / ٣٦٠.

(٤) تهذيب التهذيب : ٤ / ٦٣ ـ ٦٦ [٤ / ٥٦]. (المؤلف)

(٥) سنن الدارقطني : ٢ / ٥٥.

(٦) البقرة : ١٣٤ و ٢٨٦.

(٧) ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٧٣ و ٦ / ٢٢٦ [٢ / ٢٥٨ رقم ٣٦٤١ و ٤ / ٣٤٣ رقم ٩٣٩٤] (المؤلف)


رجال الإسناد :

١ ـ الوليد بن الفضل المقبري. قال ابن حبّان (١) : يروي الموضوعات ، لا يجوز الاحتجاج به بحال ، وقال الذهبي (٢) : هو الذي حديثه في جزء ابن عرفة ، عن إسماعيل بن عبيد الله : أنّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر رضى الله عنه. وإسماعيل هالك ، والخبر باطل.

وفي سنن الدارقطني (٣) : حدّثنا إسماعيل بن العبّاس الورّاق ، حدّثنا عبّاد ابن الوليد أبو بدر ـ وذكر الحديث بالإسناد المذكور ـ فقال : قال الدارقطني : من بعد عبّاد ضعفاء ـ يعني الوليد وعبد الجبّار ومكرم وسيف.

وقال ابن حجر : لفظ الدارقطني : بين عبّاد وأبي الدرداء ضعفاء ، فدخل فيهم عبد الجبّار كما دخل في قول العقيلي (٤) : إسناد مجهول ، ووقع هنا سيف بن منير ، وفي الرواية الأخرى : منير بن سيف ، فلعلّه انقلب. وقال ابن أبي حاتم (٥) عن أبيه : مجهول. وقال الحاكم وأبو نعيم وأبو سعيد النقاش : روى عن الكوفيين الموضوعات.

ميزان الاعتدال (٣ / ٢٧٣) ، لسان الميزان (٦ / ٢٢٥) (٦).

٢ ـ عبد الجبّار بن الحجّاج الخراساني. ذكره ابن حجر في لسان الميزان (٣ / ٣٨٧) وذكر شطراً من الحديث بالإسناد وقال : هذا غير محفوظ ، وليس في هذا

__________________

(١) كتاب المجروحين : ٣ / ٨٢.

(٢) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٤٣ رقم ٩٣٩٤.

(٣) سنن الدارقطني : ٢ / ٥٥ ح ٢.

(٤) الضعفاء الكبير : ٣ / ٩٠ رقم ١٠٦١.

(٥) الجرح والتعديل : ٩ / ١٣ رقم ٥٧.

(٦) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٤٣ رقم ٩٣٩٤ ، لسان الميزان : ٦ / ٢٧٤ رقم ٩٠٣٥.


المتن إسناد ثبت (١) ، وضعّفه الدارقطني (٢) فإنّه ساق في السنن الحديث المذكور من الطريق المذكور لكنّه من رواية عبّاد بن الوليد الغبري (٣) ، عن الوليد بن الفضل وقال : من بعد عبّاد ضعيف ، فدخل عبد الجبار فيهم كما دخل ابن منير.

لسان الميزان (٤) (٣ / ٣٨٨).

٣ ـ مكرم بن حكيم الخثعمي. قال الذهبي في الميزان : روى خبراً باطلاً ـ يعني هذا الحديث ـ وقال : قال الأزدي : ليس حديثه بشيء.

وقال ابن حجر : وزاد ـ يعني الأزدي ـ أنّه مجهول ، والحديث مذكور في ترجمة الوليد بن الفضل ، وقد ضعّفه الدارقطني (٥) أيضاً.

الميزان (٣ / ١٩٨) ، لسان الميزان (٦ / ٨٥) (٦).

٤ ـ سيف بن منير : قال الذهبي : يُجهل وضعّفه الدارقطني (٧) لكونه أتى بأمر معضل عن أبي الدرداء رضى الله عنه مرفوعاً : لا تكفّروا أهل ملّتي وإن عملوا الكبائر. لكنّه من رواية مكرم بن حكيم أحد الضعفاء عنه.

وقال ابن حجر : وذكره الأزدي فقال : ضعيف مجهول يكتب حديثه ، وإسناد حديثه ليس بالقائم. وقال صاحب الحافل : رواه عنه مكرم بن حكيم وليس بشيء ، والحديث في سنن الدارقطني.

__________________

(١) في المصدر : يثبت.

(٢) سنن الدارقطني : ٢ / ٥٥ ح ٢.

(٣) بضم المعجمة وفتح الموحدة المخفّفة. (المؤلف)

(٤) لسان الميزان : ٣ / ٤٧٣ ح ٤٩٠٥.

(٥) سنن الدارقطني : ٢ / ٥٥.

(٦) ميزان الاعتدال : ٤ / ١٧٧ رقم ٨٧٤٨ ، لسان الميزان : ٦ / ١٠٠ رقم ٨٥٤٤.

(٧) سنن الدارقطني : ٢ / ٥٥ ح ٢.


ميزان الاعتدال (١ / ٤٣٩) ، لسان الميزان (٣ / ١٣٣) (١).

٧ ـ عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من نبيّ إلاّ وله نظير في أُمّتي فأبو بكر نظير إبراهيم ، وعمر نظير موسى ، وعثمان نظير هارون ، وعليّ بن أبي طالب نظيري.

قال الأميني : أخرجه ابن الأعرابي عن محمد بن زكريا الغلاّبي البصري ، عن أحمد بن غسان الهجيمي ، عن أحمد بن عطاء أبي عمرو الهجيمي ، عن عبد الحكم ، عن أنس.

قال الذهبي في الميزان (١ / ٥٦) : أخاف أن يكون الغلاّبي كذّبه ، وقال في (٣ / ٥٨) : هو ضعيف ، وقال ابن مندة : تكلّم فيه. وقال الدارقطني (٢) : يضع الحديث.

وذكر الحاكم في تاريخه حديثاً من طريق محمد بن زكريا الغلابي فقال : رواته ثقات إلاّ محمد بن زكريّا وهو الغلابي فهو آفته.

وفي الإسناد أحمد بن عطاء ، قال الدارقطني (٣) : متروك. وقال الأزدي : كان داعية إلى القدر متعبّداً مغفّلاً يحدّث بما لم يسمع ، وقال زكريّا الساجي قبله مثله ، وقال ابن المديني : أتيته يوماً فجلست إليه فرأيت معه درجاً يحدّث به ، فلمّا تفرّقوا عنه ، قلت له : هذا سمعته؟ قال : لا ، ولكن اشتريته وفيه أحاديث حسان أُحدّث بها هؤلاء ليعملوا بها ، وأُرغّبهم وأُقرّبهم إلى الله ، ليس فيه حكم ولا تبديل سنّة ، قلت له : أما تخاف الله تقرّب العباد إلى الله بالكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ميزان الاعتدال (١ / ٥٦ و ٣ / ٥٨) ، لسان الميزان (١ / ٢٢١ و ٥ / ١٦٨) (٤).

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٥٨ ح ٣٦٤١ ، لسان الميزان : ٣ / ١٥٩ رقم ٤٠٤٩.

(٢) الضعفاء والمتروكون : ص ٣٥٠ رقم ٤٨٣.

(٣) الضعفاء والمتروكون : ص ١١٢ رقم ٣٣.

(٤) ميزان الاعتدال : ١ / ١١٩ رقم ٤٦٨ و ٣ / ٥٥٠ رقم ٧٥٣٧ ، لسان الميزان : ١ / ٢٣٨ رقم ٦٨٩ و ٥ / ١٩٠ رقم ٧٣٥٦.


٨ ـ ذكر المحبّ الطبري في الرياض النضرة (١) (١ / ٣٠) عن محمد بن إدريس الشافعي بسنده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ أنواراً على يمين العرش قبل أن يُخلَق آدم بألف عام ، فلمّا خُلِق أُسكِنّا ظهره ، ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة إلى أن نقلني الله إلى صلب عبد الله ، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ، ونقل عمر إلى صلب الخطّاب ، ونقل عثمان إلى صلب عفّان ، ونقل عليّا إلى صلب أبي طالب. ثم اختارهم لي أصحاباً فجعل أبا بكر صدّيقاً ، وعمر فاروقاً ، وعثمان ذا النورين ، وعليّا وصيّاً ، فمن سبّ أصحابي فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله أكبّه في النار على منخره. أخرجه الملاّ في سيرته (٢).

قال الأميني : نحن في إبطال هذا الحديث في غنىً عن النظرة إلى إسناده المحذوف ، لكنّا مهما ذهلنا عن شيء فلا يفوتنا العلم بأنّ الأصلاب الأمويّة غير طاهرة ، وإنّما هي الشجرة الملعونة في القرآن ، راجع الجزء الثامن (٣) (ص ٢٥٤ ، ٢٥٥ الطبعة الأولى).

إنَّ الخيارَ من البريّةِ هاشمٌ

وبنو أُميّة أرذلُ الأشرارِ

وبنو أُميّةَ عودُهمْ من خروعٍ

ولهاشمٍ في المجدِ عودُ نضارِ

أمّا الدعاةُ إلى الجنانِ فهاشمٌ

وبنو أُميّةَ من دُعاةِ النارِ

وبهاشمٍ زكتِ البلادُ وأعشبتْ

وبنو أُميّةَ كالسراب الجاري

ذكرها الزمخشري في ربيع الأبرار (٤) باب (٦٦) لأبي عطاء أفلح السندي.

وتجد في غضون أجزاء كتابنا هذا نُبَذاً وافية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن مولانا

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٤٥.

(٢) وسيلة المتعبّدين : ج ٥ / ق ٢ / ص ١٨٧.

(٣) أنظر : ٨ / ٣٤٩ ـ ٣٥٢ من هذه الطبعة.

(٤) ربيع الأبرار : ٣ / ٤٧٩.


أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبقيّة الصحابة ، ممّا فيه غنىً وكفاية في سقوط الأمويّين عن مستوى الاعتبار والنزاهة في الجاهليّة والإسلام ، على ما يؤثر عنهم في العهدين من المخازي والمخاريق المؤكّدة لذلك كلّه ، فنحن نحاشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يصف تلكم الأصلاب بالطهارة في عداد الأصلاب الطاهرة التي تنقّل فيها الرسول الأطهر ووصيّه المطهّر أمير المؤمنين عليّ عليهما وآلهما السلام ، وهي الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أُكُلَها كلّ حين.

على أنّا لم نجد في أبي قحافة والخطّاب وأسلافهما ما يمكن أن يعدّ من المآثر البشريّة ، فضلاً عن المآثر الدينيّة التي نقطع بعدم تحلّيهما بها ، فقد أسلفنا الكلام حول إسلام أبي قحافة في الجزء السابع (١) (ص ٣١٢ ـ ٣٢١ الطبعة الأولى) وأمّا الخطّاب فمن المقطوع به أنه لم يُسلم ، وقد ثبت عن عمر قوله للعباس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أسلم : يا عبّاس فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطّاب لو أسلم (٢).

وأما عفّان فسل عنه الكلبي والبلاذري ؛ فإنّ لهما في المثالب والأنساب (٣) جُملاً تُعرب عن مجمل حقيقة الرجل دون تفصيلها.

وإنّا أسلفنا القول حول الألقاب في (٢ / ٣١٢ ـ ٣١٤ و ٣ / ١٨٧) وإنّ الصدّيق والفاروق من الألقاب الثابتة الخاصّة بمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإنّما تداولتهما الناس للرجلين ، وعند ذلك وضعوا مثل هذه المفتعلات.

ونحن لا نسترسل في بيان حكم سبّ الصحابة ، لكنّا لو أخذنا بإطلاق هذه الرواية وقلنا : إنّ المخاطبين منهم كانوا مكلّفين بمفادها لأشكل الأمر في أكثر الصحابة

__________________

(١) أنظر : ٧ / ٤٢١ ـ ٤٣٤ من هذه الطبعة.

(٢) سيرة ابن هشام : ٤ / ٢١ [٤ / ٤٥] ، عيون الأثر : ٢ / ١٦٩ [٢ / ١٨٧] ، الشفا للقاضي : ٢ / ١٨ [٢ / ٥١]. (المؤلف)

(٣) أنساب الأشراف : ٦ / ٢٣٩.


الذين اطّرد بينهم السباب المقذع ، والوقيعة الفاضحة ، والعداء المحتدم ، حتى إنّه كان قد يؤول الأمر من جرّاء ذلك إلى المقاتلة ، فهل هؤلاء كلّهم يُكَبّون في النار على مناخرهم؟ أنا لا أدري.

٩ ـ قال المحبّ الطبري في الرياض النضرة (١) (١ / ٢٤) : عن أبي (٢) يخامر السكسكي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اللهمّ صلّ على أبي بكر فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللهم صلّ على عمر فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللهم صلّ على عثمان فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللهم صلّ على أبي عبيدة بن الجرّاح فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللهمّ صلّ على عمرو بن العاص فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك. أخرجه الخلعي.

قال الأميني : ليت المحبّ الطبري أوقفنا على إسناد هذا الحديث المبتور حتى نعرف عدد من فيه من الوضّاعين ، وليته بعد أن موّه الأمر في ذلك عرّفنا أبا يخامر السكسكي : من هو؟ أمِن الصحابة؟ أم من التابعين؟ أم ممّن بعدهم من طبقات الرجال؟ وهل سمع هو من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أنّه موّه ودلّس؟ أو أنّه بشر لم يُخلق بعد؟

وإن تعجب فعجب أنّه حذف بين الأسماء من يُقطع بأنّه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، الذي استفاض النقل الصحيح بذلك عن النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجع (٣ / ٢١ ـ ٢٣) وتقدّم في الجزء السابع (١٩٩ الطبعة الأولى) وفي صفحات هذا الجزء أحاديث جمّة تدلّ على أنّه أحبّ الناس إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المعلوم إذن أنّ هذه المرتبة من الحبّ متبادلة بينه ـ سلام الله عليه ـ وبينهما ، ويدلّ على هذا التبادل بنحو الإطلاق قوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٣٧.

(٢) في الأصل : ابن ، وصحّحناه وفقاً للمصدر.


اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١).

وكان في الصحابة أناس آخرون يتهالكون في المحبّة لله ولرسوله لا يفوقهم من ذكر ، وإن كنّا نعتقد أنّهم دون أُولئك المنسيّين بمنازل كثيرة ، كسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمّار ، والعبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كثيرين من نظرائهم. لكنّ نوبة الحبّ وصلت إلى الأبتر ابن الشانئ الأبتر ، إلى ابن النابغة ، إلى ابن الأمة السوداء المجنونة الحمقاء التي كانت تبول من قيام ، ويعلوها اللئام ، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً ، إلى ابن العاصي ، إلى ابن الجزّار ، إلى ابن دعيّ ستّة ، إلى المدافع عن نفسه في معترك القتال باسته ، إلى من رأى فحل زوجته على فراشه فلم يغر ولم ينكر ، إلى الوغد اللئيم ، إلى النكد الذميم ، إلى الوضيع الزنيم (٢) ، إلى مناوئ الحقّ ونصير الباطل ، إلى إلى ...

نعم ؛ وصلت نوبة الحبّ إليه ولم تصل إلى من ذكرناهم من رجال الدين ، وأفذاذ الإسلام ، وأعاظم الأُمّة ، وصلحاء الصحابة.

إن دام هذا ولم يحدثْ به غِيَرٌ

لم يُبْكَ ميْتٌ ولم يُفرَحْ بمولودِ

نعم ، راق ذلك السكسكي أو من قبله من الوضّاعين ولم يرقهم غيره. وكم في صفحات تاريخ عمرو بن العاصي وقرنائه الأربعة شواهد دالّة على ما عزاهم إليه مختلق الرواية من حبّ الله وحبّ رسوله! نَكِلُ الوقوف عليها إلى سعة باع الباحث.

١٠ ـ أخرج ابن عدي (٣) ، عن أحمد بن محمد الضبيعي ، عن الحسين بن يوسف ، عن أبي هاشم أصرم بن حوشب ، عن قرّة بن خالد البصري ، عن الضحاك ، عن ابن عبّاس مرفوعاً : أنا الأوّل وأبو بكر الثاني ، وعمر الثالث ، والناس بعدنا على

__________________

(١) آل عمران : ٣١.

(٢) تجد تفصيل هذه الجُمل إلى أمثالها الكثيرة المعربة عن حقيقة ابن العاصي في الجزء الثاني : ١٢٠ ـ ١٧٠. (المؤلف)

(٣) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ٤٠٤ رقم ٢١٩.


السبق الأوّل فالأوّل.

قال الأميني : قال السيوطي في اللآلئ (١ / ٣١١) : موضوع آفته أصرم.

وقال الذهبي : أصرم هالك ، قال يحيى : كذّاب خبيث ، وقال البخاري (١) ومسلم والنسائي (٢) : متروك الحديث ، وقال الدارقطني (٣) : منكر الحديث ، وقال السعدي : كتبت عنه بهمدان سنة اثنتين ومائتين وهو ضعيف ، وقال ابن حبّان (٤) : كان يضع الحديث على الثقات ، وقال ابن المديني : كتبت عنه بهمدان وضربت على حديثه. وقال الفلاس : متروك يرى الإرجاء.

وقال ابن حجر : أورد له العقيلي (٥) حديثاً عن زياد بن سعد ، وقال : لا يتابع عليه ولا يُعرف [إلاّ] به ، وليس له أصل من جهة يثبت. وقال ابن أبي حاتم (٦) : سمعت أبي يقول : هو متروك الحديث. وتكلّم فيه يحيى بن معين. وقال ابن المديني : لقيناه بهمدان ثم حدّث بعدنا بعجائب وضعّفه جدّا ، وقال الحاكم والنقّاش : يروي الموضوعات. وقال الخليلي : روى عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عبّاس مناكير ، وروى الأئمّة عنه ، ثم رأوا ضعفه فتركوه.

ميزان الاعتدال (١ / ١٢٦) ، لسان الميزان (١ / ٤٦١) (٧).

على أنّ الضحّاك لم يسمع من ابن عبّاس كما في تاريخ ابن عساكر (٨) (٥ / ١٤٢) ،

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٢ / ٥٦ رقم ١٦٧١.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٥٩ رقم ٦٨.

(٣) الضعفاء والمتروكون : ص ١٥٥ رقم ١١٦.

(٤) كتاب المجروحين : ١ / ١٨١.

(٥) الضعفاء الكبير : ١ / ١١٨ رقم ١٤٢.

(٦) الجرح والتعديل : ٢ / ٣٣٦ رقم ١٢٧٣.

(٧) ميزان الاعتدال : ١ / ٢٧٢ رقم ١٠١٧ ، لسان الميزان : ١ / ٥١٥ رقم ١٤٢٩.

(٨) تهذيب تاريخ دمشق : ٥ / ١٤٥ ، ١٦٣.


كان شعبة لا يحدّث عن الضحاك وينكر أن يكون لقي ابن عبّاس ، وقال يحيى بن سعيد : الضحّاك عندنا ضعيف.

تاريخ ابن عساكر (٥ / ١٦٠).

١١ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٦ / ٤٠٥) عن ابن عبّاس مرفوعاً : إنّ أحبّ أصهاري إليّ ، وأعظمهم عندي منزلة ، وأقربهم من الله وسيلة ، وأنجح أهل الجنّة أبو بكر. والثاني عمر يعطيه الله قصراً من لؤلؤة ألف فرسخ في ألف فرسخ ، قصورها ودورها ومجانبها وجهاتها وسررها وأكوابها وطيرها من هذه اللؤلؤة الواحدة ، وله الرضا بعد الرضا. والثالث عثمان بن عفان وله في الجنّة مالا أقدر على وصفه ، يعطيه الله ثواب عبادة الملائكة أوّلهم وآخرهم. والرابع عليّ بن أبي طالب ، بخٍ بخٍ من مثل عليّ؟ وزيري عند () (٢) وأنيسي عند كربتي ، وخليفتي في أُمّتي ، وهو منّي على دعاي. ومن مثل أبي سفيان؟ لم يزل الدين به مؤيّداً قبل أن يسلم وبعد ما أسلم ، ومن مثل أبي سفيان إذا أقبلت من عند ذي العرش أريد الحساب ، فإذا أنا بأبي سفيان معه كأس من ياقوتة حمراء يقول : اشرب يا خليلي ، أعار (٣) بأبي سفيان ، وله الرضا بعد الرضا.

قال الأميني : لقد أعرب عن بعض الحقيقة الحافظ ابن عساكر نفسه بقوله : هذا حديث منكر.

أيّ منكر هذا يعدّ أبا سفيان ممّن لم يزل الدين به مؤيّداً قبل إسلامه وبعده؟ فكأنّه غير رأس المشركين يوم أُحد ، وغير مجهّز جيش الأحزاب والمجلب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرافع عقيرته وهو يرتجز بقوله : اعلُ هبل ، اعلُ هُبل. فقال

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٣ / ٤٦٤ رقم ٢٨٤٩ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ٤٠٧.

(٢) بياض في الأصل. (المؤلف)

(٣) كذا في المصدر.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تجيبونه؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال : قولوا : «الله أعلى وأجلّ» فقال أبو سفيان إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله : «ألا تجيبونه؟» فقالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال : «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم» (١).

وكأنّه ليس من أئمّة الكفر الذين نزل فيهم قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) سورة التوبة : ١٢ (٢).

وكأنّه غير من أُريد بقوله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) سورة الأنفال : ٣٦.

أخرج نزوله فيه ابن مردويه من طريق ابن عباس ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ من طريق مجاهد ، وهؤلاء وغيرهم من طريق سعيد بن جبير ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ من طريق الحكم بن عتيبة (٣).

وكأنّه غير المعنيّ هو وأصحابه بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) سورة الأنفال : ٣٨ (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ٣ / ٤٥ [٣ / ٩٩] ، تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٣٩٦ [٢٣ / ٤٤٤ رقم ٢٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٥٣ ـ ٥٤] ، عيون الأثر : ٢ / ١٨ [١ / ٤٢٤] ، تفسير القرطبي : ٤ / ٢٣٤ [٤ / ١٥١]. (المؤلف)

(٢) تفسير الطبري : ١٠ / ٢٦٢ [مج ٦ / ج ١٠ / ٨٧] ، تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٣٩٣ [٢٣ / ٤٣٨ رقم ٨٤٩ وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٥١] ، تفسير ابن جزي : ٢ / ٧١ ، تفسير السيوطي [٤ / ١٣٦] ، تفسير الخازن : ٢ / ٢١٨ [٢ / ٢٠٨] ، تفسير الآلوسي : ١٠ / ٥٩. (المؤلف)

(٣) تفسير الطبري : ٩ / ١٥٩ [مج ٦ / ج ٩ / ٢٤٤] ، تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٣٩٣ [٢٣ / ٤٣٨ رقم ٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٥١] ، الكشاف : ٢ / ١٣ [٢ / ٢١٩] ، تفسير الرازي : ٤ / ٣٧٩ [١٥ / ١٦٠] ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٠٨ ، تفسير الخازن : ٢ / ١٩٢ [٢ / ١٨٤] ، تفسير الشوكاني : ٢ / ٢٩٣ [٢ / ٣٠٧] ، تفسير الآلوسي : ٩ / ٢٠٤. (المؤلف)

(٤) تفسير النسفي هامش تفسير الخازن : ٢ / ١٩٣ [٢ / ١٠٣] ، تفسير الآلوسي : ٩ / ٢٠٦(المؤلف)


وكأنّه غير من مشى مع جمع من رجال قريش إلى أبي طالب قائلين له : إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفّه أحلامنا ، وضلّل آباءنا ، فإمّا أن تكفّه عنّا ، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه. إلخ (١).

وكأنّه ليس أحد المجتمعين بدار الندوة الذين تفرّقوا على رأي أبي جهل من أن يُؤخذ من كلّ قبيلة شابّ فتى جليد نسيب وسط ، ثم يُعطى كلٌّ منهم سيفاً صارماً فيعمدوا إلى رسول الله فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه (٢).

وكأنّه غير من أنفق على المشركين يوم أُحد أربعين أوقية ، وكلّ أوقية اثنان وأربعون مثقالاً.

وكأنّه غير من استأجر ألفين من الأحابيش من بني كنانة ليقاتل بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى من استجاش من العرب (٣).

وكأنّه غير من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أُحد في صلاة الصبح بعد الركعة الثانية بقوله : «اللهم العن أبا سفيان ، وصفوان بن أميّة ، والحارث بن هشام» (٤).

وكأنّه غير من لعنه رسول الله في سبعة مواطن ، لا يتأتّى لأيّ أحد ردّها :

أوّلها : يوم لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارجاً من مكة إلى الطائف يدعو ثقيقاً إلى

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ١ / ٢٧٧ ، ٢ / ٢٦ [١ / ٢٨٣ ، ٢ / ٥٨]. (المؤلف)

(٢) سيرة ابن هشام : ٢ / ٩٤ [٢ / ١٢٦]. (المؤلف)

(٣) تفسير الطبري : ٩ / ١٥٩ ، ١٦٠ [مج ٦ / ج ٩ / ٢٤٤] ، الكشاف : ٢ / ١٣ [٢ / ٢١٩] ، تفسير الرازي : ٤ / ٣٩٧ [١٥ / ١٦٠] ، تفسير الخازن : ٢ / ١٩٢ [٢ / ١٨٤] ، تفسير الآلوسي : ٩ / ٢٠٤. (المؤلف)

(٤) تفسير الطبري : ٤ / ٥٨ [مج ٣ / ج ٤ / ٨٨] ، وأخرجه الترمذي في جامعه [٥ / ٢١٢ ح ٣٠٠٤] كما في نيل الأوطار للشوكاني : ٢ / ٣٨٩ ، نصب الراية للزيلعي : ٢ / ١٢٩ ، وأخرجه البخاري في المغازي : ٢ / ٥٨٢ [٤ / ١٤٩٣ ح ٣٨٤٢] ، وفي التفسير [٤ / ١٦٦١ ح ٤٢٨٣] بلفظ : فلاناً وفلاناً ولم يسمّ أحداً تحفظاً على كرامة أبي سفيان وشاكلته. (المؤلف)


الدين ، فوقع به وسبّه وشتمه ، وكذّبه وتوعّده وهمّ أن يبطش به ، فلعنه الله ورسوله وصرف عنه.

الثانية : يوم العير : إذ عرض لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي جائية من الشام ، فطردها أبو سفيان وساحل بها ، فلم يظفر المسلمون بها ولعنه رسول الله ودعا عليه ، فكانت وقعة بدر لأجلها.

الثالثة : يوم أُحد : حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعلاه وهو ينادي : أعل هُبل ، مراراً ، فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر مرّات ، ولعنه المسلمون.

الرابعة : يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود ، فلعنه رسول الله وابتهل.

الخامسة : يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه ، ذلك يوم الحديبيّة ، فلعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان ، ولعن القادة والأتباع ، وقال : «ملعونون كلّهم ، وليس فيهم من يؤمن» ، فقيل : يا رسول الله أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة؟ فقال : «لا تصيب اللعنة أحداً من الأتباع ، وأمّا القادة فلا يفلح منهم أحد».

السادسة : يوم الجمل الأحمر (١).

السابعة : يوم وقفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة ليستنفروا ناقته ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، منهم أبو سفيان (٢).

هذه المواطن السبعة عدّها الإمام الحسن السبط ـ سلام الله عليه.

وكأنّه غير من عدا على دور المهاجرين من بني جحش بن رئاب بعد ما

__________________

(١) انظر ص ١٩٨ ـ ١٩٩ من هذا الجزء.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ١٠٢ ، ١٠٣ [٦ / ٢٩٠ ـ ٢٩١ خطبة ٨٣]. (المؤلف)


هاجروا وباعها من عمرو بن علقمة ، وقيل فيه :

أبلغْ أبا سفيانَ عن

أمرٍ عواقبُه ندامه

دار ابنِ عمِّك بعتَها

تقضي بها عنك الغرامه

وحليفُكم بالله رَ

بّ الناسِ مجتهد القسامه

اذهب بها اذهب بها

طُوِّقتَها طوقَ الحمامه (١)

وكأنّه غير صاحب البائيّة يوم أُحد يقول فيها :

أُقاتلهم وأدّعي يا لغالب

وأدفعُهم عنّي بركن صليبِ

فبكّي ولا ترعَي مقالةَ عاذلٍ

ولا تسأمي من عبرةٍ ونحيبِ

أباك وإخواناً له قد تتابعوا

وحقّ لهم من عبرةٍ بنصيبِ

وسَلَّى الذي قد كان في النفس أنَّني

قتلتُ من النجّار كلَّ نجيبِ

ومن هاشمٍ قرماً كريماً ومُصعباً (٢)

وكان لدى الهيجاءِ غيرَ هيوبِ

ولو أنّني لم أشفِ نفسيَ منهمُ

لكانت شجاً في القلبِ ذاتَ ندوبِ

فآبوا وقد أودى الجلابيبُ (٣) منهُم

بهم خَدَبٌ من مُعطب وكئيبِ (٤)

أصابهمُ من لم يكن لدمائهم

كفاءً ولا في خُطّةٍ بضريبِ (٥)

وكأنّه غير من كان يضرب في شدق حمزة بن عبد المطّلب بزجّ الرمح قائلاً : ذُق عقق (٦).

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ٢ / ١١٧ [٢ / ١٤٥]. (المؤلف)

(٢) عنى به سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب. (المؤلف)

(٣) الجلابيب جمع جلباب : الإزار الخشن. كان الكفّار من أهل مكة يسمّون من أسلم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجلابيب. (المؤلف)

(٤) الخَدَب : الطعن النافذ إلى الجوف. المعطَب : الذي يسيل دمه.

(٥) الخطّة : الخصلة الرفيعة. الضريب : الشبيه. راجع سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٢ [٣ / ٨٠]. (المؤلف)

(٦) عقق ، أي يا عقق ، يريد : يا عاق. (المؤلف)


سيرة ابن هشام (١) (٣ / ٤٤).

وكأنّه غير من داس قبر حمزة برجله وقال : يا أبا عمارة إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به. شرح ابن أبي الحديد (٢) (٤ / ٥١)

وكأنّه غير من قال لمّا رأى الناس يطئون عقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسده : لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدره ثم قال : إذاً يخزيك الله.

الإصابة (٢ / ١٧٩).

وكأنّه غير من قال لعثمان يوم تسنّم عرش الخلافة : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أميّة ، فإنّما هو الملك ، ولا أدري ما جنّة ولا نار. راجع (٨ / ٢٧٨).

وكأنّه غير من دخل على عثمان بعد ما عمي وقال : هاهنا أحد؟ فقالوا : لا. فقال : اللهمّ اجعل الأمر أمر جاهليّة ، والملك ملك غاصبيّة ، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة.

تاريخ ابن عساكر (٣) (٦ / ٤٠٧).

وكأنّه غير من عرّفه أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتاب له إلى معاوية بقوله : «منّا النبيّ ، ومنكم المكذّب» ، قال ابن أبي الحديد في شرحه (٤) (٣ / ٤٥٢) يعني أبا سفيان بن حرب ، كان عدوّ رسول الله ، والمكذّب له ، والمجُلب عليه.

وكأنّه غير من جاء فيه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتاب له إلى محمد بن أبي

__________________

(١) السيرة النبويّة : ٣ / ٩٩.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٦ كتاب ٣٢.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٢٣ / ٤٧١ رقم ٢٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٦٧.

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٥ / ١٩٦ كتاب ٢٨.


بكر : «قد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية».

وكأنّه غير من ذكره أمير المؤمنين بقوله في كتاب له إلى ابنه معاوية : «يا بن صخر يا بن اللعين». والإمام الطاهر عليه‌السلام في لعنه الرجل اقتفى أثر النبيّ الأعظم ، وقد سمع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يلعنه في مواطن شتّى.

وكأنّه غير من قال فيه عمر بن الخطاب : أبو سفيان عدوّ الله ، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني يا رسول الله أضرب عنقه.

تاريخ ابن عساكر (١) (٦ / ٣٩٩).

وكأنّه غير من قال فيه عمر أيضاً : إنّ أبا سفيان لقديم الظلم.

الإصابة (٢ / ١٨٠).

وكأنّه غير من أسلفنا ترجمته في الجزء الثالث (ص ٢٥١ ـ ٢٥٤) وفي الثامن (ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩).

هذا مجمل حال الرجل في العهدين الجاهليّ والإسلامي ، أفبمثله أُيّد الدين قبل إسلامه وبعد إسلامه؟ أو مثله يتولّى سقاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المحشر إذا أقبل من عند ذي العرش ، وهل مستوى العرش معبّأ لمثل أبي سفيان هذا ونظرائه؟ إذن فعلى العرش ومن بفنائه السلام!

ثم اقرأ المجازفة في حساب عثمان الذي حاز في مزعمة ملفّق هذه الرواية ثواب عبادة الملائكة أوّلهم وآخرهم ، أولئك الملائكة المعصومين ، وجنّة لا يقدر على وصفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو من قرأت صحيفة حياته في الجزء التاسع وقبله ، ووقفت على عقائد الصحابة العدول فيه وفي أحداثه ، وإجماعهم على إهدار دمه ، فلما ذا ذلك الثواب ، ولما ذا تلكم الجنّة؟ ولما ذا هذه العظمة في أبناء الشجرة المنعوتة في

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٣ / ٤٤٩ رقم ٢٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٤٣.


القرآن؟ أعوذ بالله من السرف في القول والغلوّ في الفضائل.

١٢ ـ أخرج ابن عساكر (١) ، وابن مندة ، والخلعي ، والطبراني (٢) ، والعقيلي (٣) عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك ، عن أبيه ، عن جدّه قال : لمّا رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع إلى المدينة ، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيّها الناس إنّ أبا بكر لم يسؤني قطّ فاعرفوا ذلك له ، يا أيّها الناس إنّي راضٍ عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، والمهاجرين الأوّلين ، فاعرفوا ذلك لهم. أيّها الناس إنّ الله قد غفر لأهل بدر والحديبية. أيّها الناس احفظوني في أصحابي وأصهاري وفي أختاني ، لا يطلبنّكم الله بمظلمة أحد منهم فإنّها ممّا لا توهب. أيّها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين ، وإذا مات أحد من المسلمين فقولوا فيه خيراً (٤).

قال الأميني : قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٥) (٢ / ٥٧٣) : حديثه ـ يعني حديث سهل بن مالك ـ يدور على خالد بن عمرو القرشي الأُموي ، وهو منكر الحديث ، متروك الحديث. قال بعد ذكر الحديث : حديث منكر موضوع ، يقال فيه : إنّه من الأنصار ولا يصحّ ، وفي إسناد حديثه مجهولون ضعفاء معروفون ، يدور على سهل بن يوسف بن مالك بن سهل ، عن أبيه ، عن جدّه ، وكلّهم لا يُعرف.

وقال ابن مندة : غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. وقال العقيلي (٦) : إسناده

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ١٣١ رقم ٣٣٩٨.

(٢) المعجم الكبير : ٦ / ١٠٤ ح ٥٦٤٠.

(٣) الضعفاء الكبير : ٤ / ١٤٨ رقم ١٧١٥.

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٦ / ١٢٧ [٢١ / ٨١ ـ ٨٣ رقم ٢٤٧٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٤ / ٣٥٥] ، الاستيعاب : ٢ / ٥٧٢ [القسم الثاني / ٦٦٦ رقم ١٠٩٨]. (المؤلف)

(٥) الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٦٦ ـ ٦٦٧ رقم ١٠٩٨.

(٦) الضعفاء الكبير : ٤ / ١٤٧ رقم ١٧١٥.


مجهول لا يتابع عليه. والعجب من الحافظين وحكمهما بغرابة الحديث والجهل وقد أخرجاه من طريق خالد بن عمرو ، ومرّ في الجزء الثامن (ص ٤٨ ، ٤٩) عن أئمّة الجرح والتعديل ، أنّه كان كذّاباً وضّاعاً ، يتفرّد عن الثقات بالموضوعات ، لا يجوز الاحتجاج بخبره ، أحاديثه موضوعة باطلة. وجزم الدارقطني في الأفراد بأنّ خالد ابن عمرو تفرّد بهذا الحديث.

وأخرجه سيف بن عمر ، وقد أسلفنا في الجزء الثامن (ص ٨٤ و ٣٥١) أقوال الحفاظ فيه ، وأنّه وضّاع ، متروك ، ساقط ، متّهم بالزندقة ، عامّة أحاديثه منكرة لم يتابع عليها.

وفي طرق الحديث مجاهيل منهم : محمد بن يوسف المسمعي. قال الذهبي (١) : لا يُدرى من هو. وقال العقيلي : لا يُتابع على حديثه. ومنهم : عليّ بن محمد بن يوسف. قال الضياء : لم أجد له ولا لشيخه.

ومنهم : حبّان بن أبي تراب (٢) أو : منّان بن أبي ثواب (٣) أو : قنان بن أبي أيّوب (٤) أو : قنار بن أبي أيوب (٥) من رجال الغيب لا يعرف اسمه واسم أبيه فضلاً عن عرفان شخصيّتهما.

ومن الوهم الغريب للطبراني إخراجه الرواية من طريق عليّ بن محمد بن يوسف المسمعي ، عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك ، وتبعه في ذلك الضياء في المختارة ، وقد أخرجها العقيلي من طريق محمد بن يوسف المسمعي والد علي المذكور

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٤ / ٧٢ رقم ٨٣٤٣.

(٢) كذا في لسان الميزان : ٥ / ٤٣٥ [٥ / ٤٩٢ رقم ٨٢١٣]. (المؤلف)

(٣) كذا في لسان الميزان : ٣ / ١٢٣ [٣ / ١٤٦ رقم ٤٠١٠]. (المؤلف)

(٤) كذا في الإصابة : ٢ / ٩٠ [رقم ٣٥٥٢]. (المؤلف)

(٥) كذا في لسان الميزان : ٤ / ٤٧٥ [٤ / ٥٥٨ رقم ٦٧٠٣]. (المؤلف)


في إسناد الطبراني ، عن حبّان ، رقبان ، رقنار ، رمنان ، عن خالد بن عمرو الأُموي ، عن سهل ، فطبقة عليّ تستدعي سقط ثلاثة من رجال إسناد الطبراني.

راجع (١) : ميزان الاعتدال (١ / ٣) ، الإصابة (٢ / ٩٠) ، لسان الميزان (٣ / ١٢٣ و ٤ / ٢٦١ و ٥ / ٤٣٥).

١٣ ـ عن عبادة بن الصامت قال : خلوت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أيّ أصحابك أحبّ إليك حتّى أُحبّ من تحبّ كما تحبّ؟ فقال : اكتم عليّ يا عبادة حياتي ، فقلت : نعم ، فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عليّ. ثم سكت ، فقلت : ثم من يا نبيّ الله؟ فقال : من عسى أن يكون بعد هؤلاء إلاّ الزبير ، وطلحة ، وسعد وأبو عبيدة ، ومعاذ ، وأبو طلحة ، وأبو أيّوب ، وأنت يا عبادة ، وأُبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وابن مسعود ، وابن عوف ، وابن عفّان ، ثم هؤلاء الرهط من الموالي : سلمان ، وصهيب ، وبلال ، وسالم مولى أبي حذيفة ، هؤلاء خاصّتي ، وكلّ أصحابي عليّ كريم حبيب إليّ وإن كان عبداً حبشيّا. قال أبو عبد الله الصُّنَابحي : قلت لعبادة : لم يذكر حمزة ولا جعفراً ، فقال عبادة : إنّهما كانا أصيبا يوم سألت عن هذا ، إنّما كان هذا بآخرة أو كما قال.

تاريخ ابن عساكر (٢) (٥ / ٣٨ و ٧ / ٢١٠).

قال الأميني : ألا تعجب من نبيّ العظمة أن يتحاشى عن بيان ما يهمّ الأُمّة عرفانه ويعهد إلى السائل بأن يكتمه عليه في حياته وهو في أُخرياتها؟ أليس هو القائل لعائشة فيما أخرجه الخجندي : إنّ عليّا أحبّ الرجال إليّ وأكرمهم عليّ؟

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٤ / ٧٢ رقم ٨٣٤٣ ، لسان الميزان : ٣ / ١٤٦ رقم ٤٠١٠ و ٤ / ٣٠١ رقم ٥٩٢٧ و ٥ / ٤٩٢ رقم ٨٢١٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٦ / ٤٤ رقم ١٨٧٦ ، ٢٦ / ١٩٣ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٣٣٨ ، رقم ١١ / ٣٠٥.


والقائل أحبّ الناس إليّ من الرجال عليّ؟ والقائل : عليّ أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى الله؟

هلاّ كانت الصحابة يعرفون أحبّ الناس إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تلكم الآيات والنصوص النبويّة الواردة في مولانا عليّ أمير المؤمنين؟ أما صحّ عن عائشة قولها : والله ما رأيت أحداً أحبّ إلى رسول الله من عليّ ، ولا في الأرض امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته؟

وهلاّ صحّح الحفّاظ قول بريدة وأبيّ بن كعب : أحبّ الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء فاطمة ومن الرجال عليّ (١).

ثم ما الذي أنسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعاظم صحابته الذين نزل فيهم القرآن وأثنى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بما لا يزيد عليه ، كعمّه العباس ، وأبي ذر ، وعمّار ، والمقداد ، وابن مسعود ، إلى آخرين من أمثالهم؟ وما الذي بخس حظّهم من حبّ نبيّهم الأقدس إيّاهم مع تلكم الفضائل والفواضل الجمّة ، ولا يدانيهم فيها غيرهم حتى جُلّ المذكورين إن لم نقل كلّهم غير سيّد العترة؟

أفي وسع الباحث أن يرى أبا عبيدة حفّار القبور ـ مثلاً ـ أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبي ذرّ الصدّيق شبيه عيسى في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدياً ، وبرّا ، ونسكاً ، وزهداً ، وصدقاً ، وجدّا ، وخلقاً ، وخُلقاً؟ من أبي ذرّ الذي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدنيه دون أصحابه إذا حضر ، ويتفقّده إذا غاب (٢).

أو من عمّار جلدة ما بين عيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنفه. الطيّب المطيّب الذي مُلئ إيماناً إلى مُشاشه ، الذي خُلط الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه ، خُلط الإيمان بلحمه ودمه ، الذي كان مع الحقّ والحقّ معه ، يدور مع الحقّ أينما دار (٣).

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث : ص ٢١ ـ ٢٤. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثامن : ص ٣١٥ ـ ٣٢٦ الطبعة الأولى و ٣٠٨ ـ ٣١٩ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء التاسع : ص ٢٠ ـ ٢٧. (المؤلف)


أعوذ بالله من التقوّل والتحدّث بالزعمات بلا تعقّل.

١٤ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٦ / ١٧٣) من طريق سعيد بن مسلمة بن أُميّة بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأُموي ، عن ابن عمر قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو دخل المسجد ـ وهو آخذ بيد أبي بكر وعمر أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، ثم قال : هكذا نبعث يوم القيامة. ورواه الترمذي (٢).

قال الأميني : حذف بدران مهذّب تاريخ ابن عساكر (٣) إسناد هذه الرواية ستراً على ما فيه من العلل ، ذاهلاً عن أنّ في ذكر سعيد بن مسلمة غنىً وكفاية ، وإسناده كما في الميزان (٤) عن سعيد ، عن إسماعيل بن أُميّة ، عن نافع ، عن ابن عمر. قال البخاري في تاريخه (٥) : سعيد بن مسلمة ، عن إسماعيل بن أُميّة فيه نظر ، يروي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جدّه ، مناكير. وقال أيضاً : منكر الحديث. وقال مرّة : ضعيف. وقال يحيى بن معين : ليس بشيء. وقال أبو حاتم (٦) : ضعيف الحديث منكره. وقال الدارقطني : هو ضعيف الحديث يعتبر به. وقال ابن حبان : فاحش الخطأ ، منكر الحديث جدّا (٧).

وأخرجه الدارقطني من طريق الحارث بن عبد الله المديني مولى بني سليم ، عن إسحاق بن محمد الفروي الأُموي مولى عثمان ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ،

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢١ / ٢٩٦ رقم ٢٥٥٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٠ / ١١.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٥٧٢ ح ٣٦٦٩.

(٣) تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ١٧٥.

(٤) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٥٨ رقم ٣٢٧٣.

(٥) التاريخ الكبير : ٣ / ٥١٦ رقم ١٧٢٤.

(٦) الجرح والتعديل : ٤ / ٦٧.

(٧) تاريخ ابن عساكر : ٦ / ١٧٤ [٢١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ رقم ٢٥٥٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٠ / ١١] ، ميزان الاعتدال : ١ / ٣٩١ [٢ / ١٥٨ رقم ٣٢٧٣] ، تهذيب التهذيب : ٤ / ٨٣ [٤ / ٧٤]. (المؤلف)


فقال : لو جاء بذلك الحديث عن مالك يحيى بن سعيد لم يحتمل له. وقال النسائي (١) : متروك ، وقال أيضاً : ليس بثقة. وقال الدارقطني : ضعيف ، وقد روى عنه البخاري ويوبّخونه في هذا. وقال الدارقطني أيضاً : لا يترك. وقال الساجي : فيه لين. روى عن مالك أحاديث تفرّد بها. وقال العقيلي (٢) : جاء عن مالك بأحاديث كثيرة لا يتابع عليها. وقال الحاكم : عيب على محمد ـ يعني البخاري ـ إخراج حديثه وقد غمزوه (٣).

١٥ ـ أخرج ابن عساكر من طريق سليمان بن بلال بن أبي الدرداء عزيز (٤) بن زيد الأنصاري ، عن أبيه ، أنّه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره فقال : هكذا نكون ، ثم هكذا نموت ، ثم هكذا نبعث ، ثم هكذا ندخل الجنّة.

تاريخ ابن عساكر (٥) (٦ / ٢٤٦).

قال الأميني : هذا الإسناد فيه وهم واختلاط من ناحية سليمان أوّلاً ، فإنّ بلال بن أبي الدرداء لم يذكر له ولد يروي عنه ، ولا يوجد له قطّ اسم في المعاجم ، والصحيح : سليمان ، عن بلال ، عن أبيه ، وفي تلك الطبقة غير واحد كلّهم يسمّون سليمان بين كذّاب وضّاع ، وبين ضعيف ساقط متروك ، وبين مجهول منكر لا يُعرف.

وفي الإسناد وهم من ناحية بلال ثانياً ، فإنّه لم يدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يروِ عنه ، قال أبو زرعة : في الطبقة التي تلي الصحابة بلال بن أبي الدرداء ، توفّي (سنة ٩٢، ٩٣)

__________________

(١) كتاب الضعفاء المتروكين : ص ٥٤ رقم ٥١.

(٢) الضعفاء الكبير : ١ / ١٠٦ رقم ١٢٥.

(٣) ميزان الاعتدال : ١ / ٩٣ [١ / ١٩٨ رقم ٧٨٥] ، تهذيب التهذيب : ١ / ٢٤٨ [١ / ٢١٧] ، لسان الميزان : ٢ / ١٥٤ [٢ / ١٩٥ رقم ٢١٩٨]. (المؤلف)

(٤) كذا في النسخ ، والصحيح المتسالم عليه : عويمر. هو أبو الدرداء المعروف. (المؤلف)

(٥) تاريخ مدينة دمشق : ٢٢ / ٢٠٥ رقم ٢٦٥٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٠ / ١١١.


وكان قاضياً على دمشق في ولاية يزيد وبعده حتى عزله عبد الملك. ولعلّك تهتدي بذلك إلى مبلغه من الثقة والدين.

وبقيّة رجال السند المحذوفة أسماؤهم لا نعرف أحداً منهم حتى نعطي النظر حقّه ، وبمثلها من رواية لا يثبت حقّ ، ولا تعتبر فضيلة.

١٦ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٤ / ٢٢٤) من طريق الحسن بن محمد بن الحسن أبي علي الأبهري المالكي نزيل دمشق إلى شدّاد بن أوس مرفوعاً : أبو بكر أرأف أُمّتي وأرحمها. وعمر بن الخطاب خير أُمّتي وأعدلها. وعثمان أحيا أُمّتي وأكرمها وأصدقها. وأبو الدرداء أعبد أُمّتي وأتقاها. ومعاوية أحكم أُمّتي وأجودها.

وفي لفظ العقيلي (٢) من طريق بشير بن زاذان ، عن عمر بن صبح ، عن ركن ، عن شدّاد بن أوس مرفوعاً : أبو بكر أوزن أُمّتي ، وعمر خير أُمّتي ، وعثمان أحيا أُمّتي ، ومعاوية أحكم أُمّتي.

لسان الميزان (٣) (٢ / ٣٧).

وفي لفظ السيوطي نقلاً عن العقيلي أيضاً : أبو بكر أوزن أُمّتي وأرحمها ، وعمر خير أُمّتي وأكملها ، وعثمان أحيا أمّتي وأعدلها ، وعليّ أوفى أُمّتي وأوسمها ، وعبد الله ابن مسعود أمين أُمّتي وأوصلها ، وأبو ذر أزهد أُمّتي وأرقّها ، وأبو الدرداء أعدل أُمّتي وأرحمها ، ومعاوية أحلم أُمّتي وأجودها.

اللآلئ (١ / ٤٢٨).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٣ / ٣٦٥ رقم ١٤٣٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٦٦.

(٢) الضعفاء الكبير : ١ / ١٤٤ رقم ١٧٧.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ٤٦ رقم ١٦٥٠.


قال الأميني : قال الحافظ ابن عساكر (١) : هذا الحديث ضعيف. ونحن على يقين من أنّ الباحث بعد ما أوقفناه على ترجمة رجال الإسناد يحكم بالوضع لا بالضعف ، كما حكم به الحافظ ، وإليك الرجال :

١ ـ بشير بن زاذان : ضعّفه الدارقطني وغيره ، واتّهمه ابن الجوزي (٢) ، وقال ابن معين (٣) : ليس بشيء ، وذكره الساجي ، وابن الجارود ، والعقيلي في الضعفاء (٤) ، وقال ابن عدي (٥) : أحاديثه ليس لها نور ، وهو ضعيف غير ثقة ، يحدّث عن جماعة ضعفاء ، وهو بيّن الضعف.

وقال ابن حجر في ترجمته بعد ذكر الحديث : ولا يتابع بشير بن زاذان على هذا ، ولا يُعرف إلاّ به ، ولمّا ذكر له ابن الجوزي حديثاً في فضل الصحابة قال : هو المتّهم به عندي ، فإمّا أن يكون من فعله ، أو من تدليسه من الضعفاء. وقال ابن حبّان (٦) : غلب الوهم على حديثه حتى بطل الاحتجاج به (٧).

٢ ـ عمر بن صبح أبو نعيم الخراساني : قال ابن راهويه : أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير في البدعة والكذب : جهم بن صفوان ، عمر بن صبح ، مقاتل ابن سليمان. وقال البخاري في التاريخ الأوسط : حدّثني يحيى اليشكري ، عن علي بن

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٤ / ٥٨٦ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٤ / ٢٤٧.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ١ / ١٤٤ رقم ٥٤١.

(٣) التاريخ : ٤ / ٨٨ رقم ٣٢٨٢.

(٤) الضعفاء الكبير : ١ / ١٤٤ رقم ١٧٧.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ٢٠ رقم ٢٥٧.

(٦) كتاب المجروحين : ١ / ١٩٢.

(٧) ميزان الاعتدال : ١ / ١٥٢ [١ / ٣٢٨ رقم ١٢٣٥] ، لسان الميزان : ٢ / ٣٧ [٢ / ٤٦ رقم ١٦٥٠]. (المؤلف)


جرير ، سمعت عمر بن صبح يقول : أنا وضعت خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال أبو حاتم (١) وابن عدي (٢) : منكر الحديث. وقال ابن حبّان (٣) : يضع الحديث على الثقات ، لا يحلّ كتب حديثه إلاّ على وجه التعجّب. وقال الأزدي : كذّاب. وقال الدارقطني : متروك. وقال ابن عديّ (٤) : عامّة ما يرويه غير محفوظ لا متناً ولا إسناداً. وقال النسائي : ليس بثقة. وقال العقيلي (٥) : ليس حديثه بالقائم وليس بالمعروف بالنقل. وقال أبو نعيم : روى عن قتادة ومقاتل الموضوعات.

ميزان الاعتدال (٢ / ٢٦٢) ، تهذيب التهذيب (٧ / ٤٦٣) (٦).

٣ ـ ركن الشامي : وهّاه ابن المبارك ، وقال يحيى : ليس بشيء. وقال النسائي (٧) والدارقطني (٨) : متروك. وقال أبو أحمد الحاكم : يروي عن مكحول أحاديث موضوعة. وقال ابن الجارود : ليس بثقة. وعن ابن حمّاد : أنّه متروك الحديث. وقال عبد الله بن المبارك : لَأَن أقطع الطريق أحبّ إليّ من أن أروي عن عبد القدّوس الشامي ، وعبد القدّوس خير من مائة مثل ركن.

تاريخ ابن عساكر (٥ / ٣٢٧) ، تاريخ الخطيب (٨ / ٤٣٦) ، ميزان الاعتدال (١ / ٣٤٠) ، لسان الميزان (٢ / ٤٦٢) (٩).

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٦ / ١١٦ رقم ٦٢٩.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢٤ رقم ١١٩٧.

(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٨٨.

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢٦ رقم ١١٩٧.

(٥) الضعفاء الكبير : ٣ / ١٧٥ رقم ١١٧٠.

(٦) ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٠٦ رقم ٦١٤٧ ، تهذيب التهذيب : ٧ / ٤٠٧.

(٧) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٠٧ رقم ٢١٣.

(٨) الضعفاء والمتروكون : ص ٢١٣ رقم ٢٢٨.

(٩) تاريخ مدينة دمشق : ١٨ / ١٩٦ ـ ١٩٨ رقم ٢١٩١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ٣٣٣ ، ميزان الاعتدال : ٢ / ٥٤ رقم ٢٧٩١ ، لسان الميزان : ٢ / ٥٧٠ رقم ٣٣٩١.


هذا شأن إسناد الرواية ، ونكل النظرة إليها متناً إلى سعة باع الباحث ، ثقة بوقوفه على ما فصّلناه في أجزاء كتابنا هذا ممّا تعرف به جليّة الحال.

لفظ آخر بإسناد آخر :

عن عليّ بن عبد الله ، عن عليّ بن أحمد ، عن خلف بن عمرو العكبري ، عن محمد بن إبراهيم ، عن يزيد الخلاّل ، عن أحمد بن القاسم بن مهران ، عن محمد بن بشير بن زادان ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر خير أُمّتي وأتقاها ، وعمر أعزّها وأعدلها ، وعثمان أكرمها وأحياها ، وعليّ ألبُّها وأوسمها ، وابن مسعود آمنها وأعدلها ، وأبو ذر أزهدها وأصدقها ، وأبو الدرداء أعبدها ، ومعاوية أحلمها وأجودها.

قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١ / ٤٢٨) : في هذا الطريق أيضاً مجروحون ، وقد خلط بشير بن زاذان في إسناده.

ونحن نقول : لو لم يكن في الإسناد من المجروحين إلاّ يزيد الخلاّل لكفاه علّة ، قال يحيى بن معين (١) : كذّاب ، وقال أبو سعيد : قد أدركت يزيد هذا وهو ضعيف ، قريب ممّا قال يحيى. وقال أبو داود : ضعيف ، وقال الدارقطني : ضعيف جدّا ، وقال ابن عديّ (٢) : ليس بذاك المعروف (٣).

١٧ ـ عن أنس بن مالك قال : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً من أصحابه يقال له سفينة بكتاب إلى معاذ إلى اليمن ، فلمّا صار في الطريق إذا بالسبع رابض في وسط الطريق فخاف أن يجوز فيقوم إليه ، فقال : أيّها السبع إنّي رسول رسول الله إلى معاذ ،

__________________

(١) التاريخ : ٢ / ١٦٧ رقم ٥٣١٧.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٧ / ٢٨٤ رقم ٢١٨٢.

(٣) لسان الميزان : ٦ / ٢٩٣ [٦ / ٣٥٩ رقم ٩٢٨٦]. (المؤلف)


وهذا كتاب رسول الله. فقام السبع فهرول قدّامه غلوة ، ثم همهم ، ثم صرخ وتنحّى عن الطريق ، فمضى بكتاب رسول الله إلى معاذ ، ثم رجع بالجواب فإذا هو بالسبع ، فخاف أن يجوز فقال : أيّها السبع إنّي رسول رسول الله من عند معاذ ، وهذا جواب كتاب رسول الله من معاذ. فقام السبع ، فصرخ ثم همهم ، ثم تنحّى عن الطريق. فلمّا قدم أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فقال : أوتدرون ما قال أوّل مرّة؟ قال : كيف رسول الله ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ؟ وأمّا الثاني : فقال : أقرئ رسول الله ، وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّا ، وسلمان ، وصهيباً ، وبلالاً ، منّي السلام.

تاريخ ابن عساكر (١) (٣ / ٣١٤).

قال الأميني : مثل هذه الرواية التي فيها أعلام النبوّة وكرامة الخلفاء ، وفضل جمع من الصحابة ، لا بدّ من أن تلوكه الأشداق ، وتتداوله الألسن ، وتكثر روايته في المجامع والأندية ، ولا تخصّ بحافظ الشام من بين أئمّة الحديث وحفّاظه ، وقد تفرّد به ابن عساكر ، وقال ابن بدران في غير موضع : كلّ ما تفرّد به ابن عساكر فهو ضعيف. راجع تاريخه (٢) (٤ / ٢٣٦ و ٥ / ١٨٣ ، ١٨٤) ، وعلى الرواية نفسها من ملامح الافتعال ما لا يخفى.

وما أعرف هذا السبع بالخلفاء حتى ذكرهم مرّتين ، وأهدى إليهم السلام على ترتيب خلافتهم ، فكأنّ علم الغيب أُلقي إلى السباع شطره فعرفوا خلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يُستخلفوا ، وعرفت من الصحابة أُناساً ليسوا هم في الغارب والسنام ، كما أنها جهلت بأناس هم في الذروة العالية من جلالة الصحبة وعظمتها ، فحذفت عمّن سلّم عليهم أسماءهم ، وبلغ تزلّفها إلى الطبقة الواطئة من الموالي ، أو هكذا تكون رشحات عالم الغيب؟ أم هكذا تخبط السباع خبط عشواء؟ أم هذه كلّها جناية الغلوّ في الفضائل؟

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٠ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٢٦٦.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق : ٤ / ٢٣٩ ، ٥ / ١٨٦ ، ١٨٧.


١٨ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٢ / ٨٥) من طريق أحمد بن محمد الأنصاري الجبيلي (٢) عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش : إنّ من له عند الله حق فليأتِ ، قلنا : يا رسول الله ومن له على الله حقّ؟ قال : من أحبّ أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومن لم يُفضّل عليهم أحداً.

قال الأميني : قال ابن عساكر : هذا الحديث غريب جدّا ، والعهدة فيه على أحمد ابن محمد الجبيلي.

والأنصاري ترجمه الذهبي في ميزان الاعتدال (٣) (١ / ٧٣) فقال : ليس بثقة نزل الجزيرة ، وهّاه ابن حبّان (٤) وغير واحد. وقال ابن حجر في لسان الميزان (٥) (١ / ٣٠٢) : حديث منكر.

ومتن الحديث كما ترى أقوى شاهد على بطلانه ، وإنّما هو رأي ابن عمر فحسب يشذّ عن الكتاب والسنّة ، كما فصّلنا القول حوله في الحديث الرابع ، فليضرب به عرض الحائط.

١٩ ـ أخرج ابن عساكر من طريق إبراهيم بن محمد بن أحمد القرميسيني ، عن أنس بن مالك مرفوعاً : من أحبّ أن ينظر إلى إبراهيم عليه‌السلام في خلّته فلينظر إلى أبي بكر في سماحته ، ومن أحبّ أن ينظر إلى نوح في شدّته فلينظر إلى عمر بن الخطّاب في شجاعته ، ومن أحبّ أن ينظر إلى إدريس في رفعته فلينظر إلى عثمان في رحمته ، ومن أحبّ أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في جهادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب في طهارته.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٤٨٣.

(٢) في لسان الميزان : الحنبلي. (المؤلف)

(٣) ميزان الاعتدال : ١ / ١٥٥ رقم ٦١٤.

(٤) كتاب المجروحين : ١ / ١٤١.

(٥) لسان الميزان : ١ / ٣٣١ رقم ٩٠٢.


تاريخ الشام (١) (٢ / ٢٥١).

قال ابن عساكر : هذا الحديث شاذّ بالمرّة ، وفي إسناده جماعة ممّن أمرهم مجهول لا يُعرف حالهم ، فلا يوثق بهم ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الضعف. انتهى.

قال الأميني : حذف ابن بدران مهذّب التاريخ سند الرواية وهو كما في لسان الميزان (٢) (٤ / ٣١٧) : القرميسيني ، عن عمر بن عليّ بن سعيد ، عن يونس ، عن محمد ابن القاسم ، عن أبي يعلى ، عن محمد بن بكار ، عن ابن أبي ثابت البناني ، عن أنس.

وقال : قال عقبة : هذا إسناد عمر ، وفي إسناده غير واحد مجهول. وقال الذهبي في الميزان (٣) (٢ / ٢٦٦) : إسناد مظلم بخبر لم يصحّ.

٢٠ ـ عن عمر بن عبد المجيد الميانشي ، حدّثنا مسلمة ، حدّثنا أبو سعد (٤) محمد ابن سعيد الريحاني ـ وعاش عشرين ومائة سنة ـ قال : حدّثنا : أبو سالم عبد الله بن سالم ـ وعاش مائة وثلاثين سنة ـ ، حدّثني أبو الدنيا محمد (٥) بن الأشج ، حدّثني عليّ ابن أبي طالب ، رفعه : ما كان رُفع العرش إلاّ بحبّ أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ. الحديث.

قال ابن السمعاني في حديث رواه بالطريق المذكور : هذا حديث باطل ورجاله مجاهيل.

لسان الميزان (٦) (٣ / ١٥٥).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٧ / ١١٢ رقم ٤٨٠ ، وفيه : يوسف بن الحسن البغدادي بدلاً من : يونس ، وأبي عن ثابت بدلاً من ابن أبي ثابت ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٢ / ٢٥٤.

(٢) لسان الميزان : ٤ / ٣٦٤ رقم ٦١٠٩.

(٣) ميزان الاعتدال : ٣ / ٢١٤ رقم ٦١٧١.

(٤) في لسان الميزان : أبو سعيد.

(٥) اسمه عثمان ، ومحمد تصحيف. (المؤلف)

(٦) لسان الميزان : ٣ / ١٨٨ رقم ٤١٣٥.


وقال الذهبي (١) : أبو الدنيا الأشج كذّاب طرقيّ (٢). وقال : حدّث بقلّة حياء بعد الثلاثمائة عن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فافتضح بذلك ، وكذّبه النقّادون ، قال الخطيب : علماء النقل لا يثبتون قوله ، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ، وللحفّاظ فيه وفي بطلان حديثه كلمات ضافية ، راجع لسان الميزان (٣) (٤ / ١٣٤ ـ ١٤٠).

٢١ ـ أخرج العقيلي (٤) في الضعفاء ، من طريق المقري ، عن عمر بن عبيد البصري أبي حفص الخزّاز ، عن سهيل بن ذكوان المدني ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضى الله عنه رفعه : أفضل هذه الأُمّة بعد نبيّها أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان.

قال الأميني : عمر بن عبيد ضعّفه أبو حاتم (٥) ، كان بيّاع الخمر كما ذكره ابن حبّان (٦) والذهبي (٧) وفيه سهيل ، قال الدوري عن ابن معين (٨) : سهيل والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء وليس حديثهما بحجّة ، وقال : لم يزل أصحاب الحديث يتّقون حديثه وقال : ضعيف ، وسُئل مرّة فقال : ليس بذاك ، وقال غيره : إنّما أخذ عنه مالك قبل التغيّر. وقال أبو حاتم (٩) : يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وذكره ابن حبّان في الثقات (١٠) وقال يخطئ. وذكر العقيلي (١١) عن يحيى أنّه قال : هو صويلح وفيه لين.

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٣ / ٣٣ رقم ٥٥٠٠.

(٢) في ميزان الاعتدال ولسان الميزان : أبو الدنيا الأشجّ ، ويقال : ابن أبي الدنيا طير طرأ على أهل بغداد.

(٣) لسان الميزان : ٤ / ١٥٦ رقم ٥٥١٦.

(٤) الضعفاء الكبير : ٣ / ١٨٠ رقم ١١٧٦.

(٥) الجرح والتعديل : ٦ / ١٢٣ رقم ٦٦٩.

(٦) الثقات : ٨ / ٤٤١.

(٧) راجع ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٦٥ [٣ / ٢١٢ رقم ٦١٦٤] ، لسان الميزان : ٤ / ٣١٦ [٤ / ٣٦٣ رقم ٦١٠٧]. (المؤلف)

(٨) التاريخ : ٣ / ٢٦٢ رقم ١٢٣٠.

(٩) الجرح والتعديل : ٤ / ٢٤٦ رقم ١٠٦٣.

(١٠) الثقات : ٦ / ٤١٧.

(١١) الضعفاء الكبير : ٢ / ١٥٥ رقم ٦٥٩.


ميزان الاعتدال (١ / ٤٣٢) ، تهذيب التهذيب (٤ / ٢٦٤) (١).

٢٢ ـ ذكر القاضي أبو يوسف في الآثار (ص ٢٠٧) عن أبي حنيفة : أنّ رجلاً أتى عليّا رضى الله عنه فقال : ما رأيت أحداً خيراً منك ، فقال له : هل رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا. قال : فهل رأيت أبا بكر وعمر؟ قال : لا. قال : لو أخبرتني أنّك رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضربت عنقك ، ولو أخبرتني أنّك رأيت أبا بكر وعمر لأوجعنّك عقوبة.

قال الأميني : إنّك لو أمعنت النظر فيما ذكرناه في ترجمة أبي يوسف في (٨ / ٣٠ ، ٣١ الطبعة الأولى) (٢) ، لأغناك عن مؤنة البرهنة على تفنيد هذه الرواية وما يجري مجراها.

على أنّها مضادّة لما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ عليّا خير البشر ، وما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تأويل قوله سبحانه (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) : بعليّ عليه‌السلام وشيعته (٣). فالرواية مخالفة للكتاب والسنّة فأَحرِ بها أن تُضرب عرض الجدار. وأنّها على طرف نقيض مع نظريّة أمير المؤمنين عليه‌السلام في نفسه عند مقايستها مع القوم ، فهو الذي يقول : «متى وقع الشكّ فيّ مع الأوّل حتى صرتُ أُقرَنُ بهذه النظائر». ويقول : «لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى». إلى كثير ممّا يشبه بعضه بعضاً من نظائر هذا القول. راجع غير واحد من أجزاء هذا الكتاب (٤).

٢٣ ـ أخرج ابن عدي (٥) عن محمد بن نوح ، حدّثنا جعفر بن محمد الناقد ،

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٤٣ رقم ٣٦٠٤ ، تهذيب التهذيب : ٤ / ٢٣١.

(٢) أنظر : ٨ / ٤٦ و ٤٧ من هذه الطبعة.

(٣) [البيّنة : ٧] راجع ما مرّ في : ٢ / ٥٧ و ٣ / ٢٢. (المؤلف)

(٤) راجع أحاديث مناشداته عليه‌السلام في الأجزاء : ١ / ٣٢٧ ـ ٣٣٨ ، وما بعدها من المناشدات ، وأيضاً : ٢ / ٩٤ ، ٩٦ ، ٤٤٤ ، ٥٢٨ و ٣ / ١٧٧ ، ٣٠١ ، ٣١٥ و ٧ / ١٠٨ ، ٢٩٧ و ٨ / ١٣٢ و ٩ / ٥١٩ ، ٥٢٠ و ١٠ / ٤٠ ، ١٣٦ ، ٢٢٤ ، ٣٨٩.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٧٥ رقم ١٢٥٤.


حدّثنا عمّار بن هارون المستملي البصري ، حدّثنا قزعة بن سويد البصري ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عبّاس رفعه : ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر. وفيه : وأبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى.

وأخرجه (١) من طريق ابن جرير الطبري ، عن بشير بن دحية ، عن قزعة بن سويد (٢). أقول : في الإسناد عمّار المستملي الدلاّل ، قال أبو الضريس : سألت ابن المديني عنه فلم يرضه ، وقال ابن عدي : عامّة ما يرويه غير محفوظ. وقال أيضاً : يسرق الحديث. وقال العقيلي (٣) : قال لي موسى بن هارون : عمّار أبو ياسر متروك الحديث. وقال الخطيب (٤) : سمع منه أبو حاتم (٥) ولم يرو عنه وقال : متروك الحديث وقال ابن حبّان (٦) : ربّما أخطأ.

ميزان الاعتدال (٢ / ٢٤٥) ، تهذيب التهذيب (٧ / ٤٠٧) (٧).

وفيه قزعة أبو محمد البصري ، قال أحمد : مضطرب الحديث. وقال أيضاً : شبه المتروك. وقال أبو حاتم (٨) : ليس بذاك القويّ محلّه الصدق وليس بالمتين يكتب حديثه ولا يحتجّ به.

وقال البخاري (٩) : ليس بذاك القويّ. وقال الآجري : سألت أبا داود عن قزعة فقال : ضعيف ، كتبت إلى العبّاس العنبري أسأله عنه ، فكتب إليّ

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٧٥ رقم ١٢٥٤.

(٢) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٤٥ [٣ / ١٧١ رقم ٦٠٠٩] ، لسان الميزان : ٢ / ٢٣ [٢ / ٢٩ رقم ١٥٩٩]. (المؤلف)

(٣) الضعفاء الكبير : ٣ / ٣١٩ رقم ١٣٣٨.

(٤) تاريخ بغداد : ١٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ رقم ٦٧٠٣.

(٥) الجرح والتعديل : ٦ / ٣٩٤ رقم ٢١٩٦.

(٦) الثقات : ٨ / ٥١٨.

(٧) ميزان الاعتدال : ٣ / ١٧١ رقم ٦٠٠٩ ، تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٥٧.

(٨) الجرح والتعديل : ٧ / ١٣٩ رقم ٧٨٢.

(٩) التاريخ الكبير : ٧ / ١٩٢ رقم ٨٥٤.


أنّه ضعيف ، وقال النسائي (١) : ضعيف ، وقال ابن حبّان (٢) : كان كثير الخطأ فاحش الوهم ، فلمّا كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره ، وقال البزّار : لم يكن بالقويّ. وقال العجلي فيه : ضعيف (٣).

وفي إسناد الطبري بشر بن دحية ، ضعّفه الذهبي وقال بعد رواية هذا الحديث عنه : هذا كذب ، ومن بشر؟ وقال : قزعة ليس بشيء (٤).

٢٤ ـ أخرج الحافظ العاصمي في زين الفتى شرح سورة هل أتى ، من طريق الحاكم أبي أحمد ، عن أبي ميمون أحمد بن محمد بن ميمون بن كوثر بن حكيم الهمداني بحلب ، عن إسحاق بن إبراهيم بن الأخيل العبسي ، عن ميسر (٥) بن إسماعيل ، عن كوثر بن حكيم الهمداني ، عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً : إنّ أرأف أُمّتي لها أبو بكر ، وإنّ أجلّها في أمر الله لعمر ، وإنّ أشدّها حياءً عثمان ، وإنّ أقضاها لعليّ ، وإنّ أقرأها لأُبيّ ، وإنّ أفرضها زيد بن ثابت ، وإنّ أصدقها لهجة أبو ذر ، وإنّ أعلمها بالحلال والحرام لمعاذ بن جبل ، وإنّ حبر هذه الأمّة عبد الله بن عبّاس ، ولكلّ أُمّة أمين وأمين هذه الأُمّة أبو عبيدة الجراح.

قال الأميني : في الإسناد مجاهيل يروي واحد عن آخر عن كوثر ، وهو كما قال أبو زرعة : ضعيف. وقال يحيى بن معين : ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل (٦) :

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٠٣ رقم ٥٢٥.

(٢) كتاب المجروحين : ٢ / ٢١٦.

(٣) ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٤٧ [٣ / ٣٨٩ رقم ٦٨٩٤]. (المؤلف)

(٤) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٤٥ [٣ / ١٧١ رقم ٦٠٠٩] ، لسان الميزان : ٢ / ٢٣ [٢ / ٢٩ رقم ١٥٩٩]. (المؤلف)

(٥) كذا والصحيح بشر بن إسماعيل ، ولا يهمّنا عرفان الصحيح من السقيم في المقام إذ بشر أيضاً كميسر مجهول منكر لا يعرف. كما في لسان الميزان [٢ / ٢٦ رقم ١٥٨٩]. (المؤلف)

(٦) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ١٥٦ رقم ١٨٥٧.


أحاديثه بواطيل ليس بشيء. وقال الدارقطني (١) وغيره : مجهول ، وقال : ضعيف منكر الحديث ، وقال الجوزجاني : لا يحلّ كتابة حديثه عندي لأنّه متروك ، وقال ابن عديّ (٢) : عامّة ما يرويه غير محفوظ ، وقال ابن أبي حاتم (٣) : سألت أبي عنه فقال : ضعيف الحديث ، قلت : هو متروك؟ قال : لا ، ولا أعلم له حديثاً مستقيماً وهو ليس بشيء ، وقال الساجي : ضعيف. وقال البرقاني والدارقطني : متروك الحديث ، وقال الحاكم وأبو نعيم : روى أحاديث مناكير وذكره العقيلي (٤) ، والدولابي ، وابن الجارود ، وابن شاهين في الضعفاء ، وقال أبو الفتح : ضعيف (٥).

٢٥ ـ أخرج الحافظ العاصمي في زين الفتى ، عن سلسلة مجاهيل تنتهي إلى عليّ بن يزيد ، عن أبي سعد البقّال ، عن أبي محجن ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أرأف الناس بهذه الأُمّة أبو بكر الصدّيق ، وأقواها بأمر الله عمر ، وأشدّها حياءً عثمان ، وأعلمها بفصل قضاء عليّ بن أبي طالب ، وأعلمها بحساب الفرائض زيد بن ثابت ، وأعلمها بناسخ من منسوخ معاذ بن جبل ، وأقرأها أبيّ بن كعب ، ولكلّ أُمّة أمين وأمين هذه الأُمّة أبو عبيدة بن الجرّاح.

قال الأميني : من رجال الإسناد بعد المجاهيل عليّ بن يزيد وهو أبو الحسن الكوفي الأكفاني نظراً إلى طبقته ، قال أبو حاتم (٦) : ليس بقويّ منكر الحديث عن الثقات ، وقال ابن عدي (٧) : أحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات ، وعامّة ما يرويه

__________________

(١) الضعفاء والمتروكون : ص ٣٣٢ رقم ٤٤٧.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٦ / ٧٨ رقم ١٦١٠.

(٣) الجرح والتعديل : ٧ / ١٧٦ رقم ١٠٠٥.

(٤) الضعفاء الكبير : ٤ / ١١ رقم ١٥٦٦.

(٥) ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٥٩ [٣ / ٤١٦ رقم ٦٩٨٣] ، لسان الميزان : ٤ / ٤٩١ [٤ / ٥٧٩ رقم ٦٧٦٨]. (المؤلف)

(٦) الجرح والتعديل : ٦ / ٢٠٩ رقم ١١٤٣.

(٧) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢١٢ رقم ١٣٦٥.


لا يتابع عليه (١).

عن أبي سعد البقّال الكوفي سعيد بن المرزبان الأعور ، قال ابن معين (٢) : ليس بشيء ، لا يكتب حديثه ، وقال عمرو بن عليّ : ضعيف الحديث ، متروك الحديث ، وقال أبو زرعة : ليّن الحديث فدلّس ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم (٣) : لا يحتجّ بحديثه ، وقال النسائي (٤) : ضعيف ، وقال أيضاً : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه ، وقال الدارقطني : متروك. وقال الساجي : صدوق فيه ضعف ، وقال العجلي : ضعيف ، وقال ابن حبّان (٥) : كثير الوهم فاحش الخطأ (٦) ، وقال ابن حجر في الإصابة (٤ / ١٧٤) : أبو سعيد ضعيف ولم يدرك أبا محجن. عن أبي محجن الثقفي وما أدراك ما الثقفي ، كان يُدمن الخمر ، منهمكاً في الشراب ، حدّه عمر في [الخمر] (٧) سبع مرّات ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلاً فهرب منه ، وهو صاحب الشعر الدائر السائر :

إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمةٍ

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفننِّي بالفلاة فإنَّني

أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها

هذا أبو محجن فانظر ما ذا ترى ، وأنت بين أمرين : إمّا أن تأخذ بكتاب الله وفيه قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٨) وإمّا أن تجنح إلى ما جاء به القوم

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٩٥ [٧ / ٣٤٦]. (المؤلف)

(٢) التاريخ : ٤ / ٤١ رقم ٣٠٣٨.

(٣) الجرح والتعديل : ٤ / ٦٢ رقم ٢٦٤.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٢٧ رقم ٢٨٥.

(٥) كتاب المجروحين : ١ / ٣١٧.

(٦) تهذيب التهذيب : ٤ / ٧٩ [٤ / ٧١]. (المؤلف)

(٧) من المصدر.

(٨) الحجرات : ٦.


من خرافة : الصحابة كلّهم عدول (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) (١) ، (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢) ، (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) (٣) ، (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٤).

٢٦ ـ أخرج الحافظ العاصمي في زين الفتى ، بإسناده عن أبي علي الهروي ، عن المأمون ، عن أحمد بن سعد العبادي ، عن يزيد بن هارون ، عن عبد الأعلى بن مسافر ، عن الشعبي ، عن المصطلقي ـ رجل من بني المصطلق ـ قال : بعثني قومي بنو المصطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألون إلى من يدفعون صدقاتهم بعد وفاته. فلقيني عليّ بن أبي طالب ، فسألني فقلت : أرسلني قومي بنو المصطلق إلى رسول الله يسألونه إلى من يدفعون صدقاتهم بعده ، فقال عليّ : إذا سألته فأخبرني ما قال لك.

فأتى رسول الله فأخبره أنّ قومه أرسلوه يسألونه إلى من يدفعون صدقاتهم بعدك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادفعوها إلى أبي بكر ، فرجع المصطلقي إلى عليّ فأخبره ، فقال له عليّ : ارجع إليه فسائله إن كان أبو بكر يموت إلى من يدفعونها؟ فأتاه فسأله فقال : ادفعوها إلى عمر. فرجع إلى عليّ فأخبره ، فقال له عليّ : ارجع فقل له : إن كان عمر يموت إلى من يدفعونها؟ فقال : ادفعوها إلى عثمان ، فرجع إلى عليّ فأخبره ، فقال له عليّ : ارجع فسائله إلى من يدفعونها بعد عثمان ، فقال له الرجل : إنّي لأستحي أن أرجع بعد هذا.

قال الأميني : هلمّ معي نقرأ صحيفة ممّا جاء في رجال إسناد هذه الرواية التي تُبنى عليها وعلى أمثالها الخلافة الإسلاميّة عند بعض رجالات القوم.

__________________

(١) فصلت : ٣٤.

(٢) الحشر : ٢٠.

(٣) المائدة : ١٠٠.

(٤) السجدة : ١٨.


١ ـ أبو عليّ الهروي هو أحمد بن عبد الله الجويباري (١) ، قال ابن عدي (٢) : كان يضع الحديث لابن كرام (٣) على ما يريده ، فكان ابن كرام يخرجها في كتبه عنه. وقال ابن حبّان (٤) : دجّال من الدجاجلة ، روى عن الأئمّة أُلوف حديث ما حدّثوا بشيء منها. وقال النسائي (٥) : كذّاب. وقال الذهبي : ممّن يُضرب المثل بكذبه ، وقال البيهقي : إنّي أعرفه حقّ المعرفة بوضع الأحاديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث ، وسمعت الحاكم يقول : هو كذّاب خبيث ، ووضع كثيراً في فضائل الأعمال لا تحلّ رواية حديثه من وجه ، وقال الخليلي : كذّاب يروي عن الأئمّة أحاديث موضوعة ، وكان يضع لابن كرام أحاديث مصنوعة ، وكان ابن كرام يسمعها وكان مغفّلاً. وقال أبو سعيد النقاش : لا نعرف أحداً أكثر وضعاً منه ، إلى كلمات أخرى لدة هذه.

ميزان الاعتدال (١ / ٥٠) ، لسان الميزان (١ / ١٩٣) ، اللآلئ المصنوعة (١ / ٢١) (٦) ، الغدير (٥ / ٢١٤).

٢ ـ المأمون بن أحمد السلمي الهروي ، يروي عنه الجويباري ، قال ابن حبّان (٧) : دجّال : وقال ابن حبّان أيضاً : سألته : متى دخلت الشام؟ قال : سنة خمسين ومائتين ،

__________________

(١) الجويبار : من أعمال هراة ويعرف بستوق [معجم البلدان : ٢ / ١٩١]. (المؤلف)

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ١٧٧ رقم ١٧.

(٣) هو محمد بن كرام السجستاني شيخ الكرامية ، له أتباع ومريدون ، ساقط الحديث على بدعته ، ومن بدعه قوله في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام ، وإنّ الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن. سُجن بنيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام ثمّ أُخرج وسار إلى بيت المقدس ، ومات بالشام في سنة ٢٥٥ ه‍. لسان الميزان : ٥ / ٤٠٠ رقم ٧٩٤٣.

(٤) كتاب المجروحين : ١ / ١٤٢.

(٥) الضعفاء والمتروكين : ص ٥٩ رقم ٦٩.

(٦) ميزان الاعتدال : ١ / ١٠٦ رقم ٤٢١ ، لسان الميزان : ١ / ٢٠٦ رقم ٦١٢ ، اللآلئ المصنوعة : ١ / ٣٩ ، ٤٠.

(٧) كتاب المجروحين : ٣ / ٤٥.


قلت : فإنّ هشاماً الذي تروي عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين ، فقال : هذا هشام بن عمّار آخر. وممّا وضع على الثقات ـ فذكر حديثاً ـ ثم قال : وإنّما ذكرته ليُعرَف كذبه لأنّ الأحداث كتبوا عنه بخراسان. وقال أبو نعيم : خبيث وضّاع يأتي عن الثقات مثل هشام ودحيم بالموضوعات ، ومثله يستحقّ من الله تعالى ومن الرسول ومن المسلمين اللعنة. وقال الحاكم في المدخل بعد ذكر حديث عنه : ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنّها موضوعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما قال. وقال الذهبي : أتى بطامّات وفضائح.

ميزان الاعتدال (٣ / ٤) ، لسان الميزان (٥ / ٧) (١).

٣ ـ أحمد بن سعد العبادي ، لا أعرفه ولم أجد له ذكراً في الكتب والمعاجم.

٤ ـ عبد الأعلى بن مسافر (٢) ـ الصحيح : ابن أبي المساور ـ الزهري أبو مسعود الجرّار الكوفي ، نزيل المدائن. قال ابن معين (٣) : ليس بشيء. زاد إبراهيم : كذّاب ، وعن ابن معين أيضاً ليس بثقة. وعن عليّ بن المديني : ضعيف ليس بشيء. وقال ابن عمّار الموصلي : ضعيف ليس بحجّة. وقال أبو زرعة : ضعيف جدّا ، وقال أبو حاتم (٤) : ضعيف الحديث يشبه المتروك ، وقال البخاري (٥) : منكر الحديث ، وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي (٦) : متروك الحديث. وقال في موضع آخر : ليس بثقة ولا مأمون. وقال ابن نمير : متروك الحديث. وقال الدارقطني (٧) : ضعيف. وقال الحاكم

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٣ / ٤٢٩ رقم ٧٠٣٦ ، لسان الميزان : ٥ / ١١ رقم ٦٨١٢.

(٢) في زين الفتى للعاصمي : عبد الأعلى بن مسافر ، وفي بقية المصادر كتهذيب التهذيب ، كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي : عبد الأعلى بن أبي المساور.

(٣) التاريخ : ٤ / ٣٧٩ رقم ٤٨٥٩.

(٤) الجرح والتعديل : ٦ / ٢٦ رقم ١٣٥.

(٥) التاريخ الكبير : ٦ / ٧٤ رقم ١٧٥٣.

(٦) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٦٥ رقم ٤٠١.

(٧) الضعفاء والمتروكون : ص ٢٨٠ رقم ٣٤٧.


أبو أحمد : ليس بالقويّ عندهم وقال الساجي : منكر الحديث. وقال أبو نعيم الأصبهاني : ضعيف جدّا ليس بشيء.

تهذيب التهذيب (١) (٦ / ٤٨).

٢٧ ـ أخرج البخاري في تاريخه الكبير (٤ / ق ٢ / ٤٤٢) عن إسحاق بن إبراهيم ، عن عمرو بن الحارث الزبيدي ، عن ابن سالم ، عن الزبيدي ، قال حميد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف ، عن ابن عبد ربّه ، عن عاصم بن حميد ، قال : كان أبو ذر يقول : التمست النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض حوائط المدينة فإذا هو قاعد تحت نخلة ، فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما جاء بك؟ فقال : جئت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمره أن يجلس ، وقال : ليأتينا رجل صالح ، فسلّم أبو بكر ، ثم قال : ليأتينا رجل صالح ، فجاء عمر فسلّم ، وقال : ليأتينا رجل صالح فأقبل عثمان بن عفان ، ثم جاء عليّ فسلّم فردّ عليه مثله ، ومع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصيات فسبّحن في يده ، فناولهنّ أبا بكر فسبّحن في يده ، ثم عمر فسبّحن في يده ، ثم عثمان فسبّحن في يده.

رجال الإسناد :

١ ـ إسحاق بن إبراهيم الحمصي المعروف بابن زبريق ، قال النسائي : ليس بثقة وقال محمد بن عون : ما أشكّ أنّ إسحاق بن زبريق يكذب (٢).

٢ ـ عمرو بن الحارث الحمصي ، قال الذهبي (٣) : لا تُعرف عدالته (٤).

٣ ـ عبد الله بن سالم الشامي الحمصي ، كان يذمّه أبو داود لقوله : أعان عليّ

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٦ / ٨٩.

(٢) تهذيب التهذيب : ١ / ٢١٦ [١ / ١٨٩]. (المؤلف)

(٣) ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٥١ رقم ٦٣٤٧.

(٤) تهذيب التهذيب : ٨ / ١٤ [٨ / ١٣]. (المؤلف)


على قتل أبي بكر وعمر (١) فالرجل ناصبيّ لا يُصغى إلى قيله ، وأحسب أنّه آفة الرواية ، وهي كما ترى يطفح النصب من جوانبها.

٤ ـ حميد بن عبد الله أو حميد بن عبد الرحمن ، مجهول لا يعرف.

٥ ـ ابن عبد ربّه ، إن كان هو محمد المروزي فهو ضعيف كما في لسان الميزان (٢) (٥ / ٢٤٤) ، وإن كان غيره فهو مجهول ، ونفس البخاري الذي ذكره لا يعرف منه إلاّ أنّه ابن عبد ربّه ، ولا يسمّيه ولا يذكر له غير روايته هذه.

٦ ـ عاصم بن حميد الحمصي الشامي ، قال البزار : لم يكن له من الحديث ما نعتبر به حديثه ، وقال ابن القطّان : لا نعرف أنّه ثقة (٣).

٧ ـ أبو ذر الغفاري ، أنا لا أدري أنّ أبا ذر هذا هل هو الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» أو الذي يقول فيه عثمان : إنّه شيخ كذّاب ، ورآه أهلاً لأن يهلك في المنفى؟ ولست أدري من الحكم هاهنا ، هل الذي يخضع لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو الذي يبرّر موقف عثمان ويبرّئه عن كلّ شية؟ وعلى كلّ ففي من قبله من رواة السوء كفاية في تفنيد الحديث.

ولعلّ الباحث بعد قراءة ما سردناه من حديث أبي ذر ومواقفه ونقمته على عثمان ، وما جرى بينهما لا يذعن قطّ لهذه الأفيكة ، ولا يصدّق أن يكون أبو ذر الصادق المصدّق هو صاحب هذه الرواية المختلقة.

وهذا الإسناد الملفّق من رجال حمص (٤) يذكّرني قول ياقوت الحموي في

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٢٨ [٥ / ٢٠٠]. (المؤلف)

(٢) لسان الميزان : ٥ / ٢٧٥ رقم ٧٦٣١.

(٣) تهذيب التهذيب : ٥ / ٤٠ [٥ / ٣٦]. (المؤلف)

(٤) بالكسر ثم السكون والصاد المهملة بلد كبير بين الشام وحلب في نصف الطريق ، يذكّر ويؤنّث [معجم البلدان : ٢ / ٣٠٢]. (المؤلف)


معجم البلدان (١) (٣ / ٣٤١) قال : ومن عجيب ما تأمّلته من أمر حمص فساد هوائها وتربتها اللذين يفسدان العقل حتى يضرب بحماقتهم المثل ، إنّ أشدّ الناس على عليّ رضى الله عنه بصفين مع معاوية كان أهل حمص ، وأكثرهم تحريضاً عليه وجدّا في حربه ، فلمّا انقضت تلك الحروب ومضى ذلك الزمان صاروا من غلاة الشيعة ، حتى إنّ في أهلها كثيراً ممّن رأى مذهب النُصيريّة ، وأصلهم الإماميّة الذين يسبّون السلف ، فقد التزموا الضلال أوّلاً وأخيراً ، فليس لهم زمان كانوا فيه على الصواب.

لفظ آخر بإسناد آخر :

أخرج البيهقي (٢) عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عبدان ، عن أحمد بن عبيد الصفّار ، عن محمد بن يونس الكديمي ، عن قريش بن أنس ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن رجل يقال له : سويد بن يزيد السلمي ـ أو : الوليد بن سويد ـ قال : سمعت أبا ذر يقول : لا أذكر عثمان إلاّ بخير بعد شيء رأيته ، كنت رجلاً أتتبّع خلوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأيته يوماً جالساً وحده ، فاغتنمت خلوته ، فجئت حتى جلست إليه ، فجاء أبو بكر فسلّم عليه ثم جلس عن يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم جاء عمر فسلّم وجلس عن يمين أبي بكر ، ثم جاء عثمان فسلّم ثم جلس عن يمين عمر ، وبين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع حصيّات ، أو قال تسع حصيّات ، فأخذهنّ في كفّه فسبّحن حتى سمعت لهنّ حنيناً كحنين النحل ، ثم وضعهنّ فخرسن ، ثم أخذهنّ فوضعهنّ في كفّ أبي بكر فسبّحن حتى سمعت لهنّ حنيناً كحنين النحل ، ثم وضعهنّ فخرسن ، ثم تناولهنّ فوضعهنّ في يد عمر فسبّحن حتى سمعت لهنّ حنيناً كحنين النحل ، ثم وضعهن فخرسن ، ثم تناولهنّ فوضعهنّ في يد عثمان فسبّحن حتى سمعت لهنّ حنيناً كحنين النحل ، ثم وضعهنّ فخرسن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه خلافة النبوّة (٣).

__________________

(١) معجم البلدان : ٢ / ٣٠٤.

(٢) دلائل النبوّة : ٦ / ٦٤.

(٣) تاريخ ابن كثير : ٦ / ١٣٢ [٦ / ١٤٦] ، الخصائص الكبرى : ٢ / ٧٤ [٢ / ١٢٤]. (المؤلف)


قال الأميني : هذا الإسناد مضافاً إلى ما في رجاله من المجهول والضعيف ومن تغيّر عقله (١)وأسنده إليه من سمع عنه بعد اختلاطه،كما في تهذيب التهذيب (٢)(٨ / ٣٧٥).

فيه : محمد بن يونس الكديمي ، وقد عرّفناك ترجمته في الجزء التاسع (٣) (ص ٣١١ الطبعة الأولى) ، وأنّه كذّاب وضّاع من بيت عُرف بالكذب. كان يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى العلماء ، ولعلّه وضع على الثقات أكثر من ألف حديث.

اقرأ وأعجب من خلافة تدعم بمثل هذه الخزاية ، ثم اعجب من حفّاظ أخرجوها في تآليفهم محتجّين بها ساكتين عنها وهم يعلمون ما فيها من العلل ، وإنّ ربّك ليعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون.

لفت نظر :

من عجيب ما نراه في هذه الرواية وأمثالها من الموضوعات في مناقب الثلاثة أو الأربعة تنظيم هذا الصفّ المنضّد كالبنيان المرصوص الذي لا اختلاف فيه. فلا يأتي قطّ أوّلاً إلاّ أبو بكر ؛ وثانياً إلاّ عمر ، وثالثاً إلاّ عثمان ، ورابعاً إن كان لهم رابع إلاّ عليّ عليه‌السلام سبحان الله فكأنّهم متبانون على هذا الترتيب ، فلا يتقدّم أحد أحداً ، ولا يتأخر أحد عن أحد ، ففي حديث التسبيح : جاء أبو بكر فسلّم ، ثم جاء عمر فسلّم ، ثم جاء عثمان فسلّم ، ثم جاء عليّ فسلّم.

وفي حديث البستان ، عن أنس : جاء أبو بكر ، ثم جاء عمر ، ثم جاء عثمان (٤).

وفي حديث بئر أريس ، عن أبي موسى : جاء أبو بكر ، ثم جاء عمر ، ثم جاء

__________________

(١) هو قريش بن أنس ، المترجم في تهذيب التهذيب لابن حجر. (المؤلف)

(٢) تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٣٥.

(٣) أنظر : ٩ / ٣١٣ من هذه الطبعة.

(٤) راجع الجزء الخامس : ص ٣٣٣. (المؤلف)


عثمان (١).

وفي حديث استئذانهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مضطجع على فراشه ، عن عائشة : استأذن أبو بكر ، ثم جاء عمر فاستأذن ، ثم جاء عثمان فاستأذن. راجع (ص ٢٧٤) من الجزء التاسع.

وفي حديث الفخذ والركبة : استأذن أبو بكر ، ثم جاء عمر فاستأذن ، ثم جاء عثمان فاستأذن. كما مرّ في الجزء التاسع (ص ٢٧٤ ، ٢٧٥).

وفي حديث جابر بالأسواف (٢) : يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فطلع أبو بكر ، ثم طلع عمر ، ثم طلع عثمان.

مجمع الزوائد (٩ / ٥٧).

وفي حديث حائط من حوائط المدينة ، عن بلال : جاء أبو بكر يستأذن ، ثم جاء عمر ، ثم جاء عثمان.

فتح الباري (٣) (٧ / ٣٠).

وفي حديث التبشير بالجنّة ، عن عبد الله بن عمر : جاء أبو بكر فاستأذن ، ثم جاء عمر فاستأذن ، ثم جاء عثمان فاستأذن (٤).

وفي حديث خطبة الزهراء فاطمة ـ سلام الله عليها ـ : جاء أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عليّ.

__________________

(١) راجع الصحيحين [صحيح البخاري : ٣ / ١٣٤٣ ح ٣٤٧١ ، وصحيح مسلم : ٥ / ٢٠ ح ٢٩ كتاب فضائل الصحابة] وغيرهما ، وحسبك تاريخ ابن كثير : ٦ / ٢٠٤ [٦ / ٢٢٢]. (المؤلف)

(٢) موضع بالمدينة.

(٣) فتح الباري : ٧ / ٣٧.

(٤) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٠٢ [٧ / ٢٢٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)


ذخائر العقبى (ص ٢٧).

وفي حديث بناء مسجد المدينة عن عائشة : جاء أبو بكر بحجر فوضعه ، ثم جاء عمر بحجر فوضعه ، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه (١).

فهل هذا حكم القدر يأتي بهم متتابعين؟ أو قضيّة التباني طيلة حياة النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يقبلون إلاّ بهذا الترتيب؟ أو هو من حكم الطبيعة فلا يختلف ولا يتخلّف؟ أو أنّه من ولائد الاتّفاق لكنّه لم يتفاوت في أيّ من الموارد؟ أو أنّه من مشتهيات الوضّاعين الذين يتحرّون ترتيب الفضيلة هكذا؟ ولعلّ القول بالأخير هو المتعيّن فحسب.

٢٨ ـ عن زيد بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجده. وفي لفظ : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن في مسجد المدينة ، فجعل يقول : أين فلان؟ أين فلان؟ فلم يزل يبعث إليهم ويتفقّدهم حتى اجتمعوا عنده ، فلمّا توافوا عنده حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّي محدّثكم حديثاً فاحفظوه وعوه وحدّثوا به من بعدكم ، إنّ الله عزّ وجلّ اصطفى من خلقه خلقاً ثم تلا : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢) خلقاً يدخلهم الجنّة ، وإنّي أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه ، ومؤاخٍ بينكم كما آخى الله عزّ وجلّ بين ملائكته ، فقم يا أبا بكر ، فقام فجثا بين يديه فقال : إنّ لك عندي يداً الله يجزيك بها ، فلو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذتك خليلاً ، فأنت منّي بمنزلة قميصي من جسدي ، وحرّك قميصه بيده. ثم قال : ادن يا عمر ، فدنا منه فقال : لقد كنت شديد الشغب علينا يا أبا حفص ، فدعوت الله أن يعزّ الإسلام بك أو بأبي جهل ، ففعل الله ذلك بك ، وكنت أحبّهما إلى الله ، فأنت معي في الجنّة ثالث ثلاثة من هذه الأُمّة ، ثم آخى بينه وبين أبي بكر.

__________________

(١) راجع الجزء الخامس : ص ٣٣٥. (المؤلف)

(٢) الحجّ : ٧٥.


ثم دعا عثمان فقال : ادن يا أبا عمرو ، فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء فقال : سبحان الله العظيم ـ ثلاث مرّات ـ ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، ثم قال : اجمع عطفي ردائك على نحرك ، إنّ لك شأناً في أهل السماء ، أنت ممّن يرد عليّ حوضي ـ وفي لفظ : يرد عليّ يوم القيامة ـ وأوداجك تشخب دماً ، فأقول لك : من فعل بك هذا؟ فتقول : فلان وفلان ، وذلك كلام جبرئيل إذا هتف من السماء ، فقال : ألا إنّ عثمان أمير على كلّ مخذول. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : ادن يا أمين الله ، أنت أمين الله ، وتسمّى في السماء : الأمين ، يسلّطك الله على مالك بالحقّ ، أما إنّ لك عندي دعوة وعدتكها وقد أخّرتها. فقال : خر لي يا رسول الله ، قال : حمّلتني يا عبد الرحمن أمانة ، ثم قال : إنّ لك شأناً يا عبد الرحمن ، أما إنّه أكثر الله مالك ، وجعل يقول بيده : هكذا وهكذا ، ثم آخى بينه وبين عثمان.

ثم دعا طلحة والزبير فقال : ادنوا منّي ، فدنَوَا منه فقال لهما : أنتما حواريّ كحواري عيسى بن مريم ، ثم آخى بينهما.

ثم دعا عمّار بن ياسر وسعداً ، فقال : يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، ثم آخى بينهما ، ثم دعا عويمر بن زيد أبا الدرداء وسلمان الفارسي وقال : يا سلمان ، أنت منّا أهل البيت وقد آتاك الله العلم الأوّل والآخر ، والكتاب الأوّل والكتاب الآخر ، ثم قال : ألا أرشدك يا أبا الدرداء؟ قال : بلى بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ، قال : إن تفتقدهم تفقّدوك ، وإن تركتهم لا يتركوك ، وإن تهرب منهم يدركوك ، فأقرضهم عرضك ليوم فقرك ، واعلم أنّ الجزاء أمامك. ثم آخى بينهما.

ثم نظر في وجوه أصحابه فقال : أبشروا وقرّوا عيناً ، أنتم أوّل من يرد عليّ الحوض ، وأنتم في أعلى الغرف ، ثم نظر إلى عبد الله بن عمر وقال : الحمد لله يهدي من الضلالة من يحبّ ، ويلبس الضلالة على من أحبّ ، فقال عليّ : يا رسول الله ، لقد


ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت ، غيري ، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي ، قال : يا رسول الله ، وما أرث منك؟ قال : ما ورثت الأنبياء من قبلي. قال : ما ورثته الأنبياء من قبلك؟ قال : كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي (وأنت أخي ورفيقي) (١) ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٢) ، الأخلاّء في الله ينظر بعضهم إلى بعض.

قال الأميني : قال أبو عمر في الاستيعاب (٣) (١ / ١٩١) في ترجمة زيد بن أبي أوفى : روى حديث المؤاخاة بتمامه ، إلاّ أنّ في إسناده ضعفاً.

وقال ابن حجر في الإصابة (١ / ٥٦٠) : روى حديثه ابن أبي حاتم (٤) ، والحسن ابن سفيان ، والبخاري في التاريخ الصغير (٥) من طريق ابن شرحبيل ، عن رجل من قريش ، عن زيد بن أبي أوفى ، قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجد المدينة فجعل يقول : أين فلان؟ أين فلان؟ فلم يزل يتفقّدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده. فذكر الحديث في إخاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحديثه طرق عن عبد الله بن شرحبيل ، وقال ابن السكن : روي حديثه من ثلاث طرق ليس فيها ما يصحّ ، وقال البخاري : لا يعرف سماع بعضهم من بعض ، ولا يتابع عليه ، رواه بعضهم عن ابن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، ولا يصحّ.

__________________

(١) هذه الزيادة في بعض الألفاظ [في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام من تاريخ دمشق]. (المؤلف)

(٢) الحجر : ٤٧.

(٣) الاستيعاب : القسم الثاني / ٥٣٧ رقم ٨٣٩.

(٤) الجرح والتعديل : ٣ / ٥٥٤ رقم ٢٥١٠.

(٥) التاريخ الصغير : ١ / ٢٥٠.


وقفنا من طرق الرواية الثلاث المعزوّة على طريقين.

أحدهما طريق أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان المجهول :

عن محمد بن يحيى بن إسماعيل السهمي التمّار ، قال الدارقطني : ليس بالمرضيّ. عن نصر بن عليّ الثقة إن كان هو الجهضمي كما هو الظاهر ، عن عبد المؤمن بن عباد ، ضعّفه أبو حاتم (١) ، وقال البخاري (٢) : لا يتابع على حديثه ، وذكره الساجي وابن الجارود في الضعفاء (٣).

عن يزيد بن سفيان ، قال الذهبي : ضعّفه ابن معين (٤). وقال النسائي (٥) : متروك. وقال شعبة : لو يُعطى درهماً لوضع حديثاً. له نسخة منكرة تكلّم فيه ابن حبّان. وقال ابن حبّان (٦) : نسخة مقلوبة لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد لكثرة خطئه ، ومخالفة الثقات في الروايات ، وقال العقيلي في الضعفاء (٧) : لا يعرف بالنقل ولا يُتابع على حديثه (٨).

عن عبد الله بن شرحبيل ، عن رجل من قريش ـ الله يعلم من الرجل ، وهل ولد هو أو لم يُخلق بعد؟! ـ عن زيد بن أبي أوفى.

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٦ / ٦٦ رقم ٣٤٦.

(٢) التاريخ الكبير : ٦ / ١١٧ رقم ١٨٨٨.

(٣) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٥٦ [٤ / ٦٥ رقم ٨٣١٢] ، لسان الميزان : ٤ / ٧٦ [٥ / ٤٨٣ رقم ٨١٨١]. (المؤلف)

(٤) معرفة الرجال : ١ / ٥٤ رقم ٣٧.

(٥) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٥٥ رقم ٦٧٩.

(٦) كتاب المجروحين : ٣ / ١٠١.

(٧) الضعفاء الكبير : ٤ / ٣٨٤ رقم ١٩٩٧.

(٨) ميزان الاعتدال : ٣ / ٣١٢ [٤ / ٤٢٦ رقم ٩٧٠١] ، لسان الميزان : ٦ / ٢٨٨ [٦ / ٣٥٢ رقم ٩٢٥٨]. (المؤلف)


رجال الطريق الثاني :

عبد الرحمن بن واقد الواقدي الخراساني الراوي ، عن شعيب الأعرابي ، قال الخطيب في تاريخه (١١ / ٨٥) : في حديثه مناكير ، لأنّها عن الضعفاء والمجاهيل.

عن شعيب بن يونس الأعرابي من أولئك الضعفاء أو المجاهيل الذين أوعز إليهم الخطيب في عبد الرحيم الواقدي.

عن موسى بن صهيب. قال ابن حجر في اللسان (١) : لا يكاد يُعرف.

عن يحيى بن زكريّا (٢) ، قال ابن عدي : كان يضع الحديث ويسرق ، وذكر ابن الجوزي حديثاً باطلاً ، وقال : هذا حديث موضوع بلا شكّ ، والمتّهم به يحيى ، قال يحيى بن معين : هو دجّال هذه الأُمّة (٣).

عن عبد الله بن شرحبيل عن رجل من قريش ، هذا الإنسان الذي تنتهي إليه أسانيد الرواية ولعلّه هو آفتها ، لم يُعرف من هو ، إن كان قد خُلق.

هذه طرق الرواية ، وتلك نصوص البخاري ، وابن السكن ، وأبي عمر ، وابن حجر على بطلانها ، وأنّها ليس فيها ما يصحّ ، على أنّ المؤاخاة بين المهاجرين وقعت بمكة قبل الهجرة ، والتي حدثت بالمدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، فأبو بكر فيها أخو خارجة بن زيد الأنصاري ، وعمر أخو عتبان بن مالك ، وعثمان أخو أوس بن ثابت ، والزبير أخو سلمة بن سلامة ، وطلحة

__________________

(١) لسان الميزان : ٦ / ١٤١ رقم ٨٦٥٧.

(٢) كذا ذكره البغوي ، والذهبي في ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٧٤ رقم ٩٥٠٦ ، وعقّب بقوله : وصوابه يحيى أبو زكريا.

(٣) لسان الميزان : ٦ / ٢٥٣ [٦ / ٣١٢ رقم ٩١٣٦]. (المؤلف)


أخو كعب بن مالك ، وعبد الرحمن بن عوف أخو سعد بن الربيع (١).

فقول مختلق الرواية : دخلت على رسول الله مسجده. أو قوله : خرج علينا رسول الله ونحن في مسجد المدينة. أقوى شاهد على اختلاقها.

وإن تعجب فعجب إخراج غير واحد من الحفّاظ هذه الرواية ، بين من أرسلها إرسال المسلّم محذوف الإسناد كالمحبّ الطبري في الرياض النضرة (٢) (١ / ١٣) ، وبين من أسندها بهذه الطرق الوعرة من دون أيّ غمز فيها ، كابن عساكر في تاريخه (٣) ، والعاصمي في زين الفتى ، وأعجب من ذلك تدعيم الحجّة على الخصم بها ، والركون إليها في تشييد الأحداث والمبادئ الساقطة. قال العاصمي : في هذا الحديث من العلم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثنى على أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وآخى بينهم ، وأشار إلى ما يصيب عثمان من القوم ، ولم يجعله في ذلك مليما ولا سمّاه ذميماً ، فلا ينبغي لمسلم أن يبسط لسانه فيهم بما كان من بعضهم إلى بعض لأنّه عليه‌السلام لم يؤاخِ بينهم في الدنيا إلاّ وهم يكونون أخوة في الآخرة ، وفيه من العلم أيضاً : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّى المرتضى أخاً ووارثاً ، ثم بيّن إرثه وجعله كتاب الله وسنّة الرسول ، ولم يجعل فدك وخيبر إرثاً منه ، تبيّن من ذلك بطلان قول الرافضة والله المستعان. انتهى.

ومن العجب جدّا حسبان العاصمي انفتاح بابين من العلم له من هذه الرواية الباطلة ، وأيّ علم هذا مصدره شكوك وأوهام وأكاذيب؟ أنا لست أدري كيف راق العاصمي الاحتجاج بمثلها من رواية تافهة فضلاً عن أن يستخرج منها كنز علمه الدفين ، ويرجع إليها في الحكم كأنّه يستند إلى ركن وثيق ، ويغفل أو يتغافل عن أنّه مرتكن إلى شفا جرف هار ، على أنّا فنّدنا في أجزاء كتابنا هذا أكثر ما فيها من

__________________

(١) راجع ما أسلفناه من المصادر في الجزء التاسع : صفحة ٣١٦ الطبعة الأولى. (المؤلف)

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٢١.

(٣) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام من تاريخ دمشق ـ الطبعة المحققة ـ رقم ١٤٨.


الفضائل.

ثم إنّ هذه المقولات التي تضمّنتها الرواية على فرض صدورها كانت بمشهد ومسمع من الصحابة ، أو سمعها على الأقل كثيرون منهم ، ومن أولئك السامعين الذين وعوها طلحة والزبير وعمّار ، فلما ذا لم يرجع إليها أحد منهم يوم تشديد الوطأة على عثمان ، وفي الحصارين ، وحول واقعة الدار؟ فهل اتّخذوها ظهريّا يومئذ مستخفّين بها؟ حاشاهم وهم الصحابة العدول كما يزعمون ، أو أنّهم نسوها كما نسيت مثلهاأمّهم عائشة من حديث الحوأب (١) ، فلم يذكروها حتى وضعت الفتنة أوزارها ، وهذا كما ترى ، ولعلّه لا يفوه به ذو مسكة.

وأمّا العلم الثاني الذي استخرج كنزه العاصمي من حصر إرث أمير المؤمنين عليّ من رسول الله بالكتاب والسنّة ، وفنّد حديث فدك وخيبر ، وشنّع على الشيعة بذلك فأتفه ممّا قبله ، فإنّ الشيعة لا تدّعي لأمير المؤمنين عليه‌السلام الإرث المالي ولا ادّعاه هو ـ صلوات الله عليه ـ لنفسه يوم كان يطالبهم بفدك ، وإنّما كان يبغيها لأنّها حقّ لابنة عمّه الصدّيقة الطاهرة ، سواء كانت نِحلة لها من أبيها كما هو الصحيح أو إرثاً على أصول المواريث التي جاء بها الكتاب والسنّة ، على تفصيل عسى أن نتفرّغ له في غير هذا الموضع من الكتاب ، فمؤاخذة الشيعة بتلك المزعمة المختلقة تقوّل عليهم ، وما أكثر ما افتعلت عليهم الأكاذيب ، فإنّ ما تدّعيه الشيعة من إرث الإمام عليه‌السلام عن مخلّفه ومشرّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يشذّ عمّا أَجمعت عليه أهل السنّة ، وهو من براهين الخلافة له عليه‌السلام قال الحاكم (٢) : لا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العمّ لا يرث من العمّ ، فقد ظهر بهذا الإجماع أنّ عليّا ورث العلم من النبيّ دونهم (٣) ، فهذه الوراثة الخاصّة لعليّ عليه‌السلام من بين

__________________

(١) راجع الجزء الثالث : ص ١٨٨ ـ ١٩١. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٣٦ ح ٤٦٣٤.

(٣) راجع الجزء الثالث : ص ١٠٠. (المؤلف)


الأُمّة عبارة أخرى عن الخلافة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي من أجلها كان ترث الأوصياء الأنبياء.

٢٩ ـ في الصحيحين (١) من حديث محمد بن مسكين البصري ، عن يحيى بن حسان البصري ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر ، عن سعيد بن المسيّب ، عن أبي موسى الأشعري قال :

توضّأت في بيتي ثم خرجت فقلت : لأكوننّ اليوم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجئت المسجد فسألت عنه ، فقالوا : خرج وتوجّه هاهنا ، فخرجت في أثره حتى جئت بئر أريس ، فمكث بابها (٢) حتى علمت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قضى حاجته وجلس ، فجئته فسلّمت عليه فإذا هو قد جلس على قفّ (٣) بئر أريس (٤) فتوسّطه ، ثم دلّى رجليه في البئر ، وكشف عن ساقيه ، فرجعت إلى الباب وقلت : لأكوننّ بوّاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلم أنشب أن دقّ الباب ، فقلت : من هذا؟ قال : أبو بكر : قلت. على رسلك ، وذهبت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنّة ، قال : فخرجت مسرعاً حتى قلت لأبي بكر : ادخل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبشّرك بالجنّة ، قال : فدخل حتى جلس إلى جنب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القفّ على يمينه ، ودلّى رجليه وكشف عن ساقيه كما صنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثم رجعت وقد كنت تركت أخي يتوضّأ ، وقد كان قال لي : أنا على إثرك ، فقلت : إن يُرد الله بفلان خيراً يأتِ به.

قال : فسمعت تحريك الباب ، فقلت : من هذا؟ قال : عمر. قلت : على رسلك ، قال : وجئت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّمت عليه وأخبرته ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنّة ، قال :

__________________

(١) صحيح البخاري : ٥ / ٢٥٠ ، ٢٥١ كتاب المناقب [٣ / ١٣٤٣ ح ٣٤٧١] ، صحيح مسلم : ٧ / ١١٨ ، ١١٩. [٥ / ٢٠ ـ ٢٢ ح ٢٩ كتاب فضائل الصحابة]. (المؤلف)

(٢) في الصحيحين : فجلست عند الباب.

(٣) قفّ البئر : الدكّة التي تجعل حولها. (المؤلف)

(٤) بستان في قباء قرب المدينة المشرفة. (المؤلف)


فجئت وأذنت له وقلت له : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبشّرك بالجنّة ، قال : فدخل حتى جلس مع رسول الله على يساره ، وكشف عن ساقيه ودلّى رجليه في البئر كما صنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر.

قال : ثم رجعت فقلت : إن يُرد الله بفلان خيراً يأتِ به ، يُريد أخاه ، فإذا تحريك الباب ، فقلت : من هذا؟ قال : عثمان بن عفّان ، قلت : على رسلك ، وذهبت إلى رسول الله فقلت : هذا عثمان يستأذن ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه ، قال : فجئت فقلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأذن لك ويبشّرك بالجنّة على بلوى أو بلاء يصيبك ، فدخل وهو يقول : الله المستعان ، فلم يجد في القفّ مجلساً ، فجلس وجاههم من شقّ البئر ، وكشف عن ساقيه ودلاّهما في البئر كما صنع أبو بكر وعمر. قال سعيد بن المسيب : فأوّلتها قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.

قال الأميني : نحن لا نناقش في إسناد هذه الرواية للاضطراب الواقع فيه ، فإنّها تروى عن أبي موسى الأشعري كما سمعت ، وعن زيد بن أرقم وهو صاحب القصّة فيما أخرجه البيهقي في الدلائل (١) ، وعن بلال وهو البوّاب في القضيّة فيما أخرجه أبو داود ، وعن نافع بن عبد الحرث وهو البوّاب ، كما في إسناد أحمد في المسند (٢) (٣ / ٤٠٨).

ولا نضعّفه لمكان البصريّين الذين لهم قدم وقدم في اختلاق الحديث ووضع الطامّات على الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نؤاخذ من رجاله سليمان بن بلال بقول ابن أبي شيبة : إنّه ليس ممّن يعتمد على حديثه (٣) ، ولا نزيّفها لمكان ابن أبي نمر ، لقول النسائي (٤) وابن الجارود : إنّه ليس بالقويّ ، وقول ابن حبّان (٥) : ربّما أخطأ ، وقول ابن

__________________

(١) دلائل النبوّة : ٦ / ٣٨٨.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٤١٣ ح ١٤٩٤٩.

(٣) تهذيب التهذيب : ٤ / ١٧٩ [٤ / ١٥٥]. (المؤلف)

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٣٣ رقم ٣٠٤.

(٥) الثقات : ٤ / ٣٦٠.


الجارود أيضاً : كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عنه. وقول الساجي : كان يرى القدر (١) ، ولا نغمز فيها بمكان سعيد بن المسيّب الذي مرّ الإيعاز إلى ترجمته في الجزء الثامن (ص ٩) ، ولا نتكلّم في منتهى السلسلة أبي موسى الأشعري الصحابي ، إذ الصحابة كلّهم عدول عند القوم ، وإن لا يسعنا الإخبات إلى مثل هذا الرأي البهرج المحدث ، والصفح عن قول الإمام الطاهر أمير المؤمنين عليه‌السلام الوارد في أبي موسى الأشعري وصاحبه عمرو بن العاص : «ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حَكَمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، وأماتا ما أحيا القرآن ، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشُد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين» (٢) ، فأيّ جرح أعظم من هذا؟ وأيّ عدل يتصوّر في الرجل عندئذ؟

ولا نقول أيضاً بأنّ عناية القوم بتخصيص الخلفاء الثلاثة من بين الصحابة بالبشارة بالجنّة ، وإكثارهم وضع الرواية واختلاق القصص فيها تنبئنا عن أسرار مستسرّة ونحن لا نميط الستار عنها ، و (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٣).

وإنّما نقول : إنّ هذه البشارة الصادرة من الصادع الكريم إن سُلّمت ، وكان المبشّر مصدّقاً عند سامعيها ، فلما ذا كان عمر يسأل حذيفة اليماني ـ صاحب السرّ المكنون في تمييز المنافقين ـ عن نفسه ، وينشده الله أمن القوم هو؟ وهل ذُكر في المنافقين؟ وهل عدّه رسول الله منهم (٤). والسائل جدّ عليم بأنّ المنافقين في الدرك

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٤ / ٣٣٨ [٤ / ٢٩٦]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثاني : ص ١٣١. (المؤلف)

(٣) المائدة : ١٠١.

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٩٧ [١٢ / ٢٧٦ رقم ١٢٣١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٥٣] ، التمهيد للباقلاّني : ص ١٩٦ ، بهجة النفوس لابن أبي جمرة : ٤ / ٤٨ [ح ١٨٨] ، إحياء العلوم : ١ / ١٢٩ [١ / ١١٤] ، كنز العمّال : ٧ / ٢٤ [١٣ / ٣٤٤ ح ٣٦٩٦٢]. (المؤلف)


الأسفل من النار ، فهل يمكننا الجمع بين هذا السؤال المتسالم عليه وبين تلك البشارة؟ لاها الله.

وهل يتأتّى الجمع بين تلك البشارة وبين ما صحّ عن عثمان من حديث (١) اعتذاره عن خروجه إلى مكة أيّام حوصر بقوله : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «يُلحد بمكة رجل من قريش ، عليه نصف عذاب هذه الأمّة من الإنس والجنّ» فلن أكون ذلك الرجل؟ فهل هذا مقال من وثق بإيمانه بالله وبرسوله واطمأنّ به وعمل صالحاً ثم اهتدى ، فضلاً عمّن بُشّر بالجنّة بلسان النبيّ الصادق الأمين؟

٣٠ ـ أخرج البيهقي في الدلائل (٢) ، من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن إبراهيم بن محمد بن حاطب ، عن عبد الرحمن بن بجيد (٣) ، عن زيد بن أرقم ، قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : انطلق حتى تأتي أبا بكر فتجده في داره جالساً محتبياً ، فقل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر بالجنّة ، ثم انطلق حتى تأتي الثنيّة فتلقى عمر راكباً على حمار تلوح صلعته ، فقل : إنّ رسول الله يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر بالجنّة ، ثم انصرف حتى تأتي عثمان فتجده في السوق يبيع ويبتاع ، فقل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر بالجنّة بعد بلاء شديد ، فذكر الحديث في ذهابه إليهم فوجد كلاّ منهم كما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلاّ منهم يقول : أين رسول الله؟ فيقول : في مكان كذا وكذا ، فيذهب إليه. وإنّ عثمان لمّا رجع قال : يا رسول الله وأيّ بلاء يصيبني؟ والذي بعثك بالحقّ ما تغيّبت ـ وفي لفظ : ما تغنّيت ـ ولا تمنّيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك ، فأيّ بلاء يصيبني؟ فقال : هو ذاك.

قال الأميني : إنّ الباحث في غنى عن عرفان رجال إسناد الرواية بعد وقوفه

__________________

(١) راجع : ص ١٥٣ من الجزء التاسع. (المؤلف)

(٢) دلائل النبوّة : ٦ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٣) بالباء والجيم الموحّدتين والدال المهملة ، كما في التقريب [١ / ٤٧٣]. (المؤلف)


على ما أسلفناه في هذا الجزء (ص ٩٨) في ترجمة عبد الأعلى بن أبي المساور ، من أنّه كذّاب ، خبيث ، دجّال ، وضّاع ، روى عن الأئمّة آلاف أحاديث ما حدّثوا بشيء منها ، ولا يعرف أحد أكثر وضعاً منه ، وهو ممّن يُضرب المثل بكذبه.

فمثل هذا الإسناد يوصف في مصطلح الفنّ بالوضع لا بالضعف ، كما وصفه البيهقي بذلك. راجع فتح الباري (١) (٧ / ٢٩).

٣١ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٢) (٤ / ٣١٢) من طريق أبي عمرو الزاهد (٣) ، عن عليّ بن محمد الصائغ ، عن أبيه أنّه قال : رأيت الحسين وقد وفد على معاوية زائراً ، فأتاه في يوم جمعة وهو قائم على المنبر خطيباً ، فقال له رجل من القوم : يا أمير المؤمنين ائذن للحسين يصعد المنبر ، فقال له معاوية : ويلك دعني أفتخر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله أليس أنا ابن بطحاء مكة ، فقال : إي والذي بعث جدّي بالحقّ بشيراً ، ثم قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله أليس أنا خال المؤمنين؟ فقال إي والذي بعث جدّي نبيّا ، ثم قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله أليس أنا كاتب الوحي؟ فقال : إي والذي بعث جدّي نذيراً ، ثم نزل معاوية وصعد الحسين بن عليّ فحمد الله بمحامد لم يحمده الأوّلون والآخرون بمثلها ، ثم قال : حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن جبرئيل ، عن الله تعالى ، أنّ تحت قائمة كرسيّ العرش ورقة آسٍ خضراء مكتوب عليها : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، يا شيعة آل محمد لا يأتي أحدكم يوم القيامة يقول : لا إله إلاّ الله إلاّ أدخله الله الجنّة ، فقال له معاوية : سألتك بالله يا أبا عبد الله من شيعة آل محمد؟ فقال : الذين لا يشتمون الشيخين أبا بكر وعمر ،

__________________

(١) فتح الباري : ٧ / ٣٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٤ / ١١٣ رقم ١٥٦٦ وما بين المعقوفين منه ، ومن تهذيب ابن بدران. وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٤ / ٣١٥.

(٣) كذا في تهذيب تاريخ دمشق ، وفي تاريخ مدينة دمشق ، وتاريخ بغداد : ٢ / ٣٥٧ ، ولسان الميزان : ٥ / ٣٠٣ رقم ٧٧٠٧ : أبو عمر الزاهد.


ولا يشتمون عثمان ، ولا يشتمون أبي ، ولا يشتمونك يا معاوية.

قال الأميني : قال ابن عساكر : هذا حديث منكر ، ولا أرى إسناده متّصلا إلى الحسين. ونحن نقول : إنّه كذب صراح وإسناده متفكّك العرى واهي الحلقات. أمّا أبو عمرو الزاهد فهو الكذّاب صاحب الطامّات والبلايا ، الذي ألّف جزءاً في مناقب معاوية من الموضوعات ، كما أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٢٦١) توفّي سنة (٣٤٥).

وأمّا شيخه عليّ بن الصائغ فهو ضعيف جدّا وصفه بهذا الخطيب في تاريخه (٣ / ٢٢٢) ، وضعّفه الدارقطني ، كما في لسان الميزان (١) (٢ / ٤٨٩).

وأمّا والده فهو مجهول لا يُذكر بشيء ، وهو في طبقة من يروي عن مالك المتوفّى سنة (١٧٩).

فأين وأنّى رأى سيّدنا الحسين عليه‌السلام المستشهد سنة (٦١)؟ وكيف أدرك معاوية الذي هلك سنة (٦٠)؟ وهل كانت الرؤية والإدراك طيف خيال أو يقظة؟

ثم لو صدّقنا الأحلام فإنّ مقتضى هذه الأسطورة أن لا يكون معاوية من شيعة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين يدخلهم الله الجنّة ، لأنّه كان يقنت بلعن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وولديه الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة ، إلى جماعة من الصلحاء الأبرار ، وحسبه ذلك مخزاة ، وهذا الأمر فيه وفي الطغام من بني أبيه المقتصّين أثره وأتباعه المتّبعين له على ذلك شرع سواسية.

ومن مقتضياتها أيضاً خروج مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أولئك الزمرة المرحومة ، لأنّه كان يقنت باللعن على معاوية وحثالة من زبانيته (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ).

ولازم هذا التلفيق إخراج من نال من عثمان ، فضلاً عمّن أجهز عليه وقتله ،

__________________

(١) لسان الميزان : ٢ / ٦٠٣ رقم ٣٤٧٨.


عن شيعة آل محمد وهم أعيان الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار العدول كلّهم عند القوم فضلاً عن التشيّع فحسب ، وهل يجسر على هذا التحامل أحد؟ فقصارى القول أنّ أصدق كلمة حول هذه المهزأة أنّه حديث زور لا مقيل له من الصحّة ولا يسوغ الاعتماد عليه.

٣٢ ـ روى الخطيب (١) ، عن أحمد بن محمد بن أبي بكر الأشناني ، عن محمد بن يعقوب الأصمّ ، عن السريّ بن يحيى ، عن شعيب (٢) بن إبراهيم ، عن سيف بن عمر ، عن وائل (٣) بن داود ، عن يزيد (٤) البهي ، عن الزبير مرفوعاً : اللهمّ إنّك باركت لأُمّتي في صحابتي فلا تسلبهم البركة ، وبارك لأصحابي في أبي بكر فلا تسلبه البركة ، وأجمعهم عليه ، ولا تنشر أمره ، اللهمّ وأعزّ عمر بن الخطّاب ، وصبّر عثمان بن عفّان ، ووفّق عليّا ، واغفر لطلحة ، وثبّت الزبير ، وسلّم سعداً ، ووقّر عبد الرحمن ، وألحق بي السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان.

قال الأميني : عقّبه الخطيب بقوله : موضوع فيه ضعفاء أشدّهم سيف (٥) ، وأوقفناك على ترجمة السري ، وشعيب ، وسيف ، من رجال الإسناد في الجزء الثامن (ص ٨٤ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ٣٣٣) ويكفي كلّ واحد منهم في اعتلال السند فضلاً عن أن يجتمعوا.

٣٣ ـ أخرج الخطيب قال : أخبرنا المبارك بن عبد الجبّار ، أنبأنا أبو طالب العشاري ، حدّثنا أبو الحسن محمد بن عبد العزيز البردعي ، حدّثنا أبو الحبيش طاهر

__________________

(١) تاريخ بغداد : ٥ / ٤٧٠ رقم ٣٠١٤.

(٢) في تاريخ بغداد : سعيد.

(٣) في تاريخ بغداد : دليل.

(٤) كذا والصحيح : عبد الله. هو مولى مصعب بن الزبير. (المؤلف)

(٥) أنظر : اللآلئ المصنوعة : ١ / ٤٢٩.


ابن الحسين الفقيه ، حدّثنا صدقة بن هبيرة بن عليّ الموصلي ، حدّثنا عمر بن الليث ، حدّثنا محمد بن جعفر ، حدّثنا عليّ بن محمد الطنافسي ، حدّثنا موسى بن خلف ، حدّثنا حمّاد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم بن أبي سعيد الخدري ، قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ هبط جبرئيل ، فقال : السلام عليك يا محمد إنّ الله قد أتحفك بهذه السفرجلة ، فسبّحت السفرجلة في كفّه بأصناف اللغات فقلنا : تسبّح هذه السفرجلة في كفّك؟! فقال : والذي بعثني بالحقّ ، لقد خلق الله تعالى في جنّة عدن ألف ألف قصر ، في كلّ قصر ألف ألف مقصورة ، في كلّ مقصورة ألف ألف سرير ، على كلّ سرير حوراء ، تجري من تحت كلّ سرير أربعة أنهار ، على كلّ نهر ألف ألف شجرة ، في كلّ شجرة ألف ألف غصن ، في كلّ غصن ألف ألف سفرجلة ، تحت كلّ سفرجلة ألف ألف ورقة ، تحت كلّ ورقة ألف ألف ملك ، لكلّ ملك ألف ألف جناح ، تحت كل جناح ألف ألف رأس ، في كلّ رأس ألف ألف وجه ، كلّ وجه ألف ألف فم ، في كلّ فم ألف ألف لسان ، تسبّح الله بألف ألف لغة ، لا يشبه بعضها بعضاً ، وثواب ذلك التسبيح لمحبّي أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ.

قال السيوطي في اللآلئ (١) (١ / ٣٣٨) : موضوع ، صدقة يحدّث عن المجاهيل ، ومحمد بن جعفر ترك أحمد التحديث عنه ، وموسى متروك.

ونحن نقول : لعلّ رواية هذه السفسطة وأمثالها هي التي جعلت المؤتمن الساجي سيّئ الرأي في شيخ الخطيب المبارك بن عبد الجبّار ، فرماه بالكذب وصرّح بذلك ، كما في لسان الميزان (٢) (٥ / ١٠) وهي التي تعرّفك بقيّة رجال الإسناد ، والعاقل قطّ لا يثق بمن تكون هذه روايته ، وإليك البيان :

١ ـ أبو طالب العشاري محمد بن عليّ بن الفتح ، ذكر الذهبي له في الميزان

__________________

(١) اللآلئ المصنوعة : ١ / ٣٨٨.

(٢) لسان الميزان : ٥ / ١٤ رقم ٦٨١٨.


أحاديث حكم بوضعها ، فقال : قبّح الله من وضعه ، والعتب إنّما هو على محدّثي بغداد كيف تركوا العشاري يروي هذه الأباطيل ، وقال بعد ذكر توثيق الخطيب إيّاه : ليس بحجّة. راجع ميزان الاعتدال (١) (٢ / ١٠٧).

٢ ـ أبو الحسن البردعي ، قال الخطيب في تاريخه (٢ / ٣٥٣) : كتبت عنه وكان فيه نظر ، مع أنّه لم يخرج عنه من الحديث كبير شيء.

٣ ـ أبو الحبيش الفقيه ، مجهول لا يعرف.

٤ ـ صدقة ، مجهول لا يُذكر بخير ، ولا يُعرف بجميل.

٥ ـ عمر بن الليث ، مجهول منكر.

٦ ـ محمد بن جعفر هو المدائني ، قال أحمد : سمعت منه ولكن لم أروِ عنه قطّ ولا أحدّث عنه بشيء أبداً ، وذكره العقيلي في الضعفاء (٢) ، وحكى قول أحمد ، وقال ابن قانع : ضعيف ، وقال ابن عبد البرّ : ليس هو بالقويّ عندهم ، وقال أبو حاتم (٣) : يُكتب حديثه ولا يحتجّ به (٤).

٧ ـ موسى بن خلف العمّي البصري. قال الآجري : ليس بذاك القويّ ، وعن ابن معين : ضعيف. وقال ابن حبّان (٥) : أكثر من المناكير. وقال الدارقطني : ليس بالقويّ يعتبر به (٦).

٨ ـ إبراهيم بن أبي سعيد الخدري ، لم يُذكر لأبي سعيد ابنٌ بهذا الاسم ،

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٣ / ٦٥٦ رقم ٧٩٨٩.

(٢) الضعفاء الكبير : ٤ / ٤٤ رقم ١٥٩٣.

(٣) الجرح والتعديل : ٧ / ٢٢٢ رقم ١٢٢٤.

(٤) تهذيب التهذيب : ٩ / ٩٩ [٩ / ٨٦]. (المؤلف)

(٥) كتاب المجروحين : ٢ / ٢٤٠.

(٦) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٣٤٢ [١٠ / ٣٠٤]. (المؤلف)


وأحسب أنّ الصحيح ـ إبراهيم النخعي ، عن أبي سعيد الخدري ـ والله العالم.

٣٤ ـ أخرج النحّاس في كتاب معاني القرآن ، قال : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عليّ بن سهل ، قال : حدّثنا محمد بن حميد ، قال : حدّثنا يحيى بن الضريس ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال :

إنّ أعرابيّا قام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فقال : إنّي رجل مسلم ، فأخبرني عن هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الآية. (١) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنت منهم ببعيد ، ولا هم ببعيد منك ، هم هؤلاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، فأعلم قومك أنّ هذه الآية نزلت فيهم. ذكره القرطبي في تفسيره (٢) (١٠ / ٣٩٨) : وقد روينا جميع ذلك بالإجازة ، والحمد لله.

قال الأميني : ألا تعجب من رجل التفسير العظيم ، يروي بالإجازة مثل هذا الكذب الصراح بالإسناد الواهي ، ويحمد ربّه على تحريفه الكلم عن مواضعه وتقوّله على ربّه وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أعوذ بالله من الرواية بلا دراية.

في الإسناد : أحمد بن علي بن سهل المروزي ، ترجمه الخطيب البغدادي في تاريخه (٤ / ٣٠٣). ولم يذكر كلمة في الثناء عليه كأنّه لا يعرف منه إلاّ اسمه ، وذكره الذهبي في الميزان (٣) ، وذكر له حديثاً ، فقال : أورده ابن حزم وقال : أحمد مجهول (٤).

__________________

(١) الكهف : ٣٠ ، ٣١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ١٠ / ٢٥٩.

(٣) ميزان الاعتدال : : ١ / ١٢٠ رقم ٤٧٠.

(٤) لسان الميزان : ١ / ٢٢٢ [١ / ٢٣٩ رقم ٦٩٣]. (المؤلف)


وفيه محمد بن حميد أبو عبد الله الرازي التميمي ، قال يعقوب بن شيبة : كثير المناكير ، وقال البخاري (١) : في حديثه نظر ، وقال النسائي : ليس بثقة. وقال الجوزجاني : رديء المذهب غير ثقة. وقال فضلك الرازي : عندي عن ابن حميد خمسون ألفاً لا أحدّث عنه بحرف.

وقال صالح الأسدي : كان كلّما بلغه عن سفيان يحيله على مهران ، وما بلغه عن منصور يحيله على عمرو بن أبي قيس ، ثم قال : كلّ شيء كان يحدّثنا ابن حميد كنّا نتّهمه فيه. وقال في موضع أخر : كانت أحاديثه تزيد ، وما رأيت أحداً أجرأ على الله منه ، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلّب بعضه (٢) على بعض. وقال أيضاً : ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين : سليمان الشاذكوني ، ومحمد بن حميد كان يحفظ حديثه كلّه.

وقال محمد بن عيسى الدامغاني : لمّا مات هارون بن المغيرة سألت محمد بن حميد أن يخرج إليّ جميع ما سمع ، فأخرج إليّ جزازات فأحصيت جميع ما فيه : ثلاثمائة ونيفاً وستّين حديثاً. قال جعفر : وأخرج ابن حميد ، عن هارون بعد ، بضعة عشر ألف حديث. وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة : سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومى بإصبعه إلى فمه ، فقلت له : كان يكذب؟ فقال برأسه : نعم. فقلت له : كان قد شاخ لعلّه ، كان يعمل عليه ويدلّس عليه : فقال : لا يا بنيّ كان يتعمّد.

وقال أبو نعيم بن عدي : سمعت أبا حاتم الرازي في منزله وعنده ابن خراش وجماعة من مشايخ أهل الريّ وحفّاظهم ، فذكروا ابن حميد فأجمعوا على أنّه ضعيف في الحديث جدّا ، وأنّه يحدّث بما لم يسمعه ، وأنّه يأخذ أحاديث أهل البصرة والكوفة فيحدّث بها عن الرازيّين. وقال أبو العباس بن سعيد : سمعت داود بن يحيى يقول :

__________________

(١) التاريخ الكبير : ١ / ٦٩ رقم ١٦٧.

(٢) كذا في المصدر.


سمعت ابن خراش يقول : حدّثنا ابن حميد وكان والله يكذب.

وقال سعيد بن عمرو البرذعي : قلت لأبي حاتم : أصحّ ما صحّ عندك في محمد ابن حميد الرازي أيّ شيء هو؟ فقال لي : كان بلغني عن شيخ من الخلقانيّين أنّ عنده كتاباً عن أبي زهير ، فأتيته فنظرت فيه ، فإذا الكتاب ليس من حديث أبي زهير وهي من حديث عليّ بن مجاهد ، فأبى أن يرجع عنه ، فقمت وقلت لصاحبي : هذا كذّاب لا يحُسن أن يكذب. قال : ثم أتيت محمد بن حميد بعد ذاك ، فأخرج إليّ ذلك الجزء بعينه ، فقلت لمحمد بن حميد : ممّن سمعت هذا؟ قال : من عليّ بن مجاهد ، فقرأه وقال فيه : حدّثنا علي بن مجاهد ، فتحيّرت فأتيت الشابّ الذي كان معي فأخذت بيده فصرنا إلى ذلك الشيخ ، فسألناه عن الكتاب الذي أخرجه إلينا ، فقال : قد استعاره منّي محمد ابن حميد. وقال أبو حاتم : فبهذا استدللت على أنّه كان يومئ إلى أنّه أمر مكشوف.

وقال [البيهقي : كان إمام الأئمة يعني] ابن خزيمة لا يروى عنه ، وقال النسائي : ليس بشيء ، قال الكناني : فقلت له : البتة؟ قال : نعم. قلت : ما أخرجت له شيئاً؟ قال : لا. وقال في موضع آخر : كذّاب وكذا قال ابن وارة ، وقال ابن حبّان (١) : ينفرد عن الثقات بالمقلوبات (٢).

فمجمل القول في الرجل أنّه كذّاب مكثر ، والذي أثنى عليه فقد خفي عليه أمره أو كان ذلك قبل ظهور ما ظهر منه من سوء حاله ، قال أبو العباس بن سعيد : سمعت داود بن يحيى يقول : حدّثنا عنه أبو حاتم قديماً ثم تركه بآخره. وقال أبو حاتم (٣) الرازي : سألني يحيى بن معين عن ابن حميد من قبل أن يظهر منه ما ظهر ، فقال : أيّ شيء ينقمون منه؟ فقلت : يكون في كتابه شيء فيقول : ليس هذا هكذا فيأخذ القلم

__________________

(١) كتاب المجروحين : ٢ / ٣٠٣.

(٢) تهذيب التهذيب : ٩ / ١٢٧ ـ ١٣١ [٩ / ١١١ ـ ١١٥ وما بين المعقوفتين منه]. (المؤلف)

(٣) الجرح والتعديل : ٧ / ٢٣٢ رقم ١٢٧٥.


فيغيّره ، فقال : بئس هذه الخصلة. إلخ. وقال أبو عليّ النيسابوري : قلت لابن خزيمة : لو حدّث الأستاذ عن محمد بن حميد فإنّ أحمد قد أحسن الثناء عليه ، فقال : إنّه لم يعرفه ، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلا.

٣٥ ـ أخرج ابن عساكر (١) ، من طريق عليّ بن محمد بن شجاع الربعي ، عن عبد الوهّاب الميداني الدمشقي ، عن محمد بن عبد الله بن ياسر ، عن محمد بن بكار ، عن محمد بن الوليد ، عن داود بن سليمان الشيباني ، عن حازم بن جبلة بن أبي نصرة ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر وعمر : والله إنّي لأحبّكما بحبّ الله إيّاكما ، وإنّ الملائكة لتحبّكما بحبّ الله لكما ، أحبّ الله من أحبّكما ، وصل الله من وصلكما ، قطع الله من قطعكما ، وأبغض الله من أبغضكما في دنياكما وآخرتكما (٢).

رجال الإسناد :

١ ـ عبد الوهّاب الميداني. قال الذهبي نقلاً عن الكتاني : كان فيه تساهل ، واتّهم في لقي أبي عليّ بن هارون الأنصاري ، ميزان الاعتدال (٣) (٢ / ١٦٠).

٢ ـ محمد بن عبد الله. في الميزان (٤) (٣ / ٨٥) : نكرة وحديثه ـ يعني هذا الحديث ـ منكر بمرّة.

٣ ـ محمد بن بكّار. نكرة لا يُعرف ، قال ابن حزم : إنّه مجهول ، وقال الذهبي : صحيح إنّه مجهول. راجع ميزان الاعتدال (٥) (٣ / ٣١).

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق : ٢٢ / ٣٣٩.

(٢) لسان الميزان : ٢ / ٤١٨ ، ٥ / ٢٢٩ [٢ / ٥١٣ رقم ٣٢٤٩ وفيه : عن خازم بن جبلة ، عن أبيه ، عن جدّه أبي بصرة ، ٥ / ٢٥٩ رقم ٧٥٩١ والسند فيه كما في المتن]. (المؤلف)

(٣) ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٧٩ رقم ٥٣١٤.

(٤) ميزان الاعتدال : ٣ / ٦٠٦ رقم ٧٧٩٨.

(٥) ميزان الاعتدال : ص ٤٩٢ رقم ٧٢٧٦.


٤ ـ محمد بن الوليد. أحسبه ابن أبان القلانسي ، كذّاب كان يضع الحديث ، ومن أباطيله ما مرّ في هذا الجزء في فضيلة أبي بكر.

٥ ـ داود بن سليمان. قال الذهبي : قال الأزدي : ضعيف جدّا. الميزان (١) (١ / ٣١٨).

٦ ـ خازم بن جبلة هو ووالده وجدّه مجاهيل لا يعرفون.

٣٦ ـ أخرج الأزدي ، عن محمد بن عمر الأنصاري ، عن كثير النواء ، عن زكريا مولى طلحة ، عن حسن بن المعتمر ، قال : سُئل عليّ عن أبي بكر وعمر فقال : إنّهما من الوفد السابقين إلى الله مع محمد ، ولقد سألهما موسى من ربّه فأعطاهما محمداً (٢).

قال الأميني : قال الذهبي في الميزان (٣) (٣ / ١١٣) : خبر منكر : ضعّفه الأزدي ، أقول : في الاسناد كثير النواء ، قال أبو حاتم (٤) : ضعيف الحديث ، بابه سعد (٥) بن طريف ، وقال الجوزجاني : زائغ. وقال النسائي (٦) : ضعيف. وقال في موضع آخر : فيه نظر. وقال ابن عدي (٧) : كان غالياً في التشيّع مفرطاً فيه. وعن محمد بن بشر العبدي : لم يمت كثير النواء حتى رجع عن التشيع (٨).

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٨ رقم ٢٦٠٩.

(٢) لسان الميزان : ٥ / ٣٢١ [٥ / ٣٦٣ رقم ٧٨٤٤]. (المؤلف)

(٣) ميزان الاعتدال : ٣ / ٦٧٠ رقم ٨٠٠٥.

(٤) الجرح والتعديل : ٧ / ١٥٩ رقم ٨٩٥.

(٥) سعد بن طريف مفرط في التشيّع ، ضعيف الحديث جدّا ، قال ابن حبّان [في كتاب المجروحين : ١ / ٣٥٧] : كان يضع الحديث. راجع تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٧٣ [٣ / ٤١١]. (المؤلف)

(٦) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٠٦ رقم ٥٣٢.

(٧) الكامل في ضعفاء الرجال : ٦ / ٦٦ رقم ١٦٠٢.

(٨) ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٥٢ [٣ / ٤٠٢ رقم ٦٩٣٠] ، لسان الميزان : ٥ / ٣٢١ [٥ / ٣٦٣ رقم ٧٨٤٤] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٤١١ [٨ / ٣٦٧]. (المؤلف)


وزكريا مولى طلحة وشيخه مجهولان لا يعرفان ، هذا ما في الإسناد من العلل وليس في رجاله ثقة ولا واحد ، ومتن الرواية أقوى شاهد على بطلانها.

٣٧ ـ أخرج أحمد في المسند (١) (١ / ١٩٣) بإسناده عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أبو بكر في الجنّة ، وعمر في الجنّة ، وعليّ في الجنّة ، وعثمان في الجنّة ، وطلحة في الجنّة ، والزبير في الجنّة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة ، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة ، وسعيد بن زيد في الجنّة ، وأبو عبيدة ابن الجرّاح في الجنّة.

وبهذا الإسناد أخرجه الترمذي في صحيحه (٢) (١٣ / ١٨٢ ، ١٨٣) وعن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن رسول الله نحوه. والبغوي في المصابيح (٣) (٢ / ٢٧٧)

وأخرج أبو داود في سننه (٤) (٢ / ٢٦٤) من طريق عبد الله بن ظالم المازني ، قال : سمعت سعيد بن زيد بن عمرو قال : لمّا قدم فلان الكوفة أقام فلان خطيباً ، فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال : ألا ترى إلى هذا الظالم؟ فأَشهدُ على التسعة أنّهم في الجنّة (فعدّهم) قلت : ومن العاشر؟ فتلكّأ هنيئة ثم قال : أنا.

وأخرج (٥) من طريق عبد الرحمن الأُخينس (٦) أنّه كان في المسجد ، فذكر رجل عليّا عليه‌السلام فقام سعيد بن زيد ، فقال:أشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي سمعته وهو يقول :

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣١٦ ح ١٦٧٨.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٦٠٥ ح ٣٧٤٧ و ٣٧٤٨.

(٣) مصابيح السنّة : ٤ / ١٧٩ ح ٤٧٨٦.

(٤) سنن أبي داود : ٤ / ٢١١ ح ٤٦٤٨.

(٥) سنن أبي داود : ٤ / ٢١١ ح ٤٦٤٩.

(٦) في سنن أبي داود ، وميزان الاعتدال : ٢ / ٥٤٦ رقم ٤٨٠٩ ، وتهذيب التهذيب : ٦ / ١٢١ : عبد الرحمن بن الأخنس.


عشرة في الجنّة : النبيّ في الجنّة ، وأبو بكر في الجنّة ، وعمر في الجنّة ، وعثمان فى الجنّة ، وعليّ في الجنّة ، وطلحة في الجنّة ، والزبير بن العوّام في الجنّة ، وسعد بن مالك في الجنّة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة ، ولو شئت لسمّيت العاشر ، قال : فقالوا : من هو : فسكت ، قال : فقالوا : من هو؟ فقال : هو سعيد بن زيد. وبهذا الإسناد أخرجه الترمذي في جامعه (١) (١٣ / ١٨٣ ، ١٨٦) ، وابن الديبع في تيسير الوصول (٢) (٣ / ٢٦٠) ، وذكره بالطريقين المحبّ الطبري في الرياض النضرة (٣) (١ / ٢٠).

قال الأميني : نحن لا نرى في هذه الرواية أهميّة كبرى تدعم للعشرة المبشّرة منقبة رابية تخصّ بهم دون المؤمنين ، بعد ما جاء من البشائر الصادقة في الكتاب العزيز لكلّ من آمن بالله وعمل صالحاً ، وأنّه في الجنّة.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٤).

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٥).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٦).

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٧).

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) (٨).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٠٥ ح ٣٧٤٧ ، ص ٦٠٩ ح ٣٧٥٧.

(٢) تيسير الوصول : ٣ / ٣٠٣.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ٣٠.

(٤) البقرة : ٢٥.

(٥) التوبة : ١١١.

(٦) هود : ٢٣.

(٧) الحجّ : ١٤.

(٨) السجدة : ١٩.


(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (١).

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٢).

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣).

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٤).

وما أكثر من يدخل الجنّة من أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد صحّ عن الصادع الكريم : «أنّ عليّا وشيعته هم في الجنّة» ، وبشّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عليّا عليه‌السلام (٥) وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «أتاني جبريل فقال : بشّر أُمّتك أنّه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة ، قلت : يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم وإن شرب الخمر» (٦).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابشروا وبشّروا من وراءكم : أنّه من شهد أن لا إله إلاّ الله صادقاً بها دخل الجنّة» (٧).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، لتدخلنّ الجنّة كلّكم إلاّ من أبى أو شرد على الله شراد البعير». قيل : يا رسول الله ومن أبى أن يدخل الجنّة؟ فقال : «من

__________________

(١) النساء : ١٢٤.

(٢) الفتح : ١٧.

(٣) الطلاق : ١١.

(٤) التوبة : ٧٢.

(٥) الغدير : ٣ / ٧٨ ، ٧٩. (المؤلف)

(٦) أخرجه : أحمد [في مسنده : ٦ / ٢٠٩ ح ٢٠٩٥٥ و ٢٠٣ ح ٢٠٩٢٣] ، والترمذي ، [في سننه : ٥ / ٢٧ ح ٢٦٤٤] ، والنسائي [في عمل اليوم والليلة : ص ٣١٩ ح ١١٢٨] ، وابن حبّان [في الإحسان في تقريب صحيح ابن حيّان : ١ / ٤٤٦ ح ٢١٣] ، عن أبي ذر. (المؤلف)

(٧) أخرجه أحمد [٥ / ٥٤٨ ح ١٩١٠٠] والطبراني من طريق أبي موسى الأشعري. (المؤلف)


أطاعني دخل الجنّة ومن عصاني دخل النار» (٨).

وصحّ عن جابر أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّي لأرجو أن يكون من تبعني من أُمّتي ربع أهل الجنّة» قال : فكبّرنا ثم قال : «أرجو أن يكونوا ثلث الناس». قال : فكبّرنا ثم قال : : «أرجو أن يكونوا الشطر» (٩).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّي وعدني أن يُدخل الجنّة من أُمّتي سبعين ألفاً بغير حساب ، ثم يشفع كلّ ألف لسبعين ألفاً» (١٠) إلى صحاح كثيرة لدة هذه.

فهؤلاءالعشرة المبشّرة إن كانوا مؤمنين حقّا آخذين بحجزة الكتاب والسنّة فهم من آحاد أهل الجنّة لا محالة كبقيّة من أسلم وجهه لله وهو محسن.

وهنالك أُناس من الصحابة غير هؤلاء العشرة خصّوا بالبشارة بالجنّة وبشّروا بلسان النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم عمّار بن ياسر ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عليه‌السلام قوله : «بشّره بالجنّة حُرّمت النار على عمّار». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دم عمّار ولحمه حرام على النار تأكله أو تمسّه» (١١).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «ابشروا آل ياسر موعدكم الجنّة» وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الجنّة تشتاق إلى أربعة : علي بن أبي طالب ، وعمّار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والمقداد». وفي رواية : «اشتاقت الجنّة إلى ثلاثة إلى عليّ ، وعمّار ، وبلال».

__________________

(٨) أخرجه الطبراني [في المعجم الأوسط : ١ / ٤٤٩ ح ٨١٢] ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد : ١٠ / ٧٠. (المؤلف)

(٩) أخرجه أحمد [في مسنده : ٤ / ٣٠٨ ح ١٤٣١٤] والبزّار والطبراني [في المعجم الكبير : ١٠ / ٥ ح ٩٧٦٥] ورجال البزّار رجال الصحيح وكذلك أحد إسنادي أحمد. مجمع الزوائد : ١ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣. (المؤلف)

(١٠) راجع مجمع الزوائد : ١٠ / ٤٠٥ ـ ٤١١. (المؤلف)

(١١) المستطرف للأبشيهي : ١ / ١٣٧ ، تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ٦٢٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٨ / ٢١٥ كنز العمّال : ١١ / ٧٢١ ح ٣٣٥٢١ و ١٢ / ٥٣٩ ح ٣٧٤١٢.


الغدير (ج ٩) (١).

وجاء في زيد بن صوحان عدّة أحاديث في أنّه من أهل الجنّة. الغدير (٩ / ٤١) وصحّ من طريق مسلم في عبد الله بن سلام أنّه من أهل الجنّة.

صحيح مسلم (٢) (٧ / ١٦٠).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «كأنّي بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس ، وأنّ عليه لأباريق مثل عدد نجوم السماء ، وأنّي وأنت ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة ، وعقيلاً ، وجعفراً ، في الجنّة إخواناً على سُرر متقابلين ، أنت معي وشيعتك في الجنّة» (٣). مجمع الزوائد (٩ / ١٧٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «أنا أوّل أربعة يدخلون الجنة : أنا ، وأنت ، والحسن ، والحسين وذرارينا خلف ظهورنا وأزواجنا خلف ذرارينا ، وشيعتنا عن أيماننا وعن شمائلنا» (٤). (٩ / ١٧٤).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» (٥). متّفق على صحّته.

وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين جدّهما في الجنّة ، وأبوهما في الجنّة ، وأمّهما في الجنّة ، وعمّهما في الجنّة ، وعمّتهما في الجنّة ، وخالاتهما في الجنّة ، وهما في الجنّة ، ومن أحبّهما في الجنّة». أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط (٦).

__________________

(١) راجع الجزء التاسع : ص ٢٠ و ٢٦ و ٢٨.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٨٣ ح ١٤٧ و ١٤٨ كتاب فضائل الصحابة.

(٣) المعجم الاوسط للطبراني : ٨ / ٣٣٠ ح ٧٦٧١.

(٤) أورده الطبراني في المعجم الكبير : ٣ / ٤١ ح ٢٦٢٤.

(٥) الصواعق المحرقة : ١٩١.

(٦) المعجم الكبير : ٣ / ٣٥ ـ ٤٠ ح ٢٥٩٨ ـ ٢٦١٨ ، وص ٦٦ ح ٢٦٨١ ، المعجم الأوسط : ١ / ٢٣٨ ح ٣٦٨.


وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ جعفر بن أبي طالب في الجنّة له جناحان يطير بهما حيث شاء» (١).

مجمع الزوائد (٩ / ٢٧٢).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرو بن ثابت الأصيرم : «إنّه لمن أهل الجنّة».

المجمع (٩ / ٣٦٣).

وروي عنه من قوله لعبد الله بن مسعود : «أبشر بالجنّة». أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سابق العرب إلى الجنّة ، وصهيب سابق الروم إلى الجنّة ، وبلال سابق الحبشة إلى الجنّة ، وسلمان سابق الفرس إلى الجنّة». أخرجه الطبراني (٣) ، وحسّنه الهيثمي (٤).

وبشّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن الجموح أنّه يمشي برجليه صحيحة في الجنّة ، وكانت رجله عرجاء. أخرجه أحمد (٥) ورجاله ثقات.

وبشّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابت بن قيس بأنّه يعيش حميداً ، ويقتل شهيداً ، ويدخله الله الجنّة.

المجمع (٩ / ٣٢٢).

فما هذا المكاء والتصدية ، والتصعيد والتصويب حول رواية العشرة المبشّرة ،

__________________

(١) المعجم الأوسط : ٧ / ٤٧٣ ح ٦٩٣٢.

(٢) المعجم الكبير : ١٠ / ١٦٦ ح ١٠٣٤١.

(٣) المعجم الكبير : ٨ / ١١١ ح ٧٥٢٦.

(٤) مجمع الزوائد : ٩ / ٣٠٥.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٤٠٦ ح ٢٢٠٤٧.


وجعلها عنوان كلّ كرامة لأُولئك الرجال ، واختصاصها بالعناية وإلحاقها بأسماء العشرة عند ذكرهم ، وقصر البشارة بالجنّة على ذلك الرهط فحسب ، والصفح عمّا ثبت في غيرهم من (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١)؟! فلما ذا حصر التبشير بالعشرة؟ وعدّ القول به من الاعتقاد اللازم كما ذكره أحمد ـ إمام الحنابلة ـ في كتاب له إلى مسدّد ابن مسرهد ، قال : وأن نشهد للعشرة أنّهم في الجنّة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن ، وأبو عبيدة ، فمن شهد له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة شهدنا له بالجنّة ، ولا تتأتّى أن تقول : فلان في الجنّة وفلان في النار إلاّ العشرة الذين شهد لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة. جلاء العينين (ص ١١٨) لما ذا هذه كلّها؟ لعلّك تدري لما ذا ، ونحن لا يفوتنا عرفان ذلك.

ولنا حقّ النظر في الرواية من ناحيتي الإسناد والمتن.

أمّا الإسناد فإنّه كما ترى ينتهي إلى عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد ولا يرويها غيرهما ، وطريق عبد الرحمن ينحصر بعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف تارة ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرى ، وهذا إسناد باطل لا يتمّ نظراً إلى [سنة] وفاة حميد بن عبد الرحمن ، فإنّه لم يكن صحابيّا وإنّما هو تابعيّ لم يدرك عبد الرحمن بن عوف ، لأنّه توفيّ سنة (١٠٥) (٢) عن (٧٣) عاماً ، فهو وليد سنة (٣٢) عام وفاة عبد الرحمن بن عوف أو بعده بسنة ، ولذلك يرى ابن حجر رواية حميد عن عمر وعثمان منقطعة قطعاً (٣) ، وعثمان قد توفّي بعد عبد الرحمن بن عوف. فالإسناد هذا لا يصحّ.

__________________

(١) يونس : ٦٣ ، ٦٤.

(٢) كما اختاره أحمد ، والفلاّس ، والحربي ، وابن أبي عاصم ، وابن خيّاط [في الطبقات : ص ٤٢٢ رقم ٢٠٧٥] ، وابن سفيان ، وابن معين. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٦ [٣ / ٤٠]. (المؤلف)


فيبقى طريق الرواية قصراً على سعيد بن زيد الذي عدّ نفسه من العشرة المبشّرة ، وقد رواها في الكوفة أيّام معاوية كما مرّ النصّ على ذلك في صدر الحديث ، ولم تُسمع هي منه إلى ذلك الدور المفعم بالهنابث ولا رويت عنه قبل ذلك ، فهلاّ مسائل هذا الصحابيّ عن سرّ إرجاء روايته هذه إلى عصر معاوية ، وعدم ذكره إيّاها في تلكم السنين المتطاولة عهد الخلفاء الراشدين ، وكانوا هم وبقيّة الصحابة في أشدّ الحاجة إلى مثل هذه الرواية لتدعيم الحجّة ، وحقن الدماء ، وحفظ الحرمات في تلكم الأيّام الخالية المظلمة بالشقاق والخلاف ، فكأنّها أوحيت إلى سعيد بن زيد فحسب يوم تسنّم معاوية عرش الملك العضوض.

وفي ظنّي الأكبر أنّ سعيد بن زيد لمّا كان لا يتحمّل من مناوئي عليّ أمير ١٠ / ١٢٣ المؤمنين عليه‌السلام الوقيعة فيه والتحامل عليه ، ويجابه بذلك من كان ولاّه معاوية على الكوفة ، وكان قد تقاعس عن بيعة يزيد عندما استخلفه أبوه ، وأجاب مروان في ذلك بكلمة قارصة (١) أخذته الخيفة على نفسه من بوادر معاوية فاتّخذ باختلاقه هذه الرواية ترساً يقيه عن الاتّهام بحبّ عليّ عليه‌السلام ، وكان المتّهم بتلك النزعة يوم ذاك يعاقب بألوان العذاب ، ويسجن ويُنكّل به ويُقتّل تقتيلا ، فأرضى خليفة الوقت بإتحاف الجنّة لمخالفي علي عليه‌السلام والمتقاعسين عن بيعته والخارجين عليه ، وجعل رؤساءهم في صفّ واحد لا يشاركهم غيرهم ، كأنّ الجنّة خلقت لهم فحسب ، ولم يذكر معهم أحداً من موالي عليّ وشيعته ، وفيهم من فيهم من سادات أهل الجنّة : كسلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، والمقداد ، فنال بذلك رضى الخليفة ، وكان يُعطي لكلّ باطل مزيّف قناطير مقنطرة من الذهب والفضّة.

ولولا الصارم المسلول في البين وكان هو الحاكم الفصل يوم ذاك ، لما كان يخفى على أيّ سعيد وشقي أنّ متن الرواية يأبى عن قبولها ، وأنّ عليّا قطّ لا يجتمع

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٦ / ١٢٨ [٢١ / ٨٨ رقم ٢٤٧٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٩٨]. (المؤلف)


في الجنّة مع من خالفه وناوأه وآذاه والضدّان لا يجتمعان ، وسيرة عليٍّ عليه‌السلام غير سيرة أولئك الرهط ، وقد تنازل عن الخلافة يوم الشورى حذراً عن اتّباع سيرة الشيخين لمّا اشترط عليه في البيعة وأنكره بملء فمه ، وبعدهما وقع ما وقع بينه وبين عثمان ، وما ساءه قتله ولم يشهد بأنّه قتل مظلوماً ، وصحّت عنه خطبته الشقشقيّة ، ونادى في الملأ : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال» (١). وبعده حاربه الناكثان وقاتلاه وقُتِلا دون مناوأته ، فكيف تجمعهم وعليّا الجنّة؟ أنا لا أدري (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ* كَلاَّ) (٢).

نظرة في المتن :

ولنا في متن الرواية نظرات وتأمّلات تزحزحنا عن الإخبات إلى صحّتها.

هل عبد الرحمن بن عوف المعزوّ إليه الرواية وهو أحد العشرة المبشّرة ، كان يعتقد بها ويصدّقها ، ومع ذلك سلّ سيفه على عليّ يوم الشورى قائلاً : بايع وإلاّ تُقتل. وقال لعليّ عليه‌السلام بعد ما تمخّضت البلاد على عثمان : إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي ، إنّه قد خالف ما أعطاني. وآلى على نفسه أن لا يكلّم عثمان في حياته أبداً. واستعاذ بالله من بيعته. وأوصى أن لا يصلّي عليه عثمان. ومات وهو مهاجر إيّاه. وكان عثمان يقذفه بالنفاق ويعدّه منافقاً (٣) فهل تتلاءم هذه كلّها مع صحّة تلك الرواية وإذعان الرجلين بها؟

وهل أبو بكر وعمر المبشّران بالجنّة هما اللذان ماتت الصدّيقة بضعة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي وجدى عليهما؟ وهل هما اللذان قالت لهما : «إنّي أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه»؟ وهل

__________________

(١) راجع الجزء الثامن والتاسع من الغدير ففيهما تفصيل ما أوعزنا إليه هاهنا. (المؤلف)

(٢) المعارج : ٣٨ و ٣٩.

(٣) راجع الجزء التاسع : ص ٨٧ الطبعة الأولى وص ٩٠ الطبعة الثانية. (المؤلف)


هما اللذان تقول أمّ السبطين فيهما ، شاكية نادبة ، باكية بأعلى صوتها : «يا أبت يا رسول الله ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة»؟ وهل هما اللذان نهبا تراث العترة ، وحقّ فيهما قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا»؟ وهل أبو بكر هو الذي أوصت فاطمة ـ سلام الله عليها ـ أن لا يصلّي عليها ، وأن لا يحضر جنازتها ، فلم يحضرها هو وصاحبه؟ وهل هو الذي قالت له كريمة النبيّ الأقدس ، الطاهرة المطهّرة : «لأدعونّ عليك في كلّ صلاة أصلّيها»؟ وهل هو الذي كشف عن بيت فاطمة وآذى رسول الله فيها (١) (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) وهل وهل إلى أن ينقطع النفس.

وهل كان عمر يصدّق هذه الرواية وكان عنده إلمام بها وهو يناشد مع ذلك حذيفة اليماني العالم بأسماء المنافقين ويسأله عن أنّه هل هو منهم؟ وهل سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمرتهم (٣)؟

وهلاّ كان على يقين من هذه البشارة يوم نهى عن التكنّي بأبي عيسى أيّام خلافته وقال له المغيرة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنّاه بها فقال : إنّ النبيّ غُفِر له وإنّا لا ندري ما يُفعل بنا وغيّر كنيته وكنّاه أبا عبد الله (٤)؟ فكيف كان لم يدر ما يُفعل به بعد تلكم البشارة إن صدقت؟

وهلاّ كان هو الذي قاد عليّا كالجمل المخشوش إلى بيعة أبي بكر ، وهو يقول : بايع وإلاّ تُقتل؟ وهلاّ كان هو الذي أنكر أخوّة عليّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ذاك ، وهي ثابتة له بالسنّة الصحيحة المتسالم عليها؟ كما أنّه أنكر من السنّة شيئاً كثيراً نبا عن الحصر.

__________________

(١) مرّ تفصيل هذه كلها في الجزء السابع. (المؤلف)

(٢) التوبة : ٦١.

(٣) الغدير : ٦ / ٢٤١. (المؤلف)

(٤) راجع الغدير : ٦ / ٣٠٨. (المؤلف)


وهلاّ كان هو الذي أوصى بقتل من خالف البيعة يوم الشورى؟ وهو جدّ عليم بأنّ المخالف الوحيد لذلك الانتخاب المزيّف هو عليّ أمير المؤمنين ـ دع هذا ـ أو أحد غيره من العشرة المبشّرة؟ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (١).

وهل كان عثمان يخبت إلى صحّة هذه الرواية ويذعن بها ، وهو يقول بعد للمغيرة بن شعبة لمّا كلّفه أن يغادر المدينة إلى مكة حينما حوصر بها : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «يلحد بمكة رجل من قريش عليه نصف عذاب هذه الأُمّة» ، فلن أكون ذلك الرجل (٢)؟ وكيف كان لم ير عليّا أفضل من مروان؟ ومروان ملعون بلسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام هو المبشّر بالجنّة : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٣).

وهل طلحة والزبير هما اللذان قتلا عثمان وألّبا عليه وكانا كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أهون سيرهما فيه الوجيف ، وأرفق حدائهما العنيف ، فأجلبا عليه وضيّقا خناقه ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، وكانا أوّل من طعن وآخر من أمر ، حتى أراقا دمه» (٤)

وهل هما اللذان عرّفهما الإمام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : «كلّ منهما يرجو الأمر له ويعطف عليه دون صاحبه ، لا يمتّان إلى الله بحبل ، ولا يمدّان إليه بسبب ، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه ، وعمّا قليل يكشف قناعه به»؟ إلى آخر ما مرّ في هذا الجزء (ص ٥٨).

__________________

(١) النساء : ٩٣.

(٢) راجع الغدير : ٩ / ١٥٢ ، ١٥٣. (المؤلف)

(٣) الحشر : ٢٠.

(٤) راجع الغدير : ٩ / ١٠٣ ـ ١١٠. (المؤلف)


وهل هما اللذان خرجا على إمام الوقت المفروضة عليهما طاعته ، ونكثا بيعته ، وأسعرا عليه نار البغي ، وقاتلاه وقُتلا وهما أبين مصداق لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة» (١).

وهل هما اللذان قادا جيوش النكث على قتال سيّد العترة ، وأخرجا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عقر دارها ، وترأّسا الناكثين الذين حثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا والعدول من صحابته على قتالهم ، وحضّهم على منابذتهم؟ أفمن آذن نبيّ العظمة بحربه وقتاله ورآه من واجب الإسلام يعدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بَعْدُ من أهل الجنّة؟ (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢)

وهل الزبير هذا هو الذي صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله له : «تحارب عليّا وأنت ظالم» (٣)؟ فهل المحارب عليّا وهو ظالم إيّاه مثواه الجنّة؟ ورسول الله يقول : «أنا حرب لمن حاربه ، وسلم لمن سالمه» كما جاء في الصحيح الثابت : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٤).

وهل الزبير هو الذي قال فيه عمر : من يعذرني من أصحاب محمد لو لا أنّي أمسك بفم هذا الشغب لأهلك أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ٢٣٩.

(٢) المائدة : ٣٣.

(٣) راجع الغدير : ٣ / ٢٧١ من طبعتنا هذه ، ففيه : إنك تقاتل عليّا وأنت ظالم له.

(٤) البقرة : ٨٥.

(٥) راجع الغدير : ٩ / ٢٦٩. (المؤلف)


وقال له عمر يوم طعن : أمّا أنت يا زبير فَوَعِق لقس (١) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير ، أفرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً؟ ومن يكون يوم تغضب؟ وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمّة وأنت على هذه الصفة (٢).

وقال له أيضاً : أمّا أنت يا زبير فو الله مالان قلبك يوماً ولا ليلة ، وما زلت جلْفاً جافياً (٣).

وهل طلحة هذا هو الذي قتل عثمان ، وحال بينه وبين الماء ، ومنعه عن أن يُدفن في جبانة المسلمين ، وقتله مروان أخذاً بثار عثمان ، وهما بعد من العشرة المبشّرة؟ غفرانك اللهمّ وإليك المصير.

وهل طلحة هذا هو الذي أقام عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عليه الحجّة يوم الجمل باستنشاده إيّاه حديث الولاية «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فاعتذر بما اعتذر من نسيانه الحديث ، لكنّه لم يرتدع بعد عن غيّه بمناصرة أمير المؤمنين مع بيعته إيّاه ، ولا فوّض الحقّ إلى أهله حتى أتى عليه سهم مروان فجرّعه منيّته ، وهو الخارج على إمام وقته! أفهل ترى الإمام والخارج عليه كلاّ منهما في الجنّة؟

وهل طلحة هذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) الأحزاب : ٥٣.

نزلت الآية الشريفة لمّا قال طلحة : أيحجبنا محمد عن بنات عمّنا ويتزوّج

__________________

(١) الوعِق : سيّىء الخُلُق. اللقِس : شره النفس ، الحريص على كلّ شيء.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٦٢ [١ / ١٨٥ خطبة ٣]. (المؤلف)

(٣) شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٧٠ [١٢ / ٢٥٩ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)


نساءنا من بعدنا؟ فإن حدث به حدث لنزّوّجن (١) نساءه من بعده. وقال : إن مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتزوّجت عائشة وهي بنت عمّي ، فبلغ ذلك رسول الله فتأذّى به فنزلت.

أقبل عليه عمر يوم طعن وقال له : أقول أم أسكت؟ قال : قل فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال : أما إنّي أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أُحد والبا بالذي (٢) حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم نزلت آية الحجاب.

قال أبو عثمان الجاحظ : إنّ طلحة لمّا أُنزلت آية الحجاب ، قال بمحضر ممّن نقل عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم ، فسيموت غداً فننكحهنّ!! قال أبو عثمان : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عن الستّة ، فكيف تقول الآن لطلحة : إنّه مات عليه‌السلام ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا (٣)؟

راجع (٤) : تفسير القرطبي (١٤ / ٢٢٨) ، فتح القدير (٤ / ٢٩٠) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٥٠٦) ، تفسير البغوي (٥ / ٢٢٥) ، تفسير الخازن (٥ / ٢٢٥) ، تفسير الآلوسى (٢٢ / ٧٤).

وهل سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة المبشّرة كان مذعناً بالرواية وصدقها ،

__________________

(١) في فتح القدير ، وتفسير الألوسي ، والجامع لأحكام القرآن : لنتزوّجنّ.

(٢) كذا في الطبعة المعتمدة لدى المؤلف ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا : والَبأو الذي. ومعنى البأو الكبر والفخر.

(٣) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٦٢ ، ٣ / ١٧٠ [١ / ١٨٦ خطبة ٣ ، ١٢ / ٢٥٩ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ١٤٧ ، فتح القدير : ٤ / ٢٩٩ ، تفسير البغوي : ٣ / ٥٤١ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٧٦.


وهو القائل لمّا سُئل عن عثمان ، ومن قتله ، ومن تولّى كبره : إنّي أخبرك أنّه قُتل بسيف سلّته عائشة ، وصقله طلحة وسمّه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشار بيده ، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه؟ فهل هذه كلّها تجتمع مع التصديق بتلك الرواية؟ سبحان الذي جمع في جنّته الظالم والمظلوم ، والقاتل والمقتول ، والخليفة والخارجين عليه ، إن هي إلاّ اختلاق.

وهل تُصدّق في سعد هذه الرواية وهو المتخلّف عن بيعة إمام وقته ، والمتقاعس عن نصرته بعد ما تمّت بيعته ، وأجمعت عليها الأُمّة ، وأصفق عليها البدريّون والمهاجرون والأنصار ، وحقّت كلمة العذاب على من نزعها من ربقته؟ أفهل نزل في سعد كتاب من الله أخرجه عن محكمات الإسلام وبشّر له بالجنّة؟

وهل يتراءى لك من ثنايا التاريخ وراء صحائف أعمال أبي عبيدة بن الجرّاح ـ حفّار القبور بالمدينة ـ ما يؤهّله لهذه البشارة؟ ويدعم له ما يستحقّ به للذكر من الفضيلة غير ما قام به يوم السقيفة من دحضه ولاية الله الكبرى ، وتركاضه وراء الانتخاب الدستوري ، واقتحامه في تلكم البوائق التي عمّ شؤمها الإسلام ، وهدّت قوائم الوئام والسلام ، وجرّت الويلات على أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى اليوم ، وهتكت حرمة المصطفى في ظلم ابنته بضعة لحمه وفلذة كبده ، واضطهاد خليفته ، واهتضام أخيه علم الهدى؟ فكأنّها كانت كلّها قربات فأوجبت لابن الجرّاح الجنّة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).

نبأ يصكّ المسامع :

وجاء بعد لأي من عمر الدهر من لم ير في الرواية فضيلة رابية تخصّ العشرة ،

__________________

(١) الجاثية : ٢١.


نظراً إلى أنّ البشارة بالجنّة كما سمعت تعمّ المؤمنين جمعاء ولا تنحصر بقوم منهم دون آخرين ، ووجد فيها مع ذلك نقصاً من ناحية خلوّها عن ذكر عائشة أمّ المؤمنين ، فصبّها في قالب يروقه ، وصوّر لها صورة مكبّرة تخصّ بأُولئك العشرة ولا يشاركهم فيها أحد ، وأسند إلى أبي ذر الغفاري أنّه قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزل عائشة فقال : يا عائشة : ألا أُبشّرك؟ قالت : بلى يا رسول الله ، قال : أبوك في الجنّة ورفيقه إبراهيم ، وعمر في الجنّة ورفيقه نوح ، وعثمان في الجنّة ورفيقه أنا ، وعليّ في الجنّة ورفيقه يحيى بن زكريّا ، وطلحة في الجنّة ورفيقه داود ، والزبير في الجنّة ورفيقه إسماعيل ، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة ورفيقه سليمان بن داود ، وسعيد بن زيد في الجنّة ورفيقه موسى بن عمران ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة ورفيقه عيسى بن مريم ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة ورفيقه إدريس عليه‌السلام. ثم قال : يا عائشة أنا سيّد المرسلين ، وأبوك أفضل الصدّيقين ، وأنت أُمّ المؤمنين (١).

ليت لهذه الرواية إسناداً معنعناً حتى نعرف واضعها ومختلقها على النبيّ الأقدس ، وليت مفتعلها يدري بأنّ الرفاقة بين اثنين تستدعي مشاكلتهما في الخصال ، وتقتضيها الوحدة الجامعة من النفسيّات والملكات ، فهل يسع لأيّ إنسان أن يقارن بين أُولئك الأنبياء المعصومين وبين تسعة رهط كانوا في المدينة في شيء ممّا يوجب الرفاقة؟ وهل لبشر أن يفهم سرّ هذا التقسيم في كلّ نبيّ معصوم مع رفيقه الذي لا عصمة له؟ ولعمر الحقّ إنّ هذا الانتخاب والاختيار في الرفاقة يضاهي الانتخاب في أصل الخلافة الذي كان لا عن جدارة وتأمّل. ما عشت أراك الدهر عجباً!

لما ذا لم يكن عبد الله بن مسعود الذي صحّ عند القوم في الثناء عليه : أنّه كان أشبه الناس هدياً ، ودلاّ ،وسمتاً بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرافقه عثمان؟

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٢٠ [١ / ٣١] وقال : أخرجه الملاّ في سيرته [ج ٥ / ق ٢ / ١٩٦]. (المؤلف)

(٢) راجع الغدير : ٩ / ٩ الطبعة الأولى [ص ٢٠ من هذه الطبعة]. (المؤلف)


ولما ذا لم يرافق عيسى بن مريم أبو ذر الثابت فيه : أنّه أشبه الناس بعيسى بن مريم هدياً ، وبرّا ، وزهداً ، ونسكاً ، وصدقاً ، وجدّا ، وخلقا ، وخُلقاً ، (١) ويرافقه عبد الرحمن بن عوف؟

ولما ذا رافق رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن عفّان ولا مشاكلة بينهما خلقاً ، وخُلقاً ، وأصلا ، ومحتداً ، وسيرةً ، وسريرة ، ولم يتّخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفر بن أبي طالب رفيقاً له ، وقد جاء عنه قوله له : «يا حبيبي ، أشبه الناس بخلقي وخلقي ، وخلقت من الطينة التي خلقت منها» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي ، وأشبه خُلقك خُلقي ، وأنت منّي وشجرتي» (٢)؟

ولما ذا اختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرفاقته عثمان ولم يرافق أبا بكر ، وقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القوم : لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر. وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في مكذوبة ـ أنّه كان يدعو ويقول : اللهمّ إنّك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار ، فاجعله رفيقي في الجنّة (٣).

ولما ذا لم يكن عثمان رفيق إبراهيم ، وقد جاء في مناقبه ـ المكذوبة ـ أنّه شبيه إبراهيم. كما مرّ في (٩ / ٣٥٠).

ولما ذا لم يكن عمر رفيق موسى ، وعثمان رفيق هارون ، وعليّ بن أبي طالب رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً بما مرّ من مكذوبة أنس مرفوعاً : ما من نبيّ إلاّ وله نظير في أُمّتي ، فأبو بكر نظير إبراهيم ، وعمر نظير موسى ، وعثمان نظير هارون ، وعليّ بن أبي طالب نظيري (٤)؟

__________________

(١) الغدير : ٨ / ٣٢٩ ، ٣٢١ الطبعة الأولى [ص ٤٣٩ ، ٤٤٠ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

(٢) مجمع الزوائد : ٩ / ٢٧٢ ، ٢٧٥. (المؤلف)

(٣) الغدير : ٩ / ٢٩٤ الطبعة الأولى [ص ٤٠١ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

(٤) راجع ما مرّ في هذا الجزء : ص ٧٥. (المؤلف)


نعم ؛ عزب عن مفتعل الرواية ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «يا عليّ أنت أخي ، وصاحبي ، ورفيقي ، في الجنّة» ، وهذه الرفاقة والصحبة والأُخوّة تقتضيها البرهنة الصادقة ، وتعاضدها المجانسة بين نبيّ العظمة وصنوه الطاهر في كلّ خَلّة ومأثرة ، وهي التي جمعتهما في آية التطهير ، وجعلتهما نفساً واحدة في الذكر الحكيم ، وقارنت بين ولايتيهما في محكم القرآن ، وكلّ تلكم الموضوعات نعرات الإحن ، ونفثات الأضغان ، اختلقت تجاه هذه المرفوعة في فضل مولانا سيّد العترة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهلمّ معي نسائل أبا ذر المنتهي إليه إسناد الرواية وعائشة المخاطبة بها ، هل كانا على ثقة وتصديق بها ، وأنّها صدرت من مصدر الوحي الإلهي الذي لا ينطق عن الهوى أم لا؟ ولئن سألتهما فعلى الخبيرين سقطت ، وأبو ذر هو الذي ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء أصدق منه ، وإذا أنت قرأت حديث ما جرى بين عثمان وأبي ذر لوجدت سيّد غفار في جانب جُنب عن هذه الرواية ، ولمّا يحكم عقلك بأن يكون هو راويها ونداء أبي ذرّ في الملأ الديني وقد تنغّر (١) على عثمان بعدُ يرنّ في أُذن الدنيا ، وقوارص لمزه وهمزه إيّاه بعد تلوكه الأشداق في أندية الرجال ، وكلمه المأثورة الخالدة في صفحات التاريخ تضادّ ما عزي إليه من الرواية ، وكلّ خطابه وعتابه إيّاه يُعرب عن أنّ أبا ذر قطّ لم يُؤمن بما اختلق عليه ، ولم يك يسمعه من الصادع الكريم ، وكان يحدّث الناس غير مكترث لبوادر عثمان ما كان سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «إذا كملت بنو أُميّة ثلاثين رجلاً اتّخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا». كان يحدّث عثمان بذلك وعثمان يكذّبه (٢) ، ومن كذّبه فقد كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) تنغّر : غلى وغضب.

(٢) راجع الغدير : ٩ / ٧٨ ـ ٨٦. (المؤلف)


ولم يكن أبو ذر شاذّا عن الصحابة في رأيه السيّئ ونقمته على عثمان ، بل نبأ المتجمهرين عليه من المهاجرين والأنصار ، والناقمين عليه من الحواضر الإسلامية ، والمجتمعين على وأده ، المحتجّين عليه بالكتاب العزيز ، يعطينا خُبراً بأنّ الرواية لا تصحّ عندهم ، ولا يصدّقها رجل صدق منهم.

وهل نسيتها أمّ المؤمنين المخاطَبة بها ، أو تغاضت عنها يوم كانت تنادي في ملأ من الصحابة : اقتلوا نعثلاً قتله الله؟ ويوم قالت لمروان : وددت والله أنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره ، في رجل كلّ واحد منكما رحىً وأنّكما في البحر. ويوم قالت : وددتُ والله أنّه في غرارة من غرائري هذه وأنّي طوّقت حمله حتى ألقيه في البحر ، ويوم قالت لابن عباس : إنّ الله قد آتاك عقلاً ، وفهماً ، وبياناً ، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذه الطاغية. ويوم أخرجت ثوب رسول الله وهي تقول : هذا ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلَ ، وعثمان قد أبلى سنّته. ويوم قالت لمّا بلغها نعيه : أبعده الله ذلك بما قدّمت يداه ، وما الله بظلاّم للعبيد. ويوم قالت : بُعداً لنعثل وسحقاً (١).

أيخبرك ضميرك الحرّ بأنّ صاحبة تلكم المواقف الهائلة كانت تصدّق تلك الرواية ، وتؤمن بها وترى نعثلاً رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة؟ فاستعذ بالله من أن تكون من الجاهلين.

٣٨ ـ قال محمد بن آدم : رأيت بمكة أسقفاً (٢) يطوف بالكعبة ، فقلت له : ما الذي نزعك عن دين آبائك؟ قال : تبادلت (٣) خيراً منه. فقلت : وكيف ذلك؟ قال : ركبت البحر ، فلمّا توسّطناه انكسرت المركب ، فلم تزل الأمواج تدفعني حتى رمتني

__________________

(١) راجع الغدير : ٩ / ٧٨ ـ ٨٦. (المؤلف)

(٢) الأسقف والأسقف : فوق القسيس ودون المطران ، والكلمة يونانية ، جمعها أساقفة وأساقف. (المؤلف)

(٣) في المصدر : تبدّلت خيراً منه.


في جزيرة من جزائر البحر ، فيها أشجار كثيرة ، ولها ثمر أحلى من الشهد وألين من الزبد ، وفيها نهر عذب ، فحمدت الله على ذلك ، وقلت : آكل من هذا الثمر ، وأشرب من هذا النهر حتى يقضي الله بأمره.

فلمّا ذهب النهار ، خفت على نفسي من الوحش ، فطلعت على شجرة ونمت على غصن من أغصانها ، فلمّا كان في جوف الليل وإذا بدابّة على وجه الأرض تسبّح الله وتقول : لا إله إلاّ الله العزيز الجبّار ، محمد رسول الله النبيّ المختار ، أبو بكر الصدّيق صاحبه في الغار ، عمر الفاروق فاتح الأمصار ، عثمان القتيل في الدار ، عليّ سيف الله على الكفّار ، فعلى مبغضهم لعنة الله العزيز الجبّار ، ومأواه النار وبئس القرار ، ولم تزل تكرّر هذه الكلمات إلى الفجر.

فلمّا طلع الفجر قالت : لا إله إلاّ الله الصادق الوعد والوعيد ، محمد رسول الله الهادي الرشيد ، أبو بكر ذو الرأي السديد ، عمر بن الخطّاب سور من حديد ، عثمان الفضيل الشهيد ، عليّ بن أبي طالب ذو البأس الشديد ، فعلى مبغضهم لعنة الربّ المجيد.

ثم أقبلت إلى البرّ ، فإذا رأسها رأس نعامة ، ووجهها وجه إنسان ، وقوائمها قوائم بعير ، وذنبها ذنب سمكة ، فخشيت على نفسي الهلكة فهربت ، فنطقت بلسان فصيح فقالت : يا هذا قف وإلاّ تهلك. فوقفت فقالت : ما دينك؟ فقلت : دين النصرانيّة. فقالت : ويلك ارجع إلى دين الحنيفيّة ، فقد حللت بفناء قوم من مسلمي الجنّ لا ينجو منهم إلاّ من كان مسلماً ، فقلت : وكيف الإسلام؟ قالت : تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، فقلتها ، فقالت : أتمّ إسلامك بالترحّم على أبي بكر ، وعمر ، وعثمان وعلي ـ رضي الله تعالى عنهم ـ. فقلت : ومن أتاكم بذلك؟ قالت : قوم منّا حضروا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعوه يقول : إذا كان يوم القيامة تأتي الجنّة فتنادي بلسان طلق فصيح : إلهي قد وعدتني أن تشيّد أركاني. فيقول الجليل جلّ جلاله : قد شيّدت ـ أي رفعت ـ أركانك بأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيّنتك بالحسن


والحسين. ثم قالت الدابّة : أتريد أن تقعد هاهنا أم الرجوع إلى أهلك؟ فقلت : الرجوع إلى أهلي. فقالت : اصبر حتى تمرّ بك مركب.

فبينما نحن كذلك وإذا بمركب أقبلت تجري ، فأومأت إليها ، فرفعوا إليّ زورقاً فركبت فيه ، ثم جئت إليهم فوجدت المركب فيها اثنا عشر رجلاً كلّهم نصارى فقالوا : ما الذي جاء بك إلى هاهنا؟ فقصصت عليهم قصّتي ، فعجبوا عن آخرهم ، وأسلموا جميعاً. مصباح الظلام للسيد محمد الجرداني (١) (٢ / ٣٠).

قال الأميني : ابن آدم راوي هذه الأغلوطة لا يعرفه الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في أولاد آدم ، وإنّما عرّفوه بالجهالة ، ولا أحسب أنّ آدم أبا البشر أيضاً يعرف ابنه هذا ، ولا تدري الأُمّهات أيّ ابن بيّ هو ، والأسقف صاحب القصّة وابن آدم هما صنوان في الجهالة ، لا يعرفهما آدميّ.

ونحن إن صدّقنا متن الرواية ، وذهبنا إلى ما ذهب إليه مسلم الجنّ وأخبر به ، ولعنّا مبغضي الخلفاء الأربعة ، ورأينا مأواهم النار. فإلى من وجّهنا القوارص عندئذ ، وأين تقع من سبابنا أُمّة كبيرة من الصحابة العدول ، أو عدول الصحابة الذين كان بينهم وبين أيّ من هؤلاء الأربعة عداء محتدم وبغضاء لاهبة؟ أنا هنا في مشكلة لا تنحلّ لي!

وعجبي من رعونة أولئك الرهط من النصارى الذين قبلوا من الأسقف دعواه المجرّدة ، وأذعنوا لها وصدّقوه فيما جاء به عن وادي الجنّ ، وما كانوا مصدّقين نبأ الرسول الأمين عن إله السماوات المحفوفة دعوته بألف من الدلائل والبيّنات ، والمتلوّة بأنباء الكهنة والأساقفة والهتافات الكثيرة التي سجّلها التاريخ ، كأنّهم سحرهم سجع دابّة الجنّ الموزون في ورد ليله وسحره ، ووجدوه آية الحقّ ، وشاهد الدعوى.

__________________

(١) مصباح الظلام : ٢ / ٧٢ ح ٣٦٢.


٣٩ ـ قال القرطبي في تفسيره (١) (٢٠ / ١٨٠) : قال أُبيّ بن كعب : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعصر ، ثم قلت : ما تفسيرها يا نبيّ الله؟

قال : (وَالْعَصْرِ) : قسم من الله أقسم ربّكم بآخر النهار. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) : أبو جهل. (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) : أبو بكر. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : عمر. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) : عثمان. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : عليّ ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ. وهكذا خطب ابن عبّاس على المنبر ، موقوفاً عليه.

وذكره المحبّ الطبري في رياضه النضرة (٢) (١ / ٣٤) ، والشربيني في تفسيره (٣) (٤ / ٥٦١).

قال الأميني : أيسوغ التقوّل على الله وعلى رسوله وتحريف الكلم عن مواضعه بمثل هذه المهزأة المرسلة؟ وهل ينبغي لمؤلّف في التفسير أو الحديث أن يسوّد بها صحيفته أو صحيفة تأليفه؟ وهل لنا في مثل المقام أن نطالبه بالسند ونناقش فيه بالإرسال؟ وهلاّ ما في متن الرواية ما يغنينا عن البحث عن رجال الإسناد إن كان له إسناد؟ وهل يوجد في صحائف أعمال أُولئك الرجال وسيرتهم الثابتة ، وفيما حفظه التاريخ الصحيح لهم ما يصدّق هذا التلفيق؟ نعم ، نحن على يقين من أنّ الباحث يجد في غضون أجزاء كتابنا هذا شواهد كثيرة تتأتّى له بها حصحصة الحقّ. وهل يصدّق ذو مسكة أن يخطب بمثل هذه الأفيكة ابن عباس حبر الأُمّة ، ويدنّس بها ساحة قدس صاحب الرسالة الخاتمة؟

على أنّ المأثور عن ابن عبّاس من طريق ابن مردويه ، في قوله تعالى :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٢٠ / ١٢٣.

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٤٩.

(٣) تفسير الشربيني : ٤ / ٥٨٥.


(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) أنّه قال : ذكر عليّا وسلمان (٢) ، ويؤيّده قوله الوارد في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٣) قال : نزلت في عليّ يوم بدر ، فالذين اجترحوا السيّئات : عتبة ، وشيبة ، والوليد ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات علي عليه‌السلام (٤). ومرّ في الجزء الثاني (٥) (ص ٥٢) من طريق ابن عباس قوله : لمّا نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٦) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «هو أنت وشيعتك».

فرواية أُبيّ بن كعب اختُلقت تجاه هذه الأخبار التي يساعدها العقل والمنطق والاعتبار.

ولصراحة الكذب في فصول هذه السفسطة ، لم يذكرها أحد من المفسّرين غير القرطبي والشربيني وهي بين أيديهم ، ولعلّ ابن حجر يوعز إلى بطلانها في فتح الباري (٧) (٨ / ٥٩٢) بقوله : تنبيه ، لم أرَ في تفسير هذه السورة حديثاً مرفوعاً صحيحاً.

على أنّ الظاهر من سياق السورة أنّ الجُمل التالية للذين آمنوا أوصاف لهم ، لا أنّها إعراب عن أُناس آخرين غير من هو المراد من الجملة الأولى.

٤٠ ـ أخرج الواحدي في أسباب النزول (٨) (ص ٢٠٧) عن عبد الرحمن بن حمدان العدل ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد

__________________

(١) العصر : ٣.

(٢) الدرّ المنثور : ٦ / ٣٩٢ ج ٨ / ٦٢٢ ج ومرّ في : ٢ / ٥٨. (المؤلف)

(٣) الجاثية : ٢١.

(٤) تذكرة السبط : ص ١١ جص ١٧ ج ، ومرّ في : ٢ / ٥٦. (المؤلف)

(٥) ص : ٩٩ من هذه الطبعة.

(٦) البينة : ٧.

(٧) فتح الباري : ٨ / ٧٢٩.

(٨) أسباب النزول : ص ١٨٦.


ابن حنبل ، قال حدّثني محمد بن سليمان بن خالد الفحّام ، قال : حدّثنا عليّ بن هاشم ، عن كثير النواء ، قال : قلت لأبي جعفر : إنّ فلاناً حدّثني عن عليّ بن الحسين : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعلي : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١) قال : والله إنّها لفيهم نزلت ، وفيهم (٢) نزلت الآية ، قلت : وأيّ غلّ هو؟ قال : غلّ الجاهليّة ، إنّ بني تيم ، وبني عدي ، وبني هاشم ، كان بينهم في الجاهليّة ، فلمّا أسلم هؤلاء القوم وأجابوا أخذت أبا بكر الخاصرة ، فجعل عليّ رضى الله عنه يسخن يده فيضمخ (٣) بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية.

قال الأميني : لا تُدعم أيّ مأثرة بمثل هذا الإسناد المركّب من مجهول كعبد الرحمن العدل ، ومحمد الفحّام ، وممّن خرف في آخر عمره (٤) ، حتى كان لا يعرف شيئاً ممّا يُقرأ عليه ، كما قاله أبو الحسن بن الفرات (٥). وحكى الخطيب البغدادي في تاريخه (٤ / ٤) عن أبي عبد الله أحمد بن أحمد القصري ، قال : قدمت أنا وأخي من القصر إلى بغداد وأبو بكر ـ أحمد بن جعفر ـ بن مالك القطيعي حيّ ، وكان مقصودنا درس الفقه والفرائض ، فأردنا السماع من ابن مالك ، فقال لنا ابن اللبان الفرضي : لا تذهبوا إليه فإنّه قد ضعف واختلّ ، ومنعت ابني السماع منه ، قال : فلم نذهب إليه. وذكره ابن حجر في اللسان (٦) (١ / ١٤٥) ، وقال (٧) في (٢ / ٢٣٧) : إنّه شيخ ليس بمتقن.

__________________

(١) الحجر : ٤٧.

(٢) كذا في أسباب النزول ، وفي الدرّ المنثور [٥ / ٨٥] : وفيمن تنزل إلاّ فيهم؟ (المؤلف)

(٣) في الدرّ المنثور : فيكوى. (المؤلف)

(٤) هو أحمد بن جعفر بن مالك أبو بكر القطيعي. (المؤلف)

(٥) ميزان الاعتدال : ١ / ٤١ [١ / ٨٧ رقم ٣٢٠]. (المؤلف)

(٦) لسان الميزان : ١ / ١٥١ رقم ٤٦٤.

(٧) لسان الميزان : ٢ / ٢٩٣ رقم ٢٥٢٦.


ومن شيعيّ غالٍ (١) ، وصفه بذلك الجوزجاني ، وابن حبّان ، ولعلّ الدارقطني ضعّفه لذلك ، وذكره ابن حبّان في الضعفاء (٢) ، وإن ذكره في الثقات (٣) أيضاً.

وبعد هؤلاء كثير النواء الذي عرّفناكه قُبيل هذا صحيفة (١١٧) ، وأنّه ضعيف زائغ منكر الحديث ، بابه باب سعد بن طريف الذي كان يضع الحديث ، وكان شيعيّا مفرطاً ، ضعيفاً جدّا عند القوم.

وفي تأويل قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ). الآية ، أحاديث تافهة عندهم ، أعجب من رواية الواحدي منها :

قال الصفوري في نزهة المجالس (٢ / ٢١٧) ، قال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي من حقد وعداوة ، إذا كان يوم القيامة تنصب كراسي من ياقوت أحمر فيجلس أبو بكر على كرسيّ ، وعمر على كرسيّ ، وعثمان على كرسيّ ، ثم يأمر الله الكراسي فتطير بهم إلى تحت العرش ، فتسبل عليهم خيمة من ياقوتة بيضاء ، ثم يؤتى بأربع كاسات ، فأبو بكر يسقي عمر ، وعمر يسقي عثمان ، وعثمان يسقي عليّا ، وعليّ يسقي أبا بكر ، ثم يأمر الله جهنّم أن تتمخّض بأمواجها فتقذف الروافض على ساحلها ، فيكشف الله عن أبصارهم فينظرون إلى منازل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقولون : هؤلاء الذين أسعدهم الله ، وفي رواية : فيقولون : هؤلاء الذين سعد الناس بمتابعتهم ، وشقينا نحن بمخالفتهم ، ثم يُرَدّون إلى جهنّم بحسرة وندامة.

ومنها : من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : نزلت في عشرة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ،

__________________

(١) هو عليّ بن هاشم. (المؤلف)

(٢) كتاب المجروحين : ٢ / ١١٠.

(٣) الثقات : ٧ / ٢١٣.


والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود.

ومن طريق النعمان بن بشير ، عن عليّ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : ذاك عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وأنا.

هكذا يحرّفون الكلم عن مواضعه ، وهل من مُسائل رواة هذه السفاسف عن الغلّ الذي نزع من صدور أولئك المذكورين متى نُزع؟ وإلى أين ذهب؟ وهذا الحديث والتاريخ يُعِلماننا أنّ الغلّ المنتزَع منهم بعد إسلامهم لم يزل مستقرّا بينهم منذ يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وقع هناك من حوار وشجار ، إلى الحوادث الواقعة حول واقعة الدار ، إلى المحتشد الدامي يوم الجمل ، أو ليست هذه كلّها منبعثة عن غلّ محتدم ، ووغر في الصدور ، وسخيمة في القلوب ، وبغضة مستثيرة؟ أو ليس منها أن يستبيح الإنسان دم صاحبه وهتك حُرماته والوقيعة في عرضه ، فهل مع هذه كلّها صحيح أنّه نُزع ما في صدورهم من غلّ؟

والآيات المحرّفة من هذا القبيل كثيرة جدّا لو تجمع يأتي منها كتاب ضخم ، غير أنّا لا يروقنا البحث عنها فإنّه إطالة من غير جدوى فهي بأنفسها وما فيها من تهافت وتفاهة كافية في إبطالها ، وما عساني أن أقول في مثل ما رووه في قوله تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (١) : أنّ نوحاً عليه‌السلام لمّا عمل السفينة جاءه جبريل عليه‌السلام بأربعة مسامير ، مكتوب على كلّ مسمار عين : عين عبد الله وهو أبو بكر ، وعين عمر ، وعين عثمان ، وعين علي فجرت السفينة ببركتهم (٢).

وللقوم في تحريف الكتاب معارك دامية منها وقعة سنة (٣١٧) ببغداد بين

__________________

(١) القمر : ١٣ ، ١٤.

(٢) نزهة المجالس : ٢ / ٢١٤ ، نقلاً عن شوارد الملح. (المؤلف)


أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي ، وبين طائفة أخرى من العامّة أيضاً ، اختلفوا في تفسير قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١). فقالت الحنابلة : يجلسه معه على العرش. وقال الآخرون : المراد بذلك الشفاعة العظمى. فاقتتلوا بذلك ، وقتل بينهم قتلى. تاريخ ابن كثير (٢) (١١ / ١٦٢).

فخذ ما ذكرناه مقياساً لمئات الخرافات من أمثاله تقوّلها على الله ألسنة الغلاة في الفضائل ، واتّخذوا آيات الله هزوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣).

منتهى المقال

هذه نماذج من أفائك الوضّاعين في الفضائل ، حسبتها الأغرار حقائق فسوّدوا بها صحائف من التفسير والحديث والتاريخ ، وموّهوا بها على الحقائق الراهنة ، وفكّكوا بها عرى الإسلام ، وشتّتوا شمل الأُمّة ، وفرّقوا صفوفها ، وكذبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقرّ ، أردنا بسردها أن نعطيك مقياساً لما حاولوه من المغالاة ، نكتفي بها عن غيرها ، وهناك مئات من أمثالها ضربنا الصفح عنها تنزّهاً عن نبش المخاريق ونشر المخازي ، والباحث يجد شواهد صادقة على دعوانا في غضون الرياض النضرة علبة السفاسف والخرافات ، والصواعق المحرقة عيبة الأفائك والأكاذيب ، والسيرة الحلبيّة المشحونة بالموضوعات ، ونزهة المجالس موسوعة الترّهات والصحاصح ، ومصباح الظلام ديوان كلّ حديث مفترى ورواية مفتعلة ، إلى تآليف

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

(٢) البداية والنهاية : ١١ / ١٨٤.

(٣) البقرة : ٧٥.


جمّة من القديم والحديث : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (١) ، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٢) ، (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣) ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤).

__________________

(١) البقرة : ٧٩.

(٢) القصص : ٦٦.

(٣) العنكبوت : ١٣.

(٤) التوبة : ٤٢.


المغالاة في فضائل

معاوية بن أبي سفيان

كنّا نرتئي أنّ معاوية في غنىً عن إفاضة القول في مخاريقه ، لما عرفته الأُمّة من نفسيّته الموبوءة ، وأعماله الوبيلة ، وجرائمه الموبقة الجمّة ، ورذائله الكثيرة ، ونسبه الموصوم ، وأصله اللئيم ، ومحتده الدنيّ ، وأنّ من يضع فيه المدائح تندى جبهته عن سردها لمثله ، غير أنّا وجدنا الأمل قد أكدى ، والظنّ قد أخفق ، وأنّ القحّة والصلف لم يدعا لأُولئك الوضّاعين حدّا يقفون عليه ، فحاولنا أن نذكر يسيراً من معرّفاته لإيقاف الباحث على حقيقة الحال فيما عزوه إليه من الثناء ، غير مكترثين لهلجة ابن كثير ، والهتاف الذي سمعه بعض السلف على جبل بالشام ـ ولعلّ الهاتف هو الشيطان ـ : من أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنّم الحامية ، يرمى به في الحامية الهاوية.

ولا مبالين بطيف خيال ركن إليه ابن كثير أيضاً ، قال : قال بعضهم : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، إذ جاء رجل ، فقال عمر : يا رسول الله هذا يتنقّصنا ، فكأنّه انتهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إنّي لا أتنقّص هؤلاء ولكن هذا ـ يعني معاوية ـ فقال : ويلك أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثاً ، ثم أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية ، فقال : جابهه في لبّته. فضربه بها وانتبهت ، فبكّرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات ، وهو راشد الكندي.


ولا معتدّين برأي سعيد بن المسيّب : من مات محبّا لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وشهد للعشرة بالجنّة ، وترحّم على معاوية ، كان حقّا على الله أن لا يناقشه الحساب (١).

ولا بأضغاث أحلام جاءت عن عمر بن عبد العزيز ، وفيها قول معاوية : غُفِر لي وربّ الكعبة. مرّ حديثها في الجزء التاسع (ص ٣٥٠).

ولا عابئين بقول أحمد : مالهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية.

فلا نقيم أيّ وزن لأمثال هذه السفاسف من آراء مجرّدة ، أو ركون إلى خيال ، أو احتجاج بهاتف مجهول ، أو جنوح إلى طيف حالم تجاه ما يؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجل ، وما جاء فيه من الكلم القيّمة للسلف الصالح الناظرين إلى أعماله من كثب ، العارفين بعُجره وبُجره ، الواقفين على إعلانه وإسراره ، الناقدين لمخازيه ، المتبصّرين في أمره ، الخبيرين بنواياه في جاهليته وإسلامه ، وإليك نبذة منها :

١ ـ عن عليّ بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمر ، قال : خرج رسول الله من فجّ فنظر إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق ، فلمّا نظر إليهم رسول الله قال : «اللهمّ العن القائد والسائق والراكب». قلنا : أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نعم ، وإلاّ فصمّتا أُذناي كما عميتا عيناي (٢).

وفي تاريخ الطبري (١١ / ٣٥٧): (٣) قد رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان مقبلاً على حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به قال : «لعن الله القائد والراكب والسائق».

وإلى هذا الحديث أشار الإمام السبط فيما يخاطب به معاوية بقوله ، «أنشدك الله

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٣٩ ، ١٤٠ [٨ / ١٤٨ حوادث سنة ٦٠ ه‍]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين طبعة مصر ص ٢٤٧ [ص ٢٢٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الأمم والملوك : ١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍.


يا معاوية ، أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق؟» (٤).

وإليه أشار محمد بن أبي بكر في كتاب كتبه إلى معاوية بقوله : وأنت اللعين ابن اللعين. وسيوافيك الكتاب إن شاء الله تعالى.

٢ ـ عن البراء بن عازب ، قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ العن التابع والمتبوع ، اللهمّ عليك بالأُقيعس» ، فقال ابن البراء لأبيه : من الأُقيعس؟ قال : معاوية (٥).

ومعاوية فُظاظة (٦) من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيثما لعن آكل الربا ، والخمر وشاربها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه. والرجل أعرف شخصيّة بهذه المخازي ، كما سيوافيك حديثه.

٣ ـ أخرج (٧) أحمد في المسند (٤ / ٤٢١) ، وأبو يعلى ، ونصر بن مزاحم في كتاب صفّين (ص ٢٤٦) طبعة مصر من طريق أبي برزة الأسلمي ، والطبراني في الكبير من طريق ابن عباس : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فسمع رجلين يتغنّيان وأحدهما يجيب الآخر ، وهو يقول :

يزالُ (٨) حواريٌّ تلوحُ عظامه

زوى الحرب عنه أن يجنّ فيقبرا

__________________

(٤) سيوافيك تمام كلام أبي محمد السبط في هذا البحث. (المؤلف)

(٥) كتاب صفّين ـ طبعة مصر ـ : ص ٢٤٤ [ص ٢١٧]. (المؤلف)

(٦) فُظاظة : من الفظيظ وهو ماء الكرش. وافتظظت الكرش إذا اعتصرت ماءها ، كأنه عصارة من اللعنة ، أو فُعالة من الفظيظ ماء الفحل ، أي نطفة من اللعنة.

(٧) مسند أحمد : ٥ / ٥٨٠ ح ١٩٢٨١ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ٤٢٩ ح ٧٤٣٦ ، وقعة صفّين : ص ٢١٩ ، المعجم الكبير : ١١ / ٣٢ ح ١٠٩٧٠.

(٨) أي ما يزال ، قال في اللسان : زلت أفعل ، أي ما زلت.


وفي لفظ ابن عباس :

ولا يزال جوادي تلوح عظامه

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انظروا من هما؟». قال : فقالوا : معاوية وعمرو بن العاصي ، فرفع رسول الله يديه فقال : «اللهمّ أركسهما ركساً ، ودعّهما إلى النار دعّا». وفي لفظ ابن عباس : «اللهمّ اركسهما في الفتنة ركساً».

وجاء الإيعاز إلى الحديث في لسان العرب (١) (٧ / ٤٠٤ و ٩ / ٤٣٩).

قال الأميني : لمّا لم يجد القوم غمزاً في إسناد هذا الحديث ، وكان ذلك عزيزاً على من يتولّى معاوية ، فحذف أحد الاسمين وجعل مكانهما فلاناً وفلاناً ، واختلق آخرون تجاهه ما أخرجه ابن قانع في معجمه ، عن محمد بن عبدوس كامل ، عن عبد الله بن عمر ، عن سعيد أبي العباس التيمي ، عن سيف بن عمر ، عن أبي عمر مولى إبراهيم ابن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن صالح شقران ، قال : بينما نحن ليلة في سفر إذ سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوتاً ، فذهبت انظر فإذا معاوية بن رافع ، وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :

لا يزال جوادي تلوح عظامه

ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرا

فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته فقال : «اللهمّ اركسهما ودعّهما إلى نار جهنّم دعّا» فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السفر.

قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١ / ٤٢٧) : وهذه الرواية أزالت الإشكال وبيّنت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة وهي قوله : ابن العاصي ، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين ، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين ، والله أعلم.

ألا من يُسائل هذا الضليع في فنّ الحديث المتعهّد لتنقيبه ، عن الإشكال في

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٣٥٤ و ٥ / ٣٠١.


الحديث الأوّل من أين أتاه؟ وما الذي ثقل عليه من لفظه حتى ذهب إلى الوهم فيه؟ أفي مفاده شذوذ عن نواميس الشريعة ، أو فيه ما يخالف الكتاب والسنّة؟ أو حطّ عن مقام رجل ينزّه ذيله عن كلّ ما يُدنّس المسلم الصحيح ويشينه ويزري به؟ أو مسّ بكرامة من قدّس الإسلام ساحته عن كلّ طعن ومسبّة؟ هذا ابن هند ، وهو ابن النابغة ، وهما هما.

وهل نسي هاهنا ما عنده من الجرح في رجال هذا الإسناد الوعر لروايته التي أزالت عنه الإشكال الموهوم ، وبيّنت الوهم المزعوم الواقع في الحديث ، وسكت عمّا فيه من الغمز؟ مرسلاً إيّاه إرسال المسلّم كأنّه جاء بالصحيح الثابت ، وفيه مع رجال مجاهيل سيف بن عمر الذي قال السيوطي نفسه في اللآلئ (١ / ١٩٩) في غير هذا الحديث : إنّه وضّاع. وقال في (ص ٤٢٩) في حديث آخر : فيه ضعفاء أشدّهم سيف. وقد فصّلنا القول في ترجمة الرجل في (٨ / ٨٥ و ٣٣٣) : إنّه ضعيف متروك ، ساقط كذّاب ، وضّاع متّهم بالزندقة. أفبالموضوع المكذوب يزول الإشكال ويَبين الوهم؟ اللهمّ غفرانك.

٤ ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يطلع من هذا الفجّ رجل من أُمّتي يحشر على غير ملّتي». فطلع معاوية (١).

وفي لفظ ابن مزاحم : «يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت حين يموت على غير سنّتي».

كتاب صفين (٢) (ص ٢٤٧).

أخرجه الحافظ البلاذري (٣) في الجزء الأوّل من تاريخه الكبير ، قال : حدّثني

__________________

(١) تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ [١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍]. (المؤلف)

(٢) وقعة صفّين : ص ٢١٩.

(٣) أنساب الأشراف : ٥ / ١٣٤.


عبد الله بن صالح ، حدّثني يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن ليث ، عن طاووس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت يوم يموت على غير ملّتي». قال : وتركت أبي يلبس ثيابه فخشيت أن يطلع ، فطلع معاوية.

وقال : وحدّثني إسحاق قال : حدّثنا عبد الرزّاق بن همام ، أنبأنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : كنت جالساً. إلخ.

الإسناد :

قال العلاّمة السيّد محمد المكي بن عزوز المغربي : الحديث الأوّل رجاله كلّهم من رجال الصحيح حتى ليث ، فمن رجال مسلم وهو ابن أبي سليم ، وإن تكلّم فيه لاختلاط وقع له في آخر أمره ، فقد وثّقه ابن معين (١) وغيره كما أفاده الشوكاني ، على أنّ التوهّم يرتفع بالسند الثاني الذي هو حدّثني إسحاق. إلخ. لأنّ الراوي فيه عن طاووس عبد الله ابنه لا ليث ، والسند متين ولله الحمد (٢).

٥ ـ وفي الحديث المرفوع المشهور أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي : يا حنّان يا منّان الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين» (٣).

٦ ـ عن أبي ذر الغفاري قال لمعاوية : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وقد مررت به : «اللهمّ العنه ولا تشبعه إلاّ بالتراب» (٤).

__________________

(١) التاريخ : ٢ / ٥٠١ رقم ٢٠٥٧.

(٢) العتب الجميل : ص ٨٦ [ص ١٤٦]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ ج ١٠ / ٥٨ ج ، كتاب صفّين : ص ٢٤٣ جص ٢١٧ ج واللفظ للأول [وانظر لسان الميزان : ١ / ٢٠٢ رقم ٦٠٢]. (المؤلف)

(٤) راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن : ص ٣١٢ للطبعة الأولى [ص : ٢٤٩ من هذه الطبعة]. (المؤلف)


٧ ـ عن أبي ذر الغفاري قال لمعاوية : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «است معاوية في النار». فضحك معاوية وأمر بحبسه. راجع تمام الحديث في الجزء الثامن ص ٣٠٥.

٨ ـ مرفوعاً : «إذا ولي الأُمّة الأعين (١) الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الأُمّة حذرها منه». قال أبو ذر : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه معاوية. وفي لفظ : «لا يذهب أمر هذه الأُمّة إلاّ على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم».

راجع (ص ٣١٢) من الجزء الثامن الطبعة الأولى.

٩ ـ أخرج نصر بن مزاحم في كتاب صفّين ، وابن عدي (٢) ، والعقيلي ، والخطيب ، والمناوي من طريق أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن مسعود مرفوعاً : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

وفي لفظ : «يخطب على منبري فاقتلوه».

وفي لفظ : «يخطب على منبري فاضربوا عنقه».

وفي لفظ أبي سعيد : فلم نفعل ولم نفلح.

وقال الحسن : فما فعلوا ولا أفلحوا (٣).

قال الأميني : ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١ / ٤٢٤ ، ٤٢٥) بعدة طرق لابن عدي والعقيلي وزيّفها ، غير أنّ البلاذري (٤) أخرجه بغير تلكم الطرق في تاريخه الكبير قال : حدّثنا يوسف بن موسى وأبو موسى إسحاق الفروي قال : حدّثنا جرير

__________________

(١) الأعين : الكبير العين أو واسعها. ومؤنثه عيناء.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ١٤٦ رقم ٣٤٣.

(٣) كتاب صفّين : ص ٢٤٣ ، ٢٤٨ طبعة مصر [ص ٢١٦ ، ٢٢١] ، تاريخ الطبري : ١١ / ٣٥٧ [١٠ / ٥٨] ، تاريخ الخطيب : ١٢ / ١٨١ [رقم ٦٦٥٢ [، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٣٤٨] ٤ / ٣٢ خطبة ٥٤] ، كنوز الدقائق للمناوي : ص ١٠ [١ / ١٩] ، اللآلئ المصنوعة : ١ / ٤٢٤ ، ٤٢٥ ، تهذيب التهذيب : ٢ / ٤٢٨ [٥ / ٩٦]. (المؤلف)

(٤) أنساب الأشراف : ٥ / ١٣٦ وفيه : قالا : حدّثنا جرير بن عبد الحميد.


ابن عبد الحميد ، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد والأعمش ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». فتركوا أمره فلم يفلحوا ولم ينجحوا.

رجال الإسناد :

١ ـ يوسف بن موسى أبو يعقوب الكوفي. من رجال البخاري ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة في صحاحهم ، وثّقه غير واحد.

٢ ـ جرير بن عبد الحميد أبو عبد الله الرازي ، من رجال الصحاح الستّة ، مجمع على ثقته.

٣ ـ إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي الكوفي ، أحد رجال الصحاح الستّة ، متفق على ثقته.

٤ ـ الأعمش سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي ، أحد رجال الصحاح الستّة ، ليس في المحدّثين أصدق منه.

٥ ـ الحسن البصري ، أحد رجال الصحاح ، مجمع على ثقته.

فلم يبق في الحديث غمز إلاّ من ناحية إرساله وهو لا يعدّ علّة في مثل المقام ، إذ لا يهمّ القوم عرفان الصحابي الراوي للحديث لعدالة الصحابة كلّهم عندهم. فالحديث صحيح لا مغمز فيه وإرساله يُجبَر بإسناد متّصل.

قال البلاذري (١) :

حدّثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدّثنا حجّاج بن محمد ، حدّثنا حمّاد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري : أنّ رجلاً من الأنصار أراد قتل معاوية فقلنا له : لا تسلّ السيف في عهد عمر حتى نكتب إليه ، قال : إنّي سمعت

__________________

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ١٣٦.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه». قالوا : ونحن سمعناه ولكن لا نفعل حتى نكتب إلى عمر ، فكتبوا إليه فلم يأتهم جواب حتى مات.

رجال الإسناد :

١ ـ إسحاق بن أبي إسرائيل أبو يعقوب المروزي ، من رجال البخاري في الأدب المفرد وأبي داود والنسائي ، وثّقه ابن معين ، والدارقطني ، والبغوي ، وأحمد بن حنبل (١)

٢ ـ حجّاج بن محمد المصّيصي أبو محمد الأعور ، أحد رجال الصحيحين وبقيّة الصحاح (٢).

٣ ـ حمّاد بن سلمة أبو سلمة البصري ، من رجال مسلم في صحيحه ، والبخاري في التعاليق وبقيّة أصحاب السنن ، أجمع أئمّة أهل النقل على ثقته وأمانته (٣).

٤ ـ عليّ بن زيد بن جدعان أبو الحسن البصري ، من رواة مسلم في صحيحه ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأصحاب السنن ، شيعيّ ثقة صدوق (٤).

٥ ـ أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي البصري ، من رجال صحيح مسلم ، والتعاليق للبخاري ، وبقيّة السنن ، وثّقه ابن معين (٥) ، وأبو زرعة ، والنسائي ، وابن سعد وأحمد بن حنبل (٦).

٦ ـ أبو سعيد الخدري الصحابيّ الشهير.

وبهذا الطريق ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (٧) (٧ / ٣٢٤) فقال : وأخرجه

__________________

(١) أنظر : تهذيب الكمال : ٢ / ٣٩٨ رقم ٣٣٨ ، تهذيب التهذيب : ١ / ١٩٥.

(٢) أنظر : سير أعلام النبلاء : ٩ / ٤٤٧ ، تهذيب التهذيب : ٢ / ١٨١.

(٣) أنظر : سير أعلام النبلاء : ٧ / ٤٤٤ ، تهذيب التهذيب : ٣ / ١١.

(٤) أنظر : تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٣٤ رقم ٤٠٧٠ ، سير أعلام النبلاء : ٥ / ٢٠٦.

(٥) التاريخ : ٤ / ١٥١ رقم ٣٦٥٣.

(٦) أنظر : طبقات ابن سعد : ٧ / ٢٠٨ ، تهذيب الكمال : ٢٨ / ٥٠٨ رقم ٦١٨٣.

(٧) تهذيب التهذيب : ٧ / ٢٨٥.


الحسن بن سفيان في مسنده عن إسحاق ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن عيينة ، عن عليّ ابن زيد ، والمحفوظ عن عبد الرزّاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن عليّ ، ولكن لفظ ابن عيينة : فارجموه. أورده ابن عدي (١) ، عن الحسن بن سفيان.

وطريق الحسن بن سفيان هذا أيضاً صحيح رجاله كلّهم ثقات ، وبهذا الإسناد أخرجه ابن عدي (٢) كما في ميزان الاعتدال (٣) (٢ / ١٢٨) قال : حدّثنا الحسن بن سفيان ، قال : حدّثنا ابن راهويه. قال : حدّثنا عبد الرزّاق ، عن ابن عيينة ، عن عليّ ابن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد مرفوعاً : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

قال : وحدّثنا محمد بن سعيد بن معاوية بنصيبين ، حدّثنا سليمان بن أيّوب الصريفيني ، حدّثنا ابن عيينة.

وحدّثَناه محمد بن العباس الدمشقي ، عن عمّار بن رجاء ، عن ابن المديني ، عن سفيان بن عيينة.

وحدّثَناه محمد بن إبراهيم الأصبهاني ، حدّثنا أحمد بن الفرات ، حدّثنا عبد الرزّاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن ابن جدعان نحوه.

إسناد آخر :

وأخرجه ابن حبّان (٤) من طريق عباد بن يعقوب ، عن شريك ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله مرفوعاً : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢٠٠ رقم ١٣٥١.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٣١٤ رقم ١٤٦٣.

(٣) ميزان الاعتدال : ٢ / ٦١٣ رقم ٥٠٤٤.

(٤) كتاب المجروحين : ٢ / ١٧٢.


تهذيب التهذيب (١) (٥ / ١١٠).

رجال الإسناد :

١ ـ عبّاد بن يعقوب الأسدي أبو سعيد الكوفي ، من رجال البخاري ، والترمذي ، وابن ماجة ، وثّقه ابن خزيمة ، وأبو حاتم (٢) ، وقال الدارقطني : شيعيّ صدوق.

٢ ـ شريك النخعي الكوفي ، من رجال مسلم في صحيحه ، والبخاري في التعاليق وأصحاب السنن الأربعة ، وثّقه ابن معين (٣) ، والعجلي (٤) ، ويعقوب بن شيبة ، وابن سعيد ، وأبو داود ، والحربي (٥).

٣ ـ عاصم بن بهدلة الأسدي الكوفي أبو بكر المقري ، من رجال الصحاح الستّة ، متّفق على ثقته (٦).

٤ ـ زر بن حبيش الكوفي ، مخضرم أدرك الجاهليّة ، من رجال الصحاح الستّة (٧)

٥ ـ عبد الله بن مسعود الصحابي العظيم.

فالإسناد صحيح رجاله كلّهم ثقات. فللحديث طرق أربعة صحيحة لا غمز فيها ، غير أنّ ابن كثير حبّبته أمانته أن لا يذكر من طرق الحديث إلاّ الضعيف ، كما أنّ

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٥ / ٩٦.

(٢) الجرح والتعديل : ٦ / ٨٨ رقم ٤٤٧.

(٣) التاريخ : ٣ / ٣٦٩ رقم ١٧٩٦.

(٤) تاريخ الثقات : ص ٢١٧ رقم ٦٦٤.

(٥) أنظر : تهذيب التهذيب : ٤ / ٢٩٣.

(٦) أنظر : تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٥.

(٧) أنظر : تهذيب التهذيب : ٣ / ٢٧٧.


السيوطي راقه أن لا ينضّد في سلك لآلئه إلاّ المزيّف ساكتاً عن الأسانيد الصحيحة حفظاً لكرامة ابن هند.

وهذا الحديث معتضد بحديث صحيح ثابت متسالم عليه ، ألا وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر (١).

وللقوم تجاه حديث : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» تصويب وتصعيد وجلبة ولغط ، رواه أُناس بالموحّدة مع زيادة ، أخرجه الخطيب ، عن الحسن بن محمد الخلاّل عن يوسف بن أبي حفص الزاهد ، عن محمد بن إسحاق الفقيه ، عن أبي نضر الغازي ، عن الحسن بن كثير ، عن بكر بن أيمن القيسي ، عن عامر بن يحيى الصريمي ، عن أبي الزبير ، عن جابر مرفوعاً : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه ، فإنّه أمين مأمون.

قال الخطيب : لم أكتب هذا الحديث إلاّ من هذا الوجه ، ورجال إسناده ما بين محمد بن إسحاق وأبي الزبير كلّهم مجهولون (٢). ونصّ الذهبي في الميزان (٣) وابن حجر في لسانه (٤) في ترجمة الحسن بن كثير ، وبكر بن أيمن ، وعامر بن يحيى على أنّهم مجاهيل ، والأقوال في أبي الزبير محمد بن مسلم المكي متضاربة من ناحية الجرح

__________________

(١) مرّ تفصيل هذين الصحيحين في هذا الجزء : ص ٢٧ ، ٢٨. (المؤلف)

(٢) كذا نجده في المطبوع من تاريخ بغداد [١ / ٢٥٩ رقم ٨٨] وحكاه عنه حرفياً ابن حجر في لسان الميزان : ٢ / ٢٤٧ [٢ / ٣٠٦ رقم ٢٥٦٠] ، وفي اللآلئ : ١ / ٤٢٦ نقلا عن التاريخ بلفظ : قال الخطيب : محمد بن إسحاق كثير الخطأ والمناكير ، ومن فوقه إلى أبي الزبير كلّهم مجهولون به. (المؤلف)

(٣) ميزان الاعتدال : ١ / ٥١٩ رقم ١٩٣٥.

(٤) لسان الميزان : ٢ / ٣٠٦ رقم ٢٥٦٠ ، ٢ / ٥٨ رقم ١٦٩٦ ، ٣ / ٢٨٤ ، رقم ٤٣٨٣.


والتوثيق ، وصرّح بجهالة الإسناد ابن كثير في تاريخه (١) (٨ / ١٣٣).

وزيادة (فإنّه أمين مأمون) أقوى شاهد على بطلان الرواية واختلاقها ، وقد فصّلنا القول في أمانة الرجل (٥ / ٣١٠ و ٩ / ٢٩٤).

وجاء آخر وهو جاهل بتحريف من روى (فاقتلوه) بالموحّدة. أو أنّه لم يرقه ذلك التحريف ، فوضع رواية في أنّ معاوية غير معاوية بن أبي سفيان. أخرج الحافظ ابن عساكر (٢) ، عن محمد بن ناصر الحافظ ، عن عبد القادر بن محمد ، عن ابن إسحاق البرمكي ، عن أحمد بن إبراهيم بن شاذان ، قال : قال لي أبو بكر بن أبي داود لمّا روى حديث إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه : هذا معاوية بن تابوت رأس المنافقين ، وكان حلف أن يبول ويتغوّط على منبره ، وليس هو معاوية بن أبي سفيان.

قال السيوطي في اللآلئ (١ / ٤٢٥) بعد ذكر الرواية : قال المؤلّف : وهذا يحتاج إلى نقل ، ومن نقل هذا؟ قلت : قال ابن عساكر : هذا تأويل بعيد والله أعلم.

قال الأميني : هل عندك خبر بتاريخ معاوية بن تابوت؟ وأنّه أيّ ابن بيّ هو؟ ومتى ولدته أُمّ الدنيا؟ وأنّى ولد؟ وأين وُلد؟ ومن رآه؟ ومن سمع منه؟ ومن الذي أوحى خبره إلى أبي بكر بن أبي داود؟ وهل هو برَّ يمينه أو حنثها؟ وهل رآه أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبره وقتلوه؟ أو لم يُرَ حتى اليوم ، ولن يُرى قطّ إلى آخر الأبد؟

ونظير هذا التأويل قد جاء في حديث فاطمة بنت قيس ، قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ معاوية وأبا جهم خطباني. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «معاوية صعلوك لا مال له». حكى الرافعي أنّه ليس هو معاوية بن أبي سفيان الذي ولي الخلافة ، بل هو آخر. الإصابة (٣ / ٤٩٨).

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٢ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٤٦.


نعم ؛ هكذا أوّله الرافعي حبّا لابن هند ، غير أنّ النووي قال : وهذا غلط صريح ، فقد وقع في صحيح مسلم في هذا الحديث : معاوية بن أبي سفيان.

قال الأميني : عرّفه مسلم بابن أبي سفيان في صحيحه (١) (٤ / ١٩٥) ، وأبو داود في السنن (٢) (١ / ٣٥٩) ، والنسائي في سننه (٣) (٦ / ٢٠٨) ، والطيالسي في مسنده (ص ٢٢٨) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٤٧١).

فالتأويل بغير معاوية بن أبي سفيان غلط صريح ، كما قاله النووي (٤).

ولابني كثير وحجر في تزييف حديث «فاقتلوه» خطّة أخرى ، قال ابن كثير في تاريخه (٥) (٨ / ١٣٣) : هذا الحديث كذب بلا شكّ ، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك ، لأنّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وقال ابن حجر في تطهير الجنان (٦) : يلزم على فرض صحّته نقيصة سائر الصحابة إن بلغهم ذلك الحديث ، أو نقيصة من بلغه منهم وكتمه ، لأنّ مثل هذا يجب تبليغه للأُمّة حتى يعملوا به ، على أنّه لو كتمه لم يبلغ التابعين حتى نقلوه لمن بعدهم ، وهكذا فلم يبق إلاّ القسم الأوّل وهو أن يبلغهم فلا يعملون به ، وهو لا يتصوّر شرعاً ، إذ لو جاز عليهم ذلك جاز عليهم كتم بعض القرآن أو رفض العمل به ، وكلّ ذلك محال شرعاً ، لا سيّما مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تركتكم على الواضحة البيضاء». الحديث. انتهى.

ما أحسن ظنّ هؤلاء القوم بالصحابة! وما أجمله لو كان يساعده المنطق! لو لم

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٢٩١ ح ٣٦ كتاب الطلاق.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٢٨٥ ح ٢٢٨٤.

(٣) السنن الكبرى : ٣ / ٢٧٤ ح ٥٣٥٢.

(٤) شرح صحيح مسلم : ١٠ / ٩٨.

(٥) البداية والنهاية : ٨ / ١٤١ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٦) هامش الصواعق المحرقة : ص ٦٠] ص ٢٩]. (المؤلف)


يخالفه التاريخ الصحيح ، أو الثابت المسلّم من سيرة الصحابة ، أو ما جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أقواله التي تلقّتها الأُمّة بالقبول ، ورواها أئمّة الحديث في الصحاح والمسانيد ، ممّا أسلفنا شطراً منه في الجزء الثالث (٢٦١ ، ٢٦٢ الطبعة الأولى) (١).

وهل عمل الصحابة أو عيونهم بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتل ذي الثديّة بعد ما عرّفه إيّاهم بشخصه ، وأنبأهم بهواجسه المكفّرة ، واعترف الرجل بها؟ أو خالفوه وضيّعوا أمره ونبذوه وراء ظهورهم وهو بين ظهرانيهم؟ راجع ما مرّ في الجزء السابع (ص ٢١٦ ـ ٢١٨ الطبعة الثانية).

وهل عملوا بما صحّ وثبت عندهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما؟ أو قوله : من أراد أن يفرّق أمر هذه الأُمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان؟ أو قوله : فإن جاء آخر ينازعه ـ الإمام ـ فاضربوا عنق الآخر؟ إلى صحاح أُخرى مرّت جملة منها في هذا الجزء (ص ٢٧).

١٠ ـ جاء من طريق زيد بن أرقم وعبادة بن الصامت مرفوعاً : «إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرّقوا بينهما فإنّهما لن يجتمعا على خير» (٢).

١١ ـ ورد مرفوعاً : «يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت حين يموت وهو على غير سنّتي». فطلع معاوية. كتاب صفّين لنصر بن مزاحم (٣).

١٢ ـ من كتاب لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معاوية : «أتاني كتابك ، كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ـ إلى أن قال : ـ وأمّا شرفي في الإسلام ، وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموضعي

__________________

(١) ٣ / ٨٠٤ من طبعتنا هذه.

(٢) راجع الجزء الثاني : ص ١١٦ الطبعة الأولى [ص : ١٩٠ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٢٢٠.


من قريش ، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته».

وفي لفظ : «فقد أتتني منك موعظة موصلة ، ورسالة محبّرة ، نمّقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، قد دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ، فهجر لاغطاً ، وضلّ خابطاً».

العقد الفريد (٢ / ٢٣٣) ، الكامل للمبرّد (١ / ١٥٧ ، وفي طبعة ص ٢٢٥) ، كتاب صفّين (ص ٦٤) الإمامة والسياسة (١ / ٧٧) ، نهج البلاغة (٢ / ٥) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٥٢ ، ٣ / ٣٠٢) (١).

١٣ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «فأقلع عمّا أنت عليه من الغيّ والضلال على كبر سنّك وفناء عمرك ، فإنّ حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذي لا يُصلح من جانب إلاّ فسد من آخر ، وقد أرديت جيلاً من الناس كثيراً ، خدعتهم بغيّك ، وألقيتهم في موج بحرك ، تغشاهم الظلمات ، وتتلاطم بهم الشبهات ، فجازوا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وتولّوا على أدبارهم ، وعوّلوا على أحسابهم ، إلاّ من فاء من أهل البصائر ، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك ، وهربوا إلى الله من موازرتك ، إذ حملتهم على الصعب ، وعدلت بهم عن القصد».

نهج البلاغة (٢ / ٤١) ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ٥٠) (٢).

١٤ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «فإنّ ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه ممّا أتى به أهلك وقومك الذين حملهم الكفر وتمنّي الأباطيل على حسد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صُرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يمنعوا حريماً ، ولم يدفعوا عظيماً ،

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٣٦ ، الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٢٧١ ، وقعة صفّين : ص ٥٧ ، الإمامة والسياسة : ١ / ٩١ ، نهج البلاغة : ص ٣٦٧ كتاب ٧ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ٨٩ خطبة ٤٣ ، ١٤ / ٤١ كتاب ٧.

(٢) نهج البلاغة : ص ٤٠٦ كتاب ٣٢ ، شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٢ ، ١٣٣ كتاب ٣٢.


وأنا صاحبهم في تلك المواطن الصالي بحربهم ، والفالّ لحدّهم ، والقاتل لرؤوسهم ورؤوس الضلالة ، والمتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم ، فبئس الخلف خلف اتّبع سلفاً محلّه ومحطّه النار».

شرح ابن أبي الحديد (١) (٤ / ٥٠).

١٥ ـ من كتاب له سلام الله عليه إلى الرجل : «أمّا بعد : فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحقَّ أساطير الأوّلين ، ونبذتموه وراء ظهوركم ، وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ، ولعمري ليتمّنّ النور على كرهك ، ولينفذنّ العلم بصغارك ، ولَتُجازَيَنَّ بعملك ، فَعِث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك ، فكأنّك بباطلك وقد انقضى ، وبعملك وقد هوى ، ثم تصير إلى لظى ، لم يظلمك الله شيئاً ، وما ربّك بظلاّم للعبيد».

شرح ابن أبي الحديد (٢) (٤ / ٥١ و ٣ / ٤١١).

١٦ ـ من كتاب له صلوات الله عليه إلى الرجل : أمّا بعد : فإنّ مساويك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك ، وأن يرعوي قلبك ، يا بن صخر يا بن اللعين ـ وفي لفظ : يا بن صخر اللعين ـ زعمت أن يزن الجبال حلمك ، ويفصل بين أهل الشكّ علمك ، وأنت الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل».

شرح ابن أبي الحديد (٣) (٣ / ٤١١ و ٤ / ٥١).

١٧ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «قد وصلني كتابك ، فوجدتك ترمي غير

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٤ كتاب ٣٢.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٥ ، ١٥ / ٨٣ كتاب ١٠.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٨٢ كتاب ١٠ ، ١٦ / ١٣٥ كتاب ٣٢.


غرضك وتنشد غير ضالّتك ، وتخبط في عماية ، وتتيه في ضلالة ، وتعتصم بغير حجّة ، وتلوذ بأضعف شبهة. فسبحان الله ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتّبعة ، مع تضييع الحقائق ، واطّراح الوثائق التي هي لله تعالى طلبة ، وعلى عباده حجّة».

نهج البلاغة (٢ / ٤٤) ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ٥٧) (٤).

١٨ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل لمّا دعاه إلى التحكيم : «ثم إنّك قد دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنّك لست من أهل القرآن ولا حكمه تريد ، والله المستعان».

كتاب صفّين (ص ٥٥٦) ، نهج البلاغة (٢ / ٥٦) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١١٨) (٥).

١٩ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «أمّا بعد : فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور ، فلقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل ، واقتحامك غرور المَيْن والأكاذيب ، من انتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك ، فراراً من الحقّ ، وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ، ممّا قد وعاه سمعك ، ومُلئ به صدرك ، فما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين».

نهج البلاغة (٦) (٢ / ١٢٥).

٢٠ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «متى كنتم يا معاوية ساسة للرعيّة؟

__________________

(٤) نهج البلاغة : ص ٤١٠ كتاب ٣٧ ، شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٥٣ كتاب ٣٧.

(٥) وقعة صفّين : ص ٤٩٤ ، نهج البلاغة ص ٤٢٣ كتاب ٤٨ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٢٦ خطبة ٣٥.

(٦) نهج البلاغة : ص ٤٥٥ كتاب ٦٥.


أو ولاة لأمر هذه الأُمّة بغير قدم حسن؟ ولا شرف سابق (٧) على قومكم ، فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تمكّن الشيطان من بغيته فيك ، مع أنّي أعرف أنّ الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلاّ تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنّك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق».

كتاب صفّين (ص ٤٢٢) ، نهج البلاغة (٢ / ١١) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٤١٢) (٨).

٢١ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «فاتّق الله فيما لديك ، وانظر في حقّه عليك ، وارجع إلى معرفة مالا تعذر بجهالته ، فإنّ للطاعة أعلاماً واضحة ، وسبلاً نيّرة ، ومحجّة نهجة ، وغاية مطلوبة (٩) يردها الأكياس ، ويخالفها الأنكاس ، من نكب عنها جار عن الحقّ ، وخبط في التيه ، وغيّر الله نعمته ، وأحلّ به نقمته ، فنفسك نفسك ، فقد بيّن الله لك سبيلك ، وحيث تناهت بك أُمورك فقد أجريت إلى غاية خسر ومحلّة كفر ، وإنّ نفسك قد أولجتك شرّا ، وأقحمتك غيّا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك»

نهج البلاغة (١٠) (٢ / ٣٦ ، ٣٧).

٢٢ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل جواباً : «أمّا بعد : فإنّا كنّا نحن وأنتم على ما ذكرت من الإلفة والجماعة ، ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنّا وكفرتم ، واليوم أنّا استقمنا وفُتِنتم ، وما أسلم مسلمكم إلاّ كرهاً ، وبعد أن كان أنف الإسلام كلّه

__________________

(٧) في نهج البلاغة [ص ٣٧٠] : باسق. (المؤلف)

(٨) وقعة صفّين : ص ١٠٩ ، نهج البلاغة : ص ٣٧٠ كتاب ١٠ ، شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٨٧ كتاب ١٠.

(٩) في المصدر : مطّلبة.

(١٠) نهج البلاغة : ص ٣٩٠ كتاب ٣٠.


لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزباً».

ومنه : «وعندي السيف الذي أعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام واحد ، وإنّك والله ما علمتُ لأغلفُ القلب ، المقاربُ (١١) العقل ، والأَولى أن يقال لك : إنّك رقيت سلّماً أطلعك مطلع سوء عليك لآلك ، لأنّك نشدت غير ضالّتك ، ورعيت غير سائمتك ، وطلبت أمراً لست من أهله ولا في معدنه ، فما أبعد قولك من فعلك! وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة ، وتمنّي الباطل على الجحود بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصُرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يدفعوا عظيماً ، ولم يمنعوا حريماً بوقع سيوف ما خلا منها الوغى ، ولم تُماشِها الهوينى (١٢)».

نهج البلاغة (١٣) (٢ / ١٢٤).

٢٣ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل جواباً : «وأمّا قولك : إنّا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل ، فلعمري إنّا بنو أب واحد ، ولكن ليس أُميّة كهاشم ، ولا حرب كعبد المطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب. ولا المهاجركالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحقّ كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، ولبئس الخلف خلف يتّبع سلفاً هوى في نار جهنّم» (١٤).

قال ابن أبي الحديد (١٥) في شرح ذيل هذا الكلام (٣ / ٤٢٣) : هل يُعاب المسلم بأنّ سلفه كان كفّاراً؟ قلت : نعم إذا تبع آثار سلفه ، واحتذى حذوهم ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ما عاب معاوية بأنّ سلفه كفّار فقط ، بل بكونه متّبعاً لهم.

٢٤ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى الرجل : «ما أنت والفاضل والمفضول ، والسائس

__________________

(١١) مقارب العقل : ناقصه ضعيفه. (المؤلف)

(١٢) أي لم ترافقها المساهلة. (المؤلف)

(١٣) نهج البلاغة : ص ٤٥٤ كتاب ٦٤.

(١٤) راجع : ٣ / ٢٥٤. (المؤلف)

(١٥) شرح نهج البلاغة : ١٥ / ١١٩ كتاب ١٧.


والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ، ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر ، وإنك لذهّاب في التيه ، روّاغ عن القصد».

نهج البلاغة (٢ / ٣٠) ، صبح الأعشى (١ / ٢٢٩) ، نهاية الأرب (٧ / ٢٣٤) (١٦).

٢٥ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى مخنف بن سليم : «إنّا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحقّ ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتّخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا وليّ الله أعظمَ أحداثهَم أبغضوه وأَقصَوْه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه ، فقد أصرّوا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف ، وقديماً صدّوا عن الحقّ ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين».

شرح ابن أبي الحديد (١٧) (١ / ٢٨٢).

٢٦ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى عمرو بن العاص : «لا تجارِينّ (١٨) معاوية في باطله ، فإنّ معاوية غمص (١٩) الناس ، وسفه الحقّ».

كتاب صفّين (ص ١٢٤) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٨٩ و ٤ / ١١٤) (٢٠)

٢٧ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى عمرو بن العاص : «أمّا بعد : فإنّك تركت مروءتك

__________________

(١٦) نهج البلاغة : ص ٣٨٦ كتاب ٢٨ ، صبح الأعشى : ١ / ٢٧٥.

(١٧) شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٨٢ خطبة ٤٦.

(١٨) في شرح النهج : لا تشرك. (المؤلف)

(١٩) غمص الناس : احتقرهم ولم يرهم شيئاً. (المؤلف)

(٢٠) وقعة صفّين : ص ١١٠ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٢٧ خطبة ٣٥ ، ١٧ / ١٥ الأصل ٤٩.


لامرئ فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، فصار قلبك لقلبه تبعاً كما قيل : وافق شنّ طبقة ، فسلبك دينك وأمانتك ودنياك وآخرتك». راجع الجزء الثاني من كتابنا هذا (ص ١٣٠) وفيه قوله : «فإن يمكن الله منك ومن ابن آكلة الأكباد ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على رسول الله ، وإن تعجزا وتبقيا بعدي فالله حسبكما ، وكفى بانتقامه انتقاماً ، وبعقابه عقاباً» (٢١).

٢٨ ـ من كتاب له ـ صلوات الله عليه ـ إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر : «إيّاكم ودعوة الكذّاب ابن هند ، وتأمّلوا واعلموا أنّه لا سواء إمام الهدى ، وإمام الردى ، ووصيّ النبيّ وعدوّ النبيّ ، جعلنا الله وإيّاكم ممّن يحبّ ويرضى».

شرح ابن أبي الحديد (٢٢) (٢ / ٢٦) ، جمهرة الرسائل (١ / ٥٤٠).

٢٩ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى محمد بن أبي بكر ، وقد بعث إليه عليه‌السلام ما كتبه معاوية وعمرو إليه ، وسيوافيك نصّه : «قد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية ، والفاجر ابن الكافر عمرو ، المتحابّين في عمل المعصية ، والمتوافقين المرتشيين في الحكومة ، المنكَرَين (٢٣) في الدنيا ، قد استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم ، فلا يضرّنك إرعادهما وإبراقهما».

تاريخ الطبري (٦ / ٥٨) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٣٢) (٢٤).

٣٠ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى أهل العراق : «فأيقظوا رحمكم الله نائمكم ، وأجمعوا على حقّكم ، وتجرّدوا لحرب عدوّكم ، قد أبدت الرغوة عن الصريح ، وبان الصبح لذي عينين ، إنّما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأولي الجفاء ، ومن أسلم كرهاً وكان

__________________

(٢١) نهج البلاغة : ص ٤١١ كتاب ٣٩.

(٢٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٧١ خطبة ٦٧.

(٢٣) المنكرين بصيغة المفعول ، وفي شرح ابن أبي الحديد : والمتكبرّين على أهل الدين. (المؤلف)

(٢٤) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٠٢ حوادث سنة ٣٨ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٨٤.


لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنف الإسلام كلّه حربا ، أعداء الله والسنّة والقرآن ، وأهل الأحزاب والبدع والأحداث ، ومن كانت بوائقه تُتّقى ، وكان على الإسلام مَخوفاً (٢٥) ، أكلة الرشا وعبدة الدنيا.

لقد أُنهي إليّ أنّ ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه ، وشرط عليه أن يُعطيه إتاوة هي أعظم ممّا في يديه من سلطانه ، ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وتربت يد هذا المشتري نصرة غادر فاسق بأموال المسلمين ، وإنّ منهم لمن قد شرب فيكم الخمر وجُلِد حدّا في الإسلام (٢٦) ، يُعرف بالفساد في الدين والفعل السيّئ ، وإنّ فيهم من لم يُسلم حتى رضخ له على الإسلام رضيخة (٢٧) فهؤلاء قادة القوم ، ومن تركت ذكر مساوئه من قادتهم مثل من ذكرت منهم بل هو شرّ وأضرّ ، وهؤلاء الذين ذكرت لو ولّوا عليكم لأظهروا فيكم الكفر والفخر والفجور والتسلّط بجبرية (٢٨) ، والتطاول بالغضب ، والفساد في الأرض ، ولاتّبعوا الهوى ، وما حكموا بالرشاد ـ إلى قوله : ـ أفلا تسخطون وتهتمّون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم والأشرار والأراذل منكم ، فاسمعوا قولي وأطيعوا أمري ، فو الله لئن أطعتموني لا تغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون ، خذوا للحرب أُهبتها ، وأعدّوا لها عدّتها ، فقد شبّت نارها ، وعلا سنانها ، وتجرّد لكم فيها الفاسقون كي يعذّبوا عباد الله ، ويطفئوا نور الله ، ألا إنّه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع ، والمكر ، والجفاء ، بأولى في الجدّ في غيّهم وضلالتهم من أهل البرّ ، والزهادة ، والإخبات ، في حقّهم وطاعة ربّهم [وإنّي] (٢٩) ، والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت ، وإنّي من ضلالتهم التي هم

__________________

(٢٥) في الإمامة والسياسة : منحرفاً.

(٢٦) يعني الوليد بن عقبة. (المؤلف)

(٢٧) يعني معاوية. راجع جمهرة الرسائل : ١ / ٥٥١ [رقم ٥٠٥]. (المؤلف)

(٢٨) كذا في شرح النهج ، وفي الإمامة والسياسة : والتسلّط بالجبروت.

(٢٩) الزيادة من الإمامة والسياسة.


فيها ، والهدى الذي نحن عليه ، لعلى ثقة وبيّنة ، ويقين وبصيرة ، وإنّي إلى لقاء ربّي لمشتاق ، ولحسن ثوابه لمنتظر ، ولكنّ أسفاً يعتريني ، وحزناً يخامرني ، أن يلي أمر هذه الأُمّة سفهاؤها وفجّارها ، فيتّخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، والصالحين حربا ، والقاسطين حزبا».

الإمامة والسياسة (١ / ١١٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٣٧) (٣٠).

٣١ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلى زياد بن أبيه : «إنّ معاوية كالشيطان الرجيم ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، فاحذره ثم احذره ثم احذره والسلام».

شرح ابن أبي الحديد (٣١) (٤ / ٦٨).

٣٢ ـ من خطبة له عليه‌السلام حين أمر أصحابه بالمسير إلى حرب معاوية قال : «سيروا إلى أعداء الله سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار».

كتاب صفّين (ص ١٠٥) ، جمهرة الخطب (١ / ١٤٢) (٣٢).

٣٣ ـ من خطبة له عليه‌السلام في الدعوة إلى جهاد الرجل : «نحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه ، معاوية وجنده الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدلّيهم بغروره».

كتاب صفّين (٣٣) (ص ١٢٦).

__________________

(٣٠) الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٦ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٩٩ خطبة ٦٧.

(٣١) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٨٢ كتاب ٤٤.

(٣٢) وقعة صفّين : ص ٩٤ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣١٤ خطبة ١٩٩.

(٣٣) وقعة صفّين : ص ١١٣.


٣٤ ـ من خطبة له ـ سلام الله عليه ـ يوم صفّين : «ثمّ أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي : بايع ، فأبيت عليهم ، فقالوا لي : بايع ، فإنّ الأُمّة لا ترضى إلاّ بك ، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتهم فلم يَرُعني إلاّ شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية إيّاي الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين ؛ ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، حزب من الأحزاب لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين ، فعجبنا لكم (١) ولإجلابكم معه ، وانقيادكم له ، وتدعون أهل بيت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم أحداً من الناس ، إنّي أدعوكم إلى كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين».

كتاب صفّين (ص ٢٢٧) ، تاريخ الطبري (٦ / ٤) ، جمهرة الخطب (١ / ١٦١) (٢).

٣٥ ـ من خطبة له عليه‌السلام يوم صفّين : «انهدوا إليهم ، عليكم السكينة والوقار ، وقار الإسلام ، وسيما الصالحين ، فو الله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية ، وابن النابغة ، وأبو الأعور السلمي ، وابن أبي معيط شارب الخمر ، المجلود حدّا في الإسلام ، وهم أولى من يقومون فينقّصونني ويجذبونني ، وقبل اليوم ما قاتلوني ، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام ، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام ، الحمد لله قديماً عاداني الفاسقون ، فعبّدهم (٣) الله ، ألم يفتحوا (٤)؟ إنّ هذا لهو الخطب الجليل ، إنّ فسّاقاً كانوا غير مرضيّين ، وعلى الإسلام وأهله متخوّفين ، خدعوا شطر هذه الأُمّة ، وأشربوا قلوبهم حبّ الفتنة ، واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان ، قد نصبوا لنا

__________________

(١) عند ابن أبي الحديد : فيا عجباً لكم. الطبري : فلا غرو إلاّ خلافكم معه. (المؤلف)

(٢) وقعة صفّين : ص ٢٠١ ، تاريخ الأمم والملوك : ٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٣٦ رقم ٢٢٦ ، وانظر شرح نهج البلاغة : ٤ / ٢٤ الخطبة ٥٤.

(٣) أى ذلّلهم. المعبّد : المذلّل. (المؤلف)

(٤) الفتح : القهر والغلبة والتذليل. (المؤلف)


الحرب في إطفاء نور الله عزّ وجلّ ، اللهمّ فافضض خدمتهم (٥) ، وشتّت كلمتهم ، وأبسلهم بخطاياهم ، فإنّه لا يذلّ من واليت ، ولا يعزّ من عاديت».

تاريخ الطبري (٦ / ٢٤) ، كتاب صفّين (ص ٤٤٥) (٦).

٣٦ ـ من خطبة له عليه‌السلام بصفّين : «وقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهداً ، فلست أحيد عنه ، وقد حضرتم عدوّكم ، وعلمتم أنّ رئيسهم منافق ابن منافق ، يدعوهم إلى النار ، وابن عمّ نبيّكم معكم وبين أظهركم ، يدعوكم إلى الجنّة وإلى طاعة ربّكم ، والعمل بسنّة نبيّكم ، ولا سواء من صلّى قبل كلّ ذكر ، لا يسبقني الصلاة مع رسول الله أحد ، وأنا من أهل بدر ، ومعاوية طليق ابن طليق ، والله إنّا على الحقّ وإنّهم على الباطل ، فلا يجتمعُنَّ على باطلهم ، وتتفرّقوا عن حقّكم ، حتى يغلب باطلهم حقّكم ، قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ، فإن لم تفعلوا يعذّبهم بأيدي غيركم».

كتاب صفّين (ص ٣٥٥) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٥٠٣) ، جمهرة الخطب (١ / ١٧٨) (٧).

٣٧ ـ من خطبة له عليه‌السلام : «أمّا بعد : فإنّ الله قد أحسن بلاءكم ، وأعزّ نصركم ، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون».

الإمامة والسياسة (١ / ١١٠) ، تاريخ الطبري (٦ / ٥١) ، مروج الذهب (٢ / ٣٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٧٩) ، جمهرة الخطب (١ / ٣١) (٨).

__________________

(٥) أي : فرّق بينهم. (المؤلف)

(٦) تاريخ الأمم والملوك : ٥ / ٤٥ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، وقعة صفّين : ص ٣٩١.

(٧) وقعة صفيّن : ص ٣١٤ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ٢٤٨ خطبة ٦٥ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٥٣ رقم ٢٤١.

(٨) الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٨ ، تاريخ الأمم والملوك : ٥ / ٨٩ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، مروج الذهب : ٢ / ٤٢٦ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٩٢ خطبة ٣٤ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٤١٨ رقم ٣١٦.


٣٨ ـ من خطبة له عليه‌السلام يستنفر الناس لقتال معاوية : «يا أيّها الناس استعدّوا لقتال عدوّ في جهادهم القربة إلى الله عزّ وجلّ ودرك الوسيلة عنده ، قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، موزعين بالجور والظلم لا يعدلون به ، جفاة عن الكتاب ، نُكّب عن الدين ، يعمهون في الطغيان ، ويتسكّعون في غمرة الضلال ، فأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ، وتوكّلوا على الله وكفى بالله وكيلاً».

كتاب صفّين ، تاريخ الطبري (٦ / ٥١) ، الإمامة والسياسة (١ / ١١٠) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٧٩) (١).

٣٩ ـ من خطبة له عليه‌السلام لمّا رفع أهل الشام المصاحف على الرماح : «عباد الله ، إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حقّ يُراد بها الباطل. إنّهم والله ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة ، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحقّ مقطعه ، ولم يبق إلاّ أن يُقطع دابر الذين ظلموا».

كتاب صفّين (ص ١٧٩) ، تاريخ الطبري (٦ / ٢٧) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ١٣٦) (٢).

٤٠ ـ قيل لعليّ ـ سلام الله عليه ـ يوم صالح : أتقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون؟ فقال عليّ : «ما أُقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنّهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٥ / ٩٠ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٩ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٩٤ خطبة ٣٤.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٨٩ ، تاريخ الأمم والملوك : ٥ / ٤٨ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٨٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍.


ما شاء بما شاء لنفسه ولأصحابه ، ويسمّي نفسه بما شاء وأصحابه».

كتاب صفّين (ص ٥٨٤) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٩١) (٣).

٤١ ـ كان عليّ عليه‌السلام إذا صلّى الغداة يقنت فيقول : «اللهمّ العن معاوية ، وعَمْراً ، وأبا الأعور السلمي ، وحبيباً ، وعبد الرحمن بن خالد ، والضحّاك بن قيس ، والوليد» وكانت عائشة تدعو في دبر الصلاة على معاوية.

مرّ الحديث بتفصيله في (٢ / ١٢٠ ، ١٢١ الطبعة الأولى) (٤).

٤٢ ـ كتب معاوية كتاباً إلى أبي أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبر بذلك عليّا عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين إنّ معاوية كهف المنافقين ، كتب إليّ بكتاب.

شرح ابن أبي الحديد (٥) (٢ / ٢٨٠).

٤٣ ـ من كتاب لقيس بن سعد بن عبادة أمير الخزرج إلى معاوية مرّ في (٢ / ٨٩ الطبعة الأولى) (٦) : أمّا بعد : فإنّما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرهاً ، وخرجت منه طوعاً ، لم يقدم إيمانك ، ولم يحدث نفاقك. ومنه : ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه ، وأعداء الدين الذي دخلت فيه.

وفي لفظ : أمّا بعد : فإنّما أنت وثنيّ ابن وثنيّ ، دخلت في الإسلام كرهاً ، وأقمت فيه فرقاً ، وخرجت منه طوعاً ، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً ، لم يقدم إيمانك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حرباً لله ولرسوله ، وحزباً من أحزاب المشركين ، وعدوّا لله ولنبيّه وللمؤمنين من عباده. إلى آخره.

__________________

(٣) وقعة صفّين : ص ٥٠٩ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٣٣ خطبة ٣٥.

(٤) أنظر : ٢ / ١٩٧ ، ١٩٨ من هذه الطبعة.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٤٣ خطبة ١٢٤.

(٦) أنظر : ٢ / ١٥٦ من هذه الطبعة.


٤٤ ـ من كلام لقيس لمّا بويع معاوية : يا معشر الناس ، لقد اعتضتم الشرّ من الخير ، واستبدلتم الذلّ من العزّ ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيّد المسلمين ، وابن عمّ رسول ربّ العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم؟ أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون؟. راجع (٢ / ٩٣ الطبعة الأولى) (١).

٤٥ ـ من كتاب آخر لقيس إلى الرجل : تأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، ولديك قوم ضالّون مضلّون ، طاغوت من طواغيت إبليس. راجع (٢ / ٨٨ الطبعة الأولى) (٢).

٤٦ ـ كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد ابن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله ممّن هو مسلم لأهل ولاية الله.

أمّا بعد : فإنّ الله بجلاله ، وعظمته ، وسلطانه ، وقدرته ، خلق خلقاً بلا عنت ولا ضعف في قوّته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنّه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقيّا وسعيداً ، وغويّا ورشيداً ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاختصّه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولاً مصدّقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أوّل من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق ، وأسلم وسلّم ، أخوه وابن عمّه عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام ، فصدّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كلّ حميم فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في

__________________

(١) أنظر : ٢ / ١٦٢ من هذه الطبعة.

(٢) أنظر : ٢ / ١٥٥ من هذه الطبعة.


ساعات الأزل (١) ، ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو ، المبرّز السابق في كلّ خير ، أوّل الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نيّة ، وأطيب الناس ذرّية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عمّ ، وأنت اللعين ابن اللعين.

ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان فيه القبائل ، على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشاهد لعليّ مع فضله المبين ، وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن ، فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يُجالدون بأسيافهم ويُهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتّباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعليّ؟ وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل الناس [له] (٢) اتّباعا ، وآخرهم به عهداً ، يخبره بسرّه ، ويُشركه في أمره ، وأنت عدوّه وابن عدوّه؟ فتمتّع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاصي في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا ، وأعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور. وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتّبع الهدى.

مروج الذهب (٢ / ٥٩) ، كتاب صفّين (ص ١٣٢) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٨٣) جمهرة الرسائل (١ / ٥٤٢) (٣).

__________________

(١) الأزل : الضيق والشدّة. (المؤلف)

(٢) الزيادة من شرح النهج.

(٣) مروج الذهب : ٣ / ٢٠ ، وقعة صفّين : ص ١١٨ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٨٨ كتاب : ٤٦.


٤٧ ـ من كتاب آخر لمحمد بن أبي بكر إلى معاوية : أنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم ، وأن يهلككم الله في الوقعة ، وأن ينزل بكم الذلّ ، وأن تولّوا الدبر ، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في الدنيا ، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به ، وإلى الله مصيركم ومصيرهم ، وإلى الله مردّ الأمور ، وهو أرحم الراحمين.

تاريخ الطبري (٦ / ٥٨) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٣٢) (١).

٤٨ ـ قال معن بن يزيد بن الأخنس السلمي الصحابي ممّن شهد بدراً لمعاوية : ما ولدت قرشيّة من قرشي شرّا منك.

الإصابة (٣ / ٤٥٠).

٤٩ ـ من كتاب الإمام السبط أبي محمد الحسن عليه‌السلام إلى معاوية : «فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكتابه ، والله حسيبك ، فستردّ وتعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لتلقينّ عن قليل ربّك ، ثم ليجزينّك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلاّم للعبيد».

مقاتل الطالبيين (ص ٢٢) ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ١٢) ، جمهرة الرسائل (٢ / ٩) (٢).

٥٠ ـ لمّا قدم معاوية المدينة صعد المنبر فخطب ، وقال : من ابن عليّ؟ ومن عليّ؟ فقام الحسن ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث بعثاً إلاّ جعل له عدوّا من المجرمين ، فأنا ابن علي وأنت ابن صخر ، وأمّك هند وأمّي فاطمة ، وجدّتك قتيلة (٣) وجدّتي خديجة ، فلعن الله ألأمنا حسباً ، وأخملنا ذكراً ، وأعظمنا كفراً ، وأشدّنا

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٠٢ حوادث سنة ٣٨ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٨٥ خطبة ٦٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ص ٦٥ ، شرح نهج البلاغة : ١٦ / ٣٤ وصية ٣١.

(٣) كذا في شرح النهج ، وفي المستطرف والإتحاف : قيلة.


نفاقاً». فصاح أهل المسجد : آمين آمين. فقطع معاوية خطبته ودخل منزله (٤).

وفي لفظ :

خطب معاوية بالكوفة حين دخلها ، والحسن والحسين جالسان تحت المنبر ، فذكر عليّا عليه‌السلام فنال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين ليردّ عليه ، فأخذه الحسن بيده فأجلسه ، ثم قام فقال :

«أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية ، وأبوك صخر ، وأُمّي فاطمة ، وأُمّك هند ، وجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجدّك عتبة بن ربيعة ، وجدّتي خديجة ، وجدّتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرّنا قديماً وحديثاً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً». فقال طوائف من أهل المسجد : آمين (٥).

٥١ ـ أرسل معاوية إلى الحسن ـ السبط الزكي ـ يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : «سبحان الله تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأُمّة وأُلفتهم ، أفتراني أقاتل معك؟».

شرح ابن أبي الحديد (٦) (٤ / ٦).

٥٢ ـ كتب الإمام السبط أبو عبد الله عليه‌السلام إلى معاوية : «أمّا بعد : فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أمور لم تكن تظنّني بها رغبةً بي عنها ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى ، وأمّا ما ذكر أنّه رُقي إليك عنّي ، فإنّما رقاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حرباً ولا خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين

__________________

(٤) المستطرف : ١ / ١٥٧ [١ / ١٣٠] ، الإتحاف ص ١٠ [ص ٣٦]. (المؤلف)

(٥) شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ١٦ [١٦ / ٤٦ الوصية ٣١]. (المؤلف)

(٦) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٤ وصية ٣١.


المحلّين ، حزب الظالم ، وأعوان الشيطان الرجيم.

ألست قاتل حُجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة ، والعهود المؤكّدة (٧) جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟

أولست بقاتل عمرو بن الحمق ، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال؟

أولست المدّعي زياداً في الإسلام ، فزعمت أنّه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلّبهم على جذوع النخل؟

سبحان الله يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الأُمّة ؛ وليسوا منك.

أولست قاتل الحضرمي (٨) ، الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على دين عليّ عليه‌السلام ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها الله عنكم بنا منّة عليكم؟ وقلت فيما قلت : لا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة ، وإنّي لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها ، وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمد ، وإنّي والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي ، وإن لم أفعله فاستغفر الله لديني ، وأسأله التوفيق لما يحبّ ويرضى. وقلت فيما قلت : متى تكِدْني أَكِدْك (٩) ، فكِدْني يا معاوية ما بدا لك ، فلعمري لقديماً يُكاد الصالحون ، وإنّي

__________________

(٧) سيأتي بيان العهود المعزوّة إليها في هذا الجزء إن شاء الله. (المؤلف)

(٨) سيوافيك تفصيل قتل الحضرمي في الجزء الحادي عشر. (المؤلف)

(٩) هذه الجملة لا توجد في كلام معاوية. (المؤلف)


لأرجو أن لا تضرّ إلاّ نفسك ، ولا تمحق إلاّ عملك ، فَكِدْني ما بدا لك ، واتّق الله يا معاوية واعلم أنّ لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، واعلم أنّ الله ليس بناس لك قتلك بالظنّة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّا يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعيّة. والسلام»

الإمامة والسياسة (١٠) (١ / ١٣١ وفي طبعة : ص ١٤٨) ، جمهرة الرسائل (٢ / ٦٧).

٥٣ ـ خطب الإمام السبط الحسين الشهيد ـ سلام الله عليه ـ لمّا قدم معاوية المدينة حاجّا ، وأخذ البيعة ليزيد ، وخطب ومدح يزيد الطاغية ، ووصفه بالعلم بالسنّة ، وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب. فقام الحسين فحمد الله وصلّى على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال :

«أمّا بعد يا معاوية : فلن يؤدّي القائل ـ وإن أطنب ـ في صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً ، قد فهمت ما ألبست به الخلف بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضّلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بَخِلت ، وجُرْتَ حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ حقّه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد ، من اكتماله وسياسته لأُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المتهارشة عند التحارش (١١) ، والحمام السبّق لأترابهنّ ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً. ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن

__________________

(١٠) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٥.

(١١) كذا في جمهرة الخطب ، وفي الإمامة والسياسة : عند التهارش.


تلقى الله بوزر هذا الخلق أكثر ممّا أنت لاقيه! فو الله ما برحتَ تقدّم باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولقد ـ لعمر الله ـ أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النَّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار». الخطبة.

الإمامة والسياسة (١ / ١٥٣) ، جمهرة الخطب (٢ / ٢٤٢) (١٢).

٥٤ ـ من كلام لابن عباس ألقاه في البصرة : أيّها الناس استعدّوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، فإنّكم تقاتلون المحلّين القاسطين الذين لا يقرؤون القرآن ، ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحقّ مع أمير المؤمنين. فقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي ، فقال : وفّق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلّين القاسطين الذين لا يقرؤون القرآن ، نحن والله عليهم حَنِقون ، ولهم في الله مفارقون.

كتاب صفّين (١) (ص ١٣٠ ، ١٣١).

٥٥ ـ من كلام لعمّار بن ياسر يوم صفّين : يا أهل الاسلام ، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله ، أتى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فأسلم ، وهو والله

__________________

(١٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٠ ، جمهرة خطب العرب : ٢ / ٢٥٥ رقم ٢٤٦.

(١) وقعة صفّين : ص ١١٦ ، ١١٧.


فيما يرى راهب غير راغب ، وقبض الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودّة المجرم. ألا وإنّه معاوية ، فالعنوه لعنه الله ، وقاتلوه فإنّه ممّن يطفى نور الله ، ويظاهر أعداء الله.

راجع (١) : تاريخ الطبري (٦ / ٧) ، كتاب صفين (ص ٢٤٠) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١٣٦).

٥٦ ـ من مقال لعبد الله بن بُديل يوم صفّين : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر ، وزادهم رجساً إلى رجسهم ، وأنتم والله على نور من ربّكم وبرهان مبين ، قاتلوا الطغام الجفاة ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربّكم ظاهر مبرور؟ (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٢) قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله ، وقد قاتلتهم مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ ، قوموا إلى عدوّ الله وعدوّكم رحمكم الله.

تاريخ الطبري (٦ / ٩) ، كتاب صفّين (ص ٢٦٣) ، الاستيعاب في ترجمة عبد الله (١ / ٣٤٠) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٣) ، جمهرة الخطب (١ / ١٧٦) (٣).

٥٧ ـ من خطبة لسعيد بن قيس : فو الله الذي بالعباد بصير ، أن لو كان قائدنا

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٢ ، وقعة صفّين : ص ٢١٤ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٧١ حوادث سنة ٣٧ ه‍.

(٢) التوبة : ١٣ ، ١٤.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، وقعة صفّين : ص ٢٣٤ ، الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٧٣ رقم ١٤٨١ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٨٦ خطبة ٦٥ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٥٢ خطبة ٢٣٩.


حبشيّا مجدّعاً ، إلاّ أنّ معنا من البدريّين سبعين رجلاً [لكان ينبغي لنا أن تحسُنَ بصائرنا وتطيب أنفسنا فكيف] (١) ، وإنّما رئيسنا ابن عمّ نبيّنا ، بدريّ صدق (٢) ، صلّى صغيراً ، وجاهدَ مع نبيّكم كبيراً ، ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق ، ألا إنّه أغوى جفاةً فأوردهم النار ، وأورثهم العار ، والله مُحِلّ بهم الذل والصغار ، ألا إنّكم ستلقون عدوّكم غداً ، فعليكم بتقوى الله ، والجدّ ، والحزم ، والصدق والصبر ، فإنّ الله مع الصابرين ، ألا إنّكم تفوزون بقتلهم ويشْقَوْن بقتلكم ، والله لا يقتل رجل منكم رجلاً منهم إلاّ أدخل الله القاتل جنّات عدن ، وأدخل المقتول ناراً تلظّى ، لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون.

كتاب صفّين (ص ٢٦٦) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٣) ، جمهرة الخطب (١ / ١٧٩) (٣).

٥٨ ـ من خطبة لمالك بن الحارث الأشتر يوم صفّين : واعلموا أنّكم على الحقّ ، وأنّ القوم على الباطل ، يقاتلون مع معاوية ، وأنتم مع البدريّين قريب من مائة بدريّ ، ومن سوى ذلك من أصحاب محمد ـ صلّى الله عليه ـ ، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله ـ صلّى الله عليه ـ ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله ـ صلّى الله عليه ـ ، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب ، فإنّما أنتم على إحدى الحسنيين : إمّا الفتح ، وإمّا الشهادة.

كتاب صفّين (ص ٢٦٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٤) ، جمهرة الخطب (١ / ١٨٣) (٤).

٥٩ ـ من مقال لهاشم بن عتبة المرقال : سر بنا يا أمير المؤمنين ، إلى هؤلاء

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط في الأصل ، وأثبتناه من المصادر الثلاثة.

(٢) أشار إلى أنّ كونه بدريّا ليس ككون عثمان بدريّا بالتمحّل والتصنّع ، كما مرّ حديثه في هذا الجزء. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٢٣٦ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٨٩ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٥٥ رقم ٢٤٢.

(٤) وقعة صفّين : ص ٢٣٨ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٩١ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٥٩ رقم ٢٤٧.


القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلّوا حرامه ، وحرّموا حلاله ، واستهوى بهم الشيطان ، ووعدهم الأباطيل ، ومنّاهم الأمانيّ حتى أزاغهم عن الهدى ، وقصد بهم قصد الردى ، وحبّب إليهم الدنيا ... ومنه : وهم يا أمير المؤمنين ، يعلمون منك مثل الذي نعلم ، ولكن كُتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء ، وكانوا ظالمين.

جمهرة الخطب (١) (١ / ١٥١).

٦٠ ـ من خطبة لابن عبّاس بصفّين : إنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله وصهره ، وأوّل ذكر صلّى معه ، بدريّ قد شهد مع رسول الله ـ صلّى الله عليه ـ كلّ مشاهده التي فيها الفضل ، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام ، واعلموا : والله الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله ، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله ـ صلّى الله عليه ـ ، وعليّ يقول : صدق الله ورسوله ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله ، فما معاوية في هذه بأبرّ ، ولا أتقى ، ولا أرشد ، ولا أصوب منه في تلكم (٢) ، فعليكم بتقوى الله ، والجدّ ، والحزم ، والصبر ، وإنّكم لعلى الحقّ ، وإنّ القوم لعلى الباطل.

كتاب صفّين (ص ٣٦٠) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٥٠٤) (٣).

وسيوافيك حديث لعن ابن عبّاس معاوية يوم عرفة في المجتمع العام.

٦١ ـ من أبيات لعلقمة بن عمرو يوم صفّين (٤) :

__________________

(١) جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٢٣ رقم ٢١٢.

(٢) في وقعة صفّين : في قتالكم.

(٣) وقعة صفّين : ص ٣١٨ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ٢٥١ خطبة ٦٥.

(٤) يخاطب بها رجلاً من أهل الشام اسمه عوف خرج يطلب البراز يوم صفّين ، فبرز إليه علقمة وقتله.


ما لابن صخرٍ حرمةٌ تُرتجى

لها ثوابُ الله بل مندمهْ

لاقيتَ ما لاقى غداة الوغى

من أدركَ الأبطالَ يا بنَ الأَمهْ

ضيّعتَ حقَّ اللهِ في نصرةٍ

للظالم المعروف بالمظلمهْ

إنّ أبا سفيان من قبله

(إلى آخر الأبيات) (١)

٦٢ ـ من شعر مجزأة بن ثور السدوسي الصحابي العظيم ، ارتجز به يوم صفّين :

أضربُهم ولا أرى معاويه

الأبرجَ العين (٢) العظيمَ الحاويه

هوت به في النارِ أُمٌّ هاويه

جاوره فيها كلابٌ عاويه

أغوى طغاماً لا هدته هاديه

يروى هذا الرجز لعليّ عليه‌السلام في مروج الذهب (٣) (٢ / ٢٥) وفيه : وقيل : إنّ هذا الشعر لبديل بن ورقاء ، وكذلك عزاه إليه ـ سلام الله عليه ـ في لسان العرب (٤) (١٨ / ٢٢٩) ، وذكر الطبري البيت الأوّل في تاريخه (٥) (٦ / ٢٣) ونسبه إلى أمير المؤمنين ، وذكر ابن مزاحم ثلاثة أشطر في كتاب صفّين (٦) (ص ٤٦٠) وعزاها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وذكر الأشطر برمّتها في (ص ٤٥٤) ونسبها إلى مالك الأشتر ، ورواها لمجزأة ابن ثور في (ص ٣٤٤) وذكرها ابن أبي الحديد في شرحه (٧) (١ / ٥٠٠) لمحرز بن ثور (٨)

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١٩٥.

(٢) البرج : سعة العين. (المؤلف)

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٥.

(٤) لسان العرب : ٣ / ٤١٠.

(٥) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٤٢ حوادث سنة ٣٧ ه‍.

(٦) وقعة صفّين : ص ٤٠٤ ، ٣٩٩ ، ٣٠٥.

(٧) شرح نهج البلاغة : ٥ / ٢٤٠.

(٨) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف من شرح النهج ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا نُسبت الأبيات لمجزأة بن ثور.


نقلاً عن نصر بن مزاحم ، وتعزى إلى الأخنس كما في الاشتقاق (١) (ص ١٤٨).

٦٣ ـ قال أبو عمر في الاستيعاب (٢) (١ / ٢٥١): لمّا قُتل عثمان وبايع الناس عليّا دخل عليه المغيرة بن شعبة ، فقال له : يا أمير المؤمنين إنّ لك عندي نصيحة ، قال : وما هي؟ قال : إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة ، والزبير بن العوام على البصرة ، وابعث معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك ، فاذا استقرّت لك الخلافة فأدرها كيف شئت برأيك. قال عليّ : «أمّا طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما ، وأمّا معاوية فلا والله لا أراني [الله] (٣) مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله ، ولكنّي أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أبى حاكمته إلى الله» ، وانصرف عنه المغيرة مغضباً لمّا لم يقبل عنه نصيحته ، فلمّا كان الغداة أتاه ، فقال : يا أمير المؤمنين نظرت فيما قلت لك بالأمس وما جاوبتني به ، فرأيت أنّك وفّقت للخير وطلب الحقّ ، ثم خرج عنه فلقيه الحسن رضى الله عنه وهو خارج ، فقال لأبيه : «ما قال لك هذا الأعور؟» قال : «أتاني أمس بكذا وأتاني اليوم بكذا» قال : «نصح لك والله أمس ، وخدعك اليوم» ، فقال له عليّ : «إن أقررت معاوية على ما في يده كنت متّخذ المضلّين عضدا».

راجع ما أسلفناه في الجزء السادس (ص ١٤٢).

٦٤ ـ قال أبو عمر في الاستيعاب (٤) عند ترجمة حبيب بن مسلمة (١ / ١٢٣) : وروينا أنّ الحسن بن عليّ قال لحبيب بن مسلمة في بعض خرجاته بعد صفّين : «يا حبيب ربّ مسير لك في غير طاعة الله». فقال له حبيب : أمّا إلى أبيك فلا. فقال

__________________

(١) الاشتقاق : ص ٢٤١.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٤٤٧ رقم ٢٤٨٣.

(٣) الزيادة من المصدر.

(٤) الاستيعاب : القسم الأول / ٣٢١ رقم ٤٧٠.


له الحسن : «بلى والله لقد طاوعت معاوية على دنياه ، وسارعت في هواه ، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول ، فتكون كما قال الله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (١) ، ولكنّك كما قال الله تعالى : (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢)

٦٥ ـ عن أبي سهيل التميمي قال : حجّ معاوية فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون يقال لها : دارميّة الحجونيّة ، وكانت سوداء كثيرة اللحم فأُخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجيء بها ، فقال : ما جاء بك يا ابنة حام؟ فقالت : لست لحام إن عبتني ، أنا امرأة من بني كنانة ، قال : صدقت أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت : لا يعلم الغيب إلاّ الله ، قال : بعثت إليك لأسألك علام أحببتِ عليّا وأبغضتني؟ وواليته وعاديتني؟ قالت : أَوَتعفيني؟ قال : لا أعفيك. قالت : أمّا إذا أبيتَ فإنّي أحببت عليّا على عدله في الرعيّة ، وقسمِه بالسويّة ، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحقّ ، وواليتُ عليّا على ما عقد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاء ، وحبّه المساكين ، وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى. قال : فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك؟ قالت : يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي. قال معاوية : يا هذه اربعي فإنّا لم نقل إلاّ خيرا ، إنّه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خلق ولدها ، وإذا عظُم ثدياها تروّى رضيعها ، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها ، فرجعت وسكنت ، قال لها : يا هذه هل رأيت عليّا؟ قالت : إي والله ، قال : فكيف رأيته؟ قالت : رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك ، قال : فهل سمعت كلامه؟ قالت : نعم والله ، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست ، قال : صدقت ، فهل لك

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

(٢) المطفّفين : ١٤.


من حاجة؟ قالت : أو تفعل إذا سألتك؟ قال : نعم. قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها ، قال : تصنعين بها ما ذا؟ قالت : أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، واكتسب بها المكارم ، وأصلح بها بين العشائر ، قال : فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محلّ عليّ بن أبي طالب؟ قالت : سبحان الله أو دونه ، فأنشأ معاوية يقول :

إذا لم أعد بالحلم منّي عليكمُ

فمن ذا الذي بعدي يؤمَّلُ للحلمِ

خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجدٍ

جزاكِ على حربِ العداوةِ بالسلمِ

ثم قال : أما والله لو كان عليّ حيّا ما أعطاك منها شيئاً ، قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.

العقد الفريد (١ / ١٦٢) ، بلاغات النساء لابن أبي طاهر (ص ٧٢) (١).

٦٦ ـ دخلت أروى بنت الحرث بن عبد المطّلب على معاوية وهي عجوز كبيرة ، فلمّا رآها معاوية قال : مرحباً بك وأهلاً يا خالة ، فكيف كنت بعدنا؟ فقالت : يا بن أخي لقد كفرت يد النعمة ، وأسأت لابن عمّك الصحبة ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقّك ، من غير دين كان منك ولا من آبائك ، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتعس الله منكم الجدود ، وأضرع منكم الخدود ، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون ، وكانت كلمتنا هي العليا ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور ، فوليتم علينا من بعده وتحتجّون بقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر ، فكنّا فيكم بمنزلة هارون من موسى ، فغايتنا الجنّة وغايتكم النار.

العقد الفريد (١ / ١٦٤) ، بلاغات النساء (ص ٢٧) (٢).

٦٧ ـ من حديث طويل أسلفنا شطراً منه في ترجمة عمرو بن العاص (٢ / ١٣٣ ـ ١٣):

__________________

(١) العقد الفريد : ١ / ٢٢٣ ، بلاغات النساء : ص ١٠٥.

(٢) العقد الفريد : ١ / ٢٢٥ ، بلاغات النساء : ص ٤٣.


فتكلّم الحسن بن علي عليه‌السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية : فما هؤلاء شتموني ولكنّك شتمتني فحشاً أَلِفْته ، وسوء رأي عُرفت به ، وخلقاً سيئاً ثبت عليه ، وبغياً علينا عداوةً منك لمحمد وأهله ، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا ، فلأقولنّ فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم.

أنشدكم الله أيّها الرهط أتعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين كليهما وأنت بهما كافر ، تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية؟

وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه بايع البيعتين كلتيهما : بيعة الفتح وبيعة الرضوان وأنت يا معاوية بإحداهما كافر ، وبالأخرى ناكث؟ وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه أوّل الناس إيماناً وأنّك يا معاوية وأباك من المؤلّفة قلوبهم ، تسرّون الكفر وتظهرون الإسلام ، وتستمالون بالأموال؟

وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنّه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر وأنّ راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه ، ثم لقيكم يوم أُحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعك ومع أبيك راية الشرك ، وفي كلّ ذلك يفتح الله له ، ويفلج حجّته ، وينصر دعوته ، ويصدّق حديثه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المواطن كلّها عنه راض ، وعليك وعلى أبيك ساخط؟

وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوماً جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه ، وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق؟ أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لمّا همّ أن يسلم ، تنهاه عن ذلك

يا صخر لا تسلمنْ يوماً فتفضحَنا

بعد الذين ببدرٍ أصبحوا مِزَقا

خالي وعمّي وعمّ الأُمّ ثالثهم

وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا

لا تركننّ إلى أمر يكلّفنا

والراقصات به في مكة الخرقا

فالموتُ أهونُ من قولِ العداةِ : لقد

حاد ابنُ حربٍ عن العزّى إذاً فَرَقا


والله لما أخفيت من أمرك أكبر ممّا أبديت.

وأنشدكم الله أيّها الرهط أتعلمون أنّ عليّا حرّم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة ، فنزلوا من حصنهم فهُزِموا ، فبعث عليّا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله ، وفعل في خيبر مثلها.

ثم قال : يا معاوية أظنّك لا تعلم أنّي أعلم ما دعا به عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد أن يكتب كتاباً إلى بني جذيمة فبعث إليك [ابن عباس ، فوجدك تأكل ، ثم بعثه إليك مرّة أخرى فوجدك تأكل فدعا عليك الرسول بجوعك] (٢) ونهمك إلى أن تموت ، وأنتم أيّها الرهط ، نشدتكم الله ألا تعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردّها ، أوّلها ...» ـ فعدّ المواطن التي ذكرناها (ص ٨١ ، ٨٢) من هذا الجزء.

راجع (٣) : تذكرة السبط (ص ١١٥) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ١٠٢) ، جمهرة الخطب (١ / ٤٢٨).

وفي لفظ سبط ابن الجوزي : «وأنت يا معاوية نظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليك يوم الأحزاب ، فرأى أباك على جمل يحرّض الناس على قتاله ، وأخوك يقود الجمل ، وأنت تسوقه ، فقال : لعن الله الراكب والقائد والسائق ، وما قابله أبوك في مواطن

__________________

(١) المائدة : ٨٧.

(٢) ما بين المعقوفين زيادة ، أثبتناها من الطبعة المعتمدة لدينا من شرح النهج ، وهي غير موجودة في الطبعة التي اعتمدها المؤلف رحمه‌الله.

(٣) تذكرة الخواص : ص ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٢٨٨ خطبة ٨٣ ، جمهرة خطب العرب : ٢ / ٢٢ رقم ١٨.


إلاّ ولعنه وكنت معه ، ولاّك عمر الشام فخنته ، ثم ولاّك عثمان فتربّصت عليه ، وأنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتى قلت مخاطباً له :

يا صخر لا تسلمنْ طوعاً فتفضحَنا

بعد الذين ببدرٍ أصبحوا مزقا

لا تركننّ إلى أمر تقلّدنا

والراقصات بنعمان به الحرقا

وكنت يوم بدر ، وأُحد ، والخندق ، والمشاهد كلّها تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد علمت الفراش الذي وُلدت عليه».

قال السبط في التذكرة (١) (ص ١١٦) : قال الأصمعي والكلبي في المثالب : معنى قول الحسن لمعاوية : قد علمت الفراش الذي ولدت فيه : أنّ معاوية كان يقال إنّه من أربعة من قريش : عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، مسافر بن أبي عمرو ، أبي سفيان ، العبّاس بن عبد المطّلب. وهؤلاء كانوا ندماء أبي سفيان ، وكان [كلّ] منهم يُتّهم بهند.

فأمّا عمارة بن الوليد فكان من أجمل رجالات قريش.

وأمّا مسافر بن أبي عمرو ، فقال الكلبي : عامّة الناس على أنّ معاوية منه ، لأنّه كان أشدّ الناس حبّا لهند ، فلمّا حملت هند بمعاوية خاف مسافر أن يظهر أنّه منه ، فهرب إلى ملك الحيرة فأقام عنده ، ثم إنّ أبا سفيان قدم الحيرة فلقيه مسافر وهو مريض من عشقه لهند ، وقد سقى بطنه ، فسأله عن أهل مكة فأخبره ، وقيل : إنّ أبا سفيان تزوّج هنداً بعد انفصال مسافر عن مكة ، فقال له أبو سفيان : إنّي تزوّجت هنداً بعدك ، فازداد مرضه ، وجعل يذوب ، فوصف الكيّ ، فاحضروا المكاوي والحجّام. فبينا الحجّام يكويه إذ حبق الحجّام ، فقال مسافر : قد يحبق العير والمكواة في النار (٢). فسارت مثلاً ، ثم مات مسافر من عشقه لهند.

__________________

(١) تذكرة الخواص : ص ٢٠٢ ، وما بين المعقوفين منه.

(٢) مجمع الأمثال : ٢ / ٤٨٠ رقم ٢٨٥٠.


وقال الكلبي : كانت هند من المغْلِيمات (١) ، وكانت تميل إلى السودان من الرجال ، فكانت إذا ولدت ولداً أسود قتلته ، قال : وجرى بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طابة بين يدي معاوية وهو خليفة ، فقال يزيد لإسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة. أشار يزيد إلى أنّ أُمّ إسحاق كانت تتّهم ببعض بني حرب ، فقال له إسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو العبّاس كلّهم الجنّة. فلم يفهم يزيد قوله وفهم معاوية ، فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد : كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال : قصدت شَيْنَ إسحاق. قال : وهو كذلك أيضاً. قال : وكيف؟ قال : أما علمت أنّ بعض قريش في الجاهليّة يزعمون أنّي للعبّاس؟ فسُقِط في يدي يزيد.

وقال الشعبي : وقد أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هند يوم فتح مكة بشيء من هذا ، فإنّها لمّا جاءت تبايعه وكان قد أهدر دمها ، فقالت : على ما أُبايعك؟ فقال : «على أن لا تزنين». فقالت : وهل تزني الحرّة؟ فعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إلى عمر فتبسّم.

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (٢) (ج ٣) (٣) باب القرابات والأنساب وذكر حقوق الآباء والأُمّهات وصلة الرحم والعقوق :

وكان معاوية يُعزى إلى أربعة : مسافر بن أبي عمرو ، وإلى عمارة بن الوليد ، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب ، وإلى الصباح مغنّي أسود كان لعمارة. قالوا : وكان أبو سفيان دميماً ، قصيراً ، وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان ، شابّا وسيماً ، فدعته هند إلى نفسها ـ وقالوا : إنّ عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً ـ وإنّما كرهت أن تضعه في

__________________

(١) المغْلِيمات : جمع مَغليمة. وهي التي تغلبها شهوتها.

(٢) وقفت منه على عدّة نسخ ، منها نسخة في مكتبة الأوقاف العامّة ببغداد رقم ٣٨٨. (المؤلف)

(٣) ربيع الأبرار : ٣ / ٥٥١.


منزلها ، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك ، وفي ذلك قال حسّان :

لمن الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ

في الترب مُلقى غير ذي مهدِ

نجلت به بيضاءُ آنسةٌ

من عبد شمسٍ صلبةُ الخدِّ

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج (١) (١ / ١١١) : كانت هند تُذكَر في مكة بفجور وعهر ، وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار : كان معاوية. وذكر إلى آخر الكلمة المذكورة ، فقال : والذين نزّهوا هنداً عن هذا القذف ، فذكر حديث الفاكه الذي ذكره أبو عبيد معمر بن المثنّى.

وفي كتاب لزياد بن أبيه مجيباً معاوية عن تعييره إيّاه بأمّه سُميّة : وأمّا تعييرك لي بسميّة فإن كنتُ ابن سُميّة فأنت ابن جماعة.

شرح ابن أبي الحديد (٢) (٤ / ٦٨).

٦٨ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٣) من طريق عبد الملك بن عمير قال : قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال : من أنت؟ قال : جارية بن قدامة. قال : وما عسيت أن تكون هل أنت إلاّ نحلة؟ قال : لا تقل فقد شبّهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق ، والله ما معاوية إلاّ كلبة تعاوي الكلاب ، وما أُميّة إلاّ تصغير أَمة.

وأخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية ، فقال له معاوية : أنت الساعي مع عليّ بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربيّة تسفك دماءهم؟ قال جارية : يا معاوية دع عنك عليّا فما أبغضنا عليّا منذ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٣٦ خطبة ٢٥.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٨٣ كتاب ٤٤.

(٣) مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣٦٥.


أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه. قال : ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سمّوك معاوية. إلى آخره. وذكره بطوله وما قبله السيوطي في تاريخ الخلفاء (١) (ص ١٣٣).

وفي لفظ ابن عبد ربّه : قال معاوية لجارية : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك معاوية وهي الأُنثى من الكلاب! قال : لا أُمّ لك. قال : أُمّي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا ، قال : إنّك لتهدّدني؟ ـ قال : أما والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا ـ إنّك لم تفتتحنا قسراً ، ولم تملكنا عنوة ، ولكنك أعطيتنا عهداً وميثاقاً ، وأعطيناك سمعاً وطاعة ، فإن وفيت لنا وفينا لك ، وإن فزعت إلى غير ذلك فإنّا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وألسنة حِداداً. قال له معاوية : لا كثّر الله في الناس أمثالك. قال جارية : قل معروفاً وراعنا فإنّ شرّ الدعاء المحتطب.

العقد الفريد (٢) (٢ / ١٤٣) في مجاوبة الأُمراء والردّ عليهم ، وذكره الأبشيهي قريباً من هذا اللفظ في المستطرف (٣) (١ / ٧٣) وما ذكرناه بين الخطّين من لفظه.

٦٩ ـ دخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميماً ، فقال له معاوية : إنّك لدميم والجميل خير من الدميم ، وإنّك لشريك وما لله من شريك ، وإنّ أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ، فكيف سُدْت قومك؟

فقال له : إنّك معاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت الكلاب ، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنّك لابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنّك

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ص ١٨٦.

(٢) العقد الفريد : ٣ / ٢١٤.

(٣) المستطرف : ١ / ٥٨.


لابن أُميّة وما أُميّة إلاّ أَمَة صُغِّرت ، فكيف صرت أمير المؤمنين؟ ثم خرج وهو يقول :

أيشتمني معاويةُ بنُ حربٍ

وسيفي صارمٌ ومعي لساني

وحولي من ذوي يزنٍ ليوثٌ

ضراغمةٌ تهشُّ إلى الطعانِ

يعيّر بالدمامة من سفاهٍ

وربّات الجمال من الغواني

المستطرف (١) (١ / ٧٢).

قال الأميني : إنّ معاوية لمّا كان تتوجّه إليه تلكم القوارص من ناحية اسمه ، ولعلّه كان لا ينسى معناه عند توجيه الخطاب إليه بذلك ، ولم يك له بدّ منه إذ سمّته به هند وما كان يسعه أن يخطّئها ، فبذل ألف ألف درهم لعبد الله بن جعفر الطيار أن يسمّي أحد أولاده معاوية (٢) ، زعماً منه بتخفيف الوطأة إن كان له سميّ في البيت الهاشمي. لكن خفي على المغفّل أنّ فناء آل هاشم لا يقصر عن فناء أصحاب الكهف ، فإنّ كلبهم ما دنّس ساحتهم ، فانّى تدنّس الأسماء تلك الأفنية المقدّسة التي منها بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه؟!

٧٠ ـ ومن خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة».

ولابن أبي الحديد في شرحه (٣) (٢ / ٥٧٢ ـ ٥٨٩) كلمة ضافية في شرح هذه الخطبة فيها فوائد جمّة من جهات شتّى ، ومنها كلمة الجاحظ أبي عثمان حول معاوية ،

__________________

(١) المستطرف : ١ / ٥٧.

(٢) تاج العروس : ١٠ / ٢٦٠. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢١١ ـ ٢٦٠ كتاب ١٩٣.


وقول أبي جعفر النقيب : إنّ معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليّا ولا بمحاربته إيّاه ، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ولا إيمانه حقّا ، وكان من رءوس المنافقين هو وأبوه ، ولم يسلم قلبه قطّ ، وإنّما أسلم لسانه ، وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله ، وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئاً كثيراً ... إلى آخره.

٧١ ـ لمّا قتل العبّاس بن ربيعة يوم صفّين عرار بن أدهم من أصحاب معاوية ، تأسّف معاوية على عرار ، وقال : متى ينطف فحل بمثله؟ أيُطلّ دمه؟ لاها الله ذا. ألا لله رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال : اذهبا فأيّكما قتل العبّاس برازاً فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز ، فقال : إنّ لي سيّداً أُريد أن أُؤامره ، فأتى عليّا فأخبره الخبر ، فقال عليّ : «والله لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه (١) إطفاءً لنور الله ، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون».

عيون الأخبار لابن قتيبة (١ / ١٨٠).

٧٢ ـ لمّا سلّم الحسن الأمر إلى معاوية ، قال الخوارج : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلّوا بالنخيلة عند الكوفة ، وكان الحسن بن عليّ قد سار يريد المدينة ، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة ، فلحقه رسوله بالقادسيّة أو قريباً منها فلم يرجع ، وكتب إلى معاوية : «لو آثرت أن أُقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فانّي تركتك لصلاح الأُمّة وحقن دمائها»

الكامل لابن الأثير (٢) (٣ / ١٧٧).

__________________

(١) النيط : الوسط بين الأمرين. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٤٩ حوادث سنة ٤١ ه‍.


٧٣ ـ قال الأسود بن يزيد : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلافة؟ فقالت : وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة ، وكذلك غيره من الكفّار.

تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ١٣١) قال : أخرجه أبو داود الطيالسي ، وابن عساكر (٢).

تشبيه أم المؤمنين معاوية بفرعون وغيره من الكفّار في ملكه يُعرب عن جليّة حال ذلك الملك العضوض ومالك أزمّته (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٣).

٧٤ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٤) (٦ / ٤٢٥) من طريق الشعبي قال : خطب الناس معاوية ، فقال : لو أنّ أبا سفيان ولد الناس كلّهم كانوا أكياساً. فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال له : قد ولد الناس كلّهم من هو خير من أبي سفيان : آدم عليه‌السلام فمنهم الأحمق والكيّس ، فقال معاوية : إنّ أرضنا قريبة من المحشر. فقال له : إنّ المحشر لا يبعد على مؤمن ولا يقرب من كافر. فقال معاوية : إنّ أرضنا أرض مقدّسة. فقال له صعصعة : إنّ الأرض لا يقدّسها شيء ولا ينجّسها ، إنّما تقدّسها الأعمال. فقال معاوية : عباد الله اتّخذوا الله وليّا واتّخذوا خلفاءه جنّة تحترزوا بها. فقال صعصعة ، كيف وكيف؟ وقد عطّلت السنّة ، وأخفرت الذمّة ، فصارت عشواء مطلخمّة ، في دهياء مدلهمّة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكّنت منها الأنكاث. فقال له

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٤٢.

(٣) هود : ٩٧ ـ ٩٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٢ ـ ٩٣ رقم ٢٨٨١.


معاوية : يا صعصعة ، لَأَن تقعي على ظلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي عليّ ، ولقد هممت أن أبعث إليه. فقال له صعصعة : إي والله وجدتهم أكرمكم جدوداً ، وأحياكم حدوداً ، وأوفاكم عهوداً ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أريباً ، وفي الأمر صليباً ، وفي الكرم نجيباً ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره.

فقال له معاوية : والله لأجفينّك عن الوساد ، ولأشردنّ بك في البلاد ، فقال له صعصعة : والله إنّ في الأرض لسعة ، وإنّ في فراقك لدعة ، فقال معاوية : والله لأحبسنّك عطاءك. قال : إن كان ذلك بيدك فافعل ، إنّ العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفد خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيّته. فقال له معاوية : لقد استقتلت. فقال له صعصعة : مهلاً ، لم أقل جهلاً ، ولم أستحلّ قتلاً ، لا تقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، ومن قتل مظلوماً كان الله لقاتله مقيماً ، يرهقه أليماً ، ويجرعه حميماً ، ويصليه جحيما.

٧٥ ـ لمّا ولي معاوية بن يزيد بن معاوية صعد المنبر ، فقال : إنّ هذه الخلافة حبل الله ، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحقّ به منه ، عليّ بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون ، حتى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم قلّد أبي الأمر ، وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقصف عمره ، وانبتر عقبه ، وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم بكى.

الصواعق لابن حجر (١) (ص ١٣٤).

٧٦ ـ قال الحارث بن مسمار البهراني : حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي ، وعبد الله بن الكوّاء اليشكري ، ورجالاً من أصحاب عليّ مع رجال من

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٤.


قريش ، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال : نشدتكم بالله إلاّ ما قلتم حقّا وصدقاً ، أيّ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكوّاء : لو لا أنّك عزمت علينا ما قلنا ، لأنّك جبّار عنيد ، لا تراقب الله في قتل الأخيار ، ولكنّا نقول : إنّك ما علمنا واسع الدنيا ، ضيّق الآخرة ، قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نوراً ، والنور ظلمات.

فقال معاوية : إنّ الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابّين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلّين ما حرّم الله ، والمحرّمين ما أحلّ الله. فقال عبد الله بن الكوّاء ، يا بن أبي سفيان إنّ لكلّ كلام جواباً ، ونحن نخاف جبروتك ، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم ، وإلاّ فإنّا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه. قال : والله لا يطلق لك لسان.

ثم تكلّم صعصعة فقال : تكلّمت يا بن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصّر عمّا أردت وليس الأمر على ما ذكرت ، أنّى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ، ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما والله مالك في يوم البدر (١) مضرب ولا مرمى ، وما كنت فيه إلاّ كما قال القائل : (لا حلّي ولا سيري) (٢) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممّن أجلب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية : لو لا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلتُ جهلَهمُ حلماً ومغفرةً

والعفو عن قدرةٍ ضربٌ من الكرمِ

لقتلتكم.

مروج الذهب (٣) (٢ / ٧٨).

__________________

(١) في المصدر : بدر.

(٢) يريد : لم يكن له فيه أمر ولا نهي.

(٣) مروج الذهب : ٣ / ٥١.


٧٧ ـ عن أبي مزروع الكلبي (١) قال : دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ، فقال له : يا بن صوحان ، أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن أهل الحجاز. قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم عنها ، وأقلّهم غناءً فيها ، غير أنّ لهم ثباتاً في الدين ، وتمسّكاً بعروة اليقين ، يتّبعون الأئمّة الأبرار ، ويخلعون الفسقة الفجّار. فقال معاوية : من البررة والفسقة؟ فقال : يا بن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع ، عليّ وأصحابه من الائمّة الأبرار ، وأنت وأصحابك من أولئك.

إلى أن قال معاوية : أخبرني عن أهل الشام. قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبّار ، وحلفة الأشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار. فقال معاوية : والله يا بن صوحان إنّك لحامل مديتك منذ أزمان ، إلاّ أنّ حلم ابن أبي سفيان يردّ عنك. فقال صعصعة : بل أمر الله وقدرته ، إنّ أمر الله كان قدراً مقدوراً (٢).

٧٨ ـ عن إبراهيم بن عقيل البصري ، قال : قال معاوية يوماً وعنده صعصعة ، وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ، فقال صعصعة :

تمنّيك نفسك ما لا يكو

ن جهلاً مُعاويَ لا تأثمِ

فقال معاوية : يا صعصعة تعلّمت الكلام. قال : العلم بالتعلّم ، ومن لا يعلم يجهل ، قال معاوية : ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك! قال : ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخّر نفساً إذا جاء أجلها ، قال : ومن يحول بيني وبينك؟ قال : الذي يحول بين المرء وقلبه. قال معاوية : اتّسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير.

__________________

(١) في المصدر : عن ابن مردوع الكلبي.

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٧٨ ، ٧٩ [٣ / ٥٢ ـ ٥٣]. (المؤلف)


قال : اتّسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع (١). (٢)

٧٩ ـ سئل صعصعة بن صوحان عن معاوية ، قال : صانع الدنيا فاقتلدها ، وضيّع الآخرة فنبذها ، وكان صاحب من أطعمه وأخافه.

تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤٢٤). (٣)

٨٠ ـ أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (٤) (٣ / ١٨) قال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، قال : حدّثنا عمر بن شبة ، قال : حدّثني أحمد بن معاوية ، عن الهيثم بن عدي ، قال : حجّ معاوية حجّتين في خلافته ، وكانت له ثلاثون بغلة يحجّ عليها نساؤه وجواريه ، قال : فحجّ في إحداهما فرأى شخصاً يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان ، فقال : من هذا؟ قالوا : شعبة بن غريض (٥) ، وكان من اليهود ، فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله ، فقال : أجب أمير المؤمنين. قال : أو ليس قد مات أمير المؤمنين قبل؟ قال : فأجب معاوية.

فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة ، فقال له معاوية : ما فعلت أرضك التي بتيماء (٦)؟ قال : يُكسى منها العاري ، ويردّ فضلها على الجار ، قال : أفتبيعها؟ قال : نعم. قال : بكم؟ قال : بستين ألف دينار ، ولولا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها. قال : لقد أغليت.

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٧٩ [٣ / ٥٣] ، جمهرة الخطب : ١ / ٢٥٧ [١ / ٤٤٥ رقم ٣٤٢]. (المؤلف)

(٢) المراد بمن لا يجمع رسول الله ٦ ، والمعنى أنه لا يجمع الدنيا ، والعبارة تعريض بمعاوية ، حيث دعا عليه رسول الله ٦ بقوله : «لا أشبع الله بطنه».

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٠ رقم ٢٨٨١ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ٤٢٦.

(٤) الأغاني : ٣ / ١٢٣.

(٥) كذا في الأغاني والصحيح كما ضبطه ابن حجر في الإصابة [٢ / ٤٣ رقم ٣٢٤٥] : سعنة ، بالمهملة والنون. ويقال بالمثنّاة التحتانية وعريض بالمهملة أيضاً. (المؤلف)

(٦) تيما : محلّ بين الحجاز والشام [معجم البلدان : ٢ / ٦٧]. (المؤلف)


قال : أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تِبَل (١). قال : أجل ، وإذ بخلت بأرضك ، فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه ، فقال : قال أبي :

يا ليت شعري حين أُندَبُ هالكاً

ما ذا تؤبّنني به أنواحي

أيقلن لا تبعد فربّ كريهةٍ

فرّجتها ببشارةٍ وسماحِ

ولقد ضربت بفضل مالي حقّه

عند الشتاء وهبّة الأرواحِ

ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم

ولقد رددت الحقّ غير ملاحِ

وإذا دُعيت لصعبةٍ سهَّلتها

أُدعى بأفلح مرّة ونجاحِ

فقال : أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك. قال : كذبت ولؤمت. قال : أمّا كذبت فنعم ، وأمّا لؤمت فَلِم؟ قال : لأنّك كنت ميّت الحقّ في الجاهليّة وميّته في الإسلام. أمّا في الجاهليّة فقاتلت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحي ، جعل الله كيدك المردود. وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلافة ، وما أنت وهي وأنت طليق ابن طليق؟ فقال معاوية : قد خرف الشيخ فأقيموه ، فأُخذ بيده فأُقيم.

وذكره ملخّصاً ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٣) من طريق آخر عن عبد الله بن الزبير وزاد : فقال : ما خرفت ولكن أنشدك الله يا معاوية ، أما تذكر لمّا كنّا جلوساً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء عليّ فاستقبله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «قاتل الله من يقاتلك ، وعادى من يعاديك». فقطع عليه معاوية حديثه ، وأخذ معه في حديث آخر.

__________________

(١) لم تِبَل : لم تبالِ.


معاوية في ميزان القضاء

لعمر الحقّ إنّ واحدة من هذه الشهادات كافية في تحطيم قدر الرجل والإسفاف بمستواه إلى الحضيض الأسفل ، فكيف بجميعها؟ فإنّها صدرت من سادات الصحابة وأعيانهم العدول جميعهم عند القوم ، فضلاً عن هؤلاء الذين لا يُشكّ في ورعهم وقداسة ساحتهم عن السقطة في القول والعمل ، ولا سيّما وفيهم الإمام المعصوم ، الخليفة حقّا ، المطهّر بلسان الذكر الحكيم عن أيّ رجاسة ، الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وهو مع القرآن والقرآن معه ، لن يفترقا حتى يردا الحوض (١) ، وقبل الجميع ما رويناه عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ هذا الإنسان.

فالرجل أخذاً بمجامع تلكم الشهادات الصادقة للسلف الصالح ، محكوم عليه نصّ أقوالهم من دون أيّ تحريف وتحوير منّا ، بأنّه امرؤ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ، وما أتى به من ضلالة ليس ببعيد الشبه ممّا أتى به أهله المشركون الكفرة ، مصيره إلى اللظى ، مبوّؤه النار ، اللعين ابن اللعين ، الفاجر ابن الفاجر ، المنافق ابن المنافق ، الطليق ابن الطليق ، الوثن ابن الوثن ، الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل ، يخبط في عماية ، ويتيه في ضلالة ، شديد اللزوم للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتّبعة ، لم يكن من أهل القرآن ، ولا مريداً حكمه ، يجري إلى غاية خُسر ، ومحلّة كفر ، قد أولجته نفسه شرّا ، وأقحمته

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا [ص : ٢٥١]. (المؤلف)


غيّا ، وأوردته المهالك ، وأوعرت عليه المسالك ، غمص الناس ، وسفه الحقّ ، فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، ابن آكلة الأكباد ، الكذّاب العسوف ، إمام الردى ، وعدوّ النبيّ ، لم يزل عدوّا لله والسنّة والقرآن والمسلمين ، رجل البِدع والأحداث ، كانت بوائقه تُتّقى ، وكان على الإسلام مخوفاً ، الغادر الفاسق ، مثله كمثل الشيطان ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، القاسط النابذ كتاب الله وراء ظهره ، كان شرّ الأطفال وشرّ الرجال ، كهف المنافقين ، دخل في الاسلام كرهاً ، وخرج منه طوعاً ، لم يقدم إيمانه ولم يحدث نفاقه ، كان حرباً لله ولرسوله ، حزباً من أحزاب المشركين ، عدوّا لله ولنبيّه وللمؤمنين ، أقولُ الناس للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، الغاوي اللعين ، ليس له فضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله ، أتاه فأسلم ، وهو والله راهب غير راغب ، قُبض رسول الله والرجل يُعرف بعداوة المسلم ومودّة المجرم ، يُطفئ نور الله ، ويظاهر أعداء الله ، أغوى جفاةً فأوردهم النار وأورثهم العار ، لم يكن في إسلامه بأبرّ وأتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في أيّام شركه وعبادته الأصنام.

هذا معاوية عند رجال الدين الصحيح الأبرار الصادقين ، وهذه صحيفة من تاريخه السوداء ، وتؤكّد هذه الكلم القيّمة ما يؤثر عن الرجل من بوائق وموبقات ، هي بمفردها حجج دامغة على سقوطه عن مبوّأ الصالحين ، فإنّها لا تتأتّى إلاّ عن تهاون بأمر الله ونهيه ، وإغضاء عن نواميس الدين وشرائع الإسلام ، وتزحزح عن سنّة الله ، وتعدّ وشذوذٍ عن حدوده (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١) وإليك نزراً منها :

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.


ـ ١ ـ

معاوية والخمر

١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (١) (٥ / ٣٤٧) من طريق عبد الله بن بريدة ، قال : دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفرش ، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أُتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال معاوية : كنت أجمل شباب قريش ، وأجودهم ثغراً ، وما شيء كنت أجد له لذّة كما كنت أجده وأنا شاب ، غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدّثني.

٢ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٢١١) من طريق عمير (٣) بن رفاعة ، قال : مرّ على عبادة (٤) بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر ، فقال : ما هذه؟ أزيت؟ قيل : لا ، بل : خمر تُباع لفلان ، فأخذ شفرة من السوق ، فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها ، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام ، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له : أما تمسك عنّا أخاك عبادة؟ أمّا بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمّة متاجرهم ، وأمّا بالعشيّ فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا ، فأمسك عنّا أخاك.

فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة ، فقال له : يا عبادة مالك

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٧٦ ح ٢٢٤٣٢.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ١٩٧ ـ ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦.

(٣) في الطبعة المحققة من تاريخ ابن عساكر وكذا في مختصره : عبيد بن رفاعة.

(٤) كان بدويّا عقبياً أحد نقباء الأنصار ، بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يخاف في الله لومة لائم. سنن البيهقي : ٥ / ٢٧٧. (المؤلف)


ولمعاوية؟ ذره وما حمل ، فإنّ الله يقول : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) (١). قال : يا أبا هريرة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا ، وأزواجنا ، وأهلنا ، ولنا الجنّة ، فهذه بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي بايعناه عليها ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفى الله له بما بايع عليه نبيّه. فلم يكلّمه أبو هريرة بشيء.

٣ ـ وأخرج في التاريخ (٢) (٧ / ٢١٣) من طريق عمرو بن قيس ، قال : إنّ عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس (٣) ، فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس بوجهه وهو يقول : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا أُبالي في الله لومة لائم ، ألا إنّ المقداد ابن الأسود قد غلّ بالأمس حماراً ، [قال :] وأقبلت أَوْسقٌ من مالٍ ، فأشارت (٤) الناس إليها فقال [عبادة] : أيّها الناس [ألا] إنّها تحمل الخمر ، والله ما يحلّ لصاحب هذه الحجرة أن يعطيكم منها شيئاً ، ولا يحلّ لكم أن تسألوه ، وإن [كانت] معبلة (٥) ـ يعني سهماً ـ في جنب أحدكم ، [قال :] فأتى رجلٌ المقداد [بن الأسود] وفي يده قرصافة (٦) ، فجعل يتلّ الحمار بها وهو يقول : [يا] معاوية هذا حمارك ، شأنك به ، حتى

__________________

(١) البقرة : ١٣٤.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ وما بين المعقوفات منه ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٧ / ٢١٦.

(٣) بلدة من سواحل بحر الشام ، هي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأوّل أعمال حمص. [معجم البلدان : ١ / ٢٧٠]. (المؤلف)

(٤) في المحقّقة : فاشرأبّ الناس إليها.

(٥) المعبلة : نصل طويل عريض.

(٦) القرصافة : القطيفة.


أورده الحجرة.

٤ ـ وفد عبد الله (١) بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس على معاوية ، فقرّبه حتى مسّت ركبتاه رأسه ، ثم قال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فقال له معاوية : ذهب والله خير قليل ، وبقي شرّ كثير ، فما لنا عندك؟ قال : إن أحسنت لم أحمدك ، وإن أسأت لُمتك! قال : والله ما أنصفتني ، قال : ومتى أنصفك ، فو الله لقد شججتُ أخاك حنظلة فما أعطيتك عقلاً ولا قوداً ، وأنا الذي أقول :

أصخرَ بن حربٍ لا نعدُّكَ سيّداً

فَسُدْ غيرنا إذ كنت لست بسيّدِ

وأنت الذي تقول :

شربتُ الخمرَ حتى صرتُ كلاّ

على الأدنى وما لي من صديقِ

وحتى ما أوسّد من وسادٍ

إذا أنشو سوى الترب السحيقِ

ثم وثب على معاوية يخبطه بيده ، ومعاوية ينحاز ويضحك.

رواها ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٣٤٦) ، وقال ابن حجر في الإصابة (٢ / ٢٩١) : روى الكوكبي من طريق عبسة بن عمرو (٣) ، قال : وفد عبد الله بن الحارث على معاوية ، فقال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فذكر قصّة ـ يعني هذه.

٥ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٤) ، وابن سفيان في مسنده ، وابن قانع وابن

__________________

(١) أدرك الإسلام وهو شيخ كبير ، ثم عاش بعد ذلك إلى خلافة معاوية. الإصابة : ٢ / ٢٩١ [رقم ٤٥٩٧]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٧ / ٣١٢ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٩٤.

(٣) كذا في الإصابة ، وفي الطبعة المحققة من تاريخ دمشق : عنبسة بن عمرو.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٤ / ٤١٩ رقم ٣٨٢٨ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٤ / ٢٦٣.


مندة من طريق محمد بن كعب القرظي ، قال : غزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ، ومعاوية أمير على الشام ، فمرّت به روايا خمر ـ لمعاوية ـ فقام إليها برمحه فبقر كلّ راوية منها ، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية ، فقال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله. فقال : كلاّ والله (١) ما ذهب عقلي ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً ، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبقرنّ بطنه ، أو لأموتنّ دونه.

وذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠١) ، ولخّصه في تهذيب التهذيب (٢) (٦ / ١٩٢) ، وأخرجه ملخّصاً أبو عمر في الاستيعاب (٣) (٢ / ٤٠١) ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٤) (٣ / ٢٩٩) باللفظ المذكور إلى (وأَسقيتنا) فقال : أخرجه الثلاثة ـ يعني ابن مندة وأبو نعيم وأبو عمر.

قال الأميني : لعلّ في الناس من يحسب أنّ سلسلة الاستهتار بمعاقرة الخمور كانت مبدوّة بيزيد بن معاوية ، وإن لم يحكم الضمير الحرّ بإنتاج أبوين صالحين في دار طنّبت بالصلاح والدين ، تخلو عن الخمر والفجور ، ولداً مستهتراً مثل يزيد الطاغية المتخصّص في فنون العيث والفساد ، لكن هذه الأنباء تُعلمنا أنّ هاتيك الخزاية كانت موروثة له من أبيه الماجن المشيع للفحشاء في الذين آمنوا ، بحمل الخمور إلى حاضرته على القطار تارة ، وعلى حماره أخرى ، بملإ من الأشهاد ، ونصب أعين المسلمين ، وتوزيعها في الملأ الدينيّ ، وهو يحاول مع ذلك أن لا ينقده أحد ، ولا ينقم عليه ناقم ، وكم لهذه المحاولة من نظائر ، ينبو عنها العدد ولا تقف على حدّ ، فهو وما ولد سواسية في الخمر والفحشاء والمجون ، وهذه هي التي أسقطته عند صلحاء الأُمّة ،

__________________

(١) كذا في مختصر تاريخ دمشق ، وفي الإصابة : كذب والله.

(٢) تهذيب التهذيب : ٦ / ١٧٣.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٣٦ رقم ١٤٢٤.

(٤) أُسد الغابة : ٣ / ٤٥٨ رقم ٣٣٢٢.


وحطّته عن أعينهم ، فلا يرون له حرمة ولا كرامة ، ولا يقيمون له وزناً ، حتى إنّه لمّا استخلف قام على المنبر فخطب الناس ، فذكر أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم قال : وليت فأخذت حتى خالط لحمي ودمي فهو (١) خير منّي ، وأنا خير ممّن بعدي. يا أيّها الناس إنّما أنا لكم جنّة.

فقام عبادة بن صامت فقال : أرأيت إن احترقت الجنّة؟ قال : إذن تخلص إليك النار ، قال : من ذلك أفرّ. فأمر به فأخذ. فأضرط بمعاوية (٢) ، ثم قال : علمت كيف كانت البيعتان حين دعينا إليهما؟ دعينا على أن نبايع على أن لا نزني ، ولا نسرق ، ولا نخاف في الله لومة لائم ، فقلت : أمّا هذه فاعفني يا رسول الله ، ومضيت أنا عليها ، وبايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأنت يا معاوية أصغر في عيني من أن أخافك في الله عزّ وجلّ (٣).

وذكر معاوية الفرار من الطاعون في خطبته ، فقال له عبادة : أمّك هند أعلم منك (٤). وسيوافيك قوله له : لا أُساكنك بأرض ، وقوله : لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن رغم معاوية ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء ، وقال أبو الدرداء له : لا أُساكنك بأرض أنت بها.

ومن جرّاء هذه المكافحة والكشف عن عورات الرجل ، كتب معاوية إلى عثمان بالمدينة : إنّ عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله ، فإمّا أن تكفّه إليك ، وإمّا أن أُخلي بينه

__________________

(١) إشارة إلى عثمان.

(٢) أضرط به : استخفّ به وسخر منه ، وهو أن يجمع شفتيه ويخرج من بينهما صوتاً.

(٣) تاريخ الشام لابن عساكر : ٧ / ٢١٣ [٢٦ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٨]. (المؤلف)

(٤) أخرجه ابن عساكر والطبراني كما في تاريخ الشام : ٧ / ٢١٠ [٢٦ / ١٩٥ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦]. (المؤلف)


وبين الشام. فكتب إليه عثمان : أن أرحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة ، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة ، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين ، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جانب الدار ، فالتفت إليه وقال : ما لنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا القاسم يقول : «إنّه سيلي أموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى ، فلا تضلّوا بربّكم» ، فوالذي نفس عبادة بيده إنّ فلاناً ـ يعني معاوية ـ لمن أُولئك. فما راجعه عثمان بحرف (١).

وحذا معاوية في هذه الموبقة حذو أبيه أبي سفيان ، فإنّه كان يشرب الخمر وهو من أظهر آثامه وبوائقه ، وقد جاء في حديث أبي مريم السلولي الخمّار بالطائف : أنّه نزل عنده وشرب وثمل ، وزنا بسميّة أُمّ زياد بن أبيه ، والحديث يأتي في استلحاق معاوية زياداً.

فبيت معاوية حانوت الخمر ، ودكّة الفجور ، ودار الفحشاء والمنكر من أوّل يومه ، والخمر شعار أهله ، وما أغنتهم النذر إذ جاءت ، وهم بمجنب عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا بل هم أهله ـ «لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها» (٢).

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٣٢٥ [٦ / ٤٤٤ ح ٢٢٢٦٣] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٢ [٢٦ / ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٧]. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٦١ [٣ / ٣٢٦ ح ٣٦٧٤] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٧٤ [٢ / ١١٢٢ ح ٣٣٨٠ ، ٣٣٨١] ، جامع الترمذي : ١ / ١٦٧ [٣ / ٥٨٩ ح ١٢٩٥] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ١٤٤ ، ١٤٥ [٤ / ١٦١ ح ٧٢٢٨ ، ٧٢٢٩] ، وأخرجه أحمد في المسند : ٢ / ٧١ [٢ / ١٨٤ ح ٥٣٦٧ ، ٥٣٦٨] ، وابن أبي شيبة [في مصنّفه : ٦ / ٤٤٧ ح ١٦٦٦] ، وابن راهويه ، والبزّار [في مسنده : ٥ / ٣٩ ح ١٦٠١] ، وابن حبّان [في صحيحه : ١٢ / ١٧٩ ح ٥٣٥٦] ، راجع نصب الراية للزيلعي : ٤ / ٢٦٣. (المؤلف)


وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شارب الخمر كعابد وثن». وفي لفظ : «مدمن الخمر كعابد وثن» (١).

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنّة : مدمن الخمر ، والعاق ، والديّوث الذي يقرّ في أهله الخبث» (٢).

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة أبداً : الديّوث ، والرجلة من النساء ، ومدمن الخمر» (٣).

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه».

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شرب الخمر سقاه الله من حميم جهنّم».

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عند الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» ، قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال : «عرق أهل النار. أو : عصارة أهل النار».

وعن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شرب حسوة من خمر لم يقبل الله منه ثلاثة أيّام صرفاً ولا عدلاً ، ومن شرب كأساً لم يقبل الله صلاته أربعين صباحاً ، ومدمن الخمر حقّا على الله أن يسقيه من نهر الخبال» ، قيل : يا رسول الله وما نهر الخبال؟ قال : «صديد

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة [في سننه : ٢ / ١١٢٠ ح ٣٣٧٥] ، وابن حبّان [في صحيحه : ١٢ / ١٦٧ ح ٥٣٤٧] ، والبزّار وغيرهم ، راجع الترغيب والترهيب : ٣ / ١٠٤ [٣ / ٢٥٥] ، نصب الراية : ٤ / ٢٩٨. (المؤلف)

(٢) أخرجه أحمد [في مسنده : ٢ / ١٨١ ح ٥٣٤٩] ، والنسائي [في سننه : ٢ / ٤٢ ح ٢٣٤٣] ، والبزّار ، والحاكم وصحّحه [في المستدرك : ٤ / ١٦٣ ح ٧٢٣٥] ، راجع الترغيب والترهيب : ٣ / ١٠٤ [٣ / ٢٥٦]. (المؤلف)

(٣) أخرجه الطبراني [في الأوسط : ٣ / ٢٢٠ ح ٢٤٦٤] ، وابن المنذر في الترغيب والترهيب : ٣ / ١٠٤ [٣ / ٢٥٧] وقال : رواته لا أعلم فيهم مجروحاً. (المؤلف)


أهل النار» (٤). إلى أحاديث كثيرة في الترهيب من هذا الرجس الذي كان يشربه معاوية ووالده وولده.

ـ ٢ ـ

معاوية يأكل الربا

١ ـ أخرج مالك والنسائي وغيرهما من طريق عطاء بن يسار : أنّ معاوية رضى الله عنه باع سقاية من ذهب أو ورِق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء رضى الله عنه ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ينهى] (٥) عن مثل هذا إلاّ مثلاً بمثل. فقال معاوية : ما أرى بهذا بأساً ، فقال له أبو الدرداء رضى الله عنه : من يعذرني من معاوية؟ أنا أُخبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء رضى الله عنه على عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فذكر له ذلك ، فكتب عمر إلى معاوية : أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ، وزناً بوزن.

راجع (٦) : موطّأ مالك (٢ / ٥٩) ، اختلاف الحديث للشافعي هامش كتابه الأُمّ (٧ / ٢٣) ، سنن النسائي (٧ / ٢٧٩) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٨٠).

٢ ـ وأخرج مسلم وغيره من طريق أبي الأشعث قال : غزونا غزاةً وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضّة ، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس ، فتسارع الناس في ذلك ، فبلغ عبادة بن الصامت ، فقام فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضّة بالفضّة ، والبُرّ بالبُرّ ، والشعير بالشعير والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلاّ سواء بسواء ، عيناً بعين ،

__________________

(٤) راجع الترغيب والترهيب : ٣ / ١٠١ ـ ١١٠ [٣ / ٢٤٨ ـ ٢٦٧ وانظر السنن الكبرى للنسائي : ٤ / ١٨٦ ح ٦٨١٨ ، والمعجم الأوسط للطبراني : ١ / ٢٢٦ رقم ٣٤٣]. (المؤلف)

(٥) الزيادة من المصادر.

(٦) موطّأ مالك : ٢ / ٦٣٤ ح ٣٣ ، اختلاف الحديث : ص ٤٨٠ ، السنن الكبرى للنسائي : ٤ / ٣٠ ح ٦١٦٤.


فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، فردّ الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً ، فقال : ألا ما بال رجال يتحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟ فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصّة ، ثم قال : لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كره معاوية ، أو قال : وإن رغم ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء.

راجع (١) : صحيح مسلم (٥ / ٤٣) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٧٧) ، تفسير القرطبي (٣ / ٣٤٩).

٣ ـ وأخرج البيهقي وغيره من طريق حكيم بن جابر عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الذهب الكفّة بالكفّة ، والفضة الكفّة بالكفّة حتى خصّ أن [قال :] (٢) الملح بالملح ، فقال معاوية : إنّ هذا لا يقول شيئاً ، فقال عبادة رضى الله عنه أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ذلك.

وزاد النسائي : قال عبادة : إنّي والله ما أُبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاوية ، وفي لفظ ابن عساكر : إنّي والله ما أُبالي [إلاّ] (٣) أن أكون بأرضكم هذه.

راجع (٤) : مسند أحمد (٥ / ٣١٩) ، سنن النسائي (٧ / ٢٧٧) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٧٨) ، تاريخ ابن عساكر (٧ / ٢٠٦).

٤ ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه (٥) (٧ / ٢١٢) : من طريق الحسن ، قال : كان عبادة بن الصامت بالشام فرأى آنية من فضّة ، يباع الإناء بمثلي ما فيه ، أو نحو ذلك

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٣٩٨ ح ٨٠ كتاب المساقاة ، الجامع لأحكام القرآن : ٣ / ٢٢٦.

(٢) من سنن البيهقي.

(٣) من المصدر.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٤٣٦ ح ٢٢٢١٧ ، السنن الكبرى للنسائي : ٤ / ٢٩ ح ٦١٥٩ ، تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ١٧٦ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٢.

(٥) تاريخ مدينة دمشق : ٨ / ٨٦٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٧.


فمشى إليهم عبادة ، فقال : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا عبادة ابن الصامت ، ألا وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان ولم يصم رمضان بعده ، يقول : «الذهب بالذهب ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، وزناً بوزن ، يداً بيد ، فما زاد فهو ربا ، والحنطة بالحنطة ، قفيز بقفيز ، يد بيد ، فما زاد فهو ربا ، والتمر بالتمر قفيز بقفيز ، يد بيد ، فما زاد فهو ربا». قال : فتفرّق الناس عنه. فأُتي معاوية فأُخبر بذلك ، فأرسل إلى عبادة فأتاه ، فقال له معاوية : لئن كنت صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمعت منه لقد صحبناه وسمعنا منه ، فقال له عبادة : لقد صحبته وسمعت منه ، فقال له معاوية : فما هذا الحديث الذي تذكره؟ فأخبره به ، فقال له معاوية : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره ، فقال له : بلى ، وإن رغم أنف معاوية ، ثم قام فقال له معاوية : ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصفح عنهم.

٥ ـ عن قبيصة بن ذؤيب : أنّ عبادة أنكر على معاوية شيئاً فقال : لا أساكنك بأرض ، فرحل إلى المدينة ، فقال له عمر : ما أقدمك؟ فأخبره ، فقال له عمر : ارحل إلى مكانك ، فقبّح الله أرضاً لست فيها وأمثالك ، فلا إمرة له عليك.

تاريخ ابن عساكر كما في كنز العمّال (٧ / ٧٨) ، والاستيعاب (٢ / ٤١٢) ، أُسد الغابة (٣ / ١٠٦) (١).

قال الأميني : إنّ من ضروريّات الدين الحنيف الثابتة كتاباً وسنّة وإجماعاً حرمة الربا ، وأنّه من أكبر الكبائر ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٢).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ١٩٦ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦ ، كنز العمّال : ١٣ / ٥٥٤ ح ٣٧٤٤٢ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٠٨ رقم ١٣٧٢ ، أُسد الغابة : ٣ / ١٦٠ رقم ٢٧٨٩.

(٢) البقرة : ٢٧٥.


وقال عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١).

وتواترت السنّة الشريفة في المسألة وبلغت حدّا لا يسع لأيّ مسلم ولو كان قرويّا أن يدّعي الجهل به ، فضلاً عمّن يدّعي إمرة المؤمنين. ومنها :

١ ـ جاء من غير طريق أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن آكل الربا ، ومؤكله ، وشاهديه ، وكاتبه (٢).

٢ ـ صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجتنبوا السبع الموبقات. قيل : يا رسول الله وما هنّ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا». الحديث (٣).

٣ ـ أخرج البزّار من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «الكبائر سبع : أوّلهن الشرك بالله ، وقتل النفس بغير حقّها ، وأكل الربا».

٤ ـ أخرج البخاري (٤) وأبو داود ، عن أبي جحيفة : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الواشمة والمستوشمة ، وآكل الربا ومؤكله.

٥ ـ أخرج الحاكم (٥) بإسناد صحيح ، عن أبي هريرة مرفوعاً : «أربعة ، حقّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٥٠ [٣ / ٤٠٧ ح ١٠٥ و ١٠٦] ، سنن أبي داود : ٢ / ٨٣ [٣ / ٢٤٤ ح ٣٣٣٣] ، جامع الترمذي [٣ / ٥١٢ ح ١٢٠٦] ، المحلّى : ٨ / ٤٦٨ [مسألة ١٤٧٩] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٤٠ [٢ / ٧٦٤ ح ٢٢٧٧] ، سنن البيهقي : ٥ / ٢٧٥ ، ٢٨٥ ، الترغيب والترهيب : ٢ / ٢٤٧ [٣ / ٤] ، تيسير الوصول : ١ / ٦٨ [١ / ٨٣ ح ١]. (المؤلف)

(٣) صحيح مسلم : ١ / ٢٧١ ، وفي طبعة : ٥ / ٥٠ [١ / ١٢٨ ح ١٤٥] ، المحلّى لابن حزم : ٨ / ٤٦٨ [مسألة ١٤٧٩] ، الترغيب والترهيب : ٢ / ٢٤٧ [٣ / ٣]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢١٩ ح ٥٦٠١.

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٤٣ ح ٢٢٦٠.


على الله أن لا يدخلهم الجنّة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال اليتيم بغير حقّ ، والعاقّ لوالديه».

٦ ـ أخرج (٦) الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح ، من طريق ابن مسعود مرفوعاً : «الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أُمّه».

٧ ـ أخرج البزّار (٧) بإسناد صحيح مرفوعاً : «الربا بضع وسبعون باباً ، والشرك مثل ذلك».

٨ ـ أخرج البيهقي (٨) بإسناد لا بأس به من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «الربا سبعون باباً ، أدناها كالذي يقع على أُمّه».

٩ ـ أخرج الطبراني في الكبير ، عن عبد الله بن سلام مرفوعاً : «الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام» (٩).

وعن عبد الله موقوفاً : «الربا اثنان وسبعون حوباً ، أصغرها حوباً كمن أتى أُمّه في الإسلام. ودرهم من الربا أشدّ من بضع وثلاثين زنية. قال : ويأذن الله بالقيام للبرّ والفاجر يوم القيامة إلاّ آكل الربا فإنّه لا يقوم إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ».

١٠ ـ أخرج (١٠) أحمد والطبراني في الكبير ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، من طريق عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة مرفوعاً : «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشدّ (١١) من ست وثلاثين زنية».

__________________

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٤٣ ح ٢٢٥٩ ، شعب الإيمان : ٤ / ٣٩٤ ح ٥٥١٩.

(٧) مسند البزّار (البحر الزخّار) : ٥ / ٣١٨ ح ١٩٣٥.

(٨) شعب الإيمان : ٤ / ٣٩٤ ح ٥٥٢٠.

(٩) أنظر : مجمع الزوائد : ٤ / ١١٧.

(١٠) أنظر : المعجم الأوسط : ٣ / ٣٣٠ ح ٢٧٠٣.

(١١) كذا في مجمع الزوائد ، وفي المعجم الأوسط : درهم من ربا ... أعظم عند الله.


١١ ـ أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي (١) من طريق أنس بن مالك ، قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر أمر الربا وعظّم شأنه وقال : «إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ستّ وثلاثين زنية يزنيها الرجل».

١٢ ـ أخرج الطبراني في الصغير والأوسط من طريق ابن عبّاس مرفوعاً : «من أكل درهماً من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية».

وفي لفظ البيهقي (٢) : «إنّ الربا نيّف وسبعون باباً أهونهنّ باباً مثل من أتى أُمّه في الإسلام ، ودرهم من ربا أشدّ من خمس وثلاثين زنية».

١٣ ـ أخرج الطبراني في الأوسط (٣) ، من طريق البراء بن عازب مرفوعاً : «الربا اثنان وسبعون باباً : أدناها مثل إتيان الرجل أُمّه».

١٤ ـ أخرج (٤) ابن ماجة والبيهقي وابن أبي الدنيا من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «الربا سبعون حوباً ، أيسرها أن ينكح الرجل أُمّه».

١٥ ـ أخرج الحاكم (٥) بإسناد صحيح عن ابن عبّاس مرفوعاً : «إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله».

وفي لفظ أبي يعلى (٦) بإسناد جيّد ، من طريق ابن مسعود : «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلاّ أحلّوا بأنفسهم عذاب الله».

__________________

(١) شعب الإيمان : ٤ / ٣٩٥ ح ٥٥٢٣.

(٢) شعب الإيمان : ٥ / ٢٩٩ ح ٦٧١٥.

(٣) المعجم الأوسط : ٨ / ٧٤ ح ٧١٤٧ ، وليس فيه كلمة : مثل.

(٤) سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٦٤ ح ٢٢٧٤ ، شعب الإيمان : ٤ / ٣٩٣ ح ٥٥١٧.

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٤٣ ح ٢٢٦١ وفيه : عقاب الله ، بدل : عذاب الله.

(٦) مسند أبي يعلى : ٨ / ٣٩٦ ح ٤٩٨١.


١٦ ـ أخرج أحمد (١) من طريق عمرو بن العاص مرفوعاً : «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلاّ أُخذوا بالسنة (٢)».

١٧ ـ أخرج أحمد وابن ماجة (٣) مختصراً ، والأصبهاني من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «رأيت ليلة أُسري بي لمّا انتهينا السماء السابعة ، فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبروق وصواعق ، فأتيت على قوم بطونهم كالحيّات ترى من خارج بطونهم ، قلت : يا جبريل : من هؤلاء؟ قال : هؤلاء أكلة الربا». وأخرج الأصبهاني من طريق أبي سعيد الخدري بلفظ قريب من هذا.

١٨ ـ أخرج الطبراني بإسناد رواته رواة الصحيح ، عن ابن مسعود مرفوعاً : «بين يدي الساعة يظهر الربا ، والزنا ، والخمر».

١٩ ـ أخرج الطبراني (٤) والأصبهاني من طريق عوف بن مالك مرفوعاً : «إيّاك والذنوب التي لا تغفر ، ـ إلى أن قال : ـ وآكل الربا ، فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبّط ثم قرأ : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)».

٢٠ ـ روى عبد الله بن أحمد في زوائده (٥) ، من طريق عبادة بن الصامت مرفوعاً : «والذي نفسي بيده ليبيتنَّ أُناس من أُمّتي على أشر وبطر ولعب ولهو ، فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتّخاذهم القينات ، وشربهم الخمر ، وبأكلهم الربا».

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٣٣ ح ١٧٣٦٧.

(٢) السنة : العام المقحط. (المؤلف)

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٦٣ ح ٢٢٧٣.

(٤) المعجم الكبير : ١٨ / ٦٠ ح ١١٠.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٤٥٠ ح ٢٢٢٨٤.


هذه جملة من أحاديث الباب جمعها وغيرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (١) (٢ / ٢٤٧ ـ ٢٥١).

٢١ ـ صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له في حجّة الوداع قوله : «ألا وإنّ كلّ شيء من أمر الجاهليّة موضوع تحت قدميَّ هاتين ، وربا الجاهليّة موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب ، وإنّه موضوع كلّه» (٢).

٢٢ ـ وروى أئمّة الحديث واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً : «الذهب بالذهب ، والفضّة بالفضّة ، والبُرّ بالبُرّ ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، والآخذ والمعطي فيه سواء».

راجع (٣) : صحيح مسلم (٥ / ٤٤) ، سنن النسائي (٧ / ٢٧٧ ، ٢٧٨) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٧٨).

٢٣ ـ ومن طريق أبي سعيد مرفوعاً : «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تشفوا (٤) بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلاّ مثلاً بمثل». الحديث.

راجع (٥) : صحيح مسلم (٥ / ٤٢) ، صحيح البخاري (٣ / ٢٨٨) ، كتاب الأُمّ للشافعي (٣ / ٢٥) ، سنن النسائي (٧ / ٢٧٨) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٧٦ ، ٢٧٨) ، بداية المجتهد (٢ / ١٩٥).

__________________

(١) الترغيب والترهيب : ٣ / ٣ ـ ١٤.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ٤١ [٣ / ٥٨ ح ١٤٧ كتاب الحج] ، سنن البيهقي : ٥ / ٢٧٤ ، سنن أبي داود : ٢ / ٨٣ [٢ / ١٨٥ ح ١٩٠٥]. (المؤلف)

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ٣٩٩ ح ٨٢ كتاب المساقاة ، السنن الكبرى : ٤ / ٢٨ ، ٢٩ ح ٦١٥٧ ، ٦١٥٨.

(٤) لا تشفوا : لا تفضّلوا.

(٥) صحيح مسلم : ٣ / ٣٩٥ ح ٧٥ ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٦٢ ح ٢٠٦٨ ، كتاب الأُم : ٣ / ٢٩ ، السنن الكبرى : ٤ / ٣٠ ح ٦١٦٢.


٢٤ ـ من طريق ابن عمر : الذهب بالذهب لا فضل بينهما ، بهذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم.

كتاب الأُمّ للشافعي (١) ، سنن البيهقي (٥ / ٢٧٩).

٢٥ ـ من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل ، والفضّة بالفضّة وزناً بوزن مثلاً بمثل ، فمن زاد أو ازداد (٢) فقد أربى».

صحيح مسلم (٥ / ٤٥) ، سنن النسائي (٧ / ٢٧٨) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٤) (٣).

٢٦ ـ من طريق عبادة بن الصامت مرفوعاً : «الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضّة بالفضّة تبرها وعينها ، والبرّ بالبرّ مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ، والتمر بالتمر مدي بمدي ، والملح بالملح مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى».

سنن أبي داود (٤) (٢ / ٨٥) ، وبلفظ قريب من هذا عن عبادة في كتاب الأُمّ للشافعي (٥) (٣ / ١٢).

وعلى هذه السنّة الثابتة جرت الفتاوى ، قال القرطبي في تفسيره (٦) (٥ / ٣٤٩) : أجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنّة ، وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلاّ في البُرّ والشعير ، فإنّ مالكاً جعلهما صنفاً واحداً.

وقال ابن رشد في بداية المجتهد (٢ / ١٩٥) : أجمع العلماء على أنّ بيع الذهب

__________________

(١) كتاب الأُمّ : ٣ / ٣٠.

(٢) كذا في سنن النسائي ، وفي صحيح مسلم : استزاد.

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ٤٠٠ ح ٨٤ ، السنن الكبرى : ٤ / ٢٩ ح ٦١٦١ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٥٨ ح ٢٢٥٥.

(٤) سنن أبي داود : ٣ / ٢٤٨ ح ٣٣٤٩.

(٥) كتاب الأُمّ : ٣ / ١٥.

(٦) الجامع لأحكام القرآن : ٣ / ٢٢٦.


بالذهب ، والفضّة بالفضّة ، لا يجوز إلاّ مثلاً بمثل.

وفي الفقه على المذاهب الأربعة (٢ / ٢٤٥) : لا خلاف بين أئمّة المسلمين في تحريم ربا النسيئة ، فهو كبيرة من الكبائر بلا نزاع ، وقد ثبت [ذلك] (١) بكتاب الله تعالى ، وسنّة رسوله ، وإجماع المسلمين. إلى آخره.

وفي (ص ٢٤٧) : أمّا ربا الفضل وهو أن يبيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض ، فهو حرام في المذاهب الأربعة.

هذا ما عند الله وعند رسوله وعند المسلمين أجمع ، لكن معاوية بلغت به الرفعة مكاناً يقول فيه : قال الله ورسوله وقلت ، هما يحرّمان الربا بأشدّ التحريم ، ويستحلّه معاوية ، وينهى عن رواية سنّة جاءت فيه ، ويُشدّد النكير عليها وعلى من رواها ، حتى يغادر الصحابيّ الصالح من جرّائه عقر داره ، فما ذا للقائل أن يقول فيمن يحادّ الله ورسوله ، ويستحلّ ما حرّماه ، ويتعدّى حدودهما؟ أو يقول فيمن يسمع آيات الله تُتلى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها.

ولئن صحّ للجاحظ إكفار معاوية لمحض مخالفته للسنّة الثابتة باستلحاق زياد ، كما سيوافيك شرحه فهو بما ذكرناه هنا وفي غير واحد من موارده ومصادره ، أكفر كافر.

ولنا حقّ النظر إلى ناحية أخرى من هذه القصّة ، وهي بيع آنية الفضّة من دون كسرها المحرّم في شريعة الإسلام تحريماً باتّا لا خلاف فيه. راجع المحلّى لابن حزم (٨ / ٥١٤) ، نعم ، هذا حكم الإسلام ، ومعاوية لا يبالي به ، فيبيع ما يشاء كيف يشاء ، وسيرى وبال أمره يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله.

__________________

(١) من المصدر.


ـ ٣ ـ

معاوية يتمّ في السفر

أخرج الطبراني ، وأحمد (١) ، بإسناد صحيح من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ، قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا ، قدمنا معه مكة قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ثم انصرف إلى دار الندوة ، قال : وكان عثمان حين أتمّ الصلاة ، فإذا قدم مكة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين ، نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به ، فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة. قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر. قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمّها وإنّ خلافك إيّاه له عيب ، قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً (٢).

قال الأميني : انظر إلى مبلغ هؤلاء الرجال أبناء بيت أُميّة من الدين ، ولعبهم بطقوس الإسلام ، وجرأتهم على الله وتغيير سنّته ، وإحداثهم في الصلاة وهي أفضل ما بُنيت عليه البيضاء الحنيفية ، وانظر إلى ابن هند حلف الخمر والربا وكيف يترك ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجد هو عمله عليه ، ووافقه هو مع أبي بكر وعمر ، ثم يعدل عنه لمحض أنّ ابن عمّه غيّر حكم الشريعة فيه ، وأنّ مروان بن الحكم طريد رسول الله وابن طريده ، الوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين على لسان النبيّ العظيم ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.

(٢) مرّ تفصيل الكلام حول ما أحدثه عثمان في صلاة المسافر خلاف سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزء الثامن : ص ٩٨ ـ ١١٩ ، وأسلفنا الحديث في : ٨ / ٢٦٢. (المؤلف)


وصاحبه عمرو بن عثمان ما راقهما اتّباعه السنّة ، فاستهان مخالفتها دون أن يعيب ابن عمّه بعمله ، فأحيا أُحدوثة ذي قرباه ، وأمات سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير مكترث لما سمعته أذن الدنيا عن ابن عمر : الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنّة فقد كفر (١) ، فزهٍ به من خليفة المسلمين وألف زه!!

ـ ٤ ـ

أُحدوثة الأذان في العيدين

أخرج الشافعي في كتاب الأُمّ (٢) (١ / ٢٠٨) من طريق الزهري قال : لم يؤذّن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين ، حتى أحدث ذلك معاوية بالشام ، فأحدثه الحجّاج بالمدينة حين أُمّر عليها.

وفي المحلّى لابن حزم (٥ / ٨٢) : أحدث بنو أُميّة تأخير الخروج إلى العيد ، وتقديم الخطبة قبل الصلاة والأذان والإقامة.

وفي البحر الزخّار (٣ / ٥٨) : لا أذان ولا إقامة لها ـ لصلاة العيدين ـ لما مرّ ، ولا خلاف أنّه محدث (يب) (٣) ، أحدثه معاوية (ابن سيرين) بل مروان وتبعه الحجّاج (أبو قلابة) بل ابن الزبير ، والمحدث بدعة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهو ردّ وشرّها محدثاتها. وينادى لها : الصلاة جامعة.

وفي فتح الباري لابن حجر (٤) (٢ / ٣٦٢) : اختُلف في أوّل من أحدث الأذان فيها ، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ، عن سعيد بن المسيّب أنّه معاوية ، وروى

__________________

(١) راجع : ٨ / ١١٦. (المؤلف)

(٢) كتاب الأُمّ : ١ / ٢٣٥.

(٣) إشارة إلى سعيد بن المسيّب. (المؤلف)

(٤) فتح الباري : ٢ / ٤٥٣ و ٣٥٢.


الشافعي عن الثقة ، عن الزهري مثله ، وروى ابن المنذر عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : أوّل من أحدثه زياد بالبصرة. وقال الداودي : أوّل من أحدثه مروان ، وكلّ هذا لا ينافي أنّ معاوية أحدثه كما تقدّم في البداءة بالخطبة.

وقال فيما أشار إليه في البداءة بالخطبة : لا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان ، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية ، فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك وتبعه عمّاله (١)

وقال القسطلاني في إرشاد الساري (٢) (٢ / ٢٠٢) ، أوّل من أحدث الأذان فيها معاوية. رواه ابن أبي شيبة (٣) بإسناد صحيح ، زاد الشافعي (٤) في روايته : فأخذ به الحجّاج حين أمّر على المدينة ، أو زياد بالبصرة ، رواه ابن المنذر ، أو مروان قاله الداودي ، أو هشام قاله ابن حبيب ، أو عبد الله بن الزبير ، رواه ابن المنذر أيضا. ويوجد في شرح الموطّأ للزرقاني (٥) (١ / ٣٢٣) نحوه.

وفي أوائل السيوطي (ص ٩) : أوّل من أحدث الأذان في الفطر والأضحى بنو مروان. أخرجه ابن أبي شيبة ، عن أبي سيرين (٦) ، وأخرج أيضاً عن ابن المسيّب قال : أوّل من أحدث الأذان في العيدين معاوية ، وأخرج عن حصين قال : أوّل من أذّن في العيد زياد.

وفي نيل الأوطار للشوكاني (٧) (٣ / ٣٦٤) : قال ابن قدامة في المغني (٨) : روي عن

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن : ص ١٦٠ ، ١٦٤ ، ١٦٥. (المؤلف)

(٢) إرشاد الساري : ٢ / ٧٣٧ ح ٩٦٠.

(٣) المصنّف لابن أبي شيبة : ٢ / ١٦٩.

(٤) كتاب الأُمّ : ١ / ٢٣٥.

(٥) شرح الموطّأ للزرقاني : ١ / ٣٦٢ ح ٤٢٧.

(٦) كذا في النسخ والصحيح : ابن سيرين. (المؤلف)

(٧) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٦.

(٨) المغني : ٢ / ٢٣٥.


ابن الزبير : أنّه أذّن وأقام ، وقيل : إنّ أوّل من أذّن في العيدين زياد. وروى ابن أبي شيبة في المصنّف (١) بإسناد صحيح عن ابن المسيّب قال : أوّل من أحدث الأذان في العيد معاوية.

قال الأميني : إنّ من المتسالم عليه عند أئمّة المذاهب عدم مشروعيّة الأذان والإقامة إلاّ للمكتوبة فحسب ، قال الشافعي في كتابه الأُمّ (٢) (١ / ٢٠٨) : لا أذان إلاّ للمكتوبة ، فإنّا لم نعلمه أُذّن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ للمكتوبة ، وأحبّ أن يأمر الإمام المؤذّن أن يقول في الأعياد وما جمع الناس له من الصلاة : الصلاة جامعة. أو : إن الصلاة. وإن قال : هلمّ إلى الصلاة ، لم نكرهه وإن قال : حيّ على الصلاة. فلا بأس ، وإن كنت أُحبّ أن يتوقّى ذلك لأنّه من كلام الأذان ... إلخ.

ومن مالك في الموطّأ (٣) (١ / ١٤٦) : أنّه سمع غير واحد من علمائهم يقول : لم يكن في عيد الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة منذ زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليوم ، قال مالك : وتلك السنّة التي لا اختلاف فيها عندنا.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (٤) (٣ / ٣٦٤) : أحاديث الباب تدلّ على عدم شرعيّة الأذان والإقامة في صلاة العيدين ، قال العراقي : وعليه عمل العلماء كافّة. وقال ابن قدامة في المغني (٥) : ولا نعلم في هذا خلافاً ممّن يعتدّ بخلافه.

وقد تضافرت الأخبار الدالّة على هدي الرسول الأعظم في صلاة العيدين ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاّها بغير أذان ولا إقامة ، وإليك جملة منها :

__________________

(١) المصنّف : ٢ / ١٦٩.

(٢) كتاب الأُمّ : ١ / ٢٣٥.

(٣) موطّأ مالك : ١ / ١٧٧.

(٤) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٦.

(٥) المغني : ٢ / ٢٣٥.


١ ـ عن جابر بن عبد الله : شهدت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ، تم قام متوكّئاً على بلال فأمر بتقوى الله ، وحثّ على الطاعة ووعظ الناس وذكّرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهنّ وذكّرهنّ.

صحيح البخاري مختصراً (٢ / ١١١) ، صحيح مسلم (٣ / ١٨) ، سنن النسائي (٣ / ١٦٣) ، سنن الدارمي مختصراً ومفصّلاً (١ / ٣٧٥ ، ٣٧٧) ، وأخرجه بلفظ قريب من هذا من طريق ابن عباس في (ص ٣٧٦ ، ٣٧٨) ، زاد المعاد لابن القيّم (١ / ١٧٣) (١).

٢ ـ عن جابر بن سمرة : صلّيت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العيد غير مرّة ولا مرّتين بغير أذان ولا إقامة.

صحيح مسلم (٣ / ٢٩) ، سنن أبي داود (١ / ١٧٩) ، جامع الترمذي (٣ / ٤) ، مسند أحمد (٥ / ٩٢ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٨ ، ١٠٧) بألفاظ شتّى ، سنن البيهقي (٣ / ٢٨٤) ، فتح الباري (٢ / ٣٦٢) (٢).

٣ ـ عن ابن عبّاس وجابر قالا : لم يكن يؤذّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.

صحيح البخاري (٢ / ١١١) ، صحيح مسلم (٣ / ١٩) ، جامع الترمذي (٣ / ٤) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ٨٥) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٢) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٨٤) (٣).

٤ ـ عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى العيد بلا أذان ولا إقامة ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٣٢ ح ٩٣٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٤ ح ٤ كتاب صلاة العيدين ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٥٤٩ ح ١٧٨٤ ، زاد المعاد : ١ / ١٢٢.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٥ ح ٧ ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩٨ ح ١١٤٨ ، سنن الترمذي : ٢ / ٤١٣ ح ٥٣٢ ، مسند أحمد : ٦ / ٩٦ ح ٢٠٣٣٦ ، ص ١٠١ ح ٢٠٣٧٤ ، ص ١٠٢ ح ٢٠٣٨٤ ، ص ١٠٨ ح ٢٠٤٢٥ ، ص ١٢١ ح ٢٠٥٢٤ ، فتح الباري : ٢ / ٤٥٢.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٧ ح ٩١٧ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٥ ح ٥ ، سنن الترمذي : ٢ / ٤١٣ ح ٥٣٢ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٥٤٤ ح ١٧٦٢.


وأبا بكر ، وعمر أو عثمان. شكّ يحيى (١).

سنن أبي داود (١ / ١٧٩) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٦) ، قال الزرقاني في شرح الموطّأ (١ / ٣٢٣) : إسناده صحيح.

٥ ـ عن عبد الرحمن بن عابس قال : سأل رجل ابن عبّاس : أشهدت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : نعم ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الْعَلَمَ الذي عند دار كثير بن الصلت ، فصلّى ثم خطب ، ولم يذكر أذاناً ولا إقامة.

سنن أبي داود (٢) (١ / ١٧٩).

٦ ـ عن عطاء ، أخبرني جابر : أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ، ولا بعد ما يخرج ، ولا إقامة ولا نداء ولا شيء ، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة.

صحيح مسلم (٣) (٣ / ١٩).

٧ ـ عن عبد الله بن عمر : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم عيد فصلّى بغير أذان ولا إقامة.

سنن النسائي حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري (٢ / ٣٦٢) ، والزرقاني في شرح الموطّأ (١ / ٣٢٣) (٤).

٨ ـ عن سعد بن أبي وقّاص : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بغير أذان ولا إقامة.

__________________

(١) سنن أبي داود : ١ / ٢٩٨ ح ١١٤٧ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٤ ، شرح الموطأ : ١ / ٣٦٢ ح ٤٢٧.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٢٩٨ ح ١١٤٦.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٥ ح ٥ كتاب صلاة العيدين.

(٤) السنن الكبرى : ١ / ٥٤٤ ح ١٧٦٣ ، فتح الباري : ٢ / ٤٥٢ ، شرح الموطّأ : ١ / ٣٦٢ ح ٤٢٧.


أخرجه (١) : البزّار في مسنده كما في فتح الباري (٢ / ٣٦٢) ، ونيل الأوطار (٣ / ٣٦٣).

٩ ـ عن البراء بن عازب : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى في يوم الأضحى بغير أذان ولا إقامة.

أخرجه : الطبراني في الأوسط (٢) كما في الفتح (٢ / ٣٦٢) ، ونيل الأوطار (٣ / ٣٦٣).

١٠ ـ عن أبي رافع : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخرج إلى العيد ماشياً بغير أذان ولا إقامة.

أخرجه الطبراني في الكبير كما في نيل الأوطار (٣ / ٣٦٤) (٣).

١١ ـ عن عطاء : أنّ ابن عبّاس أرسل إلى ابن الزبير أوّل ما بويع له ، أنّه لم يكن يؤذّن للصلاة يوم الفطر ، فلا تؤذّن لها ، قال : فلم يؤذّن لها ابن الزبير يومه.

صحيح مسلم (٣ / ١٩) ، صحيح البخاري (٢ / ١١١) (٤).

هذه شريعة الله التي شرعها في صلاة العيدين ، واستمرّ عليها العمل في دور النبوّة ، ولم تزل متّبعة على عهد الشيخين ، وهلمّ جرّا ، حتى أحدث رجل النفاق بدعته الشنعاء ، وأدخل في الدين ما ليس منه ، فكان مصيره ومصير بدعته ومن عمل بها إلى النار ، وكان على الأُمّة منه يوم أسود عند حشرها ، كما كان منه عليها يوم أحمر في دنياها ، فأيّ خليفة هذا يجرّ على قومه الويلات في النشأتين جمعاء؟ وهذه وما شابهها من بدع الرجل تنمّ عن تهاونه بالشريعة ، وعدم التزامه بسننها

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٤٥٢ ، نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٢) المعجم الأوسط : ٢ / ١٧٤ ح ١٣١٧.

(٣) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٤) صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٥ ح ٦ ، صحيح البخاري : ١ / ٣٢٧ ح ٩١٦.


وفروضها ، وإنّما كان يعمل بما يرتئيه وتحبّذ له ميوله ، غير مكترث لمخالفته الدين ، متى وجد فيه حريجة من شهواته ، ومدخلاً من أهوائه ، فحسب أنّ في تقديم الأذان دعوة إلى الاجتماع وملتمحاً للأبّهة ، وعزب عنه أن دين الله لا يقاس بهذه المقاييس ، وإنّما هو منبعث عن مصالح لا يعلم حقائقها إلاّ الله ، ولو كانت لتلك المزعمة مقيل من الحقّ لجاء بها نبيّ العظمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدع معاوية يتورّط في سيّئاته ، ويُهملج في تركاضه إلى الضلال ، والله يعلم منقلبه ومثواه.

ـ ٥ ـ

معاوية يصلّي الجمعة يوم الأربعاء

إنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفّين ، فتعلّق به رجل من دمشق ، فقال : هذه ناقتي أخذت منّي بصفّين. فارتفع أمرهما إلى معاوية ، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّنة يشهدون أنّها ناقته ، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه ، فقال الكوفي : أصلحك الله إنّه جمل وليس بناقة ، فقال معاوية : هذا حكم قد مضى ، ودسّ إلى الكوفيّ بعد تفرّقهم فأحضره ، وسأله عن ثمن بعيره فدفع إليه ضعفه ، وبرّه وأحسن إليه ، وقال له : أبلغ عليّا أنّي أقابله (١) بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل. ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفّين الجمعة في يوم الأربعاء ، وأعاروه رءوسهم عند القتال ، وحملوه بها وركنوا إلى قول عمرو بن العاص : إنّ عليّا هو الذي قتل عمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته ، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن عليّ سنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير (٢).

قال الأميني : اشتملت هذه الصحيفة السوداء على أشياء تجد البحث عن بعضها

__________________

(١) في المصدر : أُقاتله.

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٧٢ [٣ / ٤٢]. (المؤلف)


في طيّات كتابنا هذا كاتّخاذ لعن عليّ أمير المؤمنين سنّة يدأب عليها ، وكتأويل عمرو ابن العاص قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : تقتلك الفئة الباغية ، بأنّ عليّا عليه‌السلام هو الذي قتل عمّاراً لإلقائه بين سيوف القوم ورماحهم ، وكبيان ما يُعرب عن حال أصحاب معاوية ومبلغهم من العقل والدين ، وهذه كلمة معاوية ومعتقده فيهم ، وهو على بصيرة منهم ، وقد كان يستفيد من أولئك الهمج بضؤولة عقليّتهم ، وخَوَر نفسيّاتهم ، وبعدهم عن معالم الدين ونواميس الشريعة المقدّسة ، فيجمعهم على قتال إمام الحقّ تارة وللشهادة بأنّه عليه‌السلام هو الذي قتل عثمان طوراً ، إلى موارد كثيرة من شهادات الزور التي كان يُغريهم بها ، كقصّة حجر بن عدي وأمثالها.

والذي يهمّنا هاهنا أوّلاً حكمه الباطل على ناقة لم تكن توجد هنالك ، وإنّما الموجود جمل قد شاهده وعلم به وأنّه خارج عن موضوع الشهادة ، لكنّه أنفذ الحكم الباطل المبتني على خمسين شهادة ، زور كلّها ، ويقول بملء فيه : هذا حكم قد مضى. والحقيقة غير عازبة عنه ، ويتبجّح أنّه يقابل إمام الهدى عليه‌السلام بمائة ألف من أولئك الحمر المستنفرة ، لكنّه لم يقابل إمام الحقّ بهم فحسب ، وإنّما كان يقابل النبيّ الأعظم ، ودينه الأقدس ، وكتابه العزيز ، بتلكم الرعرعة الدهماء.

ويهمّنا ثانياً تغييره وقت صلاة الجمعة عند مسيره إلى صفّين ـ في تلك السفرة المحظورة التي أُنشِئت على الضدّ من رضى الله ورسوله ـ إلى يوم الأربعاء ، وإلى الغاية لم يظهر لي سرّ هذا التغيير ، هل نسي يوم الجمعة فحسب يوم الأربعاء أنّه يوم الجمعة؟ ومن العجب أنّه لم يذكره أحد من ذلك الجيش اللجب ، ولا ذكّره منهم أحد. أو أنّه كان يبهضه ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل يوم الجمعة ، وفضل ساعاته والأعمال الواردة فيه ، وقد اتّخذه هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون من بعده عيداً تمتاز به هذه الأُمّة عن بقيّة الأُمم؟ وما كان ابن هند يستسهل أن يجري في الدنيا سنّة للنبيّ متّبعة لم يولها إخلالاً وعيثاً ، فبدر إلى ذلك التبديل عتوّا منه ، وما أكثر عبثه بالدين وحيفه بالمسلمين!


ولعلّه اختار يوم الأربعاء لما ورد فيه من أنّه أثقل الأيّام ، يوم نحس مستمر (١) فأراد أن يرفع النحوسة بصلاة الجمعة ، ولم يعبأ باستلزام ذلك تغيير سنّة الله التي لا تبديل لها ، والجمعة سيّد الأيّام ، خير يوم طلعت عليه الشمس (٢).

وبهذا وأمثاله يُستهان بما يؤثر عن الرجل من تقديم وقت الجمعة إلى الضحى (٣) ، ووقتها المضروب لها في شريعة الإسلام الزوال لا غيره ، وهي بدل الظهر ، ووقتها وقتها ، وهذه سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابتة المتّبعة ، فعن سلمة بن الأكوع قال : كنّا نُجمعُ مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتّبع الفيء (٤).

وعن سلمة أيضاً قال : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة وما نجد للحيطان فيئاً يُستظلّ به (٥).

وعن جابر بن عبد الله لمّا سُئل : متى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي الجمعة؟ قال : كان يصلّي ، ثم نذهب إلى جمالنا لنريحها حين تزول الشمس (٦).

__________________

(١) راجع ثمار القلوب : ص ٥٢١ ، ٥٢٢ [ص ٦٤٩ ، ٦٥٠ رقم ١٠٩٤]. (المؤلف)

(٢) أخرجه الحاكم [في المستدرك ١ / ٤١٣ ح ١٠٣٠] والترمذي [في سننه ٢ / ٣٥٩ ح ٤٨٨] والنسائي [في سننه ١ / ٥١٧ ح ١٦٦٣] وأبو داود [في سننه ١ / ٢٧٤ ح ١٠٤٦ و ١٠٤٧] (المؤلف)

(٣) راجع فتح الباري : ٢ / ٣٠٩ [٢ / ٣٨٧] ، نيل الأوطار : ٣ / ٣١٩ ، ٣٢٠ [٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦]. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : ٣ / ٩ [٢ / ٢٦٦ ح ٣١ كتاب الجمعة] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٩٠ ، نصب الراية : ٢ / ١٩٥ [وأخرجه عنه في كنز العمال ٨ / ٣٧١ ح ٢٣٣١٤ بلفظ : كنا نصلّي مع النبي ...] (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٣ / ٩ [٢ / ٢٦٦ ح ٣٢] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٩١. [وأخرجه عنه الدارقطني في سننه : ٢ / ١٨ ح ٢ ، والطبراني في الأوسط : ٧ / ٦٤ ح ٦٠١٤]. (المؤلف)

(٦) مسند أحمد : [٤ / ٢٨١ ح ١٤١٣٠] ، سنن النسائي : [١ / ٥٢٧ ح ١٦٩٩] ، صحيح مسلم : ٣ / ٨ و ٩ [٢ / ٢٦٥ ح ٢٩] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٩٠ ، المحلّى : ٥ / ٤٤. (المؤلف)


وعن أنس بن مالك قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي الجمعة حين تميل الشمس (١).

وعن الزبير بن العوام قال : كنّا نصلّي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجمعة ثم نبتدر الفيء ، فما يكون إلاّ موضع القدم أو القدمين. وفي رواية أبي معاوية : ثم نرجع فلا نجد في الأرض من الظلّ إلاّ موضع أقدامنا (٢).

وقال البخاري في صحيحه (٣) : باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس ، وكذلك روي عن عمر ، وعلي ، والنعمان بن بشير ، وعمرو بن حُريث.

وقال البيهقي في سننه الكبرى (٣ / ١٩١) : ويذكر هذا القول عن عمر ، وعليّ ، ومعاذ بن جبل ، والنعمان بن بشير ، وعمرو بن حريث ، أعني في وقت الجمعة إذا زالت الشمس.

وقال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٤٢) : الجمعة هي ظهر يوم الجمعة ، ولا يجوز أن تصلّى إلاّ بعد الزوال ، وآخر وقتها آخر وقت الظهر في سائر الأيّام.

وقال ابن رشد في البداية (٤) (١ / ١٥٢) : أمّا الوقت فإنّ الجمهور على أنّ وقتها وقت الظهر بعينه ، أعني وقت الزوال ، وأنّها لا تجوز قبل الزوال ، وذهب قوم إلى أنّه يجوز أن تصلّى قبل الزوال ، وهو قول أحمد بن حنبل.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم (٥) بعد سرد بعض أحاديث الباب : قال

__________________

(١) صحيح البخاري [١ / ٣٠٧ ح ٨٦٢] ، مسند أحمد [٣ / ٥٨٢ ح ١١٨٩٠] ، سنن أبي داود [١ / ٢٨٤ ح ١٠٨٤] ، سنن النسائي ، سنن البيهقي : ٣ / ١٩٠ ، نصب الراية : ٢ / ١٩٥. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٣ / ١٩١. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٠٦.

(٤) بداية المجتهد : ١ / ١٦٠.

(٥) شرح صحيح مسلم : ٤ / ١٦٢ [٦ / ١٤٨]. (المؤلف)


مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم : لا تجوز الجمعة إلاّ بعد زوال الشمس ، ولم يخالف في هذا إلاّ أحمد بن حنبل ، وإسحاق ، فجوّزاها قبل الزوال.

قال القاضي : وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصحّ منها شيء ، إلاّ ما عليه الجمهور.

وقال القسطلاني : هو مذهب عامّة العلماء ، وذهب أحمد إلى صحّة وقوعها قبل الزوال متمسّكاً بما روي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان أنّهم كانوا يصلّون الجمعة قبل الزوال من طريق لا تثبت (١).

طرق ما تمسّك به أحمد تنتهي إلى عبد الله بن سيدان السلمي ، زيّفها الحفّاظ لمكان ابن سيدان ، قال الزيلعي في نصب الراية (٢ / ١٩٦) : فهو حديث ضعيف. وقال النووي في الخلاصة : اتّفقوا على ضعف ابن سيدان. وقال ابن حجر في فتح الباري (٢) (٢ / ٣٠٩) : إنّه تابعيّ كبير ، إلاّ أنّه غير معروف العدالة. قال ابن عدي (٣) : شبه المجهول. وقال البخاري (٤) : لا يتابع على حديثه ، بل عارضه ما هو أقوى منه. ثم ذكر من عمل أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، على خلاف حديث ابن سيدان ، بأسانيد صحيحة.

فالسنّة الثابتة في توقيت الجمعة هي السنّة المتّبعة في صلاة الظهر ، وإقامة معاوية الجمعة في الضحى خروج عن سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهديه ، وشذوذ عن سيرة السلف كشذوذه في بقيّة أفعاله وتروكه.

__________________

(١) إرشاد الساري : ٢ / ١٦٤ [٢ / ٦٤٨]. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٢ / ٣٨٧.

(٣) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٢٢٢ رقم ١٠٣١.

(٤) التاريخ الكبير : ٥ / ١١٠ رقم ٣٢٨.


ـ ٦ ـ

أحدوثة الجمع بين الأُختين

أخرج ابن المنذر عن القاسم بن محمد : أنّ حيّا سألوا معاوية عن الأُختين ممّا ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما؟ قال : ليس بذلك بأس ، فسمع بذلك النعمان بن بشير ، فقال : أفتيت بكذا وكذا؟ قال : نعم. قال : أرأيت لو كان عند الرجل أخته مملوكة يجوز له أن يطأها؟ قال : أما والله لربما وددتني أدرك ، فقل لهم : اجتنبوا ذلك ، فإنّه لا ينبغي لهم ، فقال : إنّما الرحم من العتاقة وغيرها (١).

قال الأميني : هذا الباب المرتَج فتحه عثمان ، كما أسلفنا تفصيله في الجزء الثامن (ص ٢١٤ ـ ٢٢٣) وقد عُدّ ذلك من أحداثه ، ولم يوافقه عليه أحد من السلف والخلف ممّن يُعبأ به وبرأيه ، حتى جاء معاوية معلّياً على ذلك البنيان المتضعضع ، معلّياً بما شذّ عن الدين الحنيف ، أخذاً بأُحدوثة ابن عمّه ، صفحاً عن كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أتينا هنالك في بطلانه بما لم يبقَ معه في القوس منزع.

ـ ٧ ـ

أُحدوثة معاوية في الديات

أخرج الضحّاك في الديات (ص ٥٠) من طريق محمد بن إسحاق قال : سألت الزهري قلت : حدّثني عن دية الذمّي كم كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قد اختلف علينا فيها. فقال : ما بقي أحد بين المشرق والمغرب أعلم بذلك منّي ، كانت على عهد رسول الله ألف دينار ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، حتى كان معاوية ، أعطى أهل القتيل خمسمائة دينار ، ووضع في بيت المال خمسمائة دينار.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٧]. (المؤلف)


وفي لفظ البيهقي في سننه (٨ / ١٠٢) : كانت دية اليهود والنصارى في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل دية المسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فلمّا كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف ، وألقى النصف في بيت المال ، قال : ثم قضى عمر بن عبد العزيز في النصف وألقى ما كان جعل معاوية.

وفي الجوهر النقي (١) : ذكر أبو داود في مراسيله بسند صحيح عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال : كان عقل الذمّي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله ، وزمن أبي بكر ، وزمن عمر ، وزمن عثمان ، حتى كان صدراً من خلافة معاوية ، فقال معاوية : إن كان أهله أُصيبوا به فقد أُصيب به بيت مال المسلمين ، فاجعلوا لبيت مال المسلمين النصف ولأهله النصف خمسمائة دينار. ثم قتل رجل من أهل الذمّة ، فقال معاوية : لو أنّا نظرنا إلى هذا الذي يدخل بيت المال فجعلناه وضيعاً عن المسلمين وعوناً لهم ، قال لمن هناك : وضع عقلهم إلى خمسمائة.

وقال ابن كثير في تاريخه (٢) (٨ / ١٣٩) : قال الزهري : مضت السنّة أنّ دية المعاهد كدية المسلم ، وكان معاوية أوّل من قصّرها إلى النصف وأخذ النصف [لنفسه] (٣).

قال الأميني : تقدّم في الجزء الثامن (ص ١٦٧) : أنّ دية الذمي في دور النبوّة لم يكن ألفاً كما حسبه الزهري ، ولم يذهب إليه أحد من أئمّة المذاهب إلاّ أبا حنيفة ، وأنّ أوّل من جعلها ألفاً هو عثمان ، وعلى أيّ حال فما ارتكبه معاوية فيه بدع ثلاث :

١ ـ أخذ الدية ألفاً.

٢ ـ تنصيفه بين ورثة المقتول وبيت المال.

__________________

(١) الجوهر النقي المطبوع في ذيل السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ١٠٢.

(٢) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٨ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٣) الزيادة من المصدر.


٣ ـ وضعه حصّة بيت المال أخيراً إن كانت الألف سنّة ولبيت المال فيها حقّ.

فمرحىً بخليفة يجهل حكماً واحداً من الشريعة من شتّى نواحيه ، أو : يعلمه لكنّه يتلاعب به كيفما حبّذته له ميوله ، وهو لا يقيم للحكم الإلهي وزناً ، ولا يرى لله حدوداً لا يتجاوزها ، ويقول : لو أنّا نظرنا إلخ. ولا يبالي بما تقوّل على الله ولا يكترث لمغبّة ما أحدثه في الدين وفي الذكر الحكيم ، قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (١).

ـ ٨ ـ

ترك التكبير المسنون في الصلوات

أخرج الطبراني ـ وفي شرح الموطّأ : الطبري ـ عن أبي هريرة : أنّ أوّل من ترك التكبير معاوية ، وروى أبو عبيد : أنّ أوّل من تركه زياد.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن المسيب أنّه قال : أوّل من نقص التكبير معاوية (٢).

قال ابن حجر في فتح الباري (٢ / ٢١٥) : هذا لا ينافي الذي قبله : لأنّ زياداً تركه بترك معاوية. وكان معاوية تركه بترك عثمان (٣) ، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء.

وفي الوسائل الى مسامرة الأوائل (ص ١٥) : أوّل من نقص التكبير معاوية ،

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦.

(٢) فتح الباري : ٢ / ٢١٥ [٢ / ٢٧٠] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٣٤ [ص ١٨٧] ، نيل الأوطار : ٢ / ٢٦٦ [٢ / ٢٦٨] ، شرح الموطأ للزرقاني : ١ / ١٤٥ [١ / ١٥٩ ح ١٦٣] (المؤلف)

(٣) أخرج حديثه أحمد في مسنده [٥ / ٥٩٧ ح ١٩٣٨٠] من طريق عمران كما يأتي في المتن بعيد هذا. (المؤلف)


كان إذا قال : سمع الله لمن حمده ، انحطّ إلى السجود فلم يكبّر ، وأسنده العسكري عن الشعبي ، وأخرج ابن أبي شيبة (١) عن إبراهيم قال : أوّل من نقص التكبير زياد.

وفي نيل الأوطار للشوكاني (٢ / ٢٦٦) : هذه الروايات غير متنافية ، لأنّ زياداً تركه بترك معاوية ، وكان معاوية تركه بترك عثمان وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء ، وحكى الطحاوي : أنّ بني أُميّة كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع (٢). وما هذه بأوّل سنّة تركوها.

وأخرج الشافعي في كتابه الأُمّ (٣) (١ / ٩٣) من طريق أنس بن مالك قال : صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأُمّ القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة ، ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة. فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان : يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمّ القرآن وكبّر حين يهوي ساجداً.

وأخرج في كتاب الأُمّ (٤) (١ / ٩٤). من طريق عبيد بن رفاعة : أنّ معاوية قدم المدينة فصلّى بهم فلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع ، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار : أن يا معاوية سرقت صلاتك ، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فصلّى بهم صلاة أخرى ، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه.

وأخرجه من طريق أنس صاحب الانتصار ، كما في البحر الزخّار (١ / ٢٤٩).

__________________

(١) المصنّف : ١ / ٢٤٢.

(٢) شرح معاني الآثار : ١ / ٢٢٠ ح ١٣٢٠.

(٣) كتاب الأُمّ : ١ / ١٠٨.

(٤) كتاب الأُمّ : ١ / ١٠٨.


قال الأميني : تنمّ هذه الأحاديث عن أنّ البسملة لم تزل جزءاً من السورة منذ نزول القرآن الكريم ، وعلى ذلك تمرّنت الأُمّة ، وانطوت الضمائر ، وتطامنت العقائد ، ولذلك قال المهاجرون والأنصار لمّا تركها معاوية : إنّه سرق ، ولم يتسنَّ لمعاوية أن يعتذر لهم بعدم الجزئيّة ، حتى التجأ إلى إعادة الصلاة مكلّلة سورتها بالبسملة ، أو أنّه التزم بها في بقيّة صلواته ، ولو كان هناك يومئذ قول بتجرّد السورة عنها لاحتجّ به معاوية ، لكنّه قول حادث ابتدعوه لتبرير عمل معاوية ونظرائه من الأمويّين الذين اتّبعوه بعد تبيّن الرشد من الغيّ.

وأمّا التكبير عند كلّ هوي وانتصاب فهي سنّة ثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفها الصحابة كافّة ، فأنكروا على معاوية تركها ، وعليها كان عمل الخلفاء الأربعة ، واستقرّ عليها إجماع العلماء ، وهي مندوبة عندهم ، عدا ما يؤثر عن أحمد في إحدى الروايتين عنه من وجوبها ، وكذلك عن بعض أهل الظاهر ، وإليك جملة ممّا ورد في المسألة :

١ ـ عن مطرف بن عبد الله قال : صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبّر ، وإذا رفع رأسه كبّر ، وإذا نهض من الركعتين كبّر ، فلمّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين ، فقال : قد ذكّرني هذا صلاة محمد ، أو قال : لقد صلّى بنا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي لفظ لأحمد : قال عمران : ما صلّيت منذ حين. أو قال : منذ كذا كذا أشبه بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الصلاة ، صلاة عليّ.

وفي لفظ آخر له : عن مطرف عن عمران قال : صلّيت خلف عليّ صلاةً ذكّرني صلاةً صلّيتها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفتين ، قال : فانطلقت فصلّيت معه ، فإذا هو يكبّر كلّما سجد وكلّما رفع رأسه من الركوع ، فقلت : يا أبا نجيد من أوّل من تركه؟


قال : عثمان بن عفّان رضى الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه.

صحيح البخاري (٢ / ٥٧ ، ٧٠) ، صحيح مسلم (٢ / ٨) ، سنن أبي داود (١ / ١٣٣) ، سنن النسائي (٢ / ٢٠٤) ، مسند أحمد (٤ / ٤٢٨ ، ٤٢٩ ، ٤٣١ ، ٤٤٠ ، ٤٤٤) ، البحر الزخّار (٢ / ٢٥٤) (١).

٢ ـ عن أبي هريرة : أنّه كان يصلّي بهم فيكبّر كلّما خفض ورفع ، فإذا انصرف قال : إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله. وفي لفظ للبخاري : فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله.

راجع (٢) : صحيح البخاري (٢ / ٥٧ ، ٥٨) ، صحيح مسلم (٢ / ٧) ، بعدّة طرق وألفاظ ، سنن النسائي (٢ / ١٨١ ، ٢٣٥) ، سنن أبي داود (١ / ١٣٣) ، سنن الدارمي (١ / ٢٨٥) المدوّنة الكبرى (١ / ٧٣) ، نصب الراية (١ / ٣٧٢) ، البحر الزخّار (٢ / ٢٥٥).

٣ ـ عن عكرمة قال : رأيت رجلاً عند المقام يكبّر في كلّ خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع ، فأخبرت ابن عبّاس رضى الله عنه قال : أو ليس تلك صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أُمّ لك؟

وفي لفظ عن عكرمة : صلّيت خلف شيخ بمكة ، فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عبّاس : إنّه أحمق ، فقال : ثكلتك أُمّك سنّة أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

صحيح البخاري (٢ / ٥٧ ، ٥٨) ، مسند أحمد (١ / ٢١٨) ، البحر الزخّار (٢ / ٢٥٥) (٣).

قال الأميني : يظهر من هذه الرواية أنّ تغيير الأمويّين هذه السنّة الشريفة وفي

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٢٧٢ ح ٧٥٣ و ٢٨٤ ح ٧٩٢ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٤ ح ٣٣ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢٢١ ح ٨٣٥ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٢٢٧ ح ٦٦٩ ، مسند أحمد : ٥ / ٥٩٠ ح ١٩٣٣٩ و ٥٩٣ ح ١٩٣٥٩ و ٥٩٧ ح ١٩٣٨٠ و ٦٠٩ ح ١٩٤٥٠ و ٦١٦ ح ١٩٤٩٣.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٢٧٢ ح ٧٥٢ و ٢٧٦ ح ٧٧٠ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٢ ح ٢٧ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٢٤٧ ح ٧٤١ ، سنن أبي داود : ١ / ٢٢١ ح ٨٣٦ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٧١.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٢٧٢ ح ٧٥٤ و ٧٥٥ ، مسند أحمد : ١ / ٣٦١ ح ١٨٨٩.


مقدّمهم معاوية كان مطّرداً بين الناس ، حتى كادوا أن ينسوا السنّة ، فحسبوا من ناء بها أحمق ، أو تعجّبوا منه كأنّه أدخل في الشريعة ما ليس منها ، كلّ ذلك من جرّاء ما اقترفته يدا معاوية وحزبه الأثيمتان ، وجنحت إليه ميولهم وشهواتهم ، فبُعداً لأولئك القصيّين عمّا جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤ ـ عن عليّ ، وابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكبّر عند كلّ خفض ورفع.

صحيح البخاري (٣ / ٧٠) ، سنن الدارمي (١ / ٢٨٥) ، سنن النسائي (٢ / ٢٠٥ ، ٢٣٠ ، ٢٣٣) ، المدوّنة الكبرى (١ / ٧٣) ، نصب الراية (١ / ٣٧٢) ، بدائع الصنائع (١ / ٢٠٧) ، منتقى الأخبار لابن تيميّة ، البحر الزخّار (٢ / ٢٥٤) (١).

٥ ـ أخرج أحمد (٢) وعبد الرزّاق (٣) والعقيلي (٤) ، من طريق عبد الرحمن بن غنم قال : إنّ أبا مالك الأشعري ـ الصحابي الشهير بكنيته ـ قال لقومه : قوموا حتى أصلّي بكم صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصففنا خلفه وكبّر. إلى آخر الحديث المذكور بطوله في (٨ / ١٧٦) وفيه : أنّه كبّر في كلّ خفض ورفع.

٦ ـ عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر كلّما خفض ورفع ، فلم تزل تلك صلاته حتى قبضه الله.

المدوّنة الكبرى (٥) (١ / ٧٣) ، نصب الراية (١ / ٣٧٢).

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٢٧١ ح ٧٥١ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٢٢٨ ح ٦٧٠ و ٢٤٤ ح ٧٢٨ و ٢٤٥ ح ٧٣٥ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٧١.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٤٦٨ ح ٢٢٣٩١.

(٣) مصنّف عبد الرزاق : ٢ / ٦٣ ح ٢٤٩٩.

(٤) أنظر كنز العمّال : ٨ / ١٦٢ رقم ٢٢٣٨٩ ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد : ٢ / ١٣٠.

(٥) المدوّنة الكبرى : ١ / ٧١.


٧ ـ في المدوّنة الكبرى (١) (١ / ٧٢) : أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عمّاله يأمرهم أن يكبّروا كلّما خفضوا ورفعوا في الركوع والسجود ، إلاّ في القيام من التشهّد بعد الركعتين ، لا يكبّر حتى يستوي قائماً مثل قول مالك.

هذه سنّة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكبير الصلوات عند كلّ هوي وانتصاب ، وبها أخذ الخلفاء ، وإليها ذهبت أئمّة المذاهب ، وعليها استقرّ الإجماع ، غير أنّ معاوية يقابلها بخلافها ، ويغيّرها برأيه ، ويتّخذ الأمويّون أُحدوثته سنّة متّبعة تجاه ما جاء به نبيّ الإسلام.

قال ابن حجر في فتح الباري (٢) (٢ / ٢١٥) : استقرّ الأمر على مشروعيّة التكبير في الخفض والرفع لكلّ مصلٍّ ، فالجمهور على ندبيّة ما عدا تكبيرة الإحرام ، وعن أحمد وبعض أهل العلم بالظاهر يجب كلّه.

وقال في (ص ٢١٦) : أشار الطحاوي إلى أنّ الاجماع استقرّ على أنّ من تركه فصلاته تامّة (٣) ، وفيه نظر لما تقدّم عن أحمد ، والخلاف في بطلان الصلاة بتركه ثابت في مذهب مالك ، إلاّ أن يريد إجماعاً سابقاً.

وقال النووي في شرح مسلم (٤) : اعلم أنّ تكبيرة الإحرام واجبة وما عداها سنّة لو تركه صحّت صلاته ، لكن فاتته الفضيلة وموافقة السنّة ، هذا مذهب العلماء كافّة إلاّ أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه : أنّ جميع التكبيرات واجبة.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (٥) (٢ / ٢٦٥) : حُكِي مشروعيّة التكبير في كلّ

__________________

(١) المدوّنة الكبرى : ١ / ٧٠.

(٢) فتح الباري : ٢ / ٢٧٠ و ٢٧١.

(٣) شرح معاني الآثار : ١ / ٢٢٨ ح ١٣٦٦.

(٤) شرح صحيح مسلم : ٤ / ٩٨.

(٥) نيل الأوطار : ٢ / ٢٦٨.


خفض ورفع عن الخلفاء الأربعة ، وغيرهم ومن بعدهم من التابعين قال : وعليه عامّة الفقهاء والعلماء ، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصدّيق ، وعمر بن الخطّاب ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر ، وقيس بن عباد ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وسعيد بن عبد العزيز ، وعامّة أهل العلم ، وقال البغوي في شرح السنّة (١) : اتّفقت الأُمّة على هذه التكبيرات.

وعن ابن عبد البرّ في شرح الموطّأ للزرقاني (٢) (١ / ١٤٥) : وقد اختلف في تاركه ، فقال ابن القاسم : إن أسقط ثلاث تكبيرات سجد لسهوه وإلاّ بطلت ، وواحدة أو اثنتين سجد أيضاً ، فإن لم يسجد فلا شيء عليه ، وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ : إن سها سجد ، فإن لم يسجد فلا شيء عليه ، وعمداً أساء وصلاته صحيحة ، وعلى هذا فقهاء الأمصار من الشافعيّين ، والكوفيّين ، وأهل الحديث ، والمالكيّين ، إلاّ من ذهب منهم مذهب ابن القاسم.

ـ ٩ ـ

ترك التلبية خلافاً لعليّ عليه‌السلام

أخرج النسائي في سننه (٣) (٥ / ٢٥٣) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٥ / ١١٣) من طريق سعيد بن جبير ، قال : كان (٤) ابن عبّاس بعرفة ، فقال : يا سعيد مالي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون معاوية. فخرج ابن عبّاس من فسطاطه ، فقال : لبّيك اللهمّ لبّيك ، وإن رغم أنف معاوية ، اللهمّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ.

__________________

(١) شرح السنّة : ٢ / ٢٢٦ ح ٦١٤.

(٢) شرح الموطّأ : ١ / ١٦٠ ح ١٦٣.

(٣) السنن الكبرى : ٢ / ٤١٩ ح ٣٩٩٣ ، وفيه : كنا مع ابن عباس.

(٤) في السنن الكبرى للبيهقي : كنّا عند ابن عباس.


وقال السندي في تعليق سنن النسائي : ـ من بغض عليّ ـ أي لأجل بغضه ، أي وهو كان يتقيّد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له.

وفي كنز العمّال (١) ، عن ابن عبّاس قال : لعن الله فلاناً إنّه كان ينهى عن التلبية في ذا اليوم ـ يعني يوم عرفة ـ لأنّ عليّا كان يلبّي فيه. ابن جرير.

وفي لفظ أحمد في المسند (٢) (١ / ٢١٧) عن سعيد بن جبير ، قال : أتيت ابن عبّاس بعرفة وهو يأكل رمّاناً ، فقال : أفطر رسول الله بعرفة ، وبعثت إليه أُمّ الفضل بلبن فشربه. وقال : لعن الله فلاناً عمدوا إلى أعظم أيّام الحجّ فمحوا زينته ، وإنّما زينة الحجّ التلبية. وحكاه في كنز العمّال (٣) عن ابن جرير الطبري.

وفي تاريخ ابن كثير (٤) (٨ / ١٣٠) من طريق صحيح ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن عبّاس : أنّه ذكر معاوية ، وأنّه لبّى عشيّة عرفة ، فقال فيه قولاً شديداً ، ثم بلغه أنّ عليّا لبّى عشيّة عرفة فتركه.

وقال ابن حزم في المحلّى (٧ / ١٣٦) : كان معاوية ينهى عن ذلك.

قال الأميني : إنّ السنّة المسلّمة عند القوم استمرار التلبية إلى رمي جمرة العقبة ، أوّلها أو آخرها على خلاف فيه. وإليك ما يؤثر منها عندهم :

١ ـ عن الفضل : أَفَضتُ مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات ، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة ، ويكبّر مع كلّ حصاة ، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة. وفي لفظ : لم يزل

__________________

(١) كنز العمّال : ٥ / ١٥٢ ح ١٢٤٢٨.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٣٥٨ ح ١٨٧٣.

(٣) كنز العمال : ٥ / ١٥٢ ح ١٢٤٣٠.

(٤) البداية والنهاية : ٨ / ١٣٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍.


يلبّي حتى بلغ (١) الجمرة.

صحيح البخاري (٣ / ١٠٩) ، صحيح مسلم (٤ / ٧١) ، صحيح الترمذي (٤ / ١٥٠) ، قال : وفي الباب عن عليّ ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، سنن النسائي (٥ / ٢٦٨ ، ٢٧٥ ، ٢٧٦) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٢٤٤) ، سنن أبي داود (١ / ٢٨٧) ، سنن الدارمي (٢ / ٦٢) ، سنن البيهقي (٥ / ١١٢ ، ١١٩) ، كتاب الأُمّ (٢ / ١٧٤) وقال : وروى ابن مسعود عن النبيّ مثله. انتهى. مسند أحمد (١ / ٢٢٦) (٢).

وأخرجه ابن خزيمة (٣) ، وقال : هذا حديث صحيح مفسّراً لما أبهم في الروايات الأخرى (٤) ، وقال الترمذي (٥) : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم.

٢ ـ عن جابر بن عبد الله وأسامة وابن عبّاس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم التلبية ولم يقطعها حتى رمى جمرة العقبة.

راجع (٦) : صحيح البخاري (٣ / ١١٤) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٢٤٤) ، المحلّى (٧ / ١٣٦) ، بدائع الصنائع (٢ / ١٥٦).

__________________

(١) كذا في صحيح مسلم ، وفي المصادر الباقية : رمى.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٦٠٥ ح ١٦٠١ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٠٤ ح ٢٦٦ ـ ٢٦٧ كتاب الحج ، سنن الترمذي : ٣ / ٢٦٠ ح ٩١٨ ، السنن الكبرى للنسائي : ٢ / ٤٣٥ ح ٤٠٦١ ، ٤٤٠ ح ٤٠٨٥ ، ص ٤٤١ ح ٤٠٨٧ ، ٤٠٨٨ ، سنن ابي ماجة : ٢ / ١٠١١ ح ٣٠٤٠ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٦٣ ح ١٨١٥ ، كتاب الأُمّ للشافعي : ٢ / ٢٠٥ ، مسند أحمد ١ / ٣٧٤ ح ١٩٨٧.

(٣) صحيح ابن خزيمة : ٤ / ٢٦٠ ح ٢٨٣٢.

(٤) نيل الأوطار : ٥ / ٥٥ [٤ / ٣٦١]. (المؤلف)

(٥) سنن الترمذي : ٣ / ٢٦٠ ح ٣٥٥٢.

(٦) صحيح البخاري : ٢ / ٦٠٥ ح ١٦٠٢ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠١١ ح ٣٠٣٩.


٣ ـ عن عبد الرحمن بن يزيد : أنّ عبد الله بن مسعود لبّى حين أفاض من جمع ، فقيل له : عن أيّ هذا؟ ـ وفي لفظ مسلم : فقيل : أعرابيّ هذا ـ فقال : أنسي الناس أم ضلّوا؟ سمعت الذي أُنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : لبّيك اللهمّ لبّيك.

راجع (١) : صحيح مسلم (١ / ٣٦٣ وفي طبعة ٤ / ٧١ ، ٧٢) ، سنن البيهقي (٥ / ١١٢) ، المحلّى (٧ / ١٣٥) وصحّحه ، ورواه الطحاوي (٢) بإسناد صحيح كما في فتح الباري (٣ / ٤٢٠) ، بدائع الصنائع (٢ / ١٥٤).

٤ ـ عن كُريب مولى ابن عبّاس : أنّ ميمونة أُمّ المؤمنين لبّت حين رمت الجمرة.

كتاب الأُمّ (٣) (٢ / ١٧٤) ، سنن البيهقي (٥ / ١١٣) ، المحلّى (٧ / ١٣٦)

٥ ـ عن ابن عبّاس : تلبّي حتى تأتي حرمك إذا رميت الجمرة.

سنن البيهقي (٥ / ١١٣).

٦ ـ عن ابن عبّاس أيضاً : سمعت عمر يلبّي غداة المزدلفة.

المحلّى لابن حزم (٧ / ١٣٦).

٧ ـ عن ابن عبّاس أيضاً : سمعت عمر بن الخطّاب يهلّ وهو يرمي جمرة العقبة ، فقلت له : فيما الإهلال يا أمير المؤمنين؟ فقال : وهل قضينا نسكنا بعد؟

كتاب الأُمّ (٤) مختصراً (٢ / ١٧٤) ، سنن البيهقي (٥ / ١١٣) ، المحلّى (٧ / ١٣٦).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٠٥ ح ٢٧٠ كتاب الحج ، فتح الباري : ٣ / ٥٣٢.

(٢) شرح معاني الآثار : ٢ / ١٢٤ ح ٣٥٥٢.

(٣) كتاب الأُمّ للشافعي : ٢ / ٢٠٥.

(٤) كتاب الأُمّ للشافعي : ٢ / ٢٠٥.


٨ ـ عن ابن عبّاس أيضاً : حججت مع عمر إحدى عشرة حجّة وكان يلبّي حتى يرمي الجمرة.

أخرجه سعيد بن منصور ، كما في فتح الباري (١) (٣ / ٤١٩).

٩ ـ عن ابن عبّاس أيضاً : التلبية شعار الحجّ ، فإن كنت حاجّا فلبّ حتى بدء حلّك ، وبدء حلّك أن ترمي جمرة العقبة.

أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح ، كما في فتح الباري (٣ / ٤١٩).

١٠ ـ عن ابن مسعود : لا يمسك الحاجّ عن التلبية حتى يرمي جمرة العقبة.

المحلّى لابن حزم (٧ / ١٣٦).

١١ ـ عن الأسود بن يزيد : أنّه سمع عمر بن الخطّاب يلبّي بعرفة.

المحلّى (٧ / ١٣٦).

١٢ ـ أخرج ابن أبي شيبة (٢) من طريق عكرمة ، يقول : أهلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رمى الجمرة ، وأبو بكر ، وعمر. المحلّى (٧ / ١٣٦).

١٣ ـ عن أنس بن مالك في الجواب عن التلبية يوم عرفة : سرت هذا المسير مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فمنّا المكبّر ، ومنا المهلّ ، ولا يعيب أحدنا على صاحبه.

صحيح مسلم (٣) (٤ / ٧٣).

١٤ ـ عن عائشة ، كانت تلبّي بعد عرفة.

المحلّى (٧ / ١٣٦).

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٥٣٣.

(٢) المصنّف : ٤ / ٣٤٢ ح ١٤.

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ١٠٦ ح ٢٧٥.


١٥ ـ عن عبد الرحمن بن الأسود : أنّ أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة ، فقال له : ما يمنعك أن تهلّ؟ فقد رأيت عمر في مكانك هذا يهلّ ، فأهلّ ابن الزبير.

سنن البيهقي (٥ / ١١٣) ، المحلّى لابن حزم (٧ / ١٣٦).

١٦ ـ عن مولانا أمير المؤمنين : أنّه لبّى حتى رمى جمرة العقبة.

المحلّى (٧ / ١٣٦).

١٧ ـ عن مولانا عليّ أيضاً : أنّه لبّى في الحجّ ، حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية.

أخرجه مالك في الموطّأ (١) (١ / ٢٤٧) وقال : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وذكره صاحب البحر الزخّار (٣ / ٣٤٢).

١٨ ـ عن عكرمة : كنت مع الحسين بن عليّ عليهما‌السلام فلبّى حتى رمى جمرة العقبة (٢).

هذه هي السنّة المتسالم عليها عند القوم ، وبها أخذت أئمّة الفقه والفتوى ، قال ابن حزم في المحلّى (٧ / ١٣٥) : لا يقطع التلبية إلاّ مع آخر حصاة من جمرة العقبة ، فإنّ مالكاً قال : يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة ، ثم زيّف أدلّة مالك ، وأنت سمعت قول مالك قُبيل هذا ، وأنّه يخالف ما عزاه إليه ابن حزم.

وقال في (ص ١٣٦) : لا يقطعها حتى يرمي الجمرة ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان.

وقال ملك العلماء في البدائع (٢ / ١٥٤) : لا يقطع التلبية وهذا قول عامّة العلماء ، وقال مالك : إذا وقف بعرفة يقطع التلبية ، والصحيح قول العامّة.

__________________

(١) موطّأ مالك : ١ / ٣٣٨ ح ٤٤.

(٢) المحلّى : ٧ / ١٣٦.


وقال ابن حجر في فتح الباري (١) (٣ / ٤١٩) : وباستمرارها قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأتباعهم.

وفي نيل الأوطار (٢) (٥ / ٥٥) : أنّ التلبية تستمرّ إلى رمي جمرة العقبة ، وإليه ذهب الجمهور.

هذا ما تسالمت عليه الأُمّة سلفاً وخلفاً ، لكنّ معاوية جاء متهاوناً بالسنّة لمحض أنّ عليّا عليه‌السلام كان ملتزماً بها ، فحدته بغضاؤه إلى مضادّته ولو لزمت مضادّة السنّة ، ومحو زينة الحجّ ، هذه نظريّة خليفة المسلمين فيما حسبوه ، وهذا مبلغه من الدين ومبوّؤه من الأخذ بسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلهفي على المسلمين من متغلّب عليهم باسم الخلافة.

وإنّي لست أدري أكان من السائغ الجائز لعن ابن عبّاس وهو محرم في ذلك الموقف العظيم ، في مثل يوم عرفة اليوم المشهود معاويةَ مبغض عليّ أمير المؤمنين ومناوئه تارك سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ هلاّ كان حبر الأُمّة يعلم أنّ الصحابة كلّهم عدول؟ أو أنّ الصحابيّ كائناً من كان لا يجوز سبّه؟ أو أنّ معاوية مجتهد وللمخطئ من المجتهدين أجر واحد؟ أنا لا أدري ، غير أنّ ابن عبّاس لا يقول بالتافه ولا يخبت إلى الخرافة.

وما أظلم معاوية الجاهل بأحكام الله! فإنّه يخالف هاهنا عليّا عليه‌السلام وهو بكلّه حاجة وافتقار إلى علم الإمام الناجع ، قال سعيد بن المسيّب : إنّ رجلاً من أهل الشام وجد رجلاً مع امرأته فقتله وقتلها ، فأشكل على معاوية الحكم فيه ، فكتب إلى أبي موسى ليسأل له عليّ بن أبي طالب ، فقال له عليّ رضى الله عنه : «هذا شيء ما وقع بأرضي عزمت عليك لتخبرنّي». فقال له أبو موسى : إنّ معاوية كتب إليّ به أن

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٥٣٣.

(٢) نيل الأوطار : ٤ / ٣٦١.


أسألك فيه. فقال عليّ رضى الله عنه «أنا أبو الحسن إن لم يأتِ بأربعة شهداء فليعط برمّته (١)».

أخرجه (٢) : مالك في الموطّأ (٢ / ١١٧) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٣١) ، تيسير الوصول (٤ / ٧٣).

لفت نظر : هذه النزعة الأمويّة الممقوتة بقيت موروثة عند من تولّى معاوية جيلاً بعد جيل ، فترى القوم يرفعون اليد عن السنّة الثابتة خلافاً لشيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو إحياءً لما سنّته يد الهوى تجاه الدين الحنيف. كما كان معاوية يفعل ذلك إحياءً لما أحدثه خليفة بيته الساقط تارة ، كما مرّ في الإتمام في السفر ومواضع أخرى ، وخلافاً للإمام آونةً ، كما في التلبية وغيرها.

قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في كتاب رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة المطبوع بهامش الميزان للشعراني (١ / ٨٨) : السنّة في القبر التسطيح ، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة.

وقال الغزالي والماوردي : إنّ تسطيح القبور هو المشروع ، لكن لمّا جعلته الرافضة شعاراً لهم ، عدلنا عنه إلى التسنيم.

وقال مصنّف الهداية من الحنفيّة : إنّ المشروع التختّم في اليمين ، ولكن لمّا اتّخذته الرافضة جعلناه في اليسار. انتهى.

وأوّل من اتّخذ التختّم باليسار خلاف السنّة هو معاوية. كما في ربيع الأبرار للزمخشري (٣).

__________________

(١) الرمّة : الحبل الذي يقاد به الجاني. (المؤلف)

(٢) موطّأ مالك : ٢ / ٧٣٧ ح ١٨ ، تيسير الوصول : ٤ / ٨٦.

(٣) ربيع الأبرار : ٤ / ٢٤.


وقال الحافظ العراقي في بيان كيفيّة إسدال طرف العمامة : فهل المشروع إرخاؤه من الجانب الأيسر كما هو المعتاد أو الأيمن لشرفه؟ لم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلاّ في حديث ضعيف عند الطبراني ، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثم يردّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم ، إلاّ أنّه صار شعاراً للإماميّة ، فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم.

شرح المواهب للزرقاني (٥ / ١٣).

وقال الزمخشري في تفسيره (١) (٢ / ٤٣٩) : القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن ، لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) (٢) وقوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى». ولكنّ للعلماء تفصيلاً في ذلك وهو : أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك صلّى الله على النبيّ وآله فلا كلام فيها ، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك [صار] (٤) شعاراً لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم».

وقال ابن تيميّة في منهاجه (٥) (٢ / ١٤٣) عند بيان التشبّه بالروافض : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم ، فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميّز السنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم ، أعظم من مصلحة هذا المستحبّ.

__________________

(١) الكشّاف : ٣ / ٥٥٨.

(٢) الاحزاب : ٤٣.

(٣) التوبة : ١٠٣.

(٤) من المصدر.

(٥) منهاج السنة : ٢ / ١٤٧.


ثم جعل هذا كالتشبّه بالكفّار في وجوب التجنّب عن شعارهم ، وسيوافيك التفصيل في بيان هذه كلّها ونظرائها عند الكلام على الفتاوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة إن شاء الله تعالى.

وقال الشيخ اسماعيل البروسوي في تفسيره روح البيان (٤ / ١٤٢) : قال في عقد الدرر واللآلئ (١) : المستحبّ في ذلك اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ فعل الخيرات من الصدقة والصوم والذكر وغيرهما ، ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال ، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً. يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم ، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون وقومه ، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح ، فإنّ ترك السنّة سنّة إذا كان شعاراً لأهل البدعة كالتختّم باليمين ، فإنّه في الأصل سنّة لكنّه لمّا كان شعار أهل البدعة والظلمة ، صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا ، كما في شرح القهستاني.

ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرّم مقتل الحسين رضى الله عنه ، فقد تشبّه بالروافض ، خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلّة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين ، وفي كراهية القهستاني : لو أراد ذكر مقتل الحسين ، ينبغي أن يذكر أوّلاً مقتل سائر الصحابة لئلاّ يشابه الروافض.

وقال حجّة الإسلام الغزالي : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم ، فإنّه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم ، وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة ، ولعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد ، لا لطلب الرئاسة والدنيا كما لا يخفى. انتهى.

__________________

(١) في فضل الشهور والأيّام والليالي للشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر الحموي الشهير بالرسّام.(المؤلف)


وقال ابن حجر في فتح الباري (١) (١١ / ١٤٢) : تنبيه : اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيّته في تحيّة الحيّ ، فقيل : يشرع مطلقاً. وقيل : بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة. ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.

ـ ١٠ ـ

أُحدوثة تقديم الخطبة على الصلاة

قال الزرقاني في شرح الموطّأ (٢) (١ / ٣٢٤) في بيان كون الصلاة قبل الخطبة في العيدين : ففي الصحيحين (٣) عن ابن عبّاس : شهدت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر [وعثمان] (٤) ، فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة ، واختلف في أوّل من غيّر ذلك ، ففي مسلم ، عن طارق بن شهاب : أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. وفي رواية ابن المنذر بسند صحيح عن الحسن البصري : أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثم خطبهم أي على العادة ، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة ، وهذه العلّة غير التي اعتلّ بها مروان ، لأنّ عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة ، لكن قيل : إنّهم في زمنه كانوا يتعمّدون ترك سماعهم لما فيها من سبّ من لا يستحق السبّ ، والإفراط في مدح بعض الناس ، فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه ، ويحتمل أنّ عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان ، فواظب عليه فلذا نسب إليه ، و [روي] (٥) عن عمر مثل فعل عثمان ، قال عياض ومن تبعه : لا يصحّ عنه. وفيه

__________________

(١) فتح الباري : ١١ / ١٧٠.

(٢) شرح الموطّأ : ١ / ٣٦٣ ح ٤٢٩.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٧ ح ٩١٩ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٣ ح ١ كتاب صلاة العيدين.

(٤) الزيادة من شرح الموطّأ والصحيحين.

(٥) الزيادة من شرح الموطّأ.


نظر لأنّ عبد الرزّاق (١) ، وابن أبي شيبة (٢) ، روياه جميعاً عن ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، وهذا إسناد صحيح ، لكن يعارضه حديثا ابن عبّاس وابن عمر ، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً ، وإلاّ فما في الصحيحين أصحّ.

وأخرج الشافعي (٣) ، عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عبّاس ، وزاد حتى قدم معاوية فقدم الخطبة ، وهذا يشير إلى أنّ مروان إنّما فعل ذلك تبعاً لمعاوية ، لأنّه كان أمين المدينة من جهته ، وروى عبد الرزّاق (٤) ، عن ابن جريج ، عن الزهري : أوّل من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية ، وروى ابن المنذر ، عن ابن سيرين : أوّل من فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض : ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان ، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية ، فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك ، وتبعه عمّاله. انتهى.

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل (٥) (ص ١٤٤) : أوّل من بدأ بالخطبة قبل الصلاة معاوية ، وجرى ذلك في الأمراء المروانيّة ، كمروان وزياد وهو فعله بالعراق ، ومعاوية بالمدينة شرّفها الله تعالى.

قال الأميني : مرّ في الجزء الثامن (ص ١٦٤ ـ ١٦٧) بيان السنّة الثابتة في خطبة العيدين ، وأنّها بعد الصلاة كما مضى عليه الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبعه الشيخان ، وعثمان ردحاً من أيّامه ، ثم حداه عيّه عن تلفيق الخطبة بصورة مرضيّة ، فكانت

__________________

(١) المصنّف : ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ح ٥٦٤٤ و ٥٦٤٥.

(٢) مصنّف ابن أبي شيبة : ٢ / ١٧١.

(٣) كتاب الأُمّ للشافعي : ١ / ٢٣٥.

(٤) المصنّف : ٣ / ٢٨٤ ح ٥٦٤٦.

(٥) وانظر الأوائل لأبي هلال العسكري : ص ١٢٥.


الناس تتفرّق عن استماعها ، إلى تقديمها على الصلاة ليمنعهم انتظارهم لها عن الانجفال ؛ ثم اقتصّ أثره عمّاله والمتغلّبون على الأُمّة من بعد من بني أبيه ، وإن افترقت العلّة فيهم عنها فيه ، فإنّهم لمّا طغوا في البلاد طفقوا يسبّون أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام في خطبهم ، فكان الحضور لا يستبيحون ذلك فيتفرّقون ، فبدا لهم تقديمها لإسماع الناس.

وأوّل من أحدث أُحدوثة السبّ هو معاوية ، فالشنعة عليه في المقام أعظم ممّن بدّل السنّة قبله ، فإنّه وإن تابع البادي على البدعة غير أنّه قرنها بأخرى شوهاء شنعاء ، فأمعن النظرة في تطبيق هذه البدعة بصورتها الأخيرة على ما صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «من سبّ عليّا فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا عليّا فإنّه ممسوس في ذات الله» (٢) ثم ارجع البصر كرّتين إلى أنّه هل يُباح لأيّ مسلم أن يجتهد بجواز سبّ مولانا أمير المؤمنين ، تجاه نصّ الكتاب العزيز في تطهيره ، وولايته ، ومودّته ، وكونه نفس النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجاه هذا النصّ الجليّ الخاص له عليه‌السلام والنصوص العامّة الواردة في سباب المؤمن مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سباب المسلم فسوق» (٣)؟! وهل يشكّ مسلم أنّ أمير المؤمنين أوّل المسلمين ، وأولاهم بهم من أنفسهم ، وهو أميرهم وسيّدهم؟

__________________

(١) أخرجه الحفّاظ بإسناد رجاله كلّهم ثقات ، صححه الحاكم والذهبي [في المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٣٠ ح ٤٦١٥ و ٤٦١٦ وكذا في تلخيصه]. (المؤلف)

(٢) حلية الأولياء : ١ / ٦٨. (المؤلف)

(٣) أخرجه البخاري [في ١ / ٢٧ ح ٤٨] ، ومسلم [١ / ١١٤ ح ١١٦ كتاب الإيمان] ، والترمذي [في صحيحه ٤ / ٣١١ ح ١٩٨٣] ، وابن ماجة [في السنن ٢ / ١٢٩٩ ح ٣٩٣٩] ، والنسائي [في سننه ٢ / ٣١٣ ح ٣٥٦٧ ـ ٣٥٧٨] ، والحاكم والدارقطني وغيرهم في الصحاح والمسانيد. (المؤلف) وانظر السنن للبيهقي : ٩ / ٢٠ ، ومسند أحمد : ١ / ٦٣٦ ح ٣٦٣٩ ، والمعجم الكبير للطبراني : ١٠ / ١٠٥ ح ١٠١٠٥ ، وحلية الأولياء : ٥ / ٢٣ ، وتاريخ بغداد : ٣ / ٣٩٧ رقم ١٥٢١ ج.


ـ ١١ ـ

حدّ من حدود الله متروك

ذكر الماوردي وآخرون أنّ معاوية أُتي بلصوص فقطعهم ، حتى بقي واحد من بينهم ، فقال :

يميني أميرَ المؤمنين أُعيذُها

بعفوِك أن تلقى نكالاً يُبينها (١)

يدي كانت الحسناءَ لو تمّ سترُها

ولا تعدمُ الحسناءُ عيباً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبةً

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية : كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت أُمّ السارق : يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها. فخلّى سبيله ، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام (٢).

قال الأميني : أفهل عرف معاوية من هذا اللصّ خصوصيّة استثنته من حكم الكتاب النهائيّ العامّ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٣)؟! أم أنّ الرأفة بأُمّه تركت حدّا من حدود الله لم يُقَم؟ وفي الذكر الحكيم (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٤) (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥) (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٦) أم أنّه كان لمعاوية

__________________

(١) يُبينها : من أبان الشيء إذا قطعه.

(٢) الأحكام السلطانية ص ٢١٩ [٢ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٣٦ [٨ / ١٤٥ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، محاضرة السكتواري : ص ١٦٤. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) الطلاق : ١.

(٥) البقرة : ٢٢٩.

(٦) النساء : ١٤.


مؤمِّن من العقاب غداً وإن تعمّد اليوم إلغاء حدّ من حدود الله؟ وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح اجتراح تلك السيّئة؟ إنّ هذا لشيءٌ عجاب ، ومن ذا الّذي طمّنه بأنّه سيوفّق للتوبة عنها ولا يحول بينه وبينها ذنوب تسلبه التوفيق ، أو عظائم تسلبه الإيمان ، أو استخفاف بالشريعة ينتهي به إلى نار الخلود؟ ويظهر منه أنّ التعمّد لاقتراف الذنوب بأمل التوبة كان مطّرداً عند معاوية ، وهذا ممّا يخلّ بأنظمة الشريعة ، ونواميس الدين ، وطقوس الإسلام ، فإنّ النفوس الشريرة إنّما تترك أكثر المعاصي خوفاً من العقوبة الفعليّة ، فإن زحزحت عنها بأمثال هذه التافهات لم يبق محظور يُفسد النفوس ، ويقلق السلام ، ويعكّر صفو الإسلام إلاّ وقد عمل به ، وهذا نقض لغاية التشريع ، وإقامة الحدود الكابحة لجماح الجرأة على الله ورسوله.

وهب أنّ التوبة مكفّرة عن العصيان في الجملة ، ولكن من ذا الذي أنبأه أنّها من تلك التوبة المقبولة؟ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١).

ـ ١٢ ـ

معاوية ولبسه ما لا يجوز

أخرج أبو داود من طريق خالد قال : وفد المقدام بن معدي كرب ، وعمرو بن الأسود ، ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان ، فقال معاوية للمقدام : أعلمت أنّ الحسن بن عليّ توفّي؟ فرجّع (٢) المقدام ، فقال له رجل : (٣)

__________________

(١) النساء : ١٧ ، ١٨.

(٢) أي قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

(٣) في مسند أحمد : ٤ / ١٣٠ [٥ / ١١٨ ح ١٦٧٣٨] : فقال له معاوية : أتراها مصيبة؟ أنظر إلى أمانة أبي داود! (المؤلف)


أتراها مصيبة؟ فقال : ولم لا أراها مصيبة؟ وقد وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجره ، فقال : «هذا منّي وحسين من عليّ». فقال الأسدي : جمرة أطفأها الله عزّ وجلّ ، قال : فقال المقدام : أمّا أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأُسمعك ما تكره ، ثمّ قال : يا معاوية إن أنا صدقت فصدّقني ، وإن أنا كذبت فكذّبني ، قال : أفعل. قال فأَنشدك بالله : هل تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قال : نعم. قال : فأَنشدك بالله : هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن لبس الذهب؟ قال : نعم. قال : فأَنشدك بالله : هل تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال : نعم. قال : فو الله لقد رأيت هذا كلّه في بيتك يا معاوية فقال معاوية : قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام (١).

قال الأميني : هل يُرجى خير ممّن اعترف بكلّ ما قيل له من المحظورات المتسالم عليها التي ارتكبها فهلاّ أقلع عنها لمّا ذُكّر بحكمها الذي نسيه أو لم يعبأ به؟ لكنّ الرجل طاغوت يعمل عمل الفراعنة ولم يكترث لمغبّته ، ولم يُبالِ بمخالفة السنّة الثابتة ، فزهٍ به خليفة تولّى أمر الأُمّة بغير مرضاتها ، وتغلّب على إمرتها من دون أيّ حنكة.

قد جاء في كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عمرو بن العاص ، قوله : فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهرٍ غيّه ، مهتوك ستره ... إلى آخره.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج (٢) (٤ / ٦٠) : فأمّا قوله عليه‌السلام في معاوية : ظاهر غيّه ، فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه وكلّ باغ غاوٍ. وأمّا مهتوك ستره : فإنّه كان كثير الهزل والخلاعة ، صاحب جلساء وسمّار ، ومعاوية لم يتوقّر ولم يلزم قانون الرئاسة إلاّ منذ خرج على أمير المؤمنين ، واحتاج إلى الناموس والسكينة ، وإلاّ فقد كان في أيّام

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ١٨٦ [٤ / ٦٨ ح ٤١٣١]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٦٠ كتاب ٣٩.


عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه ، إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّة بها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شابّا ، وعنده نزق الصبا ، وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة ، ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام ، وأمّا بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه ، فقيل : إنّه شرب الخمر في ستر. وقيل : إنّه لم يشرب. ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه ، وأعطى ووصل عليه أيضاً.

إقرأ وتبصّر!

ـ ١٣ ـ

مأساة الاستلحاق سنة أربع وأربعين

كان من ضروريّات الإسلام إلى هذه السنّة (٤٤) ، إلى هذا اليوم الأشنع الذي تقدّم فيه ابن آكلة الأكباد ببدعته الخرقاء على ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملء فمه المبارك ، واتّخذته الأُمّة أصلاً مسلّماً في باب الأنساب : الولد للفراش وللعاهر الحجر.

جاء هذا الحديث من طريق أبي هريرة في الصحاح الستة (١) ، صحيح البخاري : (٢ / ١٩٩) في الفرائض ، صحيح مسلم (١ / ٤٧١) في الرضاع ، صحيح الترمذي (١ / ١٥٠ و ٢ / ٣٤) ، سنن النسائي (٢ / ١١٠) ، سنن أبي داود (١ / ٣١٠) ، سنن البيهقي (٧ / ٤٠٢ ، ٤١٢).

ومن طريق عائشة أخرجه الحفّاظ المذكورون إلاّ الترمذي كمافي نصب الراية للزيلعي (٣ / ٢٣٦).

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٩٩ ح ٦٤٣٢ ، صحيح مسلم : ٣ / ٢٥٦ ح ٣٧ كتاب الرضاع ، سنن الترمذي : ٣ / ٤٦٣ ح ١١٥٧ ، السنن الكبرى للنسائي : ٣ / ٣٧٨ ح ٥٦٧٦ و ٥٦٧٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٨٢ ح ٢٢٧٣.


ومن طريق عمر وعثمان في سنن البيهقي (٧ / ٤٠٢) ، ومن طريق عبد الله بن عمرو ، أخرجه أبو داود في اللعان (١) (١ / ٣١٠) ، وأخرجه أحمد في مسنده (٢) من غير طريق (١ / ١٠٤ و ٢ / ٤٠٩ و ٥ / ٣٢٦) وغيرها.

وصحّ عند الأُمّة قول نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنّة عليه حرام» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له بمنى : «لعن الله من ادّعى إلى غير أبيه ، أو تولّى غير مواليه ، الولد للفراش وللعاهر الحجر». وفي لفظ :

«الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه ، أو تولّى غير مواليه رغبة عنهم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل» (٤)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من رجل ادّعى بغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر ، ومن ادّعى ما ليس له فليس منّا» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه لم يرُح رائحة الجنّة ، وإنّ ريحها ليوجد

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٢٨٣ ح ٢٢٧٤.

(٢) مسند أحمد : ١ / ١٦٧ ح ٨٢٢ ، ٣ / ١٣٠ ح ٩٠٤٧ ، ٦ / ٤٤٦ ح ٢٢٢٧٢.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٨ ، ٤٦ [٦ / ١٧ ح ١٩٨٨٣ ، ص ٢٩ ح ١٩٩٥٣] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٠٣. (المؤلف)

(٤) رواه البخاري [٢ / ٧٢٤ ح ١٩٤٨] ، ومسلم [٣ / ٢٥٦ ح ٣٦ كتاب الرضاع] ، وأبو داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٥] ، والترمذي [٣ / ٤٦٣ ح ١١٥٧] والنسائي [٣ / ٣٧٨ ح ٥٦٧٦] ، راجع مسند أحمد : ٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ [٥ / ٢٠٤ ح ١٧٢١١ ـ ١٧٢١٣] ، مسند أبي داود الطيالسي : ص ١٦٩ [ح ١٢١٧] ، والترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣ ح ١]. (المؤلف)

(٥) أخرجه البخاري [٣ / ١٢٩٢ ح ٣٣١٧] ومسلم [١ / ١١٣ ح ١١٢ كتاب الإيمان] وعنهما البيهقي في السنن : ٧ / ٤٠٣ وابن المنذر في الترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣]. (المؤلف)


من قدر سبعين عاماً. أو : مسيرة سبعين عاماً» (٦).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه ، فالجنّة عليه حرام» (٧).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (٨).

لكن سياسة معاوية المتجهّمة تجاه الهتافات النبويّة ، أصمته عن سماعها ، وجعلت للعاهر كلّ النصيب ، فوهبت زياداً كلّه لأبي سفيان العاهر ، بعد ما بلغ أشدّه لما وجد فيه من أُهبة الوقيعة في أضداده ، وهم أولياء عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وُلد زياد على فراش عُبيد مولى ثقيف ، وربّي في شرّ حجر ، ونشأ في أخبث نشء ، فكان يقال له قبل الاستلحاق : زياد بن عبيد الثقفي ، وبعده زياد بن أبي سفيان ، ومعاوية نفسه كتب إليه في أيّام الحسن السبط ـ سلام الله عليه ـ : من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبيد ، أمّا بعد : فإنّك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أُولى بك من الكفر ، وإنّ الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرّع من أصلها ، إنّك لا أُمّ لك ، بل لا أب لك.

[و] يقول فيه : أمس عبد واليوم أمير ، خطّة ما ارتقاها مثلك يا ابن سميّة ، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة ، وأسرع الإجابة فإنّك إن تفعل فدمك

__________________

(٦) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣ [٢ / ٨٧٠ ح ٢٦١١] ، تاريخ بغداد : ٢ / ٣٤٧ [رقم ٨٤٩] ، الترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٤]. (المؤلف)

(٧) رواه البخاري [٦ / ٢٤٨٥ ح ٦٣٨٥] ، ومسلم [١ / ١١٤ ح ١١٥ كتاب الايمان] وأبو داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٣] وابن ماجة [٢ / ٨٧٠ ح ٢٦١٠] كما في سنن البيهقي : ٧ / ٤٠٣ ، والترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣]. (المؤلف)

(٨) الترغيب والترهيب : ٣ / ٢٢ [٣ / ٧٤] عن أبي داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٥]. (المؤلف)


حقنت ، ونفسك تداركت ، وإلاّ اختطفتك بأضعف ريش ، ونلتك بأهون سعي ، وأُقسم قسماً مبروراً أن لا أوتى بك إلاّ في زمارة تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام ، حتى أُقيمك في السوق وأبيعك عبداً ، وأردّك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه. والسلام (١).

ثم لمّا انقضت الدولة الأمويّة صار يُقال له : زياد بن أبيه ، وزياد بن أُمّه ، وزياد ابن سميّة ، أُمّه سميّة كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر ، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ ، فوهبه سميّة ، وزوّجها الحارث غلاماً له روميّا يقال له : عبيد. فولدت زياداً على فراشه ، فلمّا بلغ أشدّه اشترى أباه عُبيداً بألف درهم فأعتقه ، كانت أُمّه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.

أخرج أبو عمر وابن عساكر قالا : بعث عمر بن الخطّاب زياداً في إصلاح فساد وقع باليمن ، فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها ، فقال عمرو ابن العاص : أما والله لو كان هذا الغلام قرشيّا لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان : والله إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم أُمّه ، فقال له عليّ بن أبي طالب : «ومن هو يا أبا سفيان؟» قال : أنا. قال : مهلاً يا أبا سفيان. وفي لفظ ابن عساكر : فقال له عمرو : اسكت يا أبا سفيان فإنّك لتعلم أنّ عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشرّ ، فقال أبو سفيان :

أما والله لو لا خوف شخصٍ

يراني يا عليّ من الأعادي

لأظهر أمره صخرُ بنُ حربٍ

ولم تكن المقالة عن زيادِ

وقد طالت مجاملتي ثقيفاً

وتركي فيهمُ ثمرَ الفؤادِ

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٦٨ [١٦ / ١٨٢ كتاب ٤٤]. (المؤلف)


فذلك الذي حمل معاوية على ما صنع بزياد (١).

وفي العقد الفريد (٢) (٣ / ٣): أمر عمر زياداً أن يخطب فأحسن في خطبته وجوّد ، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب ، وعليّ بن أبي طالب ، فقال أبو سفيان لعليّ : أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال : نعم. قال : أما إنّه ابن عمّك! قال : وكيف ذلك؟ قال : أنا قذفته في رحم أُمّه سميّة. قال : فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال : أخشى هذا القاعد على المنبر ـ يعني عمر ـ أن يفسد عليّ إهابي! فبهذا الخبر استلحق معاوية زياداً وشهد له الشهود بذلك. وهذا خلاف حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

قال الأميني : لو كان معاوية استلحق زياداً بهذا الخبر لكان استلحاقه عمرو بن العاص أولى. إذ ادّعاه أبو سفيان يوم ولادته قائلاً : أما إنّي لا أشكّ أنّي وضعته في رحم أمّه.

واختصم معه العاص ، غير أنّ النابغة أبت إلاّ العاص لما زعمت من الشحّ في أبي سفيان ، وفي ذلك قال حسّان بن ثابت :

أبوك أبو سفيانَ لا شكّ قد بدت

لنا فيك منه بيّناتُ الدلائلِ

ففاخر به إمّا فخرتَ ولا تكن

تفاخرُ بالعاص الهجينِ ابن وائلِ

إلى آخر ما مرّ في الجزء الثاني (ص ١٢٣).

نعم ؛ لكلّ بغيّ كان يتّصل بسميّة أمّ زياد ، والنابغة أمّ عمرو ، وهند أُمّ معاوية ، وحمامة أُمّ أبي سفيان ، والزرقاء أُمّ مروان ، وأضرابهنّ من مشهورات البغاء ، ويأتيهنّ

__________________

(١) الاستيعاب : ١ / ١٩٥ [القسم الثاني / ٥٢٥ رقم ٨٢٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤١٠ [١٩ / ١٧٥ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تايخ دمشق : ٩ / ٧٦]. (المؤلف)

(٢) العقد الفريد : ٥ / ٦.


أن يختصم في ولائدهنّ.

كتب معاوية إلى زياد يوم كان عامل عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام : أمّا بعد فإنّ العشّ الذي رُبّيتَ به معلوم عندنا ، فلا تدع أن تأوي إليه كما تأوي الطيور إلى أوكارها ، ولولا شيء ـ والله أعلم به ـ لقلت كما قال العبد الصالح (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) وكتب في آخر كتابه :

لله درُّ زيَاد أيّما رجل

لو كان يعلم ما يأتي وما يذرُ

تنسى أباك وقد حقّت مقالته (٢)

إذ تخطب الناس والوالي لنا عمرُ

فافخر بوالدِك الأدنى ووالدِنا

إنّ ابن حرب له في قومِه خطرُ

إنّ انتهازك (٣) قوماً لا تناسبهم

عدّ الأنامل عار ليس يغتفرُ

فانزل بعيداً (٤) فإنّ الله باعدهم

عن كلِّ فضلٍ به يعلو الورى مضرُ

فالرأي مطرف والعقل تجربةٌ

فيها لصاحبها الإيراد والصدرُ

فلمّا ورد الكتاب على زياد قام في الناس ، فقال : العجب كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق ، يخوّفني بقصده إيّاي وبيني وبينه ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهاجرين والأنصار ، أما والله لو أذن في لقائه لوجدني أعرف الناس بضرب السيف. واتّصل الخبر بعليّ رضى الله عنه ، فكتب إلى زياد :

«أمّا بعد : فقد ولّيتك الذي ولّيتك وأنا لا أزال (٥) له أهلاً ، وإنّه قد كانت من أبي سفيان فلتة من أمانيّ الباطل ، وكذب النفس ، لا يوجب له ميراثاً ، ولا يحلّ

__________________

(١) النمل : ٣٧.

(٢) في تاريخ دمشق ١٩ / ١٧٥ : وقد خفّت نعامته.

(٣) في المصدر : إن ابتهارك.

(٤) في المصدر : فاترك ثقيفاً.

(٥) في المصدر : وأنا أراك له أهلاً.


له نسبا ، ـ وفي لفظ : لا تستحقّ بها نسباً ولا ميراثاً ـ وإنّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه و [من] (٦) عن يمينه و [من] (٧) عن شماله ، فأحذر ثم احذر ، والسلام».

فلمّا بلغ أبا بكرة أخا زياد لأمّه سميّة أنّ معاوية استلحقه وأنّه رضي ذلك ، آلى يميناً أن لا يكلّمه أبداً ، وقال : هذا زنى أُمّه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ ، ويله ما يصنع بأمّ حبيبة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنت أبي سفيان؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته ، وإن رآها فيا لها مصيبة ، يهتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة عظيمة.

وحجّ زياد في زمن معاوية ودخل المدينة ، فأراد الدخول على أمّ حبيبة ، ثم ذكر قول أبي بكرة ، فانصرف عن ذلك. وقيل : إنّ أُمّ حبيبة حجبته ، ولم تأذن له في الدخول عليها.

قال أبو عمر : لما ادّعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أُميّة وفيهم عبد الرحمن بن الحكم ، فقال : يا معاوية لو لم تجد إلاّ الزنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة. فأقبل معاوية على مروان وقال : أخرج عنّا هذا الخليع. فقال مروان : والله إنّه لخليع ما يطاق. فقال معاوية : والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنّه يطاق ، ألم يبلغني شعره فيّ وفي زياد؟ ثم قال لمروان : اسمعنيه. فقال :

ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ

لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ

أتغضب أن يُقال : أبوك عفّ

وترضى أن يقال : أبوك زانِ

فأشهد أنّ رحمك من زيادٍ

كرحم الفيل من ولد الأتانِ

وأشهد أنّها حملت زياداً

وصخرٌ من سميّةَ غيرُ دانِ

__________________

(٦) و (٧) الزيادة من تاريخ دمشق.


هذه الآبيات تُروى لزياد (١) بن ربيعة بن مفرِّغ الحميري الشاعر ، ومن رواها له جعل أوّلها :

ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ

مغلغلةً من الرجل اليمانِ

وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء. وروى عمر بن شبة وغيره : أنّ ابن مفرِّغ لمّا وصل إلى معاوية أو إلى ابنه يزيد ، بعد أن شفعت فيه اليمانية وغضبت لما صنع به عبّاد وأخوه عبيد الله ، وبعد أن لقي من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقي ممّا يطول ذكره ، وقد نقله أهل الأخبار ورواة الأشعار بكّر وقال : يا أمير المؤمنين ركب منّي ما لم يركب من مسلم قطّ على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة. فقال له معاوية : ألست القائل :

ألا أبلغ معاويةَ بن حربٍ

مغلغلةً من الرجلِ اليمانِ

أتغضبُ أن يقال : أبوك عفٌ

وترضى أن يقال : أبوك زانِ

فقال ابن المفرّغ : لا والذي عظّم حقّك ورفع قدرك ، يا أمير المؤمنين ما قلتها قطّ ، ولقد بلغني أنّ عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسب إليّ. فقال : أفلست القائل :

شهدتُ بأنّ أمّك لم تباشر

أبا سفيانَ واضعةَ القناعِ

ولكن كان أمراً فيه لبسٌ

على وجهٍ شديدٍ وارتياعِ؟ (٢)

أو لست القائل :

إنّ زياداً ونافعاً وأبا بك

رة عندي من أعجب العجبِ

__________________

(١) هو يزيد بن ربيعة الشاعر الشهير. توجد ترجمته في الأغاني : ١٧ / ٥١ ـ ٧٣ [١٨ / ٢٦٢ ـ ٣٠٧]. (المؤلف)

(٢) هذه القصيدة كما قال أبو الفرج : طويلة. ذكر منها في الأغاني : ١٧ / ٦٦ [١٨ / ٢٩١] تسعة عشر بيتاً. (المؤلف)


هم رجال ثلاثة خلقوا

في رحم أُنثى وكلّهم لأبِ (١)

ذا قرشيّ كما يقول وذا

مولىً وهذا بزعمه عربي

في أشعار قلتها في زياد وبنيه تهجوهم؟ أغرب فلا عفا الله عنك ، قد عفوت عن جرمك ، ولو صحبت زياداً لم يكن شيء ممّا كان ، اذهب فاسكن أيّ أرض أحببت. فاختار الموصل.

قال أبو عمر (٢) : ليزيد بن مفرّغ في هجو زياد وبنيه من أجل ما لقي من عبّاد ابن زياد بخراسان أشعار كثيرة ، وقصّته مع عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله بن زياد مشهورة ، ومن قوله يهجوهم :

أعبّادُ ما للؤم عنك محوّلُ

ولا لك أمٌّ في قريشٍ ولا أبُ

وقل لعبيد الله مالك والدٌ

بحقّ ولا يدري امرؤ كيف تنسبُ (٣)

قال عبيد الله بن زياد : ما هُجيت بشيء أشدّ عليّ من قول ابن مفرّغ :

فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر

هل نلت مكرمة إلاّ بتأميرِ

عاشت سميّة ما عاشت وما علمت

أنّ ابنها من قريش في الجماهيرِ

وقال غيره :

زياد لست أدري من أبوه

ولكنّ الحمار أبو زيادِ

وروينا : أنّ معاوية بن أبي سفيان قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرحمن : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زياداً فيترضّاه ويعتذر إليه. وأتاه

__________________

(١) ويروى : أنثى مخالف النسب. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني ٥٢٨ رقم ٨٢٥.

(٣) ذكر أبو الفرج في الأغاني : ١٧ / ٥٩ ج ١٨ / ٢٧٧ ج من بائية ابن المفرغ هذه اثني عشر بيتاً. (المؤلف)


عبد الرحمن يستأذن عليه معتذراً فلم يأذن له ، فأقبلت قريش على عبد الرحمن بن الحكم ، فلم يدعوه حتى أتى زياداً ، فلمّا دخل فسلّم عليه فتشاوس (١) له زياد بعينه ، وكان يكسر عينه ، فقال له زياد : أنت القائل ما قلت؟ فقال عبد الرحمن : وما الذي قلت؟ فقال : قلت ما لا يُقال. فقال عبد الرحمن : أصلح الله الأمير إنّه لا ذنب لمن اعتب ، وإنّما الصفح عمّن أذنب ، فاسمع منّي ما أقول ، قال : هات. فأنشأ يقول :

إليك أبا المغيرةِ تبتُ ممّا

جرى بالشامِ من جورِ اللسانِ

وأغضبتُ الخليفةَ فيك حتى

دعاه فرطُ غيظٍ أن لحاني

وقلت لمن لحاني في اعتذاري

إليك الحقّ شأنك غير شاني

عرفت الحقّ بعد خطاء رأيي

وما ألبسته غير البيانِ

زيادٌ من أبي سفيانَ غصنٌ

تهادى ناضرٌ بين الجنانِ

أراك أخاً وعمّا وابنَ عمٍ

فما أدري بعينٍ ما تراني

وأنت زيادةٌ في آل حربٍ

أحبّ إليَّ من وسطى بناني

ألا أبلغ معاويةَ بنَ حربٍ

فقد ظفرتْ بما تأتي اليدانِ

فقال له زياد : أراك أحمق مترفاً شاعراً صَنِع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطاً ومسخوطاً ، ولكنّا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك. قال : كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنّي. قال : نعم ، فكتب كتاباً أخذه ومضى حتى دخل على معاوية ، ففضّ الكتاب ورضي عنه وردّه إلى حاله وقال : قبّح الله زياداً ألم ينتبه له إذ قال :

وأنت زيادة في آل حرب (٢)

قال أبو عبيدة : كان زياد يزعم أنّ أُمّه سميّة بنت الأعور من بني عبد شمس بن

__________________

(١) من شاس : نظر بمؤخر عينه تكبّراً أو تغيّظاً. (المؤلف)

(٢) إلى هنا ينتهي المنقول عن الاستيعاب.


زيد مناة بن تميم ، فقال ابن مفرّغ يردّ ذلك عليه :

فأُقِسمُ ما زيادٌ من قريش

ولا كانت سميّةُ من تميمِ

ولكن نسل عبد من بغيّ

عريق الأصلِ في النسب اللئيمِ (١)

وأخرج الطبري في تاريخه (٢) (٦ / ١٢٣) بإسناده عن أبي إسحاق : أنّ زياداً لمّا قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ لكم. قالوا : أدعنا إلى ما شئت. قال : تُلْحقون نسبي بمعاوية. قالوا : أمّا بشهادة الزور فلا ، فأتى البصرة فشهد له رجل.

قال ابن عساكر وابن الأثير : كان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السلولي ، وكانت لأبي مريم بعد صحبة ، فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده : قد اشتدّت به العزوبة ، فالتمس لي بغيّا. فقال : هل لك في جارية الحارث بن كلدة سميّة امرأة عبيد؟ فقال : هاتها على طول ثديها وريح إبطيها. فجاء بها إليه فوقع بها ، فولدت زياداً فادّعاه معاوية.

وروى ابن عساكر ، عن ابن سيرين ، عن أبي بكرة ، قال : قال زياد لأبي بكرة : ألم تر أنّ أمير المؤمنين أرادني على كذا وكذا ، وولدت على فراش عُبيد وأشبهته ، وقد علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من ادّعى لغير أبيه فليتبوّأ مقعده من النار». ثم جاء العام المقبل وقد ادّعاه. وقال محمد بن إسحاق : كنّا جلوساً عند أبي

__________________

(١) الأغاني : ١٧ / ٥١ ـ ٦٧ [١٨ / ٢٦٢ ـ ٢٩٤] ، الاستيعاب : ١ / ١٩٥ ـ ١٩٨ [القسم الثاني / ٥٢٥ ـ ٥٣٠ رقم ٨٢٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٦ ـ ٤٢٣ [١٩ / ١٦٢ ـ ٢٠٩ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٧] ، مروج الذهب : ٢ / ٥٦ ، ٥٧ [٣ / ١٥ ـ ١٧] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٩٥ ، ٩٦ [٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤ سنة ٥٩ ه‍] ، الاتحاف : ص ٢٢ [٦٦] (المؤلف)

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٢١٥ حوادث سنة ٤٤ ه‍.


سفيان ، فخرج زياد فقال : ويل أمّه لو كان له صلب قوم ينتمي إليهم (١).

ولمّا بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه على ألفي ألف ، ثم أقبل فلقيه مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية : إنّ زياداً قد أكل فارس برّا وبحراً ، وصالحك على ألفي ألف درهم ، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقّا. فإذا قال لك : وما يقال؟ فقل : يُقال : إنّه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك ، ورأى معاوية أن يستميل زياداً ، واستصفى مودّته باستلحاقه ، فاتّفقا على ذلك ، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي ، فقال له معاوية : بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال : أنا أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منّي بغيّا ، فقلت له : ليس عندي إلاّ سميّة. فقال : ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ، ثم خرجت من عنده وإنّ إسكتيها لَيقطران منيّا. فقال له زياد : مهلاً أبا مريم إنّما بُعثت شاهداً ولم تُبعث شاتماً. فاستلحقه معاوية (٢).

وفي العقد الفريد (٣) (٣ / ٣) : يقال : إنّ أبا سفيان خرج يوماً وهو ثمل إلى تلك الرايات ، فقال لصاحبة الراية : هل عندك من بغيّ؟ فقالت : ما عندي إلاّ سميّة. قال : هاتها على نتن إبطيها. فوقع بها فولدت له زياداً على فراش عبيد.

فوجد زياد نفسه بعد حسبه الواطئ ونسبه الوضيع ، بعد أن كان لا يُعزى إلى

__________________

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢ [٥ / ٥ ـ ٦] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٩ [١٩ / ١٧٤ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٥ / ٤١٢ ، مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٥] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٩١ [٢ / ٤٧٠ حوادث سنة ٤٤ ه‍]. (المؤلف)

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٤ [٢ / ٢١٩] ، مروج الذهب : ٢ / ٥٦ [٣ / ١٦] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٩ [٦ / ١٩ / ١٧٢ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٦] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٩٢ [٢ / ٧٤٠ حوادث سنة ٤٤ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٧٠ [١٦ / ١٨٧] ، الإتحاف للشبراوي : ص ٢٢ [ص ٦٦]. (المؤلف)

(٣) العقد الفريد : ٥ / ٥.


أبٍ معلوم عمراً طويلاً يقرب من خمسين عاماً (١) ، فيقال له : زياد بن أبيه. أخا (٢) ملك الوقت ، وابن من يُزعم أنّه من شرفاء بيئته ، وقد تسنّى له الحصول على مكانة رابية ، فأغرق نزعاً في جلب مرضاة معاوية ، المحابي له بتلك المرتبة التي بمثلها حابت هند ابنها المردّد بين خمسة رجال أو ستّة من بغايا الجاهليّة ، لكنّ آكلة الأكباد ألحقت معاوية بأبي سفيان لدلالة السحنة والشبه ، فطفق زياد يَلِغ في دماء الشيعة ، ولمعاوية من ورائه تصدية ومكاء.

وإنّ غلواء الرجل المحابي أعمته عن استقباح نسبة الزنا لأبيه ، يوم استحسن أن يكون له أخ مثل زياد ، شديد في بأسه ، يأتمر أوامره ، وينتهي إلى ما يودّه من بوائق وموبقات ، ولم يكترث لحكم الشريعة بحرمة مثل ذلك الإلحاق ، واستعظامها إيّاه ، ولا يصيخ إلى قول النبيّ الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال يونس بن أبي عبيد الثقفي لمعاوية : يا معاوية قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فعكست ذلك وخالفت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أعد. فأعاد يونس مقاله هذا ، فقال معاوية : يا يونس والله لتنتهينّ أو لأطيرنّ بك طيراً بطيئاً وقوعها (٣).

انظر إلى إيمان الرجل بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإخباته إلى حديثه بعد استعادته ، وعنايته بقبوله ورعايته حرمته ، والحكَم في هذه الشنيعة كلّ ذي مسكة من علماء الأُمّة وذوي حنكتها ومؤلّفيها وكتّابها.

قال سعيد بن المسيّب : أوّل (٤) قضيّة ردّت من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية ،

__________________

(١) قيل : ولد عام الفتح سنة ثمان ، وقيل : عام الهجرة ، وقيل : قبل الهجرة ، وقيل : يوم بدر. (المؤلف)

(٢) مفعول به ثانٍ لقوله : وجد ، أول الفقرة.

(٣) الإتحاف للشبراوي : ص ٢٢ [ص ٦٧]. (المؤلف)

(٤) ليست بأوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وإنّما ردّ من يوم السقيفة وهلمّ جرّا إلى يوم الاستلحاق ، من قضايا رسول الله ، ما يربو على العدّ. (المؤلف)


قضاء فلان ، يعني : معاوية في زياد.

وقال ابن يحيى : أوّل حكم ردّ من أحكام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحكم في زياد.

وقال ابن بعجة : أوّل داء دخل على العرب قتل الحسن (١) سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادّعاء زياد (٢).

وقال الحسن : أربع خصال كنّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسفهاء حتى ابتزّها (٣) أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وقتله حُجراً ، ويلاً له من حُجر وأصحاب حُجر قالها مرّتين (٤).

وقال الإمام السبط الحسن الزكيّ عليه‌السلام لزياد في حضور من معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : «وما أنت يا زياد وقريشاً؟ لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً ولا فرعاً نابتاً ، ولا قديماً ثابتاً ، ولا منبتاً كريماً ، بل كانت أُمّك بغيّا تداولها رجال قريش ، وفجّار العرب ، فلمّا وُلِدتَ لم تعرف لك العرب والداً ، فادّعاك هذا ـ يعني معاوية ـ بعد ممات أبيه ، ما لك افتخار ، تكفيك سميّة ويكفينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي عليّ بن أبي طالب سيّد المؤمنين الذي لم يردّ على عقبيه ، وعمّي حمزة سيّد

__________________

(١) في تاريخ مدينة دمشق ومختصره : قتل الحسين.

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤١٢ [١٩ / ١٧٩ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٨] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٣١ [ص ١٨٢] أوائل السيوطي : ص ٥١. (المؤلف)

(٣) في تهذيب تاريخ مدينة دمشق : ابتزّوها.

(٤) [تهذيب] تاريخ ابن عساكر : ٢ / ٣٨١ ، تاريخ الطبري ٦ / ١٥٧ [٥ / ٢٧٩] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٢٠٩ [٢ / ٤٩٩ حوادث سنة ٥٩ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٣٠ [٨ / ١٣٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، محاضرات الراغب : ٢ / ٢١٤ [٢ / ٤٨٠] ، النجوم الزاهرة : ١ / ١٤١. (المؤلف)


الشهداء ، وجعفر الطيّار ، وأنا وأخي سيّدا شباب أهل الجنّة» (١).

وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا ، وأموال عظام ، وسفط مملوء جوهراً لم يُرَ مثله ، فسرّ معاوية بذلك سروراً شديداً ، فلمّا رأى زياد ذلك ، صعد المنبر فقال : أنا والله يا أمير المؤمنين أقمت لك معر العراق ، وجبيت لك مالها ، وألفظت إليك بحرها. فقام يزيد بن معاوية فقال : إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش ، ومن القلم إلى المنابر ، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن أُميّة. فقال معاوية : اجلس فداك أبي وأُمّي (٢).

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل (٣) (ص ١٣٦) : أوّل قضيّة ردّت من قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية ، دعوة معاوية زياداً ، وكان أبو سفيان تبرّأ منه وادّعى أنّه ليس من أولاده ، وقضى بقطع نسبه. فلمّا تأمّر معاوية قرّبه واستأمره ، ففعل ما فعل زياد ابن أبيه ـ يعني ابن زنيّة ـ من الطغيان والإساءة في حقّ أهل بيت النبوّة. وقال في (ص ١٦٤) : كان عمر رضى الله عنه إذا نظر إلى معاوية يقول : هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب (٤) ، لأنّه كان أوّل من ردّ قضية من قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هجر ، وزياد ابن أبيه أوّل من أساء إساءة تفرّد بشَينِها بين الأُمم في حقّ أهل البيت.

وقال في (ص ٢٤٦) : كان قد تبرّأ من زياد أبو سفيان ، ومنع حقّه من ميراث الإسلام بحضرة الصحابة ، فلا زال طريداً حتى دعاه معاوية وقرّبه وأمّره وردّ

__________________

(١) المحاسن والمساوئ للبيهقي : ١ / ٥٨ [ص ٧٩]. (المؤلف)

(٢) المجتنى لابن دريد : ص ٣٧ [ص ٢٤]. (المؤلف)

(٣) وانظر الأوائل لأبي هلال العسكري : ص ١٦٧.

(٤) قول عمر هذا في معاوية ذكره جمع. راجع الاستيعاب : ١ / ٢٥٣ [القسم الثالث / ١٤١٧ رقم ٢٤٣٥] ، أُسد الغابة : ٤ / ٣٨٦ [٥ / ٢١٠ رقم ٤٩٧٧] ، الإصابة : ٣ / ٤٣٤ [رقم ٨٠٦٨]. (المؤلف)


القضيّة ، وهي أول قضيّة من قضايا الإسلام ردّت ، ولذا صارت بليّة شنيعة ، ومحنة فاحشة بين الأُمّة ، وأبغض الوسائل تعدّيه على أفضل الملّة ، وأحبّ العترة. انتهى.

ولا أحسب أنّ أحداً من رجالات الدين يشذّ عمّا قاله الجاحظ في رسالته (١) الثابتة في بني أميّة (ص ٢٩٣) : فعندها استوى معاوية على الملك واستبدّ على بقيّة الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبريّة وغلبة ، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويّا ، والخلافة منصباً قيصريّا ، ولم يعدُ ذلك أجمع الضلال والفسق ، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا ، وعلى منازل ما رتّبنا ، حتى ردّ قضيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رداً مكشوفاً ، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر ، مع إجماع الأمّة على أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً ، وأنّه إنّما كان بها عاهراً ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار. انتهى.

ولو تحرّينا موبقات معاوية المكفّرة له وجدنا هذه في أصاغرها ، فجلّ أعماله ـ إن لم يكن كلها ـ على الضدّ من الكتاب والسنّة الثابتة ، فهي غير محصورة في مخالفته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

ـ ١٤ ـ

بيعة يزيد أحد موبقات معاوية الأربع (٢)

إنّ من موبقات معاوية وبوائقه ـ وهو كلّه بوائق ـ أخذه البيعة لابنه يزيد على كُره من أهل الحلّ والعقد ، ومراغمة لبقايا المهاجرين والأنصار ، وإنكار من أعيان الصحابة الباقين ، تحت بوارق الإرهاب ، ومعها طلاة المطامع لأهل الشره والشهوات.

__________________

(١) رسائل الجاحظ ـ الرسائل الكلامية ـ : ص ٢٤١.

(٢) راجع كلمة الحسن البصري المذكورة قبيل هذا ، صفحة : ٢٢٥. (المؤلف)


كان في خلد معاوية يوم استقرّت له الملوكيّة ، وتمّ له الملك العضوض ، أن يتّخذ ابنه وليّ عهده ويأخذ له البيعة ، ويؤسّس حكومة أُمويّة مستقرّة في أبناء بيته ، فلم يزل يروّض الناس لبيعته سبع سنين ، يُعطي الأقارب ويُداني الأباعد (١) ، وكان يبتلعه طوراً ، ويجترّ به حيناً بعد حين ، يمُهّد بذلك السبيل ، ويسهّل حزونته ، ولمّا مات زياد سنة (٥٣) وكان يكره تلك البيعة ، أظهر معاوية عهداً مفتعلاً ـ على زياد ـ ، فقرأه على الناس ، فيه عقد الولاية ليزيد بعده ، وأراد بذلك أن يسهّل بيعة يزيد كما قاله المدائني (٢). وقال أبو عمر في الاستيعاب (٣) (١ / ١٤٢) : كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن ، وعرّض بها ، ولكنّه لم يكشفها ، ولا عزم عليها إلاّ بعد موت الحسن.

قال ابن كثير في تاريخه (٤) (٨ / ٧٩) : وفي سنة ستّ وخمسين دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده ، أن يكون وليّ عهده من بعده ، وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة (٥) ، فروى ابن جرير (٦) من طريق الشعبي : أنّ المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة ، فأعفاه لكبره وضعفه ، وعزم على توليتها سعيد بن العاص ، فلمّا بلغ ذلك المغيرة كأنّه ندم ، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون وليّ العهد ، فسأل ذلك من أبيه ، فقال : من أمرك بهذا؟ قال : المغيرة. فأعجب ذلك معاوية من المغيرة ، وردّه إلى عمل الكوفة ، وأمره أن يسعى في ذلك ، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك ، وكتب معاوية إلى زياد

__________________

(١) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ [٤ / ١٦١]. (المؤلف)

(٢) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ [٤ / ١٦١] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٧٠ [٥ / ٣٠٣ حوادث سنة ٥٦ ه‍]. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : القسم الأول / ٣٩١ رقم ٥٥٥.

(٤) البداية والنهاية : ٨ / ٨٦ حوادث سنة ٥٦ ه‍.

(٥) توفّي المغيرة سنة خمسين ، وقدم على معاوية في سنة خمس وأربعين واستعفاه من الإمرة ، وهي سنة بدوّ فكر بيعة يزيد في خَلَد معاوية بإيعاز من المغيرة. (المؤلف)

(٦) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٣٠١ حوادث سنة ٥٦ ه‍.


يستشيره في ذلك ، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد ، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك وهو عُبيد بن كعب النميري ـ وكان صاحباً أكيداً لزياد ـ ، فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أوّلاً فكلّمه عن زياد ، وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك ، فإنّ تركه خير له من السعي فيه ، فانزجر يزيد عمّا يريد من ذلك ، واجتمع بأبيه واتّفقا على ترك ذلك في هذا الوقت ، فلمّا مات زياد شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه ، وعقد البيعة لولده يزيد ، وكتب إلى الآفاق بذلك.

صورة أخرى :

في بدء بدئها : كان ابتداء بيعة يزيد وأوّلها من المغيرة بن شعبة ، فإنّ معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة ويستعمل عوضه سعيد بن العاص ، فبلغه ذلك فقال : الرأي أن أشخص إلى معاوية فاستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية ، فسار إلى معاوية ، وقال لأصحابه حين وصل إليه : إن لم أُكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً ، ومضى حتى دخل على يزيد ، وقال له : إنّه قد ذهب أعيان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنّما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً ، وأعلمهم بالسنّة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال : أوترى ذلك يتمّ؟ قال : نعم. فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة ، فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد؟ فقال : يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان (١) وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس ، وخلفاً منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة. قال : ومن لي بهذا؟ قال : أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين

__________________

(١) ألا مُسائِل المغيرة عن أنّ هذا الشقاق والخلاف وسفك الدماء المحرّمة في عدم الاستخلاف ، هل كان يعلمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فلما ذا ترك أُمّته سدى ولم يستخلف ، كما زعمه هو والسياسيون من رجال الانتخاب الدستوري؟ (المؤلف)


أحد يخالفك. قال : فارجع إلى عملك وتحدّث مع من تثق إليه في ذلك ، وترى ونرى. فودّعه ورجع إلى أصحابه ، فقالوا : مه. قال : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أُمّة محمد ، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً. وتمثّل :

بمثلي شاهدي نجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى قدم الكوفة ، وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنّه شيعة لبني أُميّة أمر يزيد ، فأجابوا إلى بيعته ، فأوفد منهم عشرة ، ويقال : أكثر من عشرة ، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة ، وقدموا على معاوية فزيّنوا له بيعة يزيد ، ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية : لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم ، ثم قال لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال : بثلاثين ألفاً. قال : لقد هان عليهم دينهم.

وقيل : أرسل أربعين رجلاً وجعل عليهم ابنه عروة ، فلمّا دخلوا على معاوية قاموا خطباء ، فقالوا : إنّما أشخصهم إليه النظر لأُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا أمير المؤمنين كبرت سنّك ، وخفنا انتشار الحبل ، فانصب لنا علماً ، وحدّ لنا حدّا ننتهي إليه. فقال : أشيروا عليّ. فقالوا : نشير بيزيد ابن أمير المؤمنين. فقال : أَوَقد رضيتموه؟ قالوا : نعم. قال : وذلك رأيكم؟ قالوا : نعم ، ورأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّا عنهم : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال : بأربعمائة دينار. قال : لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً ، وقال لهم : ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد ، والأناة خير من العجلة ، فرجعوا.

وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد ، فأرسل إلى زياد يستشيره ، فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له : إنّ لكلّ مستشير ثقة ، ولكلّ سرّ مستودع ، وإنّ الناس قد أبدع بهم خَصلتان : إذاعة السرّ ، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها ، وليس موضع السرّ إلاّ أحد رجلين : رجل آخرة يرجو ثوابها ، ورجل دنيا له شرف في نفسه ، وعقل يصون حسبه ، وقد خبرتهما منك ، وقد دعوتك لأمر اتّهمت عليه بطون


الصحف : إنّ أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا ، وإنّه يتخوّف نفرة الناس ، ويرجو طاعتهم ، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم ، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أُولع به من الصيد ، فالقَ أمير المؤمنين وأدِّ إليه فعلات يزيد ، وقل له : رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتمّ لك ، لا تعجل فإنّ دركاً في تأخير خير من فوت في عجلة. فقال له عُبيد : أفلا غير هذا؟ قال : وما هو؟ قال : لا تفسد على معاوية رأيه ، ولا تبغّض إليه ابنه ، وأُلفي أنا يزيد فأخبره أنّ أمير المؤمنين كتب إليك ، يستشيرك في البيعة له ، وأنّك تتخوّف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه ، وأنّك ترى له ترك ما يُنقم عليه لتستحكم له الحجّة على الناس ، ويتمّ ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت ممّا تخاف من أمر الأُمّة. فقال زياد : لقد رميت الأمر بحجره ، اشخص على بركة الله ، فإن أصبت فما لا ينكر ، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ ، وتقول بما ترى ، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذكر ذلك له فكفّ عن كثير ممّا كان يصنع ، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتؤدة وأن لا يعجل ، فقبل منه. فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد ، فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها ، فلمّا ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر : هذا أراد ، إنّ ديني إذن لرخيص. وامتنع (١).

بيعة يزيد في الشام وقتل الحسن السبط دونها :

لمّا اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق ـ بإحضار منه ـ وكان فيهم الأحنف بن قيس ، دعا معاوية الضحّاك بن قيس الفهري فقال له : إذا جلست على المنبر وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذنّي للقيام ، فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر يزيد ، وقل فيه الذي يحقّ له عليك من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني إلى توليته من بعدي ، فإنّي قد رأيت وأجمعت على توليته ، فأسأل الله في ذلك وفي غيره

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٦ / ١٦٩ ، ١٧٠ [٥ / ٣٠١ ـ ٣٠٣ حوادث سنة ٥٦ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ٢١٤ ، ٢١٥ [٢ / ٥٠٩ حوادث سنة ٥٦ ه‍]. (المؤلف)


الخيرة وحسن القضاء. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحّاك ، وأن يصدّقوا قوله ، ويدعوه إلى [بيعة] (١) يزيد.

ثم خطب معاوية ، فتكلّم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد ، فقال معاوية : أين الأحنف؟ فأجابه ، قال : ألا تتكلّم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف (٢) ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين ؛ فاعرف من تسند إليه الأمر من بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، [مع] (٣) أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّا.

فغضب الضحّاك ، فقام الثانية ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ أهل النفاق من أهل العراق ، مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، وألفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحقّ على أهوائهم كأنّما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلاً وبطراً ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتّخذوا إبليس لهم ربّا ، واتّخذهم إبليس حزباً ، فمن يقاربوه لا يسرّوه ، ومن يفارقوه لا يضرّوه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم ، وكلامهم في صدروهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطّنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب

__________________

(١) من الإمامة والسياسة.

(٢) مؤتنف : مستقبل.

(٣) من الإمامة والسياسة.


نبيّكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل.

ثم قام الأحنف بن قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إنّا قد فررنا (١) عنك قريشاً فوجدناك أكرمها زنداً ، وأشدّها عقداً ، وأوفاها عهداً ، قد علمت أنّك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصاً (٢) ، ولكنّك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تفِ فأنت أهل الوفاء ، وإن تغدر تعلم والله إنّ وراء الحسن خيولاً (٣) ، وأذرعاً شداداً ، وسيوفاً حداداً ، إن تدن له شبراً من غدر ، تجد وراءه باعاً من نصر ، وإنّك تعلم أنّ أهل العراق ما أحبّوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليّا وحسناً منذ أحبّوهما ، وما نزل عليهم في ذلك خبر (٤) من السماء ، وإنّ السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفّين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وايم الله إنّ الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من عليّ.

ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، فأثنى على يزيد ، وحثّ معاوية على بيعته ، فقام معاوية فقال :

أيّها الناس : إنّ لإبليس من الناس إخواناً وخلاّناً ، بهم يستعدّ وإيّاهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعاً أوجفوا (٥) ، وإن استُغني عنهم أرجفوا ، ثم يُلقحون الفتن بالفجور ، ويشفقون لها حطب النفاق ، عيّابون مرتابون ، أن لووا (٦) عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا إلى غيّ أسرفوا ، وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ،

__________________

(١) فرّ عن الأمر : بحث عنه. (المؤلف)

(٢) القعص : القتل.

(٣) في المصدر : جياداً بدل : خيولاً.

(٤) في المصدر : غير من السماء.

(٥) أوجفوا : أسرعوا.

(٦) في المصدر : ولوا.


ولا متّعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحلّ بهم قوارع أمرٍ جليل ، تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع (١) ، فأولى لأولئك ثم أولى ، فإنّا قد قدّمنا وأنذرنا ، إن أغنى التقدّم شيئاً ، أو نفع النُذر (٢).

فدعا معاوية الضحّاك فولاّه الكوفة ، ودعا عبد الرحمن فولاّه الجزيرة.

ثم قام الأحنف بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره ، وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه لله رضاً ولهذه الأُمّة ، فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك ، فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ، فإنّه ليس لك من الآخرة إلاّ ما طاب ، واعلم أنّه لا حجّة لك عند الله إن قدّمت يزيد على الحسن والحسين ، وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنّما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربّنا وإليك المصير (٣).

قال الأميني : لمّا حسّ معاوية بدء إعرابه عمّا رامه من البيعة ليزيد ، أنّ الفئة الصالحة من الأُمّة قطّ لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكيّ ـ سلام الله عليه ـ باقية من الحياة ، على أنّه أعطى الإمام مواثيق مؤكّدة ليكون له الأمر من بعده ، وليس له أن يعهد إلى أيّ أحد ، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر ، وجعل ما عهد له تحت قدميه ، قال أبو الفرج : أراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي ، وسعد بن أبي وقّاص ، فدسّ إليهما سمّا فماتا منه (٤).

وسيوافيك تفصيل القول في أنّ معاوية هو الذي قتل الحسن السبط ـ سلام الله عليه.

__________________

(١) الفقع بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكمأة. (المؤلف)

(٢) النذر : الإنذار ، قال تعالى : (فَكَيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر) (المؤلف)

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٨ ـ ١٤٢ [١ / ١٤٣ ـ ١٤٨]. (المؤلف)

(٤) مقاتل الطالبيين : ص ٢٩ [ص ٨٠]. (المؤلف)


عبد الرحمن بن خالد (١) في بيعة يزيد :

خطب معاوية أهل الشام وقال لهم : يا أهل الشام ، إنّه كبرت سنّي ، وقرب أجلي ، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم ، وإنّما أنا رجل منكم فَرُوا رأيكم. فأصفقوا واجتمعوا ، وقالوا : رضينا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فشقّ ذلك على معاوية ، وأسرّها في نفسه ، ثم إنّ عبد الرحمن مرض ، فأمر معاوية طبيباً عنده يهوديّا يقال له : ابن أثال. وكان عنده مكيناً ، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها ، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات ، ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفياً هو وغلام له ، فرصدا ذلك اليهوديّ ، فخرج ليلاً من عند معاوية فهجم عليه ، ومعه قوم هربوا عنه ، فقتله المهاجر. وفي الأغاني : إنّه قتله خالد بن المهاجر ، فأخذ وأُتي به معاوية فقال له : لا جزاك الله من زائر خيراً قتلت طبيبي. قال : قتلت المأمور وبقي الآمر (٢).

قال أبو عمر بعد ذكر القصّة : وقصّته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها ، ذكرها عمر بن شبّة في أخبار المدينة وذكرها غيره.

قال الأميني : وقعت هذه القصّة سنة (٤٦) وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد ....

سعيد بن عثمان سنة خمس وخمسين :

سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال : إنّ بها عبيد الله

__________________

(١) أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبو عمر في الاستيعاب [القسم الثاني / ٨٢٩ رقم ١٤٠٢] : كان من فرسان قريش وشجعانهم ، كان له فضل وهدي حسن وكرم ، إلاّ أنّه كان منحرفاً عن عليّ عليه‌السلام وقال ابن حجر في الإصابة [٣ / ٦٨ رقم ٦٢٠٧] : كان عظيم القدر عند أهل الشام. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن [القسم الثاني / ٨٢٩ رقم ١٤٠٢] ، الأغاني : ١٥ / ١٣ [١٦ / ٢٠٩] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٢٨ [٥ / ٢٢٧] واللفظ لأبي عمر. (المؤلف)


ابن زياد (١). فقال : أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يُجارى إليه ولا يُسامى ، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه ، وقدّمت عليّ هذا ـ يعني يزيد بن معاوية ـ وبايعت له وو الله لأنا خير منه أباً وأمّا ونفساً. فقال معاوية : أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ عليّ الجزاء به ، وقد كان من شكري لذلك أنّي طلبت بدمه حتى تكشّفت الأُمور ، ولست بلائم لنفسي في التشمير ، وأمّا فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خير منّي ، وأقرب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا فضل أُمّك على أُمّه فما ينكر ، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب ، وأمّا فضلك عليه فو الله ما أُحبّ أنّ الغوطة دحست (٢) ليزيد رجالاً مثلك ، فقال له يزيد : يا أمير المؤمنين ابن عمّك وأنت أحقّ من نظر في أمره ، وقد عتب عليك لي فأعتبه (٣).

وفي لفظ ابن قتيبة : فلمّا قدم معاوية الشام ، أتاه سعيد بن عثمان بن عفّان ، وكان شيطان قريش ولسانها ، قال : يا أمير المؤمنين علامَ تبايع ليزيد وتتركني؟ فو الله لتعلم أنّ أبي خير من أبيه ، وأُمّي خير من أُمّه ، وأنا خير منه ، وإنّك إنّما نلت ما أنت فيه بأبي. فضحك معاوية وقال : يا بن أخي أمّا قولك : إنّ أباك خير من أبيه. فيوم من عثمان خير من معاوية. وأمّا قولك : إنّ أُمّك خير من أُمّه ، ففضل قرشيّة على كلبيّة فضل بيّن. وأمّا أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنّما هو الملك يؤتيه الله من يشاء ، قتل أبوك ؛ فتواكلته بنو العاصي وقامت فيه بنو حرب ، فنحن أعظم بذلك منّةً عليك ، وأمّا أن تكون خيراً من يزيد ، فو الله ما أُحبّ أنّ داري مملوءة رجالاً مثلك بيزيد ، ولكن دعني من هذا القول ، وسلني أُعطك. فقال سعيد بن عثمان بن عفّان :

__________________

(١) سار إلى خرسان في أخريات سنة ٥٣ وأقام بها سنتين ، كما رواه الطبري في تاريخه ٦ / ١٦٦ ، ١٦٧ [٥ / ٢٩٧]. (المؤلف)

(٢) دُحست : ملئت.

(٣) تاريخ الطبري : ٦ / ١٧١ [٥ / ٣٠٥ حوادث سنة ٥٦ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٧٩ ، ٨٠ [٨ / ٨٥ ، ٨٦ حوادث سنة ٥٦ ه‍ وفيه : ورقّاك] ج. (المؤلف)


يا أمير المؤمنين لا يعدم يزيد مزكّياً ما دمت له ، وما كنت لأرضى ببعض حقّي دون بعض ، فإذا أبيت فأعطني ممّا أعطاك الله. فقال معاوية : لك خراسان؟ قال سعيد : وما خراسان؟! قال : إنّها لك طعمة وصلة رحم. فخرج راضياً وهو يقول :

ذكرتُ أميرَ المؤمنين وفضلَهُ

فقلت : جزاه اللهُ خيراً بما وصلْ

وقد سبقت منّي إليه بوادرٌ

من القول فيه آية العقل والزللْ

فعاد أمير المؤمنين بفضلهِ

وقد كان فيه قبلَ عودته ميَلْ

وقال خراسان لك اليومَ طعمةٌ

فجوزي أميرُ المؤمنين بما فعلْ

فلو كان عثمانُ الغداةَ مكانهَ

لما نالني من ملكه فوق ما بذلْ

فلمّا انتهى قوله إلى معاوية ، أمر يزيد أن يزوّده ، وأمر إليه بخلعة ، وشيّعه فرسخاً (١).

قال ابن عساكر في تاريخه (٢) (٦ / ١٥٥) : كان أهل المدينة يحبّون سعيداً ويكرهون يزيد ، فقدم على معاوية ، فقال له : يا بن أخي ما شيء يقول أهل المدينة؟ قال : ما يقولون؟ قال : قولهم :

والله لا ينالها يزيدُ

حتى يعضّ هامه الحديدُ

إنّ الأمير بعده سعيدُ

قال : ما تنكر من ذلك يا معاوية؟ والله إنّ أبي لخير من أبي يزيد ، ولأُمّي خير من أُمّه ، ولأنا خير منه ، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ، ثم صار في يديك ما قد ترى فحلأتنا (٣) عنه أجمع. فقال له : أمّا قولك. الحديث.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٧ [١ / ١٦٤]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ رقم ٢٥٢٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٣٣٥.

(٣) حلأه عن الشيء : منعه عنه.


وقال : حكى الحسن بن رشيق قصّة سعيد مع معاوية بأطول ممّا مرّ ـ ثم ذكر حكاية ابن رشيق ـ وفيها : فولاّه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم.

كتب معاوية في بيعة يزيد :

كتب معاوية إلى مروان بن الحكم : إنّي قد كبرت سنّي ، ودقّ عظمي ، وخشيت الاختلاف على الأُمّة بعدي ، وقد رأيت أن أتخيّر لهم من يقوم بعدي ، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك ، فاعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردّون عليك.

فقام مروان في الناس فأخبرهم به ، فقال الناس : أصاب ووفّق ، وقد أجبنا أن يتخيّر لنا فلا يألو.

فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب بذكر يزيد. فقام مروان فيهم وقال : إنّ أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده.

فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : كذبت والله يا مروان وكذب معاوية ، ما الخيار أردتما لأُمّة محمد ، ولكنّكم تريدون أن تجعلوها هرقليّة كلّما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما). الآية ، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت : يا مروان يا مروان ، فأنصت الناس ، وأقبل مروان بوجهه فقالت : أنت القائل لعبد الرحمن أنّه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله ما هو به ولكنّه فلان بن فلان ، ولكنّك أنت فضض من لعنة نبيّ الله (١).

وقام الحسين بن عليّ فأنكر ذلك ، وفعل مثله ابن عمر ، وابن الزبير ، فكتب مروان بذلك إلى معاوية ، وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار ، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة ،

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن : ص ٢٥٢ ، ٢٥٣ الطبعة الأولى وص ٢٤٦ الطبعة الثانية. (المؤلف)


والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة ، فقال محمد بن عمرو لمعاوية : إنّ كلّ راعٍ مسؤول عن رعيّته فانظر من تولّي أمر أُمّة محمد. فأخذ معاوية بهر (١) حتى جعل يتنفّس في يوم شاتٍ ثم وصله وصرفه. وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه ، فلمّا خرج من عنده قال له : كيف رأيت ابن أخيك؟ قال : رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً.

ثم إنّ معاوية قال للضحّاك بن قيس الفهري لمّا اجتمع الوفود عنده : إنّي متكلم ، فإذا سكتّ فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثّني عليها. فلمّا جلس معاوية للناس ، تكلّم فعظّم أمر الإسلام ، وحرمة الخلافة وحقّها ، وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة ، وعرض ببيعته ، فعارضه الضحاك ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إنّه لا بدّ للناس من والٍ بعدك ، وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء ، وأصلح للدهماء ، وآمن للسبل ، وخيراً في العاقبة ، والأيّام عوج رواجع ، والله كلّ يوم هو في شأن ، ويزيد ابن أمير المؤمنين ، في حسن هديه ، وقصد سيرته على ما علمت ، وهو من أفضلنا علماً وحلماً ، وأبعدنا رأياً ، فولِّه عهدك ، واجعله لنا علماً بعدك ، ومفزعاً نلجأ إليه ، ونسكن في ظلّه. وتكلّم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك ، ثم قام يزيد بن المقنع العذري ، فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ، ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه ، فقال معاوية : اجلس فأنت سيّد الخطباء. وتكلّم من حضر من الوفود.

فقال معاوية للأحنف : ما تقول يا أبا بحر؟ فقال : نخافكم إن صدقنا ، ونخاف الله إن كذبنا ، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره ، وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأُمّة رضا فلا تشاور فيه ، وإن كنت

__________________

(١) البهر : انقطاع النفس من الإعياء. (المؤلف)


تعلم فيه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ، وإنّما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا. وقام رجل من أهل الشام فقال : ما ندري ما تقول هذه المعديّة العراقيّة ، وإنّما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف. فتفرّق الناس يحكون قول الأحنف ، وكان معاوية يعطي المقارب ، ويُداري المباعد ويلطف به ، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه (١).

صورة أخرى :

قالوا : ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه‌الله إلاّ يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام ، وكتب بيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ، ويأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثم يبايعوا ليزيد.

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش ، فكتب لمعاوية : إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك ، فأرِني رأيك. فلمّا بلغ معاوية كتاب مروان عرف ذلك من قبله ، فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله ، ويخبره أنّه قد ولّى المدينة سعيد بن العاص ، فلمّا بلغ مروان كتاب معاوية ، أقبل مغاضباً في أهل بيته وناس كثير من قومه ، حتى نزل بأخواله بني كنانة ، فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله ، واستخلافه يزيد ابنه عن غير مشاورة مبادرة له ، فقالوا : نحن نبلك في يدك ، وسيفك في قرابك ، فمن رميته بنا أصبناه ، ومن ضربته قطعناه ، الرأي رأيك ، ونحن طوع يمينك.

ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير ممّن كان معه من قومه وأهل بيته ، حتى نزل

__________________

(١) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ [٤ / ١٦١ ـ ١٦٣] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢١٤ ـ ٢١٦ [٢ / ٥٠٩ حوادث سنة ٥٦ ه‍]. (المؤلف)


دمشق ، فخرج حتى أتى سدّة معاوية وقد أذن للناس ، فلمّا نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول ، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتى خلّى عن الباب ، ثم دخل مروان ودخلوا معه ، حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده ، قال بعد التسليم عليه بالخلافة : إنّ الله عظيم خطره ، لا يقدر قادر قدره ، خلق من خلقه عباداً جعلهم لدعائم دينه أوتاداً ، هم رقباؤه على البلاد ، وخلفاؤه على العباد ، أسفر بهم الظلم وألّف بهم الدين ، وشدّد بهم اليقين ، ومنح بهم الظفر ، ووضع بهم من استكبر ، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا ، وكنّا نكون لهم على الطاعة إخواناً ، وعلى من خالف عنّا أعواناً ، يُشدّ بنا العضد ، ويُقام منّا الأود ، ونُستشار في القضيّة ، ونُستأمر في أمر الرعيّة ، وقد أصبحنا اليوم في أُمور مستخيرة ، ذات وجوه مستديرة ، تفتح بأزمّة الضلال ، وتجلس بأسوأ الرجال ، يؤكل جزورها وتمقّ (١) أحلابها ، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها؟ وايم الله لو لا عهود مؤكّدة ومواثيق معقّدة لأقمت أَوَد وليِّها ، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان ، واهدأ من تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نظراً ، وأنّ لهم على مناوأتك وزراً.

فغضب معاوية من كلامه غضباً شديداً ، ثم كظم غيظه بحلمه ، وأخذ بيد مروان ثم قال : إن الله قد جعل لكلّ شيء أصلاً ، وجعل لكلّ خير أهلاً ، ثم جعلك في الكرم منّي محتداً ، والعزيز منّي والداً ، اخترت من قروم قادة ، ثم استللت سيّد سادة ، فأنت ابن ينابيع الكرم (٢) ، فمرحباً بك وأهلاً من ابن عمّ. ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صدّيقين ، كانوا كما نعتّ ، وكنت لهم كما ذكرت ، وقد أصبحنا في أُمور مستخيرة ذات وجوه مستديرة ، وبك والله يا ابن العمّ نرجو استقامة أودها ، وذلولة صعوبتها ، وسفور

__________________

(١) أي يشرب لبنها جميعه ، والمراد أنّ معاوية يستأثر بكلّ شيء في الخلافة.

(٢) قايس بين هذه الإطراءات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك الطريد ابن الطريد ، والوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين ، ونحن لو أعطينا لمعاوية حقّ المقام لقلنا : مكره أخوك لا بطل [يضرب لمن يحمل على ما ليس من شأنه : مجمع الأمثال : ٣ / ٣٤١ رقم ٤١١٧]. (المؤلف)


ظلمتها ، حتى يتطأطأ جسيمها ، ويركب بك عظيمها ، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده وفي كلّ شيء (١) عضده ، وإليك بعد (٢) عهده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وأنا مجيز وفدك ، ومحسن رفدك ، وعلى أمير المؤمنين غناك ، والنزول عند رضاك.

فكان أوّل ما رزق ألف دينار في كلّ هلال ، وفرض له في أهل بيته مائة مائة.

كتاب معاوية إلى سعيد :

إنّ معاوية كتب إلى سعيد بن العاص ـ وهو على المدينة ـ ، يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ، ويكتب إليه بمن سارع ممّن لم يسارع.

فلمّا أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدّة ، وسطا بكلّ من أبطأ عن ذلك ، فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير لا سيّما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحد.

وكان ابن الزبير من أشدّ الناس إنكاراً لذلك ، وردّا له ، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية :

أمّا بعد : فإنّك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين ، وأن أكتب إليك بمن سارع ممّن أبطأ ، وإنّي أخبرك أنّ الناس عن ذلك بِطاء لا سيّما أهل البيت من بني هاشم ، فإنّه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره ، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير ، ولست أقوى عليهم إلاّ بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك ، والسلام.

__________________

(١) في المصدر : وفي كلّ شدة.

(٢) في المصدر : عهد.


فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وإلى عبد الله بن جعفر ، والحسين بن عليّ كتباً ، وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ، ويبعث بجواباتها ، وكتب إلى سعيد بن العاص :

أمّا بعد : فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة ولا سيّما بني هاشم وما ذكر ابن الزبير ، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتباً فسلّمها إليهم ، وتنجّز جواباتها ، وابعث بها حتى أرى في ذلك رأيي ، ولتشتد عزيمتك ، ولتصلب شكيمتك ، وتحسن نيّتك ، وعليك بالرفق ، وإيّاك والخرق ، فإنّ الرفق رشد ، والخرق نكد ، وانظر حسيناً خاصّة فلا يناله منك مكروه ، فإنّ له قرابة وحقّا عظيماً لا ينكره مسلم ولا مسلمة ، وهو ليث عرين ، ولست آمنك إن شاورته أن لا تقوى عليه. فأمّا من يرد مع السباع إذا وردت ، ويكنس إذا كنست ، فذلك عبد الله بن الزبير ، فاحذره أشدّ الحذر ، ولا قوّة إلاّ بالله ، وأنا قادم عليك إن شاء الله. والسلام (١).

قال الأميني : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. نعم ، والحقّ أنّ للحسين ولأبيه وأخيه قرابة وحقّا عظيماً لا ينكره مسلم ولا مسلمة ، إلاّ معاوية وأذنابه الذين قلبوا عليهم ظهر المجنّ بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم ، بعد أن حلبت الأيّام لهم درّتها ، فضيّعوا تلك القرابة ، وأنكروا ذلك الحقّ العظيم ، وقطعوا رحماً ماسّة إن كان بين الطلقاء وسادات الأُمّة رحم.

هيهات لا قرّبت قربى ولا رحم

يوماً إذا أقصت الأخلاق والشيمُ

كانت مودّةُ سلمانٍ له رحماً

ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ (٢)

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ١٤٤ ـ ١٤٦ [١ / ١٥٣ ـ ١٥٤]. (المؤلف)

(٢) من قصيدة شهيرة للأمير أبي فراس. (المؤلف)


كتاب معاوية إلى الحسين عليه‌السلام :

أمّا بعد : فقد انتهت إليّ منك أمور لم أكن أظنّك بها رغبة عنها ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتّق الله ، ولا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأُمّة محمد ، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون.

فكتب إليه الحسين رضى الله عنه :

«أمّا بعد : فقد جاءني كتابك ، تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها. وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى ، وأمّا ما ذكرت أنّه رُقي إليك عنّي فإنّما رقاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردتُ حرباً ولا خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين ، حزب الظالم ، وأعوان الشيطان الرجيم». إلى آخر الكتاب (١).

كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر :

كتب إلى عبد الله : أما بعد فقد عرفت أثرتي إيّاك على من سواك ، وحُسن رأيي فيك وفي أهل بيتك ، وقد أتاني عنك ما أكره ، فإن بايعت تُشكَر ، وإن تأبَ تُجبَر ، والسلام.

فكتب إليه عبد الله بن جعفر :

أمّا بعد : فقد جاءني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إيّاي على من سواي ، فإن تفعل فبحظّك أصبت ، وإن تأبَ فبنفسك قصّرت ، وأمّا ما ذكرت من

__________________

(١) مرّ بتمامه في هذا الجزء : صفحة ١٦٠. (المؤلف)


جبرك إيّاي على البيعة ليزيد ، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين. والسلام.

الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير :

رأيت كرامَ الناسِ إن كُفَّ عنهمُ

بحلمٍ رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرةٍ

فذلك أحرى أن يُجَلَ ويُعظما

ولست بذي لؤم (٢) فتعذر بالذي

أتاه من الأخلاق من كان ألوما

ولكنّ غشّا لست تعرف غيره

وقد غشّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشّ إلاّ نفسَه في فعالهِ

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وإنّي لأخشى أن أنالَكَ بالذي

أردت فيجزي الله من كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية :

ألا سمع اللهُ الذي أنا عبدُه

فأخزى إلهُ الناسِ من كان أظلما

وأجرا على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

أغرّك أن قالوا : حليم بغرّةٍ

وليس بذي حلمٍ ولكن تحلّما

ولو رمت ما إن قد عزمت وجدتني

هزبرَ عرينٍ يترك القرن أكتما

وأقسم لو لا بيعة لك لم أكن

لأنقضَها لم تنجُ منّي مسلما

الإمامة والسياسة (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) في المصدر : بذي لوم.


بيعة يزيد في المدينة المشرّفة :

حجّ معاوية في سنة (٥٠) ، واعتمر في رجب سنة (٥٦) ، وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد ، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصحابة ووجوه الأُمّة ، غير أنّ المؤرّخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الأولى :

قال ابن قتيبة (١) : قالوا : استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين ، فتلقّاه الناس ، فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر ، فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال :

الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّي قد كبر سنّي ووهن عظمي ، وقرُب أجلي ، وأوشكت أن أُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أُحضر حسناً وحسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما [عليٍ] (٢) ، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس ، فقال :

الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨.

(٢) من المصدر.


بلائه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وصلّى الله على محمد وآل محمد.

أمّا بعد : فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذ اختاره الله لها ، فإنّه إنّما اختار محمداً بعلمه ، وهو العليم الخبير ، وأستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر ، فقال :

الحمد لله أهل الحمد ومُنتهاه ، نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقّه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا ، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أُخذ فيها بسنّة رسول الله ، فأولو رسول الله ، وإن أُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر ، فأيّ الناس أفضل وأكمل وأحقّ بهذا الأمر من آل الرسول ، وايم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ، لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الله ، وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتّق الله يا معاوية فإنّك قد صرت راعياً ونحن الرعيّة ، فانظر لرعيّتك ، فإنّك مسؤول عنها غداً ، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي وتركك أن تُحضرهما ، فو الله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز لك ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير ، فقال :

الحمد لله الذي عرّفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله. وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصّة ، تتناولها بمآثرها السنيّة ، وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء ، وكرم الأبناء ،


فاتّق الله يا معاوية وأنصف من نفسك ، فإنّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليّ خلّف حسناً وحسيناً ، وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتّق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر ، فقال :

الحمد الله الذي أكرمنا بدينه ، وشرّفنا بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلني مع الستّة من أصحاب الشورى ، إلاّ [على] أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصّة ، لمن كان لها أهلاً ، ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، من كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش ، فلعمري إنّ يزيد من فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلّم معاوية ، فقال :

قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم ، مع أنّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنّهم أهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولّى الناس أبا بكر وعمر ، من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد أخرجك الله يا بن الزبير وأنت يا بن عمر منها ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ، ولم يقطع عنهم شيئاً من صِلاتهم وأُعطياتهم ، ثم انصرف راجعاً إلى الشام ، وسكت عن البيعة ، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.


الإمامة والسياسة (١ / ١٤٢ ـ ١٤٤) ، جمهرة الخطب (٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦) (١).

قال الأميني : لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرحمن ، ذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠٨) قال : خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فكلّمه الحسين بن عليّ ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن : أهرقليّة كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل والله أبداً.

صورة أخرى :

من محاورة الرحلة الأُولى :

قدم معاوية المدينة حاجّا (٢) ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكب وماش ، وخرج الناس والصبيان ، فلقيه النساء على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب ، فَلانَ لمن كافحه ، وفاوض العامّة بمحادثته ، وتألّفهم جهده مقاربة ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به : يا أهل المدينة ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد ، ولان الخشن ، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردّ عليه القوم : بنفسك ودارك ومهاجرك أما إنّ لك منهم كإشفاق الحميم البرّ والحفيّ.

حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عبّاس ، فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثم انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، وجعل يواجه هذا مرّة ، ويضاحك هذا أخرى. حتى ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة ، والنساء ، والصبيان ، يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، جمهرة خطب العرب : ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

(٢) من المتسالم عليه أنّ معاوية حجّ في سنة خمسين. (المؤلف)


منزله ، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد ، فدخله.

وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أمّ المؤمنين فاستأذن عليها ، فأذنت له وحده ، لم يدخل عليها معه أحد ، وعندها مولاها ذكوان ، فقالت عائشة : يا معاوية أكنت تأمن أن أُقعِد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمد ابن أبي بكر؟ فقال معاوية : ما كنت لتفعلين ذلك. قالت : لم؟ قال : لأنّي في بيت آمن ، بيت رسول الله. ثم إنّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه ، وذكرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضّته على الاقتداء بهما والاتّباع لأثرهما ، ثم صمتت ، قال : فلم يخطب معاوية ، وخاف أن لا يبلغ ما بلغت ، فارتجل الحديث ارتجالاً ، ثم قال :

أنت والله يا أمّ المؤمنين العالمة بالله وبرسوله دللتِنا على الحقّ ، وحضضتِنا على حظّ أنفسنا ، وأنت أهل لأن يُطاع أمرك ، ويُسمع قولك ، وإنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم! وقد أكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره ، فقالت : أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط ، ولا تعجل فيهم ، فعلّهم لا يصنعون إلاّ ما أحببت.

ثم قام معاوية ، فلمّا قام قالت عائشة : يا معاوية قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية : دعي هذا ، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت : صالح. قال : فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

ثم خرج ومعه ذكوان فاتّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول : تالله إن رأيت كاليوم قط خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله ، ثم مضى حتى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن عليّ فخلا به ، فقال له : يا ابن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم ، يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال الحسين :


أرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال : يقول لك أخوك ابن الزبير : ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به ، فقال له : قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال : فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم ، وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال : إنّي كرهت أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها (١) ، وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف؟ قال ابن عمر : هل لك في أمر تحقن به الدماء ، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية : وددت ذلك. فقال ابن عمر : تبرز سريرك ثم أجيء فأُبايعك على أنّي [بعدك] (٢) أدخل فيما اجتمعت عليه الأمّة ، فو الله لو أنّ الأُمّة اجتمعت [بعدك] (٣) على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الأُمّة. قال : وتفعل؟ قال : نعم ثم خرج.

وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فخلا به قال : بأيّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن : أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية : والله لقد هممت أن أقتلك. فقال : لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك في الآخرة النار. ثم خرج.

__________________

(١) أتصدّق أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك أمّته كالضأن لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبيّ الرحمة عن أن يدع الأمّة كما يحسبون ، غير أنهم نبذوا وصيّته وراء ظهورهم ، وجرّوا الويلات على الأُمّة حتى اليوم. (المؤلف)

(٢) من الإمامة والسياسة.

(٣) من الإمامة والسياسة.


بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصّ. ويُدني بذمّة الناس (١) ، فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلّة يمانيّة وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّى (٢) وتعطّر ، فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عبّاس ، فسبق ابن عبّاس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش عن يساره ، فحادثه مليّا ثم قال : يا ابن عبّاس لقد وفّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال ابن عبّاس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر. فجعل معاوية يحدّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه ، فدخل الحسين وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ثم سكت. ثم ابتدأ معاوية فقال :

أمّا بعد : فالحمد لله وليّ النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنّ والإنس كافّة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى ـ صلوات الله عليه ـ وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له زهادة واختياراً لله ، وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم

__________________

(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا من الإمامة والسياسة : ويعصي مذمّة الناس.

(٢) تغلّى : تضمّخ بالغالية ، وهي من أفضل أنواع المسك.


خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك (١) ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان ، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أُحاول به من أمر الرعيّة من سدّ الخلل ، ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين ، وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنّة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل ، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنّة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعبا نفع وجدّ ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.

كلمة الإمام السبط :

فتيسّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : «على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر». فأمسك ابن عبّاس ، فقام الحسين ، فحمد الله وصلّى على الرسول ، ثم قال :

«أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله ، من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت

__________________

(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة : وثالث مشكور.


الشمس أنوار السُّرُج ، ولقد فضّلت حتى أفرطت ، وأستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ (٢) حقّه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد ، من اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السبّق لأترابهنّ ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فو الله ما برحت تقدّر (٣) باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا [تراثاً] ، ولقد ـ لعمر الله ـ أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة ، وجئت لنابها ما (٤) حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أَنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر

__________________

(٢) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : اسم.

(٣) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : تقدح.

(٤) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : أما.


المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟ وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إنّ هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر الله لي ولكم».

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس ، فقال : ما هذا يا ابن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمرّ. فقال ابن عبّاس : لعمر الله إنّها لذريّة الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهّر ، فالْهُ عمّا تريد ، فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية : أَعوَدُ الحلم التحلّم ، وخيرُه التحلّم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله. ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله ابن الزبير ، فجلسوا ، فحمد الله وأثنى عليه معاوية ، ثم قال :

يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدّثنا أنّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة ، وأنّ لك الدنيا وما فيها ، وإنّي أُحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثم سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أمّا بعد : يا معاوية قد كان قبلك خلفاء ، وكان لهم بنون ، ليس ابنك بخير من أبنائهم ، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك ، فلم يُحابوا في هذا الأمر أحداً ، ولكن اختاروا لهذه الأُمّة حيث علموهم ، وإنّك تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين وأُفرّق ملأهم ، وأسفك دماءهم ، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ، ولكن إن استقام الناس


فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أُمّة محمد.

فقال معاوية : يرحمك الله ، ليس عندك خلاف. ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر ، فقال له عبد الرحمن :

إنّك والله لوددت أنّا نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد ، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لأُعيدنّها جذعة ، ثم قام ليخرج ، فتعلّق معاوية بطرف ردائه ، ثم قال : على رسلك ، اللهمّ اكفنيه بما شئت ، لا تظهرنّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ، ثم قال له : أنت ثعلب روّاغ ، كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر ، أنت ألّبت هذين الرجلين ، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير : أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطيعه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها ، وبايع ليزيد ، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير ، حتى قال له معاوية في بعض كلامه : والله ما أراك إلاّ قاتلاً نفسك ، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف ، واحتجب عن الناس ثلاثة أيّام لا يخرج.

ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس أن يجتمعوا لأمر جامع ، فاجتمع الناس في المسجد ، وقعد هؤلاء (١) حول المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر يزيد وفضله ، وقراءته القرآن ، ثم قال : يا أهل المدينة لقد هممت ببيعة يزيد ، وما تركت قرية ولا مدرة إلاّ بعثت إليها بيعته ، فبايع الناس جميعاً وسلّموا ، وأخّرت المدينة بيعته ، وقلت : بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه ، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد ، لبايعت له.

فقام الحسين فقال : «والله لقد تركت من هو خير منه أباً وأُمّا ونفساً» ، فقال

__________________

(١) يعني المتخلّفين عن بيعة يزيد. (المؤلف)


معاوية : كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين : «نعم أصلحك الله». فقال معاوية : إذاً أُخبرك ، أمّا قولك خير منه أُمّا فلعمري أُمّك خير من أُمّه ، ولو لم يكن إلاّ أنّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهنّ ، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ثم فاطمة في دينها وسابقتها ، فأُمّك لعمر الله خير من أُمّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلى الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين : «حسبك جهلك ، آثرت العاجل على الآجل». فقال معاوية : وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفساً ، فيزيد والله خير لأُمّة محمد منك. فقال الحسين : «هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو ، خير منّي؟» فقال معاوية : مهلاً عن شتم ابن عمّك ، فإنّك لو ذُكِرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثم التفت معاوية إلى الناس وقال : أيّها الناس قد علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى ، فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فلما حضرته الوفاة رأى أن [يستخلف عمر ، فعمل عمر بكتاب الله وسنّة نبيّه. فلما حضرته الوفاة رأى أن] (١) يجعلها شورى بين ستّة نفر اختارهم من المسلمين ، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، كلّ ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين ، فلذلك رأيت أن أُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ، ونظراً لهم بعين الإنصاف (٢).

رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها :

قال ابن الأثير : فلمّا بايعه أهل العراق والشام ، سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس ، فلمّا نظر إليه قال :

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من طبعة الغدير المتداولة ، وأثبتناه من الإمامة والسياسة.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٩ ـ ١٥٥ [١ / ١٥٧ ـ ١٦٣] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٧٠ [٥ / ٣٠٣ حوادث سنة ٥٦ ه‍] واللفظ لابن قتيبة. (المؤلف)


لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه ، قال : «مهلاً فإنّي والله لست بأهل لهذه المقالة». قال : بلى ولشرّ منها. ولقيه ابن الزبير فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضب (١) تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ، ويدقّ ظهره ، نحيّاه عنّي. فضُرِب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً ، شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثم أمر فضُرِب وجه راحلته ، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك ، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ، ولم يروا منه ما يحبّون ، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ، وخطب معاوية بالمدينة ، فذكر يزيد فمدحه ، وقال : من أحقّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً :

قد كنتُ حذّرتكَ آل المصطلقْ

وقلت : يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحسُ وذقْ

ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنّه ذكر الحسين وأصحابه ، فقال : لَأَقتلنّهم إن لم يبايعوا فشكاهم إليها ، فوعظته وقالت له : بلغني أنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال : يا أمّ المؤمنين هم أعزّ من ذلك ، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم ، أفترين أن أنقض بيعة تمّت؟ قالت : فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله ، قال : أفعل. وكان في قولها له : ما يؤمنك أن أُقعِد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت ـ تعني أخاها محمداً ـ؟ فقال لها : كلاّ يا أمّ المؤمنين إنّي في بيت أمن. قالت : أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

__________________

(١) يقال : رجل خَبّ وخِبّ ، أى خَدّاع ، خبيث. وفي المثل : أخبّ من ضب. أنظر مجمع الأمثال : ١ / ٤٥٧ رقم ١٣٦٩.


ثم خرج إلى مكة ، فلقيه الناس ، فقال أولئك النفر : نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ ، فكان أوّل من لقيه الحسين ، فقال له معاوية : مرحباً وأهلاً يا بن رسول الله وسيد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره ، ثم فعل بالباقين مثل ذلك ، وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة ، فكانوا أوّل داخل وآخر خارج ، ولا يمضي يوم إلاّ ولهم صلة ، ولا يذكر لهم شيئاً ، حتى قضى نسكه ، وحمل أثقاله ، وقرب مسيره ، فقال بعض أولئك النفر لبعض : لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلاّ لما يريد ، فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير.

فأحضرهم معاوية وقال : قد علمتم سيرتي فيكم ، وصلتي لأرحامكم ، وحملي ما كان منكم ، ويزيد أخوكم وابن عمّكم ، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة ، وتكونوا أنتم تعزلون وتأمرون وتجبون المال وتقسمونه ، لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا ، فقال : ألا تجيبون؟ مرّتين ، ثم أقبل على ابن الزبير فقال : هات لعمري إنّك خطيبهم ، فقال : نعم نخيّرك بين ثلاث خصال ، قال : اعرضهنّ. قال : تصنع كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر ، أو كما صنع عمر ، قال معاوية : ما صنعوا؟ قال : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر ، قال : ليس فيكم مثل أبي بكر ، وأخاف الاختلاف. قالوا : صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر ، فإنّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه ، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر ، جعل الأمر شورى في ستّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية : هل عندك غير هذا؟ قال : لا. ثم قال : فأنتم؟ قالوا : قولنا قوله. قال : فإنّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم أنّه قد أعذر من أنذر ، إنّي كنت أخطب منكم (١) فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها

__________________

(١) في الكامل في التاريخ : ٢ / ٥١٣ : فيكم.


السيف إلى رأسه ، فلا يُبقِيَنَّ رجل إلاّ على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإن ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يُبتَزّ أمر دونهم ، ولا يقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس ، وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر ، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، فلقي الناس أولئك النفر ، فقالوا لهم : زعمتم أنّكم لا تبايعون ، فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ (١) قالوا : والله ما فعلنا. فقالوا : ما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا : كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ، ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم ، فأتاه ابن عبّاس فقال له : ما بالك جفوتنا؟ قال : إنّ صاحبكم ـ يعني الحسين عليه‌السلام ـ لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال : يا معاوية إنّي لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ، ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال : يا أبا العبّاس تعطون ، وترضون ، وترادون (٢).

وجاء في لفظ ابن قتيبة : إنّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله ، وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يُحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم : الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأوصاهم معاوية قال : إنّي خارج العشيّة إلى أهل الشام فأُخبرهم أنّ هؤلاء النفر قد بايعوا وسلّموا ، فإن تكلّم أحد منهم بكلام يصدّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه. فحذر القوم ذلك ، فلمّا كان العشيّ

__________________

(١) كذا في الكامل ، وفي الطبعة المعتمدة من العقد الفريد : فلما دُعيتم وأرضيتم بايعتم!

(٢) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ [٤ / ١٦١ ـ ١٦٣] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢١ ـ ٢١٨ [٢ / ٥١١ حوادث سنة ٥٦ ه‍] ، ذيل الأمالي ص ١٧٧ [٣ / ١٧٥] ، جمهرة الرسائل : ٢ / ٦٩ رقم ٧٢ واللفظ لابن الأثير. (المؤلف)


خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدّثهم وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلّة حمراء ، وألبس الحسين حلّة صفراء ، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء ، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة ، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم ـ أي القوم ـ وأنّهم بايعوا ، فقال : يا أهل الشام إنّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين ، وقد بايعوا وسلّموا ذلك ، والقوم سكوت لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل ، فوثب أُناس من أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية : سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام! لا أسمع لهم ذاكراً بسوء ، فإنّهم قد بايعوا وسلّموا ، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم ، ثم ارتحل معاوية راجعاً إلى مكة ، وقد أعطى الناس أعطياتهم ، وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كلّ قبيلة جوائزها وأُعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، فخرج عبد الله بن عبّاس في أثره حتى لحقه بالروحاء ، فجلس ببابه ، فجعل معاوية يقول : من بالباب؟ فيقال : عبد الله ابن عبّاس ، فلم يأذن لأحد. فلمّا استيقظ قال : من بالباب؟ فقيل : عبد الله بن عبّاس. فدعا بدابّته فأدخلت إليه ثم خرج راكباً ، فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ، ثم قال : أين تذهب؟ قال : إلى مكة. قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عديّ ، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية : لستم كغيركم ، لا والله لا أُعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم ، فقال ابن عبّاس : أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثم لأقولنّ ما تعلم ، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية : لا بل أعطيكم جوائزكم ، فبعث بها من الروحاء ، ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٥٦).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٣.


قال الأميني : إنّ المستشفّ لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب ، وبوارق التطميع ، وعوامل البهت والافتراء ، فيرى معاوية يتوعّد هذا ، ويقتل ذاك ، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له ، ويدرّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة ، وفي القوم من لا يؤثّر فيه شيء من ذلك كلّه ، غير أنّه لا رأي لمن لا يُطاع ، لكنّ إمام الهدى ، وسبط النبوّة ، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مصحراً بالحقيقة ، ومصارحاً بالحقّ ، وداحضاً للباطل مع كلّ تلكم الحنادس المدلهمّة ، أصغت إليه أُذن أم لا ، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض ، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة ، ويوجبه النظر في صالح المسلمين ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى من وافقه في شيء من الأمر ، ولا ما أعدّه لهم من التوعيد والإرجاف بهم ، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم ، حتى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار ، ولقي الحسين عليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه ، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر ، نعم ، لقي الحسين عليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة ـ بيعة يزيد ـ كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرّت الويلات على أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة ، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة ، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوأة ، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة ـ صلوات الله عليهم ـ ، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب ، وتندب النوادب ، وقرّحت الجفون ، وأسكبت المدامع ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).

نعم ؛ تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيّ جدارة وحنكة في يزيد ، تؤهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار ، من معاقرة

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.


الخمور ، ومباشرة الفجور ، ومنادمة القيان ذوات المعازف ، ومهارشة الكلاب ، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية ، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرّفه به أُناس آخرون ، وحسبك شهادة وفدٍ بعثه أهل المدينة إلى يزيد ، وفيهم : عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي ، والمنذر بن الزبير ، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم ، وشاهدوا أفعاله ، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر ، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم ، فأظهروا شتم يزيد وعتبة (١) ، وقالوا : إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويُسامر الحُرّاب ـ وهم اللصوص والفتيان ـ وإنّا نُشهدكم أنّا قد خلعناه ، فتابعهم الناس (٢).

وقال عبد الله بن حنظلة ، ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب ، قتيل يوم الحرّة يومئذٍ : يا قوم اتّقوا الله وحده لا شريك له ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً (٣)

ولمّا قدم المدينة أتاه الناس ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : أتيتكم من عند رجل ، والله لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم (٤).

__________________

(١) كذا في تاريخ الطبري ، وفي الكامل والبداية والنهاية : شتم يزيد وعيبه ، وهو الصحيح ظاهراً.

(٢) تاريخ الطبري : ٧ / ٤ [٥ / ٤٨٠ حوادث سنة ٦٢ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦١ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٥ حوادث سنة ٦٢ ه‍] فتح الباري : ١٣ / ٥٩ [١٣ / ٧٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٩ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧]. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٧ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ سنة ٦٢ ه‍] ، الإصابة : ٢ / ٢٩٩ [رقم ٤٦٣٧]. (المؤلف)


وقال المنذر بن الزبير لمّا قدم المدينة : إنّ يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره ، والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة (١)

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس : أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش؟ قال : مه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آتٍ ممّن يشرب الخمر ، أو هو شرّ من شاربها ، أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله إنّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون ، حتى يصلب مصلوب قريش بمكة ـ يعني عبد الله بن الزبير (٢).

نعم : لم يك على مخازي يزيد من أوّل يوم حجاب مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب ، غير أنّ أقرب الناس إليه ـ وهو أبوه معاوية ـ غضّ الطرف عنها جمعاء ، وحسب أنّها تخفى على الملأ الدينيّ بالتمويه ، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة ، فجابهه لسان الحقّ ، وإنسان الفضيلة ، حسين العظمة ، بكلماته المذكورة في صفحة (٢٤٨ و ٢٥٠) ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ، ومنه قوله : اعلم يا يزيد : إنّ أوّل ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السرّ ، فلا تأمن نفسك على سرّك ، ولا تعتقد على فعلك (٣).

فنظراً إلى ما عرفته الأُمّة من يزيد ، من مخازيه وملكاته الرذيلة ، عدّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع ، كما مرّ حديثه في صفحة (٢٢٥).

__________________

(١) كامل ابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦٢ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٦ حوادث سنة ٦٢ ه‍]. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٧ [١ / ١٧٤]. (المؤلف)

(٣) صبح الأعشى : ٦ / ٣٨٧ [٦ / ٣٧٤]. (المؤلف)


ـ ١٥ ـ

جنايات معاوية في صفحات تاريخه السوداء

إنّما نجتزئ منها على شيء يسير يكون كأنموذج ممّا له من السيّئات التي ينبو عنها العدد ، ويتقاعس عنها الحساب ، ويستدعي التبسّط فيها مجلّدات ضخمة فمنها : دأبه على لعن مولانا علي أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ، وكان يقنت به في صلواته كما مرّ حديثه في الجزء الثاني (ص ١٣٢) ، واتّخذه سنّة جارية في خطب الجمعة والأعياد ، وبدّل سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة العيدين المتأخّرة عن صلاتهما وقدّمها عليها ، لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر ، كما مرّ تفصيله في الجزء الثامن (ص ١٦٤ ـ ١٦٧) وأوعزنا إليه في هذا الجزء (ص ٢١٢) وكان يأمر عمّاله بتلك الأُحدوثة الموبقة ، ويحثّ الناس عليها ، ويوبّخ المتوقّفين عنها ، ولا يصيخ إلى قول أيّ ناصح وازع.

١ ـ أخرج مسلم ، والترمذي ، عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، قال : أمر معاوية سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لَأَن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم. فذكر حديث المنزلة ، والراية ، والمباهلة. وأخرجه الحاكم وزاد : فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة (١).

وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح ، قال : لمّا حجّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد ، فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في عليّ ، وشرع في سبّه ، فزحف سعد ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم

__________________

(١) راجع صحيح مسلم : ٧ / ١٢٠ [٥ / ٢٣ ح ٣٢ كتاب فضائل الصحابة] ، صحيح الترمذي : ١٣ / ١٧١ [٥ / ٥٩٦ ح ٣٧٢٤] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٩ [٣ / ١١٧ ح ٤٥٧٥]. (المؤلف)


شرعت في سبّ عليّ ، والله لَأَن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس. إلى آخر الحديث ، وفيه من قول سعد : وايم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت. ونهض.

قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري : ووجدت في وجه آخر من الروايات وذلك في كتاب عليّ بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار ، عن ابن عائشة وغيره : أنّ سعداً لمّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له : اقعد حتى تسمع جواب ما قلت : ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن ، فهلاّ نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ فإنّي لو سمعت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشت ، فقال سعد : والله إنّي لأحقّ بموضعك منك. فقال معاوية ، يأبى عليك [ذلك] بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة (١).

وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه (٢) (٨ / ٧٧) : دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له : مالك لم تقاتل عليّا ، فقال : إنّي مرّت بي ريح مظلمة فقلت : أخ أخ ، فأنخت راحلتي حتّى انجلت عنّي ، ثمّ عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ، ولكن قال الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٣). فو الله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية ، فقال سعد : ما كنت لأُقاتل رجلاً قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي» فقال معاوية : من سمع هذا معك؟ فقال : فلان وفلان

__________________

(١) مروج الذهب ١ / ٦١ [٣ / ٢٤ وما بين المعقوفين منه] وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزي في تذكرته ص ١٢ [ص ١٨]. (المؤلف)

(٢) البداية والنهاية : ٨ / ٨٣ حوادث سنة ٥٥ ه‍ وفيه : مالك لم تقاتل معنا؟بدلاً من :مالك لم تقاتل عليّا؟

(٣) الحجرات : ٩.


وأُمّ سلمة. فقال معاوية : أما إنّي لو سمعته منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاتلت عليّا.

قال : وفي رواية من وجه آخر : إنّ هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجّة حجّها معاوية ، وإنّهما قاما إلى أُمّ سلمة فسألاها فحدّثتهما بما حدّث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليّ حتى يموت أو أموت.

قال الأميني : لقد أفك معاوية في ادّعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطّردة الشائعة ، فإنّها لم تكن من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلاّ البطانة والخاصّة ، وإنّما هتف بهنّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رءوس الأشهاد ، أمّا حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيّته الكبرى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله». الحديث.

فاستطالت أعناقُ كلّ فريق

ليروا أيّ ماجدٍ يُعطاها

فلم تزل النفوس مشرئبّة متطلّعة إلى من عناه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جيء بأمير المؤمنين عليه‌السلام ومُنح الفتح من ساحة النبوّة العظمى ، فانطبق القول ، وصدقت الأكرومة ، وعلم الغزاة كلّهم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يريد غيره.

هب أنّ معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين ، وموقفه مع من يُحادّ الله ورسوله ، لكن هلاّ بلغه ذلك بعد ما حداه الفَرَق إلى الاستسلام؟ والحديث مطّرد بين الغزاة وسائر المسلمين ، وهم بين مشاهد له وعالم به.

وأمّا حديث المنزلة ، فقد نطق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة ، منها غزاة تبوك ، على ما مرّ تفصيله في الجزء الثالث (ص ١٩٨) وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم ، وكلّهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية ، فالاعتذار عن معاوية بأنّه لم يحضرها لإشراكه يومئذٍ مدفوع بما قلناه في واقعة خيبر.

ومن جملة موارده يوم غدير خمّ الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف


أو يزيدون ، لكنّه لم يعِهِ بدليل أنّه ما آمن به ، فحارب عليّا عليه‌السلام بعده ، وعاداه ، وأمر بلعنه محادّة منه لله ولرسوله ، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ «اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله». بعدُ ترنّ في أُذن الدنيا.

ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد (١) ، باسناده عن محدوج بن زيد الباهلي ، قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فبكى عليّ عليه‌السلام فقال رسول الله : «ما يبكيك فقال : لم تواخِ بيني وبين أحد. فقال : إنّما ادّخرتك لنفسي ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» (٢).

ومنها يوم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار أُمّ سلمة ، إذ أقبل عليّ عليه‌السلام يريد الدخول على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا أُمّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت : نعم ، فقال : «هذا عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». راجع الجزء الثالث (ص ١١٦).

على أنّ حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه ، رواه في حياة عليّ عليه‌السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم ، كما في الرياض النضرة (٣) (٢ / ١٩٥).

وأمّا نبأ المباهلة فصحيح أنّ معاوية لم يُدركه ، لأنّ الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه ، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن ابن حرب في معزل عن الكتاب والسنّة ، على أن قصّتها من القضايا العالميّة وليس من المستطاع لأيّ أحد أن يدّعي الجهل بها.

وهنا نماشي ابن صخر في عدم اطّلاعه على تلكم الفضائل إلى حدّ إخبار سعد

__________________

(١) مناقب عليّ : ص ١٩٧ ح ٢٥٧.

(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث : ص ١١٥. (المؤلف)

(٣) الرياض النضرة : ٣ / ١٤٢.


إيّاه ، لكنّه بما ذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الآية؟! وبما ذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفّين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية» وبما ذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بإخبار صحابيّ معدود عند القوم في العشرة المبشّرة ، وبعد إقامة الشهود عليه؟! ومن هنا تعلم أنّه أفك مرّة أخرى بقوله : أما إنّي لو سمعت من رسول الله ما سمعت في عليّ لكنت له خادماً ما عشت. لأنّه عاش ولم يرتدع عن غيّه ، وحارب أمير المؤمنين عليه‌السلام حيّا وميّتاً ، ودأب على لعنه والأمر به حتى أجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته.

نعم : إنّه استمرّ على بغيه ، وقابل سعداً في حديثه بالضرطة ، وهل هي هزء منه بمصدر تلكم الأنباء القدسيّة؟ أو بخضوع سعد لها؟ أو لمحض أنّ سعداً لم يوافقه على ظلمه؟ أنا لا أدري ، غير أنّ كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئاً من ذلك ، وهلاّ منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك؟ وبطبع الحال أنّ مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.

من أين تخجلُ أوجهٌ أمويّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حياءها

٢ ـ لمّا مات الحسن بن عليّ عليهما‌السلام حجّ معاوية ، فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليّا على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقيل له : إنّ هاهنا سعد بن أبي وقّاص ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ، ثم لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد. فلمّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا فكتبت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية : إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد (١) (٢ / ٣٠١).

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٥٩.


٣ ـ قال معاوية لعقيل بن أبي طالب : إنّ عليّا قد قطعك وأنا وصلتك ، ولا يرضيني منك إلاّ أن تلعنه على المنبر ، قال : أفعل. فصعد المنبر ، ثمّ قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس إنّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب ، فالعنوه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ثم نزل فقال له معاوية : إنّك لم تبيّن من لعنت منهما ، بيّنه. فقال : والله لا زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً ، والكلام إلى نيّة المتكلّم. العقد الفريد (٢ / ١٤٤) ، المستطرف (١ / ٥٤) (١).

٤ ـ بعث معاوية إلى عبيد الله بن عمر لمّا قدم عليه بالشام فأتى ، فقال له معاوية : يا ابن أخي إنّ لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلّم بكلّ فيك ، فأنت المأمون المصدّق ، فاصعد المنبر واشتم عليّا ، واشهد عليه أنّه قتل عثمان. فقال : يا أمير المؤمنين أمّا شتمه فإنّه عليّ بن أبي طالب ، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه؟ وأمّا بأسه فهو الشجاع المطرق. وأمّا أيّامه فما قد عرفت ، ولكنّي ملزمه دم عثمان. فقال عمرو بن العاص : إذاً والله قد نكأت القرحة (٢).

٥ ـ روى ابن الأثير في أُسد الغابة (٣) (١ / ١٣٤) عن شهر بن حوشب ، أنّه قال : أقام فلان (٤) خطباء يشتمون عليّا ـ ٢ وأرضاه ـ ويقعون فيه ، حتى كان آخرهم رجل من الأنصار أو غيرهم يقال له : أنيس. فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّكم قد أكثرتم اليوم في سبّ هذا الرجل وشتمه ، وإنّي أقسم بالله إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّي لأشفع يوم القيامة لأكثر ممّا على الأرض من مدر وشجر» وأُقسم بالله ما أحد أوصل لرحمه منه ، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز

__________________

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢١٥ ، المستطرف : ١ / ٤٣.

(٢) كتاب صفّين لابن مزاحم : ١ / ٩٢ [ص ٨٢] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٥٦ [٣ / ١٠٠ خطبة ٤٣]. (المؤلف)

(٣) أُسد الغابة : ١ / ١٥٨ رقم ٢٧١.

(٤) يعني معاوية. (المؤلف)


عن أهل بيته؟! وذكره ابن حجر في الإصابة (١ / ٧٧).

٦ ـ بينما معاوية جالس في بعض مجالسه وعنده وجوه الناس ، فيهم : الأحنف ابن قيس ، إذ دخل رجل من أهل الشام ، فقام خطيباً ، وكان آخر كلامه أن لعن عليّا ، فقال الأحنف : يا أمير المؤمنين إنّ هذا القائل لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين لَلعنهم ، فاتّق الله يا أمير المؤمنين ودع عنك عليّا فلقد لقي ربّه ، وأُفِرد في قبره ، وخلا بعمله ، وكان والله المبرور سيفه ، الطاهر ثوبه ، العظيمة مصيبته. فقال له معاوية : يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت ما ترى ، وايم الله لتصعدنّ المنبر فتلعننّه طوعاً أو كرهاً ، فقال له الأحنف : يا أمير المؤمنين إن تعفني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فو الله لا تجري شفتاي به أبداً. فقال : قم فاصعد المنبر.

قال الأحنف : أما والله لأُنصفنّك في القول والفعل. قال : وما أنت قائل إن أنصفتني؟

قال : أصعد المنبر ، فأحمد الله وأثني عليه ، وأُصلّي على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أقول : أيّها الناس إنّ أمير المؤمنين معاوية أمر أن ألعن عليّا ، وإنّ عليّا ومعاوية اختلفا واقتتلا ، فادّعى كلّ واحد منهما أنّه بُغي عليه وعلى فئته ، فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله. ثم أقول : اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، والعن الفئة الباغية ، اللهمّ العنهم لعناً كثيراً ، أمّنوا رحمكم الله. يا معاوية لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً ولو كان فيه ذهاب روحي. فقال معاوية : إذاً نعفيك يا أبا بحر.

العقد الفريد (٢ / ١٤٤) ، المستطرف (١ / ٥٤) (١).

٧ ـ في كتاب المختصر في أخبار البشر (٢) للعلاّمة إسماعيل بن عليّ بن محمود :

__________________

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢١٥ ، المستطرف : ١ / ٤٢.

(٢) المختصر في أخبار البشر المعروف بتاريخ أبي الفداء : ١ / ١٨٢.


كتب الحسن إلى معاوية واشترط عليه شروطاً ، وقال : «إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع» فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يُعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يشتم عليّا ، فلم يجب إلى الكفّ عن شتم عليّ ، فطلب الحسن أن لا يُشتم عليّ وهو يسمع ، فأجابه إلى ذلك ثم لم يَفِ به.

راجع (١) أيضاً : تاريخ الطبري (٦ / ٩٢) ، كامل ابن الأثير (٣ / ١٧٥) ، تاريخ ابن كثير (٨ / ١٤) ، تذكرة السبط (ص ١١٣) ، إتحاف الشبراوي (ص ١٠).

٨ ـ جاء قيس بن عبّاد الشيبانيّ إلى زياد ، فقال له : إنّ امرأً منّا من بني همام يُقال له : صيفي بن فسيل ، من رءوس أصحاب حُجر ، وهو أشدّ الناس عليك ، فبعث إليه زياد فأتي [به] ، فقال له زياد : يا عدوّ الله ما تقول في أبي تراب؟ قال : ما أعرف أبا تراب. قال : ما أعرفك به! قال : ما أعرفه. قال : أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال : بلى. قال : فذاك أبو تراب. قال : كلاّ ذاك أبو الحسن والحسين عليه‌السلام.

وفيه : قال زياد : لَتلعَننّه أو لأضربنّ عنقك. قال : إذاً تضربها والله قبل ذلك ، فإن أبيت إلاّ أن تضربها رضيت بالله وشقيت أنت. قال : ادفعوا في رقبته. ثم قال. أوقروه حديداً وألقوه في السجن. ثم قتل (٢) مع حُجر وأصحابه سنة (٥١). وسيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.

٩ ـ خطب بُسر بن أرطاة على منبر البصرة ، فشتم عليّا عليه‌السلام ثم قال : نشدت الله

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٦٠ حوادث سنة ٤٠ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٤٦ حوادث سنة ٤١ ه‍ ، البداية والنهاية : ٨ / ١٦ حوادث سنة ٤٠ ه‍ ، تذكرة الخواص : ص ١٩٨ ، الإتحاف بحب الأشراف : ص ٣٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٤٩ [٥ / ٢٦٦ حوادث سنة ٥١ ه‍] ، الأغاني : ١٦ / ٧ [١٧ / ١٤٨] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ٢٠٤ [٢ / ٤٩٢ حوادث سنة ٥١ ه‍] ، تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٤٥٩ [٢٤ / ٢٥٨ رقم ٢٩٠٨ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ١٢٥]. (المؤلف)


رجلاً علم أنّي صادق إلاّ صدّقني أو كاذب إلاّ كذّبني. فقال أبو بكرة (١) : اللهمّ إنّا لا نعلمك إلاّ كاذباً. قال : فأمر به فخُنِق. تاريخ الطبري (٢) (٦ / ٩٦).

١٠ ـ استعمل معاوية كثير بن شهاب على الريّ ، وكان يكثر سبّ عليّ على منبر الريّ ، وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة فأقرّه عليها. كامل ابن الأثير (٣) (٣ / ١٧٩).

١١ ـ كان المغيرة بن شعبة لمّا ولي الكوفة ، كان يقوم على المنبر ويخطب وينال من عليّ عليه‌السلام ويلعنه ويلعن شيعته ، وقد صحّ أنّ المغيرة لعنه على منبر الكوفة مرّات لا تحصى ، وكان يقول : إنّ عليّا لم ينكحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته حبّا ولكنّه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه. وصحّ عند الحاكم والذهبي أنّ المغيرة سبّ عليّا فقام إليه زيد بن أرقم فقال : يا مغيرة ألم تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن سبّ الأموات؟ فلِمَ تسبّ عليّا وقد مات (٤)؟

راجع (٥) : مسند أحمد (١ / ١٨٨) ، الأغاني (١٦ / ٢) المستدرك (١ / ٣٨٥) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٣٦٠).

__________________

(١) اسمه نفيع بن مسروح ، وقيل : نفيع بن الحارث بن كلدة ، وأمّه سميّة جارية الحارث بن كلدة. وكان يقول أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأبى أن ينتسب ، وقد نزل يوم الطائف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحصن فأسلم في غلمان من غلمان أهل الطائف فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد كنّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي بكرة لأنه تعلّق ببكرة من حصن الطائف. وهو من فضلاء الصحابة ، وهو الذي شهد على المغيرة بن شعبة بالزنا. أنظر الاستيعاب : ٤ / ١٦١٤ رقم ٢٨٧٧.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٦٧ ـ ١٦٨ حوادث سنة ٤١ ه‍.

(٣) الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٥٢ حوادث سنة ٤١ ه‍.

(٤) حديث النهي عن سبّ الأموات أخرجه البخاري في صحيحه : ٢ / ٢٦٤ [١ / ٤٧٠ رقم ١٣٢٩]. (المؤلف)

(٥) مسند أحمد : ١ / ٣٠٧ ح ١٦٣٤ ، الأغاني : ١٧ / ١٣٧ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ٥٤١ ح ١٤١٩ ، شرح نهج البلاغة : ٤ / ٦٩ خطبة ٥٦.


قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة ، فقام صعصعة بن صوحان فتكلّم ، فقال المغيرة : أخرجوه فأقيموه على المصطبة فليلعن عليّا. فقال : لعن الله من لعن الله ولعن عليّ بن أبي طالب. فاخبروه بذلك فقال : أقسم بالله لتقيدنّه. فخرج فقال : إنّ هذا يأبى إلاّ عليّ بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله. فقال المغيرة : أخرجوه أخرج الله نفسه.

الأذكياء لابن الجوزي (١) (ص ٩٨).

١٢ ـ أخرج ابن سعد ، عن عمير بن إسحاق ، قال : كان مروان أميراً علينا ـ يعني بالمدينة ـ فكان يسبّ عليّا كلّ جمعة على المنبر ، وحسن بن عليّ يسمع فلا يردّ شيئاً ، ثم أرسل إليه رجلاً يقول له : بعليّ وبعليّ وبعليّ وبك وبك وبك ، وما وجدت مثلك إلاّ مثل البغلة يقال لها : من أبوك؟ فتقول : أُمّي الفرس. فقال له الحسن : «إرجع إليه فقل له : إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً ممّا قلت بأن أسبّك ، ولكن موعدي وموعدك الله ، فإن كنت صادقاً جزاك الله بصدقك ، وإن كنت كاذباً فالله أشدّ نقمة».

تاريخ الخلفاء للسيوطي (٢) (ص ١٢٧) ، راجع الجزء الثامن ـ ترجمة مروان.

وكان الوزغ ابن الوزغ يقول لمّا قيل له : ما لكم تسبّون عليّا على المنابر : إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك.

الصواعق المحرقة (٣) (ص ٣٣).

١٣ ـ استناب معاوية على المدينة عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة الأمويّ المعروف بالأشدق ، الذي جاء فيه في مسند أحمد (٤) (٢ / ٥٢٢) من طريق أبي هريرة

__________________

(١) الأذكياء : ص ١٦٨.

(٢) تاريخ الخلفاء : ص ١٧٧.

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٥٥.

(٤) مسند أحمد : ٣ / ٣٣٠ ح ١٠٣٨٥.


مرفوعاً : «ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني أُميّة يسيل رعافه». قال : فحدّثني من رأى عمرو بن سعيد رعف على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى سال رعافه (١).

كان هذا الجبّار ممّن يسبّ عليّا عليه‌السلام على صهوة المنابر ، قال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري (٢) (٤ / ٣٦٨) ، والأنصاري في تحفة الباري شرح البخاري المطبوع في ذيل إرشاد الساري ، في الصفحة المذكورة : سمّي عمرو بالأشدق لأنّه صعد المنبر فبالغ في شتم علي رضى الله عنه فأصابته لقوة ـ أي داء في وجهه.

وعمرو بن سعيد هو الذي كان بالمدينة يوم قتل الإمام السبط عليه‌السلام ، قال عوانة ابن الحكم : لما قتل الحسين بن عليّ دعا عبيد الله بن زياد عبد الملك بن أبي الحرث السلمي ، وبعثه إلى المدينة ليبشّر عمرو بن سعيد ، فدخل السلمي على عمرو فقال : ما وراءك؟ فقال : ما سرّ الأمير قُتِل الحسين بن عليّ. فقال : نادِ بقتله. فناديت بقتله ، فلم أسمع والله واعية قطّ مثل واعية نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين ، فقال عمرو وضحك :

عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ (٣)

ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان بن عفّان. ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله (٤) ، وفي مثالب أبي عبيدة : ثم أومأ إلى القبر الشريف وقال : يا محمد يوم بيوم بدر. فأنكر عليه قوم من الأنصار.

كان أبو رافع عبداً لأبي أُحيحة سعيد بن العاص بن أُميّة ، فأعتق كلّ من بنيه

__________________

(١) وذكره ابن كثير في تاريخه : ٨ / ٣١١ [٨ / ٣٤٢ حوادث سنة ٦٩ ه‍]. (المؤلف)

(٢) ارشاد الساري : ٤ / ٤١٩ ح ١٨٣٢.

(٣) وقعة الأرنب كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبد المدان ، والبيت المذكور لعمرو بن معديكرب. (المؤلف)

(٤) تاريخ الطبري : ٦ / ٢٢٨ [٥ / ٤٦٥ حوادث سنة ٦١ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٤ / ٣٩ [٢ / ٥٧٩ حوادث سنة ٦١ ه‍]. (المؤلف)


نصيبه منه إلاّ خالد بن سعيد ، فإنّه وهب نصيبه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعتقه ، فكان يقول : أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا ولي عمرو بن سعيد بن العاص المدينة أيّام معاوية ، أرسل إلى البهيّ (١) بن أبي رافع ، فقال له : مولى من أنت؟ فقال : مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضربه مائة سوط ، ثم تركه ثم دعاه ، فقال : مولى من أنت؟ فقال : مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربه مائة سوط ، حتى ضربه خمسمائة سوط. فلمّا خاف أن يموت قال له : أنا مولاكم.

كامل المبرّد (٢) (٢ / ٧٥) ، الإصابة (٤ / ٦٨).

١٤ ـ أخرج الحاكم من طريق طاووس قال : كان حُجر بن قيس المدري من المختصّين بخدمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فقال له عليّ يوماً : «يا حُجر إنّك تقام بعدي فتؤمر بلعني فالعنّي ولا تبرأ منّي (٣)». قال طاووس : فرأيت حُجر المدري وقد أقامه أحمد بن إبراهيم خليفة بني أميّة في الجامع ، ووكّل به أن يلعن عليّا أو يُقتل. فقال حجر : أما إنّ الأمير أحمد بن إبراهيم أمرني أن ألعن عليّا فالعنوه لعنه الله. فقال طاووس : فلقد أعمى الله قلوبهم حتى لم يقف أحد منهم على ما قال.

المستدرك (٤) (٢ / ٣٥٨).

قال الأميني : لم يزل معاوية وعمّاله دائبين على ذلك حتى تمرّن عليه الصغير وهرم الشيخ الكبير ، ولعلّ في أوليات الأمر كان يوجد هناك من يمتنع عن القيام بتلك السبّة المخزية ، وكان يسع لبعض النفوس الشريفة أن يتخلّف عنها ، غير أنّ شدّة معاوية الحليم في إجراء أُحدوثته ، وسطوة عمّاله الخصماء الألدّاء على أهل بيت الوحي ، وتهالكهم دون تدعيم تلك الإمرة الغاشمة ، وتنفيذ تلك البدعة الملعونة ،

__________________

(١) في الكامل : عبيد الله بن أبي رافع. (المؤلف)

(٢) الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٤٠١.

(٣) صح عن أمير المؤمنين قوله : إنّكم ستُعرضون على سبّي فسبّوني ، فإن عرضت عليكم البراءة منّي فلا تبرءوا منّي ، فإنّي على الإسلام. مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٥٨ [٢ / ٣٩٠ ح ٣٣٦٥]. (المؤلف)

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٩٠ ح ٣٣٦٦ ، وفيه : ليلعن ، بدل : أن يلعن.


حكمت في البلاء حتى عمّت البلوى ، وخضعت إليها الرقاب ، وغلّلتها أيدي الجورتحت نير الذلّ والهوان ، فكانت العادة مستمرّة منذ شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى نهي عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر ، وفي الحواضر الإسلاميّة كلّها من الشام إلى الريّ ، إلى الكوفة ، إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرّفة ، إلى حرم أمن الله مكة المعظّمة ، إلى شرق العالم الإسلامي وغربه ، وعند مجتمعات المسلمين جمعاء ، وقد مرّ في الجزء الثاني قول ياقوت في معجم البلدان (١) : لُعن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه على منابر الشرق والغرب ، ولم يُلعن على منبر سجستان إلاّ مرّة ، وامتنعوا على بني أُميّة حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يُلعن على منبرهم أحد ، وأيّ شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبرهم وهو يُلعن على منابر الحرمين : مكة والمدينة. انتهى.

وقد صارت سنّة جارية ، ودُعمت في أيّام الأمويّين سبعون ألف منبر يُلعن فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) ، واتّخذوا ذلك كعقيدة راسخة ، أو فريضة ثابتة ، أو سنّة متّبعة يُرغب فيها بكلّ شوق وتوق ، حتى أنّ عمر بن عبد العزيز لمّا منع عنها ، لحكمة عمليّة أو لسياسة وقتيّة ، حسبوه كأنّه جاء بطامّة كبرى ، أو اقترف إثماً عظيماً.

والذي يظهر من كلام المسعودي في مروجه (٣) (٢ / ١٦٧) ، واليعقوبي في تاريخه (٤) (٣ / ٤٨) ، وابن الأثير في كامله (٥) (٧ / ١٧) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (٦) (ص ١٦١) وغيرهم : أنّ عمر بن عبد العزيز إنّما نهى عن لعنه عليه‌السلام في الخطبة على المنبر فحسب ، وكتب بذلك إلى عمّاله وجعل مكانه : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ

__________________

(١) معجم البلدان : ٣ / ١٩١.

(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني : ص ١٠٢ ، ١٠٣. (المؤلف)

(٣) مروج الذهب : ٣ / ٢٠٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٠٥.

(٥) الكامل في التاريخ : ٣ / ٢٥٦ حوادث سنة ٩٩ ه‍.

(٦) تاريخ الخلفاء : ص ٢٢٦.


سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (١) الآية. وقيل : بل جعل مكان ذلك : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٢) الآية. وقيل : بل جعلهما جميعاً ، فاستعمل الناس في الخطبة.

وأمّا نهيه عن مطلق الوقيعة في أمير المؤمنين والنيل منه عليه‌السلام ، وأخذه كلّ متحامل عليه بالسبّ والشتم ، وإجراء العقوبة على مرتكبي تلكم الجريرة ، فلسنا عالمين بشيء من ذلك ، غير أنّا نجد في صفحات التاريخ أنّ عمر بن عبد العزيز كان يجلد من سب عثمان ومعاوية ، كما ذكره ابن تيميّة في كتابه الصارم المسلول (٣) (ص ٢٧٢) ولم نقف على جلده أحداً لسبّه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

دع عنك موقف أمير المؤمنين عليه‌السلام من خلافة الله الكبرى ، وسوابقه في تثبيت الإسلام والذبّ عنه ، وبثّه العدل والإنصاف ، وتدعيمه فرائض الدين وسننه ، ودعوته إلى الله وحده وإلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى دينه الحنيف ، وتهالكه في ذلك كلّه ، حتى لقي ربّه مكدوداً في ذات الله.

دع عنك فضائله ، وفواضله ، والآي النازلة فيه ، والنصوص النبويّة المأثورة في مناقبه ، لكنّه هل هو بدع من آحاد المسلمين الذين يحرم لعنهم وسبابهم وعليه تعاضدت الأحاديث واطّردت الفتاوى؟

وحسبك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سباب المسلم فسوق».

أخرجه (٤) : البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد ،

__________________

(١) الحشر : ١٠.

(٢) النحل : ٩٠.

(٣) الصارم المسلول : ص ٥٧٤.

(٤) صحيح البخاري : ١ / ٢٧ ح ٤٨ ، صحيح مسلم : ١ / ١١٤ ح ١١٦ كتاب الإيمان ، سنن الترمذي : ٤ / ٣١١ ح ١٩٨٣ ، السنن الكبرى للنسائي : ٢ / ٣١٣ ح ٣٥٦٨ ـ ٣٥٧١ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٢٩٩ ح ٣٩٣٩ ـ ٣٩٤١ ، مسند أحمد : ١ / ٦٣٦ ح ٣٦٣٩ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٠ ، تاريخ بغداد : ١٣ / ١٨٥ رقم ٧١٦٣.


والبيهقي ، والطبري ، والدارقطني ، والخطيب ، وغيرهم من طريق ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر ، وعبد الله بن مغفل ، وعمرو بن النعمان. راجع الترغيب والترهيب (١) (٣ / ١٩٤) ، وفيض القدير (٤ / ٨٤ ، ٥٠٥ ، ٥٠٦).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سباب المسلم كالمشرف على الهلكة».

أخرجه البزّار (٢) من طريق عبد الله بن عمرو بإسناد جيّد ، كما قاله الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (٣) (٣ / ١٩٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يكون المؤمن لعّاناً».

أخرجه الترمذي (٤) ، وقال : حديث حسن. وسمعت نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبّ الأموات (ص ٢٦٣).

على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مع غضّ الطرف عن طهارة مولده ، وقداسة محتده ، وشرف أرومته ، وفضائله النفسيّة والكسبيّة ، وملكاته الكريمة ، هو من العشرة الذين بُشّروا بالجنّة ـ عند القوم ـ ، ولا أقلّ من أنّه أحد الصحابة الذين يعتقد القوم فيهم العدالة جميعاً (٥) ، ويحتجّون بأقوالهم وأفعالهم ، ولا يستسيغون الوقيعة فيهم ، ويشدّدون النكير على الشيعة لحسبانهم أنّهم يقعون في بعض الصحابة ، ورتّبوا على ذلك أحكاماً ، قال يحيى بن معين : كلّ من شتم عثمان ، أو طلحة ، أو أحداً من

__________________

(١) الترغيب والترهيب : ٣ / ٤٦٦.

(٢) مسند البزّار (البحر الزخّار) : ٥ / ٨٦ ح ١٦٦٠.

(٣) الترغيب والترهيب : ٣ / ٤٦٧.

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ٣٢٦ ح ٣٠١٩ ، وانظر الترغيب والترهيب : ٣ / ٤٧٠ ، ومشكاة المصابيح للتبريزي : ٣ / ٤٣ ح ٤٨٤٨.

(٥) قال النووي في شرح مسلم هامش الإرشاد : ٨ / ٢٢ [١٢ / ٢١٦] : إنّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلّهم هم صفوة الناس ، وسادات الأُمّة ، وأفضل ممّن بعدهم ، وكلّهم عدول قدوة لا نخالة فيهم ، وإنّما جاء التخليط ممّن بعدهم ، وفيمن بعدهم كانت النخالة. (المؤلف)


أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّال لا يُكتب عنه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (١).

وعن أحمد إمام الحنابلة (٢) : خير الأُمّة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعليّ بعد عثمان ، ووقف قوم ، وهم خلفاء راشدون مهديّون ، ثم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم ، ولا طعن على أحد منهم بعيب ولا نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة ، وخلّده في الحبس حتى يموت أو يراجع.

وعنه أيضاً : ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية. وقال : إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء فاتّهمه على الإسلام.

وعن عاصم الأحول قال : أُتيت برجل قد سبّ عثمان ، قال : فضربته عشرة أسواط ، قال : ثم عاد لما قال ، فضربته عشرة أخرى. قال : فلم يزل يسبّه حتى ضربته سبعين سوطاً.

وقال القاضي أبو يعلى : الذي عليه الفقهاء في سبّ الصحابة ، إن كان مستحلاّ لذلك كفر ، وإن لم يكن مستحلاّ فسق ولم يكفر ، سواء كفّرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم ، وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سبّ الصحابة ، وكفر الرافضة.

قال أبو بكر بن عبد العزيز في المقنع : فأمّا الرافضي فإن كان يسبّ فقد كفر ، فلا يُزوّج (٣).

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ١ / ٥٠٩ [١ / ٤٤٧]. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ١ / ١٨٦ ح ٩٣٦.

(٣) الصارم المسلول : ص ٢٧٢ ، ٥٧٤ ، ٥٧٥. (المؤلف)


وقال الشيخ علاء الدين أبو الحسن الطرابلسي الحنفي في معين الحكام فيما يتردّد بين الخصمين من الأحكام (١) (ص ١٨٧) : من شتم أحداً من أصحاب النبيّ عليه‌السلام أبا بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو عليّا ، أو معاوية ، أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر ، قُتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس ، نكل نكالاً شديداً.

وعدّ الذهبي في كتاب الكبائر (٢) (ص ٢٣٣) منها : سبّ أحد من الصحابة ، وقال في (ص ٢٣٥) : فمن طعن فيهم أو سبّهم فقد خرج من الدين ، ومرق من ملّة المسلمين ، لأنّ الطعن لا يكون إلاّ عن اعتقاد مساوئهم ، وإضمار الحقد فيهم ، وإنكار ما ذكره الله في كتابه من ثنائه عليهم ، وما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ثنائه عليهم ، وفضائلهم ، ومناقبهم ، وحبّهم ، ولأنّهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول ، والطعن في الوسائط طعن في الأصل ، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول ، وهذا ظاهر لمن تدبّره ، وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته ، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار من ذلك ، كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً ، فمن سبّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً.

ولهم في سبّ الشيخين وعثمان تصويب وتصعيد ، قال محمد بن يوسف الفريابي : سُئل القاضي أبو يعلى عمّن شتم أبا بكر. قال : كافر. قيل : فيصلّى عليه؟ قال : لا. وسأله كيف يُصنع به وهو يقول : لا إله إلاّ الله؟ قال : لا تمسّوه بأيديكم ، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته. الصارم المسلول (ص ٥٧٥).

__________________

(١) معين الحكام : ص ٢٢٨.

(٢) كتاب الكبائر : ص ٢١٥ ، ٢١٦ ح ٤٩٢.


وقال الجرداني في مصباح الظلام (١) (٢ / ٢٣) : قال أكثر العلماء : من سبّ أبا بكر وعمر كان كافراً.

وقال ابن تيميّة في الصارم المسلول (ص ٥٨١) : قال إبراهيم النخعي : كان يُقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر. وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي : شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (٢).

وقُتل عيسى بن جعفر بن محمد [بن عاصم] لشتمه أبا بكر ، وعمر ، وعائشة وحفصة ، بأمر المتوكّل على الله. قاله ابن كثير في تاريخه (٣) (١٠ / ٣٢٤).

وفي الصارم المسلول (ص ٥٧٦) : قال أحمد في رواية أبي طالب ، في الرجل يشتم عثمان : هذا زندقة.

هب أنّ هذه الفتاوى المجرّدة من مسلّمات الفقه ، وليس للباحث أن يناقش أصحابها الحساب ، ويطالبهم مدارك تلكم الأحكام من الكتاب والسنّة ، أو الأُصول والقواعد ، أو القياس والاستحسان ، ولا سيّما مدارك جملة من خصوصيّاتها العجيبة الشاذّة عن شرعة الإسلام ، لكنّها هل هي مخصوصة بغير رجالات أهل البيت ، فهي منحسرة عنهم؟!

ولعلّ فيهم من يجافيك على ذلك فيقول : نعم هي منحسرة عن علي عليه‌السلام وابنيه السبطين سيّدي شباب أهل الجنّة ، لأنّ ابن هند كان يقع فيهم ويلعنهم ، ويُلجئ الناس إلى ذلك بأنواع من الترغيب والترهيب ، فليس من الممكن تسريبها إليه ، لأنّه كاتب الوحي وإن كان لم يكتب غير عدّة كتب إلى رؤساء القبائل في أيّام إسلامه القليلة من أُخريات العهد النبويّ ، وهو خال المؤمنين لمكان أُمّ حبيبة من

__________________

(١) مصباح الظلام : ٢ / ٥٦ ح ٣٦٢.

(٢) النساء : ٣١.

(٣) البداية والنهاية : ١٠ / ٣٥٧ حوادث سنة ٢٤١ ه‍ ، وما بين المعقوفين منه.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم لم يسمّوا بذلك غيره من إخوة أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمحمد بن أبي بكر ، وليس له مبرر إلاّ أنّ محمداً كان في الجيش العلويّ ومعاوية حاربه ـ صلوات الله عليه ـ ، فهي ضغائن قديمة انفجر بركانها أخيراً عند منتشر الأحقاد ومحتدم الإحن ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١).

وهل سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المزعومة في قوله : لا تسبّوا أصحابي. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. كانت مختصّة بغير المخاطبين بها في صدر الإسلام من الصحابة؟ أو أنّها عامّة مطّردة؟ كما يقتضيه كونها من الشريعة الإسلاميّة المستمرّة إلى أن تقوم الساعة ، وقد حسبوها كذلك لأنّها متّخذة من السنّة المخاطب بها ، وقد جاء في بعض طرق الرواية الأولى عند مسلم : أنّه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبّه خالد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبّوا أصحابي ، وفي رواية أنس : قال أُناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا نسبّ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (٢).

فليس من المعقول أن يكونوا مستثنين من حكم خوطبوا به ، لو لا أنّ الميول والشهوات قد استثنتهم.

أو كان أمير المؤمنين عليه‌السلام مستثنى من بين الصحابة عن شمول تلكم الأحكام؟ فلا تجري على من نال منه عليه‌السلام أو وقع فيه.

أضف إلى هذه كلّها أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام كان أحد الخلفاء الراشدين عندهم ، وبالإجماع المتسالم عليه بين فرق الإسلام كلّها ، وللقوم فيمن يقع فيهم

__________________

(١) آل عمران : ١١٨.

(٢) كتاب الكبائر للذهبي : ص ٢٣٥ [ص ٢١٦ ح ٤٩٣]. (المؤلف)


أحكام شديدة ، ومنهم من قال كما سمعته قبيل هذا بكفر من سبّ الشيخين ، وزندقة من سبّ عثمان ، وقد جاء في الصحيح الثابت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي (١).

فهلمّ معي نسائلهم عن المبرّر لعمل معاوية والأمويّين منتسباً ونزعة ، وتابعيهم المجترحين لهذه السيّئة المخزية ، وعن المغضين عنهم الذين أخرجوا إمام العدل صنو محمد ـ صلّى الله عليهما وآلهما ـ عن حكم الخلفاء ، وعن حكم الصحابة ، بل وعن حكم آحاد المسلمين ، فاستباحوا النيل منه على رءوس الأشهاد ، وفي كلّ منتدى ومجمع من دون أيّ وازعٍ يزعهم.

فإلى أيّ هوّة أسفّوا بالإمام الطاهر عليه‌السلام حتى استلبوه الأحكام المرتّبة على المواضيع الثلاثة : الخلافة ، الصحبة ، الإسلام؟ ولم يقيموا له أي وزن ، وما راعوا فيه أيّ حقّ ، وما تحفّظوا له بأيّة كرامة وهو نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وأوّل من أسلم له ، وقام الإسلام بسيفه ، وتمّت برهنة الحقّ ببيانه ، واكتسحت المعرّات عن الدين بلسانه وسنانه ، وهو مع الحقّ والحقّ معه ، وهو مع القرآن والقرآن معه ولن يفترقا حتى يردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض (٢) ، وما غيّر وما بدّل حتى لفظ نفسه الأخير ، وهم يمنعون عن لعن الأدعياء ، وحملة الأوزار المستوجبين النار ، ويذبّون عن الوقيعة في أهل المعرّة والخمور والفجور ، من طريد ، إلى لعين ، إلى متهاون بالشريعة ، إلى عائث بالأحكام ، إلى مبدّل للسنّة ، إلى مخالف للكتاب ومحالف للهوى ، إلى إلى إلى ... إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

نعم ؛ لعمر الحقّ كان الأمر كما قال عامر بن عبد الله بن الزبير لمّا سمع ابنه ينال من عليّ عليه‌السلام : يا بنيّ إيّاك وذكر عليّ رضى الله عنه فإنّ بني أُميّة تنقّصته ستّين عاماً فما زاده الله

__________________

(١) مرّ معناه الصحيح في الجزء السادس : ص ٣٣٠. (المؤلف)

(٢) أنظر الغدير : ٣ / ٢٥١ ـ ٢٥٥ و ٧ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ و ٨ / ٢٧٠ و ١٠ / ٧٠ ـ ٧١ ، ٣٩٨ من هذه الطبعة.


بذلك إلاّ رفعة. المحاسن والمساوئ للبيهقي (١) (١ / ٤٠).

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (٢)

ـ ١٦ ـ

قتال ابن هند عليًّا أمير المؤمنين عليه‌السلام

نحن مهما غضضنا الطرف عن شيء في الباب ، فلا يسعنا أن نتغاضى عن أنّ مولانا أمير المؤمنين هو ذلك المسلم الأوحديّ الذي يحرم إيذاؤه وقتاله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٣) ، ومن المتسالم عليه عند أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «سباب المسلم ـ المؤمن ـ فسوق ، وقتاله كفر» (٤). وقد اقترف معاوية الإثمين معاً ، فسبّ وقاتل سيّد المسلمين جميعاً ، وآذى أوّل من أسلم من الأُمّة المرحومة ، وآذى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥) ، ومن آذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد آذى الله (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٦).

على أنّه ـ سلام الله عليه ـ كان خليفة الوقت يومئذٍ كيفما قلنا أو تمحّلنا في أمر الخلافة ، وكان تصدّيه لها بالنصّ ، وإجماع أهل الحلّ والعقد ، وبيعة المهاجرين والأنصار ، ورضى الصحابة جمعاء ، خلا نفر يسير شذّوا عن الطريقة المثلى لا يفتّون في عضد جماعة ، ولا يؤثّرون على انعقاد طاعة ، بعثت بعضهم الضغائن ، وحدت آخر

__________________

(١) المحاسن والمساوئ : ص ٥٥.

(٢) التوبة : ٣٢.

(٣) الأحزاب : ٥٨.

(٤) أنظر الغدير : ٢ / ٢٥٤.

(٥) التوبة : ٦١.

(٦) الأحزاب : ٥٧.


المطامع ، واندفع ثالث إلى نوايا خاصّة رغب فيها لشخصيّاته. وكيفما كانت الحالة فأمير المؤمنين عليه‌السلام وقتئذٍ الخليفة حقّا ، وإنّ من ناوأه وخرج عليه يجب قتله ، وإنّما خلع ربقة الإسلام من عنقه ، وأهان سلطان الله ، ويلقى الله ولا حجّة له ، وقد جاء في النصّ الجليّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأُمّة وهم جميع فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان».

وفي لفظ : «فمن رأيتموه يمشي إلى أُمّة محمد فيفرّق جماعتهم فاقتلوه».

وفي لفظ الحاكم : «فاقتلوه كائناً من كان من الناس». راجع صفحة (٢٧ ، ٢٨) من هذا الجزء.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أتاكم وأمركم جمع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم ، فاقتلوه». راجع (ص ٢٨) من هذا الجزء.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهليّة ، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب للعصبيّة ، أو يدعو إلى عصبيّة ، أو ينصر عصبيّة ، فقتل فقتلة جاهليّة ، ومن خرج على أُمّتي يضرب برّها وفاجرها ، لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها ، فليس منّي ولست منه» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلاّ أن يراجع ، ومن دعا دعوة جاهليّة فإنّه من جثا جهنّم» ، قال رجل : يا رسول الله

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦ / ٢١ [٤ / ١٢٤ ح ٥٣ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٩٦ [٢ / ٥٧٣ ٧٨٨٤] ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ٢٢ [٤ / ١٢٦ ح ٥٨ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٦. (المؤلف)


وإن صام وصلّى؟ قال : «نعم وإن صام وصلّى ، فادعوا بدعوة الله الذي سمّاكم بها المسلمين المؤمنين ، عباد الله» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس أحد يفارق الجماعة قيد شبر فيموت إلاّ مات ميتة جاهليّة» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهليّة» (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق معاوية نفسه : «من فارق الجماعة شبراً دخل النار» (٦)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة ، واستذلّ الإمارة لقي الله ولا حجّة له عند الله» (٧).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشيّ كأنّ رأسه زبيبة» (٨).

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧ ، مستدرك الحاكم : ١ / ١١٧ [١ / ٢٠٤ ح ٤٠٤] صدر الحديث. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧ ، مستدرك الحاكم : ١ / ١١٧ [١ / ٢٠٣ ح ٤٠١]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري باب السمع والطاعة للإمام [ج ٦ / ٢٦١٢ ح ٦٧٢٤] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧. (المؤلف)

(٤) تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧] نقلاً عن الشيخين. (المؤلف)

(٥) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٩ [٤ / ٤٣٥ ح ٢٢٢٤] ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧]. (المؤلف)

(٦) مستدرك الحاكم : ١ / ١١٨ [١ / ٢٠٥ ح ٤٠٧]. (المؤلف)

(٧) مستدرك الحاكم : ١ / ١١٩ [١ / ٢٠٦ ح ٤١٠]. (المؤلف)

(٨) صحيح البخاري باب السمع والطاعة [٦ / ٢٦١٢ ح ٦٧٢٣] ، صحيح مسلم : ٦ / ١٥ [٤ / ١١٦ ح ٣٧ كتاب الإمارة] ، واللفظ للبخاري. (المؤلف)


أوَهل ترى معاوية في خروجه على أمير المؤمنين عليه‌السلام ألف الجماعة ولازم الطاعة؟ أو أنّه باغٍ أهان سلطان الله ، واستذلّ الإمارة الحقّة ، وخرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة وخلع ربقة الإسلام من رأسه؟

النصوص النبويّة تأبى إلاّ أن يكون الرجل على رأس البغاة ، كما كان على رأس الأحزاب يوم كان وثنيّاً ، وما أشبه آخره بأوّله ، ولذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين بقتاله ، وأنّ من يقتل عمّاراً هي الفئة الباغية ، ولم يختلف اثنان في أنّ أصحاب معاوية هم الذين قتلوه ، غير أنّ معاوية نفسه لم يتأثّر بتلك الشية ، ولم تثنه عن بغيه تلكم القتلة وأمثالها من الصلحاء الأبرار ، الذين ولغ في دمائهم.

أضف إلى ذلك أنّ معاوية هو الخليفة الأخير ببيعة طغام الشام وطغاتهم ، إن كانت لبيعتهم الشاذّة قيمة في الشريعة ، وقد حتّم الإسلام قتل خليفة مثله ، بقول نبيّه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون خلفاء فتكثر» قالوا : فما تأمرنا؟ قال : «فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل ، وأعطوهم حقّهم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر».

وهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة (١) ، هي التي تصحّح الحديث الوارد في معاوية نفسه ، وإن ضعف إسناده عند القوم ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (٢). وهو المعتضد بما ذكره المناوي في كنوز الدقائق (٣) (ص ١٤٥) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قاتل عليّا على الخلافة فاقتلوه كائناً من كان».

__________________

(١) راجع : صفحة : ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٧٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع : صفحة ١٤٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٣) كنوز الدقائق : ٢ / ١١٤.


وبعد أن تراءت الفئتان أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وطغمة معاوية حكم فيهم كتاب الله تعالى بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) وبها استدلّ أئمّة الفقه كالشافعيّ على قتال أهل البغي (٢) ، وأصحاب معاوية هم الفئة الباغية بنصّ من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقال محمد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفّى (١٨٧) : لو لم يقاتل معاوية عليّا ظالماً له ، متعدّياً باغياً ، كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي. الجواهر المضيئة (٢ / ٢٦).

قال القرطبي في تفسيره (٤) (١٦ / ٣١٧) : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية ، المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين.

وقال : قال القاضي أبو بكر بن العربي (٥) : هذه الآية أصل في قتال المسلمين : والعمدة في حرب المتأوّلين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة ، وإيّاها عنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «تقتل عمّاراً الفئة الباغية». وقوله عليه‌السلام في الخوارج : «يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة». والرواية الأولى أصحّ لقوله عليه‌السلام : «تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحقّ» ، وكان الذي قتلهم عليّ بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرّر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أنّ عليّا رضى الله عنه كان إماماً ، وأنّ كلّ من خرج عليه باغٍ ، وأنّ قتاله واجب حتى يفيء إلى الحقّ ، وينقاد إلى الصلح. انتهى

وقال الزيلعي في نصب الراية (٤ / ٦٩) : وأمّا أنّ الحق كان بيد عليّ في نوبته ،

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٧١. (المؤلف)

(٣) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث. (المؤلف)

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٦ / ٢٠٨.

(٥) أنظر العواصم والقواصم : ص ١٦٨ ـ ١٧٠.


فالدليل عليه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية». ولا خلاف أنّه كان مع عليّ وقتله أصحاب معاوية ، قال إمام الحرمين في كتاب الإرشاد : وعليّ رضى الله عنه كان إماماً حقّا في ولايته ، ومقاتلوه بغاة ، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظنّ بهم قصد الخير وإن أخطأوه ، وأجمعوا على أنّ عليّا كان مصيباً في قتال أهل الجمل ، وهم طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومن معهم ، وأهل صفّين ، وهم معاوية وعسكره ، وقد أظهرت عائشة الندم (١). انتهى.

وحقّا قالت عائشة : ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأُمّة من هذه الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) وأمّ المؤمنين هي أوّل من رغبت عن هذه الآية ، وضيّعت حكمها ، وخالفتها وخرجت من عقر دارها ، وتركت خدرها ، وتبرّجت تبرّج الجاهليّة الأولى ، وحاربت إمام زمانها ، ولعلّها ندمت وبكت حتى بلّت خمارها ، ولمّا ...

ومن هنا وهناك كان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوجب قتال أهل الشام ، ويقول : «لم أجد بدّا من قتالهم ، أو الكفر بما أُنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وفي لفظ : «ما هو إلاّ

__________________

(١) هكذا حكاه الزيلعي عن الإرشاد وأنت تجده محرّفاً عند الطبع ، راجع الإرشاد : ص ٤٣٣ [ص ٣٦٥]. (المؤلف) [وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير : ٦ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، في تعليقه على الحديث : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ما نصّه : وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الّذين قتلوا عماراً في وقعة صفّين ، وأنّ الحق مع عليّ وهو من الإخبار بالمغيّبات ... وهذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحّها ، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال : إنما قتله من أخرجه. فأجابه عليّ عليه‌السلام : بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه. وقال الإمام الجرجاني في كتاب الإمامة : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم : مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أنّ علياً مصيب في قتاله لأهل صفّين كما هو مصيب في أهل الجمل ، وأنّ الذين قاتلوه بغاة ظالمون].

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ١٧٢ ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥٦ [٢ / ١٦٨ ح ٢٦٦٤]. (المؤلف)


الكفر بما نزل على محمد ، أو قتال القوم» (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر وجوه أصحابه كأمير المؤمنين ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وعمّار بن ياسر ، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقد مرّت أحاديثه في الجزء الثالث (ص ١٩٢ ـ ١٩٥) وكان من المتّفق عليه عند السلف أنّ القاسطين هم أصحاب معاوية.

فبأيّ حجّة ولو كانت داحضة ، كان معاوية الذي يجب قتله وقتاله يستسيغ محاربة عليّ أمير المؤمنين؟ وبين يديه كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان ممّن يقتصّ أثرهما ، وفي الذكر الحكيم قوله سبحانه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٣) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥).

فلم يكن القتال أوّل فاصل لنزاع الأُمّة قبل الرجوع إلى محكمات الكتاب ، وما فيه فصل الخطاب من السنّة المباركة ، ولذلك كان مولانا أمير المؤمنين يُتمّ عليهم الحجّة بكتابه وخطابه ، منذ بدء الأمر برفع الخصومه إلى الكتاب الكريم وهو عدله ، وكان يخاطب وفد معاوية ويقول : «ألا إنّي أدعوكم إلى كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه».

تاريخ الطبري (٦) (٦ / ٤).

ومن كتاب له عليه‌السلام إلى معاوية ومن قبله من قريش قوله : «ألا وإنّي أدعوكم

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٩٤ [ص ٨٤ خطبة ٤٣] ، كتاب صفّين : ٥٤٢ [ص ٤٧٤] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١١٥ [٣ / ١٢٤ ح ٤٥٩٧] ، الشفا للقاضي عياض ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٣ [٢ / ٢٠٨ خطبة ٣٥] ، البحر الزخّار : ٥ / ٤١٥ [٦ / ٤١٥]. (المؤلف)

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٤) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٥) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٦) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍.


إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وحقن دماء هذه الأُمّة».

شرح نهج البلاغة (١) (١ / ١٩).

فلم يعبئوا به إلاّ بعد ما اضطرّوا إلى التترّس به ، وقد أخبر بذلك الإمام قبل وقوع الواقعة ، فيما كتب إلى معاوية : «وكأنّي بك غداً وأنت تضجّ من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال ، وستدعوني أنت وأصحابي إلى كتاب تعظّمونه بألسنتكم ، وتجحدونه بقلوبكم»

شرح ابن أبي الحديد (٢) (٣ / ٤١١ و ٤ / ٥٠).

وفي كتاب آخر له عليه‌السلام إليه : «وكأنّي بجماعتك تدعوني ـ جزعاً من الضرب المتتابع والقضاء الواقع ، ومصارع بعد مصارع ـ إلى كتاب الله ، وهي كافرة جاحدة ، أو مبايعة حائدة».

نهج البلاغة (٣) (٢ / ١٢).

فقد صدّق الخبر الخبر واتّخذوه جُنّة مكراً وخداعاً يوم رُفِعت المصاحف ، وكانوا كما قال مولانا أمير المؤمنين يومئذٍ : «عباد الله إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حقّ يُراد بها الباطل. إنّهم والله ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة» (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢١٠ خطبة ٤٨.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٨٣ كتاب ١٠ ، ١٦ / ١٣٤ كتاب ٣٢.

(٣) نهج البلاغة : ص ٣٧١ كتاب ١٠.

(٤) راجع ما أسلفناه من كلمات الإمام عليه‌السلام [ص ٢١١ ـ ٢٢٣ من هذا الجزء] ، ففيها المقنع لطالب الحق. (المؤلف)


ولم يألُ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهداً في تحذير المسلمين عن التورّط في هذه الفتنة العمياء بخصوصها ، ويعرّفهم مكانة أمير المؤمنين ، ويكرّههم مسّه بشيءٍ من الأذى من قتال ، أو سبّ ، أو لعن ، أو بغض ، أو تقاعد عن نصرته ، ويحثّهم على ولائه واتّباعه واقتصاص أثره ، والكون معه بعد ما قرن الله ولايته بولايته وولاية الرسول ، وطاعته بطاعتهما فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) وقوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

لكن معاوية لم يقنعه الكتاب والسنّة فباء بتلكم الآثام كلّها ، وجانب هاتيك الأحكام الواجبة جمعاء ، فكان من القاسطين وهو يرأسهم (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٤). نعم ؛ لم يقنع معاوية :

[١ ـ] قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروني ، بم تخلفوني فيهما».

__________________

(١) راجع ما فصّلناه في : ٢ / ٥٢ ، ٥٨ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٢. (المؤلف)

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) صحيح البخاري باب التفسير [٤ / ١٦٧٤ ح ٤٣٠٨] ، كتاب الأحكام [٦ / ٢٦١١ ح ٦٧١٨] ، صحيح مسلم : ٦ / ١٣ [٤ / ١١٤ ح ٣١ كتاب الإمارة]. (المؤلف)

(٤) الجنّ : ١٥.


[٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولَّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّ العالمين عهد إليّ عهداً في عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين : «أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي».

[١٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث : «عليّ أمير المؤمنين ، إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين إلى جنّات ربّ العالمين ، أفلح من صدّقه ، وخاب من كذّبه ، ولو أنّ عبداً عَبَدَ الله بين الركن والمقام ألف عام وألف عام ، حتى يكون كالشنّ البالي ، ولقي الله مبغضاً لآل محمد ، أكبّه الله على منخره في نار جهنّم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذاً بيد الحسن والحسين : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني».

[١٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ طوبى لمن أحبّك وصدق فيك ، وويل لمن أبغضك


وكذب فيك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّني فليحبّ عليّا ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ، ومن أبغض الله أدخله النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا عليّا فإنّه ممسوس بذات الله».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله».

[٢٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من آذى عليّا فقد آذاني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحي إليّ في عليّ ثلاث : أنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ ، ومن سبّ الله كبّه الله على منخريه في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنّ عبداً عَبَدَ الله سبعة آلاف سنة ، ثم أتى الله عزّ وجلّ ببغض عليّ بن أبي طالب ، جاحداً لحقّه ، ناكثاً لولايته ، لأتعس الله خيره ، وجدع أنفه».

[٢٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليٍّ عليه‌السلام : «سجيّته سجيّتي ، ودمه دمي ، وهو عيبة علمي ، لو أنّ عبداً من عباد الله عزّ وجلّ عَبَدَ الله ألف عام بين الركن والمقام ، ثم لقي الله عزّ وجلّ مبغضاً لعليّ بن أبي طالب وعترتي ، أكبّه الله على منخره يوم القيامة في نار جهنّم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّ عليه‌السلام : «يا عليّ لو أنّ أُمتي صاموا حتى يكونوا ، كالحنايا ، وصلّوا حتى يكونوا كالأوتار ، ثم أبغضوك لَأكبّهم الله في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز».


وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجوز أحد الصراط إلاّ ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته ، يشرف على الجنّة ، فيدخل محبّيه الجنّة ، ومبغضيه النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «معرفة آل محمد براءة من النار ، وحبّ آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب».

[٣٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس ، أُوصيكم بحبّ ذي قرنيها أخي وابن عمّي عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لا يحبّه إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ منافق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّا ، على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة ، أنت وهم ، راضين مرضيّين ، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين. قال : ومن عدوّي؟ قال : من تبرّأ منك ولعنك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مَثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الزموا مودّتنا أهل البيت ، فإنّه من لقي الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا».

[٣٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام ، فصلّى وصام ، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد ، دخل النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي ، وإنّي سائلكم غداً عنهم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وقفوهم إنّهم مسؤولون عن ولاية عليّ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلاً».


وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خيّم خيمة وفيها عليّ وفاطمة والحسن والحسين : «معشر المسلمين أنا سلم من سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء المولد».

٤٠ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة ، ونصب الصراط على جسر جهنّم ، ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية عليّ بن أبي طالب» (١).

هذا مولانا أمير المؤمنين ، وهذا غيض من فيض ممّا جاء في ولائه وعدائه ، فأيّ صحابيّ عادل ، عاصر نبيّ الرحمة ووعى منه هاتيك الكلمات الدرّية ، وشاهد مولانا عليه‌السلام ، وعرف انطباقها عليه بتمام معنى الكلمة ، ثم ينحاز عنه ويتّخذ سبيلاً غير سبيله فيبغي به الغوائل ، ويتربّص به الدوائر ، ويقع فيه بملء فمه وحشو فؤاده ، ويرميه بقذائف الحقد والشنآن؟ لعلّك لا تجد مسلماً هو هكذا غير من ألهته العصبيّة عن الهدى ، وتدهورت به إلى هوّة الشهوات السحيقة ، ولعلّك لا تجد ذلك الرجل البائس إلاّ ابن أبي سفيان المجابه للكتاب والسنّة ، بعد الإنكار بقلبه بالهزء والسخريّة بلسانه ، فعل مردة الوقت وطواغيت الأُمّة ، فتراه عندما روى له سعد بن أبي وقّاص ـ أحد العشرة المبشّرة ـ أحاديث ممّا سمعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ونهض ليقوم ضرط له معاوية استهزاءً ، كما مرّ حديثه في هذا الجزء (ص ٢٥٨).

وحينما ذكر له أبو ذر الغفاري ذلك الصادق المصدّق قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «است معاوية في النار» (٢). جابهه بالضحك وأمر بحبسه.

__________________

(١) أنظر الأجزاء : ١ / ٦٠٣ ـ ٦٠٥ ، ٦٥٩ ، ٦٧٢ ، ٦٧٣ ، ٦٧٥ و ٢ / ٩٩ ، ١٠٠ ، ٤٢٣ ـ ٤٢٥ ، ٤٣٣ ، ٤٣٧ ، ٤٤٠ ، ٤٥٧ ، ٤٥٨ و ٣ / ٣٩ ، ٤٣ ، ٩٩ ، ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٧١ ، ٢٥٥ ، ٢٦٠ ـ ٢٦٤ ٢٦٩ ، ٢٧٧ ، ٢٨٣ ، ٤١٠ و ٥ / ٥٧٥ و ٦ / ٤٤٣ ، ٤٦٦ و ٧ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩ و ٨ / ٢٣٦ ، ٢٧٤ و ٩ / ٣٦٤ و ١٠ / ٦٩ ، ٧١ ، ٣٠٢ ، ٣٨٩ ، ٣٩١ ، ٣٩٢ و ١١ / ١٣ ، ١٦٠. وراجع الفهارس الفنية في الجزء الثاني عشر لتحديد مواقع الأحاديث من الكتاب.

(٢) أنظر الجزء : ٨ / ٤٢٩ من هذا الكتاب.


ولمّا بقر عبد الرحمن بن سهل الأنصاري روايا خمر لمعاوية وبلغه شأنه ، قال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله (١). يستهزئ بإنكاره على تلك الكبيرة الموبقة ، وليت شعري بم هذا الهزء والسخريّة؟ أبالصحابيّ العادل؟ أم بمن استند إليه في حكمه بتحريم الخمر؟ أم بالشريعة التي جاءت به؟ إنّ ابن آكلة الأكباد بمقربة من كلّ ذلك ، أو أنّه لا يدين الله بذلك الحكم البات؟

ولمّا سمع من عمرو بن العاص ما حدّثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله لعمّار «تقتلك الفئة الباغية». قال لعمرو : إنّك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدّث بالحديث ، وأنت ترحض في بولك ، أنحن قتلناه؟ إنّما قتله عليّ وأصحابه ، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا! وقال : أفسدت عليّ أهل الشام ، أكلّ ما سمعت من رسول الله تقوله (٢)؟!

أهذا هزء؟ أم أنّ معاوية بلغ من السفاهة مبلغاً يحسب معه أنّ أمير المؤمنين هو قاتل عمّار ، إذن فما قوله في سيّد الشهداء حمزة وجعفر الطيّار (٣)؟ أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتلهما يوم ألقاهما بين رماح المشركين وسيوفهم؟ لا تستبعد مكابرة الطاغية بقوله : إنّ رسول الله قتلهما. أو إنّ الرجل وجد حُمراً مستنفرة فألجمها ، وألجم مراشدها بتلكم التمويهات؟ وكلّ هذه معقولة غير مستعصية على استقراء أعمال معاوية وأفعاله.

ثم ما ذا يعني بقوله : أفسدت عليّ ... أيريد كبحاً أمام جري السنّة الشريفة؟ أو يروم إسدال غطاء على مجاليها؟ أو الإعراض عن مدلولها لأنّه لا يلائم خطّته؟ ولا يستبعد شيء من ذلك ممّن طبع الله على قلبه وهو ألدّ الخصام.

__________________

(١) راجع ما مرّ في هذا الجزء : ص ١٨١. (المؤلف)

(٢) أسلفنا تفصيله في الجزء الأوّل : ص ٣٢٩. (المؤلف)

(٣) بهذا أجاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن كلام الرجل كما في تاريخ الخميس : ٢ / ٢٧٧. [وانظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير : ٦ / ٣٦٥ عند تعليقه على حديث : ويح عمار تقتله الفئة الباغية]. (المؤلف)


ولمّا حدّثه عبادة بن الصامت حديث حرمة الربا (١) ، وقد نطق بها القرآن الكريم فقال : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره. فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية. ولمّا سمع من عبادة حديثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ هذا لا يقول شيئاً.

فلم يك يرى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً يُعبأ به ويُصاخ إليه ، ويعوّل عليه.

ولمّا قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري (٢) فقال له معاوية : يا أبا قتادة تلقّاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار ، ما منعكم؟ قال : لم يكن معنا دواب. فقال معاوية : فأين النواضح؟ قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك يوم بدر. قال : نعم يا أبا قتادة. قال أبو قتادة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنا : إنّا سنرى بعده أثرة. قال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا حتى تلقوه. قال عبد الرحمن بن حسّان حين بلغه قول معاوية :

ألا أبلغ معاويةَ بنَ صخرٍ

أميرَ المؤمنين نثا كلامي

فإنّا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصامِ (٣)

وحقّ القول : أنّ المخذول لا يخضع لهتاف النبوّة ، ولا أنّهم سوف يلقون صاحبها ، ويرفعون إليه ظلامتهم ، فيحكم لهم على من استأثر عليهم ، وحسبه ذلك إلحاداً وبغياً.

وفي رواية : أنّ أبا أيّوب أتى معاوية ، فشكا إليه أنّ عليه ديناً فلم ير منه ما

__________________

(١) مرّ حديثه في هذا الجزء : ص ١٨٥. (المؤلف)

(٢) في رواية ابن عساكر [تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٠١ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق ١١ / ٣٠٩] : عبادة بن صامت الأنصاري. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : ١ / ٢٥٥ [القسم الثالث / ١٤٢١ رقم ٢٤٣٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٣ [٢٦ / ٢٠١ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٩] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٣٤ [ص ١٨٨]. (المؤلف)


يحبّ ، فرأى أمراً كرهه ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّكم سترون بعدى أثرة». قال : فأيّ شيء قال لكم؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا. قال : فو الله لا أسألك شيئاً أبداً (١).

وفي لفظ : ظ دخل أبو أيّوب على معاوية ، فقال : صدق رسول الله [سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يا معشر الأنصار] (٢) إنّكم سترون بعدي أثرة فعليكم بالصبر. فبلغت معاوية ، فقال : صدق رسول الله أنا أوّل من صدّقه. فقال أبو أيّوب : أجرأة على الله وعلى رسوله؟ لا أكلّمه أبداً ولا يأويني وإيّاه سقف بيت. تاريخ ابن عساكر (٣) (٥ / ٤٢).

وفي لفظ الحاكم (٤) : إنّ أبا أيّوب أتى معاوية ، فذكر حاجة له فجفاه ولم يرفع به رأساً ، فقال أبو أيّوب : أما إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرنا أنّه سيصيبنا بعده أثرة. قال : فبِمَ أمركم؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض. قال : فاصبروا إذاً. فغضب أبو أيّوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً. الخصائص الكبرى (٥) (٢ / ١٥٠).

وحضر أبو بكرة مجلس معاوية ، فقال له : حدثنا يا أبا بكرة ، فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك. قال عبد الرحمن بن أبي بكرة : وكنت مع أبي ، فأمر معاوية فوُجئ في أقفائنا حتى أُخرجنا (٦).

ولعلّك تعرف خبيئة ضمير معاوية بما حدّثه ابن بكار في الموفّقيات ، عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي ، قال : سمعت المدائني يقول : قال مطرف بن المغيرة :

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤١ [١٦ / ٥٤ رقم ١٨٧٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٣٤٠]. (المؤلف)

(٢) ما بين المعقوفين ساقط من الطبعات السابقة ، وأثبتناه من المصدر.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ١٦ / ٥٦ رقم ١٨٧٦.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٢٠ ح ٥٩٣٥.

(٥) الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٥٥.

(٦) أخرجه ابن سعد كما في النصائح الكافية : ١٥٩ الطبعة الأولى [ص ١٩٥]. (المؤلف)


وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية ، فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية. ويذكر عقله ، ويعجب ممّا يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتمّا فانتظرته ساعة ، وظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : مالي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ قال : يا بنيّ إنّي جئت من عند أخبث الناس. قلت له : وما ذاك؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلاً ، وبسطت خيراً ، فانّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه. فقال لي : هيهات هيهات ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، وذكر ما فعل به ، وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمداً رسول الله. فأيّ عمل يبقى مع هذا لا أمّ لك ، والله إلاّ دفناً دفناً (١)؟!!

فهل تجد إذن عند معاوية إذعاناً بما جاء من الكتاب في عليّ عليه‌السلام؟ أو تراه مخبتاً إلى شيء من الكثير الطيّب الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثناء على الإمام الطاهر؟ حينما عاداه ، وأبغضه ، ونقّصه ، وسبّه ، وهتك حرماته ، وآذاه ، وقذفه بالطامّات ، وحاربه ، وقاتله ، وتخلّف عن بيعته ، وخرج عليه.

أو ترى أن يسوغ لمسلم صدّق نبيّه ولو في بعض تلكم الآثار والمآثر أن يبوح بما كتبه ابن هند إلى الإمام عليه‌السلام من الكلم القارصة ، بمثل قوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها : إنّ المدينة لتنفي خبثها ، كما ينفي الكير خبث الحديد ، فلعمري لقد صحّ وعده ، وصدق قوله ، ولقد نفت خبثها

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٣٤١ [٤ / ٤٩]. (المؤلف)


وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها ، فأقمت بين المصرين ، وبعدت عن بركة الحرمين ، ورضيت بالكوفة بدلاً من المدينة ، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم النبوّة.

ومن قبل ذلك ما عيّبت خليفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام حياتهما فقعدت عنهما ، وألّبت عليهما ، وامتنعت من بيعتهما ، ورُمتَ أمراً لم يرك الله تعالى له أهلاً ، ورقيت سلّماً وعراً ، وحاولت مقاماً دحضاً (١) ، وادّعيت ما لم تجد عليه ناصراً ، ولعمري لو ولّيتها حينئذ لما ازدادت إلاّ فساداً واضطراباً ، ولا أعقبت ولايتكها إلاّ انتشاراً وارتداداً ، لأنك الشامخ بأنفه ، الذاهب بنفسه ، المستطيل على الناس بلسانه ويده.

وها أنا سائر اليك في جمع من المهاجرين والأنصار ، تحفّهم سيوف شاميّة ، ورماح قحطانيّة ، حتى يحاكموك إلى الله ، فانظر لنفسك والمسلمين ، وادفع إليّ قتلة عثمان فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك المحدقون بك ، فإن أبيت إلاّ سلوك سبيل اللجاج والإصرار على الغيّ والضلال ، فاعلم أنّ هذه الآية إنّما نزلت فيك وفي أهل العراق معك (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٢).

وقوله في كتاب له : وإن كنت موائلاً فازدد غيّا إلى غيّك ، فطالما خفّ عقلك ، ومنّيت نفسك ما ليس لك ، والتويت على من هو خير منك ، ثم كانت العاقبة لغيرك ، واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك.

وقوله في كتاب له أيضاً : فدعني من أساطيرك ، واكفف عنّي من أحاديثك ، وأقصر عن تقوّلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وافترائك من الكذب ما لم يقُل ، وغرور من معك والخداع لهم ، فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ، ويعلموا

__________________

(١) مكان دحض بالفتح ويحرك : زلق. (المؤلف)

(٢) النحل : ١١٢.


أنّ ما جئت به باطل مضمحلّ.

وقوله من كتاب آخر له : فما أعظم الرين على قلبك! والغطاء على بصرك! الشره من شيمتك ، والحسد من خليقتك!!

وقوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : فدع الحسد ، فإنّك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة جهادك بشرّة نخوتك ، فإنّ الأعمال بخواتيمها ، ولا تُمحّص سابقتك بقتال من لا حقّ لك في حقّه ، فإنّك إن تفعل لا تضرّ بذلك إلاّ نفسك ، ولا تمحق إلاّ عملك ، ولا تبطل إلاّ حجّتك ، ولعمري إنّ ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقاً لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحقّ ، فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق ، وتعوّذ من نفسك ، فإنّك الحاسد إذا حسد.

وقوله من كتاب له إليه عليه‌السلام : فلمّا استوثق الإسلام وضرب بجرانه ، عدوت عليه ، فبغيته الغوائل ، ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه وأغريت به ، وقعدت ـ حين استنصرك ـ عن نصره ، وسألك أن تدركه قبل أن يمزّق ، فما أدركته ، وما يوم المسلمين منك بواحد ، لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخّروا عن بيعته ، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطالت مدّته وسُررت بقتله ، وأظهرت الشماتة بمصابه ، حتى أنّك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه ، ثم لم تكن أشدّ منك حسداً لابن عمّك عثمان. إلخ.

وقوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : أمّا بعد : فإنّا كنّا نحن وإيّاكم يداً جامعة ، وإلفة أليفة ، حتى طمعت يا ابن أبي طالب ، فتغيّرت وأصبحت تعدّ نفسك قويّا على من عاداك بطغام أهل الحجاز ، وأوباش أهل العراق ، وحمقى الفسطاط ، وغوغاء السواد ، وايم الله لَينجَلينّ عنك حمقاها ، ولَينقشِعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء.


قتلت عثمان بن عفّان ، ورقيت سلّماً أطلعك الله عليه مطلع سوء ، عليك لا لك ، وقتلت الزبير وطلحة ، وشرّدت أُمّك عائشة ، ونزلت بين المصرين فمنّيت وتمنّيت ، وخُيّل لك أنّ الدنيا قد سُخِّرت لك بخيلها ورجلها ، وإنّما تعرف أُمنيّتك ، لو قد زرتك في المهاجرين من الشام بقيّة الإسلام ، فيحيطون بك من ورائك ، ثم يقضي الله علمه فيك ، والسلام على أولياء الله (١).

فأيّ أحد من غوغاء الناس ومن جهلة الأُمّة يحسب في صاحب هذه الكلمات المخزية نزعة دينيّة؟ أو حياءً وانقباضاً في النفس ولو قيد شعرة؟ أو بخوعاً إلى كتاب الله وهو يطهّر أهل البيت وعليّ سيد العترة ، ويراه نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرن ولايته بولاية الله وولاية رسوله ، وطاعته بطاعتهما؟!

نعم : هكذا فليكن رضيع ثدي هند وربيب حجر حمامة ، والناشئ تحت راية البغاء ، ووليد بيت أميّة ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، هكذا يسرف معاوية في القول ، ويجازف مفرطاً فيه ، (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) ، وهو سرف الفؤاد لا يعبأ بما تلقّته الأُمّة بالقبول من قول نبيّها في عليّ عليه‌السلام : «أنت الصدّيق الأكبر ، أنت الفاروق الذي تفرق بين الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب الدين» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض» (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ

__________________

(١) توجد هذه الكتب على تفصيلها في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٤١ ، ٤١٢ ، ٤٤٨ و ٤ / ٥٠ ، ٥١ ، ٢٠١ [١٥ / ٨٢ ، ٨٧ ، ١٨٦ و ٦ / ١٣٤ ـ ١٣٥ و ١٧ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣]. ، وهي مبثوثة في جمهرة الرسائل : ١ / ٣٩٨ ـ ٤٨٣. (المؤلف)

(٢) سورة ق : ١٨.

(٣) الحاوي للفتاوي للسيوطي : ٢ / ١٩٦.

(٤) ٢٠


الحوض يوم القيامة» (١)؟

إلى مئات أو ألوف ممّا جاء في عليّ عليه‌السلام بلسان سيّد العالمين نبيّ الأُمّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بلغ الطاغية من عداء سيّد العترة حدّا لا يستطيع أن يسمع اسمه عليه‌السلام ، وكان ينهى عن التسمية به ، يُروى أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام افتقد عبد الله بن العباس ، فقال : ما بال أبي العباس لم يحضر؟ فقالوا : ولد له مولود. فلمّا صلّى عليّ قال : امضوا بنا إليه ، فأتاه فهنّأه فقال : «شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ، ما سمّيته؟» قال : أوَيجوز لي أن أسمّيه حتى تسمّيه؟ فأمر به فأُخِرج إليه ، فأخذه وحنّكه ودعا له ، ثم ردّه إليه وقال : «خذه إليك أبا الأملاك ، قد سمّيته عليّا وكنّيته أبا الحسن» ، فلمّا قام معاوية قال لابن عبّاس : ليس لكم اسمه وكنيته ، قد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه (٢).

فكان بنو أُميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه (٣). فكان الناس يبدّلون أسماء أولادهم. قاله زين الدين العراقي (٤).

ـ ١٧ ـ

هنات وهنابث في ميزان ابن هند

١ ـ لمّا قُتل نعيم بن صهيب بن العلية أتى ابن عمّه وسميّه نعيم بن الحارث بن العليّة معاوية ، وكان معه ، فقال : إنّ هذا القتيل ابن عمّي فهبه لي أدفنه. فقال : لا ندفنهم فليسوا أهلاً لذلك ، فو الله ما قدرنا على دفن عثمان معهم إلاّ سرّا. قال : والله لتأذننّ لي في دفنه أو لألحقنّ بهم ولأدعنّك. فقال له معاوية : ويحك ترى أشياخ

__________________

(١) الغدير : ٧ / ٢٣٨ ، ٨ / ٢٧٠ ، ١٠ / ٧٠.

(٢) كامل المبرّد : ٢ / ١٥٧ [١ / ٤٩٧]. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣١٩ [٧ / ٢٨١]. (المؤلف)

(٤) هو عبد الرحيم بن الحسين ، أبو الفضل زين الدين المعروف بالحافظ المتوفّى سنة ٨٠٦ ه‍.


العرب لا نواريهم وأنت تسألني دفن ابن عمّك؟ ثم قال له : ادفنه إن شئت أو دع. فأتاه فدفنه (١).

٢ ـ لمّا قُتل عبد الله بن بديل أقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأمّا عبد الله فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه وكان صديقه ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه ، فقال : لا والله لا يمثّل به وفيّ روح. فقال معاوية : اكشف عن وجهه فإنّا لا نمثّل به فقد وهبته لك (٢). وذكر النسّابة أبو جعفر البغدادي في المحبّر (ص ٤٧٩) ممّا كتبه معاوية إلى زياد بن سلمة : من كان على دين عليّ ورأيه فاقتله وامثل به. يأتي الحديث بتمامه.

٣ ـ قد كان معاوية يوم صفّين نذر في سبي نساء ربيعة ، وقتل المقاتلة ، فقال في ذلك خالد بن المعمّر :

تمنّى ابنُ حربٍ نذرةً في نسائنا

ودون الذي ينوي سيوفٌ قواضبُ

ونمنح ملكاً أنت حاولت خلعه

بني هاشم قول امرئ غير كاذبِ (٣)

٤ ـ ذكر الباوردي : أنّ عمير بن قرّة الليثي الصحابي ممّن شهد صفّين من الصحابة ، وكان شديداً على معاوية وأهل الشام ، حتى حلف معاوية لئن ظفر به ليذيبنّ الرصاص في أُذنيه (٤).

هذه هنات موبقة ، ومحظورات مسلّمة ، من بوائق ابن هند الكثيرة ، قد ارتكبها أو صمّم أن يقترفها في صفّين ، فهل من الدين الحنيف منعه عن دفن من قتل تحت

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٢٩٣ طبعة مصر [ص ٢٥٩] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٤ [٥ / ٢٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٩ [٥ / ٢٠٧ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين : ص ٢٧٧ طبعة مصر [ص ٢٤٦] ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٦ [٥ / ١٩٧ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

(٣) كتاب صفين : ص ٢٣١ طبعة مصر [ص ٢٩٤]. (المؤلف)

(٤) الإصابة لابن حجر : ٣ / ٣٥ [رقم ٦٠٥٢]. (المؤلف)


راية الحقّ مع أمير المؤمنين عليه‌السلام مع وجوب الإسراع في دفن كلّ مؤمن؟ فهل كان أُولئك الصلحاء من الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان عند معاوية خارجين عن الدين؟ أو أنّه كان يتّبع فيهم هواه المردي ، ويشفي بذلك غيظه منهم على نصرتهم الحقّ ، وكم عند معاوية من مخازي أمثال هذه تقع عن الدين المبين بمعزل!

أفهل تسوغ مُثلة المسلم المخالف هواه هوى ابن آكلة الأكباد؟ والمثلة محرّمة حتى بالحيوان ، حتى بالكلب العقور (١) ، فكيف بصلحاء المؤمنين وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مثّل بالحيوان (٢)؟

وقد جاء حديث النهي عن المثلة من طريق عليّ أمير المؤمنين ، وأنس ، وابن عمر ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري ، وسمرة بن جندب ، وزيد بن خالد ، وعمران بن حصين ، ومغيرة بن شعبة ، والحكم بن عمير ، وعائذ بن قرط ، وأبي أيّوب الأنصاري ، ويحيى بن أبي كثير ، وأسماء بنت أبي بكر.

وأحاديثهم مبثوثة في صحيحي البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ومسند أحمد ، ومعجم الطبراني. راجع نصب الراية للزيلعي (٣ / ١١٨ ـ ١٢١).

فما المسوّغ عندئذٍ لابن هند المثلة بمن كان على دين عليّ ورأيه ، ودينه هو دين محمد الذي جاء بالإسلام المقدّس؟

وهل ينعقد نذر المعصية بسبي نساء ربيعة المسلمات إن تغلّب عليهم لولاء بعولتهنّ عليّا أمير المؤمنين؟ وهو محرّم في شرع الإسلام ، ولا ينعقد النذر إلاّ في

__________________

(١) أخرجه الطبراني [في المعجم الكبير : ١ / ١٠٠ ح ١٦٨] من طريق عليٍّ أمير المؤمنين ، وذكره الزيلعي في نصب الراية : ٣ / ١٢٠ ، والسرخسي في شرح السير الكبير : ١ / ٧٨. (المؤلف)

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه [٥ / ٢١٠٠ ح ٥١٩٦] باب ما يكره من المثلة من طريق ابن عمر. (المؤلف)


طاعة ، ولا أقلّ من الرجحان في متعلّق النذر ، كما مرّ بيانه في الجزء الثامن (١) (ص ٧٩ الطبعة الأولى) ، فبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة يسوغ هذا النذر لصاحبه إن كان من أهلهما ، ويسع له أن يقول : لله عليّ كذا؟

وهل يجوز في شرع الإسلام اليمين بإذابة الرصاص في أُذن مسلم صحابيّ عادل لا يتبع أهواء معاوية ، ولا يُخبت إلى ضلالاته؟ وهل كان يحلف الرجل بإله محمد وعليّ صلوات الله عليهما وآلهما وهما وربّهما برآء عن مثل هذا الحلف وصاحبه؟ أو كان يقصد إله آبائه دعائم الشرك وعبدة هبل ، حملة الأوزار المستوجبين النار؟

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢)

ـ ١٨ ـ

قذائف موبقة في صحائف ابن آكلة الأكباد

هاهنا في أيّ كفّة تجد معاوية وأعماله الشاذّة عن الإسلام؟ فهل تراه أثقل ميزانه بالصالحات؟ أو أنّه خفّفها بكلّ موبقة مهلكة؟ وأنّه كان يطفّفها ويخفّف المكيال كيفما وزن وكال ، وليت ابن هند أدلى بما عنده من الشبه في هذه القضيّة ـ قتاله عليّا عليه‌السلام ـ لنمعن النظر فيها إمعان استشفاف لما وراءها ، لكنّه فات المخذول أن يدلي بشيء من ذلك لا تعارضه البرهنة ، ولا يفنّده المنطق غير أمرين أراد بهما تلويثاً لساحة قدس الإمام ، وإن كان هو كشف عن عورته ساعة عرف الناس كذبه في الأمرين جميعاً.

الأوّل : نسبة الإلحاد إليه ـ سلام الله عليه ـ وأنّه لا يصلّي ، هذا وقد وضح الإسلام بسيفه ، وقامت الصلاة بأيده ، يموّه بذلك على الرعرعة الدهماء من الشاميّين.

قال الجاحظ : إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهمّ إنّ أبا تراب ، ألحد

__________________

(١) ص : ١١٥ ، ١١٦ من هذه الطبعة.

(٢) الشعراء : ٢٢٧.


في دينك ، وصدّ عن سبيلك ، فالعنه لعناً وبيلا ، وعذّبه عذاباً أليما. وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر إلى أيّام عمر بن عبد العزيز (١).

وأخرج ابن مزاحم أنّ يوم صفّين برز شاب من عسكر معاوية يقول :

أنا ابنُ أربابِ الملوكِ غسّانْ

والدائنُ اليوم بدين عثمانْ

أنبأنا أقوامُنا بما كانْ

أنَّ عليّا قتل ابنَ عفّانْ

ثم شدّ فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثم جعل يلعن عليّا ويشتمه ويسهب في ذمّه ، فقال له هاشم المرقال : إنّ هذا الكلام بعده الخصام ، وإنّ هذا القتال بعده الحساب ، فاتّق الله فإنّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به ، قال : فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذُكر لي ، وأنّكم لا تصلّون ، وأُقاتلكم أنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.

فقال له هاشم : وما أنت وابن عفّان؟ إنّما قتله أصحاب محمد وقرّاء الناس ، حين أحدث أحداثاً وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين. وما أظنّ أنّ أمر هذه الأمّة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قطّ. قال الفتى : أجلْ أجَلْ ، والله لا أكذب فإنّ الكذب يضرّ ولا ينفع ، ويشين ولا يزين. فقال له هاشم : إنّ هذا الأمر لا علم لك به ، فخلّه وأهل العلم به. قال : أظنّك والله قد نصحتني.

وقال له هاشم : وأمّا قولك : إنّ صاحبنا لا يصلّي ، فهو أوّل من صلّى مع رسول الله ، وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله ، وأمّا من ترى معه ، فكلّهم قارئ الكتاب ، لا ينامون الليل تهجّدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون. قال الفتى : يا عبد الله إنّي لأظنّك امرأً صالحاً ، وأظنّني مخطئاً آثماً ، أخبرني : هل تجد لي من

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني : ص ١٠٢. (المؤلف)


توبة؟ قال : نعم ، تب إلى الله يتب عليك ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيّئات ، ويحبّ التوّابين ، ويحبّ المتطهّرين. قال : فذهب الفتى بين الناس راجعاً. فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقيّ. قال : لا ، ولكن نصحني العراقيّ (١).

كان المخذول يشوّه سمعة الإمام الطيّبة بتلكم القذائف الشائنة طيلة حياته ، ولمّا استشهد ـ سلام الله عليه ـ لم يرفع اليد عن غيّه وبغيه ، فجاء يُري الأُمّة الغوغاء أنّ ما كان من عدائه المحتدم للإمام عليه‌السلام إنّما كان عن أساس دينيّ لله وفيه ، فكتب إلى عمّاله :

سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم ، وقتلة خليفتكم ، إنّ الله بلطفه وحُسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرّقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم ، وحسن عدّتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان (٢). ولمّا دخل ابن عبّاس على معاوية بعد مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الحمد لله الذي أمات عليّا (٣).

ما أغلف قلب هذا الرجل الذي يحسب أنّ عبد الرحمن بن ملجم من عباد الله وقد قيّضه المولى سبحانه للنيل من إمام الهدى! ويعدّ ذلك من لطفه وحسن صنعه ، وابن ملجم هو ذلك الشقيّ المهتوك الخارجيّ الجاني على الأُمّة جمعاء بقتل سيّدها نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآتيها بخسارة الأبد ، وهو أشقى الآخرين في لسان النبيّ الكريم ،

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٤٠٢ [ص ٣٥٤] ، تاريخ الطبري : ٦ / ٢٤ [٥ / ٤٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٣٥ [٢ / ٣٨٤ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٧٨ [٨ / ٣٥ ـ ٣٦ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٢) مقاتل الطالبيين : ص ٢٤ [ص ٦٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ١٣ [١٦ / ٣٧ وصية ٣١] ، جمهرة رسائل العرب : ٢ / ١٣. (المؤلف)

(٣) تاريخ البداية والنهاية لابن كثير : ج ٨. (المؤلف)


أو أشقى الأُمّة في حديثه الآخر ، وأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة ، وعاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه «أشقى» كلقب يُعرف به أشقى مراد ، حيث إنّه اطّرد ذكره به في موارد كثيرة من الحديث والتاريخ (١).

وليت شعري أيّ إله يحمده معاوية في موت عليّ أمير المؤمنين؟ أِلإلهٍ جعل مودّة عليّ أجر الرسالة في محكم الذكر الحكيم؟ ألإلهٍ اتّخذ عليّا نفساً لنبيّه في قصّة المباهلة؟

ألإلهٍ أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ ولاية علي عليه‌السلام وأنّه إن لم يفعل فما بلّغ رسالته؟

ألإلهٍ يرى بولاية علي عليه‌السلام إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضاه سبحانه؟

ألإلهٍ أوحى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ ثلاثاً : إنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجلّين؟

ألإلهٍ عهد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ أنّه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني؟

ألإلهٍ كان عليّ أحبّ خلقه إليه بعد نبيّه ، كما جاء في حديث الطير؟

ألإلهٍ كان يحبّ عليّا وعليّ يحبّه في حديث خيبر؟

ألإلهٍ اختار عليّا وصيّاً لنبيّه بعد ما اختاره نبيّا ، فهو أحد الخيرتين من البشر ، كما جاء في النصّ النبويّ؟

ألإلهٍ دعاه صاحب الرسالة الخاتمة حينما قال في مائة ألف أو يزيدون : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».

__________________

(١) راجع الجزء الأوّل من كتابنا : ص ٣٢٤ ، ٣٢٥. (المؤلف)


أيسوغ مثل هذا الحمد والثناء لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ، وصدّق نبيّ الإسلام وما جاء به؟ أم هل يتصوّر توجيهه إلى ربّ محمد وعليّ؟ وقد تمّت بهما كلمة الله صدقاً وعدلاً ، وقامت بهما دعائم الدين الحنيف ، وبسعيهما أدركت الأُمّة المرحومة سعادة الأبد.

نعم ، له مسرح إن وجّه إلى هبل إله آباء معاوية وإلهه إلى أُخريات أيّام النبوّة إن لم نقل إلى آخر نفس لفظه معاوية ، وقد كان مرتكزاً في أعماق قلبه ، ومزيج نفسه طيلة ما لهج بأمثال هذه الأقاويل المخزية.

ثم أيّ مسلم يبلغ أمله عند قتل إمام الحقّ ، ووأد خطّة الهدى ، إلاّ من ارتطم في الضلالة ، وسبح في الإلحادسبحاً طويلاً؟

وأمّا قوله : وأهلك الله أهل البغي والعدوان. فانظر واقرأ قول العزيز الحكيم : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (١) يلهج بهذه الكلمة كأنّه بمجلب عن البغي والعدوان ـ وهو ولفيفه هم الفئة الباغية بنصّ النبيّ الأعظم ـ وهو يندّد بمن يحسب أنّه تردّى بهما. نعم ؛ حنّ قدح ليس منها. هل الباغي هو من خرج على إمام زمانه يناضله وينازله؟ أو أنّ إمام الوقت ـ المعصوم بنصّ الكتاب ـ هو الباغي؟ والعياذ بالله ، وإن كان القوم أعداءه وهو عدوّ لهم فهم أعداء الله وأعداء رسوله بغير واحد من النصوص النبويّة ، وقد شملتهم دعوة صاحب الرسالة المتواترة : «وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله».

نظرة فيما تشبّث به معاوية في قتال علي عليه‌السلام :

الثاني من الأمرين اللذين تشبّث بهما ابن آكلة الأكباد في تثبيط الملأ عن نصرة الإمام عليه‌السلام وتأليبهم على قتاله : أنّ عنده ثأر عثمان وعليه ترته ، وللحاكم في هذه

__________________

(١) الكهف : ٥.


القضية أن ينظر :

أوّلاً : إلى أنّ معاوية نفسه لم يشهد وقعة عثمان حتى يبصر المباشر لقتله ، وإنّما تثبّط عن نصرته ، بل كان يحبّذ قتله طمعاً في أن ينال الملك (١) بعده بحججه التافهة.

وثانياً : إلى أنّ أمير المؤمنين ـ سلام الله عليه ـ كان غائباً عن المدينة المنوّرة عند وقوع الواقعة (٢) ، فكيف تصحّ مباشرته لقتل أو قتال؟! أو كان ساكناً في عقر داره بالمدينة لا له ولا عليه.

وثالثاً : إلى شهادات الزور المتولّدة من دسائس ابن حرب ترمي أبرأ الناس من ذلك الدم المراق ، بإيعاز من ابن النابغة ، ذلك العامل الوحيد في قتل عثمان ، وقد سمعت عقيرته أذن الدنيا : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع (٣).

قال الجرجاني : لمّا بات عمرو عند معاوية وأصبح ، أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتاباً وقال : ما ترى؟ قال : امض الرأي الأوّل. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة ، فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه. ثم قال : ما ترى في عليّ؟ قال : أرى فيه خيراً ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى ردّ هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرُحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدوّ لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطّن له ثقاتك فليُفشوا في الناس : أنّ عليّا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شُرحبيل ، فإنّها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحبّ ، وإن تعلّقت بقلب شُرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا.

فكتب إلى شرحبيل : إنّ جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ بن أبي

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع : ص ١٤٩ ـ ١٥٢. (المؤلف)

(٢) مرّ حديثه في الجزء التاسع : ص ٢٤٣. (المؤلف)

(٣) أنظر ما فصّلناه في الجزء التاسع : ص ١٣٦ ـ ١٣٨. (المؤلف)


طالب بأمر فظيع (١) ، فاقدم. ودعا معاوية : يزيد بن أسد ، وبُسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ، وهؤلاء رءوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصّته ، وبني عمّ شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويُخبروه : أنّ عليّا قتل عثمان. فلمّا قدم كتاب معاوية على شُرحبيل وهو بحمص ، استشار أهل اليمن ، فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل وخَتَنِه ، وكان أفقه أهل الشام ، فقال : يا شُرحبيل إنّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ، إنّه قد ألقي إلينا قتل عثمان ، وأنّ عليّا قتل عثمان (٢) ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكّام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدّق معاوية عليه؟ لا تهتك (٣) نفسك وقومك ، فإن كرهت أن يذهب بحظّها جرير ، فسر إلى عليّ فبايعه على شامك وقومك ، فأبى شُرحبيل إلاّ أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً :

يا شُرحُ يا بن السمط إنّك بالغٌ

بودِّ عليٍّ ما تريد من الأمرِ

ويا شُرحُ إنَّ الشام شأمك ما بها

سواك فدع قول المضلّل من فهرِ

فإنَّ ابن حربٍ ناصبٌ لك خدعةً

تكون علينا مثل راغية البكرِ (٤)

فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا

هنيئاً له ، والحرب قاصمة الظهرِ

__________________

(١) في شرح النهج : بأمر مفظع.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٢ / ٧١ خطبة ٢٦] : إنّه قد أُلقي إلى معاوية أنّ عليّا قتل عثمان ، ولهذا يريدك. (المؤلف)

(٣) في وقعة صفّين : لا تهلك.

(٤) الراغية : الرغاء ، البكر : ولد الناقة. مثل يضرب في التشاؤم. أنظر ثمار القلوب : ص ٢٨٢ [ص ٣٥٢ رقم ٥٣٨]. (المؤلف)


فلا تبِغيَنْ حرب العراق فإنّها

تحرّم أطهار النساء من الذعرِ

وإنَّ عليّا خير من وطئ الحصى

من الهاشميّين المداريك للوترِ

له في رقاب الناس عهد وذمّةٌ

كعهد أبي حفصٍ وعهد أبي بكرِ

فبايع ولا ترجع على العقب كافراً

أُعيذك بالله العزيز من الكفرِ

ولا تسمعن قول الطغام فإنّما

يريدون أن يُلقوك في لجّة البحرِ

وما ذا عليهم أن تطاعن دونهم

عليّا بأطراف المثقّفة السمرِ

فإن غَلبوا كانوا علينا أئمّةً

وكنّا بحمد الله من ولد الظهرِ (١)

وإن غُلبوا لم يصلَ بالحرب غيرُنا

وكان عليٌّ حربَنا آخرَ الدهرِ

يهون على عُليا لؤيّ بن غالبٍ

دماءُ بني قحطان في ملكهم تجري

فدع عنك عثمانَ بنَ عفّانَ إنّنا

لك الخيرُ ، لا ندري وإنّك لا تدري

على أيِّ حالٍ كان مصرعُ جنبِه

فلا تسمعن قول الأُعيور أو عمرِو

قال : لمّا قدم شُرحبيل على معاوية تلقّاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية ، فتكلّم معاوية ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شُرحبيل إنّ جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ ، وعليّ خير الناس (٢) لو لا أنّه قتل عثمان بن عفّان ، وقد حبست نفسي عليك ، وإنّما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا. فقال شُرحبيل : أخرج فأنظر. فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطّؤون له ، فكلّهم يخبره بأنّ عليّا قتل عثمان بن عفّان. فخرج مغضباً إلى معاوية ، فقال : يا معاوية أبى الناس إلاّ أنّ عليّا قتل عثمان ، وو الله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك. قال معاوية : ما كنت لأُخالف عليكم ، وما أنا إلاّ رجل من أهل الشام. قال : فردّ هذا الرجل إلى صاحبه إذاً. قال : فعرف معاوية أنّ شُرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب

__________________

(١) يقال : فلان من ولد الظهر ، بالفتح. أي ليس منّا. وقيل : معناه أنّه لا يلتفت إليه. (المؤلف)

(٢) هل تجتمع كلمة الرجل هذه مع سبابه المقذع عليّا وقوارصه التي أوعزنا إليها؟ هذا هو النفاق ، وهكذا يكون المنافق ذا لسانين ووجهين. (المؤلف)


أهل العراق ، وأنّ الشام كلّه مع شُرحبيل.

فخرج شُرحبيل فأتى حصين بن نمير ، فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث إليه حصين : أن زرنا ، فإنّ عندنا شُرحبيل بن السمط ، فاجتمعا عنده ، فتكلّم شُرحبيل ، فقال : يا جرير أتيتنا بأمر ملفّف (١) لتُلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطرأت عليّا وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عمّا قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال : يا شُرحبيل أمّا قولك : إنّي جئت بأمر ملفّف. فكيف يكون أمراً ملفّفاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل على ردّه طلحة والزبير؟! وأمّا قولك : إنّي ألقيتك في لهوات الأسد ، ففي لهواتها ألقيت نفسك ، وأمّا خلط العراق بالشام ، فخلطُهما على حقّ خيرٌ من فرقتهما على باطل. وأمّا قولك : إنّ عليّا قتل عثمان ، فو الله ما في يديك من ذلك إلاّ القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنّك ملت إلى الدنيا ، وشيء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقّاص (٢).

فبلغ معاوية قول الرجلين ، فبعث إلى جرير فزجره ولم يدر ما أجابه أهل الشام ، وكتب جرير إلى شرحبيل :

شُرحبيل يا بن السمطِ لا تتبعِ الهوى

فمالك في الدنيا من الدين من بَدلْ

وقل لابن حربٍ مالك اليوم حرمةٌ

تروم بها ما رمتَ فاقطع له الأملْ

شُرحبيلُ إنّ الحقّ قد جدَّ جِدّه

وإنّك مأمونُ الأديم من النغَلْ

فأرِودْ (٣) ولا تفرط بشيء نخافه

عليك ولا تعجل فلا خير في العجَلْ

ولا تك كالمجري إلى شرِّ غايةٍ

فقد خُرق السربال واستنوَق الجملْ

وقال ابن هند في عليٍّ عضيهةً

ولله في صدر ابن أبي طالب أجلْ

__________________

(١) في شرح ابن أبي الحديد : ملفق [وفي الطبعة المحققة والمعتمدة ٣ / ٨٠ : ملفّف] ج. (المؤلف)

(٢) أنظر تفاصيل القصة في الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٦٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

(٣) أَرود : تمهّل.


وما لعليٍّ في ابن عفّان سقطةٌ

بأمرٍ ولا جلبٍ عليه ولا قتلْ (١)

وما كان إلاّ لازماً قعرَ بيتهِ

إلى أن أتى عثمانَ في بيته الأجلْ

فمن قال قولاً غيرَ هذا فحسبُه

من الزورِ والبهتانِ قولُ الذي احتملْ

وصيّ رسول الله من دون أهله

فوارسه الأولى به يُضرب المثلْ (٢)

فلمّا قرأ شُرحبيل الكتاب ذعر وفكّر ، وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة. فاستتر له القوم ، ولفّف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويُعظّمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليّا ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ، وبلغ ذلك قومه ، فبعث ابن أُخت له من بارق ـ وكان يرى رأي عليّ بن أبي طالب فبايعه بعد ، وكان ممّن لحق من أهل الشام وكان ناسكاً ـ فقال :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شُرحبيل بالسهمِ الذي هو قاتلُه

ولفّف قوماً يسحبون ذيولَهم

جميعاً وأولى الناسِ بالذنب فاعلُه

فألفى يمانيّا ضعيفاً نخاعُه

إلى كلّ ما يهوون تُحدى رواحلهُ

فطاطا لها لمّا رموْهُ بثقلِها

ولا يُرزَقُ التقوى من اللهِ خاذلُه

ليأكل دنياً لابنِ هندٍ بدينِهِ

ألا وابنُ هندٍ قبلَ ذلك آكلُه

وقالوا عليّ في ابن عفّان خدعةً

ودبَّت إليه بالشنان غوائلُه

ولا والذي أرسى ثبيراً مكانه

لقد كُفَّ عنه كفّه ووسائلُه

وما كان إلاّ من صحاب محمدٍ

وكلّهمُ تغلي عليه مراجلُه

فلمّا بلغ شُرحبيل هذا القول قال : هذا بَعيث الشيطان ، الآن امتحن الله قلبي ،

__________________

(١) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨١ خطبة ٤٣] : يقول ولا مالا عليه ولا قتل. الممالأة : المساعدة. (المؤلف)

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨١ خطبة ٤٣] : ومن باسمه في فضله يضرب المثل. (المؤلف)


والله لأسيّرنَّ صاحب هذا الشعر أو ليفوتنّني ، فهرب الفتى إلى الكوفة ، وكاد أهل الشام أن يرتابوا.

وبعث معاوية إلى شُرحبيل بن السمط فقال : إنّه كان من إجابتك الحقّ ، وما وقع فيه أجرك على الله ، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإنّ هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتمّ إلاّ برضا العامّة ، فسر في مدائن الشام ، ونادِ فيهم : بأنّ عليّا قتل عثمان ، وأنّه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه ، فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيباً ، فقال : يا أيّها الناس إنّ عليّا قتل عثمان بن عفّان ، وقد غضب له قوم فقتلهم ، وهزم الجميع وغلب على الأرض ، فلم يبق إلاّ الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض به غمار الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمراً ، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا وانهضوا ، فأجابه الناس إلاّ نسّاك أهل حمص ، فإنّهم قاموا إليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى ، وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلاّ قبلوا ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (١) وكان صديقاً له :

شُرَحْبيلُ ما للدين فارقتَ أمرنا

ولكن لبغض المالكيّ جريرِ

وشحناء دبّت بين سعدٍ وبينه

فأصبحتَ كالحادي بغير بعيرِ

وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت

قريشاً فيا لله بعدَ نصيرِ

أتفصل أمراً غبت عنه بشبهةٍ

وقد حار فيها عقلُ كلّ بصيرِ

بقول رجالٍ لم يكونوا أئمّةً

ولا للتي لقَّوكها بحضورِ

وما قول قومٍ غائبين تقاذفوا

من الغيب ما دلاّهمُ بغرورِ

وتترك أنّ الناس أَعطَوا عهودَهم

عليّا على أُنسٍ به وسرورِ

__________________

(١) كذا في وقعة صفّين ، والمعروف أنه النجاشي من بني الحارث بن كعب ، واسمه قيس بن عمرو ، مرّت ترجمته في هامش ص ١٢٥ من الجزء الثاني من الغدير.


إذا قيل : هاتوا واحداً يُقتدى به (١)

نظيراً له لم يفصحوا بنظيرِ

لعلّك أن تشقى الغداة بحربِه

شُرحبيل ما ما جئته بصغيرِ (٢)

راجع (٣) : كتاب صفّين لنصر بن مزاحم (٤٩ ـ ٥٧) ، الاستيعاب ترجمة شُرحبيل (١ / ٥٨٩) أُسد الغابة (٢ / ٣٩٢) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١١٩) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٣٩ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠).

فبهذه الصورة البشعة من الشهادات المزوّرة والكتب المختلقة تمّت بيعة معاوية لقتال عليّ أمير المؤمنين.

ورابعاً : إلى أنّ عثمان قتله رجال مجتهدون من المهاجرين والأنصار ، ووجوه أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العدول ، بعد إقامة الحجّة عليه ، وإثبات شذوذه عن الكتاب والسنّة ، وإهدار دمه بحكم الكتاب (٤) ، فليس على القوم قَود ولا قصاص ، ولم يك مولانا أمير المؤمنين إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أورد كما أوردوا ، وأصدر كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى.

وقد كتب بهذا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معاوية (٥) ، وجاء الحجاج به في كلمات غير واحد من الصحابة ، مثل قول الصحابيّ العظيم هاشم المرقال المذكور (٩ / ١٢١) وفي هذا الجزء (ص ٢٩٠) ، وقول عمّار بن ياسر الممدوح بالكتاب والسنّة ، الذي أسلفناه في (٩ / ١١٠) ، وقول أبي الطفيل الشيخ الصحابيّ الكبير الآنف في (٩ / ١٣٩) ،

__________________

(١) كذا في شرح النهج ، وفي وقعة صفّين : تقتدونه.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨٣ خطبة ٤٣] : فليس الذي قد جئته بصغير. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٤٤ ـ ٥١ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٧٠٠ رقم ١١٦٨ ، أُسد الغابة : ٢ / ٥١٤ ، رقم ٢٤١٠ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٦٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٧١ ـ ٧٣ خطبة ٢٦ و ٣ / ٧٩ ـ ٨٣ خطبة ٤٣.

(٤) راجع ما مرّ في الجزء التاسع : ١٦٨ ـ ٢٠٨. (المؤلف)

(٥) راجع ما أسلفناه في : ٩ / ١٥٧ ـ ١٦٢. (المؤلف)


وقول عبد الرحمن بن عثمان السابق في (٩ / ١٥٨) ، فما ذنب عليّ عليه‌السلام إن آواهم ، ونصرهم وأيّدهم ، ودفع عنهم عادية الباغين.

وخامساً : إلى أنّ الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين عليه‌السلام أو الذين تحكّمت بينه وبينهم آصرة المودّة لم يكونوا كلّهم قتلة عثمان ، ولا باشروا شيئاً من أمره ، ولم يكن لأكثرهم في الأمر وردٌ ولا صدر ، وإنّما كان فيهم من أولئك الصحابة العدول أناس معلومون أووا إلى إمام الحقّ ، فبأيّ حجّة شرعيّة كان ابن صخر يستبيح قتل الجميع ، واستقرأهم في البلاد بعد مقتل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقبله ، فقتّلهم تقتيلاً؟!

وسادساً : إلى أنّ معاوية لم يكن وليّ دم عثمان وإنّما أولياؤه ولده ، وإن كان لهم حقّ القصاص فعجزوا عن طلبه ، فعليهم رفع الأمر إلى خليفة الوقت وهو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لينظر في أمرهم ، ويحكم بحكم الله الباتّ ، وهو أقضى الأُمّة بنصّ الرسول الأمين.

نعم ؛ كانت لمعاوية ترات (١) عند أمير المؤمنين عليه‌السلام بأخيه حنظلة بن أبي سفيان ، وجدّه لأُمّه عتبة بن ربيعة ، وخاله الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وأبناء عمّه العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة ، وعقبة بن أبي مُعيط بن أبي عمرو بن أميّة. لكنّه لم ينبس عنهم ببنت شفة لأنّها ما كانت تنطلي على المسلمين ، فإنّهم وثنيّون مشركون حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذاقوا وبال أمرهم ، وإنّما تترّس بدم عثمان بضرب من السيرة الجاهليّة من صحّة قيام أيّ فردٍ منِ أفراد العشيرة بدم أيّ مقتول منها وإن بعدت بينهم الرحم والقرابة ، وهذه السيرة غير المشروعة كان يرنّ صداها في مسامع أهل الشام البعداء من مبادئ الدين وطقوسه ، ومن ثم استهواهم معاوية ، واستحوذ عليهم بذلك التدجيل ، ولم تكن تلك الحرب الزبون إلاّ أنّها إحن

__________________

(١) جمع ترة ، وهي الثأر.


بدريّة ، وأحقاد جاهليّة ، وضغائن أُحديّة ، وثب بها معاوية حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شمس ، ولم تك تخفى هذه الغاية على أيّ أحد حتى المخدّرات في الحجال (١).

وسابعاً : إلى أنّ أوّل واجب على معاوية أن يتنازل إلى ما لزمه من البيعة الحقّة فيدخل في جماعة المسلمين ، ولا يشقّ عصاهم بالتقاعس عنها ، ثم يرفع الخصومة إلى صاحب البيعة ، فيرى فيه رأيه كما جاء في كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية ، من قوله :

«وأمّا قولك : ادفع إليّ قتلة عثمان. فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك (٢) ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم ، فارجع (٣) إلى البيعة التي لزمتك لأنّها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها النظر وحاكم القوم إليّ» (٤).

وفي كتاب آخر له عليه‌السلام كتبه إليه :

«وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكمت القوم إليّ حملتك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريدها فهي خدعة الصبيّ عن اللبن.

ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّني أبرأ الناس من دم

__________________

(١) أنظر ما مرّ من كلمة أمّ الخير في الجزء التاسع : ص ٣٧١. (المؤلف)

(٢) في رواية المبرّد : وبعد : فما أنت وعثمان؟ إنّما أنت رجل من بني أميّة ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه. (المؤلف)

(٣) في رواية المبرّد : فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إليّ. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٨ [١ / ٩٢] ، الكامل للمبرد : ١ / ٢٢٥ [١ / ٢٧١] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ ، ٢٨٥ [٤ / ١٣٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٥٢ [٣ / ٨٩ خطبة ٤٣]. (المؤلف)


عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه ، إلاّ أن تتجنّى (١) فتجنَّ ما بدا لك» (٢).

وثامناً : إلى أنّ طلحة والزبير قد نهضا قبل معاوية بتلك الغاية التي هو راميها ، وأخرجا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خدرها ، وحاربهما الإمام عليه‌السلام بعد ما أتمّ عليهما الحجّة ، وكتب إليهما : «وقد زعمتما أن (٣) قتلت عثمان ، فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة (٤) ، ثم يُلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، وزعمتما أنّي آويت قتلة عثمان ، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ، ثم يُخاصموا إليّ قتلة أبيهم. وما أنتما وعثمان إن كان قُتل ظالماً أو مظلوماً؟ وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما ، وإخراجكما أمّكما» (٥).

وكتب عليه‌السلام إلى معاوية : «إنّ طلحة والزبير بايعاني ، ثم نقضا بيعتهما ، وكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما ، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون» (٦).

فهلاّ كانت بحسب معاوية تلكم الحجج؟! وقد طنّ في أُذن الدنيا قول أمير

__________________

(١) تجنّى عليه : ادّعى عليه ذنباً لم يفعله. فتُجنّ : أي تستره وتخفيه [كذا ضبط في الطبعة التي اعتمدها المؤلف من شرح النهج ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا : فتَجنّ ـ بفتح التاء ـ والمعنى : فادّعِ عليّ ما بدا لك الادّعاء. وهذا الضبط ظاهراً أوفق بالسياق] (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٨١ [١ / ٨٥] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ [٤ / ١٣٦] ، نهج البلاغة : ٢ / ٧ ، ١٢٤ [ص ٣٦٧ كتاب ٦] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٨ و ٣ / ٣٠٠ [٣ / ٧٥ خطبة ٤٣ و ١٤ / ٣٥ كتاب ٦]. (المؤلف)

(٣) في المصدرين : أنّي.

(٤) نظراء سعد بن أبي وقّاص ، عبد الله بن عمر ، محمد بن مسلمة. (المؤلف)

(٥) نهج البلاغة : ٢ / ١١٢ [ص ٤٤٦ كتاب ٥٤] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٦٢ [١ / ٦٦]. (المؤلف)

(٦) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٣٤ طبعة مصر [ص ٢٩] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ [٤ / ١٣٦] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٨١ [١ / ٨٥] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٨ و ٣ / ٣٠٠ [٣ / ٧٥ خطبة ٤٣ و ١٤ / ٣٦]. (المؤلف)


المؤمنين عليه‌السلام : «ما هو إلاّ الكفر ، أو قتال القوم». فهلاّ عرف الرجل وبال أمر أصحاب الجمل ، ومغبّة تلك النخوة والغرور ، والتركاض وراء الأهواء والشهوات ، بعد قتل آلاف مؤلّفة من الصالح والطالح ، من أهل الحقّ والباطل؟ فإشهاره السيف لإزهاق النفوس بريئة كانت أو متّهمة من رجال أو نساء أو أغلمة ، وقتل أمم وزرافات تُعدّ بالآلاف بإنسان واحد قتله المجتهدون العدول من أُمّة محمد بعد إقامة الحجّة عليه ، إنّما هو ممّا حظرته الشريعة ، ولم يُعرف له مساغ من الدين ، وكان ابن هند في الأمر كما كتب إليه الإمام عليه‌السلام : «لست تقول فيه بأمر بيّن يُعرف له أثر ، ولا عليك منه شاهد ، ولست متعلّقاً بآية من كتاب الله ، ولا عهد من رسول الله» (١).

وتاسعاً : إلى أنّ ما حكم به خليفة الوقت يجب اتّباعه ولا يجوز نقضه ، فقد كتب عليّ عليه‌السلام إلى معاوية في كتاب له : «وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فإنّي نظرت في هذا الأمر ، وضربت أنفه وعينه فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عمّا قليل يطلبونك ، لا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر» (٢).

فهلاّ كان ذلك نصّا من الإمام عليه‌السلام على أنّه لا مساغ له لأن يدفع قتلة عثمان لأيّ إنسان ثائر ، وأنّ طلب ذلك منه غيّ وشقاق ، فهل كان معاوية يحسب أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يتنازل عن رأيه إذا ما ارتضاه هو؟ أو يعدل عن الحقّ ويتّبع هواه؟ حاشا ثم حاشا ، أو لم يكن من واجب معاوية البخوع لحكم الإمام المطهّر بنصّ القرآن ، والإخبات إلى رأيه الذي لا يفارق القرآن؟ كيف لا؟ وقد صحّ عند القوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات تمسّكوا بها في اتّباع نظراء معاوية ويزيد من أئمّة الضلال

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ١٢٢ [ص ١٠٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤١٢ [١٥ / ٨٦]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين : ص ٩٦ ، ١٠٢ [ص ٨٦ ، ٩١] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٦ [٤ / ١٣٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٠٩ [١٥ / ٧٨]. (المؤلف)


وأُمراء الجور والعدوان ، مثل ما عُزي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». قال حذيفة : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضُرب ظهرك ، وأُخذ مالك ، فاسمع وأطع (١).

وسأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبيّ الله أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألوننا حقّهم ، ويمنعونا حقّنا ، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم سأله فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حُمّلتم (٢). هذا رأي القوم في أُمراء الشرّ والفساد فما ظنّك بالإمام العادل ، المستجمع لشرائط الخلافة ، الذي ملأت الدنيا النصوص في وجوب اقتصاص أثره ، والموافقة لآرائه ، وكلّ ما يرتئيه من حقّ واضح؟!

وعاشراً : إلى أنّ قاتل عثمان المباشر لقتله اختلف فيه ، كما مرّ تفصيله في الجزء التاسع ويأتي أيضاً بين جبلة بن الأيهم المصري ، وكبيرة السكوني ، وكنانة بن بشر التجيبي ، وسودان بن حمران ، ورومان اليماني ، ويسار بن غلياض (٣) ، وعند ابن عساكر (٤) يقال له : حمال (٥). فقُتل منهم من قُتل في الوقت ، ولم يكن أحد من الباقين في جيش الإمام عليه‌السلام ، ولا ممّن آواهم هو ، فلم يكن لأحد عند غيرهم ثار ، وأمّا الذين آواهم الإمام عليه‌السلام فهم المسبّبون لقتله من المهاجرين والأنصار ، أو المؤلّبون عليه من الصحابة العدول ، ولم يشذّ عنهم إلاّ أُناس يعدّون بالأنامل.

وبعد هذه كلّها هلاّ كانت لتبرئة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه من دم عثمان

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦ / ٢٠ [٤ / ١٢٤ ح ٥٢ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ١٩ [٤ / ١٢٢ ح ٤٩] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٨. (المؤلف)

(٣) ذكره المحب الطبري في رياضه : ٣ / ٦٤ ، يسار بن عياض.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٤٠٨ رقم ٤٦١٩ ، وفيه : حمار.

(٥) الصواعق : ص ٦٦ [ص ١١١ وفيه : حمار بدلاً من : حمال]. (المؤلف)


وقد كتبها إلى طلحة والزبير ومعاوية ، ولتبرئة الأعيان من الصحابة إيّاه منذ مقتل عثمان إلى أن استحرّ القتال في واقعة صفّين ، وقد كتبوها إلى طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفّهم ، قيمة توازن عند معاوية شهادات الزور التي لفّقها هو من أُناس لا خلاق لهم ، وثبّتتها حيله ودسائسه ، وأجراها ترغيبه وترهيبه؟ وقد علم هو أنّ أمير المؤمنين من هو ، وصلحاء الصحابة الذين وافقوه على التبرئة والتبرير من هم ، ومن أولئك الطغمة الثائرون لخلافه ، والمجلبون عليه ، جيرِ : كان يعلم كلّ ذلك لكنّه الملك والسلطان ، وهما يبرّران لصاحب النهمة والشرَه كلّ بائقة وموبقة.

ـ ١٩ ـ

دفاع ابن حجر عن معاوية بأعذار مفتعلة

أنت إذا قضيت الوطر من معاوية ومعاذيره التافهة في هذه المعمعة ، فهلمّ معي إلى ناصره الأخير ـ ابن حجر ـ الذي فاتته النصرة بالضرب والطعن ، فطفق يسوّد صحيفة من صحائفه الشوهاء بأعذار مفتعلة في صواعقه ، يتصوّل بها كمن يُدلي بحجج قاطعة ، وابن حجر وإن لم يكن أوّل من نحت تلكم الأعذار ، وقد سبقه إليها أُناس آخرون من أبناء حزم وتيميّة وكثير ، غير أنّ ما جاء به ابن حجر يجمع شتات ما تترّس به القوم دفاعاً عن ابن هند ، وزاد هو في طنبوره نغمات ، قال في الصواعق (١) (ص ١٢٩):

ومن اعتقاد أهل السنّة والجماعة : أنّ ما جرى بين معاوية وعليّ من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعليّ في الخلافة ، للإجماع على حقيّتها لعليّ كما مرّ (٢) ، فلم تَهِج الفتنة بسببها وإنّما هاجت بسبب أنّ معاوية ومن معه ، طلبوا من عليّ تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمّه ، فامتنع عليّ ظنّا منه أنّ تسليمهم إليهم

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٢١٦.

(٢) ذكره في الصواعق : ص ٧١ [ص ١١٩]. (المؤلف)


على الفور مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر عليّ يؤدّي إلى اضطراب وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام ، سيّما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها ، فرأى عليّ عليه‌السلام أنّ تأخير تسليمهم أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة ، ويتحقّق التمكّن من الأُمور فيها على وجهها ، ويتمّ له انتظام شملها واتّفاق كلمة المسلمين ، ثم بعد ذلك يلتقطهم واحداً فواحداً ويسلّمهم إليهم ، ويدلّ لذلك أنّ بعض قتلته عزم على الخروج على عليّ ومقاتلته ، لمّا نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان ، وأيضاً فالذين تمالئوا على قتل عثمان كانوا جموعاً كثيرة كما علم ممّا قدّمته في قصّة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم ، جمع من أهل مصر قيل : سبعمائة ، وقيل : ألف ، وقيل خمسمائة ، وجمع من الكوفة ، وجمع من البصرة وغيرهم ، قدموا كلّهم المدينة ، وجرى منهم ما جرى ، بل ورد أنّهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف ، فهذا هو الحامل لعليّ رضى الله عنه على الكفّ عن تسليمهم ، لتعذّره كما عرفت.

ويُحتمل أنّ عليّا رضى الله عنه رأى أنّ قتلة عثمان بغاة ، حملهم على قتله تأويل فاسد استحلّوا به دمه رضى الله عنه ، لإنكارهم عليه أموراً كجعله مروان ابن عمّه كاتباً له ، وردّه إلى المدينة بعد أن طرده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال ، وقضيّة محمد ابن أبي بكر ، ظنّوا أنّها مبيحة لما فعلوه جهلاً منهم وخطأً ، والباغي إذا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دماً كان أو مالاً ، كما هو المرجّح من قول الشافعي رضى الله عنه ، وبه قال جماعة آخرون من العلماء ، وهذا الاحتمال وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه. إلخ.

قال الأميني : هب أنّ عثمان قُتل مظلوماً بيد الجور والتعدّي.

وأنّه لم يك يقترف قطّ ما يهدر دمه.

وأنّ قتله لم يقع بعد إقامة الحجّة عليه والأخذ بكتاب الله في أمره.

وأنّه لم يُقتل في معمعة بين آلاف مكردسة من المدنيّين ، والمصريّين ، والكوفيّين ، والبصريّين.


ولم تكن البلاد تمخّضت عليه ، وما نقم عليه عباد الله الصالحون.

وأنّ قاتله لم يُجهل من يوم أودى به ، وكان مشهوداً يُشار إليه ، ولم يكن قتيل عمّيّة (١) لا يُدرى من قتله ، حتى تكون ديته من بيت مال المسلمين.

ولم يُقتل الذين باشروا قتله ، وكان قد بقي منهم باقية يقتصّ منها.

وأنّ المهاجرين والأنصار ما اجتمعوا على قتله ، ولم تكن لأولئك المجتهدين العدول يد في تلك الواقعة ، ولم يشارك في دمه عيون الصحابة.

وأنّ أهل المدينة ليسوا كاتبين إلى من بالآفاق من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأنّ المهاجرين لم يكتبوا إلى من بمصر من الصحابة والتابعين : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بُدّل ، وسنّة رسول الله قد غُيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بُدّلت. إلى آخر ما مرّ (ج ٩).

وأنّ طلحة ، والزبير ، وأمّ المؤمنين عائشة ، وعمرو بن العاص ، لم يكونوا أشدّ الناس عليه ، ولم يكن لهم تركاض وراء تلك الثورة.

وما قرع سمع الدنيا نداء عثمان : ويلي على ابن الحضرميّة ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي ، يحرّض على نفسي.

وأنّ طلحة لم يقل : إن قُتل ـ عثمان ـ فلا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وأنّه لم يمنع الناس عن إيصال الماء إليه.

وأنّ مروان لم يقتل طلحة دون دم عثمان ، ولم يُؤثر عنه قوله يومئذ : لا أطلب بثأري بعد اليوم.

__________________

(١) بكسر العين والميم المشدّدة مع تشديد الياء. (المؤلف)


وأنّ الزبير ما باح بقوله : اقتلوه فإنّه غيّر دينكم ، وأنّ عثمان لجيفة على الصراط غدا.

وأنّ عائشة ما رفعت عقيرتها بقولها : اقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر. وأنّها لم تقل لمروان : وددت والله أنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره ، في رجل كلّ واحد منكما رحاً وأنّكما في البحر. ولم تقل لابن عبّاس : إيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية.

وأنّ عمرو بن العاص لم يقل : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع ، إن كنت لأحرّض عليه حتى أنّي لأحرّض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

وأنّ سعد بن أبي وقّاص لم يبح بقوله : أمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.

وأنّ عثمان لم يبق جثمانه مُلقى ثلاثا في مزبلة لا يُهمّ أمره أحداً من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصحابة العدول.

وأنّ طلحة لم يك يمنع عن تجهيزه ودفنه في مقابر المسلمين ، وأنّه لم يُقبر في حشّ كوكب جبّانة اليهود ، بعد ذلّ الاستخفاف.

وأنّ ما أسلفناه في الجزء التاسع من حديث أُمّة كبيرة من الصحابة ، وفيهم العمد والدعائم كلّ ذلك لم يصحّ.

وأنّ إمام الوقت ليس له العفو عن قصاص ، كما عفا عثمان عن عُبيد الله بن عمر حين قتل هرمزان وجُفينة بنت أبي لؤلؤة بلا أيّ جريرة.

وأنّ معاوية لم يك يتثبّط عن نصرته ، ولم يتربّص عليه دائرة السوء ، ولم يشهد عليه عيون الصحابة بأنّ الدم المهراق عنده ، وأنّه أولى رجل بأن يُقتص منه ويؤخذ بدم عثمان.

وأنّ عثمان لم يكن له خلف يتولّى دمه غير معاوية.

وأنّ عليّا عليه‌السلام هو الذي قتل عثمان ، أو آوى قاتليه.


وأنّ معاوية لم يك غائباً عن ذلك الموقف ، وكان ينظر إليه من كثب ، فعلم بمن قتله ، وبمن انحاز عن قتله.

وأنّ ما ادّعاه معاوية لم يكن إفكاً وبهتاً وزوراً من القول ، متّخذاً عن شهادة مزوّرة واختلاق.

وأنّ هذه الخصومة لها شأن خاصّ لا ترفع كبقيّة الخصومات إلى إمام الوقت.

وأنّ قتال معاوية إنّما كان لطلب قتلة عثمان فحسب لا لطلب الخلافة ، وأنّه لم يك يروم الخلافة في قتاله بعد ما كان يعلم نفسه أنّه طليق وابن طليق ، ليس ببدريّ ولا له سابقة ، وأنّه لا يستجمع شرائط الخلافة ، وأنّه لم تؤهّله لها الخيرة والإجماع والانتخاب.

هب أنّ الوقائع هكذا وقعت ـ يا ابن حجر ـ واغضض عن كلّ ما هنالك من حقائق ثابتة على الضدّ ممّا سُطر (١) ، فهلاّ كانت مناوأة معاوية لخليفة وقته الإمام المنصوص والمجمع عليه خروجاً عليه؟! وهلاّ كان الحزب السفياني بذلك بُغاةً أهانوا سلطان الله ، واستذلّوا الإمارة الحقّة ، وخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم؟ فاستوجبوا إهانة الله ، يجب قتالهم ودرؤهم عن حوزة الإيمان ، وكانوا مصاديق للأحاديث المذكورة في أوّل هذا البحث (ص ٢٧٢ ، ٢٧٣).

إنّ معاوية لم يكن خليفة ولا انعقدت له بيعة ، وإنّما كان والياً عمّن تقدّم من الذين تصرّمت أيّام خلافتهم ، فلزمته بيعة أمير المؤمنين وهو بالشام ، كما كتب إليه بذلك الإمام عليه‌السلام ، وكان تصدّيه للشؤون العامّة والياً على أهل ناحيته محتاجاً إلى أمر جديد ، أو تقرير لولايته الأولى من خليفة الوقت ، وكلّ ذلك لم يكن ، إن لم نقل : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عزله عمّا تولاّه ، وإنّه سلام الله عليه أوفد عليه من يبلّغه عنه لزوم الطاعة واللحوق بالجماعة ، كما إنّه عليه‌السلام كتب إليه بذلك.

__________________

(١) راجع الجزء التاسع حتى تقف على حقيقة الأمر. (المؤلف)


حديث الوفود :

وفد علي عليه‌السلام الأوّل :

أوفد الإمام عليه‌السلام في أوّل ذي الحجّة سنة (٣٦) بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي على معاوية ، وقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله ، وإلى الطاعة والجماعة. فأتوه ودخلوا عليه ، فتكلّم بشير بن عمرو ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا معاوية ، إنّ الدنيا عنك زائلة ، وإنّك راجع إلى الآخرة ، وإنّ الله عزّ وجلّ محاسبك بعملك ، وجازيك بما قدّمت يداك ، وإنّي أنشدك الله عزّ وجلّ أن تفرّق جماعة هذه الأمّة ، وأن تسفك دماءها بينها.

فقطع عليه الكلام وقال : هلاّ أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال بشير : إنّ صاحبي ليس مثلك ، إنّ صاحبي أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل ، والدين ، والسابقة في الإسلام ، والقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فيقول ما ذا؟ قال : يأمرك بتقوى الله عزّ وجلّ ، وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ ، فإنّه أسلم لك في دنياك ، وخير لك في عاقبة أمرك.

قال معاوية : ونُطلّ دم عثمان رضى الله عنه؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً.

فتكلّم شبث بن ربعي ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

يا معاوية إنّي قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنّه والله ما يخفى علينا ما تغزو وما تطلب ، إنّك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس ، وتستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم ، إلاّ قولك : قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه ، فاستجاب له سفهاء طغام ، وقد علمنا أنّك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل ، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ، وربّ متمنّي أمر وطالبه الله عزّ وجلّ يحول دونه بقدرته ،


وربّما أوتي المتمنّي أُمنيّته وفوق أُمنيّته ، وو الله مالك في واحدة منهما خير ، لئن أخطأت ما ترجو ، إنّك لشرّ العرب حالاً في ذلك ، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحقّ من ربّك صليّ النار ، فاتّق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله.

فتكلّم معاوية وكان من كلامه : فقد كذبت ولؤُمت أيّها الأعرابيّ الجلف الجافي في كلّ ما ذكرت ووصفت ، انصرفوا من عندي ، فإنّه ليس بيني وبينكم إلاّ السيف ، وغضب وخرج القوم ، وأتوا عليّا وأخبروه بالذي كان من قوله (١).

وفد علي عليه‌السلام الثاني :

ولمّا دخلت سنة (٣٧) توادعا على ترك الحرب في المحرّم إلى انقضائه طمعاً في الصلح ، واختلف فيما بينهما الرسل في ذلك من دون جدوى ، فبعث علي عليه‌السلام عديّ بن حاتم ، ويزيد بن قيس ، وشبث بن ربعي ، وزياد بن حنظلة (٢) إلى معاوية ، فلمّا دخلوا عليه تكلّم عديّ بن حاتم ، فحمد الله ثم قال :

أمّا بعد : فإنّا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عزّ وجلّ به كلمتنا وأُمّتنا ويحقن به الدماء ، ويؤمن به السبل ، ويُصلح به ذات البين ، إنّ ابن عمّك سيّد المسلمين ، أفضلها سابقة ، وأحسنها في الإسلام أثراً ، وقد استجمع له الناس ، وقد أرشدهم الله عزّ وجلّ بالذي رأوا ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانتهِ يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.

فقال معاوية : كأنّك إنّما جئت متهدّداً ، لم تأت مصلحاً ، هيهات يا عديّ ، كلاّ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٤٢ [٤ / ٥٧٣ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٢٢ [٢ / ٣٦٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٥٦ [٧ / ٢٨٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)

(٢) في المصادر الثلاثة أعلاه : زيادة بن خصفة.


والله ، إنّي لابنُ حرب ما يُقَعْقَعُ لي بالشنان (١) ، أما والله إنّك لمن المجلبين على ابن عفّان ٢ ، وإنّك لمن قتلته ، وإنّي لأرجو أن تكون ممّن يقتل الله عزّ وجلّ به ، هيهات يا عديّ بن حاتم قد حلبت بالساعد الأشدّ.

فقال له شبث بن ربعي ، وزياد بن حنظلة : أتيناك فيما يصلحنا وإيّاك ، فأقبلت تضرب الأمثال ، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل ، وأجبنا فيما يعمّنا وإيّاك نفعه.

وتكلّم يزيد بن قيس ، فقال :

إنّا لم نأتك إلاّ لنبلغك ما بُعثنا به إليك ، ولنؤدّي عنك ما سمعنا منك ، ونحن ـ على ذلك ـ لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننّا أنّ لنا عليك به حجّة ، وأنّك راجع به إلى الألفة والجماعة ، إنّ صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنّه يخفى عليك ، إنّ أهل الدين والفضل لم يعدلوا بعليّ ، ولن يميّلوا (٢) بينك وبينه فاتّق الله يا معاوية ولا تخالف عليّا ، فإنّا والله ما رأينا رجلاً قطّ أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه.

فتكلّم معاوية وقال : أمّا بعد : فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأمّا الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي ، وأمّا الطاعة لصاحبكم فإنّا لا نراها ، إنّ صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرّق جماعتنا ، وآوى ثأرنا وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنّه لم يقتله ، فنحن لا نردّ ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنّهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.

فقال له شبث : أيسرّك يا معاوية أنّك أُمِكنت من عمّار تقتله؟ فقال معاوية :

__________________

(١) القعقعة : تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت. والشنان جمع شنّ بالفتح : القربة البالية. وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت ، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له. (المؤلف)

(٢) التمييل بين الشيئين : الترجيح بينهما ، وقوله : لن يميّلوا ، أي لن يشكّوا ويترددوا ، فلا يحتاج الأمر إلى المقارنة والترجيح بينكما.


وما يمنعني من ذلك؟ والله لو أُمِكنت من ابن سميّة ما قتلته بعثمان رضى الله عنه ، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال شبث :

وإله الأرض وإله السماء ما عدلت معتدلاً ، لا والذي لا إله إلاّ هو ، لا تصل إلى عمّار حتى تندُر الهام عن كواهل الأقوام ، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها.

فقال له معاوية : إنّه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق.

وتفرّق القوم عن معاوية ، فلمّا انصرفوا ، بعث معاوية إلى زياد بن حنظلة (١) التميمي فخلا به ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

أمّا بعد يا أخا ربيعة ، فإنّ عليّا قطع أرحامنا ، وآوى قتلة صاحبنا ، وإنّي أسألك النصر بأُسرتك وعشيرتك ، ثم لك عهد الله جلّ وعزّ وميثاقه أن أُولّيك إذا ظهرت أيّ المصرين أحببت. قال زياد : فلمّا قضى معاوية كلامه ، حمدت الله عزّ وجلّ وأثنيت عليه ، ثم قلت :

أمّا بعد : فإنّي على بيّنة من ربّي ، وبما أنعم عليّ ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، ثم قمت (٢).

وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد بإسناده ، أنّ قرّاء أهل العراق ، وقرّاء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريباً من ثلاثين ألفاً ، وأنّ جماعة من قرّاء العراق منهم : عبيدة السلماني ، وعلقمة بن قيس ، وعامر بن عبد قيس ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم ، جاءوا معاوية فقالوا له : ما تطلب؟ قال : أطلب بدم عثمان. قالوا : فمن تطلب به؟ قال : عليّا. قالوا : أهو قتله؟ قال : نعم وآوى قتلته. فانصرفوا إلى عليّ فذكروا له ما قال فقال : «كذب لم أقتله وأنتم تعلمون أنّي لم أقتله» ، فرجعوا

__________________

(١) مرّ أنه في المصادر الثلاثة : زياد بن خصفة.

(٢) تاريخ الطبري : ٦ / ٣ [٥ / ٧٥ حوادث سنة ٣٨ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٢٤ [٢ / ٣٦٧ سنة ٣٧] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٥٨ [٧ / ٢٨٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)


إلى معاوية ، فقال : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالاً ، فرجعوا إلى عليّ فقال : «والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت». فرجعوا فقال معاوية : فإن كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان ، فإنّهم في عسكره وجنده. فرجعوا ، فقال عليّ : «تأوّل القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها ، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل». فرجعوا إلى معاوية فأخبروه ، فقال : إن كان الأمر على ما يقول فما له أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منّا ولا ممّن هاهنا؟ فرجعوا إلى عليّ فقال عليّ : «إنّما الناس مع المهاجرين والأنصار ، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم ، ورضوا وبايعوني ، ولست أستحلّ أن أدع مثل معاوية يحكم على الأُمّة ويشق عصاها» ، فرجعوا إلى معاوية ، فقال : ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا ، فقال عليّ : «إنّما هذا للبدريّين دون غيرهم ، وليس على وجه الأرض بدريّ إلاّ وهو معي ، وقد بايعني وقد رضي ، فلا يغرنّكم من دينكم وأنفسكم» (١).

هاهنا تجد الباغي متجهّما تجاه تلك الدعوة الحقّة كأنّه هو بمفرده ، أو هو وطغام الشام والأحلاف الذين حوله بيدهم عقدة أمر الأُمّة ، تنحلّ وتُعقد بمشيئتهم والمهاجرون والأنصار والبدريّون من الصحابة قطّ لا قيمة لهم ، ولا لبيعتهم وجماعتهم ، عنده في سوق الاعتبار ، يقول : إنّ الجماعة معه ، وإنّ الطاعة لا يراها هو ، على حين أنّهما حصلتا له ـ صلوات الله عليه ـ رضي به ابن هند أو أبى ، وأنّ الجماعة التي كانت لعليّ عليه‌السلام وبيعتهم إيّاه كانت من سروات المجد ، وأهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار ، ووجوه الأمصار والبلاد ، ولم يتحقّق إجماع في الإسلام مثله ، وأمّا التي كانت لمعاوية في حسبانه فمن رعرعة الشام ، وروّاد الفتن ، وسماسرة الأهواء ، ولم يكن معه ـ كما قال سيّدنا قيس بن سعد بن عبادة ـ : إلاّ طليق أعرابي أو يمانيّ مستدرج ، وكان معه مائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل ، كما مرّ

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٥٨ [٧ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)


حديثه في (ص ١٩٥) ، فأيّ عبرة بموقف هؤلاء؟ وأيّ قيمة لبيعتهم بعد شذوذهم عن الحقّ ، ونبذهم إيّاه وراء ظهورهم؟

من يكن ابن آكلة الأكباد وزبانيته حتى يكون لهم رأي في الخلافة؟ ويطلبوا من أمير المؤمنين اعتزال الأمر ، وردّه شورى بين المسلمين ، بعد أنّ العمد والدعائم من المسلمين رضوا بتلكم البيعة وعقدوها للإمام الحقّ على زهد منه عليه‌السلام فيها ، لكنّهم تكاثروا عليه كعرف الفرس ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاه ، فكان تدخّل الطليق ابن الطليق في أمر الأُمّة الذي أصفق عليه رجال الرأي والنظر تبرّعاً منه من غير طلب ولا جدارة ، بل كان خروجاً على الإمام الذي كانت معه جماعة المسلمين ، وانعقدت عليه طاعتهم ، فتبّا لمن شقّ عصاهم ، وفتّ في عضدهم.

وابن هند إن لم يكن ينازع للخلافة كما حسبه ابن حجر ، فما كانت تلك المحاباة وتغرير وجوه الناس ورجالات الثورات بولايات البلاد؟ فترى يجعل مصر طعمة لعمرو ابن العاص ، وله خطواته الواسعة وراء قتل عثمان ، ويعهد على زياد التميمي أن يولّيه أيّ المصرين أحبّ إذا ظهر ، غير أنّ التميمي كان على بيّنة من ربّه فيما أنعم الله عليه لم يك ظهيراً للمجرمين ، وكذلك قيس بن سعد الأنصاري ، كتب إليه معاوية يعده بسلطان العراقين إذا ظهر ما بقي ، ولمن أحبّ قيس سلطان الحجاز ما دام له سلطان (١) ، وقيس شيخ الأنصار ، وهم المتسربلون بالحديد يوم الجمل ، قائلين : نحن قتلة عثمان.

ولنا حقّ النظر في قوله لشبث بن ربعي : وما يمنعني من ذلك ، والله لو أُمكنت من ابن سميّة ما قتلته بعثمان ... إلى آخره. من الذي أخبر معاوية عن عمّار وعن قتله عثمان ومولاه ناتل؟ وكان معاوية يومئذ بالشام ، ولينظر في البيّنة التي حكم بها على عمّار ، ولعلّها قامت بشهادة مزوّرة زوّرها نفس معاوية جرياً على عادته في أمثال هذه المواقف.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٢٨ [٤ / ٥٥٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)


وإن صدق في دعواه وكان الأمر كما قرّره هو ، فلا قود عندئذ ، إذ عمّار من المجتهدين العدول ، لا يقتل إنساناً إلاّ من هدر الإسلام دمه ، يُتّبع أثره ، ولا يُنقض حكمه ، كيف لا؟ وقد ورد الثناء عليه في خمس آيات فصّلناها في (٩ / ٢١ ـ ٢٤) ، وجاء عن النبيّ الأعظم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عمارا مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، وخلط الإيمان بلحمه ودمه».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عمّار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه ، وخلط الإيمان بلحمه ودمه ، يزول مع الحقّ حيث زال ، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئاً».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مُلئ إيماناً إلى مشاشه. وفي لفظ : حُشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أُذنيه إيماناً».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عماراً مع الحقّ والحقّ معه ، يدور عمّار مع الحقّ أينما دار ، وقاتل عمّار في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحقّ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دم عمّار ولحمه حرام على النار أن تطعمه».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لهم ولعمّار؟ يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّاراً جلدة ما بين عينيّ وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يُستبق فاجتنبوه».

نعم : صدق معاوية في قوله : ما يمنعني من ذلك؟ وأيّ وازع للإنسان عن قتل عمّار إذا ما صدّق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أقواله هذه وقوله : «ما لقريش وعمّار يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار ، قاتله وسالبه في النار».

وقوله : «من عادى عمّاراً عاداه الله ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه الله ، ومن يسفّه عمّاراً يسفّهه الله ، ومن يسبّ عمّاراً يسبّه الله ، ومن يحقّر عماراً حقّره الله ، ومن يلعن


عمّاراً لعنه الله ، ومن ينتقص عمّاراً ينتقصه الله» (١).

وفد معاوية إلى الإمام عليه‌السلام :

وبعث معاوية إلى عليّ : حبيب بن مسلمة الفهري ، وشرحبيل بن السمط ، ومعن بن يزيد بن الأخنس ، فدخلوا عليه ، وتكلّم حبيب ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أمّا بعد : فإنّ عثمان بن عفّان رضى الله عنه كان خليفة مهديّا ، يعمل بكتاب الله عزّ وجلّ ، ويُنيب إلى أمر الله تعالى ، فاستثقلتم حياته ، واستبطأتم وفاته ، فعدوتم عليه فقتلتموه رضى الله عنه ، فادفع إلينا قتلة عثمان ـ إن زعمت أنّك لم تقتله ـ نقتلهم به ، ثم اعتزل أمر الناس ، فيكون أمرهم شورى بينهم ، يُولّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.

فقال له عليّ بن أبي طالب : «وما أنت لا أُمّ لك والعزل ، وهذا الأمر؟ اسكت ، فإنّك لست هناك ولا بأهل له». فقام وقال له : والله لترينّي بحيث تكره. فقال عليّ : «وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت عليّ ، أحُقرة وسوءاً؟ اذهب فصوّب وصعّد ما بدا لك».

وقال شرحبيل : إنّي إن كلّمتك فلعمري ما كلامي إلاّ مثل كلام صاحبي قبل ، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال عليّ : «نعم ، لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به» ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

«أمّا بعد : فإنّ الله جلّ ثناؤه بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ ، فأنقذ به من الضلالة ، وانتاش به من الهلكة ، وجمع به من الفرقة ، ثم قبضه الله إليه ، وقد أدّى ما عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم استخلف الناس أبا بكر رضى الله عنه ، واستخلف أبو بكر عمر رضى الله عنه ، فأحسنا السيرة ،

__________________

(١) راجع تفصيل هذه الأحاديث في الجزء التاسع : ص ٢٤ ـ ٢٨. (المؤلف) [وانظر أيضاً : ١ / ٥٩٦ ، ٥٩٧ و ٩ / ٢٥٩ و ١٠ / ١٧٠].


وعَدَلا في الأُمّة ، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا علينا ، ونحن آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغفرنا ذلك لهما ، وولي عثمان رضى الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه ، فساروا إليه فقتلوه ، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أُمورهم ، فقالوا لي : بايع ، فأبيت عليهم ، فقالوا لي : بايع ، فإنّ الأُمّه لا ترضى إلاّ بك ، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس ، فبايعتهم ، فلم يرعني إلاّ شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عزّ وجلّ له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، حزب من هذه الأحزاب ، لم يزل لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين عدوّا ، هو وأبوه ، حتى دخلا في الإسلام كارهين ، فلا غرو إلاّ خلافكم معه ، وانقيادكم له ، وتدعون آل نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً ، ألا إنّي أدعوكم إلى كتاب الله عزّ وجلّ ، وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين ، أقول قولي هذا ، واستغفر الله لي ولكم ولكلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة».

فقالا : اشهد أنّ عثمان رضى الله عنه قُتل مظلوماً. فقال لهما : «لا أقول إنّه قُتل مظلوماً ، ولا أنّه قُتل ظالماً». قالا : فمن لم يزعم أنّ عثمان قُتل مظلوماً فنحن منه برآء. ثم قاما فانصرفا ، فقال عليّ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (١). (٢)

أنباءٌ في طيّات الكتب تُعرب عن مرمى معاوية :

هلمّ معي ننظر في شطر من كتب ابن حرب المعربة عن مرماه الذي كان تركاضه وراءه ، هل فيها إيعاز أو تلويح أو تصريح بغايته المتوخّاة في نزاعه الإمام الطاهر عليه‌السلام ، وأنّه كان يروم الخلافة ويحوم حولها وينازع الأمر أهله ، رغم إنكار ابن

__________________

(١) النمل : ٨٠ ، ٨١.

(٢) تاريخ الطبري : ٦ / ٤ [٥ / ٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٢٥ [٢ / ٣٦٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٥٨ [٧ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)


حجر إيّاه إنكاراً باتّا نصرةً له.

إنّ النعمان بن بشير لمّا قدم على معاوية بكتاب زوجة عثمان تذكر فيه دخول القوم عليه ، وما صنع محمد بن أبي بكر من نتف لحيته ، في كتاب رقّقت فيه وأبلغت حتى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدّع قلبه. وبقميص عثمان مخضّباً بالدم ممزّقاً ، وعقدت شعر لحيته في زر القميص ، قال : فصعد المنبر معاوية بالشام وجمع الناس ، ونشر عليهم القميص ، وذكر ما صنعوا بعثمان فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق ، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه ، فقام إليه أهل الشام فقالوا : هو ابن عمّك وأنت وليّه ، ونحن الطالبون معك بدمه ، فبايعوه أميراً عليهم ، وكتب ، وبعث الرسل إلى كور الشام ، وكتب إلى شُرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص ، يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام ، فلمّا قرأ شُرحبيل كتاب معاوية ، دعا أُناساً من أشراف أهل حمص ، فقال لهم : ليس من قتل عثمان بأعظم جرماً ممّن يبايع لمعاوية أميراً ، وهذه سقطة ، ولكنّا نبايع له بالخلافة ، ولا نطلب بدم عثمان مع غير خليفة ، فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص ، ثم كتب إلى معاوية : أمّا بعد : فإنّك أخطأت خطأ عظيماً حين كتبت إليّ أن أُبايع لك بالإمرة ، وأنّك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة ، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة.

فلمّا قرأ معاوية كتابه سرّه ذلك ، ودعا الناس ، وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شُرحبيل ، ودعاهم إلى بيعته بالخلافة ، فأجابوه ولم يختلف منهم أحد ، فلمّا بايع القوم له بالخلافة ، واستقام له الأمر ، كتب إلى عليّ (١).

وفي حديث عثمان بن عبيد الله الجرجاني قال :

بويع معاوية على الخلافة ، فبايعه الناس على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأقبل مالك ابن هبيرة الكندي ـ وهو يومئذٍ رجل من أهل الشام ـ فقام خطيباً ، وكان غائباً من

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٦٩ ، ٧٠ [١ / ٧٤]. (المؤلف)


البيعة ، فقال : يا أمير المؤمنين أخدجت هذا الملك ، وأفسدت الناس ، وجعلت للسفهاء مجالاً (١) ، وقد علمتِ العرب أنّا حيّ فِعال ، ولسنا بحيّ مقال ، وإنّا نأتي بعظيم فعالنا على قليل مقالنا ، فابسط يدك أُبايعك على ما أحببنا وكرهنا.

فقال الزبرقان بن عبد الله السكوني :

معاويَ أخدجتَ الخلافةَ بالتي

شرطتَ فقد بوّا لك الملكَ مالكُ

ببيعة فصلٍ ليس فيها غميزةٌ

ألا كلُّ ملكٍ ضمّه الشرط هالكُ

وكان كبيتِ العنكبوتِ مذبذباً

فأصبح محجوباً عليه الأرائكُ

وأصبح لا يرجوه راجٍ لعلّةٍ

ولا تنتحي فيه الرجال الصعالكُ

وما خيرُ ملكٍ يا معاويَ مُخدجٍ

تُجُرِّعَ فيه الغيظُ والوجهُ حالكُ

إذا شاء ردّته السَّكونُ وحِمْيرٌ

وهمْدانُ والحيّ الخفاف السكاسكُ (٢)

جرت بين الإمام عليه‌السلام وبين معاوية مكاتبات ، نحن نأخذ من تلكم الكتب ما يخصّ الموضوع ، كتب عليه‌السلام إليه في أوّل ما بويع له بالخلافة :

«أمّا بعد : فقد علمت إعذاري فيكم ، وإعراضي عنكم ، حتى كان ما لا بدّ منه ، ولا دفع له ، والحديث طويل ، والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر ، وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك ، وأقبل إليّ في وفد من أصحابك ، والسلام».

وفي لفظ :

«أمّا بعد : فإنّ الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابي فبايع لي ، وأوفد إليّ أشراف أهل الشام قبلك».

وفي لفظ ابن قتيبة : «أمّا بعد : فقد ولّيتك ما قبلك من الأمر والمال ، فبايع من

__________________

(١) في وقعة صفّين : مقالاً.

(٢) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٩٠ [ص ٨١]. (المؤلف)


قبلك ، ثم أقدم إليّ في ألف رجل من أهل الشام».

فكتب معاوية : أمّا بعد ، فإنّه :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب

ومن كتاب له عليه‌السلام إلى معاوية : «وقد بلغك ما كان من قتل عثمان ؛ وبيعة الناس عامّة إيّاي ، ومصارع الناكثين لي ، فادخل فيما دخل الناس فيه ، وإلاّ فأنا الذي عرفت ، وحولي من تعلمه. والسلام».

وممّا كتب عليه‌السلام إليه مع جرير البجلي : «فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً ، كان ذلك لله رضاً ، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة (١) ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّى ، وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الأُمور إليّ قبولك العافية (٢) ، إلاّ أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك ، واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكمت القوم إليّ ، حملتك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريدها فهي خُدعة الصبيّ عن اللبن.

واعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ، ولا تُعقد معهم الإمامة ، ولا يدخلون في الشورى ، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي ،

__________________

(١) في وقعة صفّين وشرح النهج : بطعن أو رغبة.

(٢) في وقعة صفّين وشرح النهج : فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية.


وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايعه ، ولا قوّة إلاّ بالله».

قدم جرير على معاوية بكتاب عليّ ، فلمّا أبطأ عليه معاوية برأيه استحثّه بالبيعة ، فقال له معاوية : يا جرير إنّ البيعة ليست بخلسة ، وإنّه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي ، ودعا أهل ثقته فاستشارهم ، فقال له أخوه عتبة : استعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، فإنّه من قد عرفت ، فكتب معاوية إلى عمرو ، وهو بفلسطين.

أمّا بعد : فقد كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة عليّ ، وقد حبست نفسي عليك ، فاقدم على بركة الله أُذاكرك أُموراً لا تعدم صلاح مغبّتها إن شاء الله.

فقال معاوية لجرير : إنّي قد رأيت رأياً ، قال جرير : هات. قال : أكتب إلى عليّ أن يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة ، وأسلّم إليه هذا الأمر ، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير : اكتب ما شئت. فكتب إلى عليّ يسأله ذلك ، فلمّا أتى عليّا كتاب معاوية عرف أنّها خدعة منه ، وكتب إلى جرير بن عبد الله :

أمّا بعد : «فإنّ معاوية إنّما أراد بما طلب ألاّ يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحبّ ، وأراد أن يريّثك ويبطّئك حتى يذوق أهل الشام ، وقد كان المغيرة ابن شعبة أشار عليّ وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام ، فأبيت ذلك عليه (١) ، ولم يكن الله ليراني أن اتّخذ المضلّين عضدا ، فإن بايعك الرجل وإلاّ فأقبل. والسلام» (٢).

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس : ص ١٤٢. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين ص ٣٨ ، ٥٨ ، ٥٩ [ص ٢٩ ، ٣٣ ، ٣٤] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٨٢ وفي طبعة ٧٢ [١ / ٤٨ ، ٨٤ ـ ٨٥ ، ٨٦] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٣٦ ، ٢٤٩ ـ ٢٥١ [١ / ٢٣٠ ، ٢ / ٦١ و ٣ / ٧٥ ـ ٨٤]. (المؤلف)


ولمّا فشا كتاب معاوية في العرب ، كتب إليه أخو عثمان لأمّه الوليد بن عقبة :

معاوي إنّ الشامَ شامُك فاعتصمْ

بشامك لا تُدخل عليك الأفاعيا

وحام عليها بالصوارم والقنا

ولا تكُ موهونَ الذراعينِ وانيا

وإنّ عليّا ناظرٌ ما تُجيبه

فأهدِ له حرباً تُشيب النواصيا

وإلاّ فسلّم إنّ في السلم راحةً

لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإنّ كتاباً يا بن حربٍ كتبته

على طمعٍ يُزجي إليك الدواهيا

سألت عليّافيه ما لن تناله

وإن نلتَه لم تبقَ إلاّ لياليا

وسوف ترى منه التي ليس بعدها

بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

أمثلَ عليٍّ تعتريه بخدعةٍ

وقد كان ما جرّبت من قبلُ كافيا

وكتب إلى معاوية أيضاً :

معاوي إنّ الملك قد جُبَّ غاربه

وأنت بما في كفِّك اليوم صاحبه

أتاك كتابٌ من عليٍّ بخطّةٍ

هي الفصلُ فاختر سلمَهُ أو تحاربُه

فلا ترجُ عند الواترين مودّةً

ولا تأمنِ اليوم الذي أنت راهبُه

وحاربه إن حاربتَ حرَّ ابن حرّةٍ

وإلاّ فسلمٌ لا تدبُّ عقاربُه

فإنَّ عليّا غيرُ ساحب ذيله

على خدعةٍ ما سوَّغ الماءَ شاربُه

فلا تدعنّ الملكَ والأمرُ مقبلٌ

وتطلب ما أعيت عليه مذاهبُه

فإن كنتَ تنوي أن تجيب كتابه

فقُبِّح ممُليه وقبّح كاتبُه

وإن كنت تنوي أن تردّ كتابه

وأنت بأمرٍ لا محالة راكبُه

فألق إلى الحيّ اليمانين كلمةً

عدوٌ ومالاهم عليه أقاربُه (١)

__________________

(١) في وقعة صفّين وشرح النهج :

فأَلقِ إلى الحيِّ اليمانين كلمةً

تنالُ بها الأمرَ الذي أنتَ طالبُه

تقول أمير المؤمنين أصابه

عدوٌّ ومالاهُم عليه أقاربُه


أفانين منهم قاتلٌ ومحرّض

بلا ترة كانت وآخر سالبُه

وكنت أميراً قبل بالشام فيكمُ

فحسبي وإيّاكم من الحقّ واجبُه

تجيبوا ـ ومن أرسى ثبيراً مكانه ـ

تدافع بحرٍ لا تُردُّ غواربُه (١)

فأقلل وأكثر مالها اليوم صاحبٌ

سواك فصرِّح لستَ ممّن تواربُه (٢)

فأقام جرير عند معاوية ثلاثة أشهر. وقيل : أربعة. وهو يماطله بالبيعة ، فكتب عليّ إلى جرير :

«سلام عليك ، أمّا بعد : فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، وخيّره بين حربٍ مجلية ، أو سلمٍ مخزية ، فإن اختار الحرب فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين ، وإن اختار السلم فخذ بيعته وأقبل إليّ ، والسلام».

فكتب معاوية إلى عليّ جواباً عن كتابه مع جرير :

أمّا بعد : فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ، ولكنّك أغريت بدم عثمان المهاجرين ، وخذّلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوي بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلاّ قتالك ، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ، وإنّما كان الحجازيّون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم ، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام ، ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير ، لأنّهما بايعاك ولم أُبايعك ، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة ، لأنّ أهل البصرة أطاعوك ، ولم يطعك أهل الشام.

__________________

(١) البيت كما في وقعة صفّين وشرح النهج :

فجيئوا ومن أرسى ثبيراً مكانه

ندافع بحراً لا تردّ غواربُه

(٢) المواربة : المخادعة والمداهاة. (المؤلف)


فكتب إليه الإمام عليه‌السلام :

«زعمت أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خُفري (١) بعثمان ، ولعمري ما كنت إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرتُ فلزمتني خطيئة الأمر ، ولا قتلتُ فأخاف على نفسي قصاص القاتل.

وأمّا قولك : إنّ أهل الشام هُم حكّام أهل الحجاز ، فهات رجلاً من قريش الشام يُقبل في الشورى ، أو تحلّ له الخلافة ، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار ، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز ، فارجع إلى البيعة التي لزمتك ، وحاكم القوم إليّ.

وأمّا تمييزك بين أهل الشام والبصرة ، وبينك وبين طلحة والزبير ، فلعمري فما الأمر هناك إلاّ واحد ، لأنّها بيعة عامّة ، لا يتأتّى (٢) فيها النظر ، ولا يُستأنف فيها الخيار».

ومن كتاب كتبه معاوية إلى عليّ عليه‌السلام في أواخر حرب صفّين :

فإن كنت ـ أبا حسن ـ إنّما تحارب على الإمرة والخلافة ، فلعمري لو صحّت خلافتك لكنت قريباً من أن تُعذر في حرب المسلمين ، ولكنّها ما صحّت لك ، أنّى بصحّتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوها؟ وخف الله وسطواته ، واتّق بأسه ونكاله ، واغمد سيفك عن الناس ، فقد والله أكلتهم الحرب ، فلم يبق منهم إلاّ كالثمد (٣) في قرارة الغدير. والله المستعان.

فكتب عليّ عليه‌السلام إليه كتاباً منه :

«وأمّا تحذيرك إيّاي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام ، فلعمري لو كنت

__________________

(١) الخفر : نقض العهد ، الغدر. (المؤلف)

(٢) في وقعة صفين : يثنّى.

(٣) الثمد : الماء القليل يتجمع في الشتاء وينضب في الصيف. (المؤلف)


الباغي عليك لكان لك أن تحذّرني ذلك ، ولكنّي وجدت الله تعالى يقول : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) فنظرنا إلى الفئتين ، أمّا الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها ، لأنّ بيعتي لزمتك وأنت بالشام ، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة ، وأنت أمير لعُمر على الشام ، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام.

وأمّا شقّ عصا هذه الأُمّة ، فأنا أحقّ أن أنهاك عنه ، فأمّا تخويفك لي من قتل أهل البغي ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم ، وقال لأصحابه : إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله. وأشار إليّ ، وأنا أولى من اتّبع أمره. وأمّا قولك : إنّ بيعتي لم تصحّ ، لأنّ أهل الشام لم يدخلوا فيها ، فكيف؟ وإنّما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب ، لا يُثنّى فيها النظر ، ولا يُستأنف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمُروّي (١) فيها مُداهن ، فاربع على ظلعك ، وانزع سربال غيّك. واترك ما لا جدوى له عليك ، فليس لك عندي إلاّ السيف ، حتى تفيء إلى أمر الله صاغراً ، وتدخل في البيعة راغماً ، والسلام».

ومن كتاب لمعاوية إلى عليّ عليه‌السلام :

فدع اللجاج والعبث جانباً ، وادفع إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ، ليتّفقوا على من هو لله رضا ، فلا بيعة لك في أعناقنا ، ولا طاعة لك علينا ، ولا عُتبى لك عندنا ، وليس لك ولأصحابك إلاّ السيف.

فأجابه الإمام عليه‌السلام بكتاب منه قوله :

«وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تمّ

__________________

(١) روّى في الأمر : نظر وفكّر ، أي الذي يفكّر ويروّي فيها ويبطئ عن الطاعة ، مداهن : أي منافق. (المؤلف)


اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنت والفاضل والمفضول؟ والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ، ألا تربعْ أيّها الإنسان على ظلعك؟ وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر».

ومنه قوله عليه‌السلام :

«وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ، متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوّفين؟! فلبّث قليلاً يلحق الهيجا حمل (١) ، فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مُرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطعٍ قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد».

ولمّا نزل عليّ عليه‌السلام الرقّة ، قالت له طائفة من أصحابه : يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية ومن قبله من قومك ، فإنّ الحجّة لا تزداد عليهم بذلك إلاّ عظماً. فكتب إليهم :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية ومن قبله من قريش :

سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد : فإنّ لله عباداً

__________________

(١) حمل ، هو حمل بن سعد ، إنّه الصحابي ، شهد صفّين مع معاوية (المؤلف) [في المستقصى في أمثال العرب ٢ / ٢٧٨ : مثل يضرب ، قالوا في حمل : هو اسم رجل شجاع كان يستظهر بهِ في الحرب ولا يبعد أن يُراد به حمل بن بدر صاحب الغبراء].


آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبيّن الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول ، تكذّبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه ، وإظهار أمره ، فدخلت العرب في الدين أفواجاً ، وأسلمت له هذه الأُمّة طوعاً وكرها ، فكنتم فيمن دخل في هذا الدين إمّا رغبة أو رهبةً ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الأوّلون بفضلهم ، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ، ولا فضائلهم في الإسلام ، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله ، وأولى به فيحوب ويظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ويعدو طوره ، ويُشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله ، فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديماً وحديثاً أقربها من الرسول ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، أوّلهم إسلاما ، وأفضلهم جهاداً ، وأشدّهم بما تحمله الأئمّة من أمر الأُمّة اضطلاعاً ، فاتّقوا الله الذي إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون ، واعلموا أنّ خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأنّ شرارهم الجهّال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإنّ للعالم بعلمه فضلاً ، وإنّ الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلاّ جهلاً ، ألا وإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وحقن دماء هذه الأُمّة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، واهتديتم لحظّكم ، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشقّ عصا هذه الأُمّة ، لم تزدادوا من الله إلاّ بُعداً ، ولا يزداد الربّ عليكم إلاّ سُخطاً ، والسلام» (١).

راجع (٢) : الإمامة والسياسة (١ / ٢٠ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٧ ، ٧٨) ، كتاب صفّين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢١٠ خطبة ٤٨.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٤ ، ٩١ ـ ٩٢ ، وقعة صفّين : ص ٢٩ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٥٢ ـ ٥٨ ، الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٢٦٧ ، ٢٧١ ، العقد الفريد : ٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، نهج البلاغة : ص ٣٦٨ كتاب ٩ ، ص ٣٨٥ كتاب ٢٨ ، ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٣٠ كتاب ٨ و ٢ / ٦١ و ٣ / ٧٥ ، ٨٨ و ١٤ / ٣٥ كتاب ٦ وص ٤٢ ـ ٤٣ كتاب ٧ ، صبح الأعشى : ١ / ٢٧٥.


(ص ٣٤ ، ٣٨ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٢ ـ ٦٥ طبعة مصر) ، كامل المبرّد (١ / ١٥٥ ، ١٥٧) ، العقد الفريد (٢ / ٢٣٣ ، وفي طبعة : ص ٢٨٤) نهج البلاغة (٢ / ٧ ، ٨ ، ٣٠ ، ٣٥ ، ٩٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٧٧ ، ١٣٦ ، ٢٤٨ ، ٢٥٢ و ٣ / ٣٠٠ ، ٣٠٢) ، صبح الأعشى (١ / ٢٢٩) ، نهاية الأرب (٧ / ٢٣٣). ومرّ بعض هذه الكتب بتمامه في هذا الجزء.

قال الأميني : ألم تعلم أيّها القارئ الكريم عقيب ما استشففت هذه الكتب المتردّدة بين إمام الحقّ ورجل السوء معاوية ، أنّه حين يسرّ حسواً في ارتغاء (١) ، محتجّا بقتل عثمان تارة ، وبإيواء قاتليه تارةً أخرى ، وبطلبه حقن الدماء كمن لا يبتغيه هو ، أنّه كان لا يبتغي إلاّ الخلافة؟ وأنّه يعدو إليها ضابحاً ، ويُضحّي دونها بكلّ غالٍ ورخيص ، ويهب دونها الولايات ، ويمنح تجاهها المنائح ، ويهب الرضائخ ، ويستهوي بها النفوس الخائرة ، ومهملجي نهمة الحاكميّة ، ويستهين ببيعة المهاجرين والأنصار ، وهم إلب واحد لبيعة إمام الهدى ـ صلوات الله عليه ـ ، ويحسبهم قد فارقوا الحقّ وخبطوا في العمى ، ويرجّح كفّة الشام على كفّة عاصمة الإسلام ، وأهلوه هم الصحابة العدول من المهاجرين والأنصار ، على أنّه ليس للطليق ابن الطليق أن يتدخّل في شأن هم أثبتوا دعائمه ، وشيّدوا معالمه ، ومن الذي منحه النظر في أمر هذا شأنه؟ ومتى كان له ولطغام الشام أن يجابهوا إمرة الحقّ التي نهض بها أهل الحلّ والعقد؟ ولم يباشر الحرب هنالك إلاّ بعد أن أتمّ الإمام عليه‌السلام عليه الحجّة ، وألحب له الطريق ، وأوقفه على حكم الله الباتّ وأمره النهائيّ ، غير أنّ معاوية في أُذنه وقر عن سماع كلم الحقّ والبخوع لها ، والملك عقيم.

تصريحٌ لا تلويح يُعرب عن مرمى ابن هند :

مرّ في سالف القول (ص ٣١٧) أنّ معاوية قال لجرير : يجعل عليّ له الشام ومصر جباية ، ويكون الأمر له بعده ، حتى يكتب إليه بالخلافة ، وكتب بذلك إليه عليه‌السلام

__________________

(١) مثل يُضرب لمن يريك أنه يعينك وإنّما يجرّ النفع إلى نفسه. مجمع الأمثال : ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠.


وكتب إليه عليه‌السلام يسأله إقراره على الشام ، فكتب إليه عليّ عليه‌السلام :

«أمّا بعد : فإنّ الدنيا حُلوة خضرة ، ذات زينة وبهجة ، لم يصبُ إليها أحد إلاّ شغلته بزينتها عمّا هو أنفع له منها ، وبالآخرة أُمرنا ، وعليها حُثثنا ، فدع يا معاوية ما يفنى ، واعمل لما يبقى ، واحذر الموت الذي إليه مصيرك ، والحساب الذي إليه عاقبتك ، واعلم أنّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً حال بينه وبين ما يكره ، ووفّقه لطاعته ، وإذا أراد بعبد سوءاً أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة ، وبسط له أمله ، وعاقه عمّا فيه صلاحه ، وقد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك ، وتنشد غير ضالّتك ، وتخبط في عماية ، وتتيه في ضلالة ، وتعتصم بغير حجّة ، وتلوذ بأضعف شبهة.

فأمّا سؤالك المتاركة والإقرار لك على الشام ، فلو كنت فاعلاً ذلك اليوم لفعلته أمس ، وأمّا قولك : إنّ عمر ولاّكه فقد عزل من كان ولاّه صاحبه (١) ، وعزل عثمان من كان عمر ولاّه (٢) ، ولم يُنصب للناس إمام إلاّ ليرى من صلاح الأُمّة ما قد كان ظهر لمن قبله أو أُخفي عنه عيبُه ، والأمر يحدث بعده الأمر ، ولكلّ والٍ رأي واجتهاد» (٣).

وكتب الرجل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ـ قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة ـ يسأله إقراره على الشام ، وذلك أنّ عليّا عليه‌السلام قال : «لأُناجزنّهم مصبحاً». وتناقل الناس كلمته ، ففزع أهل الشام لذلك ، فقال معاوية : قد رأيت أن أُعاود عليّا وأسأله إقراري على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه (٤) ، ولأكتبنّ ثانية ، فأُلقي في نفسه الشكّ والرقّة ، فكتب إليه :

__________________

(١) يريد خالد بن الوليد : كان ولاّه أبو بكر فعزله عمر. (المؤلف)

(٢) عزل عثمان عمال عمر كلّهم غير معاوية. (المؤلف)

(٣) نهج البلاغة : ٢ / ٤٤ [ص ٤١٠ كتاب ٣٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٥٧ [١٦ / ١٥٣ كتاب ٣٧]. (المؤلف)

(٤) كذب الرجل وقد أجابه الإمام عليه‌السلام بما سمعت ، غير أنّه كتمه على أصحابه خوفاً من أن يهتدي به بعض إلى الحق ويفارق الباطل. (المؤلف) [الظاهر أنّ قصد معاوية من هذه العبارة أنّ أمير المؤمنين لم يوافقه على طلبه البقاء أميراً على الشام].


أمّا بعد : فإنّك لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت ، لم يجنِها بعضنا على بعض ، ولئن كنّا قد غُلبنا على عقولنا ، لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقي ، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك بيعة وطاعة ، فأبيت ذلك عليّ ، فأعطاني الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإنّي لا أرجو من البقاء إلاّ ما ترجو ، ولا أخاف من الفناء إلاّ ما تخاف ، وقد والله رقّت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلاّ فضل لا يُستذلّ به عزيز ، ولا يسترقّ به حرّ ، والسلام.

فأجابه عليّ عليه‌السلام :

«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنّك لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك [ما بلغت] (١) لم يجنها بعضنا على بعض ، فإنّي لو قُتلت في ذات الله وحييت ، ثم قُتلت ثم حييت سبعين مرّة لم أرجع عن الشدّة في ذات الله ، والجهاد لأعداء الله ، وأمّا قولك : إنّه قد بقي من عقولنا ما نندم على ما مضى فإنّي ما تنقّصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي ، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لأُعطيك اليوم ما منعتك أمس ، وأمّا قولك : إنّ الحرب قد أكلت [العرب] (٢) إلاّ حُشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحقّ فإلى الجنّة ، ومن أكله الباطل فإلى النار» الكتاب (٣).

وكتب معاوية إلى ابن عبّاس :

أمّا بعد : فإنّكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار ابن عفّان حتى أنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه ، واستعظامهما ما نيل

__________________

(١) الزيادة من شرح النهج.

(٢) الزيادة من النهج.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٨ وفي طبعة ٩٥ [١ / ١٠٣] ، كتاب صفّين : ص ٥٣٨ [ص ٤٧٠] ، مروج الذهب : ٢ / ٦٠ ، ٦١ [٣ / ٢٣] ، نهج البلاغة : ٢ / ١٢ [ص ٣٧٤ كتاب ١٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٢٤ [١٥ / ١٢٣ كتاب ١٧]. (المؤلف)


منه ، فإن كان ذلك منافسة لبني أميّة في السلطان ، فقد وليها عديّ وتيم (١) فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة.

وقد وقع من الأمر ما قد ترى ، وأدالت هذه الحرب بعضنا على بعض حتى استوينا فيها ، فما يُطمعكم فينا يُطمعنا فيكم ، وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منّا ، ولقد رجونا غير الذي كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولستم ملاقينا اليوم بأحدّ من حدّكم أمس ، ولا غداً بأحدّ من حدّكم اليوم ، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام ، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ، فإنّما بقي من رجالها ستّة : رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق ، ورجلان بالحجاز ، فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليّ ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر (٢) ، فاثنان من الستّة ناصبان لك ، واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع ، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنّا إليك أسرع منّا إلى عليّ.

فكتب ابن عبّاس إليه :

أمّا بعد : فقد جاءني كتابك وقرأته ، فأمّا ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان وكراهتنا لسلطان بني أُميّة ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمّك وأخو عثمان الوليد بن عقبة ، وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه ، وضيّقا خناقه ، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي ، وأمّا قولك : إنّه لم يبق من قريش إلاّ ستّة فما أكثر رجالها ، وأحسن بقيّتها! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ، ولم يخذلنا إلاّ من خذلك ، وأمّا إغراؤك إيّانا بعديّ وتيم ، فإنّ أبا بكر وعمر خير من عثمان كما أنّ عثمان خير منك ، وقد بقي لك منّا ما ينسيك ما قبله

__________________

(١) يعني أبا بكر وعمر. (المؤلف)

(٢) يعني سعد بن أبي وقّاص : وعبد الله بن عمر. (المؤلف)


وتخاف ما بعده ، وأمّا قولك : إنّه لو بايعني الناس استقمت (١) ، فقد بايع الناس عليّا وهو خير منّي فلم تستقم له (٢) ، وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية؟ وإنّما أنت طليق وابن طليق ، والخلافة للمهاجرين الأوّلين ، وليس الطلقاء منها في شيء والسلام (٣). وفي لفظ ابن قتيبة : فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.

وخطب معاوية بعد دخوله الكوفة وصلح الإمام السبط سلام الله عليه ، فقال : يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ، ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا إنّ كلّ مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين. شرح ابن أبي الحديد (٤) (٤ / ٦) ، تاريخ ابن كثير (٥) (٨ / ١٣١) واللفظ للأوّل.

قال معروف بن خربوذ المكّي : بينا عبد الله بن عبّاس جالس في المسجد ونحن بين يديه ، إذ أقبل معاوية فجلس إليه فأعرض عنه ابن عبّاس ، فقال له معاوية : مالي أراك معرضاً؟ ألست تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر من ابن عمّك؟ قال : لم لأنّه كان مسلماً وكنت كافراً؟ قال : لا ، ولكنّي ابن عمّ عثمان. قال : فابن عمّي خير من ابن عمّك. قال : إنّ عثمان قُتل مظلوماً. قال : وعندهما ابن عمر ، فقال ابن عبّاس : فإنّ هذا والله أحقّ بالأمر منك. فقال معاوية : إنّ عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن

__________________

(١) في شرح النهج : لو بايع الناس لي لاستقاموا.

(٢) في شرح النهج : فلم يستقيموا له.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٥ ، وفي طبعة ٩٦ [١ / ١٠٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٨٩ [٨ / ٦٥ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٤ الأصل ٣١.

(٥) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍.


عبّاس : ذاك والله أدحض لحجّتك. مستدرك الحاكم (١) (٣ / ٤٦٧).

قال الأميني : إنّ هذه الكلم لتعطي القارئ دروساً ضافية من تحرّي معاوية للخلافة لا غيرها من أوّل يومه ، ولم يكن في وسع ابن آكلة الأكباد دفع شيء ممّا كتب إليه من ذلك ، وإنّه كان يريد ، على فرض قصوره عن نيل كلّ الأُمنية ، القناعة ببعضها ، فيصفو له ملك الشام ومصر ، وللإمام عليه‌السلام ما تحت يده من الحواضر الإسلاميّة وزرافات الأجناد ، عسى أن يتّخذ ذلك وسيلة للتوصّل إلى بقيّة الأمل في مستقبل أيّامه ، وكانت هذه القسمة ابتداعاً في أمر الخلافة الإسلاميّة ، وتفريقاً بين صفوفها ، لم تأل إلى سابقة في الدين ، ولا أمضاها أهله في دور من الأدوار ، وإنّما هي فصمة في الجماعة ، وتفريق للطاعة ، وتفكيك لعرى الإسلام ، وتضعيف لقواه ، وبيعة عامّة تلزم القاصي والداني لا يُستثنى منها جيل دون جيل ، ولا يجوز انحياز أُمّة عنها دون أُمّة ، وإنّما هو الخليفة الأخير الذي أوجبت الشريعة قتله كما مرّ حديثه الصحيح الثابت ، وإنّه هو معاوية نفسه ، فما كان يسع الإمام عليه‌السلام والحالة هذه إلاّ قتال هذا الطاغية أو يفيء إلى أمر الله.

فكرة معاوية لها قدم :

إنّ رأي معاوية في خلافة الإمام عليه‌السلام لم يكن وليد يومه ولا بنت ليلته ، وإنّما كان مناوئاً منذ فرّق بينهما الإسلام ، وقُتل في يوم واحد أخوه وجدّه وخاله بسيف عليّ عليه‌السلام ، فلم يزل يلهج ويهملج في تفخيذ الناس عنه ـ صلوات الله عليه ـ من يوم قتل عثمان ، بعث رجلاً من بني عُميس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام ، وفيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٣٠ ح ٥٩٦٩.


سلام عليك. أمّا بعد : فإنّي قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب (١) ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب ، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهِرا الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مُناوئكما.

فسُرّ الزبير بهذا الكتاب ، وأعلم به طلحة ، ولم يشكّا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف عليّ عليه‌السلام. شرح ابن أبي الحديد (٢) (١ / ٧٧)

قال الأميني : انظر إلى دين الرجل وورعه ، يستسيغ أن يخاطب الزبير بإمرة المؤمنين لمحض حسبانه أنّه بايع له أجلاف أهل الشام ، ولا يقول بها لأمير المؤمنين حقّا عليّ عليه‌السلام وقد تمّت له بيعة المسلمين جمعاء ، وفي مقدّمهم الزبير نفسه ، وطلحة بن عبيد الله الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه ، فغرّهما على نكث البيعة ، فذاقا وبال أمرهما ، وكان عاقبتهما خُسراً.

وأنت ترى أنّ الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك ، ووسيلة النيل إلى الأمانيّ من الخلافة الباطلة ، أوحاه معاوية إلى الرجلين (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٣).

ويدعو الرجل لمناوئي عليّ عليه‌السلام بالظفر وعليه عليه‌السلام بالخذلان ، والصادع الكريم يقول في الصحيح المتّفق عليه : «اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله».

__________________

(١) استوسق : اجتمع. الحلب : اللبن المحلوب. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٣١ ، كتاب ٨.

(٣) الأنعام : ١٢١.


وكتب إلى الزبير أيضاً :

أمّا بعد : فإنّك الزبير بن العوام ، ابن أبي خديجة (١) ، وابن عمّة (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحواريّه ، وسِلفه (٣) وصهر أبي بكر ، وفارس المسلمين ، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث ؛ فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت ، تخبط خبط الجمل الرديع ، كلّ ذلك قوّة إيمان وصدق يقين ، وسبقت لك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البشارة بالجنّة ، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة.

وأعلم يا أبا عبد الله : أنّ الرعية أصبحت كالغنم المتفرّقة لغيبة الراعي ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى حقن الدماء ؛ ولَمِّ الشعث ، وجمع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، قبل تفاقم الأمر ، وانتشار الأُمّة ، فقد أصبح الناس على شفا جُرف هار ، عمّا قليل ينهار إن لم يُرأب ، فشمّر لتأليف الأُمّة ، وابتغ إلى ربّك سبيلا ، فقد أحكمتُ الأمر منِ قبَلي لك ولصاحبك على أنّ الأمر للمقدّم ، ثم لصاحبه من بعده ، جعلك الله من أئمة الهدى ، وبُغاة الخير والتقوى ، والسلام (٤).

ألا مسائل ابن هند عن قوله : إنّ الرعيّة أصبحت كالغنم المتفرّقة. إلى آخره. لما ذا أصبحت؟ ومتى أصبحت؟ وكيف أصبحت؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كلّ صالح لها ، ويشمّر لدرء كلّ معرّة عنها ، هو صنو رسول الله ونفسه ، الإمام المنصوص عليه ، وقد أجمعت الأُمّة على بيعته لو لا أنّ معاوية يكدّر الصفو ، ويقلق السلام ،

__________________

(١) خويلد أبو خديجة زوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدّ الزبير بن العوام بن خويلد. (المؤلف)

(٢) أُمّ الزبير هي صفيّة بنت عبد المطّلب عمّة رسول الله. (المؤلف)

(٣) السلف : زوج أُخت امرأته ، تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وتزوّج رسول الله أختها عائشة.(المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٦ كتاب ١٩٣.


ويفرّق الكلمة بدسائسه وتسويلاته ، فمثله كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام.

وكتب إلى طلحة :

أمّا بعد : فإنّك أقلّ قريش في قريش وِتراً ، مع صباحة وجهك ، وسماحة كفّك ، وفصاحة لسانك ، فأنت بإزاء من تقدّمك في السابقة ، وخامس المبشّرين بالجنّة ، ولك يوم أُحد وشرفه وفضله ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى ما تُقلّدك الرعيّة من أمرها ، ممّا لا يسعك التخلّف عنه ، ولا يرضى الله منك إلاّ بالقيام به ، فقد أحكمتُ لك الأمر قِبَلي ، والزبير فغير متقدّم عليك بفضل ، وأيّكما قدّم صاحبه فالمقدّم الإمام ، والأمر من بعده للمقدّم له ، سلك الله بك قصد المهتدين ، ووهب لك رشد الموفّقين ، والسلام (١).

قال الأميني : لمسائل هاهنا أن يحفي معاوية السؤال عن أنّ ما تبجّح به للزبير وطلحة من الفضائل التي استحقّا بها الخلافة هل كان عليّ عليه‌السلام خلواً منها؟ يذكر لهما البشارة بالجنّة ، وأنّ زبيراً أحد أولئك المبشّرين ، وأنّ طلحة خامسهم ، فهلاّ كان عليّ عليه‌السلام عاشرهم؟ فلما ذا سلخها عنه ، وحثّهما على المبادرة إليها حتى لا يسبقهما إليها ابن أبي طالب؟! وإن كان تلكم البشارة ـ المزعومة ـ بمجرّدها كافية في إثبات الجدارة للخلافة فلما ذا أخرج عنها سعد بن أبي وقّاص؟ وهو أحد القوم المبشّرين وكان يومئذ حيّا يُرزق ، ولعلّ طمعه فيهما كان آكد ، فحلب حلباً له شطره.

والأعجب قوله لطلحة : فأنت بإزاء من تقدّمك في السابقة. فهلاّ كان أمير المؤمنين أوّل السابقين وأولاهم بالمآثر كلّها؟ وهلاّ ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «السبّاق ثلاثة : السابق إلى موسى يوشع ، وصاحب ياسين إلى عيسى ، والسابق إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٥ كتاب ١٩٣.


محمد عليّ بن أبي طالب» (١).

وهلاّ صحّ عند أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ عليّا أوّل من آمن بالله ، وصدّق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى معه ، وجاهد في سبيله؟

وإن كان لطلحة يوم أُحد شرفه وفضله فلعليّ عليه‌السلام مغازي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها ، من بدر وأُحد وخيبر والأحزاب وحُنين ويوم حمراء الأسد (٢) ، هب أنّ معاوية كان في أذنه وقر من شركه لم يسمع نداء جبريل ورضوان يوم ناديا :

لا فتى إلاّ علي

لا سيف إلاّ ذو الفقار (٣)

فهل كان في بصره عمىً كبصيرته لا يبصر نضال عليّ ونزاله في تلكم المعارك الدامية؟ نعم ؛ معاوية لا يرى مواقف عليّ عليه‌السلام فضلاً وشرفاً ، لأنّه هو الذي أثكل أُمّهات بيته ، وضرب أقذلة أخيه وجدّه وخاله وأبناء بيته الساقط بسيفه البتّار ، وإلى هذا يومئ قوله لطلحة : فإنّك أقلّ قريش في قريش وِتراً.

ومن كتاب له إلى مروان :

فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد ، لا يُصطاد إلاّ غيلة ، ولا يتشازر إلاّ عن حيلة ، وكالثعلب لا يفلت إلاّ روغاناً ، واخفِ نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكفّ ، وامتهن (٤) نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أُمورهم بحث الدجاجة عن حبّ الدخن عند فقاسها (٥) ، وأنغل (٦) الحجاز ، فإنّي

__________________

(١) راجع الجزء الثاني : ص ٣٠٦. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في الجزء السابع : ص ٢٠٢ ـ ٢٠٦. (المؤلف)

(٣) أنظر الجزء الثاني : ص ٥٩ (المؤلف)

(٤) امتهنه : احتقره وابتذله. (المؤلف)

(٥) فقس الطائر بيضه : كسرها وأخرج ما فيها. (المؤلف)

(٦) نغل الأديم كفرح : فسد في الدباغ ، أنغله : أفسده. (المؤلف)


مُنغل الشام ، والسلام (١).

قال الأميني : هذه شنشنة معاوية منذ بلغه أمر الإمام عليه‌السلام وانعقاد البيعة له ، فوجد نفسه عند الأُمّة في معزل عن المشورة أو اعتضاد في رأي ، وأنّ البيعة لاحقته لا محالة ، فلم يجد منتدحاً عن إقلاق الأمر على صاحب البيعة الحقّة ، وأن يستدني منه أمانيّه الخلاّبة بتعكير الصفو له عليه‌السلام ، فطفق يفسد ما اطمأن إليه من الأمصار ، ويوعز في كتبه إلى إفساد الرأي ، وتفريق الكلمة ، وهو ضالّته المنشودة.

وإن تعجب فعجب أخذه البيعة لطلحة والزبير واحداً بعد آخر وقد ثبت في أعناقهما بيعة الإمام عليه‌السلام ، وكانت هذه البيعة إبّان ثبوت بيعتهما كما ينمّ عنه نصّ كتبه إليهما ، ثم ومن هو معاوية حتى يرشّح أحداً للخلافة بعد انعقاد الإجماع لخليفة الحقّ؟ ولم يكن هو من أهل الترشيح حتى لو لم تنعقد البيعة المذكورة.

على أنّ الغبيّ لم يهتدِ إلى أنّ أخذ البيعة لهما مستلزم لنكثهما البيعة الأولى ، وما غناء إمام ناكث عن مناجح الأُمّة ومصالحها؟ مع أنّهما على تقدير صحّة البيعة يكون كلّ منهما ثاني الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص الصحيحة الثابتة (٢) ، فهل هناك خليفة على المسلمين يجب إعدامه؟!

مناظرات وكلم :

١ ـ قال أبو عمر في الاستيعاب (٣) كان عبد الرحمن بن غنم ـ الصحابي ـ من أفقه أهل الشام وهو الذي فقّه عامّة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليّ رضى الله عنه رسولين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) راجع ما مرّ في هذا الجزء [ص ٣٢٠]. (المؤلف)

(٣) ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري : ٢ / ٤٠٢ [الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٥٠ رقم ١٤٤٩] ، أُسد الغابة : ٣ / ٣١٨ [٣ / ٤٧٨ رقم ٣٣٧٠]. (المؤلف)


لمعاوية ، وكان ممّا قال لهما : عجباً منكما ، كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوان عليّا إلى أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنّه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجار والعراق ، وأنّ من رضيه خير ممّن كرهه ، ومن بايعه خير ممّن لم يبايعه؟ وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو وأبوه من رءوس الأحزاب ، فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه ـ رحمة الله عليهم.

٢ ـ خرج رجل من أهل الشام ـ يوم صفين ـ ينادي بين الصفّين : يا أبا الحسن يا عليّ ابرز إليّ. فخرج إليه عليّ حتى إذا اختلفت أعناق دابتيّهما بين الصفّين فقال : يا عليّ إنّ لك قدماً في الإسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى رأيك؟ فقال له عليّ «وما ذاك»؟ قال : ترجع إلى عراقك ، فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا. فقال له عليّ : «لقد عرفت أنّما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم» (١).

٣ ـ قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة : يا جعدة إنّا والله ما نزعم أنّ معاوية أحقّ بالخلافة من عليّ لو لا أمره في عثمان ، ولكنّ معاوية أحقّ بالشام ، لرضا أهلها به ، فاعفوا لنا عنها ، فو الله ما بالشام رجل به طرق إلاّ وهو أجدّ من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جدّ عليّ في الحرب ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعليّ أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.

__________________

(١) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٥٤٢ [ص ٣٧٣] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٣ [٢ / ٢٠٧ خطبة ٤]. (المؤلف)


فقال جعدة : أمّا فضل عليّ على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان ، وأمّا رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل ، وأمّا قولك : إنّه ليس بالشام من رجل إلاّ وهو أجدّ من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جدّ عليّ ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعليّ يقينه ، وقصّر بمعاوية شكّه ، وقصد أهل الحقّ خير من جهد أهل الباطل. الحديث.

كتاب صفّين (ص ٥٢٩ طبعة مصر) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٣٠١) (١).

٤ ـ من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ، ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر ، وزادهم رجساً إلى رجسهم.

تاريخ الطبري (٦ / ٩) ، كتاب صفّين لابن مزاحم (ص ٢٦٣) ، كامل ابن الأثير (٣ / ١٢٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٣) (٢).

٥ ـ من كلمة لعبد الله أيضاً يخاطب بها أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين : إنّ القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعلمون ، ما خالفونا ، ولكنّ القوم إنّما يقاتلون فراراً من الأسوة ، وحبّا للأثرة ، وضنّا بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في أنفسهم ، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقَعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليّا وقد قتل أخاه حنظلة ،

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٤٦٤ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٩٨ الأصل ١٢٤.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، وقعة صفّين : ص ٢٣٤ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٧٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٨٦ الأصل ٦٥.


وخاله الوليد ، وجدّه عتبة في موقف واحد؟ والله ما أظنّ أن يفعلوا (١).

٦ ـ من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي بصفّين : إنّ هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه ، ولا على إحياء حقّ رأونا أَمَتناه ، ولا يقاتلوننا إلاّ لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا. إلى آخر ما مرّ في (ص ٥٩).

٧ ـ من كتاب لسعد بن أبي وقّاص إلى معاوية :

أما بعد : فإنّ أهل الشورى ليس منهم أحد أحقّ بها من صاحبه ، غير أنّ عليّا كان من السابقة ، ولم يكن فينا ما فيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقّنا كلّنا بالخلافة ، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدره ، وقد علمنا أنّه أحقّ بها منّا ، ولكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك والتشاجر ، فدع ذا ، وأمّا أمرك يا معاوية فإنّه أمر كرهنا أوّله وآخره ، وأمّا طلحة والزبير فلو لزما بيعتهما لكان خيراً لهما ، والله تعالى يغفر لعائشة أمّ المؤمنين.

الإمامة والسياسة (٢) (١ / ٨٦).

٨ ـ من كتاب لمحمد بن مسلمة إلى معاوية :

ولعمري يا معاوية ما طلبت إلاّ الدنيا ، ولا اتّبعت إلاّ الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميّتاً ، لقد خذلته حيّا ، ونحن ومن قِبَلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب.

الإمامة والسياسة (٣) (١ / ٨٧).

إلى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف ، يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا.

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١٠٢.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٠.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٩١.


قال الأميني : هذه كلمات تامّات ممّن كانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله ، وقد عرفوا نفسيّاته ومغازيه منذ عرفوه وثنيّاً ومستسلماً حتى وقفوا عليه من كثب ، وقد تعالى به الوقت بل تسافل حتى طفق يطمع مثله في الخلافة الإسلاميّة ، وبينهما ذاك البون الشاسع ، وخلال الفضائل التي تخلّى عنها ، والملكات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أكفأته عنها بخفّي حُنين ، وهؤلاء وإن اختلفت كلماتهم لكنّها ترمي إلى مغزى واحد من عدم كفاءة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين ، أو ما يتحرّاه من حكومة الشام ، خلافة مختزلة عن الخلافة الإسلاميّة الكبرى المنعقدة لأهلها يومئذ ، أو أنّه لا يتحرّى إلاّ إمرة مغتصبة ، وما لها من مفعول أثرة وثراء ، أو أنّه منبعث عن ضغائن وإحن ممّا أصاب أهله وذويه من الإمام عليه‌السلام ، فقتّلوا تقتيلا تحت راية الأوثان ، وظهر أمر الله وهم كارهون.

ولم يكن لمعاوية وأصحابه مرمى غير الإسفاف إلى هذه الهوّات السحيقة ممّا خفي على هؤلاء الحضور ، واستكشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني ، الحاملون ولاء ذلك البيت الساقط ، وأنت ترى أنّه لا يُقام في سوق الدين لشيء منها أيّ قيمة ، ولا تكون لها أيّ عبرة ، فدحضاً لدعوة الباطل ، وسحقاً لشرة الاستعباد.

وكان ابن هند الجاهل بنفسه ـ والإنسان على نفسه بصيرة ـ يرى نفسه أحقّ بالخلافة من عمر ، كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه (١) ، عن عبد الله بن عمر قال : دخلتُ على حفصة ونَسْواتها تنطف (٢) ، قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت : الحق فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.

__________________

(١) في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق : ٦ / ١٤١ [٤ / ١٥٠٨ ح ٣٨٨٢]. (المؤلف)

(٢) نَسْواتها : ذوائبها. تنطف : تقطر ماءً.


فلمّا تفرّق الناس خطب معاوية (١) ، قال : من يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحقّ به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته؟ قال عبد الله : فحللت حبوتي وهممت أن أقول : أحقّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع ، وتسفك الدم ، ويحمل عنّي غير ذلك ، فذكرت ما أعدّ الله في الجنان. قال حبيب : حُفظت وعُصمت.

أين كان ابن عمر عن هذه العقليّة التي حُفظ بها وعُصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحقّ بعد إجماع الأُمّة المسلمة عليها ، ولم يخش أن يقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدم؟ ففرّق الجمع ، وشقّ عصا المسلمين ، وسُفكت دماء زكية ، والله من ورائهم حسيب.

ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخّاة لمعاوية ، بل ينبِئنا التاريخ : أنّه لم يك يتحاشى عن أن يعرفه الناس بالرسالة ، ويقبلونه نبيّا بعد نبيّ العظمة ، روى ابن جرير الطبري بالإسناد : أنّ عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر ، فقال لهم عمرو : انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه ، وصغّروه ما استطعتم ، فلمّا قدموا عليه ، قال معاوية لحجّابه : إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة ، وقد صغّر أمري عند القوم ، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشدّ تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلاّ وقد همّته نفسه بالتلف ، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له : ابن الخياط. فدخل وقد تُعْتِع ، فقال : السلام عليك يا رسول الله فتتابع القوم على ذلك ، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوّة (٢).

__________________

(١) قال ابن الجوزي : كان هذا في زمن معاوية لمّا أراد أن يجعل ابنه يزيد وليّ عهده. راجع فتح الباري : ٧ / ٣٢٣ [٧ / ٤٠٣]. (المؤلف)

(٢) راجع تاريخ الطبري : ٦ / ١٨٤ [٥ / ٣٣٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٤٠ [٨ / ١٤٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍]. (المؤلف)


ولعلّ هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممّن تولّى معاوية بعد وفاته.

قال شمس الدين البناء المقدسي (١) في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (٢) (ص ٣٩٩) : وفي أهل أصفهان بله وغلوّ في معاوية ، ووُصف لي رجل بالزهد والتعبّد فقصدته ، وتركت القافلة خلفي ، وبتّ عنده تلك الليلة ، وجعلت أسائله إلى أن قلت : ما قولك في الصاحب (٣) ، فجعل يلعنه ثم قال : إنّه أتانا بمذهب لا نعرفه. قلت وما هو؟ قال : يقول : معاوية لم يكن مرسلاً : قلت : وما تقول أنت؟ قال : أقول كما قال الله عزّ وجلّ : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٤) ، أبو بكر كان مرسلاً ، وعمر كان مرسلاً ، حتى ذكر الأربعة ، ثم قال : ومعاوية كان مرسلاً. قلت : لا تفعل ، أمّا الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكاً ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكاً.

فجعل يشنّع عليّ وأصبح يقول للناس : هذا رجل رافضيّ ، فلو لم أدرك القافلة لبطشوا بي ، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة.

هب أنّ القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون ، لكن هذا الذي يدّعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلاّ كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور أو يسكّن روعتهم فيرجعوا إلى حقّ المقام؟ لو لا أنّ معاوية لم يكن له في مبّوئه ذلك ضالّة إلاّ الحصول على الملوكيّة الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة! لأنه لا يبلغ أُمنيته إلاّ بها ، فلا يبالي أسُلّم عليه بالربوبيّة أو الرسالة أو إمرة المؤمنين ، وقد حاول إرغام ابن النابغة فيما توسّمه منه في مُقتبله ذلك ، فبلغ ما أراد ، فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الإمر ، أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.

__________________

(١) أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة ٣٣٦ ، والمتوفّى نحو ٣٨٠. (المؤلف)

(٢) أحسن التقاسيم : ص ٣٠٦.

(٣) هو الوزير الشيعي الوحيد ، الصاحب بن عبّاد ، المترجم له في الجزء الرابع : ص ٤٢. (المؤلف)

(٤) البقرة : ٢٨٥.


يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل ، ولم يشنّع على من يسلّم عليه بالرسالة ، غير أنّه لم يرُقه أن يذكر نبيّ الإسلام بالرسالة ، ويزريه بذكر اسمه ، وهو يعلم أنّ العظمة لا تُفارقه ، والرسالة تلازمه ، ذكر الحفّاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (١) ، أنّ معاوية قال : أرأيت هاشماً؟ قال : نعم والله طوالاً حسن الوجه ، يقال : إنّ بين عينيه بركة. قال : فهل رأيت أميّة؟ قال : نعم ، رأيته رجلاً قصيراً أعمى ، يقال : إنّ في وجهه شرّا أو شؤماً. قال : أفرأيت محمداً؟ قال : ومن محمد؟ قال : رسول الله. قال : أفلا فخّمته كما فخّمه الله ، فقلت : رسول الله (٢)؟!

التحكيم لما ذا :

إنّ آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدأ الأمر ، وإن تستّر بها آونة على الأغبياء ، وتترّس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى ، حين سوّلت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس ، فأوّل تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان ، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يدعوهم ـ منذ أوّل ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند ، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة ـ (٣) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعدو محكمات القرآن ونصوصه ، لو لا أنّ ابن النابغة وصاحبه يُسيّران على الأُمّة غدراً ومكراً ، وعلى إمام الحقّ خيانة وظلماً غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب ، فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة ، ومظاهر العدوان ، بين دهاء ابن العاص وحماريّة الأشعري ، بين قول أبي موسى لابن العاصي :

__________________

(١) أحد المعمّرين ، قد أتى عليه من السنّ يوم استقدمه معاوية ستون وثلاثمائة سنة ، ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ، ومترجمو الصحابة في معاجمهم. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٣ / ١٠٣ [٣ / ٩٠ وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣١] ، أُسد الغابة : ١ / ١١٥ [١ / ١٣٦ رقم ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) راجع ما أسلفناه في هذا الجزء : صفحة ٢٧٦. (المؤلف)


لا وفّقك الله غدرت وفجرت (١) ، إنّما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى : وإنّما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً (٢) ، فوُئِد الحقّ ، وأودي بالحقيقة ، بين شيطان وغبيّ ، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين أنّ الخلافة هي المتوخّاة لكلّ منهما ، ولذلك انعقد التحكيم ، وبه كان يلهج خطباء العراق وأمراؤهم عند النصح للأشعري ، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحقّ ، وبلج الإصلاح. فمن قول ابن عبّاس للأشعري :

إنّه قد ضُمّ إليك داهية العرب ، وليس في معاوية خلّة يستحقّ بها الخلافة ، فإن تقذف بحقّك على باطلة تُدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله في حقّك يُدرك حاجته منك ، واعلم يا أبا موسى أنّ معاوية طليق الإسلام ، وأنّ أباه رأس الأحزاب ، وأنّه يدّعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ، فإن زعم لك أنّ عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق ، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ، ويوجره (٣) ما يكره ، ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملا ممّن لم يدّع الخلافة ، واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شيء يسرّك خبأً يسوؤك ، ومهما نسيت فلا تنسَ أنّ عليّا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وأنّها بيعة هدى ، وأنّه لم يقاتل إلاّ العاصين والناكثين. شرح ابن أبي الحديد (٤) (١ / ١٩٥).

__________________

(١) وفي لفظ ابن قتيبة : مالك؟ عليك لعنة الله ، ما أنت إلاّ كمثل الكلب. وفي لفظ ابن عبد ربّه : لعنك الله ، فإن مثلك كمثل الكلب. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١١٥ [١ / ١١٨] ، كتاب صفّين : ص ٦٢٨ طبعة مصر [ص ٥٤٦] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٩١ [٤ / ١٤٦] ، تاريخ الطبري : ٦ / ٤٠ [٥ / ٧١ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، مروج الذهب : ٢ / ٢٢ [٢ / ٤١٧ ، ٤١٨] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٤٤ [٢ / ٣٩٧ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٨ [٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

(٣) وجره الدواء أوجره إيّاه : جعله في فيه ، أوجره الرمح : طعنه ، ووجره : أسمعه ما يكره. (المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٤٦ خطبة ٣٥.


ومن قول الأحنف بن قيس له : ادع القوم إلى طاعة عليّ ، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا ، ويختار من قريش الشام من أحبّوا (١).

ومن قول شريح بن هانئ للأشعري : إنّه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم عليّ ، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقّا ، وقد كانت منك تثبيطة أيّام الكوفة والجمل ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظنّ بك يقيناً ، والرجاء منك يأساً ، ثم قال :

أبا موسى رُميتَ بشرِّ خصمٍ

فلا تُضعِ العراقَ فدتك نفسي

وأعطِ الحقَّ شامهمُ وخذهُ

فإنّ اليومَ في مَهَلٍ كأمسِ

وإنَّ غداً يجيء بما عليهِ

كذاك الدهرُ من سعدٍ ونحسِ

ولا يخدعْكَ عمروٌ إنَّ عمراً

عدوُّ اللهِ مطلعَ كلِّ شمسِ

له خُدعٌ يحارُ العقل منها

مموّهةٌ مزخرفةٌ بلبسِ

فلا تجعل معاويةَ بنَ حربٍ

كشيخٍ في الحوادث غيرِ نكسِ

هداه الله للإسلامِ فرداً

سوى عِرس النبيّ وأيّ عرسِ (٢)

ومن قول معاوية لعمرو بن العاص : إن خوّفك العراق فخوّفه بالشام ، وإن خوّفك مصر فخوّفه باليمن ، وإن خوّفك عليّا فخوّفه بمعاوية.

ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية : أرأيت إن ذكر عليّا وجاءنا بالإسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ، ما أقول؟ فقال معاوية : قل ما تريد وترى. الإمامة

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٩ ، وفي طبعة : ص ١١٢ [١ / ١١٦] ، نهاية الأرب : ٧ / ٢٣٩ ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٦ [٢ / ٢٤٩ خطبة ٣٥]. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٩ ، وفي طبعة ١١٣ [١ / ١١٥] ، كتاب صفّين : ص ٦١٤ ، ٦١٥ طبعة مصر [ص ٥٣٤] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٩٥ [٢ / ٢٤٥ خطبة ٣٥]. (المؤلف)


والسياسة (١) (١ / ٩٩ ، وفي طبعة : ص ١١٣).

قال الأميني : هذه صفة الحال ، ومُصاص الحقيقة ، من نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب كلّ منهما الخلافة ، وإثباتها لصاحبه ، ودونه تحقّق الخلع والتثبيت ، وعليه وقع التحكيم حقّا أو باطلاً ، ولم يكن السامع يجد هنالك قط من دم عثمان ركزاً ، ولا عن ثاراته ذكراً ، وإنّما تطامنت النفوس على تحرّي الخلافة فحسب ، ولقصر النزاع على الخلافة مُحيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمام عليه‌السلام عن صحيفة الصلح.

فلقد تمخّضت لك صورة الواقع من أُمنيّة معاوية الباطلة في كلّ من هذه العناوين الستّة المذكورة المدرجة تحت :

١ ـ حديث الوفود.

٢ ـ أنباء في طيّات الكتب.

٣ ـ تصريح لا تلويح.

٤ ـ فكرة معاوية لها قدم.

٥ ـ مناظرات وكلم.

٦ ـ التحكيم لما ذا؟ فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه الباتّ بقصر النزاع بين الإمام عليه‌السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفاً ضحيّةً لشهواته ومطامعه ، وهو يحسب أنّه لا يوافيه مناقش في الحساب ، أو ناظر إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان ، وكأنه لا يخجل إن جاثاه منقّب ، أو واقفه مجادل ، كما أنّه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة ، وإنّ الله سبحانه لبالمرصاد.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١١٦.


ونختم البحث بكلمة الباقلاني ، قال في التمهيد (ص ٢٣١) : إنّ عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز ، لأنّه متعبّد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه ، وقد يؤدّي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد ، وذلك رأي كثير من الفقهاء ، وقد يكون ممّن يرى ذلك ، ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثانٍ ، فعقد الأمر له على ألاّ يقيم الحدّ إلاّ على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممّن عقده ورضي به.

وعلى أنّه إذا ثبت أنّ عليّا ممّن يرى قتل الجماعة بالواحد ، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلاّ بأن تقوم البيّنة على القتلة بأعيانهم ، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليّهم ، ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنّهم بغاة عليه ، وممّن لا يجب استخراج حقّ لهم ، دون أن يدخلوا في الطاعة ، ويرجعوا عن البغي ، وبأن يؤدّي الإمام اجتهاده إلى أنّ قتل قتلة عثمان لا يؤدّي إلى هرجٍ عظيم ، وفساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، وإنّ تأخير إقامة الحدّ إلى وقت إمكانه ، وتقصّي الحقّ فيه ، أولى وأصلح للأُمّة ، وألمّ لشعثهم ، وأنفى للفساد والتهمة عنهم.

هذه أمور كلّها تلزم الإمام في إقامة الحدود ، واستخراج الحقوق ، وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حدّ من حدود الله ، والعمل فيه برأي الرعيّة ، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط ، فوجب اطّراح هذه الرواية (١) لو صحّت ، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك ، لكان هذا خطأ منهم ، غير أنّه لم يكن بقادح في صحّة إمامته ، لأنّ العقد له قد تقدّم هذا العقد الثاني ، وهذه الشريطة لا معتبر بها ، لأنّ الغلط في هذا من الإمام ، الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. الكلام.

__________________

(١) يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم : بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان. (المؤلف)


حجج داحضة :

استرسل ابن حجر في تدعيم ما منّته به هواجسه اقتصاصاً منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية ، والاعتذار عنه بما ركبه من الموبقات ، وتصحيح خلافته بإسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق (١) (ص ١٢٩ ـ ١٣١) بما تنتهي خلاصة ما لفّقه إلى أمرين :

أحدهما : القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه ، من حروب دامية ، ونزاع مع خليفة الوقت ، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعدّ بالآلاف المؤلّفة (٢) ، وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة ، وجماعة من البدريّين (٣) ، ولفيف من المهاجرين والأنصار ، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم بإحسان ، وهو يحسب أنّ شيئاً من هذه التلفيقات يبرّر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجليّة من الكتاب والسنّة ، وأنّ الاجتهاد المزعوم نسّق حول معاوية سياجاً دون أن يلحقه أيّ حوب كبير ، وأسدل عليه ستاراً عمّا اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبويّة ، ولم يعلم أنّه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهّم أمام النصّ ، ويتهجّم على أحكام الدين الباتّة وطقوسه النهائيّة ، بلغ الرجل أنّ الاجتهاد جائز على الضدّ من اجتهاد المجتهدين ، وما تعقّل أنّه غير جائز على خلاف الله ورسوله.

__________________

(١) الصواعق : ص ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٢) قال ابن مزاحم : أصيب بصفّين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفاً ، وأصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً. كتاب صفّين : ص ٦٤٣ [ص ٥٥٨]. وذكره ابن كثير في تاريخه : ٧ / ٢٧٤ [٧ / ٣٠٤ حوادث سنة ٣٦] وقال : قاله غير واحد ، وزاد أبو الحسن بن البراء : وكان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريّا. وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن شحنة في روضة المناظر هامش الكامل : ٣ / ١٩١ [١ / ٢٩١] ، وصاحب تاريخ الخميس في : ٢ / ٢٧٧. (المؤلف)

(٣) راجع ما مرّ في الجزء التاسع : ٣٥٩ الطبعة الأولى [٩ / ٣٦٢]. (المؤلف)


وقصارى القول أنّه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به (١) ضابط للاجتهاد يتمّ طرده وعكسه ، وإنّما يُمطّط مع الشهوات والأهواء ، فيُعذّر به خالد بن الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة ، شيخها الصالح وزعيمها المبرور ، وفضائحه من قتل الأبرياء ، والدخول على حليلة الموؤود غيلة وخدعة (٢).

ويُعذّر به ابن ملجم (٣) المرادي أشقى الآخرين بنصّ الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما انتهكه من حرمة الإسلام ، وقتل خليفة الحقّ وإمام الهدى في محراب طاعة الله ، الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتّى نواحيه ، واحتفّت به النفسيّات الكريمة جمعاء ، وقد قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله من كثير طيّب عداه الحصر ، وكبا عنه الاستقصاء ، وهو قبل هذه كلّها نفس النبيّ الطاهرة في الذكر الحكيم.

قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب (٤) : أهل السير لا تدافع بينهم أنّ عليّا أمر بقتل قاتله قصاصاً ، ونهى أن يمثّل به ، ولا خلاف بين أحد من الأُمّة أنّ ابن ملجم قتل عليّا متأوّلاً ، مجتهداً ، مقدّراً على أنّه على صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطّان :

يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها

إلاّ ليبلغَ من ذي العرش رضوانا

إنّي أُفكّر فيه ثم أحسبُه

أوفى البريّةِ عندَ اللهِ ميزانا

سننن البيهقي (٥) (٨ / ٥٨ ، ٥٩).

ويبرّر به عمل أبي الغادية (٦) الفزاري قاتل عمّار ، الممدوح على لسان الله

__________________

(١) نظراء الشيخ علي القاري [١ / ٦٨٧] : والخفاجي في شرحي الشفا : ٣ / ١٦٦. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء السابع : ص ١٥٦ ـ ١٦٨. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء الأوّل : ص ٣٢٣. (المؤلف)

(٤) تهذيب الآثار : ص ٧١ ح ٦ من مسند علي عليه‌السلام.

(٥) راجع الجواهر النقي المطبوع في هامش سنن البيهقي.

(٦) راجع الجزء الأول : ص ٣٢٨. (المؤلف)


ولسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الصحيح الثابت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «تقتلك الفئة الباغية». وقد مرَّ في (٩ / ٢١) ويبرّئ به ساحة عمرو بن العاص (١) عن وصمة مكيدة التحكيم ، وقد خان فيها أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسر شوكتها ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ فيه وفي صاحبه الشيخ المخرف :

«ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتّبع كلّ واحد منهما هواه ، بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين» (٢).

ويُحبّذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية (٣) من البوائق والطامّات ، من استئصال شأفة النبوّة وقتل ذراريها ، وسبي عقائلها ، التي لم تُبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلاّ أن يلعنه ويتبرّأ منه.

ويقدّس به أذيال المتقاعدين (٤) عن بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له ، فماتوا ميتة جاهليّة ولم يعرفوا إمام زمانهم.

ويُنزّه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة ، في الجزء (٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩) بأعذار عنهم لا تقلّ في الشناعة عن جرائرهم ، إلى أمثال هذه ممّا لا يُحصى.

نعم : هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد ، فلا يُصاخُ إلى مفعوله ، لوقوف

__________________

(١) راجع تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٨٣ [٧ / ٣١٤ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)

(٢) أنظر : الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٣ ، وشرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٥٩ خطبة ٣٥.

(٣) راجع تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢٢٣ و ١٣ / ١٠ [٨ / ٢٤٥ سنة ٦٣ ، ١٣ / ١٣ حوادث سنة ٥٩٠ ه‍] ، فيه قول أبي الخير القزويني : إنّه إمام مجتهد. (المؤلف)

(٤) راجع مستدرك الحاكم : ٣ / ١١٥ ـ ١١٨ [٣ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ح ٤٥٩٦ ـ ٤٦٠٥] (المؤلف)


الميول والشهوات سدّا دون ذلك ، فلا يُدرأ به التهمة عن المؤلّبين على عثمان ، وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار ، وأعيان المجتهدين ، الذين أخذوا الكتاب والسنّة من نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم عند ابن حزم المبرّر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم : فسّاق ، ملعونون ، محاربون ، سافكون دماً حراماً عمداً (١). وعند ابن تيميّة : قوم خوارج مفسدون في الأرض ، لم يقتله إلاّ طائفة قليلة باغية ظالمة ، وأمّا الساعون في قتله فكلّهم مخطئون ، بل ظالمون باغون معتدون (٢). وعند ابن كثير : أجلاف أخلاط من الناس ، لا شكّ أنّهم من جملة المفسدين في الأرض ، بغاة خارجون على الإمام ، جهلة ، متعنّتون ، خونة ، ظلمة ، مفترون (٣). وعند ابن حجر : بغاة ، كاذبون ، ملعونون ، معترضون ، لا فهم لهم بل ولا عقل (٤).

ولو كان للاجتهاد منتوج مقرّر فلم لم يُتّبع في إرجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر المتّهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة ، فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنّة ، فشنّت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفّين ، وكان من ذيولها وقعه الحروريّين ، فلم يُتّبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، وأقضى الأُمّة بنصّ من الصادق المصدّق ، لكنّما اتّبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله ابن عمر في قتله لهرمزان وبنت أبي لؤلؤة ، وإهدار ذلك الدم المحرّم من غير أيّ حجّة قاطعة أو برهنة صحيحة ، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من المتجمهرين على عثمان؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه الباتّ ، أيُعطي دية المقتول من بيت المال لأنّه أُودي به بين جمهرة المسلمين لا يُعرف قاتله ، كما فعله في أربد

__________________

(١) الفِصَل لابن حزم : ٤ / ١٦١. (المؤلف)

(٢) منهاج السنّة : ٣ / ١٨٩ ، ٢٠٦. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٧٦ ، ١٨٦ ، ١٨٧ [٧ / ١٩٨ ، ٢٠٨ ، حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٤) الصواعق المحرقة : ص ٦٧ ، ٦٨ ، ١٢٩. [ص ١١٣ ، ٢١٧]. (المؤلف)


الفزاري (١) ، أو أنّه يراهم من المجتهدين ـ وكانوا كذلك ـ الذين تأوّلوا أصابوا أو أخطأوا ، أو أنّه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات ، وما هنالك من إرجاف وتعكير يُقلقان السلام والوئام ، حتى يتمكّن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقّة المشروعة ، فعلى أيّ من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمام عليه‌السلام به ، فلا حرج عليه ولا تثريب ، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه ، أبى للقوم إلاّ أن يتّبع الحقّ أهواءهم ، وما ذا نقموا عليه ـ صلوات الله عليه ـ من تلكم المحتملات؟ حتى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرّائها تطايرت الرؤوس ، وتساقطت الأيدي ، وأُزهقت نفوس بريئة ، وأُريقت دماء محترمة ، فبأيّ اجتهاد بادروا إلى الفرقة ، وتحمّلوا أوزارها ، ولم تتجلّ لهم حقيقة الأمر ولباب الحقّ ، لكنّهم ابتغوا الفتنة ، وقلّبوا له الأمور ، ألا في الفتنة سقطوا.

ومن أعجب ما يُتراءى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية : أنّه يبيح سبّ عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وسبّ كلّ صحابيّ احتذى مثاله ، ويجوّز لأيّ أحد كيف شاء وأراد لعنهم ، والوقيعة فيهم ، والنيل منهم ، في خطب الصلوات ، والجمعات ، والجماعات ، وعلى صهوات المنابر ، والقنوت بها ، والإعلان بذلك في الأندية والمجتمعات ، والخلأ والملأ ، ولا يلحق لفاعلها ذمّ ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأً ، وإن كان هو من حثالة الناس ، وسفلة الأعراب ، وبقايا الأحزاب ، البعداء عن العلوم والمعارف.

وأمّا عليّ وشيعته فلا حقّ لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم ، والوقيعة في خصمائهم ، ومبلغ إسفافهم إلى هوّة الضلالة ، على حدّ قوله تعالى (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) (٢) وليس لأحدهم في الاجتهاد في ذلك كلّه نصيب ، ولو

__________________

(١) راجع كتاب صفّين : ص ١٠٦ [ص ٩٤] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٧٩ [٣ / ١٧٤ الأصل ١٤٦]. (المؤلف)

(٢) النساء : ١٤٨.


كان ضليعاً في العلوم كلّها ، فإن أحد منهم نال من إنسان من أولئك الظالمين فمن الحقّ ضربه وتأديبه ، أو تعذيبه وإقصاؤه ، أو التنكيل به وقتله ، ولا يؤبه باجتهاده المؤدّي إلى ذلك صواباً أو خطأ ، وعلى هذا عمل القوم منذ أوّل يوم أسّس أساس الظلم والجور ، وهلمّ جرّا حتى اليوم الحاضر. راجع معاجم السيرة والتاريخ فإنّها نعم الحكم الفصل ، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق (١) (ص ١٣٢) قال في لعن معاوية : وأمّا ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبّه ولعنه فله فيه أُسوة ، أي أُسوة بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة ، فلا يُلتفت لذلك ، ولا يُعوّل عليه ، فإنّه لم يصدر إلاّ من قوم حمقى ، جهلاء ، أغبياء ، طغاة ، لا يبالي الله بهم في أيّ وادٍ هلكوا ، فلعنهم الله وخذلهم ، أقبح اللعنة والخذلان ، وأقام على رءوسهم من سيوف أهل السنّة وحججهم المؤيّدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة الأعيان. انتهى.

أتعلم من لعن ابن حجر؟ وإلى من تتوجّه هذه القوارص؟ انظر إلى حديث لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاوية ، وأحاديث لعن عليّ أمير المؤمنين ، وقنوته بذلك في صلواته ، ولعن ابن عبّاس ، وعمّار ، ومحمد بن أبي بكر ، ودعاء أمّ المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة ، وآخرين من الصحابة ، إقرأ واحكم!!

الاجتهاد ما ذا هو؟ :

وممّا يجب أن يبحث في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد ، الذي توسّعوا فيه ، حتى سُفكت الدماء من أجله وأُبيحت ، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم ، وغُيّرت الأحكام من جرّائه ، وكاد أن يكون توسّعهم فيه أن يردّ الشريعة بدءاً إلى عقب ، ويفصم عروة الدين ، ويقطع حبله.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٢١٩.


ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمُنّة (١) لتبديل السنن المتّبعة التي لا تبديل لها؟ وهل هو من منح الله سبحانه على رعاع الناس ودهمائهم ، فيتقحّمونه كيف شاء لهم الهوى؟ أو أنّ له أصولاً متّبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنّة ، أو تأوّل صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النصّ ، أو أنّه اتّسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزا عليه كلّ أرنب وثعلب ، وتحرّاه كلّ بوّال على عقبيه ، أو أعرابيّ جلف جاف؟ أنا لا أكاد أُسوّغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد ، وإنّما المتسالم عليه بينهم ما يلي :

قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (٢) (٤ / ٢١٨) : أمّا الاجتهاد : فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأُمور مستلزم للكلفة والمشقّة ، ولهذا يُقال : اجتهد فلان في حمل حجر البزّارة ، ولا يُقال : اجتهد في حمل خردلة.

وأمّا في اصطلاح الأصوليّين ، فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد فيه.

وأمّا المجتهد ، فكلّ من اتّصف بصفة الاجتهاد ، وله شرطان :

الشرط الأوّل : أن يعلم وجود الربّ تعالى ، وما يجب له من الصفات ، ويستحقّه من الكمالات ، وأنّه واجب الوجود لذاته ، حيّ ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلّم ، حتى يتصوّر منه التكليف. وأن يكون مصدّقاً بالرسول ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات ، والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محقّقاً ، ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام ، متبحّراً فيه كالمشاهير من المتكلّمين ، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصّل ، بحيث

__________________

(١) المُنّة : القوة.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام : ٤ / ١٦٩.


يكون قادراً على تقريره وتحريره ، ودفع الشبه عنه ، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول ، بل أن يكون عالماً بأدلّة هذه الأمور من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني : أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعيّة وأقسامها ، وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها ، والشروط المعتبرة فيها ، على ما بيّناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها ، وكيفيّة استثمار الأحكام منها ، قادراً على تحريرها وتقريرها ، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها ، وإنّما يتمّ ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق الجرح والتعديل ، والصحيح والسقيم ، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وأن يكون عارفاً بأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكاميّة ، عالماً باللغة والنحو ، ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي ، وفي النحو كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يُعرف به أوضاع العرب ، والجاري من عاداتهم في المخاطبات ، بحيث يميّز بين دلالات الألفاظ من المطابقة ، والتضمين ، والالتزام ، والمفرد والمركّب ، والكلّي منها والجزئيّ ، والحقيقة والمجاز ، والتواطؤ والاشتراك ، والترادف والتباين ، والنصّ والظاهر ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة ، والتنبيه والإيماء ، ونحو ذلك ممّا فصّلناه ، ويتوقّف عليه استثمار الحكم من دليله.

وذلك كلّه أيضاً إنّما يُشترط في حقّ المجتهد المطلق المتصدّي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلّق بتلك المسألة ، وما لا بدّ منه فيها ، ولا يضرّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها ، ممّا يتعلّق بباقي المسائل الفقهيّة ، كما أنّ المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثّرة ، بالغاً رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها ،


فإنّه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإنّ ذلك ممّا لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نُقل عن مالك أنّه سُئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

وأمّا ما فيه الاجتهاد : فما كان من الأحكام الشرعيّة دليله ظنيٌّ ، فقولنا : من الأحكام الشرعيّة ، تمييز له عمّا كان من القضايا العقليّة واللغويّة وغيرها ، وقولنا : دليله ظنيّ ، تمييز له عمّا كان دليله منها قطعيّا ، كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنّها ليست محلاّ للاجتهاد فيها ، لأنّ المخطئ فيها يُعدّ آثماً ، والمسائل الاجتهاديّة ما لا يُعدّ المخطئ فيها باجتهاده آثماً. انتهى.

وقال الشاطبي في الموافقات (٤ / ٨٩) ما ملخّصه : الاجتهاد على ضربين : الأوّل : الاجتهاد المتعلّق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأُمّة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعيّ لكن يبقى النظر في تعيين محلّه.

فلا بدّ من هذا الاجتهاد في كلّ زمان ، إذ لا يمكن حصول التكليف إلاّ به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال ، وهو غير ممكن شرعاً ، كما أنّه غير ممكن عقلاً.

وأمّا الضرب الثاني : وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع ، فثلاثة أنواع : أحدها المسمّى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكوراً مع غيره في النصّ ، فينقّح بالاجتهاد ، حتى يميّز ما هو معتبر ممّا هو ملغى.

الثاني المسمّى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أنّ النصّ الدالّ على الحكم لم يتعرّض للمناط ، فكأنّه أُخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي.

الثالث : وهو نوع من تحقيق المناط المتقدّم الذكر ، لأنّه ضربان : أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص ، كتعيّن نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في


العتق في الكفّارات ، وما أشبه ذلك. والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقّق مناط حكمه ، فكأنّ المناط على قسمين : تحقيق عامّ ، وهو ما ذكر ، وتحقيق خاصّ من ذلك العامّ.

إنّما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتّصف بوصفين : أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني : التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

أمّا الأوّل : فقد مرّ في كتاب المقاصد أنّ الشريعة مبنيّة على اعتبار المصالح ، وأنّ المصالح إنّما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلّف ، إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات ، واستقرّ بالاستقراء التام أنّ المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كلّ مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كلّ باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعليم ، والفتيا ، والحكم بما أراه الله.

وأمّا الثاني : فهو كالخادم للأوّل ، فإنّ التمكّن من ذلك إنّما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أوّلاً ، ومن هنا كان خادماً للأوّل ، وفي استنباط الأحكام ثانياً ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلاّ في الاستنباط فلذلك جعل شرطاً ثانياً ، وإنّما كان الأوّل هو السبب في بلوغ هذه المرتبة ، لأنّه المقصود والثاني وسيلة.

هذا هو الاجتهاد عند الأصوليّين ، وأمّا الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على ردّ الفرع إلى الأصل ، واستنباطه منه ، والتمكّن من دفع ما يعترض المقام من نقد وردّ ، وإبرام ونقض ، وشُبه وأوهام.

قال الآمدي في الإحكام (١) (١ / ٧) : الفقه في عرف المتشرّعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعيّة الفروعيّة بالنظر والاستدلال.

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٢.


وقال ابن نجيم في البحر الرائق (١ / ٣) : الفقه اصطلاحاً على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعاً للأصوليّين : العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة المكتسبة من أدلّتها التفصيليّة بالاستدلال.

وفي الحاوي القدسي : اعلم أنّ معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع ، وفي الشريعة الوقوف الخاصّ ، وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها ، ودلالاتها ، ومضمراتها ، ومقتضياتها ، والفقيه اسم للواقف عليها.

وقال : الفقه قوّة تصحيح المنقول ، وترجيح المعقول ، فالحاصل أنّ الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها ، فليس الفقيه إلاّ المجتهد عندهم.

وأمّا استمداده فمن الأصول الأربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة ، وأمّا شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب ، وأمّا أقوال الصحابة فتابعة للسنّة ، وأمّا تعامل الناس فتابع للإجماع ، وأمّا التحرّي واستصحاب الحال فتابعان للقياس ، وأمّا غايته فالفوز بسعادة الدارين.

وقال ابن عابدين في حاشية البحر (١ / ٣) : في تحرير الدلالات السمعيّة لعليّ ابن محمد بن أحمد بن مسعود ، نقلاً عن التنقيح : الفقه لغة هو الفهم والعلم ، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة بالاستدلال.

وقال ابن قاسم الغزّي في الشرح (١ / ١٨) : الفقه هو لغة الفهم ، واصطلاحاً العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة المكتسب من أدلّتها التفصيليّة.

وقال ابن رشد في مقدّمة المدوّنة الكبرى (ص ٨) : فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع ، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه : أحدها كتاب الله عزّ وجلّ ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. والثاني : سنّة نبيّه عليه‌السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته ، وأمرنا باتّباع سنّته ، فقال عزّ وجلّ :


(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) (١) وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) وقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) وقال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) (٤) والحكمة : السنّة. وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٥) والثالث : الإجماع الذي دلّ تعالى على صحّته بقوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦) لأنّه عزّ وجلّ توعّد باتباع غير سبيل المؤمنين ، فكان ذلك أمراً واجباً باتّباع سبيلهم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع أُمّتي على ضلالة. والرابع : الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنّة والإجماع ، لأنّ الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علماً ، وأوجب الحكم به فرضاً ، فقال عزّ وجلّ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٧) وقال عزّ وجلّ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٨) أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس ، لأنّ الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو ممّا أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٩).

__________________

(١) آل عمران : ١٣٢.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) الأحزاب : ٣٤.

(٥) الأحزاب : ٢١.

(٦) النساء : ١١٥.

(٧) النساء : ٨٣.

(٨) النساء : ١٠٥.

(٩) المائدة : ٤٩.


نظرة في اجتهاد معاوية :

هاهنا حقّ علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية ، ونناقش القائلين به في أعماله ، أفهل كانت على شيء من النواميس الأربعة : الكتاب ، السنّة ، الاجماع ، القياس؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب؟ وعند من درسه؟ ومتى زاوله؟ وقد كان عهده به منذ عامين (١) قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل كان يميّز بين محكماته ومتشابهاته؟ أو يفرّق بين مجمله ومبيّنه؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه؟ أو أحاط خبراً بمطلقه ومقيّده؟ أو عرف شيئاً من ناسخه ومنسوخه ، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة ، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه؟

إنّ ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئاً من ذلك ، على حين أنّها تستدعي فراغاً كثيراً لا يتصرّم بالسنين الطوال ، فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تُلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم ـ الوثنيّة ـ وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد ـ الاسلام ـ ، فأذهب عنه هاتيك ، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيّلته ، ويتبوّأ في دماغه.

وكان قد سبقه جماعة إلى الإسلام وكتابه ، وهم بين حكم النبيّ ومحكماته ، وإفاضاته وتعاليمه ، وهم لا يُبارحون مُنتديات النبوّة ، وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت ، قضوا على ذلك أعواماً متعاقبة ومُدداً كثيرة ، فلم يتسنّ لهم الحصول على أكثر تلكم المبادئ ، وانكفئوا عنها صفر الأكفّ ، خاوي الوطاب ، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، حتى إذا تمكّن من الحفظ بعد ذلك

__________________

(١) هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح ، كما في الاستيعاب [٣ / ١٤١٦ رقم ٢٤٣٥] ، وكان ذلك في أُخريات السنة الثامنة للهجرة ، ووفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوليات سنة ١١. (المؤلف)


الأجل المذكور نحر جزوراً شكراً على ما أتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبّارة ، والله يعلم ماعاناه طيلة تلكم المدّة من عناء ومشقّة ، وهذا الرجل ثاني الأُمّة عند القوم في العلم والفضيلة ، وكان من علمه بالكتاب أنّه لم يعِ تنصيصه على موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا سمع قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ألقى السيف من يده ، وسكنت فورته ، وأيقن بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه ، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه ، قضيت منها العجب ، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه ، وما ذا الذي كان يُلهيه عن الخبرة بأصول الإسلام وكتابه؟ ولئن راجعت فيما يؤول إلى هذا الموقف (الجزء السادس) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب.

وليس من البعيد عنه أوّل رجل في الإسلام عند القوم ، الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادئ والخواتيم والأشكال والنتائج حدّا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديون منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوّة منذ بزوغها ، ولعلّك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب (٢) ما يلمسك باليد يسيراً من هذه الحقائق.

وأنت إذن في غنىً عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأوّلين الذين لا تعزب عنك أنباؤهم في الفقه والحديث والكتاب والسنّة ، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أُخْريات أيّامهم (٣)؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنيّة ، متهالك في الظلم والعدوان ، متفانٍ في عادات الجاهليّة ، ترفّ عليه رايات العهارة وأعلام البغاء ، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه ، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجّس بها منذ آبائه الأوّلين.

نعم ؛ المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون ، وكانوا

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

(٢) أنظر الغدير : ٧ / ١٣٨ ـ ١٨٠.

(٣) مراده قدس‌سره أخريات أيامهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


مراجع الأُمّة في مشكلات القرآن ومغازيه ، وتنزيله ، وتأويله ، كعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن العبّاس ، وأُبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت.

وأمّا مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو عدل القرآن والعالم بأسراره وغوامضه ، كما أنّ عنده العلم الصحيح بكلّ مشكلة ، والحكم الباتّ عند كلّ قضيّة ، والجواب الناجع عند كلّ عويصة ، وقد صحّ عند الأُمّة جمعاء قوله الصادق المصدّق صلوات الله عليه : «سلوني قبل أن لا تسألوني ، لا تسألوني عن آية في كتاب الله ولا سنّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنبأتكم بذلك». راجع الجزء السادس (ص ١٩٣).

السنّة :

وما ذا تحسب أن يكون نصيب معاوية من علم الحديث الذي هو سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من قوله وفعله وتقريره؟ لقد عرّفنا موقفه منها قوله هو فيما أخرجه أحمد في مسنده (١) (٤ / ٩٩) من طريق عبد الله بن عامر قال : سمعت معاوية يحدّث وهو يقول : إيّاكم وأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ حديثاً كان على عهد عمر. لما ذا هذا التحذير عن الأحاديث بعد أيّام عمر؟ ألأنّ الافتعال والوضع كثرا بعده؟ أم لأنّ الصحابة العدول الموثوق بهم على عهد عمر وما قبله منذ تصرّم العهد النبوي سُلبت عنهم الثقة بعد خلافة عمر؟ فكأنّهم ارتدّوا ـ العياذ بالله ـ بعده كذّابين وضّاعين ، ولازمه الطعن في أكثر الأحاديث ، وعدم الاعتداد بمدارك الأحكام ، لأنّ شيئاً كثيراً منها انتشر بعد ذلك الأجل ، وما كانت الدواعي والحاجة تستدعيان روايتها قبل ذلك ، على أنّ الجهل بتاريخ إخراجها ، هل هو في أيّام عمر أو بعدها يوجب سقوطها عن الاعتبار لعدم الثقة برواتها وروايتها ، ولم تكن الرواة تُسجّل تاريخ ما يروونه حتى يُعلم أن أيّا منها محاط بسياج الثقة ، وأيّا منها منبوذ وراء سورها.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٦٦ ح ١٦٤٦٧.


وما خصوصيّة عهد عمر في قبول الرواية ورفضها؟ ألأنّ الحقائق تمحّصت فيه؟ ومن ذا الذي محّصها؟ أم لأنّ التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم؟ ومن ذا الذي فعل ذلك؟ أم أنّ يد الأمانة قبضت على السنّة عندئذ ، وعضّتها بالنواجذ حرصاً عليها ، فلم يبق إلاّ لبابها المحض؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات؟ ومتى بدّلت السنن؟ ومتى غيّرت الأحكام؟ راجع الجزء السادس وهلمّ جرّا.

ولعلّ قول معاوية هذا في سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافٍ في قلّة اعتداده بها ، أو أنّه كان ينظر إليها نظر مستخفّ بها ، وكان يستهين بقائلها مرّة ، ويضرط لها إذا سمعها مرّة أخرى ، وينال من رواتها بقوارص طوراً ، وينهى راويها عن الرواية بلسان بذيء بكلّ شدّة وحدّة ، إلى أشياء من مظاهر الهزء والسخريّة (١) فما ظنّك بمن هذا شأنه مع السنّة الشريفة؟ فهل تُذعن له أنّه يعبأ بها ويحتجّ بها في موارد الحاجة ، ويأخذها مدركاً عند عمله؟ أو ينبذها وراء ظهره كما فعل ذلك في موارده ومصادره كلّها؟

وإنّ حداثة عهد معاوية بالإسلام وأخذه بالروايات بعد كلّ ما قدّمناه ، وما كان يُلهيه عن الإصاخة إليها طيلة أيّامه من كتابة وإمارة وملوكيّة ، وإنّ حياته في دور الإسلام كلّها كانت مستوعبة بضروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه ، فمتى كان يتفرّغ لأخذ الروايات وتعلّم السنن؟ ثم من ذا الذي أخذ عنه السنّة؟ والصحابة جلّهم في منتأى عن مباءته ـ الشام ـ ، ولم يكن معه إلاّ طليق أعرابيّ ، أو يمانيّ مستدرج ، وهو يسيء ظنّه بجملة الصحابة المدنيّين ، حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبويّة ، ويقول بملء فمه : إنّما كان الحجازيّون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم ، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام (٢). وعلى أثر ظنّه السيّئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأُمراؤه عن الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يظهر ممّا

__________________

(١) راجع تفصيل كلّ هذه فيما أسلفناه في هذا الجزء : ص ٢٨١ ـ ٢٨٤. (المؤلف)

(٢) راجع صفحة ٣١٩ من هذا الجزء. (المؤلف)


أخرجه الحاكم في المستدرك (١) (٤ / ٤٨٦) من قول عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا قال له نوف : أنت أحقّ بالحديث منّي ، أنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ هؤلاء قد منعونا عن الحديث يعني الأمراء. وجاء في حديث : إنّ معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر فقال : لئن بلغني أنّك تحدّث لأضربنّ عنقك (٢).

وعلى ذلك الظنّ أهدر دماء بقيّة السلف الصالح ، وبعث بسر بن أرطاة إلى المدينة الطيّبة فشنّ الغارة على أهلها ، فقتل نفوساً بريئة ، وأراق دماء زكيّة ، واقتصّ أثره من بعده جروه يزيد في واقعة الحرّة ، ومن يشابه أبه فما ظلم.

نظرة في أحاديث معاوية :

إنّ لنا حقّ النظر في شتّى مناحي رواياته ، لقد أخرج عنه أحمد في مسنده في الجزء الرابع (٣) (ص ٩١ ـ ١٠٢) مائة وستّة أحاديث وفيها من المكرّر :

١ ـ حديث إذا أراد الله بعبده خيراً يفقّهه في الدين. كرّره ست عشرة مرّة (٤) في (ص ٩٢ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٣ ، ٩٣ ، ٩٣ ، ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠١ ، ١٠١).

٢ ـ حديث تقصير شعر النبيّ بمشقص. مكرّر عشر مرّات (٥) في (ص ٩٢ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٧ ، ٩٧ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ١٠٢ ، ١٠٢).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٣٣ ح ٨٤٩٧.

(٢) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٢٤٨ [ص ٢٢٠]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٥٣ ـ ٧٠ ح ١٦٣٨٧ ـ ١٦٤٩٢.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٥٤ ح ١٦٣٩٢ ، ٥٥ ح ١٦٣٩٥ و ١٦٣٩٧ ، ٥٦ ح ١٦٤٠٠ و ١٦٤٠٤ ، ٥٧ ح ١٦٤٠٧ و ١٦٤٠٨ ، ٥٩ ح ١٦٤١٨ ، ٦١ ح ١٦٤٣٢ ، ٦٢ ح ١٦٤٣٦ و ١٦٤٣٨ ، ٦٤ ح ١٦٤٥١ ، ٦٥ ح ١٦٤٦٠ ، ٦٦ ح ١٦٤٦٧ ، ٦٩ ح ١٦٤٨٢ و ١٦٤٨٤.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ٥٥ ح ١٦٣٩٤ ، ٥٩ ح ١٦٤٢١ ، ٦٠ ح ١٦٤٢٨ ، ٦٢ ح ١٦٤٤١ ، ٦٣ ح ١٦٤٤٢ و ١٦٤٤٣ و ١٦٤٤٤ ، ٦٤ ح ١٦٤٥٢ ، ٧٠ ح ١٦٤٩١ و ١٦٤٩٢.


٣ ـ حديث حكاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأذان. كرّره سبع مرّات (١) في (ص ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٨ ، ٩٨ ، ١٠٠ ، ١٠٠).

٤ ـ حديث عقوبة شرب الخمر. مكرّر خمس مرّات (٢) في (ص ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠١).

٥ ـ حديث وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر. جاء (٣) في (ص ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٧ ، ١٠٠).

٦ ـ حديث كبّة الشعر. يوجد (٤) في (ص ٩١ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ١٠١).

٧ ـ حديث مناشدته عن أحاديث. جاء (٥) في (ص ٩٢ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٩).

٨ ـ حديث صوم عاشوراء (٦). في (ص ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧).

٩ ـ حديث حبّ الأنصار. يوجد (٧) في (ص ٩٦ ، ١٠٠ ، ١٠٠).

١٠ ـ حديث من أحبّ أن يمثل له قياماً (٨). في (ص ٩١ ، ٩٣ ، ١٠٠).

١١ ـ حديث النهي عن لبس الذهب والحرير. يوجد (٩) في (ص ٩٦ ، ١٠٠ ، ١٠١).

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٥٣ ح ١٦٣٨٧ ، ٥٤ ح ١٦٣٨٩ ، ٥٦ ح ١٦٣٩٩ ، ٦٤ ح ١٦٤٥٣ ، ٦٥ ح ١٦٤٥٩ ، ٦٨ ح ١٦٤٧٧ و ١٦٤٧٩.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٥٦ ح ١٦٤٠٥ ، ٥٩ ح ١٦٤١٧ ، ٦٠ ح ١٦٤٢٧ ، ٦٣ ح ١٦٤٤٥ ، ٦٨ ح ١٦٤٨١.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٦١ ح ١٦٤٣١ ، ٦٢ ح ١٦٤٤٠ ، ٦٣ ح ١٦٤٤٧ ، ٦٨ ح ١٦٤٨٠.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٥٤ ح ١٦٣٨٨ ، ٥٧ ح ١٦٤٠٩ ، ٦٠ ح ١٦٤٢٣ ، ٧٠ ح ١٦٤٨٧.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ٥٤ ح ١٦٣٩١ ، ٥٩ ح ١٦٤٢٢ ، ٦١ ح ١٦٤٣٥ ، ٦٦ ح ١٦٤٦٦.

(٦) مسند أحمد : ٥ / ٦٠ ح ١٦٤٢٥ و ١٦٤٢٦ ، ٦٣ ح ١٦٤٤٨.

(٧) مسند أحمد : ٥ / ٦١ ح ١٦٤٢٩ ، ٦٧ ح ١٦٤٤٨ ، ٦٨ ح ١٦٤٧٥.

(٨) مسند أحمد : ٥ / ٥٤ ح ١٦٣٨٩ ، ٥٦ ح ١٦٤٠٣ ، ٦٧ ح ١٦٤٧٣.

(٩) مسند أحمد : ٥ / ٦١ ح ١٦٤٣٠ ، ٦٨ ح ١٦٤٧٨ ، ٦٩ ح ١٦٤٨٣.


١٢ ـ حديث منقبة المؤذّنين (١). في (ص ٩٥ ، ٩٨).

١٣ ـ حديث إنّما أنا خازن (٢). (ص ٩٩ ، ١٠٠).

١٤ ـ حديث العمرى جائزة (٣). (ص ٩٧ ، ٩٩).

١٥ ـ حديث سجدة السهو لكلّ منسيّ (٤). (ص ١٠٠ ، ١٠٠).

١٦ ـ حديث التبعيّة في الركوع والسجود (٥). (ص ٩٢ ، ٩٨).

١٧ ـ حديث النهي عن ركوب الخزّ والنمار (٦). (ص ٩٣ ، ٩٣).

فالباقي من أحاديثه من غير تكرير سبعة وأربعون حديثاً ، وهل تسدّ هي فراغ الاستنباط في أحكام الدين لأيّ مجتهد؟ مع أنّ فيها ما ليس من الأحكام ، مثل رواية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وعمر توفّي كلّ منهم وهو ابن ثلاث وستين ، وقوله : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمصّ لسان الحسن إلى أمثال ذلك.

ولقد آن لنا أن ننظر نظرة أخرى في غير واحد من متون أحاديثه فمنها :

١ ـ أنّ معاوية دخل على عائشة ، فقالت له : أما خفت أن أُقعد لك رجلاً يقتلك؟ فقال : ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان ، وقد سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول. ـ يعني : الإيمان قيد الفتك ـ كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت : صالح ، قال : فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا عزّ وجلّ. مسند أحمد (٧) (٤ / ٩٢).

قال الأميني : إنّه ينمّ عن أنّ أمّ المؤمنين كانت تستبيح دم الرجل بما ارتكبه من

__________________

(١) مسند أحمد : ص ٥٩ ح ١٦٤١٩ ، ٦٥ ح ١٦٤٥.

(٢) مسند أحمد : ص ٦٦ ح ١٦٤٦٧ ، ٦٨ ح ١٦٤٧٦.

(٣) مسند أحمد : ٦٢ ح ١٦٤٤١ ، ٦٥ ح ١٦٤٦٢.

(٤) مسند أحمد : ص ٦٧ ح ١٦٤٧٠ و ١٦٤٧٢.

(٥) مسند أحمد : ص ٥٥ ح ١٦٣٩٦ ، ٦٤ ح ١٦٤٤٩.

(٦) مسند أحمد : ص ٥٥ ح ١٦٣٩٨ ، ٥٦ ح ١٦٤٠٢.

(٧) مسند أحمد : ص ٥٤ ح ١٦٣٩٠.


الجرائم والمآثم ، وسفك دماء زكيّة ، ونفوس مزهقة بريئة ، حتى أنّها كانت ترى من المعقول السائغ أن تُقعد له رجلاً فيقتله ، فأقنعها بأنّه في بيت أمان ، وداخل في ذمّتها ، وأنّ ما بينه وبينها صالح ، وأرجأ الموافاة للجزاء إلى يوم التلاقي بينه وبين الناس.

ويُستشفّ من هذه أنّه لم يكن عند معاوية درء لما كانت أمّ المؤمنين تنقمه عليه ، وإلاّ لكان للرجل أن يتشبّث به في تبرير أعماله ، وتبرئة نفسه دون التافهات.

وإن تعجب فعجب اقتناع أُمّ المؤمنين من معاوية بأنّ ما بينه وبينها صالح ، وإن لم يكن صالحاً بينه وبين الله ، ولا صالحاً بينه وبينها لأنّه قاتل أخيها محمد بن أبي بكر ، وكان على عنق معاوية ذلك الدم الطاهر ، وإن غضّت الطرف عنه أُخته لأنّ ما بينه وبينها صالح ، كما أنّها غضّت الطرف عن دم حُجر وأصحابه ، وهو من موبقات ابن آكلة الأكباد ، وطالما نقمت عليه ذلك وكانت توبّخه ، لكن برّره ذلك الصالح بينهما بلا عقل ولا قود ، وأمّا دم عثمان فما غضّت عنه أمّ المؤمنين مهما لم يكن ما بينها وبين عليّ عليه‌السلام صالحاً ، وهل يحتجّ معاوية يوم القيامة في موقف العدل الإلهيّ متى خاصمه محمد وحُجر وأصحابه وآلاف من الصلحاء الأبرار ممّن سفك دماءهم بأنّ ما بينه وبين عائشة صالح؟ وهل يفيده هذا الحجاج؟ أنا لا أدري.

أما كان لعائشة أن تفحم الرجل بأنّ الإيمان لو كان قيد الفتك ـ وهو قيد الفتك ـ فلما ذا لم يقيّده؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين ، وأعيان الأُمّة المسلمة ، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن الله ـ مكة ـ ، ولا مجاورو بيت أمانه ـ المدينة ـ ولعلّ أُمّ المؤمنين كانت تنظر إلى إيمان الرجل من وراء ستر رقيق ، ولم تجده إيماناً مستقرّا ـ إن لم نقل إنّها وجدته مستودعا ـ يقيّد صاحبه ، ويسلم المسلمون بذلك من يده ولسانه ، وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ،


والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (١).

٢ ـ عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا ، قدمنا معه مكة فصلّى بنا الظهر ركعتين ، ثم انصرف إلى دار الندوة ، وكان عثمان حين أتمّ الصلاة إذا قدم مكة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم ، وعمرو بن عثمان ، فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به ، فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع أبي بكر وعمر ، قالا : فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّها ، وإنّ خلافك إيّاه له عيب ، قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً.

مسند أحمد (٢) (٤ / ٩٤).

قال الأميني : أنا لا أدري أنّ الشائنة هاهنا تعود إلى فقه معاوية؟ أم إلى دينه؟ حيث يتعمّد الإتمام حيثما قصّر فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّخذته الأُمّة سنّة متّبعة ، وفيهم أبو بكر وعمر ، وقد صحّ عن عبد الله مرفوعاً : «الصلاة في السفر ركعتان» ، من خالف السنّة فقد كفر. لكن الرجل خالف الجميع ، وجابه حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزولاً منه إلى رغبة مروان الطريد ابن الطريد وعمرو بن عثمان ، صوناً لسمعة ابن عمّه عثمان ، مبتدع هذه الأحدوثة ، فإن كان هذا فقه الرجل في الحديث فمرحى بالفقاهة! أو أنّ ذلك مبلغه من الدين؟ فبعداً له في موقف الديانة.

__________________

(١) أخرجهما البخاري [١ / ١٣ ح ١٠] ومسلم [١ / ٩٦ ح ٦٥ كتاب الإيمان] وأحمد [٣ / ٧٨ ح ٨٧١٢] والترمذي [٥ / ١٨ ح ٢٦٢٧] والنسائي [٦ / ٥٣٠ ح ١١٧٢٦] وابن حبّان في صحيحه [١ / ٤٠٦ ح ١٨٠] والطبراني في المعجم الكبير [١٩ / ١٧٦ ح ٤٠٠] وأبو داود في سننه [٣ / ٤ ح ٢٤٨١] راجع فيض القدير : ٦ / ٢٧٠ [ح ٩٢٠٧]. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.


راجع الجزء الثامن (ص ٩٨ ـ ١١٩ ، ٢٦٢).

٣ ـ عن الهنائي قال : كنت في ملأ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند معاوية ، فقال معاوية : أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قالوا : اللهمّ نعم. إلى أن قال :

قال : أنشدكم الله تعالى أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الجمع بين حجّ وعمرة؟ قالوا : أمّا هذا فلا ، قال : أما إنّها معهنّ.

وفي لفظ :

قال : وتعلمون أنّه نهى عن المتعة ـ يعني متعة الحجّ ـ قالوا : اللهمّ لا.

راجع المسند (١) (٤ / ٩٢ ، ٩٥ ، ٩٩).

قال الأميني : هذا معطوف على ما قبله ، فإنّ حرص الرجل على إحياء البدع تجاه السنّة النبويّة الثابتة ، أوقفه هاهنا موقف المكابر المعاند ، فقد أسلفنا في الجزء السادس (ص ١٩٨ ـ ٢٠٥ ، ٢١٣ ـ ٢٢٠) أنّ متعة الحجّ نزل بها القرآن الكريم ولم ينسخ حتى قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحبه ، وكان عليها العمل أيّام أبي بكر وصدراً من أيّام عمر حتى منع عنها. وعليه فاقتصاص معاوية أثر ذلك المحرّم ـ بالكسر ـ يجلب الطعن ، إمّا في فقهه هو وجهله بالسنّة ، أو في دينه ، والجمع أولى ، والثاني أقرب إليه.

٤ ـ من طريق حمران ، يحدّث عن معاوية ، قال : إنّكم لتصلّون صلاة ، لقد صحبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيناه يصلّيها ، ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر (٢). (٤ / ٩٩ ،١٠٠).

قال الأميني : عرفت ـ في الجزء السادس (ص ١٨٣ ـ ١٨٦) ـ أنّ الصلاة بعد

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٥٤ ح ١٦٣٩١ ، ٥٩ ح ١٦٤٢٢ ، ٦٦ ح ١٦٤٦٦.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٦٦ ح ١٦٤٦٥ ، ٦٧ ح ١٦٤٦٩.


العصر كانت مطّردة على العهد النبويّ ، يُصلّيها هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يدعهما سرّا ولا علانية ، وما تركهما حتى لقي الله تعالى ، وصلاّهما أصحابه إلى أن منع عنها عمر ، واحتجّت الصحابة عليه بأنّها سنّة ثابتة ، ولا تبديل لسنّة الله ، غير أنّ الرجل لم يَصِخ إلى قولهم ، وطفق يمضي وراء أحدوثته ، وجاء معاوية وقد زاد في الطنبور نغمة ، وعزا إلى رسول الله النهي عنهما ، وهل هذا مقتضى جهله بالسنّة ، أو مبلغه من الفقه والدين؟ فاسمع القول ، واقض بالحقّ لك أو عليك.

٥ ـ من عدّة طرق ، عن معاوية مرفوعاً : «من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد الرابعة فاقتلوه».

أخرجه (١) في (٤ / ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠١).

قال الأميني : إنّي واقف هاهنا موقف التحيّر ، ولا أدري هل كان معاوية عاملاً بمفاد هذا الحديث يوماً من أيّامه إبّان خلافته وإمارته وقبلهما؟ أو كان يناقضه كمناقضته بكثير من الأحكام؟ ولئن كان خاضعاً لما فيه من الحكم الباتّ لما حملت إليه روايا الخمر قطاراً ، ولما حملها إليه خمّاره الذي كان يصاحبه ، ولا ادّخرها في حجرته ، ولا اتّخذ متجراً لبيعها ، ولا شربها هو ، ولا عربد بشعره فيها وهو سكران ، ولا قدّمها إلى وفوده ، ولا استخلف جروه السكّير بمرأى منه ومسمع ، ولا أضاع حدّ الله على من يشربها وينتشي بها وحديث معاوية هذا مع جودة سنده ، وإخراج مثل أحمد ، والترمذي ، وأبي داود إيّاه ، لم يأخذ به وبمفاده أحد من أئمّة الفقه ، وضربوا عنه صفحاً ، لتفرّد معاوية بروايته وهو لا يؤتمن على حديثه. هذا موقفه مع السنّة التي اتّخذها هو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قلّتها ، فما ظنّك بالكثير الذي لم يبلغه منها.

٦ ـ عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية وكان قليل الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٥٦ ح ١٦٤٠٥ ، ص ٥٩ ح ١٦٤١٧ ، ص ٦٠ ح ١٦٤٢٧ ، ص ٦٣ ح ١٦٤٤٥ ، ص ٦٨ ح ١٦٤٨١.


قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلاّ الرجل يموت كافراً ، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمدّا». المسند (١) (٤ / ٩٩).

وقد جاء كما يأتي في الجزء الحادي عشر من كتاب له كتبه إلى عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام : وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لو تمالأ أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين ، لأكبّهم الله على مناخرهم في النار».

قال الأميني : هل هذان الحديثان اللذان رواهما معاوية حجّة له أو عليه؟ والحقيقة جليّة لا يخفيها ستار ، فإنّك جدّ عليم بالذي باء بإثم تلكم الدماء المهراقة منذ يوم صفّين وبعده ، ريثما تُتاح له الفرص مع مهبّ الريح ، وتحت كلّ حجر ومدر ، وعلى الروابي والثنيّات ، وعدد الرمل والحصى ، عند كلّ هاتيك دم مسفوك ، ونفس مزهقة ، وأوصال مفصولة ، وحرمات مهتوكة ، وهل شيء من تلكم البوائق يُباح بآية من الكتاب؟ أو يبرّر بسنّة صحيحة؟ أو يحبّذ بشيء من معاقد إجماع المسلمين؟ وهل هناك قياس ينتهي إلى شيء من هذه المبادئ الاجتهاديّة؟ وهل معاوية يُحسن شيئاً منها أو يُتقنها؟ وأين وأنّى له الرأي والاجتهاد؟ أو هو مجرم جاهل ، وباغ ظلوم ، وثاني الخليفتين اللذين بويعا في عهد ، فيجب قتال هذا ، وقتل ذاك ، بالنصوص النبويّة ، فلا يُرْقَب فيه إلّ ولا ذمّة ، فلا ذمّة لمهدور الدم ، ولا حرمة لمن يجب إعدامه في الشريعة؟ أين هو والخلافة؟ حتى يستبيح الدماء الزاكية دون شهواته ومطامعه ، وهل تدري أيّ دماء سفكها؟ وأيّ حرمات انتهكها؟ نعم ؛ اقترف بها إراقه دماء المهاجرين والأنصار من الصحابة العدول والتابعين لهم بإحسان ، وباء بإثم دماء البدريّين ومئات من أهل بيعة الشجرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وفيهم مثل عمّار الذي قتلته الفئة الباغية ـ فئة معاوية ـ ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وثابت ابن عبيد الأنصاري ، وأبي الهيثم مالك بن التيّهان ، وأبي عمرة بشر الأنصاري ، وأبي

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٦٦ ح ١٦٤٦٤.


فضالة الأنصاري ، كلّ هؤلاء من البدريّين ، وفيهم حُجر بن عدي راهب أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثمّ البطل المجاهد مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، والعابد الصالح محمد ابن أبي بكر.

وقبل هذه كلّها استبشاره بدم الإمام المقدّس ، الخليفة عليه وعلى الأُمّة جمعاء مولانا أمير المؤمنين ، وسروره بذلك ، وعدّه ذلك من لطيف صنع الله.

وما ظنّك بمجرم يكون عنده دم الإمام السبط الزكيّ أبي محمد الحسن عليه‌السلام بدسّ السمّ إليه؟! وقد استبشر لمّا باء بإثمه ، وناء بجرمه ، فسيؤاخذ بما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه كلّها.

٧ ـ من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعاً : «من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة».

المسند للإمام أحمد (١) (٤ / ٩٦).

قال الأميني : هاهنا نسائل أنصار معاوية وأودّاءه عن أنّ أيّ موتة مات هو بها؟ وعن أيّ إمام مات وفي عنقه بيعته؟ ومن الذي اخترم الرجل وقد طوّقته ولايته؟ وهل كان هناك إمام يجب طاعته وبيعته بالنصّ والإجماع غير مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم بارزه وكاشفه؟ وألقح دون مناوأته الحرب الزبون ، ونازعه في أمر الخلافة ، وخلع ربقة الإسلام من عنقه ، أو يوم استبشر بقتل الإمام عليه‌السلام ، وهي الطامّة الكبرى؟ والمصاب بها خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يوم افتجعت به الصدّيقة الكبرى فاطمة بشظيّة قلبها الإمام السبط المجتبى بسمّ من معاوية مدسوس إليه؟ فهل بايعه يومئذٍ وهو خليفة الوقت بالجدارة والنصّ وإجماع لا يستهان به من بقايا رجال الحلّ والعقد؟ أو أنّه ناوأه في الأمر وغدر به وكاده؟ لمّا ظهر من أجناده الخور والفشل ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٦١ ح ١٦٤٣٤.


وقلبوا على إمام الحقّ ظهر المجنّ ، وحدت بهم المطامع والميول إلى أن يسلموه لمعاوية إن قامت الحرب على أشدّها ، فالتجأ الإمام إلى الصلح صوناً لدماء شيعته ، وإبقاءً على حياة ذويه.

فهل كان معاوية طيلة هذه المدد في ذكر من روايته هذه؟ وهل علم أنّه طوى تلكم السنين وليس في عنقه بيعة لإمام؟ وأنّه لا يحلّ لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة (١)؟ وأنّه إن مات والحالة هذه مات ميتة جاهليّة؟ أو أنّه كان يرى من فقهه استثناءه من هذه الكليّة التي لم يستثن منها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحداً؟ أو أنّ جهله بالأحكام وبنفسه كان يُطمعه في أن يكون هو الخليفة المبايع له ، والمطاع بأمر الله ورسوله؟ وهيهات له ذلك ، وهو طليق ابن طليق ، ولم يؤهّله لها علم ولا حنكة ، ولا نصّ ولا إجماع ، إلاّ شره نَهِم ، وطمع زائغ ، وحلوم مطاشة ، أو أنّ الرجل كان لم يكترث لأن يموت ميتة جاهليّة على ولاية سواع وهبل؟

لفت نظر :

إنّ حديث معاوية : «من مات بغير إمام ، مات ميتة جاهليّة». أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٥ / ٢١٨) ، وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص ٢٥٩) من طريق عبد الله بن عمر وزاد : ومن نزع يداً من طاعة جاء يوم القيامة لا حجّة له.

وهذا الحديث معتضد بألفاظ أُخرى من طرق شتّى منها :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهليّة».

أخرجه : مسلم في صحيحه (٢) (٦ / ٢٢) ، والبيهقي في سننه (٨ / ١٥٦) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٥١٧) ، والحافظ الهيثمي في المجمع (٥ / ٢١٨) ، واستدلّ بهذا اللفظ شاه

__________________

(١) المحلّى لابن حزم : ٩ / ٣٥٩ [مسألة ١٧٦٨]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٦ ح ٥٨ كتاب الإمارة.


وليّ الله في إزالة الخفاء (١ / ٣) على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوباً كفائيّا.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات وليس عليه طاعة ، مات ميتة جاهليّة».

أخرجه : أحمد في مسنده (١) (٣ / ٤٤٦) ، والهيثمي في المجمع (٥ / ٢٢٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة».

ذكره التفتازاني في شرح المقاصد (٢) (٢ / ٢٧٥) وجعله لدة قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) في المفاد. وبهذا اللفظ ذكره التفتازاني أيضاً في شرح عقائد النسفي المطبوع سنة (١٣٠٢) غير أنّ يد الطبع الأمينة على ودائع العلم والدين حرّفت من الكتاب في طبع سنة (١٣١٣) سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث. وحكاه الشيخ علي القاري صاحب المرقاة في خاتمة الجواهر المضيئة (٢ / ٥٠٩) ، وقال في (ص ٤٥٧) : وقوله عليه‌السلام في صحيح مسلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة». معناه : من لم يعرف من يجب عليه الاقتداء والاهتداء به في أوانه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة»

أخرجه : مسلم في صحيحة (٤) (٦ / ٢١) ، والبيهقي في سننه (٨ / ١٥٦) ، وذكر في تيسير الوصول (٥) (٣ / ٣٩) نقلاً عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة شبراً ، فمات ، فميتة جاهليّة».

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤٧٦ ح ١٥٢٦٩.

(٢) شرح المقاصد : ٥ / ٢٣٩.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٤ ح ٥٣ كتاب الإمارة.

(٥) تيسير الوصول : ٢ / ٤٧.


أخرجه مسلم في صحيحه (١) (٦ / ٢١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهليّة».

ذكره أبو جعفر الإسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانيّة للجاحظ (ص ٢٩) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٥ / ٢٢٤ ، ٢٢٥) بلفظ : «من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهليّة». وبلفظ : «من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهليّة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات وليس لإمام جماعة عليه طاعة مات ميتة جاهليّة».

أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٥ / ٢١٩).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر ، فإنّ من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات مات ميتة الجاهليّة».

شرح السير الكبير (١ / ١١٣).

هذه حقيقة راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها ، ولا يتمّ إسلام مسلم إلاّ بالنزول لمؤدّاها ، ولم يختلف في ذلك اثنان ، ولا أنّ أحداً خالجه في ذلك شكّ ، وهذا التعبير ينمّ عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام ، وأنّه في منتأىً عن أيّ نجاح وفلاح ، فإنّ ميتة الجاهليّة إنّما هي شرّميتة ، ميتة كفر وإلحاد ، لكنّ هنا دقيقة لا بدّ من البحث عنها ، وهي أنّ الصدّيقة الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب الكريم ، التي يغضب الله ورسوله لغضبها ويرضيان لرضاها ، ويؤذيهما ما يؤذيها ، قضت نحبها وليس في عنقها بيعة لمن زعموا أنّه خليفة الوقت ، ومثلها بعلها طيلة ستّة أشهر أيّام حياة حليلته ، كما جاء في الصحيحين وفيهما : كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة ، فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه الناس (٢). قال القرطبي في المفهم :

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٥ ح ٥٥ كتاب الإمارة.

(٢) صحيح البخاري كتاب المغازي : ٦ / ١٩٧ [٤ / ١٥٤٩ ح ٣٩٩٨] ، صحيح مسلم كتاب الجهاد : ٥ / ١٥٤ [٤ / ٣٠ ح ٥٢]. (المؤلف)


كان الناس يحترمون عليّا في حياتها كرامة لها ، لأنّها بضعة من رسول الله وهو مباشر لها ، فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر ، انصرف الناس عن ذلك الاحترام ، ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرّق جماعتهم. انتهى.

فالحقيقة هاهنا مردّدة بين أنّ الصدّيقة سلام الله عليها عزبت عنها ضروريّة من ضروريّات دين أبيها وهي أولاها وأعظمها ، وقد حفظته الأُمّة جمعاء حضريّها وبدويّها ، وماتت ـ العياذ بالله ـ على غير سنّة أبيها ، وبين أن لا يكون للحديث مقيل من الصحّة ، وقد رواه الحفظة الأثبات من الفريقين وتلقّته الأُمّة بالقبول ، وبين أنّها سلام الله عليها لم تك تعترف للمتقمّص بالخلافة ، ولا توافقه على ما يدّعيه ، ولم تكن تراه أهلاً لذلك ، وكذلك الحال في مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فهل يسع لمسلم أن يختار الشقّ الأوّل ويرتئي لبضعة النبوّة ولزوجها ـ نفس النبيّ الأمين ووصيّه على التعيين ـ ما يأباه العقل والمنطق ، ويبرأ منه الله ورسوله؟ لا ، ليس لأحد أن يقول ذلك.

وأمّا الشقّ الثاني ، فلا أظنّ جاهلاً يسفّ إلى مثله بعد استكمال شرائط الصحّة والقبول ، وإصفاق أئمّة الحديث ومهرة الكلام على الخضوع لمفاده ، وإطباق الأُمم الإسلاميّة على مؤدّاه.

فلم يبق إلاّ الشقّ الثالث ، فخلافة لم تعترف لها الصدّيقة الطاهرة ، وماتت وهي واجدة عليها وعلى صاحبها ، ويجوّز مولانا أمير المؤمنين التأخّر عنها ولو آناً ما ، ولم يأمر حليلته بالمبادرة إلى البيعة ، ولا بايع هو ، وهو يعلم أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة ، فخلافة هذا شأنها حقيقة بالإعراض عنها ، والنكوص عن البخوع لصاحبها.

٨ ـ من طريق أبي أُميّة عمرو بن يحيى بن سعيد ، عن جدّه : أنّ معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ، واشتكى أبو هريرة ، فبينا هو يوضّئ


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رفع رأسه [إليه] (١) مرّة أو مرّتين ، فقال : يا معاوية إن وليت أمراً فاتّق الله عزّ وجلّ واعدل. قال : فما زلت أظنّ أنّي مبتلى بعمل ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ابتليت. المسند (٢) (٤ / ١٠١).

قال الأميني : إنّ من المأسوف عليه أنّ الرجل نسي هذه الوصيّة النبويّة في عهديه جميعاً من الإمارة والملك العضوض ، أو أنّه كان يذكرها غير أنّه لم يكترث لها ، فلم يدع شيئاً من مظاهر العدل والتقوى إلاّ وتركه ، ولا أمراً من موجبات الإثم والعدوان إلاّ وارتكبه ، وإنّ البحث لفي غنىّ عن سرد تلك المآثم والجرائم ، وقد كرّرنا بعضها في أجزاء هذا الكتاب ، وفي حيطة سعة الباحث الوقوف عليها كلّها.

فليته كان يذكر تلك الوصيّة الخالدة يوم تثبّط عن نصرة عثمان حتى أُودي به ، ويوم كاشف إمام الوقت أمير المؤمنين عليه‌السلام بالحروب الطاحنة ، وجابه ولاية الله الكبرى بكلّ ما كان يسعه عناده ومكائده ، وناوأ الصحابة العدول بالقتل والتشريد ، واضطهد صلحاء الأُمّة بكلّ ما في حوله وطوله من إخافة ، وإرجاف ، وقتل ذريع ، وأخذ بالظنون والتهم ، أو كان من العدل والتقوى شيء من هذه؟ أو كان منهما بيع الخمر وشرابها وأكل الربا ، واستلحاق زياد بأبي سفيان ، واستخلاف يزيد؟ ولعلّك أعرف بيزيد من غيرك ، كما أنّ مستخلفه كان أعرف به من كلّ أحد.

ولعلّ من أظهر مصاديق عدله وتقواه دأبه على سبّ الإمام الطاهر ، ولعنه على صهوات المنابر ، وقنوته بذلك في صلواته ـ التي كانت تلعنه ـ وحمله الناس على ذلك بالحواضر الإسلاميّة وأوساطها طول حياته ، حتى كانت بدعة مخزية مستمرّة في العهد الأمويّ كلّه بعد أن اخترمته المنيّة.

وليتني كنت أدري أنّه ما ذا كان يفعله ممّا يخالف العدل والتّقوى لو لا وصيّة

__________________

(١) من المصدر.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٦٩ ح ١٦٤٨٦.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه؟ أو أنّه ـ والعياذ بالله ـ لو كانت الوصيّة بخلاف ما سمعه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فهل كان يُتاح له أكثر وأشنع ممّا فعل؟

٩ ـ من غير طريق عن معاوية ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين» ، وفي لفظ : «من يُرد الله به خيراً يفقّهه في الدين». وفي بعض الألفاظ : وكان معاوية قلّما خطب إلاّ ذكر هذا الحديث في خطبته (١).

قال الأميني : كان من قضيّة هذا السماع ووعيه ، والإكثار من روايته حتى أنّه جاء مكرّراً في مسند أحمد ستّ عشرة مرّة ، وما كان يخطب معاوية إلاّ وذكره ، التأثّر (٢) بمفاده ، والتهالك في التفقّه في الدين ، والحرص على ما كان يسمعه أو يبلغه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مبادئ الفقه وغاياته ، فما هذا الذي قهقره عن ضبط ما هنالك من حكم وأحكام؟ وأبعده عن مستقى السنّة ذلك البون الشاسع ، الذي تركه أجهل خلق الله بأحكامه ، عدا ما خالفه وباينه ، من أحاديث كانت حجّة عليه ، بعيداً عن مغازيه وأعماله ، وعدا طفائف لا يعود العالم بها فقيهاً في دينه متبصّراً في أمره ، كلّ ذلك ينمّ عن أنّ الرجل لم يُرد الله به خيراً ولا فقّهه في دينه ، وليس ذلك من ابن هند ببعيد.

١٠ ـ من طريق محمد بن جبير بن مطعم يُحدّث : أنّه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش ، أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان ، فغضب معاوية ، فقام فأثنى على الله عزّ وجلّ بما هو أهله ، ثم قال : أمّا بعد : فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أولئك جهّالكم ، فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحد إلاّ أكبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٦٥ ح ١٦٤٦٠.

(٢) اسم كان مؤخر ، في قوله أوّل الفقرة : كان من قضية ...


قال الأميني : لقد غلط معاوية في فهم الحديث على تقدير صحّته ، فإنّ الذي ذكر عبد الله بن عمرو أنّ ذلك الكائن ملك ، ولم ينصّ على أنّه خليفة ، وكم في الدهر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ملوك من غير قريش ومن الجائز أن يكون ذلك الملك الموعود به من أصحاب الملك العضوض ، فما ردّه به معاوية من أنّ الذين يجب أن يكونوا من قريش هم الأئمّة الذين لا ينازعون في أمرهم ما أقاموا الدين ، فمعاوية ومن اهتدى مثاله ممّن لم يقيموا الدين بل ناوأوه وباينوه خارجون عنهم ، وهاهنا تسقط مطامع معاوية وأمانيّه التي أضلّته من انطباق الرواية عليه وعلى نظرائه وإن لم يكونوا قحطانيّين ، فأولى به من تحذّره عن تخلّف نسبة قحطان عنه أخذه الحذر عن موانع الخلافة التي لا تبارحه ، أو كانت الخلافة في الطلقاء؟ أو كانت في غير البدريّين؟ أو كان يشترط فيها فقدان العدل والتقوى في الخليفة؟ أو كان لآكلة الأكباد ورايتها نصيب من خلافة الله؟

وإن تعجب فعجب أنّ الرجل يعدّ عبد الله بن عمرو من الجهّال ، وهو الذي جاء فيه عن أبي هريرة أنّه أكثر الناس حديثاً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يكتب الحديث ، وفي لفظ أبي عمر : أحفظ حديثاً. وقال : كان فاضلاً حافظاً عالماً ، قرأ الكتاب واستأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يكتب حديثه فأذن له ، وهو الذي أثنى عليه ابن حجر بغزارة العلم والاجتهاد في العبادة (١).

نعم ؛ يقع معاوية في الرجل كمن ملأ إهابه علماً ، وشحن الطروس والسطور فقهاً وحديثاً ، ذهولاً منه عن أنّ الأُمّة المنقّبة حفظت عليه حديث عبادة بن الصامت من قوله له : إنّ أُمّك هند أعلم منك (٢).

__________________

(١) الاستيعاب : ١ / ٣٠٧ [القسم الثالث / ٩٥٧ رقم ١٦١٨] ، أُسد الغابة : ٣ / ٢٣٣ [٣ / ٣٤٩ رقم ٣٠٩٠] ، الإصابة : ٢ / ٣٥٢ [رقم ٤٨٤٧] ، تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٣٧ [٥ / ٢٩٤]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٠ [٢٦ / ١٩٥ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦]. (المؤلف)


هذا معاوية ومبلغه من العلم بالسنّة.

الإجماع :

قد عرفت آنفاً أنّ من مدارك الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة ومبادئها : الإجماع ، ولعلّ أقسط تعاريفه ما قاله الآمدي في الاحكام (١) (١ / ٢٨٠) : إنّه اتّفاق جملة من أهل الحلّ والعقد من أُمّة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع.

فهلمّ ولننظر إلى معاوية وأقواله ، وتقوّلاته ، وأعماله ، وجرائمه ، وفقهه ، واجتهاده ، هل يقع شيء منها في معقد من معاقد الإجماع؟ وأين أُولئك الفقهاء ، وأهل الحلّ والعقد في الفقه والدين الذين أصفقوا مع معاوية على ما عنده من بدع وتافهات؟ ومن كان منهم يومئذ ليطلوا سقطات معاوية الشاذّة بالإجماع؟ وهل كان مباءة الفقهاء يومئذٍ في غير المدينة المنوّرة من الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان؟ وفي بلاد غيرها انتشروا منها إليها ، وكلّهم كانوا في منتأىً عن ابن هند وآرائه ، ولم يزل هو يناوئهم ويضادّهم في القول والعمل ويتحرّى الوقيعة فيهم.

نعم ؛ كان يصافقه على مخاريقه حثالة من طغام الشام ، الذين حدتهم النهمة والشره وهملج بهم المطامع والشهوات ، فما قيمة اجتهاد يكون هذا أحد مبادئه؟

القياس :

المعتبر من القياس عند أئمّة السنّة والجماعة أن يكون المناط منصوصاً عليه في الكتاب والسنّة ، أو مخرّجاً عنهما بالبحث والاستنباط إمّا بنوعه أو بشخصه (٢) ، ولم

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٥٤.

(٢) راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء تحت عنوان : الاجتهاد ما ذا هو؟ (المؤلف)


نجد في اختيارات معاوية شيئاً من تلكم المناطات في المقيس عليه منصوصة أو مستنبطة يصحّ القياس في المقيس ويجوز التعويل عليها ، نعم ؛ كانت عنده أقيسة جاهليّة أراد تطبيق أحكام الإسلام بها.

أيّ اجتهاد هذا؟ :

لعلّك إلى هنا عرفت معنى الاجتهاد الصحيح وحقيقته ومبانيه عند أئمّة الإسلام من رجالات الفقه وأصوله ، وألمسك باليد بُعد معاوية عن كلّ ذلك بُعد المشرقين ، فهلمّ معي نقرأ صحيفة مكرّرة من أفعال هذا المجتهد الطاغية ، وتروكه التي اجتهد فيها ، ويرى أبناء حزم ، وتيميّة ، وكثير ، وحجر ، ومن لفّ لفّهم ، أنّ الرجل لم يلحقه ذمّ وتبعة من تلكم الهفوات ، بل يحسبونه مأجوراً فيها لكونه مجتهداً مخطئاً.

ألا تقول أيّ اجتهاد جوّز على هذا المجتهد أو أوجب عليه وعلى كلّ مسلم بأمره ـ رضي بذلك أم أبى ـ سبّ مثل مولانا أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه ، والقنوت بلعنه في الصلوات ، والدعاء عليه وعلى الإمامين السبطين (١) والصلحاء الأخيار معه؟!

هل اجتهد هذه الأُحدوثة من آية التطهير والمباهلة ، أو من المئات النازلة في علي عليه‌السلام؟ أو من الآلاف من السنّة الشريفة المأثورة عن صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فضائله ومناقبه؟ أو من الإجماع المعقود على بيعته واتّخاذه خليفة مفترضة طاعته؟ ولئن تنازلنا عن الخلافة له ، فهل هناك إجماع على نفي إسلامه ، ونفي كونه من أعيان الصحابة العدول ، حتى يستسيغ هذا المجتهد ـ رضيع ثدي هند المتفيّئ تحت رايتها ـ الوقيعة فيه والنيل منه؟

وهل هناك قياس يخرّج ملاكه من مبادئ الاجتهاد الثلاثة التي قامت بسيف

__________________

(١) راجع الجزء الثاني : ص ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٣٢ ، ١٣٣. (المؤلف)


عليّ عليه‌السلام واعتنقتها الأُمّة ببأسه ، وعرفتها ببيانه ، يسوّغ للرجل ما تقحّم فيه؟ نعم ؛ كانت ترات وإحن بين القبيلتين ـ أبناء هاشم وبني أُميّة ـ منذ العهد الجاهليّ ، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كلّ من الفئتين المتخاصمتين من الأخرى كيفما وقع ، وأينما أصاب ، وريثما انتهز الفرصة من تمكّن من الانتقام ، سواء حمل المنكوب شيئاً من الظلامة أولا ، فيقتل غير القاتل ، ويعذّب غير المجرم ، ويُؤاخذ غير الجاني ، شنشنة جاهليّة ثبت عليها الجاهلون ، واستمرّوا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الإسلام ، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية ـ المجتهد في أعماله واجتهاده.

أيّ اجتهاد يسوّغ له دأبه على لعن الإمام المفدّى على صهوات المنابر ، وفي أدبار الصلوات ، حتى غيّر سنّة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه ، وكان يوبّخ الساكتين عن لعنه بملء فمه وصراحة لهجته؟ فبأيّ كتاب ، أم بأيّة سنّة ، أو إجماع ، أو قياس ، كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية؟

أيّ اجتهاد يُحتم عليه استقراء كلّ من والى عليّا أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم ، وتشريدهم ، والتنكيل بهم ، وتعذيبهم بأشدّ العذاب ، ولم يرقب فيهم ذمّة الإسلام ولا إلّه (١) ، ولم يُراع فيهم حرمة الصحبة وصونها؟ أو يساعده على ذلك شيء من الآي الكريمة؟ أو أثارة من السنّة الشريفة؟ أو إجماع من أهل الدين؟ وأين هم؟! ـ وهم كلّهم مناوئو معاوية ومنفصلون عن آرائه ـ أو أنّ هناك قياساً خرج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث؟

أيّ اجتهاد يُبيح له قذف عليّ عليه‌السلام بالإلحاد ، والغيّ ، والبغي ، والضلال ، والعدوان ، والخبث ، والحسد ، إلى طامّات أخرى ، أو تحسب أنّك تجد حجّة على شيء من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم؟ أو من تضاعيف السنّة النبويّة؟ أو من

__________________

(١) الإلّ : العهد ، القرابة.


معاقد إجماع الأُمّة؟ والأُمّة على بكرة أبيها تعلم أنّ شيئاً من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تُكتسح عنها إلاّ ببيان الإمام وبنانه ، وسيفه ولسانه ، ولو قام للدين مثال شاخص لما عداه أن يقوم بصورة عليّ عليه‌السلام ومثاله.

أيّ اجتهاد يحبّذ له المسرّة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكيّ ، إمامي الهدى صلوات الله عليهما ، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ، ويري لصاحبه قتل عليّ عليه‌السلام من لطف الله وحسن صنعه ، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله؟ وأنت جدّ عليم بأنّ فقه الكتاب الكريم في منتأى عن هذه الشقوة ، كما أنّ السنّة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة ، ودع عنك معقد إجماع الأُمّة النائي عن هذه الفظاظة ، وملاكات الشريعة ـ منصوصة ومستنبطة ـ المباينة لتلك الصلافة ؛ نعم : قياس الجاهليّة الأولى يضرب على وتره ، ويغنّي في وتيرته!

أيّ اجتهاد يُرخّص هتك حرمات مكة والمدينة ، وشنّ الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليّا عليه‌السلام ، ويُشرّع نذر قتل نساء ربيعة لحبّ رجالهم أمير المؤمنين وتشيّعهم له عليه‌السلام؟

أيّ اجتهاد يُحلّل مثلة من قُتل تحت راية عليّ عليه‌السلام يوم صفّين ، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره؟ كما فصّلنا القول فيه في الجزء الثالث.

أيّ اجتهاد يمنع إمام الحقّ وآلافاً من المسلمين عن الماء المباح ، ويُعطي لمعاوية حقّ القول بأنّ هذا والله أوّل الظفر ، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبداً حتى يُقتلوا بأجمعهم عليه (١)؟

أيّ اجتهاد يجوّز بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وإشاعة الفحشاء ، وقد حرّمها كتاب الله وسنّة نبيّه ، ويتلوهما الإجماع والقياس؟

__________________

(١) كتاب صفّين : ص ١٨٢ [ص ١٦٣] ، شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٢٨ [٣ / ٣٢٠ خطبة ٥١]. (المؤلف)


أيّ اجتهاد يحثّ الناس بإعطاء الإمارة والولايات ، وبذل القناطير المقنطرة ، لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبيّ الأقدس ، وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم؟

أيّ اجتهاد يُراق به دم من سكت عن لعن عليّ ولم يتبرّأ منه ، ولو كان من جلّة الصحابة ، ومن صلحاء أُمّة محمد ، كحجر بن عدي وأصحابه ، وعمرو بن الحمق؟

أيّ اجتهاد يؤدّي إلى خلاف ما ثبت من السنّة الشريفة ، ويصحّح إدخال ما ليس منها ، في الأذان ، والصلاة ، والزكاة والنكاح ، والحجّ ، والديات على التفصيل الذي مرّ في هذا الجزء؟

أيّ اجتهاد يُغيّر دين الله وسنّته لمحض مخالفته عليّا عليه‌السلام. كما مرّ (ص ٢٠٥)؟

أيّ اجتهاد يُنقَض به حدّ من حدود الله لاستمالة مثل زياد ابن أمه ، وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان ، والولد للفراش وللعاهر الحجر؟

أيّ اجتهاد يُحابي خلافة الله ليزيد السكّير المستهتر ، ويستحلّ به دماء من تخلّف عن تلك البيعة الغاشمة؟

أيّ اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق؟

أيّ اجتهاد تُدعم به الشهادات المزوّرة ، والفرية ، والإفك ، والكذب ، وقول الزور ، والنسب المختلقة ، والمكر ، والخديعة ، لنيل الأمانيّ الوبيلة المخزية؟

أيّ اجتهاد يجوّز إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته وعترته ، وإيذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان ، وفي مقدّمهم سيّدهم ، وفي الذكر الحكيم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) (وَالَّذِينَ

__________________

(١) التوبة : ٦١.


يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١) وجاء عن الصادع الكريم : «من آذى مسلماً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجلّ» (٢) وقوله عن جبريل ، عن الله تعالى : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، ومن عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب».

وقوله : «من آذى لي وليّا فقد استحلّ محاربتي». وقوله : «من أهان لي وليّا فقد استحلّ محاربتي». وقوله : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالعداوة». وقوله : «من عادى لي وليّا فقد ناصبني بالمحاربة» (٣)؟

أيّ اجتهاد يُري صاحبه نقض الإلّ وحنث العهد ، ومن السهل الهيّن في جميع موارده ومصادره؟

أيّ اجتهاد يُجابه به سنّة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والازدراء والضرطة؟ كما فصّل في (ص ٢٨١ ـ ٢٨٣).

أيّ اجتهاد يُفسد البلاد ، ويُضلّ العباد ، ويشقّ عصا المسلمين بالشذوذ عن الجماعة ، وخلع ربقة الإسلام عن البيعة الحقّة ، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الأُمّة من أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته؟

إلى غير هذه من اجتهادات باطلة ، وآراء سخيفة تافهة ، ليس لها في مستوى الصّواب مقيل ، ولا لها في سوق الدين اعتبار يعذّر صاحبه ، وكلّها مباينة للكتاب ، مضادّة للسنة الثابتة الصحيحة ، ونقض للإجماع الصحيح المتسالم عليه ، والقياس الذي نُصّ في المقيس عليه على ملاك الحكم في أيّ من الكتاب والسنّة ، أو أنّه مستنبط بالاجتهاد والتظنّي فيهما؟

__________________

(١) الأحزاب : ٥٨.

(٢) راجع الحاوي للفتاوي : ٢ / ٤٧ [٢ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٣) راجع الحاوي للفتاوي : ١ / ٣٦١ ـ ٣٦٤ [٢ / ٩٢ ـ ٩٥]. (المؤلف)


وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحرّي الحقّ؟ اللهمّ إنّها ميول وأهواء ومطامع وشهوات تُزجي بصاحبها إلى هوّات المهالك ، وهل هذا يُضاهي شيئاً من اجتهاد المجتهدين؟

على أنّ جملة من المذكورات ممّا لا مساغ للاجتهاد فيه ، ولا يتطرّق إليه الرأي والاستنباط ، لأنّ الحكم فيها ملحق بالضروريّات من الدين ، وممّا لا يسع فيه الخلاف ، فمن حاول شيئاً من ذلك فقد حاول دفاعاً للضروريّ من الدين ، واستباح محظوراً ثابتاً من الشريعة ، كمن يستبيح قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجتهاده ، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شقّ المرائر ، واستمراء جُرع الحتف المبير.

من هو هذا المجتهد؟ :

أهو ابن آكلة الأكباد ـ نكّس الله رايتها ـ الهاتك لحرمات الله ، المعتدي على حدوده ، المجرم الجاني؟

يحسب أبناء حزم ، وتيميّة ، وكثير ، ومن لفّ لفّهم أنّه مجتهد مأجور ، ويقول ابن حجر : إنّه خليفة حقّ ، وإمام صدق.

هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم ، بل نقول بما قاله المقبلي (١) في كتابه العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء المشايخ (ص ٣٦٥) : ما كان عليّ رضي‌الله‌عنه وأرضاه إلاّ إمام هدى ، ولكنّه ابتُلي وابتُلي به ، ومضى لسبيله حميداً ، وهلك به من هلك ، هذا يغلو في حبّه أو دعوى حبّه لغرض له ، أعظمهم ضلالاً من رفعه على الأنبياء أو زاد على ذلك ، وأدناهم من لم يرض له بما رضي لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الإمارة رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) الشيخ صالح بن مهدي المتوفّى : ١١٠٨. (المؤلف)


وآخر يحطّ من قدره الرفيع ، أبعدهم ضلالاً الخوارج الذين يلعنونه على المنابر ، ويرضون على ابن ملجم شقيّ هذه الأُمّة ، وكذلك المروانيّة ، وقد قطع الله دابرهم ، وأقربهم ضلالاً الذين خطّئوه في حرب الناكثين ، والله سبحانه يقول : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي من تصدق؟!

مع أنّهم بغوا بغياً محقّقاً بعد استقرار الأمر له ، ولا عذر لهم ، ولا شبهة إلاّ الطلب بدم عثمان ، وقد أجاب رضى الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال : «يحضر وارث عثمان ويدّعي ما شاء ، وأحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». أو كما قال. فإن تصحّ هذه الرواية ، وإلاّ فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدنى الناس من المتمسّكين بالشريعة ، وأمّا أنّه يقطع قطيعاً من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة وأكثر ، بل قيل : إنّهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق (٢) ، فيقتلهم عن بكرة أبيهم ، والقاتل واحد ، أربعة ، عشرة ، قيل : هما اثنان فقط. وذكره في الصواعق أيضاً (٣) ، فهذا ما يعتذر به عاقل ، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلّة باطلة ، خلا أنّ طلحة والزبير وعائشة ومن يلحق بهم من تلك الدرجة التي يقدّر قدرها من الصحابة لا يشكّ عاقل في شبهة غلطوا فيها ، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم!

وأمّا معاوية والخوارج فمقاصدهم بيّنة ، فإن لم يقاتلهم عليّ فمن يُقاتل؟ أمّا الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلاّ ضالّ ، وأمّا معاوية فطالب ملك ، اقتحم فيه كلّ داهية ، وختمها بالبيعة ليزيد ، فالذي يزعم أنّه اجتهد فأخطأ ، لا نقول : اجتهد

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ٢١٦.

(٣) الصواعق المحرقة : ص ١١٨.


وأخطأ. لكنّه إمّا جاهل لحقيقة الحال مقلّد ، وإمّا ضالّ اتّبع هواه ، اللهمّ إنّا نشهد بذلك.

ورأيت لبعض متأخّري الطبريّين في مكة رسالة ذكر فيها كلاماً عزاه لابن عساكر (١) وهو : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّ معاوية سيلي أمر الأُمّة ، وأنّه لن يُغلب ، وأنّ عليّا كرّم الله وجهه قال يوم صفّين : لو ذكرت هذا الحديث أو بلغني لما حاربته.

ولا يبعد نحو هذا ممّن سلّ سيفه على عليّ والحسن والحسين وذرّيتهما ، والراضي كالفاعل كما صرّحت به السنّة النبويّة ، إنّما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الإجماع من جماعة المتسمّين بالسنّة بأنّ معاوية هو الباغي ، وأنّ الحقّ مع عليّ ، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر عليّ بعد ما ذكر ، وكذلك الحسن السبط ، وترى هؤلاء الذين ينقمون على عليّ قتاله البغاة يحسنون لمن سنّ لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين ، منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالأربعة الراشدين ، مع أنّ سبّ عليّ فوق المنابر وجعله سنّة تصغر عنده العظائم. وفي جامع المسانيد في مسند أمّ سلمة : أيسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم؟ قلت : معاذ الله. قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من سبّ عليّا فقد سبّني». الكلام.

ولعلّك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرةهذا المجتهد الجاهل الضالّ ، تأخذ لك مقياساً لمبلغ علمه ، وقسطه المتضائل من الاجتهاد في أحكام الله ، وأنّه منكفئ عنه ، فارغ الوطاب ، صفر الأكفّ عن أيّ علم ناجع ، أو عمل نافع ، بعيداً عن فهم الكتاب ، والتفقّه في السنّة ، والإلمام بأدلّة الاجتهاد.

نعم ؛ لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته ، وإنّما

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٨.


له أضراب ونظراء سبقوه أو لحقوه في الرأي الشائن ، والاجتهاد المائن ، ممّن صحّح القوم بدعهم المحدثة ، وآراءهم الشاذّة عن الكتاب والسنّة بالاجتهاد وتترّسوا في طامّاتهم بأنّهم مجتهدون (١).

ولعلّك تعرف مكانة هذا المجتهد ـ خليفة الحقّ وإمام الصدق ـ ، من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه وأباه وأخاه ، ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه ، ومن دعاء أُمّ المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.

ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولده السبط الزكيّ أبي محمد ـ سلام الله عليه ـ والعبد الصالح محمد بن أبي بكر ، إلى لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخزي ، ومن لعن ابن عبّاس وعمّار إيّاه.

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سمع غناءً وأُخبر بأنّه لمعاوية وعمرو بن العاصي : «اللهمّ أركسهم في الفتنة ركساً ، اللهمّ دعّهم إلى النار دعّا».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رآه مع ابن العاص جالسين : «إذا رأيتم معاوية وعمرو ابن العاص مجتمعين ففرّقوا بينهما ، فإنّهما لا يجتمعان على خير».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» المعُاضَد بالصحيح الثابت من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وفي صحيح : «فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت وهو على غير سنّتي» فطلع معاوية (٢).

ومن قول أمير المؤمنين له : «طالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان

__________________

(١) يوجد جمع من أولئك المجتهدين في غضون أجزاء كتابنا هذا. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٢٤٧ [ص ٢٢٠]. (المؤلف)


الرجيم الحقّ أساطير الأوّلين ونبذتموه وراء ظهوركم ، وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّك دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنّك لست من أهل القرآن ، ولا حكمه تريد».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، والمقارب العقل».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه فاسق مهتوك ستره».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه الكذّاب إمام الردى ، وعدوّ النبيّ ، وإنّه الفاجر ابن الفاجر ، وإنّه منافق ابن منافق ، يدعو الناس إلى النار». إلى كلمات أخرى مفصّلة في هذا الجزء.

ومن قول أبي أيّوب الأنصاري : إنّ معاوية كهف المنافقين.

ومن قول قيس بن سعد الأنصاري : إنّه وثن ابن وثن ، دخل في الإسلام كرهاً وخرج منه طوعاً ، لم يقدُم إيمانه ، ولم يحدُث نفاقه.

ومن قول معن السلمي الصحابي البدريّ له : ما ولدت قرشيّة من قرشيّ شرّا منك.

ومن أقوال الإمام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما ، وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل ، وسعيد بن قيس ، وعبد الله بن العبّاس ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وجارية بن قدامة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك بن الحارث الأشتر (١).

هذا مجتهدنا الطليق عند أُولئك الأطايب ، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأوّلين العارفين به على سرّه وعلانيته ، المطّلعين على أدوار حياته طفلاً ويافعاً وكهلاً

__________________

(١) مرّ تفصيل هذه كلّها في هذا الجزء. (المؤلف)


وهِمّا (١) ، وأنت بالخيار في الأخذ بأيّ من النظريّتين : ما سبق لله ولرسوله وخلفائه وأصحابه المجتهدين العدول ، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسّفين الناحتين للرجل أعذاراً هي أفظع من جرائمه.

الأمر الثاني : ثاني الأمرين (٢) اللذين ينتهي إليهما دفاع ابن حجر عن معاوية ، قوله في الصواعق (٣) (ص ١٣٠) : فالحقّ ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وأنّه بعد ذلك خليفة حقّ وإمام صدق ، كيف؟ وقد أخرج الترمذي (٤) وحسّنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لمعاوية : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا.

وأخرج أحمد في مسنده (٥) عن العرباض بن سارية ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : اللهمّ علّم معاوية الكتاب والحساب وقِهِ العذاب.

وأخرج (٦) ابن أبي شيبة في المصنّف ، والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير (٧) ، قال : قال معاوية : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معاوية إذا ملكت فأحسن.

فتأمّل دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الأوّل بأنّ الله يجعله هادياً مهديّا ، والحديث حسن كما علمت فهو ممّا يحتجّ به على فضل معاوية ، وأنّه لا ذمّ يلحقه بتلك الحروب

__________________

(١) الهِمّ : الشيخ الكبير.

(٢) وقد مرّ ذكر أوّلهما ص ٤٦٧.

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٤) سنن الترمذي : ٥ / ٦٤٥ ح ٣٨٤٢.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ١١١ ح ١٦٧٠٢.

(٦) المصنّف لابن أبي شيبة : ١١ / ١٤٨ ح ١٠٧٦٤ ، المعجم الكبير : ١٩ / ٣٦١ ح ٨٥٠.

(٧) في الأصل : عمر ، وصححناه كما في معجم الطبراني وابن أبي شيبة والتهذيب والثقات والعلل ومعرفة الرجال.


لما علمت أنّها مبنيّة على اجتهاد ، وأنّه لم يكن له إلاّ أجر واحد ، لأنّ المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه ، ولا ذمّ يلحقه بسبب ذلك لأنّه معذور ، ولذا كتب له أجر.

وممّا يدلّ لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلّم ذلك ، ويوقى العذاب ، ولا شكّ أنّ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب ، فعلمنا منه أنّه لا عقاب على معاوية فيما فعل من تلك الحروب بل له الأجر كما تقرّر ، وقد سمّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فئته المسلمين ، وساواهم بفئة الحسن في وصف الإسلام ، فدلّ على بقاء حرمة الإسلام للفريقين ، وأنّهم لم يخرجوا بتلك الحروب عن الإسلام ، وأنّهم فيه على حدّ سواء ، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قرّرناه من أنّ كلاّ منهما متأوّل تأويلاً غير قطعيّ البطلان ، وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية لكنّه بغي لا فسق به ، لأنّه إنّما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه.

وتأمّلْ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر معاوية بأنّه يملك وأمره بالإحسان ، تجد في الحديث إشارة إلى صحّة خلافته ، وأنّها حقّ بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها ، فإنّ أمره بالإحسان المترتّب على الملك يدلّ على حقيّة ملكه وخلافته ، وصحّة تصرّفه ونفوذ أفعاله من حيث صحّة الخلافة لا من حيث التغلّب ، لأنّ المتغلّب فاسق معاتب لا يستحقّ أن يبشّر ، ولا أن يؤمر بالإحسان فيما تغلّب عليه ، بل إنّما يستحقّ الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله ، فلو كان معاوية متغلّباً لأشار له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ، أو صرّح له به ، فلمّا لم يُشر له فضلاً على أن يصرّح إلاّ بما يدلّ على حقّية ما هو عليه علمنا أنّه بعد نزول الحسن له خليفة حقّ وإمام صدق. انتهى.

هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية!!

قال الأميني : إنّ الكلام يقع على هذه الروايات من شتّى النواحي ألا وهي :

١ ـ النظر إلى شخصيّة معاوية ، وتصفّح كتاب نفسه المشحون بالمخازي ، ثم


نعطف النظر في أنّه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبّا لأقلّ منقبة له تُعزى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلاً عن هذه النسب المزعومة أو لا؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق ، ممّا لا يكاد أن يجامع شيئاً من المديح والإطراء ، أو أن تُعزى إليه حسنة ، ولا أحسب أنّك تجد من أيّام حياته يوماً خالياً عن الموبقات ، من سفك دماء زاكية ، وإخافة مؤمنين أبرياء ، وتشريد صلحاء لم يدنّسهم إثم ، ولا ألمّت بساحتهم جريرة ، ومعاداة للحقّ الواضح ، ورفض لطاعة إمام الوقت ، والبغي عليه ، وقتاله ، إلى جرائم جمّة يستكبرها الدين والشريعة ، ويستنكرها الكتاب والسنّة ، ولا يتسرّب إلى شيء منها الاجتهاد كما مرّ بيانه.

٢ ـ من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما روي وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يُؤثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن جمع من الصحابة العدول ، فإنّه ممّا لا يتّفق معها في شيء وقد أسلفنا من ذلك ما يناهز الثمانين حديثاً في هذا الجزء (ص ١٣٨ ـ ١٧٧).

فإنّك متى نظرت إليها ، واستشففت حقائقها دلّتك على أنّ رجل السوء ـ معاوية ـ جماع المآثم والجرائم ، وأنّه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن احتذى مثاله من خلفائه الراشدين ، وأصحابه السابقين الأوّلين المجتهدين حقّا ، المصيبين في اجتهادهم.

٣ ـ إنّا وجدنا نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله ، والحثّ على مناوأته ، وتعريف من لاث به بأنّهم الفئة الباغية ، وأنّهم هم القاسطون ، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنين عليه‌السلام على أن يناضله ، ويكتسح معرّته ، ويكبح جماحه ، وقد علم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيكون الخليفة المبايع له ، الواجب قتله ، وأنّه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أيّ اجتهاد ، نظراء حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، وأصحابهما ، وكثير من البدريّين ، وجمع


كثير من أهل بيعة الرضوان ، رضوان الله عليهم.

فهل من المعقول أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى لمعاوية والحالة هذه قسطاً من الفضيلة؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين؟ ويوقع الأمّة في التهافت بين كلماته المعزوّة إليه هذه ، وبين ما صرح به وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما أوعزنا إليه. وزبدة المخض أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة ، ولكنّ القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم من طلاء مبهرج.

٤ ـ ما قاله الحفّاظ من أئمّة الحديث وحملة السنّة ، من أنّه لم يصحّ لمعاوية منقبة ، وسيوافيك بُعيد هذا نصّ عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة.

٥ ـ النظر في إسناد ومتن ما جاء به ابن حجر ، وعلّى عليه أُسس تمويهه على الحقائق ، وبه طفق يرتئي معاوية خليفة حقّ ، وإمام صدق.

الرواية الأولى :

أمّا ما أخرجه الترمذي وحسّنه ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعاً : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا واهد به (١). فإنّ كون ابن أبي عميرة صحابيّا في محلّ التشكيك ، فإنّه لا يصحّ ، كما أنّ حديثه هذا لا يثبت ، قال أبو عمر في الاستيعاب (٢) (٢ / ٣٩٥) بعد ذكره بلفظ : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا ، واهده واهد به : عبد الرحمن حديثه مضطرب ، لا يثبت في الصحابة ، وهو شاميّ ، ومنهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه ، ولا يصحّ مرفوعاً عندهم. وقال : لا يثبت أحاديثه ، ولا يصحّ صحبته.

ورجال الإسناد كلّهم شاميّون وهم :

١ ـ أبو سهر الدمشقي.

__________________

(١) هذا لفظ الحديث في جامع الترمذي : ١٣ / ٢٢٩ [٥ / ٦٤٥ ح ٣٨٤٢]. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٤٣ رقم ١٤٤٥.


٢ ـ سعيد بن عبد العزيز الدمشقي.

٣ ـ ربيعة بن يزيد الدمشقي.

٤ ـ ابن أبي عميرة الدمشقي.

وتفرّد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ؛ ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسّنه ، وابن حجر حرّف كلمة الترمذي حرصاً على إثبات الباطل ، فما ثقتك برواية تفرّد بها شاميّ عن شاميّ إلى شاميّ ثالث إلى رابع مثلهم أيضاً؟ ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنّة علم بها ، ولم يك يومئذ يتحرّج الشاميّون من الافتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة ، على حين أنّ أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن ، ومن ورائهم النزعات الأمويّة السائقة لهم إلى الاختلاق ، لتحصيل مرضاة صاحبهم ، فهناك مرتكم الأباطيل والروايات المائنة.

على أنّ هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاريّ ، الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول : باب مناقب معاوية. وإنّما عبّر عنه بباب ذكر معاوية (١). وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينصّ على عدم صحّة شيء من فضائل معاوية. ومن الحفّاظ : النسائي ، والحاكم النيسابوري ، والحنظلي ، والفيروزآبادي ، وابن تيميّة ، والعجلوني وغيرهم ، وقد أطبقوا جميعاً على أنّه لم يصحّ لمعاوية حديث فضيلة ، ومساغ كلماتهم يُعطي نفي ما يصحّ الاعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث ، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها ، فإنّهم يقذفون الحديث بأقلّ ممّا ذكرناه في هذا المقام ، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام كحسنات معاوية لأوعزوا إليها عند نفيهم العامّ.

وإنّ مفاد الحديث لممّا يُربك القارئ ويغنيه عن التكلّف في النظر إلى إسناده ، فإنّ دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب لا محالة كما يقوله ابن حجر ، ونحن في نتيجة البحث

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٧٣ باب ٢٨.


والاستقراء التامّ لأعمال معاوية لم نجده هادياً ولا مهديّا في شيء منها ، ولعلّ ابن حجر يُصافقنا على هذه الدعوى ، وليس عنده غير أنّ الرجل مجتهد مخطئ في كلّ ما أقدم وأحجم ، فله أجر واحد في مزعمته ، ولا يلحقه ذمّ وتبعة لاجتهاده ، وقد أعلمناك أنّ عامّة أخطائه وجرائمه ممّا لا يتطرّق إليه الاجتهاد ، على ما أسلفنا لك أنّه ليس من الممكن أن يكون معاوية مجتهداً لفقدانه العلم بمبادئ الاستنباط من كتاب وسنّة ، وبُعده عن الإجماع والقياس الصحيح.

أو هل ترى أنّ الدعاء المستجاب كهذا يُقصد به هذا النوع من الاجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرجل وأفعاله؟ حتى أنّه لا يُرى مصيباً في واحد منها ، وهل يحتاج تأتّي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرسالة؟ فمرحباً بمثله من اجتهاد معذّر ، وهداية لا تبارح الضلال.

ثم من الذي هداه معاوية طيلة أيّامه ، وأنقذه من مخالب الهلكة؟! أيعدّ منهم ابن حجر : بُسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين ، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية؟

أم الضحاك بن قيس الذي أمره بالغارة على كلّ من في طاعة عليّ عليه‌السلام من الأعراب ، وجاء بفجائع لم يعهدها التاريخ؟

أم زياد بن أبيه أو أُمّه الذي استحوذ على العراق ، فأهلك الحرث والنسل ، وذبح الأتقياء ، ودمّر على الأولياء ، وركب نهابير لا تُحصى؟

أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه ، وفعل من الجنايات ما فعل؟

أم مروان بن الحكم الطريد اللعين وابنهما ، الذي كان لعنه عليّا أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة أعوام إحدى طامّاته؟


أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبّار الطاغي ، الذي كان يبالغ في شتم عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وبغضه إيّاه؟

أم مغيرة بن شعبة ، أزنى ثقيف الذي كان ينال من عليّ عليه‌السلام ويلعنه على منبر الكوفة؟

أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الريّ ، وكان يكثر سبّ عليّ عليه‌السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه؟

أم سفيان بن عوف الذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن ، فقتل خلقاً ، ونهب أموالاً ، ثم رجع إليه؟

أم عبد الله الفزاري الذي كان أشدّ الناس على عليّ عليه‌السلام ، ووجّهه إلى أهل البوادي فجاء بطامّات كبرى؟

أم سمرة بن جندب الذي كان يحرّف كتاب الله لإرضائه ، وقتل خلقاً دون رغباته لا يُحصى؟

أم طغام الشام وطغاتها الذين كانوا يقتصّون أثر كلّ ناعق ، وانحاز بهم هو عن أيّ نعيق فأوردهم المهالك؟

أهذه كلّها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب؟ اللهمّ ، لا. ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ العياذ بالله ـ قوله : اللهمّ اجعله ضالاّ مضلاّ. لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات.

ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيب من الصدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين ، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحقّ : كأبي أيّوب الأنصاري ، وعمّار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ولما عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حربه وقتاله ، ولما عرّف فئته بالبغي والقسط.


ولو كان السلف الصالح يرى شيئاً زهيداً من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب ، لما كانوا يعرفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضلال والإضلال.

وللسيّد العلاّمة ابن عقيل كلمة حول هذه المنقبة المزيّفة ونعمّا هي ، قال في النصائح الكافية (١) (ص ١٦٧) : وهاهنا دلالة على عدم استجابةالله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحّة الحديث ، من حديث صحيح أخرجه مسلم (٢) عن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربّي أن لا يهلك أُمّتي بالسنة (٣) فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أُمّتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». تعرف بهذا الحديث وغيره شدّة حرصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يكون السلم دائماً بين أُمّته ، فدعا الله تارةً أن لا يكون بأس أُمّته بينهم كما في حديث مسلم ، وتارة أن يجعل معاوية هادياً مهديّا لأنّه بلا ريب يعلم أنّ معاوية أكبر من يبغي ويجعل بأس الأُمّة بينها ، فمآل الدعوتين واحد ، وعدم الإجابة في حديث مسلم تستلزم عدمها في حديث الترمذي ، والمناسبة بل التلازم بينهما واضح بيّن ، وفي معنى حديث مسلم هذا جاءت أحاديث كثيرة ومرجعها واحد.

الرواية الثانية :

اللهمَ علّمه الكتاب والحساب وقهِ العذاب :

في إسنادها الحارث بن زياد ، وهو ضعيف مجهول كما قاله ابن أبي حاتم (٤) ، عن

__________________

(١) النصائح الكافية : ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٤١٠ ح ٢٠ كتاب الفتن.

(٣) السنة : القحط والمجاعة.

(٤) الجرح والتعديل : ٣ / ٧٥ رقم ٣٤٥.


أبيه ، وابن عبد البرّ ، والذهبي ، كما في ميزان الاعتدال (١) (١ / ٢٠١) ، وتهذيب التهذيب (٢) (٢ / ١٤٢) ، ولسان الميزان (٣) (٢ / ١٤٩). وهو شاميّ غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام.

وإنّ متنه لفي غنىً عن أيّ تفنيد ، فإنّ المراد به إمّا علم الكتاب كلّه أو بعضه ، ونحن لم نجد عنده شيئاً من علم الكتاب فضلاً عن كلّه ، فإنّ أعماله وتروكه مضادّة كلّها لمحكمات الذكر الحكيم ، من إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيذاء أهل بيته وصلحاء أُمّته ، ولا سيّما صنوه وخليفته ، المفروض طاعته ، الذي هو نفسه ، ومطهّر عن أيّ رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز.

ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثماً ، لمحض ولائهم من قَرنَ الله ولايته بولايته وولاية رسوله.

ومن القتل الذريع للصلحاء الأبرار ، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة ، وميوله وأهوائه.

ومن الكذب الصراح ، وكلّ فرية وبهت وإفك وقول زور ، طفح الكتاب بتحريمها النهائيّ.

ودع عنك بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وتبديل سنّة الله التي لا تبديل لها متى ما خالفت خطّته السيّئة ، وتعدّيه حدود الله ، ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون ، إلى طامّات صافقت على خطرها الكتاب ضرورة الدين.

فالاعتقاد بجهله بكلّ هذه الموارد وماشاكلها خير له من علمه بها ومروقه

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٣٣ ح ١٦١٨.

(٢) تهذيب التهذيب : ٢ / ١٢٣.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ١٩٠ رقم ٢١٨٥.


عنها ، وخروجه عن حكم الكتاب ، ونبذه إيّاه وراء ظهره ، كما ذهب إليه مولانا أمير المؤمنين وأُمّة صالحة من الصحابة ، فالدعاء المزعوم له قد عدته الإجابة في كلّ ورد له وصدر.

وأما بعض الكتاب فما عسى أن يجديه نفعاً إن كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض؟ ولو كان يعرف من الكتاب قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (١).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٤) أو كان يعرف شيئاً من أمثال هذه من كتاب الله ، لكان يعرف حدّه ولم يتعدّ طوره.

وممّا لا نشكّ فيه أنّ ابن حجر الذي يقول : لا شكّ أنّ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب لا يؤوّل الرواية بأنّه أريد بها علم الكتاب لا العمل به ، وإن أبى الزاعم إلاّ ذلك ، فياهبلته الهبول.

وإنّا لا نعلم معنى الحساب وعلمه الذي جاء في هذه الرواية معطوفاً على الكتاب ، فإمّا أن يُراد به تطبيق أفعاله وتروكه على نواميس الشريعة المقرّرة ،

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الرعد : ٢٥.

(٣) المائدة : ٣٣.

(٤) الأحزاب : ٥٨.


أو علمه بكلّ ما يُحاسب عليه الله عباده ، فيخرج من العهدة من غير تبعة ، أو أنّه يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب بكلّ قول وعمل ، أو أنّه يقسم بالسوية فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا يحيف في مال الله ، ولا يميل في أعطيات الناس بمحاباة أحد وقطع آخر من غير تخطّ عن سنن الحقّ ، أو أنّه يعرف فروض المواريث الحسابيّة ، أو أنّه يعلم بقواعد الحساب العدديّة من الجمع والضرب والتقسيم والتفريق والجبر والمقابلة والخطأين إلى أمثالها من أصول علم الحساب.

أمّا ما قبل الأخيرين فإنّ الرجل كان يأثم بغير حساب ، ويقتل بغير حساب ، ويكذب بغير حساب ، ويحيف بغير حساب ، ويجهل من معالم الدين بغير حساب ، وإنّ أخطاءه في الاجتهاد المزعوم بغير حساب ، ويُعطي ويمنع من غير حجّة بغير حساب ، فيا له من دعاء لم يقرن بالإجابة في مورد من الموارد!

وأمّا قواعد علم الحساب ويلحق بها فروض المواريث ، فما ذا الذي نجم منها بين معلومات معاوية وفتاواه غير جهل شائن مستوعب لكلّ ما ناء به من كلّ فرض وندب؟ ولم تُعهد له دراسة لهذه العلوم والقواعد حتى تتحقّق بها إجابة الدعوة بتوفيق إلهيّ.

وأمّا جملة : وقه العذاب ، فإن صحّت الرواية فإنّها تشبه أن تكون ترخيصاً في المعصية لرجل مثل معاوية يلغ في المآثم ، ويتورّط بالموبقات ، ويرتطم في المهالك ، فليس فيما سبرناه وأحصيناه من أفعاله وتروكه إلاّ جنايات للعامة ، وميول وشهوات في الخاصّة ، وحيف وميل في الحقوق ، وبسط وقبض ، وإقصاء وتقريب من غير حقّ ، فلا يكاد يخلو ما ناء به من مآثم أوعد الله تعالى فاعله بالنار ، أو محظور في الشريعة يمقت صاحبها ، أو عمل بغيض يمجّه الحقّ ، ويزورّ عنه الصواب ، أو بدع محدثة في منتأى عن رضا الربّ وتشريع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كان يوقى مثل هذا الإنسان عن العذاب المجرّئ له على الهلكات فأين مصبّ الوعد المعدّ لمن عصى الله ورسوله؟ إنّ الله


لا يخلف الميعاد ، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).

فالخضوع لمثل هذه الرواية على طرف النقيض من مسلّمات الشريعة بتحريم ما كان يستبيحه معاوية ، ولذلك كان يراه مولانا أمير المؤمنين ووجوه الصحابة الأوّلين من أهل النار (٢) ، مع أنّ هذا الموضوع المفتعل كان بطبع الحال بمرأى منهم ومسمع ، إلاّ أن يكون تاريخ إيلاده بعد صدور تلكم الكلم القيّمة.

ولو كان مثل معاوية يُدرأ عنه العذاب ، ويُدعى له بالسلامة منه ، وحاله ما علمت ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم بها منك ومن كلّ أحد ، وعنده من حقوق الناس ما لا يحصى ممّا لا تدركه شفاعة أيّ معصوم من دم مسفوك ، ومن مال منهوب ، ومن عرض مهتوك ، ومن حرمة مُضاعة ، فما حال من ساواه في الخلاعة ، أو من هو دونه في النفاق والضلال؟ وأيّ قيمة تبقى سالمة لتوعيدات الشريعة عندئذ؟ لاها الله ، هذه أُمنيّة حالم قطّ لا تتحقّق ، إلاّ أن تكون تلك المحاباة تشريفاً لابن أبي سفيان بخرق النواميس الإلهيّة ، والخروج عن حكم الكتاب والسنّة ، وتكريماً لراية هند ومكانة حمامة ، إذن فعلى الإسلام السلام.

أفمن الحقّ لمن له أقلّ إلمامة بالعلم والحديث أن يركن إلى أمثال هذه التافهات ، ولا يقتنع بذلك حتى يحتجّ بها لإمامة الرجل عن حقّ ، وصدق خلافته؟ كما فعله ابن حجر في الصواعق (٣) ، وفي هامشه تطهير الجنان (٤) (ص ٣٢) ، وكأنّه غضّ الطرف عن كلّ ما جاء في حقّ الرجل من حديث وسيرة وتاريخ ، وأغضى عن كلّ ما انتهى إليه

__________________

(١) الجاثية : ٢١.

(٢) راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء. (المؤلف)

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٢١٨.

(٤) تطهير الجنان : ص ٩.


من الأصول المسلّمة في الإسلام ، وحرمات الدين. نعم ؛ الحبّ يعمي ويصمّ.

الرواية الثالثة :

إذا ملكت فَأَحِسن :

فهي وما في معناها من رواية : إن ولّيت فاتّق الله واعدل (١) ، ورواية : أما إنّك ستلي أمر أُمّتي بعدي فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم ، واعفُ عن مسيئهم. تنتهي طرقها جميعاً إلى نفس معاوية ، ولم يشترك في روايتها أحد غيره من الصحابة ، فالاستناد إليه في إثبات أيّ فضيلة له من قبيل استشهاد الثعلب بذنَبه ، على أنّ الرجل غير مقبول الرواية ولا مرضيّها ، فإنّه فاسق ، فاجر ، منافق ، كذاب ، مهتوك ستره بشهادة ممّن عاشره وباشره ، وسبر غوره ، ودرس كتاب نفسه ، وفيهم مثل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآخرون من الصحابة العدول ، وقد تقدّم نصّ كلماتهم في هذا الجزء (ص ١٣٩ ـ ١٧٧) وتكفي في الجرح واحدة من تلكم الشهادات المحفوظة أهلها بالتورّع عن كلّ سقطة في القول أو العمل ، فكيف بها جمعاء؟

وتؤيّد هاتيك الشهادات بما اقترفه الرجل من الذنوب ، وكسبته يده الأثيمة من جرائر وجرائم ، ولفّقها في سبيل شهواته من شهادات مزوّرة ، وكُتب افتعلها على أناس من الصحابة ، ونسب مكذوبة كان يريد بها تشويه سمعة الإمام صلوات الله عليه ـ وأنّى له بذلك ـ إلى آخر ما أوقفناك على تفاصيله.

وإن أخذناه بما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب (٢) (١ / ٥٠٩) عن يحيى بن معين من قوله : كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّال لا يكتب عنه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إلى كلمات أُخرى

__________________

(١) مرّ الكلام حول هذه الرواية في ص ٣٦٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) تهذيب التهذيب : ١ / ٤٤٧.


مرّت (ص ٢٦٧) من هذا الجزء ، فمعاوية في الرعيل الأوّل من الدجّالين الذين لا يُكتب عنهم ، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إذ هو الذي فعل ذلك المحظور بمثل مولانا أمير المؤمنين وشبليه الإمامين ، وحبر الأمّة عبد الله بن العبّاس ، وقيس بن سعد ، وهؤلاء كلّهم أعيان الصحابة ووجهاؤهم ، لا يعدوهم أيّ فضل سبق لأحدهم ، ولا ينتئون عن أيّ مكرمة لحقت بواحد منهم ، وكان معاوية قد استباح شتمهم ، والوقيعة فيهم وفي كلّ صحابيّ احتذى مثالهم في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولم يقنعه ذلك حتى قنت بلعنهم في صلواته ، ورفع عقيرته به على صهوات المنابر ، وأمر بذلك حتى عمّت البليّة البلاد والعباد ، واتّخذوها بدعة مخزية إلى أن لفظ نفسه الأخير ، واحتقبها من بعده خزاية موبقة ما دامت لآل حرب دولة ، واكتسحت معرّتهم من أديم الأرض.

أفمثل هذا السبّاب الفاحش المتفحّش تجوز الرواية عنه ، ويخضع لما يرويه في دين أو دنيا؟!

على أنّ في إسناد رواية : إن ملكت فأحسن ، عبد الملك بن عمر (١) ، وقد جاء عن أحمد (٢) : أنّه مضطرب الحديث جدّا مع قلّة روايته ، ما أرى له خمسمائة حديث وقد غلط في كثير منها. وقال ابن منصور : ضعّفه أحمد جدّا. وعن ابن معين : مخلّط. وقال العجلي : تغيّر حفظه قبل موته. وقال ابن حبّان (٣) : مدلّس (٤).

وفيه : إسماعيل بن إبراهيم المهاجر ، ضعّفه ابن معين (٥) ، والنسائي (٦) ، وابن

__________________

(١) تقدّم تصحيحه إلى عمير : ص ٥١٠.

(٢) العلل ومعرفة الرجال : ١ / ١٥٦ رقم ٦٩.

(٣) الثقات : ٥ / ١١٦.

(٤) تهذيب التهذيب : ٦ / ٤١٢ [٦ / ٣٦٤] (المؤلف).

(٥) التاريخ : ٣ / ٣٤٥ رقم ١٦٦٩.

(٦) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٤٨ رقم ٣١.


الجارود ، وقال أبو داود : ضعيف ضعيف أنا لا أكتب حديثه. وقال أبو حاتم (١) : ليس بقوي. وقال ابن حبّان (٢) : كان فاحش الخطأ. وقال الساجي : فيه نظر (٣).

فلمكان الرجلين نصّ الحافظ البيهقي على ضعفها ، وأقرّه الخفاجي في شرح الشفا : (٣ / ١٦١) ، وعليّ القاري في شرحه هامش شرح الخفاجي (٤) (٣ / ١٦١).

وأمّا مؤدّى هذه الروايات الثلاث فكبقيّة أخبار الملاحم ، لا يستنتج منها مدح لصاحبها أو قدح ، إلاّ إذا قايسناها بأعمال معاوية المباينة لها في الخارج ، المضادّة لما جاء فيها من العهد والوصيّة ، فلم يكن ممّن ملك فأحسن ، ولا ممّن ولي فاتّقى وعدل ، ولا ممّن قبل من محسن ، وعفا عن مسيء ، فما ذا عسى أن يُجديه مثل هذه البشائر ـ وليست هي ببشائر بل إقامة حجّة عليه ـ وهو غير متّصف بما أُمر به فيها؟ وكلّ ما ناء به في منتأى عن الإحسان والعدل والتقوى ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّه لا يعمل بشيء من ذلك لكنّه أراد إتمام الحجّة عليه على كونها تامّة عليه بعمومات الشريعة وإطلاقاتها ، فأين هي من التبشير بأنّ ما يليه من الملك العضوض ملوكيّة صالحة ، فضلاً عن الخلافة عن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وقد جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الملك قوله : «إنّ فيه هنات وهنات وهنات» (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معاوية : إنّك إن اتّبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» (٦) إلى كلمات أخرى فيه وفي ملكه.

ولو كان ابن حجر ممّن يعرف لحن الكلام ومعاريض المحاورات ، ولم يكن في أُذنه وقر ، وفي بصره عمى لعلم أنّ الروايات المذكورة بأن تكون ذموماً لمعاوية أولى

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٢ / ١٥٢ رقم ٥١٢.

(٢) كتاب المجروحين : ١ / ١٢٢.

(٣) تهذيب التهذيب : ١ / ٢٧٩ [١ / ٢٤٤]. (المؤلف)

(٤) شرح الشفا : ١ / ٦٨٣.

(٥) الخصائص الكبرى : ٢ / ١١٦ [٢ / ١٩٨]. (المؤلف)

(٦) سنن أبي داود : ٢ / ٢٩٩ [٤ / ٢٧٢ ح ٤٨٨٨]. (المؤلف)


من أن تكون مدائح له لما قلناه ، وإلاّ لما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله إذا رُؤي على منبره ، ولما أعلم الناس بأنّه وطغمته هم الفئة الباغية المتوليّة قتل عمّار ، ولما رآه وحزبه من القاسطين الذين يجب قتالهم ، ولما أمر خليفته حقّا الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بقتاله ، ولما حثّ صحابته العدول بمناضلته ومكاشفته ، ولما ولما ...

ولو كانت هذه الروايات صادقة ، وكانت بشائر ، وقد عرفتها صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، فلما ذا كان ذلك اللوم والتأنيب له من وجوه الصحابة؟ لمّا منّته هواجسه بتسنّم عرش الخلافة ، والإقعاء على صدر دستها ، وليس ذلك إلاّ من ناحية ادّعائه ما ليس له ، وطمعه فيما لم يكن له بحقّ ، ونزاعه في أمر ليس للطلقاء فيه نصيب.

هذه عمدة ما جاء به ابن حجر في الدفاع عن معاوية ، وأمّا بقيّة كلامه المشوّه بالسباب المقذع فنمرّ بها كراما ، إقرأ واحكم.

هاهنا قصرنا عن القول

وأمسكناه عن الافاضة بانتهاء الجزء العاشر

وأرجأنا بقيّة البحث عن موبقات معاوية إلى الجزء الحادي عشر

وسيوافيك في المستقبل العاجل إن شاء الله تعالى

والحمد لله أوّلا وآخراً وله الشكر



محتويات الكتاب

بقية الحبث عن مناقب الخلفاء الثلاثة................................... ١١ ـ ١٩٦

ماهذا الاختيار؟ وكيف يتم؟ ولم ويم؟........................................... ٢٩

بيمة اين عمر تارة ونقاعسه عنها اخرى......................................... ٣٦

أيّ اجماع على بيعة يزيد؟..................................................... ٤٨

أخبار ابن عمر ونوادره........................................................ ٥٤

الفريق الاول.............................................................. ٥٥

رأي ابن عمر في القتال والصلاة.......................................... ٦٨

هلم معي الى صلاة ابن عمر............................................. ٧٤

معذرة اخرى لابن عمر.................................................. ٨١

ابن عمر يحبي احداث أبيه............................................... ٩١

الفريق الثاني.............................................................. ٩٧

لفت نظر............................................................ ١٤٦

نبأ يصكّ المسامع.......................................................... ١٨٣

منتهى المقال............................................................... ١٩٥

المغالات في فضائل معاوية بن أبي سفيان............................. ١٩٧ ـ ٢٥٢


معاوية في ميزان القضاء.............................................. ٢٥٣ ـ ٥٢٥

١ ـ معاوية والخمر.......................................................... ٢٥٥

٢ ـ معاوية يأكل الربا....................................................... ٢٦٢

٣ ـ معاوية يتمّ في السفر.................................................... ٢٧٢

٤ ـ احد وثة الاذان في العيدين............................................... ٢٧٣

٥ ـ معاوية يصلّي الجمعة يوم الاربعاء.......................................... ٢٧٩

٦ ـ احدوثه الجمع بين الاختين............................................... ٢٨٤

٧ ـ احدوثه معاوية في الديات................................................ ٢٨٤

٨ ـ ترك التكبير المستون في الصلوات.......................................... ٢٨٦

٩ ـ ترك التلبية خلافا لعلي عليه السلام....................................... ٢٩٢

١٠ ـ احدوثه تقديم الخطبة على الصلاة....................................... ٣٠٢

١١ ـ حدّ من حدود الله متروك............................................... ٣٠٥

١٢ ـ معاوية ولبسه ما لا يجوز............................................... ٣٠٦

١٣ ـ ماساة الاستلحاق سنة اربع واربعين...................................... ٣٠٨

١٤ ـ بيعة يزيد احد موبقات معاوية الاربع..................................... ٣٢٣

بيمة يزيد في الشام وقتل الحسين السبط دونها................................ ٣٢٧

عبدالرحمن بن خالد في بيعة يزيد........................................... ٣٣١

سعيد بن عثمان سنة خمس وخمسين........................................ ٣٣١

كتب معاوية في بيعة يزيد................................................. ٣٣٤

كتاب معاوية الى سعيد بن العاص......................................... ٣٣٨

كتاب معاوية الى الحسين عليه السلام...................................... ٣٤٠

جواب الحسين عليه السلام............................................. ٣٤٠

كتاب معاوية الى عبدالله بن جعفر......................................... ٣٤٠


جواب عبدالله بن جعفر................................................ ٣٤٠

كتاب معاوية الى عبدالله بن الزبير.......................................... ٣٤١

جواب عبدالله بن الزبير................................................ ٣٤١

بيعة يزيد في المدينة المشرفة................................................... ٣٤٢

الرحلة الاولى............................................................ ٣٤٢

كلمة الامام السبط................................................... ٣٤٩

رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها......................................... ٣٥٣

١٥ ـ جنايات معاوية في صفحات تاريخه السوداء............................... ٣٦١

١٦ ـ قتال ابن هند علياّ امير المؤمنين عليه السلام............................... ٣٨١

١٧ ـ هنات وهنايت في ميزان ابن هند........................................ ٤٠١

١٨ ـ قذائف مويقة في صحائف ابن اكلة الاكباد.............................. ٤٠٤

نسبة الالحماد الى على عليه السلام وانه لايصلي............................ ٤٠٤

نظرة فيما تشبث به معاوية في قتال على عليه السلام......................... ٤٠٨

١٩ ـ دفاع ابن حجر عن معاوية بأعذار مفتعلة................................. ٤٢١

حديث الوفود........................................................... ٤٢٦

وفد علي عليه السلام الاول الى معاوية.................................. ٤٢٦

وفد علي عليه السلام الثانية الى معاوية.................................. ٤٢٧

وفد معاوية الى الامام علي عليه السلام.................................. ٤٣٣

أنباه في طبّات الكتب تعرب عن موسى معاوية.............................. ٤٣٤

تصريحّ لا تلويح يعرب عن موسى ابن هند.................................. ٤٤٥

فكرة معاوية لها قدم...................................................... ٤٥٠

مناظرات وكلم........................................................... ٤٥٥

التحكيم لماذا؟.......................................................... ٤٦٢


حجج داحضة............................................................. ٤٦٧

الاجتهاد ماذا هو؟......................................................... ٤٧٢

نظرة في اجتهاد معاوية...................................................... ٤٧٩

السنّة.................................................................. ٤٨١

نظرة في أحاديث معاوية..................................................... ٤٨٣

لفت نظر............................................................ ٤٩٢

الاجماع................................................................. ٤٩٩

القياس................................................................. ٤٩٩

ايّ اجتهاد هذا؟........................................................... ٥٠٠

من هو هذا المجتهد؟........................................................ ٥٠٥

الرواية الاولى......................................................... ٥١٣

الرواية الثانية......................................................... ٥١٧

الرواية الثالثة......................................................... ٥٢٢

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ١٠

المؤلف:
الصفحات: 530